مظاهر الرحمة للبشر في شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم
ترجمات المادة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- مظاهر
الرحمة للبشر في شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم
- مقدمة بقلم
- كلمات بين يدي المحاضرات
- المحاضرة الأولى أزمة في القيم وبخل في التاريخ
- المحاضرة الثانية بوادر انفراج وكرم من التاريخ
- المحاضرة الثالثة سوء الفهم، لماذا ؟
- المحاضرة الرابعة معالم تأصيل الرحمة في نفوس البشر
- المحاضرة الخامسة الرحمة أولاً
- المحاضرة السادسة العدل الواجب والرحمة الواجبة توازن وتكامل
- المحاضرة السابعة الحرب الرحيمة
- المحاضرة الثامنة وما أرسلناك إلاَّ رحمةً للعالمين
- المحاضرة التاسعة الرحمة بالقوارير
- كلمة الدكتورة سارة في حفل الختام
مظاهر الرحمة للبشر في شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم
الدكتورة سارة آدم
تأليف الأستاذ الدكتور
زيد عمر العيص
جامعة الملك سعود بالرياض
قسم الثقافة الإسلامية
مقدمة بقلم
الدكتور/ عادل بن علي الشدي
أمين عام البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم رسل الله الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:
فقد يسرَّ الله تعالى انطلاق المسابقة العالمية للتعريف بنبي الرحمة على جائزة معالي السيد حسن عباس شربتلي في دورتها الأولى بتنظيم من «البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة » الذي تُشرف عليه رابطة العالم الإسلامي.
ومن توفيق الله أن تم اختيار «مظاهر الرحمة للبشر في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم» موضوعاً للمسابقة في عامها الأول ذلك أن الرحمة من أظهر وأعظم ما اتصف به هذا النبي الكريم فهو الرحمة المهداة من الله لخلقه كما قال سبحانه: ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [الأنبياء/107] ويكفي في تأكيد ذلك تدبر قوله تعالى: ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ [التوبة/128].
وحين تتحول نصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومحبته إلى عمل واقتداء، ونصرة واعية لخاتم الأنبياء، فإنها تثمر أطيب الثمار وأينعها وهو ما تحقق من خلال هذه المسابقة التي زاد عدد الباحثين المتقدمين لها عن (430) باحثاً من خمسة وعشرين بلداً على الرغم من كونها مسابقة جديدة ناشئة.
ولست أدري في هذه المقدمة هل أهنئ أم أشكر من ساهم فيها برعاية أو دعم، أو فكرة أو تحكيم، أو كتابة أو تأليف، فهم جميعاً مستحقون للشكر والتقدير لكنهم قبل ذلك يُغبطون ويهنئون على ما وفقهم الله إليه من شرف المساهمة في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، والتعريف به في العالمين، وأخص منهم صاحب السمو الملكي الأمير/خالد الفيصل آل سعود أمير منطقة مكة المكرمة الذي رعى حفل الجائزة وكرّم الفائزين و معالي الدكتور/ عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي قبل الإشراف على البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة وهيأ له الفرصة للعمل تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي، ورأس لجان تحكيم هذه المسابقة العالمية، وفضيلة الدكتور/محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الذي لبى دعوة الجائزة وحضر حفلها ضيف شرف كريم.
كما أشكر وأهنئ سعادة الشيخ/عبد الرحمن بن حسن شربتلي وسعادة الشيخ/ إبراهيم بن حسن شربتلي وإخوانهما الكرام على تكفل مؤسسة معالي السيد حسن عباس شربتلي الخيرية بتكاليف هذه المسابقة في كل دورة من دوراتها.
والشكر موصول لجميع العاملين في تنظيم هذه المسابقة العالمية وتحكيمها وخصوصاً فضيلة مقرر لجان التحكيم بالمسابقة الدكتور/خالد بن منصور الدريس، كما أتقدم بالتهنئة والدعاء لجميع من شارك في هذه المسابقة بلا استثناء وأدعوهم إلى استمرار التواصل مع البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة الذي يعتز بكون هذه المسابقة العالمية أحد أهم نشاطاته إضافة إلى تنظيم المؤتمرات والندوات، والمعارض والدورات، وتقديم البرامج الإعلامية، وإنشاء المواقع العالمية على شبكة الإنترنت، وطباعة الكتب بمختلف اللغات للتعريف بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.
وبين يديك أيها القارئ الكريم ثمرة يانعة من ثمار هذه المسابقة العالمية تمثلت في بحث قيّم تقدم به الدكتور/زيد بن عمر العيص ونال التقدير اللائق به في كافة لجان تحكيم المسابقة لما اتصف به من الشمول والاستيعاب وحسن العرض والمناقشة والجدة والابتكار مع الأصالة والتوثيق العلمي مما جعله يحوز الجائزة الثانية بالمناصفة.
أسأل الله أن يبارك في هذا الجهد وأن يوفقه إلى ترجمته ونشره بلغات متعددة.
كما أسأله سبحانه أن يجعلنا جميعاً من أنصار نبينا محمد وحملة رسالته للعالمين وأن يزيدنا بذلك شرفاً ورفعة في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كلمات بين يدي المحاضرات
بسم الله الرحمن الرحيم، له الحمد سبحانه، أنعم على البشرية، برسل كرام، عليهم منه تعالى الصلاة والسلام، وبعد :-
أرى ويرى كثيرون، أن حاجة البشرية المعاصرة، إلى الماضي، وما في معطياته، وتراثه، من نافع ومفيد، لا تقل عن حاجتها إلى ما جادت به الحضارة المعاصرة، من إبداعات، وإنجازات، إن لم تكن في بعض الجوانب تزيد.
إن في الماضي القديم، جمالاً ترنو النفس إليه، لا يقل عن جمال الحاضر المعاصر، على الرغم من أن شغف البشرية بحاضرها كاد ينسيها ماضيها الثري الغني في كثير من صفحاته.
لا أحسب أن أحداً يُعرض عن هذا الحديث، أو يُعرِّض به، وهو يرى ـ كما أرى ـ أن البشرية منهكةٌ، رغم ما توافر لها من وسائل راحة، وأمان، تائهةٌ رغم ما توصلت إليه من تقنيات عزت على الحصر، متناحرةٌ وعوامل الالتقاء بين أفرادها أضعاف عوامل الافتراق.
البشرية المعاصرة مدعوة بإلحاح وإشفاق، إلى أن تبحث في كل الاتجاهات، لعلها تجد طريقاً تأخذ بيدها إلى عالم المحبة والتراحم والتسامح .
أحسب أن البشرية تتجه إلى الماضي، حيث كان عظماؤها الذين مضوا، فهم ملك البشرية جمعاء، يحق للأجيال المتتابعة أن تطَّلع على سيرهم، وتنهل من المعلوم الممكن التطبيق منها، لعلها أن تجتمع عليه، بغية محاصرة مظاهر الفرقة، والاختلاف، وبث أسباب التراحم، والالتقاء، وإن لم يكن هذا، فما فائدة أن تحتفظ البشرية بسيرة هؤلاء وتاريخهم، ما لم تفد منها.
إن الناس، كل الناس، يحبون الأخبار الصادقة، ويتفاعلون مع المواقف المؤثرة، ويستجيبون للأحداث الإنسانية، وإنها لتبعث في النفس كوامن الخير، وتصرف عنها بواعث الشر.
كثيرون أولئك الذين يلقون محاضرات، أو يشاركون في ندوات، تعرض لمثل هذه الموضوعات، بغية بيانها للناس، وتزيينها في عيونهم، لتجد لها مكاناً في قلوبهم، وذلك قياماً بالواجب من هؤلاء وأداءً للأمانة.
كم من هؤلاء من يستحق أن يكتب كلامه لتكتحل به عيون القراء، بعد أن طربت له آذان المستمعين، لا جواب لديَّ بيقين، مع تقديري لكل هؤلاء المجتهدين.
بيد أني أملك القول، إن الدكتورة سارة آدم، الأستاذة في علم الاجتماع، وفلسفة الأخلاق، واحدة من هؤلاء، فقد استمعت إليها في تسع محاضرات، متتابعات، فكانت منها الإجادة، والإفادة، فحق لما قالته أن يُسمع، وحق له أن يكتب ليقرأ.
أرادت الدكتورة سارة لحديثها، أن يكون عن عظماء البشرية، الذين تمثلت في سيرهم الإنسانية، بكل إشراقاتها لتقدم لأبناء هذا الجيل، نماذج حية لمن جعلوا من الأخلاق النظرية حياة واقعية، سهلة الفهم، يسيرة التطبيق.
بيد أن التاريخ ـ رغم ما كان منها من بحث، وجهد جهيد ـ بخل عليها بالمعلومات التي تريد، عمن مضى من العظماء، وتلك عقبة في الطريق، فكيف يقتدى بالمجهول، باستثناء واحد من هؤلاء، كان التاريخ معها كريماً جد الكرم، بما أمدها من معلومات كافية وافية عنه، إنه النبي الرحيم محمد بن عبد الله .
بان لها أن الحديث عن سيرة النبي محمد ذو شجون، وذو فنون، لا يتسع له المقام، ولا يأتي عليه الكلام، فنظرت في وصف جامع لا يفارق أقوال النبي ، ولا أفعاله، في كل أحواله، فكان هذا الوصف هو الرحمة، بكل مظاهرها، وحين عزمت على أن تحاضر عن النبي محمد قصرت الحديث عليها، بعد مقدمة دعت الحاجة إليها.
عرضت في محاضراتها التسعة، قصصاً، وأحداثاً، من سيرة النبي محمد ، قد لا تكون جديدة على فئات كثيرة، فقد مرت بهم فرادى، متناثرة ، لكن الجديد المفيد، أنها نجحت في الكشف عن الوجه الآخر لها، حين جمعتها في نسق عجيب،وموكب مهيب، لتكشف من خلالها عن نظرية نبوية، أخلاقية، تكاملت في البناء، وتوازنت في الأنحاء، كانت الرحمة نقطة الارتكاز فيها.
أشفقت عليها، وأكبرت همتها، وهي تبحث عن المعلومة الصحيحة، تسوقها دليلاً، ولا ترضى عنها بديلاً، وإنه منهج يملي عليَّ أن أقول، إن حبل محاضرات الدكتورة سارة موصول بالمصادر الأصلية التي تلقتها الأجيال بالقبول نقلت عنها، واتكأت عليها، وهي تدلل وتحلل، وإن بدا لي بعض تصرف يسير فيما تورد من روايات، في زيادة كلمة، أو استبدالها بمرادف لها، بغية التوضيح لا غير، وأحسب أن ليس في ذلك من ضير.
ولقد رغبت أن لا تثقل الهامش بسرد المراجع وكثرة الإحالات، فكانت تكتفي بواحد منها، وربما باثنين، حتى إن ورد الحديث، أو القصة، في مراجع عدة. وقد استرعى انتباهي، عدم حرصها على عناوين لمحاضراتها، لأنها تعتبرها سلسلة واحدة، مما جعلها تضع لها عناوين عفوية.
سمعتها تقول، غير مرة، إنها تسعى جاهدة، لتكون محاضراتها، بعيدة عن المخاصمات العلمية، والمناقشات الجدلية، لتبدو وكأنها حوارات في جلسات عائلية، محاضرات واقعية، من واقعية ما يذكر فيها من أخبار، وأحداث، بسيطة من بساطة صانع هذه الأحداث النبي محمد ، وهنا تكمن العظمة كما ترى.
تسع محاضرات، طافت فيها الدكتورة سارة على حدائق ذات بهجة، من السيرة النبوية، جمعت منها بتنسيق دقيق، باقةً، كل زهرة فيها مظهر من مظاهر رحمة النبي بالبشر، قدمتها للبشرية هدية، تصاحبها بطاقة صغيرة مكتوب عليها قول النبي محمد (إنما أنا رحمة مهداة).
يبقى ما تقدم وجهة نظر، ورؤية خاصة بي، وربما يكون للقارئ رأي آخر، بعد أن يحل ضيفاً على هذه المحاضرات التي لا أود أن أكشف عن مضامينها، ولا أن أقدم لها تلخيصاً، يفقدها عنصر المفاجأة، وحلاوة العرض الجميل.
وأراني راغباً في الاختصار، لأن القارئ مثلي، يمل الانتظار. بقيت جملة واحدة، أقول فيها لعزيزي القارئ :
الدكتورة سارة آدم
تتحدث إليك عن
مظاهر الرحمة للبشر في شخصية النبي محمد
المؤلف
أ. د. زيد عمر العيص
المحاضرة الأولى أزمة في القيم وبخل في التاريخ
الذين يعرفون الدكتورة سارة آدم أستاذ علم الاجتماع ـ التي تحاضر في جامعات عدة، ومنتديات علمية عن فلسفة الأخلاق ـ بخاصة أولئك الذين يواظبون على حضور محاضراتها ـ الأكاديمية ـ أو الثقافية ـ لا يكادون يختلفون في أنها شغوفة بالمعلومة وبالبحث عنها، فهي ترفض تقسيمها إلى معلومة مهمة، أو غير مهمة، أو إلى صغيرة وكبيرة.
قالت غير مرة، إن الإنجاز الكبير، هو عبارة عن مجموعة إنجازات صغيرة، ربما لا يتنبه إليها، فالحقيقة الكبرى هي عبارة عن مجموعة حقائق صغيرة كما يعرفون عنها، أنها تعنى بالقراءة بين السطور.
الذي يسترق السمع إلى ما يدور بين طلابها والمتابعين لمحاضراتها، يرى أنهم بقدر إعجابهم بطروحاتها، وبمنهجها، وتشوقهم إلى جديدها، بقدر شعورهم بالإرهاق أحياناً، وربما الملل حين تشرع بسرد التفاصيل، وتتبعها بالتحليل، ولا يخفى بعضهم في الوقت نفسه، أنها حظيت بإعجاب الكثيرين بسبب منهجها هذا.
وكأني ببعضهم يود أن يتساءل على استحياء هل حقاً ما قيل إن الشياطين تكمن في التفاصيل، لولا خشيته من نظرة عتاب، أو كلمة لوم، ربما يتبعها حساب من الدكتورة سارة ذلك أنها ترفض فلسفة هذه المقولة، بخاصة في المحافل العلمية، وقاعة الدرس.
ترى أنها بضاعة أهل السياسة، الذين تتعرض لبعضهم أحياناً، وتُعرِّض بطائفة منهم لسبب ظاهر عندها، هو جنايتهم على الحقيقة، بعموميات يطرحونها، وعبارات يرددونها، يخفون في طياتها ما لا يسر، وتلحق بهم أولئك الذين يُزوِّرون الحقائق، ولا يحترمون عقول البشر في حالات متعددة ومنهم بعض الصحفيين.
لقد شهد لها غير واحد بأنها لا تملك مواقف مسبقة، أو محدده، من فئة معينة، وإنما الذي يُعرف عنها، هو انحيازها إلى المعلومة، من حيث هي، واحترامها الشديد إلى أولئك الذين يستمعون إليها، أو يقرأوون لها، لأنها تشعر أنهم يتفضلون عليها.
اعترفت الدكتورة سارة آدم، في بعض جلساتها الخاصة، أن منهجها هذا، الذي تحرص عليه، منذ سنوات، قد جلب لها بعض المتاعب، منها نقد بعض زملائها لها، بحجة أنها تغري طلابها أحياناً، بتوسيع دائرة النقد، وعدم القبول بالمعلومة، إلاَّ بعد المحاورة، وطرح العديد من الأسئلة.
بينما ترى هي أن المحاضر والكاتب، أياً كان، لن يتسنى له أن يحوز على احترام الجمهور، وانتزاع ثـقتهم به، ما لم يبادر هو باحترام قدراتهم، وتقدير عقولهم، واعتبار جمهوره الخاص شريكاً له في الوصول إلى الحقيقة.
لقد غرست في أذهان طلابها، أن المعلومة الصحيحة، علامة فارقة بين من يملكها، وبين من لا يملكها، وكانت دائماً تقول لهم، جاء في القرآن الكريم: ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭼ [الزمر: 9]، ثم تصمت قليلاً، فيقولون طبعاً لا.
وكانت ترى كذلك، أن الأعمال الفاضلة متعددة، وأن من أفضلها، الوصول إلى الحقيقة، وتذكر في هذا المقام، عبارة وردت في الإنجيل، كانت ترددها كثيراً تقول (وأساس البر البحث عن الحقيقة, والوصول إليها).
اختلفت في بعض المناسبات العلمية، مع بعض زملائها فهي ترى أن القارئ، أو المستمع، شريك في الوصول إلى الحقيقة، في حين يرى بعضهم، أن كثيراً من هؤلاء، لا يملك مؤهلات تمنح له هذا الحق، وكانت تقول دائماً، بعد هذا الحديث، أياً كان الأمر، فإنه لا يعني عدم احترام القارئ، أو المستمع، من خلال تجاهل المعلومة الصحيحة، وعدم الاعتراف بالحقيقة، وإن كانت مرة.
اضطرت الدكتورة سارة في بعض المواقف، إلى القول بأن د. هربرت أ. شيللر، حين وضع كتابه المتلاعبون بالعقول، ربما أغضب بعض الكتَّاب والباحثين، حين قال، إن ثمة نخبة تسعى إلى تضليل عقول الجماهير، بغية تطويعهم إلى أغراض خاصة(1) وتضيف هي، أو أغراض عامة لحساب جهات معينة، وهو ما يزيد الأمر قبحاً.
لم تخف الدكتورة سارة على طلابها، والمقربين منها، انزعاجها الشديد، حين ترى تشابهاً بين العمل الصحفي، وطرفاً من العمل الأكاديمي أحياناً، من حيث المنهج، أو الأهداف، فهي لم تفاجأ كثيراً حين قرأت كلاماً للإعلامي المشهور هنري لويس، مؤسس صحيفة التايم، وغيرها من الجرائد، والمجلات واسعة الانتشار، عندما يقول: (إن الموضوعية الصحفية شيء زائف تماماً، وبالتالي عندما نقول فلتذهب الموضوعية إلى الجحيم، فإننا نقصد بذلك هذا المعنى)(2) .
لم تفاجأ بهذا الكلام لأن الواقع يشهد له، في مواطن كثيرة، لكنها تفاجأ عندما ترى الوصف نفسه في بعض الأعمال الأكاديمية بل وتحزن كثيراً.
ذكر أحد المتابعين لنشاطها العلمي، أنها قالت في مداخلة لها على هامش ندوة علمية، إنني أعجب أشد العجب، من أولئك النفر من الناس الذين يغضبون أشد الغضب، حين تُسرق منهم بعض ممتلكاتهم الخاصة، ولا نلحظ فيهم ثورة الغضب هذه، حين يُسرق من بعضهم عقله، وحريته، في التفكير، ويصادر رأيه، فيصبح أسيراً لشخص ما، أو جهة ما، بل إنه لمن المؤسف أن نرى فئة من الناس تستسلم لهذا الأمر، وهي ضاحكة مستبشرة.
واجهت الدكتورة سارة بعض المتاعب الخفية بسبب منهجها ، وبعض مقولاتها، لكنها في المقابل حظيت بشهرة علمية، تكاد تكون محل اتفاق، وكسبت احترام كل من عرفها، عن قرب، حتى بعض أولئك الذين سببت لهم انزعاجاً، أو إحراجاً.
تحاضر الدكتورة سارة في موضوعات علم الاجتماع، وتعنى بعلم الأخلاق كما ذكرت، تحدثت في آخر محاضرة لها، بعنوان: دوافع الأخلاق الفردية، في ندوة حول حقوق الإنسان، في ظل الصراعات الدولية، عما أسمته أزمة القيم، الذي تمر بها البشرية اليوم، واعترفت أنها استعارت هذا المصطلح ، من مقالة للمفكر د. رجاء جارودي، حين قال:(إن البشرية اليوم تعاني من أزمة قيم، فقدت معها أخلاقها (1)، أو كادت).
رغبت في محاضرتها هذه، أن تدع الأرقام الصادقة، والصادرة عن جهات موثوقة، تتحدث عن هذه الأزمة، وتدلل عليها فقالت:
1- أكدت دراسة قامت بها جمعية حقوق الطفل، التابعة للأمم المتحدة، بيع عشرين مليون طفل خلال السنوات العشر الأخيرة ليعيشوا طفولتهم في ظروف قاسية.
2- ذكرت مجلة لانسيت العالمية البريطانية أن أربعة ملايين طفل يموتون سنوياً، خلال الشهر الأول من ولادتهم، بسبب الفقر والأمراض.
3- ذكر تقرير التنمية البشرية أن أكثر من ثمانمائة وخمسين مليون إنسان ثلثهم من الأطفال، في عمر ما قبل الدراسة، واقعون في فخ الدائرة المفزعة لسوء التغذية ومضاعفاتها.
4- أعلنت منظمة أطباء العالم غير الحكومية، أن مليوني طفل لقوا مصرعهم في النزاعات المسلحة التي اندلعت خلال فترة التسعينات وأضافت أن خمسة إلى ستة ملايين طفل جرحوا أو أصيبوا بعاهات مستديمة.
5- جاء في تقرير التنمية البشرية لعام 2005م، أنه ما زال في العالم حتى اليوم ثمانمائة مليون إنسان من بينهم نحو مئة وخمسة عشر مليون طفلً يفتقرون إلى المهارات الأساسية في القراءة والكتابة.
6- ذكر تقرير التنمية البشرية، أن عدد المصابين بالإيدز (نقص المناعة المكتسب) بلغ أربعين مليون شخص عام 2005م، وقد قتل الإيدز أكثر من خمسة وعشرين مليون شخص، منذ أن تم التعرف عليه لأول مرة عام 1981م، وحذرت الأمم المتحدة من احتمال وفاة أكثر من ثمانين مليون أفريقي بحلول عام 2025م.
7- كشف المعهد الدولي لأبحاث السلام، في تقريره السنوي، عن أن حجم النفقات العسكرية العالمية تجاوز سنة 2004م ألفاً وخمسة وثلاثين مليار دولار.
كانت الدكتورة سارة وهي تسرد هذه الأرقام، في محاضرتها، تبادل المستمعين لها بذهول نظرات تصاحبها بعض إشارات تدل بوضوح على حجم الأسى والحزن، والعجز أيضاً الذي يشعر به جميع من في القاعة، وبعد انتهاء المحاضرة خيم الصمت على القاعة، إلاَّ من بعض عباراتٍ دعت إليها المجاملات، وكأن لسان حال الجميع يقول، والصمت إن ضاق الكلام أوسع.
مزَّق الصمتَ صوتٌ من آخر القاعة، يخاطب د.سارة وهي تغادر المكان، قائلاً: ما العمل ؟ وما الطريقة المثلى التي يمكن أن تسهم في إيقاظ البشرية من غفلتها، ثم إنقاذها من هذا التردي المدمر لها ؟ ما دور أصحاب الأقلام المستقيمة، والذين لا يملكون غيرها ؟ بل ما دورك أنتِ بعد أن ألقيت هذه المحاضرة، وما تضمنته من أرقام مذهلة، بل مخجلة، تعد سُبة في جبين هذه البشرية التائهة.
ما أن انتهى هذا المتكلم من حديثه، حتى تداخلت عبارات الحاضرين، واختلط بعضها ببعض، فهمت منها د. سارة بشيء من الصعوبة، أن جميع من في القاعة يحملون الشعور نفسه، الذي عبَّر عنه الشخص الذي تكلم، فسرها كثيراً ما سمعت، وجعلها تتريث قليلاً في الخروج، ثم توجهت إلى الحاضرين بقولها، أقدر لكم شعوركم، وأشكر لكم تفاعلكم.
ولقد ذكَّرني موقفكم هذا بقناعة وجدتها عند غير واحد من علماء الاجتماع، مفادها أن البشرية تميل إلى حب الفضائل، وتكره الرذائل، وتنفر منها، ما دامت بعيدة عن التأثيرات الخارجية، التي تلعب بعقول الناس، في كثير من المواطن.
وعدت قبل خروجها، بأنها ستعنى بما سمعت من طروحات وأسئلة، وقالت أرجو أن يتضمن الموسم الثقافي القادم، والذي اقترب موعده موضوعات تكون ذات صلة بهذه الطروحات، ولعلها تحمل بعض إجابات لما قيل ويقال في هذا المجال.
مضى شهر، أو يزيد، وإذا بصحيفة الجامعة تصدر، وهي تحمل خبراً جاء فيه، د. سارة آدم تحاضر في سيرة عظماء البشرية، وأثر هذه السير في نشر الثقافة الأخلاقية بين الإنسانية، بخاصة صُنَّاع القرار منهم، وأصحاب الفكر المؤثرون في مجتمعاتهم.
ترى د. سارة أن الحظ حالفها، حين تأخر الموسم الثقافي في الجامعة، عدة أسابيع عن موعده المقرر، وترى أنه حالفها الحظ مرة أخرى، حين أعطيت في هذا الموسم محاضرات تزيد عما كانت تأخذه في العادة، بسبب اعتذار بعض الأساتذة عن عدم المشاركة، لأسباب متعددة.
بدأت محاضرتها الأولى، بالحديث عن المسوغات التي دعتها إلى دراسة سير العظماء، وذكرت الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، من خلال هذه الدراسات، فقالت :
سبقت الإشارة في محاضرة ألقيتها منذ عدة أسابيع، ربما يكون بعضكم قد حضرها، أو قرأ عنها، إلى أن البشرية تعيش أسوأ أيامها، وأحط أحوالها، شهدت بهذا أرقام ذكرنا بعضها، سوف توزع عليكم في ورقة مستقلة، فلا داعي لإعادتها، وآمل أن تضاف إلى محاضرات هذا الموسم، لأنها بصراحة كانت من أبرز أسباب اختيار هذا الموضوع، وأعرضنا عن كثير منها، والواقع المشاهد، يؤكد أننا لا نهول من الأمور، ولا نتبع الأوهام.
إن وسائل الإعلام، لا تكاد تحمل لنا إلاَّ تزايد أعداد القتلى، والمشردين، وارتفاع نسب البطالة، واتساع دوائر النزاع، وانتشار الأمراض القاتلة، وازدياد أعداد الفقراء، وتنوع صور الاعتداءات على الإنسانية بكل فئاتها، وعلى البيئة بكل ميادينها، وهو ما يهدد أصل وجود البشرية برمتها.
في ظروف كهذه، غاية في الخطورة، تدعو الحاجة، والضرورة، إلى استحضار سير بعض عظماء البشرية، لتعريف الناس بهم، واطلاعهم على سيرهم الشخصية، ونشر تعاليمهم بين الناس، وهذا في اعتقادي، سوف يسهم في الترويج للأخلاق الفاضلة، وفي التنفير من الأخلاق السيئة.
هذا المسلك، يعد خطوة في الاتجاه الصحيح، نحو محاصرة الشر وأهله، ومطاردة صنَّاع المشاكل، العابثين بمصير البشرية وبأمنها، وبمقدراتها، وهي لا تعدو أن تكون خطوة في رحلة الألف ميل، ولكن لها أهميتها، لأنها في الاتجاه الصحيح .
نحن نتفق مع الرأي القائل، إن العظماء قليلون، مهما كثروا، وهذا يعين على تتبع سيرهم لأنهم ندرة ونخبة، ومن كانت هذه حالهم فينبغي أن يكونوا محل عناية، بخاصة في وقت تحتاج فيه البشرية إلى تراثهم الأخلاقي، وتجاربهم التي نجحت في ميادين متعددة .
إذا أضيف إلى هذا، ما ذكر سابقاً من أن الناس بطبعهم أخيار يميلون إلى الفضائل، ويحبون رموزها الذين تميزوا بها، ترجح لدى الباحثين أن في هذه الدراسات خيراً كثيراً للبشرية.
يتضح الأثر الطيب لها في صورة جليَّة، حين يُقدم لهذه البشرية المرهقة نماذج حيَّة لأشخاص مارسوا الأخلاق، وجعلوا منها ومن الفضائل واقعاً معاشاً، وسلوكاً ممكناً، في دنيا الواقع، والبشرية بلا ريب بحاجة إلى مثل هذا التوجيه، بعدما أصاب كثيراً من جوانب حياتها التشويه.
نحن لا ننكر أن سيرة العظماء في تاريخ البشرية، لحقها بعض إساءات، مقصودة كانت أو غير مقصودة، لأسباب منها الجهل بها أحياناً، وربما التجاهل لها حيناً لأغراض لا يتسع المقام لسردها، أعتقد أن هربرت أ. شيللر أتى على بعض منها في كتابه المتلاعبون بالعقول، وإن لم يكن بطريقة مباشرة.
لقد أحسن الأستاذ العقاد حين شخَّص الداء ووصف الدواء بقوله: (إن البشرية بقدر اجترائها على هؤلاء العظماء، بقدر حاجتها إليهم)(1).
على عادتها في محاضراتها، بادرت د. سارة إلى الحديث عن بعض معالم المنهج الذي سوف تسلكه في دراساتها، وإن استدركت قائلة، كان ينبغي أن يكون هذا الكلام، في بداية المحاضرة لكن لا بأس بهذا، فما زلنا في بداية الطريق.
قالت د. سارة، لقد جمعت الكتب التي تتحدث عن سير هؤلاء العظماء، بخاصة كتب التاريخ، لأنني أتفق مع د. توماس كارليل صاحب كتاب الأبطال حين قال: (إن التاريخ سجل لسير أعمال العظماء)، وقد سعيت جاهدة لانتزاع الحقائق من هذا التاريخ ولا شيء غير الحقائق، لأضعها بين يدي القراء الكرام، ولهم بعدها أن يسلكوا مسلك المفكر العالمي د. نعوم تشومسكي، ويأخذوا بنصيحته إن شاءوا، حين قال بعد أن جمع كثيراً من الحقائق المفزعة: (لقد انتزعت هذه الحقائق من التاريخ، وعلى المرء أن يصرخ بها ويعلنها على رؤوس الأشهاد)(2).
إذا كان د. نعوم قد قلَّب صفحات التاريخ المعاصر، فوجد فيها حقائق مفزعة رهيبة، فها نحن نقلِّب صفحات التاريخ الماضي البعيد، بحثاً عن صفحات بيضاء مضيئة، وأحسب أننا واجدون فيها الكثير مما نؤمل.
فإن من رحمة الله تعالى بخلقه أن يقيم لهم معالم خير، ومنارات هداية، من خلال رموز بشرية نقية، إمَّا بأشخاصهم وقت وجودهم، وإما بما تركوا لنا من سير عطرة، وتراث جميل في رحلتهم الطويلة، بغية أن يذكِّروا الناس إذا نسوا، ويعينوهم إذا ذكروا.
كان مما قالته في هذه المحاضرة، لقد قرأت الكثير حول سير العظماء، ودونت أكثره حسب تقدمهم الزمني، لأن فضل السبق معتبر، فإن اللاحق غالباً ما يفيد من السابق، بخاصة في مجال علم الأخلاق، فالبشرية لا تكاد تختلف في شيء منها، وهي مما يتوارث بين أجيالها ، وأفرادها.
بعد استراحة لا تتجاوز دقائق معدودة، واصلت د. سارة حديثها بالقول :
منذ أسابيع، وأنا أبحث في المكتبات، وقنوات المعلومات الأخرى، في سيرة بوذا، باعتباره قديساً مشهوراً متقدماً في الزمن، معظماً لدى مئات الملايين من البشر في آسيا بخاصة، وقد عرفنا عنه زهده في الحياة، وصفاء نفسه.
يؤسفني القول إنه في ضوء المنهج الذي رسمته لنفسي في هذه المحاضرات ـ أنني عجزت عن جمع المعلومات الكافية، التي تمكنني من تقديم صورة واضحة المعالم لبوذا، ولتعاليمه على كثرة مطالعاتي وقراءاتي.
وحتى لا أتهم من أحد بالتكاسل، أو التحامل، فإني أود أن أذكر لكم أنه يشاركني الرأي في هذه النتيجة المؤسفة، علماء كبار، أو بتعبير أدق، أنا أشاركهم الرأي، لأنهم أسبق مني في بحث هذه المسألة.
هذا العلامة الأستاذ سلمان الندوي، كبير علماء الهند، في القرن الماضي، يعترف بعد بحث طويل، في سيرة بوذا، بالعجز عن الحصول على معلومات عنه، فيقول متسائلاً: (هل يقيم التاريخ وزناً لوجود بوذا ؟ وهل يقدر مؤلف على أن يعرض للناس صورة حقيقية لتاريخه؟ وهل يستطيع كاتب، أن يصف ظروفه، وأحواله التي كان عليها في حياته، وصفاً كاملاً، لا يغادر شيئاً من تحديد زمن ميلاده، ووطنه، وأصول دينه، كما دعا هو إليه، ومبادئ دعوته، وأهدافها؟
الذي نعلمه، أن ذلك كله محجوب عن علم الناس، بظلمات كثيفة متراكمة)(1).
ونراه في موضع آخر، يبدي أسفه، واستغرابه، لندرة المعلومات عن بوذا، فيقول: (أليس من المستغرب أن بوذا الذي يبلغ عدد المنتسبين إليه، ربع سكان المعمورة، لا يحفظ التاريخ من سيرته إلاَّ عدةَ أقاصيص، وحكايات، لو أننا نقدناها، بمقاييس التاريخ، لنتخذ لأنفسنا قدوة من حياته، وسيرته، لخرجنا من ذلك خاسرين)(2). والسبب في هذا ، وقفت عليه دائرة المعارف ، حين ذكرت، أن تاريخ بوذا أكثره من قبيل الحكايات(3) .
إذا كانت النتيجة، التي توصلتُ إليها، وآخرون قبلي، حول حياة بوذا، لا تخلو من جرأة في نظر البعض، فإن الجرأة الأكثر، والمفاجأة الأكبر، جاءت من قبل الأستاذ ر.ف بودلي، المؤرخ الإنجليزي المشهور ، الذي عمم هذا الحكم، ليشمل مع بوذا غيره من العظماء، وفي هذا يقول بودلي ما نصه: (إننا لا نجد ما دوَّنه معاصرو موسى، أو كونفوشيوس، أو بوذا، ولا نعرف إلاَّ بعض شذرات عن حياة المسيح، بعد رسالته)(4).
أنا لا أنكر أن رأي بودلي في حياة المسيح، وإن كان يبعث على الاستهجان، لدى كثيرين، إلاَّ أنه في الواقع له حظ من الصحة، وهو على أية حال، يبقى رأياً أقل غرابة، بإزاء الرأي الذي طرحه بعض علماء الأديان في أمريكا، والذي يتضمن جرأة قبيحة، حين أنكر هؤلاء أصل وجود المسيح عليه السلام، فاعتبروا أن كل ما ذُكر حوله هو من الأساطير، وأن ما ذُكر عنه إنما هو بقية من بقايا وثنية الروم، واليونان.
لم يقتصر الأمر على هذا الصنيع الشنيع، فقد استمر الجدال أشهراً حول وجود المسيح عليه السلام، في مجلة (روبن كورث)، التي تطبع في شيكاغو، ودار البحث عما إذا كان للمسيح وجود تاريخي، أم هو مما ابتدعته أوهام القدماء، من الأمم السالفة، واختلقته اختلاقاً (1).
زاد تقديري للدكتورة سارة ، وأعجبت بها كثيراً، حين سمعتها تقول بكل قوة وثبات، ليس من شك قط، أننا نرفض بشدة هذا التجذيف، ونستنكر هذا التطاول، على مقام السيد المسيح، فإن وجوده ثابت ثبوت الشمس في كبد السماء، فقد تحدثت عنه الكتب المقدسة، وتبوأ فيها منزلة رفيعة، هو وأمه الصديقة. لا يطرح مسألة وجود المسيح إلاَّ جاحد معاند، وعابثٌ لا وَزْن له، ولا اعتبار في الميدان العلمي، وهذه الآراء، وأمثالها، أقل شأناً، من أن نضيِّع فيها وقتنا، وهو قصير وثمين.
بيد أني ـ أردفت د. سارة قائلة ـ لا أنكر إنصافاً للحقيقة، أن ثمة علامات استفهام كثيرة، في سيرة السيد المسيح، وهذا ما دفع بودلي نفسه ليقول كما أسلفنا (لا نعرف إلاَّ بعض شذرات عن حياة المسيح، بعد رسالته، ولا نعرف شيئاً عن الثلاثين سنة التي مهدت الطريق للسنوات الثلاث التي بلغ فيها أوجه)(2).
إن الناظر فيما كتب حول السيد المسيح ، يجد أن هذا الرأي لم ينفرد به بودلي، أو غيره، فإن هناك شبه إجماع عليه (فقد استفرغ العلامة ريتان جهده، ولقي من العناء، والتعب، مبلغاً عظيماً، ليقف على حياة عيسى كاملة تامة، ومع ذلك فإن شؤون عيسى عليه السلام، وأحواله لا تزال سراً مكنوناً، في ضمير الزمن، لم يبح به لسانه بعد)(1).
لا بد من التوضيح، أن هذا الذي تقدم، لا ينال بحال من مقام السيد المسيح ، فإن السيد المسيح عاش في بيئة معادية له، سواء من اليهود الذي لبث فيهم فكفروا به ، أو من الدولة الرومانية الوثنية ذات السلطة والسطوة التي قست عليه كثيراً.
توقفت الدكتورة سارة عن الحديث قليلاً، وهي تقلب أوراقاً بين يديها، كأنها تبحث عن شيء فيها، ثم رفعت ورقة، وهي تقول أخشى أن يكون من سوء حظنا، أو ربما من سوء حظ هؤلاء العظماء، أنه تعذر علينا الإلمام بسيرهم، والوقوف على كثير من تفاصيلها، أو حتى التأكد من وجود بعضهم أصلاً.
هذه الورقة التي ترونها، مصورة من دائرة المعارف، وهي تعد عند عامة الباحثين، من أوثق المصادر في التاريخ، تتضمن هذه الصفحة كلاماً عن زرادشت، وزرادشت هذا تحدثت عنه دائرة المعارف، فكان مما قالته عنه (يقال: إنه نبي المجوس، دعا إلى عبادة النار، والحكايات التي شاعت عنه كثيرة، وما عدا أنها بالغة في الغرابة، فهي متناقضة كمال التناقض.
لما شاخ اعتزل الناس في جبل البرزو، وبقي على عزلته حتى أدركته الوفاة )(2).
تحدثت عنه دائرة المعارف البريطانية أيضاً، فقالت: إن الأسطورة التي تشتمل على الحياة المستغربة لزرادشت، لا تدلنا على حياته دلالة واضحة، ولا تهدينا السبيل، إلى معرفته، معرفة تاريخية، بسبب ما نجد من غموض، لا ندرك معناه، وخُتم الكلام بالقول إننا لا نعلم زمن زرادشت البتة ونجهله جهلاً تاماً (3).
ختمت الدكتورة سارة محاضرتها، بالقول: لا أراني راغبة في الاسترسال بهذا الحديث، الذي ربما يبعث الأسى في النفوس، وهي تحاط بعشرات العلامات من الاستفهام، بشأن سير هؤلاء العظماء.
بودي أن اعتذر باسمي واسمكم جميعاً لهم، وأن أعاتب جهة ما، ولست بعالمة لمن العتاب، وفي النهاية لا يسعنا إلاَّ التسليم بهذه النتائج، والإقرار بتلك الحقائق.
لعل الزمن القادم يشهد فتح صفحات مطوية، ويكشف عن معلومات منسية، وإن كان التفاؤل في هذا الشأن قليلاً، إن لم يكن معدوماً، فقد مضى على وجودهم آلاف السنين، ولم نظفر إلاَّ بهذا النزر اليسير من المعلومات، فلو كان ثمة شيء لظهر.
ليس من شك في أن المعلومة الصحيحة ، والصحيحة فقط هي أساس البحث، فإن لم تتوافر بين أيدينا فإنه يتعذر علينا تقديم صورة واضحة المعالم لأية شخصية أياً كانت، ويصعب علينا أن نجعل منها مثلاً أعلى، وعلماً بها يُقتدى.
وقبل أن أغادركم، أقول لكم، وأنا أرى في وجوهكم الأسى، الذي أظن أن جزءاً منه لأجلي، وأنا شاكرة لكم هذا الشعور، أقول لكم تجمع بين يدي مقولات عديدة ، ومعلومات كثيرة متنوعة، عن واحد من عظماء البشرية، أحسب أننا سنجد فيه ضالتنا، ونحقق من خلال النظر في سيرته بغيتنا.
أضافت قائلة، ولكن هذا لا يعني بحال، المسارعة في إصدار الأحكام ، على الرغم من أني بت أطمئن لما توافر بين يديَّ من مادة علمية حول هذا الموضوع الذي يستدعي مزيداً من البحث وتتبع التفاصيل، والاجتهاد في التحليل، وأذكركم بأن الصبر جميل.
أشكر لكم حسن الاستماع، والصبر على هذه النصوص، حتى المحاضرة التالية، لكم مني خالص التحية.
ترقب المتابعون ما وعدت به د. سارة من جديد، وما ينتظر منها من تفصيل وتحليل، وافق أن استضافت الجامعة أستاذاً زائراً، ونظراً لضيق وقته، تنازلت له د. سارة عن موعد محاضرتها، تكريماً منها لهذا الأستاذ الزائر، وإن كان يرى بعض خواصها، أنها فرحت بما حدث، لتكسب مزيداً من الوقت، وقد كان لها ما أرادت.
المحاضرة الثانية بوادر انفراج وكرم من التاريخ
أعلن عن موعد المحاضرة الجديد، وعن موضوعها. فكان:ـ الدكتورة سارة تحاضر عن النبي محمدٍ في الموسم الثقافي للجامعة.
بدأت محاضرتها الثانية ، بعد الترحيب بالحضور وشكرهم، مخاطبة جموع الحاضرين، أعزائي الحضور الكرام، لقد اخترت النبي محمداً ليكون موضوع محاضرتي في هذا الموسم، ثم أردفت قائلة كأني بكم تسألون لمَ الحديث عن النبي محمدٍ ؟ ما المسوغات التي تميزه عمن مرَّ بنا ذكرهم في المحاضرة الماضية ؟
سمعت همسات، ورأت نظرات، من لدن الحاضرين، دلت بمجموعها على صدق حدسها وعلى حسن تعبيرها، وصواب تقديرها.
