×
رسالة مختصرة في بيان العلاقة بين الدين والعلم، وهل هي علاقة تضاد أو علاقة تكامل ومعاضدة، حيث بين الكاتب أن الدين يدعو إلى العلم النافع والأخذ بكل جديد في المعارف المفيدة، وقد ابتدأ نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وأفضل ولد آدم - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى : ﴿ اقْرَأْ )، وفي القرآن والسنَّة من التَّرغيب في العلم والحثّ على التَّعلّم، والتَّنويه بشأْن العُلماء وذمّ الجهْل والتَّنفير منْه ما لا يخفى.

الدين والعلم

تأليف فضيلة الشيخ

زيد بن عبد العزيز الفياض

رحمه الله

جمادى الثانية 1390هـ آب (أغسطس) 1970م

حقوق الطبع للمؤلف


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله ذي العظمة والجلال، خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، لا نحصي ثناء عليه.

والصلاة والسَّلام على أفضل رسلِه وسيّد خلقه، محمَّد خاتم النَّبيِّين، وعلى آله وصحابته والتَّابعين لهم بإحسان.

أمَّا بعد، فهذه محاضرة كنت ألْقَيتُها بنادي "الطَّليعة" بالدلم عقِب دعوة مكرَّرة من المشرفين على النادي، ولم يسعني وقد رأيت من الرَّغبة في أن أسهم بإلقاء محاضرةٍ تُرِك لي تَحديدُ موضوعِها - إلا الاستجابة مقدرًا ومغتبطًا، وقد تلقَّيت طلبات عديدة بنشرها.

وها أنا أقدّمها مطبوعة في كتاب؛ أملاً أن يكون فيها فائدةٌ ومتعة، وأن تكونَ من الحوافِز على الاهتِمام بعلوم المسلمين وثقافاتهم وتواريخهم، وأن لا يغشي عيوننا بريق الحضارة الغربية عن فضائل سلفنا الصَّالح وعلمائنا الأجلاء.

وعلى الله الاعتماد، ومنه نسأل الهداية والسداد.

المؤلِّف

زيد بن عبدالعزيز بن فياض


الدين والعلم

الدين يدعو إلى العلم النافع والأخذ بكل جديد في المعارف المفيدة، وقد ابتدأ نزول الوحي على رسول الله ﷺ‬ خاتم الأنبياء وأفضل ولد آدم - عليه الصلاة والسلام - بقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العَلق: 1 - 5]، وفي القرآن والسنَّة من التَّرغيب في العلم والحثّ على التَّعلّم، والتَّنويه بشأْن العُلماء وذمّ الجهْل والتَّنفير منْه ما لا يخفى.

وقد عُني المسلمون في تاريخهم الطويل بالعلم عناية فائقة، ومن يتأمل عناية المسلمين على اختِلاف أجناسِهم وبلدانِهم وأزمانِهم بتفاسير القرآن، وبعلوم الحديث ورجاله، وتَميِيز صحيحِه من سقيمه، وجيِّده من ضعيفه، وعلم التَّاريخ والتقويم وما خلَّفوه من بحوث اللغة، ومعرفة نحْوِها وصرفها وبلاغتها، وغريبها وتراكيبها واشتِقاقاتها، وأدبِها وفقهها، وما دوَّنوه في الفِقْة والأدَب والطَّلب والتَّراجم وسواها، ليأخذه العجب من ذلك الشأْو الرَّفيع الذي بلغه المسلمون في علومهم وثقافتهم، حتَّى صارت مدُنُهم مركزَ إشعاع ومنار هداية، ونشروا المعارف في أنْحاء الأرض.

وكانت مكة والمدينة وبغداد ودمشق، والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة وغيرها - مناهل علمية يرتادُها الطلاب من كلّ قطْر، وكوَّنوا حضارة شامخة وعلمًا نيرًا، وسادوا الدّنيا كأعظم ما تكون السيادة علمًا وعدلاً ونبلاً.

وإذا كان المسلِمون مرُّوا بفترات ضعْف وتأخُّر، فليْس مردّ ذلك إلى خطأ في نهج السَّلف أو تأخُّر الدِّين، أو عجْز في التُّراث الإسلامي والكنوز الثَّقافية العظيمة، وأعظمها القرآن الَّذي ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصّلت: 42]، والسنَّة المطهَّرة التي تفسر القرآن وتبيِّنه ولا تعارضه، وإنَّا لنجِد من حرص المسلمين - ولاسيَّما في عصورهم القديمة - من الجدِّ والصَّبر واستسهال المصاعب من أجل التزوُّد بالعلم المثمر - ما يدهش، ونرى من عمقِهم في البحث والتَّحقيق والتَّمييز ما جعل مؤلَّفاتهم على درجة من الأهمية والمنزلة السَّامقة، وفي طرقِهم التَّعليمية والتربويَّة ما يتضاءل أمامه ما توصَّل إليه علماء العصر - مع توفّر الوسائل وكثرة الاكتشافات، واختراع المطابع وسهولة المواصلات - ونقرأ من سيرهم وآدابهم وتواضُعهم، وتقديرهم للعلماء واحتفائهم بطلاب العلم، وإنصافهم وتشجيعهم لذوي المواهب، وعنايتهم بالمدارس والمكتبات، ونَسْخ الكتب ومقابلتها والدقَّة في تصحيحِها - ما يذهل المرْء.

وإذا كان كثيرٌ من الشَّباب في البلدان الإسلاميَّة يَجهلون الكثير من هذه الحقائق نتيجةً للاستِعمار الصَّليبي والشّيوعي، ومحاولات طمْس الحقائق عن النَّشْء المسلم؛ حتى لا يعلم ما كان لأسلافه من جهود عظيمة، فيخرج مزدريًا لتاريخه مستخفًّا بتراثه، متهاونًا بدينه؛ لأنَّه أخذ عنه فكرة مشوَّهة لا تمتّ للحقيقة بصِلة، وقد سهّل على المستعْمرين تلويثه بهذه الأفكار القاتمة ابتعاده عن الاطلاع على ما خلفه أسلافه الأكارم.

وقد بذل المستعمرون جهودًا غير مشكورة في هذا السبيل، ونظرة إلى كثيرٍ من الكتُب التاريخيَّة المقررة في مدارس كثير من البلدان الإسلاميَّة مثلاً تعطي البرهان الساطع على مدى التخطيط الماكر للغزو الثقافي.

وفي هذه المحاضرة الَّتي لها وقت محدَّد، ليس من السَّهل إيراد الكثير من الأدلَّة السَّاطعة على ما كان لعلماء المسلمين من أياد بيضاء في سبيل المعرفة الصَّحيحة والعلم النافع - وإن كنت أعتزم إيراد بعض الأمثلة والحقائق - بسبب ضيق المجال عن إيراد الكثير منها، وعسى أن نكون بذلك قد فتحنا نافذة نطلّ منها على ما كان لسلَفِنا الكريم من أيادٍ بيضاء، ليس على المسلمين فحسب؛ وإنَّما على البشريَّة جمعاء.

الحث على طلب العلم:

إن الدين الإسلامي يحث على العلم ويرغب فيه وينوه بشأنه؛ ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجَادلة: 11]، ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزُّمر: 9]، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يُوسُف: 76]، ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ [البقرة: 269]، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].

وفي الحديث الصحيح: ((خيرُكم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه))، وقال رسول الله ﷺ‬: ((ما من قوم يجتمعون في بيتٍ من بيوت الله يتعلَّمون القرآن ويتدارسونه بينهم إلا حفَّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمَن عنده، وما من رجُلٍ يسلك طريقًا يلتمس فيها علمًا إلاَّ سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة، ومَن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)).

وفي حديث آخر: ((خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)).

وفي حديث آخر: ((من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمَّة قائمة على الحقّ لا يضرّهم مَن خالفهم حتَّى يأتي أمر الله)).

وكلام السَّلف من لدن الصَّحابة والتَّابعين ومَن بعدهم ممَّا يصعب حصره ونجتزئ من ذلك باليسير ممَّا قالوه، ومن أخبارهم في الرحلات في طلَب العلم والسَّهر في تحصيله وتحمُّل المشاقّ في سبيله، وليْس عندهم للعلم حدٌّ يقف الطَّالب عنده ولكنَّه من المهد إلى اللَّحد، وعلى حدّ تعبير أبي عمرو بن العلاء وقد سُئِل: حتَّى متى يَحسن بالمرء أن يتعلَّم؟ فقال: ما دام تَحسن به الحياة، أو كما قال عبدالله بن المبارك وقد سُئِل: إلى متَى تطلب العلم؟ قال: حتَّى الممات إن شاء الله، وعلَّل ذلك بقوله: لعلَّ الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد.

وكما عبَّر أحدهم وقد سُئِل: أيَحسن بالشيخ أن يتعلم؟ فقال: إن كان الجهل يَعيبه فالتعلُّم يَحسن به، ويقول آخر وقد سُئِل: مَن أحوج النَّاس إلى طلَب العلم؟ فقال: أعلمهم؛ لأنَّ الخطأ منه أقبح، هكذا عبَّر سفيان بن عيينة.

وقبله قال علي t: العلم خير من المال؛ لأنَّ المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خُزَّان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانُهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة.

ويقول قتادة بن دعامة السَّدوسي: باب من العلم يَحفظه الرَّجُل ويطلب به صلاحَ نفسِه وصلاح دينه، وصلاح النَّاس أفضل من عبادة حول كامل.

وكان الإمام محمَّد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح من شدَّة حرصه على العلم أنَّه كان يستيقِظ في اللَّيلة الواحدة من نومه فيُوقد السِّراج، ويكتب الفائدة تمرّ بخاطِره ثمَّ يطفئ سراجَه، ويقوم مرة أخرى وأخرى حتَّى كان يتعدَّد منه ذلك في بعض الليالي قريبًا من عشرين مرة[1].

وكان أبو الوفاء بن عقيل يقول: أنا أقصِّر بغاية جهدي أوْقات أكلي حتَّى أختار سفَّ الكعك وتحسّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوُت المضع توافرًا على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها فيه.

ويقول: إنَّه لا يحلّ لي أن أضيّع ساعة من عمري حتَّى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنْهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثَّمانين أشدَّ ممَّا كنت أجِده وأنا ابن عشرين سنة[2].

وكان أحد العلماء من آل تيمية يطلب ممَّن عنده أن يقرأ بِحيث يسمعه إذا ذهب للحمَّام، حيث لا يتمكَّن هو من القراءة.

وذكر الصفدي[3] في ترجمة أبي حيَّان مؤلف كتاب "البحر المحيط في تفسير القرآن": أنَّه قرأ القرآن بالرّوايات السَّبع وسمع الحديث بجزيرة الأندلُس وبلاد أفريقية، وثغر الإسكندرية وديار مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشَّام والعراق وغير ذلك، واجتهد وطلَب وحصل وكتَب وقيَّد، قال: ولَم أرَ في أشياخي أكثر اشتِغالاً منه؛ لأنِّي لم أرَه إلاَّ وهو يسمع أو يشغل أو يكتب، ولم أرَه على غير ذلك.

وكان شيخ الإسْلام أحمد بن تيميَّة يقول[4]: ربَّما طالعتُ على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم، وأقول: يا معلِّم آدم وإبراهيم علِّمني.

وكان أبو القسَّام علي بن الحسن بن عساكر صاحب "تاريخ الشام" قد أكثر في طلب الحديث من الترْحال والأسْفار، وجاز المدُن والأقاليم والأمصار، وجَمع من الكتب ما لم يجمعْه أحد من الحفَّاظ نسخًا واستنساخًا ومقابلة وتصحيح الألفاظ[5].

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: مكثتُ في تصنيف هذا الكتاب "الغريب" أربعين سنة، وربَّما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرِّجال فأضعها في موضعِها من الكتاب، فأبيت ساهرًا فرحًا منّي بتلك الفائدة، وأحدكم يَجيئني فيقيم أربعة أو خمسة أشهر فيقول: قد أقمت كثيرًا[6].

وكان الجاحظ يستأْجِر دكاكين الورَّاقين لمطالعة الكتب التي بها.

الرحلة في طلب العلم:

لو أردْنا أن نستقْصي ذكر الرِّحلات في طلب العِلْم، وما كان لعلماء المسلمين من رحلات، لكنَّا نطلب المستحيل؛ لأنَّ حصر ذلك ممَّا يتعذَّر، وكتُب التَّاريخ والتَّراجم والرّحلات والإجازات مملوءة بذكر ذلك، وما نُورده هنا ليس إلاَّ أمثلة تدلّ على ما وراءها، وتومئ إلى ما يضاهيها ويشبهها.

وقد نوَّه العلماء بما للرحلات في طلب العلم من قيمةٍ وما ينجم عنها من فوائدَ عظيمة، فرغَّبوا فيها وشوَّقوا إليْها، وكان من السَّلف الصَّالح مَن يرحل مسيرة شهر لطلَب فائدة أو لمعرفة حديثٍ أو اسْتِنساخ كتاب، مع صعوبة الأسفار حينذاك ووعورة الطرق وكثرة المتاعب.

وقد رحل جابر بن عبدالله من المدينة إلى الشَّام ليسأل أحدَ أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم، وهو عبدالله بن أنيس - عن حديثٍ بلغَه يُحدِّث به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن جابر سمعه من الرسول ﷺ‬ ولم يكن له من غرض في هذا السَّفر الذي استغرق شهرين - شهرًا ذهابًا وشهرًا إيابًا - سوى معرفة هذا الحديث من رواية مباشرة، وهو حديث عن المظالم وعقوباتها.

وجاء رجُل من المدينة إلى دمشق ليسأل أبا الدَّرداء عن حديث يحدِّث به عن النبي ﷺ‬ وحين سمعه قفل راجعًا، وذلك الحديث يتعلق بفضل العلم ومنزلة العالم.

ورحل أبو أيّوب الأنصاري من المدينة إلى مصر؛ حتَّى يسأل عقبة بن عامر عن حديثٍ سمِعه من رسول الله ﷺ‬ في ستر المسلم، لم يبق ممَّن سمعه من الرَّسول غيره وغير عقبة، فلمَّا سأله وتثبَّت منه ركب راحلته وانصرف إلى المدينة وما حلَّ رحله.

وهذا سعيد بن المسيّب أحد عُلماء التَّابعين الأجلاَّء يقول: إن كنتُ لأسير اللَّيالي والأيَّام في طلَب الحديث الواحد، ومكحول يقول: طُفْتُ الأرض كلَّها في طلب العلم.

وقال الشَّعبي: لو أنَّ رجلاً سافرَ من أقْصى الشَّام إلى أقْصى اليمن ليسمعَ كلِمة حكمة، ما رأيتُ سفره ضائعًا، وقال أبو قلابة: لقد أقمتُ في المدينة ثلاثًا ما لي حاجة إلاَّ وقد فرغت منها، إلاَّ أنَّ رجلاً كانوا يتوقَّعونه كان يروي حديثًا فأقمتُ حتَّى قدم فسألته.

وقال بسر بن عبيدالله: إن كنتُ لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه، وقال أبو العالية: كنَّا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله ﷺ‬ فلم نرْضَ حتَّى ركِبْنا إلى المدينة فسمِعْناها من أفواههم.

وقال أبو حاتم الرازيُّ لابنه عبدالرحمن: يا بني، مشيت على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ، وذكر أنَّه لم يكن له شيء ينفق عليه في بعض الأحيان، وأنه مكث ثلاثًا لا يأكل شيئًا حتَّى استقرض من بعض أصحابه نصف دينار.

ومن شغف العلماء بالتَّحصيل والسفر في طلب العلم: أنَّ كثيرين منهم كان للواحد منهم مئات المشايخ؛ فقد كتب محمَّد بن إسماعيل البخاري صاحب الصَّحيح عن أكثر من ألف شيخ، وشيوخ الإمام أحمد بن حنبل الَّذين ذكرهم في المسند مئتان وثلاثة وثمانون رجلاً.

وعبدالله ابن الإمام أحمد شيوخُه يزيدون على الأربعمائة، ذكرَ منهم في مسند أبيه مائةً وثلاثة وثمانين رجلاً.

وشيخ الإسلام ابن تيمية شيوخُه أكثر من المائتين.

وبقي بن مخلد الأندلسي يَزيد مشايخُه على المائتين والثلاثين شيخًا، وعزّ الدين عمر بن محمَّد المعروف بابن الحاجب شيوخُه ألف ومائة وبضعة وثمانون نفسًا.

ومن الَّذين اشتهروا بالرِّحْلة وتدْوين مشاهداتهم: ابن بطّوطة وابن جُبير، والإدريسي والهمداني، وابن وهب القرشي وأبو دلف الخزرجي، وخالد بن عيسى البلوي وعلي بن سعيد المغربي، وزكريا بن محمد القزويني، وغيرهم.

آداب العلم وفنونه:

وللعلم آدابه وفنونه وطرق تحصيله، فالعلم بحر لا ساحل له، والله تعالى قال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسرَاء: 85]، وللتلميذ آداب ينبغي التزامها؛ فهي زينة لطالب العلم وحلية للمعرفة وسبيل إلى الوصول إليها.

وللشيخ آداب ينبغي أن يتَّصف بها، سواء في نفسِه أو مع تلامذتِه، ومتى يحسن به أن يعلم ومتى يجدُر به أن يرتاح ويأخذ نصيبَه من الفراغ، وكيف يرغب التلميذ في المواظبة والجدّ، وأي السبل يسلك في ترْويضه وحفز همَّته ليقبل على العلم برغبة وتشوّق، وحثّه على الحفظ والمذاكرة وإظْهار معارفه، وتشجيعه على صقل مواهبه، وأن لا يقنع بالقليل من العلم، وينبّه إلى تقْسيم الوقت بين استِفادة وإفادة ومذاكرة وراحة.

أجل؛ فالعلم أكثر من أن يُحاط به وأغزر من أن يستوعب؛ ولذا قال ابن عبَّاس: العلم أكثر من أن يُحاط به فخذوا من كل شيء أحسنَه.

وقال ابن شهاب ليونس بن يزيد: يا يونس، لا تكابِر العلم فإنَّ العلم أودِية، فأيَّها أخذتَ فيه قطع بك قبل أن تبلغه؛ ولكن خذْهُ مع الأيَّام واللَّيالي، ولا تأخذ العلم جُملة فإنَّ مَن رام أخذه جملة ذهب عنْه جُملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي.

وقال الخليل بن أحمد: اجعل تعليمك دراسةً، واجعل مناظرتك للعلم تنبيهًا بما ليس عندك، وأكثر من العلم لتعلم، وأقْلل منه لتحفظ.

ويقال: إذا أردت أن تكون عالمًا فاقصد لفنّ من العِلْم، وإن أردتَ أن تكون أديبًا فخُذْ من كلّ شيء أحسنه، وقال غيره: مَن أراد أن يكون حافظًا نظر في فنّ واحد من العلم، ومَن أراد أن يكون عالمًا أخذ من كلّ علم بنصيب، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما ناظرني رجُل قطّ وكان مفنّنًا في العلوم إلاَّ غلبتُه، ولا ناظرني رجل ذو فنٍّ واحد إلاَّ غلبني في علمِه ذلك.

وبقدر ما يولي علماء المسلمين عنايتهم للعلم وتحصيله، فهم أيضًا لا يحبذون الجدّ المفضي إلى الإرهاق والسَّأم؛ فتنظيم الوقت للإفادة والاستفادة والرَّاحة أمر مهمّ، قال عبدالله بن مسعود: إنَّ للقلوب لنشاطًا وإقبالاً، وإنَّ لها لتولية وإدبارًا، فحدّثوا الناس ما أقبلوا عليكم.

وقال علي: اجمعوا هذه القلوب وابتغوا لها طرائف الحكمة؛ فإنَّها تملّ كما تملّ الأبدان.

وقال أبو وائل: خرج عليْنا عبدالله بن مسعود فقال: "إني لأعلم بمجلسكم فما يمنعني من الخروج إليكم إلا كراهية ملّكم، وإنَّ رسول الله ﷺ‬ كان يتخوَّلنا بالموعظة مخافة السَّأم علينا".

وكان القاسم بن محمَّد إذا أكثروا عليه من المسائل قال: إنَّ لحديث العرَب وحديث النَّاس نصيبًا من الحديث، فلا تكثروا علينا من هذا.

وكان ابن شهاب الزهري يقول: روِّحوا القلوب ساعة وساعة، وقال الأصمعي: وصلتُ بالعلم وكسبتُ بالملح.

ورغب السَّلف في أن يكون المعلم مراعيًا لنفسيَّات طلابه ومدى استعدادهم لفهم ما يقول وقابليتهم لإدراك ذلك، كما ذكر ابن عباس: "حدِّثوا النَّاس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!".

ولم يكن علماء المسلمين يهتمّون بالتّلقين والحفظ فحسب، ولكنهم كانوا معلّمين ومربين في نفس الوقت، فكانوا يسعون إلى أن يتَّسم طالب العلم بالسمات النَّبيلة ويتأدَّب بالآداب الفاضلة، في السمت والخلق والنطق والتَّعبير منبهين الطالب إلى أفضل الطرق وأيسرها في طلب العلم واهتبال الفرص السانحة.

قال الزهري: إنَّ للعلم غوائل فمِن غوائله أن يترك العالم حتَّى يذهب بعلمِه، ومن غوائله النِّسْيان، ومن غوائله الكذب فيه وهو شرّ غوائله.

وقال الحسن البصري: غائلة العلم النسيان وترْك المذاكرة.

وقال مجاهد: لا يتعلَّم العلم مستحٍ ولا متكبر.

وكما أنَّ على الطالب مسؤوليات فإنَّ له حقوقًا على أستاذه، بأن يرشده بحكمة وأن يدله على الطَّريقة الصحيحة للتعلّم، وأي الفنون يبدأ بها وكيف ينبِّهُه إذا أخطأ، ويعمد إلى إرشاده برفقٍ وحكمة.

وقال المدائني: قال عبدالملك بن مروان لمؤدّب أوْلاده - وهو إسماعيل بن عبيدالله بن أبي المهاجر -: علِّمْهم الصِّدْق كما تعلِّمهم القرآن، وجنِّبْهم السفلة فإنَّهم أسوأ النَّاس رغبة في الخير وأقلّهم أدبًا، وجنِّبْهم الحشم فإنَّهم لهم مفسدة، وأحف شعورهم تغلظ رقابُهم، وأطعمهم اللَّحم يقْووا، وعلِّمْهم الشِّعْر يمجدوا وينجدوا، ومُرهم أن يستاكوا عرضًا ويمصّوا الماء مصًّا ولا يعبوا عبًّا، وإذا احتجت أن تتناولهم فتناولهم بأدب فليكن ذلك في سرّ لا يعلم بهم أحد من الغاشية فيهونوا عليهم.

ويروى أنَّ عبدالملك قال للشعبي حين دفع أوْلاده إليْه ليؤدِّبَهم قريبًا من هذه الوصايا.

وقال هشام بن عبدالملك بن مروان لمؤدِّب ولدِه: إذا سمعت منْه الكلِمة العوراء في المجلس بين جماعة فلا تؤنِّبْه لتخجله، وعسى أن ينصر خطأه فيكون نصرُه للخطأ أقبحَ من ابتدائِه به، ولكن احفظها عليه فإذا خلا فردَّه عنها.

ومن آداب العالم أن يكون منصفًا متواضعًا حريصًا على نشْر العلم، صادعًا بالحقّ في غير مداجاة أو محاباة، وقصَّة الإمام مالك مع المنصور حين أراد إلْزام النَّاس بالموطأ هي إحدى مُثُل كثيرة من تاريخ حافل.

رَوى محمَّد بن عمر قال: سمِعْتُ مالك بن أنَس يقول: لمَّا حجَّ أبو جعفر المنصور دعاني فدخلتُ عليْه، فحدَّثتُه وسألني فأجبتُه، فقال: إنِّي قد عزمت أن آمُر بكتُبِك هذه التي وضعْتَها - يعني الموطَّأ - فتنسخ نسخًا ثم أبعث إلى كلّ مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدَّوها إلى غيرها، ويدَعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث؛ فإني رأيت أصل هذا العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قال: فقلتُ: يا أمير المؤمنين، لا تفعلْ؛ فإنَّ النَّاس قد سبقتْ إليهم أقاويلُ وسمعوا أحاديث، وروَوا روايات وأخذ كلُّ قوم بما سبق إليْهم، وعملوا به ودانوا به، واختلاف الناس على أصحاب رسول الله ﷺ‬ وغيرهم، وإنَّ ردَّهم عمَّا اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كلّ بلد لأنفسهم، فقال: لعمري لو طاوعني على ذلك لأمرتُ به.

وقال سحنون: سمعت عبدالرحمن بن القاسم قال لمالك: ما أعلم أحدًا أعلم بالبُيوع من أهل مصر، فقال له مالك: وبم ذلك؟ قال: بك، قال: فأنا لا أعرف البيوع فكيْف يعرفونها بي؟!

وليس الإمام مالك وحده في هذا الميدان؛ فهذا الإمام الشافعي يقول: ودِدتُ أنَّ الناس تعلَّموا هذا العلم ولا يُنْسَب إليَّ شيء منه أبدًا، فأُوجر عليه ولا يحمدونَني.

بل ذلك شيء يصعب حصرُه، ولا يمكن استِيعابه.

قال الإمام يحيى النووي في كتابه "التبيان في آداب حملة القرآن" ص 20 - 21: "يستحبّ للمعلّم أن يكون حريصًا على تعليمهم، مؤثرًا ذلك على مصالح نفسه الدنيوية التي ليست بضروريَّة، وأن يفرغ قلبه في حال جلوسه لإقْرائهم من الأسباب الشَّاغلة كلّها، وهي كثيرة معروفة، وأن يكون حريصًا على تفهيمِهم وأن يُعْطِي كلَّ إنسان منهم ما يليق به، فلا يكثر على مَن لا يحتمِل الإكثار ولا يقصر لِمَن يحتمل الزِّيادة، ويأخذهم بإعادة محفوظاتِهم ويُثْني على مَن ظهرتْ نجابتُه ما لم يخش عليه فتنة بإعجاب أو غيره، ومن قصر عنَّفه تعنيفًا لطيفًا ما لم يَخش عليه تنفيره، ولا يحسد أحدًا لبراعة تظهر منه، ولا يستكثر فيه ما أنعم الله به عليْه؛ فإنَّ الحسد للأجانب حرام شديد التحرّم، فكيف للمتعلِّم الَّذي هو بمنزلة الولَد، ويعود من فضيلته إلى معلِّمه في الآخرة الثَّواب الجزيل وفي الدّنيا الثناء الجميل؟!".

ويقول النووي في هذا الكتاب (ص 25) ذاكرًا بعض آداب المتعلم: "وينبغي أيضًا أن يتأدب مع الشيخ وصيانة مجلسه، ويقعد بين يدي الشيخ قعدة المتعلمين لا قعدة المعلّمين، ولا يرفع صوته رفعًا بليغًا من غير حاجة، ولا يضحك ولا يكثر الكلام من غير حاجة، ولا يعبث بيده ولا بغيرِها، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالاً من غير حاجة؛ بل يكون متوجّهًا إلى الشيخ مصغيًا إلى كلامه".

قول: لا أدري، فيما لا يعلم:

وممَّا حثَّ عليه علماء المسلمين: أن لا يتكلَّف المرْء ما ليس له به علم؛ قال ابن مسعود: "يا أيّها النَّاس مَن سُئِل عن علم يعلمه فليقُلْ به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإنَّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم؛ إنَّ الله - تبارك وتعالى - قال لنبيِّه ﷺ‬: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: 86].

وقال أبو عمر الزَّاهد: كنتُ في مجلس أبي العبَّاس ثعْلب، فسأله سائلٌ عن شيءٍ فقال: لا أدري، فقال له: أتقول لا أدري وإليك تُضْرَب أكباد الإبل وإليك الرحلة من كل بلد؟! فقال له أبو العبَّاس: لو كان لأمِّك بعدَد ما لا أدري بعرٌ لاستغنتْ.

وكان لإبراهيم بن طهمان جراية من بيْت المال، فسُئِل عن مسألة فقال: لا أدري، فقالوا له: تأخُذ في كلّ شهرٍ كذا وكذا ولا تُحسن مسألة! فقال: إنَّما آخُذ على ما أُحْسِن، ولو أخذت على ما لا أُحْسِن لفنِي بيتُ المال، ولا يفنى ما لا أحسن، فأعجب الخليفةَ جوابُه وأمر له بجائزة فاخرة وزاد في جرايته.

وكان أبو بكر محمَّد بن زكريا الرَّازي الفيلسوف الطَّبيب يَجلس في مجلسِه، ودونه تلاميذُه، ودونهم تلاميذهم، ودونَهم تلاميذ أخر، فيجيء المريض فيذكُر مرضَه لأوَّل مَن يلقاه، فإن كان عندهم علم وإلاَّ تعداهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلاَّ تكلَّم الرَّازي في ذلك، كما ذكر ذلك القفطي في "تاريخ الحكماء" (ص 273).

تقدير العالم وهيبته:

ولقد عرف علماء المسلمين ما لتقدير العالم والثقة به وتكريمه من شأنٍ في التلقي عنْه، والوصول إلى العلم الصحيح، والإصغاء إلى ما يرويه ويقوله، فكان التّلميذ ينظر لشيخِه نظرة إجلال وإعزاز ومحبَّة واهتمام بما يسمعُه منه وما يشاهده، ونتج عن ذلك حِفْظ الدّين وتداوُل الرّوايات والمسْموعات، وإبطال المكذوب من الأحاديث والمدْسوس من الرّوايات، وتزْييف ما ألصق بها، وكان طلاب العلم على جانبٍ كبير من التَّواضُع، وتحمُّل المشاقّ في تحصيل العلم وفي إكرام العلماء.

قال ابن عبَّاس: "وجدت عامَّة علم أصْحاب رسول الله ﷺ‬ عند هذا الحيّ من الأنصار، وإن كنتُ لأقيل بباب أحدِهم ولو شئت أذِن لي، ولكن أبتغي بذلك طيب نفسه".

وقال الزهري: "كنت آتي باب عروة فأجلس بالباب، ولو شئت أن أدخُل لدخلتُ؛ ولكن إجلالاً له".

وأخذ ابن عباس بركاب زيد بن ثابت وقال: هكذا أُمِرْنا أن نفعل بعلمائِنا.

وقال سعيد بن جبير: لقد كان ابن عبَّاس يحدِّثُني بالحديث لو كان يأذن لي أن أقوم فأقبّل رأسه لفعلت.

وحجَّ الأوزاعي فدخل مكَّة وسفيان الثَّوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به والثوري يقول: افسحوا للشَّيخ، حتَّى أجلساه عند الكعبة وجلسا بين يديْه يأخذان عنه، وقد تذاكر مالكٌ والأوزاعي مرَّة بالمدينة من الظُّهر حتَّى صلَّيا العصر، ومن العصر حتَّى صلَّيا المغرب، فغمره الأوْزاعي في المغازي وغمره مالك في الفقه أو في شيء من الفقه.

وقال أيوب السختياني: كان الرَّجُل يجالس الحسن ثلاثَ حِجَج ما يسأله عن مسألة هيبة له، وقال أبو عثمان المازني: رأيتُ الأصمعي جاء إلى أبي زيدٍ الأنصاري فقبَّل رأسه وجلسَ بين يديْه، وقال: أنت رئيسُنا وسيِّدُنا منذ خمسين سنة.

وقال الشَّافعي: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحًا رقيقًا هيبةً له؛ لئلا يسمع وقعها.

وقال الربيع: والله ما اجترأتُ أن أشربَ الماء والشَّافعي ينظر إلي، وقال أحمد بن حمدون القصار: رأيت مسلم بن الحجَّاج جاء إلى البخاريّ فقبَّل بين عينيه، وقال: دعْني أقبّل رجْلَيك يا أستاذ الأستاذين وطبيبَ الحديث في علله، ثمَّ سأله عن حديث كفَّارة المجلس فذكر له علَّته، فلمَّا فرغ قال مسلم: لا يبغضنَّك إلاَّ حاسدٌ، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك.

وكان العلماء يجلّون العلم عن أن يُستهان به أو يقلَّل من شأنه، وقالوا: لا ينال العلم مستحٍ ولا متكبّر.

وقد امتنع جماعة من العلماء عن الذَّهاب إلى بيوت الكبراء لتعْليم أولادهم، وقالوا: في بيته يؤتَى العلم.

حضر بعض أوْلاد الخليفة المهدي عند شريك، فاستند إلى حائطٍ وسأله عن حديث، فلم يلتفت إليه شريك، ثمَّ عاد فعاد شريك بِمثل ذلك، فقال: أتستخفّ بأولاد الخلفاء؟! قال: لا، ولكن العلم أجلّ عند الله من أن أضيِّعه، ويروى: العلم أزين عند أهله من أن يضيعوه.

وبعث خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى إلى الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري ليأتيَه؛ حتَّى يسمع أولاده عليه، فأرسل إليه قائلاً: "في بيته العلم والحلم يؤتى"، وأبى أن يذهب إليهم[7].

وحجَّ الرَّشيد في بعض السّنين فاجتاز الكوفة ومعه القاضي أبو يوسف والأمين والمأمون، فأمر الرَّشيد أن يجتمع شيوخ الحديث ليُسْمعوا ولديْه، فاجتمعوا إلاَّ ابن إدريس وعيسى بن يونس، فركِب الأمين والمأمون بعد فراغِهما على مَن اجتمع من المشايخ إلى ابن إدريس، فأسمعهما مائة حديث، فقال له المأمون: يا عمّ إن أردت أعدتُها من حفظي، فأذِن له فأعادها من حِفْظه كما سمعها فتعجَّب لحفظه، ثمَّ أمر له المأمون بمالٍ فلم يقبل منه شيئًا، ثمَّ سارا إلى عيسى بن يونس فسمعا عليه ثمَّ أمر له المأمون بعشَرة آلاف فلم يقبلْها، فظنَّ أنَّه استقلَّها فأضْعفها، فقال: والله لو ملأتَ لي المسجد مالاً إلى سقفِه ما قبلتُ منه شيئًا على حديث رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم[8].

لقد كانوا أعزَّة مبجَّلين للعِلْم، فبورك لهم في علمهم ونفع الله بهم.

قال رجُل للحسن البصري: إنَّك متكبِّر، فقال: لا ولكنِّي عزيز، وهذا ما أشار إليْه الجرجاني في قوله:

وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ العِلْمِ مُهْجَتِي = لأَخْدُمَ مَنْ لاقَيْتُ لَكِنْ لأُخْدَمَا

أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً = إِذًا فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ = وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا

نشر العلم:

إنَّ القرآن والسنَّة يدعوان إلى نشْر العلم والحرص على تبليغِه، وكلام السَّلف في التَّرغيب على نشْر العلم أكثر من أن يحصر؛ قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108].

وفي الحديث الصَّحيح: ((لا حسدَ إلاَّ في اثنتين: رجُل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكتِه في الحقّ، ورجُل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويعلمها) وفي الحديث الآخر: ((نهمان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال)).

وقال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لأنْ يهديَ الله بك رجُلاً واحدًا خيرٌ لكَ من حمر النَّعم)).

وقال علي t: "لَم يؤخذ على الجاهل عهدٌ بطلَب العلم حتَّى أُخِذ على العُلماء عهدٌ ببذْل العلم للجهَّال؛ لأنَّ العلم كان قبل الجهل به".

وكان الإمام مالك إذا ودَّعه أصحابه يقول لهم: "اتَّقوا الله وانشروا هذا العلم، وعلِّموه ولا تكتموه".

وقال سليم بن عامر: كان أبو أمامة يحدِّثُنا فيكثر، ثمَّ يقول: عقلتم؟ فنقول: نعم، فيقول: بلِّغوا عنَّا فقد بلَّغناكم، يرى أنَّ حقًّا عليْه أن يحدّث بكل ما سمع[9].

وكان محمَّد بن مالك الطَّائي وغيره من العُلماء ينادون النَّاس للأخذ عنهم والاستفادة من علمهم؛ رغبةً في نشْر العلم وبراءة من إثم الكتمان.

وكان من مظاهر حرصهم على نشْر العلم: الإكثار من نسْخ الكتب؛ فقد كان أحمد بن عبدالدائم بن نعمة المقدسي الحنبلي - مثلاً - ينسخ بخطّ يدِه ألفَي جزء في خلال خمسين سنة.

تشجيع الأذكياء:

نسمع ونقرأ ونشْهد الجوائز الَّتي تعطَى للمتفوقين، وذوِي المواهب الجيّدة والذكاء المفرط، والإشادة بهم، ويحسب البعض أنَّ هذا من مخترعات العصْر ومن اكتشافات الأوربيِّين، ولكنَّا نجد - إذا تمعَّنَّا قليلاً - أنَّ سلفنا الأكارم كانوا يَعرفون لذوي المواهب فضلَهم ويشيدون بِهم، ويقدِّمون لهم الجوائز ويُبْرِزونَهم في كثيرٍ من التَّقدير والتنويه والاعتزاز، فتولَّوا المناصب الخطيرة وهُم صِغار السّنّ وطار صِيتُهم في الآفاق، واشتهرتْ قصصُهم الدَّالَّة على قوَّة الذَّكاء وسرعة البديهة، وصاروا مضرب المثل.

وفي تاريخ المسلمين قديمًا وحديثًا من ذلك الشَّيءُ الكثير؛ فعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وعبدالله بن عبَّاس، ومعاوية بن أبي سفيان، وشُريح القاضي، وإياس بن معاوية، ويَحيى بن أكثم، وغيرهم، قد رُوِيَت عنهم الطَّرائف والغرائب في الذَّكاء وسرعة البديهة.

وكان العلماء يَسألون تلامذتَهم أسئلةً يقصِدون منها التَّنبيه لما يسمعونه من فوائد وشحْذ أذهانِهم وإعمال الفكر لديْهِم واختِبار ذكائهم، وكان الرَّسول ﷺ‬ وأصحابه ربَّما سألوا مثل تلك الأسئِلة.

قال عبدالله بن عُمر: إنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ من الشَّجر شجرة لا يسقط ورقها وإنَّها مثل الرَّجُل المسلم، حدِّثوني ما هي؟)) قال عبدالله: فوقع النَّاس في شجر البوادي ووقَع في نفسي أنَّها النخلة، فاستحييْت، فقالوا: يا رسول الله، ما هي؟ قال: ((النخلة) قال عبدالله: فحدَّثتُ عمرَ بن الخطَّاب بالَّذي وقع في نفسي، قال عمر: لأن تكون قلتَها أحبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا.

وكان عمر بن الخطَّاب يُجلس ابن عبَّاس مع كبار الصَّحابة ويقول: "نعم ترجمان القرآن عبدالله بن عبَّاس"، وكان إذا أقبل يقولُ عمر: جاء فتَى الكهول وذو اللِّسان السَّؤول والقلب العَقول، وذات مرَّة سأل عُمر عددًا من الصَّحابة عن تفسير قولِه تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النّصر: 1]، فلم يعلموا تفسيرها، ثمَّ سأل ابنَ عبَّاس عنْها، فقال: نفْسُ رسول الله ﷺ‬ نُعِيَتْ إليْه، فقال: "لا أعلم منها إلا ما تعلم"، وقال عمر: "تفقَّهوا قبل أن تسودوا".

وقال يوسف بن الماجشون: قال لي ابنُ شهاب ولأخٍ لي وابن عمٍّ ونحن فتيان نسأله عن العلم: "لا تحقروا أنفُسَكم لحداثة أسنانِكم فإنَّ عمر بن الخطَّاب كان إذا نزل به الأمر المعضِل دعا الفتيان فاستشارَهم يبتغي حدَّة عقولهم".

وقال عبدالملك بن عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون: أتيتُ المنذر بن عبدالله الحزامي وأنا حديث السن فلمَّا تحدَّثت اهتزَّ إليَّ على غيري لما رأى فيَّ بعض الفصاحة فقال لي: من أنت؟ فقلت له: عبدالملك بن عبدالعزيز بن أبي سلمة فقال: اطلُب العلم فإنَّ معك حذاءَك وسقاءك، وقال إبراهيم بن المنذر الحِزامي: "ما رأيتُ شابًّا قطّ لا يطلُب العلم - ولا سيَّما إذا كانتْ له حدَّة - إلاَّ رحمته".

ولمَّا ولي يحيى بن أكثم قضاء البصرة كانت سنُّه عشرين سنة أو نحوها، فاستصغره أهل البصرة فقال أحدهم: كم سنّ القاضي؟ فعلم أنَّه قد استُصْغِر، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أَسِيد الَّذي وجَّه به النبيُّ ﷺ‬ قاضيًا على أهل مكَّة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الَّذي وجَّه به النبيُّ ﷺ‬ قاضيًا على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجَّه به عمر بن الخطَّاب قاضيًا على أهل البصرة.

وقصص الجوائز والمكافآت طويلة، نذكر منها أمثلة قليلة:

فحين ألَّف عليّ بن يوسف المعروف بابن خروف الأندلسي النَّحوي شرح كتاب سيبويه، وقدَّمه إلى صاحب المغرب أعطاه ألف دينار، وعندما ألَّف الجاحظ كتاب الحيوان أعْطاه ابن الزَّيَّات خمسة آلاف دينار.

وأهدى أبو الفرج الأصفهاني كتابَ الأغاني إلى سيْف الدَّولة الحمداني فأعطاه ألف دينار.

ولمَّا اطَّلع عبدالله بن طاهر على كتاب الغريب لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم أعجبه فقال: ما ينبغي لعقْلٍ بعثَ صاحبَه على تصنيف هذا الكتاب أن نحوِج صاحبه إلى طلب المعاش، وأجرى له عشَرة آلاف درهم في الشَّهر، وقد مكث أبو عبيدٍ أربعين سنةً في تأليف هذا الكتاب.

وكان ابن دُرَيد من الأذْكِياء المعروفين، وقد أمر الخليفة المقتدِر بالله أن يُجرى عليه خمسون دينارًا في كلّ شهر، وهذه أمثلة نجتزئ بها.

وأمَّا جوائز الشّعراء فهي شهيرة، ولا داعيَ لذِكْرها.

وللذكاء والأذكياء اهتمام خاصّ وعناية فائقة، وقد دوَّن ابن الجوزي في كتابه "الأذكياء" في هذا الموضوع قصصًا جميلة شائقة.

ولقد يبلغ من بعض القصص التي يتناقلها الرّواة وتدوَّن في الكتب ما تكاد لا تصدق، فهل يعقل أنَّ شخصًا يسمع لغة لا يعرف عنْها أيَّ شيء تَجري بها محاورة طويلة، فيحفظ كلَّ ما قيل؟ ذلك ما رُوي عن أديبٍ قديم هو أبو العلاء المعرّي وهو أعمى[10].

وروي عن أحد العميان أنَّه يلمس بيده الحروف على الورق، فيميّز بين ما هو بخطّ أحمر وما هو بخطّ أسود، أو يعرف باللَّمس مركز شخصٍ لم يسبق أنِ التقى به.

فقد قالوا عن علي بن أحمد بن زين الدين الحنبلي الآمدي أنَّه كان يتجر في الكتُب وعنده كتب كثيرة جدًّا، وكان إذا طلب منه كتاب من تلك الكتب نهض إلى خزانة كتُبه واستخرجه من بينها كأنه قد وضعَه لساعته، حتَّى ولو كان الكتاب من عدَّة مجلدات؛ إذ إنَّه يميز بين المجلَّد الأوَّل والثَّاني والثالث وهكذا فيخرجه بعينه فلا يحصل التباس أو تحير.

ولا يقِف الأمر عند هذا الحدّ بل إنَّه يستطيع تقدير عددِ الكُرَّاسات التي يشتمل عليْها الكتاب، والأغرب من ذلك أنَّه يمرّ يدَه على الصفحة فيقول: عدد أسطُر هذه الصَّفحة كذا وكذا سطرًا، وفيها بالقلم الغليظ كذا، وهذا الموضِع كتب فيه بالحمرة، وإن اتّفق أنَّها كتبت بخطَّين أو ثلاثة قال: اختلف الخطّ من هنا إلى هنا من غير إخلال بشيء مما يمتحن به.

ويعرف أثْمان جميع كتُبه التي اقتناها بالشراء وذلك أنَّه فكَّر في طريقة لطيفة يتمكَّن بها من معرفة ثمن كلّ كتاب، فكان إذا اشترى كتابًا بثمن معلوم أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لطيفة وصنعها حرفًا أو أكثر من حروف الهجاء لعدد ثمَن الكتاب بحساب الجمَّل، ثمَّ يلصق ذلك على طرف جلْد الكتاب من داخل ويلْصِق فوقه ورقة بقدْره لتتأبَّد، فإذا شذَّ عن ذهنه كمية ثمن كتاب ما من كتُبه مسَّ الموضع الَّذي علمه في ذلك الكتاب بيده، فيعرف ثمنَه من تثبيت العدد الملصق فيه.

ولما دخل السلطان غازان ابن السلطان أرغون، ابن السلطان أباقا ابن السلطان هولاكو، ابن السلطان جنكيزخان - بغداد سنة خمس وتسعين وستمائة، أُعْلِم بالشَّيخ زين الدين الآمدي المذكور، فقال: إذا جئت غدًا المدرسة المستنصريَّة أجتمع به، فلمَّا أتى السلْطان غازان المستنصريَّة احتفل النَّاس له واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكابرها من القضاة والعلماء والعظماء، وفيهم الشيخ زين الدين الآمدي لتلقي السلْطان، فأمر غازان أكابر أُمرائِه أن يدخُلوا المدرسة قبله واحدًا بعد واحدٍ، ويسلِّم كلٌّ منهم على الشَّيخ زين الدين ويُوهمه الَّذين معه أنَّه هو السلطان امتحانًا له، فجعل النَّاس كلَّما قدِم أميرٌ يزهون له ويعظِّمونه ويأتون به الشَّيخ زين الدين ليسلِّم عليه، والشَّيخ يردّ السَّلام على كلّ مَن أتى به إليه من غير تحرُّك ولا احتفال به، حتَّى جاء السّلطان غازان في دون مَن تقدَّمه من الأمراء في الحفْل وسلَّم على الشيخ وصافحه، فحين وضع يدَه في يده نهض له قائمًا وقبَّل يده وأعظم ملْتقاه والاحتفال به، وأعظم الدعاية له باللسان المغلي ثمَّ بالتركي ثمَّ بالفارسي، ثمَّ بالرومي ثمَّ بالعربي، ورفع به صوته عاليًا إعلامًا للناس - وكان زين المذكور يعرف بألسن عدَّة - فعجب السلطان غازان من فطنته وذكائِه وحدَّة ذهنه ومعرفته مع ضررِه، ثمَّ إنَّ السلطان خلع عليه في الحال ووهبه مالاً، ورسم له بمرتَّب يَجري عليه في كلِّ شهر ثلاثمائة درْهَم، وحظِي عنده وعند أمرائه ووزرائه وخواتينه كثيرًا.

وكان لا يُفارق الأشغال والاشتغال أبدًا وعنده تودُّد عظيم في حاله، وتؤدة تامَّة في سائر أموره وحركاته، وللنَّاس والحكَّام والرُّؤساء عليه إقبال عظيم؛ لخيره وفضلِه وورعه، ودينِه وعلمه ونزاهتِه ومروءته، توفِّي بعد سنة 712هـ.

وكان هذا العالم آيةً في تعْبير الرُّؤيا، وله كتاب في ذلك اسمه "جواهر التبصير في علم التعبير"، وله تآليف وتعاليق في الفقْه والخلاف، وكان شيخًا مهيبًا ثقة صدوقًا، وقد عمِي في آخِر عمره[11].

وشبيه بقصَّته في اللَّمس ما ذكره الصَّفدي عن شافع بن علي بن عباس الكناني العسقلاني ثمَّ المصري الضَّرير، فيما رواه الشّهاب البوتيجي، أنَّه كان جماعة للكتُب، وأنَّه خلف ثماني عشرة خزانة كتُب نفائس أدبيَّة، وكانت زوجتُه تعرف ثَمَن كلِّ كتاب وبقيت تبيع منها إلى أن أخرجت أنا من القاهرة سنة 739هـ.

ثمَّ قال الصفدي: وأخبرني المذكور أيضًا قال: كان إذا لمس الكتاب وجسَّه قال: هذا الكتاب الفلاني ملكته في الوقت الفلاني، وكان إذا أراد أيَّ مجلَّد كان قام إلى الخزانة التي هو فيها وتناوله وكأنَّه الآن وضعه فيها[12].

اهتمامهم بالمدارس والمكتبات:

عناية العلماء المسلمين بالمدارس والمكتبات أجْلى من أن تحتاج إلى توضيح، وأعرف من أن يكون هناك ضرورة لتبيانها، وقد روى ذلك المؤرخون المسلمون وفصَّلوه، كما اعترف به كثير من المستشرقين وعلماء الغرب، وممن أشاد به من كتاب الغرب مؤلف كتاب "حضارة العرب" وغيره.

وقد كانت المدارس في مكة والمدينة وبغداد ودمشق، والبصرة والكوفة وقرطبة والقيروان، وفاس والقاهرة وغيرها - موئلاً لطلاب العلم، ومرتادًا للباحثين عن المعرفة من كل صقع.

وفيما ذكره الحافظ ابن كثير في وصف افتتاح المدرسة المستنصرية ما يعطي البرهان الجلي على الشأن العظيم الذي يولونه للمدارس والمكتبات، قال: في سنة 631هـ كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبْنَ مدرسة قبلها مثلها، ووقفتْ على المذاهب الأربعة من كلّ طائفة اثنان وستون فقيهًا، وأربعة معيدين ومدرس لكلّ مذْهب وشيخ حديثٍ، وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب وعشَرة من المسلمين يشتغلون بعلْم الطب، ومكتب للأيتام، وقدّر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنَّفقة ما فيه كفاية وافرة لكل فرد.

وفي يوم الخميس خامس رجب 631هـ افتتحتْ هذه المدرسة الضَّخْمة في حفل رائع، حضره الخليفة المستنصر بالله بنفسه وأهل دولته، من الأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء، ولم يتخلَّف أحد من هؤلاء، وعمل سماط عظيم أكل منه الحاضرون، وحُمل منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواصّ والعوامّ، وخلع على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها وعلى جميع رجال الدولة والفقهاء والمعيدين، وكان يومًا مشهودًا وأنشد الشعراء القصائد الرائعة، وقد ذكر ابن الساعي في تاريخه هذا الحفل مطولاً مستوفًى، وتقرَّر لتدريس الشَّافعية بها الإمام محيي الدين أبو عبدالله بن فضلان، وللحنفية الإمام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني، وللحنابلة الإمام العالم محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، ودرس عنه يومئذ ابنُه عبدالرحمن نيابة لغيبتِه في بعض الرّسالات إلى الملوك، ودرس للمالكيَّة يومئذ الشَّيخ الصَّالح أبو الحسن المغربي نيابةً حتَّى يعيَّن شيخ غيره.

ووقفت خزائن وكتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخِها وجودة الكتب الموقوفة بها[13].

هذا الوصف الحيّ لذلك الاحتفال المهيب يكفي برهانًا على مدى ابتهاجهم بإنشاء المدارس والمكتبات وبذلهم في إقامتها.

وكان الحكم الثاني المستنصر قد أنشأ المكتبة المستنصرية بقرطبة بالأندلس، وتحتوي هذه المكتبة على أربعمائة ألف مجلد، وكانت مكتبة المدرسة النظامية التي أنشأها الوزير نظام الملك في شرقي بغداد تضمّ من الكتب في بعض الأوقات أربعمائة ألف مجلَّد، وكانت خزانة الكتب بالقاهرة بها كتُب تملأ أربعين غرفة، ولها فهرس عام بمحتوياتها من الكتب.

وكانت مكتبة طرابلس بالشام تشتمل على ثلاثمائة ألف مجلد، وقد أحرقها الصليبيون عند غزوهم الشام.

وكان الأغنياء بالأندلس يتباهون في إنشاء المكتبات الخاصة في منازلهم.

قال غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب"[14]: "والإنسان يقضي العجب من الهمة التي أقدم بها العرب على البحث، وإذا كانت هناك أمم تساوت هي والعرب في ذلك، فإنَّك لا تجِد أمَّة فاقت العرب على ما يحتمل، والعرب كانوا إذا ما استولَوا على مدينة صرفوا همَّهم إلى إنشاء مسجد وإقامة مدرسة، وإذا ما كانت تلك المدينة كبيرة أسَّسوا فيها مدارس كثيرة، ومنها المدارس العشرون التي روى بنيامين التطيلي المتوفى سنة 1173م أنَّه شاهدها في الإسكندرية، وهذا عدا اشتِمال المدن الكبرى كبغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة.. إلخ على جامعات مشتمِلة على مختبرات ومراصد ومكتبات غنيَّة، وكل ما يساعد على البحث العلمي.

وكان للعرب في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عامة، وكان في مكتبة الخليفة الحاكم الثاني بقرطبة ستّمائة ألف كتاب، منها أربعة وأربعون مجلدًا من الفهارس، كما روى مؤرِّخو العرب.

وقد قيل بسبب ذلك إن شارك الحكيم لم يستطع بعد أربعمائة سنة أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكيَّة أكثر من تسعمائة مجلَّد، يكاد ثلثُها أن يكون خاصًّا بعلم اللاهوت".

ويذكر اليعقوبي أنَّه كان في زمانه أكثر من مائة بائع للكتب (ورَّاق) في بغداد، كما ذكر أنَّ أحد الأطبَّاء امتنع من دعوة سلطان بُخارى للإقامة ببلاطه؛ لأنَّه يَحتاج إلى أربعمائة بعير لنقل مكتبته.

ولما مات الواقدي ترك ستَّمائة صندوق من الكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لحمله.

