تفسير سورة الفاتحة ويليه المسائل المستنبطة منها
التصنيفات
- القرآن الكريم >> التفسير >> تفسير القرآن
المصادر
الوصف المفصل
تفسير سورة الفاتحة ويليه المسائل المستنبطة منها
عبد الله بن إبراهيم القرعاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} قال في المحرر: إذا أردت أن تقرأ وشرعت، فأوقع الماضي موقع المستقبل لثبوته.
ومعنى الاستعاذة: الاستجارة والتحيز إلى شيء على معنى الامتناع به من المكروه.
فمعنى «أعوذ»: ألوذ وألتجئ وأعتصم بك يا «الله».
«وأما الشيطان»: فهو مشتق من «فيعال»؛ من شطن إذا بعد؛ لأنَّه بعد عن الخير ورحمة الله.
«أما الرَّجيم»؛ فهو فعيل بمعنى مفعول؛ كقتيل وجريح ونحوه، ومعناه أنه رجيم باللعنة والمقت وعدم الرَّحمة.
وقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: الباء في {بِسْمِ اللَّهِ} متعلقة عند نحاة البصرة باسم تقديره ابتداءُ مستقر أو ثابت {بِسْمِ اللَّهِ}.
وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره ابتدأت {بِسْمِ اللَّهِ}.
فـ {بِسْمِ اللَّهِ} في موضع رفع على مذهب البصريين، وفي موضع نصب على مذهب الكوفيين.
واختار كثير من المتأخرين كونه فعلاً خاصًا متأخرًا، أما كونه فعلاً، فلأنَّ الأصل في العمل للأفعال، وأما الأسماء فلا تعمل إلاَّ بشرط.
وأما كونه خاصًا فلأنَّ كل مبتدئ بالبسملة في أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأ له.
فمثلاً: الذي يريد أن يقرأ يضمر «أقرأ» أي: بسم الله أقرأ، والذي يريد أن يأكل يضمر «آكل» أي بسم الله آكل وهكذا، فهذا معنى كونه خاصًا؛ لأن تقديره {بِسْمِ اللَّهِ} أبتديء -عامٌّ لا يدل على تعيين المقصود.
وأما كونه متأخرًا فلدلالته على الاختصاص، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود، ولأنَّ أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى.
فإن قال قائل: ما معنى متأخر؟
الجواب: أنَّك تضمر الفعل متأخرًا؛ فلا تقول: أقرأ بسم الله؛ ولكن تقول: «بسم الله أقرأ».
فإن قال قائل: ما هو الأرجح في هذه المسألة؟
فالجواب: الأرجح عندي أنها متعلقة بفعل لما تقدم.
وحذف العامل له فوائد:
منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه غير ذكر الله.
ومنها: أنَّ الفعل إذا حذف صحَّ الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول وحركة، فكان الحذف أعم.
وباء بسم الله للمصاحبة ([1])، وقيل: للاستعانة والتبرك فيكون التقدير: «أبتدئ حال كوني مستعينًا بذكره متبركًا به».
وأما ظهوره في: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا}؛ فلأنَّ المقام يقتضي ذلك.
وحذفت الألف من «بسم الله» في الخط اختصارًا وتخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وأما إذا كتب: «باسم الرحمن وباسم القاهر».
فقال الكسائي والأخفش «تحذف الألف»، وقال يحيى بن زياد: لا تحذف إلاَّ مع بسم الله فقط لكثرة الاستعمال فيه.
«والاسم» عند البصريين مشتق من السمو. وقال الكوفيون: أصل اسم: «وسم» من السمة وهي العلامة؛ لأنَّ الاسم علامة لمن وضع له.
سورة الفاتحة
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
الألف واللام، لاستغراق الجنس من المحامد؛ فـ {الْحَمْدُ} هو ذكر صفات المحمود، والثناء الكامل عليه؛ مع حبه وتعظيمه وإجلاله؛ فإن تجرد عن الحب فهو مدح.
فالفرق بينهما أنَّ الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مجردًا من حب، أو مقرونًا بحبه؛ فإن كان الأوَّل فهو مدح، وإن كان الثَّاني فهو الحمد.
فمثلاً: إذا أثنى إنسان على رجلٍٍ وقال: إنه رجل جميل كريم. وهو لا يحبه؛ فهذا لا يسمى حمدًا وإنما يسمى مدحًا.
فإن قال ذلك وهو يحبه، فهو يحمده.
وأما الفرق بين الحمد والشكر؛ فإن الحمد أعم من جهة أسبابه، والشكر أعم من جهة أنواعه؛ لأنَّ الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه؛ سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن؛ فمن هذا الوجه يكون الحمد أعم من الشكر، لأنه يكون على المحاسن والإحسان؛ فإنَّ الله تعالى يحمد على مَا لَهُ مِنَ الأسماء الحسنى، والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى.
