×
كتيب نافع يوضح فيه مؤلفه - أثابه الله - أسباب اختلاف الفقهاء والعلماء على مر العصور.

 أسباب اختلاف الفقهاء

الدكتور/ قاسم رمضان أحمد

أستاذ مادتي القرآن والحديث،  والتوحيد

قسم الدراسات الإسلامية

جامعة يوسف ميتما سلى، كنو


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد:

فقد أوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين الاعتصام بحبل الله تعالى والتمسك بكتابه عز وجل والالتزام بما صح من سنة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام وحذر من مخالفتهما، والفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه المشهورة إنما يرجع في استدلاله إلى الكتاب والسنة سواء كان نصا في الموضوع أو ظاهرا أو مفهوما ومن معين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم استقى أئمة المذاهب الأربعة أصول مذاهبهم حتى أصبحت أقوالهم مرجعا للفقهاء ومستندا للعلماء. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني: "إن الله برحمته وطوله وقوته وحوله ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أوامره على ذلك".

وجعل السبب في بقائهم بقاء علماء علمائهم واقتداءهم بأئمتهم وفقهائهم، وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بهم وينتهى إلى رأيهم وجعل في سلف هذه الأمة أئة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، تحيا القلوب بأخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم، ثم اختص منهم نفرا على قدرهم ومناصبهم فأبقى الإسلام.

فبذلك نعلم أن الفقه الإسلامي بني على الأحكام المستنبطة من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم استنبطها الأئمة – رحمهم الله تعالى – بثاقب فهمهم وجودة قريحتهم مع إخلاصهم في عملهم ذلك لله عز وجل ونصحهم له ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، فلهذا آتى علمهم هذا ثمرته وظهرت بركته وكثر أتباعهم؛ ثم إن الاختلاف الذي بينهم هو أعظم دليل على جدهم واجتهادهم وبذلك الوسع في استنباط الأحكام، ونصحهم للأمة الإسلامية وحبهم لها.

كما أنه (أي الاختلاف) أقوى دليل على تطور الفقه الإسلامي وسعة أفق أولئك الأفذاذ من علماء الأمة، لذا يجب تجنب الدعوة إلى التفريق بين مذاهب الأئمة بل ينبغي التوفيق بينها لاتحاد المقصد ووحدة الاتجاه.

قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في التوفيق بين اتباع الأئمة وتجنب ما لا يؤخذ به من أقوالهم: "لابد من أمرين: أحدهما أعظم من الآخر وهو النصيحة لله ولرسوله وكتابه ودينه، وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث الله به رسوله من الهدى والبينات. والثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم، وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا بمبلغ علمهم، والحق في خلافها: لا يوجب اطراح أقوالهم جملة، وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان طريقان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما – فلا نؤثم ولا نعصم – بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة. ولا منافاة بين هذين الأمرين، لمن شرح الله صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله، ومن علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون الهفوة والزلة هو فيها معذرة بل مأجور لاجتهاده.([1])

 نشوء الخلاف:

لم يختلف الصحابة في المسائل الفقهية في عهد النبوة حتى انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فكان أول اختلاف فيمن يتولى أمر المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد كان الأنصار يرون أنهم أحق من غيرهم بالخلافة؛ لأنهم هم الذين آووا رسول الله صلى لاله عليه وسلم ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وفي بلدهم كانت هجرته ووفاته، وكان المهاجرون يرون أن الخلافة من حقهم؛ لأنهم قوم الرسول وأهله وعشيرته ومع اعترافهم بفضل الأنصار، وما قدموه للإسلام من تضحيات في الأموال والأنفس.

ثم توالت الخلافات الفقهية بين الصحابة بعد ذلك.

فبدأ الاختلاف خفيفا في عهد أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يتفرقوا وكذلك الحال في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. إذ كان الخليفتان يرجعان إليهم فيما يستجد من المسائل والوقائع.

وبعد أن تفرق الصحابة في الأمصار باتساع الفتوحات الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه اتسع الخلاف بسبب الاختلاط بالآخرين ودخول أهل البلاد المفتوحة في الإسلام، وظهر وقائع من أحداث جديدة.

لذلك اجتهدوا في استنباط الأحكام لتلك الوقائع من الكتاب والسنة، فظهر الخلاف في بعض المسائل الاجتهادية لاختلاف نظرهم فيها وتفاوت علمهم بالشريعة.