فابتدأت تقول بكل ثقة وطمأنينة: توافر لدي من خلال البحث، أربع حقائق، تحمل بمجموعها إجابات شافية عن الأسئلة الماضية. فيما يبدو لي، والحكم إليكم، بعد الاستماع إليها.
أولها : توافر المعلومات التفصيلية، الصحيحة عن حياة النبي محمد في مراحل حياته جميعها، فليست في هذه السيرة التي استمرت ثلاثة وستين عاماً حلقة مفقودة، وليس فيها كذلك أي من علامات الاستفهام، التي مرت بنا عند الحديث عن بعض من سبقه من العظماء.
لقد اتفق كل من قرأ في سيرته، بإنصاف ـ وأنا منهم ـ ،على أنه كتاب مفتوح، أمام أتباعه، وأعدائه، على حد سواء.
من أبرز مظاهر هذا الوصف، أن الباحث لا يكاد يجد علامة استفهام في سيرته كلها، وفي أخص خصائص النبي ، وأجدني مضطرة، في هذا المقام، أن أفتح فهرسَت أصغر كتاب، وقع في يدي، حول جانب من أخلاق النبي لنقف وإياكم على بعض ما احتواه من تفصيلات، أعترف أمامكم بأنني كدت أمل هذه التفصيلات، على الرغم من اتهامكم لي أنني ممن أُعْنَى بها ,وأسعى إليها، هذا الكتاب هو أخلاق النبي وآدابه، تأليف جعفر بن حيان الأصفهاني، المتوفى سنة 369هـ، الموافق 952م تقريباً.
تضمن هذا الكتاب، وصفاً دقيقاً لجميع قطع ملابس النبي محمد ، ووصفاً لجميع الأدوات التي كان يستعملها، ووصفاً دقيقاً لطريقة أكله، وشربه، ونومه، ودخوله، وخروجه، وجلوسه، وكلامه، وضحكه، وبكائه، وحواره وتعامله مع الناس.
وكذلك تضمن وصفاً دقيقاً مفصلاً لجميع أعضاء جسمه الظاهرة لأصحابه، وتضمن حديثاً عن الحيوانات التي كان يركبها، وأسماء هذه الحيوانات، وغير ذلك مما لا يتسع المقام له.
لم ينفرد بهذه المعلومة كتاب أو كتابان، بل إنها تكررت في مئات الكتب الموثوقة والمشهود لأصحابها بالمنهجية العلمية والصدق والنزاهة، وهذه دعوة مني بهذه المناسبة، لمن يرغب في الاطلاع، أن يقرأ في بعض هذه الكتب، وهو ما يؤكد بحق أننا أمام شخصية تُعد كتاباً مفتوحاً بكل صفحاته.
ويحسن في هذا المقام أن أستعين ببعض شهادات لمن سبقني بالكتابة عن النبي محمد ، فقد قال ر. ف بودلي الباحث الإنجليزي المعاصر: (إننا نجد أن قصة محمد واضحة كل الوضوح)(1).
فقد قال التاريخ في سيرة النبي كلمته، بعيداً عن الأساطير، والتزوير، واستأنس في هذا الموطن بقول للأستاذ كلود كاهن، أستاذ التاريخ الإسلامي، في جامعة باريس، حين قال: (اصطبغت شخصية محمد بصبغة تاريخية، قد لا تجدها عند أي مؤسس آخر من مؤسسي الديانات الأخرى)(1).
لقد عاش النبي محمد في مكة، ما يزيد على خمسين عاماً، وهي الشطر الأكبر من حياته، وكان أعداؤه فيها أضعاف أتباعه بكثير، ولم يجرؤ أحد من أعدائه أن يشكك في شيء مما تضمنته صفحات حياته، أو يدعي أحدهم أن في حياته صفحات غير واضحة.
سجل التاريخ محاورة مشهورة جرت بين أبي سفيان زعيم مكة خصم النبي محمد المشهور قبل أن يُسلم، وبين هرقل عظيم الروم، لم يستطع أبو سفيان، أن يزوِّر فيها شيئاً من الحقائق، أو يغيِّر فيها بعض المعلومات، خشية أن يسجل عليه التاريخ أنه كذب أمام هرقل عظيم الروم (2). لأن سيرة محمد الحميدة ، كانت أشهر من أن تحرف، أو يتستر عليها.
ثانيها : كثرة الكتب، التي ألفت في سيرته، على مدى 1400 عام، فإنها تعد بالمئات. ويمكن لأي شخص، أن يستعين بقاعدة البيانات الموجودة في الجامعة، ويستخدم الطرفيات المرتبطة ببعض الجامعات الأخرى، ليتأكد بنفسه من صحة هذه المعلومة، وقد يصل الرقم معه إلى خانة الآلاف، إذا تحلى بالصبر وحرص على الاستقصاء، وإذا كنت لم أَجزم بعددها لأني لا أملك معلومات موثقة، فإني أنقل لكم ما ذكره المؤرخ الكبير ول ديورانت ، فقد قال في كتابه قصة الحضارة: (إن ما يروى عن محمد من القصص ، قد ملأ عشرة آلاف مجلد )(3).
سوف يجد، المتتبع لهذه المؤلفات، أنها كتبت في أزمنة مختلفة، وفي بيئات مختلفة، ومن أشخاص مختلفين، وبمناهج مختلفة، ولكنها تكاد تجمع كلها، على ما تضمنته من معلومات.
وإن كان من خلاف بينها، فهو في الصياغة، وفي الإيجاز، والإطناب، وفي التحليل، وموقف المؤلف من هذه المعلومات، وهي مسألة اجتهادية لا إشكال فيها غالباً.
ثالثها : كثرة أتباعه، المحيطين به، فقد ذكرت لنا الكتب المعتمدة، في علم الرجال، والتي تلقاها الناس بالقبول، أنه صاحب النبي محمداً قرابة عشرة آلاف صحابي، وهم ولا شك متفاوتون في هذه الصحبة، من حيث مدتها ، وطبيعتها.
لقد كان من حسن الحظ، أن أنس بن مالك ، الذي خدم النبي عشر سنوات متواصلات، كان آخر أصحابه موتاً، فقد ثبت أنه مات سنة 93هـ ، فيكون قد عاش بعد وفاة الرسول قرابة 80 سنة، كما أن زوجته السيدة عائشة أكثر الناس قرباً منه، عاشت بعد النبي قرابة 45 سنة، فإنها توفيت سنة 58 هـ.
وكذلك ابن عمه عبد الله بن عباس ، وكان مقرباً منه، فقد عاش بعد النبي 55 سنة، فقد توفى سنة 68هـ ، وغير هؤلاء كثير، فقد أتيحت لهم الفرصة لينقلوا عن النبي كل ما حفظوه عنه، ورأوه منه، هم وغيرهم، ممن تجاوز عددهم الآلاف.
مما لا شك فيه، أنه كان حوله أعداد كبيرة جداً، يرقبون كل صغيرة وكبيرة في سيرته، حتى في أخص خصائص الرجل مع زوجته، فقد نقلت لنا زوجات النبي محمد كيفية غسله بعد لقاء زوجاته، وكيفية نومه.
لقد نقلت هذه التفصيلات بأحاديث ذات أسانيد متصلة موثوقة، كان لها الفضل في إزالة أية علامات استفهام .
وقف على هذه الحقيقة، أستاذ الحضارة الإسلامية، الأستاذ هاملتون جب، فقال: (لولا الحديث لأصبح لمحمد في أقل تقدير صورة معممة ـ إن لم نقل بعيدة ـ في أصولها التاريخية، والدينية، أما الحديث فقد صور وجوده الإنساني، في مجموعة وفيرة من التفصيلات الحية المحسوسة)(1).
وهو ما دفع أيضاً الباحث لورا فينسيا فاغليري إلى القول، وهو يتحدث عن الحالة الاجتماعية للأنبياء: (يبدو أننا لا نعرف تفاصيل الحياة اليومية، لموسى، وعيسى، على حين نعرف كل شيء عن حياة محمد العائلية)(2).
وهذا مونته أستاذ اللغات الشرقية، في جامعة جنيف، يدلي بشهادة مماثلة فيقول: (ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد )(3).
إن مما يعين على تقبل هذه المعلومات، والثقة بها، أنه نقلها غير واحد، وفي ظروف مختلفة، في ضوء علم الإسناد، وعلم نقد الرجال، الذي لم تعرف البشرية لهما مثيلاً.
وأنا لا أزعم أن لدي إلماماً واسعاً بهذين العلمين، ولكن المطلع على معالم هذين العلمين، يقف مذهولاً أمام هذه الدقة والحيادية التي تميز بها، واضعو هذين العلمين.
ويحسن التذكير في هذا المقام أن العرب وهي الأمة التي ينتمي إليها النبي محمد ، مشهود لها بقوة الحفظ بين الأمم، وهذا على سبيل المثال المؤرخ الكبير جورجي زيدان، يشهد للعرب بقوة الحافظة، ويقول إنهم حفظوا إلى جانب أخبارهم، أخبار الأمم السابقة لهم، كأخبار قوم عاد، وقوم ثمود (1)، فكيف بأخبار نبيهم محمد الذي أحبهم وأحبوه، حباً لا يعرف التاريخ له مثيلاً.
رابعها : أن النبي محمداً وضع لأتباعه منهجاً علمياً، دقيقاً، في نقل المعلومات، فقد حذَّر من الكذب، بخاصة في نقل الأخبار عنه، فقال لأصحابه (من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار)(2)، وهذا وعيد شديد، وتوجيه سديد، من النبي لأتباعه، لتوخي الدقة في نقل المعلومات، والاعتماد على ما ثبت منها، دون ما كان من باب الظنون التي حذَّر منها أيضاً . فقال (إن الظن أكذب الحديث)(3).
بقيت أيها الأعزاء، حقيقة خامسة يكتمل بها عقد هذه المسوغات، تلكم هي طبيعة سيرة النبي محمد ، فإن الناظر في صفحات هذه السيرة، يرى فيها الواقعية، ماثلة للعيان، يسهل على أي إنسان تفهمها، وقبولها، والتخلق بها، إن شاء دونما شعور بحرج، أو معاكسة لفطرة، كما هو حاصل ومشاهد مع مئات الملايين من المسلمين أتباع النبي محمد .
في حين أن هذا يتعذر على أتباع بوذا مثلاً، وهم يعدون بمئات الملايين، فإن من المعلومات القليلة التي وصلتنا عن بوذا، أنه كان أميراً يعيش في قصر، ولديه زوجة، وولد، فهجر قصره، وترك زوجته وحيدة، وترك ابنه كذلك، وهام على وجهه في الصحارى، والغابات، إلى أن مات زاهداً وحيداً (4).
هل تنتشر ثقافة الزهد هذه التي ارتضاها بوذا لنفسه، بين تلك الشعوب التي تؤمن به، وهم الصينيون، واليابانيون، والكوريون، لقد أقاموا دولاً صناعية عملاقة، مما يعني أن لا أحد منهم تقريباً يفكر في إحياء هذا المبدأ، أو حتى مجرد التفكير به، وهم على صواب ولا شك، لأنها مبادئ يؤدي اتباعها إلى تعطيل الحياة، والعودة بالبشرية إلى القرون البدائية.
لقد وقفت على عبارة نقلت عن بوذا، لا أود أن يسمعها مني أتباعه في هذه الدول الصناعية الكبرى دفعاً للإحراج، يقول فيها بوذا (شريعتي نعمة للجميع، فهي كالسماء فيها مكان لكل الناس إلا أنه يعسر على الغني أن يسلك طريقها)(1).
كما اشتهر عن السيد المسيح، دعوته إلى التسامح، والعفو، والحلم، فقد نقل عنه، قوله وهو يعظ أتباعه (سمعتم أنه قيل عين بعين، وسن بسن، وأما أنا، فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحوِّل له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك، ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخَّرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.
سمعتم أنه قيل: تحب قريبك، وتبغض عدوك، وأما أنا، فأقول لكم: (أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، ويطردونكم) (2).
ابتسمت الدكتورة سارة ابتسامة صفراء، كما يقال، ثم سألت الحاضرين، أي من الدول الغربية أو الشرقية، بلا استثناء ـ تلتفت إلى هذه التعاليم، أو تفكر في يوم من الأيام بالعمل بجزئية منها، ولو مرة واحدة في تاريخها الطويل، بخاصة مع خصومها، سؤال يوجه إلى التاريخ القديم والحديث ليجيب عنه ، أما نحن فنمضي في محاضرتنا.
أود أن أوضح بهذه المناسبة، أن تعاليم المسيح هذه، لا تعيبه، ولا ينبغي لأحد أن يوجه إليه نقداً بسببها، كلا وألف كلا، لأنها صدرت عن المسيح في ظروف خاصة، ولمعالجة أوضاع خاصة، فهي تعاليم تعد بنت بيئتها، وقد نجحت في حينها، من الحد من سطوة الظلم، والانتقام، وفي محاصرة الشر في بني إسرائيل، الذين بعث فيهم المسيح .
كما حاول المسيح، أن يوجد توازناً في المجتمع الروماني، الذي عاش فيه، إذ إن ثقافة هذا المجتمع كانت تعنى بالجسد فقط على حساب العاطفة، فقد كانت ثقافته حربية دموية، وهو ما دفع السيد المسيح إلى أن يسلك هذا المسلك، الذي كانت الأوضاع تدعو إليه بشدة، ولهذا لم يستوعب أتباع السيد المسيح هذه التعاليم، وتعذر عليهم العمل بها.
لقد قرأت كلاماً مفيداً، في هذا المقام، يحسن بي أن أتلوه على مسامعكم، وهو للعلامة محمد جميل بيهم، جاء فيه: (لما تفاقمت الفوضى الأخلاقية، قبل ظهور المسيح، واستفحل أمرها من جراء الفساد، الذي شمل الشعب اليهودي والروماني على حد سواء
جاء المسيح مُصلحاً اجتماعياً لا مشرعاً لأن اليهود والرومان لم يكن ينقصهم تشريع، ولهذا اقتصرت دعوته بالحث على الفضائل والتحذير من الرذائل، وحضهم على المحبة والسلام)(1).
أعجبني كلام يناسب هذا المقام أيضاً، ورد عن العلامة الأستاذ سليمان الندوي، حين قسَّم الفضائل قسمين، قسماً سلبياً، وقسماً إيجابياً (2).
فقال: إن اعتزال الناس خلق سلبي، لأن صاحبه لا يؤذي أحداً منهم، ولكنه لا يقدم لهم خيراً، كما أن العفو عن أخطاء الناس خلق سلبي كذلك، فإنه لا يتضمن خيراً، كالنصح، ونصرة المظلوم، وهو ما يبدو في الأخلاق التي وردت عن كثير من المصلحين السابقين للنبي محمد .
وهي في الحقيقة،أخلاق تفتقد للشمول، والتوازن، وهما ميزتان ظاهرتان في أخلاق النبي محمد ، وهو ما سأعرض له بعد استراحة قصيرة جداً.
لقد كانت د. سارة أكثر من رائعة، ألقت محاضرتها بكل ثقة، وثبات، وانشراح صدر، وكم كانت تبدو سعيدة، وهي تعرض هذه المعلومات.
وزاد من سرورها، شعورها بأن الحاضرين يبادلونها الشعور نفسه، وأكثر ما سرها، وأضحكها، قول أحد الحاضرين، وهو ممن لا يفوته شيء من المحاضرة كان يكفي يا دكتورة مسوغاً واحداً من هذه الخمسة التي سُقتيها، لبيان أهمية دراسة سيرة النبي محمد ، ولكن يبدو أنكِ حريصة على أن نتعب في الاستماع ونَطربْ في الاستمتاع ، على كل حال، أرجو أن تلتزمي بهذا المنهج، المرهق لنا والممتع على حد سواء ، وإلى اللقاء.
أجابته وهي تغادر القاعة لدقائق، سأعتبر أني لم اسمع كلمتي التعب والإرهاق، إلاَّ إذا كنت تقصد بهما معنى آخر.
بدأت الدكتورة سارة حديثها، بعد الاستراحة، قائلة:
بدت لي ظاهرةٌ ذكرت طرفاً منها قبل قليل، وهي تميز العظماء الذين تعرفنا عليهم بميزة واحدة لكل منهم، بها عُرف، ومن أجلها احترمه الناس، ومنها جاءت شهرته. فالمسيح كان متسامحاً، وبوذا كان زاهداً، والإسكندر المقدوني كان قوياً، وأرسطو كان فيلسوفاً، ولم يعرف أن أحداً منهم برز في صفة أخرى.
بيد أن ما يسترعي الانتباه بحق، هو اجتماع هذه الفضائل كلها في شخص النبي محمد وغيرها كذلك.
إن من ينظر في سيرة هذا النبي، ويقلب صفحات سيرته، لن يعجز عن الحصول على أدلة قاطعة، تؤكد هذه الحقيقة ، وقد توصلت إليها بعد قراءات كثيرة متنوعة، حرصت قبلها أن أكون خالية الذهن، في حدود الإمكان، انحيازاً مني للمعلومة الصحيحة.
كان النبي محمد أشجع الناس، وأكثرهم حلماً، وكان أكرم الناس، وأكثرهم زهداً، وكان رحيماً، عادلاً، عفوَّاً، صادقاً، عفيفاً، أميناً، وكان مهيباً، وكثير التبسم، متواضعاً، وكان صلباً في الحق، وفي الوقت ذاته أشد حياءً من فتاة بريئة.
إن نظرة تأملية تحليلية لهذه الأخلاق، التي اجتمعت في شخصية النبي محمد تبين بجلاء، أن العظمة إنما تكون حين تجتمع الأخلاق كلها في شخص واحد، لأن القيم المجزأة، لا يمكنها أن تصنع عظيماً، ولا أن تسهم في سعادة البشرية.
ترجح لديَّ هذا الفهم أيضاً، حين استحضرت ما ذهب إليه بعض علماء الأخلاق، (من أن كل خلق يقوى بغيره من الأخلاق)(1).
عندما يتحقق هذا في شخصية ما ـ وقد تحقق في النبي محمد ـ يبرز من بين هذه الأخلاق، خلق يعرف به الشخص أكثر من غيره، وهذه حقيقة أقرها علم الأخلاق أيضاً، وفي هذا يقول العلامة دراز: (إنه يجب أن تمارس النفس الإنسانية جميع القيم، قبل أن تتخصص في واحدة من بينها)(2)، دون أن يطغى هذا الخلق على غيره من الأخلاق الأخرى فيضعف أثره، ويقلل مكانته حتى تبقى كلها في أعلى درجاتها، وأكمل أوصافها.
توقفت الدكتورة سارة عن الحديث قليلاً، ثم قالت، كنت حريصةً، وما زلت، على أن تكون محاضراتي هذه أسهل طرحاً، وأيسر تناولاً، من تلك المحاضرات الأكاديمية في قاعة التدريس، ولكن يبدو أحياناً، أن الخيار لا يكون لنا، وإنما لطبيعة الموضوع، ولكن أعدكم أني سأكثر فيها من القصص الواقعية، والأحداث الثابتة الشيقة.
وإذا كان الأمر كذلك، وهو على ما يبدو كذلك في بعض المواطن على أقل تقدير، فإني سأجتهد في اختصار هذه المحاضرة، حتى لا ينُسي بعضها بعضاً، وأختمها بالحديث عن مسألة مهمة، لها صلة بموضوعنا، وإن كنت لن أطيل فيها، تلكم هي الدوافع الكامنة وراء التخلق بالأخلاق الحميدة.
لقد بحث علماء الأخلاق هذا الموضوع، وكان مجمل قولهم في هذه الدوافع، إنها المنفعة المادية، أو السعادة الشخصية، أو البيئة، أو الضمير، أو القوة(1).
لا أود أن أناقش، هذه الدوافع، من حيث قيمتها، وأثرها، وهل هي دوافع مضطردة، أو لا؟ بيد أني أحسب أن الدافع الكامن وراء تخلق النبي محمد بكل هذه الأخلاق التي سبق عرضها بإيجاز هو النبوة.
ذلك أن الله تعالى، يتصف بصفات الكمال، كالرحمة، والكرم، والرأفة، والعزة، والمغفرة. والنبي أكثر الناس تخلقاً بأخلاق الله تعالى . فالخلق النبوي لا اعتبار فيه لأمر دنيوي، كمنفعة شخصية، أو تأثر ببيئة، أو تغير أحوال.
ولقد أدرك ر. ف . بودلي هذه الحقيقة، دون أن يذكر سببها، حين قال: (أشك فيما إذا كان هناك رجل غير محمد تبدلت أحواله الخارجية، ذلك التبدل العظيم، ولم تتبدل نفسه)(2).
يسهل تفهم هذا الثبات، حين نستحضر أن هذه العظمة بكل مظاهرها، هي من فيض النبوة، فإننا وإن كنا نقر ونعترف، بأن النبي محمداً كان قبل النبوة إنساناً نبيلاً، ذا أخلاق كريمة، سامية، إلاَّ أن بروز عظمته، المتمثلة في اجتماع كل الأخلاق الفاضلة في شخصه بتوازن فريد من نوعه، كانت بسبب النبوة، كما أسلفنا.
لعل هذا الذي تقدم، يفسر لنا أيضاً، لمَ كانت أخلاق النبي محمد أخلاقاً باقية، دائمة على مر الدهور، حاضرة في كل زمان، صالحة لكل مكان، فهي لم تكن للعصر الذي نشأت فيه، ولم تختص بالفئات التي كانت تعنيها أول الأمر، ولم تكن وليدة بيئة النبي .
كان النبي محمد يمارس هذه الأخلاق بأفعاله، أكثر من أقواله، وهو ما جعلها قريبة من الناس، مألوفة لديهم، ممكنة التطبيق.
أذنت الدكتورة باستراحة قصيرة، ثم واصلت بعدها الحديث ، قائلةً: وقد رأت وجوهاً جديدة في القاعة، لعلها لم تتنبه لها في بداية المحاضرة، أشكر الحضور الكرام على هذا التواصل، وعلى صبرهم كذلك، واسمحوا لي أن أخص بالترحيب وجوهاً جديدة، كأني أراها أول مرة، إن لم أكن مخطئة.
في الوقت الذي أرحب فيه بهم، أود أن الفت انتباههم، بأن محاضراتنا هذه، مثل سلسلة مترابطة، لهذا قد يتعذر على من حضر بعضها، أن يخرج بتصور متكامل، عن الموضوع الذي نعرض له، وعلى أية حال، فأحسب أنه يمكن تدارك هذا الأمر، بوسائل عدة.
صمتت الدكتورة قليلاً وابتسمت في وجوه الحاضرين، قائلة لا أخفي عليكم أني أفكر في أن أضع هذه الأوراق التي بين يدي بين أيديكم، أو على أقل تقديرـ تلك التي تتضمن نصوصاً، أو أرقاماً، فتحركت القاعة فرحاً بهذه البشرى، فاستدركت، قائلة، ولكن هذا لا يعني بحال ترك المتابعة، والتدوين، وهو أمر اختياري ولا شك، وهذا لا يخفى عليكم طبعاً.
أعزائي الحضور الكرام ..
تأملت كثيراً، الأخلاق التي عُرف بها النبي ، وعُرفت به أيضاً، فوجدتها كما ذكرت لكم كثيرة، فليس ثمة خلق حسن، إلاَّ وله فيه الحظ الأوفر، وربما سبب لي هذا الاستنتاج بعض مشقة، لأني أميل إلى تسليط الضوء على الخلق الذي تميز به النبي ، من بين سائر الأخلاق، مع إقرارنا في محاضرة سابقة، بأنه تميز فيها كلها، ولكن أعني هنا، الخلق الذي كان أكثر ظهوراً من غيره.
وإن سأل سائل منكم، لمَ البحث عن خلق واحد، لينصب الحديث عليه، أقول له ولكم، إن منهجنا يقوم على تتبع المعلومات، وتوثيقها، وتحليلها، وهذا يستنفد كثير جهد، وطويل وقت، فيتعذر والحالة هذه، دراسة الصفات جميعها للنبي محمد ، ثم إن هدف هذه المحاضرات، هو السعي إلى تحديد صفة معينة إن أمكن ، إذا ذكرت ذكر النبي محمد ، وإذا ذكر هو ذكرت هي أيضاً.
لقد كان لديَّ شعور ـ استناداً إلى ما عرضناه في المحاضرة الماضية ـ أني سأظفر بهذه الصفة، ويسرني، إبلاغكم بأنه تحقق لي ما أردت، كما بدا لي. فقد كانت هذه الصفة، هي صفة الرحمة، هذه الصفة التي رأيت مظاهرها بارزة على البشرية قديماً وحديثاً ، فهو الخلق الذي امتاز به النبي محمد ، وهو الخلق الذي كانت من آثاره أكثر الأخلاق الأخرى. وإليكم مزيداً من التفصيل، والتحليل، وآمل أن لا أثقل عليكم.
سلكت ثلاثة مسالك للبحث عن هذا الخلق والوصول إليه، وتحديده من بين الأخلاق الأخرى وهي:
الأول : النظر المتأمل في القرآن الكريم، وكنت أحسب أني سأجد فيه بغيتي، وما خاب ظني، فقد وصف الله تعالى نفسه في القرآن، بهذه الصفة في آيات كثيرة، واشتق الله من هذه الصفة اسمين له سبحانه، وردا في آيات منها ﭽ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭼ [الفاتحة: ٢]، ومنها ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﭼ [البقرة: ١٤٣]، ومنها
ﭽ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ [الكهف: ٥٨].
حيث أثبت الله تعالى لنفسه، صفة الرحمة، وسمى نفسه بالرحمن الرحيم، تفضلاً على الناس ورحمة بهم، فأنزل إليهم ديناً وصفة الله بأنه رحمة بهم، في قوله تعالى: ﭽ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ [الزخرف: 32].
قال غير واحد، من مفسري القرآن، إن الرحمة هنا هي النبوة، والوحي، وكذا في قوله تعالى: ﭽ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭼ القصص: 86 .
لا بأس أن أذكر قول واحد من هؤلاء المفسرين لنطمئن إلى هذا الرأي، ونستأنس بقوله ، فقد قال المفسر العلامة الشنقيطي: (والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي ، وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن )(1).
وصف القرآن الكريم، بعد ذلك النبي محمداً بهذه الصفة، كقوله تعالى:
ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ [التوبة: 128]، بل إن الله جعل النبي محمداً هو الرحمة بعينها في قوله تعالى: ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [الأنبياء: 107].
ليس يخفى عليكم، بعد هذا العرض، ما بين هذه الأوصاف من تناسب مبهر، فالله الرحيم، أنزل ديناً كله رحمة بخلقه، فكان من البديهي جداً، أن يحمل هذا الدين، شخص رحيم، فكان النبي محمداً .
لن ألوم أحداً، إذا نظر إلى بعض هذا الكلام، على أنه انطباعي عاطفي، فقد كنت قبل توافر هذه المعلومات التزم الحيادية، حين تطرح هذه القضايا، وكثيراً ما ألتزم الصمت، ما لم أضع بين يديَّ أدلة واضحة، تؤكد صحة ما أعتقد، وأرجو أن أوفق في هذه المهمة، ثم أترك لكل واحد منكم الحكم.
إن خلق الرحمة، هذا مناسب لتحقيق مراد الله تعالى، من إرسال الرسول بهذا الدين، فقد أرسله مفطوراً على الرحمة، فكان رحمة من الله بالأمة، في تنفيذ شريعته(1).
لقد لفت انتباهي، في هذا المقام، أن الله تعالى، لم يصف أحداً من أنبيائه بوصف الرحمة، إلاَّ النبي محمداً ، فقد تحدث القرآن عن أربعة وعشرين نبياً، ووصفهم بأجمل الأوصاف، وأكملها، وعظَّم شأنهم، في كل موضع ذكروا فيه، إلاَّ أن أحداً منهم، لم يوصف بهذه الصفة، على كثرة صفاتهم الحميدة.
أراد الله تعالى لحكمة، أن يخص النبي محمداً بهذه الصفة ، دون أن يشاركه فيها أحد، مع أهمية التأكيد على أن أنبياء الله جميعاً، رحماء في تعاملهم مع أقوامهم، وفي حرصهم على إيمانهم، ولكن حديثي هنا عن الوصف بعينه.
المسلك الثاني: النظر في سيرة النبي محمد ، وفي أقواله، وتوجيهاته، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الموضوع، في محاضرات قادمة، بيد أن ما أود قوله هنا، أن صفة الرحمة، كانت حاضرة في كل ما صدر عن النبي ، من قول، أو فعل، فهو الخلق الملازم لكل خلق، بل هو المهيمن عليه، والموجه له، ولقد كان النبي محمد مستحضراً هذا الخلق، في كل حركاته، وسكناته، يؤكد هذا قوله عن نفسه: (إنما أنا رحمة مهداه)(2)، ولا أشك لحظة أنه كان يستحضر على الدوام قول الله تعالى له: ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [الأنبياء: 107].
المسلك الثالث: وقد يبدو ظريفاً، نوعاً ما، ومختلفاً عما سبقه من مسالك، فقد كلفت طلاب إحدى الشعب التي أُدرِّس لها مقرر فلسفة الأخلاق، أن ينظروا في صفات النبي محمد ، ويحدد كل واحد منهم الصفة التي يظن أنها أكثر ظهوراً من غيرها.
كم كان سروري عظيماً، حين اختار قرابة 60% منهم صفة الرحمة، أما أولئك الذين اختاروا خلقاً آخر غير خلق الرحمة، كخلق التواضع، أو الإحسان إلى الآخرين، أو العفو عند المقدرة، أو الشجاعة، أو صفاء النفس وطهرها، فإنهم لم يبتعدوا عن صفة الرحمة، لإن الصلة وثيقة بين الرحمة، وبين ما ذكروه، فهي إما دوافع كالشجاعة، فإن الرحمة الحقيقة التي تكون في موضعها، لا تتأتى إلاَّ ممن يتحلى بالشجاعة، وإما مظاهر للرحمة، كالإحسان إلى الآخرين، والتواضع لهم، والعفو عنهم.
يشهد لما ذكرت، تلك التعريفات التي أوردها العلماء لهذا الخلق، مع أني لست راغبة في التعرض لهذه التعريفات وتتبعها ـ في محاضرات كهذه ـ ومن ذلك قولهم: (الرحمة حالة وجدانية، تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النفساني، الذي هو مبدأ الإحسان) (1) .
ولعل أوضحها، وأيسرها، قولهم: (هي رقة يجدها المخلوق في قلبه، تحمله على العطف، والإحسان إلى سواه، ومواساته، وتخفيف آلامه) (2)، وهي الرحمة التي يناسب أن يوصف بها المخلوق.
بيد أنه استرعى انتباهي ، تعريف وجدته عند ابن القيِّم ، جاء فيه: (الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية. فأرحم الناس من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك)(1).
لقد أضاف ابن القيِّم بعداً جديداً لمفهوم الرحمة، كما ترون، وهو أنها تعني أن تمارس الرحمة على من تحب، وإن لم يرحب بهذا، كما يحصل مع الطبيب ومريضه، بخاصة أطباء الأسنان منهم، فكل واحد منا له قصة مع أطباء الأسنان.
قبل أن تنهي محاضرتها، وعلى غير عادتها في المحاضرات الماضية، سألت د. سارة الحاضرين، بعد أن شكرتهم على الحضور، وحسن الاستماع، قائلة، من لديه اقتراح، أو وجهة نظر معينة، قبل أن نمضي في محاضراتنا ، ولكن اسمحوا لي أن أقدم اقتراحاً قبلكم، وهو أننا من الآن فصاعداً، سوف نستعمل في حديثنا عن النبي محمد لقب نبي الرحمة، وأحسب إنكم موافقون، وسوف تزداد قناعتكم شيئاً فشيئاً.
وقف أحد الحاضرين، وقال لها، نقدر لك هذا العرض، ولقد حصل بيننا نقاش حول الأسباب الكامنة وراء سوء الفهم لسيرة نبي الرحمة من قبل غير المسلمين، بخاصة في البلاد الغربية عموماً، وكم نتمنى أن نسمع رأي محاضرتنا الرائعة في هذا الموضوع، ومما يشجعنا على هذا الطلب، أن واحداً ممن شارك معنا في النقاش حول هذا الموضوع، أبلغنا أنه سبق أن سمع منك شيئاً عن هذه المسألة، في مداخلة لك سابقة.
أبدت الدكتورة سارة ترحيبها، بهذا الاقتراح، وفهم الحاضرون من كلامها، أن لديها ما تقوله، في هذا الشأن، وقد أخبرت الحاضرين، أنها ستسعى جاهدة، للحديث عن هذا الموضوع، في بداية المحاضرة القادمة.
المحاضرة الثالثة سوء الفهم، لماذا ؟
حان وقت المحاضرة الثالثة، فتوافد المتابعون لمحاضرات الدكتور سارة، ويُلاحظ أن الحضور زاد قليلاً في هذه المحاضرة عمَّا كان عليه من قبل، دخلت الدكتورة فبادرها هذه المرة الحضور بالترحيب بها، فردت عليهم بمثل تحيتهم، ثم قالت:
يمكن أن نختصر بإيجاز الأسباب التي أدت إلى أن يقف غير المسلمين من نبي الرحمة موقفاً سلبياً، وبخاصة العالم الغربي منهم، ثم صمتت برهة، وقالت أليس هذا ما طلبه أكثركم؟ أوليس هذا هو الموضوع الذي تتوقعون أن نتحدث عنه في هذه المحاضرة؟ وكانت في أثناء هذا تبتسم للحضور، وتستطلع آراءهم.
أجابها جمع منهم، بلى، بلى، هذا ما اتفقنا عليه، وهذا ما توقعناه، ونشكر لك سرعة الإجابة.
بدأت د. سارة حديثها بالقول، لا أنكر أن لهذه المسألة صلة بموضوعنا، الذي نعرض له، بيد أني لا أود التوسع فيها، بخاصة أننا قد نضطر إلى أن نعرض لها في المحاضرات القادمة، ونحن نذكر بعض المواقف للنبي ونحللها.
إن أول ما شد انتباهي في هذه المسألة، رأي ورد عن المؤرخ والكاتب الإنجليزي ر. ف . بودلي، كان بالنسبة لي بمثابة المفتاح، مفاده ، أن من سوء حظ نبي الرحمة عند الغرب أنه جاء بعد السيد المسيح (1)، وبيان ذلك فيما يبدو لي اعتقادهم السائد بأن من يأتي بعد المسيح من الأنبياء فهو زائف، ودينه الذي يأتي به غير صحيح، وسوف يكون على حساب الديانات السابقة، وهو ما قاله صراحة أحد مفكري الغرب: (لقد أمكن لمحمد أن يكوِّن إمبراطورية سياسية ودينية، على حساب موسى والمسيح)(1).
إن هذا الوهم، مبني على أوهام سابقة له، أولها افتراضهم أن دعوة نبي الرحمة مخالفة لدعوة المسيح، وهذا غير صحيح، وثانيها جهلهم بأن السيد المسيح بشَّر بنبي الرحمة ، وحث أتباعه على الإيمان به، وقد تضمنت جميع الأناجيل إشارات إلى نبي الرحمة وبشارات بقرب ظهوره، ويمكن لمن يريد الوقوف عليها، الرجوع إلى إنجيل متى (24 : 44) وإنجيل يوحنا (6 : 27) وإنجيل اشعياء (9 : 6) وغيرها كثير(2) .
وجاءت هذه البشرى صريحة في القرآن الكريم ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭼ [الصف:6].
وكان في المقابل، حديث القرآن الكريم، عن المسيح، حديثاً رائعاً، تضمن المدح، والثناء، والتعظيم، والتقدير، فالخلاف عند من يتوهم الخلاف بين السيد المسيح ونبي الرحمة ، لا وجود إلا في أذهان بعض من لا يقيمون للحقائق وزناً، أو أولئك الذين اتخذوا موقفاً مسبقاً من نبي الرحمة .
أتمنى على أتباع المسيح بهذه المناسبة، أن يطَّلعوا على مكانة المسيح عند نبي الرحمة محمد من خلال ما جاء في القرآن، وفي أحاديث النبي ، ثم يعاملوه بمثل ما كان يعامل به المسيح، وأعتقد أن هذا عين الإنصاف، وكذلك يعاملوا النبي محمداً بمثل ما يعامل به المسلمون السيد المسيح، وأعتقد أعزائي الحضور إنها دعوة عادلة ومنصفة.
ترى هل يعلم أتباع السيد المسيح، أن النبي محمداً حمل حملة شديدة على اليهود المجاورين له في المدينة، بسبب تطاولهم على أم السيد المسيح، في وقت لم تكن فيه صلات، أو جوار بينه وبين أتباع المسيح، وقد سجل القرآن هذا التوبيخ لليهود حين ذكر عدداً من أخطائهم كان منها ما قاله الله تعالى عنهم: ﭽ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭼ [النساء : 156].
الأمر الثاني: الذي أدى إلى سوء الفهم هذا، هو أن غير المسلمين، نظروا إلى نبي الرحمة في ضوء مواصفات استقرت في أذهانهم عن عظمائهم، وصارت عندهم بمثابة الميزان.
فأتباع المسيح لم يروا في المسيح إلاَّ تسامحه، وعفوه حتى قالوا إن عظمته كانت في خسارته(1)، أما أنا فأرفض أن يقال إن نبياً ما خسر أمام قومه، وكذلك أتباع بوذا، استقر في أذهانهم، أن مواصفاته، هي مواصفات القديس العظيم، والتي كان أبرزها الزهد وهجر الدنيا وملذاتها.
ظنَّ هؤلاء أن من سيأتي بعد المسيح سوف يكون لا محالة، على نقيضه، بخاصة أنه بدا من النبي محمد تصرفات تناقض الرحمة والتسامح في نظرهم، فتوهموا أنه سيكون متسلطاً، متعطشاً للانتقام، لا يعرف الرحمة، ولا التسامح، فوصف بعضهم نبي الرحمة بهذه الأوصاف، دونما علم، أو روية، وكذا الحال بالنسبة لأتباع بوذا أو غيره.
أقول لكم بكل وضوح وصراحة، إذا كانت العظمة تعني رهبانية القسيس، وتسامحه مع خصومه، وعفوه عن أصحاب الأخطاء وتجاهله إصلاحهم، وإذا كانت العظمة تعني زهد بوذا، الذي هجر أهله، وبيته، وهام على وجهه في الغابات، وإذا كانت العظمة تعني تعذيب الراهب الهندوسي نفسه، بترك الطعام، وترك النوم لعدة أيام.
إذا كانت هذه هي مظاهر العظمة، فإن نبي الرحمة ليس عظيماً بهذه المواصفات، لأنه حينئذ لن يكون مصلحاً، يأخذ بأيدي الناس إلى الفضائل، ويبعدهم عن الرذائل، وإنما سيكون عظيماً بعيداً عن واقعهم صالحاً في نفسه فقط، يكتفون بالإعجاب به، أو التعجب منه، فقط دون متابعته لصعوبة هذا، وهم لا شك معذورون، وبهذا يفقد المصلح دوره، وتنتفي وظيفته، وهذا ظاهر بيِّن في سيرة بوذا الذي اعتزل الحياة، ومات وحيداً، وفي سيرة زرادشت الذي اعتزل الناس في جبل حتى أدركته الوفاة (1).
إن هذا المسلك لا يسر النبي ، كما لا يسر أتباعه، لأن هذا سوف يرهقهم، ويجعل بين سلوك نبيهم وسلوكهم حاجزاً منيعاً، لقد كانت عظمة نبي الرحمة في واقعيته، وبساطته، ولعله يتضح في ضوء هذا أن من أسباب أزمة غير المسلمين مع نبي الرحمة غياب هذه المعاني، وفي سوء الموازين التي وزنوا بها مظاهر العظمة.
أما الأمر الثالث: وأختم به، فهو ذو صلة بموروثات وخلفيات قديمة، أدع د. أليكسي جورا فيسكيس ـ وهو من الشخصيات التي أحترمها ـ أدعه يبين هذا الأمر، من خلال وجهة نظره في هذا الموضوع، حيث يقول: (إن أدب أوروبا في القرون الوسطى حول الإسلام وُضعَ في غالبيته العظمى من طرف رجال الدين المسيحيين، الذين استندوا إلى مصادر شديدة التمايز، والتباين، كالحكايات الشعبية، وقصص الأبطال، والحُُجاج والقديسين، والمؤلفات الجدلية ـ اللاهوتية الدفاعية للمسيحيين الشرقيين، وشهادات بعض المسلمين، وترجمات مفكريهم وعلمائهم).
كانت المعلومة المقدمة تنتزع في معظم الحالات من سياقها الأصلي، ثم تقدم إلى القارئ الأوروبي، وبهذا الشكل شوهت الوقائع بصورة متعمدة ـ واعية أحياناً، أو بشكل غير واعٍ في أحيان أخرى- في إطار البحث الحماسي عن حل سريع لـ (مشكلة الإسلام ) التي سيطرت في القرون الوسطى على الموضوعات الدينية- الأيديولوجية)(1).
ويتفق مونتغمري واط مع هذا التحليل، فيقول تكونت في وعي الأوروبيين (في القرون الوسطى) ملامح اللوحة التالية عن الإسلام: إنه عقيدة ابتدعها محمد، وهي تتسم بالكذب والتشويه المتعمد للحقائق، إنها دين الجبر، والانحلال الأخلاقي، والتساهل مع الملذات والشهوات الحسية، إنها ديانة العنف والقسوة، وانسجاماً مع هذا الموقف المعادي.
أضاف قائلاً: فقد رُسم الإسلام على هيئة نموذج قبيح سيئ، يتعارض ويتناقض كلية مع النموذج المثالي للمسيحية بوصفها ديانة الحقيقة، التي تتميز بالأخلاق الصارمة وروح السلام، وبأنها عقيدة تنتشر بالإقناع وليس بقوة السلاح(2).
يمكن في ضوء هذا التحليل، أن نفهم بكل يسر ما قرره الأستاذ ساذرت وهو يتحدث عن التوجه العام، الذي ساد الساحة العلمية في الغرب، حين يقول: (إن الشيء الوحيد الذين يجب أن لا نتوقع وجوده، في تلك العصور، هو الروح المتحررة الأكاديمية، أو البحث الإنساني، الذي تميز به الكثير من البحوث التي تناولت الإسلام في المائة سنة الأخيرة)(3).