مثال ذلك إنسان قال: إن هذا الرجل «جميل»؛ فهذه صفة لازمة، فإذا زاد وقال: «إنه كريم» فهذه صفة متعدية؛ لأن الكريم يتعدى نفعه إلى غيره، فإذا قال ذلك وهو يحبه فإنه يحمده، وهذا معنى قولنا: «أعم من جهة أسبابه»؛ لأنَّه لابد أن يكون بصفة لازمة ومتعدية؛ وأما معنى قولنا «أخص من جهة أنواعه» فلأنَّه يتحقق الحمد إذا أحبه بقلبه وأثنى عليه بلسانه.
فالحمد يكون على الصفات اللازمة والمتعدية.
وأما الشكر فإنه يكون على الصفات المتعدية فقط، أي: فلا يكون إلاَّ على الإنعام؛ فهو أخص من الحمد من هذا الوجه وأعم من الحمد من جهة أنواعه؛ لكونه يكون بالقلب واللسان وجميع الجوارح، قال تعالى: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
مثال ذلك إذا قال إنسان: إنَّ هذا الرجل «كريم» فقط؛ فهذه صفة متعدية، وهذا معنى قولنا «أخص من جهة أسبابه»؛ لأنه لم يذكر إلا سببًا واحدًا؛ وهي الصفة المتعدية، وأما معنى أنَّ الشكر أعم من جهة أنواعه، فلأنه لا يتحقق الشكر إلا إذا اعترف بمعروف هذا بقلبه، وأثنى عليه بلسانه وعمل عملاً له بجوارحه.
وقد ذكر سبحانه لحمده ظرفًا مكانيًا وزمانيًا.
فذكر في سورة الروم أنَّ من ظروفه المكانية السموات والأرض، قال تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وذكر في سورة القصص أنَّ من ظروفه الزمانية الدنيا والآخرة في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ}.
فقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو ثناء أثنى به تعالى على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه به، فكأنه قال: (قولوا الحمد لله) وفي الحديث: اللهم لك الحمد كله.. الحديث.
فلفظ خبر؛ كأنه يخبر أن المستحق للحمد هو الله عز وجل، وفيه تعليم للخلق تقديره: قولوا الحمد لله.
قوله: {لِلَّهِ}: اللام للاختصاص وللاستحقاق والملك، أي: المختص بالحمد الكامل المستحق له والمالك له هو «الله» جلَّ وعلا.
قوله تعالى: {لِلَّهِ}: الله علم على الرب تبارك وتعالى ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
واختلف النَّاس في اشتقاق اسم «الله»؛ فقالت فرقة من أهل العلم: هو «اسم مرتجل» لا اشتقاق له من «فعل»، وإنما هو اسم موضوع له تبارك وتعالى، والألف واللام لازمة له؛ لا لتعريف ولا لغيره؛ بل هكذا وضع الاسم فتقول: «يالله» ولا تقول: «ياللرَّحمن»؛ فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام.
وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من أله الرجل إذا عبد وتأله إذا تنسك، ومن ذلك قوله رؤبة:
لله در الغانيات المده ([2]) | سبحن واسترجعن من تألهي |
كما قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} مع قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} ومعناه ذو الألوهية التي لا تنبغي إلاَّ له.
فإن قال قائل: ما هو الأرجح في هذه المسألة.
الجواب: الأرجح والله أعلم أنه مشتق.
ومعنى أله يأله آلهة؛ أي عبد يعبد عبادة.
فالله سبحانه المألوه؛ أي: المعبود.
قال ابن القيم رحمه الله: الصحيح أنه مشتق، وأنَّ أصله الإله؛ كما قال سيبويه وجمهور أصحابه: إلاَّ من شذَّ، وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى.
والذين قالوا بالاشتقاق: إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى؛ وهي إلهيته؛ كسائر أسمائه الحسنى؛ كالعليم والقدير والسميع.
فإنَّ هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى؛ لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله.
وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعًا ليس معناه أنَّ أحدهما متولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أنَّ أحدهما يتضمن الآخر وزيادة.
قال أبو جعفر بن جرير: «الله» أصله: «الإله»؛ أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم واللام الزائدة، وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة.
وقال ابن القيم رحمه الله: «فاسم الله» دل على كونه مألوهًا معبودًا، يألهه الخلائق، محبة وتعظيمًا وخضوعًا ومفزعًا إليه في الحوائج والنوائب.
فإذا قال لك قائل: ما معنى «الله»؟ فقل: هو «الإله»، فإن قال: ما معنى «الإله»؟ فقل: هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة وإجلالاً ومحبة وخوفًا ورجاء.
قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}: الرَّب في اللغة المعبود والسيد والمالك والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها، تأتي اللفظة لهذه المعاني، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى.
