×
القرآن معجزة أمنية: استهدَفَ هذا البحثُ تجليةَ الدور الكبير الذي يؤدِّيه حفظ القرآن الكريم في عملية تهذيب وإصلاح وتأهيل نُزلاء السجون، وقد حوى أربعة محاور: المحور الأول: بيانٌ للمفاهيم والضوابط المرتبطة بموضوع البحث. المحور الثاني: خُصِّص لعرض أبرز الدراسات والبحوث المتعلقة سواء بسلوك النزيل بعامة، أو بأثر حفظ القرآن الكريم في سلوك النزلاء. المحور الثالث: أكَّد حقيقة تأثير القرآن على الإنسان بعامة سواء في تهذيب سلوكه أو استقامته أو شفائه من أمراضه النفسية والبدنية. المحور الرابع: احتوى عرضًا إجماليًا لدور حفظ القرآن الكريم في تهذيب سلوك النزلاء. وقد ذُيِّل البحث بخاتمة شملت بعض التوصيات.

القرآن معجزة أمنية

سليمان بن محمد الصغير

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

فلقد شهدت الأعوام الماضية تطورات ودراسات لأوضاع السجون وأهدافها، ولا سيَّما في عقوبة السجن وما تخلفه من آثار سلبية على سلوك السجين وبخاصة بعدما يخرج من السجن.

لقد استهدفت هذه الدراسات التحوُّل في النظرة إلى السجن ليكون مكانًا للإصلاح حتى أصبح إحداث أي تغيير في سلوك واتجاهات النزلاء هدفًا يسعى إليه مخططو البرامج الإصلاحية في الوقت الذي يتفق فيه أغلبية المنظمين وعلماء الشريعة والمصلحين ورجال التربية وعلماء النفس على أن التمسُّك بالقيم الدينية غير محدود الأثر على الأفراد وسلوكهم، كما يرتبط هذا التأثير بالحد من وقوع الجرائم في المجتمع، من هنا نجد أن الاهتمام بالنواحي المتعلقة بالدين يتزايد يومًا بعد يوم، بل إن المسئولين بالإصلاحيات والسجون يسهلون مهمة الوُعَّاظ والمرشدين، ويظهر ذلك كثيرًا في الدول الغربية، حيث يقوم العديد من الشباب المسلم المتطوع بنشر الإسلام في تلك السجون لوجه الله، بل يُمْنَحون صلاحيات وتسهيلات للقيام بدورهم، ولعلَّ إسلام الملاكم الأسود مايكل تايسون يُعَد خير دليل على تأثير الجانب الديني على السلوك، حيث دخل السجن بسبب جريمة اغتصاب، وخرج منها إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج.

ويعد برنامج العفو المشروط بحفظ القرآن الكريم أو بعض أجزائه أفضل وسيلة في تهذيب سلوك النزيل وأبرز إنجاز تتوصَّل إليه سياسة العقاب في المملكة العربية السعودية، وكان النجاح الذي حققه هذا البرنامج جعل بعض الحكومات تحذو حذوه كالإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت..

وهذا البحث إسهام في ذلك الموضوع الحيوي استهدف تجلية الدور الكبير الذي يؤديه حفظ القرآن الكريم في عملية تهذيب وإصلاح وتأهيل النزلاء، وقد حوى البحث أربعة محاور: كان المحور الأول بيانًا للمفاهيم والضوابط المرتبطة بموضوع البحث. أما المحور الثاني فخصصته لعرض أبرز الدراسات والبحوث المتعلقة سواء بسلوك النزيل بعامة أو بأثر حفظ القرآن الكريم في سلوك النزلاء. وأكد المحور الثالث حقيقة تأثير القرآن على الإنسان بعامة سواء في تهذيب سلوكه أو استقامته أو شفائه من أمراضه النفسية والبدنية، وذلك بالشواهد التاريخية وشهادات أعدائه والنصوص الشرعية والتجارب العلمية. وأما المحور الرابع فكان عرضًا إجماليًا لدور حفظ القرآن الكريم في تهذيب سلوك النزلاء.

وقد ذُيِّل البحث بخاتمة شملت بعض التوصيات.

أسأل الله تعالى أن يسهم هذا البحث في تحقيق الإصلاح والتأهيل في المؤسسات العقابية والإصلاحية وينفع به.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

سليمان بن محمد بن فالح الصغير

فاكس: 4792669 ص.ب7868 الرياض 11472

بريد إلكتروني [email protected]

* * *


بسم الله الرحمن الرحيم

المحور الأول: مفاهيم وضوابط

أ- القرآن الكريم:

اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ القرآن هل هو جامد أم مشتق؟

فذهب جماعة من العلماء إلى أنه جامد، وهم اسم كالتوراة والإنجيل. وذهب آخرون إلى أنه مشتق، واختلفوا في أصل مادته، فمنهم مَن قال: إنه من (قَرَنَ)، وبعضهم قال: من (قرأ) بمعنى (تلا)، وبعضهم قال: من (قرأ) بمعنى (جمع).

قال ابن الأثير: «سمي القرآن قرآنًا لأنه جَمَعَ القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض، وهو مصدر كالغفران والكفران»([1]).

وأما تعريف القرآن الكريم اصطلاحًا فهو: «كلام الله تعالى المُنَزَّل على محمد - صلى الله عليه وسلم - المتعبد بتلاوته». فالقرآن كلام الله تعالى الذي يعلم أمراض البشر، فلا عجب أن يكون فيه العلاج الحاسم والدواء والشفاء الناجع لجميع ما يعترض حياة الإنسان من أمراض روحية وعقلية واجتماعية واقتصادية وسياسية، فمتى ابتغت البشرية العلاج من غيره فقد ضلَّت، ومَن حكم بغيره فقد ظلم، ففيه عصمة المتمسك، ونجاة المتَّبع.

ب- حفظ القرآن الكريم:

الحفظ: من (حفظ) الشيء حفظًا: صانه وحرسه، وحفظ العلم والكلام: ضبطه ورعاه، والحافظ، هو: مَن يحفظ القرآن الكريم أو عددًا عظيمًا من الأحاديث النبوية، وحفظ القرآن الكريم: تلاوته غيبًا دون الرجوع إلى المصحف، أي: حفظه في الصدور واستظهاره.

وقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من النزيل شدة، كان يحرك شفتيه.. فأنزل الله تعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾([2] قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه، ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾([3]). قال: فاستمع وأنصت. ثم علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أقرأه([4]).

وحكم حفظ القرآن الكريم كله واجب على الأمة بحيث يحفظه عدد كثير يثبت به التواتر وليس هذا الكتاب غير القرآن الكريم.

وفضل حفظ القرآن الكريم يتضح من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرًا فيه حث على حفظ القرآن إلا وسلكه وأمر به، فكان يفاضل بين أصحابه بحفظ القرآن، ويعقد الراية لأكثرهم حفظًا للقرآن، وإذا بعث بعثًا جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم قراءة للقرآن، ويقدِّم للحدِ في القبر أكثرهم أخذًا للقرآن، ويزوج الرجل للمرأة ويمهرها بما مع الرجل من القرآن، فضلاً عن الأحاديث الكثيرة الداعية لحفظ القرآن وتعلُّمه وتعليمه.

وقد حفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن كله وحفظه أصحابه - رضوان الله عليهم - وكان جبريل - عليه السلام - يعارضه إياه في كل عام مرة في شهر رمضان، وعارضه إياه في العام الذي توفي فيه مرتين كما في حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي»([5]).

