×
العلماء هم الدعاة : كتيب للدكتور ناصر العقل - أثابه الله - بين فيها مفهوم العلماء وسماتهم، ومفهوم الدعوة والدعاة، ومدى ارتباط الدعوة بالعلم وملازمتها له؛ وكان أصلها محاضرة ألقيت بمسجد القدس، بحي الروابي بالرياض في جمادى الثانية 1412هـ.

 العلماء هم الدعاة

د. ناصر بن عبد الكريم العقل

 تمهيد

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

فإن الحديث عن الدُّعاة وعن العلماء، أصبح في ظروفنا المعاصرة أمرًا ضروريًا؛ خاصة حينما انتشر مفهوم خاطئ عند الناس، في هذا العصر، وهو: مفهوم التفريق بين العالم والدَّاعي، وبين العلم والدعوة.

وبين الفقه في الدين والفقه في الدعوة. وما نتج عن هذا المفهوم من ظواهر خطيرة في الدِّين، وفي السلوك، وفي الأفكار، وفي المفاهيم، وفي التعامل والمواقف، والولاء والبراء.

ومنشأ الموضوع في ذهني: أنِّي رأيتُ كثيرًا من الدعاة، والحركات الإسلامية المعاصرة التي تتصدر الدعوة في العالم الإسلامي، قد نشأ عندها هذا الفصام، وهذا التفريق المبُتدع بين الداعي إلى الله -سبحانه وتعالى- وبين العالم، أو بين المتصدي للدعوة إلى الله -أو المحترف للدعوة- وبين العالم والشيخ، أو بين العلماء وطلاب العلم، وبين الدُّعاة وأتباع الحركات الدعوية، ونظرًا لما لهذا الانفصام والخلل من عواقب وخيمة قد تؤدي إلى الافتراق المذموم، فلابد من الحديث عن هذا الأمر على وجه النُّصح لا على وجه التشهير، وسأتحدث في هذا الموضوع عن بعض المسائل؛ لأن الموضوع متشعِّب وطويل، ذو شجون.

 المسألة الأولى: في التعريفات المتعلقة بعنوان هذه المحاضرة، والتي هي «العلماءُ هم الدُّعاة». ([1])

 أ- مفهوم العلماء وسماتهم:

فالعلماء المقصود بهم: العالمون بشرع الله، والمتفقهون في الدين، والعاملون بعلمهم على هدى وبصيرة، على سنَّة رسول الله ﷺ‬، وسلف الأمة، الداعون إلى الله بالحكمة التي وهبهم الله إياها: }وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا{ [البقرة: 269]. والحكمة: العلم والفقه. فعلى هذا فالعلماء بهذا التعريف: هم الدعاة بدَاهة، والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم الدعاة، فأجدر من يتصدر الدعوة بعد الأنبياء – وقد انقضت النبوة وانتهت -: هم العلماء وذلك:

أولاً: لأنهم ورثتهم. والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارًا، إنما ورثوا هذا العلم، والدعوة إنما تكون بالعلم، فأهل العلم هم الدعاة.

ثانيًا: العلماء هم حُجة الله في أرضه على الخلق، والحُجة لا تقوم إلى على لسان داعية بفقهه وبعلمه وبقدوته، فعلى هذا، فالعلماء هم أجدر الناس بالدعوة.

ثالثًا: العلماء هم أهل الحل والعقد في الأمة، وهم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم، كما قال غير واحد من السلف في تفسير قوله تعالى: }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ{ [النساء: 59]. قال مجاهد: هم أولو العلم والفقه ([2])، وإذا كانوا هم أولوا الأمر فولايتهم للدعوة من باب أولى.

رابعًا: العلماء هم المؤتمنون على مصالح الأمة العظمى؛ على دينها، وعلى دنياها وأمنها ومن باب أولى أن يكونوا هم المؤتمنون على الدعوة وشؤونها.

خامسًا: العلماء هم أهل الشورى الذين ترجع إليهم الأمة في جميع شئونها ومصالحها، وإذا كانوا يستشارون في جميع مصالح الأمة – في دينها ودنياها – فمن باب أولى أن يكونوا هم أهل الشورى في الدعوة وقيادتها.

سادسًا: العلماء هم أئمة الدين، والإمامة في الدين فضل عظيم، وشرف ومنزلة رفيعة، كما قال تعالى: }وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ{ [السجدة: 24]. والإمامة في الدِّين تقتضي بالضرورة الإمامة في الدعوة، وما الدين إلا بالدعوة، وما الدعوة إلا بالدين.

سابعًا: العلماء هم أهل الذِّكر، والذِّكرُ بالعلم والدعوة، كما قال تعالى: }فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{ [النحل: 43، الأنبياء: 7]. فعلى هذا هم أهل الدعوة إلى الله تعالى.

ثامنًا: العلماء أفضل الناس كما قال تعالى: }يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ{ [المجادلة: 11]، وأفضل الناس هو الداعي إلى الله.

تاسعًا: العلماء هم أزكى الناس، وأخشاهم لله، كما قال تعالى: }إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ{ [فاطر: 28]. وإذا كانوا هم كذلك، فهم الأجدر أن يكونوا هم الدعاة على هذه الصفات، وهم الأجدر أن يكونوا هم القادة والرُوَّاد في الدعوة.

عاشرًا: العلماء هم الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر بالعلم والحكمة، إذًا فالعلماء هم الدعاة.