ولا يستعمل «الرَّب» لغير الله؛ فلا يقال إلا لله عز وجل، وأما إذا كان بالإضافة فجائز.
مثال ذلك أن تقول: «رب الدار، ورب الدابة» ونحو ذلك؛ فهذا جائز.
وتربية الله عز وجل عامة وخاصة.
فالعامة هي خلقه للمخلوقلين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة تربيته لأوليائه؛ فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه.
مثال ذلك أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر المؤمنين رباهم سبحانه تربية خاصة وعامة.
وأما أبو جهل وسائر من كفر به من خلقه، فرباهم تربية عامة وأعرضوا عن التربية الخاصة.
{الْعَالَمِينَ}: جمع عالم، واشتقاق العالم من العلامة؛ لأنَّ وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته متصفًا بصفات الكمال والجلال.
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}. والآية في اللغة: العلامة، ولفظ «العالم» جمع لا واحد له من لفظه، وهو مأخوذ من العلم والعلامة؛ لأنه يدل على موجده.
{الْعَالَمِينَ}: جميع ما خلق الله؛ لقوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
ومن العلماء من قال: هم الجن والإنس؛ لأنهم المكلفون بالخطاب؛ لقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}.
فإن قال قائل: ما هو الأرجح في هذه المسألة.
فالجواب: الأرجح عندي هو القول الأول، والعلم عند الله تعالى.
وقد استدل خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام على وجود الخالق بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وإماتتها على وجود فاعل ذلك، وعلى تسيير الشمس وتسخيرها؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وكذلك ذكر الله عزَّ وجل ما كان بين موسى وفرعون من المقاولة والمحاجة والمناظرة، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية، بقوله سبحانه: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.
وقد ذكر الله عز وجل نحو ذلك في كثير من كلامه سبحانه؛ كقوله: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
ونقل عن مالك رحمه الله تعالى أنَّ الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات.
وعن أبي حنيفة رحمه الله أنَّ بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أنَّ سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر، وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع، فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.
وعن الشافعي رحمه الله تعالى أنه سئل عن وجود الخالق عزَّ وجل، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاء والبقر وغيرها فتلقيه بعرًا وروثًا، وتأكله الظباء فيخرج منه المسك، وهو شيء واحد.
وعن الإمام أحمد- رحمه الله- أنه سئل عن ذلك فقال: هاهنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذا انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الديك.
وسئل بعض الأعراب عن هذا وما الدليل على وجود الرب تعالى، فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإنَّ أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير.
وقوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هما وصفان لله تعالى، واسمان من أسمائه الحسنى مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة.
وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة: إثبات صفة الرحمة لله على ما يليق بجلاله وعظمته؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
خلافًا لمذهب المبتدعة الذين يؤولون صفتي: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بإرادة الإنعام، أو بإرادة الخير.
و{الرَّحْمَنِ}: أشد مبالغة من: {الرَّحِيمِ}؛ لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة، وقيل: {الرَّحِيمِ} بالمؤمنين في الآخرة ويوم القيامة، وفي الدنيا أيضًا.
لما جاء في الدعاء المأثور من قوله ﷺ: «رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما»؛ فهذا يدل على أنَّ الرحيم عام للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
ومن الأدلة على أن {الرَّحْمَنِ} رحمة عامة شاملة لجميع الخلائق في الدنيا قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ}، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}؛ فذكر الاستواء باسمه الرَّحمن ليعم جميع خلقه برحمته، ومثله قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ}؛ أي: ومن رحمانيته لطفه بالطير وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء، ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ}، إلى قوله: {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
فالرحمن صفة مبالغة من الرَّحمة، وهي صفة تختص بالله، ولا تطلق على أحد من البشر.
يقال: «راحم» لمن رحم ولو مرة واحدة، «ورحيم» لمن كثر منه ذلك، و«الرحمن» لمن بلغ في الرحمة نهايتها وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له.
و{الرَّحْمَنِ} أعمُّ في المعنى وأخص في اللفظ من الرَّحيم.
و {الرَّحِيمِ} أعمُّ في اللفظ وأخص في المعنى من الرَّحمن، فإن قال قائل ما معنى ذلك؟
الجواب: أن نقول: {الرَّحْمَنِ} أعم في المعنى؛ أي أنَّ {الرَّحْمَنِ} رحمة شاملة للمؤمن والكافر، ولجميع من خلق الله من ناطق وصامت في الدنيا.
وأما معنى: «أخص في اللفظ» فمعناه أنه لا يسمى ولا يوصف بـ {الرَّحْمَنِ} إلا الله تعالى.
فإن قال قائل: إنه جاء عن بني حنيفة في مسيلمة: «رحمن اليمامة».