وربَّما ملك الصَّاحب بن عباد كمّيَّة من الكتُب تقدَّر بما كان في مكتبات أوربا مجتمعة.

وكان للقاضي الفاضل مستشار صلاح الدين الأيوبي مكتبة هائلة، قال الصَّاحب بن عباد يشيد بكتاب الأغاني: "كان مشحونًا بالمحاسن المنتخبة والفقر الغريبة؛ فهو للزَّاهد فكاهة، وللعالم مادَّة وزيادة، وللكاتب المتأدّب بضاعة وتجارة، وللبطَل رحلة وشجاعة، وللمتظرِّف رياضة وصناعة، وللملك طيبة ولذاذة، ولقد اشتلمت خزانتي على مائة ألف وسبعة عشر ألف مجلَّد وما فيها سميري غيره".

حفَّاظٌ بحق:

وقد سجَّل التَّاريخ الإسلامي من قصص الحفَّاظ ومدى ما وهبهم الله من حافظة قويَّة شيئًا يفوق الوَصْف، ويعجز عن حصره القلم، وذلك من آيات الله ورحمته بهذه الأمَّة وحفظه للدين، وما نُورده هنا هو قطرة من بحر ونزْر من كثير وأنموذج يدلّ على ما وراءه.

ولقد اشتهر من الحفَّاظ كثيرون، منهم: عائشة أمّ المؤمنين، وأنس بن مالك، وعبدالله بن مسعود، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبدالله، وابن عباس، وقتادة، والزهري، والشعبي وغيرهم.

قال عروة بن الزبير: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطبّ ولا بشعر من عائشة.

وقال أبو وائل: سمعتُ ابن مسعود يقول: إنِّي لأعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم، وما في كتاب الله سورة ولا آية إلاَّ وأنا أعلم فيما نزلتْ ومتى نزلت، قال أبو وائل: فما سمعتُ أحدًا أنكر ذلك عليه.

وقال أبو هريرة: ما كان أحدٌ أحفظ لحديث رسول الله ﷺ‬ منّي إلاَّ عبدالله بن عمرو؛ فإنَّه كان يعِي بقلبه وأعِي بقلبي، وكان يكتب وأنا لا أكتب، استأذن رسول الله ﷺ‬ في ذلك فأذِن له.

وقد نُقِل عن أبي هريرة من الأحاديث ما يتجاوز خَمسة آلاف حديث، وروى عنْه من الصَّحابة والتَّابعين ثمانمائة رجل.

وقال مالك: بلغ عبدالله بن عمر ستًّا وثَمانين سنة، وأفْتى في الإسلام ستّين سنة ونشر نافعٌ علمه علمًا جمًّا، وقال البخاري في أبي هُريرة: روى عنه أكثرُ من ثمانمائة رجل من بين صاحب وتابع.

وعن أبي صالح قال: لقد رأيتُ من ابن عبَّاس مجلسًا، لو أنَّ جَميع قريش فخرتْ به لكان لها به الفخر، لقد رأيتُ النَّاس اجتمعوا على بابِه حتَّى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب، قال: فدخلت عليْه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءًا، قال: فتوضَّأ وجلس، وقال: اخرج فقل لهم: مَن كان يريد أن يسأل عن القُرآن وحروفه وما أريد منه فليدخل، قال: فخرجتُ فآذنتهم فدخلوا حتَّى ملؤُوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه، وزادهم مثل ما سألوا عنْه أو أكثر، ثمَّ قال: إخوانكم فخرجوا، ثمَّ قال: اخرج فقُل: مَن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل، قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلاَّ أخبرهم وزاد مثله أو أكثر، ثمَّ قال: إخوانكم فخرجوا، ثم قال: اخرج، فقل: مَن كان يُريد أن يسأل عن العربيَّة والشعر والغريب من الكلام فليدخل، فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتَّى ملؤوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله.. ثمَّ قال: إخوانكم فخرجوا.

قال أبو صالح: فلو أنَّ قريشًا كلَّها فخرت بذلك لكان لها فخرًا؛ فما رأيتُ مثل هذا لأحدٍ من الناس!

وقال مسروق: كنت إذا رأيت عبدالله بن عبَّاس قلت: أجمل النَّاس، فإذا تكلَّم قلت: أفصح الناس، وإذا تحدَّث قلت: أعلم النَّاس، ونظر معاوية يومًا إلى ابن عبَّاس وهو يتكلَّم فأتبعه بصره وقال ممتثلاً:

إِذَا قَالَ لَمْ يَتْرُكْ مَقَالاً لِقَائِلٍ = مُصِيبٍ وَلَمْ يَثْنِ اللِّسَانَ عَلَى هُجْرِ

وقال عطاء: كان ناس يأتون ابنَ عبَّاس في الشعر والأنساب، وناس يأتون لأيَّام الحرب ووقائعها، وناس يأتون للعلم والفقه، ما منهم صنف إلاَّ يقبل عليهم بما شاؤوا.

وقال عمرو بن دينار: "ما رأيت مجلسًا أجْمع لكل خير من مجلس ابن عبَّاس، الحلال والحرام والعربية والأنساب، وأحسبه قال: والشعر.

وكان ابن عبَّاس من الحفَّاظ الندر، وقد سمع قصيدة عمر بن أبي ربيعة:

أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ = غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُ

فحفظها كلَّها من أوَّل مرَّة، حتَّى انبهر نافع بن الأزرق من هذا الحِفْظ العجيب، وحتَّى طلب من ابن عبَّاس أن ينشِدَه إيَّاها، ويقال إنَّه أنشده إيَّاها مرَّتين، مرَّة من أوَّلها وثانية من آخِرِها مقلوبة.

واستِشْهاده بالشِّعر على معاني الآيات الَّتي سأله عنها نافعٌ تدلُّ على قوَّة الحفظ وسرعة البديهة، وذلك مشهور عن ابن عبَّاس t فهو حبر الأمَّة وترجمان القرآن، وقد دعا له الرَّسول ﷺ‬ فقال: ((اللهم فقِّهْه بالدين وعلمه التأويل) وقال عبيدالله بن عبدالله بن عتبة: كان ابن عباس قد فات الناسَ بخصال: بعلم ما سبق إليه، وفقه فيما احتيج إليْه من رأيه حلم، ونسب ونائل، وما رأيتُ أحدًا كان أعلم بما سبقه من حديث النبي ﷺ‬ منه، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربيَّة ولا تفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منْه، ولا أعلم فيما مضى ولا أثقب رأيًا فيما احتيج إليْه منه، ولقد كان يجلس يومًا ما يذكر فيه إلاَّ الفقه ويومًا ما يذكُر فيه إلا المغازي ويومًا الشعر ويومًا أيام العرب، وما رأيتُ عالماً قطّ جلس إليْه إلاَّ خضع له، ولا وجدت سائلاً سأله إلا وجد عنده علمًا، قال: وربَّما حفظتُ القصيدة من فيه ينشدُها ثلاثين بيتًا".

وقال عطاء: ما رأيتُ مجلسًا أكرم من مجلس ابن عبَّاس أكثر فقهًا ولا أعظم هيبة وأصحاب القرآن يسألونه وأصحاب العربية يسألونه وأصحاب الشِّعر عنه يسألونه، فكلهم يصدر في واد أوسع.

ويضرب المثل بقتادة بن دعامة السدوسي في حفظه، قال قتادة: ما سمعت شيئًا إلا وعاه قلبي وما قلتُ لمحدِّث: أعد عليَّ.

وقال أحمد بن حنبل عنْه: هو أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئًا إلاَّ حفِظه، وقرئتْ عليه صحيفة مرَّة فحفظها، وقال محمَّد بن سيرين: هو من أحفظ النَّاس، وقال أبو بكر المزني: ما رأيت أحفظ منه، وقال مالك بن أنس: جاء الزهري بحديث فلقِيته في بعض الطَّريق فأخذت بلجام دابَّته فقلت: يا أبا بكر، أعِد عليَّ الحديث الذي حدَّثتناه، قال: وتستعيد الحديث؟! قال: قلتُ: وما كنت تستعيدُ الحديث؟! قال: لا، قلت: ولا تكتب، قال: لا.

وسُئِل عامر بن شراحيل الشعبي عمَّا بلغ إليه حفظه، قال: ما كتبت سوداءَ في بيضاء ولا حدَّثني رجل بحديث إلاَّ حفِظْته، وقال أيضًا: ما أودعتُ قلبي شيئًا فخانني قط.

وحفِظ الإمام مالك القُرآن وشرع في حفظ الحديث صغيرًا وكان قوي الحافظة، وكان من عادته وهو يسمع الأحاديث أن يعقد عقدًا بعددها بخيْط في يده ثمَّ يتبيَّن ما تبقَّى في ذاكرته منها، وذات يوم سمع من ابن شهاب ثلاثين حديثًا فوعاها كلَّها إلاَّ حديثًا واحدًا منها، فعاد إلى ابن شهاب يسأله عن هذا الحديث، فقال له ابن شهاب: ألَم تكن في المجلِس؟ فقال مالك: بلى، قال ابن شهاب: فما لَك لم تحفظ؟ قال مالك: إنَّها ثلاثون وإنَّما ذهب عني واحد، فقال ابن شهاب: لقد ذهب حِفْظ الناس؛ ما استودعتُ قلبي شيئًا قطّ فنسيتُه، هات ما عندك فراجعَ عليه مالك وأخبره ابن شهاب بالحديث الذي نسيه.

وقال الزّهري: سمعت من العلم شيئًا كثيرًا فظننت أنَّني قد اكتفيت، حتَّى لقيت عبيدالله - يعني ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود فإذا كأنِّي ليس في يدي شيء.

وقال الذهبي: "عطاء - يعني ابن أبي رباح - حجَّة بالإجماع، وقال أحمد بن المعدّل: كلَّما تذكَّرت أنَّ التّراب يأكل لسان عبدالملك - يقصد ابن أبي سلمة الماجشون - صغرت الدّنيا في عيني".

وقد اشتهر الأئمَّة بالحفظ، وبعض المحدّثين وغير واحد من الفقهاء واللّغويين والمؤرّخين والأدباء، كالإمام أحمد وأبي داود وأبِي زرعة ويحيى بن معين وعبدالله بن المبارك والأوْزاعي وغيرهم.

قال سفيان الثوري: الملائِكة حرَّاس السَّماء وأصحاب الحديث حرَّاس الأرض.

وقال يزيد بن زريع: لكلّ دينٍ فرسان، وفرسان هذا الدّين أصحاب الأسانيد، وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة! فقال: تعيش لها الجهابذة، قال عبدالله ابن الإمام أحمد بن حنبل: كتَبَ أبي عشرة آلاف ألف حديث ولم يكتب سوادًا في بياض إلاَّ قد حفظه، وقال أيضًا: سمعت أبا زرعة يقول: كان أبوك يَحفظ ألفَ ألف حديث، قيل: وما يُدريك؟ قال: ذاكرتُه، فأخذت عليه الأبواب، وقال حنبل: سمعت أبا عبدالله يقول: حفظتُ كلَّ شيء سمعته من هشيم، وهشيم حي.

وقال أحد معاصري الإمام الأوزاعي: أفْتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة بـ: حدثنا وأخبرنا، وقال أبو زرعة: رُوي عنه - يعني الأوزاعي - ستّون ألف مسألة، وقال الجمحي: ما رأيت أقرب شبهًا بالزهري من يحيى بن سعيد، ولولاهما لذهب كثيرٌ من السّنن.

وقال أبو زرعة: أخرج إليَّ أبو عبدالله أجزاء كلّها سفيان - سفيان - ليس على حديث منها حدَّثنا فلان، فظننتُها عن رجل واحد فانتخبت منها، فلمَّا قرأ عليَّ جعل يقول: حدَّثنا وكيع ويحيى، حدَّثنا فلان، فعجبت من ذلك وجهدت أن أقدر على شيءٍ من هذا فلم أقدر، وقال عبدالله: قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع فإن شئت أن تسألني عن الكلام وإن شئت بالإسناد حتَّى أخبرك عن الكلام.

وقال الإمام أحمد: كلّ حديث لا يعرفه يَحيى بن معين فليس بحديث.

وذكر الحافظ الذهبي في طبقات الحفَّاظ أنَّ الرَّشيد أخذ زنديقًا ليقتله، فقال: أين أنت من ألف حديثٍ وضعتها؟ فقال: أين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك يتخلَّلانها فيخرجانها حرفًا حرفًا.

وكان أبو زرعة الرَّازي يحفظ مائة ألف حديث، ويقال: كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة ليس له أصل، وقال هلال بن المعلَّى الرقّي: منَّ الله على هذه الأمَّة بأربعة: بالشَّافعي فَهِم الأحاديث وفسَّرها وبيَّن مجملها من مفصلها والخاص والعام والنَّاسخ والمنسوخ، وبأبي عُبيد بيَّن غريبها، وبيحيى بن مَعين نفى الكذب عن الأحاديث، وبأحمد بن حنبل ثبَت في المحنة، لولا هؤلاء لهلك النَّاس.

ومن الحفَّاظ أبو عيسى التّرمذي، قال فيه ابن حبَّان: كان ممَّن جمع وصنَّف وحفظ وذاكر.

وجمع الإمام أحمد في المسند نحوًا من أربعين ألفَ حديث انتخبَها من أكثرَ من سبعِمائة ألف حديث، والذين روى عنهم في مسنده من الصَّحابة نحوٌ من ثمانمائة سوى ما فيه ممَّن لم يسمَّ، وأبو داود السجستاني جمع في سُننه أربعة آلاف وثمانمائة حديث اختارها من خمسمائة ألف ألف حديث، وكان قد رحل إلى الآفاق في طلب العلم وسمع الكثير عن مشايخ البلدان في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان وغير ذلك، قال إبراهيم الحربي: أُلين لأبي داود الحديث كما أُلين لداود الحديد.

ومسلم بن الحجَّاج القُشيري النيسابوري صاحب الصَّحيح الَّذي اتَّفق العُلماء على صحَّة كتابه، كان قد رحل في طلَب العِلْم إلى خراسان والرّيّ والعراق والحجاز ومصْر والشَّام، وجدَّ في الطَّلب وبلغ في هذا العلم شأوًا بعيدًا، وقد انتقى كتابَه من ثلاثِمائة ألف حديث.

وأبو عبدالله محمَّد بن يزيد بن ماجه صاحب السنن، كتابه يشتمل على أربعة آلاف حديث كلُّها جياد سوى اليسير منها، قال ابن كثير: ولابن ماجه تفسيرٌ حافل وتاريخ كامل من لدن الصَّحابة إلى عصره.

وبقي بن مخلد الأندلسي روى في مسندِه عن ألف وستمائة صحابي.

وكان الحافظ محمَّد بن إسماعيل البخاري وهو صبي يحفَظُ سبعين ألف حديث سردًا، وطلب العلم في يفاعته وقرأ الكتُب المشهورة وهو ابن ستَّ عشرةَ سنة، وقال البخاري عن نفسِه: فكَّرت البارحة فإذا أنا قد كتبت لي مصنفات نحوًا من مائتي ألف حديث مسندة، وكان يحفظها كلها.

وذكروا أنَّه كان ينظر في الكتاب مرَّة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة، ولا بدع في ذلك أن يَقول فيه الإمام أحمد: ما أخرجتْ خُراسانُ مثلَه، وقال مرجَّى بن رجاء: هو آية من آيات الله تَمشي على الأرض، وقال الترمذي: لم أرَ بالعراق ولا في خراسان في معنى العِلل والتَّاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري، وقال ابن خزيمة: ما رأيتُ تحت أديم السَّماء أعلم بحديث رسول الله ﷺ‬ ولا أحفَظَ له من محمَّد بن إسماعيل البُخاري، وقال الفلاَّس: كلّ حديثٍ لا يعرفه البُخاري فليس بحديث.

ودخل البخاري مرَّة إلى سمرقند فامتحنَه علماؤها امتحانًا عسيرًا، ولكنَّه خرج من هذا الامتِحان ظافرًا منتصرًا، فقد اجتمع أربعمائة من علماء الحديث بها فركَّبوا أسانيد وأدْخلوا إسنادَ الشَّام في إسناد العراق وخلطوا الرّجال في الأسانيد، وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، ثم قرؤُوها على البخاري فردَّ كلَّ حديث إلى إسناده، وقوَّم تلك الأحاديث والأسانيد كلَّها وما تعنَّتوا فيها، ولم يقدروا أن يعلقوا عليه بسقطة في إسناد ولا متن[15].

وممَّن روى المؤرِّخون عنهم قوَّة الحفظ: محمَّد بن إبراهيم بن عمران القفصي الكفيف، كان شاعرًا مجيدًا عالمًا بالغريب قادرًا على التَّطويل في قصائده، يصنع القصيدةَ تبلُغ المائة بيت وأكثر في ليلتها، فيحفظُها ولا يشذّ عنْه منها شيء، ويسرد أكثر مسائل العَين للخليل بن أحمد حفظًا[16].

وكان المبارك بن المبارك وجيه الدّين بن الدَّهان الواسطي يَعرف ستَّ لغات، هي: العربيَّة، والتّركية، والفارسيَّة، والرّومية، والحبشيَّة، والزنجيَّة، وكان إذا قرأ عليه عجمي واستغلق عليه المعنى فهَّمه إيَّاه بالعجميَّة، ومن طرائف هذا العالم أنه لا يغضب أبدًا[17].

ومن الحفَّاظ المعدودين والمؤلِّفين المكثرين والعلماء المحقِّقين: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، قال عنْه صلاح الدين الصَّفدي: حافظ لا يُجارى ولافظ لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله ونظر علله وأحواله، اجتمعتُ به وأخذتُ عنه وقرأت عليه كثيرًا من تصانيفه، وأعجبني ما يُعانيه في تصانيفه من أنَّه لا يتعدَّى حديثًا يورده حتَّى يبيِّن ما فيه من ضعفِ متن أو ظلام إسناد أو طعن في رواة.

ومن الحفَّاظ المبرزين أبو الفداء إسماعيل بن كثير، قال في "شذرات الذهب": "كان كثير الاستِحْضار قليل النسيان، جيّد الفهم، يشارك في العربيَّة، ونقل عن ابن حبيب قوله فيه: سمع وجمع وصنَّف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنَّف، وحدَّث وأفاد، وطارتْ أوْراق فتاويه إلى البلاد، واشتهر بالضَّبط والتَّحرير وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير".

وهذا واحدٌ من أعاجيب زمانه في الحديث، وهو عبدالغني بن سرور المقدسي، قال الضياء في فضائل الحفَّاظ: عبدالغني بن سرور المقْدسي، كان شيخنا الحافظ لا يكاد أحدٌ يسأله عن حديثٍ إلاَّ ذكره له وبيَّنه وذكر صحَّته أو سُقمه، ولا يُسأل عن رجُل إلاَّ قال: هو فُلان بن فلان الفلاني ويذكُر نسبَه.

قال: وسمعت شيخَنا الحافظ عبدالغني يقول: كنتُ يومًا بأصبهان عند الحافظ أبي موسى فجرى بيْني وبين بعض الحاضرين منازعة في حديث، فقال: هو في صحيح البخاري، فقلتُ: ليس هو فيه، قال: فكتب الحديث في رقعة ورفعها إلى الحافظ أبي موسى يسألُه عنه، قال: فناولني الحافظ أبو موسى الرُّقعة وقال: لم تقول هل هذا الحديث في البخاري أم لا؟ قلت: لا، قال: فخجل الرَّجُل وسكت.

قال: وسمعت أبا طاهر بن إسماعيل بن ظفران النَّابلسي يقول: جاء رجلٌ إلى الحافظ، فقال: رجُل حلف أنَّك تحفظ مائةَ ألفِ حديث، فقال: لو قال أكثر لصدق.

قال الضياء: وشاهدتُ الحافظ غير مرَّة بجامع دمشق يسأله بعضُ الحاضرين وهو على المنبر: اقرأ لنا أحاديث من غير أجزاء، فيقرأ الأحاديث بأسانيدِها عن ظهر قلبه، قال الضياء: وسمعت أبا سليمان بن الحافظ يقول: سمعتُ بعضَ أهلنا يقول: إنَّ الحافظ سئل: لم لا تقرأ الأحاديث من غير كتاب؟ فقال: إنني أخاف العُجب، وسمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن الحافظ قال: سمعتُ عليَّ بن فارس الزجَّاج العلثي الشَّيخ الصالح قال: لمَّا جاء الحفَّاظ من بلاد العجم قلت: يا حافظ ما حفِظت بعد مائة ألف حديث؟! فقال: بلى أو ما هذا معناه، قال: وسمعت أبا محمد عبدالعزيز بن عبدالملك الشيباني بمرو يقول: سمعت التَّاج الكندي يعني أبا اليُمْن يقول: لم يكن بعد الدَّارقطني مثل الحافظ عبدالغني[18].

ومن المشهورين بالحفظ الباهر شيخ الإسلام ابن تيميَّة، قال جمال الدين السرمدي في أماليه: "ومن عجائب زمانِنا في الحفظ ابن تيمية، كان يمرّ بالكتاب مرَّة مطالعة فينقش في ذهنِه وينقله في مصنَّفاته بلفظه ومعناه"[19].

وكان من نوادر الحفَّاظ وأفذاذ العُلماء الفطاحل، كان بعض المشايِخ من العلماء بحلب قدم إلى دمشق وقال: سمعت في البلاد بصبيّ يقال له أحمد بن تيمية وأنَّه سريع الحفظ، وقد جئت قاصدًا لعلّي أراه، وسأل عنه فقيل إنَّه في الكتاب وسيمرّ من هنا قريبًا، فانتظره الشَّيخ حتَّى مرَّ فأخبر به فناداه الشَّيخ، وتناول اللوح فنظر فيه، ثمَّ قال له: يا ولدِي، امسح هذا حتَّى أُملي عليك شيئًا تكتُبه، ففعل فأملى عليه من متون الأحاديث أحدَ عشر أو ثلاثة عشر حديثًا، وقال له اقرأ هذا، فلَم يزدْ على أن تأمَّله مرَّة واحدة، ثمَّ دفعه إليْه، وقال: أسمعه عليَّ، فقرأه عليه عرضًا كأحسن ما أنت سامع، فقال له: يا ولدي امسحْ هذا، ففعل فأملى عليه عدَّة أسانيد انتخبها، ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه كما فعل أوَّل مرَّة، فقام الشَّيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبيّ ليكونن له شأن عظيم؛ فإنَّ هذا لم ير مثله، أو كما قال.

لقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية بين الفهْم والحفظ والاجتِهاد والعبادة، وحصَّل من العلم وقوَّة الحجة ما بهر العقول، ومن اجتهاده في طلب العلم أنَّه سمع مسند الإمام أحمد بن حنبل أرْبع مرَّات وسمع الكتُب الستَّة والأجزاء الستَّة، كما سمع معجم الطبراني الكبير، وقال الشَّيخ كمال الدين ابن الزملكاني: كان إذا سُئِل عن فنّ ظنَّ الرَّائي والسَّامع أنه لا يعرف غير ذلك الفنّ وحكم أنَّ أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطَّوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه ولا تكلَّم في علمٍ من العلوم سواءٌ أكان من علوم الشَّرع أو غيره إلاَّ فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطُّولى في حسن التَّصنيف وجودة العبارة والتَّرتيب والتقسيم والتبيين.

وكان حمَّاد الرَّاوية من أعلم النَّاس بأيَّام العرب وأخبارها وأشعارها ولغاتها، وهو الَّذي جمع المعلَّقات السَّبع الطّوال، وإنَّما سمي الرَّاوية لكثيرة روايته الشعر عن العرب.

اختبره الوليد بن يزيد بن عبدالملك بن مروان في ذلك، فأنشده تسعًا وعشرين قصيدة على حروف المعجم كلّ قصيدة نحوًا من مائة بيت، وزعَم أنَّه لا يسمَّى شاعرٌ من شُعراء العرب إلاَّ أنشد له ما لا يحفظُه غيره، فأطلق له مائة ألف درهم.

وقال عمر بن شبَّة: سمعتُ الأصمعي يقول: أحفظ ستَّة عشر ألف أرجوزة، وكان أبو بشر البندنيجي يحفظ شعرًا كثيرًا وأدبًا جمًّا، وقال: حفِظْتُ في مجلس واحد مائةً وخمسين بيتًا من الشعر بغريبِها.

وقرأ أبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن سِيده الضَّرير على الشَّيخ أبي عمرو بن الطلمنكي كتاب الغريب لأبي عبيد سردًا من حفظه، فتعجَّب النَّاس لذلك، وكان الشَّيخ أبو عمرو يقابل بما يقرأ في الكتاب فسمع النَّاس بقرائته من حفظه[20].

وقال الخليل بن أحمد: ما سمعت شيئًا إلاَّ كتبته ولا كتبته إلاَّ حفظته، وما حفظته إلاَّ نفعني، وقد ابتكر الخليل ابتكاراتٍ لم يُسْبَق إليها؛ إذ كان أوَّل من ألَّف المعجمات ورتَّب كلام العرب علىالحروف في كتابه المسمَّى بـ "العين"، وهو الَّذي اخترع العَروض وأحدث من الشِّعر أنواعًا ليست من أوْزان العرب.

وكان أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن الأعرابي حفظةً راويةً، أخذ العلم عنه كثيرون من آخرهم عبدالرحمن بن عمر النحَّاس، قال ابن منده: إنَّه كتب عن ابن الأعرابي بمكَّة ألف جزء، وقال أبو العبَّاس ثعلب: شاهدتُ مجْلس ابن الأعرابي وكان يَحضره زهاء مائة إنسان، وكان يسأل ويقرأ عليه فيُجيب من غير كتاب، ولزمته بضْعَ عشرة سنة ما رأيت بيده كتابًا قطّ، ولقد أملى على النَّاس ما يحمل على أجْمال، ولم ير أحدٌ في علم الشِّعْر أغزر منه[21].

وكان يحيى بن زياد الفرَّاء إمام الكوفيِّين يلقَّب بـ "أمير المؤمنين في النَّحو" حتَّى قال ثعلب: لولا الفرَّاء ما كانت اللغة، وكان مع تقدُّمه في اللغة متكلمًا فقيهًا عالمًا بأيَّام العرب وأخبارِها، وكان عارفًا بالنجوم والطّبّ، من كتُبه "معاني القرآن" أملاه في مجالس عامَّة كان في جملة من يحضُرها نحو ثمانين قاضيًا[22].

وكان أبو تمَّام حبيب بن أوس الطَّائي يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب، غير القصائد والمقاطيع.

