×
هذة المقالة تُبين فضل العشر الأواخر من رمضان، فهذه العشر فيها ليلة هي خير من ألف شهر، وفيها يُسن الاعتكاف، والإكثار من الدعاء والذكر وطول القيام، والتهجد في جوف الليل وتلاوة القرآن.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أخي المسلم: هذه أيام شهرك تتقلص، ولياليه الشريفة تنقضي، وقد أوشك على الرحيل وتأهَّب للتوديع، هذه الأيام التي مضت وتلك الليالي التي انقضت هي شاهدة بما عملت، وحافظة لما أودعت، هي لأعمالك خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة وستكون في انتظارك يوم القيامة فهي شاهدة لك أو عليك }يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ{ [آل عمران آية 30].

    فيا أخي زيِّنها بصالح الأعمال وجميل الأقوال والأفعال، ولا تشينها بطالح الأعمال وقبيح الأقوال والأفعال.

    يناديك ربك الجليل فيقول: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أوفيكم إيَّاها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه» [رواه مسلم].

    فيا عبد الله: هذا شهر رمضان قد زاد على النصف، فمن منَّا حاسب نفسه، من منَّا عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفًا من فوقها غرف. ألا إن شهرك قد أخذ في النقصان فاجتهد في العمل، فكل شهر عسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لك منه خلف؟!

    تنقَّص الشهر وا -لهفاه وانهدما

    واختص بالفوز بالجنات من خدما

    وأصبح الغافل المسكين منكسرا

    مثلى فيا ويحه يا عظم ما حرما

    من فاته الزرع في وقت البذار فما

    تراه يحصد إلا الهمَّ والندما

    طوبى لمن كانت التقوى بضاعته

    في شهره وبحبل الله معتصما

    هذا هو الشهر، وهذه هي نهايته، كم من مستقبل له لم يستكمله؟! وكم من مؤمل بالعود إليه لم يدركه، هلاَّ تأملت الأجل ومسيره، وهلاَّ تبينت خداع الأمل وغروره.

    أخي المسلم: كنا بالأمس القريب نستقبل رمضان ونحن في غبطة وسرور، وفي لحظة وغفلة من أمرنا انسلخ الشهر وشرع في الرحيل وهكذا العمر، سينقضي وينتهي الأجل فياليت شعري ماذا قدمنا لهذا اليوم؟!

    أيها الأخ المبارك: إن كان في النفس زاجر، وإن كان في القلب واعظ فقد بقيت في أيام هذا الشهر بقية وأي بقية، إنها العشر الأخيرة من أيام هذا الشهر الكريم التي كان يحتفي بها النبي ﷺ‬ أيما احتفاء.

    ففي الليالي العشرين التي كانت قبلها، كان النبي ﷺ‬ يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر الأواخر شمَّر وجدَّ وشدَّ المئزر، هجر فراشه وأيقظ أهله.

    أخرج الإمام أحمد في المسند من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي ﷺ‬ يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر – يعني الأخير – شمَّر وشدَّ المئزر».

    أخي الكريم: ربما يكون هذا الشهر آخر شهر يصومه بعضنا، ولا يدري من السابق فينا من اللاحق، فالله في مضاعفة المثابرة والاجتهاد في زمن مبارك أدركنا وأدركتاه، ونحن في وافر الصحة والعافية، فالحذر من التفريط في مثل هذه التجارة الرابحة التي من حُرمها فقد حُرم خيرًا كثيرًا، ولن يضمن إدراك تلك الصفقة مرة أخرى.

    فيا عجبا من حال أقوام تمر عليهم تلك الليالي الفاضلة وهم في غفلة عنها، لا يقيمون لها وزنا، ولا يقدرون لها ثمنًا، وهذا والله هو المغبون الذي فرط في خير كثير، وكان بإمكانه أن ينال أكثر منه، لو فطن لنفسه، ولكن المحروم من حُرم خير هذا الشهر.

    أخي الطيب المبارك: أترضى يا مسكين أن تُكتب أسماء من حولك في صحف الملائكة من المقبولين، وتبقى أنت وحيدًا فريدًا محرومًا من غنيمة عظيمة فرطت في ثوابها وفضلها، وكانت منك قاب قوسين أو أدنى؟

    إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا

    ندمت على التفريط في زمن البذر

    فشمِّر يا عبد الله عن ساعد الجدِّ، وجاهد نفسك على طاعة الله تعالى، وأطرها على فعل الخيرات وترك المنكرات والملهيات والبعد عن الشهوات والملذات:

    تفنى اللذاذة ممن ذاق صفوتها

    من الحرام ويبقى الإثم والعار

    تبقى عواقب سوء في مغبتها

    لا خير في لذة بعدها النار

    فالله الله في نفسك، فلا توردها الموارد، ولا تعرضها للهلكة وأنت شاهد وليكن لك في رسول الله ﷺ‬ أُسوة حسنة في تلك الليالي العشر.