فالجواب: إنَّ هذا من تعنت الكفار في الكفر؛ فلا يستدل به.
وأما {الرَّحِيمِ}: فإنه عام في اللفظ؛ أي يوصف به المخلوق، وأخص في المعنى؛ أي أنَّ الرَّحيم رحمة خاصة بالمؤمنين.
قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: إضافة اسم الفاعل إلى الظرف اتساع وإجراء للظرف مجرى المفعول به، تقديره مالك يوم الدين الأحكام.
قال الضحاك: عن ابن عباس: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: يقول: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكمًا كملكهم في الدنيا.
{يَوْمِ الدِّينِ}: حكى أهل اللغة: دنته بفعله دَينا- بفتح الدال- ودِينا- بكسرها: جزيته. وقيل: الدَّين: المصدر. والدِّين- بكسر الدال: الاسم، وهو يوم الجزاء والحساب للخلائق؛ وهو يوم القيامة؛ يدينهم بأعمالهم؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، إلا من عفا عنه؛ قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، وقال: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه؛ لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلك عامٌّ في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدَّعي أحد هنالك شيئًا لا يتكلم أحدٌ إلا بإذنه؛ كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}.
وقال تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}.
قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: «إيا»: كلمة ضمير خصت بالإضافة إلى المضمر، ويستعمل مقدمًا على الفعل، فيقال: إياك أعني، وإياك أسأل، ولا يستعمل مؤخرًا إلا منفصلاً فيقال: ما عنيت إلا إيَّاك.
قوله: {نَعْبُدُ}: أي نخلص العبادة لك، ونوحدك بدعائنا وسؤالنا واستغاثتنا وخوفنا ورجائنا ومحبتنا واستعاذتنا واستعانتنا وذبحنا ونذرنا وركوعنا وسجودنا، وكل ما تحبه وترضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، نخلصه لك وحدك سبحانك ولا نشرك بذلك أحدًا؛ لا ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلاً؛ فضلاً عن غيرهما، ونطيعه خاضعين ذليلين محبين لك خائفين راجين، والعبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع والمحبة، وسمي العبد عبدًا لذلته وانقياده؛ يقال: طريق معبد. أي: مذلل.
ولا يكون الإنسان عابدًا لله حقًا حتى يخلص له العبادة، ويتبرأ من عبادة ما سواه، ويعتقد بطلانها، ويبغضها ويبغض صاحبها ويعاديه؛ غضبًا لله؛ لا لهواه؛ بل عملاً بقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، ولقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.
وهذا هو الإسلام الصحيح؛ أي الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: أي: نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمور ديننا ودنيانا، متوكلين عليك وحدك متبرئين من الحول والقوة إلاَّ بك؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
وإنَّ من النَّاس من يتوكل على الله في أمور دينه فقط، وهذا توكل ناقص، ومنهم من يتوكل على الله في أمور دنياه فقط، وهذا أيضًا توكُّلٌ ناقص، ومنهم من يتوكل على الله في بعض أمور دينه أو في بعض أمور دنياه أو في حاجة واحدة، وهذا غلط ونقص في التوكل، والحق أن يتوكل العبد على الله في جميع أمور دينه ودنياه.
وتقديم المعمول؛ أي: {وَإِيَّاكَ} وتكريره: للاهتمام والحصر؛ أي: لا نعبد إلا إيَّاك، ولا نتوكل إلا عليك، وهو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين.
وإنَّ من المؤسف والمحزن أنَّ بعضًا ممن ينتسب إلى الإسلام في زماننا يقرؤون: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في صلاتهم وفي غيرها؛ ولكن ما ينتبهون لمعناها؛ فلا يخلصون العبادة لله تعالى وحده؛ بل يشركون في العبادة بدعائهم مع الله آلهة أخرى؛ كمن يدعو الرسول ﷺ ويستغيث به، أو يدعو الحسين أو عبد القادر الجيلاني، أو البدوي، أو زينب أو العيدروس؛ فيقول: «يا بدوي» الغوث أو المدد أو انصرني أو أغثني أو أنا في حسبك، ونحو ذلك؛ هذا كله من الشرك الأكبر والذنب الذي لا يغفر لمن مات على ذلك.
وكذا الذي يذبح لغير الله من الجن والكواكب والأموات؛ كمن يذبح للبدوي ونحوه.
ولا ريب أنَّ من يصلي وحالته هذه فصلاته باطلة، ومثله الذي يصلي بغير وضوء وثيابه نجسة؛ صلاته باطلة، لكن الذي يصلي بوضوء وثيابه طاهرة ولم يتطهر من الشرك الأكبر أسوأ حالاً وأبطل عملاً وأحبط من الذي يصلي بغير وضوء، وهو ليس بمشرك.