حادي عشر: العلماء هم شهداء الله الذين أشهدهم الله على توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته – سبحانه – وبشهادة ملائكته؛ وفي هذا تزكيتهم وتعديلهم، فقال تعالى: }شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ{ [آل عمران: 18] ومن كانوا كذلك فهم المؤتمنون على الدعوة، وهم الأولى بقيادتها وريادتها.

هذا على وجه العموم، فالعلماء هم أهل هذه الخصال. ولا يلزم أن تتوفر كل هذه الخصال في كل عالم، فالكمال لا يكون إلا لله – سبحانه – لكنهم في الجملة – أي العلماء – لا شك أنهم المتميزون بهذه الصفات الجديرون بها.

بطلان دعوى خلو الأرض من العلماء القدوة:

والعلماء لا يمكن أن تخلو الأرض منهم، وهذا دفعًا لدعوى قد يدعيها بعض الجهلة ممن ينتسبون للدعوات والحركات المعاصرة وغيرهم وهي زعم بعضهم: أنه لا يوجد علماء قدوة، أو أن العلماء الذين يمكن الاقتداء بهم: مفقودون، أو أنهم يتهمون بمطاعن تسقط اعتبارهم، أو نحو هذا من الدعاوى التي لا تجوز شرعًا - بل هي مخالفة للواقع، ومخالفة لصريح النصوص، فإن الله -سبحانه وتعالى- تكفل بحفظ هذا الدين، وتكفل بحفظ طائفة من الأمة تبقى ظاهرة منصورة، أمرها بيِّن - وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بأهل الحجة والقدوة وهم العلماء، والصفات التي ذكرتها تتوفر في كل مكان، وكل وقت بحسبه -قوة وضعفًا- لكن لا يمكن أن يخلو كل الزمان وكل المكان في الأرض من العلماء -كما ذكرته- إلى قيام الساعة.

 ب- مفهوم الدعاة:

أما بالنسبة للدعاة: فقد عرفنا أن العلماء هم الدعاة، لكن تنزلاً للمصطلحات والألفاظ، فإنا نقول:

الدعاة هم: الداعون إلى الله، على بصيرة.

والبصيرة هي اتباع هدي رسول الله ﷺ‬ وهو الفقه في الدين، وأول من تتوفر فيه هذه الصفات - لا شك أنهم العلماء، لأن الرسول ﷺ‬، أمر أن يقول بأن سبيله: الدعوة إلى الله على بصيرة، ولا تأتي البصيرة إلا بالعلم والفقه في الدين، قال تعالى: }قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي{ [يوسف: 108]، ولا شك أن أتباع الأنبياء بالأولى هم العلماء.

 جـ- والدعوة:

هي السعي لنشر دين الله - عقيدة وشريعة وأخلاقًا، وبذل الوسع في ذلك، ويتحقق هدف الدعوة إلى الله بالعلم والعمل والقدوة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح والاستقامة والإخلاص والتجرد، وهذه الأركان أكثر ما تتوفر في العلماء.

 إشكالات مفترضة، وجوابها:

وهنا لابد من الاستدراك، قبل أن أفصِّل في بعض النقاط المهمة في المسائل التي تلي، حيث قد يرد سؤال عند بعض الناس:

 أولاً: هل يعني هذا أنه لا يدعو إلى الله إلا عالم؟

بالطبع لا، بل على كل مسلم عرف شيئًا من الدين، وتبصر به: أن يدعو إليه بعد التبصر، وفقْه المسألة التي يدعو إليها. وإنما أقصد أن الذي تتوجه إليه النصوص الشرعية، والذي عليه عمل السلف أن قيادة الدعوة، وريادتها، وتوجيهها لا بد أن يكون من العلماء وفي العلماء، وأقصد: أن العلماء لابد أن يتصدروا الدعوات في كل أمر ذي بال، ولا بد أن نجعلهم هم القادة، وهم المرجع، والموجهين في الدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى – ولا يكونوا مجرد مستشارين عند الحاجة كما يفعل كثير من (أصحاب الدعوات).

فالعلماء لابد أن يكونوا هم المتصدرين للدعوة، وإن لم يكن الأمر كذلك، فإن في الأمر خللاً لابد من استدراكه، وخطأ لابد من تصحيحه، بل إن لم يكن الأمر كذلك فإن الدعوة ستنحرف لا قدر الله وتعصف بها الأهواء.

 ثانيًا: ربما يقال: إن العلماء لم يرفعوا راية للدعوة

فأقول: هذا الإشكال لا يصح، لأنه ناتج عن قصور في النظرة للعلماء فالمنصف يجد أن العلماء – في الجملة – قاموا بما يسعهم من واجب التبليغ ونشر العلم والنصح للأمة والولاة والعامة، كل منهم حسب ما يستطيع، وحسب ما يرى من أساليب يتأدى بها الواجب، ويجب أن لا نتوقع منهم الإشادة بجهودهم أو الدعاية لأنفسهم؛ ذلك أن الأصل في أهل العلم: (أنهم يُسعى إليهم لأخذ العلم عنهم، ولا يسعون إلى الناس)، والأصل في أهل العلم: أن يكون لهم سمت أساسه التواضع، وأن يكون لهم حق على الأمة، كما أن الأصل في العلماء: أن لا يرفعوا فوق رءوسهم رايات، ولا يرفعوا شعارات، ولا يطلبوا الانتماءات إليهم، ونحو ذلك مما هو من لوازم بعض الدعوات المعاصرة.

فالعلماء يُقْصَدون، ويجب أن يلتف حولهم عامة الناس، وطلبة العلم بخاصة.