واشتهر أبو الطيب المتنبي بقوَّة الحفظ وكان يتردَّد إلى الورَّاقين ليفيد من كتُبِهم، ومع ملازمته للعلماء والأدباء والرِّحلات في طلب العلم فقد كان يلازم الورَّاقين كذلِك ويطالع في كتُبهم، وربَّما حفِظ الكتاب من أوَّل قراءة، فقد روِي أنَّ المتنَبي كان عند أحد الوراقين يومًا فجاءه رجل بكتاب من نحو ثلاثين ورقة ليبيعه فأخذ أبو الطيب الكتاب وأقبل يراجع صفحاته، فلمَّا ملَّ صاحب الكتاب ذلك استعجله قائلاً: يا هذا، لقد عطلتني عن بيعه فإن كنت تبغي حفظه في هذه الفترة القصيرة فذلك بعيد عليْك، قال المتنبي: فإن كنتُ حفِظْتُه فما لي عليْك؟ قال الرَّجُل: أعطيكَه، قال الورَّاق: فأمسكتُ الكتاب أراجِع صفحاتِه والغلام يتْلوها به حتَّى انتهى إلى آخِرِه، ثمَّ استلبه فجعله في كمِّه ومضى لشأنه.

وكان أبو بكر بن الأنباري يَحفظ مجلَّدات كثيرة حتَّى قيل: إنَّه يحفظ أحْمال جمال، وأنَّه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرًا، وكان يحفظ في كلّ جمعة عشرة آلاف ورقة.

ومنهم الحسن بن علي بن ثابت المقرئ صاحب المنظومة في القراءات السبع، ولد أعمى وكان حافظاً ذكيًّا، وكان يحضر مجلس ابن الأنباري ويحفظ ما يُمْلِي.

والحسين بن هداب بن محمد بن ثابت الديري الضَّرير المقرئ، كان يقرئ النَّحو واللغة والقراءات وكان يَحفظ عدَّة دواوين من شعر العرب.

والخضر بن ثروان بن أحمد الثعلبي؛ كان يحفظ المجمل وشعر الهذليِّين وأخبار الأصمعي، ورؤبة بن العجاج وذي الرمَّة وغيرهما من المخضرمين وأهل الجاهلية والإسلام.

وعبدالله بن محمد المكفوف النحوي القيرواني، كان عالمًا بالغريب والعربيَّة والشعر وتفسير المشروحات وأيَّام العرب وأخبارها، له كتاب في العروض يفضله أهل العِلْم على كلّ ما صنّف لمَّا بين وقرَّب، وكان يجلس مع حمدون النعجة في مكتبِه فربَّما استعار بعض الصبيان كتابًا فيه شعر أو غريب أو شيء من أخبار العرب فيقتضيه صاحبه إياه، فإذا ألحَّ عليه أعلم أبا محمَّد المكفوف فيقول له: اقرأه علي، فإذا فعل قال: أعِدْه ثانية، ثم يقول: ردَّه إلى صاحبه ومتَى شئت تعال حتَّى أمْلِيه عليك، وكانت الرحلة إليْه من جميع أفريقية لأنَّه كان أعلم النَّاس بالنحو واللغة والشّعر وأيَّام العرب.

وكان أبو الفرج الأصبهاني مؤلف الأغاني يحفَظ الشّعر والأخبار والآثار والأحاديث المسنَدة والأدب والنَّسب، قال أحد معاصريه: لم أرَ قطّ مَن يحفظ الشعر مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخرى منها اللّغة والنَّحو والحرْف والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئًا كثيرًا، مثل علم الجوارح والبيطرة وشيء من الطّبّ والنّجوم والأشربة وغير ذلك، وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان ظرفاء الشّعراء.

وكان أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد بن أصبغ السُّهَيلي ممَّن جمع بين الرواية والدّراية، ومن تصانيفه "الرَّوض الأنُف في شرح السيرة النبويَّة" وهو كتاب نفيس جدًّا، ذكر أنَّه استخرجه من نيّف وعشرين ومائة ديوان.

وذكر صاحب "شذرات الذهب" عن فخر الدين أبي الفضائل المعروف بالفخر المصري أنَّه حفظ كتبًا كثيرة وحفِظ مختصر ابن الحاجب في تسعةَ عشر يومًا، وكان يحفظ في المنتقى كلَّ يوم خمسمائة سطر.

قال بعض الأُدباء: "واعتمد جلُّ هؤلاء الرُّواة على الذَّاكرة والحفظ، فكانوا يُنْشِدون الأشْعار أو يُمْلونها دون الرّجوع إلى مصدر مكتوب، ولهم في كتب الآداب نوادرُ فيها كثيرٌ من المبالغات.

فعمر بن شبَّة يرْوي أنَّه سمع الأصمعي يقول: أحفظ عشرة آلاف أرجوزة.

وكان أبو عبيدة مغيظًا من دعْوى الأصمعي من أنَّه ما قرأ كتابًا قطّ فاحتاج أن يعود إلى ما فيه، ولا دخل قلبَه شيءٌ قطُّ وخرج منْه.

وقالوا: إنَّ الأصمعي يَحفظ نصف اللغة، وقالوا: إنَّ الأحمر صاحب الكسائي ومؤدّب الأمين يَحفظ أربعين ألف بيت شاهد في النحو، سوى ما كان يَحفظ من القصائِد وأبيات الغَريب.

وقالوا: إنَّ الفرَّاء أمْلى كتُبَه كلَّها حفظًا، لم يأخذ بيدِه نسخة إلاَّ في كتابَين، ومقدار كتُب الفرَّاء ثلاثة آلاف ورقة، ومع ذلك فإنَّه يقال: إنَّ الأحمر كان أحسنَ حفظًا منْه، وقال ابن الأعرابيّ لثعلبٍ: أمليت قبل أن تَجيئني يا أحمدُ حمل بعير، وكان الرِّياشي يَحفَظ كتُب الأصْمعي كلَّها وأبي زيد كلَّها[23].

مؤلفات كثيرة:

ولا ينقضي عجب المرء وهو يرى ويسمع عن مؤلفات هائلة جد علماء المسلمين في تأليفها. حتى لتكاد أحياناً لا تصدق لولا أنها معلومة الثبوت ولا سبيل للشك فيها؛ فمنهم من بلغت مؤلفاته ستمائة كتاب، ومن له خمسمائة كتاب، ومن له ثلاثمائة، ومن ألف مائتين أو مائة وغير ذلك.

وسنذكر بعضًا من هؤلاء العلماء في فنون متنوِّعة:

- كان أبو عمرو بن العلاء الشيباني يخرج إلى البادية ومعه الورق والمداد فيدوّن ما يسمعه، وقد قيل: إنه جمع أشعار نيّف وثمانين قبيلة، فكان كلَّما عمل شعر قبيلة وأخرجه إلى الناس كتب مصحفًا وجعله في مسجد الكوفة، حتَّى كتَب نيفًا وثمانين مصحفًا بخطّه، وقد أخذ عن المفضَّل الضَّبي دواوين العرب وسمِعها منْه أبو حسَّان وابنُه عمرو بن أبي عمرو الشيباني.

- وكان محمد بن جرير من المؤلّفين المكثرين والنُّبهاء المحقِّقين؛ قال أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير محمد بن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرًا، وروَوا أنَّه مكث أربعين سنة يكتب في كلِّ يوم منها أربعين ورقة.

- وجمع أبو الفرَج الأصبهاني كتابه "الأغاني" في خمسين سنة، وحكي عن الصَّاحب بن عباد أنَّه كان يصطحب حمل ثلاثين بعيرًا من كتُب الأدب في أسْفاره ليطالِعَها، فلما وصل إليه كتاب "الأغاني" لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه استغناءً به، ولا عجب بعد ذلك أن نرى سيْف الدَّولة يكافئ مؤلِّفه بألف دينار مقابِل نسخة من هذا الكتاب أهْداها إليْه ويعتذر إليه.

- وللخطيب البغدادي قريبٌ من مائةِ مصنَّف منها، "تاريخ بغداد".

ولأبي القاسم عليّ بن الحُسين بن هبة الله بن عساكر تاريخ الشام يقع في ثمانين مجلدة.

- ولأبي محمد علي بن حزم الظاهري نحوُ أربعِمائة مجلَّد في نحْو ثمانين ألف ورقة.

- ولمحمَّد بن عمر بن الحسين الفخر الرَّازي مصنَّفات تقارب المائتين، منها التفسير المعروف.

- ولأبي محمَّد عبدالله بن مسلم بن قُتيبة الدينَوري زهاء ثلاثِمائة مصنَّف.

- وللحسن بن الهيثم مائتا كتاب، منها كتاب في الطب يقع في ثلاثين جزءًا.

- ولأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي أكثر من ثلاثمائة كتاب.

- وللجاحظ من المؤلَّفات نحوُ ثلاثمائة وخَمسين بين كتابٍ ورِسالة.

- وللطَّبيب الفيلسوف محمد بن زكريا الرازي كتاب الحاوي في ثلاثين مجلَّدة، وله مؤلَّفات كثيرة في الطّبّ وغيره، وتبلغ مؤلَّفاته مائتين واثنين وثلاثين كتابًا ورسالة.

- ولابن سيده علي بن أحمد اللغوي المشهور عدَّة كتب، منها كتاب العالم في اللغة على الأجناس، ابتدأه بالفلك وختمه بالذرَّة، يقع في نحو مائة مجلد.

- ولأبي العلاء المعرّي كتُب كثيرة في اللُّغة والأدَب، منها كتاب "الأيك والغصون" في الأدب يزيد على مائة جزء.

- وللحافظ أبي بكر عبدالله بن محمد بن أبي الدنيا مصنَّفات كثيرة، قيل: إنَّها تَزيد على ثلاثمائة مصنَّف.

- ولأبي الوفاء علي بن عقيل كتب عديدة، منها كتاب "الفنون" الَّذي هو من أعجب الكتُب وإن اختلفت الرواية في عدد مجلَّداته، قال الذَّهبي: لم يصنَّف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب. وقد قيل: إنَّه يبلغ ثمانمائة مجلد.

- ولأبي بكر ابن العربي حوالَي أرْبعين مؤلَّفًا، منها كتاب في التَّفسير يقع في ثمانين جزءًا.

- ولأبي الفرج عبدالرَّحمن بن الجوزي من المؤلَّفات ما يقدَّر بثلاثمائة كتاب، بل قدَّرها بعضُهم بأكثرَ من ذلك، وقيل: إنَّه لو قسمت الكراريس التي ألَّفها على أيَّام حياته لخصَّ كلَّ يوم تسع كراريس، وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلَّدة.

وقد كان ابن الجوزي إمامًا في الوعظ، وكان يحضر مجالس وعظِه ما بين مائة ألْف شخص وعشرة آلاف.

- ونقل محمَّد بن أحمد بن عبدالهادي في كتابه العقود الدرّية عن الذَّهبي أنَّه قال عن مؤلَّفات شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولعلَّ تصانيفِه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كرَّاس وأكثر"، وذكر أيضًا عن الذَّهبي أنَّه قال في موضع آخر عن شيخ الإسلام: "ويكتب في اليوم واللَّيلة من التَّفسير أو من الفقه أو من الأصلَين أو من الرَّدّ على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلَّدة".

وعلَّق ابن عبدالهادي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك قائلاً: وللشَّيخ - رحِمه الله - من المصنَّفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط، ولا أعلم أحدًا من متقدّمي الأمَّة ولا متأخريها جمع مثلَ ما جمع ولا صنَّف نحو ما صنف ولا قريبًا من ذلك، مع أنَّ أكثر تصانيفه إنَّما أملاها من حفظه، وكثيرٌ منها صنَّفه في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب[24].

- ومن المصنّفين المكثرين الشَّيخ محمَّد بن يوسف بن حيَّان صاحب البحر المحيط في التَّفسير و "إتحاف الأريب بما في القُرآن من الغريب" وغيرهما، وهو إمام النَّحو والصَّرف في زمانِه وكان عارفًا بالقراءات والحديث واللُّغة، وله اليد الطُّولى في التَّفسير والحديث والشّروط والفُروع وتراجم النَّاس وطبقاتِهم وتواريخهم وحوادثهم، خصوصًا المغاربة، ويقيّد أسماءَهم على ما يتلفَّظون به من إمالة وترْخيم وترقيق وتفخيم[25]، ومؤلفاته تقارب الستّين كتابًا، منها "المتين في تاريخ الأندلس" في 60 مجلدًا.

- وأحمد بن حجر العسقلاني مؤلّف "فتح الباري شرح صحيح البخاري" تنيّف كتبُه على مائة وخمسين مصنفًا.

- وابن عروة الدّمشقي الحنبلي ألَّف كتاب الدَّاري في ترْتيب مسند الإمام أحمد على صَحيح البخاري في أكثر من مائة وخمسين مجلَّدًا.

- وشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذَّهبي مؤلَّفاته كثيرة، منها تاريخ الإسلام يقارب أربعين مجلَّدًا.

قال تلميذه أبو المحاسن محمَّد بن علي الحسيني في ذيْل طبقات الحفاظ: "ومصنَّفاته ومختصراته وتخريجاته تقارب المائة".

- وكان محمد بن سالم بن نصر الله بن واصل الشَّافعي الحموي أحد الأئمَّة الأعلام يدرِّس في حلقته ثلاثين علمًا، ومن المؤلِّفين المكثرين شمس الدين ابن القيّم، قال ابن كثيرٍ في ترجمتِه: "وله من التَّصانيف الكِبار والصِّغار شيءٌ كثير، وكتب بخطِّه الحسن شيئًا كثيرًا، واقتنى من الكتب ما لا يتهيَّأ لغيره تَحصيل عشره من كتُب السَّلف والخلف".

- وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي مؤرّخ له تصانيف كثيرة ممتعة زهاء مائتي مصنف.

- ولجلال الدين عبدالرحمن السيوطي من المؤلَّفات ما بين صغير وكبير ما يقارب ستمائة كتاب.

- ولمحمد بن علي الشوكاني أكثر من سبعين مصنَّفًا.

- وحسن صديق خان مؤلَّفاته حوالي مائتي مجلد.

- ومولانا أشرف علي التهانوي له تِسعمائة وعشرة كتب.

من مآسي العلماء:

لا يسع المرْءَ إلاَّ أن يملأَه الإعجاب بأولئِك العُلماء الأفذاذ، الَّذين بذلوا جهودًا جبَّارة في خدمة الدّين والعلم، وإبْعاد الشوائب عنهما، وما قاموا به من تحقيق علمي في صدق وأمانة وصبر وجلد، مفضلين العلم والتعب فيه على مسرَّات الحياة ومباهجِها، فمنهم مَن كان قانعًا بشظف العيش راضيًا به، زاهدًا عن مباهج الحياة وترَف الثَّراء، ومنهُم مَن أضناه السَّهر وأرْهقه النَّصب حتَّى أُصيب بعاهة من عمًى أو مرَض أو ذهول، ومنهم مَن صارع الباطِل وقاوم الفتنة وصمد في وجوه المبتدعين، فناله من المتاعب والمصائب ما يطول نعتُه، ومنهم من تعرَّض وهو ساع في تحصيل العلم والغرْف من مناهله لمشاكل، بعضُها مؤلِم وبعضُها مضحِك، ومنها ما يقال له: المضحك المبكي! ولا يتَّسع المجال للتعداد، وحسبنا من القلادة ما طوَّق العنق، أو يكفيك من شر سماعه!

ومن هؤلاء العُلماء الذين وقعوا في مأزق حرجٍ، كان سبب موتِهم أو إصابتهم بمرض:

أحمد بن علي النَّسائي صاحب السنن في الحديث الإمام المجتهد؛ قال الدَّارقطني: أبو عبدالرحمن النَّسائي مقدَّم على كلِّ مَن يُذْكَر بهذا العلم من أهل عصرِه، وكان يسمي كتابه الصَّحيح.

وقال محمد بن المظفَّر الحافظ: سمعت مشايخَنا بمصر يعترِفون له بالتقدُّم والأمانة، ويصِفون من اجتهاده في العبادة باللَّيل والنَّهار ومواظبته على الحجّ والجهاد، كان هذا العلاَّمة مشرق الوجه يتلألأ نورًا.

دخل النَّسائي إلى دمشق فسأله أهلها أن يحدِّثَهم بشيء من فضائل معاوية، فقال: "أما يكْفي معاوية أن يذهب رأسًا برأْس حتَّى يروى له فضائل؟!" فقاموا إليه وجعلوا يطْعنون في خصيتِه حتَّى أُخْرِج من المسجد الجامع، فسار مِن عندهم إلى مكَّة فمات بها، وقيل: بل ضرب في مسجد الجامع بالرَّملة وطلب أن يخرج إلى مكَّة، فخرج وهو عليل فتوفِّي بها[26].

ومنهم: أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس النَّحْوي المصري النحَّاس صاحب تصانيف عديدة، كان سبب وفاتِه أنَّه جلس على درج المقياس على شاطئِ النّيل وهو في أيَّام زيادته، وهو يقطع بالعروض شيئًا من الشّعر، فقال بعض العوامّ: هذا يسحر النيل حتَّى لا يزيد فتغْلو الأسعار، فدفعَه برجله في النيل فلم يوقف له على خبر.

وقال أحمد بن عبيد: شاورَني ابن السكّيت في منادمة المتوكّل فنهيته، فحمل قولِي على الحسد وأجاب إلى ما دُعِي إليْه من المنادمة، فبيْنما هو مع المتوكّل جاء المعتز والمؤيَّد، فقال المتوكل: يا يعقوب، أيّما أحبّ إليْك: ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فغضَّ ابنُ السكّيت من ابنَيْه وذكَر الحسن والحسين - رضِي الله عنْهما - بما هُما أهلُه، فأمر الأتْراك فداسوا بطنَه، فحمل إلى داره فمات بعد غد ذلك اليوم[27].

وكان أبو العباس أحمد بن يَحيى المعروف بثعلب النَّحوي اللّغوي المشْهور قد أصابه صمَم، لا يسمع إلاَّ بعد تعَب، فخرج من الجامع يوم الجمُعة بعد العصْر، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمتْه فرس فألقتْه في هوَّة فأُخْرِج منها وهو كالمختلط، فحُمِل إلى منزله على تلك الحال وهو يتأوَّه من رأسه فمات ثاني يوم[28].

وسيبويه إمام النَّحاة مات كمدًا على إثْر مناظرته للكسائي في مسألة نحْوية، فقد شعر أن الحكم كان فيه حيف وممالأة للكسائي، وتصويب له في غلطه[29].

وعقد مسلم بن الحجَّاج مجلسًا للمذاكرة، فسئل يومًا عن حديث فلم يعرِفْه، فانصرف إلى منزِله فأوْقد السراج وقال لأهله: لا يدخُل أحدٌ الليلة عليَّ وقد أهْدِيَت له سلَّة من تمر فهي عنده، يأكل تمرة ويكشف عن حديث، ثمَّ يأكُل أخرى ويكشف عن آخر، فلم يزل ذلك دأبَه حتَّى أصبح وقد أكل تلك السلَّة وهو لا يشعُر، فحصل له بسبب ذلك ثقل، ومرض من ذلك فكانت سبب وفاته[30].

وكان أبو الفداء إسماعيل بن كثير ساهرًا يكتُب في كتابه العظيم "جامع المسانيد والسنن"، وكان مجهدًا نفسه لإنجاز هذا الكِتاب يرتّب ويطالع ويدوّن، وكان ضوء السّراج ينقص تدريجيًّا وابن كثير يريد أن يُنهي بحثَه، وحين انطفأ السّراج تمامًا كان ابن كثير قد فقد بصره[31].

وكان أحد العلماء قد ألَّف كتابًا في الكيمياء، فلم يستطع تطبيق نظرياته فكان عقابه صارمًا، فقد صنَّف الرَّازي للملك منصور بن نوح أحد ملوك السامانيَّة كتاب المنصوري المختصَر، وهو كتابٌ جمع فيه بين العلم والعمل، ويحتاج إليه كلّ أحد - على حدّ تعبير الصفدي - وصنَّف لهذا الملك كتابًا في الكيمياء فأعْجَبه ووصله بألف دينار، وقال: أُريد أن تُخْرِج ما ذكرتَ من القوَّة إلى الفعل، فقال: إنَّ ذلك يحتاج إلى مؤن وآلات وعقاقير صحيحة وإحكام صنعة، فقال الملك: كل ما تريده أحضره إليك وأمدّك به، فلمَّا كعَّ عن مباشرة ذلك وعمله قال له الملك: ما اعتقدت أنَّ حكيمًا يرضى بتخْليد الكذِب في كتب ينسبها إلى الحكمة، يشغل بها قلوب النَّاس ويتعبهم فيما لا فائدة فيه، والألف دينار لك صلة ولا بدَّ من عقوبتِك على تخليد الكذِب في الكتب، ثمَّ أمر أن يُضْرَب بالكتاب الَّذي وضعه على رأسه إلى أن يتقطَّع فكان ذلك الضَّرب سبب نزول الماء في عينه.

وكان موت أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المعتزلي بسبب انهيار الكتُب عليه أثناء تناوله واحدًا منها[32].

تقدم العلم يزيد المؤمن يقينًا:

كلَّما ارتقى العلْم وتطوَّرت الاكتشافات وازدادت معارف الإنسان، كان ذلك أدعى إلى الإيمان وأكثر ترسيخًا لليقين، وفي كلّ شيء آية تدلّ على وجود الله وعلى إحاطته بكلّ شيء، وأنَّه وسع كلَّ شيءٍ علمًا وعلى كلّ شيء قدير.

قال الله تعالى: ﴿عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العَلق: 5]، وقال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسرَاء: 85]، وقال: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 6]، وقال: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الذّاريَات: 21]، ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]، والعقل السليم يعترِف بوجود الله لأنَّ ذلك أمرٌ فطري، ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الرُّوم: 30].

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ = تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

ومن يدَّعي العكس فهو مكابر ملوث بالشبهات والعناد، وكذا من يحسب تقدم العلم دليلاً على الجحود والإنكار، فهو قد قلب الحقيقة وناقض الأدلَّة السمعيَّة والعقلية والفطرية، ومن انعكاس فهمه وزيغ عقله أُتيَ فلم يميز الحق من الباطل والصحيح من السقيم:

وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ = يَجِدْ مُرًّا بِهِ المَاءَ الزُّلالا

قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ = وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ

وقد أعجبتْني كلمة لمؤلف كتاب "العلم يدعو للإيمان"، فرأيت أن أذكرها هنا وأتبعها بجملة من كتاب "القرآن والعلم": "إنَّ كون الإنسان في كلّ مكان ومنذ بدء الخليقة حتَّى الآن قد شعر بحافز يحفزُه إلى أن يستنجِدَ بمَن هو أسمى منه وأقوى وأعظم، يدلّ على أنَّ الدين فطري فيه ويجب أن يقرَّ العلم بذلك، سواء أحاط الإنسان صورة محفورة بشعوره بأنَّ هناك قوة خارجية للخير أو الشر أم لم يفعل؛ فإن ذلك ليس هو الأمر المهمّ، بل الحقيقة الواقعة هي اعترافُه بوجود الله، والَّذين أُتيح لهم العلم بالعالم لا يحقّ لهم أن ينظُروا نظرة الازْدِراء إلى فجاجة أولئك الذين سبقوهم أو الذين لا يعرفون الآن الحقَّ كما نراه، بل إنَّنا على العكس يجب أن تأخذنا الرَّوعة والدَّهشة والإجلال لاتِّفاق البشَر في نواحي العالم على البحْث عن الخالق والإيمان بوجوده!

أوليستْ روح الإنسان هي التي تشعر باتِّصالها بالله؟ أم نخشى أن نقول بأنَّ الحافز الدّيني الَّذي لا يملكه إلاَّ الإنسان هو جزء من الكائن الواعي كأيَّة صفة أخرى من خصائصه؟ إنَّ وجود الحافز هو برهان على قصْد العناية الإلهية ولا يقلّ شأنًا عن عقل الإنسان المادّي العجيب الذي يكمن فيه كونه الحساس[33].

ولهذا كان الإسلام دين الفطْرة، والفطرة ليست عقلاً صرفًا ولا عاطفة محضًا إنَّما هي مزيج من العقل والعاطفة، إذا التقَيا فلم يطغَ أحدُهُما على الآخر كانت الفطرة سليمة تنشد الله وتعرف سبيلها إليه من أقرب السبُل.

وتلك الفطرة مركوزةٌ في النَّفس البشريَّة تتحرَّى إلى أداء وظيفتِها منذ تنفتِح مشاعر المرْء وتستيقظ مداركه، وكيف يغفل المرْء عن الله وفيه هذه الغريزة المتطلِّعة إلى الله المتشوّقة إلى الوصول إليه.

والتعرُّف إلى الله عن طريق هذه الفطْرة أمر سهل ميْسور لا يحتاج إلى علمٍ غزير أو نظر فلْسفي وإنَّما تكفي فيه النَّظرة الخالصة في صفحات هذا الوجود نظرة في الأرض أو السماء، في الليل أو في النهار في عالم الحياة أو الموت، في النبتة الصغيرة أو الشجرة الباسقة، نظرة واحدة إلى أية صورة من صور هذا العالم وإلى أيّ لون من ألوانه ترى العقل شواهد ناطقة بقدرة الخالق العظيم، وتحمل إلى القلب فيضًا من الإجلال والإكبار لهذا الصانع المبدع[34].

وبعد، فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - لمَّا وهب الإنسان العقل والذَّكاء دعاه للتفكُّر والتعلُّم وأرسل إليه الرُّسل داعين للهداية منادين بما يصلح النَّاس دنيا وأخرى، وما يحقِّق لهم السَّعادة في الدَّارين، ومهْما ظنَّ المرء أنَّه بلغ من المعارف والعلوم فإنَّه لم ينل إلاَّ يسيرًا كما قال الخضر لموسى - عليهما السلام -: ((ما عِلْمي وعلمك في علْم الله إلاَّ كما يأخذ هذا الطَّائر بمنقاره من البحر)).

فمَن أراد الله هدايته لم يزدَدْ من المعارف إلاَّ يقينًا وطمأنينة، ومَن غلبتْ عليه الشقوة والبوار فإنَّ كلَّ آية جديدة يشهدها أو يسمع بها لا تزيده إلاَّ عمى وضلالاً، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًْا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التّوبة: 124].

لقد أرى الله خلْقَه من عجائب قدرتِه ما يبهر العقول، قال - جلَّ وعلا -: ﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 185].

والسلام على مَن اتَّبع الهدى.


واجب المسلمين في نشر الإسلام زيد بن عبدالعزيز بن فياض

بسم الله الرَّحمن الرحيم.

الحمد لله، وأشكره وأثني عليه، وأصلّي على خاتم رسلِه سيّد ولد آدم صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة.

وبعد، فهذه محاضرة كنت ألقيتها بمقر (رابطة العالم الإسلامي) بمكّة في مساء الاثنين 29 /11 /1385هـ بدعوة من الرَّابطة.

وقد رأيتُ طبعَها في رسالة لتعميم فائدتها، واللهَ أرجو أن يوفقنا لما فيه الخير وأن يهديَ الأمَّة الإسلامية كي تنهض بواجبِها في نشر الإسلام، واتّقاء الأخطار المحيطة بها من أعدائه، وبالله التوفيق.