فإن قال قائل: هل الذي يذبح للأموات ويستغيث بهم، وهو يدعي الإسلام ويصلي الصلوات الخمس ويصوم ويحج، هل هذا مسلم أم مشرك.
الجواب: نقول إنه مشرك بالله، عابد مع الله غيره، ولو صلى وصام؛ فإنَّ هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم الرسول ﷺ.
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: الهداية على نوعين:
النوع الأول: هداية الدلالة والإرشاد والبيان، وضده الضلال.
النوع الثاني: هداية التوفيق والإلهام والتثبيت وضدها الغي.
فمن النوع «الأول» قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}، وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وأما النوع «الثاني»: فكقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}؛ فهذه هي هداية التوفيق والإلهام.
فمثلاً: عمر t هداه الله الهدايتين، وأبو جهل هداه الأولى وأعرض عن الثانية.
فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بمعنى الهدايتين أي دلنا وأرشدنا وثبتنا، ووفقنا وارزقنا وأعطنا، وهذا معنى ألهمنا، وهذا دعاء من المؤمنين مع كونهم على الهداية فهو أيضًا طلب مزيد من الهداية وتثبيت عليها؛ لأنَّ مذهب أهل السنة والجماعة أنَّ الإيمان يزيد وينقص.
{الصِّرَاطَ}: أصله في اللغة الطريق الواضح.
وفي الشرع: قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهما، الإسلام، وقال ابن مسعود t: هو القرآن. وقال بكر بن عبد الله المزني: طريق رسول الله ﷺ.
فإن قال قائل: ما هو الأرجح في هذه المسألة؟
فالجواب: أنَّ كل ذلك حق؛ فالصراط هو الإسلام والقرآن والرسول؛ لأن من اتبع الإسلام اتبع القرآن والرسول، ومن اتبع القرآن اتبع الإسلام والرسول، ومن اتبع الرسول اتبع الإسلام والقرآن؛ فمن استقام وثبت على الصراط المستقيم (المعنوي) في الدنيا فإنه يثبت ويستقيم على الصراط (الحسي) في الآخرة.
{الْمُسْتَقِيمَ}: الذي لا عوج فيه ولا انحراف، والمراد أنه استقام على الحق وإلى غاية الفلاح ودخول الجنة.
قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: مفسر للصراط المستقيم، وهو بدل منه عند النحاة، ويجوز أن يكون عطف بيان، والله أعلم.
وفي قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} دليل على أنَّ الهداية إلى الصراط المستقيم نعمة من الله وفضل ومَنٌّ؛ يمنُّ بها على من يشاء من عباده؛ فلا يعجب العبد بعمله وطاعته.
كما في قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}.
والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء؛ حيث قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.
فعلى المسلم إذا قرأ هذا أن يستحضر هذا الدعاء بقلب حاضر موقن بالإجابة؛ حيث أخبر النبي ﷺ أن أمته ستفترق، وذلك فيما روى الإمام أحمد وأبو داود عن معاوية قال: قام فينا رسول الله ﷺ فقال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملَّة – يعني الأهواء – كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة».
والأمة المذكورة في هذا الحديث هي أمة الإجابة.
وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.
«المغضوب عليهم»: اليهود، و «الضالون»: النصارى؛ لحديث عدي بن حاتم الذي رواه أحمد وغيره عن النبي ﷺ، وفيه أن المغضوب عليه: اليهود، والضالون: النصارى. الحديث.
واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعًا مغضوبًا عليهم جميعًا، لكن إنما اختص الغضب باليهود، وإن شاركهم النصارى فيه؛ لأنهم يعرفون الحق وينكرونه، ويأتون الباطل عمدًا فكان الغضب أخص صفاتهم.
والنصارى جهلة لا يعرفون الحق؛ فكان الضلال أخص صفاتهم؛ والذي يدل على أنَّ المغضوب عليهم اليهود قوله تعالى فيهم: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}... الآية، وقوله تعالى فيهم أيضًا: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ}... الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ}... الآية.
وفي هذا دليل على إثبات صفة الغضب، وأن الله تعالى يغضب غضبًا يليق بجلاله وعظمته؛ خلافًا لمن أول ذلك بتأويل باطل.
والذي يدل على أنَّ «الضالين» هم النصارى قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
والمعنى والله تعالى أعلم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: ممن تقدم وصفهم ونعتهم وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسوله، وامتثالاً لأوامره، وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق.
فيجب على المسلم أن يبغض اليهود والنصارى وأن يعاديهم ويعتقد بطلان ما هم عليه ولا يبدأهم بالسلام؛ ففي الحديث: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» رواه مسلم.