وكان - صلى الله عليه وسلم - يقوم بالقرآن ويتلوه آناء الليل وأطراف النهار حتى كادت أن تتشقق قدماه.

واشتد التنافس بين الصحابة - رضي الله عنهم - في حفظ القرآن الكريم وتلاوته وتدبُّره، وتسابقوا إلى مُدَارَسَته وتفسيره والعمل به، وكانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلَّموا ما فيها من العلم والعمل، وكانوا يهجرون لذيذ المنام ودفء الفِراش ويؤثرون قيام الليل والتهجد بالقرآن حتى كان يسمع لبيوتهم دويًا كدوي النحل لتلاوتهم القرآن.

وانتشر الصحابة - رضي الله عنهم - في الأقطار والبلدان، وأقبل التابعون يتعلَّمون القرآن منهم، فكثر الحفَّاظ ولم يقتصروا على التلاوة بل حفظوا أوجه القراءات واشتهر عدد كبير من الحفاظ بالقراءة والرواية. ولا زالت المسيرة - والحمد لله - مستمرة يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم مع تكالب الأحوال في المسلمين، واضطراب المعيشة ومغريات الحضارة، وتوافر الموانع، وانحسار الدوافع، وما زلنا نرى كثرة حفاظ القرآن الكريم ونجد إقبالاً لا يخطر ببال ولا يحلم بمثله أهل كتاب.

فقد انتشرت مدارس تحفيظ القرآن الكريم العديدة وأُنشئت معاهد للقراءات وكليات للقرآن في العديد من الدول الإسلامية والحمد لله.

وحفظ القرآن الكريم المقصود بالبحث هو: حفظ النزيل (السجين) للقرآن كاملاً أو بعض أجزائه داخل السجن، حيث يعد هذا الحفظ شرطًا للعفو عن نصف العقوبة أو بعضها، وذلك بموجب الأمر السامي رقم 107/8 وتاريخ 7/2/1408هـ والقاضي بالعفو عن نصف العقوبة لأي سجين يحفظ القرآن كاملاً، والأمر السامي الإلحاقي رقم 4/2081/م وتاريخ 27/11/1411هـ القاضي بالعفو عن بعض العقوبة بحفظ جزئين فأكثر وفق شروط منظمة لذلك.

جـ- ضوابط العفو المشروط بالحفظ:

يقتضي الأمر السامي الكريم رقم 107/8 وتاريخ 7/2/1408هـ القاضي بإعفاء من حفظ القرآن كاملاً داخل السجن من نصف العقوبة المقررة وضوابط ذلك:

1- أن يحفظ المحكوم عليه كتاب الله كاملاً داخل السجن (عن ظهر قلب).

2- أن يمضي المحكوم عليه نصف عقوبة السجن المقررة بحقه.

3- أن يفي بما عليه من حقوق مالية خاصة مترتبة على الجريمة.

4- أن يقدم طلبًا إلى إدارة السجن يطلب فيه إجراء اختبار له من قبل اللجنة المختصة.

5- أن يجتاز الاختبار الذي تجريه له اللجنة المتخصصة، وينجح فيه، بما لا يقل عن 50% من الدرجة المقررة([6]) وبعد صدور الأمر الإلحاقي رقم 4/4081/م وتاريخ 27/11/1411هـ فقد عالج هذا الأمر الشرط الثاني بأن يستفيد السجين بنسبة الحفظ جزئين وأكثر كل حسب قدرته في الحفظ.

6- أن يكون المحكوم عليه في حق عام.

7- أن يكون السجين من ذوي الاستقامة والأخلاق والانضباط داخل السجن.

بموجب صدور تعميم وزير الداخلية رقم 18/61734 وتاريخ 30/8/1412هـ القاضي بتفويض أمراء المناطق بإصدار أمر العفو بعد تطبيق شروط الاستفادة من العفو فإن إجراءات إصدار القرار بالعفو تمر بعدة مراحل هي:

1- تقديم طلب من قِبَل المحكوم عليه إلى إدارة السجن يطلب فيه عرضه على اللجنة المختصة لاختباره في كتاب الله كاملاً أو بعض أجزائه.

2- ثم تقوم إدارة السجن بطلب الجهة المختصة بإجراء الاختبار اللازم كل حسب قدرته على الحفظ.

3- تحدد اللجنة موعدًا لاختبار السجين وتبلغ إدارة السجن للاستعداد.

4- تقوم اللجنة بإجراء الاختبار للسجين في الموعد المحدد وتقدر له الدرجة فإذا كانت أقل من 50% فيعتبر غير ناجح ويطلب منه معاودة الحفظ ويحدد موعد آخر لاختباره، أما إذا تجاوز 50% فإنه ترفع الأوراق لإدارة السجن بنجاحه والتي بدورها ترفع لإمارة المنطقة لإصدار قرار العفو عن نصف العقوبة.

5- أخذ التعهدات اللازمة لضمان عدم العودة إلى الإجرام وتوجيهه بمتابعة الحفظ لكتاب الله([7]).

6- أما إذا حفظ جزئين فأكثر فله الحق بعد اجتياز الاختبار أن يعفى بقدر حفظه من الأجزاء.

د- السلوك:

(السلوك) هو سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيء السلوك.

و (السلوك) كما يعرفه علماء النفس: عبارة عن كل ما يصدر من الفرد من استجابات مختلفة إزاء موقف معيَّن ويقصد بالاستجابة: كل نشاط يثيره منبه أو مثير.

إذن فالسلوك يشمل كل ما يفعله الإنسان ويقوله، وكذلك ما يصدر عنه من نشاط عقلي كالإدارك والتفكير والتخيل وكذلك ما يستشعره من تأثيرات وجدانية وانفعالية كالإحساس باللذة والألم والشعور بالضيق والارتياح... بالخوف والغضب أو ما يصاحب ذلك من أنشطة مختلفة. وتكمن وظيفة السلوك في مساعدة الكائن الحي على استمرار حياة الفرد وبقاء نوعه ويحقق له تكيف مع بيئته مادية كانت أو اجتماعية.

هذا وتفيدنا دراسة السلوك في عدة نواح منها:

1- الكشف عن الدوافع النفسية والاجتماعية التي تحركنا وتحرك غيرنا من الناس، ليتضح لنا مقدار التوافق الاجتماعي والانحراف.

2- فهم نواحي القوة والضعف في شخصياتنا وما لدينا من استعدادات وإمكانيات خافية علينا ومعرفة أسباب ما يبدو في سلوكنا أو سلوك زملائنا أو أطفالنا من انحراف.

3- الكشف عن العوامل التي تفسد تفسيرنا أو تعطل عملية التعلم لدينا أو تميل بنا إلى شرود الذهن أو تجعلنا ننسى كثيرًا مما حصلناه ووعيناه.

4- السلوك عامل أساسي في تكوين العادة - حيث تعرف العادة بأنها نمط معيَّن من السلوك المكتسب الذي تعلمه الإنسان في أثناء حياته وفقًا للظروف البيئية المحيطة به. هذا السلوك يصبح ثابتًا لا يتغير مع التكرار والخبرة.

5- فهم الكثير من المشكلات الاجتماعية كالجريمة والتعصب والصراع والقلق النفسي بين الناس.

* * *


المحور الثاني

أ- الدراسات المتعلقة بسلوك النزيل:

هناك عدة دراسات وبحوث كتبت في سلوك السجين والمؤثرات فيه، ومن هذه الدراسات والبحوث:

1- بحوث عن الآثار الجانبية للسجين ركزت أساسًا على آثار الإيداع بالسجن على الحالة الصحية، والصحة العقلية مثل دراسة نيجل ووكر تحت عنوان الآثار الجانبية لعقوبة السجن.

