×
بيان أهمية استغلال هذه الحياة في الأعمال الصالحة.

 حصاد العام

سعد بن سعيد الحجري


بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، ولايته للأبرار، وعداوته للكفار، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله وسلم عليه كلما اغتنمت الأعمار، وحفظ الليل والنهار.

ما بعد:

فإن الله جعل أيام الحياة الدنيا أيام عملٍ، جعلها الله تعالى للعمل، وجعل هذه الأيام ليلاً ونهارًا، وجعل الله تبارك وتعالى الليل يخلف النهار والعكس، وجعل هذه الأيام للحصاد، يحصد بعضها بعضًا، ويطوي بعضها بعضًا، ويخلف بعضها بعضًا؛ وما هذا الحصاد في هذه الأيام إلا أن الليل يطوي النهار ويخلفه ويزيله ويحل محله.

ولأن النهار يطوي الليل ويخلفه ويزيله ويحل محله.

ولأن في الليل عملاً لا يقبله الله في النهار.

ولأن في النهار عملاً لا يقبله الله في الليل.

ولأن الليل والنهار خزانتان للعمل، فمن عمل صالحًا فلنفسه، ومن أساء فعليها، ولا يظلم ربك أحدًا.

ولأن الليل والنهار يعملان في العبد، فيجب عليه أن يعمل فيهما كما يعملان فيه.

قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ [الزمر: 5].

وما هذا الحصاد في الأيام! يطوي بعضها بعضًا إلا لعدة أمور:

الأمر الأول: لأن أيام العمر مراحل:

كل مرحلة تطوي التي قبلها، وتحل محلها، وتزيلها؛ فمرحلة الطفولة تطوي مرحلة الحمل في البطن، ومرحلة الصبا تطوي مرحلة الطفولة وتحل محلها، ومرحلة الشباب تطوي مرحلة الصبا وتحل محلها، ومرحلةُ الكهولة تطوي مرحلة الشباب وتحل محلها، وتطوي مرحلة الشيخوخة والكبر مرحلة الكهولة وتحل محلها.

ويتحول الضعف في أول حياة الإنسان إلى قوة، ثم تتحول القوة إلى ضعف وشيبة، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [غافر: 67].

وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: 54].

الأمر الثاني: لأن أيام العمر أيام عمل:

ومن لم يستطع أن يعمل الآن لن يستطيع أن يعمل بعد الآن، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].

الأمر الثالث: لأن أيام العمر أيام تكليف:

أمرنا الله فيها بالأوامر، فيجب أن نقول لأوامر الله: «سمعنا وأطعنا»، ونقول للنواهي: «سمعنا وانتهينا»، وأن نقول للأخبار: «سمعنا وصدقنا»، ونقول للأحكام: «سمعنا وطبقنا».

يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ويقول: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ويقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، ويقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.

ولذلك فإن تكاليف الله ميسورة، ليس فيها تكليف للعبد فوق طاقته.

الأمر الرابع: لأن أيام العمر أيام سبق إلى الخيرات: لعدة أسباب:

1- لأن أبواب الطاعة مفتحة: جميعها مفتحة، فنسبق إليها قبل أن تغلق فلا تفتح.

2- لأن أجور الطاعة مضاعفة: الحسنة بعشر، وبسبعمائة، وبغير حساب.

3- لأن ميدان الطاعة فسيح يسع الأمة: لو تنافست الأمة كلها لوجدت مجالاً تتنافس فيه، فليشمَّر المشمَّرُون، ويجتهد المجتهدون.

4- لأن باب التوبة مفتوح: لا يغلق إلا إذا طلعت الشمس من مغربها، أو بلغت الروح الحلقوم.

الأمر الخامس: لأن أيام العمر أيام كسب الحسنات:

إن لم نكسبها اليوم لن نستطيع أن نكسبها بعد اليوم، فاكتسب الآن قبل أن يحال بينك وبين الملايين من الحسنات؛ التسبيحة عند الموتى خير من الدنيا وما عليها، الركعة عند الموتى خير من الدنيا وما عليها.

الأمر السادس: لأن أيام العمر أيام تكفير وتطهير الذنوب والسيئات:

تستطيع الآن أن تطهر ما عليك من ذنوب وسيئات، لكن يوم القيامة لن تستطيع أن تطهر ولو ذنبًا واحدًا.

الأمر السابع: لأن ما مضى فيها لن يعود إلى يوم القيامة:

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «ما ندمت على شيء كندمي على يوم مضى من عمري ولم يزد فيه عملي».

وقال الحسن البصري رحمه الله: «يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة فإذا مضى يومك مضى بعضك».

ويقول: «ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني بعمل صالح فإني لن أعود إلى يوم القيامة».