أسباب الاختلاف:

 السبب الأول: اختلاف القراءات:

من المعلوم أنه ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة قراءات متواترة لبعض ألفاظ القرآن الكريم فكان ورودها سببا للاختلاف في المستنبطة منها. من ذلك:

1/ الاختلاف في فرض الرجلين في الوضوء أهو الغسل أم المسح؟ يقول الله تعالى: ((يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)) {المائدة: 6}.

قرأ نافع، وابن عامر، والكسائي (وأرجلَكم) بالنصب.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة: (وأرجلِكم) بالجر.

فكان اختلاف القراءة سببا في الاختلاف في فرض الرجلين.

فالجمهور أخذوا بقراءة النصب، وذهبوا إلى أن فرض الرجلين الغسل دون المسح، وأيدوا مذهبهم بعدة أحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله في الوضوء غسل القدمين في الحضر أو السفر أو المسح على الخفين منها:

1-           حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره، فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار؛ مرتين أو ثلاثة".([2])

2-           أن الله حد الرِّجلين إلى الكعبين كما قال في اليدين إلى المرافق فدل على وجوب غسلهما كاليدين.

3-           تأولوا (قراءة الجر) بما يلي:

أ‌-               أنه معطوف على اليدين وإنما خفض للجوار. قال تعالى: ((يرسل عليكم شواظ من نار ونحاس)) {الرحمن: 35} قرئ (ونحاس) بالجر للمجاورة والمعنى على الرفع؛ لأن النحاس هو الدخان.

ب‌-       أنه عطف على اللفظ دون المعنى مثل: أكلت الخبز واللبن، أي: وشربت اللبن.

وذهب بعض أهل الظاهر إلى وجوب الجمع بين المسح والغسل عملا بالقراءتين وذهب ابن جرير الطبري إلى أن المتوضئ مخير بين الغسل والمسح.([3])

 السبب الثاني: عدم الاطلاع على الحديث:

من المعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا على درجة متساوية في العلم والحفظ لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، والتقريرية، بل كانت درجاتهم متفاوتة في هذا الباب حتى الخلفاء الراشدون كانت تفوتهم كثير من المسائل لا يطلعون عليها.

مثال ذلك: سئل أبوبكر رضي الله عنه عن ميراث الجدة فقال لها مالكِ في كتاب الله من شيء وما علمت لكِ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن اسأل الناس، فسألهم فأجابه المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، وشهدا على ذلك حينئذ فقضى لها أبوبر بالسدس.([4])

روى النسائي عن ابن مسعود رضي اله عنه سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها ولم يدخل بها فقال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في ذلك فاختلوا عليه شهرا فاجتهد برأيه.

وروى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم تلا قوله تعالى: ((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)) {البقرة: 159-160}.

ثم قال: إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.([5])

ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله لما أراد الخليفة أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على الموطأ: "ليس إلى ذلك من سبيل"؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمة فحدثوا، فعند كل أهل مصر علم.

ذكره الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما بهذا اللفظ وإذا نظرنا إلى ما خفي على كثير من الصحابة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد عددا كبيرا من مشاهيرهم اختلفوا في مسائل كثيرة نتيجة لذلك.

فمن ذلك:

1-           كان أبو هريرة يفتي: من أصبح جنبا فلا صوم له، ولم يبلغه حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم في رمضان".([6]) ولما بلغه الحديث رجع عن ذلك.

2-           وكان علي وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم يفتون بأن المتوفى عنها إذا كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين عملا بالعموم في الآيتين وهما قوله تعالى: ((والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يترفصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشرا)) {البقرة: 234}، وقوله تعالى: ((وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)) {الطلاق: 4}، ولم يكن قد بلغهم حديث سبيعة الأسلمية حيث أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدتها تنتهي بوضع الحمل. روى البخاري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه، أن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت.([7])

 السبب الثالث: الشك في ثبوت الحديث:

كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه سولم يتثبتون في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمتى ثبت لديهم الخبر عملوا به ونقلوه إلى غيرهم ومتى شكوا في صحة الخبر توقفوا.

فمن ذلك توقف أبي بكر الصدق رضي الله عنه في ميراث الجدة حتى أتته سنة فيه فتأكد من صحة النقل ثم حكم به.

وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه توقف في حديث الاستئذان الذي ذكره له أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وألزمه أن يأتي بشاهد معه على الحديث، ولما أحضر أبي بن كعب رضي الله عنه وأكد له صحة الحديث عمل به، وهكذا يتثبوت في صحة نقل الحديث ومتى ظهر لهم شك في صحة حديث توقفوا عن نقله والعمل به وهكذا الأئمة المجتهدون من بعدهم رحمه الله.

 السبب الرابع: الاختلاف في فهم النص وتفسيره:

يختلف الفقهاء في فهم بعض النصوص وتفسيرها وكل واحد يتجه إلى ما فهمه منها مراعيا اتفاق المعنى مع روح التشريع الإسلامي، فمن ذلك في الزكاة حديث: "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كطان من خليطين فأنهما يتراجعان بينهما بالسوية".([8])

فسر هذا الحديث الشافعي وأحمد رحمهما الله بالخلطاء يملكون مائة وعشرين شاة، فإذا زكيت مجتمعة كان عليها ثلاث شياه فلا يفرق بين المجتمع وإذا كان لرجلين أحدهما مائة وواحدة فعلى كل واحد منهما شاة، فإذا اجتمعا كان عليهما ثلاث شياه فلا يجمع بينهما بل يزكي كل واحد ما له على حدة.

أما الحنفية فقد فسروا: "لا يجمع بين مفترق" بأنه لا يجمع بين مفترق في الملك إلا في المكان بأن يملك رجل أربعين، وآخر أربعين فلا يجمع بينهما ليؤخذ منهما شاة وبالرجل يكون في ملكه نصاب فلا يفرق حتى تجب عليه الزكاة، وبالرجل يكون في ملكه ثمانون فلا يفرق حتى تجب عليه شاتان، وفسروا الخليطين بالشريكين.

وذهب مالك رحمه الله إلى أن الخليطين تجب الزكاة في ماليهما معا شريطة أن يكون كل واحد منهما يملك في أول الأمر ما تجب فيه الزكاة.

 السبب الخامس: الاشتراك في اللفظ:

الاشتراك هو اللفظ الموضوع لأكثر من معنى مثل لفظ ال عين، فقد وضع للباصرة وللجارية وللذهب والفضة والجاسوس وغير ذلك من المعنى وكما يقع المشترك في الأسماء يقع في الأفعال وفي الحروف مثل عسعس في الأفعال فإنها تطلق على الإقبال والإدبار.

ومثل من الحروف فإنها تأتي للابتداء، مثل قوله تعالى: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)) {الإسراء: 1}.

وتأتي للتبعيض مثل قوله تعالى: ((لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)) {آل عمران: 92}.

وتأتي لبيان الجنس، مثل قوله تعالى: ((فاجتنبوا الرجس من الأوثان)) {الحج: 30}. وتأتي لمعان أخرى.

وقد استعمل القرآن الكريم ألفاظا مشتركة وكذا السنة المطهرة استعملت الألفاظ المشتركة فكان ذلك سببا في الاختلاف بين الفقهاء من الصحابة فمن بعدهم في كثير من الأحكام.

ومن أمثلة ذلك:

لفظ القرء ذكر الله تعالى عندة الحائض المطلقة ثلاثة قروء قال تعالى: ((والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء)) {البقرة: 228}.

وقد ورد القرء في العربية بمعنى الطهر. وورد بمعنى الحيض على حد سواء وشواهد ذلك في العربية كثيرة على كلا المعنيين ولست بحاجة هنا إلى  إيراد شيء منها وحسبي أن أذكر شيئا فيما اختلف فيه الفقهاء في هذه المسألة.

وما يترتب على من أحكام.

ذهبت عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم إلى أن المراد بالأقراء الأطهار.

وذهب أبوبكر وعمر وعلي وعثمان وجمهور الصحابة رضي الله عنهم إلى أن الأقراء الحيض.

وذهب إلى القول الأول من الأئمة مالك والشافعي وأحمد في أحد قوليه، وذهب إلى القول الثاني أبو حنيفة رحمهم الله جميعا.

وقد أسند لأصحاب القول الأول بقوله تعالى: ((يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)) {الطلاق: 1}.

ووجه الاستدلال أن اللام في (لعدتهن) لام الوقت أي فطلقوهن في وقت عدتهن أي في الطهر ويفسره حديث ابن عمر في الصحيحين أنه طلق امرأته وهي حائض فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بمراجعتها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العدة التي أمر الله تالى أن تطلق لها النساء هي الطهر بعد الحيض إذ لو طلقت حائضا لم تستقبل عدتها بعد الحيض.([9])

ودليل القول الثاني: أن الأقراء في اللغة وإن كانت مشتركة بين الأطهار والحيض إلا أن الشرع غلب استعمالها في الحيض، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المستحاضة قال: "فلتنظر قدر قروءها التي كانت تحيض فلتترك الصلاة".([10]) فإذا ثبت هذا كان صرف الأقراء المذكور في القرآن إلى الحيض أولى، كما أن القول إن الأقراء حيض يمكن من استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها ويؤيد ذلك أن الله تعالى قال: ((والئي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن)) {الطلاق: 4}، فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار بالنسبة للائي لم يحضن.

قال عليه الصلاة والسلام: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان".([11])

"وأجمعوا على أن عدة الأمة نصف عدة الحرة فوجب أن تكون عدة الحرة هي الحيض. ولا يخفى أن الغرض من العدة هو استبراء الرحم، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام لا الطهر فوجب أن يكون هو المعتبر لا الطهر".([12])

ويترتب على الخلاف في المسألة ما يلي:

1-           زمن انتهاء العدة.

2-           حل الزواج من زوج آخر.

3-           حق الإرث للمطلقة طلاقا رجعيا.

فالفريق الأول يرى أن عدتها تنتهي بعد مرور ثلاثة أطهار حينما تطعن في الحيضة الثالثة لأنه يعد عليها الطهر الذي طلقت فيه.

أما الفريق الثاني فيرى أن عدتهالا تنتهي حتى تدخل في الطهر الرابع.

كما يترتب على ما سبق أيضا ثبوت حق الإرث من عدمه بحق المطلقة طلاقا رجعيا، فالفريق الأول يرى سقوط الإرث بمجرد طعنها في الحيضة الثالثة روى الإمام ا لشافعي رحمه الله في الأم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: إذا طعنت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها.([13])

ونقل عن الإمام مالك رحمه الله أنه بلغه عن القاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله وأبي بكر بن عبدالرحمن، وسليمان بن يسار، وابن شهاب أنهم كانوا يقولون: إذا دخلت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة بانت منه، ولا ميراث بينهما، ولا رجعة له عليها.([14])

وأما الفريق الثاني فيرى أن الميراث يبقى من حق المطلقة طلاقا رجعيا حتى تنتهي من الحيضة الثالثة فهي في أثناء الحيضة الثالثة لا تزال زوجة يمكن مراجعتها ولذا فهي مستحقة للميراث.

كما يترتب على ذلك مسائل أخرى ليس هنا مجل سردها وقد ذكرنا أهمها.

 السبب السادس: تعارض الأدلة:

الأصل في الأدلة أنها من لدن عليم خبير سواء أكانت قرانا أم سنة. قال تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)) {النساء: 82}.

غير أنه قد تكتنف النصوص عوامل فتظهر وقد حدث بينها من التعارض ما يجعل المجتهد يقف أمامها مرجحا بعضها على بعض بحسب ما يظهر لديه من أدلة أخرى وقد تكلم الإمام الشافعي رحمه الله في هذا الموضع بإسهاب في كتاب الرسالة.([15])

وقد كان للتعارض بين الأدلة أثر كبير في اختلاف الفقهاء في عدد غير قليل من المسائل الفقهية وكل يحشد عددا من الأدلة الأخرى لتأييد ما ذهب إليه من الترجيح ولنضرب مثالين على ذلك:

1-         نكاح المحرم بالحج أو العمرة:

ذهب الأئمة مالك واشافعي وأحمد رحمهم الله إلى أنه لا يصح نكاح المحرم واحتجوا بحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا وبنى بها حلالا، وماتت بسرف، فدفنها في الظلمة التي بنى بها فيها.([16])

كما احتجوا بحديث أبي رافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا وكنت السفير بينهما.([17])

وذهب أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه إلى جواز نكاح المحرم.

واحتج بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ا لنبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم.([18]) ورجح هذا الفريق حديث ابن عباس بقولهم: إن ابن عباس راوي الحديث معلوم مكانته فقها وعلما بالقرآن والآثار والأحكام لذا فحديثه أرجح رواية من الروايات الأخرى.