2- بحوث ركَّزت على تفسير دور السجن وآثاره على النزلاء، وحاولت التنظير لهذه الآثار، مثل دراسة جيفري ألبرت تحت عنون Prison as Formal Oraganisation ودراسة شارلس توماس عن تطبيق نظرية الإذعان على مؤسسات الأحداث المنحرفين، ودراسة عبد الله بن ناصر السدحان (أسباب عودة الأحداث إلى الانحراف). وغيرها.

3- بحوث ركَّزت أساسًا على اثر الإيداع بالسجن لمدة طويلة، وأثر ذلك على حجم الجريمة مثل دراسة دونالد لويس وعنوانها The general deterrent effect of longer senteces.

4- بحوث ركَّزت على التنظيم الداخلي للسجن أو التنظيم الاجتماعي للسجن من حيث آثار السجن كمجتمع له تنظيم اجتماعي محدد متميِّز. وتابعت آثار هذا التنظيم على النزلاء، مثل دراسة أدوين سذرلاند وكريسبي في كتابهما مبادئ علم الإجرام، ودراسة دافيد بوت مان التي اختار لها عنوانًا معبِّرًا عن هذا الاتجاه حيث كان عنوان هذه الدراسة «السياق الاجتماعي للمؤسسات الإصلاحية» وكذلك دراسة لينكولن فري عن البناء الرسمي للنزلاء في مواجهة إدارة السجن والأهداف العلاجية للمؤسسات الإصلاحية، ومنها أيضًا ما أورده نورمان جونستون وليونارد سافيتر، عن مجتمع السجن في كتابهما (علم اجتماع العقاب والإصلاح) The Sociology of Punishment and Correction ومن هذه الدراسات أيضًا دراسات الدكتور/ عبد الله غانم مجتمع السجن، وسجن النساء، ودراسة نجيب الكيلاني تحت عنوان «المجتمع المريض».

5- بحوث ركَّزت على الآثار النفسية للإيداع بالسجون ومن هذه الدراسات دراسة باميلاتايلور عن «الاضطرابات العقلية بين المحكومين مدى الحياة بسجون لندن، ومنها أيضًا دراسة ن. بولتون، ف. سميت بعنوان:

Psychological Correlates of Long Term Imprisonment.

6- دراسات وبحوث تركز على جوانب محددة من الآثار الاجتماعية للإيداع بالسجن، مثل بحث جربشام سكس «آلام السجن» وما أورده دون سي. جيبسون في كتابه An Introduction to Criminology تحت عنوان «السجن والتغير الاجتماعي بالسجون Prison Social Change ودراسة جورج شرمان عن الصراع الاجتماعي في السجن Social Conflict in Prison Organization([8]).

7- دراسة بعنوان «أثر السجن في سلوك النزيل» للأستاذ الدكتور عبد الله عبد الغني غانم، وهو بحث قيِّم يتميز عن البحوث والدراسات السابقة حيث يعد إسهامًا في قضية الدور الإصلاحي للسجن من جهة ومن جهة أخرى أن البحث أجري في المجتمع العربي وهو مجتمع مختلف عن المجتمعات الغربية - من حيث العادات والتقاليد والأعراف ونظم الضبط والدين وأنماط الشخصية وغيرها - فإن هذه الدراسة تعد فحصًا لصحة ما استنتجه الباحثون في المجتمعات الغربية عن أثر السجن على سلوك النزيل على اعتبار أن الأثر هو نتاج العلاقة التفاعلية بين السجون والبيئة الثقافية والاجتماعية للنزيل. ومما يضفي مزيدًا من الأهمية النظرية على هذا البحث أيضًا هذا الموضوع أثر السجن على سلوك النزيل - لم يكن محلاً لدراسة كثيرة في الوطن العربي وكل ما هو متاح ترديد للحجج والأسانيد والآراء النظرية التي قال بها الغرب.

وليس من المناسب في هذا البحث عرض كل هذه الدراسات؛ لأن ذلك يطول جدًا من جهة، ومن جهة أخرى أن هذا البحث يختلف عن هذه الدراسات وموضوعه محدد، وإنما أشرت إليها لعلاقتها لسلوك السجين الذي يرتبط بموضوع البحث.

ب- الدراسات المتعلقة بحفظ القرآن وأثره في سلوك النزيل

وقفت على ثلاث دراسات حول الموضوع، وفيما يلي عرض موجز لها:

1- دراسة نظرية تطبيقية ميدانية للمستشار/ عيسى عبد العزيز الشامخ بعنوان (العفو المشروط بحفظ القرآن الكريم أو أجزاء منه داخل السجن وأثره بالنسبة لمستقبل النزيل)، وقد طبعت هذه الدراسة في كتاب بلغ نحوًا من (265) صفحة.

بدأ الباحث بمقدمة أبان فيها أقوال العلماء في سبب الجريمة وأشار إلي تميز نظام المملكة العربية السعودية الجنائي مشيدًا بالأمرين الساميين المتعلقين بالعفو المشروط بالحفظ، ثم قسَّم بحثه إلى ثلاثة فصول:

الفصل الأول: ويشتمل على الجانب النظري للبحث تناول فيه مقتضى الأمرين الساميين المشار إليهما والقواعد العامة للعفو المشروط.

وأما الفصل الثاني: فكان في الإجراءات المنهجية للدراسة الميدانية وتحليل المعلومات التي جمعها عن طريق الاستبيان الذي أعدَّه في ذلك.

الفصل الثالث: تحليل المعلومات التي جمعها الباحث عن طريق دراسة الحالة والمقابلات كما تضمن النتائج والتوصيات والمراجع والفهارس والملاحق.

وكانت أبرز نتائج الدراسة التي توصل إليها الباحث الكشف عن الأهمية والجدوى لأساليب وأنظمة التقرير التنفيذي العقابي في المملكة.

ومن أهم النتائج التي كشفت عنها الدراسة وجود علاقة قوية بين تطبيقات (العفو عن نصف العقوبة لحفظ كتاب الله داخل السجن وبين الامتناع عن معاودة الإجرام)، حيث انتهت إلى أنه لم يعد إلى السجن أي واحد ممن استفادوا من العفو لحفظ كتاب الله منذ تطبيق النظام بتاريخ 1/6/1408هـ حتى تاريخ 10/2/1413هـ، من عدد المستفيدين منه على مستوى المملكة (الستة والخمسين سجينًا) الذين حفظوا كتاب الله كاملاً داخل سجون المملكة.

2- بحث مقدم للندوة العالمية حول التعليم داخل المؤسسات الإصلاحية بعنوان (تجربة المملكة العربية السعودية، مدخل لتقويم نزلاء المؤسسات الإصلاحية والعقابية في الدول العربية) للدكتور/ سعود ضحيان الضحيان، وقد طبع البحث في كتاب ضم جميع البحوث المقدمة للندوة المشار إليها وقد وقع البحث في (25) صفحة تقريبًا وتتلخص أهداف البحث في التعريف على قدرة البرامج التأهيلية بصفة عامة على تقويم سلوك السجناء وبرامج الوعظ والإرشاد وتحفيظ القرآن على تعديل السلوك والتدخل المهني للأخصائي الاجتماعي في البرامج الإصلاحية من حيث الإعداد والتوجيه والإشراف والمتابعة.