واعلم يا أخي ألهمك الله رشدك ووفقك لكل خير وهدى أنَّ الذي يفتح لك الباب في فهم الفاتحة حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم؛ قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «يقول الله تعالى، قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: قال الله: أثنى عليَّ عبدي. فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّين} قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
مشروعية التأمين
يسن للإمام والمأموم والمنفرد أن يُأَمِّنوا عقب قراءة الفاتحة؛ بل استحب العلماء تأمين الإمام والمأموم معًا؛ لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله ﷺ قال: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا؛ فإنَّ من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»، وفيه رواية: «إذا قال الإمام: ولا الضَّالين. فقولوا آمين؛ فإن الملائكة تقول آمين، وإن الإمام يقول آمين؛ فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه».
وآمين ليست من الفاتحة؛ لكنها تأمين على الدعاء معناها: اللهم استجب.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
* * * *
هذه مسائل استنبطتها من تفسير سورة الفاتحة
المسألة الأولى «من الاستعاذة»: أن التعوذ والالتجاء من الشيطان لا يطلب إلا من الله تعالى.
المسألة الثانية «من البسملة»: أن الاستعانة والتبرك بالبداءة بالبسملة خاص بالله تعالى.
المسألة الثالثة: أنَّ باء البسملة متعلقة بفعل محذوف وأنَّ حذفه له فوائد.
سورة الفاتحة
الآية الأولى
المسألة الرابعة: فيها أنَّ المستحق لجميع أنواع المحامد هو الله سبحانه وتعالى؛ لما اتصف به من المحاسن الكاملة والإحسان العام.
المسألة الخامسة: فيها أنَّ الثناء لا يكون حمدًا حتى يكون بحب وإجلال وتعظيم؛ وإلا يكون مدحًا لا حمدًا.
المسألة السادسة: فيها الفرق بين الحمد والشكر.
المسألة السابعة: فيها أنَّ الحمد يكون على الصفات المتعدية واللازمة، والشكر لا يكون إلا على الصفات المتعدية.
المسألة الثامنة: فيها أن «الله» علَمٌ على ربنا تبارك وتعالى.
المسألة التاسعة: فيها معنى «الله» أنه «الإله» وأن الإله هو «المعبود».
المسألة العاشرة: فيها أنَّ اسم «الله» مشتق من: أله، يأله، وأنه دال على صفة له تعالى وهي «الإلهية».
المسألة الحادية عشرة: فيها أنَّ معنى اشتقاق الأسماء أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى؛ لا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله.
المسألة الثانية عشرة: فيها أن «الرب» لا يطلق إلا على الله تعالى.
المسألة الثالثة عشرة: فيها معنى الرب أنه مالك كل شيء والمتصرف فيه القائم بالأمور المصلح لما يفسد منها.
المسألة الرابعة عشرة: فيها أنَّ «العالمين» اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى.
المسألة الخامسة عشرة: فيها أنَّ كل مخلوق مربوب مقهور يتصرف فيه فقير محتاج إلى الله تعالى.
المسألة السادسة عشرة: فيها أنَّ هذه المخلوقات تدل على وجود الخالق سبحانه.
المسألة السابعة عشرة: فيها الرد على من أنكر وجود مدبر ومصرف لهذا الكون وهذه المخلوقات.
المسألة الثامنة عشرة: فيها الأمر بالتفكر بالليل والنهار والشمس والقمر والسموات والأرض وغيرها من المخلوقات.
المسألة التاسعة عشرة: فيها أن الحجج العقلية والصحيحة تابعة للكتاب والسنة.
المسألة العشرون: فيها أنَّ الشمس تجري والأرض ثابتة.
المسألة الحادية والعشرون: فيها أن محاجة أهل الباطل ولو كثروا، وإن زخرفوا قولهم فإنهم خائبون، وأمرهم يكون زهوقًا.
المسألة الثانية والعشرون: ما فطر عليه الخلق من الإقرار بوجود خالق مدبر لهذا الكون.
المسألة الثالثة والعشرون: فيها المناظرة التي حصلت فيها العبرة على وجود خالق هذا الكون المدبر له.
الآية الثانية
المسألة الرابعة والعشرون: فيها أنَّ {الرَّحْمَنِ} أخص لفظًا وأعم معنى، و{الرَّحِيمِ} أخص معنى وأعم لفظًا.
المسألة الخامسة والعشرون: فيها إثبات صفة «الرحمة» على ما يليق بجلال الله وعظمته.
المسألة السادسة والعشرون: فيها الرد على من أول ذلك بإرادة الخير ونحو ذلك.
الآية الثالثة
المسألة السابعة والعشرون: فيها أن تخصيص الملك بيوم الدِّين لا ينفيه عمَّا عداه؛ لأنَّه تقدم أنه رب العالمين، وهذا عامٌّ في الدنيا والآخرة.
المسألة الثامنة والعشرون: فيها أنَّ تخصيص الملك لله بيوم الدِّين لأنه لا يدَّعي فيه أحد ملكًا.