ورفع الرايات والشعارات للدعوات من قبل من لهم شأن في الأمة - ليس من هدي السلف، فمن رفعه الله بالعلم والتقوى وجب على الأمة أن ترفع قدره، وأقصد: إن إخضاع العلم للدعاية أو للشعارات أو الانتماءات لم يكن من خصال السلف، بل هو من خصال أهل الأهواء والفرق، أما أهل السنة: فهديهم السنة والجماعة، وهي ليست شعارًا يرفع، إنما هي سبيل المؤمنين، وصراط الله المستقيم وسنة سيد المرسلين ﷺ‬.

 المسألة الثانية

بيان أن الأصل في الكتاب والسنة وما اتفق عليه جمهور سلف الأمة، وهو هديهم أن العلماء هم الدعاة، وأن الدعاة – أصلاً – هم العلماء، وأن غيرهم تبع لهم، فكما أسلفت: كل طالب علم وكل مسلم عليه أن يدعو إلى الله بقدر وسعه، وعلى بصيرة في الأمر الذي يدعو إليه – وكل ذلك مشروط بالتبعية لأهل العلم، لأنهم هم قادة الأمة، وهم من أهل الحل والعقد فيها – وهم جماعتها.

 المسألة الثالثة

في الحديث عن هذه الظاهرة التي أشرت إليها، وهي: الفصل بين العلماء (أي علماء الشرع: أهل الفقه في الدين) وبين الدعاة، أو بين العلم والدعوة (أي طلب العلم الشرعي والدعوة)، وهذا الفصل -مع الأسف- تركز في أذهان كثير من المسلمين في هذا العصر لأسباب كثيرة، سأذكر شيئًا منها فيما بعد.

بل إن هذا المفهوم الخاطئ لم يتركز في الأذهان فقط، بل صار له أثر في الواقع أي فيما تعيشه الدعوات، وما يعيشه كثير من الدعاة في كثير من بلاد العالم الإسلامي وكما أسلفت كان التفريق بين العلماء والدعاة من سمات أهل البدع، حيث إنهم اتخذوا رءوسًا جهالاً، والداعية عندهم -أعني أهل الأهواء والبدع- وهو من يخضع لأهوائهم، ويلتزم بها، ويقول بمقولاتهم وينشرها وينتصر لها، ولو لم يفقه من الدين شيئًا.

ونجد هذا جليًا في الفرق الأولى: كالخوارج، فإن دعاتهم ليسوا العلماء الأكابر، لا فيهم ولا من غيرهم، بل بضاعتهم في الفقه والعلم قليلة وعلى غير طرق سليمة، وكذلك الرافضة: دعاتهم جهالهم، بل أجهل الناس وأقلهم أحلامًا، وهكذا المعتزلة، والقدرية، وأهل الكلام وسائر الفرق على هذه السمة – غالبًا – على تفاوت بينهم.

فهؤلاء – أي أهل الافتراق – هم الذين يفصلون بين الدعوة وبين الفقه في الدين، لأنهم – أصلاً – يقل فيهم الفقه في الدين، وأكثر زعمائهم ودعاتهم إنما يمتازون بالولاء لفرقتهم، وبالولاء للمقولات التي هم عليها، ولا يفقهون من الدين إلا القليل، ومنهم من لا يفقه شيئًا.

وأغلب دعاة هذه الفرق والذين نشروها في الأقاليم الإسلامية قديمًا من العوام ومن الجهلة أو الذين لهم أهداف وأغراض شخصية أو شعوبية، أو عصبيات، ويسيطر عليهم الجهل المهلك.

 المسألة الرابعة

أن هذه الخصلة -مع الأسف- سمة ظاهرة، بدأت تظهر في كثير من الدعوات المعاصرة، وكثير من الحركات الإسلامية - وهي في خارج هذه البلاد أكثر، لكن لا يسعنا إلا أن نتكلم عنها لأسباب:

أولها: أننا لا بد أن نحمل هموم جميع المسلمين في كل بقاع الأرض وهذا واجب شرعًا على كل داعية، فعلى كل عالم أن يحمل هم المسلمين لا في إقليم واحد، بل في جميع بقاع الأرض، والمسلمون الأصل فيهم أنهم أمة واحدة، ومقتضى النصح والإشفاق عليهم بيان ما فيهم من خير وتشجيعهم عليه، وبيان ما فيهم من أخطاء، والتنبيه عليهم، ونصحهم بالعدول عنها.

ومن هذا المنطلق سأتوقف عند ذكر بعض ظواهر الخطأ في هذا الموضوع، في بعض الحركات الإسلامية خارج هذه البلاد.

وثانيها: أن بعض هذه الظواهر -أي الفصل بين العلماء والدعاة- بدأت تظهر عند طوائف من الشباب عندنا، وبعض المفكرين، وبعض المثقفين، لسبب أو لآخر، فمن هنا كان لابد من الكلام عن أوضاع الدعوات المعاصرة، بمجملها، في جميع العالم الإسلامي، وليس في بلد واحد، لأنها يستمد بعضها من بعض.

أعود إلى هذه الخصلة أو هذه السمة التي وقع فيها كثير من الدعاة والدعوات المعاصرة، وهي: (أن الدعاة عندهم غير العلماء والداعية غير العالم)، وهذا المفهوم بدأ ينمو في أذهان بعض الناس – مع الأسف – وقد تأصلت هذه المفاهيم حتى في أعمال الدعاة، وفي حركاتهم، وفي مواقفهم، وفي مناهجهم، فصاروا يفصلون بين العالم (الشيخ) وبين الداعية، وأدى ذلك الفصل إلى عواقب وخيمة.