    ففي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله ﷺ‬ إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله»(متفق عليه واللفظ للبخاري).

    وعند مسلم عنها أيضا قالت: «كان رسول الله ﷺ‬ يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيره» وكان ﷺ‬ يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً «ألا تصليان..» رواه البخاري وأحمد. وكان ﷺ‬ يتجه إلى حجرات نساءه آمرًا فيقول: «أيقظوا صواحب الحجر فربَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» أخرجه البخاري في صحيحه ومالك في موطئه.

    وكان ﷺ‬ لم يترك أحدًا من أهل بيته صغيرًا كان أو كبيرًا يطيق الصلاة إلا وأيقظه، فعند الطبراني من حديث علي t قال: «إن النبي ﷺ‬ كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يطيق الصلاة».

    وعند الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «لم يكن النبي ﷺ‬ إذا بقى من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا من أهله يُطيق القيام إلاَّ أقامه»، وهو ﷺ‬ في ذلك متمثلاً قوله تعالى: }وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى{ [طه: 132].

    فهذا هو حال النبي ﷺ‬: إذا أقبلت العشر الأواخر، اجتهد في العبادة فأحيا الليل بالقيام واعتزل النساء وأيقظ أهل بيته للصلاة وهو من هو؟! هو الذي غفر له ما تقدم وما تأخر، فكيف بمن تلوث بالمعاصي والذنوب؟!

    أخي: هلا أحييت ليلك بالقيام ونهارك بتلاوة القرآن؟ أخي: هل أيقظت أهلك وأولادك للقيام في ليالي رمضان؟ وقد قال ﷺ‬: «رحم الله رجلاً قام من الليل، فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء».

    [رواه أبو داود، ابن ماجه عن أبي هريرة t]

    أخي: كان هذا هو حال المصطفى ﷺ‬ مع علو منزلته وعظيم قدره، وكذلك كان سلفنا الصالح، فلقد كان السلف الصالح من أسرع الناس امتثالاً واتباعًا للنبي ﷺ‬. ففي الموطأ عن عمر بن الخطاب t كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة وهو يقول لهم: «الصلاة الصلاة» ويقرأ قوله تعالى: }وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى{ [طه: 132].

    قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: «أحب إليَّ إذا دخل العشر الأواخر، أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك».

    وكانت امرأة حبيب أبي محمد الفارس – كان مجاب الدعوة – رحمهما الله تعالى – تقول له بالليل: «قم يا حبيب، قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا:

    يا نائمًا بالليل كم ترقد

    قم يا أخي قد دنا الموعد

    وخذ من الليل وأوقاته

    وردًا إذا ما هجع الرقد

    من نام حتى ينقض ليله

    لم يبلغ المنزل أو يجهد

    قل لذوي الألباب أهل

    التقى قنطرة العرض لكم موعد

    فيا صاحب الذنب العظيم، والإثم الكبير، فالغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة.

    أخي المسلم: اعلم - رحمني الله وإياك- أن ألأعمال بالخواتيم فمن أصلح فيما بقى غفر له ما قد مضى، ومن أساء فيما بقى أخذ فيما بقى وما مضى.

    فها هي العشر الأواخر فرصة لتصلح ما قد قصرت به في العشرين الأول، فهذه العشر فيها ليلة هي خير من ألف شهر، وفيها يُسن الاعتكاف، والإكثار من الدعاء والذكر وطول القيام، والتهجد في جوف الليل وتلاوة القرآن والأُنس بمناجاة الملك سبحانه.

    فقم يا أخي ودع عنك التواني والكسل

    فقد فاز من كان بالله متصل

    قم يا أخي إلى الله بقلب خاشع، وانتظم في سلك الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع فما تراهم إلا بين ساجد وراكع.

    تيقظ بساعات من الليل يا فتى

    لعلك تحظى بالجنان وحورها

    فتنعم في دار يدوم نعيمها

    محمد فيها والخليل بدورها

    قال تعالى: }كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{ [الذاريات: 17، 18].

    وقال تعالى: }تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [السجدة: 16، 17].

    وقال ﷺ‬: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل».

    [رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة t]

    وفي صحيح البخاري عن النبي ﷺ‬ قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليلة الأخيرة فيقول: من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود t عن النبي ﷺ‬ قال: «إذا كان ثلث الليل الباقي يهبط الله إلى السماء الدنيا ثم تفتح أبواب السماء حتى يطلع الفجر»، وقال ﷺ‬ لأبي ذر: «يا أبا ذر تصدَّق في يوم شديد حره ليوم النشور وصل ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور» وقال ﷺ‬: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار».

    قيل للحسن البصري رحمه الله ما بال المجتهدين أحسن الناس وجوهًا! قال: «لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره».

    وقال كعب الأحبار: «إن الملائكة ينظرون من السماء الدنيا إلى الذين يصلون بالليل في بيوتهم كما تنظرون إلى النجوم في السماء».

    فيا أخي الكريم: إن جوف الليل لحاف الخائفين ولذة المتعبدين وأنس الطائعين، ومناجاة المحبين، وخلوة العارفين، ومطية السالكين، وقرة عين المحسنين، فجنوبهم عن المضاجع واجفة، وقلوبهم من خشية الله خائفة، ونفوسهم لرحمة الله طامعة، وألسنهم بالاستغفار والدعاء لاهجة، سكبوا العبرات، وتعالت منهم الآهات والآنَّات، وكلما تذكروا الذنوب والزلات ارتفعت منهم الصيحات ورفعوا أيديهم وقالوا: }رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ{ [آل عمران: 193]، فكان الجواب من رب الأرباب }فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ{ [آل عمران: 195].

    * كان عبد العزيز بن أبي داود يأتي فراشه بالليل فيمدُّ يده عليه ويقول: «إنك لين وفراش الجنة ألين منك، فيترك فراشه ويصلي الليل كله».

    * قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا لم تقدر على صيام النهار وقيام الليل فاعلم أنك محروم وقد كثرت خطيئتك، وقال الحسن البصري: «إن الرجل ليحرم قيام الليل بالذنب يصيبه».

    أخي: يا من سرت في قوافل التائبين، وتركت سبيل المذنبين، يا من تلذذت بنعيم المناجاة، وأسكبت العبرات وتعالت منك الآهات والأنات اعلم رحمني الله وإياك أن في تلك الليالي الحسان، ليلة أمرها عظيم، والخير فيها جزيل عميم وكفى وصفها في القرآن الكريم }فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ{ [الدخان: 4].

    فيها تقسم الآجال والأعمار ويعرف الفائز من الخسران، فكن يا أخي من الفائزين بإحياء ليلها إيمانًا واحتسابًا تفوز بالأجر ويغفر لك الذنب فقد ثبت عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه.

    وليلة القدر هي آكدة في العشر الأواخر؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ‬ قال: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» وفي رواية البخاري «في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» والأحاديث في ذلك كثيرة ومن فضل هذه الليلة أنها خير من ألف شهر فيا سعادة المجتهدين فيها، وفيها تنزل الملائكة ومعهم الروح الأمين جبريل والملائكة لا تنزل إلا بالخير والمغفرة فيا سعادة المذنبين التائبين، وهذه الليلة سلمت من كل شر وذلك مصداقًا لقوله }سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ{ [القدر: 5] فيا سعادة العابدين المحسنين.

    فيا أخي الكريم: إذا أدركت هذه الليلة فأكثر فيها الدعاء والتضرع إلى رب السماء فهو القائل }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ{ [البقرة: 186] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟! قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» [رواه الترمذي].

    يا رجال الليل جٍٍِدُّوا

    رب داع لا يُرد

    ما يقوم الليل إلا

    من له عزم وجد

    ويبستحب في الليالي التي يرجى فيها ليلة القدر الاغتسال والتطيب ولبس الثياب الحسن، فقد روى عن عائشة وعلي وحذيفة بن اليمان أنه ﷺ‬، «كان يغتسل بين العشائين كل ليلة» يعني في العشر الأواخر، وقد ورد ذلك عن بعض الصحابة والتابعين y جميعًا كانوا يفعلون ذلك.