3- بحث مقدم استكمالاً لمتطلبات درجة الماجستير وهو دراسة نظرية تطبيقية على سجون المملكة العربية السعودية بعنوان: (أثر العفو عن العقوبة لمن يحفظ كتاب الله في الحد من العودة إلى الجريمة).. إعداد عواض بن مطلق القحطاني، وقد وقعت الدراسة في أكثر من (240) صفحة تقريبًا، وكانت أهدافها التركيز على ثلاثة أمور هي:

الأول: الكشف عن مدى فعالية استخدام أسلوب تقوية الرقابة الذاتية عن طريق حفظ كتاب الله تعالى في الحد من معاودة الفرد للجريمة.

الثاني: بيان الأثر الذي يقوم به القرآن الكريم وحفظه في تطهير النفس وتزكيتها، والسمو بها فوق رذائل المعاصي، وذلك كعامل فعال للقضاء على التصرفات الخاطئة والسلوكيات غير المتزنة.

الثالث: وضع قائمة تحتوي على نسبة مئوية تبيِّن مدى الاستفادة من العفو لحفظ كتاب الله أو بعض أجزائه، وذلك بهدف الوقوف على مدى فعالية حفظ القرآن الكريم في الحد من العودة إلى الجريمة.

ومن أهم النتائج التي توصل إليها الباحث:

1- أن جميع من حفظوا القرآن كاملاً من المحكوم عليهم بعقوبة داخل السجن واستفادوا من المكرمة الملكية لم يعد منهم أحد.

2- أن جميع من حفظوا أجزاء من القرآن داخل السجن واستفادوا من المكرمة الملكية لم يعد منهم أحد إلا ما يعادل 1.5%.

وهو بهذا يتفق مع الشامخ في إحدى النتائج الهامة للدراستين.


المحور الثالث: حقيقة تأثير القرآن في السلوك

أسوق في هذا المحور أربعة جوانب من الاستدلالات لإثبات حقيقة تأثير القرآن الكريم في سلوك الإنسان وهي: الشواهد التاريخية وشهادات الأعداء والنصوص الشرعية والجانب العلمي:

أ- الشواهد التاريخية:

يقول الخطابي: «وقد قلت في إعجاز القرآن وجهًا ذهب عنه الناس، وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في حال آخر ما يخلص منه إليه. قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾([9] وقال جلَّ شأنه: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾([10])».

ويقول الزركشي: «فمنها الروعة التي في قلوب السامعين وأسماعهم، سواء منهم المقر والجاحد، ومنها أنه لم يزل غضًّا طريًا في أسماع السامعين، وعلى ألسنة القائلين».

ويكشف القاضي عياض أن هذه الروعة وتلك الهيبة كانت سببًا في إسلام بعض الكفار من العرب فيقول: «ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته، وقد أسلم جماعة عند سماع آياته، منهم: جبير بن مطعم، فإنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور. قال: فلما بلغ قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾([11]) إلى قوله: ﴿الْمُسَيْطِرُونَ﴾ كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وَقَرَ في الإسلام في قلبي([12]).

وروي أن الوليد بن عتبة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اقرأ.. فقرأ عليه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾([13]). فقال: أعِد، فأعاد، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر.

إن هذا التأثير قد بلغ مبلغًا لم يعرف قبله ولا بعده لكلام قط. فهو الذي جعل زعماء المشركين يستَخْفُون من الناس فيسترقون السمع إليه ليلاً؛ لأنه أخذ بلبهم وأفئدتهم ورأوا آثاره فيمن اتبعه والذين تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم بين عشية وضُحاها من تأثير الآية والآيتين والسورة والسورتين، يتلوهما محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أحد أصحابه فتنقاد إليه نفوس كانت متعصبة للأوثان والأصنام فتهجرها وتتحلى هدي القرآن علمًا وعملاً، وأدبًا وخلقًا، فأدرك زعماء الشرك خطر القرآن عليهم فأوصوا أتباعهم بعدم سماعه ليحولوا بين أنفسهم وبينه، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾([14])، وقد حصل ما قد خشيه هؤلاء، فهذا عمر بن الخطاب يمضي متوشِّحًا سيفه ليقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيعلم في الطريق أن صهره سعيد بن زيد وأخته فاطمة بنت الخطاب قد صبا عن دينهما، فتحول إليهما عمر، فسمع خبَّاب بن الأَرَت يتلو عليهما القرآن فدخل البيت وبطش بصهره وشجَّ أخته ولم تعطه الصحيفة إلا بعد أن تطهَّر فقرأ فيها: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا ﴾([15]) فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. ثم ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعلن إسلامه، فكبَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - تكبيرة عرف أصحابه منها أن عمر قد أسلم.

وتروي كتب السيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مكة قبل الهجرة، أرسل مع أهل المدينة الذين جاؤوا وبايعوه بيعة العقبة مبعوثين جليلين يعلمانهم الإسلام وينشرانه في المدينة، هما مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما، وقد نجح هذان في مهمتهما أكبر نجاح، وأحدثا في المدينة ثورة فكرية أو حركية تبشيرية جزع لها سعد بن معاذ سيد قبيلة الأوس، حتى قال لابن أخيه أسيد بن حضير: ألا تذهب إلى هذين الرجلين اللذين أتيا يسفهان ضعفاءنا فتزجرهما، فلما انتهى إليهما أسيد قال لهما: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ ثم هددهما، وقال: اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، رضي الله عن مصعب فقد تغاضى عن هذا التهديد وقال لأسيد في وقار المؤمن وثباته: أوَتجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرًأ قبلته وإن كرهته كففنا عنك ما تكره. ثم قرأ مصعب القرآن وأسيد يسمع، فما قام من مجلسه حتى أسلم، ثم كر راجعًا إلى سعد فقال له: والله ما رأيت بالرجلين بأسًا. فغضب سعد وذهب هو نفسه ثائرًا مهتاجًا، فاستقبله مصعب بما استقبل به أسيدًا وانتهى الأمر بإسلامه أيضًا، ثم كر راجعًا فجمع قبيلته وقال لهم: ما تَعُدُّونَنِي فيكم؟ قال: سيدنا وابن سيدنا. فقال سعد: كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تسلموا، فأسلموا جميعًا.

وأختم هذا الجانب بقصة ترتبط بموضوع البحث، وهي قصة الفضيل بن عياض، وقد أوردها الذهبي وابن كثير وغيرهما، قال الذهبي: عن الفضيل بن موسى قال: كان الفضيل بن عياض شاطرًا، بقطع الطرق بين أبيورد وسرخس. وكان سبب توبته: أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع صوتًا تاليًا يتلو ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾([16]). فلمَّا سمعها قال: بلى يا رب، قد آن، فرجع، فأواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح. فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا.

قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا، يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع. اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام([17]).

ويرى بعضهم أن شدة خوفه طول حياته، تعود إلى تأثير هذه القضية في نفسه.

فهل كلام يحدث هذا التأثير إلا دلالة على عظمه وروعته.

ب- شهادات أعدائه:

وقد شهد بهذا الوجه والسر العظيم من أسرار القرآن الأعداء.

يقول (جيمي متشيز): «لعلَّ القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم، وهو - بكل تأكيد - أيسرها حفظًا، وأشدها أثرًا في الحياة اليومية لمن يؤمن به، فليس طويلاً كالعهد القديم.. ومن مزاياه أن القلوب تخشع عند سماعه، وتزداد إيمانًا وسموًا، ومن الملاحظ أن القرآن يتسم بطابع عملي متعلق بالمعاملات بين الناس، وهذا التوفيق بين عبادة الإله الواحد، وبين التعاليم العملية جعل القرآن كتابًا فريدًا، أو وحدة متماسكة».

وقال (هرشفيلد): «وليس للقرآن مثيل في قوة إقناعه وبلاغته وتركيبه، وإليه يرجع الفضل في ازدهار العلوم بكافة نواحيها في العالم الإسلامي».