زيد بن فياض

واجب المسلمين في نشر الإسلام:

قال الله تعالى في محكَم كتابه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فُصلت: 33]، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقَرة: 135]، ويقول الرَّسول ﷺ‬: ((بلِّغوا عني ولو آية) وفي حديث آخر: ((ألا فليبلغ الشاهد الغائب)).

ولو ذهبنا نسوق الآيات والأحاديث والآثار في هذا الشَّأن لطال البحثُ، ولكنَّها إيماءة نَجتزئُ بها في هذا المقام، والدعوة إلى الله وإلى كتابه وتبليغ وحيه وشريعته هي وظيفة الرّسل وأتْباعهم إلى أن تقوم السَّاعة، وهي أشْرف وظيفة وأعلى مكانة وأخطر مسؤوليَّة، وقد قام الرَّسول ﷺ‬ في ذلك خير قيامٍ وجاهد من أجْل تبليغ الرِّسالة، وصبر وصابَر وتحمَّل الأذى الشَّديد غير مُبالٍ بِما يناله من عداء المشْركين وتعنُّتهم ولا ملتفتٍ إلى إغراءاتِهم ووعودهم، ولم يزل على ذلك حتَّى أتاه اليقين وأكمل الله به الدين.

واضطلع خلفاؤه بإبلاغ هذا الدين ونشْره بين الأمم، وكان لهم النَّصر والظَّفر رغْم قوَّة أعدائهم وكثرتهم وتحقّق وعد الله؛ ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غَافر: 51]، وقيَّض الله لدينه أنصارًا من مختلف الأُمم والأجناس، ومن شتَّى الأقطار والبلدان، ينافحون عنْه ويذبون عن حياضِه ويجاهدون في سبيل الله لا يخافون لوْمَةَ لائِم، ولا تزال طائفةٌ من أمَّة الإسلام على الحقّ ظاهرة إلى يوم القيامة؛ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحِجر: 9]، ومازالت أسماء قادة الإسلام المجاهدين وعُلمائه الأفاضل تُضيء التَّاريخ بأعمالِها الرَّائعة وبطولاتها النَّادرة وبذلها السَّخي، جاهد هؤلاء وغيرهم لنصْر الدّين وإعلاء كلِمة الله، فالشَّهادة في سبيل الله أمنية عزيزة لديْهِم وأمل غالٍ يتسابقون إلى الفوز به.

﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عِمرَان: 169]، ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التّوبَة: 111]، إنَّ الأسماء المشرقة في تاريخ الإسلام لتزيد المؤمن ثقةً بأنَّ الأمَّة الإسلاميَّة مهما توالتْ عليْها المحن وتكالب حولَها الأعداء فإنَّ العاقبة لها، وفي جهاد الرَّسول ﷺ‬ أعظم مثل وأكبر حافز لمواصلة السير في هذا الطريق طريق الجهاد، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

ونذكر الخلفاء الراشدين وما قاموا به من جهود تُذْكَر فتشكر، ويعترف بها حتَّى الأعداء الَّذين لم يعمهم التعصُّب وكتمان الحق.

ونذكر على سبيل المثال من خيار الأمَّة وأبطالها: سعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، وعبدالله بن عمر، والوليد بن عبدالملك، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد، وقتيبة بن مسلم، ومحمد بن القاسِم، وعمر بن عبدالعزيز، وصلاح الدين الأيوبي، ونور الدين محمود زنكي، وعمر المختار والشيخ أحمد بن عرفان الشَّهيد، ومحمد بن سعود، وعبدالقادر

الجزائري، وعبدالكريم الخطابي، وأحمد وبللو، ومحمد السنوسي، وابن باديس.

ولا ننسى من أفاضل العلماء مَن كانت لهم قدم راسخة في العلم ونقله بأمانة، وضبط السنن عن التحريفات، أو إدخال أحاديث موضوعة ونفي الشبهات والاعتراضات، ومن هؤلاء على سبيل المثال: سعيد بن المسيَّب والأئمَّة الأربعة، والبُخاري ومسلم وأصحاب السُّنن، والمحققون من الفقهاء والمفسِّرين والمؤلِّفين في العقائد والتَّاريخ، وممَّن كانوا يذبُّون عن حياض الإسلام ويدافعون عن حِماه ومنهم: عثمان بن سعيد الدارمي، وعبدالعزيز المكّي، ومحمد بن خزيمة، ومحمد بن جرير الطَّبري، وموفق الدين بن قدامة، والعزّ بن عبدالسلام، والذَّهبي، والمزّي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيّم، وابن كثير، ومحمَّد بن عبدالوهاب، والبشير الإبراهيمي، وجمال الدين القاسمي، وغيرهم كثيرون ممَّن لا يتَّسع المقام لذكرهم وممن لا يمكن حصرهم.

إنَّ البطولات والجهاد العظيم الذي أدَّاه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في أدوار التاريخ الإسلامي المختلفة، والَّذي تحمَّله أناسٌ كانوا يزهدون في التفاخُر بما أدَّوه ويعملون في صمْتٍ ولا يُريدون أن يطَّلع النَّاس على أعمالِهم إلاَّ أن يكون للاقتِداء والنَّهج على منوالِهم، ويعدّون ما يقومون به قليلاً وهم يرتَجون مثوبة الله ورضاه، ويَحرصون على سلامة النية وأن تبتعد عن الشَّوائب التي تكدر العمل الصالح، ويفضلون أن يكونوا جنودًا مجهولين لا يعلم النَّاس بأعمالهم الجليلة، هذه البطولات وتلك المثُل ينبغي أن تكون دافعًا للعمل الجادّ في سبيل الإسلام ونشْره فتلك مسؤوليَّة كلّ مسلم حسب طاقتِه وما يقدر على أدائِه في هذا السَّبيل.

لقد أدرك سلَف لأمة ما يجب عليهم في جهاد الكفَّار وما يفترض عليهم القيام به في نشر الإسلام بكل وسيلة ممكنة، في التعليم والإرشاد وفي الوعظ والتوجيه، وفي بعث الدعاة وإرسال الرسائل والكتب، وفي القتال إذا أصرَّ أعداء الدين على عنادهم واستكبارهم؛ ولذا ارتفعت راية الإسلام خفَّاقة، وفي مدَّة قرن من الزمان صارت دولة المسلمين تمتدّ من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، شيء يفوق الوصف ويذهل العقول، والسرّ كامن في وضوح الدين وإشراقه وفي قوَّة الإيمان والصبر في من حملوا لواءه لم يعبؤوا بكثرة الأعداء ولم يرهبوا الموت في سبيل الله، فنصرهم الله ومكن لهم في الأرض، ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ [التّوبَة: 40].

وكانت سيرة الرسول نبراساً لهم يهتدون بهديه ويقتفون أثره، فعندما هبط الوحي على الرسول خاتم الأنبياء المبعوث إلى النَّاس كافَّة لا فرق بين أبيض وأسود ولا بين يهودي ونصراني أو مجوسي ووثني، ولا بين جنس وجنس ولا بين وطن ووطن، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبيَاء: 107]، قام يبلغ رسالة ربّه، صابرًا على ما يلقاه من أذَى قومه واستهزائهم، يعلم القُرآن ويدعو إلى توحيد الله وعبادته، وصبر معه المؤمنون وبعد أن التفَّ حوله المؤمنون وقوِيَت شوكة المسلمين، وهاجر إلى المدينة جاهد بالسِّنان واللِّسان، وبعث الدُّعاة يفقهون النَّاس في الدين، ويعلِّمونَهم الحكمة، وكتَب إلى الملوك والرُّؤساء يدعوهم إلى الإسلام، ونبذ الوثنية والشِّرك، وعبادة الأحْبار والرُّهبان.

وهكذا سار خُلفاؤه الرَّاشدون ومن وفَّقه الله من أئمَّة المسلمين وسلاطينِهم، ولا غرْو إذا تحقَّقت على أيديهم الانتصارات وامتدَّت رقعة الإسلام في أقاصي الدّنيا، لقد كان المسلِمون دعاةَ هداية وحاملي مشاعر تُضيء الطَّريق للسَّائرين، كانوا يدعون بعلم وبصيرة إلى دين واضح يحقّق السعادة والأمْن والحياة الفاضلة، وفي الآخرة جنَّات نعيم لمَن آمن واتَّقى، وخلع الأوثان والأصنام.

ومِن أسباب نجاح الدَّعوة أن يكون الدَّاعي عالمًا بما يدْعو إليْه، وأن يكون حسن الأسلوب واضح البيان قويَّ الحجَّة حليمًا يصبِر على ما يلاقيه من السُّفهاء والمتعنِّتين، وأن يكون مستقيمًا ثابت الإيمان متحلِّيًا بالخلال الكريمة والأعمال الحسنة، وقد كانت هذه الفضائل من أقوى الأسباب في نشر الإسلام، وهذا ما يجب أن يدركه المسلمون في هذا العصر الذي طغت فيه المادية والإلحاد، وتفنن فيه الأعداء لفتن المسلمين عن دينهم، ولإغراق العالم كلّه في بحر من الظلمات والمفاسد، ويجب أن تعي الأمة الإسلامية واجبها الجسيم في هذا الصراع العنيف، وأن تحمل أنوار الهداية إلى الحائرين والمخدوعين.

فقد مرَّت بالأمة الإسلامية أدْوار مختلفة بين مدّ وجزر، وعلوّ وانخفاض، وفي القُرون الأخيرة تراكمتْ على بلاد الإسلام رواسبُ وعوائق، ففشتِ الخرافات والشِّركيات، وجهل كثير من المسلمين حقيقة الدين، وأشادوا البنايات على القبور، ونذروا لها النذور، والتمسوا منها المدد والعون، وأقاموا الاحتِفالات البدعية، وتبعوا الجهالات الحمقاء، ونسبوا ذلك للإسلام، وهو يناقض الإسلام.

ومن جهةٍ أُخرى انتشرت المذاهب الهدَّامة والأفكار المخرّبة، من سبئيَّة وقرامطة وإسماعيلية، ونصيرية ودرزية وقاديانية وبهائيَّة، فعملت عملها الفتَّاك في تشتيت الأمَّة، وإبعادها عن حقيقة الدين الصَّحيح، ولكنَّ الله الحافظ لدينه قيَّض من علماء الأمَّة وقادتها وفرسانها وعساكرها، من هبَّ لمقاومة هذه النِّحَل الفاسدة والدَّسائس الباطلة، ومازال في كلّ عصر ومصر أقوامٌ يذبُّون عن الدين، ويبينون حقائقه، سليمة من الخرافات والشبُهات والإلحاد.

كان الجهل بالدين وما يأمر به من إعداد القوَّة بأنواعها، وبكلّ ما يستحدث من اختراعات مما فيه عزّ للأمَّة الإسلاميَّة وإعلاء شأنِها سببًا في تخلُّف المسلمين وضعفهم، وغفلوا عن قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفَال: 60]، وأمثالها من الآيات الكثيرة، وكان لمخالفة ما جاء به الأمْر من الاعتِصام بحبل الله ونبْذ التفرُّق أثر ظاهر في ضعف المسلمين، والله يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾ [آل عِمرَان: 103]، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفَال: 46]، ومن يقرأ تاريخ الأندلس المفقود وغيرها يُدْرِك أي مصيبة حلَّت بالمسلمين بسبب التفرُّق والتَّنازُع، وقد مهدت هذه العوامل التي يجمعها "الجهل بالدين ومخالفة ما جاء به" للاستعمار الأوربي الصليبي.

فعمِل على تمزيق البلدان الإسلاميَّة وتفتيتها، وسام أهلَها سوء العذاب، ولم يدَّخر وسعًا في أن تصبح بلادًا نصرانية، يرتفع عليها علم الصَّليب، ويداس علم الإسلام تحت أقدام الصليبية، واستعمل القوَّة الطاغية والعسف، والإذلال حيال المسلمين، واستخدم كلَّ الوسائل، فأكثر من المبشّرين بالنصرانيَّة، وأمدَّهم بالمال والحماية، وكان منهم جيش عرمرم في كلّ مجال، وقلب مناهج التعليم، وجعلها تخدم هذه الأغراض، فابتعد بها عن الإسلام ووجَّهها نحو التَّبشير؛ فالحصص الدينيَّة تُقصى أو تضعف، والشبُهات التي يوردها أعداء الإسلام تبثّ على شكل هو غاية في المكر والدهاء، وتاريخ المسلمين وأمجادهم يتجاهلُها أولئك الصليبيون الحاقدون، ويطمِسون معالمها ويشوِّهون وقائعَها بما يدخلونه عليها من تحريف وتمويه، أمَّا تاريخ الغرب المسيحي وسير رجاله فتِلْك تنال التَّمجيد والإطراء والتَّهويل.

والمعلم منهم ليس هدفه إيصال العلوم إلى عقول الطلاَّب كما يدَّعون، ولكن تنفيذ رغبتِهم في تحْويل المسلمين إلى نصارى، أو على الأقلّ تشْكيكهم في الدين، والمستعمِرون يبعثون التلاميذ إلى المدارس النصرانيَّة في الغرب، أو في بعض البلاد الإسلاميَّة حيث المدارس المؤسّسة لغرض التَّبشير، كي يقوم أولئك الطلاَّب بين أبناء جلدتِهم بنفس الدَّور الَّذي يقوم به المبشِّرون، وهم يطمحون من وراء ابتعاثِهم إلى سلخهم عن دينهم نهائيًّا، أو حقْنِهم بالشّكوك والشّبه، فيرجعون إلى بلادهم ليبثّوا ما تلقَّوه في تلك البيئات من شبهات، ويأخذ التَّبشير أشكالاً وصورًا كثيرة في المدرسة والمستشفى في المؤلَّفات والصَّحافة والإذاعة والمحاضرات.

وبالنِّسبة للفرد والمجتمع فلكلّ أسلوب وطريقة، وحتَّى التَّبشير الصَّامت له لونه من توزيع الأناجيل والتوراة المحرَّفة والنشرات الدورية والصور وغير ذلك، وهناك الكتُب التي ألِّفت للطَّعن في الإسلام من قبل المبشِّرين، ومنها كتاب "ميزان الحقّ" للدكتور/ فاندر المستشرق الأمريكي، والدكتور/ سنكلير تسدل، وكتاب "مصادر الإسلام" لسنكلير تسدل، وكتاب "مقالة في الإسلام" للمستشرق سان، وكتاب "الهداية" وهو كتاب يطعن في القرآن وفي الإسلام، وكتاب "المسيحية في الإسلام"، ومن المجلات الَّتي يصدرها المبشّرون ومعروفة بعدائِها وتعصُّبها الشَّديد: مجلة العالم الإسلامي[35].

وقد توخَّى المبشّرون والمستشرقون أن يغمزوا المسلمين ويطعنوا في الإسلام، في كلّ المؤلفات التي يؤلفونها، إلاَّ قلة نادرة جدًّا، فكتب الدّيانات والعقائد التي يؤلفونها تكون مملوءة غالبًا بالدسّ على الإسلام والمسلمين[36]، وفي كتب التاريخ والاجتماع واللغة مطاعن ومغامز وتقليل من أهمية المسلمين.

وهم يعملون على تشجيع النعرات القومية والإقليمية، ونبش الحضارات الجاهلية، والسعي لإحباط كل تجمع إسلامي، وعملوا بنشاط وتواطؤ مع المستعمرين في هذه النواحي وسواها، كإلغاء المحاكم الشَّرعية والوقْف الإسلامي وتفكيك الأسرة، وإلى إطلاق العنان لوسائل الإعلام للطَّعن في الإسلام باسم الحرية الصحفيَّة أو حريَّة الفكر.

كما كان من مخطَّطات الاستِعْمار والمبشّرين تشويه التَّاريخ الإسلامي، وانتِقاص علماء الدين وأبطال المسلمين، وإظهارهم بمظهر النقْص والإزراء، وإلى التَّقليل من أهمية البلدان الإسلامية لزعزعة الثقة في نفوس المسلمين وتنسيتهم، وإضعاف صلتِهم بماضيهم المجيد وتراثهم الحافل؛ ليصبحوا فريسةً لدعايات المبشّرين والمستعمرين، ولربطِهم بعجلة الصَّليبيِّين حين تحلّ لهم المنزلة العالية في نفوس المسلمين، ويصبح تعظيمهم والإعجاب بتاريخهم وإنتاجهم ورجالهم علامة الرقي والتحضُّر، كما جهد النَّصارى على نشْر المجون والخلاعة، وتشْجيع تعاطي المخدّرات والمسكرات والدّعارة وتسهيل الوصول إليْها.

ومن المؤسف أن تكون لهذه الدَّسائس آثار أحدثتْ فجوات بين صفوف المسلمين، وفي تفكير شبابِهم، ولا شكَّ أنَّ هذه مصيبة خطيرة، وفادحة عظيمة، وقد كان ليلاً دامسًا وكابوسًا ثقيلاً حلَّ بالأمة الإسلاميَّة، لوْلا أن تداركها لطف الله لأصبحت في خبر كان، ولولا تحقيق الله وعدَه بحفْظِ الدين لكانت حال المسلمين في سائر البقاع كحالهم في الأندلس، فنهض في الأمَّة دعاة مصلِحون، وعلماء ينبِّهون ويحذِّرون وقادة يكافحون ويُجاهدون، وأناس غيورون، وقد جلا المستعمرون عن أكثر البلاد الإسلامية، ولكنَّهم خلَّفوا وراءهم تركة مثْقلة بما غرسوه من شكوك، وما عملوه من مكر سياسي ودعاء استعماري، فقد خلفوا تلاميذ ومدارس وغزوًا فكريًّا وثقافيًّا، هو أشدّ خطورة وأمضى فتكًا من الغزْو العسكري والسياسي، بل لقد أنشؤُوا في بعض البلدان العربيَّة الإسلامية المستقلَّة جيشًا باسم الجيش المريمي.

وما فتِئوا يغذُّون هذه الأدوات، ويسخِّرونها لتأتي بنتائج تقرب أهدافهم الأدبيَّة والماديَّة، يقول الأستاذ عباس محمود العقَّاد في كتابه "ما يقال عن الإسلام": "فليستْ حركة التَّبشير اليوم تنافُسًا بين المبشّرين والإسلام لكسب القبائل الإفريقيَّة، ولكنَّها حملة من التَّبشير على الإسلام لغزوِه في عقر داره، واستعانة على هذا الغزْو بمحترفي التَّبشير الإفريقيّين تلاميذ المبشِّرين الأوربيِّين، ومحالفته بين الاستِعْمار والوطنيَّة الإفريقية من طريق ملفوف لمحاربة الإسلام، تارة بدعْوى الوطنية وتارة بدعْوى الدين، هذه الطَّريقة تُتَّبع في أفريقية الشَّرقية، وتتَّبع في البلاد الآسيويَّة الَّتي تمكن التَّبشير من اجتِذاب فريق منها إليه، فسبيله منذ اليوم أن يجنّد الإفريقيّين والآسيويّين للحملة على الإسلام في كلتا القارَّتين، ويتوخَّى هذه الخطَّة بعيْنِها كلَّ مَن يجندون الدعاية لتحْويل المسلمين عن دينهم، وإقناعهم بدعْوة الأديان الأخرى أو بدعوة المادية والإلحاد، فإنَّهم يستتِرون ثمَّ يدفعون أمامهم تلاميذَهم الإفريقيّين والآسيويّين ويعقدونَها محالفة خفيَّة بين الاستِعْمار من بعيد، وبين القوميَّة الإفريقيَّة الآسيويَّة من قريب.

إنَّ هذه التعبئة الجديدة توافق ظروف الأحوال كما يقال، وتتدارك الأزْمة التي وقع فيها الاستِعمار بعد الصَّدمات التي لقِيَها ويلقاها تباعًا من شعوب القارتين، فهو بهذه التَّعبئة يحاول أن ينقل السلاح من يده إلى الوطني الإفريقي والوطني الآسيوي، وليس له من عدوّ يُحاربه بهذه اليد أو بتلك غير الإسلام".

وما تزالُ في بلاد الإسلام أعداد هائلة من المبشّرين النَّصارى، ومن المدارس التَّبشيريَّة، بل لقد كان الهدف الأساسي من حملات التَّبشير هو الإسلام ومُحاولة القضاء عليْه في عقر داره، فقد كان المبشّرون يعتبرون الإسلام القوَّة العتيدة التي تحطّم أحلامهم، وتقاوم بصلابةٍ عظيمة دعاويَهم وأمانيهم في أن يصبح العالم بلدًا مسيحيًّا تَحكمه دولة المسيحيِّين من الفاتيكان، وقد وضع المستعْمِرون خططًا رهيبة استخدموا فيها كلَّ الوسائل وأطْبقوا بواسطتها على جَميعِ بلاد المسلمين، وتوغَّلوا بين ربوعها، وبعد رحيلهم تركوا مخلَّفات ومبشِّرين وأدوات تنفذ رغائبِهم، وتنصاع لغزوهم الفكري وإنَّ نظرة واحدة إلى الجمعيَّات والمؤسَّسات التَّبشيريَّة تعطي البُرهان السَّاطع على ما قُلْنا، فللسويد (40) مركزًا لنشْر المسيحيَّة في أريتريا، وللنرْويج أكثر من (500) مركز تبشيري في أفريقيا، ولألمانيا أعداد كثيرة من المبشِّرين في غرب أفريقيا وقدِ افتتحت عشرات المراكز لهذه الغاية، وفي سيراليون والكاب وجنوب أفريقيا قامت جمعية نوتردام الهولنديَّة بإنشاء عشرين أسقفيَّة امتدَّ نشاطها حتَّى وسط أفريقيا، ولأمريكا أكثر من (4500) بعثة تبشيريَّة في أفريقيا، ويبلغ عدد المبشّرين من البروتستانت (98000) ثمانية وتسعين ألفًا، منهم حوالي أربعين ألفًا في أفريقيا، ولكلّ دولة مسيحيَّة أعداد كثيرة من المبشّرين، وللمبشّرين أكثر من خمسمائة جامعة وكليَّة ومعهد، وقد وضعت تحتَ تصرُّف البابا أكثر من خمسمائة مليون دولار سنويًّا للتَّبشير ومكافحة الإسلام ورعاية شؤون المسيحيَّة[37].

وينتشر مئات الآلاف من المبشّرين في آسيا وأفريقيا، وعشرات الآلاف من المدارس أُنشئت لهذا الغرض، وتنفق مئات الملايين من الجنيهات والدّولارات في سبيل التَّبشير، بل يوجد في بعض المدُن الإسلاميَّة أكثر من مائة مؤسَّسة تبشيريَّة.

هذه أمثلة موجزة ولم نقْصِد الحصر والتعداد، ومن أهمّ المؤسَّسات التبشيريَّة والمجامع النصرانيَّة:

1- المحفل العام.

2- اتحاد الكنائس.

3- الودر.

4- المؤتمر العام.

5- المجتمع الأمريكي.

6- المجمع العربي.

7- الإرسالية الأمريكية.

8- مجتمع الخدام.

9- مجلس الكنيسة.

10- جمعية الكتاب المقدس.

11- جمعية الشباب المسيحية.

12- جمعية الشابات المسيحية.

13- مشروع لوباخ لمحو الأمية.

14- مدارس الأسقفية الإنكليزية.

15- المدارس التبشيرية في البلدان وللطوائف النصرانية الكثيرة.

16- الكليات التبشيرية للبنين والبنات في مختلف البلدان.

17- المستشفيات والمستوصفات والملاجئ ودور الأحداث.

18- جامعة القديس يوسف في لبنان وتسمى حاليًّا الجامعة اليسوعية.

19- المعهد الفرنسي بالمنيرة بمصر.

20- الجامعات الأمريكيَّة في كلٍّ من: بيروت والقاهرة واستانبول وأزمير ولاهور.

21- المعهد الشرقي بمصر بالقاهرة.

22- معهد دار السلام بمصر القديمة[38].

والمبشّرون النَّصارى لا يستثنون بلدًا إسلاميًّا دون بلدٍ، فهي جميعًا هدف لهُم، فقد عقد المبشِّرون مؤتَمرهم في 1911م، وقال القس زويمر في هذا الاجتِماع:

"إنَّ الانقسام السياسي الحاضر في العالم الإسلامي دليلٌ بالغ على عمل يد الله في التَّاريخ، واستثارة للدّيانة المسيحيَّة لكي تقوم بعمل؛ إذ إنَّ ذلك يشير إلى كثرة الأبواب التي أصبحت مفتَّحة في العالم الإسلامي على مصاريعها، إنَّ ثلاثة أرباع العالم الإسلامي يَجب أن تعتبر الآن سهلة الاقتِحام على الإرساليَّات التَّبشريَّة، إنَّ في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة اليوم، وفي غرْب شبه جزيرة العرب، وفي إيران والتركستان والأفغان وطرابلس الغرب ومراكش سدودًا في وجه التَّبشير، ولكن هنالك مائة وأربعين مليونًا من المسلمين في الهِنْد وجاوه والصّين ومصر وتونس والجزائر، يمكن أن يصل إليهم التبشير المسيحي بشيء من السهولة"، ويعمل المبشِّرون كلَّ حيلة للوصول إلى تنصير المسلمين وسلْخهم عن دينهم، يقول المبشر و.رايد: "إنَّ الوصول إلى المسلِمين صعب؛ ذلك لأنَّ المسلمين يشكُّون فيمَن يتبرَّع لهم بشيءٍ من المبشرين، ويعْزون عمله إلى مأرب ما، إنَّني أُحاول أن أنقل المسلم من محمَّد إلى المسيح، ومع ذلك يظنّ المسلم أنَّ لي في ذلك غايةً خاصَّة، أنا لا أحبّ المسلم لذاته ولا لأنَّه أخ لي في الإنسانيَّة، ولولا أنَّني أريد ربحه إلى صفوف النَّصارى لما كنت تعرَّضت له لأساعده".

ومع أنَّ الغربيّين قد يلجؤون أحيانًا إلى مجاملة المسلمين وخداعِهم، فيزعمون أنَّ التَّعصُّب الصليبي قد خمد أوراه، وأنَّهم دعاة سلام ومحبَّة، وأنَّهم يَحترمون الإسلام كدينٍ راقٍ يهذِّب المشاعر ويلطِّف الأحاسيس، ويقدِّم للعالم تشْريعات عادلة، فإنَّ المطَّلع لا يفوته أنَّ هناك غارةً تشنُّ على الإسلام من هؤلاء المتشدّقين، نشرتْ مجلَّة العالم الإسلامي مقالاً للمستر واطسون بعد مؤتمر مسيحي عقد في أدنبره سنة 1910م، جاء فيه:

"وإنَّ نظرة واحدة توجَّه إلى قرارات المؤتَمر تظهر لصاحبها الحظَّ الكبير الذي كان للمسائل الإسلاميَّة من أعمال المؤتمر، فقد كان المؤتمر مؤلَّفًا من ثماني لجان اختصَّت الأولى والرَّابعة منها بالتوسُّع في بحث المسألة الإسلاميَّة من الوجهة الخارجيَّة، وفي إيجاد ميدان عام مشترك لأعمال المبشِّرين واختيار خطَّة الهجوم والغارة"[39].