غير أن الإمام الترمذي رحمه الله ذكر جمعا لطيفا بقوله: واختلفوا في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في طريق مكة فقال بعضهم: تزوجها حلالا، وظهر أمر تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال بسرف في طريق مكة. اهـ

وقد أخذ بالقول الأول أمير المؤمنين عمر وابنه عبدالله رضي الله عنهما ورد حديث جواز نكاح المحرم.([19])

2- الإختلاف في مقدار نصاب السرقة:

ذهب الجمهور إلى أن يد السارق تقطع بثلاثة دراهم أو ربع دينار فما فوق، ولا تقطع في أقل من ذلك.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن النصاب في السرقة عشرة دراهم فما فوق واحتج الجمهور بما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم.([20])

وبما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع فصاعدا.([21])

وفي رواية لمسلم: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا".([22])

فقال الشافعي رحمه الله: "وربع دينار موافق لرواية ثلاثة دراهم، وذلك أن الصرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر درهما بدينار.([23])

واحتجوا بأحاديث أخرى لا ترقى إلى درجة الصحيح.

وذهب الحسن البصري وداود الظاهري إلى وجوب القطع في القليل أو الكثير أخذا من عموم قوله تعالى: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم)) {المائدة: 38}.

وبما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده".([24])

وهكذا نرى أن أصل الخلاف ناشئ من اختلاف الأدلة ثم ترجيح بعضها على بعض بما يراه المجتهد من المرجحات المقبولة لديه.([25])

وقد عضد بما يراه المجهور ما ذهب  إليه ثلاثة من الخلفاء الراشدين وقضوا به أبوبكر وعمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين.([26])

 السبب السابع: عدم وجود نص في المسألة:

لقد كان الصحابة يختلفون كثيرا في عدد من المسائل الفقهية التي لم يرد فيها نص وكذا من جاء بعدهم من فقهاء التابعين وتابعي التابعين ذلك أن عددا كبيرا في المسائل لم ينص على حكمها لا في كتاب ولا في سنة، فالنصوص محدودة والمسائل كثيرة، ومتجددة قد تختلف عنها اختلافا ظاهرا.([27])

وهذا ماهدا بأبي بكر الصديق رضي الله عنه أ، يجمع فقهاء الصحابة كلما حدثت حادثة لا يوجد فيها نص ليتشاور معهم حتى يجدوا لها حكما إما بقياس وإما مصلحة حتى إذا اتفقوا على حكم قضى به.([28])

1- ميراث الجد مع الأخوة:

هذه المسألة عرضت للصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن له فيها قضاء، ولذا اختلفت آراؤهم وقد آل الخلاف إلى ظهور رأيين مختلفين أخذ كل فريق منهم برأي.

الأول: أن الجد أولى من الأخوة في الميراث؛ لأن الجد أب وهو أقرب إلى الميت فيحجب الأخوة كما يحجبهم الأب وبهذا القول أخذ أبوبكر وابن عباس وابن الزبير ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري وعائشة وجمع من الصحابة رضي الله عنهم.

الثاني: رأي علي وعمر وزيد بن ثابت وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم، وهو أن الأخوة والجد كلاهما يرث لأحنهما يتساويان في درجة القرب إذ كلاهما يدلي إلى الميت عن طريق الأب.

وكما اختلف الصحابة في ذلك اختلف الأئمة من بعدهم فذهبت المالكية والشافعية وأحمد في أصح الروايتين عنه ومحمد بن الحسن وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة إلى أن الأخوة يرثون مع الجد.

وذهب أبو حنيفة وزفر، والحسن بن زياد وداود إلى أن الجد يحجب الأخوة ويمنعهم من الميراث، كما يمنعهم الأب، وقول الجمهور أرجح والله أعلم.

 السبب الثامن: الالاختلاف في القواعد الأصولية:

هذا السبب من أهم أسباب الاختلاف لما يترتب عليه من اختلاف في الفروع عند الفقهاء ومن المعلوم أن القواعد الأصولية يبني عليها استنباط الفروع الفقهية ونعني بها تلك الضوابط والمناهج التي يضعها الفقهاء لتضع أعينهم عند الشروع في اسستنباط الأحكام من الأدلة لتأسيس مذاهبهم عليها.

