×
كرم النبي صلى الله عليه وسلم: خطبةٌ ألقاها فضيلة الشيخ عبد المحسن القاسم - حفظه الله - في المسجد النبوي يوم الجمعة 6 - 7 - 1431 هـ، وتحدَّث فيها عن كرم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرم الصحابة، وذكر أمثلةً من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحياة الصحابة الكرام، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك.

    الخطبة الأولى

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

    أما بعد:

    فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، وراقِبُوه في السر والنجوى.

    أيها المسلمون:

    الله - سبحانه - غنيٌّ بذاته عمَّن سواه، له الكمالُ المُطلقُ في ذاته وصفاته وأفعاله، أسماؤه الحسنى بَلَغَت الغايةَ في الحُسنِ والجمال، وصفاته العلا بَلَغَت المنتهى في العلو والجلال، ومن أسمائه - سبحانه - (الكريم)، أعطانا ما سألناه، وأنعم علينا بما لم نسأله، وإذا رفع العبد إليه يديه يستحي أن يرُدَّهما صِفرًا خائبتين، بابه مفتوح لمن دعاه، وأرزاقه وخزائنه دارَّةٌ على عباده ولا تنقص في العطاء، قال - عليه الصلاة والسلام -: «يدُ الله ملأَى لا تغيضُها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يَغِض ما في يمينه»؛ متفق عليه.

    كريمٌ قريبٌ من عبده، ليس بينه وبين عبده في طلب حوائجه حجابٌ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186 ].

    ويُعطِي عباده فوق ما تمنَّوا في الحديث القدسي: «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رَأَت، ولا أذنٌ سمِعَت، ولا خَطَرَ على قلب بشر»؛ متفق عليه.

    بل نهى عبدَه إذا دعاه أن يُقلِّل المسألة؛ بل يُكثِر ما شاء من سؤال الله؛ فعطاؤه جزيلٌ فأنزِل به حوائجك، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا دعا أحدُكُم فلا يقُلْ: اللهم اغفرْ لي إن شئتَ، ولكن لِيعزِم المسألة ولْيُعظِّم الرغبة - يعني: يسأله ما يشاء - فإن الله لا يتعَاظَمُهُ شيءٌ أعطاهُ»؛ رواه مسلم.

    وفي الأجُور يُثيبُ على العمل الصالح القليل بالجزاء الكثير: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160 ]، ويُضاعِف أكثر من ذلك لمن يشاء، ومن هَمَّ بحسنة ولم يعملها كُتِبَت له حسنة كاملة، ويُجازِي من أطاعَه في سنين الحياة القصيرة بالنعيم المُقيم في الآخرة، ويتفضَّل عليهم برؤيتهم لوجهه - سبحانه -.

    وكتابُه - جل وعلا – كريمٌ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيْمٌ} [الواقعة: 77 ]، مَن تَلاه وعمِلَ به أكرمه الله.

    والكرمُ صفةُ مدحٍ في الانسان، وأمارةٌ على صفاءِ القلب ونقاءِ السريرة، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: «أمهاتُ الفضائل: العلم، والدين، والكرم، والشجاعة، وهو من خِصال الخير، لا يكون في مؤمنٍ إلا رَفَعَه الله به».

    وقد حثَّ - عليه الصلاة والسلام - في مطلع قُدُومه المدينة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس! أفشُوا السلام، وأطعِموا الطعام، وصلُّوا والناسُ نِيَام، تدخلوا الجنة بسلام»؛ رواه الترمذي.

    وهو عبادةٌ من العبادات، وأثقلُ شيءٍ في الميزان حُسنُ الخُلُق، قال الحسن البصري - رحمه الله -: «حُسنُ الخُلُق: الكرم والبذل».

    وفي صبيحة كل يوم ينزل ملكان فيقول أحدهما: «اللهُمَّ أعطِ مُنفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهُمَّ أعطِ مُمسِكًا تَلَفًا»؛ متفق عليه.

    والمسلم يُغبَط على أدائه تلك العبادة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلَكَتِه في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضِي بها ويُعلِّمُها»؛ متفق عليه.