وقال المؤرخ الإنجيلزي الشهير (ويلزان): «عن الديانة الحقة التي وجدتها تسير مع المدنية أنَّى سارت هي الديانة الإسلامية، وإذا أراد الإنسان أن يعرف شيئًا من هذا فليقرأ القرآن وما فيه، من نظرات علمية، وقوانين وأنظمة لربط المجتمع، فهو كتاب علمي، ديني، اجتماعي، تهذيبي خلقي، تاريخي، وأكثر أنظمته، وقوانينه، تستعمل حتى وقتنا الحالي، وستبقى مستعملة حتى قيام الساعة»([18]).

هذا نزر يسير من أقوال الغرب في القرآن الكريم، منهم مَن يراه الجدار الصلب بينه وبين تنصير المسلمين فأعلن فشله، واعترف بهزيمته، ومنهم مَن كَشَفَ لقومه السر في قوة المسلمين فدعاهم إلى فصلهم عن القرآن حتى تسهل السيطرة عليهم، ومنهم من اعترف بإنصاف بفضل القرآن الكريم، ومكانته السامية ومنزلته العظمى.

وقد تكلَّم أيضًا بعض المستشرقين المنصفين وأشادوا بالقرآن وبروعته، فهذا المستشرق (هاملتون جب) يقول: فالذي يمنح القرآن قوة على تحريك قلوب الناس وتشكيل حياتهم ليس هو - محتواه - من مبادئ ونذر، وإنما هو سياقه اللفظي إذ يتكلم كأسفار النبوءات في التوراة بلغة الشعر، وإن لم يخضع لقيود الشعر في وزن وقافية، وإذا كان المرء يعني بالشعر ما يكاد يشبه السحر في نظم الألفاظ حتى تحدث صدى ويتردد صداها في العقل وتفتح منظورات طويلة للبصيرة، وتخلق في الروح سموًّا يحلِّق بها بمنأى عن عالم المادة وينوِّر جنباتها بفيض فجائي من الشعاع، وذلك بالضبط هو ما يعنيه لدى المسلم، والدليل على أن هذا ليس محض تصوُّر ليس هي التجربة الشخصية فحسب، بل إن مبدأ الإعجاز يعتمد على خصائصه الفنية والجمالية بقدر ما يعتمد على محتواه الفني الغزير([19]).

جـ- النصوص الشرعية:

القرآن فيه شفاء لجميع الأدواء لما في الصدور، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا﴾([20]).

كما أن القرآن هداية ونور، قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾([21]).

وكما هو هداية ونور فهو أيضًا يبشِّر بعظيم الأجر، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾([22]).

والقرآن ذكرى وموعظة؛ لقوله تعالى: ﴿وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾([23] وقال تعالى: ﴿يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾([24]).

والقرآن فيه تبيان كل شيء، قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾([25]). وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾([26]).

وكل آياته وسوره تحمل في طيَّاتها جميع معاني الهداية والتبشير والتسامح والعفو وكل ما يكفل سير الحياة بدون خلل، فقد جعله الله شفاء للصدور من أمراض الشبهات والشهوات، وشفاء للأبدان من الأسقام والعِلل، وجعله كذلك فرقانًا بين الحلال والحرام، والحق والباطل، وبين طريق السعداء وطريق الأشقياء، فكتاب هكذا شأنه لا شك أنه يحتل أهمية عظيمة في نفوس أبناء الإسلام وكل من يعرفه ويقرؤه، فهو البلسم الذي يجبر النفوس البشرية ويزرع الأمل في حياة سعيدة وكريمة.

وهذه الآيات تبيِّن أن هذا الكتاب دواء وشفاء لكل داء في النفس البشرية ويهدي للتي هي أقوَم بين عالم الضمير والشعور وبين ظاهر الإنسان وباطنه وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وبين عمله وبين علاقات الناس بعضهم ببعض أفرادًا وأزواجًا ومجتمعات وحكومات وشعوبًا دولاً وأجناسًا، وهذا الكتاب يقيم هذه العلاقات على الأُسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى، فهو أعلم بمن خلق وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق لعالم الإنسان، ولم يترك الإنسان حائرًا بل أوضح جميع الطرق وجميع العلاقات، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾([27]). فهذا منهج القرآن في التبشير والعقبى الحسنة، وكذلك في التخويف والتهديد بالعقبى السيئة لمَن حاد عن الطريق القويم، لذا فهو يعتمد على الضمير الإنساني والرقابة الذاتية والعلاقة الربانية بين العبد وربه، وهنا يكمن دور القرآن العظيم في كبح جِماح النفس الشريرة والرجوع إلى الحق والصواب.

وشفاء القلوب إنما يكون في ذكر الله تعالى، واستحضار عظمته، وهيمنة سلطانه على العبد في سره وعلانيته، وقوله وفعله وحركته وسكونه وخير الذكر القرآن الكريم، فعن أنس بن مالك t أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر» [رواه الترمذي].

د- الجانب العلمي([28]):

أما من الناحية العلمية فقد ثبت تأثير القرآن في الإنسان، يقول الدكتور/ محمود يوسف عبده: قام فريق عمل طبي بأبحاث قرآنية في «عيادات أكبر» في مدينة بنما سيتي بولاية فلوريدا، وقدم هذا البحث في المؤتمر العلمي الثالث للطب الإسلامي المنعقد في استنبول - تركيا وكان هدف المرحلة الأولى من البحث هو إثبات ما إذا كان للقرآن أي أثر على وظائف أعضاء الجسد وقياس هذا الأثر إن وجد، واستعملت أجهزة للمراقبة الإلكترونية المزودة بالكمبيوتر لقياس التغيرات الفسيولوجية في عدد من المتطوعين الأصحاء أثناء استماعهم لتلاوة قرآنية. ثم تسجيل وقياس أثر القرآن عند عدد من المسلمين المتحدثين بالعربية وغير العربية وكذلك عند عدد من غير المسلمين بعدما تليت عليهم مقاطع من القرآن الكريم باللغة العربية ثم تليت عليهم ترجمة هذه المقاطع باللغة الانجليزية، وقد أجري البحث على مرحلتين:

نتائج المرحلة الأولية:

أثبتت التجارب المبدئية البحثية وجود أثر مهدئ مؤكد للقرآن في 97% من التجارب التي أجريت، وهذا الأثر ظهر في شكل تغيرات فيسيولوجية تدل على تخفيف درجة توتر الجهاز العصبي التلقائي. وتفاصيل هذه النتائج المبدئية عرضت على المؤتمر السنوي السابع عشر للجمعية الطبية الإسلامية في أمريكا الشمالية والذي عقد في مدينة سانت لويس بولاية ميزوري.

المرحلة الثانية:

تضمن دراسات مقارنة لمعرفة ما إذا كان أثر القرآن المهدئ للتوتر وما يصحبه من تغيرات فسيولوجية عائدًا للتلاوة وليس لعوامل غير قرآنية أو رنة القراءة القرآنية العربية، أو بمعرفة السامع بأنما يقرأ عليه هو جزء من كتاب مقدس، وبعبارة أخرى فإن هدف هذه الدراسة المقارنة هو تحقيق الافتراض القائل بأن الكلمات القرآنية في حد ذاتها لها تأثير فسيولوجي بغض النظر عما إذا كانت مفهومة لدى السامع، وقد كانت خطوات البحث كالتالي:

المعدات: استعمل جهاز قياس ومعالجة التوتر المزود بالكمبيوتر ونوعه ميداك 2002 (ميديكال داتا أكويزشن)، والذي ابتكره وطوَّره المركز الطبي لجامعة بوسطن وشركة دافيكون في الفحص النفسي المباشر عن طريق الكمبيوتر والأخرى بمراقبة وقياس التغيرات الفسيولوجية في الجلد.