ويعقد المبشِّرون مؤتمرات مختلفة، وعلى مستويات متباينة، وهدفُها بثُّ النَّصرانيَّة والطَّعن في الإسلام، وتشْويه حقائقه، وإظْهار المسلمين أمام الرَّأي العام العالمي بالمظْهَر المُزْري للتَّنفير من الإسلام، وصدّ تيَّاره على ما يدعون، ويلصقون التُّهَم بالمسلمين ويُثيرون الشُّبهات والشكوك في الإسلام، ولا يتورَّعون عن الكذِب وقلب الحقائق للوصول إلى أغراضهم.

التَّبشير في المدارس:

ويولي المبشرون التعليم أهمية خاصَّة ليحققوا هدفهم، ويتدرج الأسلوب التبشيري بحسب المراحل الدراسيَّة، فيلقِّنون الأطفال في دور الحضانة والمرحلة الابتدائية ما يناسب عقلياتهم وأذهانَهم الخالية، فيغرسون فيها دعاياتهم المسمومة، وفي المراحل المتوسِّطة والثانوية يتغيَّر الأسلوب والطريقة ليكون متَّفقًا مع ذهنيَّة الطلاب وإدراكهم والمستوى الذي يليق بِهِم، وفي الجامعات والتَّعليم العالي يكون التَّبشير قد اتَّخذ أسلوب المناقشة والبحث العلمي.

وممَّا يُساعد المبشِّرين على نفْثِ سمومهم جهْل الطَّلبة بالإسلام، وضعفهم في العلوم الدينية، ممَّا يجعل لدعايات المبشّرين أثرًا في ضعف العقيدة الإسلامية أو زعزعتها، إلا مَن رحم ربُّك.

الجامعة الأمريكية في بيروت:

وكمثَل على ما تقدَّم: الجامعة الأمريكيَّة ببيروت؛ فهذه الجامعة الكبيرة هدفها أساسًا وغاية السَّعي لتنصير المسلمين، فقد أصدرت الجامعة الأمريكيَّة في بيروت منشورًا ردَّت فيه على احتِجاج الطَّلبة المسلِمين لإجبارهم على الدّخول يوميًّا إلى الكنيسة، وقد جاء في هذا المنشور أنَّ هذه كليَّة مسيحيَّة أسّست بأموال شعب مسيحي، هم اشترَوا الأرض، وهم أقاموا الأبْنية، وهم أنشؤوا المستشفى وجهَّزوه، ولا يمكن للمؤسَّسة أن تستمرَّ إذا لم يسنِدْها هؤلاء، وكلّ هذا قد فعله هؤلاء ليوجِدوا تعليمًا يكون الإنجيل من موادِّه، فتعرض منافعه الحقيقيَّة المسيحيَّة على كلّ تلميذ، وكلّ طالب يدخل مؤسَّستنا يجب أن يعرف سابقًا ماذا يطلب منه.

هكذا يصرّح موجِّهو الجامعة الأمريكيَّة، وهذه هي الحقيقة والغرض من إنشائها.

في سنة 1863هـ عقد اجتِماع لتخْطيط الجامعة الأمريكيَّة في بيروت عند تأسيسها، وقال المجتمِعون: نحن نصرّ على الطَّابع التَّبشيري للكليَّة، وعلى أن يكون كلّ أستاذ فيها مبشرًا مسيحيًّا، يقول رشتر عن هذه الجامعة: إنَّها أرْقى مدرسة في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، إنَّ عمل الكليَّة التبشيريَّة يتناول المسلمين في الدَّرجة الأولى، وهذا ما يجعلها بارزة في ذلك بين جميع المدارس الأمريكيَّة في الإمبراطورية العثْمانية وإيران؛ إذ هي الَّتي تهيِّئ المدرِّسين المبشِّرين للمدارس الأمريكيَّة المنثورة في الشَّرق الأدنى كلّه، ويقول ستيفن بنروز: ومع ذلك فإنَّ الجامعة الأمريكيَّة كانت ولا تزال مؤسَّسة تبشيريَّة، ويقول: إنَّ الغاية القُصْوى للكليَّة السوريَّة الإنجيليَّة (الجامعة الأمريكية) أن تحتضن التَّبشير المسيحي، وتبذر بذور الحقيقة الإنجيليَّة، وعلى هذا الأساس ذهب دانيال بلس إلى أمريكا ليُثير رغبة الجمهور المسيحي لمحاولة تأسيس معْهد أدبي يعمل على نشْر الإرساليَّات البروتستانتيَّة والمدنية المسيحيَّة في سوريا والأقطار المجاورة.

ولنتأمَّل جيِّدًا عبارة: والأقطار المجاورة، ماذا تعني وأين تبتدئ وكيف تنتهي؟!

وعسى أن يفتح المسلمون عيونهم جيدًا ليدركوا ماذا يُراد بهم وبدينهم وتراثهم، ولا يُخفي المبشِّرون أنَّهم وجدوا في التَّعليم أثمن فرصة وأرْحب مجال لبثِّ عقيدتِهم، يقول بنروز رئيس الجامعة الأمريكيَّة في بيروت: "إنَّ المبشِّرين يمكن أن يكونوا قد خابوا في هدفِهم المباشر، وهو تنصير المسلمين جماعاتٍ إلاَّ أنهم قد أحدثوا آثار نهضة"، لقد برهن التَّعليم على أنَّه أثْمن الوسائل التي استطاع المبشِّرون أن يلجؤوا إليْها في سعيهم لتنْصير سوريا ولبنان وغيرهما، وقد وجد المبشِّرون في الطلاب خامات لدنة قابلة للتَّوجيه والتأثُّر بما يلقيه إليهم أساتذتهم، وفضلاً عن ذلك فقد حرص المبشرون على أن يهيِّئوا الأجواء المناسبة لطبعهم بهذا الطابع، يقول المبشر هنري جسب: إنَّ المدارس شرط أساسي لنجاح التَّبشير، وهي بعد هذا واسطة لا غاية في نفسِها، لقد كانت المدارسة تسمَّى بالإضافة إلى التَّبشير (دقّ الإسفين) وكانت على الحقيقة كذلك في إدْخال الإنجيل إلى مناطق كثيرة لم يكُن بالإمكان أن يصِل إليْها الإنجيل أو المبشِّرون من طريق آخَر، ويقول المبشِّر دانبي: كان التَّعليم وسيلة قيمة إلى طبع معرفة تتعلَّق بالعقيدة المسيحية والعبادة المسيحيَّة في نفوس الطلاَّب، ويقول: إن المدارس التبشيرية تحاول أن تنقل الطلاب إلى جوها الخاص، وتهيئ لهم جوًّا مسيحيًّا، وتحملهم فيه على ممارسة التقوى المسيحيَّة والسلوك المسيحي، وخصوصاً مادام الطالب طفلاً، وهكذا ينشأ الطالب وتنشأ معه فلسفة مسيحيَّة للحياة.

ويقول: إنَّ التَّعليم في مدارس الإرساليَّات المسيحيَّة إنَّما هو واسطة إلى غاية فقط، هذه الغاية هي قيادة النَّاس إلى المسيح، وتعْليمهم حتَّى يصبحوا أفرادًا مسيحيِّين وشعوبًا مسيحيَّة، وهذا الذي يردّده المبشر جسب هو نفس الواقع وقد قاله كثيرون، وهم يؤكدون أنَّه أتى بنتائج تسرّ المسيحيين كما أنَّهم يعطون الأطفال عناية خاصة.

ويقول المبشر جون موت: يجب أن نؤكّد في جميع ميادين التَّبشير جانب العمل بين الصغار وللصغار، وبيْنما يبدو مثل هذا العمل وكأنَّه غيرية ترانا مقتنعين لأسباب مختلفة بأن نجعله عمدة عملنا في البلاد الإسلاميَّة، إنَّ الأثر المفسد في الإسلام يبدأ باكرًا جدًّا من أجل ذلك يَجب المبادرة قبل أن تأخُذ طبائعهم أشكالها الإسلاميَّة، إنَّ اختبار الإرساليَّات في الجزائر فيما يتعلَّق بهذا الأمر وكما ظهر من بحوث مؤتمر شمالي أفريقيا اختبار جديد ومقنع، وهكذا نجد أن وجود التَّعليم في يد المسيحيِّين لا يزال وسيلة من أحسن الوسائل للوصول إلى المسلمين، ويقول المبشّر تاكلي: يجب أن نشجع إنشاء المدارس وأن نشجِّع على الأخصّ التَّعليم الغربي، إنَّ كثيرين من المسلمين قد زعْزع اعتقادهم حينما تعلَّموا اللغة الإنجليزيَّة، إنَّ الكتُب المدرسيَّة الغربيَّة تَجعل الاعتِقاد بكتاب شرقي مقدَّس أمرًا صعبًا جدًّا[40].

ولم يقتصر دور المبشّرين على نوع من التَّعليم أو التدريب أو المجتمعات؛ ففي ميدان الكشَّافة والرّياضة كان للمبشِّرين صولات وجولات، وبين العمال والطبقات الغنيَّة والفقيرة والمتوسِّطة وهكذا يلِجون كلَّ ميدان.


المستشْرقون والمبشرون في المجامع اللغوية والعلمية

لَم يكتف المبشِّرون أن يكون عملهم محصورًا في ناحية دون أخرى، والغرض واضح، وهو تحويل المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات مسيحيَّة، والاستِعاضة بالعقيدة النَّصرانية والحياة المسيحية بدلاً من دين الإسلام وعقيدة التَّوحيد والحياة الإسلامية النقية؛ ولذا فقد اقتحم المبشِّرون المجامع اللغويَّة والعلميَّة؛ بزَعْم أنَّهم يحبُّون البحث والمناقشة وإظهار العلوم وإشاعتها بين الناس، فهذا:

1- هـ.ا.ر. جب المستشرق الإنكليزي كان عضوًا بالمجمع اللغوي بمصر.

2- لوي ماسنيون المستشرق الفرنسي، كان عضوًا في المجمع اللغوي بمصر والمجمع العلمي العربي بدمشق.

3- د.س. مرجوليوث الإنكليزي المتعصب، كان عضوًا بالمجمعين السالفي الذكر.

4- ر.ا. نيكولسون مستشرق انكليزي، كان عضوًا بالمجمع اللغوي بمصر.

5- جريفني الإيطالي، كان عضوًا بالمجمع العلمي بدمشق.

6- جوتهيل من كلومبيا، كان عضوًا بالمجمع العلمي.

7- جي سوا الفرنسي، كان عضوًا بالمجمع العلمي.

8- نلينوا الإيطالي، كان عضوًا بالمجمع العلمي.

9- هارتمان ألماني الأصل، كان عضوًا بالمجمع العلمي.

10- هوتمان الهولندي، كان عضوًا بالمجمع العلمي.

ويغلب على هؤلاء تعصُّبهم الشَّديد ضدّ الإسلام واشتهارهم بالكتابات المعادية للإسلام[41]، لقد كان للمستعْمرين والمبشِّرين أهداف منوّعة، فهم يريدون القضاء على الإسلام لتنتشِر المسيحية ويزول الإسلام عن منافستها في زعمهم؛ لأنَّه أشدّ مقاومة وأمكن في النفوس وأسهل في القبول من غيره من الدّيانات والمذاهب.

يقول المستشرق لورانس براون: "إن الخطر الحقيقي يكمن في نظام الإسلام وفي قدرة هذا الدين على التوسّع والإخضاع وفي حيويَّته، إنَّه الجِدار الوحيد في وجْه الاستعمار الأوربي، ويقول المستشرِق الألماني بيكر: إنَّ هناك عداءً من النَّصرانيَّة للإسلام بسبب أنَّ الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى أقام سدًّا منيعًا في وجْه الاستِعْمار وانتشار النصرانية، ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها".

وها هو البابا يوحنا الثالث والعشرون يعمل على عقد مؤتمر مسيحي يضمّ أحبار النصارى ورؤساءهم الدينيين، على اختلاف مذاهبهم ونحلهم، ومن أهداف هذا المؤتمر مكافحة انتشار الإسلام في آسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية انتشارًا من شأنه أن يهدّد الفكرة الصليبية، ويثبط دعوات المحبَّة التي تقوم بها رسل الكنيسة!

ومع جهود الكنيسة في تنصير المسلمين، ومحاولة وقف المد الإسلامي، كان النصارى أنفسهم يعترِفون بصلابة الإسلام وسهولة قبول النَّاس له؛ يقول مؤلف كتاب "أفريقيا الجديدة" وهو صحفي أمريكي: فإنَّ المسيحيَّة لم تفلح قطّ في مقاومة الإسلام بالقارة، وإنَّما كان العائق الوحيد الذي حال بين دين النبيّ وبين الانتشار فيها هو عائق التسي تسي، أو ذبابة مرض النوم؛ إذ كان الإسلام ينتشر دائمًا على أيدي فرسان الصَّحراء، وكانت الخيل عُرْضةً للإصابة بأذى تلك الذّبابة، وليس لها عمل غالب في أقاليم الغابات[42].

حقد المبشرين على القرآن:

لقد عرف المبشِّرون والمستعمرون أن القرآن يحتلّ في نفوس المسلمين أسمى مكانة وأعلى منزلة، وأنَّهم يرخّصون النفس والنَّفيس دونه، ورأى المبشِّرون أنَّ أكبر عقبة تصادِفُهم هو القرآن، فحاولوا عبثًا أن ينزعوا القرآن من قلوب النَّاس، ويبعدوه عن أيديهم، ولكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح:

كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا = فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ

لقد تكفَّل الله بحفظ هذا القُرآن، وإذا علِمنا ما يتمنَّاه المبشِّرون من أحلام سخيفة، فإنَّ ذلك لن يزيدَنا إلاَّ تمسُّكًا وثقة بأنَّ هذه التخرُّصات لا قيمة لها، وأنَّ ما يدَّعونه من مطاعن في القُرآن والرَّسول إنَّما يدفع لها الجهل والتعصّب، يقول وليم جيفورد: "متَى توارَ القرآن ومدينة مكَّة عن بلاد العرب، يُمكِنَّا حينئذٍ أن نرى العربيَّ يتدرَّج في سبيل حضارتنا الَّتي لم يبعدها عنه إلاَّ محمَّد وكتابه".

ويقول المبشّر جون تاكلي عن المسلمين: يجب أن نستخدم كتابهم - يعني القرآن - وهو أمضى سلاح في الإسلام ضدَّ الإسلام نفسه لنقضي عليه تمامًا، يجب أن نري هؤلاء الناس أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا وأنَّ الجديد فيه ليس صحيحًا.

ويقول المبشّر الأمريكي جسب: إنَّ الإسلام مبني على الأحاديث أكثر ممَّا هو مبني على القرآن، ولكنَّنا إذا حذفنا الأحاديث الكاذِبة لم يبق من الإسلام شيء.

ويقول ف.ج. هاربر: إنَّ محمَّدًا كان في الحقيقة عابدَ أصنام؛ ذلك لأنَّ إدراكه لله في الواقع (كاريكاتور)!

ويقول المستشرق اليهودي جولد تسيهر: ومن العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهبًا عقديًّا موحدًا متجانسًا وخاليًا من المتناقضات، ولم يصلنا من المعارف الدينيَّة الأكثر أهميَّة وخطرًا إلاَّ أثار عامَّة نجد فيها إذا بحثنا في تفاصيلها أحيانًا تعاليم متناقضة، ورسالة النبي الدينية تنعكس في روحه بألوان مختلفة باختلاف الاستعدادات السائدة في نفسه؛ إذ كان لزامًا على علم الكلام المنسّق أن يتولَّى منذ أوَّل الأمر حلّ الصُّعوبات النظريَّة النَّاشئة عن مثل هذه المتناقضات، ويقول المبشر صمويل زويمر في كتابه "بلاد العرب مهد الإسلام": إنَّ الشهد لم يزل معدودًا كالترياق في بلاد العرب استنادًا إلى القرآن والحديث، وقد كانت الإشارة الوحيدة إلى الطّبّ في وحي محمَّد هذه الكلمة الغبيَّة التي يقول فيها عن النَّحل إنَّه: (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للنَّاس إنَّ في ذلك لأية لقوم يتفكرون)، وقد كان هذا هو العلاج الوحيد الَّذي وصفه الله في كتابه، ويتمادى المبشِّرون في تلفيقاتهم وسخريتهم وطعنهم في القرآن والرَّسول وفي المسلمين على مرّ التَّاريخ.

يقول المنسنيور كولي في كتابه "البحث عن الدين الحقيقي" المطبوع سنة 1928م عن الدين الإسلامي: "في القرن السابع برز في الشرق عدوّ جديد، ذلك هو الإسلام الذي أسّس على القوَّة وقام على أشدّ أنواع التعصّب، لقد وضع محمد السَّيف في أيدي الَّذين ابتعوه، وتساهل حتَّى في أقدس الأخلاق، ثمَّ سمح لأتباعه بالفجور والسَّلب، ووعد الَّذين يهلكون في القتال بالاستِمْتاع الدَّائم بالملذَّات في الجنَّة، وبعد قليل أصبحت آسيا الصّغرى وأفريقيا وأسبانيا فريسة له حتَّى إيطاليا هدَّدها الخطر، وتناول الاجتياح جنوب فرنسا، لقد أصبحت المدنيَّة مصابة ولكن هياج هؤلاء الأتباع (المسلمين) تناول في الأكثر كلابَ النَّصارى، ولكن انظر هاهي النَّصرانيَّة تضع بسيف شارل مارتل سدًّا عنيفًا في وجه الإسلام المنتصِر عند بواتيه سنة 752م، ثمَّ تعمل الحروب الصليبيَّة في مدى قرنين (1019 - 1254) في سبيل الدّين، فتدجّج أوربا بالسلاح وتنجي النَّصرانيَّة، وهكذا تقهقرت قوَّة الهلال أمام راية الصَّليب، وانتصر الإنجيل على القرآن، وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق السَّاذجة[43].

ومن الغريب أنَّ هذا الكتاب يدرس في المدارس المسيحيَّة، وهو بهذا البذاء والافتراء!

كان للمستعمرين الصليبيين أهداف عديدة في إضعاف الإسلام وتفتيت قوَّة المسلمين، فالتعصّب الحاقد كان له دور فعَّال ولا شكَّ، وكان للرهبان والقسُس والمبشرين النَّصارى أثر في إذْكاء نار العداء الصَّليبي للإسلام والمطامع الاستعمارية والإجهاز على بلاد الإسلام لنهب خيراتها والاستِئْثار بثرواتها كانت هي الأخرى لها دور مهم في هذا الصدد، ومحاولة صبغ البلاد الإسلاميَّة بالصبغة الغربيَّة وذوبانها فيها، وقطع كلّ صلة لها بدينِها ولغتها ممَّا حرص عليه المستعمرون، فهي أغراض مزدوجة، وفي الأمثلة التَّالية ما يجلو ذلك تمامًا.

إنَّ التعصّب الصليبي قد اتَّخذ أشكالاً عديدة، منها - عدا ما أسلفنا - تركيز السّلطة في أيدي النَّصارى في البلاد المستعمرة، وجعلهم أصْحاب النفوذ حتَّى في البلدان التي أغلبيَّتها مسلمون، ووضع قوانين تناقض الإسلام وتثبت السلطة في أيدي النصارى، ولا يختلف الصليبيون في هذه الناحية سواء كانوا كاثوليك أو بروتستانت أو أرثوذكس.

في السنغال جعل المستعمرون رئاسة الجمهوريَّة بيد مسيحي، مع أنَّ 90 بالمائة من السكان مسلمون.

وفي لبنان ركَّز الفرنسيّون السلطة في يد رئيس الجمهوريَّة، ووضعوا في الدستور اللبناني أنَّ رئيس الجمهوريَّة، مسيحي مع أنَّ 60 بالمائة من السكّان مسلمون.

وفي نيجيريا - والمسلمون يشكّلون 37 مليونًا نحو 70 بالمائة من السكَّان - جعلت رئاسة الجمهورية بيد مسيحي[44].

وفي غانة - والمسلمون يشكّلون نصف السكَّان - رئيس الدَّولة مسيحي.

ولا يقتصر التعصّب المسيحي على هذا.

وكلّ ذلك بمكايد الاستعمار الصليبي، وخططِه المخربة، ولا يقتصِر التعصب المسيحي على هذا، بل إنَّ الدول الغربيَّة تمزّق بلاد الإسلام إربًا إربًا، مع اقتطاع أجزاء من كلّ قطر عربي وإسلامي لتضمَّه إلى دول نصرانيَّة، وإذا لم يكن بِجوار تلك الدَّولة بلد مسيحي، فهم مستعدّون أن يقطعوا أوصال الدَّولة الإسلامية، ولو بإعطائها لدولة غير مسيحيَّة؛ حتَّى يثيروا المشاكل في وجْه البلاد الإسلاميَّة، وحتَّى يضعف شأن المسلمين ويتمزَّقوا أشلاء.

في باكستان اقتطعوا جامو وكشمير، وفي الصومال اقتطعوا أجزاء وزَّعوها بين كينيا والحبشة النَّصرانيَّتين، كما ضمّوا إلى الحبشة أريتريا المسلِمة؛ بل إنَّ التعصُّب يبلغ مداه عندما يؤيّد الغربيّون كلَّ مناوئ للمسلمين، ويضحّون بصداقة الدّول الإسلامية، ويقفون إلى جانب المخالفين والمعتدين.

كانت باكستان ترتبط مع الغرب ارتِباطات قوية، وعندما نشب الخلاف بينها وبين حكومة الهند حول كشمير الإسلاميَّة وقفت الدول الغربيَّة إلى جانب الهند، وأمدَّتها بالأسلحة والمعونات، بينما منعتْ هذه الأشياء عن باكستان فما معنى هذا وما تفسير؟!

وفي قبرص يؤيد الغربيون (مكاريوس) في اضطهاد المسلمين، ومنع الغذاء والكساء والماء من الوصول إليهم، ولا يكترِثون لارتباطات تركيا في السّوق الأوربية وحلف الأطلسي وغيرهما، ويعلن الغربيُّون تأييدَهم لليونانيين كما يقوم الغربيُّون بتأييد الشيوعيين ضدَّ المسلمين، وفي زنجبار عندما جرت المذابح الوحشيَّة، وقتل من العرب المسلمين أكثر من عشرة آلاف شخص وسجن الكثيرون وشرّدوا كانت دول الغرب مسرورة لما يجري راضية به، ولم تنزعج مثل انزعاجها في كوبا عندما أقام الشيوعيون دولة لهم في بلد مسيحي، ومن التعصب الصليبي تقويض دعائم الحكم الإسلامي، وعمل المؤامرات ضد الدول التي تهتم بنشر الإسلام، وفي نيجيريا مثل قريب لمن أراد أن يعتبر، بل إنَّ الدول الغربية الصليبية تحاول تركيز السلطة السياسية في أيدي القساوسة والمبشِّرين، فرئيس جمهورية قبرص قسيس متعصّب، ورئيس الدولة في الحبشة مسيحي متعصّب ترعى حكومته الكنيسة الأفريقيَّة، وتذيع صوت الإنجيل وتصلي المسلمين الأكثرية صنوفَ العذاب والتنكيل والإبادة، هذا مع أنَّ نسبة المسلمين فيها حوالي 65 بالمائة وإن كانوا في نظر الحكومة خارجين على القانون يجب أن يعودوا إلى النَّصرانية في زعمها!

ومن الطرق الشريرة التي اتَّبعها المستعمِرون الصَّليبيون في بلاد المسلمين إلغاء المحاكم الشَّرعيَّة، والاستِعاضة عنْها بمحاكم مدنية تحكم بالقوانين الغربيَّة، كما سعوا لإلغاء الأوقاف إمعانًا في تعطيل المساجد وأعمال البر، وعطَّلوا الإفتاء حتَّى لا يعرف الناس أحكام الشَّريعة الإسلاميَّة، وقد اشترطوا على بعض البلدان الإسلامية المستعمرة أن تقوم حكومتُها الوطنية بتنفيذ هذه الخطط حتَّى يحصلوا على الاستقلال السياسي.

ومن المؤسف أنَّ بعض هذه البلدان قد رضخت لإرادة المستعمرين ونفذت مخططاتهم جبنًا أمام المستعمر وجهلاً بالدين، وعدم إدراك للنتائج الوخيمة التي ترتَّبت على هذه الأعمال في بلدان عديدة، وعندما انهزمت تركيا بعد قتال مرير مع الدّول الصليبية كانت شروط المستعمرين الصَّليبيّين كلّها منصبَّة على حرب الإسلام، وها هي الشروط:

1- إلغاء الخلافة الإسلاميَّة نهائيًّا من تركيا.

2- أن تقطع تركيا كلَّ صلة مع الإسلام.

3- أن تضمن ترْكيا تَجميد وشلّ حركة جميع العناصر الإسلاميَّة الباقية في تركيا.

4- أن يستبدلوا الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت.

ولم ترْض بريطانيا أن توقف الحرب مع تركيا إلاَّ بعد أن قبِل مصطفى كمال أتاتورك وعصمت اينونو ورفاقهما هذه الشّروط المجحفة[45].


الاستعمار والمبشرون والحرب الصليبية

يعتبر المبشرون أنفسهم يخدمون النصرانية بما يمكنون لها من ترسيخ في أنحاء العالم ولاسيما في العالم الإسلامي، وينظرون للحروب بين المسلمين والمستعمرين على أنها امتداد للحروب الصَّليبية أيام صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، وهذا ما يفسر الأعمال الوحشية التي يرتكبونها ضد المسلمين في البلاد المستعمرة.

يقول اللورد اللنبي قائد الحملة على فلسطين بعد أن استولى على القدس: اليوم انتهت الحروب الصليبية وعادت القدس لأحضانِنا، وهذ عقلية المستعمرين التي جاؤوا بها يجرون أساطيلهم وجيوشهم إلى بلاد المسلمين.

يقول غاردنر: لقد خاب الصليبيُّون في انتزاع القدس من أيدي المسلمين ليقيموا دولة مسيحيَّة في قلب العالم الإسلامي، والحروب الصليبيَّة لم تكن لإنقاذ هذه المدينة بقدْر ما كانت لتدمير الإسلام، ويقول اليسوعيون في بيان لهم: ألم نكن نحن ورثة الصليبيّين أولم نرجع تحت راية الصليب لنستأنف التسرُّب التبشيري والتمدّن المسيحي، ولنعيد في ظلّ العلم الفرنسي وباسم الكنيسة مملكة المسيح؟ وماداموا ورثة أولئِك الصَّليبيين فمن حقِّهم على هذا المنطق المعكوس أن يستعمروا بلاد المسلمين باسم الكنيسة وتحت ظلّ العلم الفرنسي (وكلهم في الهوى سواء).