هذه العوامل مجتمعة، أدت إلى سوء فهم نبي الرحمة ، ولا شك هناك غيرها، وهي تتفاوت فيما بينها، من حيث قوتها وأثرها، وأحسب أن أكثرها وضوحاً، وأعمقها أثراً، هو الثالث منها، والذي أوضحه بجلاء، اثنان من كبار المستشرقين الذين درسوا سيرة النبي .
على آية حال، لا أود أن نشغل أنفسنا بهذه المسألة، ولولا أني سئلت عنها لما عرضت لها، لأن منهجي يقوم على بيان الحقيقة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم أضعها بين يدي من أبادلهم الحب والاحترام، وحسبي هذا وهو منبع سروري.
وإن كنت أعترف بوجود صراع بين المعلومات، ناتج عن صراع الثقافات، وهو ما يسمونه بكل أسف صراع الحضارات، إلاَّ أني في الوقت نفسه، أعتقد جازمةً، أن البقاء للمعلومة الصحيحة، لأنها في داخلها تحمل عوامل قوتها وبقائها.
لقد ثبت لدي من خلال حوارات مع بعض الزملاء، أن المعلومة الصحيحة، تفرض نفسها، وتنتزع احترامها، بل وتمنح الاحترام في الأوساط العلمية، لمن يُعنى بها ويقدرها.
وإنْ حاول أحدٌ أن يزدري بمعلومة توارث الناس التسليم بصحتها، فإنه في الواقع يزدري بنفسه، وهذا واحد من أسباب عدة جعلت أساتذة كباراً يسلمون بصحة معلومات لا تروق لهم، لكنهم سمحوا لأنفسهم في التوسع بتفسيرها، كما يحلو لهم، وتحميلها في بعض الأحيان مالا تحتمل، وهذه مسألة أخرى على أية حال.
بدا على الدكتورة سارة وهي تستعد لاستكمال المحاضرة بعد استراحة قصيرة السرور وانشراح الصدر، وكذا الهمة والنشاط، وكأنها المحاضرة الأولى لها، ولقد صدق قولها، بعض هذا الشعور، حين قالت، يمكن أن تعد المحاضرات السابقة بمثابة مقدمات لما سيأتي، حيث إننا سنقصر حديثنا على خلق الرحمة، ومظاهره في سيرة نبي الرحمة .
يحسن بنا أعزائي الحضور، أن نلقي بعض الضوء، على سيرة النبي محمد ، قبل الشروع في هذه المحاضرات، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، ينتهي نسبه إلى نبي الله إسماعيل، الذي نشأ في مكة، وإسماعيل هو ابن نبي الله إبراهيم.
ينتسب النبي محمد إلى أشهر وأشرف قبيلة عربية في عصره، وهي قبيلة بني هاشم من قريش، وأمه آمنة بنت وهب، من بني زهرة، وهي قبيلة عربية مشهورة.
وُلد النبي محمد سنة 570، لميلاد السيد المسيح، وهذا ما ورد في أغلب المصادر التاريخية الموثوقة، وإن كان بعض العلماء يرى أن النبي ولد سنة 571، فلا أعُد هذا خلافاً، إذ يبدو لي أنه ولد في أواخر سنة 570.
كانت ولادته في مكة المكرمة، وهي مدينة قديمة ، تقع في الجزيرة العربية، من قارة آسيا، وقد اطلعت على بحوث، ودراسات مستندة إلى صور للأقمار الصناعية، ومركبات الفضاء، تبين أن مكة هي مركز الدائرة ، بالنسبة إلى الأرض، ويمكن لكم الاطلاع على هذه الدراسات، للوقوف على هذه الحقيقة العجيبة.
تُوفي والده وأمه حامل به، فولد يتيماً، ولما ولدته أمه ، وكان ابنها الوحيد، قامت على رعايته، إلى أن توفيت، وكان عمره ست سنوات، ثم كفله بعدها جده عبد المطلب، ولما بلغ محمد الثامنة من عمره، تُوفي جده، فضمه عمه أبو طالب، إلى أولاده، وصار يرعاه كأنه واحد منهم.
لماَّ شارف محمد على سن الشباب، بدأ يعمل، ليعيل نفسه، فاشتغل في رعاية الغنم لأهل مكة، ثم عمل بعد ذلك في التجارة، وصار يسافر خارج الجزيرة العربية، وكان معروفاً بين قومه، منذ نعومة أظفاره، بالصادق الأمين.
كان يتاجر بأموال امرأة شريفة كريمة، من سيدات مجتمع قريش، وهي خديجة بنت خويلد، وقدَّر الله أن يتزوجها، وكان عمرها آنذاك، أربعين سنة، وعمر النبي خمسة وعشرون عاماً.
كان له أربع بنات، وولدان، كلهم من زوجته خديجة، وقد عاشت حتى بلغت خمسة وستين عاماً، ولم يكن عنده زوجة غيرها طوال حياتها.
تُوفي أولاده، وبناته جميعاً في حياته، إلاَّ بنتاً واحدة، وهي فاطمة، فقد توفيت بعده بستة أشهر.
لما بلغ النبي محمد سن الأربعين، أنزل الله تعالى عليه رسالة الإسلام، وبدأ يدعو الناس إليها، ومكث في مكة ثلاث عشرة سنة، ثم انتقل إلى المدينة، وهي بلدة تبعد قرابة 500 كم عن مكة بعد أن آمن به أكثر أهلها وعُرفوا في التاريخ الإسلامي باسم الأنصار.
ظل النبي يدعو إلى دين الإسلام، ثلاثة وعشرين عاماً، وأقام دولة إسلامية في الجزيرة العربية.
وقد توفي بعد أن بلغ من العُمر ثلاثة وستين عاماً، ودفن في المدينة المنورة سنة 633 للميلاد.
لقد عاش النبي حياته كلها، بسيطاً في طعامه، وشرابه، ولباسه، كانت تمر عليه بعض الأيام، لا يجد ما يأكله، لا هو ولا أهل بيته، وكان متواضعاً، قريباً إلى الناس جميعاً، يحبهم ويحبونه(1).
كانت حال البشرية في هذا الوقت، غاية في السوء، بإجماع من كتب في تاريخ الأمم والشعوب، فقد اختفت معالم الفضائل، وبرزت صور متعددة للرذائل، التي لا يختلف عليها اثنان، على مر الأزمان، مثل قتل البنات، وزواج المحارم، فقد سطا القوي على الضعيف، وانتشر الظلم والعدوان، ونشبت الحروب، لأبسط الأسباب، ولم تسلم أي من البيئات في ذلك الوقت، من هذه الأحوال الشنيعة.
لما كان يتعذر علينا التفصيل، في كل مظاهر هذا الفساد، والانحطاط، نظراً لضيق الوقت، وحتى لا نشغل عن موضوعنا الأصيل، وفي الوقت نفسه، يصعب علينا تجاهله بالكلية، لأنه يعين كثيراً على فهم قضايا كثيرة، فإن فهم الحاضر يستدعي أحياناً استحضار الماضي، فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فأذنوا لي أن أُمثِّل بمظهر واحد، أحسبه كفيلاً بتقديم صورة واضحة لذلك الوضع، وهو حال المرأة آنذاك، وأبيح لنفسي أن أكون في هذا المقام منحازة لبنات جنسي، وسوف أعرض له بإيجاز شديد (1).
تعرضت المرأة في الجزيرة العربية ـ البيئة التي عاش فيها نبي الرحمة ـ لأبشع أنواع الظلم، فقد كانت أحياناً، تدفن في التراب حية، وهي صغيرة.
وقد سجل القرآن الكريم هذه الفعلة الشنيعة بقوله: ﭽ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭼ [التكوير:8 ، 9]. وكانت تعد من متاع البيت، إذا مات زوجها ورثها أقاربه، كأنها قطعة من محتويات البيت.
ولم تكن المرأة أحسن حالاً في البيئات المجاورة لبيئة نبي الرحمة ، فقد كان المجتمع الروماني، غرب الجزيرة العربية، يسمح للزوج بأن يقتل زوجته، بما عرف عندهم بزواج السيادة(2)، وكان يبيح للأب أن يتخلى عن طفلته المولودة حديثاً، حتى لو تركها في الطريق حتى تموت، وليس هذا بمستغرب، فقد سادت في المجتمع الروماني، ثقافة القسوة والقتال، ولم يكن للرحمة فيه أدنى قيمة.
أما المجتمع الفارسي، شرق جزيرة العرب، فيكفي أن نعرف أنه ظهرت في هذا المجتمع مبادئ المزدكية، التي دعت إلى الإباحية،وأنه كان يجيز زواج المحارم، فيسمح مثلاً للأخ أن يتزوج أخته، وإذا ابتعدنا قليلاً، وذهبنا إلى بلاد الهند، فإننا سنجد أن المرأة تحرق وهي حية، بعد وفاة زوجها ، إذ لا معنى لبقائها بعده، وكانت الحضارة اليونانية، تحتقر المرأة، حتى قال أحد فلاسفتهم، يجب أن يحبس اسم المرأة في البيت، كما يحبس جسدها.
لا أود أن أسترسل في هذا الحديث، الذي لا يروق لنا جميعاً، ولكنها إشارات تؤكد خلو هذه المجتمعات من مظاهر الرحمة، ومعالم الإنسانية، وانتشار الظلم والقسوة.
ولقد لخص وليم موير الوضع آنذاك، بقوله: (لم يكن الإصلاح أعسر ولا أبعد منالاً منه، وقت ظهور النبي محمد ، ولا نعلم نجاحاً وإصلاحاً تم كالذي تركه عند وفاته)(1).
إن كان ثمة بعض صور للرحمة، والتسامح، متناثرة هنا وهناك، وهي مما لا ننكره، فإنها تبقى تصرفات فردية، لا تكاد ترى، أو تؤثر في المجتمع، بإزاء صور الظلم، والتسلط، والعدوان، السائدة آنذاك على نطاق واسع.
بعث الله الرحمن الرحيم، في هذه البيئات، وإلى هؤلاء الناس، نبي الرحمة رحمة بهم، وأنزل عليه ديناً هو الرحمة بعينها، وهو ما يشجعنا على القول إن البداية كانت من هنا، إنها رحلة الألف ميل، التي كانت هذه خطوتها الأولى، إنها رحلة البشرية إلى عالم الرحمة والتراحم، والحق أن هذا الكلام ليس كلاماً عاطفياً، ولا صادراً من فراغ، وإنما هو ثمرة بحث وتحليل، ويبقى المستمع هو الحكم، ولطالما وثقت به واحترمته.
لقد بدأ نبي الرحمة منذ فجر دعوته، ينشر ثقافة الرحمة، بين الناس، على الرغم من أن البيئة الأولى التي عاش فيها ـ وهي مكة ـ ثلاث عشرة سنة يدعو فيها إلى الرحمة، كانت بيئة معادية له، بكل إمكاناتها، ليس للرحمة فيها مكان يذكر، إلاَّ مواقف محددة محاصرة أملتها على أصحابها القيم العربية التي لم تختف معالمها على الرغم من شيوع ثقافات منافية لهذه القيم التي صارت غريبة، ولم يكن معه أعوان، باستثناء أفراد مضطهدين يزيدون كل يوم، على الرغم مما كانوا يتعرضون له من ظلم، واضطهاد.
بدأت مظاهر رحمة نبي الرحمة ، بأتباعه وأعدائه على حد سواء، منذ اليوم الأول لدعوته، وهو ما استرعى انتباه الباحثين في سيرته، حين ألزم نفسه، وألزم أتباعه، بعدم الرد على إساءات أعدائهم، وكان ينفذ بهذا توجيهات ربه، حين قال له: ﭽ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ [النساء : 77]، ووجهه في مقام آخر قائلاً له: ﭽ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﭼ [الزخرف: 89]، وفي موضع ثالث أمر الله نبي الرحمة وأتباعه بالعفو والصفح فقال: ﭽ ﮤ ﮥ ﭼ [البقرة:109].
لقد كانت الرحمة منذ الأيام الأولى، حاضرة ظاهرة، في هذا المنهج، ليستقر في أذهان الناس جميعاً، أن كلمة الفصل للمبادئ ، والصراع هو صراع معتقدات وحسب، والبقاء فيه للأصلح، دون مؤثر خارجي من قوة أو غيرها من المؤثرات، والنبي عازم على هذا المنهج، وهو يعلم أن خصومه لن يوافقوه عليه، كما أن النبي رأى خيراً ورحمة في هذا المنهج الذي يقوم على الصفح، والصبر، والتسامح، لأن من آمن بالنبي، ومن كفر به، أبناء مجتمع واحد، تجمعهم صلات القربى، والجوار، وربما يضمهم بيت واحد.
لقد كان من رحمة النبي بهم جميعاً، أن نهى أتباعه عن القتال، والرد بالمثل، حتى لا يقتل الأخ أخاه، أو الصديق صديقه، أو الجار جاره، ما أمكن إلى ذلك سبيلاً.
لقد استمر هذا المنهج الفريد، والغريب، على هذه البيئة سنوات عديدة، فقد اعتاد الناس في هذه البيئات، أن يحلّوا مشاكلهم حتى اليسيرة بالقتال، وقد فكَّر أعداء نبي الرحمة في مكة بهذا الأمر، وقالوا له صراحة: (كأنك تريد أن يعظم بيننا الخلاف، حتى يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى)(1)، أي يقضي بعضنا على بعض، حتى لا يكاد يبقى منا أحد، لكنهم لم يعلموا أن النبي، يفكر بغير ما يفكرون به، ولديه منهج غير مألوف، سوف يشهره في وجوههم بدل السيوف.
قد أفصح النبي عن هذا المنهج حين طلب منه أتباعه، أن يدافعوا عن أنفسهم، بسبب ما يتعرضون له من أذى، فقد قالوا له، يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال لهم: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم(1).
وهاهم اليوم جميعاً رضي من رضي وكره من كره أمام منهج جديد، يواجه الخلافات ـ ولو من طرف واحد ـ ، بالدعوة إلى الرحمة، والتسامح، والعفو.
لقد لفت النبي بهذا انتباه البشرية، قديماً وحديثاً ، إلى أن الرحمة كفيلة بأن تهيئ المناخ المناسب للحوار والتفاهم بين الناس، على الرغم مما بينهم من اختلاف في الآراء والأجناس.
فإن الكراهية تعمي، وصوت القوة يصمي، وعندها تسود شريعة الغاب.
لم يكن خلق الرحمة في نبي الرحمة سلوكاً شخصياً وحسب، دونما التفات منه إلى المحيطين به، كما هو حال بعض العظماء، حين جعلوا من الأخلاق الحميدة، صفات شخصية، امتازوا بها عن أبناء مجتمعهم الذين استمروا على ما هم عليه مثل زهد بوذا مثلاً، حتى قد يتوهم أنها أخلاق نخبة لا صلة للعامة بها، وهم غير مطالبين بالتمثل بها.
فقد تخلق النبي بهذا الخلق، ثم أمر به الناس، وتعاهده بأقواله وأفعاله حتى أمكن القول بلا تردد إن نبي الرحمة بهذا التصرف أوجد بيئة ينمو فيها خلق الرحمة، وتنتشر فيها بالتدريج ثقافة التراحم، بغية أن تصبح الرحمة خلقاً جماعياً، بعد أن كانت خلقاً فردياً ـ لدى قلة منهم ، ضعيفاً منزوياً، ألا يمكن القول إن سلوك نبي الرحمة يُعد رسالة إلى المصلحين والعقلاء داخل المجتمعات البشرية، في كل زمان ومكان ، تحمل في طياتها ضرورة أن يقوم هؤلاء بالدعوة إلى الفضائل التي يحملونها، وبذل غاية الجهد في سبيل إقناع الناس بها، وإن لا يقنعوا بالإيمان بها هم، ثم ترك الناس على ما هم عليه.
لقد اجتهد نبي الرحمة أيما اجتهاد في ترسيخ هذا الخلق، على الرغم مما لاقى هو وأصحابه، في سبيل هذا من أذى، ومشقة، وتعسف، من قبل أعداء عتاة قساة في طبعهم، اعترضوا على شخصه، ولقد سجَّل القرآن الكريم اعتراضاتهم هذه، لتكشف عن قسوتهم وسوء طويتهم، حين ذكر مقولتهم: ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﭼ [الزخرف: 31]، واعترضوا على مبادئ دعوته، واعترضوا على أتباعه.
وضع أعداؤه في مكة، القاذورات على رأسه، وهو ساجد، حتى إنه لم يتمكن من رفعها، فجاءت ابنته فرفعتها، وتعرض للضرب في إحدى المرات، وبصق عليه أحدهم، وكانوا دائمي السخرية منه(1).
وسخر أعداء النبي و هؤلاء، أيضاً من المبادئ التي يدعو إليها، فقد كان يدعو إلى عبادة إله واحد، وقد ذكر القرآن الكريم اعتراضهم هذا حين قال: ﭽ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭼ [ص : 5].
كما عذَّبوا أتباعه، بأبشع صور التعذيب، فقد قتلوا سمية بنت خباط، بعد تعذيبها(2)، وهنا توقفت الدكتورة سارة عن الكلام قليلاً، ثم نظرت إلى الحضور، وهي تتبسم، ويبدو عليها بعض التأثر، وقالت لهم، يسعدني أن أنحاز مرة أخرى في هذه المحاضرة إلى بنات جنسي، لأقول لكم، إن امرأة كانت أول من ضحى بنفسه، وقتل في سبيل تعاليم دين الرحمة، ثم مات زوجها ياسر تحت التعذيب، وتعددت صور التعذيب، وامتدت إلى فترات طويلة.
قبل أن أسترسل في عرض هذه الأحداث، أود أن أشير إلى مسألة منهجية ذات أهمية، خلاصتها أنني حين أعرض هذه القصص والحوادث أمامكم، إنما أريد أن أخلي بينكم وبينها بغية استخلاص ما فيها من معالم ودروس تُظهر معالم نشر الرحمة بين الناس.
وثمة أمر آخر لا يقل أهمية، وهو أن طبيعة المحاضرات الثقافية، تستوعب ذكر هذه القصص الصحيحة الثابتة، لأن النفوس تأنس بها، بخاصة أننا بحثنا عن مثلها في سير العظماء الذين سبقوا نبي الرحمة فلم نكد نظفر بشيء منها.
وأمر ثالث أختم به، وأرجو المعذرة لهذا الاستطراد، وهو أني كنت أحب كثيراً وأنا على مقاعد الدراسة أن يذكر لنا المحاضر مثل هذه القصص، لأنها في نظري تختصر المسافة كثيراً، وافترض أنكم مثلي، عندها تكلم بعض الحاضرين بما يفهم منه الموافقة على كلامها.
ولا يفوتني هنا أن أذكر أيضاً، صورة من صور التعذيب، التي حصلت لامرأة على يد أهل مكة، وهذه المرأة هي أم سلمه، التي صارت فيما بعد زوجة للنبي بعد وفاة زوجها، فقد ذكرت طرفاً من قصتها هذه، أدعها تقصها عليكم (قالت: لما قرر أبو سلمة الهجرة ـ تعني زوجها ـ ، حملني أنا وابني سلمة على بعير لنا، وخرج بنا إلى المدينة، فاعترضه رجال من بني المغيرة، وهم أهلي، وقالوا له: لا ندعك تخرج بابنتنا، وأخذوني منه ومعي ابني، فلما رأى بنو عبد الأسد ـ وهم أهل زوجي ـ ما صنع أهلي ، قالوا: والله لا نترك ابننا عندها، إذ نزعتموها من صاحبنا.
قالت: فتجاذبوا ابني بينهم، حتى خلعوا يده، وظفر به أهل زوجي، بنو عبدالأسد، وانطلق بي أهلي بنو المغيرة، ففرق بيني وبين زوجي، وبين ابني الصغير بعد أن خلعت يده، فكنت أخرج كل يوم إلى أطراف مكة، فما أزال أبكي من الصباح حتى المساء سنة، أو قريباً منها)(1)
ولا أود أن أعلق شيئاً على هذه القصة، فحسبها أن تكون لوحة مأساوية، تتحدث عن نفسها.
كان الرد من نبي الرحمة ، الدعوة إلى التسامح والتراحم، وهو أمر شاق على النفوس، وكان للقرآن الذي ينزل بمكة آنذاك دور في نشر ثقافة الرحمة، فقد كان يحث على الصبر، ويقص على المسلمين أخبار من سبقهم، من المؤمنين من الأمم السابقة، ليخفف عنهم.
إن مما يلفت الانتباه أيضاً، أن القرآن لم يتضمن قط الدعوة إلى قطع صلة الرحم، بين من أسلم ومن بقي على كفره، ولم يأذن بلعنهم، أو ترك البر والإحسان بهؤلاء الذين يحاربون النبي ويعذبون أتباعه.
لقد خطر ببالي تساؤل، أود أن أطرحه عليكم أيها الأعزاء، والحق أنني لم أرَ أحداً ذكره، ألا تلاحظون من هذا العرض الموجز، أن ثمة تشابهاً واضحاً بين دعوة السيد المسيح، ودعوة نبي الرحمة في مكة، فكلاهما كان يدعو إلى التسامح والعفو.
ربما أذهب بعيداً إن قلت أن ظاهرة التسامح والعفو، كانت أكثر وضوحاً في دعوة النبي محمد من دعوة المسيح، لأن نبي الرحمة حصل بينه وبين خصومه عداوة ظاهرة، وطالب أتباعه منه مراراً بالسماح لهم بمقاتلة عدوهم ، لكنه أصر على التمسك بهذا الخلق وألزم به أتباعه، وكان يصر على وجوب التخلق بخلق الرحمة، رغم الاستفزازات الكثيرة، التي صدرت من أعدائه في مكة، ورغم ما تعرَّض له أتباعه من تعذيب.
إنها رسالة إلى أولئك الذين أساءوا فهم نبي الرحمة ، حين توهموا أن دعوته نقيضة لدعوة المسيح، ولقد أعجبتني عبارة للكاتب الإنجليزي الكبير برناردشو، حين وقف على هذه الحقيقة، فقال: (لقد درست محمداً باعتباره رجلاً مدهشاً فرأيته بعيداً عن مخاصمة المسيح)(1).
ويستمر الأمر على حالة، نبي الرحمة يواجه أعداءه بالعفو والرحمة، وهم يواجهونه ويواجهون أتباعه بالقسوة، التي كانت أشد مظاهرها، بعد مرور سبع سنوات على دعوته، حين قرر أعداؤه في مكة محاصرة النبي وأتباعه، وكل من يقف معه، من أقاربه، في وادي يُعرف بشعب أبي طالب بغية عزلهم عن العالم الخارجي، ومقاطعتهم اقتصادياً، واجتماعياً .
لقد نجحوا في هذا واستمر العزل، والحصار، ثلاث سنوات، كانت جد قاسية، ومروعة، على النبي ومن معه (1)، والنبي لم يُغير ولم يبدل في سلوكه، حينئذ بدأت تظهر ثمار الرحمة، التي وضع بذرتها في تلك البيئة، ورعاها حق رعايتها، بأقواله، وأفعاله.
فقد تحركت الرحمة، في قلوب عدد من كبار المعارضين له، وقرروا إنهاء الحصار، وإلغاء العزلة.
خرج نبي الرحمة ومن معه منتصرين، حين تعاطف معهم كثير من الناس داخل مكة وخارجها، بسبب ما أصابهم، وشعر أعداؤه بالحرج والهزيمة، لأن قسوتهم هزمت أمام رحمة النبي ومسالمته، فكانت نتائج هذه القسوة عكسية عليهم.
أيها الحضور الأعزاء ..
أشعر أني أطلت عليكم، في هذه المحاضرة، واسمحوا لي أن اختمها، بالقول، لقد أوجد نبي الرحمة بيئة تنمو فيها الرحمة، لتصبح ثقافة تنتشر بين الناس، ونجح في جعل الرحمة وسيلة للحفاظ على أصحابه، واستخدمها سلاحاً انتصر فيه على أعدائه في مواطن عدة، كما رأيتم، وهو مسلك لم يكن معروفاً لدى الناس من قبل.
في هذه الأثناء وقف أحد الحاضرين، فشكرها على ما أسماه طول النفس عندها، وقال لها، اسمحي لي أن أطرح تساؤلاً ، فأذنت له مباشرة، فقال: لاشك أننا أمام شخصية عظيمة، تحسن صناعة الصبر ونشر الرحمة، في بيئة لا تريدها ولكن ما قولك لو أن أحداً ممن استمع إلى هذه المحاضرة قال إن الذي رأيناه من نبي الرحمة لم يكن رحمة ولا تسامحاً، ولكنه كان استسلاماً وتعاملاً مع واقع، لأنه لا يملك غير هذا التصرف، بسبب قلة أتباعه، وضعف إمكاناته.
فلم يكن أمامه إلاَّ أن يقابل الإساءة بالصبر، ويتجنب بشتى الوسائل الصدام مع خصومه في مكة، وهم الأكثر والأقوى.
اتجهت أنظار بعض الحضور إلى المتحدث، وكأنهم يؤيدونه فيما يقول، وينتظرون سماع رأي الدكتورة سارة التي استقبلت وجهة النظر هذه بصدر رحب، وقالت، للحاضرين، هل سمعتم ما قاله زميلكم، فقال بعضهم نعم سمعنا.
قالت: أعتقد أن محاضرة اليوم تضمنت بعض إجابات عن هذا التساؤل، لكن الوصول إلى الجواب يستدعي شيئاً من القراءة بين السطور، ويحتاج إلى تحليل للأحداث التي مرت بنا، والأحداث التي ستأتي، بعد أن تتبدل أحوال النبي ، من الضعف إلى القوة، وبهذه المناسبة تذكرت الآن رأياً يتبناه كثير من العلماء المسلمين، مفاده أن النبي في حقيقة الأمر لم يكن في يوم من الأيام ضعيفاً، ولا عاجزاً، أمام خصومه، والدليل على هذا أنه لو أراد لهلكوا جميعاً في ساعة واحدة.
فقد ذكرَ رواة الحديث حديثاً أجمعوا على صحته، جاء فيه أن الله تعالى أرسل ملكاً من السماء إلى نبي الرحمة بعد أن اشتد تكذيب قومه له، وعرض عليه أن يهلكهم جميعاً، فأبى النبي هذا بشدة(1) ، فلو كان تبدل الموقف منوطاً بالقوة، لتبدل موقف النبي حالاً بعد أن أمده الله تعالى بهذه القوة الخارقة.
لكن هذا لا ينفي ضعف المسلمين آنذاك فيما يظهر للناس، ولهذا أقترح أن نقسم هذه المهمة، فأنتم تبحثون فيما مرَّ بنا من أحداث، لعلها تحمل بعض إجابات عن هذا التساؤل المشروع،وأنا أتكفل باستحضار هذا الاستفسار في ضوء قراءات جديدة، في المحاضرات القادمة بغية الإجابة عنه.
سأفتح المجال في المحاضرة القادمة للاستماع إلى وجهة نظركم، شكراً لكم وإلى اللقاء.
المحاضرة الرابعة معالم تأصيل الرحمة في نفوس البشر
توافد المتابعون لهذه المحاضرات على القاعة، وكانت الدكتورة سارة قد سبقت أكثرهم إليها، ويشعر المراقب لوقائع هذه المحاضرات، أن المحاضرة الرابعة قد تختلف عن سابقتها، فبعض الحاضرين متحفزون، دخلوا القاعة وهم ينظرون في كراسات يحملونها، ولا يخلو الحال من مناقشات جانبية، أكثرها غير مسموع.
بدأت الدكتورة سارة المحاضرة بالقول، الحديث في الدقائق العشرة الأولى لكم أيها الأعزاء، حول التساؤل الذي أثير في نهاية المحاضرة الماضية، كما تعلمون.
وقف أحدهم من الصف الأول، وكان يبدو عليه أنه في الستينيات من عمره، وقال: أعتقد أن الإجابة عن هذا التساؤل سابقة لأوانها، إذ ليس من السهولة بيان هذا الأمر، قبل الاطلاع على بقية سيرة نبي الرحمة ، واستعراض أحداثها، وهذه وجهة نظري .
أرجو أن لا تمنع الآخرين من إبداء آرائهم، ثم شكر الدكتورة وجلس، التي بدورها لم تعلق بشيء، وإنما اكتفت بالابتسام ورد التحية وشكره على مشاركته.
عند ذلك وقفت امرأة ، يبدو عليها التردد، ونظرت حولها، لترى هل من أحد لديه الرغبة في الحديث قبلها، فلما لم تر أحداً، قالت: وجهة نظر المتحدث الكريم جميلة وتستحق التقدير، لكن يبدو لي أنه مرَّ بنا بعض أحداث تخدم قضيتنا ولا يحسن إغفالها،
إن منهج العفو والرحمة الذي سلكه نبي الرحمة لم يكن من تلقاء نفسه، بل أمره الله تعالى به، كما رأينا في التوجيهات القرآنية الماضية، والنبي قطعاً، يلتزم بهذه التوجيهات بحذافيرها، مما يعنى أن هذا الخلق، لم يكن وليد الظروف، والإمكانات، وباجتهاد من النبي والأحداث تشهد لهذا الملك بخاصة بعد تبدل أحوال النبي فيما بعد.
أرجو أن تكون فكرتي قد وصلت، وأنا قطعاً لا أملك إمكانات الدكتورة وقدرتها على التعبير، بادرت الدكتورة بشكرها، والثناء على طرحها الموفق إلى أبعد حد.
قالت الدكتورة، بقى من الوقت ما يسمح لشخص ثالث بإبداء رأيه، فقال أحدهم من آخر القاعة، بصوت مرتفع، أنا هو، فالتفت أكثر الحضور إليه، فبادر بالقول، يبدو لي أن نبي الرحمة لو أراد أن يرد الإساءة بمثلها، لأمكنه هذا، فأنتم تذكرون أن أتباعه، طلبوا منه غير مرة، أن يأذن لهم باستعمال القوة، للدفاع عن أنفسهم، فلم يسمح لهم، وقال لهم بكل وضوح وصراحة، لم يؤذن لي بعد، فالمسألة إذن ليست مسألة ضعف، وعجز، وشكراً.
هنا تحدثت د. سارة، فقالت: أرجو المعذرة، فأنا لم أقصد أن أمنع أحداً من إبداء رأيه، عندما حددت الوقت بعشر دقائق، وها أنا أقول، من لديه رأي بما نحن بصدده، فليتفضل بطرحه .
فوقف شاب تعرفه الدكتورة جيداً لأنه من طلابها في الجامعة، فقال بلغة حماسية، ما الذي كان يمنع أتباع نبي الرحمة ، الذين كانوا يعذبون بالنهار من الانتقام لأنفسهم من أعدائهم بالليل مثلاً، ونحن نعرف طبيعة المكان الذي وجد فيه هؤلاء الناس، فهو قطعاً من حيث إمكاناته ليس مثل إحدى المدن المعروفة لدينا هذه الأيام وشكراً.
أعجبت د. سارة بحماس الشاب المتكلم، وبسرعة حديثه، وشعرت أنه لفت انتباه الحاضرين، فشكرته وشجعته، ثم قالت: أعزائي الكرام: كم أنا مسرورة في هذه اللحظات، ولا أدري هل سروري نابع مما سمعت من آراء تدل بوضوح على استيعابكم لما أطرحه، أو أنه نابع من تفاعلكم مع هذه المحاضرات، الذي أشعر أنه ينمو ويزداد، لأننا جميعاً ننتظر تتابع الأحداث، لنرى هل ستشهد للقول بأن الرحمة خلق أصيل في نبي الرحمة لا يتغير ولا يتبدل، أم تشهد للقول بأن الرحمة والتسامح، كانت آنيِّة بسبب الضعف ، وقلة الإمكانات.
أيها الحضور الكريم ..
سعى نبي الرحمة منذ بداية أمره، إلى وضع معالم لما يمكن أن تسمى بمصطلحات العصر، نظرية أخلاقية في مجال الرحمة، وهذا ظاهر من خلال الأقوال والممارسات التي صدرت عنه، وأحسب أني قادرة على بيانها من خلال المظاهر التالية:
1- من خلال تذكير أتباعه على الدوام، بأن الله تعالى رحمن رحيم، وذلك عن طريق المداومة على قراءة القرآن، وحسبنا أن نعرف أن المسلم يردد: ﭽ ﭛ ﭜ ﭼ في اليوم قرابة ثلاثين مرة، في صلوات الفرض والتطوع، عندما يقرأ الفاتحة، في كل ركعة من صلاته، والتذكير برحمة الله، يحمل المسلم على التخلق بها.
ومن مظاهر رحمته سبحانه بمخلوقاته جميعاً، أنه أنزل من السماء جزءاً من رحمته إلى الأرض، من أجل هذه المخلوقات، وهذا ما أوضحه النبي بقوله: (جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)(1).
إن في التنويه برحمة الفرس لولدها، إشارة لطيفة إلى تراحم الحيوانات، والناس أولى وأحوج لهذا التراحم، لأنهم أشد فتكاً ببعضهم حين تغيب الرحمة، وتحل القوة والكراهية.
2- حرص نبي الرحمة على تذكير أتباعه بمنزلة الرحمة، وأهميتها، والتأكيد على أنها ليست خلقاً تكميلياً جمالياً، بل هي خلق لازم واجب، فكان مما قاله في هذا المقام: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)(2) ، وقال لهم أيضاً: (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء)(1).
مما يحسن التنويه إليه، في هذا المقام، أن النبي كان يسعى إلى نشر ثقافة الرحمة على أوسع نطاق، بين الناس، ولم يكتفِ من أصحابه بالرحمة الخاصة التي تكون لا محالة بين أبناء الأسرة الواحدة، وبين الأقارب، والأصدقاء الخُلَّص، فهذه رحمة محمودة، ولكن يحتمل أن يكون لها دوافع أخرى.
ها هو النبي في سبيل هذا المفهوم، يقول لأصحابه(لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا يا رسول الله كلنا رحيم، قال إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة)(2)، وهذا توجيه حسن يسهم في نشر ثقافة الرحمة بين الناس، من حيث هي خلق مستحب، وقيمة إنسانية عظيمة.
وكان يفاضل بين أصحابه، بقدر تمثل الرحمة في نفوسهم، ويجعلها ميزة لهم، فهاهو يقول (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)(3)، ويقول النبي في موطن آخر (أرحم هذه الأمة بها أبو بكر)(4)، وهذا تنويه من النبي بمنزلة الرحمة، وبقيمتها حين كشف لأصحابه، أنها من مسوغات تفضيل أبي بكر عليهم جميعاً.
3- ممارسة نبي الرحمة لهذا الخلق، في شؤون حياته كلها، دونما تكلف، أو تصنع، فقد زار قبر أمه، وجلس عنده، فبكى بكاءً شديداً، والصحابة حوله(5) .
وزار يوماً أحد أصحابه، وكان مريضاً، وهو سعد بن عبادة ، وكان معه عدد من أصحابه، فلما دخل عليه، ورآه بكى النبي لحاله(6). بل كان نبي الرحمة ذا حس مرهف، يتجنب بعض المواقف، لأن نفسه الرحيمة لا تتحملها.
فقد ذكر أسامة بن زيد ، أحد الصحابة المقربين منه، قال: (كنا عند النبي، فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبياً لها، أو ابناً لها في الموت، فقال الرسول ، أرجع إليها فاخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب، فعاد الشخص وقال للنبي : إنها قد أقسمت لتأتينها.
قال فقام النبي ، وقام معه سعد بن عبادة ، ومعاذ بن جبل ، وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة(1) ، ففاضت عينا الرسول، فقال سعد، ما هذا يا رسول الله ؟ قال هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء(2).
إن سؤال هذا الصحابي الذي يحمل شيئاً من التعجب، ليدل على أن الثقافة السائدة آنذاك تستهجن أن يبكي العظيم، لأنه قد يصغر في عين قومه، فوجدها النبي فرصة مواتية لتصحيح المفاهيم.
لقد صعب على النبي أن يحضر هذا الموقف لأنه لا يحتمل أمثاله، رحمةً منه بهذا الطفل، ورحمةً منه بأمه، ولكن لما حضر بكى لهذا الموقف المؤثر، وبعض أصحابه ينظرون إليه، فوجدها فرصة مناسبة ليبين لهم أن هذا الموقف يستدعي البكاء الدال على الرحمة، والله الرحيم يكافئ الرحيم من عباده فيرحمه.
وعندما توفى ولده إبراهيم بكى لفراقه (3)، إضافة إلى مواقف أخرى كثيرة بكى فيها، والصحابة ينظرون، ويشاركونه البكاء فيها، بكل عفوية، وصدق، إنها دعوات واضحة من النبي إلى ضرورة التفاعل الإيجابي، مع المواقف بما يناسبها، وإلى التحذير من الاتصاف باللامبالاة، والقسوة والجمود.
واسمحوا لي أن أذكر في هذا المقام شهادتين لاثنين من كبار زعماء العرب الذين كانوا من أشد خصوم نبي الرحمة ، وقد شهدا هذه الشهادة قبل إسلامهما، وهما أبو سفيان بن حرب وعروة بن مسعود الثقفي.
فقد قال الأول: (ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً(1)، أما عروة الثقفي فقد قال : ما نصه وهو يخاطب قريشاً : والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً)(2).
لهذا الحب، آثاره وثماره، فلقد كان أصحابه شديدي الحرص، على متابعته، فيما يصدر عنه، من قول أو فعل، وكانت لديهم رغبة شديدة في التشبه به، في كل أحواله، وأحسب أن خلق الرحمة في طليعتها.
4- حذَّر أتباعه من قسوة القلب، وعرَّض بمن يعرض عن الرحمة، وشدد عليه بالقول، مهما كانت منزلته.
فهذا الأقرع بن حابس، أحد زعماء قبيلة بني تميم، وهو من الشخصيات المعروفة في عصره، دخل على نبي الرحمة محمد يوماً في حاجة له، وكان بين يدي النبي طفل كان النبي يقبله ويحنو عليه، فتعجب الأقرع من هذا التصرف، وكأنه استنكره حين قال للنبي: أتقبلون أطفالكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً.
نظر النبي إليه، ووبخه، وكان مما قاله له، من لا يَرحم لا يُرحم، وقال له: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة(1).
أحسب أن الأقرع كان يتوهم أن تقبيل الأطفال وملاعبتهم يتنافى مع الزعامة والعظمة، وهو ما جعله يستهجن فعل النبي وربما زاد استهجانه أن النبي فعل هذا أمامه، وكأن مجلس الكبراء لا يتسع لتقبيل طفل.
أراد النبي أن يعطي الأقرع درساً يفيد منه من حضر اللقاء ومن سوف يصلهم أخباره سريعاً، إن العظمة تكمن في البساطة، وتظهر في الرحمة.
هذا مشهد آخر، تظهر فيه الرحمة بأبهى صورها، فهاهم ثلاثة أطفال، أبناء عمه العباس وهم: عبد الله ، وعبيد الله،وكثير، كان يصفُّهم صفاً على مسافة منه، ثم يدعوهم للسباق، ويقول لهم: (من سبق إليَّ فله كذا وكذا، فيسبقون إليه فيقعون على ظهر النبي وصدره ، فيحتضنهم ويقبلهم )(2). ولَكُم أن تتصوروا أعزائي الحضور، حالة رجل يتدافع إليه ثلاثة أطفال، ويتزاحمون عليه، أيهم يكون الأقرب منه، والأولى بجائزته، إنه مشهد يفيض رحمة، وعفوية ،وتبسط .
لقد تذكرت في هذا الموقف، كيف أن كثيراً من الزعماء يتوددون إلى الناس في المناسبات، أو في مواسم الانتخابات بالاحتفاء بالأطفال كمرافقتهم أو مداعبتهم، أو تقبيلهم، لأنهم يعلمون أن هذه التصرفات تظهر للناس الوجه المشرق فيهم، وتقربهم إلى قلوب جماهيرهم.
بيد أن نبي الرحمة كان يتمثل هذه المعاني بأقواله وأفعاله قبل 1400 سنة بكل عفوية صادقة، وبنية خالصة.
سعى النبي إلى أن يتخلق الناس بخلق الرحمة من أجل أنها إحدى صفات الله الكريمة، لا من أجل أي دافع آخر، ومن الأساليب التي استعملها في هذا المقام، حثهم على التوسع في ممارسة الرحمة، مع المخلوقات الأخرى، لتصبح الرحمة أصيلة في قلوبهم، عفوية في تعاملاتهم.
فقد ذكر صاحبه الجليل عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي في سفر، فانطلق الرسول لحاجته، فرأينا حمرّة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تُفرِّش، فجاء النبي فقال: من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها.
ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: (من حرق هذه ؟ قلنا نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلاَّ رب النار )(1)
وذكر النبي لأصحابه قصتين، تتصلان بهذا المعنى، فقال: فيما يرويه عنه صاحبه أبو هريرة بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسك بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال (في كل كبد رطبة أجر)(2).
وفي قصة أخرى مماثلة، يحذر من القسوة على الحيوان، فيقول النبي لأصحابه: (عذبت امرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها، ولا سقتها، إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)(3).
لقد أكثر النبي من هذه التوجيهات والقصص والممارسات، لأنها كفيلة بأن تعطي الرحمة بعداً عميقاً في النفس، وتدفعها لأن تنشئ رقابة ذاتية في النفس لرعاية هذا الخلق، وهو ما يحتاجه كل فرد على هذه الأرض ، كأن هم النبي الأول، وشغله الشاغل هو نشر الرحمة، والحرص على ممارستها، لتصبح كما ذكرت سابقاً خلقاً جماعياً، ومَعلماً اجتماعياً، يحكم العلاقات، ويسهم في حل المشكلات، أو محاصرتها.
لقد حرص النبي على أن يرسخ في أذهان أتباعه، ومحبي الفضائل، حب الرحمة، والعمل بها في كل حين، وعلى أية حال، دونما ربط لها بدوافع دنيوية، أو آنية، كتلك التي تحدث عنها علماء الأخلاق.
توجد هذه التربية شعوراً داخلياً، لدى أتباع النبي بأن الرحمة محببة لذاتها، مرغوبة لآثارها الطيبة، عاجلة كانت أو آجلة، فينشأ عن هذا، أنه إذا خلا مسلم بكلب رحمه، وإذا ظفر بهرة لا يعذبها، بل يرفق بها، وإذا أمسك بطير صغير في فلاة من الأرض، أشفق عليه ورحمه.
وكانت تبدو من النبي رحمة ظاهرة بالضعفاء من الناس، كالخدم، فإنه كان يحث على التخفيف عنهم رحمةً بهم، وكان ينهى عن القسوة عليهم، فقد ذكر خادمه أنس، أن النبي لم يضرب في حياته خادماً قط.
وحث النبي الناس على رحمة هذا الصنف من الناس،مما قاله النبي في هذا المجال: (هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)(1).
وثمة لمسة حانية أراها في النبي وهو يوجه الناس، إلى مسألة قد تبدو جزئية، ولكنها ذات دلالة كبيرة، فها هو يقول للناس، فيما يرويه أبو هريرة عنه (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه، ثم جاء به وقد ولي حره ودخانه فليقعد معه فليأكل، فإن كان الطعام قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين)(1)، يعني لقمة أو لقمتين.
يا له أعزائي الحضور، من توجيه يغرس الرحمة غرساً هادئاً ولطيفاً في النفوس، حين يحث الناس على أن يجلسوا خدمهم معهم ليأكلوا من الطعام الذي صنعوه، فإن تعذر هذا، فلا أقل من أن يعطي صاحب البيت الخادم بعضاً من هذا الطعام، رحمةً به وجبراً لخاطره.
يستقر في القلوب الواعية، والنفوس الصافية،أن الرحمة خلق واجب، من خلال ما سمعوا من نصوص، ومن خلال ما شاهدوا من وقائع من النبي ، ومن خلال أمرهم بمتابعة النبي والتأسي به، ولم يكتف النبي من أتباعه بأن يبدو الإعجاب، أو التعجب من التزامه بالرحمة، ودعوته إليها، مع بقاء من شاء منهم على حاله، كما هو مسلك بعض من سبق من العظماء والمصلحين.
وإنما كان النبي يحرص على أن يرى أتباعه، يمارسون الرحمة قولاً وعملاً، ويحملهم على التخلق بها، حملاً بشتى الوسائل، وهو ما يجعلنا نقول، إن من مظاهر رحمة النبي بالناس أنه علمهم الرحمة، وأعانهم على العمل بها، وحثهم على ممارستها في شؤون حياتهم.
من ذلك قوله لأصحابه: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، وإن أربع فخامس أو سادس، فيأخذ الصحابة بعضهم، ومن بقي منهم يصطحبهم النبي إلى داره ، فيتعشون معه)(2).
إنه درس رائع في التكافل والتراحم، كان النبي شريكاً فيه، يقدمه للبشرية جمعاء، ترى لو أخذت البشرية المعاصرة بهذه النصيحة هل كنا سنقرأ في تقرير التنمية البشرية لعام 2005م أن أكثر من 850 مليون إنسان ثلثهم من الأطفال ما قبل سن الدراسة، واقعون في فخ الدائرة المفزعة لسوء التغذية ومضاعفاتها(1) ؟!! أترك الجواب للبشرية نفسها.
إن هذا بحق هو أظهر ما ميز دعوة النبي عن دعوات غيره ممن سبقه، فالمسيح دعا إلى الرحمة والتسامح، ولكنه لم يتمكن من إيجاد مجتمع متراحم، وليس أدل على ذلك من أنه تعرض لأذى مجتمعه كثيراً، ولم يرَ منهم معاملة حسنة، وقد وقف على هذه الحقيقة الأستاذ اينين رينيه حين قال: (لقد دعا عيسى ، إلى المساواة والأخوة، أما النبي محمد فوفق إلى تحقيق المساواة بين المؤمنين أثناء حياته(2)).
هذه إشارة واضحة، إلى الفرق بين من يدعو إلى الأخلاق، ولا يتمكن من حمل الناس عليها، وبين من يدعو لها، ويكون من منهجه أن يجعلها واقعاً معاشاً.
وأود أيضاً أن أشير إلى مسألة ذات أهمية تتصل بهذين النبيين الكريمين، فالمسيح لم يتمكن من تطبيق ما دعا إليه، لأنه لم يكن يملك سلطة، فالسلطة في عصره كانت بيد اليهود، والرومان، وموقفهم منه لا يخفى، فكان له عذره، فجاء من بعده أخوه النبي محمد ليحقق ما تمنى المسيح تحقيقه.
أما نبي الرحمة فقد سعى إلى أن يملك ما لم يتسن للمسيح الحصول عليه، وهو القوة ليحمي بها ما يدعو إليه، وهو ما يجعلنا نقول، إن القوة التي حازها نبي الرحمة والحروب التي خاضها، كانت من أجل حماية الفضائل، وأعد بأن أعرض لهذه المسألة في إحدى المحاضرات.
إن القوة التي أشرت إليها كان استعمالها رحمة بالرحمة التي نتحدث عنها، وأرجو أن لا أتهم بفلسفة الأمور، ولكني أردت بهذا أن أوضح موقفين، قد يبدوان مختلفين، ولكنهما سليمان لاعتبارات تتصل بكل منهما، واستحضار هذا الأمر مفيد ونحن نتحدث عن المسيح وعن نبي الرحمة .
أعزائي الحضور ..
سبق أن ذكرنا فيما مضى، أن نبي الرحمة وضع أسساً ومعالم لخلق الرحمة، جعلته جزءاً أصيلاً من كل عمل مشروع، ومصاحباً ملازماً لكل تصرف أو سلوك.
سعى نبي الرحمة إلى نشر المنهجية الأخلاقية، لتسهم في بناء الإنسان السوي، وتكوين المجتمع المثالي، وتعني هذه المنهجية فن السيطرة على الأهواء، والعمل على تحقيق القيم الإيجابية، وهو ما يعني عملياً ، الكف عن الشر من حيث هو شر منهي عنه، وفعل الخير من حيث هو خير مأمور به(1) ، وما قصة الرجل الذي دخل الجنة، بسبب كلب، وقصة المرأة التي دخلت النار بسبب هرة عنَّا ببعيدتين.
يؤدي هذا فيما يبدو لي إلى تحقيق التوازن والتكامل، اللذين كان ينشدهما نبي الرحمة وهو يوجه أتباعه إلى القيام بالتكاليف، وتحقيق الأهداف، التي يسعون إلى تحقيقها أسوة به، في ضوء المنهجية الأخلاقية السابقة الذكر، والتي يأتي في مقدمتها خلق الرحمة.
وجَّه نبي الرحمة أتباعه إلى أن مشروعية الغاية، لا تعفي من مشروعية وسائلها، فلكي يكون العمل المطروح مقبولاً، لا يكفى أن يستهدف الخير، بل يجب كذلك أن يستلهم الشرع بمعنى أن يكون مشروعاً مقبولاً، وأن يتطابق مع قواعده(2)، والرحمة ـ التي كانت شبه مفقودة في تلك بيئة ـ من أبرزها.
كونوا على ثقة، أعزائي الحضور، أني استعرضت كثيراً من أفعال وإنجازات شخصيات عدة ، من قادة حروب ، وزعماء، ورواد ، لحركات تغيير ، على مدى التاريخ، فلم أرَ أحداً منهم، استحضر هذا التوازن، على مدى رحلته، وطوال سيرته، سواءً مع أتباعه، أو مع أعدائه على حد سواء، لقد انفرد النبي بهذا المنهج وسبق إلى هذا التميز.
في هذه الأثناء، لحظت الدكتورة سارة أن بعض الحاضرين ينظر بعضهم إلى بعض، وأن بعضهم توقف عن تدوين الملحوظات. فتوقفت عن الحديث، ونظرت إليهم مبتسمة وإذا بأحدهم يقول، كاد الاتصال ينقطع بيننا حيث إن بعضنا فيما يبدو لي لم يستوعب بعض ما قيل في الدقائق الأخيرة.
قالت: لهم شكراً على هذه المصارحة، التي تدل على المتابعة، والاستيعاب، وما ذكرتموه متوقع، لأن ما سبق ذكره يشبه القواعد، بخاصة أنه لم يصاحبها تمثيل، وهو ما سأذكره الآن، ثم ضحكت، وقالت هذه هي عادة الطلاب، لا ينتظرون حتى ينتهي المحاضر من كلامه، لأنه في الغالب سيأتي على ما يدور في أذهانهم، من إشكالات، أو تساؤلات، لكنه الطبع والطبع يغلب، وإن كان بعضكم ليسوا طلاباً حقيقة، فهم أساتذة، والحق أن هذا مبعث اعتزاز لي، أن تستمع إليَّ النخبة، وفي الوقت نفسه مبعث حرج لأني أشعر أني في موضع اختبار، ومحل نقد، ولكني أقول لكم جميعاً الرحمة الرحمة فإنها كفيلة بأن تبعث الطمأنينة في نفسي.
أعزائي ..
سوف أوضح ما سبق إيجازه، من خلال ذكر بعض الأحداث، والوقائع، التي ذكرت في عشرات الكتب، وأود أن أذكر لكم، بهذه المناسبة، أني من أشد الناس نفوراً من الأساطير، وهي للأسف موجودة في سير عدد من العظماء المتقدمين، بخاصة أولئك الذين لا يعرف عن سيرتهم الشيء الكثير، وهو ما جعل أتباعهم ينسجون حولهم الحكايات، ويضعون الأساطير والقصص الخيالية في سيرتهم، ظناً منهم أن العظمة تعني الخروج على مألوف الناس، وأن المرء لا يكون قديساً ، حتى تبدو منه أمور خارقة، غير ممكنة من غيره من البشر.
لقد فات هؤلاء أنَّ البشرية لا تتأثر بالأسطورة أياً كانت، لأن الأسطورة لا تسهم في تربيتها، وإن استوقفتها في بداية الأمر، واستسلمت لها حيناً من الدهر، وهي تعلم أنها أسطورة ، وربما أعجبت بها، أو بتعبير أصح، تعجبت منها.
أعتذر أعزائي عن هذا الاستطراد، الذي لا أعدكم أني سوف أتركه، ولكني أعدكم أن أعتذر إليكم، كلما شعرت أني استطردت في حديثي، إذا تذكرت أو ذُكِّرت، وأعود إلى ما كنا بصدد توضيحه.
سمعتم جميعاً بقادة وزعماء عظام، أمثال الإسكندر المقدوني، وهولاكو، ونابليون، وهتلر، حدثنا التاريخ عن هؤلاء أنهم كانوا محل إعجاب أتباعهم، واستطاع كل واحد منهم، أن يحشد حوله مئات الألوف من البشر، وحدثنا التاريخ أيضاً أنهم استغلوا هذه الجموع الغفيرة بسبب إعجابها بهم، ومتابعتها لهم، واستخدموها في تحقيق أغراضهم بغض النظر عن الأخطار التي تحدق بهم، أو الأضرار التي ستلحق بهم.
ليس أحد منكم بحاجة إلى أن أذكر له ماذا صنع هتلر بجيشه، ولا ما صنعه هولاكو من قبل، أو ما صنعه نابليون الذي عُرف عنه استغلاله لجنوده، وقد سجل هذه الحقيقة من درسوا شخصيته، وتابعوا معاركه، منهم العقيد محمد أسد الله صفا الذي يقول (كان نابليون يسهر على مصالح خدمة جنوده، لكنه كان يستغلهم دائماً بقسوة لا متناهية )(1).
لا يشك أحد منصف، أن نبي الرحمة حاز على حب جميع أتباعه، وعلى ثقتهم المطلقة، وهو ما تعذر توفره لكثير من القادة، فقد يكون القائد محبوباً، ولا يكون موضع ثقة، لاعتبارات أخرى، والعكس كذلك، فقد يثق الجنود بقائدهم وبقدراته، ولكن ليس بالضرورة أن يحوز على محبتهم، لأسباب لا تخفى.
إن الأحداث التي بين أيدينا، تؤكد أن محمداً نبي الرحمة لم يكن من هذا الصنف على الإطلاق، فلم يسجل لنا التاريخ حادثة واحدة تدل على أنه استغل هذه المحبة واعتمد على هذه الثقة ليذهب بأتباعه حيث شاء، ويحقق من خلالهم ما يصبو إليه، دونما اعتبار للمنهجية الأخلاقية، وفي مقدمتها وعلى رأسها الرحمة، لأنها ذاك الخلق الذي يحتاج إليه الأتباع، من المتبوع، وربما لا يتطلعون إلى غيره في ظروف كثيرة.
كان النبي يدعو إلى هذا الدين، بكل تلطف ورحمة، حتى لا يحمل نفوس أتباعه فوق ما تطيق، بل إنه كان في بعض الأحيان، ينصح من جاء ليتبعه، ويبقى معه، أن يعود إلى بلده، حتى لا يتعرض للأذى رحمةً به، وشفقة عليه.
فهذا عمرو بن عبسة السلمي، جاء إلى نبي الرحمة ، في بداية الدعوة، فأسلم وعرض على النبي أن يبقى معه يسانده، فقال له النبي ، رحمةً به، وتخفيفاً عنه (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي، وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)(1).
إنها الرحمة التي جعلت نبي الرحمة يقدم مصلحة الرجل الخاصة على غيرها، وأتمنى على أصحاب الدعوات، وقادة الحركات في عالمنا المعاصر، أن يستوعبوا هذا الدرس، ولا يدفعوا أتباعهم إلى المهالك وهم بعيدون عنها سالمون. حين أمره أن لا يعرِّض نفسه للأذى، والعذاب.
لقد أثمرت الرحمة هذه ، فقد حفظ الرجل للنبي حرصه عليه، ورحمته به، فلما هاجر النبي إلى المدينة، وأقام دولة، جاء هذا الرجل، فدخل عليه، وقال له، هل عرفتني، قال له النبي ، نعم أنت الذي لقيتني بمكة(2).
كان النبي بحاجة ماسة لهذا الرجل، لقلة من كان معه، لكن النبي رحمه، لأنه وحيد غريب، وتوقع النبي أن يلحق به أذى كبير، فقال له : (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حال وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)
رحمة النبي لحال هذا الرجل الصادق، كانت مقدمة على رغبته في بقائه، للإفادة منه في نشر الدعوة.
يصعب على من يتتبع مظاهر رحمة النبي بأتباعه أن يغفل عن قصة عمار بن ياسر الذي كانت أمه أول من ماتت في سبيل هذا الدين، ولحقها أبوه بعد أن لقي أشد العذاب من كفار قريش.
كان كفار مكة يأخذون هذا الشاب، ويعذبونه عذاباً شديداً، حتى لا يدري ما يقول، وكانوا يطلبون منه أن يشتم النبي حتى يتوقف عنه العذاب، ففعل، ثم جاء إلى النبي حزيناً، فقال له النبي لما رآه ، ما وراءك يا عمار؟ ، قال شرٌ يا رسول الله: ما تركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فقال له النبي : كيف تجد قلبك، قال: مطمئناً بالإيمان، عندها قال له فإن عادوا فعد(1).
لقد بلغت رحمة النبي بأصحابه مبلغها، حتى وصل الأمر به إلى أن يأذن لأحدهم أن يسبه شخصياً لينجو من عذاب المشركين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما منحه إذناً مفتوحاً، وكأنه يقول له كلما خيروك بين شتمي وبين العذاب فاختر شتمي ولا عليك، وكأني بالنبي وهو يحادث عماراً يتذكر بكل ألم أمه التي قتلت وأباه الذي مات بعد التعذيب، فرقَّ له قلبه، ورحمه هذه الرحمة الواسعة.
أترك لكم أعزائي الحضور تصور رحابة هذه الرحمة التي أفاضها النبي على عمار.
وهذا شاب آخر دفعته محبته للنبي ، وشدة إيمانه بما يدعو إليه، إلى أن يتقدم من النبي ، ويعرض عليه أن يستعين به لقتال أعدائه، على الرغم من شعوره بعدم رضا والديه وقت خروجه، لنسمع أعزائي قصة هذا الشاب.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص ، أتى رجل رسول الله فقال يا رسول الله، إني جئت أريد الجهاد معك، أبتغي وجه الله، والدار الآخرة، ولقد أتيت وإن والدايَّ يبكيان، قال: فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما (1).
أين هذا من حسرة آلاف الأمهات اليوم، ومن صرخاتهم، وهن يشاهدن أبناءهن يساقون إلى المعارك، دون علمهن، ودون مشورتهن، وكم نرى في وسائل الإعلام يومياً صوراً لأمهات ثكلى يصرخن، وهن يحملن صور أبنائهن، إما لأنهم قتلوا، أو أسروا، أو فقدوا، ولا أحد للأسف يسمع لهن، أو يمسح دموعهن، أو يقدر وضعهن، ولا تكاد تخلو بلد فيها حروب من هذه المناظر المؤسفة، ولا من جماعات وجمعيات لأمهات القتلى تطالب بالرحمة ولا مجيب .
لقد أبت رحمة النبي أن يتجاهل هذا الشاب بكاء والديه، فأمره بالرجوع إليهما، حتى يعيد إليهما البسمة، لعلكم تتفقون معي أن أمهات اليوم يتمنين رئيساً يتخلق بهذا الخلق النبوي الرحيم ، يكون أباً للجنود ، وأخاً لأمهاتهم.
توقفت د. سارة برهة، وسألت الحضور قائلة من منكم بوده أن يسأل ويقول قد تكون هذه الحوادث فردية وخاصة بهؤلاء الأشخاص، ولا تمثل منهجاً عاماً. رفع قرابة سبعة أو ثمانية أشخاص أيديهم.
قالت لهم: إنه تساؤل مشروع، وقد خطر ببالي منذ عدة أيام، ولكنه سرعان ما ذهب أدراج الرياح، بعد أن وقفت على حوادث أخرى سأذكر لكم بعضها، وبهذه المناسبة، ما رأيكم لو أن بعضكم بحث في المصادر التي تحدثت عن سيرة نبي الرحمة لعله يجد أحداثاً مشابهة، وصوراً مماثلة، والأمر على أية حال، اختياري، لعلمي أن كثيراً منكم لديه ارتباطات والتزامات.
أعود للموضوع، فأقول إن الرحمة، لم تغب عن أي من مواقف النبي ولا يتعذر على المتأمل أن يرى الرحمة كامنة، وراء هذه المواقف، أياً كانت الظروف.
عندما اشتد العذاب على المسلمين الضعفاء في مكة، رق قلب النبي لهم، وأمرهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة، ورغبهم بالسفر إليها بقوله: (إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد (1))، فهاجر عدد كبير، فوجدوا فيها الأمن والأمان.
هذه أم سلمه، واحدة من أوائل من أسلم، وصارت فيما بعد زوجة للنبي ، وأماً للمؤمنين، تحدثنا عن هذه الحادثة، فتقول لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله، وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه، وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره، مما ينال أصحابه.
فقال لهم رسول الله :(إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحدٌ، فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار على خير جار، ولم نخش منه ظلماً (2).
لا يخفى عليكم أعزائي الحضور، من سياق هذه الحادثة أن الرحمة والشفقة على هؤلاء هي التي دفعت النبي إلى أن يطلب منهم الخروج من مكة إلى الحبشة، على الرغم من حاجته إليهم، ورغبته في بقائهم بجانبه.
أعزائي الحضور ..
أمامي أحداث رحلة العمرة وأعني بها تلك الرحلة التي خرج النبي هو وأصحابه في السنة السادسة من الهجرة، قاصداً مكة المكرمة، لأداء العمرة.
وحرص أن يخرج معه بعض القبائل، المجاورة له، حتى يتجنب المواجهة مع قريش، لكن هذه القبائل اعتذرت عن عدم الخروج.
أُخبر النبي أن قريشاً علمت بمقدمه عليهم، وخرجت لمواجهته، فأمر النبي بتغيير الطريق، لتفادي الاشتباك مع قريش (1)، وفضل أن يسير طريقاً وعرة متعبة، على أن يواجه أعداءه، حتى لا تحصل بينهما حرب، رحمة بالطرفين.
لقد أكد هذا المعنى لوفد خزاعة، الذي قام بدور الوسيط بينه وبين قريش، حين قال لهم النبي إن قريشاً تضررت كثيراً، بسبب استمرار الحرب، وأنا اقترح عليهم هدنة. وما هذا إلا دليل على كراهيته للحرب، مع قدرته على خوضها، ولكن الرحمة تقتضي حقن الدماء.
لم يقتصر على هذه الوساطة، بل أرسل أحد أفضل أصحابه، وهو عثمان بن عفان، ليبين لقريش أن الرسول ما جاء إلاَّ زائراً للبيت معظماً له ولا يريد حرباً أو مواجهة.
استمر النبي على هذا المنهج المسالم، حتى عندما بلغه أن قريشاً قتلت رسوله إليهم عثمان، وتبين فيما بعد أن الخبر غير صحيح ، أغضبه ذلك كثيراً، وأغضب أصحابه، فبايعهم على الموت، إذا دعت الحاجة إلى مواجهة قريش، ومع هذا أبقى الباب مفتوحاً مع قريش وقال بشأنها: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيه حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)(2).
لقد وافق النبي على شروط قريش الظالمة، والمجحفة، وقد أثارت غضب بعض الصحابة، وهي في ظاهرها كذلك، فقد تضمنت أن يرجع النبي وأصحابه هذا العام، وشطبت من عقد الصلح كلمة محمد رسول الله ، إلى غير ذلك من الشروط الظالمة.
لقد تضمن موقف النبي هذا دعوة إلى تقديم المصالح العامة على رغبات القادة، وأهدافهم الخاصة.
إن النبي يدعو إلى رحمة البلاد ومقدراتها، فهي لجميع الأطراف، وكأنه يقول: إن أية دعوة تهدف إلى المحافظة على الكعبة ومكة، فأنا موافق عليها مباشرة.
هذه دعوة نرسلها إلى بلاد كثيرة نسمع أخبار القتال فيها يومياً، والضحية فيها الممتلكات والمقدسات، وبالتالي يكون الجميع خاسراً.
لكن نبي الرحمة أراد أن يكون الجميع كاسباً والبلد سالماً.
لم يحدث في تاريخ دعوة النبي التي مضى عليها قرابة عشرين عاماً، أن تبرَّم الصحابة بين يديه، وكأنهم يعترضون عليه، وهم لا يقصدون هذا، وهي سابقة لم تحدث قط.
أعزائي الحضور ..
لم يكن يخطر ببالي قط أن النبي سوف يحل هذه المشكلة، ويتجاوز بأصحابه هذه المحنة، بكلمة الرحمة، وبالدعاء بالرحمة لا غير.
من حقكم أن تسألوا كيف كان ذلك، بعد أن تم عقد الصلح، أمر النبي أصحابه أن ينحروا هديهم، وأن يحلقوا رؤوسهم، حتى يتحللوا من الإحرام، فلم يجب أحد منهم لشدة ما بهم من غم وقهر، حتى بعد أن كرر الأمر ثلاثاً.
دخل ساعتها على زوجه أم سلمة، وذكر لها ما حدث، فقالت له: يا رسول الله، لا يخفى عليك حالهم، ولكن أقترح عليك أن تنحر وتحلق، ففعل هذا، ثم خرج عليهم، وقال لهم، يرحم الله المحلقين، قالها ثلاث مرات، فقاموا فنحروا، وأخذ بعضهم يحلق لبعض، حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً غماً(1).
لقد أطلت عليكم بسرد هذه الأحداث، والحق أنها ليست مقصودة لذاتها، ولا أود أن أسترسل في التحليل، والتعليق عليها، وأدع هذا لفطنتكم. والتي لن تغيب عنها ظاهرة الرحمة، والحرص على استحضارها، وإشاعتها، منذ أن خرج من بيته، حتى أبرم الصلح مع قريش، وتجاوز الأزمة مع أصحابه، على الرغم من العقبات الكثيرة، والاستفزازات المتلاحقة، والتي أعرضت عن التفصيل فيها.
لكن اسمحوا لي أن أقول تصوروا معي لو أن النبي تابع أصحابه، واستغل حماستهم، وتجاوبهم معه، وبيعتهم له على الموت، لو وظف ذلك كله، وأصر على الدخول إلى مكة، وأصرت قريش على موقفها، لحصل بينهم قتال، لا تحمد عقباه، وربما قتل فيه المئات من الطرفين، لأن التحفز وصل مداه، والتحدي من الطرفين بلغ مبلغه.
إن شيئاً من هذا لم يحصل، لأن رحمة النبي كانت حاضرة، مع كل حدث، هي الموجهة له، وهي المهيمنة عليه، حتى وإن أدى هذا إلى حرج للنبي من أتباعه، وأعدائه، على السواء.
لقد تحمل ما تحمل، كما أشارت مجريات الأحداث، ولكنه لم يغير أو يتنازل
عن منهج الرحمة، والتي برزت مظاهرها بكل وضوح على الفريقين، فيما بعد. فقد توقفت الحرب لسنوات، وتبادل الأقارب من الطرفين الزيارات، وأسلم من الكفار العشرات.
ألا يمكن القول بعد هذا، إن نبي الرحمة قاتل بالرحمة خصومه، وساس بالرحمة أتباعه.
أذكر في هذا المقام مقولة سجلتها عندي للعالم الأسباني جان ليك حين قال: (لا يمكن أن توصف حياة نبي الرحمة بأحسن مما وصفها الله بقوله: ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [الأنبياء : 107]. لقد كان نبي الرحمة رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق(1).
شكرت الحضور، قائلة للحديث بقية، وإلى اللقاء.
*****
المحاضرة الخامسة الرحمة أولاً
هذه هي المحاضرة الخامسة، التي نتابعها، ونسجلها، للدكتورة سارة، وسوف تواصل كما فهمنا منها الحديث عن مظاهر رحمة نبي الرحمة لأصحابه.
أعزائي الحضور ــ أرحب بكم جميعاً، وأشكر لكم حضوركم بهذه الكلمات بدأت د. سارة محاضرتها، وأردفت قائلة:
إذا كان نبي الرحمة لم يستغل أصحابه الاستغلال الذي يؤدي إلى تحميلهم مالا طاقة لهم به، بمعنى أكثر وضوحاً، إنه لم يكن ينظر إليهم على أنهم وقود لمعركة، أو وسائل لتحقيق أهداف رحمةً بهم كما مرَّ بنا، لأنهم بالنسبة إليه هم المعركة التي يقاتل من أجلها، وما هم بوقود لها، وهم الهدف، وما كانوا يوماً وسيلة بيده، بالمعنى الذي نرى آثاره السلبية في سير كثير من القادة العظماء.
فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإنه كان شديد الحرص على التخفيف عنهم، وإظهار رحمته بهم، في كل أمورهم اليومية، على الرغم من شعوره الأكيد بشدة محبة أصحابه له، وقوة رغبتهم في طاعته، ومتابعته في كل ما يصدر عنه، من أقوال أو أفعال.
لقد جعل الرحمة بكل مظاهرها سمة بارزة في كل شؤون حياتهم، سواءً ما اتصل بها بعلاقاتهم مع ربهم تعالى، أو بعلاقاتهم مع النبي أو بعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً، أو حتى بعلاقاتهم مع أقاربهم من غير المسلمين.
إن أول مظاهر هذه الرحمة هو الترغيب فيها، عبر نصوص واضحة دائمة، ليستقر في الأذهان، وعلى مر الأزمان، أنها هي طوق النجاة، وليس لأحد تجاوزها، أو تجاهلها.
وقد يتعذر علينا إيراد النصوص جميعها، ولكن حسبنا ما يتسع له المقام، فمنها قول الله تعالى: ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭼ [البقرة: 185]، وإثبات اليسر، ودفع العسر، من أبرز مظاهر الرحمة.
وكذا قول الله تعالى: ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﭼ [الحج: 78] ، وأية رحمة أعظم، وأظهر من تلك التي تؤدي إلى رفع الحرج والضيق عن أتباع نبي الرحمة ، والتخفيف من الله تعالى رحمة ظاهرة: ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭼ [النساء: 28]، أياً كانت صور هذا التخفيف ومظاهره.
ولقد أبلغ الله تعالى المسلمين، والنبي من قبل، بأن نبيهم رؤوف رحيم بهم، في قوله تعالى في وصف النبي الكريم: ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭼ [التوبة: 128].
ولقد رغبت في أن أنظر فيما كتبه أهل الاختصاص، في معنى هذه الآية، وفي بيان الفرق بين الرأفة والرحمة فوجدت كلاماً جميلاً، يسعدني أن ألخصه لكم، فقد قال بعض العلماء: الرأفة هي دفع المضار، والرحمة هي جلب المسار، بمعنى أن الرأفة مقدمة، فهي من باب التخلية، ثم تكون الرحمة التي تجلب النفع، فهي إذن من باب التحلية (1)، لا بأس أن أبين إن المراد بالتخلية إزالة الشوائب والأضرار، والمراد بالتحلية تزيين النفس بالخير وما ينفعها.
وقال بعضهم، الفرق بين الرأفة، والرحمة، أن الرأفة مبالغة فهي رحمة خاصة، وهي دفع المكروه، وإزالة الضرر، كقوله تعالى: ﭽ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭼ [النور: 2]، أما الرحمة فإسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى، ويدخل فيه الإفضال والإنعام(2).
لقد جمع الله تعالى لنبي الرحمة هذين الوصفين، بهذا الأسلوب، ليكشف بجلاء عن الحكمة البالغة، التي من أجلها وصف بهما النبي ،وأنهما وصفان يبعثان الأمن والطمأنينة، في نفوس أتباع النبي، لأنهم يشعرون أنهم يعيشون في كنف من كلفه ربه أن يكون رؤوفاً رحيماً، وأن يعمل بمقتضى هذين الوصفين، فيدفع عن أتباعه الضرر والأذى والحرج، ويجلب لهم الأمن والخير والسعادة.
لقد استشعر النبي هذا المعنى العظيم، وهذا الوصف الكريم، فقالها صراحة لأصحابه (إنما أنا رحمة مهداة )(1) وأنا أرى أن كلمة (مهداه ) في هذا الحديث، تشعر الإنسان بجمال الرحمة، وبمدى حاجة البشرية إليها، حتى كأنها ممن يهدى لمن يحب، فالله يحب خلقه، ولهذا أهدى إليهم النبي محمداً الذي استحضر هذا المعني العظيم، وعمل على تطبيقه، ويؤكد النبي هذا الوصف في موطن آخر فقال: (إنما بعثت رحمة)(2) .
هذان الحديثان الصحيحان يدلان أن ثمة اتحاداً، أو تلازماً، لا ينفك بين الرحمة بكل مظاهرها، وبين شخص نبي الرحمة فلا يتصور والحالة هذه، أن يصدر عنه قول، أو فعل، لا تكون الرحمة أبرز سماته.
يحسن أن نذكر في هذا المقام، أن هذه الرحمة، بكل صورها، ومظاهرها، ليست خاصة بتلك الفئة التي تحيط بالنبي ، إذ قد يتوهم أنه خصهم بهذا الوضع المتميز، لاعتبارات لا تخفى، تمليها الصحبة، والمعايشة، والرغبة في استبقائهم، والإفادة منهم، وما شابهها.
كلا ثم كلا، فإن كل ما نعم به أصحابه من رحمة، كان لكل من جاء بعدهم، النصيب الأوفى منه، وهذا ما تؤكده عموميات الأقوال، والتوجيهات، والأفعال، ولقد حدث مرة أن بعضهم سأل النبي عن هذه المسألة بالذات، فكان سؤاله نعمة لأن الجواب جاء بشرى.
وبيان هذا، أن رجلاً من أصحاب النبي ، أصاب من امرأة قُبْلة، فأتى النبي، فأخبره، فأنزل الله عز وجل: ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﭼ [هود : 114] ، فقال الرجل: يا رسول الله، أليَ هذا ؟ قال: (لجميع أمتي كلهم )(1).
إن النبي بهذا الإعلان الذي يفيض رحمة، ليؤكد أن شفقته على أتباعه عبر مئات السنين القادمة، لا تقل عن شفقته ورحمته بأولئك الذين يعيشون معه ويشاهدونه صباح مساء.
صاحبت الرحمةُ تكاليف العبادة كلها، وكانت الرحمة تحدد طبيعة هذه العبادات، وتوجهها.
أعزائي الحضور ..
تجمع لدي من خلال قراءات ومتابعات، عدد من القواعد أو المعالم التي تظهر لنا كيف أن الرحمة تفرض نفسها على التكاليف، وتؤثر فيها تأثيراً مباشراً، وهو ما سيتضح لنا من خلال استعراض هذه المظاهر(2) :
1) إن الرحمة تسقط التكليف كليةً عن الشخص، وتعفيه منه، فإن فريضة الجهاد، تسقط عن أصحاب الأعذار، كالمريض، والأعمى، والأعرج، وهذا الحكم يسجله قول الله تعالى: ﭽ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ [الفتح: 17].
وكذلك يسقط الحج، الركن الخامس، عن الذي لا يستطيع أداءه بدنياً، أو مالياً، وهو ما يبينه قول الله تعالى: ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭼ [آل عمران: 97] ، كما يسقط حكم التحريم، عن الأشياء المحرمة، عند الضرورة.
فمن لم يجد إلاَّ الطعام المحرم، والشراب المحرم، إن لم يتناوله عرض نفسه للهلاك، فله أن يأكل منه، ويشرب، وفي بيان هذا الحكم يقول الله تعالى: ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ [المائدة: 3 ]، إنها الرحمة تكمن وراء هذه الأحكام.
2) إن الرحمة تسقط جزءاً من التكليف، مثل قصر الصلاة للمسافر، فإن الصلاة الرباعية، تصبح ثنائية: ﭽ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭼ [النساء : 101].
ذكر المفسرون، عند هذه الآية، لفتة لطيفة جميلة، تصب في الاتجاه الذي نتحدث عنه، وكنت قد عزمت على بيانها لكم، ولكني عدلت عن هذا في اللحظات الأخيرة، وأحببت أن تستخرجوها وحدكم، من كتب التفسير، وأرجو أن أسمعها منكم وقد أشرت إليها في محاضرة ماضية، هي والأمثلة التي اقترحت عليكم البحث عنها في المحاضرة الماضية، فأنا في الحقيقة، لم أنس موضوعها، ولكني أردت أن أعطيكم فرصة للبحث.
3) إن الرحمة ترجئ القيام بهذا التكليف، إلى وقت مناسب لظروف الشخص المكلف به، مثل الصيام بالنسبة للمريض، والمسافر، فحيث إنه شاق على هذين الصنفين، فإن الله رحمة منه أذن للمسافر وللمريض أن يؤخرا الصوم، إلى وقت تزول فيه الأسباب التي يشق معها أداء هذا الركن.
4) إن الرحمة تعمل على استبدال عمل يسير بآخر عسير، فالمسافر الذي لا يجد ماءً للتطهر به، والمريض الذي لا يستطيع استعمال الماء نظراً لوضعه الصحي، أجاز الشرع لهما التيمم، وفي هذا يقول الله تعالى: ﭽ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﭼ [المائدة : 6].
كذلك بالنسبة إلى الصيام، فإن عجز الشخص المكلف عن الصيام، إما لكبر سنه، أو لمرض دائم يلازمه، يقدم طعاماً لأحد المساكين، عن كل يوم صيام، قال تعالى:
ﭽ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﭼ [البقرة : 184].
وليس يخفى أعزائي الحضور ما في هذه المراتب من مظاهر للرحمة، بادية للعيان، بل إننا نعتقد أن الرحمة كانت وراء كل هذه الأحكام، التي يسر بها الإنسان.
أعزائي الحضور الكرام ..
أود أن أذكر مسألة في هذا الموطن، وأشدد عليها، تتعلق ببعض جوانب هذه المحاضرات، التي تبدو أنها أكاديمية، تخصصية، أكثر منها ثقافية عامة، أحياناً أُوكد لكم أن هذا غير مقصود لذاته.
بيد أن الحاجة تدعو إلى بيان أن رحمة النبي إنما هي بناء متكامل الأركان، له أسسه، ومظاهره، ويحمل في داخله عوامل بقائه، ويغري الناس في كل زمان ومكان، إلى التوجه إليه، والتفاعل معه، بخلاف ما رأينا من مظاهر رحمة ارتبطت ببعض العظماء، والتي لم تعدُ أن تكون كلمة عابرة، أو موقفاً آنياً، أو سلوكاً شخصياً لا تقوى على البقاء، ولا تسهم في البناء الحضاري للبشرية.
وتحسن الإشارة هنا، إلى أن النبي لم يكتف ببيان هذه الأحكام لأتباعه، وإنما حرص على الترغيب فيها، بالقول، حين قال لأصحابه وهم يسألونه عن إحدى الرخص في العبادات (صدقة تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته)(1)، وبالفعل كذلك، حين كان مسافراً مع أصحابه في رمضان، فدعا بماء، فرفعه بيديه إلى أعلى حتى يراه الناس، ثم شرب منه(1). وكأن الهدف ترويض النفوس، وحملها على الرحمة، حملاً لتصبح سجية.
إن هذا المنهج، الذي سلكه النبي نابع من شدة رحمته بأصحابه، وبمن سيأتي بعدهم، حتى لا يشدد أحد على نفسه، ويتوهم أن ترك هذه الرخص أفضل، وهو ما دفع النبي إلى عدم الاقتصار على بيان الحكم فقط، وإنما تابع تنفيذه، بوسائل عدة، وغضب أحياناً، وعتب على من لا ينعم بهذه الرحمة المهداة لهم من الله الرحيم على لسان نبيه، الذي هو رحمة مهداة أيضاً، وهل تهدى الرحمة إلاَّ رحمة، ومن الرحمة أن نستريح قليلاً.
أهلاً بكم أعزائي الحضور، وأود في بداية النصف الثاني من هذه المحاضرة، أن أصارحكم بأنني في غاية السرور من حرصكم على الحضور، فقد كنت أخشى أن يبدأ العدد بالتناقص بعد عدة محاضرات، بخاصة من أولئك الذين لا يهدفون إلى تقديم شهادة الحضور، التي تمنح لهم إلى جهة علمية، للإفادة منها. فلكم جميعاً مني الشكر، والتقدير، وآمل أن تنمو هذه الثقة، المتبادلة بيننا، لأنها عزيزة وغالية، بخاصة في وقت يعاني كثيرون من أزمة ثقة في مواطن عدة.
أعزائي :
ما زال الحديث موصولاً، بمظاهر رحمة النبي بأتباعه سواءً من كان منهم معاصراً له، أو من سيأتي بعد مئات السنين.
ولكن قبل أن أبدأ، أود أن أتيح الفرصة لمن يرغب أن يعرض ما لديه، من أمثلة سبق أن اقترحت أن تأتوا بها، في المحاضرة الماضية، حول رحمة النبي بأصحابه.
رفع أحد الحاضرين يده، وهو جالس، وقد تنبهت إلى أنه يستعمل كرسياً متحركاً، فبشت في وجهه، واستمعت له بانصات، فقال: قرأت أن نبي الرحمة رأى رجلاً كبيراً في السن، يمشى بصعوبة، وهو يتوكأ على ولديه، فقال النبي ما بال هذا الشيخ، قالوا: (لقد نذر وقرر أن يمشي إلى الحج ماشياً، فأنكر النبي هذا المسلك، وقال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب)(1).
شكرت د. سارة المتحدث، وقالت: ما رأيكم أن نصوت على الأمثلة التي نسمعها، برفع الأيدي، فوافق الحضور، كل بطريقته، عندها قالت من يوافق على إدراج هذه الحادثة ضمن أمثلتنا، فرفع غالبية الحضور أيديهم بالموافقة.
فوجدتها فرصة أخرى مناسبة لتتجه مرة أخرى إلى المتحدث، نظراً لظرفه الخاص، وتكرر الشكر له، قائلة له من باب المداعبة، لقد فزت بالجائزة الكبرى، في هذه المحاضرة، وهي ثقة الحاضرين بك، فأبدى سروره، وشكرها هي والحاضرين.
ثم أتاحت الفرصة لمتحدث آخر، فقال: وجدت قصة مماثلة لقصة سبق ذكرها، وهي أن صحابياً يدعى أبا ذر قدم على النبي وهو في مكة، في بداية دعوته، وأعلن إسلامه، وعرض على النبي أن يبقى معه، فنصحه النبي بالعودة إلى بلده، لأنه لن يطيق الوضع في مكة، رحمة به وشفقة عليه(2).
أعتقد أن الدافع إلى هذه النصيحة من الرسول هي رحمته به بخاصة أنني أحببت أن أعرف المزيد عن هذا الصحابي، فمر بي أن النبي قال له في بعض المواطن، إنك امرؤ ضعيف(3) ، وهو ما يؤكد ما ذكرته.
اتجهت د. سارة إلى الحضور، تستطلع آراءهم، فأبدوا موافقتهم على إدراج هذا المثال ضمن الأمثلة التي تدل على رحمة النبي بأصحابه.
سألت الحضور من لديه الرغبة في أن يزيدنا شيئاً، وهنا رفعت إحدى الحاضرات يدها، قائلة: أنا رجعت إلى تفسير الآية التي تتحدث عن قصر الصلاة، وبحثت عن اللفتة الجميلة التي تحدثت عنها، وأظنني وجدتها.
سرت الدكتورة سارة بهذا ، وقالت: تفضلى بذكرها. فقالت: قرأت في كتب التفسير النص التالي: أن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب ، إن الله يقول: (إن خفتم )، وقد أمن الناس؟ فقال له عمر عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله فقال :(صدقة تصدق بها عليكم، فاقبلوا صدقته)(1) ، بادرتها د. سارة قائلة: لقد أصبت وأحسنت، إن هذا ما أردت قوله.
ذلك أن التخفيف في بداية الأمر من عدد ركعات الصلاة، كان بسبب خوف المسلمين من أعدائهم في أثناء السفر، أو القتال.
كان يتوقع بعض الصحابة أن يلغى هذا الحكم بعد أن زال خطر أعدائهم، وأصبحوا آمنين.
لكن النبي قال لهم حتى بعد الأمن، وزوال الخطر، فإن الحكم باق على حاله، صدقة من ربكم، وهدية لكم رحمة منه، وهو ما يؤكد أن الرحمة مقصودة لذاتها في التكاليف الشرعية.
أعزائي الحضور ..
التدرج في التشريع، من أبرز مظاهر الرحمة، التي استرعت انتباهي، في سيرة نبي الرحمة ، ولقد شد إعجابي كثيراً، فأنا لا أعلم له مثيلاً، واسمحوا لي أن أذكر لكم تعريفاً للتدرج، حتى تصبح دلالته حاضرة في الأذهان، فإن فعل درج في اللغة يعني البدء بالمشي قليلاً قليلاً، ولهذا يقولون درج الطفل، عندما يبدأ يتعلم المشي، ويخطو خطواته الأولى ببطء وحذر(1).
من هذه الدلالة، أخذ المعنى الذي نقصده، في محاضرتنا هذه، فنحن نعني به (التقدم بالمدعو شيئاً فشيئاً للبلوغ به إلى غاية ما طلب منه، وفق طرق مشروعة مخصوصة)(2) .
إن المتابع لتوجيهات نبي الرحمة لأتباعه، يرى بكل وضوح منهج التدرج هذا، فلقد كان يأخذ بأيديهم، كما تأخذ الأم الحنون بيد ولدها، وهي تعلمه المشي في خطواته الأولى.
إذا كانت الرحمة هي التي دفعت الأم إلى التلطف مع ولدها، وهي تعلمه المشي خوفاً عليه، وترفقاً به، وهذا لا خلاف فيه بين الناس جميعاً، فاعلموا أن الرحمة نفسها هي التي حملت النبي على أن يتدرج مع أصحابه في الأحكام.
ليس يخفى عليكم أن العادة عندما تتحكم في الإنسان، يكون من العسير عليه التخلص منها، أو حتى إدخال تعديلات عليها، ويبدو أن الأمر كما قال بعض من كتب في علم الأخلاق، بأن العادة تغرس جذورها عميقة في الجهاز العصبي(3). وهذا يعني أن التدرج في التشريع، هو تدرج في التربية الأخلاقية.
فقد جاء نبي الرحمة بهذا الدين، وما تضمنه من تكاليف، وتوجيهات، والبشرية كلها أسيرة عادات، وضحية شهوات، شب على بعضها الصغير، وشاب عليها الكبير، فكان لابد والحالة هذه، من أخذ هذا الوضع بعين الاعتبار، حين العمل على تصحيح المسار، الذي كانت تسلكه البشرية التائهة بلا وعي.
لما كان يصعب علينا تتبع مظاهر التدرج في المنهج النبوي، لكثرتها وتنوعها، فإني استأذنكم في الاقتصار على قضية واحدة، وأحسبها دليلاً واضحاً، على ما ذهبنا إليه، تلكم هي قضية تحريم الخمر.
وأود أن أحتاط لنفسي، وأبين أن عرض هذه القضية، ليس غاية في ذاته، وإنما عرضت لها باعتبارها وسيلة لغاية، وأنموذج لمنهج، فليس من منهجي بحث مسائل كهذه، في محاضراتي الثقافية، بيد أن الحاجة تدعو للكشف عن منزلة الرحمة في هذه القضية، ودورها في معالجة كثير من مشاكل المجتمعات، بأسلوب غير معهود، يمكن أن تنتفع به البشرية في الحاضر كما انتفعت به في الماضي.
يغلب على ظني أن الخمر آفة كل عصر، منذ مئات السنين، وأخشى أن أقول بل آلاف السنين، فأطالب بالدليل، وهو ليس بين يدي الآن، لكن ما من شك، أن شرب الخمر عادة سيئة، بكل المقاييس، لم تكد تسلم منها المجتمعات منذ القدم (فقد تنوقلت على مدى الزمن، من جيل إلى جيل، وغرست جذورها عميقة في الجهاز العصبي، بل وفي كيان أولئك الذين مردوا عليها، وأدمنوها)(1).
ظهر نبي الرحمة في بيئة تعظم الخمر وتفاخر بتعاطيه، ويمكن القول بأنه لم يكد يسلم أحد من رجالها من تعاطي الخمر، إلاَّ أشخاصاً معدودين على الأصابع، حفظ التاريخ لنا ذكرهم، بسبب مخالفتهم لقومهم، وخروجهم على المألوف في حياتهم، وأحفظ من هؤلاء أبو بكر الصديق الخليفة الأول للنبي فإنه لم يشرب الخمر في حياته، لا في جاهلية، ولا في إسلام.
ولا أدل على تمكن الخمر من النفوس، وتحكمها في مدمنيها، من قصة الشاعر الكبير الأعشى، فقد أعجب بدعوة نبي الرحمة وقرر السفر إليه، وإعلان إسلامه، فخشيت قريش إن أسلم أن يمدح النبي بقصيدة تجعل الناس يسارعون إلى الإيمان به، لشهرة هذا الشاعر.
فقرر أهل قريش، إغراءه حتى يعدل عن رأيه، فقابله أبو سفيان، زعيم قريش آنذاك، وقال له، أين أردت يا بابصير؟ قال أردت صاحبكم هذا لأُسلم، قال أبو سفيان، إنه يحرِّم عليك أموراً إن أسلمت، قال ما هي: قال: الزنا، قال: لا حاجة لي به، قال: ثم ماذا، قال: يحرِّم عليك القمار، قال: لعلي إن لقيته آخذ منه ما يعوضني عن القمار، قال: وينهى عن الربا، قال: ما دنت ولا أدنت، فلا يعنيني هذا الأمر. قال أبو سفيان، فإنه يحرِّم الخمر، وهنا توقف الأعشى، وقال: أوه أرجع إلى بلدي فأشربها بقية السنة ثم آتيه، فعاد إلى بلده، فمات في الطريق (1).
لا يتصور بحال أعزائي الحضور، أن الله تعالى الرحيم بخلقه، ينزل على نبي الرحمة ديناً، لا تكون من أبرز غاياته، تحريم الخمر، ولكن ما السبيل إلى تحريمه، وتخليص المجتمع من أضراره، التي لا تعد ولا تحصى.
الرحمة تقتضي تحريمه، والرحمة نفسها تدعو إلى النظر في مكانة الخمر في نفوس الناس، فكان لابد من إتباع خطة محكمة في سبيل تحقيق هذا الهدف السامي، لا يكون من معالمها إصدار حكم فوري، وقطعي بتحريمها، إذ لو حصل هذا، لما أمكن حمل الناس على العمل به.
وهذا ما أدركته السيدة عائشة زوج النبي حين قالت: (إنما نزل أول ما نزل منه ـ أي من القرآن ـ سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا لا ندع الخمر أبداً ..)(2).
يكشف لنا حديث السيدة عائشة، عن أمر ذي أهمية، ظاهرة يشهد له الواقع، وتؤيده الوقائع، وهو تأخر نزول القرآن الذي يتضمن الحديث عن التكاليف، والحلال والحرام، إلى أن تمكن الإيمان من النفوس، واطمأن الناس إلى هذا الدين، واستشعرت قلوبهم مدى رحمة النبي بهم ، وشدة حرصه عليهم.
اسمحوا لي أن أعرض لكم معالم التدرج في تحريم الخمر، والخطوات التي مرَّ بها هذا التحريم، وأرجو منكم متابعتي، وتلمس مظاهر الرحمة في هذا العرض.
كثر الحديث في بداية نزول القرآن، عن الثواب والعقاب، فرغب في خمر الجنة، وحببه إلى النفوس، حين وصفه القرآن بأنه يخلو من السلبيات الموجودة في خمر الدنيا: ﭽ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ [الصافات:43-47]، فالخمر في الجنة لا تذهب بالعقول، ولا تفسد الأجسام، ولا تغتال صاحبها، وتقضي عليه(1)، فهي في الجنة شراب لذيذ:
ﭽ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﭼ [محمد: 15].
لعلكم تلاحظون معي أعزائي الحضور، أن الآيات مدحت خمر الجنة، لكنها لم تذم خمر الدنيا، ولعلها تركت المقارنة لأصحاب النبي الذين يسمعون هذا الكلام.
خطا القرآن الكريم بعد هذا خطوة أخرى، ورأيت كثيراً من العلماء يعدونها الخطوة الأولى في رحلة التحريم.
يقول العلامة دراز (تمت الخطوة الأولى في هذه الطريق، في كلمة نزلت بمكة، كلمة واحدة مست المسألة مساً رقيقاً، فمن بين الخيرات التي استودعها الله في الطبيعة، يذكر القرآن " ثمرات النخيل والأعناب" ويضيف إليها: ﭽ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﭼ [النحل : 67] ، فهو لم يقصد إلاَّ إلى الموازنة، بين السكر والثمرات الأخرى، التي يصفها بأنها حسنة، دون أن يصف هذا السكر نفسه، وبذلك صار لدى المؤمنين دافع إلى الإحساس ببعض التحرج والوسوسة تجاه هذا النوع من الشراب)(1).
وأنا بهذه المناسبة، اعتذر إليكم، بسبب بعض النصوص التي أوردها أحياناً، والتي يصعب استيعابها استيعاباً كاملاً في هذه العجالة، ولكني أعدكم بأن تكون بين يديكم، ليكون لكم معها وقفة أخرى.
ونحن بهذه المناسبة أيضاً، نستعمل هذا الأسلوب القرآني اللطيف، فعندما أقابل اثنين من طلابي في نهاية الفصل الجامعي، وكانا قد قدما الاختبار، ثم يسألاني عن النتيجة، فأقول للذي نجح في الاختبار أحسنت، لقد اجتزت الاختبار، ثم لا ألتفت إلى الثاني، ولا أقول له شيئاً أبداً، وأعتقد حينها أنه سوف يفهم هذه الرسالة اللطيفة، والتي فيها مظهر من مظاهر الرحمة، حيث لم أشأ أن أواجهه بالنتيجة المؤسفة.
إن القرآن في هذه الآية، وصف الرزق بأنه حسن، وسكت عن وصف الخمر بشيء، فاستقر في وجدان أتباع نبي الرحمة أن الخمر ليس حسناً بحال، ولكن لا شيء آخر بعد هذا.
وتمضي سنوات معدودة، وإذا بالقرآن الكريم يوظف حادثة ذكرها أهل الحديث والتفسير(2)، مفادها أن الصحابي عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً ودعا الناس إليه، وقدم إليهم خمراً فشربوا، ثم حانت الصلاة فقدموا أحدهم ليصلي بهم، فأخطأ في قراءة القرآن، بسبب شربه للخمر، فأنزل الله تعالى عندها: ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﭼ [النساء: 43]. فالله تعالى لم يوجه في هذه المرحلة إلى عدم الشرب، وإنما نهى عن القرب من الصلاة حال الشرب.
جاءت هكذا الخطوة الثانية، لمحاصرة الخمر، وتضييق الوقت على من يرغب في تناولها، فإن الصلوات لم يعد يناسبها شرب الخمر، والصلوات تكاد تغطي اليوم والليلة، (وهكذا كان هذا التحريم الجزئي، غير المباشر منهجاً علمياً لتوسيع فترات انقطاع التأثير الكحولي، وفي نفس الوقت، تقليل رواج الأشربة، وتجريدها من سوقها بالتدرج، دون إحداث أزمة اقتصادية، بالتحريم الشامل المفاجئ)(1).
بدأت علاقة الصحابة بالخمر في الانحسار، بعد أن جعلها القرآن مضادة للصلاة، وبعد ما فرض عليها من حصار، مما جعل بعضهم يتساءل عن حكمها، فجاء الجواب من الله تعالى: ﭽ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭼ [البقرة : 219].
هذا النص القرآني صريح، في أن مضار الخمر أكثر من منافعه، واسمحوا لي أن أذكر لفتات جميلة في هذه الآية، فقد قدَّم الإثم على النفع، كأنه هو الأصل، ووصف الإثم بأنه كبير، ولم يصف المنافع بشيء ، وهذه نفحات من رحمات، لأنها تسهم في التنفير من الخمر.
يبدو لي أن الأمر بدأ يتضح وحده، وبدأ ينمو شعور لدى الصحابة، بالنفور من الخمر، ما دامت هذه حالها، وكانوا يتوقعون في أية لحظة حكماً صريحاً بتحريمها، بعد ما تقدم من إرهاصات، حتى وجد عمر بن الخطاب الخليفة الثاني للنبي نفسه وهو يرفع صوته بالدعاء قائلاً: (اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً)(2).
لقد دلت بعض الروايات أن الصحابة بدأوا بالتخلص من الخمر قبل نزول تحريمها، حتى قال عبد الله بن عمر (لقد حرّمت الخمر وما بالمدينة منها شيء)(3)، وهو قطعاً لا يقصد التعميم الكامل، ولكن يفهم منه أن الخمر لم يَعُد لها وجود، كما كانت من ذي قبل، كأنهم اجتنبوها قبل أن يُطلب منهم هذا .
بدأ الصحابة وكأنهم على موعد مع حكمٍ ما قادم إليهم، وقد تهيأت نفوسهم لقبوله، بل تتشوق إليه، وكأنها تطالب به، إنه التحريم، وقد كان فعلاً حين نزل قول الله تعالى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭼ [المائدة : 90].
لقد تم التحريم، وتم الاجتناب، بطريقة غاية في العجب، آية في دقة التنفيذ، وسرعة الاستجابة، واسمحوا لي أعزائي الحضور أن أستضيف الصحابي أنس بن مالك لينقل لنا الصورة كاملة ، لهذا الحدث العجيب المهيب.
قال كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح، وأبا طلحة الأنصاري، وأُبيَّ بن كعب شراباً من فضيح وتمر، قال: فجاءهم آت ، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس ، قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال: فقمت إلى مهراس ـ يعني حجراً ـ لنا فضربتها بأسفله حتى كسرت )(1). وفي رواية، فأمر رسول الله منادياً: ألا إن الخمر قد حُرمت، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة(2).
أمامي تعليق جميل للدكتور العلامة دراز ، اسمحوا لي أن أسمعكم إياه، يقول: (هذا المسلك اليسير المتدرج، يدعونا إلى أن نتذكر الطريقة التي يستخدمها الأطباء المهرة، لعلاج مرض مزمن، بل أن نتذكر بصفة عامة، المنهج الذي تلجأ إليه الأمهات لفطام أولادهن الرضع.
ذلك أن هذه الوسائل، التي خلت من العنف، والمفاجأة، تدعو الجهاز الهضمي إلى أن يغير نظامه شيئاً فشيئاً، ابتداءً من أخف الأطعمة، حتى أعسرها، ماراً بجميع الدرجات الوسيطة، ألا ما أعظم رحمة الله، التي ترفقت بالعباد، على نحو لم يبلغه فن العلاج، ولا حنان الأمهات (1). ما أجمل هذا القول، وما أصدقه.
أعزائي الحضور ..
كنت سأنهي حديثي عن الخمر بهذا الكلام، بيد أني آثرت أن أعرض لكم بإيجاز صورة مقابلة، لما سبق بيانه، إنه القانون الأمريكي لتحريم الخمر، لنرى كيف بدأ، وكيف انتهى؟
فقد صدر سنة 1933، قانون تحريم الخمور في أمريكا، وألحق بالدستور المادة الثامنة عشرة الإصلاحية، التي تتضمن هذا التحريم، والإجراءات التي ينبغي اتخاذها لتنفيذه، وما أن صدر القانون حتى نشطت تجارة الخمور السرية.
صارت تباع أنواع من الخمر مضرة بالحياة، وانتشرت الأماكن السرية، التي تصنعها، وتبيعها، وازدادت مراكز البيع غير القانوني، فقبل قانون التحريم، كان عدد مصانع الخمور قرابة أربعمائة مصنع، وبعد سبعة أعوام من تحريمه، صار عدد هذه المصانع قرابة ثمانين ألف مصنع.
وانتشر شرب الخمر بين جميع فئات الشعب، وشمل جميع مناطق البلاد، بما فيها القرى، والأرياف، وتصاعدت أرقام الجرائم، والحانات.
وفقاً لإحصاءات ديوان القضاء الأمريكي، فقد تم تنفيذ حكم الإعدام في قرابة مئتي شخص، وزادت الجرائم بين الأطفال، حتى أعلن قضاة أمريكا: أنه لم يكن من المعهود سابقاً أن يقبض على هذا العدد من الأطفال في حالة السكر.
لقد دلت تقارير الشرطة، أن عدد المدمنين من الأطفال، ارتفع إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل التحريم، وتضاعف عدد الوفيات.
على أثر هذا الفشل، ونتيجة لهذه الخسائر في الأرواح، والأموال، تراجعت الدولة عن القانون، وسمحت بإنتاج الخمور، التي تقل نسبة الكحول فيها عن 33%، ثم صدر في السنة نفسها، إعلان رسمي، ألغيت بموجبه المادة الثامنة عشرة، التي تحرم الخمر، وعاد الخمر كما كان، بعد تجربة فاشلة، خاضتها الحكومة الأمريكية، بكل إمكاناتها، مدة أربعة عشر عاماً (1).
وقد علق أحد العلماء الأمريكان على هذا بقوله: (إن قرار منع الخمر لم يُلغ على أساس أن الخمر جيدة، أو سيئة ضارة أو غير ضارة، إن القرار أُلغي على أساس واقعي هو أن المنع قد فشل)(2).
ربما توسعت في الحديث عن موضوع الخمر، ولكني تعمدت هذا، رغبةً مني في الكشف أولاً عن مظاهر الرحمة التي أدت إلى القضاء عليه في المجتمع الإسلامي، في مقابل مظاهر القوة التي فشلت في منعه.
وإذا كانت الرحمة قد ظهرت جليَّاً في التدرج في تحريم الخمر، فإن الرحمة نفسها كانت أظهر في التحريم نفسه، فقد اطلعت على موقع طبي يتحدث عن الأضرار التي تحدثها الخمر بالجسم، فرأيت شيئاً مرعباً، أود أن أذكر لكم بعض هذه الأضرار باختصار:
(1) إتلاف خلايا المخ.
(2) إتلاف الكبد.
(3) هبوط عملية التنفس.
(4) انخفاض المناعة في الجسم.
(5) تؤدي إلى هشاشة العظام.
(6) الإصابة بقرحة المعدة والسرطان.
وغير هذا من الأمراض الصحية التي لا يتسع المقام لسردها ، إضافة إلى الأضرار الاجتماعية والاقتصادية التي لا تخفى عليكم، فكان هكذا التحريم رحمة بالناس.
إن البشرية المعاصرة بحاجة ماسة إلى سيف الرحمة ـ المصاحب للتدرج ـ ، الذي شهره النبي محمد في وجه الخمر حتى قضى عليها بكل لطف ومحبة.
أعزائي الحضور ..
أختم بالقول بأن التدرج بالتشريعات والأحكام ، كان سمةً بارزةً من سمات هذا الدين، الذي بعث به النبي محمد ، فهو لم يقتصر على الخمر فقط، فقد كان التدرج في أحكام أخرى مثل الصيام، والزكاة، وبعض المعاملات ومنها الربا، كما يرى بعض من قرأت لهم من العلماء.
فالصيام في أول الأمر كان اختيارياً، ثم لما تعود الناس عليه، صار ملزماً لهم، وأصبح الصيام فرضاً في قول الله تعالى: ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﭼ [البقرة : 185].
والزكاة كذلك كانت في العهد المكي، مطلقة من القيود، وكانت موكولة إلى إيمان الناس وشعورهم، بواجب الأخوة نحو إخوانهم المؤمنين، فكان يكفي في ذلك إخراج القليل من المال، وقد تدعو الحاجة إلى بذل الكثير(1)، ثم في السنة الثانية من الهجرة، صارت الزكاة فرضاً وركناً من أركان الإسلام، بحدودها وشروطها، وأنصبتها، ومستحقيها.
وهكذا تبدو الرحمة مصاحبة لهذه الأحكام، والتشريعات، وكانت حاضرة في كل خطوة خطاها النبي محمد وهو يأخذ بيد البشرية للبلوغ بها إلى السمو الأخلاقي.
ليس يخفى عليكم ذلك التلازم والتكامل بين رحمة الله تعالى، حين شرع هذه الأحكام الرحيمة، وبين رحمة النبي الذي تلقاها، ليعمل على تنفيذها بكل لطف ورحمة.
أعزائي الحضور ..
قبل أن أختم محاضرتي، أعتذر إليكم، لأني أطلت عليكم قليلاً، لكني رغبت أن أستكمل هذا الموضوع المترابط، أكرر شكري، وإلى لقاء آخر.
******
المحاضرة السادسة العدل الواجب والرحمة الواجبة توازن وتكامل
بدأت الدكتورة سارة محاضرتها السادسة، قائلة للحضور، أحييكم أجمل تحية، وأشكر لكم تجمعكم هذا، ويسرني أن أواصل معكم عرض مشاهد رحمة النبي بأتباعه، حيث إن ثمة جوانب مهمة لم نعرض لها، تتصل باستحضار الرحمة في أثناء العبادات، وأثرها في هذه العبادات نفسها، وهو ما تحدثنا عنه في المحاضرة السابقة.
لكني أود في هذه المحاضرة أن أتوسع في الأمثلة، لبيان أن هذه الرحمة لم تغب عن أيٍ من مظاهر العبادة ، ثم نتحدث عن العدل الواجب والرحمة الواجبة حين يتلازمان.
فإنه على الرغم مما مرَّ بنا من مظاهر واضحة لهذه الرحمة، من مثل التدرج في الأحكام، ودخول تعديلات على بعضها بسبب ظرف طارئ، وعلى الرغم من أن النبي وهو يبين هذه التشريعات، كان يستحضر طبيعة النفس البشرية، واحتياجاتها، على الرغم من حصول هذا كله، إلاَّ أن رحمة النبي لم تقتصر على هذه الجوانب، بل تعدتها إلى غيرها.
نعم لقد تجاوزتها، لتشمل ممارسة الرحمة، ليستقر في وجدان كل إنسان، أن الرحمة ليست مجرد كلمة، أو شعور، ينتاب المرء، وإنما هو سلوك، وواقع له مظاهره.
لقد كان أحب شيء إلى النبي الصلاة، ومناجاة الله، ولكن يا للعجب حين ترى النبي يقصر من صلاة كان يصليها بالناس، وإذا به بعد الانتهاء منها، يبين لهم لماذا قصر من صلاته، فقال: (إني لأدخل في الصلاة أريد أن أطوِّل فيها، فاسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)(1).
لم تكن هذه حالة واحدة، وإنما كان هذا المسلك منهجاً، وقد أكد هذا خادمه الملازم له أنس، حين قال: إن النبي كان يسمع بكاء الصبي، وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة القصيرة، والسورة الخفيفة(1).
صلوات يشهدها مئات من أصحابه، يرغبون كلهم كما يرغب النبي بإطالتها، لكن بكاء طفل صغير مع أمه شهدت الصلاة، يجعل النبي يوجز فيها، رحمةً منه بالأم، لعلمه بشدة شفقتها، ورحمة بالطفل الذي يبكي، لأنه لا يحتمل سماع بكاء الأطفال.
يدل على هذا ما روي من أن النبي مرَّ بيت ابنته فاطمة الزهراء، فسمع الحسين يبكي، فقال لفاطمة: ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني(2) ،إنه درس عملي في الرحمة، يحرص النبي أن يعايشه أصحابه.
عندما بلغه أن أحد أصحابه يصلي في جماعة من الناس، ويطيل في صلاته، عتب عليه كثيراً وقال: (أيها الناس، إنكم منفرون ، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن منهم المريض، والضعيف، وذا الحاجة)(3).
إن رحمة النبي هي التي حملت على استحضار هذه الأصناف، ودعت النبي إلى أن يطلب ممن يصلي بالناس أن لا يطيل، مراعاة لظروف من سماهم.
لاحظت الدكتور سارة أثناء حديثها، أحد الحاضرين، وقد التفت إلى زميله، وهمس في أذنه بكلمة، ثم تبسما، وهنا توقفت عن الكلام، فنظرا إليها فتبسمت بدورها، وقالت: هل من شيء يمكن أن نسمعه منكما، فقال أحدهما: كنت بصراحة أقول لصاحبي، كان يمكن أن يطلب النبي من المرأة وصبيها، ومن أصحاب الأعذار، أن لا يحضروا للصلاة، حتى يصلي هو وأصحابه على الهيئة التي يحبون، ولا يضطر إلى ما اضطر إليه، في فعله وقوله.
توجهت د. سارة إلى جمهور الحاضرين، قائلة لهم: ما رأيكم بما سمعتم، فلم يتكلم أحد، إلا واحد قال: هي على أية حال، وجهة نظر، ولكننا لا نعلم طبيعة الظروف آنذاك، وملابسات الموقف.
شكرت الدكتورة سارة الذين أبدوا وجهات النظر هذه، وقالت: سرني هذا الطرح، لأنه فتح المجال لأبين مسألة مهمة، وهي أننا أحياناً، نحكم على بعض الأحداث، ونحللها ونحدد موقفنا منها، في ضوء ثقافتنا المعاصرة، متأثرين بالمحيط الذي نعيشه، وما فيه من أحداث متتابعة، ومواقف متلاحقة، وهو ما يمكن أن يسمى بالمنهج الانطباعي، والمنهج الإسقاطي.
لقد انتشرت بيننا عبارات غالباً ما تُغيَّب الرحمة معها من مثل مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد، والحالة الشاذة لا حكم لها، ولا يلتفت إليها، الفرد وقود المجتمع، وهو عجلة في عربته.
إن هذه الثقافة بمضامينها، تجعلنا نتعجب كثيراً من تصرفات النبي هذه، وهي في حقيقة الأمر، مكمن العظمة، ورمز الرحمة، للفرد والجماعة على حد سواء.
لقد وسعت رحمة النبي ، الأفراد من حيث هم واحداً واحداً، واستوعبت مصلحة الجماعة من حيث هي كذلك. فإن مصلحة الجماعة معتبرة ولاشك، ولكن مصلحة الفرد غير مهملة أيضاً، وينبغي من باب رعاية المصالح، وإعمال الرحمة، بذل غاية الوسع لكي لا يطغى حق على حق.
إن وجهة النظر التي سمعناها آنفاً، وكانت سبباً في هذا الاستطراد، تعد مؤشراً على وجود سلبيات لدى من يلجأ إليها، وأنا قطعاً، لا أعني بهذا الكلام، من نبه إلى هذه الجزئية، وإنما أقصد من جعل منها منهجاً، وتعامل مع الناس بمقتضاها، فهي تدل على قصور في المعالجة، وعجز عن استيعاب جميع الأتباع والأحباب، مما يعني أن هذا الرمز، أو القدوة، أو القديس، صار لفئة دون أخرى.
إن البشرية جمعاء بحاجة ماسة إلى هذا المنهج الرحيم، فإن الواقع المشاهد اليوم لا يخلو من أحداث يظهر فيها تجاهل الفرد لصالح الجماعة، بحجج واهية، وها هو نبي الرحمة يقدم للناس جميعاً نماذج متوازنة تتحقق فيها مصالح الأطراف جميعاً، أفراداً وجماعات.
أود أن أذكِّركم أننا عرضنا إلى طرف من هذا الحديث، في محاضرة مضت، واعتبرنا هذا المسلك نقصاً، لأنه يفتقد إلى الشمول والتوازن.
وخلاصة رأيي ، هي أن نبي الرحمة ـ في ضوء ما مرَّ بنا من أحداث ـ لا يتصور منه بحال أن يُشعر أحداً من أتباعه، أنه خارج دائرة اهتماماته، ولا يمكن للنبي أن يُقدم على فعل يكون فيه قد حجب رحمته عن أحد منهم.
لقد أوتيَ النبي من الصفات الحميدة مجتمعة، ما تؤهله إلى إنجاز ما يرغب في إنجازه، دون أن يكون هذا على حساب أحد ممن حوله، وأنا أشهد في هذا المقام، أني لم أرَ في سيرة أحد من العظماء، أنه اتصف بهذه الصفة، التي لا أملُّ التكرار والقول إنها إحدى أبرز مظاهر رحمة النبي .
بين يدي أعزائي بعض مواقف تدل على رحمة النبي حدثت كسابقتها في الصلاة، فهذا الصحابي معاوية السلمي، صلى مع النبي صلاة، وتكلم فيها مع صاحب له، قال فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إليَّ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت.
فلما صلى رسول الله فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله، ولا بعده، أحسن تعليماً منه، فو الله ما كهرني(1)، ولا ضربني، ولا شتمني، وقال :(إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن)(1).
لقد رحم النبي صاحبه هذا، وتلطف معه، على الرغم من أنه كاد يفسد عليهم الصلاة، ووقف الصحابي بنفسه على رحمة النبي له، وكم تركت هذه الرحمة، وهذا التلطف، أثراً طيباً في نفسه، وهذا ظاهر من مقولته التي قالها، وهو يصف معاملة النبي له.
يا له من درس عملي للمربين، في كل زمان ومكان، حتى يرحموا الجاهل، ويتلطفوا معه، وإذا كانت النظريات التربوية الحديثة تحث على هذا المسلك في التعليم والتقويم، فإن نبي الرحمة أرشد إليها قبل مئات السنين.
كان النبي وهو يقوم بعبادة ربه، المحببة إليه، يرقب أصحابه، حتى لا يسبب لهم حرجاً، أو يلحق بهم مشقة، رحمةً بهم.
فهذه السيدة عائشة زوج النبي تروي لنا ما حصل في صلاة قيام الليل، في رمضان، وهي صلاة التراويح، فقد صلى بهم أياماً، ثم لم يعد يخرج لهم، فلما سئل عن هذا، قال: خشيت أن تفرض عليكم، وهذه رحمة ظاهرة منه (2).
والأشد منه وضوحاً، قول عائشة: (إن كان النبي ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس ، فيفرض عليه)(3)
إن النبي لم يستغل حب أصحابه له، وشدة رغبتهم في متابعته، فيقوم بالعمل الشاق، على مسمع منهم، ومرأى من أجل أن يعملوا به، لم يكن هذا من منهج النبي ، لكنه كان من منهج بعض من سبقه، من القديسين، فمنهم من كان يصوم أياماً، ولا ينام ليالي عدة، وهذا يتعب أتباعه، إن كان له ثمة أتباع.
وشتان بين من يلتفت خلفه، وهو يسير ليطمئن على أتباعه واحداً واحداً،
وهم يتبعونه، حتى لا يبتعد عنهم، أو ينفرهم منه، رحمة منه بهم، وهو يتمثل دور الوالد من أولاده لقد قالها لهم صراحة، لتطرق أسماعهم، (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد) (1)، والوالد يرحم أولاده، ويحنو عليهم، ولا يسلمهم إلى المشاق. وبين من لا يلقي لهم بالاً ولا يرقب لهم حالاً، ويمضي في طريقه وحيداً، ليحقق لنفسه العظمة، والخلود، بهذا التميز، كما يتوهم، ولسان حاله يقول، من كان به قوة فليلحق، ومن كانت لديه همة فليصبر.
شكراً لكم لحسن الاستماع، وإلى الاستراحة القصيرة وسنواصل بعدها كالعادة.
دخلت الدكتورة سارة القاعة، لمواصلة المحاضرة السادسة وهي تحمل بين يديها أوراقاً شبه مبعثرة، كأنها كانت تطالعها قبل دخولها القاعة، وما أن استقرت في مكانها، حتى رحبت بالحضور، قائلة :
أهلاً بكم في النصف الثاني من محاضرتنا هذه، والذي خصصته لبيان قضية أحسب أنها مهمة جداً، تلكم هي مكانة الرحمة بين غيرها من الأخلاق، وبيان مدى صلتها بالأحكام الأخرى، والحقوق المشروعة.
يمكن أن أختصر هذه العبارات بكلمة واحدة، أذكرها على هيئة سؤال: وهو : هل يمكن القول إن النبي محمداً كان يرفع شعار (الرحمة أولاً) في تصرفاته كلها؟، ولقد تعمدت تأخير هذه المسألة إلى المحاضرة السادسة، ليسهل على الحاضرين الكرام استحضار ما مرَّ من مواقف وأحداث، تسهم في تقديم الإجابة عن هذا السؤال حتى لا يطرح في فراغ.
أعزائي الحضور ..
تستدعي الإجابة عن هذا السؤال، مقدمة، آمل أن لا تكون مملة، بعث النبي محمد لتكميل الفطرة الإنسانية، والتعايش معها، والمحافظة على سلامتها، ولم يبعث لتنفيرها، وتغييرها، وهذا يعني أنه كان يستحضر طبيعة النفس البشرية، واحتياجاتها، وانفعالاتها، ولقد مرَّ بنا من المواقف، ما يؤكد هذا المعنى بكل وضوح.
واسمحوا لي باستطراد يسير في هذا المقام، لأذكر لكم فيه أن البشرية اليوم تعاني أشد المعاناة بسبب مصادماتها للفطرة، والعمل على اغتيالها وتغييرها عبر تصرفات كثيرة نسمع بها ونراها في مجالات كثيرة تغيب عنها الرحمة، بكل مظاهرها لأن الرحمة لا يمكن أن توجد بحال إلاَّ عند وجود الفطرة السليمة.
في ضوء ما يسمى عند علماء الاجتماع، بالضبط الاجتماعي، والذي يعني الوعي بشعور الآخرين، ومراعاة حقوقهم، وانتهاج سلوك يتأثر بهذا الوعي، تصبح الحاجة ماسة لوجود ضوابط، وأنظمة، تضبط سلوك الأفراد، فتأخذ له من المجتمع، وتأخذ منه لهذا المجتمع(1).
تبرز في هذه الأوضاع لا محالة، الحقوق والواجبات، وتفرض نفسها، فالعدل واجب، ورد الحقوق إلى أصحابها لازم، والمحافظة على مصالح الفرد حق.
إنها معالم واضحة، أكدتها نصوص شرعية، وترجمتها مواقف نبوية، فاستقر في الأذهان، أن العدل واجب، ولكن ما ينبغي أن يُعرف، ويستحضر حالاً، هو أن الرحمة أيضاً واجبة، وليست تفضلاً في المنظور الإسلامي.
أضرب لكم مثالاً توضيحياً، إذا اقترض شخص مالاً، فإنه يجب عليه أن يرد المال إلى صاحبه، وهذا عدل، ولكن إذا تعذر على المقترض أن يرد المال في أجله لإعساره، فالعدل أيضاً يقتضي أن يمهله صاحب المال، رحمة به.
لكن القرآن يعرض هنا توجيهاً آخر، وهو أن يتنازل صاحب الدين عن دينه،
إذا كان هذا ممكناً بالنسبة إليه، وهنا تتحقق الرحمة بكل مظاهرها. وفي هذا يقول
القرآن الكريم: ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ [البقرة : 280].
ويتضمن هذا العرض الرباني مبادلة رحمة برحمة، إن صح هذا التعبير، فالتصدق بالمال رحمة من صاحب المال، يكافئ عليها برحمة من الله تعالى، وقد رغَّب النبي بهذا العرض حين قال: (ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء).
ذكر النبي لمزيد من الترغيب بهذه الرحمة، المصاحبة لهذا الواجب، ذكر قصـة رجل كان يمارس هـذا النـوع من الرحـمة، فأدخلته الجنة، يقول النبي (كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسراً، قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه)(1).
وفي موضع آخر ، يؤكد القرآن أن القصاص حق واجب: ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﭼ [البقرة : 178].
فقد اثبت الحق لأهله، ثم بعد ذلك ذكر الرحمة، التي تدعو إلى العفو، وفي
مقام آخر، جعل العقاب بالمثل حقاً لصاحبه، لكنه في الوقت نفسه، جعل الرحمة بالمعتدي، والعفو عنه، صدقة وكفارة للمعتدى عليه: ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ [المائدة : 45].
والخلاصة أعزائي الحضور ..
إن النبي وهو يقرر الحق لأهله، يذكر بجانبه دائماً الرحمة، استناداً إلى النصوص القرآنية، ليبين أن الرحمة واجبة، كما أن العدل واجب، ولا نبالغ إذا قلنا إن المتأمل في دلالات النصوص، يشعر أن ثمة خطة تهدف إلى تضييق المجال على العدل، حتى يفسح المجال أمام الرحمة، لتمر هي ويعمل بها.
يلحظ هذا جلياً في المكافآت المغرية التي وعد بها الله، من يقدم الرحمة على الحق، فيعفو أو يتجاوز ، ويلحظه من تلك الشروط والضوابط التي وضع معالمها النبي الرحيم، من أجل تطبيق الحدود، وإقامة العقوبات، وهو ما ستأتي الإشارة إلى طرف يسير منه قريباً.
إن الحضارة المعاصرة، برعت في سن القوانين، وفي صناعتها، وأتقنت فن تطبيقها، لكنها فشلت في صناعة الرحمة التي ينبغي أن تصاحب هذه القوانين، بطريقة لا تضيع فيها الحقوق، ونحن نمارس هذه الرحمة، وهو ما يقدمه نبي الرحمة للبشرية اليوم، كما قدمه بالأمس.
نعود إلى سؤالنا السابق، ونقول إنه بالإمكان القول إن شعار الرحمة أولاً، كان ظاهرة بارزة ، وحقيقة واقعة، في سلوك النبي محمد وفي أحكامه، لأن النبي كان يستحضر دائماً، الحديث القدسي (إن رحمتي سبقت غضبي)(1) وسوف أسوق لكم بعض الوقائع التي تزيدها وضوحاً.
أحد الصحابة ، ويسمى ماعزاً، جاء إلى النبي واعترف بأنه زنى، وطلب من النبي أن يعاقبه على فعله، ليطهره من ذنبه، وإذا بالنبي يمارس مع هذا الرجل دور القاضي والمحامي في آن واحد، فصار يصرفه عن الاعتراف، ويلقنه الحجج التي ينجو بها من العقاب، فيقول له: يبدو أنك لم تزن، وإنما فعلت كذا وكذا، حتى بلغت الرحمة بالنبي أن يقول لأصحابه، انظروا فقد يكون في عقله شيء، والنبي متلهف إلى كلمة من هنا أو هناك، يدفع بها العقاب عن ماعز(1).
أحسب أن قصة ماعز، كانت درساً عملياً، لممارسة الرحمة في المجتمع النبوي. وحتى لا يتوهم أحد أن مثل هذه التصرفات خاصة بالنبي فإنه كان يُتبع القولَ الفعلَ، ويذكِّر في مناسبات عدة، بأهمية الرحمة، بكل فرد من المسلمين، أو من غيرهم.
عندما يقول النبي (لا تنزع الرحمة إلاَّ من شقي)(2) ، يسعى كل من يسمع هذا القول، من أتباعه، إلى تجنب هذا الوصف الرهيب، وهم يحفظون قول الله تعالى عن النار: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭼ [الليل: 15]. فيستقر في قلوبهم أن النجاة من الشقاء، تمر عبر ممارسة الرحمة.
إن هذا المسلك الرحيم، لم يكن من النبي لهذا الرجل خاصة، وإنما أراد أن يرسم معالم منهج لمن بعده من الحكام، والقضاة، بل للناس جميعاً، يقوم على مساعدة من زلت به قدمه من الناس، حتى ينجو بنفسه، ويدفع عنها العقوبة.
وجه النبي بمسلكه هذا من بعده من المسؤولين، إلى دفع الحدود بالشبهات، حتى صار هذا المنهج ، قاعدة شرعية مشهورة عند الفقهاء، وهو ما توصل إليه علماء القانون، بعد أكثر من ألف سنة، حين قرروا أن المتهم بريء ما لم تثبت إدانته، ويعود الفضل في وضع هذه القاعدة الرحيمة إلى نبي الرحمة محمد ،حتى صار هذا التوجيه الرحيم من أجلَّ القواعد الشرعية التي وُفق القضاة والحكام في تطبيقها بأسلوب يحقق العدالة والرحمة في آن واحد.
فهمنا من الأمثلة التي عرضنا لها، وأعرضنا عن كثير من أمثالها، اختصاراً أن الرحمة كانت مقدمة عند النبي ، وينظر إليها على أنها واجب، من حقها أن تزاحم غيرها من الواجبات، وهذا وجه مشرق ولا ريب، هنا رفع أحد الحضور يده قائلاً : إن بعض الأفراد قد يرون فيه وجهاً آخر سلبياً، من حيث إن هذا المنهج قد يشجِّع على التجاوزات، ويُرغِّب في المخالفات، فما رأي المحاضرة الكريمة بهذا الكلام ؟
شكرت الدكتورة سارة صاحب المداخلة وأجابته بقولها: هذا طرح جميل، وتدعو الحاجة إلى التعرض إليه بالتحليل، ويحسن بنا أن نذكر بدايةً، أن النبي ذم الغلو، من حيث هو، أينما وجد، وعلى أية هيئة كان، وقد قالها صراحة: إياكم والغلو(1)، وهو تجاوز الحد، المفضي إلى الفساد، لأن الفضيلة وسط بين رذيلتين.
فالغلو في الرحمة، من حيث الإفراط في استحضارها والحث على الأخذ بها، دونما اعتبار لما يلحق بها من ملابسات، لا تقل مفسدته عن التفريط فيها، حين تدعو الحاجة إلى تقديمها لتؤدي الغرض المنوط بها.
أنجز النبي الرحيم ـ بهذا المنهج الذي يتضح من أقواله وأفعاله ـ ما عجز عنه من سبقه من العظماء، فهم بين قائد اشتهر بحروبه، وتميز بقوته، كالإسكندر، وهولاكو، ولم تكن للفضائل في سيرتهم مكانة تذكر وبين داعية إلى الفضائل والرحمة والتسامح وحسب.
لا يفلح أي من المسلكين في البقاء، ولا يحمل في مضامينه عوامل الإغراء به دوماً. فجاء النبي بالمنهج المتوازن، الذي جمع بين القوة والرحمة، ومزج بينهما بطريقة غاية في الروعة، ولهذا تم له ما أراد، ورأينا القوة وهي تحمي الرحمة، كما رأينا الرحمة وهي تهذب القوة، وتحاصر فيها مظاهر الشر.
لقد وضع النبي الرحمة في نصابها الحق، وأعملها في المواطن التي تدعو إلى استحضارها، لهذا أدت أحسن النتائج، دونما إهمال، أو إغفال، للحزم والمحاسبة والقوة، ولا أحسب أنه مرَّ بنا حادثة قدَّم فيها النبي الرحمة، وأعملنا فيها النظر إلا خرجنا بهذا الانطباع.
بين أيدينا حوادث تشهد لما تقدم لم تقوَ الرحمة على أن تكون صاحبة الكلمة الفصل فيها، لاعتبارات سوف تبدو لنا، فهذا أحد اللصوص يسرق في عهد النبي فلما رفع أمره إلى النبي أمر بقطع يده، ثم رأى الصحابة أثر الألم، والتأثر على وجهه فقال بعضهم، هلاَّ عفوت عنه يا رسول الله، فقال: كان هذا قبل أن يرفع الأمر إليَّ، أما وقد رفع فلا (1).
وحدث أن سرقت امرأة من أشراف الناس، فرفع أمرها إلى النبي ، فتكلم الناس في شأنها، عسى أن يعفو عنها النبي ، فقالوا من يجترئ عليه إلاَّ أسامة بن زيد حبيبه؟
فكلمه أسامة، فقال له رسول الله : أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فخطب، وجاء في خطبته، قوله: إنما أهلك الذين قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها(2).
حادثتان تؤكدان بجلاء، أنه إذا استهدفت القيم والثوابت، تعذر إعمال الرحمة في هذه المواطن، فالحادثة الأولى تمنى فيها النبي أن لا يرفع إليه أمر السارق، أما وقد رفع فلا يجوز للحاكم أن يعطل تنفيذ الأحكام حتى لا تكون حجة لمن بعده من الحكام.
أما الثانية، فإن المرأة التي سرقت من أشراف القوم، وعليتهم، فكانت الرحمة بها تحمل في طياتها إضاعة العدل بين الناس، واستحضار الطبقية والتمايز، وهو ما لا يرضى به النبي بحال، ولهذه الاعتبارات نفذ الأحكام، وتناسى بكل أسى الرحمة في هذين الموطنين.
ولا يفوتني أن أذكر لكم، أن هذه المرأة صار لها حظوة في بيوت النبي فقد كانت تتردد على بيت عائشة زوج النبي وتعرض عائشة حاجاتها على النبي الذي كان يسارع إلى الاستجابة لها، تقديراً لظروفها ورعاية لحالها، من أجل رد الاعتبار لها رحمةً بها، فليس في الإسلام ما يسمى بأصحاب السوابق، بخلاف القانون الوضعي، الذي يلاحق الجاني، حتى بعد معاقبته، وصلاح حاله.
حرص النبي على هيبة الإسلام، أمام خصومه، حتى لا يطمع منهم طامع، أو يتجرأ أحد على النبي وأتباعه حين يأمن هذا الخصم العقوبة، ويعتمد على العفو، وقد قيل قديماً من أمن العقوبة أساء الأدب.
يستدعي هذا غض الطرف عن الرحمة في موطن كهذا، وقد كان فقد أسر المسلمون رجلاً يدعى أبا عزة الجمحي، وكان شاعراً يحارب النبي بلسانه وسيفه في معركة بدر، فتوسل إلى النبي أن يطلق سراحه، ووعده أن لا يعود لقتاله أبداً، فرحم النبي حاله، وأطلق سراحه، دون أن يأخذ منه فداءً، على عكس ما فعل مع غيره.
حدث بعد سنتين، أن وقع الرجل نفسه أسيراً في غزوة حمراء الأسد ، التي أعقبت غزوة أحد، فعاد يتوسل إلى النبي ويرجوه أن يطلق سراحه مرة ثانية، فأبى النبي وقال له: (والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها، وتقول خدعت محمداً مرتين، وقال له: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ثم أمر بقتله(1)).
هذا التصرف من النبي يصب في مصلحة الرحمة، ويعزز من مكانتها في النفوس، لأنه يعطي درساً واضحاً للناس، لكي لا يغتر أحد فيتمادى في الشر معتمداً على أن الرحمة ستحول بينه وبين أي عقاب محتمل، فإذا كان هذا الرجل قد دفع حياته بسبب سوء تقديره، وقبح تدبيره، فإنه فيما وقع منه وفيما حدث له رحمة لغيره، وفي الحادثة رحمة بالرحمة نفسها، حتى لا تفرغ من مضمونها ويبطل مفعولها.
ولا أخفي عليكم، أن هذا الحدث لم يكن الوحيد، فقد تبعته بعض أحداث مماثلة، تكررت فيها الدوافع والملابسات، حتى تعذر على بعض الناس التوفيق بينها وبين صور الرحمة، ومظاهرها في حياة النبي .
أعجبني في هذا المقام، تحليل للأستاذ العقاد، جاء فيه (من خصائص العظمة النبوية في محمد أنه وصف بالنقيضين على ألسنة المتعصبين من أعداء دينه، فهو عند أناس منهم، صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال، وهو عند أناس آخرين، صاحب قسوة، تغريه بالقتل وإهدار الدماء البشرية من غير جريرة، وتنزه محمد عن هذا وذاك.
فإذا كانت شجاعته عليه السلام تنفي الشبهة في رقة الضعف، والخوف المعيب، فحياته كلها من طفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء، إذ كان في كل صلة من صلاته بأهله، أو بمرضعاته، أو بصحبه، أو بزوجاته، مثلاً للرحمة التي عز نظيرها في الأنبياء(((1.
يدفعنا هذا الكلام، للحديث عن مسألة منهجية، تتصل بدراسة بعض المفكرين غير المسلمين، لسيرة النبي محمد ، فإن من يقرأ كتاباتهم، بهذا الشأن، يشعر أن عدداً منهم يسلط الضوء على جانب واحد من سيرة النبي ، ربما عن قصد أو غير قصد، ليقدمه للناس بهذا الوجه فقط.
يعد هذا المسلك أياً كان الدافع إليه جناية على الحقيقة، وعدم احترام لعقل القارئ. إنه يذكرني بكتاب أ. شيللر المتلاعبون بالعقول.
إن من يقلِّب صفحات سيرة النبي محمد ، باحثاً عن أدلة تؤكد رحمته، وعفوه، وتسامحه، سوف يجد هذه الصفحات طافحة بها، ومن يبحث عن أدلة تتضمن أن النبي كان قوياً وحازماً وقتل أشخاصاً، ولم يستجب لتوسلاتهم، سوف يجدها أيضاً.
لكن لن يجد أي من الفريقين، وسيلة يمكن من خلالها إخفاء وجه، في هذه السيرة لحساب وجه آخر، وربما لن يجد بعضهم الأهلية العلمية، أو المنهجية، الحيادية، لدفع تعارض متوهم بين هذه المواقف، وهذا الذي دفع الأستاذ العقاد إلى القول بأن العظمة تبدو في عيون الأعداء تناقضاً.
اسمحوا لي أعزائي الحضور .. أن أستطرد قليلاً للحديث عن مسألة ذات صلة بما نحن بصدده، تلكم هي النظرة إلى نبي الرحمة من قبل بعض المجتمعات غير الإسلامية، حين يصور على أنه قاس، ويقيد الحريات، ويعاقب على الأخطاء، بخلاف المسيح.
لقد قرأت في هذا الموضوع، تحليلاً جديراً بالذكر هنا أقتطف منه الأسطر التالية (عندما سيطر الفكر النفعي على الشخصية الغربية، أصبح التعلق بشخص المسيح، يمثل قمة النفعية، لمن اختاروا التدين، فهو قد قام بدفع فاتورة خطاياهم، حتى قبل أن يقعوا فيها، وأبقى لهم الحياة لكي يمارسوا فيها ما شاءوا من أفعال، ما دام أن محبة المسيح ـ كفرد وكإله عندهم ـ تسيطر على مشاعرهم.
أما من تركوا الدين المسيحي بأكمله، وأصبحوا لا دينيين، أو ملحدين ـ فقد كان المسيح بعد تحريف الدين أيضاً مركزياً في مواقفهم الفكرية، فهو فرد ، وبالتالي لا يمكن أن يختلف عن غيره من البشر.
ثم إن المسيح بصورته التي قامت الكنيسة الغربية بتصويرها، رحيم منعزل عن حياة الناس، يقبل بكل معايير الحياة الإنسانية ـ كما يريدها الناس أنفسهم ـ ولا يدعو إلاَّ إلى الحرية والمساواة، وهي أهم قيم العلمانية، ولا تصادم من تركوا الدين، وبالتالي فلا حاجة إلى مصادمة المسيح)(1).
إذا كان المسيح بهذه المواصفات، فإن النبي محمداً على نقيضه، هكذا يصوره خصومه، ليصرفوا الناس عن محبته، ومتابعته، ومما يؤسف له، أن هذه الأوهام، قد تسللت إلى عقول الكثيرين في المجتمعات الغربية بخاصة، بعد ضعف الرغبة في التدين لديهم.
من كانت هذه حالهم، يحبون من يتركهم يعملون ما يحبون، دون رقيب، أو حسيب، وهو المسيح برأيهم، وينفرون ممن يطلب منهم التزامات، وتكاليف، ويحاسبهم عليها، وهو النبي محمد برأيهم.
يؤسفني أن نسمع هذا الطرح الساذج، والذي لا يليق أن يلقى على أسماع أناس يحترمون عقولهم، إنه كلام يسيء أول ما يسيء إلى السيد المسيح، حين يقدم للناس على هذه الهيئة، التي تفقده صفة النبوة، وصفة المصلح، وصفة المربي الغيور ، وتجعل منه مجرد جسر للشهوات، وحامل للخطايا.
اسمحوا لي أن أُذكِّر بمثال، هو أقل من مستواكم، فأرجو المعذرة مسبقاً.
لو كان عندنا طبيبان في الحي، أحدهما يحاسب مرضاه، ويراقب أوضاعهم، ويصارحهم بمرضهم، ويصف لهم العلاج المر أحياناً، ويمنع عنهم أشياء محببة إليهم، ويتدخل في بعض خصوصياتهم.
وطبيب آخر ـ إن وجد فعلاً ـ يجاري مرضاه، فيما يرغبون، لا يمنع عنهم شيئاً، ولا يعتب عليهم حين يرى منهم خطأً يلحق الضرر بهم، ولا يكشف لهم عن وضعهم الصحي، ولا يحذرهم إن دعت الحالة تحذيراً.
أيهما أشد حرصاً على مرضاه ؟، وأيهما الذي أدى الأمانة؟، وأيهما يحوز على احترام الناس، ولو بعد حين؟، وأيهما يكون رحيماً بمن حوله ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة التي لا أعتقد أنه يختلف بشأنها اثنان، كفيلة أن تكشف سذاجة تلك التصورات، التي يسعى بعض المتلاعبين بالعقول، إلى الترويج لها.
أما أنا ـ تقول الدكتورة سارة ـ فأرى أن المنصفين، ولا أقول الأصدقاء فقط، ينظرون إلى ما سمي تناقضاً، على أنه توازن، ووسطية، وتكامل.
إن هذه المواقف التي سجلها لنا التاريخ من سيرة النبي محمد صارت نظرية أخلاقية، تجاوزت الزمان والمكان والبيئة، وحفظ التاريخ لها مكانتها.
لكم مني أعزائي الحضور كل الشكر والتقدير على حسن الاستماع، وإلى اللقاء في محاضرة قادمة.
المحاضرة السابعة الحرب الرحيمة
هذه هي المحاضرة السابعة للدكتور سارة، وما زال الحضور هو الحضور، وكثر الحديث عن هذه المحاضرات، في بعض المنتديات، إضافة إلى كتابات في صحف ومجلات، تضمنت بمجموعها الثناء عليها، وإن ظهر في بعضها نقد لها، بحجة أنها تتوسع في إيراد النصوص وفي التحليل أحياناً، واحد فقط ممن كتب عن هذه المحاضرات، قال إنها عاطفية.
قد علق كاتب في جريدة الجامعة، وقال هناك خلط بين العاطفية والعائلية، فهذه المحاضرات كأنها وجبات عائلية، تصلح أن يتداولها أفراد العائلة جميعاً، لكنها تبقى فيما يبدو وجهات نظر، كانت هي نفسها محل إعجاب البعض الآخر، بخاصة أولئك الذين لديهم اهتمامات مسبقة بهذا الموضوع.
لم يصدر عن الدكتورة سارة تعليق قط، على ما قيل بشأن محاضراتها هذه، وهو ما استرعى انتباه كثير من المتابعين، وكان بودهم، أن يسمعوا منها شيئاً، لكن لم يشأ أحد منهم أن يطرح هذا الموضوع، أو يسأل عنه.
افتتحت الدكتورة سارة محاضرتها، كعادتها بالترحيب بالحضور، ثم بدأتها قائلة :
سبق الحديث في محاضرة سابقة، عن صلة الأخلاق بعضها ببعض، وقد نقلنا حينها رأي بعض علماء الأخلاق، والذي جاء فيه أن الشخصية الإنسانية ليس بمقدورها أن تبرز في خلق معين، ليصبح علامة فارقة لها ما لم تمارس هذه الشخصية ابتداءً غيرها من الأخلاق، وتتلبس بالقيم عامة، وذكرنا حينها مقولة بعض العلماء، إن الأخلاق يقوي بعضها بعضاً، وهو ما يشهد للرأي السابق.
أردت أن تكون هذه الأسطر، مقدمة لموضوع اليوم، ولعلكم تذكرون أن أحد الحاضرين ألمح إليه قبل عدة محاضرات، وقلت له حينها إنه جانب أصيل من موضوعنا، وسوف نعرض له بشيء من التفصيل.
ولكن يبدو لي أني مضطرة قبل أن أعرض لهذا الموضوع، ولصور الرحمة المصاحبة له، إلى أن أتحدث قليلاً عن فلسفة الحرب في سيرة النبي محمد ، ولا أخفي عليكم أني لا أرغب في الحديث عن الحروب، وأحسب أنكم تبادلونني الشعور نفسه، ولا تحبون الاستماع إلى ما يتصل بهذه الحروب، التي زكمت الأنوف، برائحتها الكريهة، في عصر خبثت فيه السرائر وعميت فيه البصائر.
لقد أصابنا اكتئاب من أخبار الحروب، والمناظر المصاحبة لها، من دماء وأشلاء، ودمار حتى يُخيل لنا أن البشرية فقدت صوابها، ولم تعد تدري لماذا القاتل يقتل، ولمَ المقتول قتل، ولا لمَ الظالم ظلم، ولا كيف المظلوم انتقم.
إن كراهيتنا للحرب، وأخبارها، وآثارها، لهي من أهم الأسباب التي دفعتنا للحديث عن الأخلاق، وبخاصة خلق الرحمة منها، لتذكر البشرية التائهة، أن ثمة خلقاً في الأرض يسمى الرحمة، قد يغني في مواطن كثيرة عن الحرب، والكراهية، ولتعلم البشرية أيضاً أن ثمة شخصاً تمثلت الرحمة في سيرته كلها، وكانت السلاح الذي حارب به خصومه، في مواطن عدة ، حين حاربوه بالقوة والقسوة، والوسيلة التي جذب فيها كثيراً من الناس إلى دعوته، ونجح في نشر ثقافة الرحمة بين الناس.
لكن ما العمل إذا كان الحديث عن الرحمة، يمر أحياناً عبر الحديث عن الحرب، وما فيها من هم وكرب، وأرجو أن لا يفهم أننا ننساق خلف العاطفة، ويغلبنا الشعور بالإنسانية، لدرجة أننا نتجاهل قضية الصراع بين الخير والشر في هذه الدنيا، أو نتغافل عن الأسباب التي تؤدي إلى الصراعات سواء ما كان منها مقنعاً أو غير مقنع، مشروعاً أو غير مشروع.
أود أن أعرض ما لدي عن موضوع الحرب في سيرة النبي محمد على هيئة نقاط، حتى لا يأخذنا الحديث إلى حيث لا نريد، بخاصة أننا أمام موضوع تضطرب فيه الآراء، وتؤثر فيه الأهواء.
أولا : لقد ثبت لدي أن النبي أذن بالقتال لأصحابه بعد مرور خمسة عشر عاماً على دعوته، فإن القتال شرع في السنة الثانية من الهجرة، على قول أكثر العلماء(1). وهذا يعني أن السنوات التي حارب فيها ثمان سنوات فقط ، لأن دعوة النبي كما لا يخفى، كانت ثلاثة وعشرين عاماً.
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الثقافة السائدة آنذاك، تنص على حرمة القتال في الأشهر الحرم، وهي أربعة: ﭽ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﭼ [التوبة : 36].
وكانت هذه الثقافة محل احترام المسلمين، وخصومهم، إذا أخذنا هذا بعين الاعتبار، كما أسلفت يسقط من الثماني سنوات قرابة ثلاث سنوات، وهي مجموع أربعة أشهر من كل سنة على مدى ثماني سنوات، فتكون المدة الإجمالية التي يمكن للنبي أن يقاتل فيها عدوه هي خمس سنوات فقط من سيرته الطويلة التي امتدت ثلاثة وعشرين عاماً كما أسلفت.
ثانياً : إن عدد المعارك التي خاضها النبي ، بلغ تسع معارك فقط، إضافة إلى نشاطات قتالية محدودة، كان يكلف بها أعداداً من أصحابه لإنجاز مهام محددة، لم يكن في أغلبها قتل أو قتال.
لقد اجتهد عدد من العلماء في إحصاء الخسائر البشرية للمعارك التي حصلت في عهد النبي ، وحصل تضارب في الأرقام التي وردت عنهم، وكان أعلى هذه الأرقام لا يزيد على 1048 شخصاً من الأطراف جميعها، ولعل ثمة اعتبارات كان لها أثر في إحصاء كل باحث، ولكن ثبت لدي أن العدد لا يتجاوز المئات، على أعلى تقدير، خلال ثماني سنوات، وفي تسع معارك، وعدد من الحملات الصغيرة المحددة.
أما ونحن في مجال ذكر الأرقام، فلا بأس أن نذكر عدد من قتلوا في الحربين العالميتين الأولى والثانية فقط .
الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العظيمة، أو الحرب التي أنهت جميع الحروب، هي تلك الحرب التي قامت بين عامي 1914م إلى 1918م، تم استعمال الأسلحة الكيميائية، في تلك الحرب، لأول مرة، ولم يحرك العالم عدداً من الجنود، مثلما حرَّك
في الحرب العالمية الأولى، وتم قصف المدنيين، من السماء لأول مرَّة في التاريخ، وتمت فيها الإبادات العرقية: (9 مليون عسكري، 7 مليون مدني، المجموع 17مليون نسمة).
الحرب العالمية الثانية، بدأت في عام 1937م، في آسيا، وفي عام 1939م في أوروبا، وانتهت الحرب في عام 1945م، باستسلام اليابان، تعد الحرب العالمية الثانية من الحروب الشمولية، وأكثرها كلفة في تاريخ البشرية، لاتساع بقعة الحرب، وتعدد مسارح المعركة، فكانت دول كثيرة، طرفاً من أطراف النزاع، فقد حصدت الحرب العالمية الثانية زهاء 60 مليون نفس بشرية، بين عسكري ومدني: (25 مليون عسكري، 37 مليون مدني).
نعم أعزائي الحضور، اسمعوا بكل حسرة وألم 77 مليون شخص قتلوا في حربين فقط، خلال 12 عاماً تقريباً، منهم 44 مليون مدني، يعني أكثر من ثلثي القتلى من المدنيين.
وفي عصر الرحمة في عهد النبي قتل قرابة 1000 شخص من أتباع النبي وخصومه، لا يكاد يوجد بينهم مدني، في تسع معارك كبيرة، ومواجهات صغيرة ، على مدى 23 سنة من مواجهة النبي لخصومه.
واسمحوا لي أن أكرر في هذا المقام، بعد الذهول الذي أصابنا من هذه الأرقام، عبارة د. نعوم تشوسكي (لقد انتزعت هذه الحقائق من التاريخ، وعلى المرء أن يصرخ بها، ويعلنها على رؤوس الأشهاد)(1).
ثالثاً : إن النبي كان يتجنب القتال ما وجد إلى ذلك سبيلاً، اجتناب القوي ذي الإمكانات، لعلمه أن دعوته حققت، وتحقق نجاحات كثيرة، دونما حاجة إلى قتال، وهذه حقيقة أكدتها خمس عشرة سنة مضت دون قتال، وكانت ذاخرة بالإنجازات.
ولا بأس أن نمثل لصحة هذا التوجه، بما حصل في أول معركة خاضها النبي مع خصومه في مكة، فقد خرج لا يريد قتالاً، وهذه حقيقة سجلها القرآن الكريم، حين قال في شأنه وشأن أصحابه: ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﭼ [الأنفال: 7]، فكشفت هذه الآية، عن عدم رغبة النبي في القتال لكنه لما وصل اضطر إليها، ولم يجد منها بداً، وما كان للنبي أن يهرب من وجه عدوه بحال.
وتمنى قبيل بدء المعركة بساعات، أن تؤوب قريش إلى رشدها، وتعدل عن المواجهة، ويدل على هذا بوضوح قول النبي قبل بدء المعركة بساعات لمن معه ( إن كان عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا)(2). ويعني به عتبة بن ربيعة، الذي كان يسعى لإقناع قريش بالعدول عن الحرب، لكنه لم يتمكن، وغلبه على رأيه أبو جهل وأضرابه.
كان أحياناً يغير طريقه تجنباً للقتال، كما حصل حين توجه مع أصحابه إلى أداء العمرة، وكان يجعل بينه وبين خصومه وسيطاً ليقنعهم بأضرار الحرب، ورغبته في السلام، وهو ما حصل قبيل صلح الحديبية(3).
وكان النبي يفضل عقد المعاهدات مع خصومه، ويسارع في إبرامها ليغلق الباب أمام الحرب، وتكاد المعاهدات تبلغ عدد الغزوات، وما هذا إلاَّ لحرصه على تجنب الحرب.
رابعاً : كان النبي إذا اضطر إلى القتال، فلا يقاتل إلاَّ دفاعاً عن النفس أو الأرض، حتى وإن بدأ هو بالقتال ، فإذا سمع بخطر داهم، أو بلغه أن قوماً يعدون العدة لقتاله، سعى لقتالهم، وهو بهذا يلتزم التوجيه القرآني الواضح: ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭼ [البقرة:190].
هنا رفعت إحدى الحاضرات يدها، فأذنت لها بالكلام، فعرَّفت بنفسها بصوت غير مسموع، وقالت إنها تعمل في مجال رعاية الطفولة، ولديها معلومة مفيدة، في هذا المجال، ترغب في ذكرها، فرحبت الدكتورة بعرضها. فقالت المتحدثة:
قرأت في بحث كان قد قُدم إلى ندوة حول الطفولة، وعندي في مكتبي نسخة منه، قرأت فيه أن النبي كان يمنع خروج الأطفال معه إلى القتال.
فقد حدث أن النبي لما خرج إلى معركة بدر، نظر إلى الجيش، وإذا فيه غلامان صغيران، هما عبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، فأمرهما النبي بالعودة إلى المدينة(1)، كما خرج من معركة أحد خمسة عشر صبياً وأعادهم إلى بيوتهم، مع أنهما حاولا الوقوف على رؤوس الأصابع والتطاول ليبدوا كبيرين، ولكن لم تفلح خطتهما، فقد أصر النبي على عودتهما، مع أنه لم يكن يجزم بأنه سوف يقاتل، ولكن تحسباً لوقوع قتال، كان لابد من تجنيب الأطفال هذه المخاطر رحمةً بهم.
ثم وقفت صاحبة المداخلة وقالت: هل تسمحين بالمواصلة، أجابتها الدكتورة حالاً نعم، نعم تفضلي واصلي حديثك، ولكن اسمحي لي بدقيقة واحدة، أذكر فيها ـ حتى لا أنسى ـ أن نبي الرحمة ، كان حريصاً على جنس الأطفال وليس على أطفال المسلمين فقط، فقد نهى بشدة ، أن يقُتل أحد من أطفال الأعداء، حين قال لخالد بن الوليد ، أحد قواده: (لا تقتل وليداً، ولا امرأة، ولا عسيفاً)(2) أي خادماً
واصلت صاحبة المداخلة حديثها، فقالت: في مقابل هذا فقد نشرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) أن 300 ألف طفل يعملون جنوداً في الجيوش ويشاركون في المعارك(1).
وسبق أن ذكرتِ لنا في المحاضرة الأولى، أن منظمة أطباء العالم غير الحكومية، ذكرت أنه قتل أكثر من 2 مليون طفل خلال السنوات الماضية، من جراء الحروب والصراعات.
وهذا يشجعني على أن أقترح أن يضاف إلى النقاط التي تفضلتِ بذكرها، نقطة تتحدث عن حرص النبي على إبعاد المدنيين من أطفال، ونساء، عن الحروب، ولهذا لم يكن في حروبه ضحايا مدنيون.
بعد أن استمعت الدكتورة إلى هذا الحديث، بكل عناية واهتمام، قالت للمتحدثة، أرجو منك أن تتفضلي إلى المنصة عندي، لإعادة هذا الكلام الرائع، والذي أعتبره جزءاً مهماً من محاضرتي، وسوف أثبته فيها.
ترددت المتحدثة بتلبية الدعوة، وحاولت الاعتذار، لكن الدكتورة أصرت عليها، لسبب وجيه، قائلة إن أغلب الحضور لم يستمعوا إلى كلامك المفيد، فصار حضورك إلى المنصة ضرورياً، لتعم الفائدة، حيث إني رأيت أن يكون كلامك هذا هو النقطة الخامسة ضمن هذه النقاط، تقدمت المتحدثة على خجل، وأعادت كلامها أمام الحضور، الذي قابله بإعجاب واستحسان.
وما أن انتهت من كلامها، حتى شكرتها د. سارة مرة أخرى باسمها، وباسم الحضور، وما أن انتهت المتحدثة من مداخلتها، حتى وقف أحد الحاضرين، وقال يبدو أن الوضع العام يشجع على المداخلات، فأرجو أن تسمحي لي بذكر شيء طريف أعجبني، يدل على حرص النبي على الأطفال، وحرصه عليهم. فقالت له تفضل، فقال روى أنس بن مالك ، أن النبي قال للآباء والأمهات (كفُّوا صبيانكم عند فحمة العشاء، وفي رواية إذا غابت الشمس)(1) ، فأنا أفهم من هذه النصيحة النبوية، أن النبي كان يرغب أن يأوي الأطفال إلى البيوت قبل مجيء الليل، لأن الليل لا يخلو من مخاطر متنوعة. قد تعرِّض الأطفال للأذى.
فأي رحمة أظهر من هذه التي يبديها النبي تجاه الأطفال، نتمنى أن نرى مثل هذا التوجه عند أولياء الأمور في عصرنا هذا، وشكراً لكِ على إتاحة هذه الفرصة.
شكرت د. سارة المتحدث على هذه المعلومة الطريفة المعبرة، وطلبت إدراجها ضمن مادة المحاضرة، وقالت:
لقد تذكرت حادثتين يحسن ذكرهما هنا، فهما مناسبتان لهذا المقام.
الأولى : وقد مرت بنا، وهي قصة أول شهيدة في الإسلام، سمية بنت خباط، فإن أعداء النبي لم يترددوا في قتل امرأة ، في حين لما رأى النبي في إحدى معاركه امرأة من أعدائه مقتولة، غضب ونهى عن قتل النساء.
فقد مرَّ النبي بامرأة مقتولة في غزوة حنين، والناس مزدحمون حولها، فقال النبي ما هذا ؟ قالوا امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله ما كانت هذه تقاتل، وقال لبعض من معه، أدرك خالداً فقل له إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة أو عسيفاً يعني خادماً.
ما أن انتهت من كلامها، حتى استدرك أحد الحاضرين قائلاً: لقد قرأت أن المرأة كانت تخرج مع النبي في حروبه، فهل هذا صحيح، وإذا صح، كيف نوفق بينه وبين ما تفضلتم بذكره.
قالت هذا صحيح، فقد وقفت على نصوص تدل على هذا، وأنا أقرأ عن موقف النبي من المرأة، ولكن ما ينبغي أن يعرف هنا، أن المرأة كانت تبقى في مؤخرة الجيش، تسهم في تقديم العلاج والماء، وكانت بعيدة في الأصل عن ميدان القتال، وفي هذا تكريم لها، حين أعطيت الفرصة لتقديم خدماتها، وفيه رحمة بها، حين أُبعدت عن القتال.
أرغب أعزائي الحضور في العودة قليلاً إلى موضوع عدم سماح النبي للأطفال بمرافقته إلى ساحة القتال فإنه لا يحسن بأحد أن يتملكه العجب، وهو يرى هذه الصورة الحانية على الأطفال من النبي الكريم الرحيم.
لقد كان من مظاهر رحمته أن يطيل في سجوده حرصاً على طفل ركب على ظهره وهو ساجد, مخافة أن يسقط عن ظهره، وهذا الطفل هو ابن بنته فاطمة(1).
الثانية : أن أصحاب النبي رأوه يحمل الطفلة، أمامة بنت ابنته زينب، فإذا سجد وضعها على الأرض بجانبه، وإذا قام حملها معه(2)، وربما كان يفعل هذا مخافة أن يلحق بها أذى رحمةً منه بها، وشفقة عليها، فهل يتصور ممن هذا تعامله مع الأطفال، أن يسمح لهم بالذهاب معه إلى القتال.
أعزائي الحضور ..
إن هذا النبي الرحيم الذي أبى أن يرى أماً من الطير تفجع بفرخيها الصغيرين، فأمر أصحابه برد فرخيها إليها، كما مر بنا لا يتصور منه بحال أن يفجع أماً من بني البشر بولدها، ولهذا رد الغلامين كما أسلفنا.
اسمحوا لي أن أوجه باسمي واسمكم، نداءً عاجلاً، ونصيحة خالصة إلى البشرية، للبحث عن النبي محمد ، فإن لم تجده بشخصه، فإنها قطعاً ستجده من خلال مبادئه السامية، التي لم تكن البشرية أحوج إليها، كما هي في أيامها هذه.
يفهم من هذا المسلك أن النبي لم يكن يقاتل أفراداً، وإنما كان يقاتل سلطة، إذا تركت قد تشكل خطراً على الإسلام وأهله، فكان لابد من إزالتها، لفتح المجال أمام الأفراد لاتخاذ ما يناسبهم من قرار، ومنحهم فرصة الاختيار دونما مؤثرات خارجية.
يقول الأستاذ العقاد (إن الإسلام إنما يعاب عليه، أن يحارب بالسيف، فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان، والإقناع، ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف سلطة تقف في طريقه، وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إليه، لأن السلطة لا تزال إلاَّ بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة)(1).
لقد سبق الحديث في محاضرة سابقة، أن المبادئ تحتاج إلى قوة، تساندها في مواطن كثيرة، لا لفرضها على الناس، ولكن لحمايتها، وإزالة العقبات من أمامها.
إن الغرب لم يلتزموا بالمنهج الذي وضعه السيد المسيح، والقائم على أن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ولقد شهد التاريخ على مدى عدة قرون، حروباً باسم المسيح، وهو منها براء، راح ضحيتها ملايين البشر، وليس من أحد ينكر هذه الحقائق المؤلمة، ولا أود التوسع في هذه القضية.
سادساً : كان للنبي نظام متميز في تجهيز الجيش، لمواجهة خصومه، فلم يكن يجبر أحداً على الخروج معه، وكان يأذن لمن يريد التخلف عنه حين يبدي أعذاراً شخصية، حتى وصل الأمر إلى أن يعاتبه الله تعالى قائلاً له: ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﭼ [التوبة : 43]، كأن النبي توسع في قبول الأعذار، حتى استغلها من لا عذر له أصلاً، وهم المنافقون، فجاء العتاب ليظهر الصادق من الكاذب.
لا يتعارض هذا التصرف مع رغبته في خروج أصحابه معه إذا خرج، ولقد بدا منهم الحرص الشديد على الخروج معه، حتى إنه كان يحدث خلاف بين الابن وأبيه في أيهما يخرج لرغبة الاثنين في مرافقة النبي ، كما حصل مع سعد بن خيثمة وأبيه يوم بدر(1)، وكما حصل أيضاً خلاف بين أبي أمامة وخاله في أيهما يبقى مع أم أبي أمامة المريضة، وقد مرت بنا هذه الحادثة.
إن الخروج عن رغبة واختيار،غير الإكراه على الخروج دونما اعتبار لظروف، وهو الذي نراه في الجيوش المتحضرة في الوقت الحاضر، حين يساق الجنود إلى المعارك سوقاً، وأكثرهم لها كارهون.
اتضح هذا المسلك جلياً، أيضاً حين طلب النبي من أحد القادة وهو عبد الله ابن جحش، أن لا يكره أحداً على السير معه، فقد كتب له كتاباً، جاء فيه (سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته، ولا تكرهن أحداً من أصحابك على المسير معك)(2).
كان النبي يأذن لأفراد بالتخلف عن الخروج للقتال معه، لأسباب شخصية، ذكرنا بعضها، وكان أحياناً يطلب من بعضهم التخلف، كما حصل مع عثمان بن عفان فقد أمره أن يتخلف عنه بسبب مرض زوجته(3)، وأذن لأبي أمامة بل طلب منه أيضاً أن يتخلف عنه ليبقى بجانب أمه المريضة، ومثل هذا كثير.
إن هذه السلوكيات عندما يجتمع بعضها إلى بعض، تشكل معلماً بارزاً، يدل بوضوح على أن القتال لم يكن هدفاً ملحاً للنبي ولا غاية في حد ذاته، فإنه لم يكن يوماً متعطشاً لقتل، أو قتال، ولم يغب عنه لحظة، أنه أرسل رحمة للناس، وأنه سوف يستعين بهذه الرحمة أكثر من استعانته بالسلاح، لمواجهة خصومه في بعض الميادين، وقد حصل هذا بالفعل.
إن مقولة علماء الأخلاق (إن الأخلاقية تعني فن السيطرة على الأهواء) تتحقق بجلاء في الفلسفة القتالية لدى النبي محمد فأين هو من كثير من القادة العظام، الذين عرفتهم البشرية، أمثال الإسكندر المقدوني، وهولاكو، ونابليون، وهتلر، وغيرهم ممن لا نستحضر ذكرهم.
قد قاتل هؤلاء جميعاً أناساً لا يوجد بينهم وبين هؤلاء القادة قضية، ولا خصومة أصلاً، لكن الدوافع الدنيوية، كالشهرة، والمصالح العامة والخاصة، جعلت هؤلاء القادة يدخلون أرضاً ليست أرضهم، ويقاتلوا أناساً أبرياء، ليسوا خصماً لهم، وكانت النتيجة قتل مئات الألوف، وتدمير مئات المدن، والمحصلة النهائية مزيد من القتل والدمار وعدم الاستقرار.
أما النبي محمد فإن قاتل، فإنه يقاتل من قاتلوه، وقاتلوا أتباعه، وأخرجوهم من أرضهم، وأخذوا أموالهم، فإنه في عرف الشرائع جميعها، محق فيما يصنع، ومع هذا لم يصدر منه تصرف واحد يدل على أنه صاحب شهوة، أو باحث عن شهرة في هذا الميدان.
دعا كل من المسيح والنبي محمد إلى الرحمة، والتسامح بين الناس، وأحسنا أيما إحسان ، لكن المسيح لم يتمكن من نشر ما يدعو إليه، ولا من تحقيقه على أرض الواقع، على الهيئة التي كان يريدها، لأنه لم يجد قوة تحمي الرحمة، وتفسح الطريق لها لتصل إلى الناس جميعاً، بسبب عداوة اليهود له، ووجود سلطة الرومان القاسية.
بيد أن النبي محمداً وجد هذه القوة، وأزال بها العقبات التي تقف في وجه انتشار هذه المبادئ السامية، كان استخدام النبي للقوة في بعض المواطن، دليلاً على شدة حرصه على نشر ثقافة الرحمة، والتسامح، والعدل، والإحسان، وإلاَّ كان بإمكانه أن يدعو إلى هذه الأخلاق، كما دعا غيره ممن سبقه من العظماء، ثم يترك الناس وشأنهم، من شاء تخلق بها، ومن شاء أعرض عنها، وعمل بنقيضها .
ما كان لنبي الرحمة المرسل رحمة للناس أن يسلك هذا المسلك بحال لأن البشرية ستكون الضحية، والإنسانية ستدفع الثمن غالياً، لقد كان قتال النبي رحمة، كي تسود بين الناس الرحمة، بلا عقباتٍ أو حدودٍ .
أعزائي الحضور ..
تجمع لدي معلومات ومقولات في أثناء إعدادي لهذه المحاضرات، احتفظ بها في أوراق جانبية، وكثيراً ما أجدني راغبا في إطلاعكم عليها، لأنها تكشف عن جانب من الإنصاف في دراسات من كتبوا عن النبي محمد من غير أتباعه، كما إنني أستأنس بعرضها، لأنها بصراحة تبعث الثقة في نفوس كثير من المستمعين، لهذا كله اسمحوا لي أن ألقي على مسامعكم هذه الأقوال لباحثين كبار لها صلة وثيقة بموضوعنا هذا، واعتذر مسبقاً إن كنت قد ذكرت بعضها في محاضرات سابقة.
يقول المستشرق الاسباني جان ليك (لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [الأنبياء : 107]، كان محمد رحمة حقيقية)(1).
ويقول الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل ( لدى محمد ذلك الرجل الكبير العظيم النفس المملوءة رحمة وخيراً وحناناً أفكـار غـير الطـمع الدنيـوي ونوايا خـلاف طلـب السلطة والجاه)(2).
ويقول كارليل أيضا ( لم تخل الحروب الشديدة التي وقعت له مع الأعراب من مشاهد قوة، ولكنها كذلك لم تخل من دلائل رحمة وكرم وغفران، وكان محمد لا يعتذر من الأولى ولا يفتخر بالثانية)(3).
ويقول المفكر اللورد هدلي ، وهو يعلق على معاملة النبي لأسرى معركة بدر (أفلا يدل هذا على أن محمداً لم يكن متصفاً بالقسوة، ولا متعطشاً للدماء، كما يقول خصومه، بل كان دائماً يعمل على حقن الدماء قدر المستطاع)(1).
ويقول العلامة الألماني برتلى سانت هيلر (كان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً، ورحيماً، حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجل الصفات، التي تحملها النفس البشرية، وهما العدالة، والرحمة)(2).
أعزائي الحضور .. ما زال الحديث موصولاً، بممارسة النبي الرحمة بكل مظاهرها، ولكن في ميدان آخر، يوم أن كثر أتباعه، وعظمت قوته، وتتابعت انتصاراته في هذه الأجواء ظهرت صور للرحمة باهرة من النبي لأعدائه الذين كانوا يناصبونه العداء، كانت موضع إعجاب، وربما تعجب.
ولا أخفي عليكم، أن من أسباب تتبعي لهذا الموضوع، وحرصي على الوقوف على هذه الأحداث، هو ما قرأته لبعض الكتَّاب الغربيين، من أن النبي محمداً كان في مكة، نبياً متسامحاً، ولما ذهب إلى المدينة، صار حاكماً ورئيساً لدولة، يتصرف كما يتصرف الزعماء(3).
اسمحوا لي أن أعود بكم إلى مكة، حين أقدمت قريش على عزل النبي وأتباعه وأقربائه، في وادي يسمى شعب أبي طالب، مدة ثلاث سنوات، منعوا عنهم الطعام، وحرموا الاتصال بهم، حتى أشرفوا على الهلاك هم ونساؤهم وأطفالهم، وربما أكل بعضهم الحشرات، والديدان من شدة الجوع(4).
وتمضي الأيام، ويهاجر النبي إلى المدينة، ويقيم دولة قوية يحسب لها ألف حساب، وإذا بثمامة بن أثال زعيم بني حنيفة من بلاد نجد يدخل في الإسلام، ويقرر من نفسه دعم موقف النبي وإضعاف أعدائه في مكة، فيتخذ قراراً بوقف تصدير القمح إلى قريش، ومعلوم أن مكة ليست أرضاً زراعية.
بدأ الرعب يدب في قلوب أهل مكة، حين هاجمهم شبح الجوع، فكتبوا إلى النبي،وقيل أرسلوا إليه وفداً، يرجونه أن يتدخل لدى ثمامة ليعاود تصدير القمح إليهم.
كان أهل مكة يعلمون أن النبي لم يكن في يوم من الأيام، قاسي القلب، أو جاسي الطبع، ولهذا قصدوه، في هذا الطلب، رغم خصومتهم له.
كأني بالنبي محمد تعود به الذاكرة إلى سنوات خلت، يوم أن حوصر هو وأتباعه وأهله من هؤلاء الذين يرجونه هذا الرجاء، الآن ويذكرونه بما بينهم من رحم، هذا الرحم الذي غاب عنهم يوم أن حاصروه ومن معه، وإذا بالرحمة تتحرك، ويكتب النبي إلى ثمامة أن يعود إلى ما كان عليه من تصدير القمح إلى قريش.
كان بمقدور النبي أن يعاملهم بالمثل، ويتركهم يعانون من الجوع، بخاصة أنه لا يد له في هذا الأمر، فإنه لم يأمر به، ولم يستشره ثمامة حين منع القمح عنهم.
لقد أبت رحمة النبي أن يعامل قريشاً بالمثل، وهو قادر على هذا، ويتكرر المشهد، حين أصاب قريشاً جدب شديد، كادت تهلك من الجوع، وإذا بهم يرسلون وفداً يطلبون من النبي أن يدعو الله أن يرفع عنهم هذا الجدب.
ويستجيب النبي لطلبهم هذا، ويدعو الله ربه، وتتحقق الاستجابة، ويزول عن قريش هذا البأس الشديد(1).
ينتاب المرء وهو يعيش مع هذه المواقف، شعور ممزوج بالعجب والسخرية من قريش، وربما بالضحك أيضاً، فإن خصوم النبي هؤلاء يعترفون برحمته، ويشاهدون مظاهرها، ويعلمون أن النبي يقدم الرحمة في كل موطن، ولهذا جاءوا إليه يتوسلون أن يعمل على رفع شبح الجوع عنهم، وعن نسائهم، وأطفالهم، عن طريق الدعاء، ومن خلال التوسط لدى ثمامة.
لقد كانوا على يقين أنه فاعل، ما طلبوا، ولقد فعل، ومع هذا استمروا في عداوتهم، وهنا أعود وأذكركم بمقولة الأستاذ العقاد، إن الناس اجترؤوا على العظمة بقدر حاجتهم إليها(1).
لقد مارس النبي الرحمة في بيئة تفتقدها، لكنه نجح في توظيفها لحل مشاكله مع خصومه، ويؤسفني القول مستمعي الكرام، إن هذه الرحمة ما زالت مفقودة ومعيبة في بيئات معاصرة، هناك من يحول دون ممارسة الناس للرحمة، والشعور بها، والسعادة بممارستها، حين يزين لهم المتلاعبون بالعقول، والعابثون بالعواطف، أن مصلحة هؤلاء الناس لا تتحقق إلاَّ بالقتل والتدمير، وإن أمنهم مهدد ما لم يتم الذهاب شرقاً وغرباً للقتل والتدمير.
ألا يمكن لمن أوتي قوة ومالاً وإمكانات أن يحل مشاكله إن وجدت ـ عن طريق المحبة والرحمة، وعندها يسعد القوي حين يمارس الرحمة، ويسعد الضعيف حين ينعم بآثارها الطيبة.
لقد قدم النبي نماذج للإنسانية، ستكون سعيدة للغاية لو التفتت إليها.
أذكر في هذا المقام عبارة جميلة قالها ديكارت، جاء فيها أن النبلاء أسياد غضبهم، وأن المتعجرف عبد لرغباته(2)، أي نبل أعظم من هذا، حين ترى الرحمة توجه مواقف النبي مع أشد أعدائه، صدق علماء الأخلاق، حين قالوا إن الرحمة ليست مجرد كلمة أو شعور ينتاب المرء، وإنما هي سلوك، وواقع له مظاهره(1).
وتمضي الأيام، ولا تتعظ قريش، ولا تقدر مواقف النبي ، فلما حصل صلح الحديبية بين النبي، وبين قريش وضعت قريش شرطاً صعباً على المسلمين شعروا أن فيه إهانة لهم.
يقول هذا الشرط إذا خرج أحد من أهل مكة مسلماً ولحق بالنبي في المدينة فيجب على النبي أن يرده إلى أهله في مكة، والعكس لا يكون كذلك، فيوافق النبي على هذا الشرط الشديد على النفوس.
أسلم عدد من شباب مكة أمثال أبي بصير وأبي جندل، ولحقوا بالنبي في المدينة، فطلبت قريش ردهم إليها، فطلب منهم النبي أن يغادروا المدينة تنفيذاً لشرط المعاهدة .
خرج هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم من المدينة، لكنهم لم يرجعوا إلى مكة، وإنما تجمعوا، وكانوا أقل من مئة بقليل في منطقة بين مكة والمدينة تسمى العيص، وصاروا يعترضون تجارة قريش المتجهة إلى الشام، فيقتلون من فيها من الرجال، ويأخذون الأموال، حتى كادت تتعطل تجارة أهل مكة، وشعروا أنهم في وضع سيء جداً لا يحسدون عليه.
مرة أخرى يرسل أهل مكة إلى النبي وفداً يتوسل إليه أن يرحم حالهم، وأن يطلب من هذه المجموعة أن تأتي عنده إلى المدينة، ويعلن خصوم النبي هؤلاء على الملأ أنهم تخلوا عن شرطهم، وإذا بالنبي يستجيب لهذا الرجاء، ويرحم حالهم، ويطلب من هذه المجموعة أن تترك موقعها وتأتي إلى المدينة(2).
لقد واجهت قريش النبي ومن معه بكبريائها وبشروطها التعسفية، وإذا بها تهزم، وتأتي إليه ذليلة، وإذا بالنبي يرد عليهم المواجهة بالرحمة، حين يشعر بأحوالهم المعيشية السيئة بسبب تعطل تجارتهم، فيطلب عدم التعرض لهم.
أعزائي الحاضرين ..
ألا يمكن القول إن النبي محمداً حارب أعداءه بالرحمة، وانتصر عليهم في مواطن عدة بها، وحاربهم كذلك بالتفضل عليهم، وعدم معاملتهم بالمثل، ورغبهم بالدخول بالإسلام، من خلال ممارسته لها، فهذا الحارث بن هشام يقول يوم فتح مكة، كنت أتوارى من النبي خجلاً منه، بسبب عداوتي له، قال ثم تذكرت بره، ورحمته، فلقيته في المسجد، وأسلمت، ففرح بي فرحاً شديداً(1).
إليكم هذه الحادثة الشهيرة، التي تؤكد بوضوح وجلاء ما قلته آنفاً، مرت ثماني سنوات على إخراج النبي وأصحابه من مكة، حين تركوها مكرهين، بسبب اضطهاد كفار قريش لهم، تركوها ولم يتمكن أحد منهم أن يأخذ معه شيئاً من أمواله.
لقد وصفهم القرآن وصفاً مؤثراً حين قال: ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ [الحشر : 8].
بعد هذه السنوات الثمان ، عاد النبي إلى مكة، ومعه عشرة آلاف من أصحابه بكامل عدتهم وعتادهم، دخلها على رأس هذه القوة العظيمة، وليس يدور في ذهنه إلاَّ الرحمة، وهو في طريقه إلى مكة، بلغ النبي أن أحد قادته العسكريين، وهو سعد بن عبادة، قال اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فقال النبي بل اليوم يوم المرحمة، وأخذ راية القيادة منه، وسلمها لابنه قيس بن سعد(2).
أعزائي الحضور ..
لعله استوقفكم هذا التصرف الحكيم الرحيم، حين أخذ الراية من سعد وأعطاها لابنه، فلو أعطاها لشخص آخر لتأثر ولحزن، أمَّا أن يأخذها ولده فهذا أمر يسر الأب كثيراً، ويسر الابن كذلك، فكان هذا التصرف رحمة من النبي بالوالد وبالولد ، ومن بعدُ بأهل مكة كلهم، إنها الرحمة الحاضرة في كل المواقف صغيرها وكبيرها.
يدخل النبي مكة، ويجد أهلها مجتمعين حول الكعبة ينتظرون مصيرهم، وما عسى أن يفعل بهم النبي وهم الذين آذوه، وأخرجوه، وقتلوا أشخاصاً من أحب الناس إليه، وإذا بالنبي يقول لهم: ما ترون إني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم أذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم(1).
أذكر في هذا المقام كلاماً كنت قرأته لبعض فلاسفة الغرب من أمثال هوبز ونيتشه، الذين بنوا الأخلاق على دعائم القوة، فهم يرون أن الرحمة حميدة، لأنها مظهر من مظاهر قوة الشخص، الذي يرحم من هو أضعف منه، وبينةٌ على استعلائه على أن يلقى الضعيف بما يلاقي به الأنداد الأقوياء)(2).
لو اطلع هؤلاء على سيرة النبي لربما أعادوا صياغة هذه النظرية، لأنهم سوف يرون أن النبي كان يلاقي الأقوياء الأنداد بالرحمة أيضاً، كما يلاقي الضعفاء، وهذا ظاهر من مواقف كثيرة مرت بنا، وهو ما يصعب على كثيرين استيعابه، لأنه مسلك غير مألوف في سير غالبية العظماء.
الرحمة لا غير، كان لها كلمة الفصل، الرحمة التي وسعت أهل مكة جميعاً باستثناء ستة أو سبعة أشخاص أهدر النبي دمهم لشدة عداوتهم للإسلام وأهله، ثم ما لبث أن عفا عن أكثرهم، حين كلمه بعض أصحابه بشأنهم.
الكاتب والمؤرخ "واشنجتون ايرفنج" ـ الذي يُعد من أوائل العلماء الأمريكان الذين عنوا بالحضارة العربية وتاريخها ـ تابع أحداث فتح مكة، واستوقفه عفو النبي عن ألد خصومه، فعلق عليه قائلاً :( كانت تصرفات الرسول في أعقاب فتح مكة تدل على أنه نبي مرسل، لا على أنه قائد مظفر، فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه، برغم أنه أصبح في مركز قوي، ولكنه توج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو)(1).
أعزائي الحضور ..
ظهر لي أن ثمة دافعاً قوياً، يكمن وراء هذه الرحمة، إضافة إلى ما سبق ذكره، إنه الحب، نعم إنه الحب، فقد ثبت لي، أن النبي كان يحب مخلوقات الله جميعاً. المؤمن والكافر والحيوان والطير.
إن الحب الصادق، يأتي بالعجائب، وليس من شك في حب النبي لأتباعه، أما حبه الخير للكافرين، فقد شهد به القرآن الكريم حين يقول الله لنبيه: ﭽ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭼ [الشعراء : 3]، أي كأنك تريد أن تهلك نفسك من شدة الحزن والأسى، لأن هؤلاء الكفار لم يؤمنوا.
لقد اشتد حزنه كثيراً، وبان أسفه شفقةً منه على هؤلاء، ورحمةً منه بحالهم، لأنه يعلم مصيرهم، إن ماتوا على الكفر، حتى قال الله له : ﭽ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﭼ [فاطر : 8]، أي ارحم نفسك يا محمد، ولا يكن حزنك بهذا الشكل، فقد أديت ما عليك، ولم تقصر معهم أبداً.
أرجو من الأعزاء الحضور، البحث عن الحب، في كل موقف مرّ بنا، من مواقف النبي المختلفة، وأنا على يقين أنكم سوف تجدونه ماثلاً أمامكم.
وفي مقابل هذا، فإن الكراهية تدمر البشرية، وأترك لكم استعراض شيء من مواقف بعض العظماء وصنَّاع الحروب قديماً وحديثاً.
ولا أدرى هل ستجدون فيها مظاهر الحب، أو مظاهر الكراهية.
في هذه الساعات التاريخية، وعلى الرغم من تتابع الأحداث، تتحرك رحمة النبي تجاه أحد أصحابه المقربين، إنه بلال ابن رباح ، الذي كان عبداً في مكة، يعذب فيها على رمالها الحارة بسبب إيمانه، وهو يردد أحد أحد.
هاهو النبي يرحم حاله، وكأنه ينظر إلى شريط الذكريات الذي يستعرضه بلال، وهو يدخل مكة بعد سنوات من مغادرته لها، وإذا بالنبي يطلب من بلال أن يصعد على ظهر الكعبة ليؤذن للصلاة.
بلال فوق الكعبة يرفع صوته بالأذان، ويردد كلمة التوحيد، التي عُذَّب من أجلها، أنه تكريم ما بعده تكريم، إنها الرحمة من النبي ببلال ليرد له كرامته، ويعيد له اعتباره في مجتمع طالما ظلمه، وقسا عليه.
إذا كانت رحمة النبي ببلال تثير الإعجاب، فإن رحمته بأبي سفيان تثير العجب، ناصب أبو سفيان النبي العداء منذ بداية الدعوة، وكان يتزعم قريشاً في حربها للنبي وأصحابه، فلما أحضر أبو سفيان بين يدي النبي قبيل دخوله إلى مكة، أراد النبي أن يحفظ له شيئاً من كبريائه، رحمة به.
أعلن النبي لأهل مكة أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن (1)، فكان لها أثر في جبر خاطره، وحفظ شيء من ماء وجهه، أمام أهل مكة لأن هذه الساعات كانت بداية النهاية لزعامة أبي سفيان.
فرأى النبي أنه محتاج للرحمة في هذا الموقف، وهو ما كان، ولعل هذا الموقف الرحيم، من النبي كان وراء إسلام أبي سفيان، وأدى إلى حسن هذا الإسلام أيضاً في نفسه وأسرته.
أعزائي الحضور ..
يحسن بنا أن نعرض لحادثة وقعت بعد فتح مكة، تشهد لما سبق ذكره، من أن النبي لم تكن تدفعه انتصاراته العظيمة إلى الإصرار على تحقيق المزيد منها، وإزالة أية قوة ما زالت أمامه، بأي ثمن كان، كما لم يكن يستغل حب أصحابه، ولا رغبتهم في القتال، لتحقيق شهرة، أو حسم معركة.
حاصر النبي والمسلمون الطائف فترة من الزمن، وكانت حصونهم منيعة قوية، وأصيب عدد من المسلمين عند أسوار الطائف، فرحم النبي حالهم، وأمر الجيش بفك الحصار، والرحيل، فضج الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف.
أراد النبي أن يشعرهم أنه إنما اتخذ هذا القرار رحمةً بهم لا غير، فقال لهم: (لا بأس اغدوا على القتال، فغدوا فأصابت المسلمين جراحات، فقال النبي بعدها إنا قافلون غداً إن شاء الله، فسروا بذلك، وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله يضحك، فقالوا له يا رسول الله أدعُ على ثقيف، فقال: اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم)(1).
لقد كان للرحمة أثر بارز في تغيير سير الأحداث، فهذه المعركة حصلت بعد فتح مكة، وبعد أن أصبحت القوة كلها بيد النبي ، فكان من المتوقع من منظور عسكري أن يصر النبي على هزيمة ثقيف، مهما كلف الأمر من خسائر، إذ لا يعقل أن يكسب معركة العاصمة مكة، وتستسلم له قريش بأكملها، ويقف على أبواب الطائف عاجزاً عن فتحها، وتبقى قبيلة ثقيف خارجة عن طوعه.
بيد أن النبي استحضر الرحمة بأتباعه، بسبب ما أصابهم من جراحات، ولم يلتفت إلى رغبتهم في القتال، فهم لهم حساباتهم، والنبي له حساب واحد، وهو الرحمة بهم، وكذا الرحمة بأعدائهم أهل الطائف.
إذ كان يتوقع النبي أن يستسلموا وأن يسلموا، فالمسألة مسألة وقت فقط، فلمَ القتال والقتل إذاً فالرحمة في هذا الميدان أولى، ولقد كان ما توقعه النبي ، فقد جاء أهل الطائف مسلمين طائعين، وكفى الله الجميع شر مزيد من القتال.
هذه أعزائي الحضور .. جولة أحسبها سريعة، على مواطن الحرب والقتال في سيرة نبي الرحمة وأحسبها تحمل رسائل حانية إلى الناس كل الناس.
الرسالة الأولى تقول : الحوار أولاً، والرحمة أولاً، ولتكن الحرب آخر ما يلجأ إليه، كما فعل نبي الرحمة .
والرسالة الثانية تقول: إن كان ولا بد من الحرب، فلتكن حرباً رحيمة، كما كانت حروب نبي الرحمة لا يكون الأطفال والنساء وقوداً لها، ولا حتى بعض من يحضرها، وليكن ضحاياها قلة قليلة.
والرسالة الثالثة تقول: لتكن الحرب وسيلة للتقريب بين الناس، وإزالة الحواجز، وتلك هي نتائج حروب نبي الرحمة لا أن تكون سبباً لمزيد فرقة، ولا لبث كراهية، ولا سبباً لحروب أخرى، لا يعلم لها نهاية.
أتمنى على البشرية أن تقرأ هذه الرسائل، فإنها بأمس الحاجة إليها، وحالها شاهد.
إن كل موقف مما مرَّ بنا، وإن بدا أنه فردي، أو عابر، إلاَّ أنه مظهر من مظاهر رحمة النبي محمد للبشرية، وحين يضع هذا الموقف بين أيدي البشرية، وحين يلزم أتباعه بها، فإنه يكون قد وضع سياسة عامة للبشر جميعاً، وهدفها التقارب والتعاون.
لقد نجح النبي في تحقيق هذه الأهداف، ونجح أتباعه في الالتزام بها، وفي ممارستها.
والبشرية كلها مدعوة إلى تأملها ، لعلها أن تنتفع بها، فهي كما قلنا، صارت منارات عالمية، لا يحدها زمان ولا مكان، وليست ملكاً لبيئة أو جنس بعينه.
*****
المحاضرة الثامنة وما أرسلناك إلاَّ رحمةً للعالمين
يستعد الجميع للمحاضرة الثامنة، وأسمعهم يتبادلون الأحاديث، ويقولون لقد مرت المحاضرات سريعاً، وفي هذه الأثناء دخلت الدكتورة سارة، إلى القاعة، ورحبت بالحضور وحيتهم .
أعزائي الحضور ..
أعتقد أن الوقت قد حان، في محاضرتنا هذه ، وهي المحاضرة الثامنة، لنقف مع آية من القرآن الكريم تلكم هي: ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [الأنبياء:107]، تعمدت أن يكون الحديث عن دلالاتها، بعد تلك الجولة الإنسانية الشيقة التي قضيناها معاً، بين مظاهر الرحمة التي بدت في تعامل النبي مع كل الفئات التي كانت تحيط به، سواءً ما كان منه صديقاً، أو عدواً، صغيراً، أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، حيواناً، أو طيراً.
إن هذه المواقف والصور، تذكرنا مباشرة بالآية المتقدمة، وأحب أن أستعرض أمامكم، ما ذكره العلماء في معناها بخاصة إني تعمدت أن أقرأ حولها كثيراً، فخرجت بأن ثمة وجهات نظر في مدلولها.
رأيت بعضهم يقصرها في أتباع النبي بخاصة، ويقول هو رحمة بأهل الإيمان فقط، والواقع يشهد بهذا، فإن من كفر به قاتلهم وقاتلوه، وماتوا على الكفر(1).
يرى آخرون أن النبي رحمة في نفسه، وهدى، فمن أخذ به من أفراد العالمين أخذ ، فأفاد من هذه الرحمة، ومن أعرض عنه أعرض، ولم ينتفع بهذه الرحمة(2).
كأن نقول مثلاً هذا الطبيب الماهر، رحمة بأهل هذه البلدة، فمن تنبه له ووثق به، ذهب إليه، وأفاد منه، وانتفع بعلمه، فكان الطبيب له رحمة، ومن أعرض عنه وتجاهله، لم تشمله هذه الرحمة.
إن أغلب من قرأت لهم، في معنى هذه الآية ، ذهبوا (1) إلى عمومها، وشمولها لكل ما يدخل تحت لفظ العالمين من المخلوقات، وإن كان بعضهم قصرها على جنس الإنسان، بحجة أن العالم هو الصنف من أصناف ذوي العلم، هو الإنسان، لكن المشهور عنهم أن العالمين تشمل النوع من المخلوقات ذات الحياة، وهذا هو المعنى المعقول، الذي تشهد له المظاهر التي سبق عرضها، وأملي أنكم تتذكرون كثيراً منها .
لكني أعترف أنها غير كافية لإلقاء الضوء على دلالات الرحمة لكل المخلوقات، وهو ما يملي علينا أن نتوسع قليلاً في البيان، وأرجو المعذرة والصبر قليلاً، ولن يكون الحديث طويلاً.
تدل الآية على أن ثمة اتحاداً وتلازماً بين شخص النبي وبين خلق الرحمة، فلا انفكاك في كل الأحوال، وعلى أية حال، كان عليها النبي ، وهذا المعنى يؤيد توجيه الآية إلى رحمة المخلوقات جميعاً، لأن النبي في سيرته اليومية لا يتعامل فقط مع المؤمنين، ولا من الناس فقط.
لن نجد صعوبة، في بيان رحمة النبي بالمؤمنين، فمظاهرها متنوعة، وأسبابها متعددة، وصورها أكثر من أن تحصى، سواءً ما كان منها في مجال التشريعات، وما صاحبها من تخفيف، وتلطف، وتقدير للظروف، أو ما كان منها في مجال العلاقات الاجتماعية، والشخصية، وهي لكثرتها، تكاد تجد لدى كل من صاحب النبي وإن كان عددهم بالآلاف، موقفاً خاصاً، أو ذكرى عطرة، أو محاورة لطيفة معه، وكتب الأحاديث تكاد تسعفنا في هذا المقام.
نأتي أعزائي إلى رحمة النبي بالكافرين، واسمحوا لي أن أذكرها إليكم على هيئة نقاط مختصرة حتى لا أفقد الاتصال بكم.
المظهر الأول : أن وجود النبي بينهم، حال دون نزول عذاب الاستئصال بهم، كما حصل مع بعض الأمم السابقة لهم، مثل قوم عاد، وثمود، ولوط. وهذا المظهر نص عليه القرآن صراحة: ﭽ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭼ [الأنفال : 33 ]، وتلك رحمة ما بعدها رحمة، نعم بها الكافرون جميعاً.
المظهر الثاني : أن النبي كان يرفض بشدة، أن يدعو عليهم، ولو دعا عليهم، لاستجاب الله له، كما استجاب لدعوة غيره من الأنبياء، كمثل دعوة النبي نوح :
ﭽ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ [نوح: 26] ، فأغرق الله جميع سكانها، ولم ينج إلاَّ قلة كانت مع نوح في السفينة.
لقد طلب الصحابة من النبي أن يدعو على كفار مكة في معركة أحد، فقالوا له: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة)(1).
كان هذا في معركة أحد، التي أصيب فيها النبي بجراحات كثيرة، وقتل بعض أعز أصحابه، ومع هذا كله، رفض الدعاء عليهم، وتكرر المشهد في معركة حنين، حين تعرض المسلمون لأذى ثقيف، قالوا: يا رسول الله، ادع على ثقيف، ففاجأهم بقوله: (اللهم اهدِ ثقيف فدعا لهم ولم يدع عليهم)(2).
المظهر الثالث : أن النبي لم يعاملهم بالمثل، وقد مرَّ بنا تفصيل هذا المظهر، فقد عذبوه، وعذبوا أصحابه، ولم يعذبهم، ومارسوا عليه، وعلى أصحابه، سياسة التجويع، ولم يمارسها، وأخرجوه، ولم يخرجهم، قتلوا أسراه، وعفا عن أسراهم.
المظهر الرابع : تجنب النبي بكل الوسائل الصدام معهم، فقد منع مقاتلتهم مدة ثلاثة عشر عاماً، وحين قاتلهم، كان حريصاً على إنهاء الصراع سريعاً، ويشهد لهذه قلة عدد المعارك بينهم، وقلة عدد القتلى كذلك .
تبين أثر مظهر الرحمة هذا بإسلام الآلاف من الكفار تباعاً، حتى أسلم أهل مكة كلهم يوم الفتح.
المظهر الخامس : شعور عامة الكفار برحمة النبي بهم ، وشفقته عليهم، وقد دلت على هذا الشعور معاملته لهم، ومعاملتهم له، وأنتم تذكرون حين كانوا يأتون إليه، طالبين منه العون، في شؤون حياتهم، فيستجيب لهم ، وهم على كفرهم به، وعلى عداوتهم له .
الصنف الثالث المنافقون.
المنافقون فئة من الناس، كانوا يسكنون المدينة مع النبي آمنوا به في الظاهر، واستمروا على كفرهم به في الباطن، وقد سلكوا هذا المسلك، لما رأوا أنه من رحمته بالناس أنه يعاملهم على ما يبدو منهم في الظاهر، ويكل السرائر إلى الله، فسلكوا هذا الطريق المظلم.
لا يتسع المقام لسرد الأخطار التي واجهها النبي بسبب المنافقين، ولا الأضرار التي لحقت بالمسلمين من جهة المنافقين.
أذكر في عجالة محاولة عبد الله ابن سلول ، زعيم هؤلاء المنافقين ، النيل من شرف بيت النبوة ، حتى أتهم زوج النبي عائشة، وكانت أحب نسائه إليه، حين اتهمها بالزنا، فأنزل الله تعالى قرآناً يكذب هذه الفرية، ويبرئ عائشة، فكان مما جاء في هذا قوله تعالى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭼ [النور : 11].
من الأضرار التي لحقت بالمسلمين، انسحاب عبد الله ابن سلول بثلث الجيش في غزوة أحد، فترك هذا التصرف أثراً سيئاً في نفوس المسلمين، ومنها أيضاً تعاون المنافقين مع أعداء النبي في كل موطن(1).
لقد بدت من النبي مظاهر رحمة بهؤلاء ، رغم شدة عداوتهم وخطورتهم، وعلى رأسهم خصم النبي العنيد عبد الله بن سلول(2)، منها:
المظهر الأول : أن النبي لم يفضح أمرهم بين الناس، فقد كان يعرف أسماءهم، حين أخبره الله بهم، ولكنه ستر عليهم، وهذه رحمة بارزة بهم، وهي رحمة بأقاربهم المسلمين الصادقين، دفعاً للحرج عنهم.
المظهر الثاني : لم يقتل أحداً منهم، مع أنهم يستحقون القتل، لأنهم أشد خطراً عليه، من الكفار البعيدين، فقد تركهم وشأنهم، وكان يعاملهم كما يعامل المسلمين.
المظهر الثالث : أن النبي كان يوبخ المنافقين، دون توجيه الكلام إلى أحد منهم صراحة، ولكنه كان يحذر من النفاق، ويقرأ عليهم آيات الوعيد، وينذرهم بالعذاب الشديد الذي ينتظرهم، ولقد أثمر هذا الأسلوب، وترك عدد منهم النفاق، وحسن إسلامهم، فكان الستر عليهم، وعدم قتلهم رحمة بمن راجع نفسه، وتاب إلى الله وحسن إسلامه.
تدعو الأمانة العلمية، واحترام الحاضرين الكرام، أن أشير إلى أن بعض العلماء اعترف بهذه المواقف ولكنه اعترض على اعتبارها من مظاهر الرحمة لأن المنافقين لا يستحقون الرحمة (3)، وهي على أية حال، تبقى وجهات نظر.
الصنف الرابع:
الذي نَعِم برحمة النبي هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ويمكن أن نعرض هذه الرحمة ضمن المظاهر التالية:
المظهر الأول : أن النبي خصهم بما لم يخص به العرب ـ أهله وعشيرته ـ ، حين قبل منهم البقاء على دينهم، ولم يقبل هذا من العرب، حين خيرهم بين الإسلام أو القتال.
في حين خير اليهود والنصارى بين الإسلام، أو الجزية، وهي مبلغ يدفعونه، مقابل حماية المسلمين لهم.
واسمحوا لي أن انتقل من عصر النبي محمد إلى القرن السابع الهجري، حين دخل هولاكو بغداد، وأسر عدداً من المسلمين، والنصارى، واليهود، فذهب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية يطالب بطلاق سراح الأسرى، قال له هولاكو نطلق سراح المسلمين، ونبقي اليهود والنصارى، فلا شأن لك بهم، فرفض ابن تيمية هذا العرض، وقال يطلق هؤلاء قبل المسلمين، لأنهم في حماية المسلمين، وتحت رعايتهم، فأعجب به هولاكو، وأطلق سراحهم جميعاً(1).
المظهر الثاني : أن النبي أقام العدل بين من كان يعيش منهم بكنفه، وقد أوصاه الله بهذا، فقال له: ﭽ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭼ.
المظهر الثالث : حرص النبي على أن يعامل أهل الكتاب، معاملة حسنة، وسعى إلى إغلاق الأبواب التي تؤدي إلى إلحاق الأذى بهم، ولقد وقفت على رواية مفادها، أنه كان في المدينة زمن النبي جالية نصرانية صغيرة، تسكن في حي يسمى سوق النبط(2).
ولا أذكر حتى هذه اللحظة أنه قُتل نصراني واحد عند النبي محمد ولكن للأسف الشديد قتل الكاثوليك زمن كارلوس الخامس عام 1521م أكثر من نصف مليون من النصارى البروتستانت، كما بلغ عدد من أحرقوا بالنار 230 ألف من البروتستانت أيضاً (1).
وتدلنا أعزائي الحضور، مقابلة النبي لوفد نصارى نجران، على حسن معاملته للنصارى في عصره، وهي منطقة قريبة من مكة، كان أهلها نصارى، جاءوا إلى المدينة، فاستقبلهم النبي ، وتلطف معهم، وأوضح لهم معالم الحق، ثم تركهم بعد ذلك على ما يرغبون، فاختاروا البقاء على دينهم، فتركهم وشأنهم، ثم طلبوا منه أن يرسل معهم أحد أصحابه يستعينون به في إدارة أمورهم، وحل مشاكلهم، فقال , سوف أرسل معهم رجلاً أميناً، فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح، وقال هذا أمين هذه الأمة(2).
لقد عفا عن المرأة اليهودية، التي قدمت له طعاماً مسموماً(3)، وعفا عن لبيد اليهودي، الذي حاول إيذاء النبي وقد ذكر لزوجه عائشة أنه عفا عنه لأنه لا يريد أن يثير الناس رحمة بالجميع.
المظهر الرابع : كان من أهداف القرآن التي عمل النبي على إنفاذها، دمج أهل الكتاب في المجتمع، عن طريق الإذن بالزواج من نسائهم، والسماح بمخالطتهم، اجتماعياً، حين أباح الأكل من طعامهم.
كان النبي يلبي دعوتهم إلى الطعام، ويزور مرضاهم، ويواسيهم في مصابهم ، ولقد تعاطف القرآن الكريم مع نصارى نجران الذين أحرقهم ملكها بسبب إيمانهم وتوعده الله بالعذاب.
المظهر الخامس : أن النبي بين لأهل الكتاب ما أصاب دينهم من تحريف وتبديل، وهذه المصارحة، وإن كانت صعبة عليهم، ولكنها من الحق المر، ومن مظاهر الرحمة، والمثل يقول ، صديقك من صدَقك، لا من صدَّقك، وتركهم بعد ذلك لاتخاذ القرار، بكل حرية واختيار.
المظهر السادس: لقد أمَّنَ النبي اليهود والنصارى على أموالهم وأنفسهم، وأماكن عبادتهم، وحتى على طعامهم وشرابهم، فأبقى لهم الحرية كاملة، في ما يأكلون ويشربون، بما لا يجرح شعور المسلمين، في ضوء القاعدة المشهورة بين المسلمين لا ضرر ولا ضرار.
لم أورد هذه المظاهر على سبيل الحصر، فإنها أكثر مما ذكرت بكثير، لكنها مجرد إشارات تدل بوضوح على مدى رحمة النبي بأتباع الديانات الأخرى.
ومن محاسن الصدف، أعزائي الحضور، أن الخلاف في طبيعة السيد المسيح، قد ظهر جلياً، زمن الإمبراطور هرقل البيزنطي، الذي عاصر النبي محمداً (575-642) ، فقد كان أهل بيزنطة يقولون، إن للمسيح طبيعتين، واحده إلهية، والأخرى بشرية، في حين كانت رعيته في مصر وبلاد الشام يقولون إن الكلمة انقلبت لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح، وهم اليعقوبية(1) .
وما كان يدري هؤلاء أنه في الوقت الذي يختلفون فيه هذا الاختلاف الكبير كان هناك النبي محمد لديه الحقيقة كاملة.
تنبغي الإشارة أعزائي الحضور، إلى أن مظاهر الرحمة التي صدرت من النبي بحق هؤلاء الخصوم، صارت منهجاً اتبعه كل من جاء بعده، من حكام المسلمين، وعلمائهم، لأنني سبق أن أشرت إلى أن المسلمين ملزمون باتباع النبي فيما يصدر عنه من قول أو فعل.
لقد قلَّبت صفحات التاريخ، فوجدت معاملة المسلمين للنصارى، لم تتغير عمَّا رسمه النبي لهم، ويمكنني القول بكل أسف إن تاريخ النبي مع كفار قريش أعاد نفسه، فتاريخ المسلمين مع النصارى مشابه له.
لقد عامل المسلمون النصارى بالعفو والرحمة والتسامح، في حين عامل النصارى المسلمين بكل قسوة، في مواطن كثيرة جداً في الأندلس، ومحاكم التفتيش، والحروب الصليبية.
آسف لهذا الاستطراد ، لكنها معلومات وقفت عليها، أحببت أن أذكرها لكم، وأتمنى أن تتابعوها في مصادرها.
لعلنا نتذكر ما ورد في المحاضرة الأولى، حول شقاء البشرية قبل النبي محمد في كل نواحي الحياة، وهي أحوال اعترف بسوئها كل من كتب عنها، فكان ظهور النبي محمد رحمة للبشرية.
فإنه ما من أحد درس الأوضاع المشار إليها، إلاَّ أقر بوجود مظاهر قسوة وظلم فيها، وما من أحد منصف درس سيرة النبي محمد إلاَّ أقر بوجود مظاهر رحمة في كل جوانبها.
وهذا التصور يعين كثيراً على فهم قول الله تعالى: ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [الأنبياء : 107].
كان لابد من اكتمال منظومة الرحمة هذه لتشمل كل المخلوقات، إذ لا يتصور أن يتراحم الناس فيما بينهم، في حين أنهم يمارسون صور القسوة، والتعذيب، على المخلوقات الأخرى، من الحيوانات، والطيور، فقد سبقت الإشارة إلى أن الخلق لا يتجزأ.
وقد لا أبتعد عن الصواب، إذا قلت، إن ممارسة الرحمة مع غير البشر، مظهر من مظاهر التدرج في التربية على هذا الخلق، إذ ليس من اليسير أن يتحرر المرء بكل بساطة من بعض الصفات التي تحول دون ممارسته الرحمة، مع أخيه الإنسان، مثل حب الذات، وحب الانتقام، وكراهية من يسيء إليه، فكأن الرحمة بالحيوانات والطيور وسيلة وغاية في آن واحد.
حين قال النبي على مسمع من أصحابه: (من لا يرحم لا يُرحم)(1) وعندما سمعوه يقول:(ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)(2) فهم الصحابة منها وهم العرب، أصحاب البيان، أن الرحمة العامة الشاملة، هي المطلوبة، لنيل رحمة الله، وليست رحمة مخصوصة بفئة معينة، أو بجنس معين من المخلوقات.
ذلك أن أهل الأرض المشار إليهم في قول النبي هم القريب والبعيد، الصديق والعدو، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الحيوانات والطيور، لن ينال أحد رحمة الله مالم يمارس الرحمة، عن محبة وقناعة مع هؤلاء جميعاً.
لقد نهى النبي بكل وضوح، عن كثير من صور الرياضة التي يكون فيها الحيوان طرفاً، ويلحق به الأذى، فمصارعة الثيران حرام، ومبارزة الديوك بعضها مع بعض حرام، وجعل الحيوانات والطيور أهدافاً يصوَّب عليها حرام أيضاً.
لقد استقرت هذه الثقافة في أذهان أصحاب النبي فهذا عبد الله بن عمر يمر على قوم، وقد وضعوا طيراً وجعلوه هدفاً، يصوِّبون عليه بالسهام، فقال ابن عمر، من فعل هذا ؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله لعن من اتخذ شيئاً فيه روح غرضاً(3).
أعزائي الحضور .. ازداد إعجابي بهذا التوجيه النبوي، حين قرأت لعلماء النفس، أن الإنسان الذي يشاهد صور تعذيب الحيوانات، أو المناظر التي فيها قسوة وبطش، يورثه هذا قسوة في قلبه، وجرأة في طبعه يألف معها هذه المناظر، ولا يعود يميل إلى الرحمة والتسامح مع الآخر.
الخلاصة هي أن النبي لا يريد أن يرى على الأرض، صورة من صور القسوة، والتعذيب، ولا يرغب أن يبقى بين الناس أحد يقوم بتصرف يخلو من الرحمة، أياً كان هذا التصرف، ومع أي مخلوق كان.
يمكن أن نقول بتعبير معاصر إن النبي كان يسعى لإصدار تشريع ينص على وجوب خلو الأرض من كل تصرف يتناقض مع الرحمة، بكل صورها ومظاهرها، وفي كل ميادين الحياة.
وأنا أتفق في هذا المقام مع القول القائل، إن رحمة النبي كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة الروحية، والواقعية من مسافة، ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئاً فشيئاً من آفاق هذه المبادئ، فتزول غرابتها في حسها، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عناوين أخرى.
إن البشرية كلها، قد تأثرت بمنهج الرحمة، الذي جاء به النبي طائعة أو كارهة، شاعرة أو غير شاعرة، وما تزال ظلال الرحمة وارفة لمن يريد أن يستظل بها(1).
أعزائي الحضور .. أرى شيئاً من الملل وبعض مظاهر عدم متابعة، واعترف إني مسؤول عنها بسبب هذا الطرح الأكاديمي، وحيث إني رأيت بعضكم قد توقف عن التدوين، فإني أجدد لكم الوعد ، بأني سأضع بين أيديكم هذه المحاضرات.
وأعدكم بأمر آخر، في المحاضرة القادمة، وهو الانتقال إلى موضوع شيق محبب إلى النفس، فإلى اللقاء.
*****
المحاضرة التاسعة الرحمة بالقوارير
أعزائي الحضور الكرام ..
أحييكم أجمل تحية، وأرحب بكم في هذه المحاضرة التاسعة والأخيرة، أرجو أن ينال حديثي فيها الإعجاب، وأن لا يتبعه من أحد عتاب، وأعني بهم السادة الرجال في القاعة، حيث إن محاضرة اليوم تعرض لمظاهر رحمة النبي محمد بالنساء.
قالت وهي تبتسم للحضور، يحتمل أن يبادر بعض الحاضرين فيسأل عن سبب تخصيص هذه المحاضرة لهذا الموضوع، وهو سؤال مشروع، بغض النظر عن نية صاحب السؤال، ولا أقول صاحبة السؤال، وهنا ضحك الحاضرون، وتبادلوا بعض العبارات التي لم يكن من السهولة فهمها.
صمتت الدكتورة سارة قليلاً، ثم قالت: كنت قد كتبت منذ سنوات، بحثاً عن دور المرأة في التغيِّر الاجتماعي، ولقد استرعى انتباهي آنذاك، أن المرأة لم تحظ بمنزلة رفيعة لدى كثير من العظماء، وصُنَّاع التاريخ.
كنت قد تذكرت قولاً مأثوراً نحفظه جميعاً، وهو وراء كل رجل عظيم امرأة. ولكن لا أخفي عليكم أني نظرت خلف كثير من العظماء، فلم أرَ تلك المرأة التي يتحدثون عنها.
فلا أدري هل كانت المرأة موجودة خلف هؤلاء العظماء، ثم عملوا على إخفائها، إهمالاً لها، أو أنها لم تكن موجودة أصلاً، تساؤلات مشروعة.
ليت الأمر اقتصر على هذا التجاهل، من قبل هؤلاء، وإنما رأيته يتجاوزه إلى حد الازدراء والإهمال، حتى بدا لي أن ثمة ثقافة توجه بعض هؤلاء على مرَّ التاريخ، مفادها أن العظمة والمرأة متضادان، فكأنه من أجل أن يكون المرء عظيماً، لا مناص له من أن يبتعد عن المرأة، ويبرأ منها، وأن يظهر أنها لا تعني له شيئاً، يذكر ولو في الظاهر.
لعلكم تذكرون أن بوذا، بدأ طريقه إلى العظمة والقداسة ـ كما يرى ـ ، بهجران زوجته، وظن أتباع المسيح، أنه لهذا الغرض لم يتزوج، وبنو على هذا الوهم، أوهاماً تقوم على إهانة المرأة واحتقارها، فهذا القديس بنوفنتور يقول لتلاميذه: إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون إنساناً، ولا حتى كائناً بشرياً، إنما الذي ترونه هو الشيطان بعينه.
ويبدو أن هذه الثقافة قديمة، فهذا سقراط يقول، مسكين الرجل، إنه يقف حائراً بين أن يتزوج، أو أن يبقى عازباً، وهو في الحالتين نادم .
وهذا أيضاً كونفوشيوس، فيلسوف الصين الشهير يقول على المرأة أن تطيع زوجها طاعة عمياء، وعليها أن تذوب في خدمته، حتى يتلاشى وجودها تماماً، ويبقى الرجل واحداً لا شريك له.
وهذا نابليون يقول (إنهم في فرنسا يبالغون في تعظيم المرأة، وإنما الواجب أن لا ينظر إليهن كأنهن مساويات للرجل، فما هن في الحقيقة إلا آلات لإخراج الأطفال)(1).
كأن العقاد وقف على هذه الحقيقة المؤسفة، فقد نقل عن صاحب كتاب التاريخ الموجز للنساء ما نصه (إن عصر الفروسية كان معروفاً بما لحظ فيه من فقدان الشباب على الجملة الاهتمام بالجنس الآخر).
لعلنا نُقُّل من الدهشة لذلك لو أننا وعينا كلمة الفروسية، وذكرنا أنها لم تكن ذات شأن بالسيدات، كما كانت ذات شأن بالخيل، على خلاف ما يروق للكثيرين أن يذكروه، فقلما بلغ الاهتمام بالمرأة، مبلغ الاهتمام بالحصان في عصر الفروسية.
ثم يسوق الأستاذ العقاد، حادثة من كتاب أغاني الآداب والتحيات، يروي فيها أن ابنة أوسيس جلست في نافذتها، ذات يوم، فعبر بها فتيان هما جاران وجربرت، وقال أحدهما (انظر، انظر يا جربرت، وحق العذراء ما أجملها من فتاة، فلم يزد صاحبه على أن قال يا لهذا الجواد من مخلوق جميل، دون أن يلتفت بوجهه.
عاد صاحبه يقول مرة أخرى: ما أحسبني رأيت قط فتاة بهذه الملاحة، ما أجمل هاتين العينين السوداوين، وانطلقا وجربرت يقول ما أحسب أن جواداً قط يماثل هذا الجواد.
يعلق الأستاذ العقاد على هذه الحادثة قائلاً: وهي حادثة صغيرة، ولكنها واضحة الدلالة، إن قلة الاهتمام، تورث الازدراء، ثم أورد حادثة أخرى، جاء فيها أن الملكة بلانشفلور ذهبت إلى قرينها الملك بيبن، تسأله معونة أهل اللورين، فأصغى إليها الملك، ثم استشاط غضباً، ولطمها على أنفها بجميع يده فسقطت منها أربع قطرات من الدم، وصاحت تقول شكراً لك، إن أرضاك هذا ، فأعطني من يدك لطمه أخرى حين تشاء(1)
أعزائي الحضور ..
إن المتأمل في هذه الأقوال، والأخبار، يكاد ينشأ لديه شعور أن ليس للمرأة حضور في حياة العظماء، وكأن المرأة تسيء إلى العظمة إذا ذكرت معها.
لقد أثار عجبي أن مظاهر التطاول على المرأة لم تقتصر على الأفراد، حتى يقال إنها نزوات من أشخاص، لقد تجاوزت الأفراد إلى جهات مسئولة، ذات منزلة في مجتمعاتها.
فقد قرر المجمع الكنسي، المعروف بمجمع ماكون في القرن الخامس الميلادي، بحث مسألة هل المرأة مجرد جسم لا روح فيه، أم أن لها روحاً، وأخيراً قرروا أنها تخلو من الروح الناجية من عذاب جهنم، ما عدا مريم أم السيد المسيح(2).
ولقد أصدر البرلمان الإنجليزي قراراً في عهد هنري الثامن عشر، ملك إنجلترا، يحظر فيه على المرأة أن تقرأ كتاب العهد الجديد، ورسل السيد المسيح (3).
أذكر لكم أعزائي الحضور هذا، وأذكر بجانبه أن النسخة الوحيدة المعتمدة من القرآن الكريم كانت محفوظة عند السيدة حفصة زوج النبي محمد وابنة الخليفة عمر ابن الخطاب.
إذا صح هذا التحليل، فإنه لأمر مخجل بحق، أن نرى مثل هذا التوجه، ولا أتردد بالقول، إنه شرخ في العظمة، ويسيء إليها، فهو في أقل أحواله ينال من الدوافع، ويظهر عجزاً في الوصول إلى التكامل والتوازن، ويصبح من حق المرأة في وضع كهذا، أن تعرض عن هؤلاء العظماء، وتنزع الثقة منهم.
أين يقف النبي محمد مما قيل ، هل كان كغيره من القادة، لا حظ للمرأة عنده، وهل صحيح ما يقال إن المبادئ التي جاء بها النبي محمد لا تحترم المرأة وتضطهدها.
تلك المقدمة، وهذه الأسئلة، والرغبة في تلطيف الجو بعد الطرح الأكاديمي اجتمعت كلها فجعلت الحديث عن المرأة مناسباً .
آمل أن يظهر هذا الموقف، من خلال عرضي لبعض الأحداث التي كانت المرأة فيها طرفاً، لا أود في هذا المقام الحديث عن المكانة الرفيعة التي منحها الإسلام للمرأة، بخاصة إذا قارنا هذه المكانة مع ما كانت عليه في الحضارات السابقة، فتلك أمور باتت معروفة مألوفة دلت عليها نصوص، وأكدتها أحكام يعمل بها منذ بعثة النبي محمد ، وشهد لها خصوم النبي قبل أتباعه.
لقد رأيت ـ من خلال النظر في سيرة النبي ـ أن للمرأة ـ جنس المرأة ـ مساحة في حياته، واهتماماته، لا يزاحمها فيها أحد، حتى في الأوقات الحرجة، واشد ما أثار إعجابي أن المرأة نفسها شعرت بأن لها حظوة عند النبي ومنزلة أكثر من تلك التي يمنحها لها أقرب الناس إليها.
أعزائي الحضور ..
ذهبت المرأة إلى النبي تشتكي زوجها وتبثه همومها، وذهبت أخرى تشتكي أباها، وثالثة اشتكت أخاها، ورابعة اشتكت إليه قريبها، إنها وقائع تكشف عن مدى ثقة النساء بالنبي ، وعن علمهن بسعة صدره تجاه مشاكلهن، وعن تعاطفه معهن، ورحمته بهن.
هذه جميلة بنت سلول، صلَّت مع النبي صلاة الفجر، ثم خرجت وانتظرته قريباً من باب بيته، فلما رآها، قال: من جميلة؟ قالت: نعم يا رسول الله ؟ قال: ما وراءك؟ قالت: زوجي ثابت يا رسول الله ؟ قال لها: ما شأنه، قالت: لا أعيب عليه شيئاً في خلقه، ودينه، ولكني لا أحبه، ولا أطيقه. قال لها: وما ذاك، كأنه يود أن يعرف السبب إذا أمكن ذلك.
قالت له بكل صراحة، لقد نظرت يا رسول الله من نافذة بيتي فرأيته قادماً مع أربعة من الرجال، وإذا به أقصرهم، وأشدهم سواداً، وأقبحهم منظراً، فكرهته.
فلما سمع كلامها هذا، ما زاد على أن قال لها: أتردين عليه حديقته، يقصد المهر الذي دفعه لها؟ قالت نعم. فأمره فطلقها(1)
يا لها من حادثة عجيبة، ما بال هذه المرأة لم تشتك زوجها إلى أبيها، أو أخيها، أحسب أنها لا تجرؤ أن تقول لهما ما قالت للنبي محمد ، فهو لا يخلو من إحراج لها، ويجعلها عرضة للوم أو عتاب، لأنه تصرف لا يليق بالمرأة في عرف المجتمع.
نظرت جميلة حولها، للبحث عمن تبث له همومها وشعورها الأنثوي، فلم تجد غير النبي محمد ، ولقد كان عند حسن ظنها، وهو كذلك ، فإنه لم يعاتبها على صنيعها، بل لم ينصحها بالعدول عن رغبتها بفراق ثابت، واكتفى بالإشارة إلى حق زوجها رحمةً به، إذ لا يعقل أن يخسر زوجته، ويخسر معها حديقته.
لقد رحم النبي حالها، وتفهم شعورها، ولم يغب عن خاطره أيضاً أن يستحضر رحمته هذه، وهو يكلم زوجها ثابت بالأمر، فقد استدعاه النبي وقال له: يا ثابت، جاءتني جميلة وقالت ما شاء الله لها أن تقول، وأنا أطلب منك أن تطلقها، وتأخذ حديقتك، قال أفعل يا رسول الله.
ولعلكم لاحظتم كيف أن النبي لم يقل له ما قالت زوجته عنه، رحمةً به وحتى لا يجرح شعوره، بقي أن أذكر لكم أن ثابتاً هذا كان الناطق الرسمي باسم النبي في مصطلحات العصر.
لقد كان خطيب النبي في المحافل العامة، وهل تعرفون من أبو جميلة هذه، إنه عبد الله بن أبي ابن سلول، إنه أحد زعماء قومه، قبل مجيء النبي إلى المدينة، وأشد خصوم النبي في المدينة على الإطلاق، لقد كانت رحمة النبي في هذا الموطن فوق كل اعتبار.
فلم ينتصر لزوجها ثابت، رغم قربه منه، ومحبته له، ولم ينتقم من أبيها عبد الله ابن سلول، رغم عداوته له، فلم يلتفت في تلك الساعة إلاَّ إلى المرأة جميلة فقط فأنصفها.
هذه واحدة أخرى تشتكي، أباها إلى النبي ، إنها (1) خنساء بنت خذام، فقد جاءت إلى النبي تشتكي أباها، قائلة: إنه زوَّجها من شخص لا تحبه، ولم يأخذ رأيها، فأبطل النبي النكاح مباشرة دونما نقاش.
لقد أكد النبي بهذا التصرف، أن عهد العبودية للفتاة من قبل أبيها، أو غيره، قد ذهب دونما رجعة، ولهذا أبطل هذا النكاح، رحمةً منه بهذه الفتاة، لأنه تصور كيف ستكون حياتها مع زوج لا تحبه.
أما هند بنت عتبة، فقد جاءت إلى النبي تشتكي إليه بخل زوجها أبي سفيان، قائلة: إنه لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي ولدي، فقال لها النبي خذي من ماله ما يكفيك، ويكفي ولدك دون إذنه1)) ـ فإن رحمة النبي تأبى عليه أن تعيش في
كنفه امرأة تعاني هي وولدها، ضيق العيش، وزوجها قادر على أن ينفق عليهما، لكنه يبخل.
معنا واحدة أخرى تفر من قومها ـ لأنها مسلمة وهم كفار، وكانوا يضايقونها ـ إلى النبي، إنها أم كلثوم بنت عقبة، فقد غادرت مكة مهاجرة إلى المدينة، بعد أن وقع النبي المعاهدة مع قريش، والتي كان من ضمنها أن يرد النبي من يأتيه مسلماً من أهل مكة.
لما جاءت أم كلثوم مسلمة لم يردها النبي بنص القرآن الكريم: ﭽ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ...ﭼ [الممتحنة : 10]، وتم استثناء النساء من هذا الشرط، وقال لقريش إنما الشرط في الرجال، رحمة بهن، وتقديراً لحالهن، رغم أنف قريش(1).
أما أم هانئ بنت عم النبي وأخت علي بن أبي طالب ، فقد جاءت إلى النبي تشتكي أخاها علياً(2)، حيث لم يُقم لها أي اعتبار، حين أراد يوم فتح مكة أن يقتل اثنين من أقارب زوجها استجارا بها، ودخلا بيتها. فأغلقت عليهما باب بيتها.
جاءت إلى النبي مسرعة، وقالت له، وهي غاضبة، إن ابن أمي هذا وتقصد أخاها علياً، لكنها لم تشر إليه بالأخوة، لأنها غاضبة منه، إنه يريد أن يقتل من استجارا بي، وطلبا الحماية مني، فما كان من النبي إلاَّ أن تبسم، وقال لها، قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، فجبر خاطرها، ولبى طلبها.
فخرجت من عنده وهي مسرورة فخورة بما حققت، ولعلها لا تدري أن رحمة النبي بالمرأة وحرصه على أن يرد لها الاعتبار الذي فقدته في الجاهلية، كان السبب فيما حصلت عليه من تلبية لطلبها.
حظيت المرأة بنظرة حانية من النبي ، لم تحظ بها في تاريخها الطويل، وكان النبي وهو يقف إلى جانب المرأة ، يهدم أعرافاً، عاشت عليها المجتمعات قروناً، ولم يألُ جهداً في وضع المرأة الموضع اللائق بها، مستخدماً وسائل عدة، لأنه كان يرحم حالها الذي آلت إليه.
بدأت معاملته الحسنة مع أهل بيته، وحث الناس على هذه المعاملة، فكان مما قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)(1). ونقلت عنه زوجه عائشة ، أنه ما ضرب امرأة قط في حياته كلها(2).
هذه رسالة رحمة يبعثها النبي محمد إلى كل زوج، وأب، بل إلى كل رجل، وإلى البشر جميعاً، أضيف إليها رسالة رحمة أخرى، وتعاون تحملها معلومة أكيدة، أهديها إلى الرجال في هذه القاعة بخاصة، تقول: (كان النبي محمد في بيته في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة، قام إلى الصلاة )(3).
كان النبي يرحم نساءه، ويساعدهن في أعمال البيت، لشعوره بحاجة الزوجة إلى هذا العون، وهذا العمل لا يتنافى مع العظمة، ولا مع الرجولة، كما يتوهم بعض الأزواج، وأرجو من النساء أن لا يثرن مشاكل في البيت بعد سماع هذه المعلومة.
حث النبي على ملاطفة المرأة، وملاعبتها، حتى قال كل شيء ليس من ذكر الله لهو ولعب، إلاَّ أن يكون أربعة، وذكر منها ملاعبة الرجل امرأته(4).
لقد أعجبت كثيراً بتوجيه نبوي كريم، وجهه النبي إلى الرجال، وكان أول من عمل به، وهو عدم الدخول على الزوجات فجأة، بعد المجيء من السفر، فقد روى عبد الله بن عمر أن النبي قال: (لا تطرقوا النساء ليلاً، وكان يرسل مؤذن)(5) ليبلغ الزوجات أن الأزواج قدموا من السفر، وكان النبي يتوجه هو وأصحابه إلى المسجد، يصلي فيه قليلاً، ثم يتوجه هو وأصحابه إلى بيوت الزوجات، اللاتي ما أن يسمعن بمقدم الأزواج، حتى تبادر كل واحدة منهن بتهيئة نفسها لزوجها، وهذا من النبي قمة في الذوق وغاية الرحمة والتلطف، ويُعد من التصرفات الراقية في هذا العصر.
كان النبي يلاعب نساءه، وندع زوجه عائشة تروي لنا هذه القصة، حين تقول، خرجت مع النبي في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم، ولم أبدن، فقال للناس تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني، حتى إذا حملت اللحم وبدنت، ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس، تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك ويقول هذه بتلك(1).
أعزائي الحضور ..
قد يكون من العسير تفهم واستيعاب هذه المواقف النبوية مع النساء من قبل أولئك، الذين جعلوا في أذهانهم مواصفات للعظمة، من خلال زهد بوذا، وهجرانه لزوجته، أو من خلال احتقار بعض العظماء للمرأة وتجاهلها، والنظر إليها على أنها مجرد أداة للمتعة، أو آلة للإنجاب، ولهذا لا ينبغي التشاغل بها كما مرَّ بنا سابقاً.
إن النبي نظر إلى المرأة على أنها نصف الدنيا، حين عد النساء شقائق الرجال، فقال: (النساء شقائق الرجال)(2).
وكم أعجبني وصف النبي للنساء بالقوارير، والقوارير جمع قارورة، وهي الإناء من الزجاج، وهو عرضة للكسر، بسبب رقته وضعفه، وهذا يقتضي معاملته بلطف والترفق به، وهكذا كان ينظر النبي إلى النساء.
تحدث أنس بن مالك، قال كان النبي في بعض أسفاره، ومعه غلام أسود يقال له، أنجشه يحدو – أي ينشد-، فقال له رسول الله : (يا أنجشة رويدك ، أرفق بالقوارير )(1).
لقد قرأت في شروح هذا الحديث، فخرجت بما يلي(2) ، قال بعض الشراح، إن أنجشة كان حسن الصوت، وكان يحدو بهن، وينشد شيئاً من الشعر، وربما فيه بعض الغزل، فلم يأمن النبي أن تتأثر النساء بما يسمعن، لحسن صوت أنجشة، ولأثر الكلام الذي يقوله، فطلب منه الكف عن هذا رحمةً منه بالنساء.
وقرأت فهماً آخر للحديث وهو أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي، وهذا يسبب إزعاجاً للراكب عليها، وربما يسقط عنها، وهذا قد يؤدي إلى سقوط النساء عن الإبل، ولهذا طلب من أنجشة أن يتوقف، وأنا أعتقد أن التوجيهين مقبولان، ولكن أياً كان، فإن الدلالة واضحة على رحمة النبي بالنساء وخوفه عليهن في كل الأحوال.
ونرى أسماء بنت عميس، تأتي إلى النبي تستشيره في مسألة جد شخصية، بشأن زواجها، فقد تقدم لها اثنان من الصحابة، هما معاوية وأبو جهم، فرغبت في أخذ رأي النبي وتوجيهه. فقال لها: لا هذا ولا ذاك، فإن معاوية لا مال عنده، وأما أبو جهم فهو شديد في معاملة النساء، وأشير عليك أن تتزوجي أسامة بن زيد(3)، فأخذت بمشورة النبي وتزوجته.
هذا موقف يستدعي التأمل، ويثير الإعجاب، فإن هذه المرأة تعلم، كما تعلم غيرها من النساء كثرة المهام الجسام المنوطة بالنبي . ومع هذا كان لديهن شعور بأن النبي سوف يقتطع لهن جزءاً من وقته.
وهذه امرأة أخرى، تأتي تستشير النبي في أمر ، فيرى أن استشارتها نابعة من رحمة كامنة في نفسها، فيفسح لها المجال، لممارسة هذه الرحمة بكل طمأنينة.
إنها أعزائي الحضور، زينب زوج الصحابي المقرب من النبي عبد الله بن مسعود، فقد رغبت أن تتصدق بشيء من مالها، ولكنها في الوقت نفسه، ترى أن زوجها وابنها بحاجة إلى هذه الصدقة، فيتجاذبها شعوران، شعور بالرغبة في التصدق على بعض الفقراء، رغبة في الأجر، وشعور آخر بدفع هذا المال إلى زوجها وابنها رحمة منها بهما.
فما كان أمامها إلاَّ أن قصدت بيت النبي ، تسأله عن هذا النوع من الصدقة، فقرأ النبي رسالتها، كما يقولون، وأخبرها أن لها في صدقتها هذه أجرين أجرُ القرابة وأجرُ الصدقة (1). فرجعت مسرورة بهذا التوجيه النبوي، الذي بث فيه النبي الرحمة بين أفراد الأسرة الواحدة، وجعل لهذه المرأة الفاضلة مخرجاً حسناً في هذا الأمر الذي كان يشغل بالها.
إن النبي رحم أسماء وأشفق عليها، حين نصحها بعدم الزواج من معاوية، بسبب فقره، حتى لا تعيش حياة صعبة، كما رحمها مرة أخرى، حين نصحها بعدم الزواج من أبي جهم، فإنه وإن كان ذا مال، إلا أنه قاس في معاملة النساء، ولا يرضى لها النبي الحياة مع زوج هذه صفته.
يتفطن هذا النبي الرحيم إلى بعض النساء اللاتي لا يملكن الملابس المناسبة لحضور بعض المناسبات، كالأعياد ، فيقول لأم عطية(2)، وقد تحدثت معه في هذا الأمر، لتلبس المرأة أختها من ملابسها، وهذه لفتة حانية من قلب رحيم، نفذ ببصيرته إلى عالم المرأة، فوجه هذا التوجيه الحكيم، الذي جبر فيه خاطر بعض النساء، ورفع عنهن الحرج، وسن بين النساء سنة لطيفة يحسن بالنساء التنبه إليها.
عندما فتح النبي مكة، هرب منها عكرمة بن أبي جهل، أحد أشهر خصومه، وهام على وجهه، قاصداً جهة اليمن، وإذا بزوجته أم حكيم، وكانت قد أسلمت. تذهب إلى النبي وتتوسل إليه أن يعفو عن عكرمة، وتقول له : يا رسول الله، قد هرب منك عكرمة إلى اليمن، وخاف أن تقتله، فأمنه، فرحم النبي حالها وقدر وضعها، فقال لها بلا تردد هو آمن.
خرجت أم حكيم في أثر زوجها، فأدركته، وقد ركب البحر، فقالت له، يا ابن عم: جئتك من عند أوصل الناس، وأرحم الناس، وخير الناس، فلا تهلك نفسك.
عاد عكرمة مع زوجته، البارة الوفية أم حكيم، فدخل على النبي ، وهي معه، فلما دخل عكرمة على النبي ، قام النبي مسرعاً إليه ومرحباً به، لشدة سروره بقدومه. فقال عكرمة: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني. فقال النبي : صدقت أنت آمن، فأسلم وحسن إسلامه(1).
كان من منهج النبي أن يوسع دائرة الرحمة هذه، ليتعامل بها أصحابه مع النساء، لأنه يرغب في نشر ثقافة الرحمة بالمرأة على واسع، وهو ما تمثل في طلبه من بعض أصحابه التخلف عنه في سفر، أو قتال لرعاية النساء رحمة بهن، وتقديراً منه لظروفهن.
فقد أذن لعدد من أصحابه، بالتخلف عن القتال معه، بل طلب منهم هذا، بسبب ظروف زوجاتهم، فقد تخلف عنه عثمان بن عفان بسبب مرض زوجته(2)، وأذن لأبي طلحة أن يتخلف عنه في المسير ليبقى بجانب زوجته، التي كانت على وشك الولادة (1). كذلك طلب من أبي أمامة أن يبقى مع أمه المريضة، ولا يخرج معه للقتال(2).
ورد النبي من هاجر إليه، دون إذن أبويه، بخاصة عندما علم النبي منه أن أمه بكت لفراقه(3)، وقدم على النبي رجل يطلب البيعة على الهجرة، فقال وما جئتك حتى أبكيت والديَّ، فقال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما(4).
وكان النبي يواسي النساء اللاتي فقدن أحد أقاربهن في قتال مع النبي ، فقد كان يكثر الدخول على بيت أم سليم، فقيل له لمَ تخص أم سليم، فقال: إني أرحمها قُتل أخوها معي (5).
*****
أعزائي الحضور الكرام ..
بقيت مسألة في حديثنا، عن مظاهر رحمة النبي بالنساء، وأنا أعتقد أنها تدور في أذهان الكثير منكم، بخاصة النساء، أذكرها بصيغة سؤال كيف نوفق بين حرصه على رحمة النساء، ومراعاته الدائمة لشعورهن وبين ما نعرفه عن النبي إنه لما توفى كان عنده تسع زوجات.
لا يطرح الحديث عن المرأة في الإسلام، أو عن حياة النبي محمد ، إلاَّ ويطرح هذا الموضوع مباشرة، وهو ما يدعو إلى الاستهجان في رأيي.
أود أن أستأذنكم في ذكر ما يشبه الميزان في الحكم على الأشياء، وسوف أعرضه لكم من خلال فائدة تنبهت إليها وأنا أقرأ كتاباً جميلاً ذا حجم صغير، وهو كتاب الأنماط البشرية، لعالم الاجتماع الانيوزلاندي رايموند فيرث.
جاء فيه قول المؤلف (لما نزلت إلى ميناء في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، رأيت لافتة كتب عليها لانتظار البيض فقط، ثم رأيت لافتة أخرى لا تبعد عنها كثيراً، وقد كتب عليها لانتظار الملونين فقط، والناس يتقبلون هذا الوضع بلا حرج، ولا استنكار، وقد كان هذا موضع استهجاني وعجبي، لأنني من بلد لا يعرف هذا التقليد، ولا يقر هذا التمايز (1).
ثم انتقل بنا المؤلف إلى الهند، وذكر أن الجنود الإنجليز لما وصلوا إلى الهند، تعجبوا كثيراً من وضع البقرة في المجتمع الهندي، حين كانت تتجول في الأسواق، وتعامل بكل تقدير واحترام، وقد اعتادوا أن يروها في الحقول، والحظائر للحرث والحلب.
ولما توج ملك وملكة انجلترا سنة 1937م ، وقام الجنود بذبح الأبقار، ثار الهنود، وحصلت مصادمات لم يستوعب أسبابها الجنود الإنجليز (1).
لقد اختصر علينا صاحب كتاب الأنماط البشرية الحديث، ووفر علينا بعض الوقت، حين لفت الانتباه، إلى ضرورة استحضار الواقع الاجتماعي المألوف عند تقويم مسلك ما.
لقد كان التعدد مألوفاً، والنبي لم يخرج على المألوف في مجتمعه، فقد كان لا حصر لعدد الزوجات، ثم قصره الإسلام على أربعة فقط، وخص الله النبي محمداً بأن يبقى على ما كان عليه الوضع، لأسباب وحكم كثيرة منطقية ومعقولة.
أنا هنا أبحث مسألة يفرض علينا الإنصاف والبحث العلمي المجرد، قول الحقيقة فيها، ولكني قطعاً أحب أن أبقى الزوجة الوحيدة لا يشاركني أحد في زوجي، وهذا أقوله أصالة عن نفسي، ونيابة عن الحاضرات جميعهن. فضحك الحاضرون، وتبادلوا عبارات اختلط بعضها ببعض وتعذر فهمها.
ما رأيكم لو ذكرت لكم في هذا الموطن، بعض المعلومات الدقيقة، والتي أعرفها لأول مرة منذ عدة أسابيع، وربما لم يسمع بها بعضكم.
لقد اقتصر النبي على زوجة واحدة ، وقد تجاوز عمره الخمسين سنة، وهذه الزوجة هي خديجة ، توفيت وعمرها 65 سنة(2).
ثم تزوج بعدها امرأة أخرى، هي سوده بنت زمعة ، ولما تزوجها قال كفار قريش (عجباً لأمر محمد يتزوج امرأة أرملة مسنة ليست ذات جمال)(3)، وبقيت وحيدة عنده ثلاث سنوات، وقال المقربون إن النبي تزوجها رحمة بها لأنه تُوفي زوجها، وبقيت وحيدة ليس لها أحد.
خلاصة القول أن النبي بلغ من العُمْرِِ 53 سنة، ولم يكن قد جمع أكثر من امرأة في بيته، ثم دعت الضرورة ، ومنها الرحمة بالنساء، وبأقوامهن أن يجمع هذا العدد عنده.
لقد كانت الرحمة حاضرة في كل قصة زواج للنبي ، ويمكنكم أعزائي الحضور الحصول على مزيد من المعلومات حول هذا الموضوع إن أردتم .
واسمحوا لي أن أقول شيئاً في هذا المقام، ولا أود أن أظهر بثوب الواعظة أعزائي، إن رحمة الرجل بالمرأة واحترامه لها سواءً أكانت زوجة، أم أماً، أم بنتاً، أم أختاً، أم غير ذلك، تحكمها اعتبارات، وتمليها قناعات، رأيناها واضحة المعالم في سيرة النبي مع المرأة، وأظنها رسالة واضحة للبشرية جميعها.
*****
كلمة الدكتورة سارة في حفل الختام
انقضى الموسم الثقافي، وبقي منه حفل الختام، يحضره في العادة نخبة من المسؤولين في الجامعة، إضافة إلى المحاضرين والحضور.
جرت العادة أن يكون للأساتذة المحاضرين كلمة إضافية، رغب أكثرهم أن تكون من نصيب الدكتورة سارة، لاعتبارات منها أنها المرأة الوحيدة بينهم، ومنها أن محاضراتها كانت موضع اهتمام بعض وسائل الإعلام.
بدأت الدكتورة سارة كلمتها، فشكرت كل من يستحق الشكر بنظرها، وهم كثر، ثم قالت لا أهدف أعزائي الحضور إلى تقديم ملخص للمحاضرات التي ألقيتها على نخبة كريمة، ولا أظنكم ترغبون بهذا، فهي تسع محاضرات، تضمنت نصوصاً، وأقوالاً، وقصصاً، وأرقاماً، وربما لم أكن أرغب بهذا لتبقى المحاضرات متناسبة مع أهداف الموسم الثقافي، لكن طبيعة الموضوع، والحرص على التوضيح، فرض علينا نوعاً من العمق، ولقد أسعد الحاضرين هذا الطرح.
أرجو أن يأذن لي الحضور الكرام، بأن أضع بين أيديهم بعض انطباعات، تكونت لدي، وأفصح عن شعور أحسست به، بعد هذه الرحلة الشيقة، التي صحبني بها حضور كريم، كان له الأثر الواضح، في الوصول إلى نهاياتها الجميلة.
لقد انتابني شعور بالحزن، حين بخل التاريخ عليَّ بمعلومات عن كثير من العظماء، ثم ما لبثت أن غمرتني سعادة عظيمة، حين جاد التاريخ نفسه عليَّ بمعلومات وافية، كافية، تتضمن أدق التفاصيل عن سيرة النبي محمد .
وأرى من واجبي، أن الفت أنظار البشرية جمعاء إلى هذا التراث العظيم، الذي قال عنه د. لويل ، صاحب كتاب قصة الحضارة، إنه بلغ عشرة آلاف مجلد، إنه بحق ملك للبشرية جمعاء.
لا أزعم أني تصفحت شيئاً يذكر من هذا الكم الهائل، ولكني وفقت في التجوال في حدائقه الغناء، وقطفت من زهورها ما يسر لي أن أخرج بتصور كامل متكامل، عما كنت أهدف إليه.
سيرة النبي محمد من حق الإنسانية كلها، فلقد كانت هذه الإنسانية حاضرة في كل قول صدر عنه، أو فعل قام به، يقتضي الإنصاف مني الاعتراف أن سيرة النبي محمد كانت خارج الزمان، فلم تكن أسيرة وقت معين ترك أثره فيها، فارتبطت به، حتى إذا استدار الزمن استدارت معه، كما لم تكن هذه السيرة حبيسة مكان محدد، لاحظ لها في غيره، كما لم تكن أعزائي الحضور وليدة بيئة بعينها لا تصلح لغيرها.
إن الواقع المشاهد ليؤكد أنها أخلاق للإنسانية في كل زمانها ومكانها، وبيئاتها.
تحدث علماء الأخلاق أن للأخلاق دوافع دنيوية متعددة، لم يكن أيٌّ منها حاضراً في أخلاق النبي ، فثمة دافع واحد لا غير، هو النبوة التي انبثق عنها الحب، ومن الحب كانت الرحمة، التي عمت مظاهرها البشر جميعاً، وتجاوزتهم إلى بقية المخلوقات، وما في ذلك من عجب، وقد قال له ربه: ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﭼ [الأنبياء : 107].
رأى فيه معاصروه إنساناً بكل أحاسيسه ومشاعره، كان نبيلاً سيداً لرغباته، ضابطاً لانفعالاته، تبدو عظمته في واقعية تصرفاته وبساطتها، بكى بكل عفوية وصدق في مواطن يبكي فيها الإنسان النبيل، يحتضن طفلاً، ويقبله على مرأى من عِلية القوم، يرونها هم ساعة جد وعمل، وفي غمرة الأحداث، وذروة الاستعداد لقتال عدوه، يتفقد الصفوف، فيخرج منها الشباب الصغار ويأمرهم بالعودة.
ثم يخرج من بين جنوده رجلاً، ليمكث عند زوجته المريضة، ويأذن لآخر في البقاء عند زوجته لأنها على وشك الولادة، ويطلب من شخص ثالث، أن يلازم أمه المريضة.
يا لها أعزائي الحضور من مظاهر رحمة، فيها الصدق والعفوية، وفيها البساطة والواقعية، في كل موقف، رسالة رحمة، إلى القادة من بعده، إلى الأفراد، إلى الزوجات، وإلى الأمهات.
عاش النبي في مكة ، والمسلمون في ضعف، وقلة، ثم عاش في المدينة، فكانت لهم دولة، وصولة، وكثر عددهم، فتغيرت أحواله، ولم تتغير أقواله، ولا أفعاله، ظل رحيماً، جد رحيم، بالمقربين، وبالأعداء، على حد سواء.
أخرجه أهل مكة منها، بعد تعذيب، وتجويع، ثم لما أصابهم الجوع، كان لهم عوناً، أخذوا أمواله، ولما تعثرت تجارتهم بسبب شروطهم هم في صلح الحديبية، تدخل فأنقذها لهم.
أليست البشرية بحاجة ماسة، إلى هذه الممارسات، إنها تؤكد بجلاء، أنه يمكن للمرء أن يستحضر الرحمة في كل أحواله، ويحقق ما يهدف إليه ، فهكذا كان النبي.
ما بال بعض القادة، والسادة، بل والأفراد، يرون الرحمة متضادة مع الحزم والعدل والخصومة.
لقد علَّم النبي البشرية، أنه في الوقت الذي تكون فيه العدالة واجبة، وينبغي أن تأخذ مجراها، علَّمها أيضاً بأقواله، وممارساته، أن الرحمة واجبة كذلك في الوقت نفسه، وبالمنزلة نفسها، وينبغي أن تأخذ مداها.
أحسب أن كثيراً من القادة، والرؤساء، غابت عنهم هذه المعادلة، فكان الخلل، واتسعت دائرة المشاكل، حين فقدَ التوازن، وغلب خلق أخلاقاً، أما النبي فكانت الرحمة عنده أولاً، لكنه عاقب حيناً، وقسا ساعة من نهار حتى لا تتوارى الرحمة، ويظن أنها بضاعة الضعفاء، لا تنفرد بالميدان، فيساء فهمها، ويساء توظيفها.
لهذا قاتل في مواطن عدوه، حين دُفع إلى ذلك دفعاً، لكنه كان قتالاً رحيماً، فعلى مدى ثلاثة وعشرين عاماً، قتل من أتباع النبي وخصومه في معاركه كلها، قرابة ألف شخص فقط، إن هذا العدد يقتل في حروب هذا العصر في دقائق معدودة.
أيها السادة الكرام ..
تكشفت لي أمور كنت أجهل تفاصيلها، قبل هذه المحاضرات، منها ما يتصل مباشرة بما أسميناه سوء فهم النبي من قِبَل أناس لهم ثقافتهم المغايرة، وأكثرهم يعيشون في بلاد الغرب.
أرى من واجبي العلمي المحض، المساهمة في إزالة سوء الفهم هذا إن أمكن، من خلال ما قمت به من عرض للمعلومة الصحيحة، وإزالة ما يبدو أنه حواجز وهمية، أو مواقف مسبقة، وأحسب أن هذا العمل فاضل يخدم الإنسانية، خارج إطار الزمان والمكان، وقد ورد في الإنجيل (أساس البر البحث عن الحقيقة والوصول إليها).
لقد تبين لي أيها الحضور الأعزاء، أن ليس لدى أحد من أفراد البشرية ، قديماً وحديثاً، أية مشكلة مع النبي محمد ، ولا هو كذلك، إنه محب للإنسان من حيث هو إنسان، قضى حياته كلها ينشر أخلاقاً يحبها الناس جميعاً.
كان يحب الحياة بكل معانيها، ويمارس الرحمة بكل مظاهرها، ويحترم رغبات الأفراد، صغيرها وكبيرها، والناس تحب من هذه حاله.
أذكِّر فقط أن النبي احترم رغبة جميلة بنت أبي سلول، حين طلبت منه أن يطلب من زوجها ثابت بن قيس أن يطلقها، لأنها اكتشفت أنه ليس الزوج المناسب لها بسبب شكله وقصره، فاستجاب لها النبي مباشرة ، وطلب من زوجها ثابت أن يطلقها ففعل، رغم المودة الحمية، بينه وبين ثابت.
إنني أجزم بلا تردد، وليس من عادتي الجزم في محاضراتي، أن محمداً يحب كل فرد من أفراد البشرية، وأن كل فرد سوي يبادله هذا الحب، حتى خصومه، فقد كان يكره فيهم المعصية، ولا يكرههم من حيث هم بشر، وخلق من خلق الله تعالى.
لقد مرت به جنازة يهودي، وهو جالس مع أصحابه، فوقف لها، فتعجب أصحابه، وقالوا: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفساً (1).
إنها الإنسانية بكل معانيها، والرحمة بكل أبعادها، فالرجل ميت، وذاهب إلى الدار الآخرة. فلا يتسع المقام إلاَّ احترام إنسانيته، ورحمة حاله.
أعترف أن لطائفة من القادة، والمفكرين، وبعض رجال الدين، موقفاً سلبياً من النبي محمد ، ولكل من هؤلاء له حساباته ومنطلقاته.
لست حريصاً على تفصيل القول في هذا الموضوع، ولم أُفصِّل القول فيه أثناء محاضراتي، وإنما مررت به مرور الكرام، بناءً على رغبة الحضور الكرام.
إن مشكلة من أشرت إليهم سابقاً، مع النبي محمد تكمن في أن النبي يدعو إلى الانفتاح بين الشعوب، والأمم، لتصبح أمة واحدة، في حين يدعو بعضهم إلى التمايز، وإبراز الخصوصيات.
ربما ينظر بعض المفكرين، ورجال الدين، إلى دياناتهم، على أنها هي الوجه الآخر لقومياتهم، في حين أن هذا الشعور لم أجده أبداً، في سيرة النبي ، ولم ترد عنه إشارات تتضمن تميز العنصر العربي.
إن الدين الذي جاء به النبي لم ينسبه إلى نفسه أبداً، فلا يقال الديانة المحمدية.
لقد لمح هذا التوجه المفكر الألماني هيجل، وهو يتحدث عن الإسلام في كتابه المتميز دروس في فلسفة التاريخ، حين يقول إن الإسلام حطم كل خصوصية.
وأود أن أشير هنا، إلى أن الخصوصية التي حطمها الإسلام هي الخصوصية التي تؤدي إلى سلبيات مثل التفاضل بالجنس والأرض والعرق، أما ما عدا ذلك من خصوصيات فإن النبي أمر برعايتها حق رعايتها، كاللغة واللباس، والعادات، والتي لا تُثير نزاعات بين أبناء البشرية.
هل يمكن القول إن جانباً من هذا الموقف السلبي تجاه النبي هو أننا أمام دعوتين: الأولى دعوة إلى الإنسانية والتراحم، ودعوة أخرى إلى التمايز والشعوبية والاستعلاء بسبب جنس أو إمكانات.
لم يقنع النبي بأنه مارس الرحمة بأقواله، وأفعاله، وإنما ألزم بها أتباعه جميعاً، فلم يرض من أحدهم، أن يغفل عن الرحمة، في قول، أو فعل، مهما كانت الأسباب.
ظهر أثر هذا التوجه النبوي، لأن القرآن الكريم كان يسانده، بترغيب المسلمين بمتابعة نبيهم ﭽ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭼ [آل عمران: 31]، وبالترهيب تارة أخرى ﭽ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ [النور: 63].
أسهم إلزام النبي هذا في تعميم ثقافة الرحمة بين الناس، وبدأت تتحول إلى خلق جماعي، وممارسة عامة بعد أن كانت خلقاً فردياً، وبدأ الناس يتقبلون بالتدريج، أن للرحمة مكاناً في معاملاتهم، وفي حروبهم، مسلمين كانوا، أو غير مسلمين.
أعزائي الحضور ..
حين يقلِّب المنصف صفحات التاريخ، فإنه يجد صوراً للرحمة، ظاهرة في حياة المسلمين، في كل شؤون حياتهم. وإن وجد مواقف توارت فيها الرحمة خلف العنف والقسوة، وتجاوز للحدود الذي وضعها النبي فإن هذا مرده الجهل، أو التجاهل، من فئات محاصرة، لا تمثل إلا نفسها.
لقد عانت البشرية بكل أسف، مما أسماه د. نعوم تشومسكي، الإرهاب والإرهاب المضاد، فدفعت ثمنه غالياً، وكانت النتيجة مزيداً من العنف، ومزيداً من القتل، وفقدان الأمن.
لم يكن لهذه المعادلةـ أعني الإرهاب والإرهاب المضاد ـ في سيرة النبي أي وجود، تجنب منذ اليوم الأول في دعوته، المعاملة بالمثل، ورفض بشدة مقابلة الإرهاب بالإرهاب.
منذ بدايات دعوته، قتل أعداؤه من أتباعه نساءً وشيوخاً، ولم يفعل هذا قط، أخرجوه من أرضه وبلده، ولما تمكن، لم يخرج أحداً منهم، فرضوا عليه، وعلى أتباعه سياسة التجويع ثلاث سنوات، وسعى غير مرة لرفع التجويع عنهم، حين فرضه عليهم زعيم بلاد اليمامة، وحاصره كفار قريش، لكنه طلب من أبي بصير أن يفك حصاره عنهم.
رفض النبي سياسة الإرهاب المضاد، وهو في أوج قوته، وعلَّم أتباعه، معنى الثبات على المبادئ، وحذر من تغيِّرها، بتغير الأحوال، ويذكِّرني هذا بقول المستشرق الإنجليزي بودلي، الذي ذكرته في المحاضرة الأولى، أو الثانية (لقد تغيَّرت أحوال النبي محمد، ولم تتغير مواقفه ومبادئه).
يقدم النبي بهذا المسلك، أنموذجاً للبشرية، يؤكد فيه على أن في الرحمة قوة، وأثراً فاعلاً، قد يغني عن استعمال العنف، والقسوة، في حسم النزاعات، وتحقيق الأهداف.
إنها دعوة من النبي لأفراد البشرية، الذين أحبهم لممارسة الرحمة، بخاصة الأقوياء منهم، حتى يشعروا بالسعادة، وهم يرحمون الضعفاء، الذين سوف يسعدون أيضاً، وهم يذوقون حلاوة الرحمة.
اسمحوا لي أعزائي الحضور، بالقول إن ممارسة النبي للرحمة، ونجاحه في تحقيق إنجازات كبيرة من خلالها، تفضح كثيراً من أصحاب القوة والنفوذ، الذين يتجاهلون سياسة الرحمة، ظناً منهم أنها بضاعة الضعفاء، وإنها لا تسهم في تحقيق الأهداف.
كان حظ الإنسانية سيئاً قبل ظهور النبي محمد ، فهي ما بين قائد لا يعرف إلاَّ القوة، والبطش، مثل الاسكندر المقدوني، حين توهم أنه بهذا الأسلوب يسعد الإنسانية، لكنه فشل وتوارى خلف الزمن، وما بين قديس لا يعرف إلاَّ ممارسة الفضيلة في نفسه، ومن حوله، مثل بوذا، فكان أثره محدوداً، وغلب على أمره.
ثم جاء النبي محمد بالرحمة والقوة معاً، فدعا إلى التراحم، ومارسه، وحماه بالقوة التي كانت محكومة بالرحمة أيضاً، فظهر التوازن، والتكامل، لأول مرة في تاريخ الإنسانية، وبه سعدت واستقام أمرها.
أيها الحضور الكرام، إذا كان فهم الحاضر، يستدعي استحضار الماضي، فإن فهم هذا الماضي يستلزم في كثير من الأحيان معرفة الحاضر.
لقد كدت أخدع وأتوهم أن البشرية عرفت في تاريخها شخصين باسم محمد، أحدهما الذي تحدثت عنه مئات المصادر الموثوقة على مدى مئات السنين، فقدمته لنا رجلاً رحيماً يبكي على قبر أمه، وقد تجاوز عمره ستين سنة، ويحتضن الأطفال ويُقبلهم، ويصغي إلى المرأة بكل لطف، حتى يحقق لها رغبتها، ويعفو عن أعدائه ويرحمهم، ويبعد الأطفال بنفسه عن الحروب والمخاطر، ويشفق على طير فيأمر برد فراخه إليه، ويشارك في أعمال بيته، من تنظيف، وإصلاح، وإعداد، ويموت وبعض ممتلكاته مرهون عند شخص يهودي، مقابل حفنات من شعير له، ولأفراد أسرته.
هذا هو محمد الذي عرفته، وعرفه ملايين الناس، منذ مئات السنين، أما الآخر، فلا يوجد، إلاَّ في أذهان، وأوهام، بعض الكتاب، من خصوم النبي، الذي قدموا له صورة مغايرة تماماً للواقع تقوم على قلب الحقائق، وعكس المواقف، وهم بهذا يسيئون إلى أنفسهم، وإلى البشرية التي ينتمون إليها.
ليأذن لي خصوم النبي محمد أن أذكر لهم فقط، بأن النبي محمداً كان يتلطف مع أشد خصومه، فهذا عبد الله بن أبي ابن سلول، الخصم الأول للنبي في المدينة، كلما أساء إلى النبي، وأراد قومه معاقبته، قال لهم: (بل نترفق به ونحسن صحبته)، ولما ظفر النبي بالخصم الأول له في مكة، أبو سفيان بن حرب، عامله كأنه ضيف، وأعلى من شأنه أمام قومه.
أيتها البشرية الحبيبة إلى قلبي، ابحثي في أسرع وقت ممكن، عن النبي محمد إنه يملك ما يفتقده معظم أبنائك، ابحثي عنه حتى يتعلم منه هؤلاء، كيف يحبون، وكيف يخاصمون بالرحمة، وكيف يقاتلون بالرحمة، وكيف يحاورون بالرحمة، وكيف يحترمون الآخرين، وكيف يتلطفون مع المرأة، وكيف يحرصون على الأطفال.
لنبحث عنه جميعاً حتى نتعلم منه، كيف يرحم بعضنا بعضاً، ونحن قطعاً سنجده في كل موطن نريد أن نراه فيه، ولن يبخل علينا بشيء قط، لأنه يحبنا جميعاً، ويرحمنا جميعاً.
وهنا بدأ عليها التأثر الشديد، فانسحبت من المنصة، فتبعها تصفيق حاد من الحضور.
عزيز القارئ
آمل أن يكون هذا الأسلوب في العرض
قد حاز على رضاك
والله أعلم
وصلى الله وسلم على نبي الرحمة محمد وعلى آله وصحبه
المؤلف
أ.د.زيد بن عمر العيص