وقد شمل برنامج الكمبيوتر إجراء الفحص النفساني ومراقبة وقياس التغيرات الفسيولوجية وطباعة تقرير النتائج. كمبيوتر من (أبل2 إي) مزود بقرصين متحركين وشاشة من أجهزة مراقبة إلكترونية مكونة من أربعة قنوات قناتين لقياس التيارات الكهربائية في العضلات معبرة عن ردود الفعل العصبية العضلية، وقناة لقياس قابلية التوصل الكهربائي للجلد، وقناة لقياس كمية الدورة الدموية في الجلد وعدد ضربات القلب ودرجة حرارة الجلد، وقد استعمل لقياس هذه التغيرات موصل كهربائي حساس فوق الجبهة وآخر يربط حول طرف أحد الأصابع بحيث إن أي تغيرات في كمية الدم الجاري في الجلد تظهر مباشرة على شاشة العرض إضافة إلى سرعة ضربات القلب ومع زيادة وتخفيض درجة حرارة الجلد تسرع ضربات القلب، ومع الهدوء ونقصان التوتر تتسع الشرايين وتزداد كمية الدم الجاري في الجلد ويتبع ذلك ارتفاع في درجة حرارة الجلد ونقصان في عدد ضربات القلب.

الطريقة والحالات المستعملة:

أجريت مائتان وعشر تجارب على خمسة متطوعين ثلاثة ذكور وأنثيين، تتراوح أعمارهم بين (17-40) ومتوسطها (22) سنة، وكل المتطوعين كانوا من غير المسلمين ومن غير الناطقين بالعربية، وقد أجريت هذه التجارب خلال 42 جلسة علاجية تضمن كل جلسة خمسة تجارب وبذلك كان المجموع الكلي للتجارب (210) تجربة، وتليت على المتطوعين قراءة قرآنية باللغة العربية المجوَّدة خلال (85) تجربة وتليت عليهم قراءات عربية غير القرآنية خلال (85) تجربة أخرى، وقد روعي في هذه القراءات الغير قرآنية من حيث الصورة واللفظ والوقع على ألأذن، ولم يستمع المتطوعون إلى أي قراءة أخرى خلال (40) تجربة أخرى، وخلال تجارب الصمت كان المتطوعون جالسين جلسة مريحة وأعينهم مغمضة، وهي نفس الحالة التي كانوا عليها أثناء التجارب المائة وسبعون الأخرى التي استمعوا فيها القراءات العربية القرآنية وغير القرآنية. ولقد استعملت القراءات العربية غير القرآنية كدواء خال من المادة العلاجية (بلايبو) مشابه للقرآن حيث إنه لم يكن في استطاعة المتطوعين أن يميزوا بين القرآن وبين القراءات غير القرآنية.

وكان الهدف من ذلك هو معرفة ما إذا كان للفظ القرآن أي أثر فسيولوجي على من لا يفهم معناه وعما إذا كان هذا الأثر - إن وجد هو فعلاً أثر لفظ القرآن وليس أثرًا لواقع اللغة العربية المرتلة.

أما التجارب التي لم يستمع فيها المتطوعون لأية قراءة فكانت لمعرفة ما إذا كان الأثر الفسيولوجي نتيجة للوضع الجسدي المسترخي أثناء الجلسة المريحة والأعين المغمضة، ولقد ظهر بوضوح منذ التجارب الأولى أن الجلسة الصامتة التي لم يستمع فيها المتطوع لأية قراءات لم يكن لها أي تأثير مهدئ للتوتر، ولذلك اقتصرت التجارب في المرحلة المتأخرة من الدراسة على الدراسات القرآنية وغير القرآنية للمقارنة، وقد روعي تغيير ترتيب القراءات الأخرى باستمرار، فمرة تكون القراءة القرآنية سابقة للقراءة الأخرى ثم تكون تالية لها في الجلسة التالية أو العكس.

وكان المتطوعون على علم بأن أحد القراءات قرآنية والأخرى غير قرآنية، ولكنهم لم يتمكنوا من التعرف على نوعية أي من القراءات في أي تجربة.

المرحلة الثانية:

كانت النتائج إيجابية في 65% من تجارب القراءات القرآنية وهذا يعني أن الجهد الكهربائي للعضلات كان أكثر انخفاضًا من هذه التجارب مما يدل على أثر مهدئ للتوتر، بينما ظهر في هذا في 35% فقط من التجارب في القراءات غير القرآنية.

مناقشة النتائج والاستنتاج:

لقد أظهرت النتائج المبدئية للبحوث القرآنية أن للقرآن أثرًا إيجابيًا مؤكدًا لتهدئة التوتر وأمكن تسجيل هذا الأثر نوعًا وكمًا، وظهر هذا الأثر على شكل تغيرات في التيار الكهربائي في العضلات وتغيرات في قابلية الجلد للتوصل الكهربائي، وتغيرات في الدورة الدموية وما يصحب ذلك من تغير في عدد ضربات القلب وكمية الدم الجاري في الجلد ودرجة حرارة الجلد، وفي المجموعة التي كانت تسمع وتفهم سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين أو كانوا يتحدثون العربية أم غيرها كانت النتائج إيجابية بنسبة 97%، وفي مجموعات المرحلة الثانية ثبت أن لسماع تلاوة آيات القرآن الكريم أثرًا واضحًا على تهدئة التوتر ولو لم يفهم معناها إذ حقق إيجابية قدرها 65%.

وكل هذه التغيرات تدل على تغير في وظائف الجهاز العصبي التلقائي والذي بدوره يؤثر على أعضاء الجسم الأخرى ووظائفها، ولذلك فإنه توجد احتمالات لا نهاية لها للتأثيرات الفسيولوجية التي يمكن أن يحدثها سماع القرآن الكريم، ومن المعروف أن التوتر يؤدي إلى نقص المناعة في الجسم. واحتمال أن يكون ذلك عن طريق إفراز الكورتيزول أو غير ذلك من ردود الفعل بين الجهاز العصبي أو جهاز الغدد الصماء وجهاز المناعة.

ولذلك فإنه من المنطق افتراض أن الأثر القرآني المهدئ للتوتر يمكن أن يؤدي إلى تنشيط وظائف المناعة في الجسم والتي بدورها ستحسن من قابلية الجسم لمقاومة المرض أو الشفاء منه.

كما أن نتائج هذه التجارب المقارنة تشير إلى أن كلمات القرآن بذاتها. وبغض النظر عن مفهوم معناها. لها أثر فسيولوجي مهدئ للتوتر في الجسم البشري فإذا اقترن سماع القرآن الكريم بفهم معناه كان غير محدود الأثر.

ولذلك كله نستطيع أن نؤمن إيمانًا لا يعتريه شك في حقيقة أثر القرآن الكريم تلاوة أو سماعًا أو حفظًا في الإنسان وتهذيب سلوكه وشفاء أمراضه وسعادته، وقد ثبت ذلك تاريخيًا وشرعيًا وعلميًا من خلال هذا المحور. وفي المحور التالي عرض لدور حفظ القرآن في تهذيب سلوك النزلاء وفيه استدلالات أُخَر لذلك.