    أخي الكريم: وكان من هدي النبي ﷺ‬ في تلك الليالي العشر الاعتكاف والانقطاع عن شواغل الحياة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن النبي ﷺ‬ كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى». وإنما كان يعتكف النبي ﷺ‬ في العشر الأواخر التي يطلب فيها ليلة القدر، قطعًا لأشغاله، وتفريغًا لباله، وتخلياً لمناجاة ربه، وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرًا يتخلى فيها من الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم، وهذا أكمل الهدى.

    فمعنى الاعتكاف وحقيقته، قطع العلائق عن الخلائق للتفرغ لعبادة الله.

    والاعتكاف من السنن المهجورة التي قلَّ العمل بها وغفل عنها كثير من الناس. قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: «عجبا للمسلمين! تركوا الاعتكاف، مع أن النبي ﷺ‬ ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل». فبادر أخي المسلم إلى إحياء هذه السنة العظيمة، وحث الناس عليها والترغيب فيها، وابدأ بنفسك فإن الدنيا مراحل قليلة وأيام يسيرة، فتخلص من عوائق الدنيا وزخرفها، واتجه بقلبك وجوارحك إلى الله عز وجل في ذل وخضوع وانكسار ودموع لتلحق بركب المقبولين الفائزين.

    أخي المسلم: الاعتكاف يكون في كل مسجد ُتقام فيه الجماعة، وإن تخلل أيام اعتكافك جمعة يستحب لك أن تعتكف في مسجد جمعة، فإن اعتكفت في مسجد جماعة خرجت إلى الجمعة ثم ترجع إلى اعتكافك.

    * واحرص على أن يكون اعتكافك في مسجد بعيد عن كثرة الناس، واختر مسجدًا لا تعرف فيه أحد، فإن هذا أحرى للإخلاص وأفرغ لقلبك وذهنك من محادثة الناس وكثرة مجالستهم والاختلاط بهم.

    * والاعتكاف مسنون في أي وقت، فللمسلم أن يبتدئ الاعتكاف متى شاء وينهيه متى شاء، إلا أن ألأفضل الاعتكاف في رمضان وخاصة في العشر الأواخر منه، فإذا صلى فجر يوم الحادي والعشرين من رمضان دخل المعتكف ومكث في المسجد حتى خروجه إلى صلاة العيد وهذا وقت انتهائه المستحب.

    * واعلم بأنه يجوز للمعتكف أن يخرج من معتكفه لقضاء حاجاته الضرورية من قضاء الحاجة أو الإتيان بالطعام أو للتداوي إن أصابك المرض وأنت معتكف، وأن يخرج رأسه من المسجد ليغتسل ويُسرح فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «وإن كان رسول الله ﷺ‬ ليدخل علي رأسه وهو معتكف في المسجد وأما في حجرتي فأرجِّله» وفي رواية: «فأغسله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفًا» [روى أصله البخاري ومسلم وأحمد وابن أبي شيبة]، «وكذلك يجوز للمعتكف أن يتخذ خيمة صغيرة في مؤخرة المسجد يعتكف فيها ويضع فيها فراشه وذلك لما ورد أن عائشة رضي الله عنها كانت تضرب للنبي ﷺ‬ خباء إذا اعتكف وكان ذلك بأمر منه ﷺ‬» [الحديث عنه مسلم]، كما يجوز للمعتكف أن يتحدث بكلام مباح مع أهله أو غيرهم لمصلحة، وذلك لما ورد عن صفية أم المؤمنين قالت: «كان النبي ﷺ‬ معتكفًا فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت لأنقلب (أي انصرف إلى بيتي) فقام النبي ﷺ‬ معي...» [متفق عليه].

    فيا أخي: هذه فرصة عظيمة وساعات قليلة، ليستفيد المسلم من هذا الاعتكاف والانقطاع والبعد عن الناس، ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده طلبًا لفضله واتقاء لسخطه وعقابه وإدراكًا لليلة القدر، من قبل أن تطوى الصحف وترفع الأقلام وتنصب الموازين ففريق في الجنة وفريق في السعير.

    أخي الكريم: لا تنسى أن هذا الشهر هو شهر القرآن فليكن لك نصيبًا وافرًا من تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، فلا تكن عنه من الغافلين.

    وأعلم يا أخي أن الصيام والقرآن يشفعان لك يوم القيامة كما صح ذلك في الحديث فيا من ضيع عمره في غير طاعة، يا من فرَّط في شهره وأضاعه يا من بضاعته التسويف والتفريط، بئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟!

    ويل لمن شفعاؤه خصماؤه

    والصور في يوم القيامة ينفخ

    اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، وآمنا من الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

    * * *