الأمر الثامن: لأن أيام العبد خمسة:

1- يوم مفقود: وهو أمسُك الذي مضى، ولن يعود إلى يوم القيامة.

2- يوم مشهود: وهو يومك الذي أنت فيه.

3- يوم مورود: فأما المورود فهو يوم غدك، فما الذي خططنا ليوم غد.

4- يوم موعود: وهو يوم موتك، إما في روضة من رياض الجنة، وإما في حفرة من حفر النيران.

5- يوم ممدود: وهو يوم القيامة:

إما أن يخلد العبد في الجنة فتعطي أربعًا، ويقال لك أربع:

أ- إن لك أن تحيا، فلا تموت أبدًا.

ب- وإن لك أن تشب، فلا تهرم أبدًا.

ج- وإن لك أن تصح، فلا تسقم أبدًا.

د- وإن لك أن تنعم، فلا تبأس أبدًا.

وإما أن يخلد العبد في نار جهنم فيتمنى أربعًا، فلا يجدها:

أ- الخروج من النار، قال تعالى: ﴿فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [غافر: 11].

ب- يقول لخزنة جهنم التسعة عشر: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 49]، فلا يوافقوا على طلبهم، وإنما يستمر الخزنة في تعذيبهم.

ج- يقول لمالك خازن النار: ﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ [الزخرف: 77].

د- يقولون لأهل الجنة: ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 50].

وليعلم المسلم أن العقلاء خمسة:

1- العاقل الأول: هو الذي يرضي ربه قبل أن يلقاه، ليرضى عنه رضوانًا أبديًّا لا يسخط عليه أبدًا، ويسكنه دار الرضوان، لأنه عمل على إرضاء الله عز وجل فوجد ثمرة هذا الإرضاء، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأدخلهم دار الرضوان.

2- العاقل الثاني: هو الذي يستعد لقبره قبل أن ينزله، فإننا نازلون القبور شئنا أم أبينا، فهو إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وترحل إلى القبر ومعك ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يرجع الأهل والمال الذي طالما صرفت وقتك لهم، ويبقى العمل.

3- العاقل الثالث: هو الذي يترك الدنيا قبل أن تتركه، فإن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، من جعلها همَّه جعل الله فقره بين عينيه، فلا يرى إلا الفقر، ويشتت الله عليه شمله، أي: لا يجد أمنًا ولا طمأنينة ولا سعادة، ولا يأتيه إلا ما كتب له.

4- العاقل الرابع: هو الذي لا يغفل عن أربع ساعات هي:

* ساعة يناجي فيها ربه.

* ساعة يحاسب فيها نفسه.

* ساعة يتفكر في خلق السموات والأرض.

* ساعة لمطعمه ومشرابه وأهله ونفسه.

5- العاقل الخامس: هو الذي حصد في عامه ثمانية أمور وهي:

1- التذكر.

2- الشكر.

3- اغتنام خمسًا قبل خمس.

4- الاعتبار بالآيات الكونية.

5- حفظ الأعمال.

6- حفظ الأعمار.

7- النظر في ميزانية الأعمال.

8- النظر في ميزانية الأعمار.

أما هذه الأمور الثمانية، فهي:

الأول: التذكر:

* يتذكر الإنسان أن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منها بنون، فيكون من أبناء الآخرة، ولا يكون من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.

* يتذكر بأن الدنيا متاع الغرور، ما مثلها إلا مثل أرض نزل عليها المطر فاخضرَّت، ثم اصفرَّت، ثم يبست، ثم تكسرت، ثم تفرقت فأصبحت أثرًا بعد عين.

* يتذكر أن الدنيا متاع زائل، ما هي إلا كسحابة صيف تأتي بعد الظهر وتنتهي بعد العصر، وكظل شجرة سرعان ما يتحول إلى غيره، وما هي إلا كثلج وضع في شمس سرعان ما يذوب.

* يتذكر أن الدنيا متاع قليل، فما هي إلا كمثل من أدخل أصبعه في بحر ثم أخرجها، كم يعود به؟ لا يعود بشيء، لو عاش مائة سنة، فلا تساوي مائة سنة شيئًا مع حياة أبدية، مع العلم أن أعمار أمة محمد ﷺ‬ «ما بين الستين والسبعين وقليل من يتجاوز ذلك».

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [النور: 38].

* يتذكر بأن الدنيا دار سفر، ودار ظعن، وليست بدار إقامة ولا وطن، المؤمن فيها غريب، يعيش وهو غريب، إذا أصبح لا ينتظر المساء، وإذا أمسى لا ينتظر الصباح، يأخذ من صحته لسقمه، ومن حياته لموت.