* * *

المحور الرابع: دور حفظ القرآن الكريم في تهذيب سلوك النزلاء

من خلال المحاور السابقة نستطيع أن نستنتج الأمور التي تمثل الدور الكبير الذي يؤديه حفظ القرآن الكريم في تهذيب سلوك النزلاء سواء داخل السجن أو خارجه وذلك فيما يلي:

1- الحد من العودة للجريمة: تكاد تجمع الدراسات التي أُجريت على العديد ممن حفظوا القرآن داخل السجن واستفادوا من العفو المشروط بالحفظ على أنه لم يعد منهم أحد وأن نسبة العود صفر، وهذا وحده مؤشر قوي لدور حفظ القرآن الكريم في تهذيب سلوك النزلاء، وذلك خلال عشر سنوات تقريبًا أي منذ بدأ تطبيق البرنامج من صدور الأمر السامي عام 1408هـ وحتى عام 1417هـ، وفيم يلي أهم نتائج دراسة القحطاني:

أولاً: أثبتت هذه الدراسة أن جميع من حفظوا القرآن كاملاً من المحكوم عليهم بالعقوبة داخل السجن استفادوا من المكرمة الملكية لم يعد منهم أحد.

ثانيًا: أثبتت الدراسة أن جميع مَن حفظوا أجزاء القرآن الكريم داخل السجن واستفادوا من المكرمة الملكية لم يعد منهم إلا ما يعادل 1.5% وهذه نسبة لا تكاد تذكر مقارنة بنسبة العود في الوسائل الأُخَر التي بلغت 18.30% في المملكة العربية السعودية.

ثالثًا: بالنظر إلى مجموع مَن حفظوا القرآن كاملاً أو بعض أجزائه داخل السجن واستفادوا من المكرمة الملكية نجد أن نسبة العود إلى السجن في المجموع لا تتجاوز 1.44% وهذه حقيقة أخرى.

رابعًا: الجدول التالي يوضح مجاميع مَن استفادوا من العفو منذ صدور الأمر السامي الأول عام 1408هـ إلى عام 1517هـ ونسبة العود فيهم:

الأعوام

جميع من حفظ القرآن كاملاً

العود

النسبة للعود

جميع من حفظ جزئين فأكثر

العود

نسبة العود

مجموع فئتين

نسبة العود

1408- 1417هـ

185

0

0%

4851

73

1.5%

5036

1.44%

خامسًا: اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن حفظ القرآن أو بعض أجزائه قد أدى دورًا هامًا في تقوية الرقابة الذاتية للمستفيدين من الإعفاء، وأضاف بُعدًا جديدًا في عملية تنمية سلوكهم وتعديله، حال دون عودتهم للإجرام.

وهذا يوضح ويؤكد أن حفظ القرآن الكريم أو بعض أجزائه قد أدَّى دورًا هامًا في تقوية الرقابة الذاتية للمستفيدين من العفو وأضاف بُعدًا جديدًا في عملية تنمية سلوكهم وتعديله، حال دون عودتهم للإجرام.

2- ولقد أثبتت بعض الدراسات أن هناك علاقة قوية بين تطبيقات العفو لحفظ كتاب الله كاملاً أو أجزاء منه، وحسن السلوك داخل السجن للمنتسبين لحلقات الحفظ وأن لهم دورًا كبيرًا في العمل على الانضباط وحل مشاكل زملائهم.

3- لتأكيد تأثير حفظ القرآن الكريم على سلوك نزلاء المؤسسات الإصلاحية يرى الكثير من العلماء خاصة في مجال علم النفس والاجتماع والجريمة أن السلوك في شكله العام هو نتاج لعملية التعلم، ويؤكد على ذلك سيذرلاند في نظرية الاختلاط التفاضلي أن التعلم هو الوسيلة الرئيسة لاكتساب السلوك. من هذا المنطلق نرى أن ارتكاب الجريمة أيًّا كان نوعها هو انعكاس لسلوك غير سوي. لا شك، أن اقتراف الجريمة هو تعبير عن سلوك، وهذا السلوك تم عن طريق التعلم. إذًا الجريمة لا يمكن أن تحدث إلا عن طريق التعلم.

من هذه القاعدة فإن البرامج الإصلاحية عليها أن تهدف إلى تعديل سلوك السجناء في المقام الأول. ومن ثم تأهيلهم لكي تضمن أن نزيل تلك الإصلاحيات بعد الإفراج عنه قد عدَّل من سلوكه، وعدم معاودته للإجرام.

وعليه، وبناء على ما تقدَّم في (أولاً)، فإننا نضمن عدم عودتهم إلى ارتكاب الجريمة بإلحاقهم بحلقات تحفيظ القرآن الكريم وبخاصة أن أغلبية المنظمين وعلماء الشريعة والمصلحين الاجتماعيين ورجال التربية وعلماء النفس متفقون على أن التمسك بالقيم الدينية له تأثير على الأفراد وسلوكهم، وارتباط ذلك التأثير بالحد من وقوع الجرائم في المجتمع([29]).

4- إن المجتمع العالمي يكاد يقر بأهمية الجانب الديني كأداة رئيسية في إعداد البرامج الإصلاحية وأن السجن لم يعد مؤسسة عقاب بل وسيلة إصلاح وتقويم سلوك، ومن هذا الأساس فإن عمليات تعديل السلوك تأخذ بعدًا تطبيقيًا، حيث تهتم تلك البرامج بإحداث تعديل السلوك على افتراض أن مَن تم تعديل سلوكه تكون فرصته في الاستقامة أكثر من غيره. لذا يجب العمل على معالجة الجرائم التي تشكل البداية لارتكاب جرائم أكثر خطورة. فالسرقة مثلاً جريمة اعتداء على أموال وممتلكات الآخرين، ولكن قد يدفع هذا النوع من الجرائم إلى ارتكاب جرائم اعتداء على الأشخاص لا من أجل الاعتداء عليهم ولكن لتمكينهم من سرقة الأموال، وبالتالي يجد المجرم نفسه في حلقة متوالية من الأعمال الإجرامية([30]).

ويرى الكثير أن التمسك بالقيم الدينية هو السبيل إلى تعديل السلوك والأخلاق، فالأخلاق الدينية والاجتماعية متساندة، لذا فإن كافة النظم العقابية تولي التهذيب الديني لنزلاء المؤسسات العقابية اهتمامًا خاصًا، وذلك بتنظيم محاضرات وعظ وإرشاد وتحفيظ القرآن، وتأمين أماكن العبادة والصلاة([31]). ولا شك أن التهذيب الديني منبعه من القرآن الكريم.

5- ومن الآثار التي أحدثها حفظ القرآن الكريم في سلوك النزلاء ما جاء على لسان مَن حفظ القرآن الكريم منهم، ومما قالوه:

«الالتزام بأوامر الله وترك نواهيه، والله يأمرنا بذلك واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾([32]).

* حب الخير وأهله حيث القرآن يحث على ذلك واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾([33]).

* الاستقامة والدوام على الصلاة والقرآن يأمرنا بذلك واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾([34]).

* المداومة على تلاوة كتاب الله لما فيه من مواعظ وشفاء للصدور، واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾([35]).

* الشعور بعظم الذنب والأمل في التوبة والغفران من الله، واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾([36]).

* الشعور بقوة الإيمان وراحة النفس وسعة الصدور، واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾([37]).

* قوة الأمل في قبول التوبة النصوح من الله تعالى، واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾([38]).

* الشعور بلين القلب وحب الخير وأهله، واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾([39]). فما بال قلوب عباد الله الضعفاء لا تتأثر بكلام الله تعالى؟!

* الشعور بالولادة على الفطرة من جديد، واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾([40]).