المسألة التاسعة والعشرون: فيها أنَّ «الدِّين» الجزاء والحساب وهو يوم القيامة.
المسألة الثلاثون: فيها الإيمان بالبعث والنشور والحساب.
المسألة الحادية والثلاثون: فيها الرد على من أنكر البعث والنشور والحساب.
المسألة الثانية والثلاثون: في هذه الآيات الثلاث، أصول العبادة التي تبنى عليها؛ ففي الأولى المحبة، وفي الثانية الرجاء وفي الثالثة الخوف.
المسألة الثالثة والثلاثون: فيها الرد على من عبد الله «بالمحبة» وحدها، وعلى من عبد الله «بالرجاء» وحده وعلى من عبد الله «بالخوف» وحده.
الآية الرابعة
المسألة الرابعة والثلاثون: فيها أنَّ تقديم المفعول وتكريره للحصر والاهتمام.
المسألة الخامسة والثلاثون: فيها أنَّه ما يسمى العالم عابدًا لله حتى يخلص له العمل.
المسألة السادسة والثلاثون: فيها أنَّ العبادة هي الطاعة مع التذلل والخضوع والمحبة.
المسألة السابعة والثلاثون: فيها أن تسمية المخلوق عبدًا، لذلته وانقياده لخالقه.
المسألة الثامنة والثلاثون: فيها أنَّ كل مخلوق عبدٌ لله شاء أم أبى.
المسألة التاسعة والثلاثون: فيها أن العبودية خاصة وعامة؛ الخاصة عبودية المؤمنين، والعامة عبودية الخلق أجمعين.
المسألة الأربعون: فيها أنه ينبغي للمسلم أن يستحضر حينما يقرأ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إخلاص العبادة لله.
المسألة الحادية والأربعون: فيها استحضار التخلص من الرياء والسمعة.
المسألة الثانية والأربعون: فيها أنَّ العبد خاطب ربه أنه يخلص العبادة له ولا يشرك به شيئًا، فعليه أن يحقق ما نطق به اعتقاداً وفعلاً.
المسألة الثالثة والأربعون: فيها الرد على من أشرك في عبادة الله مع الله غيره.
المسألة الرابعة والأربعون: فيها أنَّ العبادة لا تصح حتى يكفر العبد بالطاغوت.
المسألة الخامسة والأربعون: فيها الأمر بالتأسي بإبراهيم u في البراءة من المشركين وعداوتهم وإظهار ذلك.
المسألة السادسة والأربعون: فيها أنَّ من يصلي وهو يدعو مع الله غيره أنه ليس بمسلم؛ بل مشرك.
المسألة السابعة والأربعون: فيها أنَّ من يصلي ويذبح للأموات أو للأحياء تعظيمًا وتقربًا، أو للشياطين أو للكوكب، أنه ليس بمسلم؛ بل مشرك.
المسألة الثامنة والأربعون: فيها أنه ليس كل من ادعى الإسلام وانتسب إليه، وهو يشرك مع الله غيره في عبادته يكون مسلمًا؛ حتى يخلص العبادة لله وحده لا شريك له.
المسألة التاسعة والأربعون: فيها ما يدل على معنى «لا إله إلا الله» وهو النفي والإثبات.
المسألة الخمسون: فيها أنَّ الإسلام الحقيقي لا يحصل إلاَّ بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله.
المسألة الحادية والخمسون: فيها والآية التي بعدها أنَّ العبادة لا تصح إلاَّ بالإخلاص والمتابعة.
المسألة الثانية والخمسون: فيها أنه ينبغي للمسلم أن لا يستعين إلا بالله.
المسألة الثالثة والخمسون: فيها أنَّ الاستعانة منها ما هو خاص بالله، ومنها ما هو جائز بالمخلوق إذا كان حيًا حاضرًا قادرًا.
المسألة الرابعة والخمسون: فيها إخلاص التوكل على الله.
المسألة الخامسة والخمسون: فيها أنَّ كمال التوكل أن يتوكل العبد على الله في أمور دينه ودنياه.
المسألة السادسة والخمسون: فيها البراءة من الحول والقوة إلا بالله.
المسألة السابعة والخمسون: فيها التخلص من العجب والكبر.
المسألة الثامنة والخمسون: فيها الرد على من توكل على الله في أمور دينه فقط دون دنياه، أو توكل على الله في أمور دنياه دون دينه.
المسألة التاسعة والخمسون: فيها التفطن على أنَّ من توكل على مخلوق حي أو ميت، فقد أشرك في عبادة الله.
الآية الخامسة
المسألة الستون: فيها أنَّ الهداية على نوعين: هداية الدلالة والإرشاد، وهداية التوفيق والإلهام.
المسألة الحادية والستون: فيها أنه ينبغي للداعي أن يقصد طلب النوعين.