يقول المؤرخ جيبون عن المؤرخ فلوري في خطابه السادس في تاريخ الكنيسة: إن المسلمين كانوا ويجب أن يظلوا في نظر رعاياهم من المسيحيّين ومن الغرب مغتصبين، وعلى المسيحي شرعًَّ وقانونًَّ أن يسلبهم ما يمتلكون من سلطان وأموال؛ لأنَّ ما وصل إلى أيديهم من ذلك كلّه جاء بطريق الاغتصاب غير المشروع، وعلى الغرب أن ينتزع هذا الحق المغتصب بالحرب، ويعاون في ذلك المسيحي الشَّرقي بالثورة الداخلية على الحكام المسلمين.

والنغمة التي يتغنى بها المستعمرون الصليبيون يعزف عليها ويعمل وفق مخططها ركائزهم وتلاميذهم، خطب بعضهم في الكونجرس الأمريكي سنة 1954م فقال: إن أهم الأهداف التي نسعى إليها هو توحيد الدين واللّغة في بلادنا، وبدون ذلك لا يمكن أن نحقق شيئًا من التقدم وقد سئل عن عدد المسلمين في بلاده فقال: نعم توجد أقلية مسلمة في الجنوب في هرر وقد وضعنا لهم برنامجًا منذ اثني عشر عامًا فلا يمضي وقت قصير إلاَّ وعادت إلى حظيرة دين آبائها[46].

هكذا يبلغون في غمط الحق، وإنكار أبسط القواعد الأساسية، ويضربون بالقرارات الدولية والمواثيق والعهود عرض الحائط أمام سمع العالم وبصره، وأيّ حقّ في نظر هؤلاء للمسلمين، وأي شيء يستحقّون من أجله الحياة عند أولئك المتعصبين الحاقدين، وهذا خطاب يفسر أشياء كثيرة؛ ولما لَه من الأهميَّة في جلاء الأهداف التبشيريَّة الاستعمارية أوردناه هنا.

يقول القس زويمر في المؤتمر المسيحي الذي انعقد بالقدس إبَّان الاحتِلال البريطاني: أيُّها الإخوان الأبطال، والإخوان الذين كتب الله لهم الجهاد في سبيل المسيحيَّة واستعمارها لبلاد الإسلام، فأحاطتهم عناية الرب بالتوفيق الجليل المقدس، لقد أديتم الرسالة التي أنيطت بكم أحسن أداء ووفقتم لها أسمى التوفيق، وإن كان يخيَّل إليَّ أنَّه مع إتْمامكم العمل على أكمل الوجوه لم يفطن بعضُكم إلى الغاية الأساسيَّة منه، إنَّني أقرّكم على أنَّ الَّذين دخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحيَّة لم يكونوا مسلمين حقيقيّين، لقد كانوا كما قلتم أحد ثلاثة:

إمَّا صغير لم يكن له من أهله من يعرفه ما هو الإسلام، أو رجف مستخف بالأديان لا يبغي غير الحصول على قُوته وقد اشتدَّ به الفقر وعزت عليه لقمة العيش، وآخر يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصيَّة، ولكن مهمَّة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمَّدية ليست في إدخال المسلمين في المسيحيَّة؛ فإنَّ في هذا هداية لهم وتكريمًا - كذا - وإنَّما مهمَّتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتَّالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمِد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتُم بعملكم هذا طليعة الفتْح الاستعماري في الممالك الإسلاميَّة، وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السَّالفة خير قيام، وهذا ما أهنِّئكم عليه وتهنِّئكم دول المسيحيَّة والمسيحيّون جميعًا كلّ التهنئة، لقد قبضنا - أيها الإخوان - في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلاميَّة، ونشرنا في تلك الربوع مكامنَ التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية الكثيرة التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية، والفضل إليكم وحدكم - أيها الزملاء - إنكم أعدتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطَّريق الذي مهدتم له كلَّ التمهيد، إنَّكم أعددتم شبابًا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تُدْخِلوه في المسيحيَّة؛ وبالتَّالي جاء النشْء الإسلامي طبقًا لِما أراده له الاستِعْمار لا يهتمّ للعظائم، ويحب الرَّاحة والكسل ولا يعرف همَّة في دنياه إلاَّ في الشَّهوات، فإذا تعلَّم فللشهوات وإذا جمَع المال فللشهوات، وإن تبوَّأ أسمى المراكز ففي سبيل الشَّهوات يجود بكل شيء، إنَّ مهمَّتكم تمت على أكمل الوجوه وانتهيتم إلى خير النَّتائج، وباركتكم المسيحية ورضي عنكم الاستعمار، فاستمرّوا في أداء رسالتكم فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرَّبّ[47].

تلامذة المبشرين والمستشرقين:

ومن الدَّسائس الَّتي حاكها المستعمِرون حقدًا على الإسلام تشجيع العامّيَّة، والكتابة بالحروف اللاتينية، وتشويه التاريخ الإسلامي، ونشر المجون والخلاعة، وقد وجد المستعمر أعوانًا له يجمعهم معه الحقْد على الإسلام والبغض لتراثه الحافل، فجرجي زيدان وسعيد عقل وسلامة موسى وإحسان عبدالقدوس كلّ أولئك قد أدَّوا خدمات للمستعمر وإن تنوَّعت الخدمات وتباينت الصفات، وطه حسين في تشكيكاته في الشعر الجاهلي، وعبدالله القصيمي في أغلاله والعالم ليس عقلاً[48] قد كانا ممَّن ساهم في تنفيذ رغبة المستعْمِرين بما بثَّاه من سموم شعرَا أم لم يشعرا، وهناك طابور طويل ألمحنا إلى مثال منه.

المبشرون والمستشرقون يشوهون الوقائع:

وقد يكون من السَّهل أن ينصف الغربيون في مؤلفاتهم وصحافتهم كل الطوائف، ويتجردوا من الأغراض السيّئة، وإن هذا يحدث كثيرًا، ولكن الأمر يختلف بالنسبة للإسلام والمسلمين فيما يكتبونه عنهم، وهذا التعصب يدفعهم إلى قلب الحقائق، وتشويه الوقائع، والتقليل من أهمية المسلمين، وإظهارهم بالمظهر المزري، وتضخيم النَّقائص، وهذا واضح لكل من تأمَّل ما يكتبونه، وإذا عرف السبب بطل العجب.

يقول الأستاذ محمد أسد الذي هداه الله للإسلام: إنَّ كره الأوربيِّين للإسلام كره عميق الجذور، يقوم في الأكثر على التعصّب الشديد، وهذا الكره ليس عقليًّا فحسب، ولكنه يصطبغ بصبغة عاطفيَّة شديدة وقويَّة وعنيفة، وقد لا تتقبَّل أوربا تعاليم الفلسفة البوذيَّة أو الهندوسيَّة مثلاً، ولكنَّها تحتفظ دائمًا فيما يتعلَّق بهذين المذهبَين بموقف عقلي متَّزن ورصين وحكيم، ومبني على التَّفكير، وخلق الأعذار لأصحاب هذه المذاهب الوثنية، إلاَّ أنَّهم حين يتَّجهون إلى الإسلام يختلّ عندهم التَّوازن، ويأخذهم الميل العاطفي، حتَّى إنَّ أبرز المستشْرقين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزُّب غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام، ويظهر في جميع بحوثهم على الأكثر كما لو أن الإسلام لا يُمكن أن يعالج على أنَّه موضوع بحث في البحث العلمي، بل على إنَّه متَّهم يقف أمام قضاته.

وهذا الذي يقوله الأستاذ محمد أسد قد قاله كثير من الفاهمين والسابرين لكتابات المستشرقين؛ يقول العقاد في كتابه "ما يقال عن الإسلام": فإنَّ هؤلاء المبشرين المنحرفين مهرة في فنون الدعاية، مدرَّبون على تمويه الواقع، وتلبيس الحقّ بالباطل، فلا يشقّ على عقولهم ولا على ضمائرهم أن يعرضوا أحوال الأمم الإسلامية على الصورة التي تنفر الناس منها، ولاسيَّما المتعصبين المستعدّين للنَّفرة والرَّاغبين في اختلاقها، ولا نبالغ في التقدير إذا قلنا: إن تسعة أعشار المبشّرين المحترفين في العصر الحاضر من هذا القبيل.

ويقول الأستاذ العقاد في كتابه "ما يقال عن الإسلام" أيضًا: ويتَّصل بأمر الدَّعوة كلّ مبحث يتناول صلاح الإسلام للشيوع والإقْناع وما ينتظر من زيادة عدد المسلمين في المستقبل بمختلف الوسائل التي تنتشر بها الأدْيان في سائر الأزمان، ولا يخفى على قارئ يطلع على هذه المباحث أن يلاحظ نفور أصحاب الإحصائيات من زيادة عدد المسلمين، وإسراعهم إلى قبول التقديرات التي تزيد في عدد أبناء الممالك من غير المسلمين، مع تحفظهم الشديد في قبول التقديرات التي تكثر من عدد الداخلين في الإسلام قديمًا وحديثًا، ولا يشذّون عن هذه القاعدة إلاَّ إذا تعمَّدوا التهويل والتنبيه إلى خطر انتشار الإسلام في المستقبل، وضرورة المبادرة إلى اتخاذ الحيطة لهذا الخطر بوسائل التبشير والضغط السياسي والاقتصادي حيث يستطاع الاعتماد على هذه الوسائل بغير الالتجاء إلى المجاهرة بالعدوان، وممَّن لاحظ تلك الأخطاء المتعمدة في إحصاء المسلمين الأمير شكيب أرسلان صاحب التَّعليقات على كتاب "حاضر العالم الإسلامي".

ثمَّ يقول الأستاذ العقاد: فلا مبالغة إذا قدَّرنا عدد المسلمين في العالم بأربعمائة وخمسين مليونًا وأيقنَّا على الدوام بأنَّ عددهم يزيد في كلّ حقبة على كلّ تقدير أوربّي يذيعه السَّاسة والباحثون في شؤون الدَّعوات الدينية، وأنَّ زيادة هذا العدد مستمرَّة، يقابلها أولئِك الساسة والباحثون بالحذر ويذكرونها منذرين لأقوامهم بما يستفزُّهم إلى الحيطة، ومقاومة هذا الازدياد المستمرّ، حيث تستطاع المقاومة في الخفاء وفي العلانية إن لم يكن لهم بد منها".

والأستاذ العقاد من أعلم الناس بالمبشِّرين والمستعمرين، ومن أكثرهم اطلاعًا وخبرة، وهو بعد ليس معاديًا للغرب لمجرَّد العداء وليس له ميول شيوعيَّة حتَّى يقال: إنَّه يتحامل على الدول المسيحيَّة، بل إنَّه من أشدّ النَّاس عداء للشيوعيَّة وحربًا عليْها ولكنَّ العقاد قال الحقيقة التي قالها غيرُه من ذوي الخبرة بِحال المستعمرين.

يقول الدكتور عمر فروخ ومصطفى الخالدي في كتابهما: التبشير والاستعمار في البلاد العربية: "ومن المبشّرين نفرٌ يشتغلون بالآداب العربيَّة والعلوم الإسلامية أو يستخدمون غيرهم في سبيل ذلك، ثمَّ يدفعون هؤلاء إلى أن يوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبيَّة، أو بين العلوم الإسلاميَّة والعلوم الغربية التي يعتبرونها نصرانيَّة؛ لأنَّ أمم الغرب تدين بالنَّصرانيَّة؛ ليخرجوا دائمًا بتفْضيل الآداب الغربيَّة على الآداب العربيَّة والإسلاميَّة، وبالتالي إلى أبرز نواحي النَّشاط الثقافي في الغرب، وتفضيلها على أمثالها في تاريخ العرب والإسلام، وما غايتهم من ذلك إلاَّ خلْق تخاذل روحي، وشعور بالنقْص في نفوس الشَّرقيين، وحمْلهم من هذا الطَّريق على الرّضا بالخضوع للمدنيَّة المادية الغربية.


الطب والتبشير

ومن المجالات الرحبة التي عمل فيها المبشرون مجالات التطبيب؛ فقد وجدوا في العلاج وسيلة كبيرة للدّعاية للنصرانيَّة، وأقاموا المستشفيات والمستوصفات، وهيئوا الأطبَّاء والممرضات للقيام بهذه المهمَّات.

وهم في التَّطبيب كغيره من أنواع التَّبشير يجعلون المسلمين هدفهم الرئيس، ويسعون إلى هذه الغايات، ويبذلون الأموال الطَّائلة، ويوزِّعون الكتب الكثيرة والنَّشرات، وتمدّهم بالمال المؤسَّسات الأهليَّة والحكوميَّة، ويقوم المبشِّرون من طوائف النَّصارى المختلفة بأدوار خطيرة؛ فالكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت كلّهم يهرعون على أمل أن يحقِّقوا بغيتهم.

يقول الطبيب المبشر بول هاريسون في كتاب "الطبيب في بلاد العرب": إنَّ المبشّر لا يرضى عن إنشاء مستشفى ولو بلغت منافع ذلك المستشفى منطقة (عمان) بأسرِها، لقد وُجِدْنا نحن في بلاد العرب لنجعل رجالَها ونساءها نصارى.

ويقول س.ا. موريسون في مجلة العالم الإسلامي: إنَّ مهمَّتنا بين المرْضى الخارجيّين في المستشفيات أن نأتي بهم إلى المعرفة المنقذة، معرفة ربّنا يسوع المسيح وأن ندخلهم أعضاء عاملين في الكنيسة المسيحيَّة الحيَّة.

وتقول إيراهاريس تنصح الطَّبيب الذَّاهب بمهمَّة تبشيرية: يجب أن تنتهز الفرص لتصل إلى آذان المسلمين وقلوبهم فتكرز لهم بالإنجيل، إيَّاك أن تضيع وقتك في التَّطبيب والمستوصفات فإنَّه أثمن تلك الفرص على الإطلاق، ولعلَّ الشيطان يريد أن يفتنك فيقول لك: إن واجبك التطبيب فقط لا التبشير فلا تسمع منه؛ إذًا فالطب والتبشير في رأي المبشرين صنوان لا يفترقان ويمثلان الواسطة والغاية، والتَّمريض كالرَّهبنة ليسا مقتصرين على التعبّد وخدمة المرضى، ولكن تلقين التَّعاليم النصرانيَّة هو الأساس وما عداه فأمر ثانوي.

أصْدر اليسوعيُّون في بيروت عام 1931م كتابَهم المئوي وجاء فيه: إنَّ الأخوات لسْنَ راهبات معلِّمات فقط ولكنهنَّ أيضًا راهبات مبشِّرات، إنهنَّ في كل مكان يوجدن فيه يعملن إلى جانب عملهن التعليمي أعمالاً تبشيرية[49].


التبشير يحارب الوحدة الإسلامية:

ومن أهداف التبشير الأساسية إضعاف المسلمين وإشاعة التفكك والفرقة بينهم؛ حتى لا تكون لهم وحدة وقوة تقف في طريقه، وحتَّى يكونوا لقمة سائغة لابتلاع الصليبيين، وما برحت ذكرى صلاح الدين الأيوبي ووحْدة المسلمين ترهب المستعمرين وتخيفهم، وهم يعلمون أنَّ المسلمين لو اتَّحدوا لكان لهم بأس وشأن، لا يجترئ على الاقتِراب من حِماهم مستعمر أو طامع، ولا تحلم الصهيونيَّة أن تقترب من حدودهم، فضلاً عن أن تقيم دولة في قلب بلادهم، فالمستعمرون وطلائعهم وبقاياهم من المبشرين النصارى تقضّ مضاجعهم اجتماع كلمة المسلمين وتعاونهم وتكاتفهم.

يقول الأستاذ إبراهيم خليل أحمد الذي كان مبشِّرًا نصرانيًّا فأسلم، في كتابه "المستشرقون والمبشرون": فوحدة المسلمين إذًا في نظر التَّبشير يجب أن تفتَّت وأن توهن، ويجب أن يكون هدف التَّبشير هو التفرقة في توجيه المسلمين واتجاهاتهم.

الصليبيون يثيرون النعرات بين المسلمين:

ومن دسائس الصَّليبية ومكايدها ضدَّ الإسلام والعمل على تمزيق المسلمين: إثارة النعرات العصبية، وتغذية الروح القومية والوطنية، وصرف نظر المسلمين بهذه العصبيات الجاهلية عن الوحدة الإسلاميَّة والأخوة الدينية، وإظهار هذه النَّزعات بمظهر التحرّر والتقدُّم، وتوجيه الدول الإسلامية إلى نبش حضاراتها القديمة ووثنياتها البائدة وأطلالها الخربة.

وقد خدع بعض أبناء المسلمين بهذه الأفكار وغفلوا عمَّا تجرُّه من أضرار بدتْ آثارُها واضحة وإن كان البعض مازال يصرّ على السير في هذا الطريق الجائر، وها هي آثار الدَّعوات القومية والعصبيات الجاهلية تظهر بجلاء في رد الفعل المعاكس لدى القوميات الأخرى التي كانت تعيش مع بعضها في وئام وتعاون.

في زنجبار وجنوب السودان وفي الجزائر والعراق تحركت قوميَّات أخر، وأطلَّت برأسها تريد أن يكون لها قوميَّة كما كان العرب يدعون إلى قوميتهم، وكان من نتائج الدعوة للقومية ضعف الرابطة الإسلامية وتعمّد البعض إيجاد هوة سحيقة وشجع الصليبيُّون هذه الخطَّة؛ لأنها تخدم أغراضهم.

يقول الأستاذ شكيب أرسلان في تعليقاته على كتاب "حاضر العالم الإسلامي": "يظهر من هذا اتّفاق الأوربيين على بثّ روح القوميَّة بين أمم الإسلام؛ أملاً بتشْظية عصا الجامعة الإسلاميَّة، فإننا قد رأينا أثر هذه السياسة في مواضع كثيرة من بلاد الإسلام"، ومن أراد أن يعرف خطط الصَّليبيين تجاه الإسلام في العصر الحاضر فليراجع هذه الكتب:

- الغارة على العالم الإسلامي.

- معركة المصحف.

- التبشير والاستعمار في البلاد العربية.

- المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام.

- شبهات حول الإسلام.

- المستشرقون والمبشرون.

- المبشرون والمستشرقون.

- التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام.

- تحت راية القرآن.

- ما يقال عن الإسلام.

- الإسلام بين الجحود والإنصاف.

- القومية في نظر الإسلام.

وغيرها من مؤلَّفات تبيِّن حقيقة ما يُحاك للإسلام من مؤامرات وما يراد له من مكايد.


الصهيونيَّة وفروعها

لقد طمع أعداء الإسلام في ردَّة المسلمين؛ فاليهود بصهيونيَّتهم وماسونيَّتهم وشيوعيَّتهم يحملون الحملات الشَّعواء على الإسلام ويشكّكون الناس في دين الإسلام، ويشجِّعون كلَّ فكرة أو نحلة تضعف من أمر الإسلام أو تقلّل من شأنِه، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البَقَرَة: 120]، وهاهي الصهيونية تحلّ في قلب بلاد المسلمين، وفي حِمى ثالث الحرمين وأولى القبلتين، وتشرّد أبناءها وتنتهك حرماتها وتعمل أشنع الأعمال وأفظعها، وتتَّخذ كلَّ وسيلة لتنْشِئة أبناء المسلمين في الأرض المحتلَّة تنشئةً يهوديَّة بعيدة عن الإسلام مناوئة له، وتبثّ سموم التَّفرقة بين بلدان المسلمين بِما تدَّعيه من مفتريات وأراجيف وإثارة الأضغان، وتلك سماتهم في تاريخِهم الطَّويل والمؤلم أن تكون للماسونيَّة في بلاد العرب والمسلمين محافلُ وأنصار، مع أنَّها ربيبة الصِّهيونية وإحدى فروعها، وقد انضمَّ إليْها بعض من ينتمون للعرب والإسلام جهلاً بحقيقة أهدافها أو خيانة واستهانة بالدين والواجب.

يقول العقاد في كتابه "ما يقال عن الإسلام" (ص 14 - 15): وقد عرف الصِّهْيونيون في عصرنا هذا مواطن القوَّة التي تسخرها الدّعاية، فاستوْلَوا على كثيرٍ من أدواتها، وبرعوا في تسخيرها وإخفاء مراميها، فهم يملكون شرِكات الإعلان فتحسب الصحف الكبيرة قبل الصغيرة حسابهم، ولا تتورَّع عن خدمتهم أو السكوت عنهم على الأقلّ، وكتمان سيئاتهم ومآربهم؛ إذ كانت الصحف الكبيرة خاصَّة أحوج إلى الإعلان لكثْرة تكاليفها تبعًا لكثرة صفحاتِها، فلا تكاد أثمانها تفي بتكاليف الورق فضلاً عن تكاليف التَّحرير لوْلا موارد الإعلانات، ويملك الصِّهْيونيُّون دور النشر، فيحسب المؤلفون حسابهم، كما يحسب الصحفيُّون، وقد يتبرَّع المؤلف بمرضاتِهم أو نشر دعياتهم، تمهيدًا لقبول كتُبهم وإذاعتها بالتَّرويج والتقريظ، وخلْق الجوّ الصَّالح للاهتمام بها واللَّغَط حولها، ولا تقصر وسائلهم أحيانًا عن ترْشيحها لأكبر الجوائز العالميَّة من قبيل جائزة نوبل بالسويد، وجائزة بولتايزر بالولايات المتَّحدة؛ لأنَّ نوبل نفسه يهودي، ولجان التَّحكيم في الولايات المتَّحدة لا تخلو من اليهود، أو مَن يسيطر عليهم اليهود بوسائل الإعلان والترويج.

ويملك الصهيونيون أسهمًا وافرة في شركات الصور المتحرِّكة، وينتسب إليهِم عدد كبير من الممثّلين والممثّلات ونقاد المسرح واللوحة البيضاء، وإلى جانب هذه الوسائل الفنيَّة والمالية فهناك وسائلهم وراء الستار وأمام الستار بين السَّاسة والنوَّاب والمرشَّحين لمراكز الزّعامة والمتنازعين على الأصوات في مواسم الانتخابات، وليس استِخْدامهم لوسائل الجَمال في هذه المعارك وما إليْها بأقلَّ من استخدامهم لوسائل المال.

الشيوعية وشقيقتها الاشتراكية:

وكلّ دعوة مهْما يكن سخفُها وحمقها يكون موجهًا لبلاد الإسلام منها النَّصيب الأوفر؛ وذلك لما حبا الله به هذه الأمَّة من مزايا دينيَّة وأدبيَّة، ومن موقع هام واستراتيجيَّة ذات شأن في الاقتصاد والحرب أنَّ النصارى واليهود يهدِفون القضاء على دين الإسلام؛ لما يروْنَ له من انتِشار، ولما فيه من خصائص تحبِّب النَّاس إليْه، وتجعلهم يقبلون عليه، وإنَّ الشيوعيين يريدون القضاء على الدين لما يعلمونه من مقاومته الصلبة لأفكارهم الإلحادية ومبادئهم المدمِّرة، ولأنَّ الإسلام لا يتَّفق والشيوعية والاشتراكية.

وإنَّا لنجد في الشيوعيين وإخوانهم الاشتراكيين من الحماس، والحرص على إزالة الإسلام ومعتقداته وأحكامه وتعطيل تشريعاته والهزْء به والسخرية من علمائه ما يُثير الدهشة والاستغراب.

نعم، الإسلام لا يلتقي مع الشيوعية إطلاقًا، والشيوعيّون لا ينفكون يروجون لأباطيلهم من إنكار لوجود الله، وتكْذيب القرآن والرُّسل والبعث بعد الموت، وهزء بالأخلاق النَّبيلة والمثل الكريمة، وتعطيل المواهب الفرديَّة، ويريدون أن يُحولوا المسلمين إلى اعتقاداتهم الزائغة وأفكارهم الزائفة، ويبذلون من الجهد والمال والتفنُّن لتحقيق أغراضهم الشَّيء الكثير، ولا يقلّ حماس أتباعهم ممَّن يتكلمون بألسنتنا ومن بعض أبناء جلدتنا عن حماس كارل ماركس وإنجلز ولينين، وإنَّك لتجد في الكتب التي يصدرونها، والصحُف التي يوزعونها، وفي المدارس والمعاهد، وفي دور العرض وفي التطبيقات، وفي كلّ ناحية الرَّغبة المستميتة في أن تحلَّ الاشتراكية محلَّ الإسلام، ولكنَّهم سيبُوؤون بالفشل الذَّريع بإذن الله.

وما حملاتهم الظالمة على كل تقارب بين المسلمين أو تعاون بينهم إلاَّ جزء من مخطَّط شيوعي لا يريد أن يبقى للإسلام أثر، ولا لرابطتِه صلة إنَّهم يتصايحون ويعولون إذا ما دعا المخْلصون لتوثيق عرى المودَّة وإصلاح ذات البين بين المسلمين، ويثيرون الشُّكوك ويتفنَّنون في الافتراءات والتخرُّصات، وينفرون عن ذلك بكلّ جهدهم وقوَّتهم، وما ذلك إلاَّ أنَّهم يريدون أن تكون اللينينيَّة والبلشفية سائدة، وأن تسيْطِر الشيوعيَّة الحمراء على بلاد المسلمين، هكذا يتمنَّى هؤلاء الأتباع المضطربون، وذلك ما تدلّ عليه أعمالهم وخططهم، ولكن مصير هذه الدعايات الاندحار لا من بلاد الإسلام فحسب، ولكن من العالم أجمع؛ لأنَّ النحلة الشيوعية لا تتَّفق مع دين أو خلق أو معاملة أو اقتصاد.

يقول لينين: الدين أفيون الشعوب، ورجل الدين يعمل على تخدير أعصاب المظلومين والفقراء، وجعلهم يستكينون للذّلّ والبؤس، ويقول أيضًا: ليس صحيحًا أنَّ الله هو الذي ينظم الأكوان إنَّما الصحيح أنَّ الله فكرة خرافيَّة اختلقها الإنسان ليستُر عجزه، وكلّ شخص يدافع عن هذه الفكرة فهو جاهل ضعيف، ويقول ستالين: نحن ملْحِدون نعتقد أنَّ الدين يعرقل تقدُّمنا، ونحن لا نحبّ أن يسيطر الدّين علينا؛ لأنَّنا نكره أن نعيش سكارى.

ويقول ستالين كذلك: يجب أن تقوم التربية في المدارس على مبدأ إنكار الدين وجحد الألوهيَّة.

وهكذا يعلن قادة الشيوعيَّة عن مبادئهم المدمّرة وأهدافهم المسمومة، وإذا كانت الشيوعيَّة كما هو معلوم تناقض كلَّ دين وإيمان، فإنَّها تختصّ الإسلام بالنَّصيب الأكبر والسهم الأوفر؛ لأنَّها تعلم مناقضته الشَّديدة للشيوعيَّة، وأنه لا لقاء بينه وبينها في أي مجال، وحال الإسلام مع هؤلاء الأعداء يذكرنا بقول الشاعر:

أَوَكُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ = بَعَثُوا إِلَى عَرِّيفِهِمْ يَتَوَسَّمُ

وقول الاخر:

وَكُلُّ القَوْمِ تَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ = كَأَنَّ عَلَيَّ لِلحُبْشَانِ دَيْنَا

نشرت جريدة البرافدا السوفيتية بتاريخ 5 شبان (فبراير) 1964م الخبر التالي:

ينعقد الآن مؤتمر روسي موضوعُه (التربية الإلحادية) في أواسط آسيا، حيثُ يشكل المسلمون كثرة عدديَّة غزيرة، ومن بين أبحاث هذا المؤتمر (التَّجديد الإسلامي خارج الاتّحاد السوفيتي) و (الأيدلوجية الإسلاميَّة) ويأتي هذا المؤتمر الخاصّ بعد مؤتمر عام انعقد لذات الموضوع بالنسبة لروسية كلها، وقد تقرَّر فيه أنَّ عدد المؤمنين في روسيا كبير جدًّا على الرَّغم من مرور أربعين عامًا من حملات الدّعاية المتواصِلة ضدَّ الدين، ودعا إلى مضاعفة الجهود للتَّأثير على المتدينين من يهود ونصارى ومسلمين وغيرهم، وقرَّر إنشاء معهد تربوي للإلحاد المدعوم بالأدلَّة العلميَّة، وإدخال دروس إلزاميَّة عن الإلحاد في مناهج الجامعات وغيرِها من معاهد الدّراسة وأكَّد وجوب مضاعفة استِخْدام الأقلام والنَّوادي والمحاضرات المعادية للدين، لقد حلَّت بالمسلمين في هذا العصر نكبات كثيرة، ولكنَّها يجب أن لا تكون سببًا لليأس أو الفتور، بل يجب أن تكون حافزًا لعلماء المسلمين وقادتهم ومفكِّريهم وكلّ مسلم على وجه الأرض على الاضطِلاع بمسؤوليتِه في نشر الدعوة الإسلامية حسب اقتداره.

الهندوكية تحارب الإسلام

ومن المؤسف أن يكون ذَوُو النِّحَل المصطنعة يطمحون إلى أن يجعلوا من المسلمين وثنيِّين مثلهم، فالهندوكيون - مع النسبة الكبيرة للمسلمين في الهند 40 أو 50 مليون مسلم - يريدون أن يصبح هذا العدد الهائل هندوكيين، فالضَّغط الاقتصادي والسياسي، والإبعاد عن الوظائف، ونشْر الكتابات في الصُّحف والمؤلَّفات قائمة على قدم وساق ضدَّ المسلمين في الهند، والتعليم حتَّى بين البلدان التي يقطنها أغلبية مسلمة يصبغ بالصبغة الهندوكية الوثنية، وإني أورد بعضًا من ذلك كمثال على ما يُحاك للمسلمين في هذه البلاد:

نشرت صحيفة ذي مستنج التي تصدر في دلهي ما يلي:

"ناشد مدير معارف راجستان المؤلِّفين، وناشري الكتب الرَّسمية أن يضعوا كتبًا مناسبة تَحوي دروسًا في اللغة الهنديَّة وغيرها من الموضوعات التي تتعلَّق بأهمية البقرة في جميع المراحل، ولقد أصبح التعليم في جميع معاهد الحكومة في الوقت الحاضر ذا طابع ديني طاغٍ، أما الدين فهو الهندوكيَّة".

ونشرت جريدة (فيرارجون) في 12 إبريل 1952م تحت عنوان "لماذا يجب على المسلمين أن يعتنقوا الهندوكية؟" يقول الكاتب الهندوكي: "سوف لا تنتهي هذه الخلافات الطائفية إلاَّ إذا اعتنق مسلمو الهند الديانة الهندوكية، وهذه الطَّريقة التي يمكنهم فيها أن يحتفظوا بحضارتِهم القديمة، وعاداتهم وتراثهم، وكذلك يستطيع المسلمون إذا ما اعتنقوا الديانة الهندوكيَّة أن يضعوا حدًّا لمشكلة البطالة التي تواجههم، كما يستطيعون أن يجدوا مكانًا فهم في التجارة، وعلى هذا فأحسن سبيل لهم الآن هو أن يفكِّروا في الموضوع بطريقة هادئة، وأن يعتقنوا الديانة الهندوكية".

ونشرت صحيفة رياست الأسبوعية التي تصدر بدلهي في عددها الصادر في 23 يونية 1952 مقالاً تهجَّمت فيه على المسلمين، وختمتْه بقولها: إنَّ الحلَّ الوحيد لهذه المعضلة إنَّما هو في إعادة اتِّحاد الباكستان مع الهند، أو في هجرة كلّ مسلمي الهند ومعهم زعماؤهم إلى باكستان[50]، ومن أراد التوسّع في هذا الموضوع فليراجِعْ ما كتبه الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه "المسلمون في الهند" وغيره من المؤلفين الثقات.

ومن المحزن حقًّا أن يتكلَّم باسم الإسلام ويقوم بنشاط يدَّعي أنَّه إسلامي فئاتٌ ما برحت منذ أن نشأت مذاهبها تعمل ضدَّ الإسلام، ويمتد نشاط هؤلاء الأقوام إلى أوربَّا وأمريكا؛ فالإسماعيلية والقاديانية وهما فئتان لا يمتَّان للإسلام بصلة ينشران تعاليمَهما الضالَّة في آسيا وأفريقيا وأوربا وأمريكا، ولا يفتؤون يزعمون أنَّ ما هم عليْه هو الإسلام، والدول المسيحيَّة تشجع مثل هذه الحركات الهدَّامة، وتعين رجالها على احتلال المراكز المرموقة حتَّى يستطيعوا تنفيذ أغراضهم ونشر مفترياتهم.

أعداء كثيرون:

إنَّ الإسلام يواجه حربًا ضروسًا من جهات عديدة ومن أعداء شرسين، فالصليبيون الحاقدون والشيوعيون الملحدون والصهيونيون المخرِّبون، كلّ هؤلاء يعملون بكلّ طاقاتِهم لحرب الإسلام، وتلاميذ هؤلاء في قلب البلاد الإسلاميَّة يحملون معاول الهدم، ويبثّون سمومهم، ويلونون شعاراتِهم وأساليبهم حسب مقتضى الحال، ولن يَخفى أمرهم على مَن نظر بثاقب فكره، وتأمَّل ما يلوكونَه ويكتبونه هنا وهناك، ولا أظنُّ الأمر يَحتاج إلى ضرْب الأمثال فهو من الوضوح بمكان، والأمر من الأهميَّة والخطورة بحيث يستدعي التَّشمير عن ساعد الجد والوقوف صفًّا واحدًا من العلماء المسلمين والحكومات والشعوب الإسلامية في وجْه هذه التيَّارات العنيفة، والحرْب الطَّاحنة، وواجب على كل مسلم أن يقوم بما يفرِضُه عليه دينه من جهاد وبذل ودفاع.

لا بدَّ من عمل حازم:

والآن وقد عرضنا لهذه العوائق وأنباء هذه المخاطر التي تُواجه الإسلام وتُحاول القضاء عليه، فإنَّ واجب المسلمين بِجميع فئاتهم أن ينتبِهوا لهذه الأخطار وأن يهبّوا جميعًا لمكافحتها وزلزلة أركانِها، وغزْوها في عقر دارها، وإصلاح مناهج التَّعليم ووسائل الإعلام.

وإنَّ واجب المسلمين تدارُس الأمر، ووضْع الخطط الكفيلة بمقاومة هذه الأفْكار والدِّعايات المسمومة، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى بعْث الدُّعاة والمرْشِدين، وتوْزيع الكتُب الدينية والنشرات، والتَّشجيع على قيام المدارس ذات الصبغة الإسلاميَّة، والصحُف والمجلات، وأن يتركوا السلبيَّة واليأس جانبًا، وأن يكونوا نشيطين في الحقّ أكثر من نشاط أولئِك في الباطل، وإنَّ موسم الحجّ فرصة لاغتنام هذه الفرصة؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المَائدة: 2].

وقول رسولِ الله ﷺ‬: ((المسلم أخو المسلم)).. الحديث.


العودة إلى الإسلام

والعلاج الوحيد لهذه الأدواء والأخطار هو الرُّجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن يقوم كلّ مسلم بما يستطيع لتحْقيق هذه الغاية، وكما يقول الأستاذ محمَّد قطب في كتابِه "جاهلية القرن العشرين":

"لا مخلص للناس من جاهليتهم وضلالهم وشقائهم، وحيرتهم وقلقهم واضطرابهم، وتمزق حياتهم وأفكارهم ومشاعرهم - إلاَّ بالإسلام، ولم يكن للناس مخلّص من الجاهلية في تاريخهم كلّه إلاَّ بالإسلام بمعناه الواسع الشَّامل.

الإسلام الذي جاء به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلوات الله عليهم - وقد اكتمل الإسلام في دين الله الأخير؛ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ [المَائدة: 3]، وهذا الإسلام في صورته الأخيرة المكتملة هو العلاج الوحيد لكل جاهليَّات الأرْض، ولهذه الجاهلية الحديثة على وجه التخصيص.

إنَّ الإسلام هو الذي يعطي الوضع الصَّحيح لكل ما انحرفت به الجاهلية في التصور والسلوك، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، في الأخلاق والفن وعلاقات الجنس وكل شيء في حياة الإنسان".

وهذه الدَّعوة التي تنبثق من نفوس مؤمنة وسط دياجير الظّلمات الدامسة ترددها أصوات كثيرة من نفوس مؤمنة تنشد الحق وتدعو إليْه، يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين": "لا ينهض العالم الإسلامي إلاَّ برسالته التي وكلها إليْه مؤسّسه ﷺ‬ والإيمان بها، والاستماتة في سبيلها، وهي رسالة قوية واضحة مشرِقة لم يعرف العالم رسالة أعْدل منها ولا أفضل، ولا أيْمن للبشريَّة منها، وهي نفس الرّسالة التي حملها المسلمون في فتوحِهم الأولى، والتي لخصها أحد رسُلهم في مجلس يزدجرد ملك إيران بقوله: الله ابتعَثَنا لنخرج مَن يشاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحْده، ومن ضِيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدْل الإسلام، رسالة لا تحتاج إلى تغيير كلمة وزيادة حرف، فهي منطبقة تمام الانطباق على القرْن العشرين انطباقها على القرْن السادس المسيحي كأنَّ الزَّمان قد استدار كهيئةِ يوم خرج المسلمون من جزيرتهم لإنقاذ العالم من براثن الوثنية والجاهلية... فلا يزالُ الناس اليوم عاكفين على أصنام لهم من أوثان منحوتة ومنجورة ومقبورة ومنصوبة، ولا تزال عبادة الله وحده مغلوبة غريبة، ولا تزال الفتنة قائمة على قدم وساق، ولا يزال إلهُ الهوى يعبد، ولا يزال الأحبار والرهبان والملوك والسلاطين وأصحاب القوَّة والثروة والزعماء والأحزاب السياسية أربابًا من دون الله، تقرب لها القرابين، وينصب لها الجبين".

إلى أن يقول: "فرسالة العالم الإسلامي هي الدَّعوة إلى الله ورسوله، والإيمان باليوم الآخر، وجائزته الخروج من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده، والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وقد ظهر فضل هذه الرسالة، وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كلِّ عصر، فقد افتضحت الجاهليَّة وبدت سوأتها للناس واشتد تذمر الناس منها، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام لو نهض العالم الإسلامي، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماسة وعزيمة، ودان بها كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تنفذ العالم من الانهيار والانحلال".

إلى أن يقول: "فالمهمّ الأهمّ لقادة العالم الإسلامي وجمعياته الدينيَّة، وللدول الإسلامية غرس الإيمان في قلوب المسلمين، وإشعال العاطفة الدينيَّة، ونشْر الدعوة إلى الله ورسوله، والإيمان بالآخرة على منهاج الدَّعوة الإسلامية الأولى لا تدَّخر في ذلك وسعًا، وتستخدم لذلك جَميع الوسائل القديمة والحديثة، وطرق النَّشر والتَّعليم، كتجوُّل الدعاة في القرى والمدن، وتنظيم الخطب والدروس، ونشْر الكتب والمقالات، ومدارسة كتب السيرة وأخبار الصَّحابة وكتب المغازي والفتوح الإسلامية، وأخبار أبطال الإسلام وشهدائه، ومذاكرة أبواب الجهاد وفضائل الشهداء، وتستخدم الرَّاديو والصحافة وكتب الأدب وجميع القوى والوسائل العصرية، والقرآن وسيرة محمد ﷺ‬ قوَّتان عظيمتان تستطيعان أن تشعلا في العالم الإسلامي الحماسة والإيمان، وتحدثا في كل وقت ثورة عظيمة على العصر الجاهلية، وتجعلا من أمة مستسلمة منخذلة ناعسة أمة فتية ملتهبة حماسة وغيرة وحنقًا على الجاهلية وسخطًا على النظم الجائرة".

إنَّه لو وجد رجال يقومون بالدَّعوة إلى الإسلام والتعاون بين المسلمين، ولهم من القيادة والسلطة والإمكانيات ما يستطيعون به إنفاذ آمالهم لتغيَّرت حال العالم اليوم، كيف والإسلام مشرق واضح، سالم من التعقيدات والخرافات، ويتقبَّله الوثنيّون وغيرهم بسهولة أذهلت المبشرين واعترفوا بها، وهي واقع لا يمكن إنكاره.

ذكر الدكتور عبدالعزيز عزام في كتابه "الإسلام والفكر العالمي" عن ممرضة تشتغل بالتبشير بالمسيحيَّة في الصين قولها: إنَّ من أغرب ما شاهدته هناك هو انتِشار الإسلام بدون مبشِّر، ويكفي أن يسافر الصيني للتّجارة في الهند، فيعود وقد أسلم، ولا يلبث طويلاً حتَّى تنتقل منه عدوى إسلامِه إلى جاره، ثمَّ إلى القرية كلّها وما دونها.

قالت: ولا أدري سببًا يفسر هذا الانتشار الذي في سرعته يشبه انتشار النَّار في الحطب اليابس[51] مع أنَّه ليس هناك مَن يدعو إليه، ونحن قائمون بأحسن دعاية وبخدمة الجمهور بشتَّى الوسائل، وما يتنصَّر إلا القليل.

كما ذكر أيضًا في كتابه هذا أنَّه التقى في ألمانيا بجماعة من الألمان أسلموا دون أن يدعوهم أحد، وأنَّهم يتدارسون القرآن، وقالوا: "إنَّ القرآن هو حجَّتنا وبرهاننا، وهو الَّذي هدانا الله بما فيه من تعاليم صالحة لإقامة العدل بين النَّاس كافَّة، وإقامة مجتمع صالح يستوي فيه الضَّعيف والقوي والفقير والغني، ولا يفضل بعضهم على بعض إلا بالتقوى".

وليس هذا بدعًا فقد كان الرَّسول ﷺ‬ يأتيه اللَّجوج المعاند من المشركين فيتْلو عليه الآيات البينات من القرآن، فيدخله الوجل والرَّهبة، وتدحض شبهته، وقد يسلم من فوره، وقد قال تعالى في شأْن القرآن: ﴿لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعَام: 19]، وقد ذكر المفسِّرون في تفسير هذه الآيات ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطُّور: 35]، وقوله: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 66]، وقوله: ﴿حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 1 - 3]، وقوله: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 44]، وغيرها ما يضيق المجال عن ذكره.

يقول إدوار موتنيه، مدير جامعة جنيف في محاضرة له: إنَّ الإسلام دين سريع الانتشار، ينتشر من تلقاء نفسه دون أي تشجيع تقدّمه له مراكز منظَّمة؛ وذلك لأنَّ كلَّ مسلم مبشّر بطبيعتِه، المسلم شديد الإيمان وشدَّة إيمانه تستولِي على قلبه وعقله، وهذه ميزة ليستْ لدينٍ سواه؛ ولهذا السَّبب ترى المسلم الملتهِب إيمانًا يبشر بدينِه أينما ذهب وأنَّى حلَّ، وينقل عدوى الإيمان الشَّديد لكلّ مَن يتَّصل به من الوثنيين.

وعلى هذا؛ فإنَّه لو وُجِدَ دعاة مخلصون للإسلام في هذا العصر، يُحسنون أساليب الدَّعوة، ويدْعون بحكمة، ويجادلون بالتي هي أحسن، ويدلّون بالحجج والبراهين لكان أحرى أن يجدوا الاستجابة والقبول، وقد تنقَلِب تلك الأخطار المحدقة بالإسلام على رُؤوس مدبِّريها وكائديها، وتصبح عاملاً قويًّا في نشر الإسلام.

يقول محمد باكثول - وكان مسيحيًّا إنجليزيًّا فأسلم -: "في رأيي أنَّ الزَّمن الذي نحن فيه أنسب الأزْمان وأصلحها لنشْر الدَّعوة الإسلامية في الأرض، وما يظنّه الظَّانّون مثبطًا من نقص القوة هو بالعكس أدْعى إلى نشر الإسلام، وأكثر ملاءمة للنَّجاح فيه، إنَّ لنا في هدنة الحديبية لعبرة نقضي لها العجب كلَّما فكَّرنا فيها، فالصَّحابة - رضوان الله عليهم - وقعت منهم شروط تلك الهدنة موقع الأسى، وكانت لهم منها صدمة عنيفة لم يسلم من تأثيرها بعدَ صاحب الهداية العظمى ﷺ‬ غيرُ عدد قليل منهم، في مقدمتهم الصديق - رضوان الله عليه.

ولكن هذه الهدنة كانت الفتْح الأكبر للإسلام، حتَّى إنَّ عدد الَّذين دخلوا في الإسلام في سنة واحدة بعد صلح الحديبية كان أكثر من عدَد الَّذين دخلوا فيه مدَّة تسع عشرة سنة قبل ذلك! إنَّ صوتًا علويًّا نسمعه الآن من الحديبية ينادينا بأنَّه في الإمكان بالرَّغم ممَّا صِرْنا إليْه من التجرُّد من القوَّة أن نلمَّ شعثنا، ونعود إلى نشر هداية دينِنا، وأن نبلغ هذه الهداية إلى البشَر أجمع، فالشُّعوب اليوم أشدّ إصغاء إليْنا منها في العصور السابقة.

ويقول الأستاذ محمَّد الغزالي في كتابه "معركة الصحف":

"وقد جهد الاستعمار بعد استِمْكانه من الأقطار الإسلامية أن يهوّن من قيمة العلم الديني، والأوعية الحاملة له، وأن يجعل الصَّدارة لألوان أخرى من المعرفة، وصنوف أخرى من الناس، تاركًا الكلام في الإسلام والاشتغال بتوجيهاته لأقْوام في مؤخّرة الحياة، تقاتلهم على ضروراتها، ويقاتلونها على طلب البقاء، وحسب.

ويستحيل أن يصلح الإسلام أو تستقيم أمورُه أو يصحّ عرضه أو يعمّ نفعه إلاَّ إذا عاد التَّاريخ سيرته الأولى وأصبح رجاله مصنوعين من المعادن التي صنع منها أسلافُهم الأوائل نفاسةً ومجادة، وتبوَّؤوا في مجتمعاتهم بمحض كفاءتهم أماكن التوجيه والقيادة".

فمن الضروري إقصاء تلاميذ المبشّرين عن مراكز القيادة والتَّوجيه، وإبعادهم عن وسائل الإعلام والتدريس، وتَمكين ذوي الاتجاهات الإسلاميَّة في كلّ بلد إسلامي لكي يقوموا بالدَّور الذي يجب عليهم القيام به، لا أن تُتْرَك هذه الوسائل بيَدِ الزُّمر المخربة، تفتك بالأمَّة وتجرّها إلى الكوارث، بينما يقبع الغيورون على الإسلام والحريصون على نشْره في زوايا النِّسيان والإهمال، يَعيشون على هامش الحياة، كما حصل في كثير من البلدان.

وقد أصيب المسلمون من جراء ذلك بنكسات ونكبات، وإذا ما أرادوا العزَّة والنهوض الصحيح، والقيام بما يمليه عليهم دينهم وضميرهم، فلا بدَّ من تدارك هذه الأخطاء الجسيمة، والاتّعاظ بأحداث التاريخ ووقائعه ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ *﴾ [المَائدة: 56].

أمل وتفاؤل:

وممَّا يقوي الأمل ويظهر للعيان ما يلقاه هذا الدين دين البشرية جمعاء من استجابة وقبول، إذا ما وجد الدّعاة الذين يحسنون توضيحه وجلوه، ما تحقَّق على يد الدَّاعية الإسلامي أحمد وبللو - عليه رحمة الله - فلقد كان إقبال النَّاس على الدين في شمالي نيجيريا أمرًا يكاد يكون خياليًّا، فأصبح النَّاس على يديه يدخلون في دين الله أفواجًا، والكنائس تقفل أبوابها؛ لأنَّها أضحت خاوية على عروشها، والمبشّرون النصارى يحزمون أمتعتهم، ويعودون إلى بلادهم، أو يذهبون إلى بلدان أخرى؛ لأنَّه لم يعد لهم أملٌ وهم يرون هذا التيَّار الجارف، وتلك الجموع الهائلة تتلهَّف إلى الإسلام، ولا ترضى عنه بديلاً، وقد كانت بعثة الجامعة الإسلاميَّة ذات فائدة جليلة، وكذا جهود الرَّابطة الإسلاميَّة، فهي على قلَّة إمكانياتها قد أثْمرت ثمارًا طيّبة، وقبل ذلك ما صادفه البشير الإبراهيمي من نَجاح في تدْريس القرآن، ونشْر المدارس الإسلاميَّة على الرَّغْم من مقاومة الفرنسيِّين المستعمرين في الجزائر.

وفَّق الله الأمَّة الإسلاميَّة إلى الفلاح والرّشد، وسدَّد خطاها إنَّه على كل شيء قدير.

والسَّلام عليْكم ورحْمة الله وبركاته.

زيد بن عبدالعزيز فياض



[1]- البداية والنهاية ج 11 ص 25.

[2]- الذَّيل على طبقات الحنابلة، ج1 ص 145 - 146.

[3]- نكت الهميان، ص 280.

[4]- العقود الدرية، ص 26.

[5]- البداية والنهاية، ج 12 ص 294.

[6]- وفيات الأعيان، ج 3 ص 225.

[7]- البداية والنهاية ج 1 ص 27.

[8]- البداية والنهاية ج 10 ص 208 - 209.

[9]- انظر كتاب "جامع العلم وفضله"، وهو من أهم المراجع في هذا الكتاب.

[10]- كان أبو العلاء المعري مشهورًا بالذكاء والحفظ ولكنَّه كثير الشكوك والريب، وفي بعض كلامه إلحاد وزندقة.

[11]- من كتاب نكت الهميان، ص 206 - 208.

[12]- نكت الهميان، ص 164.

[13]- البداية والنهاية ج 13 ص 208 - 209 بتلخيص.

[14]- ص 434 ترجمة أدل زعيتر، الطبعة الرابعة بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر.

[15]- البداية والنهاية، ج 11 ص 25 - 27.

[16]- نكت الهميان، ص 234.

[17]- نكت الهميان، ص 234، والبداية والنهاية، ج 13 ص 67 - 68.

[18]- الذيل على طبقات الحنابلة، ج 2 ص 6 - 8.

[19]- البدر الطالع، ج 1 ص 70.

[20]- نكت الهميان، ص 204 - 205.

[21]- وفيات الأعيان، ج 3 ص 433، ولسان الميزان، ج 1 ص 308.

[22]- الأعلام للزركلي، ج 9 ص 178.

[23]- من مقدمة الأستاذ محمد عبده عزام، ديوان أبي تمام، ص 9، 10 ونسب ذلك إلى كتاب نزهة الألباء.

[24]- العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ص 23 و25 و26.

[25]- نكت الهميان، ص 280.

[26]- البداية والنهاية، ج 11 ص 124، وكتاب وفيات الأعيان، ج 1 ص 59.

[27]- وفيات الأعيان، ج 1 ص 83 وج 5 ص 438.

[28]- البداية والنهاية، ج 11 ص 98، ووفيات الأعيان ج 1 ص 86.

[29]- وفيات الأعيان، ج 3 ص 134 مختصرًا.

[30]- انظر البداية والنهاية، ج 11 ص 34.

[31]- انظر مسند الإمام أحمد ترتيب الأستاذ أحمد شاكر، ص 39 - 40 ج 1.

[32]- نكت الهميان في نكت العميان، ص 249، والأعلام للزركلي، ج 5 ص 230.

[33]- من كتاب العلم يدعو للإيمان، ص 202 - 203.

[34]- من كتاب القرآن والعلم، ص 28.

[35]- انظر كتاب: المستشرقون والمبشرون.

[36]- انظر ما كتبه محمد أسد في كتابه: "الإسلام على مفترق الطرق"، وما قاله غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" وغيرهما.

[37]- انظر كتابي: معركة المصحف والمخططات الاستعمارية.

[38]- انظر كتابي: التَّبشير والاستعمار في البلاد العربيَّة، و "المستشرقون والمبشرون".

[39]- انظر كتاب: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، وكتاب: المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام وغيرهما.

[40]- انظر كتاب التبشير والاستعمار في البلاد العربية.

[41]- انظر كتاب: المستشرقون والمبشرون.

[42]- انظر كتاب: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، وكتاب: ما يقال عن الإسلام، وكتاب: المخططات الاستِعْمارية لمكافحة الإسلام، وكتاب حقائق الإسلام وأباطيل خصومه.

[43]- انظر كتاب: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، وكتاب: معركة المصحف، وكتاب: المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام.

[44]- وقد قام الصليبيون بمؤامرة دنيئة اغتيل فيها رئيس الوزراء المركزي أبو بكر تفاوي بليوا، ورئيس وزراء الإقليم الشمالي الحاج أحمد وبللو، وعدد كبير من المسلمين، ولكن ذلك لم يطل حتَّى قام المسلمون بثورة معاكسة وصرع قائد الانقلاب الصليبي غير أنَّ مكايد المستعمرين لم تنقطع، ولكنها ستفشل بحول الله (المؤلف).

[45]- وانظر كتاب: المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام.

ومصطفى كمال أتاتورك من يهود الدونمة، ألغى الخلافة وفصل الدين عن الدولة، وأعلن تركيا دولة علمانية وألغى الحجاب، واستبدل عن الحروف العربية الحروف اللاتينية، وقوى نفوذ اليهود في تركيا، هلك بسبب إغراقه في المسكرات والخمور.

[46]- وانظر كتاب التبشير والاستعمار في البلاد العربية والمخططات الاستعمارية.

[47]- انظر كتاب: المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام.

[48]- أصدر بعد ذلك كتابين هما: هذا الكون ما ضميره وكبرياء التاريخ في مأزق.

[49]- انظر كتاب: التبشير والاستعمار في البلاد العربية.

[50]- انظر كتاب: القومية في نظر الإسلام.

[51]- تعبير هذه الممرضة عن انتشار الإسلام بأنه عدوى، وأنه يشبه اشتعال النار في الحطب اليابس، هو تعبير خاطئ؛ فالإسلام حياة ونور وهداية وليس مرضًا أو تدميرًا، ولكنَّا أوردنا ذلك كما ذكره الدكتور. اهـ. المؤلف.