وعمومًا يكاد يجمع من درست حالتهم أنه لا يمكن الإحاطة بالآثار الحقيقية لحفظ كتاب الله على النفس والسلوك ولا يمكنهم تعدادها.

* * *


الخاتمة والتوصيات

لقد اشتمل هذا البحث على أربعة محاور يجمعها موضوع البحث الموسوم بـ (حفظ القرآن الكريم ودوره في تهذيب سلوك النزلاء)، وقد أبان المحور الأول مفاهيم وضوابط الحفظ المقصود والسلوك، وعرض المحور الثاني أشهر الدراسات والبحوث المرتبطة بسلوك النزلاء بعامة وأثر حفظ القرآن الكريم في سلوك النزلاء بصفة خاصة، وجاء المحور الثالث ليثبت حقيقة تأثير القرآن الكريم ودوره في تهذيب السلوك بعامة بالأدلة الشرعية والتاريخية والعلمية، فكان المحور الرابع مستخلصًا من المحاور الثلاثة ليكشف الدور الفاعل الذي يقوم به حفظ القرآن في تهذيب سلوك النزلاء.

ومن أهم النتائج التي خرج بها البحث: أنه ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن لحفظ القرآن الكريم أثرًا كبيرًا في تهذيب سلوك النزلاء سواء تَمَثَّل ذلك في الحد من العود إلى الجريمة أو في مستقبل النزيل أو سلوكه داخل السجن، وهذا بلا شك سيعود على المجتمع إيجابيًا من ناحية أمنه واستقراره وإضافة عضو صالح فيه مكان العضو الفاسد، ويُعَدُّ ذلك من أعظم المكاسب للمجتمع ولذلك يوصي البحث بما يلي:

1- ضرورة العناية من قِبَل المعنيين بحفظة كتاب الله بخاصة، والعمل على تذليل الصعوبات والعوائق التي من شأنها الحد من تفعيل دور برنامج التحفيظ بعامة، فبالنسبة للذين حفظوا القرآن الكريم واستفادوا من العفو تكون العناية بهم في توفير عمل له فور خروجه من السجن، وصرف الضمان الاجتماعي له ولأسرته حتى يتم التحاقه بالعمل، ومعاملته كالتائب وذلك بمحو سوابقه، وأما بالنسبة لبرنامج التحفيظ فينبغي الاهتمام بتوفير المكان المناسب للملتحقين بالبرنامج والعدد الكافي من المدرسين وإعادة النظر في أسلوب تصنيف النزلاء وتشجيع المستحقين وتخصيص مكافآت لذلك.

2- تشكيل إدارة متكاملة متخصصة ومختصة في كل سجن تتولى عملية الإشراف والتنظيم للوعظ والإرشاد وحلقات التحفيظ.

3- تميُّز المملكة بهذا الأسلوب سيساهم في تحويل السجون بإذن الله إلى مدارس لتحفيظ القرآن الكريم، وهذا مرهون باتخاذ إدارة السجون سياسة وخطوات وإجراءات في سبيل تعزيز هذا الأسلوب وتفعيل دوره.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

* * *


مراجع البحث

1- أبحاث الندوة العلمية حول التعليم داخل المؤسسات الإصلاحية، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات والبحوث.

2- أثر السجن في سلوك النزيل، تأليف: أ.د/ عبد الله عبد الغني غانم، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية.

3- أثر العفو عن العقوبة لمن يحفظ كتاب الله في الحد من العودة للجريمة، تأليف: عوض بن مطلق بن محمد الدريمي القحطاني، أكاديمية نايف - معهد الدراسات العليا.

4- أسرار التكرار في القرآن، للكرماني.

5- البداية والنهاية، لابن كثير.

6- التربية في كتاب الله، لمحمود عبد الوهاب.

7- التقرير التنفيذي للعقوبات السالبة للحرية، لعيسى الشامخ.

8- الخطط الوطنية للسياسات الجنائية والتصدي للجريمة، لصالح سعد، الشارقة.

9- دراسات في علوم القرآن الكريم، تأليف: د/ فهد عبد الرحمن بن سليمان الرومي، مركز الدراسات والبحوث.

10- سير أعلام النبلاء، للذهبي.

11- صحيح البخاري.

12- العفو المشروط بحفظ القرآن الكريم أو أجزاء منه داخل السجن وأثره بالنسبة لمستقبل النزيل، تأليف المستشار/ عيسى عبد العزيز الشامخ.

13- رونق البيان في إعجاز القرآن، تأليف: الدكتور/ صابر حسن محمد أبو سليمان، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

14- مجلة الإعجاز العلمي، العدد التاسع، 1422.

15- مبادئ علم القرآن، لمحمد خلف، دمشق، دار منهل المعارف 1985م.

16- مبادئ علم العقاب، لمحمد خلف، بنغازي 1978م.

17- النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير.



([1]) «النهاية في غريب الحديث والأثر» لابن الأثير (4/30)، وينظر: «علوم القرآن» للدكتور/ فهد الرومي ص (18-23).

([2]) سورة القيامة، الآيات: 16، 17.

([3]) سورة الحديد الآية: 18

([4]) رواه البخاري (1/4)، ورواه مسلم (1/330-331).

([5]) رواه البخاري (4/183).

([6]) «التقرير التنفيذي للعقوبات السالبة للحرية»، لعيسى الشامخ، ص (97).

([7]) المصدر السابق، ص(98).

([8]) ينظر: «أثر السجن في سلوك النزيل»، للدكتور/ عبد الله عبد الغني غانم، ص(31، 32).

([9]) سورة الحشر، الآية: 21.

([10]) سورة الزمر، الآية: 23.

([11]) سورة الطور، الآيات: 35-37.

([12]) ينظر: «أسرار التكرار في القرآن»، للكرماني، ص(247)، و «رونق البيان»، للدكتور/صابر حسن أبو سليمان، ص(23، 24).

([13]) سورة النحل، الآية: 90.

([14]) سورة فصلت، الآية: 26.

([15]) سورة طه، الآيات: 1-4.

([16]) سورة الحديد، الآية: 16.

([17]) «سير أعلام النبلاء» (8/423)، و «البداية والنهاية» (10/226).

([18]) ينظر: «التربية في كتاب الله»، لمحمود عبد الوهاب، ص(53).

([19]) ينظر: «رونق البيان»، ص(56).

([20]) سورة الإسراء، الآية: 82.

([21]) سورة المائدة، الآية: 16.

([22]) سورة الإسراء، الآية: 9

([23]) سورة المائدة، الآية: 45.

([24]) سورة يونس، الآية: 57.

([25]) سورة الأنعام، الآية: 38.

([26]) سورة النحل، الآية: 89.

([27]) سورة الإسراء، الآيتان: 9، 10.

([28]) ينظر: «مجلة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة»، العدد (9)، عام 1422هـ.

([29]) «مبادئ علم الإجرام»، لخلف محمد، دمشق، دار منهل المعارف.

([30]) «الخطط الوطنية للسياسات الجنائية والتصدي للجريمة»، لصالح السعد، الفكر الشرطي، مجلد (2)، عدد (4)، شرطة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، الشارقة 1994م.

([31]) «مبادئ علم العقاب»، لمحمد خلف 1978م، بنغازي، مطابع الثورة.

([32]) سورة آل عمران، الآية: 135.

([33]) سورة البقرة، الآية: 195.

([34]) سورة البينة، الآية: 5.

([35]) سورة يونس، الآية: 57.

([36]) سورة الزمر، الآية: 53.

([37]) سورة يونس، الآية: 57.

([38]) سورة الزمر، الآية: 53.

([39]) سورة الحشر، الآية: 21.

([40]) سورة الزخرف، الآية: 27.