فالداعية عندهم: هو من ينشط في الدعوة والحركة، لتحقيق مراد أصحابها، أو لتحقيق أهدافها، أو يواليها ويرفع شعارها، ويجمع الناس حوله على هذا الشعار. هذا هو الداعية عند كثير من الدعوات المعاصرة، بصرف النظر عن علمه وفقهه، بل الغالب أنه يكون من قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي، والمشايخ بمفهوم هؤلاء – القاصر – ليسوا دعاة، ولا يصلحون لأن يسهموا في الدعوة أن يدخلوا في إطارها أو نطاقها، لأنهم فيهم وفيهم! وبسبب هذا الفصل ظهرت أمور، سنشير إلى شيء منها.


 المسألة الخامسة: من نتائج الفصل بين العالم وبين الداعية

بسبب فصل بعض الدعاة بين الشيخ (العالم) وبين الداعية، ظهرت أمور سلبية نراها جلية في كثير من الدعوات الإسلامية، من هذه الأمور:

أولاً: اتخاذهم رؤوسا جهالاً، أغلبهم لا يفقهون من الدين إلا ما يحلو لهم، وغاية ما يملك بعضهم من العلم، إنما هو مجرد أفكار وثقافات أشتات، زاد كثير منهم مجرد العواطف والحركة، حتى كاد أن يكون مصطلح الداعية عندهم من ليس بعالم، وأن العالم ليس بداعية، وأحيانًا يقولون: فلان داعية – أي ليس بعالم – وفلان شيخ من المشايخ؛ أي ليس بداعية! وهذا وقوع فيما حذر منه الرسول ﷺ‬ من اتخاذ (رؤوسا جهالاً)، يفتون بغير علم، فيَضلوا ويُضلُّوا فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ‬ قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»([3]).

ثانيًا: قلة وجود العلماء والمشايخ، والمتفقهين في الدين، المتضلعين في العلوم الشرعية بينهم، في أكثر الدعوات المعاصرة مع أن وجود أهل العلم المتفقهين في الدين شرط من شروط الدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى – خاصة في الدعوات الكبرى، التي ينضوي تحت لوائها جماعات وفئام من الناس، فهذه لا ينبغي أن يفقد فيها العالم، أو أن يكون العالم فيها مغمورًا، أو لا يتصدر الدعوة.

ثالثًا: قصور النظرة في فهم قدر العلماء والمشايخ، وبمنزلتهم عند كثير من أتباع هذه الدعوات. فمن هنا وجد من بعضهم اتهام للعلماء بالقصور أو التقصير أو قلة الوعي، أو أي نوع من أنواع التنقيص لتبرير عدم صلة الدعاة بالعلماء. بل إن بعض الدعاة يرفع نفسه ودعوته على حساب الكلام في أعراض العلماء، وهذا الأمر – وإن كان كشفه مؤلمًا – لكن لا بد من ذكره، ولا بد من السعي لعلاجه.

رابعًا: توريط بعض شباب الأمة بالانتماء للشعارات والقيادات الدعوية، وليس لأهل العلم والعلماء، بل أصبح الانتماء للشعار والجماعة الدعوية أكثر منه للسنة والجماعة وأهل العلم ([4]).

خامسًا: فصل الشباب عن مشايخهم وعن علمائهم، ومن ثم حجبهم عن النظرة الشرعية الشمولية للدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى - وغاياتها ومناهجها، وحجبهم عن الاهتداء بهدي أئمة السنة قديمًا وحديثًا. بل إن بعض الجماعات تربي شبابها على جوانب من مناهج السلف تخدم أهدافها، أو تخدم الجماعة وشعاراتها، وتغفل الجوانب الأخرى والسنة والعلم وسير أهل العلم، وهذه من أساليب أهل الأهواء وأهل البدع، يأخذون من الأئمة ما يحلو لهم من قول أو فعل، ويتركون الباقي، وهذا خلل في النظرة وخلل في المنهج.

سادسًا: نتج عن الفصل بين الدعاة والعلماء كثرة الشعارات والأهواء والانتماءات والافتراقات والعصبيات للجماعات أو للأشخاص مع العلم بأن الأمة لا يجمعها على السنة والخير إلا علماؤها، ومهما بالغت الفرق، أو مهما بالغت الجماعات والدعاة في أي مكان وفي أي زمان للسعي إلى جمع المسلمين دون الاسترشاد بأهل العلم، ودون أن يجعلوا العلماء قادة وموجهين ومرشدين وأئمة للدعوات، فإن الشمل لن يجتمع، نعم لن يجتمع شمل الأمة إلا بالالتفات حول علمائها، مهما بلغت الدعوات من السعي إلى وسائل الجمع وأساليبه، وهذا الخلل سبب رئيسي في كون الجماعات تتنافر ولا تتفاهم، وتفترق وتفرِّق أكثر مما تجتمع وتجمع... وواقعها شاهد على ذلك.

سابعًا: نتج عن العزل بين العلماء وبعض الدعوات المعاصرة – أقول البعض حتى لا نظلم الذين هم على الاستقامة – إن نشأت لبعض الدعوات مناهج وأفكار وكتب ومؤلفات معزولة عن السنن، وعن العلوم الشرعية بشموليتها، بل وحتى بتفصيلاتها. وصارت كل طائفة تأخذ من العلوم الشرعية ما يناسب أوضاعها، وهذا أسلوب من الأساليب الخاطئة التي تخالف منهج السلف، وحتى نشأ للدعوة في العالم الإسلامي علم يشبه علم الكلام لدى الجماعات في ارتباطه بالأهواء والأشخاص، لا بارتباطه بالسنة وبالأئمة.

وقد برزت في الآونة الأخيرة نتيجة لهذا الفصل بين الدعاة والعلماء دعوات كبرى، قوامها وركائزها رؤساء ليسوا بعلماء، وتعتمد على أفكار وحركات محدثة تخالف هدي الإسلام، وعلى عواطف لا تضبطها القواعد الشرعية ولا المصالح المعتبرة.

ثامنًا: كما نتج عن هذا التقصير في طلب العلم الشرعي على أصوله وعلى مناهجه السليمة الصحيحة، بل ونتج من ذلك عند أصحاب الدعوات التي تفصل بين العلماء والدعاة الحيلولة بين أتباعها وبين تحصيل العلم من المشايخ؛ بل كثيرًا ما ترد إشكالات من بعض الشباب في شتى بلاد العالم الإسلامي، ناتجة من صرف بعض الدعاة لأتباعهم عن العلماء بذرائع شتى، حتى أن بعضهم قد يعاقب الشاب الذي ينتمي إليه لماذا جلس يطلب العلم الشرعي على الشيخ فلان!!

ونتيجة لذلك حصل الخلل في المفهوم، فقد فهم بعض الدعاة – هداهم الله – بسبب العزلة بينهم وبين المشايخ أن المشايخ خصوم أو أعداء للدعوة، أو أن لديهم ما يضر بالمنتسب للدعوة، أو ما يشوش أفكاره عليها. وسبب ذلك أن في دعواتهم أمراضًا ومصائب لا يرضاها العلماء وقد ينتقدونها، ومن هنا تعللوا بصرف شبابهم عن العلماء وأهل العلم والفقه في الدين.

وفي الآونة الأخيرة لما رأى بعضهم عوار هذا النهج صاروا يوجهون شبابهم إلى المشايخ لأخذ العلم عنهم فقط دون ما يتعلق بالمناهج والقضايا الدعوية والتربوية ونحوها، وهذا من مسالك أهل الأهواء، وهو مسلك خطير يجب ألا يستمر عليه من ينشد الحق والإصلاح، ولذلك وجب مناصحة أولئك الدعاة وبيان الحق لهم.

تاسعًا: في بعض الدعوات التي تسلك هذا المسلك ظهرت فئام من الجماعات والدعاة والشباب في البلاد الإسلامية وغيرها عددها ليس بالقليل، تجد قادتهم على قلة في الفقه وضعف في العلم، أو تتلمذوا على الأقل علمًا واتخذوا شيوخهم من الأصاغر، وقد حذر النبي ﷺ‬ من ذلك حيث قال:

«إن من أشراط الساعة: أن يُلتمس العلم عند الأصاغر»([5])، وهذا -والله أعلم- يشمل الأصاغر في العلم والقدر والسن. وكل ذلك حاصل في هؤلاء ومنهم طائفة يتخذون شيوخهم كتبهم، وما يرشحونه من كتب فكرية أو ثقافية، وأغلب ما تعتمد هذه الجماعات على الكتب الفكرية والثقافية أكثر من الكتب الشرعية، بل فيهم من يتنكر لكتب السلف الصالح.

ومنهم من جعلوا قادتهم – مع الأسف – جهالهم، وأحكامهم أهواءهم، مما أدى إلى الخلط وإلى الخبط والاضطراب عند بعض هؤلاء في العقائد وفي الأحكام، وفي المواقف، وفي التعامل مع الآخرين، وفي النظرة إلى قضايا الأمة الكبرى، وفي التصرفات الطائشة التي تحدث من بعضهم، وفي صدور الأحكام المتعجلة، ونحو ذلك من المظاهر التي نراها في فئة من الشباب، وإن كانت والحمد لله قليلة، لكن القليل في مثل هذه الأمور لا ينبغي الاستهانة به، بل ينبغي علاجه لأنه إذا كثر قد يصعب، بل قد يستحيل علاجه.

 المسألة السادسة كلمة إنصاف

وسأتكلم فيها عن نوعين من الدعاة:

النوع الأول: غالب الشباب من طلاب العلم الشرعي عندنا في هذه البلاد (أعني المملكة العربية السعودية)، أشهد أني أرى عليهم علامات الرشد، والالتفات حول العلماء، والاسترشاد بأهل العلم والتلقي عنهم – وهذه ظاهرة سارة، وهي الأصل، وينبغي أن نشجع الشباب عليها، وسائر طلاب العلم، كما أني أرى من المظاهر السارة للشباب هنا: استقامة العقيدة، واستقامة السلوك، والحرص على تلقي العلم الشرعي بمناهجه وأساليبه الصحيحة من مصادره الأصلية: كتب السلف المستمدة من الكتاب والسنة، وتلقيه على أهله -وهم العلماء- أئمة الدين، والمشايخ الذين هم القدوة، وهذه ظاهرة تبشر بالخير، وهي نتيجة طبيعية لأخذ العلم الشرعي عن أهله، لكن مع ذلك هناك بعض الظواهر التي أشرت إليها والتي هي أحيانا قد تكون من النتائج التي تصحب مثل هذا الإقبال الكبير على الخير والحمد لله؛ فإن غرس الله ظهر، وريح الإيمان هبت، وإقبال الشباب منقطع النظير حتى يكاد يكون أكبر من أن يتحكم به بالإرشاد والتوجيه.