* يتذكر أن العبد المفرط تأخذه الحسرة في ثلاثة مواطن:

1- عند الموت: يتحسر على تفريطه في العمل الصالح، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 99-100].

3- عند الحساب: قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12].

3- عند العذاب: قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر: 37].

الثاني: الشكر وهو الأمر الثاني الذي يحصده العاقل في عامه:

* أن يشكر الله الذي أطال عمره وأحسن عمله، لأن «خير الناس من طال عمره وحسن عمله»، وعند ابن ماجه: أن أخوين بايعا رسول الله ﷺ‬ في ساعة واحدة، وبعد عام كامل دُعي بالجهاد فخرجا، واستشهد أحدهما، وعاد الثاني وبقي بعد أخيه سنة كاملة ثم مات على فراشه، فرأى طلحة أن الذي مات على فراشه أسبق إلى الجنة من الذي استشهد في سبيل الله فاستغرب، فقال رسول الله ﷺ‬: «أليس أنه بقي بعد أخيه سنة كاملة، صلى كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه، لما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض»([1]).

* مع أن الأول مجاهد في سبيل الله، والآخر مات على فراشه، لكنه عمل بعده سنة كاملة، ومع أن للمجاهد في سبيل الله مائة درجة ما بين الدرجة والدرجة مثل ما بين السماء والأرض، إلا أن الثاني سبق الأول بطول العمر وحسن العمل، ونشكر الله على طول العمر، ونسأله حسن العمل.

* نشكر الله عز وجل على أن هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

* نشكر الله عز وجل يوم أن أثابنا على الحسنة الواحدة بعشر حسنات، ربح طاعة، ربح حلال، ربح شرف، ربح بياض وجه، ربح نور القلب، وأثابنا على الحسنة سبعمائة وبغير حساب.

* نشكر الله عز وجل الذي لم يجز على السيئة إلا بسيئة واحدة، ولم يكتبها على العبد إلا بعد مضي ست ساعات، فإن تاب العبد ألقاها الملك، وإن لم يتب العبد كتبها سيئة واحدة، قال ﷺ‬: «إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء، فإن ندم واستغفر منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة»([2]).

* نشكر الله عز وجل الذي يذهب السيئات بالحسنات، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، كما نشكره عز وجل أن بدل السيئات بالإيمان والعمل الصالح والتوبة، قال الله عز وجل: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70].

* نشكر الله عز وجل الذي مَنْ علينا بمنن كثيرة، وبنعم كثيرة وعظيمة، لا نستطيع أن نعدها أو نحصيها، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 61-62].

الثالث: اغتنام خمس قبل خمس:

أ- اغتنام الحياة قبل الموت: فإن من اغتنمها بعمل صالح أحب لقاء الله عز وجل وسعد في آخرته سعادة أبدية.

ب- اغتنام شبابه قبل هرمه: لأن الشباب هو فترة القوة الوحيدة، وسن أهل الجنة 33 سنة.

ج- اغتنام صحته قبل سقمه: لأنها مدة النشاط، ومدة اللذة والصحة، وهو الزمن الذي يؤدي فيه الإنسان العمل على الوجه المطلوب.

د- اغتنام غناه قبل فقره: لأن الغنى كثرة أجر لمن أنفق ماله في سبيل الله عز وجل، وانظر إذا قلت: «سبحان الله» بعشر حسنات، وإذا أنفقت ريالاً بسبعمائة حسنة، أي: بزيادة 690 حسنة على التسبيحة! قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].

وانظر للذي تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله يوم غزوة تبوك، قال ﷺ‬: «لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة»([3]).

هـ- اغتنام الفراغ قبل الشغل: فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل.

الرابع: الاعتبار بالآيات الكونية:

وسأذكرك أيها المسلم بدروس نغفل عنها:

أ- الاعتبار بالليل الذي نتذكر به القبر فنكثر من زيارة المقابر الزيارة الشرعية عملاً بقول النبي ﷺ‬: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»([4]).

ب- الاعتبار بالنوم: الذي يذكرنا بالموت بنص الآية والحديث، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: 60]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 42].

أما الحديث فقال ﷺ‬: «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون»([5] وبهذا الاعتبار يكثر من ذكر الموت عملاً بالحديث: «فأكثروا من ذكر هادم اللذات»([6]).

ج- الاعتبار بالنهار: الذي يذكر بالآخرة باجتماع الناس وزحام الناس، فيجعل الآخرة همه لكي يجمع الله عليه شمله ويجعل غناه في قلبه وتأتيه الدنيا وهي راغمة.

د- الاعتبار بالشمس: التي تذكر بالحساب يوم أن يجد حرّها ويتصبب العرق وتدنو من روس الخلائق، تكون منهم قدر ميل، قال سليم بن عامر: فلا أدري هل أراد بميل، ميل المكحلة أو المسافة في الأرض. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا»([7]).