والفرق بينها وبين القواعد الفقهية هي: أن القواعد الصولية هي القانون الذي يلتزم به الفقيه ليعتصم به من الخطأ في الاستنباط، أما القواعد الفقهية فهي مجموعة الأحكام المتشابهة التي ترجع إلى قياس واحد يجمعها، أو إلى ضابط فقهي يربطها كقواعد الملكية في الشريعة وكقواعد الخيارات وغيرها فهي ثمرة للأحكام الفقهية الجزئية المتفرقة.([29])


 الخاتمة:

أخيرا، أقدم نصيحة خالصة لله تعالى إلى شباب المسلمين وبخاصة طلاب العلم – وفقهم الله لكل خير – أن يجتهدوا في التحصيل العلمي والاطلاع على أحكام الكتاب العزيز وكثير من السنة المطهرة وعلى ما كتبه أئمة الهدى فيهما تفسيرا وشرحا وما استنبطوه منهما فقها كما يحسن بطالب العلم قبل أن يتكلم في مسائل العلم أن يكون قد اطلع على مسائل الإجماع، ولديه دراسة موسعة لمصادر التشريع الأخرى كالقياس والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة، وسد الذرائع والاحتجاج بمذهب الصحابي، وشرع من قبلها، وأن يُلم ببقيه أبواب أصول الفقه فضلا عن المعرفة بعلوم الحديث والجرح والتعديل، وأن يكون متمكنا من علوم العربية، فإن لم يكن كذلك فلا يصح له التطاول وادعاء ما ليس له.

كما يجب على المسلمين الالتزام بالأدب مع أهل العلم من الأئمة المجتهدين وغيرهم من المحققين، وأن يجتنبوا الغمز واللمز وإلصاق التهم، وتوزيع الألقاب الباطلة كقول بعضهم في فلان من المجتهدين مبتدع، عليه ملاحظات، منحرف عقيدته إلى غير ذلك من الألفاظ، وهذه العبارات مع كونها غير لائقة بطلاب العلم فهي حكم منهم على أئمة الهدا ظلما وجورا، فعلى هذا القائل أن يستغفر الله ويتوب إليه من قول الزور، ومن الغيبة التي حذر منها الله ورسوله، وكما قيل لحوم العلماء مسمومة، وعلى كل طالب علم أن يلتمس العذر لأئمة الهدى في اختلافهم ويحسن الظن بهم ويطلب من الله تعالى الرحمة والمغفرة لهم قائلا: ((ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تعجل في قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم)) {الحشر: 10}.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.




([1])        

([2])         رواه مسلم في كتاب الطهارة.

([3])        

([4])         انظير: نيل الأوطار، ج/1، 186-169.

            وقضي بأن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها لميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح ابن مسعود رضي الله عنه فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام.

([5])         انظر كتاب العلم من البخاري، ج/1، 37-38.

            ولم يكن هذا الأمر قاصرا على الصحابة رضي الله عنهم بل انتشر في التابعين ومن تبعهم بسبب تفرق الصحابة في الآفاق واستيطانهم في عدد من الأمصار وكان كل واحد يحمل ما سمعه من رصسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدث به، وقد يوجد عند أحدهم ما لا يوجد عند غيره.

([6])         رواه مسلم، ج/3/138.

([7])         انظر: البخاري، 6/68.

([8])        

([9])         رواه أبو داود والترمذي.

([10])        انظر أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص: 73. وكذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة تطليقتين وجعل عدتها حيضتين.

([11])        انظر: آثار الاختلاف في القواعد الأصولية، ص: 17 بتصرف.

([12])        رواه النسائي وأحمد بلفظ فلتقعد قدر قرونها... الخ، ج/6/304.

([13])        انظر: كتاب الأم، ج/5، 209.

([14])        انظر: الموطأ، ج/2/578.

([15])        انظر: الرسالة، ص: 213-217.

([16])        رواه أحمد والترمذي.

([17])        رواه أحمد والترمذي.

([18])        رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.

([19])        انظر: الموطأ، ج/1/349.

([20])        رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.

([21])        رواه البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود.  

([22])        رواه مسلم، كتاب 3.

([23])        انظر: الإمام الشافعي، ج/6/134.

([24])        رواه الطحاوي في معاني الآثار.

([25])        انظر: أثر الاختلاف في القواعد الأصوليىة، ص: 105-106.

([26])        المرجع السابق، نفس الصفحة.

([27])        نفس المرجع، ص: 108 بتصرف.

([28])        نفس المرجع والصفحة.

([29])        انظر: أصول الفقه لأبي زهرة رحمه الله 1-9.