وهذا الإقبال على الخير والصحوة المباركة أمر يجب أن نفرح به، وأن نستبشر به في الجملة، وهي علامة خير، ولله في ذلك حكمة يعلمها، ولا يمكن أن يكون هذا الإقبال على الخير مجرد ظاهرة اجتماعية، أو مجرد رد فعل لأوضاع سيئة – كما يقال – الأمر أكبر من ذلك، الأمر هو من مراد الله، ومن سننه التي لا تتبدل ولا تتخلف، فقد بلغ السيل الزبد، وقد طغى الزبد، ولا بد أن يذهب الزبد جفاء، ولا يمكن ذهابه إلا بجهود بشر، والبشر الذين يصطفيهم الله لابد أن يكونوا على علم وفقه في الدين، وأظن أن الله هيأ هذا الجيل الطيب ليقوم بدور عظيم طالما تخلف عنه المسلمون في هذا العصر من نصرة الإسلام ونصرة الحق، وهذا قدر الله وأمره، وهو سنة الله، ولا راد لسنة الله، لكن مع ذلك قد يأتي مع الخير بعض الشر وبعض الشذوذ؛ مثل: التشدد في الدين، أو الأهواء ونزعات الافتراق، مصداقًا لخبر النبي ﷺ‬، لكن لا بد من علاج هذه الظواهر، والتي تنشأ بشكل طبيعي بين ثنايا الاتجاه العارم إلى الخير.

وقبل أن أخرج إلى مسألة أخرى، أحب أن أنوه عن أمر آخر، وهو أنه بحمد الله يوجد في هذا البلد من المشايخ الذين هم على السنة والاستقامة، من فيهم الخير والكفاية، كما يوجد من طلاب العلم الذين يجمعون بين العلم والقدوة العدد الوافر الذي به ستسترشد وتستنير الدعوات إن شاء الله.

النوع الثاني:

وهو الدعوات في العالم الإسلامي الآخر وخارجه، لابد من كلمة إنصاف في حقها، لأني حين تكلمت عن بعض الظواهر المخالفة للسنة فيها ولديها كان كلامي فيه شيء من العموم، وكان من الأولى أن أنصفها بأن أقول أو أذكر الجوانب الإيجابية والخيرة في الدعوات في سائر العالم الإسلامي، لكن عذري أن الموضوع متعلق بمسألة معينة، وهي الفصل بين العلماء والدعاة، فكان لابد من إشعاركم بهذه السمات أو الظواهر الخاطئة ابتداءً.

أما الدعوات المعاصرة في شتى العالم الإسلامي وغير الإسلامي التي تحمل لواء الدعوة، فإنه قد يوجد فيها من هو على السنة أفرادًا وجماعات؛ كأنصار السنة وأهل الحديث وأكثر الجماعات السلفية وغيرها، إن فيها خيرًا كثيرًا برغم ما يعتريها من نواقص ومن خلل؛ وإذا قارناها بأحوال المسلمين، فإنها أصلح من أحوال عامة المسلمين، ورجالها ودعاتها وشبابها لا شك أنهم أحسنوا حين قاموا بواجب قصر فيه غيرهم، ويكفيهم أنهم احتسبوا الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- ورفعوا راياتها وتحملوا المشاق والعداء من أجل الإسلام، وانتصروا للإسلام في قضاياه الخارجية والداخلية، كل منهم بقدر جهده وبأسلوبه.

وهذا فضل لهم لابد أن يذكر ويشكر، وحقهم علينا النصح والإرشاد والتسديد والعون على البر والتقوى والدعاء لهم بالغيب.

ثم إن الدعوات المعاصرة ليست كلها وقعت فيما ذكرت، وإنما البعض منها، وإلا ففيها من هو في الجملة على السنة والاستقامة في السلوك والعمل والنهج، وفيها من يتلقى من العلماء، وفيها الأسوة، وفيها القدوة، لكنها ليست هي الكثير؛ بل الأكثر من أصحاب الشعارات والدعوات الكبرى هم من ذكرت ممن تكثر فيهم الأخطاء، وما هم فيه من أخطاء يستوجب التحذير منها أولاً، وثانيًا: يستوجب النصح لهم والإرشاد والبيان، وأحسبهم إن شاء الله ممن يريد الحق ويسعى إليه؛ لأنهم كما أحسبهم إن شاء الله ما رفعوا لواء الدعوة إلا حسبة لله، وإلا بحثًا عن الحق، ومن هنا أتعشم فيهم وأنتم كذلك أن يكونوا من رواد الحق وأن يقبلوا النصيحة.

 المسألة الأخيرة

هي الإشارة إلى الحل، وإن كان الحل في نظري لا يمكن أن يبت به مثلي، فأنا والله أحوج إلى النقد والنصح، لكن لابد من الإسهام -ولو بمجرد رأي قابل للنقاش- ثم إن الحل ينبغي أن تتبناه جماعة المسلمين المتمثلة في علمائها وطلاب العلم فيها، أو طائفة منهم تنوب عن سائرهم وتتصدى للحل.

وأرى أن تُرفع مثل هذه المشكلات المتعلقة بالدعاة والدعوات بعرض واف ومفصل لأهل العلم، ونعرضها على العلماء بأفرادهم ومؤسساتهم وبهيئاتهم في كل بلد بحسبه، ولا مانع أن جميع أحوال العالم الإسلامي تعرض على علماء بلد معين أو أكثر إذا رؤي أنهم هم الأمثل، وأن منهجهم هو الأسلم؛ لكن مع ذلك لابد – وقد طرح الموضوع – أن نسهم جميعًا في بيان بعض وجوه الخلل، ونقترح الحلول – وإن كانت قابلة للنقاش- وعليه فإني أرى أن من الحل لمثل هذه الظاهرة، وهي الفصل والجفوة المفتعلة بين العلماء والدعاة، أو بين العلم والدعوة ما يلي:

يتلخص الحل إجمالاً: بالالتفاف حول العلماء والصدور عن قولهم وتوجيههم، والتفقه في دين الله تعالى، ومناصحة ولاة الأمور، وطرح الشعارات وعقد الولاء على السنة والجماعة. أما تفصيلاً فأشير إلى الاقتراحات التالية:

أولاً: ضرورة اهتمام العلماء وطلبة العلم بهذا الأمر، دراسة ومعالجة، وأن تتفرغ طائفة من المشايخ من أهل العلم الشرعي وأهل الفقه في الدين لهذا، وتعكف على الحلول للنصح بها لهؤلاء الذين وقعوا فيها ومن ذلك: تأليف الكتب والرسائل التي تعالج هذه القضايا، والإسهام بالمقالات وغيرها في وسائل الإعلام المشروعة وغير ذلك.