هـ- الاعتبار بالقمر: لأن الهلال يبدأ صغيرًا ثم يكبر حتى يكمل في الخامس عشر، ثم يتناقص شيئًا فشيئًا حتى يعود كما بدأ، ويختفي في ليلة أو ليلتين آخر الشهر، وهو يذكر بحال الإنسان عندما يولد وعندما يشيب وعندما يهرم.

و- الاعتبار بالفصول الأربعة:

ففصلاً الشتاء والصيف: يذكران بالنار.

وفصلا الربيع والخريف: يذكران بالجنة.

* نتذكر في هذا العام مثلاً كم من ميت مات، كان معنا في أول هذا العام لكنه لم يدرك آخر العام!

*نتذكر كم مولود لم يكن موجودًا أول العام أصبح آخر العام مولودًا! إنها أرحام تدفع وأرض تبلع!!

* نتذكر كم من غني في أول العام أصبح في آخر العام فقيرًا، والعكس.

* نتذكر كم من صاحب ملك نزع منه: كان له الملك أول العام، وأصبح آخر العام ليس له ملك.

الخامس: حفظ الأعمال:

وتحفظ الأعمال بثلاثة أمور، وإن اقتصرنا على أمرين لكان صحيحًا:

1- الإخلاص.

2- المتابعة.

3- إتقان العمل.

أما الإخلاص: فتجعل كل شيء لله، لا تجعل مع الله ندًا ولا شريكًا، فبالإخلاص يحفظ العمل، ويحفظ الإيمان، وتحفظ الفطرة، وينجو من النار، ويأمن من الفتنة.

أما المتابعة: أي متابعة الرسول ﷺ‬، فإنه أسوتنا الذي نتأسى به، وقدوتنا الذي نقتدي به، ومعلمنا الذي نتعلم منه، والهادي الذي نهتدي به، ومعلمنا الذي نتعلم منه، والهادي الذي نهتدي به، من اقتدى به دخل الجنة، ومن لم يقتد فقد أبى دخول الجنة، يقول ﷺ‬: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»([8] ويقول: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»([9]).

* أما إتقان العمل: فلا يكون العمل مُتقنًا إلا بالإخلاص والمتابعة، قال ﷺ‬: «لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا» قال ثوبان: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: «أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»([10]).

السادس: حفظ الأعمار:

وتحفظ الأعمار بعشرة أمور:

1- التوبة: وهي الإنابة لله والاستسلام له، وطلب الهداية وأسبابها، والعمل الصالح، ومداومة التوبة، واستعجال التوبة، وإصلاح الماضي بالندم، وإصلاح الحاضر بالإقلاع عن الذنب وبالإخلاص، وبردَّ المظالم إلى أهلها.

2- الاستقامة: وهي الثبات على دين الله عز وجل، والاستقامة على الإيمان والتقوى، ومداومة العمل الصالح، والدعاء، وقراءة القرآن على الدوام، ومصاحبة الصالحين، والعلم النافع، والاقتداء بالأنبياء.

3- مراقبة الرب عز وجل: في كل مكان وفي كل زمان، وعلى كل حال.

4- حفظ النهار بالصيام: لأنه جنة من الذنوب والمعاصي والشر والفساد والآثام والنار، وباب من أبواب الجنة، ومن أبواب الخير.

5- حفظ الليل بالقيام: لأنه شعار الصالحين، ودأب الصالحين، وبه تتحقق العبودية والشكر لله، وبه يُجاهد الشيطان، وبه تفتح أبواب الخير، وبه تغلق أبواب الشر، وسبب من أسباب دخول الجنة، وهو سبب من أسباب النجاة من النار، ومرضاة لرب العالمين، ومغفرة للذنوب، وبه يجاهد الإنسان نفسه ويجاهد به عدوه، وهو مطرد لداء الجسد.

* * *



([1]) ابن ماجه: كتاب تعبير الرؤيا، باب تعبير الرؤيا، وصححه الألباني برقم (3925).

([2]) حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2097).

([3]) مسلم كتاب الإمارة باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها (1892).

([4]) مسلم كتاب الجنائز باب استئذان النبي ﷺ‬ ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (977).

([5]) رواه الطبراني في الأوسط والبزار وصححه الألباني في الصحيحة (3/74).

([6]) صححه الألباني في إرواء الغليل (3/145).

([7]) البخاري كتاب الرقاق باب قول الله تعالى: { أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (6532).

([8]) مسلم كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (4468).

([9]) البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ‬ (7280).

([10]) ابن ماجه كتاب الزهد باب ذكر الذنوب وصححه الألباني برقم (4245).