    والله - سبحانه - عليمٌ يحبُّ العلماء، وكريمٌ يحبُّ الكرماء، ومُحسِنٌ يحبُّ المحسنين، والكرمُ من شِيَم الرجال ومن خِصال الأبرار، وأكرم البشر هم أنبياء الله.

    إبراهيم - عليه السلام - جاءته رسلُ ربه ببُشرى في صورة بشر، ولم يعلم أنهم من الملائكة فأحسن إكرامهم، وذبح لهم عجلًا سمينًا وشَوَاه على حجارة محماة، وأسرع في تقديمه لهم؛ {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيْذٍ} [هود: 69 ]، وموسى - عليه السلام - نَعَتَه الله بأنه كريم: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان: 17 ]، وقال - عليه الصلاة والسلام - عن يوسف - عليه السلام -: «هو الكريمُ ابن الكريمِ ابنُ الكريمِ ابنُ الكريم»؛ رواه البخاري.

    ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أجودُ الناس وأحسنهم عطاءً، نفسه كريمة، ويدُه سخيَّة، «ما سُئِل عن شيءٍ قط فقال: لا، سأله رجلٌ غنمًا بين جبلين فأعطاه إياه، فرجع إلى قومه وقال: أسلِمُوا؛ فإن محمدًا يُعطِي عطاءَ مَنْ لا يخشى الفقر، ولبس بُردةً فقال رجل: ما أحسنها! فاكسُنِيها يا رسول الله، فأعطاه إياها»؛ رواه البخاري.

    وتأتيه الغنائم والعطايا فيُوزِّعها على الناس؛ في حُنَيْنٍ أعطى صفوانَ بنَ أميةَ مائةً من النعم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان: «والله لقدْ أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني، وإنه لأبغضُ الناسِ إليَّ فما بَرِحَ يُعطِيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ»؛ رواه مسلم.

    وأتاه مالٌ عظيمٌ من البحرين وكان أكثرَ مالٍ أُتِي به لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «انثُروه في المسجد»، فجاءه العباس فقال: يا رسول الله! أعطِني؛ إني فادَيتُ نفسي وفادَيتُ عقيلة، قال: «خُذ» فَحَثَى في ثوبه، ثم ذهب يحمله فلم يستطع، فنَثَرَ منه ثم احتمله على كاهله»؛ رواه البخاري.

    ولو كان عنده - عليه الصلاة والسلام - أكثر من هذا لَبَذَلَه ابتغاء مرضات الله، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لو أن لي مثل أُحُدٍ ذهبًا ما يسُرُّني أن يأتي عليَّ ثلاثُ ليالٍ وعندي منه شيءٌ إلا شيئًا أرصُدُه لِدَيْنٍ»؛ متفق عليه.

    بل كان من كرمه - عليه الصلاة والسلام - يَعِدُ الناس بالمال قبل أن يأتيه قال لجابر: «لو قد جاءنا مالُ البحرين قد أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا»؛ متفق عليه.

    قال ابن رجب - رحمه الله -: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعطِي عطاءً يعجز عنه الملوك مثل كِسرَى وقيصر، وأكرم الناس بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - هم صحابته الأفذاذ؛ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة فجاء عمر بنصف ماله، وجاء أبو بكر بكل ماله، وعثمان جهَّز جيش العُسْرة، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - مُثْنِيا عليه: «ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم»؛ رواه الترمذي.

    وضيَّف أبو طلحةَ رجلًا فقالت له زوجتُه: ما عندي إلا قوتُ صبياني، فقال: أطفئي سراجك، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا العشاء، فقامَت إلى السراج كأنها تُصلِحُه فأطفَأَته يُرِيَان الضيفَ أنهما يأكلان، فأكل الضيفُ طعامَهم، فلما غدا أبو طلحة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - قال له - عليه الصلاة والسلام -: «لقد ضَحِكَ الله الليلة - أو عَجِبَ - من فعلكما»؛ متفق عليه.

    «وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يأكُلُ حتى يُؤتَى بمسكينٍ يأكُلُ معه»؛ رواه البخاري.

    وللكرم أبوابٌ متنوِّعة، فالإنفاقُ على النفس إحسانٌ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا أعطى الله أحدَكم خيرًا فليبدأ بنفسه وأهل بيته»؛ رواه مسلم.

    والإنفاق على الزوجة والولد بما يسُدُّ حاجتهم من أعظم الوجوه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دينارٌ أنفَقتَه في سبيل الله، ودينارٌ تصدَّقتَ به على مسكين، ودينارٌ أنفَقتَه على أهلك أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك»؛ رواه مسلم. وإذا أنفق المسلم على أهله نفقةً وهو يحتسبها كانت له صدقة.

    ومن الكرم والوفاء إكرام صديق الوالدين، وإكرام الجار من الإيمان، قال - عليه الصلاة والسلام -: «مَنْ كان يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر فليُكرِم جارَه»؛ متفق عليه.

    ومن حُسن الجوار إرسالُ الطعام إليهم وإشراكهم فيما يُطعِمُه أهله، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا طَبَختَ مَرَقًا فأكثِر ماءَها وتعاهَد جيرانك»؛ رواه مسلم.

    وضيافة الضيف من المروءات والأخلاق الكريمة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كان يؤمِنُ بالله واليوم الآخر فليُكرِم ضيفه»؛ متفق عليه.

    ومن لا مال عنده فليكن كلامه طيبًا؛ فالكلمةُ الطيبةُ من السخاء ونوعٌ من العطاء، قال - عليه الصلاة والسلام -: «اتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ»؛ متفق عليه.

    والإحسانُ إلى الآخرين بتفريجِ الكُرُوبِ والهموم من الجود، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ معروفٍ صدقةٌ»؛ متفق عليه.

    قال علي - رضي الله عنه -: «لا تستحِ من إعطاء القليل فالحِرمان أقلُّ منه، ولا تجبُن عن الكثير فإنك أكثر منه»، وأكرم الأفعال ما قُصِدَ بها وجهُ الله، وأعظم الناس كرمًا أطوعهم لله؛ قال - سبحانه -: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13 ].

    قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أكرمُ الناس؟ قال: «أكرمُهُم أتقاهم»؛ متفق عليه.

    فتَحَلَّ بكرم المال وكُن كريمًا بنفسك وجاهك، واحرِص على طاعة ربك وعبادته تكُنْ من السعداء الكرماء.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272 ].

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمَعُون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    الخطبة الثانية

    الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلِّم تسليمًا مزيدًا.

    أما بعد، أيها المسلمون:

    الكرمُ غطاءُ المَعايِب وهو من محاسن الدين، ودليلُ حسن ظنٍّ بالله وهو خصلةٌ بين الإسراف والبخل، قال - عزَّ وجلَّ -: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67 ]، والمكرم من أكرمه الله بالطاعة - ولو كان فقيرًا - والمُهَان من أهَانَه الله بالمعصية - ولو كان غنيًّا - فاحرِصوا على الكرم وتحلَّوا به كلٌّ على قدر حاله تُفلِحُوا وتنالُوا الخيرَ من ربكم.

    ثم اعلموا أن الله أمَرَكم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في مُحكَم التنزيل: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56 ].

    اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجُودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

    اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعلِ اللهُمَّ هذا البلد آمنًا مطمئنًّا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.

    اللهم زِدنا ولا تُنقِصنا، وأكرِمنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، واهدِنا ويسِّرِ الهدى لنا، اللهُمَّ إنا نسألك التوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة، اللهُمَّ ألهِمنا الصواب، ووفِّقنا للحق وجنِّبنا الفتن.

    {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201 ].

    اللهُمَّ وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعل عَمَلَه في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.

    عباد الله:

    {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90 ].

    اذكروا الله العظيم الجليل يذكُرْكُم، واشكُرُوه على آلائه ونِعَمِه يزِدْكُم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.