ثانيًا: أرى أنه لا بد أن تنتقل طائفة من العلماء وطلاب العلم المؤهلين في البلاد الإسلامية، ليرشدوا الناس، ويرشدوا الدعاة وإن كان هذا هو خلاف الأصل، فالأصل أن العلماء يُسعى إليهم ويُسافر إليهم من أجل أن يؤخذ العلم عنهم، ولا يسعوا هم إلى الناس لكن أرى أنه لا مانع في هذه الظروف العصيبة، وفي هذا العصر والوضع الذي نعيشه- أن تسافر طائفة من العلماء وتنتقل إلى شتى أقاليم المسلمين، بل وحتى إلى البلدان غير الإسلامية التي يوجد بها مسلمون، ويوجد بها دعوة إلى الله.

لا بد أن تتحمل طائفة من العلماء أعباء السفر والذهاب إلى أولئك بل وربما الإقامة بينهم، لتعليمهم أصول دينهم، ولإرشادهم فيما يجب أن يسترشد به في أمور دينهم ودنياهم، خاصة في أمور الدعوة، لأن ظروف المسلمين الآن لا تسمح بالتنقل والسفر من بلد إلى بلد إلا بصعوبة بالغة وبأخطار ومشقات لا يتحملها أغلب الناس؛ حيث صار التنقل من بلد الإسلام إلى بلد الإسلام يحتاج إلى إجراءات أصعب من التنقل في بلاد الكفار وإليها، وهو أمر واقع. فحسبنا الله ونعم الوكيل.

فمن هنا أقول تقديرًا لهذه الظروف: لا بد أن تسافر مجموعة من العلماء وطلاب العلم الذين عندهم فقه في الدين لإرشاد الدعاة والدعوات وعامة المسلمين، وحبذا لو أن بعض طلاب العلم احتسب الانتقال والإقامة الدائمة في البلاد التي هي أحوج إلى الفقه في الدين.

ثالثًا: يجب على جميع منتسبي الدعوات وخاصة الذين يتصدون للدعوة أن يتفقهوا في الدين، ويطلبوا العلم على أهله وبالطرق الشرعية الصحيحة، وأن يكون هذا من مناهج الدعوات نفسها، بأن تكثر من الدروس الشرعية، ومن حلق الذكر ومن حلق العلم، ولا تمنع منسوبيها من تلقي العلم عن أهل الفقه في الدين، بل تسعى إلى دفعهم إلى ذلك تحقيقًا للخير الذي وعد الله به كما قال الرسول ﷺ‬ «من ير الله به خيرًا، يفقهه في الدين»([6]).

رابعًا: إلغاء الولاء للجماعات والشعارات، وترك الانتماءات والعودة إلى الأصل الشرعي ونهج السلف بعقد الولاء على الإسلام والسنة والجماعة فحسب.

خامسًا: أرى ضرورة المناصحة المباشرة من كل من يرى خطأ في هذه الدعوات، ومن ذلك ما أشرت إليه والمناصحة المباشرة لكل من نراهم أو نستطيع أن نتصل بهم ولو بالمراسلة؛ نعم تجب مناصحة هؤلاء الدعاة من كل مسلم يرى هذه الأخطاء ولا ينبغي له السكوت عليها؛ لأن هؤلاء الدعاة بل وعامة المسلمين لهم حق على كل من يرى انحرافًا أو خطأ فيهم وخاصة الأخطاء الخطيرة التي ربما تؤدي إلى الاختلاف والافتراق، ولا نأمن أن تكون فتنة على الجميع إذا تُركت، والمناصحة تكون بالأسلوب الشرعي الذي يحقق المصلحة وأقصد بهذا أن بعض وجوه المناصحة القائمة الآن والتي لا تخلو من التجريح والتشهير أخشى ألا تجدي ولا تفيد، بل ربما تؤدي إلى تمادي بعض الناس في الأخطاء؛ لأن أكثر وسائل النصح من المؤلفات والكتب التي كُتبت وتكتب في نقد بعض الدعوات والدعاة فيها شيء من التهجم والقسوة والتجريح والسب واللمز والحكم باللوازم والظنون وهذا لا أظنه أسلوب إصلاح، فأسلوب الإصلاح هو أن نُعرض عند المناصحة عما يثير في الخصم العناد، أو التمادي في باطله، ونسلك المسالك التي هي أقرب إلى الإشفاق والنصيحة وحب الخير وحب الاستقامة للآخرين، وهذا هو المنهج الذي يحسن أن يسلك في تقويم الدعوات جميعًا، خاصة في هذا الوقت.

فالمناصحة يجب أن تتركز على النقد الهادف المنصف المشفق الناصح، وأن يصحبها شيء من الرفق، وإقامة الدليل، وبيان الحجة دون الإشارة إلى الخطأ الجارح، أو اللمز به، أو السب، أو التجريح، أو التخطئة أو اتهام النيات والقلوب أو الاستفزاز أو غير ذلكم؛ ما يفيد المنصوح، ولا يؤدي إلى استفزازه وإلى تماديه في خطئه، ولا مانع عند البيان والتقويم العام من ذكر أخطاء الدعوات، لكن بشرط ألا نشخص ولا نشهر ولا نسمي لغير ضرورة، وإنما على القاعدة الشرعية التي كان الرسول ﷺ‬ ينصح بها وهي «ما بال أقوام»([7]).

فأسلوب المناصحة الشرعي يجب أن يكون بعيدًا عن التهجم والقدح والتجريح أو الإلزام بما لا يلزم، أو حتى الإلزام بالخطأ وإن كان واضحًا صريحًا إذا صرح المخالف بعدم التزامه.


 سادسًا: من الوسائل التي لعلها تنفع:

ينبغي على المشايخ وأهل العلم أن يعززوا من دور المؤسسات الخيرية، والمنظمات الإسلامية الموثوقة، والمراكز الإسلامية النزيهة، فإن فيها خيرًا كثيرًا – ولو أنها دٌعمت وسخرت لها بعض طاقات أهل العلم، لتحقق من خلالها نفع كثير؛ لأن لها صلة بكثير من المسلمين، وعندها من الإمكانات والتجارب والوسائل ما لا يوجد عند أفراد العلماء وطلاب العلم.

وأخيرًا: فإنه لا بد من تصحيح المفاهيم وتقويم الأخطاء بكل وسيلة مشروعة: بالكتاب، وبالكلمة، وبالمناصحة الشخصية، وبوسائل الإعلام، وبالأشرطة.

وتصحيح الأخطاء يجب أن يبنى على الأسس الشرعية التي تهدف إلى الإصلاح، وأن نتفادى فيها كل ما يحول بيننا وبين إصلاح أحوال الآخرين من إخواننا المسلمين.

والمناصحة كذلك لا بد أن تبنى على: العدل في القول، والإنصاف في الحكم، وحسن الظن؛ وهو أن الأصل في المسلمين الخير، والأصل فيهم حسن القصد، إلا من ثبت إصراره وعناده، وهذا أساس التعامل بين المسلمين، ثم بعد ذلك لا مانع من توجيه الخطأ والنصح فيه.

هذا وأسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين التوفيق لما فيه الخير، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، كما أسأله – تعالى – أن يهيئ لجميع المسلمين من أمرهم رشدًا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



([1]) ألقيت هذه المحاضر بمسجد القدس، بحي الروابي بالرياض في جمادى الثانية 1412هـ.

([2]) أخرجه أبو خيثمة في (العلم)، وعزاء السيوطي في «الدر المنثور» إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، بلفظ: «هم الفقهاء والعلماء»، وله لفظ آخر: «أصحاب محمد، أهل العلم والفقه والدين» عزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر واشتهر هذا التفسير عن غير واحد من السلف. قال ابن عباس: (أهل العلم) أخرجه ابن عدي في «كامله». وقال جابر بن عبد الله: (أولي الفقه وأهل الخير) أخرجه الحاكم وصححه. وقال أبو العالية: (هم أهل العلم) أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير، وزاد ابن كثير: عن عطاء والحسن البصري.

([3]) أخرجه البخاري في صحيحه (1/234) كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، وفي (13/295) كتاب الاعتصام، باب ما يذكر من ذم الرأي...، ومسلم في صحيحه (2058، 2059) كتاب العلم – باب رفع العلم وقبضه.

([4]) اقرأ كتاب (حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية) للشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد؛ فهو مفيد جدًا.

([5]) أخرجه ابن المبارك في الزهد (61)، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (102) وعزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/135) إلى الطبراني في «الأوسط» و «الكبير» وغيرهم، وحسنه الحافظ المقدسي، وصححه غيره، وهو الصواب، فالراوي عن ابن لهيعة ابن المبارك، ورواية العبادلة عنه صحيحة، وهذا منها. والله أعلم. وقد فسر ابن المبارك الأصاغر بأهل البدع كما في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي و «الفقيه والمتفقه» للخطيب.

([6]) البخاري في صحيحه 1/197 كتاب العلم/ باب من يرد الله به خيرًا وفي 13/316 كتاب الاعتصام/ باب لا تزال طائفة من أمتي ومسلم في صحيحه (719) كتاب الزكاة/ باب النهي عن المسألة وفي (1524) كتاب الإمارة/ باب قوله ﷺ‬ «لا تزال طائفة.. من حديث معاوية بن أبي سفيان – وله عندهما تتمة. وأخرجه الترمذي في سننه (2647) كتاب العلم/ باب إذا أراد الله بعبد خيرًا من حديث ابن عباس وقال: هذا حديث حسن صحيح.

([7]) وردت في كثير من الأحاديث الصحيحة، منها على سبيل المثال:

* ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس – مرفوعًا: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام و...» الحديث.

* وما أخرجاه - أيضًا - من حديث عائشة - مرفوعًا: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه...».

* وما أخرجه البخاري وغيره من حديث أنس مرفوعًا: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء..ز».

وأحيانًا يرد بلفظ: «ما بال أحدكم» كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة t: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخِّع أمامه؟...» الحديث، وأحيانًا بلفظ: «ما بال رجال يواصلون؟ إنكم لستم مثلي...» أخرجه مسلم عن أنس وأحيانًا: «ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس؟...» أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث جابر بن سمرة.