المسألة الثانية والستون: فيها أنَّ هداية الدلالة والإرشاد ضدها الضلال.
المسألة الثالثة والستون: فيها أن هداية التوفيق ضدها الغي.
المسألة الرابعة والستون: فيها أن العبد بحاجة إلى دعاء ربه وسؤاله.
المسألة الخامسة والستون: فيها أن المؤمنين بحاجة إلى مزيد من الإرشاد والتوفيق والإلهام.
المسألة السادسة والستون: فيها دليل على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
المسألة السابعة والستون: فيها الرد على من أنكر أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
المسألة الثامنة والستون: فيها أن الصراط هو الإسلام، والقرآن، والرسول.
المسألة التاسعة والستون: فيها أن من عمل بالقرآن يلزمه متابعة الرسول، ومن تابع الرسول، يلزمه العمل بالقرآن.
المسألة السبعون: فيها أن الصراط في الدنيا معنوي، والآخرة صراط حسي.
المسألة الحادية والسبعون: فيها أن من ثبت على الصراط في الدنيا ثبت على الصراط في الآخرة.
المسألة الثانية والسبعون: فيها أن من سلك الصراط في الدنيا سلك الصراط في الآخرة؛ حتى يصل إلى الجنة.
المسألة الثالثة والسبعون: فيها أن الصراط الصحيح في الدنيا، لا عوج فيه لقوله «المستقيم».
المسألة الرابعة والسبعون: فيها الرد على المبتدعة الذين انحرفوا في الدنيا في طريقهم يمينًا وشمالاً عن طريق الرسول ﷺ.
المسألة الخامسة والسبعون: فيها أنه سيكون في أمة الإجابة افتراق وانحراف عن الصراط المستقيم؛ حيث وقع ما أخبر به ﷺ.
المسألة السادسة والسبعون: فيها آية للنبي ﷺ؛ حيث أخبر أنَّ أمته ستفترق، فوقع كما أخبر ﷺ.
المسألة السابعة والسبعون: فيها الفرق بين أمة الدعوة وأمة الإجابة.
الآية السادسة
المسألة الثامنة والسبعون: فيها أن الهداية إلى الصراط المستقيم نعمة من الله تعالى وفضل.
المسألة التاسعة والسبعون: فيها أنه ينبغي للمؤمن أن يستحضر هذا الفضل وهذه المنة من الله تعالى عليه في كل عمل صالح يوفق له فيكثر من حمده وشكره.
المسألة الثمانون: فيها أن المنعم عليهم هم المذكورون في سورة النساء.
المسألة الحادية والثمانون: فيها أنَّ أبا بكر على صراط مستقيم.
المسألة الثانية والثمانون: فيها صحة خلافة أبي بكر.
المسألة الثالثة والثمانون: فيها الرد على الشيعة الذين يقعون في أبي بكر وإمامته.
المسألة الرابعة والثمانون: فيها أنَّ اليهود والنصارى ليسوا على صراط مستقيم.
المسألة الخامسة والثمانون: فيها الرد على من صحح دين اليهود والنصارى بعد بعثة النبي ﷺ.
المسألة السادسة والثمانون: فيها الرد على من قال بحرية الأديان وتقاربها وبطلان قوله.
المسألة السابعة والثمانون: فيها أنه يجب بغض اليهود والنصارى والمشركين والبراءة منهم.
المسألة الثامنة والثمانون: فيها أن الغضب أخص باليهود لعدم عملهم بعلمهم.
المسألة التاسعة والثمانون: فيها أن الضلال أخص بالنصارى لجهلهم.
المسألة التسعون: فيها النهي عن بداءة اليهود والنصارى بالسلام، وكذا سائر الكفار من المشركين وغيرهم من باب أولى.
المسألة الحادية والتسعون: فيها الحذر من التشبه بهم.
المسألة الثانية والتسعون: فيها أن من مات على اليهودية أو على النصرانية فهو من أهل النار.
المسألة الثالثة والتسعون: فيها التحذير لعلماء المسلمين وعُبَّادهم.
المسألة الرابعة والتسعون: فيها إثبات صفة الغضب لله، على ما يليق بجلال الله وعظمته.
المسألة الخامسة والتسعون: فيها الرد على من أوَّل الغضب بإرادة الانتقام وأنه تأويل باطل. انتهى.
مشروعية التأمين
المسألة السادسة والتسعون: فيها مشروعية التأمين بعد الدعاء.
المسألة السابعة والتسعون: فيها أنَّ من أمَّن على دعاء فكأنما دعا.
المسألة الثامنة والتسعون: فيها فضل التأمين على قراءة الإمام في الصلاة.
المسألة التاسعة والتسعون: فيها أنَّ الملائكة تؤمن على قراءة الإمام في الصلاة.
المسألة المائة: فيها أنَّ من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له؛ ففيها استحباب المقارنة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات