×
هذا الكتاب يعتبر من أطول ما كتبه ابن تيمية - رحمه الله - في مسألة تعليق الطلاق؛ فآراؤه وحججه التي بَنَى عليها قولَهُ وردوده على أدلة مخالفيه مبسوطة في هذا الرد، بينما وردت في فتاويه ورسائله الأخرى مختصرة.

 الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق

تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 - 728 هـ) تحقيق عبد الله بن محمد المزروع دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


 مقدمة

الحمد لله الذي جَعَلَ في كُلِّ خَلَفٍ عُدُولَه، ينفونَ عن العلم تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين. أما بعد: فهذا سفرٌ نفيسٌ من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يرى النور لأول مرة، بعد أن حفظ الله قطعة منه من عوادي الزمان، ومن خصوم الشيخ حيث ترصدوا لمؤلفاته في عصره وبعد ذلك (1)؛ فإنه (لَمَّا حُبِسَ تفرَّقت أتباعُهُ، وتفرَّقت كتبُهُ، وخوَّفوا أصحابه من أنْ يُظهروا كتبه = ذهبَ كلُّ أحدٍ بما عنده وأخفاه ولم يُظْهروا كتبه، فبقي هذا يَهرب بما عنده، وهذا يبيعه أو يَهَبُهُ، وهذا يُخْفيه ويودعُهُ، حتى إنَّ منهم مَنْ تُسْرق كتبه أو تُجْحَد، فلا يستطيع أنْ يَطلبها! ولا يَقدر على تحصيلها! فبدون هذا تتمزق الكتب والتصانيف كلَّ تمزق) (2)، وقد ذكر المَقريزي (845) (3) أنَّ (أكثر مصنفاته مسوَّدات لم تُبَيَّض، وأكثر ما يوجد منها الآن بأيدي الناس قليل من كثير، فإنَّهُ أُحرق منها شيءٌ كثير، ولا قوة إلا بالله). ومع كلِّ هذه الأسباب التي تؤدي إلى ضياع كتب الشيخ إلا أنَّ الله حفظ _________ (1) انظر: كتب التراث بين الحوادث والانبعاث، للدكتور حكمت بن بشير ياسين (ص 40 - 93). (2) العقود الدُّرِّيَّة (ص 109). (3) في المقفَّى الكبير (ص 513 الجامع).

(المقدمة/5)


كثيرًا منها؛ وفي هذا يقول تلميذه ابن رُشَيِّق (749) (1): (ولولا أنَّ الله ــ تعالى ــ لَطَفَ وأعانَ، وَمَنَّ وأَنْعَمَ، وخرق العادة في حفظ أعيان كُتبه وتصانيفه لَمَا أمكنَ أحدًا أنْ يجمعها. ولقد رأيتُ من خَرْقِ العادة في حفظ كتبه وجمعها، وإصلاح ما فَسَدَ منها، وَرَدِّ ما ذهبَ منها= ما لو ذكرتُهُ لكان عجبًا؛ يعلم به كلُّ منصفٍ أنَّ لله عنايةً به وبكلامه، لأنه يَذُبُّ عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين). والفضل في وقوفي على الكتاب يعود بعد الله للشيخ الدكتور/ عبد السلام بن إبراهيم الحصين ــ وفقه الله ــ، حيث عثر على الكتاب أثناء بحثه عن كتاب (التحقيق في مسألة التعليق) للسبكي، وبعد أن اطَّلعَ على نسخته ظهر له أنَّ الكتاب ليس للسبكي وإنما لابن تيمية (2)، ثم يسَّر الله أنْ اجتمعتُ به في مجلسٍ فعرض عليَّ فكرة تحقيق الكتاب وزوَّدني ــ مشكورًا ــ بصورةٍ منه (3)، وبعد أنْ أخذته واطَّلعتُ عليه وتيقَّنت صحةَ نسبتِهِ إلى _________ (1) كما نقل ذلك ابن عبد الهادي في العقود (109 - 110)، وقد رأيت عددًا من الباحثين يَنسب هذا الكلام لابن عبد الهادي، والذي يَظهر أنه تتمة كلام ابن رُشيِّق، والله أعلم. (2) والشيخ عبد السلام الحصيِّن ــ زاده الله توفيقًا ــ ممن له عناية بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية، فرسالته العالمية (الماجستير) والعالمية العالية (الدكتوراه) تدور حول تراث ابن تيمية، وقد أعدَّ قائمةً بمؤلفات شيخ الإسلام المطبوعة نشرها في موقعه على الشبكة المعلوماتية. (3) وإتمامًا للعناية بالكتاب قمتُ بتحميل مخطوطته على الشبكة المعلوماتية بموقع (ملتقى أهل الحديث) لمن أراد الاطلاع عليها، والتأكد من بعض المواضع المشكلة.

(المقدمة/6)


ابن تيمية - رحمه الله - عقدتُ العزمَ على العنايةِ به، ثم حاولتُ الحصولَ على نسخٍ أخرى للكتاب تتميمًا للنقص الحاصل في أوله، والخلل الموجود في وسطه، وإعانةً على قراءة ما يُشكلُ منه، فبدأت مرحلة البحث عن الجزء المفقود وعن نسخةٍ أخرى من الكتاب استمرت بضعة أشهر إلا أني لم أصل إلى نتيجةٍ مع بذلي ما في وسعي، ولعل ذلك يتيسَّر لي أو لغيري فيما بعد. وهذا الكتاب الذي بين يديك ــ أيها القارئ الكريم ــ يعتبر من أطول ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مسألة تعليق الطلاق؛ فآراؤه وحججه التي بَنَى عليها قولَهُ وردوده على أدلة مخالفيه= مبسوطة في هذا الرد، بينما وردت في فتاويه ورسائله الأخرى مختصرة. وتأتي أهمية هذا الكتاب ــ أيضًا ــ في كونه جوابًا عن اعتراضِ فقيهٍ من كبار فقهاء الشافعية في زمانه، بل قد بلغَ رُتبةَ الاجتهاد (1)، وهذا الاعتراض يُعتبر من أقوى ما كُتِبَ في الردِّ على فتوى ابن تيمية في هذه المسألة، حتَّى وَصَفَ ابن تيمية ردَّه هذا مقارنة بردود غيره بقوله (2): ( ... كما ادَّعى هذا المعترض ــ أي: السبكي ــ الذي بَرَّزَ على أقرانه، وظهر فضلُهُ عليهم في فِعْلِهِ ما يَعجزون عن فِعْلِهِ)، وقال في موضعٍ آخر (3): (وما سلكه من (التحقيق في التعليق) ــ كما سمَّى بذلك مصنفه ــ ودقق فيه من المعاني، وذكر فيه من الآثار، وأتى فيه من النقل والبحث بما برَّز به على غيره) (4). _________ (1) وصفه بذلك غير واحدٍ من أصحابه ومحبيه، كما سيأتي في (ص 15). (2) (ص 789). (3) (ص 933). (4) وقال الصفدي في الوافي بالوفيات (21/ 255) في تَعداده تصانيف السبكي: (والتحقيق في مسألة التعليق، ردًّا على العلامة تقي الدين ابن تيمية في الطلاق، وكان الناس قد عملوا عليه ردودًا ووقف عليها، فما أثنى على شيءٍ منها غير هذا، وقال: هذا ردُّ فقيهٍ). وقال ولي الدين العراقي في الأجوبة المرضِيَّة عن الأسئلة المكِّيَّة (ص 99) عن ردِّ السبكي: (وقد ردَّ عليه فيهما ــ مسألة الزيارة والطلاق ــ معًا الشيخ الإمام تقي الدين السبكي، وأفرد - رحمه الله - ذلك بالتصنيف، فأجاد وأحسن).

(المقدمة/7)


ولهذا لم أجد مَنْ أشار إلى أنَّ ابن تيمية قد ردَّ على ابن الزَّمْلَكَاني ــ مثلًا ــ مع أنَّ الأخير قد ردَّ على ابن تيمية ردًّا مطوّلًا في مجلد كبير (1) إلا أنَّ ابن تيمية لم يَرُدَّ عليه ولا على غيره، رُبَّما اكتفاءً بما ردَّ به على السبكي، أو أَنَّ اعتراض ابن الزَّمْلَكَاني لم يكن بقوةِ اعتراض السبكي ــ من وجهة نظر شيخ الإسلام كما قد يُشير إليه كلامه الذي نقلته قبل قليل ــ، أو أنَّه لم يطَّلع على رد ابن الزَّمْلَكَاني، أو لغير ذلك من الأسباب؛ إلا أنَّ القارئ لهذا الكتاب سيكون على يقين بأنه يُعتبر نقضًا لكلِّ أو أغلب حجج مَنْ اعترض عليه، وبيانًا لقوة ما اختاره - رحمه الله -. ومن جهةٍ أخرى؛ فإنَّ هذا الرد يحتوي على مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لمسألة هي من مضايق الخلاف، والتي تتقاصر همم كثيرٍ من العلماء عن الولوج في خضمها استدلالاً وترجيحًا، مما دفعَ بعضهم إلى الاكتفاء بحكاية الإجماع دون التحقيق في مدى صحة هذه الدعوى، أو الركون إلى التقليد، تاركين خوض غمار البحث في الأدلة التي من خلالها يتبيَّن القول الراجح من المرجوح (2). _________ (1) كذا وصفه ابن كثير في البداية والنهاية (18/ 286). (2) قال أبو الوليد الأزدي في المفيد للحكام (4/ 99): (ولا يَنبغي أَنْ تُتَلقَّى المسألة هكذا تلقيًا تقليديًا مِن غير أَنْ يَسِمَهَا قويُّ الفَهم، ويوضحها لسان البرهان ... ولا يَنبغي لحاكم ولا لغيره أَنْ يَمُدَّ القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني، فإنَّ الحكم إنْ لم يَقَع مستوضحًا على نور فكري مشعر بالمعنى المربوط اضمحل؛ والتوفيق بيد الله).

(المقدمة/8)


ومما يُبيِّنُ أهميةَ هذا الكتاب: أنه مع ما تقدَّم من مخالفة رأي ابن تيمية لجمهور العلماء أو للإجماع المحكي وإعراض كثيرٍ من العلماء عن بحث هذه المسألة= إلا أنَّ كثيرًا من كبار الفقهاء الذين كتبوا قوانين الأحوال الشخصية المبنية على الشريعة الإسلامية في الدول العربية قد أخذوا برأي ابن تيمية في الطلاق المعلَّق (1)، وأفتى به كثيرٌ من المتصدِّين للإفتاء في هذا _________ (1) قال الشيخ علي الطنطاوي في فتاواه (ص 192): (ولكن الذي تَمشي عليه المحاكم الشرعية في مصر وسوريا، وأكثر البلاد التي انفصلت عن الدولة العثمانية: أنَّ ذلك منوطٌ بنيته). قال الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الفتاوى الشاذة (ص 98 - 100): «آراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذ مدرسته في قضايا الطلاق وشئون الأسرة، التي قُوبلت في زمنه وبعد زمنه بالرفض، والاتهام بالشذوذ، وتشديد الإنكار عليه، واتهامه بمخالفة الإجماع، واتباعه غير سبيل المؤمنين، إلى آخر ما عرفناه من قائمة الاتهامات السوداء، حتى حاكمه علماء زمنه من أجلها، وتسببوا في دخوله السجن ... والآن في عصرنا؛ أصبحت هذه الآراء في فقه الأسرة، وفي أمر الطلاق هي طوق النجاة من انهيار الأسرة وتشتيتها، بسبب تَبَنِّي الأحكام التقليدية المشهورة في شأن الأسرة ... ولقد تبنَّى آراء ابن تيمية كثيرٌ من العلماء في عصرنا، منهم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر في زمانه، في مشروعه الذي قدَّمه لإصلاح قانون الأحوال الشخصية في مصر، ومنهم العلامة الفقيه الكبير مصطفى الزرقا ومعه عدد من كبار الفقهاء في مصر وسوريا، في قانونهم لأحوال الأسرة الذي أعدُّوه أيام وحدة مصر وسورية ... وكذلك اعتمدت قوانين الأسرة أو الأحوال الشخصية في عدد من البلاد العربية آراء ابن تيمية ومدرسته سبيلًا للإصلاح والتجديد» ..

(المقدمة/9)


الزمان (1)؛ وما ذاك إلا لحاجة الناس إلى ما نَصَرَه ابن تيمية (2)؛ ومع هذا لم يكتب في هذه المسألة ما تستحقُّه من البحوث العميقة المستقصية؛ مما يدعو إلى إبراز أدلة هذا القول الذي نَصَرَه ابن تيمية، والنظر في قوته وضعفه، والجواب عن أدلة المخالفين له (3). _________ (1) فمنهم: الشيخ حسنين محمد مخلوف - رحمه الله - (مفتي الديار المصرية) حيث أشار في فتاويه إلى أنه بعد صدور القانون رقم (25) لعام 1929 م والذي نصَّ في المادة الثانية منه على أنَّ (الطلاق غير المنجَّز لا يقع إذا قَصَدَ به الحَمْلَ على فعلِ الشيء أو تركه لا غير)؛ فالفتوى على ما جرى عليه العمل في القضاء الشرعي مع مخالفته للمذهب الحنفي. ومنهم: الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - (القاضي بالمحاكم الشرعية ثم عضو المحكمة العليا) في كتابه نظام الطلاق (ص 76) إلى تَبَنِّي رأي ابن حزم في المسألة. ومنهم: الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - (مفتي المملكة العربية السعودية) فقد كان يأخذ بقول ابن تيمية في القضاء والإفتاء. وأتمنى أن يقوم أحد طُلَّاب العلم الجادِّين بجمع أسماء المفتين بهذا القول قبل وبعد ابن تيمية على غرار ما قام به الشيخ الدكتور سليمان بن عبد الله العمير في كتابه (تسمية المفتين بأنَّ الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ طلقة واحدة). (2) وقد بَرَّ الله قَسَمَ ابن مُرِّي حيث قال في رسالةٍ أرسلها لبعض تلاميذ شيخ الإسلام يستحثهم على العناية بكتب ابن تيمية وانتساخها (ص 102 من الجامع): (ووالله ــ إنْ شاء الله ــ ليقيمنَّ الله سبحانه لِنَصْرِ هذا الكلام ونَشْرِهِ وتدوينِهِ وتفهمهِ واستخراج مقاصدِهِ واستحسان عجائبه وغرائبِهِ رجالًا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم. وهذه هي سنة الحياة الجارية في عباده وبلاده، والذي وقَعَ من هذه الأمور في الكون لا يُحصِي عددَهُ غير الله تعالى). (3) ومما يدعو إلى إبراز قول ابن تيمية في المسألة وأدلته أنَّ قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية صدر بالأغلبية بوقوع الطلاق المعلَّق، ومع ذلك ففتوى مَنْ تقلَّد منصب الإفتاء على خلاف هذا القرار، ومثله ما فعله مفتي الديار المصرية السابق كما مرَّ قريبًا.

(المقدمة/10)


ولعلك تقف معي متأملًا هذا النص الذي يُظهر شيئًا من إشكالية المسألة، حيث يُرجِّح الباحث قول الجمهور ثم ما يَلبث حتى يقول بقول ابن تيمية! فقد ذكر الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته (7/ 451) الخلافَ في المسألةِ وأدلةَ كُلِّ قولٍ، ثم قال: (وفي تقديري أَنَّ القول الأول هو الأصح دليلاً (1)، لكن يلاحظ أَنَّ الشُّبَّان غالبًا يستخدمون اليمين بالطلاق للتهديد لا بقصد الإيقاع، وهذا يجعلنا نميل إلى القول الثالث (2)، لا سيما وقد أخذ به القانون في مصر رقم (25 لسنة 1929)، وفي سورية؛ فنصت المادة الثانية من القانون الأول والمادة (90) من القانون الثاني (3) على الأخذ برأي ابن تيمية وابن القيم: لا يقع الطلاق غير المنجَّز إذا لم يقصد به إلا الحث على فعل شيء، أو المنع منه، أو استعمل استعمال القَسَم لتأكيد الإخبار لا غير). كما تأتي أهمية هذا الكتاب من أنَّ مؤلِّفه إمام من كبار أئمة المسلمين، وتمكُّنه العلمي يَشهد به الموافق والمخالف (4)، وتراثه - رحمه الله - من أنفس ما _________ (1) وهو قول الجمهور، والذي نَصَرَهُ السبكي. (2) وهو القول الذي اختاره ابن تيمية. (3) القانون الأول المراد به: القانون المصري. والقانون الثاني المراد به: القانون السوري. (4) قال الذهبي في ذيل تاريخ الإسلام (ص 269 الجامع): (فأصحابه وأعداؤه خاضعون لعلمه، مقرُّون بسرعة فهمه، وأنه بحرٌ لا ساحل له، وكنزٌ لا نظير له). وقال في تذكرة الحفَّاظ (ص 274 من الجامع): (كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزُّهَّاد الأَفراد، والشجعان الكبار، والكرماء الأجواد. أثنى عليه المُوافقُ والمخالف). وقال ابن حجر في سؤال وجوابه ملحق بآخر الرد الوافر (ص 309): (وقد أثنى عليه، وعلى علمه، ودينه، وزُهْدِهِ جميع الطوائف من أهل عصره، حتى ممن كان يُخالفه في الاعتقاد). وغيرها كثير.

(المقدمة/11)


سَطَّرَهُ علماء الإسلام لما فيه من التحقيق والتدقيق والتحرير للمسائل العلمية، والكلام في هذه المسألة لا يَصْلُحُ إلا له ولأمثاله من الكبار الأفذاذ. وقد قدمت بين يدي تحقيق الكتاب عدة فصول ومباحث؛ هي كالتالي: الفصل الأول: ذكر بعض المسائل الممهدة. الفصل الثاني: أهم الكتب المصنفة في مسألة تعليق الطلاق، وقد قسمت هذه الكتب إلى ثلاث مجموعات في ثلاثة مباحث هي كالتالي: المبحث الأول: مؤلفات ورسائل وفتاوى ابن تيمية. المبحث الثاني: المؤلفات في الرد على ابن تيمية. المبحث الثالث: مؤلفات ورسائل غير ابن تيمية، أو الرَّادِّين عليه. الفصل الثالث: دراسة الكتاب، ويشتمل على مباحث: المبحث الأول: تحقيق اسم الكتاب. المبحث الثاني: توثيق نسبته لابن تيمية. المبحث الثالث: سبب تأليفه، وعلاقته بالسبكي. المبحث الرابع: تأريخ تأليفه. المبحث الخامس: منهج ابن تيمية في هذا الكتاب. المبحث السادس: وصف النسخة الخطية. المبحث السابع: منهجي في العناية بالكتاب، ونماذج النسخ.

(المقدمة/12)


 الفصل الأول ذكر بعض المسائل الممهدة

رأيتُ أنَّ تسويد صفحات في ترجمة ابن تيمية والسبكي لا يضيف للقارئ شيئًا، فشهرتهما تغني عن ذكر طرفٍ من حياتهما لا يُقدِّم جديدًا؛ فاكتفيتُ بإلقاء الضوء على بعض القضايا التي أرى أهميتها كمدخل لقراءة هذا الكتاب (1)؛ فأقول مستعينًا بالله: المسألة التي وقع فيها الخلاف: قسَّم الفقهاء الطلاق باعتبار حال الصيغة إلى أقسام متفاوتة من حيث العدد، وذلك بسبب إدخال بعض الأقسام في بعض أو التفصيل فيها؛ وهي في الجملة كالتالي: القسم الأول: الطلاق المنجَّز: وهي الصيغة المطلقة، كقول الرجل لامرأته: أنتِ طالقٌ. ويُدْخِلُ فيها بعض العلماء ما إذا عَلَّقَ الرجلُ الطلاقَ على أمرٍ محقق الوجود، كقول الرجل لزوجته: أنتِ طالقٌ إنْ كانت السماء فوقنا. القسم الثاني: الطلاق المضاف: وهي الصيغة المضافة إلى زمنٍ ماضٍ أو مستقبل، كقول الرجل لامرأته: أنت طالقٌ غدًا. أو قوله: أنتِ طالقٌ أمس. _________ (1) وأشيد بما كتبه الشيخ ياسر بن ماطر المطرفي في كتابه (حركة التصحيح الفقهي) عن تجربة ابن تيمية في مسار التصحيح الفقهي، وقد اقتصرت على بعض ما كنتُ أنوي كتابته في المقدمة اكتفاء بما ذكره، فقد أتى بما في النفس وأكثر.

(المقدمة/13)


القسم الثالث: الطلاق المعلَّق: وهو ما رُتِّبَ وقوعُهُ على حصول أمرٍ في المستقبل بأداةٍ من أدوات الشرط؛ وهذا على نوعين: النوع الأول: أن يقصد وقوع الجزاء عند وجود الشرط، فهو مريدٌ وقوعه؛ وهذا تحته صورٌ متعددة، ولكلِّ صورةٍ حكمها الخاص. النوع الثاني: أَنْ يقصد به الحث أو المنع مع كراهة وقوع الجزاء ــ وهو الطلاق هنا ــ، فهذه الصورة هي محل البحث في اعتراض السبكي وجواب ابن تيمية، ورُبَّما انجرَّ البحث إلى القسم الرابع. القسم الرابع: الطلاق المحلوف به: وهو ما أتى بصيغة القسم دون وجود تعليق لفظي، كقول الرجل لامرأته: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا. وبعضهم يجعل هذا القسم داخلًا في القسم السابق باعتبار أنه تعليق معنوي. المنزلة العلمية للمجيب والمعترض: تَبَوَّأَ كل من ابن تيمية والسبكي درجةً عَلِيَّةً في العلم، حتى قال فيهما الصفدي في أعيان العصر (1): (وعلى الجملة؛ فكان الشيخ تقي الدين أحدَ الثلاثة الذين عاصرتهم ولم يكن في الزمان مثلهم، بل ولا قبلهم من مائة سنة؛ وهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي)، كما أنَّ المزِّي - رحمه الله - لم يكتب بخطِّهِ _________ (1) الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 366). ولبيان موقف الصفدي نفسه من ابن تيمية والسبكي يراجع ما كتبه الباحث الفاضل أبو الفضل القونوي في كتابه «موقف خليل بن أيبك الصفدي من شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية».

(المقدمة/14)


(شيخَ الإسلام) إلا لثلاثة هم: ابن تيمية والسبكي وشمس الدين ابن أبي عمر (1). ولم يَقتصر الحال على أنْ يكونا من أفذاذ العلماء فحسب، بل قد وُصِفَ كلُّ واحدٍ منهما بأنه قد استحقَّ رتبة الاجتهاد (2)، إلا أنَّ ابن تيمية كان أعلى كعبًا وأدقَّ نظرًا في العلم بشهادة معاصريهما وغيرهم (3)، كما أنه أكثر استعمالًا _________ (1) ذكر ذلك التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (10/ 195). وقد قال شيخ الإسلام البُلقيني الشافعي في تقريظه للردِّ الوافر (ص 276): (ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي ــ رحمه الله تعالى ــ في ترجمة أبيه تقي الدين السبكي في ثناء الأئمة عليه، بأنَّ الحافظ المزي لم يكتب بخطِّه لفظ (شيخ الإسلام) إلا لأبيه، وللشيخ تقي الدين ابن تيمية، وللشيخ شمس الدين ابن أبي عمر. فلولا أنَّ ابن تيمية في غاية العلو في العلم والعمل ما قَرَنَ ابن السبكي أباه معه في هذه المنقبة التي نقلها!). (2) فابن تيمية قد ذكر غير واحدٍ ــ كما في الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 758) ــ بأنَّه قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وبالنسبة لتقي الدين السبكي فقد أشار إلى ذلك ابنه في ترجمته من طبقات الشافعية الكبرى (10/ 140)، وفي (10/ 226) ذكر جملةً من المسائل التي اختارها، ووصفه الصفدي في الوافي بالوفيات (21/ 253) بأنه أوحد المجتهدين، وذكر ابن النقيب ــ كما نقله السيوطي في تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد (ص 55) ــ أنه جلس بمكة بين طائفة من العلماء فشرعوا يقولون: لو قَدَّرَ الله تعالى بعد الأئمة الأربعة في هذا الزمان مجتهدًا عارفًا منهاجهم أجمعين يُرَكِّبُ لنفسه مذهبًا من الأربعة بعد اعتبار هذه المذاهب المختلفة كلها، لازدان الزمان به، وانقاد الناس؛ فاتفق رأينا على أنَّ هذه الرتبة لا تعدوا الشيخ تقي الدين السبكي ولا ينتهي لها سواه. (3) فقد قال المزي كما في مختصر طبقات علماء الحديث (ص 251 من الجامع): (ما رأيتُ مثله، ولا رأى هو مثلَ نفسه). ونقل ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (ص 468 من الجامع) عن الذهبي قولَهُ: (فلا يَبلغ أحدٌ في العصر رتبته ولا يُقاربه). وقال الذهبي في ذيل تاريخ الإسلام (ص 269): (وإلا فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم المجاملة وحسن المكالمة؛ لكان كلمة إجماع). وقال ابن سيِّد الناس اليَعْمَري (ص 188 من الجامع): (بَرَّزَ في كلِّ فنٍّ على أبناء جنسه، ولم تَرَ عينُ مَنْ رآه مثله، ولا رأت عينُهُ مثلَ نفسِهِ) .. وقال الشيخ السيد أحمد بن الصديق الغماري ــ كما في در الغمام الرقيق (ص 227) ــ: (إنَّ بين السبكي وابن تيمية بونًا كبيرًا في العلم وقوة الاستدلال، وأنَّ الثاني ــ وهو ابن تيمية ــ أعلم بمراحل). والثناء على الشيخ وعلى تقدُّمه في العلم على معاصريه كثير جدًا تجد طرفًا منه في الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 766 - 770)، ويكفي في هذا الباب كتاب (الرد الوافر) لابن ناصر الدين، وكتاب (الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية) لمرعي الكرمي.

(المقدمة/15)


لأدوات الاجتهاد التي توفرت لديه عند نظره في المسائل الشرعية؛ ولهذا تجد ابن تيمية أكثر خروجًا عن مذهبه الحنبلي الذي دَرَسَ في مدارسه وتلمذ لشيوخه، بل رُبَّما قال بأقوالٍ خارجةٍ عن المذاهب الأربعة (1)، بخلاف السبكي فغاية ما ذكره ابنه أنه انتحل أقوالًا يعترف بأنها خارج المذهب الشافعي وإن _________ (1) وما أجمل ما ذكره برهان الدين ابن القيم في أول اختيارات ابن تيمية (ص 121): (لا نَعرف له مسألةً خَرَقَ فيها الإجماع، ومن ادَّعى ذلك فهو إما جاهلٌ، وإما كاذبٌ؛ ولكن ما نُسِبَ إليه الانفراد به يَنقسم إلى أربعة أقسام: الأول: ما يُستغرب جدًّا؛ فَيُنسَبُ إليه أنه خالف الإجماع، لِنُدُورِ القائل به، وخفائه على كثيرٍ من الناس، ولحكاية بعض الناس الإجماع على خلافه. الثاني: ما هو خارجٌ عن مذاهب الأئمة الأربعة؛ لكن قد قاله بعض الصحابة أو السلف أو التابعين، والخلاف فيه محكيٌّ. الثالث: ما هو خارجٌ عن مذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه - الذي اشتَهَرَ هو ــ أعني شيخ الإسلام ــ بالنسبة إليه، لكن قد قال به غيره من الأئمة وأتباعهم. الرابع: ما أفتى به واختاره مما هو خلاف المشهور في مذهب أحمد، وإنْ كان محكيًّا عنه وعن بعض أصحابه).

(المقدمة/16)


كانت ربما وافقت قولًا ضعيفًا في المذهب أو وجهًا شاذًّا فيه (1). علاقة ابن تيمية بالسبكي: تربط ابن تيمية بتقي الدين السبكي علاقة مبنيَّةٌ على التعظيم والتقدير المتبادل؛ فقد كان ابن تيمية لا يُعَظِّمُ أحدًا من أهل عصره كتعظيمه للسبكي (2)، وفي المقابل فقد أثنى السبكي على ابن تيمية في الرسالة التي أرسلها جوابًا لرسالة الذهبي (3) حيث ذكر تَبَحُّرَ ابن تيمية في العلم وفرط ذكائه، وأنَّ قَدْرَهُ في نفسه أكبر من ذلك وأَجَلُّ (4). لكن هذا التعظيم والتقدير يشوبه بعض الشوائب بسبب الاختلاف العقدي والفقهي بينهما (5)، حتى يصل إلى كلامٍ شديد للسبكي في حقِّ ابن تيمية، واتهامات لا تَليق بمقام السبكي ــ رحم الله الجميع ــ من مثل قوله في فتاواه (2/ 163): (وهذا الرجل ــ أي: ابن تيمية ــ كنتُ رددتُ عليه في حياته، في إنكاره السفر لزيارة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حَلَفَ بِهِ، _________ (1) طبقات الشافعية الكبرى (10/ 226 وما بعدها). وانظر ما قاله العراقي في الغيث الهامع (ص 720) في سبب بقاء السبكي شافعيًا مع أنه حاز علوم الاجتهاد واستكمل آلاته! (2) نقل ذلك التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (10/ 194). (3) حيث أرسل الذهبي رسالةً يَعتبُ فيها على السبكي بسبب كلامٍ وَقَعَ منه في حقِّ ابن تيمية. (4) نقل ذلك ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة (ص 470 من الجامع)، وابن حجر في الدرر الكامنة (ص 548 من الجامع)، وابن العماد في شذرات الذهب (ص 633 من الجامع) وغيرهم. (5) انظر: الدُّرَّة المضية (ص 6 - 8).

(المقدمة/17)


ثم ظهر لي من حاله ما يَقتضي أنه ليس ممن يُعتمد عليه في نقلٍ يَنفرد به؛ لمسارعته إلى النقل بفهمه، كما في هذه المسألة ــ وهي مسألة قول الواقف: وقفتُ على أولادي، ثم أولاد أولادي ــ، ولا في بحثٍ يُنشئه؛ لِخَلْطِهِ المقصود بغيره، وخروجه عن الحدِّ جدًّا، وهو كان مكثرًا من الحفظ، ولم يتهذَّب بشيخ، ولم يَرْتَض من العلوم؛ بل يأخذها بذهنه، مع جسارته، واتساع خياله، وشَغَبٍ كثيرٍ! ثم بلغني من حاله ما يَقتضي الإعراضَ عن النظر في كلامِهِ جملةً، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للردِّ عليه، وحُبِسَ بإجماعِ المسلمين وولاة الأمور على ذلك! ثم مات) (1). وفي المقابل؛ فقد تكلم ابن تيمية في السبكي بكلام شديد من نحو تجهيله واتهامه بتحريف الكلم عن مواضعه ... ونحو ذلك؛ كما سيأتي في كتابنا هذا. ولست في مقام المحاكمة بين ابن تيمية والسبكي، فقد (مضى ــ ابن تيمية ــ لسبيله راجيًا من الله أجرًا أو أجرين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون) (2). موقف السبكي من مسألة تعليق الطلاق: كانت الفتوى السائدة المنتشرة هي القول بوقوع الطلاق المعلَّق مطلقًا، سواء قصد منه القائل حثًّا أو منعًا أو لم يقصد، وسواء أكان كارهًا وقوعه _________ (1) انظر تعليق ابن عبد الهادي على هذا الكلام مما نقله صاحب كتاب الفواكه العديدة (1/ 486 - 490)، وجلاء العينين للآلوسي، وكتاب (ابن تيمية رَدُّ مفتريات ومناقشة شبهات) للدكتور خالد العبد القادر، وما ذكره المؤرخون والعلماء يردُّ هذا الكلام الذي ذكره السبكي ــ عفا الله عنه ــ. (2) إعلام الموقعين (3/ 363).

(المقدمة/18)


وغير مريدٍ له أم لا، حتى أفتى ابن تيمية - رحمه الله - في مسألة تعليق الطلاق عِدَّةَ فتاوى انتشرت في الآفاق واطلع عليها أهل العلم في زمانه، فرَّق فيها بين من يقصد الحث أو المنع وهو كارهٌ وقوعَ الطلاق وبين من يَقصد وقوع الطلاق عند الشرط، وكانت هذه الفتاوى سببًا في امتحانه ومنعه من الإفتاء في هذه المسألة، وانتهت هذه المحنة بسجنه بضعة أشهر (1). وقد تصدَّى للردِّ عليه اثنان من كبار الفقهاء في زمانه هما: ابنُ الزَّملكاني وتقي الدين السبكي، وكان للسبكي اليد الطولى في محاربة هذا القول والقائلين به، ابتداءً بابن تيمية إلى تلاميذه المتأثرين برأيه في هذه المسألة خصوصًا (2). وكان دافع السبكي - رحمه الله - في هذا الحماس (خوفًا على محفوظ الأنساب، ومحظوظ الأحسابِ؛ لِمَا كانت تؤدي إليه هذه العظيمة، وتَستولي عليه هذه المصيبة العميمة) (3)، وهذا الظنُّ بمثله في كبير علمه وديانته (4). وقد كتب في الرد على ابن تيمية في هذه المسألة ستة ردود (5)، هي كالتالي: _________ (1) انظر: العقود الدرية (ص 393 فما بعدها). (2) قال النعمان الآلوسي في جلاء العينين (ص 31): (إن أكثر المنتقدين من المعاصرين وأشدهم في الوقوع فيه: الإمام السبكي). (3) كما ذكر ذلك ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار (5/ 744). (4) انظر: المعجم المختص (ص 166)، أعيان العصر (3/ 417)، مرآة الجنان (4/ 225)، البداية والنهاية (18/ 410)، بغية الوعاة (2/ 176). (5) وربما تعقَّبه بأكثر من ذلك، لكن هذا ما وقفتُ عليه.

(المقدمة/19)


الردُّ الأول: وهو ردٌّ مختصر أسماه (رافع الشقاق في مسألة الطلاق). الردُّ الثاني: وهو ردٌّ موسَّعٌ أسماه (التحقيق في مسألة التعليق)، وقد ذكر هذا الردّ والذي قبله التاج السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى (10/ 308). ويظهر أنَّ (رافع الشقاق) ألَّفه التقي أولًا، ثم بسط الاعتراض على ابن تيمية في كتابه (التحقيق)؛ كما أشار إلى ذلك ابن تيمية في ردِّه هذا بقوله (ص 593): (ولكن ــ والله أعلم ــ كان قد اعترض أولًا اعتراضًا مختصرًا ذكر فيه هذا الكلام، ثم بسط الاعتراض بما تقدم ذكره له أولًا؛ فلهذا تكرر هذا منه)، وقال في (ص 709): (ولما لم يكن الكلام فيه ــ أي: في الفتوى المعترض عليها ــ مستوفًى ظَنَّ هذا المعترض وأمثاله أَنَّ هذا هو غاية ما في المسألة من النقل والبحث، فَطَمِعَ مثل هؤلاء في رَدِّ ذلك، وإِنْ كانوا مع قلته لم يردوه بحق، فلمَّا انتشر الكلام فيها وظهر لهم بعد هذا من النقل والدليل ما لم يكن في هذا الجواب = تكعكع مَنْ كان يتحدى بما عنده من العلم والبيان، وكتموا ما كانوا كتبوه في حكم هذه الأيمان، وبلغني أَنَّ المعترض لَمَّا رأى بعض ما ذُكِرَ ــ غَيْرَ الجواب المختصر ــ بَسَطَ هذا الاعتراض هذا البسط؛ ولهذا وقع فيه ما وقع من التكرار، وأنه لما رأى ما هو أبلغ من ذلك استعفى عن معاودة الاعتراض). الردُّ الثالث: وهو كتابةٌ مختصرةٌ جدًّا، ليست كحال الردود، انتخبها السبكي من كتابه (التحقيق)، وجعلها في مقاصد خمسة (1). _________ (1) نشرت مصورتها ضمن مخطوطات الأزهر على الشبكة المعلوماتية.

(المقدمة/20)


وهذه الردود الثلاثة السابقة على فتوى واحدة لابن تيمية (1). الردُّ الرابع: (الدُّرَّةُ المضيَّة في الرد على ابن تيمية). الردُّ الخامس: مؤاخذات تقي الدين السبكي على رسالة ابن تيمية (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق)، انتهى من تأليفها بكرة نهار الأربعاء عشري شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبعمائة. الردُّ السادس: النظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلَّق (2)، وهذه الرسالة ليست ردًّا على فتوى معيَّنة، كتبها ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من محرم سنة خمسٍ وعشرين وسبعمائة. وهذه الردود تُبيِّن حجم المسألة التي وقعَ فيها النزاع، ومدى الجهد الذي بَذَلَه السبكي في تتبع فتاوى ابن تيمية والردِّ عليها؛ فقد (جَرَّدَ سيفه، وأَرْهَفَ ذُبَابَيهِ، وردَّ القِرْنَ وهو ألدُّ خَصيم، وشدَّ عليه وهو يَشُدُّ على غيرِ هَزيم، وقابَلَهُ وهو الشمس التي تُعْشِي الأبصار، وقاتلَهُ ــ وكم جَهِدَ ــ ما يَثْبُتُ البطلُ لعليٍّ وفي يَدِهِ ذو الفَقار) (3). وكان السبكي يحتفي بردِّه على ابن تيمية في مسألة تعليق الطلاق، فقد أَنشدَ لنفسهِ أبياتًا ذكر فيها ردَّ ابن تيمية على ابنِ المطهِّر الرافضي وما عابه _________ (1) هي المنشورة في مجموع الفتاوى (33/ 187). (2) سيأتي وصف هذه الكتب، والإشارة إلى ما طبع منها وما لم يطبع. (3) كذا وصف ابن فضل الله العمري ردود السبكي على ابن تيمية في مسألة الطلاق والمنع من شدِّ الرحل (5/ 745).

(المقدمة/21)


عليه، ثم قال عن ابن تيمية (1): لو كانَ حيًّا يَرَى قولي ويفهمُهُ ... رددتُ ما قال أَقْفُو إِثْرَ سَبْسَبِهِ كما رددتُ عليه في الطلاقِ وفي ... تَرْكِ الزيارةِ ردًّا غيرَ مشتبِهِ وبعدَه لا أرى للردِّ فائدةً ... هذا وجوهرُهُ مما أَضِنُّ بِه وأهمُّ ردوده وأقواها وأطولها هو ردُّه المسمى بِـ (التحقيق)، فقد صار عمدةً يُحيل عليه في بعض كتبه الأخرى، كما فعل في مؤاخذاته على رسالة (الاجتماع والافتراق) لابن تيمية (2)، وانتخب منه وريقات كما تقدم في الرد الثالث. وقال التاج السبكي عن ردِّ والده المسمَّى (التحقيق) (3): (وقد أطال الشيخ الإمام الوالد الكلام على هذا، وحَرَّرَ مخالفته للإجماع في كتابه الرد على ابن تيمية في مسألة الطلاق كتاب (التحقيق) الذي هو مِنْ أَجَلِّ تصانيفِ الشيخِ الإمامِ)، كما أثنى على ردِّه هذا خصوصًا غير واحدٍ ــ كما تقدم ــ منهم منازعه ابن تيمية (4). وقد دوَّن السبكي في ردِّه هذا بعض العبارات التي لا تخلو من اتهام _________ (1) انظر: طبقات الشافعية الكبرى (10/ 176 - 177). وقد تعقَّب قصيدة السبكي هذه كلٌّ من: يوسف بن محمد السُّرَّمُرِّي الحنبلي، ومحمد بن جمال الدين الشافعي؛ وستأتي الإشارة إليهما في (ص 56 - 57). (2) فتاوى السبكي (2/ 272). وقد أشار له في الدُّرَّة المضية (ص 15، 41) دون تصريح باسم كتابه. (3) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 65). (4) انظر (ص 7 - 8) من هذه المقدمة.

(المقدمة/22)


ودخولٍ في النيات من مثل ما قاله بعد نَقْلِهِ فتاوى لابن عبد السلام تُخالف ما نَسَبَهُ إليه ابن تيمية: ( ... فمن كان هذا كلامَهُ؛ كيف ينقلُ عنه أنه كان يُفتي بعدم وقوع الطلاق؟! ولا يَحلُّ لمسلمٍ ــ فضلًا عن فقيهٍ [ ... يُنَصِّبُ] (1) نفسه منصب الإمامة أَنْ يَعتمد في دين الله ــ تعالى ــ على مثل هذه التُّرهات الباطلة، ولا أنْ يَكتفي في نقلِ الأحكام الشرعية (2) بكلِّ ما بلغه، فكفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكل ما سمع (3)؛ ولهذا يقال: لا يكونُ إمامًا مَنْ حَدَّثَ بكلِّ ما سمع، وليس ابن تيمية ممن يَخفى عليه مثل هذا، ولكنه لَمَّا رَأَى أمرًا شُغِفَ بِنُصْرَتِهِ والإكثار مما يَستند إليه من حقٍّ وباطلٍ؛ لِيَنْفُقَ ذلك عند الضَّعَفَةِ وَمَنْ لا تمييز له؛ حتى يقع في أنفسهم أنَّ هذه المسألة من مسائل الخلاف ... ) (4). وهذا يُشير إلى الحماس الشديد الذي بلغ بالسبكي في إنكار هذا القول على ابن تيمية، وقد بيَّنَه هو في رسالته التي أرسلها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ إنْ صحَّت عنه ــ حيث قال فيها: ( ... ثم عاد إلى الشام ــ أي: ابن تيمية ــ، ثم بلغنا كلامه في الطلاق، وأنَّ مَنْ علَّق الطلاق على قصد اليمين ثم حنث لا يقع عليه طلاق، ورددت عليه في ذلك ... لكن الطلاق والزيارة أنا شديد _________ (1) هكذا قرأتها. (2) كررها الناسخ. (3) أخرج أبو داود في سننه (4994) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: «كفى بالمرء إثمًا أنْ يُحدِّث بكلِّ ما سمع» وقال: ولم يذكر حفصٌ أبا هريرة. ثم قال: ولم يسنده إلا هذا الشيخ يعني علي بن حفص المدائني. وقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه (برقم 5) عن حفص بن عاصم مرفوعًا «كفى بالمرء كذبًا أَنْ يُحدِّثَ بكلِّ ما سمع» ثم ساق إسناده من طريق علي بن حفص بذكر أبي هريرة مرفوعًا. وصححه ابن حبان (برقم 30). (4) التحقيق في مسألة التعليق (11 / أ)، وانظر: (26 / أ).

(المقدمة/23)


الإنكار لقول ابن تيمية فيهما ظاهرًا وباطنًا) (1). وقد آل الأمر بالسبكي إلى استصدار مرسومٍ سُلطاني (بأنَّ كُلَّ مَنْ كان مِن أصحاب ابن تيمية لا يُولَّى حكمًا، ولا سائر الوظائف الدينية، وعُزِلَ بسبب ذلك جماعةٌ في الشام كانوا يَنتحلونه من الحُكْم ومن المدارس التي كانت بأيديهم) (2). وكان السبكي يتألم ويتأذى من القاضي ابن بُخَيخ الحنبلي ــ أحد تلاميذ ابن تيمية ــ حيث كان يقول برأي شيخِهِ في المسائل التي انفرد بها، ويحكم بها، فلا يُنفِّذ السبكي ــ وهو قاضي القضاة آنذاك ــ ما حَكَمَ به ولا ما رآه! (3). ومثله ما حدث بينه وبين ابن القيم، فقد كان ابن القيم (متصديًا للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وجرت له بسببها فصولٌ يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره) (4)، حتى _________ (1) انظرها وتعليق الآلوسي عليها في غاية الأماني (1/ 337). (2) من مجموع بخطِّ تقي الدين السبكي (الورقة 91). نقله الباحث الفاضل أبو الفضل القونوي في مقدمة تحقيقه كتاب الذهبي بيان زغل العلم (ص 40). (3) أعيان العصر للصفدي (3/ 630). وقد كتب هذا السبكي في مجموعٍ بخطِّ يده (الورقة 91) حيث قال: ( ... ومنه ما اشتهر عند الخاصِّ والعامِّ من انتحاله أقوالَ ابن تيمية في كلِّ شيء، ووقوفِهِ عندها، وتمسُّكِهِ بها، وحكمه بها، سواء أكانت مذهبًا أم لا، هذا في الأحكام الفرعية، دَعْ ذكر الاعتقادات التي يَتَّبِعُهُ فيها، وما يقال نسأل الله العافية والسلامة). نقله الباحث الفاضل أبو الفضل القونوي في مقدمة تحقيقه كتاب الذهبي بيان زغل العلم (ص 64). (4) ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية (18/ 524).

(المقدمة/24)


أصلح بينهما الأمير سيف الدين بن فضل (1). وقد حصل لابن كثير - رحمه الله - امتحان وإيذاء بسبب إفتائه برأي ابن تيمية في مسألة الطلاق، ولم يتبيَّن لي ممن كان هذا الإيذاء والامتحان، وإنْ كان يغلب على الظنِّ أنَّ السبكي طرفٌ في الموضوع، فهو قاضي القضاة في زمانه، وله حوادث مع غير ابن كثير (2). وهذا من جانب السبكي يُعتبر موقفًا متصلِّبًا في مقابل غيره من العلماء ممن لم يوافق ابن تيمية على ما ذهب إليه إلا أنهم اعتذروا لابن تيمية، واعتبروا أنَّ المسألة لا تَحتمل هذه المفاصلة الشديدة؛ وهذا شيءٌ مما سطرته أقلامهم (3): قال الذهبي في ذيل تاريخ الإسلام (ص 270 من الجامع): (وإنْ أنتَ عذرت الأئمة في معضلاتهم، ولا تَعذر ابن تيمية في مفرداته؛ فقد أقررت على نفسك بالهوى وعدم الإنصاف! لا يُؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا مِنْ قِلَّةِ علم، فإنه بحرٌ زخَّار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين، فلو كان كذلك، لكان أسرع شيءٍ إلى مداهنةِ خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم. _________ (1) البداية والنهاية (18/ 517). (2) طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (3/ 86)، ونقله ابن العماد في شذرات الذهب (6/ 230). (3) النصوص المنقولة كثيرة، اخترت منها بعض أقوال مَنْ لا يُوافق الشيخ على فتواه هذه، مع الإنصاف والعدل.

(المقدمة/25)


ولا هو يَتفرَّد بمسائل بالتشهي، ولا يُفتي بما اتفق، بل مسائله المفردة يَحتجُّ لها بالقرآن أو بالحديث أو بالقياس، ويبرهنها ويُناظر عليها، ويَنقل فيها الخلاف، ويطيل البحث؛ أُسْوَةَ مَنْ تقدَّمَهُ من الأئمة؛ فإنْ كان أخطأ فيها؛ فله أجر المجتهد من العلماء، وإنْ كان قد أصاب فله أجران). وقال شيخ الإسلام صالح بن عمر البُلقيني الشافعي في تقريظه للرد الوافر (ص 276): (نعم؛ قد نُسب الشيخ تقي الدين ابن تيمية لأشياء أَنكرها عليه معاصروه، وانتصب للردِّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في مسألتي الزيارة والطلاق ... وكلُّ أحدٍ يؤخذ من قولهِ ويترك، إلا صاحب هذا القبر ــ يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ، والسعيد من عُدَّت غَلَطَاتُهُ، وانحصرت سَقَطَاتُهُ. ثم إنَّ الظنَّ بالشيخ تقي الدين أنه لم يَصدر منه ذلك تهورًا وعدوانًا ــ حاشا لله ــ، بل لعله لرأي رآه، وأقام عليه برهانًا). وقال الشيخ زين الدين عبد الرحمن التَفَهْنِي الحنفي في تقريظه للردِّ الوافر (ص 282): (وإنما قام عليه بعض العلماء في مسألتي: الزيارة والطلاق، وقضيته وقضية مَنْ قامَ عليه مشهورة، والمسألتان المذكورتان ليستا من أصول الأديان، وإنما هما من فروع الشريعة التي أجمع العلماء على أنَّ المخطئ فيها مجتهد يُثاب، لا يكفر ولا يفسق. والشيخ كان يتكلم في المسألتين بطريق الاجتهاد، وقد ناظره مَنْ أنكر عليه فيهما مناظرة مشهورة، بأدلةٍ يَحتاج مَنْ عارضه فيها إلى التأويل، وهذا ليس بعيب؛ فإنَّ المجتهد تارة يُخطئ وتارة يُصيب، وهو مثاب على اجتهاده وإنْ كان مخطئًا).

(المقدمة/26)


وقال الشيخ بدر الدين العيني الحنفي في تقريظه للرد الوافر (ص 288): (ولم يكن بحثُهُ فيما صَدَرَ عنه في مسألتي الزيارة والطلاق إلا عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالتين مأجور مثاب، وليس فيه شيء مما يُلام أو يُعاب ... ). ونقل النعمان الآلوسي في جلاء العينين (ص 30) عن والده ــ صاحب تفسير روح المعاني ــ أنه ذكر في رحلته المُعَنْوَنَةِ بِـ (نزهة الألباب) لمن ذَكَرَ له بأنَّ ابن تيمية له مخالفات للأئمة الأربعة في بعض المسائل الفقهية. قال: (شبهته في تلك المخالفة بحسب الظاهر قويَّة، وله في بعض ذلك سلف، كما يَعرفه مَنْ تتبَّعَ المذاهب ووقف. ثم ذكر بأنَّ شيخًا لوالده رأى ترجمةً لابن تيمية، فقال: قد ذَمَّهُ السُّبكي. فقال: كم من جليلٍ غَدَا مِنْ ذمِّ عصريه يَبكي؛ فآهٍ من أكثر المعاصرين، فهم بأيدي ظلمهم لحباب القلب عاصرين). موقف ابن تيمية من مسألة تعليق الطلاق: عاش ابن تيمية ونَشَأَ في بيتٍ حنبلي، ودرس على كبار فقهاء الحنابلة من أهل بيته وغيرهم، ثم درَّس في المدارس الحنبلية، وكانَ يُقرر المسائل وفقَ مذهبه، ثم ترقَّى في درجات العلم حتى صار يفتي بما يقوم الدليل عليه عنده دون التزام بمذهب معيَّن (1)، مع معرفته التامة بالمذاهب الأربعة، بل ومعرفةٍ بمذاهب السلف وما حدث بعدهم من الخلف (2). _________ (1) انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 758). (2) انظر: أعيان العصر للصفدي (ص 348 من الجامع).

(المقدمة/27)


ومسألة تعليق الطلاق كأيِّ مسألةٍ من مسائل الفقه التي يقررها شيخ الإسلام ابن تيمية، مرَّت بمراحل في حياته - رحمه الله -: المرحلة الأولى: في أول حياته حيث كان يُفتي بأنَّ الطلاق المعلَّق يقع عند وجود الشرط، كما هو مذهبه الذي تربَّى في مدارسه وعلى مشايخه (1). المرحلة الثانية: بحث المسألة بتتبع المرويات، وكتب الخلاف، والتحقق من الإجماعات المنقولة، والنظر في الأدلة والمقاصد الشرعية ... انتهت به إلى تبنِّي القول بالتفريق بين الطلاق المعلَّق المقصود به الحث أو المنع وبين غيره، لكن مع ذلك لم يكن يُفتي بها ولا يُشهرها، ربما كان هذا لإكمال التأمل والنظر فيها ومناقشتها مع علماء زمانه، وقد استمر هذا التأمل والنظر عشرين عامًا حتى بدأ يُفتي بهذه المسألة ويُشْهِرُ قولَهُ فيها! قال السبكي في التحقيق (26 / أ): (فإنه بلغني أنَّ له في هذه المسألة أكثر من عشرين سنةً قبل أَنْ يُظهرها (2)). المرحلة الثالثة: هي مرحلة الإعلان برأيه في المسألة وإشهاره والإفتاء _________ (1) قال ابن تيمية في ردَّه على السبكي (ص 451): (فإنَّ المجيب ــ أي: ابن تيمية ــ لم يكن هذا القول مما تَرَبَّى عليه، ولا له فيه غرض يميلُ لأجلِهِ إليه، بل كان يعتقد خلافه ويفتي دائمًا بخلافه، لكن لما نظر ورأى الحق لم يجز له أن يقول خلاف ما تبين له، والله سبحانه وتعالى يعلمُ وعبادُهُ المؤمنون الذين هم شهداء الله في الأرض أنه لم يَمِلْ إلى قولٍ إلا قصدًا لاتباع الحق الذي بعث به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جهة قيام الحجة به، وإيجاب الله ورسوله عليه ألا يقول على الله إلا الحق، وأَنْ يَرُدَّ ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول). (2) في التحقيق: (أظهرها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(المقدمة/28)


به، واستمرَّ على ذلك عِدَّةَ أشهرٍ (1)، حتى انتشرت فتاواه في مسألة تعليق الطلاق في الآفاق واطلع عليها أهل العلم في زمانه وتداولوها. المرحلة الرابعة: كَثُرَ اللغط على ابن تيمية والقيل والقال، فنصحه بعض المحبين بترك الإفتاء فيها فامتثل هذه النصيحة (2). وفي هذه الفترة ورد الأمر السلطاني بمنع ابن تيمية من الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، والأمر بعقد مجلس له في ذلك، فَعُقِدَ مجلس بدار السعادة، وانتهى على ما أمر به السلطان، ونودي بذلك في البلد. المرحلة الخامسة: العودةُ إلى الإفتاء في المسألة، وكان يقول: لا يَسَعُنِي كتمان العلم! واستمر على ذلك حتى ورد الأمر من السلطان فيما يتعلق بعودة الشيخ إلى الإفتاء في هذه المسألة، فأُحضر مع جمعٍ من القضاة والفقهاء وعُوتب على فتياه بعد المنع، وأُكِّدَ عليه المنع من ذلك. والذي يَظهر أنَّ الشيخ استمر على إفتائه، ومثله كان طلاَّبُهُ؛ فإنَّ الذهبي (3) أشار إلى أنَّ تلاميذ ابن تيمية بقوا على الإفتاء بها خُفْيَةً. المرحلة السادسة: الأمر بسجنه وكان هذا في يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب سنة عشرين وسبعمائة، واستمر مسجونًا خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، حيث ورد المرسوم السلطاني بإخراجه، فأُخرج يوم _________ (1) تحديد المُدَّة مستفاد من كلام الذهبي في تاريخ الإسلام (7/ 165). (2) انظر: العقود الدُّرِّيَّة (ص 393). وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (7/ 165): (ثم حَرَّم الفتاوى على نفسه من أجلِ تكلُّمِ الفقهاء في عِرْضِهِ). (3) في ذيل العبر في خبر مَنْ غَبَر (4/ 52).

(المقدمة/29)


الاثنين الموافق ليوم عاشوراء من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة. المرحلة السابعة: الاستمرار في الإفتاء بها إلى أَنْ (صار إلى ربه، وهو مقيمٌ عليها، داعٍ إليها، مباهلٌ لمنازعيه، باذلٌ نَفْسَهُ وعِرْضَهُ وأوقاتَهُ لمستفتيه؛ فكان يُفتي في الساعةِ الواحدةِ فيها بقلمِهِ ولسانِهِ أكثرَ من أربعين فتيا) (1). وهذا الرأي الذي اختاره ابن تيمية ونافحَ مِنْ أجلِهِ، وصَبَرَ على الامتحان، وكلام الفقهاء في عرضه =لم يكن من بادئ الرأي الذي قد يتراجع عنه المفتي سريعًا، فليس هذا القول مما تربَّى عليه، ولا له فيه غرض يَميل فيه لأجله، لكنه نتيجة تأملٍ طويلٍ أعلنه بعد عشرين عامًا، ثم صار يُفتي به بلسانه وقلمه، وحسب ابن تيمية في هذه المسألة وغيرها أنه تكلَّم (في مسائل كبار لا تحتملها عقول أبناء زمانه ولا علومهم) (2)، وإلا فليس هو ممن يتسرَّع في الإفتاء حتى يمحِّص الأدلة ويستفرغ الوسع في البحث _________ (1) إعلام الموقِّعين (5/ 540). وهذا العدد الضخم من الإفتاء بهذه المسألة حصل للشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في مسائل الطلاق عمومًا؛ كما ذكر ذلك الشيخ محمد الموسى في كتابه (جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز) (ص 293) حيث قال: (ولقد جمعتُ فتاوى الطلاق الصادرة بتوقيع سماحته، وبلغت سبعًا وعشرين ألف فتوى طلاق تقريبًا؛ هذا زيادةً على فتاواه التي لم تُسجَّل، كفتاواه لمَّا كانَ قاضيًا في الدلم، وفتاواه قبل ذهابه للجامعة الإسلامية، وفتاواه الشفوية، أو الخاصة التي لم تُسجَّل!)، وهذه حصيلة أكثر من ستين سنة من الإفتاء في الطلاق (ص 288). (2) قاله الذهبي في الدرة اليتيمية (ص 47 تكملة الجامع)، وعنه أخذها ابن الوردي كما في تتمة المختصر في أخبار البشر (ص 336 الجامع). وفي تاريخ ابن الوردي (2/ 259) تفصيل أطول.

(المقدمة/30)


والنظر بعد اللجأ إلى الله (1)، فإذا ما لاحَ له وجه الصواب الذي لا يجوز له مخالفته قال به وأفتى، ولو أدَّى ذلك إلى سجنه وعقوبته (2). وهذا دأبه فيما يحتاجه الناس وتبيَّن له فيه الحقّ، كما قال بعد بحثٍ طويلٍ في مسألة طواف الحائض (3): (هذا هو الذي توجَّه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها علمًا وعملًا لما تجشمت الكلام حيث لم أجد فيها كلامًا لغيري؛ فإنَّ الاجتهاد عند الضرورة مما أمرنا الله به، فإنْ يكن ما قلته صوابًا فهو حكم الله ورسوله والحمد لله، وإنْ يكن ما قلته خطأً فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان من الخطأ، وإن كان المخطئ معفوًا عنه .. ). فابن تيمية له رؤيته المغايرة لرؤية السبكي في هذه المسألة، فالقول بوقوع الطلاق المعلَّق أدَّى إلى قيام سوق المحلِّلين الملعونين (4)، ووقوع _________ (1) ومن أمثلة ذلك: ما قاله في تفسير آيات أشكلت (2/ 597): «قد تدبَّرت الربا مراتٍ، عودًا على بدءٍ، وما فيه من النصوص والمعاني والآثار؛ فتبيَّن لي ــ ولا حول ولا قوة إلا بالله بعد استخارة الله ــ أنَّ أصل الربا هو النسأ ... » إلخ. (2) فقد قال بعد أنْ عاد إلى الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق بعد مَنعِهِ: (لا يَسَعُنِي كتمان العلم). العقود الدرية (ص 394). (3) مجموع الفتاوى (26/ 241). (4) يَصِفُ ابن القيم في إعلام الموقعين (5/ 540) طرفًا منها بقوله: (فَعُطِّلَت لفتاواه مصانعُ التحليل، وهُدِّمَت صوامعه وبِيَعُهُ، وكسدت سوقه، وتقشَّعت سحائب اللعنة على المحلِّلين والمحلَّل لهم من المطلِّقين، وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وَخَرَجَ من حَبْسِ تقليد المذهب المعيَّن به مَنْ كَرُمَتْ عليه نفسُهُ من المستبصرين).

(المقدمة/31)


الحرج والمشقة لكثيرٍ من الناس؛ فمنهم مَنْ يُفارق امرأته مع كراهته مفارقتها، ومنهم مَنْ يرغب في امرأته ولا يرى طريقًا إلا التحليل فيلجأ إليه مع كراهته له، ومنهم مَنْ يكره فراق امرأته ويكره التحليل فيقيم مع امرأته حسب اعتقاده أهونُ عليه من فراقها أو الوقوع في التحليل (1). والمسألة في نظر ابن تيمية من المسائل الخلافية (2)، وأنه ما زال في المسلمين مَنْ يُفتي بعدم وقوع الطلاق المعلَّق من حين حَدَثَ الحلف بها وإلى هذه الأزمنة (3)، وأنَّ هذه المسائل من المسائل الاجتهادية؛ المجتهد فيها ما بين أجرٍ وأجرين (4)، كما أنَّ الفتيا والقضاء بها سائغ (5)، بل إنَّه ينقل اتفاق الأئمة الأربعة على عدم جواز نقضِ حكمِ مَنْ حَكَمَ بعدم الوقوع (6)؛ _________ (1) انظر ما ذكره في (ص 32). (2) قال أبو الوليد الأزدي في المفيد للحكام (4/ 98): (وسئل الفقيه القاضي أبو الفضل ابن النحوي - رحمه الله - عن مسألة الأيمان اللازمة. فأجاب بأنْ قال: المسألة خلافية مظنونةٌ، ومن رحمة الله على الخَلْق أَنْ المسائل المظنونة التي أدركتها آراء الأئمة لم يَقِفِ الله ــ تعالى ــ على الخطأ فيها أحدًا؛ إما مصيرًا إلى أنَّ الحقَّ في واحدٍ، وإما مصيرًا إلى أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيب، ولكن استأثر الله بتعيينه تكليف المجتهدين للتحويم حولَهُ؛ فمن أصاب فله أجران: أجرُ الاجتهاد وأجرُ الإصابة، ومَنْ أخطأ فله أجر الاجتهاد، الذي هو استفراغ الوسع في طلب الحادثة). (3) مجموع الفتاوى (33/ 135). (4) مجموع الفتاوى (33/ 148 - 149). (5) مجموع الفتاوى (33/ 133، 135، 139، 148 - 149). (6) مجموع الفتاوى (33/ 134 - 135).

(المقدمة/32)


فالمجتهدون يُقَرُّونَ إذا عُدِمَت النصوص (1). وهو يرى أنَّ مِنْ (آيات ما بَعَثَ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا ذُكِرَ مع غيره على الوجه المبيّن ظهر النور والهدى على ما بُعِثَ به، وعلم أنَّ القول الآخر دونه)، و (ما تنازع المسلمون فيه من مسائل الطلاق فإنك تجد الأقوال فيه ثلاثة: قولٌ فيه آصارٌ وأغلالٌ، وقولٌ فيه خداعٌ واحتيالٌ، وقولٌ فيه علمٌ واعتدالٌ) (2). وكان حاصل ما ردَّ به عليه معترضوه ــ كما ذكر ابن القيم في إعلام الموقِّعين (3/ 363) ــ: (أربعة أشياء: أحدها: ــ وهو عمدةُ القوم ــ أنه خلاف مرسوم السلطان. والثاني: أنه خلاف الأئمة الأربعة (3). والثالث: أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله: (إِنْ أبرأتني فأنتِ طالق) فَفَعَلَتْ (4). _________ (1) جامع المسائل (6/ 305). (2) مجموع الفتاوى (33/ 42 ــ 43). (3) بل حكى السبكي الإجماع في هذه المسألة نقلًا عن غيره؛ إلا أنَّ ابن تيمية بيَّن أنه لا إجماع في المسألة، وابن تيمية ممن يعتني بمسألة تمحيص الإجماعات لكثرة ما يقع فيها من الخطأ، وفي الوقت ذاته يكثر من بيان أنَّه ليس لأحدٍ أنْ يقول قولًا لم يُسبق إليه. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 396) (19/ 268 - 269) (21/ 291)، جامع المسائل (6/ 401، 403) (8/ 442)، الصفدية (1/ 287)، المسائل والأجوبة (ص 55)، رفع الملام (ص 32)، الإخنائية (ص 458)، بغية المرتاد (ص 392). (4) انظر: مجموع الفتاوى (33/ 56).

(المقدمة/33)


والرابع: أَنَّ العمل قد استمر على خلاف هذا القول، فلا يُلْتَفَتُ إليه (1)). وربما أشار بعضهم إلى أنَّ الاحتياط في هذه المسألة هو بالأخذ بقول الجمهور إلا أنَّ لابن تيمية نظرته الفاحصة في القول بالاحتياط؛ فالاحتياط في الجملة مشروعٌ عنده فيما يمكن فيه الخروج من الخلاف (2)، (والاحتياط أحسن ما لم يُفْضِ بصاحبه إلى مخالفة السُّنَّة، فإذا أفضى إلى ذلك؛ فالاحتياط تَرْكُ هذا الاحتياط) (3)، و (الاحتياط ... ليس مشروعًا في تحليل ما كان محرمًا بيقين، وهذه المرأة محرمة على الأجانب بيقين؛ فمن أوقع الطلاق بها مع الشك فقد أَحَلَّ الحرام بالشك، وهذا لا يجوز بالاتفاق، وأما إذا أمر بالتكفير مع الشك فليس فيه إلا أمر بعبادة يشك في وجوبها، ولا ريب أَنَّ مَنْ شَكَّ في عبادة عليه فاحتاط بأدائها كان محسنًا، وإذا أمره الآمر بأن يحتاط لنفسه فيؤدي ما يشك في وجوبه كان محسنًا في ذلك لم يكن هذا بمنزلة من يحرم المرأة عليه ويحلها للأجنبي بالشك، فإنه لا يقدر أحد أن يقيم حجة على وقوع الطلاق المحلوف به) (4). _________ (1) وقد قال بمثل ما اختاره ابن تيمية جماعات من العلماء قبل ابن تيمية وفي عصره كذلك. (2) مجموع الفتاوى (5/ 81) (10/ 512) (20/ 262) (21/ 23، 56، 521) (23/ 267، 376، 390) (25/ 100، 110، 124، 229) (26/ 54، 124) (35/ 223)، الفتاوى الكبرى (2/ 287، 318) (6/ 253)، جامع الرسائل (2/ 141)، المسائل والأجوبة (ص 135)، شرح كتاب الطهارة من العمدة (1/ 484). (3) المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 41). (4) الرد على السبكي (ص 172).

(المقدمة/34)


وفي الجملة فقد أقام ابن تيمية نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول (1)، (ولم يكن مع خصومه ما يَرُدُّونَ به عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له بِرَدِّ هذه الحجة قِبَل، وأما ما سواها فبيَّنَ فسادَ جميع حججهم، ونقضها أبلغ نقض) (2). والمسألة لا زالت جديرةً بالبحث والبسط (ليختار العاقل ما يُوجب الإنصاف، ويختار جوابًا يقدم به على ربِّ العباد، ولا يختار شيئًا حميَّةً ورياءً؛ فإنَّ الدنيا مفروغٌ منها، وهي زائلةٌ؛ فيتخذ لنفسِهِ ما يَصلحُ لِرَمْسِهِ، وليتخذ جوابًا يقف به بين يدي الله ــ عزو جل ــ حين يقف حاسرًا عُريانًا مكشوف الرأس حيران؛ فالدنيا جميعها لا تُساوي فلسًا، وليُنْصِفْ حيث يحق الإنصاف، ولا يَقل في المسائل باجتهاد نفسِهِ؛ فإنَّ العلماء رعاةٌ على دين الله، والراعي مسئول عن رعيته، فإنه إذا أبصر يوم القيامة ــ يوم الحسرة والندامة ــ الأهوال والأمور وديوانه = اِتَّبَعَ الحق، وخلَّى الفجور؛ ولست أقول هذا في هذه المسألة، بل في جميع المسائل؛ والحذرَ كُلَّ الحَذرِ من أنْ يُبيح ما حُرِّمَ، أو يُحرم ما حلل، أو يتكلم في صفات الله بغير علم، أو يقول ما يَخرج به عن الإسلام) (3). * * * * _________ (1) قاله ابن القيم في إعلام الموقِّعين (3/ 363). (2) إعلام الموقِّعين (5/ 540). (3) خاتمة كتاب (سير الحاث) لابن المبرد (ص 219).

(المقدمة/35)


 الفصل الثاني المؤلفات في مسألة تعليق الطلاق

اعتنى العلماء ــ رحمهم الله ــ بذكر مسألة تعليق الطلاق ضمن مصنفاتهم الفقهية والحديثية، إلا أنَّ التصنيف المفرد فيها ما زال قليلًا، فحاولتُ جمع ما أستطيع من شتات هذه الكتابات من فهارس المخطوطات ومواقع المكتبات العامة والكتب المطبوعة. وقسَّمت ما وقفتُ عليه إلى ثلاث مجموعات في ثلاث مباحث؛ هي كالتالي:

  المبحث الأول: مؤلفات ورسائل وفتاوى ابن تيمية:

كَتَبَ ابن تيمية في هذه المسألة شيئًا كثيرًا ما بين فتوى ورسالة وجواب على اعتراض؛ جاء بيان ذلك في قوله: (وقد بسطتُ أقوال العلماء في هذه المسائل وألفاظهم، ومَنْ نَقَلَ ذلك عنهم، والكتب الموجود ذلك فيها، والأدلة على هذه الأقوال في مواضع أُخَر تبلغ عِدَّةَ مجلدات) (1)، وقال ابن القيم في إعلام الموقِّعين (5/ 540): (وصنَّف في المسألة ما بين مطوَّل ومختصر ما يُقارب ألفي ورقة). فإحصاء كتابات الشيخ - رحمه الله - في هذا الباب متعذِّر، لكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق؛ وإليك بيان ما وقفتُ عليه منها: 1 ــ الاجتماع والافتراق في الحلف بالطلاق (2)، صححها وعَلَّق عليها: _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 132)، ومختصر الفتاوى المصرية (ص 438). (2) وقد كتب الشيخ علي بن محمد العمران ــ وفقه الله ــ تعريفًا بهذه الرسالة وبمخطوطتها النفيسة، نَشَرَهُ في مجلة الدارة (1/ 37/57)، وفي مواقع الشبكة المعلوماتية بعنوان: التعريف بمخطوطة نفيسة لرسالة (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق) لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم طَبَعَهُ ضمن كتابه (بحوث ومقالات في العلم والتراث) نشر دار الوعي (ص 17 - 39).

(المقدمة/36)


محمد بن أحمد سيد أحمد، طبع في مكتبة السَّوَادي للتوزيع (1). 2 ــ لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف، طبعت ضمن مجموع الفتاوى (33/ 57)، ومستقلةً بتحقيق عبد العزيز بن أحمد الجزائري في دار الراية للنشر والتوزيع (2). 3 ــ القاعدة الخامسة من كتاب القواعد الكلية (النورانية) (ص 444 ــ 541)، وهي قاعدة متعلقةٌ بالأيمان والنذور، وهذا الموضع من كتابات ابن تيمية يعطي تصورًا واضحًا لتقرير ابن تيمية مسائل الأيمان والنذور. 4 ــ مسألة في رجل قال لزوجته: عليَّ الطلاق ما تروحي لبيت أبوكِ (3) لسنةٍ ... إلى آخره؛ طبعت هذه الفتوى ضمن جامع المسائل (المجموعة _________ (1) كتبَ السبكي على هذه الرسالة بعض المؤاخذات، ستأتي الإشارة إليها ضمن المؤلفات في الرد على ابن تيمية. (2) ولها نسخٌ خطيةٌ عثرت عليها في بعض الفهارس؛ فمنها نسخة في مجاميع العمرية الظاهرية تحت رقم (72)، ونسختان ضمن مخطوطات جامعة أم القرى برقم (1/ 471، 660) ومصدر نسختي جامعة أم القرى مكتبة جامعة برنستون بأمريكا وهما برقم واحد (1377)، وقد ورد في معجم تاريخ التراث الإسلامي في مكتبات العالم ما يلي: نسخة بمكتبة الأوقاف العامة (5674/ 4) (13853) كتبت النسخة الأولى عام (1303)، والظاهرية برقم (72) كتبت النسخة عام (930). (3) علَّق المحقق: (كذا في الأصل بالرفع ملحونًا من السائل).

(المقدمة/37)


الرابعة / 303). 5 ــ مسألة في غلام حلفَ بالطلاق الثلاث أنه لم يخدم عند إنسان ... إلى آخره؛ طبعت هذه الفتوى ضمن جامع المسائل (المجموعة الرابعة / 311). 6 ــ مسألة فيمن حلف بالطلاق ألا يفعل شيئاً ثم أراد أن يفعله؛ طبعت هذه الفتوى ضمن جامع المسائل (المجموعة الرابعة / 331). 7 ــ مسألة في رجلٍ حلف بالطلاق ثم استثنى هُنَيهةً بقدر ما يمكن فيه الكلام؛ طبعت هذه الفتوى ضمن جامع المسائل (المجموعة الرابعة / 345)، وكذلك في الفتاوى العراقية (1/ 70). 8 ــ مسألة تسمى البغدادية (1)، تشتمل على مسائل متعلقة بالطلاق، ومنها مسألة الحلف بالطلاق؛ طبعت ضمن الفتاوى الكبرى (3/ 241)، _________ (1) كذا ورد تسميتها في الفتاوى العراقية، وقد ذكر د. علي الشبل في كتابه (الأثبات في مخطوطات الأئمة) (ص 223): من مخطوطات ابن تيمية: (المسألة البغدادية فيما يَحِلُّ ويحرم من الطلاق، في (31) ورقة، في القرن الحادي عشر الهجري، أصلية، في مركز المخطوطات بالكويت، 124/ 1، خط قديم)، ولم أقف عليها، فيحتمل أنها هذه. وقد ذكرها الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381)، والكتبي في فوات الوفيات (ص 395). وفي هذه المسألة ذكر الشيخ فيما يَتعلق بإيقاع الثلاث تعزيرًا: (وهذه المسائل عظيمة؛ وقد بسطنا الكلام عليها في موضعٍ آخر في أكثر من مجلدين، وإنما نَبَّهنا عليها هاهنا تنبيهًا لطيفًا)؛ فاللهم يسِّر العثور عليه.

(المقدمة/38)


والفتاوى العراقية (2/ 804)، وفرقها ابن قاسم في مجموع الفتاوى (33/ 75، 144، 215 وما بعدها). 9 ــ مسألةٌ في الفرق بين الطلاق الحلال والطلاق الحرام (1)؛ طبعت ضمن مجموع الفتاوى (33/ 5)، والفتاوى الكبرى (3/ 276)، والفتاوى العراقية (2/ 1094 إلى نهاية الكتاب) (2). 10 ــ فتوى في الطلاق الثلاث استطرد فيها إلى مسائل تتعلق بالطلاق والنذر المعلَّق بالشرط، والحلف بالعتاق أو الطلاق؛ طبعت هذه الفتوى ضمن مجموع الفتاوى (32/ 83)، والفتاوى الكبرى (3/ 207)، والفتاوى العراقية (2/ 750). 11 ــ مسألة في الرجل يَحلف بالطلاق على شيءٍ أنه لا يَفعله ثم يَفعله؛ هل يَلزمه الطلاق الثلاث؟؛ وهي ضمن مسائل أهل الرحبة، وقد طُبعت ضمن جامع المسائل (المجموعة السابعة / 15)، وكذلك ضمن مجموع طُبِعَ بتحقيق حسين عُكَّاشة، بدار الفاروق الحديثة للطباعة والنشر. 12 ــ فصلٌ: إذا قال الرجل: عليَّ الطلاق لأفعلنَّ كذا أو لا أفعله ... فهل يقع به طلاق؟، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 424). _________ (1) كذا عُنْوِنَ لها في الفتاوى الكبرى، ويَحتمل أنه من صنيع المحقق. وفي مجموع الفتاوى والفتاوى العراقية: فصلٌ مختصر فيما يَحلُّ من الطلاق ويحرم، وهل يَلزم المُحَرَّم أو لا يَلزم؟ ثم علق ابن قاسم عليها بقوله: تسمى «البغدادية» فيما يحل من الطلاق ويحرم. (2) توجد نسخة من الرسالة في معهد المخطوطات في باكو بأذربيجان، كما في منتخب مخطوطاته المطبوع (ص 44) ورقمه في المعهد (4156 - d)، ويوجد لها صورة في مركز جمعة الماجد برقم (563).

(المقدمة/39)


13 ــ فصلٌ: والألفاظ التي يَتكلم بها الناس في الطلاق ثلاثة أنواع ... ، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 427)، وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى (33/ 140)، والفتاوى الكبرى (3/ 311). 14 ــ فصلٌ: ومَنْ حَلَفَ على زوجته بالطلاق الثلاث لا تفعل كذا، ففعلت ... إلخ، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 524)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 35). 15 ــ فصلٌ: وإذا حَلَفَ بالطلاق الثلاث: أنَّ أَحدًا من أرحام المرأة لا يطلع على بيته ... ، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 528)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 39). 16 ــ فصلٌ: إذا حَلَفَ بالطلاق أو غيره: أنه لا يَدخل دار فلان ... ، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 533). 17 ــ فصلٌ: إذا حلف الرجل بالحرام، فقال: الحرام يلزمني لا أفعل كذا، والحلُّ عليَّ حرام لا أفعل كذا، وما يحل للمسلمين يحرم عليَّ إنْ فعلتُ كذا ونحو ذلك وله زوجة؛ ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف ... إلخ. طُبِع ضمن مجموع الفتاوى (33/ 74) (1)، والفتاوى الكبرى (3/ 226)، وقد نَقَلَ هذه الفتوى الآلوسي في جَلاء العينين (ص 257). 18 ــ الرد الكبير على من اعترض على ابن تيمية في مسألة الحلف بالطلاق، وهو كتابنا هذا (2). _________ (1) انظر تعليق الشيخ ناصر الفهد في صيانة مجموع الفتاوى (ص 239). (2) سيأتي وصف المخطوط والكلام عليه في الفصل الثاني: دراسة المخطوط.

(المقدمة/40)


19 ــ مؤاخذة ابن حزم في الإجماع؛ طُبِعَ عِدَّة طبعات باسم (نقد مراتب الإجماع) ملحقًا بمراتب الإجماع لابن حزم، وهو ضمن جامع المسائل (المجموعة الثالثة / 321 ــ 350). وقد علَّق ابن تيمية على كلام ابن حزم فيما يتعلق بالطلاق إذا خرج مخرج اليمين؛ أيلزم أم لا؟ 20 ــ في الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381). 21 ــ الفرق المبين بين الطلاق واليمين؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392) (1)، والكتبي في فوات الوفيات (ص 395)، كما ذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (ص 483) باسم (الفرقان بين الطلاق والأيمان) ووصفه بأنه في مجلد لطيف. 22 ــ الحلف بالطلاق من الأَيمان حقيقةً؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392). 23 ــ التحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381)، والكتبي في فوات الوفيات (ص 395)، كما ذكره ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392) ــ ووصفه بأنه قاعدة كبيرة نحو أربعين كراسة ــ، وابن رجب في ذيل الطبقات (ص 483) _________ (1) ووصفها بأنها قدر النصف من (تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان) والذي هو في أربعين كراسة.

(المقدمة/41)


باسم (تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان) ووصفه بأنه في مجلد كبير. 24 ــ مسائل الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381) (1)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 61) (2)، والكتبي في فوات الوفيات (ص 395). 25 ــ قاعدة في أنَّ جميع أيمان المسلمين مكفَّرة؛ ذكرها ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392) ووصفها بأنها في مجلد لطيف. 26 ــ اللمعة؛ ذكرها ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392)، ويحتمل أنها تصحيف من (اللمحة) وهي لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف، كما بيَّن ذلك الشيخ علي العمران ــ وفقه الله ــ في حاشية تحقيقه للعقود نقلاً من هامش إحدى مخطوطات الكتاب. 27 ــ رسالة في الطلاق؛ نسخة محفوظة ضمن مجاميع المدرسة العمرية الظاهرية برقم (91) (3). _________ (1) وقد أشار الصفدي إلى أنها تُقدَّر بخمسةَ عشر مجلدًا! (2) حيث قال: وله في مسائل الطلاق والخلع وما يتعلق بذلك من الأحكام شيءٌ كثيرٌ ومصنفات عديدة، بيَّض الأصحاب من ذلك كثيرًا، وكثيرٌ منه لم يبيَّض، ومجموع ذلك نحو العشرين مجلدًا. (3) وهي الفتوى المعترض عليها، وقد طبعت ضمن مجموع الفتاوى (33/ 187)، وفي المخطوط ما ليس في الفتاوى، وما في المخطوط متفق مع اعتراض السبكي وجواب ابن تيمية، وقد قدم الناسخ قبل نقل الفتوى بمقدمة تفيد في دراسة الحيِّز الذي أخذته هذه المسألة من ابن تيمية.

(المقدمة/42)


28 ــ الإفتاء بمسألة الطلاق؛ نسخة خطية محفوظة ضمن مخطوطات جامعة أم القرى برقم (1/ 174 مجاميع)، ومصدر النسخة المكتبة الظاهرية، ولم أطلع عليها. 29 ــ رسالة في الحلف بالطلاق وغير ذلك، ضمن مجاميع العمرية (91)، وهي ناقصة، قال المفهرس: المؤلف مجهول. لكن بالاطلاع عليها ظهر لي أنها لابن تيمية لعدة قرائن منها إشارته إلى كتابه «بيان الدليل على بطلان التحليل». 30 ــ نقض جواب الطبرسي في مسألة الطلاق؛ لها عدة نُسَخ في الظاهرية برقم (99 مجاميع) و (3835)، بعض هذه النسخ في (5) ورقات، وبعضها في (35) ورقة!، وقد جاء في إحدى النسخ زيادة (لَمَّا كان بمصر مسجونًا)، ولم يتضح لي كونها في تعليق الطلاق أو الطلاق الثلاث (1).

  المبحث الثاني: المؤلفات في الرد على ابن تيمية:

1 ــ الدُّرَّةُ المضيَّة في الرد على ابن تيمية، للشيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكَاني الشافعي (2)، كتبها ردًّا على قول ابن تيمية بالاكتفاء في تعليق _________ (1) انظر: الأثبات في مخطوطات الأئمة، للدكتور علي الشبل (ص 86، 242)، وقد اطلعت على الموضع الذي في مجاميع العمرية برقم (99) واتضح أنها ليست في الطلاق، وإنما في حكاية ما حصل لابن تيمية في الحبس، وهي في مجموع الفتاوى (3/ 348)، ولا أدري عن الموضع الآخر. (2) وقد ذكر الحبشي في معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي (2/ 1239) بحث ابن تيمية والزملكاني في مسألة الطلاق، ولم يتضح لي هل هو هذا أو كتاب آخر؟

(المقدمة/43)


الطلاق على وجه اليمين بالكفارة عند الحنث؛ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (18/ 286) ووصفها بأنها مجلدٌ كبير، كما ذكرها صاحب كشف الظنون (1/ 744) وأفاد بأنَّ ابن الزملكاني رتَّبَها على ثلاثة فصول: في حكم المسألة، في إجمال دفع الاستدلال، في الجواب عنه. وأوله: الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ... إلخ، وفَرَغَ منه ناسخه في رمضان سنة (834) (1). 2 ــ الدُّرَّةُ المضيَّة في الرد على ابن تيمية، لتقي الدين السبكي، طبعت بمطبعة الترقي عام (1347)، وله نسخةٌ خطية في جامعة (برنستون) بالولايات المتحدة (2)، وهو في فهرس (خزانة التراث) من إصدارات مركز الملك فيصل برقم (39471). 3 ــ رافع الشقاق في مسألة الطلاق، لتقي الدين علي بن عبد الكافي السُّبكي، ذكرَهُ ابنُ المؤلف في ترجمته لوالده من طبقات الشافعية الكبرى (10/ 308)، وقد بحثتُ عنه فلم أجده. 4 ــ التحقيق في مسألة التعليق؛ لتقي الدين علي بن عبد الكافي السُّبكي، يوجد صورة من المخطوط غير كاملة في مكتبة الملك فيصل تحت رقم (118876) (3). _________ (1) يحتمل عندي أنَّ صاحب كشف الظنون اطَّلَعَ على نسخةٍ من (الدرة المضيَّة) والتي من تأليف السبكي منسوبةً خطأً إلى ابن الزملكاني، بدليل أنَّ وصفَه هذا منطبقٌ تمامًا على كتاب السبكي. (2) صورت مكتبة الملك فهد الوطنية مخطوطات هذه الجامعة. (3) وقد سجل الباحث/ إياد أحمد الغوج تحقيقه في رسالة علمية.

(المقدمة/44)


5 ــ مختصر التحقيق في مسألة التعليق؛ لتقي الدين السبكي، وهو اختصارٌ من كتابه المطوَّل في الرد على ابن تيمية المسمَّى بِـ (التحقيق في مسألة التعليق) يوجد صورةٌ منه على الشبكة المعلوماتية ضمن ما نُشر من المخطوطات الأزهرية وهي تحت رقم (841 مجاميع ــ زكي 41731)، وجاء في وصفها أنها بقلم معتاد بخط العلامة الشيخ علي بن محمد الأشموني الشافعي النحوي، وفرغ من تأليفها عام (724). 6 ــ مؤاخذات تقي الدين السبكي على رسالة ابن تيمية (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق)، طبعت ضمن فتاواه (2/ 267)، كما طبعت بمطبعة الترقي بدمشق ضمن مجموع في مجلد، وعنوان الرسالة (نقد الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق). 7 ــ المقالات السُّنِّيَّة في كشف ضلالات أحمد بن تيمية، لعبد الله بن محمد الهرري المعروف بالحبشي (1)، طبعته شركة دار المشاريع للطباعة والنشر. وقد ذكر في كتابه هذا مجموعة مسائل ردَّ فيها على ابن تيمية والوهابية، ومن ضمنها مسألة الطلاق المعلَّق. المبحث الثالث: مؤلفات ورسائل غير ابن تيمية أو الرَّادِّين عليه: مسألة تعليق الطلاق من المسائل الكبار التي لا يكاد يخلو مصنف في الفقه إلا وتعرض لها؛ فلهذا تجاوزت ذكر كتب الفقه إلى المؤلفات والرسائل التي أفردت مسألة تعليق الطلاق والحلف به بالبحث أو ما كان من _________ (1) وقد رَدَّ عليه د. عبد الرحمن دمشقية بكتابه (المقالات السنية في تبرئة شيخ الإسلام ابن تيمية ورد مفتريات الفرقة الحبشية)، دار المسلم للنشر والتوزيع، عام 1418.

(المقدمة/45)


بحوث حول مسائل الطلاق والأيمان وقد تعرضت لمسألتنا هذه، أما كتب الفتاوى فهي زاخرةٌ بالأسئلة الموجَّهة للعلماء حول تعليق الطلاق بنوعيه. أولًا: الكتب المتعلقة بمسألتنا: 1 - رسالةٌ في الطلاق، لمؤلفٍ مجهول ولعله شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كذا قال المفهرس، وهي ضمن مجاميع المدرسة العمرية الظاهرية برقم (99)، وبالاطلاع عليها اتضح أنها لغير ابن تيمية حيث نقل عنه في عدة مواضع. 2 - فتح الانغلاق في مسألة عليَّ الطلاق، للنابلسي، ذكره الحبشي في معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي (2/ 1241) وأشار إلى أنه ضمن مخطوطات الظاهرية. 3 - النظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلَّق، لتقي الدين السبكي، طُبِعَ بمطبعة الترقي بدمشق سنة (1347) ضمن مجموع في مجلد، كما طبع ضمن فتاوى السبكي (2/ 273). 4 - أحكام تعليق الطلاق، للباحث: عاصم بن ناصر بن عبد الرحمن القاسم، وهو بحث تكميلي لنيل درجة (الماجستير) بالمعهد العالي عام (1417) (1). 5 - الرسالة الحاكمة في مسألة الأيمان اللازمة، للقاضي أبي بكر ابن العربي، تحقيق: إبراهيم الوافي، مركز الدراسات والأبحاث بالرباط. 6 - الطلاق المعلَّق مفهومه وأثره في الفقه الإسلامي، بحث للدكتور: علي بن محمود الزقيلي، المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، المجلد _________ (1) وقد زرتُ الشيخ ــ وفقه الله ــ وأطلعني ــ مشكورًا ــ على رسالته، وهي مشتملة على بحث حكم مجموعةٍ من ألفاظ التعليق.

(المقدمة/46)


الخامس، العدد الأول، عام 1430 هـ. 7 - الطلاق المعلَّق على شرط، للباحث: عبد الرحمن بن عبد اللطيف النمر، مجلة الوعي الإسلامي في عددها (439). 8 - معطية الأمان من حنث الأيمان، لابن العماد الحنبلي، تحقيق: عبد الكريم صنيتان العمري، المكتبة العصرية. 9 - الرسالة الحلفية، لقاضي بن قاسم العلوي القريشي، منسوخة عام (1041)، نسخة محفوظة في مكتبة الملك عبد العزيز برقم (3642). 10 - الحجة القوية في جواب الرسالة الحلفية، محمد بن جعفر بن محمد ميران (1). 11 - أحكام اليمين بالله ــ عز وجل ــ دراسة فقهية مقارنة، للدكتور: خالد بن علي المشيقح، دار ابن الجوزي. 12 - أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (2/ 333). 13 - آراء ابن تيمية في مسائل الطلاق، للباحث: عبد الله بن جاسم كردي الجنابي، رسالة (ماجستير) مقدمة إلى جامعة بغداد، نوقشت عام (1998 م) (2). _________ (1) ذكر هذا والذي قبله الباحث / إبراهيم بن عبد العزيز اليحيى في (ملتقى أهل الحديث)، وهو من المخطوطات المحفوظة في مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وقد قام الباحث ــ مشكورًا ــ بنشر (الرسالة الحلفية) في الشبكة المعلوماتية. (2) انظر: دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 86)، للباحث: عثمان بن محمد الأخضر شوشان.

(المقدمة/47)


14 - تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف: د. أحمد موافي، فقد ذكر اختيار ابن تيمية ثم بحث المسألة بحثًا جيدًا (1/ 509 ــ 529 ط. الخامسة)، طبع لدى دار ابن الجوزي. 15 - اختيارات شيخ الإسلام الفقهية (من أول باب الخلع إلى نهاية كتاب الإقرار)، تأليف: د. زيد بن سعد الغنام، فقد بحث المسألة عند ذكره لاختيار شيخ الإسلام في باب الطلاق (9/ 102)، طبع في كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع ضمن مجموعة رسائل. 16 - القواعد والضوابط الفقهية عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الأيمان والنذور، تأليف: د. محمد بن عبد الله بن الحاج التُّمْبُكْتِيّ الهاشمي، طبع لدى المكتبة المكية. 17 - نظام الطلاق في الإسلام، للشيخ أحمد شاكر، وتحدث عن بعض قضايا إصلاح المحاكم، ومن ذلك الحكم في مسائل الطلاق المختلف فيها كالطلاق الثلاث والمعلَّق، طبعته مكتبة السنة. 18 - الإشفاق على أحكام الطلاق، للأستاذ محمد زاهد الكوثري، وهو في أصله ردٌّ على كتاب الشيخ أحمد شاكر (نظام الطلاق)، ومن المسائل التي تعرض لها مسألة تعليق الطلاق، طبعته المكتبة الأزهرية للتراث. 19 - الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس، لعلامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي، طبع بتحقيق علي بن حسن الحلبي، بدار عمار. 20 - أحكام الحلف بالطلاق، د. عز الدين أحمد محمد إبراهيم، مجلة جامعة القرآن الكريم، العدد (16)، عام 1429.

(المقدمة/48)


ثانيًا: الكتب المتعلقة بتعليق الطلاق عمومًا: بعض هذه الكتب وقفتُ عليه، واتضح لي أنه خاصٌّ بتعليق الطلاق المحض، وبعضها لم أقف عليه لكن يَغلب على الظن أنها لم تتعرض لتعليق الطلاق الذي يُقصد به الحث أو المنع. 1 - تعليق الطلاق بالمجهول، لابن شجرة التدميري، وهي ضمن فهرس مجاميع المدرسة العمرية الظاهرية برقم (128). 2 - رسالة في تعليق طلاق إحدى المرأتين بتطليق الأخرى، لابن نجيم الحنفي، وهي ضمن مخطوطات المكتبة البديرية بالقدس، تحت رقم (799). 3 - المحرر من الآراء في حكم الطلاق بالإبراء، للسمهودي، له نسخٌ كثيرة في مكتبات العالم (1)، وقد ذكره الحبشي في معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي (2/ 1242) بعنوان: المحرر في تعليق الطلاق. 4 - إتحاف البريات بالوقوف على الطلاق بالبراءات، للشيخ عبد المعطي بن سالم السملاوي الشافعي، مخطوط منشور في الشبكة المعلوماتية ضمن مخطوطات الأزهر الشريف. 5 - القول الأحرى في وقوع الطلاق المعلَّق على نفقةِ العِدَّةِ بالإبرا؛ لمحمد أمين بن حسن الميرغني الحنفي؛ محفوظةٌ نسخةٌ منه ضمن مخطوطات المسجد المكي، تحت الرقم العام (2050). _________ (1) المكتبة الأزهرية برقم (2679) عروسي (42359)، ومكتبة الجامع الكبير بصنعاء برقم (85 مج، 38 مج، 62 مج)، والمكتبة المركزية بالرياض برقم (2764).

(المقدمة/49)


6 - نزهة الألباب في بيان تعليق الطلاق بِغَسْلِ الثياب، لمؤلفٍ حنفيٍ مجهول، كتبت بتأريخ 17/ 1 / 1295 بخطٍّ فارسي، وهي ضمن مخطوطات الحرم المكي تحت رقم (21/ 3803). 7 - إنباه الأنباه في الطلاق المعلَّق بِـ (إن شاء الله)، للكوكباني، ذكره الحبشي في معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي (2/ 1239). 8 ــ تعليق لابن رجب على قول صاحب المحرر في الفقه: (فإنْ قال: أنتِ طالق طلقةً إن ولدت ذكرًا، وطلقتين إن ولدت أنثى .. ) (1)، وهي محفوظة في مكتبة الفاتح في تركيا برقم (5318) ضمن مجموعة رسائل لابن رجب (2)، وفي مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود صورة منها. وهناك بعض المصنفات التي وقفتُ عليها ضمن فهارس المخطوطات، ولم يتبيَّن لي هل تعرضت لمسألة تعليق الطلاق أم لا؟ 1 - رسالة في الطلاق، لتقي الدين السبكي، وهي ضمن مجاميع _________ (1) ومثله ما فعله الطوفي في كتابه (الصعقة الغضبية في الردِّ على منكري العربية) (ص 373 وما بعدها) في ذكره جملة من المسائل الشرعية المتفرعة من القواعد العربية، وقد ذكره على ترتيب المحرر في الفقه، ويصدِّر كثيرًا من المسائل بنقل كلام المجد، ثم يعقب عليه بالتوضيح والأمثلة وما ينبني عليه الخلاف. (2) انظر: وصفها، وتفاصيل ما ورد في المخطوط في كتاب (ابن رجب الحنبلي وأثره في الفقه) (ص 284) للدكتور / محمد بن حمود الوائلي. ثم طبع بتحقيق عمر الأحمد، لدى دار التوحيد للنشر، وبتحقيق أبي جنة الحنبلي، لدى دار الأوراق الثقافية.

(المقدمة/50)


المدرسة العمرية الظاهرية تحت رقم (99)، وهي في الحقيقة ليست رسالة مستقلة، وإنما نقل من شرح المنهاج للسبكي، حيث ذكر فرعًا في كتاب النكاح محله كتاب الطلاق، كما قال الناسخ، وختم الناسخ نقوله بقوله: (وليس فيه شيء من التحقيق). 2 - مسألة في الطلاق، للسيوطي، وهي ضمن مجاميع المدرسة العمرية الظاهرية تحت رقم (140). 3 - إحكام التحقيق بأحكام التعليق، لبدر الدين القرافي، ضمن مخطوطات جامعة أم القرى. 4 - رسالة الصنهاجي في الطلاق، وهي مسألة (الصنهاجي مع الشيخ شمس الدين بن الحريري كانت في سنة 789 هـ) أولها: الحمد لله، قال القاضي تقي الدين السبكي إلخ، وهي ضمن المخطوطات الأزهرية تحت رقم [375 ــ بخيت 44575]. 5 - مسألة في تعليق الطلاق، لابن الشهرزوري، وهي ضمن المخطوطات الإسلامية بمكتبة تشستربيتي بدبلن، تحت رقم (3854). * * * *

(المقدمة/51)


 الفصل الثالث دراسة المخطوط ويشتمل على مباحث:

  المبحث الأول: توثيق نسبة الكتاب:

هذا الكتاب ثابت النسبة لابن تيمية، ويدلُّ على ذلك ما يلي: 1 ــ أنَّ تلاميذ ابن تيمية ومن ترجم له ذكروا أنَّ له ردًّا مطولاً على من اعترض عليه في مسألة تعليق الطلاق، ومادة هذا المخطوط كذلك؛ فقد نَصَرَ قول ابن تيمية، وردَّ على من اعترض عليه. وممن أشار إلى ردِّ ابن تيمية على السبكي: أـ ابن عبد الهادي (ت 744) في العقود الدرية (ص 393) حيث قال: وله في ذلك ــ أي: الحلف بالطلاق ــ جوابُ اعتراضٍ وردَ عليه من الديار المصرية، وهو جوابٌ طويلٌ في ثلاث مجلدات، بقطع نصف البلدي. ب ــ ابن القيم (ت 751) في إعلام الموقعين (3/ 363) حيث قال عن شيخه: (فنقَضَ حُجَجَهم وأقام نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول، وصنف في المسألة قريبًا من ألف ورقة، ثم مضى لسبيله راجيًا من الله أجرًا أو أجرين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون). وكأنَّ المقصود هنا هو كتابنا هذا، وفي (5/ 540): ( ... فبيَّنَ فساد جميع حججهم، ونقضها أبلغ نقض، وصنَّفَ في المسألة ما بينَ مُطوَّل

(المقدمة/52)


ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة ... ) إلخ= بيانُ جميع ما كتبه في هذه المسألة. ج ــ تاج الدين السبكي (ت 771) حيث قال في طبقات الشافعية الكبرى (10/ 195): ( ... وهذا الرد الذي لابن تيمية على الوالد لم يقف عليه، ولكن سمع به؛ وأنا وقفتُ منه على مجلدٍ). وهذا يشير إلى أنه أكثر من مجلد، كما يشير إلى أنَّ المجلد الأول مفقودٌ قديمًا، حيث شنَّ بعض الناس حربًا على ابن تيمية وكتبه ورسائله وفتاويه وتلاميذه مما أدَّى إلى فقدان بعضها. د ــ ابن رجب (ت 795) في ذيل الطبقات (4/ 523) عَدَّ جملةً من مؤلفات ابن تيمية، وذكر منها: الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق ثلاث مجلدات (1). 2 ــ أنَّ نَفَسَ مؤلفِ هذا الرد هو نَفَسُ ابن تيمية في الاستدلال والاعتراض والمناقشة، وهذا ظاهر لكلِّ مَنْ له اطلاعٌ على مؤلفاته وفتاويه وردوده، حيث يستخدم عبارات ونقولًا تتكرر في كثيرٍ من كتبه بلفظها لا سيما ما كتبه في ذات المسألة، وبعضها مروي بالمعنى لأنه يسوقها من حفظه. 3 ــ أنَّ هذا الرد متضمن لكثيرٍ من الاختيارات العلمية في مسائل فقهية وأصولية وغيرها مطابقةٍ لاختيارات شيخ الإسلام، مما يؤكد أنَّه هو مصنِّف هذا الرد. _________ (1) وانظر: المنهج الأحمد للعليمي (ص 611 الجامع)، والدر المنضد له (ص 619 الجامع).

(المقدمة/53)


4 ــ أن المؤلف كان يفتي بما عليه جمهور أصحاب المذاهب ومنهم المعترض حتى تبيَّن له الحق، وقد أشار إلى هذا في (ص 451) حيث قال: (فإنَّ المجيب لم يكن هذا القول مما تربَّى عليه، ولا له فيه غرضٌ يميل لأجله إليه، بل كان يعتقد خلافه ويفتي دائمًا بخلافه، لكن لمَّا نظر ورأى الحق لم يجز له أن يقول خلاف ما تبيَّن له ... ) إلخ، وهذا ــ والله أعلم ــ هو ما حصل لابن تيمية في مراجعته واجتهاده في بعض المسائل التي احتاج لها الناس عندما كثر التحايل والتحليل في عصره. 5 ــ أنَّ التاج السبكي في ترجمته لوالده في الطبقات (10/ 195) أشار إلى أنَّ ابن تيمية قال عن والده في ردِّه عليه: (لقد برَّزَ هذا على أقرانه)، وهذه العبارة موجودة في هذه القطعة التي بين يدينا حيث قال (ص 789): ( .. كما ادعى هذا المعترض الذي بَرَّزَ على أقرانه، وظهر فضله عليهم في فعله ما يعجزون عن فعله)، وقال في (ص 933): (وما سلكه من (التحقيق في التعليق) ــ كما سمَّى بذلك مصنفه ــ ودقق فيه من المعاني، وذكر فيه من الآثار، وأتى فيه من النقل والبحث بما برَّز به على غيره). 6 ــ أنَّ التاج السبكي ذكر أنه لم يطلع إلا على مجلَّدٍ منه، ولعل ما وقف عليه هو الجزء الذي بين يديك؛ بدليل ما ذُكِرَ في الفقرة السابقة. 7 ــ أنَّ ناسخ المخطوط التزم ذِكْرَ صاحب الكتاب المردود عليه بِـ (المعترض) وقد اتضح أنَّ الكتاب المردود عليه هو كتاب للسبكي؛ كما التزم ذكر صاحب الرد وصاحب الفتوى التي ردَّ عليها السبكي بِـ (المجيب)، والفتوى المردود عليها لابن تيمية؛ فهذا دليلٌ على أنَّ المجيب هو ابن تيمية.

(المقدمة/54)


8 ــ أنَّ المجيب هنا تحدث عن أشياء تتعلق بصاحب الفتوى المعترَض عليها مما لا يمكن أن يقوله إلا صاحب الفتوى؛ فمن ذلك: أـ ما ذكره في (ص 170): (وابن تيمية يجزم بذلك، ويباهل عليه من يباهله، بل يباهل على هذا وعلى أن هذا القول هو القول الذي بعث الله ــ عز وجل ــ به رسوله؛ فليقم هذا وأمثاله فليباهلون على أن هذا لم يقله أحد من السلف والخلف، وأنه خطأ مخالف لشرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -). ب ــ ما ذكره في (ص 428): ( ... وقد تقدم أنَّ هذا سوء فهمٍ منه (أي المعترض)، لم يخطر ببال المجيب أنَّ أحدًا يفهم من كلامه هذا، فإنه لم يقل ما يدلُّ عليه، ولو خطر له أنَّ أحدًا يفهم هذا لبسط الكلام في ذلك الجواب المختصر الذي اعترض عليه المعترض ... ) إلخ. 9 ــ أنَّ المؤلف أشار إلى كتابٍ له في (نقد مراتب الإجماع) (1)، ولم أجد من انتقد إجماعات ابن حزم في مصنف مستقل إلا ما ذكر عن ابن تيمية وابن شيخ السلامية (ت 769)؛ ولا يصح نسبة هذا الرد للثاني لأمورٍ منها: أـ أنَّ ما أشار إليه المصنف هنا موجود في نقده مراتب الإجماع (2). ب ــ أنَّ ابن شيخ السلامية ولد سنة (716 أو 712)، وناسخ المخطوط انتهى من نسخها في عام (744)؛ بمعنى أنَّ ابن شيخ السلامية أَلَّفَهَا في أوائل الثلاثينات من عمره أو قبل ذلك، وهذا الرد يعجز عنه من هو في هذا العمر؛ حيث حرر كثيرًا من المسائل المشتبهة، وفنَّد الإجماعات المدَّعاة، _________ (1) انظر صفحة رقم (623، 624). (2) انظر: جامع المسائل (3/ 333، 334).

(المقدمة/55)


وخاض غمار نقد المرويات، وذكر تراجعه عما تربَّى ونَشَأَ عليه في هذه المسألة، وأشار إلى بسط بعض المسائل في موضع آخر ... وغير ذلك مما يشير أنَّ كاتب هذ الرد رجلٌ كبيرٌ في السِّنِّ له باعٌ طويل في العلم مع تفننٍ في كثيرٍ من العلوم. ج ــ ما أشير إليه من دلائل تؤكد نسبته لابن تيمية لا غير. 10 ــ أنَّ هذا الكتاب ردٌّ على السبكي (1)، ولم أجد ــ بعد تتبعٍ ــ مَنْ ذُكِرَ أنه رَدَّ على المعترضين على ابن تيمية في مسألة الحلف بالطلاق إلا ثلاثة؛ هم: 1 ــ يوسف بن محمد السُّرَّمُرِّي الحنبلي (ت 776)، وقد سمَّى رَدَّهُ: (الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية)، وهذا الرد عبارة عن قصيدة في مائة واثنين وخمسين بيتًا عَارَضَ بها قصيدة السبكي التي كتبها بعد اطلاعه على كتاب ابن تيمية (منهاج السنة النبوية) (2)، وأشار فيها إلى بعض المسائل التي خالف فيها شيخ الإسلام، ومنها: مسألة الحلف بالطلاق. وقد ذَكَرَت كتب التراجم طرفًا من قصيدة السُّرَّمُرِّي، وطبعت فيما بعد كاملةً (3)؛ وهي لا تنطبق على كتابنا هذا. _________ (1) وسيأتي بيان أدلة كون المعترض عليه هو السبكي في (ص 59). (2) ذكر هذه القصيدة التاج السبكي عند ترجمته لوالده في طبقات الشافعية (10/ 176). (3) بتحقيق صلاح الدين مقبول، نشر مركز (أبو الكلام) للتوعية الإسلامية، الطبعة الأولى عام 1412.

(المقدمة/56)


2 ــ محمد بن جمال الدين الشافعي اليمني (ت؟)، وهي قصيدة ردَّ فيها على قصيدة السبكي السابقة، في مائةٍ وعشرة أبيات، وقد ذكر هذه القصيدة الآلوسي في جلاء العينين (ص 32)، ثم طبعت مستقلةً مع قصيدة السُّرَّمُرِّي؛ وهي كسابقتها لا تنطبق على كتابنا هذا. 3 ــ يوسف بن أحمد بن إبراهيم (ابن أبي عمر) المقدسي الحنبلي (ت 798)، وقد سمَّى رَدَّهُ: (الرد على المعترضين على ابن تيمية في الطلاق)؛ ولا يصح نسبة هذا الكتاب له لما يلي: أـ أنَّ المقدسي ولد عام (720 أو 721) وناسخ المخطوط انتهى من نسخها في عام (744)؛ بمعنى أنَّ المقدسي أَلَّفَهَا وعمره قرابة عشرين عامًا، وهذا الرد لا يَتَأَتَّى ممن هو في هذا العمر من حيث التحرير، والإشارة إلى بسط بعض المسائل في مواضع أُخَر ... وغير ذلك مما يشير إلى أنَّ كاتب الرد رجلٌ كبير السِّنِّ والعلم كما تقدم. ب ــ أنَّ صاحب الردِّ ذكر كتابًا له في نقد إجماعات ابن حزم، ولا يُعرف لابن أبي عمر مؤلفٌ في هذا الباب. ج ــ أني لم أجد من وصف ردَّ ابن أبي عمر بما يوضح لنا المسألة التي ردَّ عليها؛ هل هي الطلاق الثلاث أو تعليق الطلاق أو غيرهما؟ وهل هو ردٌّ على السبكي أو غيره؟ خاصةً أنَّ ابن أبي عمر له مزيد عناية بمسألة (الطلاق الثلاث) فقد صنّف فيها عدَّة كتبٍ منها: (التحفة والفائدة في الأدلة المتزايدة على أنَّ طلاق الثلاث واحدة) و (الرد على من قال إنَّ الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ

(المقدمة/57)


يقع ثلاثًا) و (الرسالة إلى ابن رجب في الطلاق الثلاث)؛ فيحتمل أنَّ هذا الرد هو على ذات المسألة (1)؛ والله أعلم. 11 ــ أنَّ ابن القيم ذكر في إعلام الموقِّعين (5/ 540) عن ابن تيمية: (وصار إلى ربه، وهو مقيمٌ عليها، داعٍ إليها، مباهل لمنازعيه، باذل نفسه وعرضه وأوقاته لمستفتيه)؛ والمجيب يطلب المباهلة كما في قوله (ص 170): (وابن تيمية يجزم بذلك، ويباهل عليه من يباهله، بل يباهل على هذا وعلى أَنَّ هذا القول هو القول الذي بعث الله ــ عز وجل ــ به رسوله؛ فليقم هذا وأمثاله فليباهلون على أن هذا لم يقله أحد من السلف والخلف، وأنه خطأ مخالف لشرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -). وقال في (ص 169): (وأما المثبت للخلاف فيحلف الأيمان المغلَّظة، ويُباهل مَنْ يُباهله على أنَّ الخلاف موجودٌ في الأمة من سلفها وخلفها في وقوع الطلاق وفي التكفير).

  المبحث الثاني: تحقيق اسم الكتاب:

لم يكن ابن تيمية - رحمه الله - ممن يعتني بتسمية مؤلفاته وقواعده ورسائله، ولعل هذا عائدٌ لكثرة تصانيفه المطوَّلة والمختصرة، وكثرة الأسئلة والاستفتاءات التي تَرِدُ عليه، مما يصعبُ معه اعتناؤه بتسمية كتبه؛ فيكتفي بتسميتها قاعدة، أو باسم البلد الذي ورد منه الاستفتاء، أو الرد على فلان باسم المردود عليه ونحو ذلك. ولهذا لم أقف على تسميةٍ واضحةٍ لهذا الرد فيما بين يديَّ من مصادر، _________ (1) انظر: معجم مصنفات الحنابلة (4/ 241).

(المقدمة/58)


حيث يُذْكَرُ هذا الرد في كتب التراجم بقولهم: (وله في ذلك جواب اعتراضٍ ورد عليه من الديار المصرية، وهو جوابٌ طويل في ثلاث مجلدات) (1)، أو بقولهم: (الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق) (2) ونحو ذلك؛ ومما لا يخفى أنَّ هذا وصفٌ للكتاب لا اسمًا علميًا له. ولكن من خلال الأوصاف التي ذكرها تلاميذه ومَنْ ذكرَ كتابه هذا اخترت أنْ أُسميه بِـ (الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق)، ولعلَّه بهذا العنوان يكون واضحًا في الدلالة على الكتاب.

  المبحث الثالث: سبب تأليفه:

تقدمت الإشارة إلى أنَّ السبكي تعقَّب ابن تيمية في مسألة تعليق الطلاق بِعِدَّةِ ردود، وبخصوص الفتوى المعترض عليها ألَّف ردَّه المسمَّى (رافع الشقاق في مسألة الطلاق) و (التحقيق في مسألة التعليق)، وجواب ابن تيمية هو على أحد هذين الاعتراضين، ولم يتبيَّن لي على وجه الجزم على أيِّهما كان جواب ابن تيمية هذا. لكن هناك من القرائن ما يدلُّ على أنَّ هذا الرد إنما هو على كتاب السبكي (رافع الشقاق) بدليل ما يلي: 1 ــ أنَّ النصوص التي ينقلها المجيب في كتابه هذا نقلًا عن المعترض هي بنصِّها كلام السبكي الوارد في مخطوط كتابه (التحقيق في مسألة التعليق) إلا أنَّ بينها تقديمًا وتأخيرًا، مما يَدُل على أنَّ الكتاب المردود عليه _________ (1) العقود الدرية (ص 393). (2) انظر: فهرس مصنفات ابن تيمية آخر الجامع لسيرته خلال سبعة قرون (ص 793).

(المقدمة/59)


للسبكي ليس هو (التحقيق)، وإنما هو كتابٌ آخر، والذي يفهم من كلام ابن تيمية أنَّ كتاب السبكي (التحقيق) كتبه بعد (رافع الشقاق)، فرافع الشقاق هو الأصل الذي بنى عليه كتابه التحقيق (1)، ولهذا حصل فيه من التقديم والتأخير والزيادة والتكرار ونحو ذلك. 2 ــ أنَّ رد ابن تيمية توقف وقد بقي على نهاية الموجود من كتاب (التحقيق) للسبكي قرابة (6) لوحات، والمفقود من التحقيق لا ندري كم يبلغ، ولعل هذا يؤكد أنَّ الكتاب المردود عليه هو (رافع الشقاق). أما ما ورد في هذا الرد من ذكر كتاب السبكي (التحقيق) فيحتمل أنَّ ابن تيمية اطَّلعَ عليه أثناء رَدِّه فأشار إليه، إلا أنَّه يُشكل على هذا التقرير أنَّ في الكتاب إشارة إلى أنَّ الردَّ على (التحقيق) من مثل قولِهِ: ( ... وهذا قاله بعد البحث التام وما سلكه من (التحقيق في التعليق) كما سمى بذلك مصنفه، ودقَّقَ فيه من المعاني وذكر فيه من الآثار وأتى فيه من النقل والبحث بما بَرَّزَ به على غيره ... )، ومثله إشارته إلى ما وقع فيه من التكرار واعتذاره عنه. وعلى أيِّ حال؛ فالمناقشة التي ذكرها المعترض في كتابيه واحدة، وقد بسط الاعتراض في كتابه (التحقيق)، والعبارات التي ساقها المجيب موجودة بنصِّها في التحقيق. _________ (1) قال في (ص 593): (قد اعترض أولًا اعتراضًا مختصرًا ذكر فيه هذا الكلام، ثم بسط الاعتراض بما تقدم ذكره له أولًا؛ فلهذا تكرر هذا منه). وقال في (ص 709 - 710): (وبلغني أَنَّ المعترض لَمَّا رأى بعض ما ذُكِرَ ــ غَيْرَ الجواب المختصر ــ بَسَطَ هذا الاعتراض هذا البسط؛ ولهذا وقع فيه ما وقع من التكرار، وأنه لما رأى ما هو أبلغ من ذلك استعفى عن معاودة الاعتراض).

(المقدمة/60)


وبسبب فقدان المجلد الأول من رَدِّ ابن تيمية هذا لم يتضح لنا ما اسم الكتاب المردود عليه، ولا سبب تأليف ابن تيمية له، لكن غالبًا ما يكون اتهامه بخرق الإجماع، وتكثير أولاد الزنا، وما صاحَب ذلك من حملة سُلِّطت عليه= هي السبب الرئيس في الكتابة، ثم قد يكون ــ أيضًا ــ بإشارة من أحد محبِّيه أو طلابه، أو ابتداءً من الشيخ - رحمه الله -.

  المبحث الرابع: تأريخ تأليفه:

هذا الرد ألَّفَهُ ابن تيمية - رحمه الله - في دمشق قطعًا، فإنَّ ابن رجب في الذيل (1) ذكر أنَّ ابن تيمية صنف أثناء مُقامِهِ بمصر أعيان مصنفاته، ولم يذكر منها ردَّه على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، كما أنَّ الذاكرين لردِّه هذا يشيرون إلى اعتراض ورد عليه من مصر. وقد أشار السبكي ــ كما تقدَّم ــ في رسالته التي أرسلها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ــ إنْ صحَّت عنه ــ ما يَدُلُّ على أنَّه أَلَّف ردَّه على ابن تيمية بعد مغادرته مصر في رحلته الثانية إليها (2). ويؤكد ما تقدم: ما ذكره التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (3) من أنَّ والده (تقي الدين) حَجَّ عام (716)، ثم قال: (وفي هذه المُدَّة رَدَّ على _________ (1) (482 من الجامع). (2) حيث كانت الرحلة الأولى عام (700) واستمرت مدة قصيرة، والثانية استمرت من عام (704 - 712) ثم عاد إلى دمشق، وفي رحلته الأخيرة صنَّف مصنفاته التي ذكرها ابن رجب. (3) (10/ 167).

(المقدمة/61)


الشيخ أبي العباس ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة) (1)، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ الاعتراض كُتِبَ في عام (717) أو في أوائل السنة التي بعدها، وذلك لأنَّ السبكي كتب نقدًا على كتاب (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق) لابن تيمية، وقد أشار إلى أنه استوفى بعض المسائل في كتابه (التحقيق)، وكان فراغه من هذا النقد (بكرة نهار الأربعاء عشر شهر رمضان المعظَّم سنة ثمان عشرة وسبعمائة) (2). ومن المعلوم أنَّ ابن تيمية كانت وفاته عام (728)؛ فيتضح لنا ــ إذن ــ أنَّ هذا الرد كُتب ما بين سنة (717 ــ 728). والناظر في سيرة شيخ الإسلام - رحمه الله - يرى أنَّ الكلام حول هذه المسألة اشتدَّ عام (718) وما بعدها حيث أشار القاضي شمس الدين الحنبلي على ابن تيمية بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، ثم حدثت بعد ذلك حوادث انتهت بالترسيم باعتقاله عام (720) (3). فبناءً على ما تقدَّم: يحتمل أنَّ هذا الرد أَلَّفَهُ أثناء مكوثه في السجن بدمشق عام (720)، حيث كَتَبَ كثيرًا من كُتُبِهِ ومؤلفاته وهو في الحبس (4)، _________ (1) وهذا بعد رجوعه إلى دمشق؛ كما تقدم. (2) فتاوى السبكي (2/ 272). (3) انظر: العقود الدُّرِّيَّة (393 - 395)، وقد مكث في سجنه هذا خمسة أشهرٍ وثمانية وعشرين يومًا. (4) قال ابن عبد الهادي في مختصر طبقات علماء الحديث (ص 257 من الجامع): (مع أنَّ تصانيفَهُ كان يكتبها من حفظه، وكتبَ كثيرًا منها في الحبس، وليس عنده ما يَحتاج إليه ويُراجعه من الكتب).

(المقدمة/62)


ونستأنس في ذلك بأن كُتُبَ التراجم لم تُشر إلى أنه مُنع من الكتابة في هذه المرة؛ وهذا ما استظهره الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - (1).

  المبحث الخامس: منهج ابن تيمية في هذا الكتاب:

تميَّز منهج ابن تيمية - رحمه الله - العلمي في الرد على المخالفين عمومًا وفي ردِّهِ هذا خصوصًا بميزات كثيرة؛ أُجملها فيما يلي: 1 ــ الاستدلال على ما يريد تقريره من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح وآثار الصحابة وأقوال السلف، وبيان المفاسد المترتبة على القول المخالف ... مما يجعل المخالف إما أنْ يُسَلِّمَ له أو على الأقل يَنظر إلى المسألة إلى أنها من المسائل الخلافية التي تقبل الاختلاف. 2 ــ التعامل مع المردود عليه وفق منهج السلف بالعدل والإنصاف؛ ومن مظاهر ذلك: أـ بيان ما يحتمله كلام المخالف من المعاني الصحيحة والباطلة وبيان ما فيه من إجمال ونحو ذلك؛ وهذا ظاهر في مواضع كثيرة من هذا الرد؛ وقد بيَّن منهجه هذا في ردِّه على الشاذلي (ص 191) حيث قال: (فلهذا وغيره نَذكر ما تحتمله الكلمة من المعاني، لاحتمال أنْ يكون قَصَدَ بها صاحبها حقًا، ما لم يتبين مرادُهُ؛ فإذا تبيَّن مرادُهُ لم يكن بنا حاجة إلى توجيه الاحتمالات) (2). _________ (1) انظر: المداخل إلى آثار ابن تيمية وما لحقها من أعمال (ص 37)، ومقدمة الشيخ للجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 32). (2) وقال في الجواب الصحيح (4/ 44): (فإنه يجب أَنْ يُفَسَّرَ كلامُ المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده. وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا، وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه، وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه).

(المقدمة/63)


وانظر أمثلة لذلك في كتابنا هذا (ص 19، 108 - 109، 131). ب ــ الابتعاد عن الانتقادات اللفظية التي لا ثمرة لها في البحث؛ فقد قال في كتابنا هذا (ص 789) مجيبًا على اعتراض ذكره السبكي: (فهو مع أَنَّه من المؤاخذات اللفظية التي لو فتح المجيب بابها على المعترض لطال الزمانُ بكثرة ما يرد عليه منها) (1). وقال في (ص 342): (فمثل هذا الكلام وأمثاله لولا أن المعترض سطره لم يكن بنا حاجة إلى أن نذكره ونجيب عنه). ج ــ الثناء على المخالف فيما أصاب فيه الحق؛ فقال في كتابنا (ص 891): (وهو وإنْ كان قد غلط في هذه المواضع فقد أصاب وأحسن في قوله: (على أَنَّ هذا القول بالتحرير الذي يقوله المتأخرون ــ وهو: أَنَّ الواجب الكفارة عيناً بحيث لو أتى بالذي التزمه لا يكفي ــ لسْتُ أعرف الآن دليلاً عليه، لا من خبرٍ ولا من نظرٍ، فإنَّ هذا القول في غايةِ الضعف)، وقد أحسن في تضعيفه، بل هو خلاف الإجماع الذي حكاه الإمام أحمد، مع _________ (1) ومثله ما قاله في الرسالة الأكملية: (والفروق اللفظية لا تؤثر على الحقائق العلمية). وقال في تنبيه الرجل العاقل (1/ 35): (وبالجملة فهذه مشاحة لفظية).

(المقدمة/64)


تحري أحمد في حكاية الإجماع، وَرَدِّهِ على مَنْ يجزم بالإجماع، وَأَمْرِهِ له بأنْ يقول: ما أعلم خلافاً). وقال (ص 933): (وهذا قاله بعد البحث التام وما سَلَكَهُ من (التحقيق في التعليق) كما سَمَّى بذلك مُصَنَّفَهُ، وَدَقَّقَ فيه من المعاني، وَذَكَرَ فيه من الآثار وأَتَى فيه من النقل والبحث بما برز به على غيره). وقال في (ص 897): (قد أحسن المعترض في هذا وأصاب). ولهذا نظائر كثيرة مبثوثة في ثنايا هذا الرد. د ــ الاعتذار عن المخالف فيما وقع فيه من غلط؛ فقال في كتابنا (ص 891): (وأنا أعذر المعترض وأمثاله في كثيرٍ مما يقولونه، لأنَّ مَنْ هو أكبر منهم غَلِطَ في مواضع، وهم زادوا في الغلط؛ فتضاعف الغلط وضعفت معرفتهم بالكتاب والسنة ومعاني أقوال الصحابة ومن اتبعهم). وقال (ص 789): (كما ادعى هذا المعترض الذي برز على أقرانه، وظهر فضله عليهم في فعله ما يعجزون عن فعله، فإنه يتكلم كثيراً مما لا يحققه، ويقفوا ما ليس له به علم، ويخوض من النقول والبحوث فيما لا يعرف حقيقته. ولا ريب أن المقصرين في هذه المسألة معذورون لكونهم لم يجدوا فيها من النقل والبحث ما يصلون به إلى تحقيقها، لكن من رحمة الله ــ تعالى ــ أنهم ابتداءُ ظنهم أنهم يصلون إلى آخرها من قريب، وأَنَّ فيها نقولاً وأدلة تشفيهم، فلما أمعنوا النظر والكشف و [ ... ] (1)، وطالت مدة النظر _________ (1) بياض مقدار كلمة.

(المقدمة/65)


والمناظرة، وتبيَّن لكلٍّ من الناس منها ما لم يكن يعرفه = عَرَفَ ــ حينئذٍ ــ مَنْ عَرَفَ عجزه، وعرف العاقل عذر المقصِّر، وعرف أَنَّ من كمال الدين الذي بعث الله ــ سبحانه وتعالى ــ به رسوله - صلى الله عليه وسلم - اشتمال الشريعة على مثل هذه الحكم والأحكام التي تبين ما أنعم الله به من كمال دين الإسلام). وقال (ص 950): (وأهل العلم والدين يَعرفون الحق ويرحمون الخلق، ويعذرون من خالفهم مع جزمهم بأنه أخطأ ولم يفهم، وأهل الأهواء والبدع يخطئون ويذمون من خالفهم، ويتكلمون فيه بالباطل؛ فتارة يكفرونه وتارة يفسقونه، كما يفعل الخوارج والروافض وغيرهم من أهل البدع). 3 ــ التغليظ في الرد على المخالف عندما يبلغ غلطه مبلغًا عظيمًا، حتى قال في السبكي (ص 773): (وأما تصنيف أقوال العلماء من غير آثار تُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، فهذا مما أحدثه المتأخرون، لم يكن شيء منه في عهد السلف، وليس هذا مما يصلح له شيوخ شيوخ المعترض، فضلًا عنه وعن أمثاله .. ) إلخ. وهذا متسقٌ مع منهج ابن تيمية الذي حكاه هو عن نفسه في قوله (1): (وتعلمون أيضًا؛ أَنَّ ما يجري من نوع تغليظٍ أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان ــ ما كان يجري بدمشق ومما جرى الآن بمصر ــ، فليس ذلك غضاضة ولا نقصًا في حقِّ صاحبِهِ ولا حَصَلَ بسبب ذلك تَغَيُّرٌ مِنَّا ولا بُغْض؛ بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين أرفع قدرًا وأَنْبَهُ ذِكرًا وأحب وأعظم، وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين التي يصلح الله بها بعضهم ببعض، فإنَّ المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما _________ (1) مجموع الفتاوى (28/ 53).

(المقدمة/66)


الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة؛ لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين). ومع ذلك؛ فليس المقصود من التغليظ على المخالف هو القدح فيه، بل (المقصود بالجواب عن اعتراضاته ليس هو ذمه والردُّ عليه، بل هو مشكور محمود مُثْنَى عليه مكرم لما ذكره مما استفرغ فيه وسعه ... ولكنَّ المقصود: رَدُّ جنس الكلام الباطل الذي يناقض ما يناقضه من الهدى ودين الحق ... ) (1). أما منهج ابن تيمية في ترتيب كتابه هذا؛ فأُجْمِلُهُ في النقاط التالية: 1 ــ تقسيم الرد إلى فصول، ويبدأ الفصل ــ غالبًا - بنقل عبارة المعترض (2)، ثم يعقب عليها ببيان مراد المعترض أو مراد المجيب في أصل الفتوى. وقد يحتاج الجواب إلى بسط فيقول: والجواب من وجوه، ثم يسوقها واحدًا تلو الآخر. وربما أجمل الجواب، ثم شَرَعَ في تفصيله وبيانه؛ كما في (ص 253، 552، 783، 784). 2 ــ تكرار بعض المباحث بحسب ما يقتضيه المقام؛ فقد يكرر الكلام على مسألة معينة لأنَّ المعترض ذكرها في مواطن من اعتراضه، أو لأنَّ _________ (1) انظر (ص 709). (2) وهذا من الأمانة العلمية؛ حيث يتم نقل كلام المعترض كاملًا، وربما ذكر كلام المجيب ثم أتبعه باعتراض المعترض، ثم تعقبه بما تيسّر.

(المقدمة/67)


المجيب ذكرها في موضع بشكل مجمل وفي موضع آخر يقتضي الإطالة فيطيل البحث والتقرير لهذه المسألة. 3 ــ عدم الخروج عن الموضوع؛ فمع طول الكتاب إلا أنَّه لم يخرج عن صلب النقاش؛ فإنْ تحدَّث عن مسألة أصولية أو فرعية فلعلاقتها بالمسألة التي فيها النقاش، وليس هذا بغريب عليه فقد (وقعت مسألة فرعيةٌ في قسمةٍ جرى فيها اختلاف المفتين في العصر، فكتب فيها مجلَّدةً كبيرةً، وكذلك وقعت مسألةٌ في حدٍّ من الحدود، فكتب فيها مجلدةً كبيرةً ــ أيضًا -، ولم يَخرج في كلِّ واحدةٍ عن المسألة، ولا طوَّل بتخليط الكلام والدخول في شيء والخروج من شيء، وأتى في كلِّ واحدةٍ بما لم يكن يَجري في الأوهام والخواطر) (1). 4 ــ الفصول التي عقدها ابن تيمية في آخر الرد تميَّزت بالقِصَر مقارنة بالفصول التي في أول الكتاب أو وسطه، وهذا عائدٌ في الجملة إلى أنَّ عامة المباحث تقدم ذكرها تفصيلًا.

  المبحث السادس: وصف النسخة الخطية:

الكتاب ليس له إلا نسخة واحدة حسب اطلاعي، حُفِظَ أصلها في مكتبة (شستربيتي) برقم (013906 - 1)، وقد صورتها كثيرٌ من المكتبات (2) _________ (1) العقود الدُّرِّيَّة (ص 13 - 14). (2) ومن تلك المكتبات: مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وهي محفوظة برقم (3232 - ف)، ومكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية برقم (4013 - قص).

(المقدمة/68)


ــ كما يظهر هذا باستعراض فهارس المخطوطات العربية في الدول الإسلامية وغيرها ــ منسوبةً خطأً للسبكي (1). وهي نسخة جيدة مكتوبةٌ بخط نسخي واضح، تقع النسخة في (279) لوحة بترقيمي، في كل صفحة (25) سطرًا، في كلِّ سطر نحو عشر كلمات أو أكثر. كُتِبَ في أعلى اللوحة الأولى بخطٍّ مغايرٍ لخط النسخة: (فقه)، وأسفل منها: (التحقيق الرد على التعليق للسبكي)، وهل هو من المفهرس أو هو سبب الخطأ في فهرستها؟ وفي أسفل اللوحة على الجانب الأيسر بخط حديث متدرج من الأعلى إلى الأسفل (عموم ــ 1091 ــ فقه شافعي ــ 200609). وتبدأ النسخة بقول المجيب - رحمه الله -: (الدين ما لم يأذن به الله، وهذا يُنكر من الدين ما شرعه الله ... ) إلخ؛ مما يدل على وجود سقطٍ في أول المخطوط، والذي تَرَجَّحَ لديَّ أنَّ الساقط من هذا المجلد هو قَدْرُ عَشْرِ لوحات، وذلك لأن الناسخ قام بتقسيم الكتاب إلى أجزاء، كل جزء يحتوي على عشر ورقات، يشير إلى ذلك في الجانب الأعلى من الجهة اليسرى من الورقة، ويكتب ذلك بالحروف، وابتدأ ذلك بِـ (الثاني)، ثم استمر الترقيم كلَّ عشر لوحات. _________ (1) وهذا الخطأ وقعَ فيه ــ أيضًا ــ الدكتور عبد الرحمن بن سليمان المزيني في كتابه (اتجاهات التأليف والنَّسْخ في مجال الفقه وأصوله في القرنين السابع والثامن الهجريين)، فقد عَدَّ ناسخ المخطوط ــ وهو الساوجي ــ من نُسَّاخ الفقه الشافعي، كما في (1/ 382). مع التنبيه إلى أنَّ معلومات الكتاب والنسخة الخطية قد سقطت من (3/ 38).

(المقدمة/69)


والنسخة ــ أيضًا ــ رُقمت بالأرقام، ولا أدري هل هي من الناسخ أم من غيره، وقد سقط منها اللوحة رقم (85) حسب الترقيم الموجود في الأصل. وفي اللوحة الأخيرة يظهر في وسط الجانب الأيمن منها أثر ختم دائري الشكل، لا يمكن قراءة نَقْشِهِ. وكتب الناسخ في آخر المخطوط: (إلى هنا انتهى كلام المصنف المجيب ــ رحمة الله تعالى عليه ــ، وبه كَمَلَ المجلدُ الثاني)، مما يدلُّ على أنَّ المجلد الأول ما زال مفقودًا؛ وقد أشرت إلى شيءٍ من ذلك في الكلام على نسبة الكتاب وبيان أنَّ هذا الرد كبيرٌ جدًا. وقد حصل خلل في ترتيب بعض الأوراق في عدة مواضع، وهذا أَدَّى إلى وجود إشكال في موضعين لم أستطع الوصول إلى تتمتها، وسأُشير إلى كلِّ ذلك في موضعه. فُرِغَ من نسخها ــ كما ورد في آخر المخطوط ــ يوم السبت 3/ 12 / 744 هـ، أي قبل وفاة ناسخها بقرابة خمسة أعوام حيث توفي عام (749)، وبعد وفاة ابن تيمية بستة عشر عامًا. ولم يتضح لي الأصل الذي نَقَلَ منه الناسخ، وإنْ كنتُ أقول احتمالًا أنه ربما وقف على خَطِّ ابن تيمية (1)، والذي دعاني لذلك كتابته لكلمات يظهر منها أنه قام برسمها كما في الأصل (2)، ووجود العديد من الكلمات التي _________ (1) وخطُّ ابن تيمية مشهور بالإغلاق والتعليق؛ انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 761)، وتكملة الجامع (ص 40). (2) انظرمثلًا: (ص 439، 791).

(المقدمة/70)


كتب عليها ما يُفيد الظن، وتصحيح أو زيادة بعض الكلمات بما يُفيد اطلاعه على نسخةٍ أخرى (1) مما قد يُشير إلى محاولة تصحيحه لنسخته منها، إضافةً إلى قُرْبِ عهده وداره بالمصنِّف. ويقوي هذا الاحتمال ما ورد في هامش (73 / ب) حيث كتب الناسخ: (حشية [كذا] من خط الشيخ لفظة في أصول الفقه). والنسخة حالتها جيدة في الجملة إلا أنَّ في وسطها تشويش بسبب سوء الحفظ أو غيره، يصعب معه قراءة كثير من الكلمات. وقد اعتنى الناسخ بتجويد نسخته، فيلحق الكلمات والأسطر الساقطة في الهامش، ويختمها بعلامة التصحيح (صح)؛ انظر لذلك ــ مثلًا ــ ما ورد في (3 / ب، 4 / أ، 6 / ب، 7 / ب، 9 / أ، 13 / ب). ومن مظاهر عنايته بالنسخة أنه ربما لم تتضح له الكلمة (2)، فيكتب في الهامش (أظنه)، وأحيانًا يرمز لذلك بحرف (ظ)، وربما كتب فوقها (لعله)؛ انظر لذلك ــ مثلًا ــ ما ورد في (17 / أ، 57/ أـ ب، 60/ أـ ب، 65/ب، 83 / أ، 124/ ب). ومن مظاهر ذلك ــ أيضًا ــ: أنه عند وجود خطأ في تقديم كلمة على كلمة يُبيِّنُ ذلك بحرف (م) فوق الكلمتين؛ انظر لذلك: ما ورد في (27 / ب، 78 / ب). _________ (1) ويضع فوقها حرف (خ)؛ كما في (15 / أ، 19 / أ، 24 / أ، 28 / أ، 30 / أ، 39 / أ) وغيرها من المواضع. (2) وقد يفعل ذلك فيما يرى أنه خطأ في النسخة التي يَنقل منها كما في (3 / أ).

(المقدمة/71)


كما أنه إذا لم تتضح الكلمة أعاد كتابتها في الهامش وكتب فوقها (بيان)؛ كما في (158 / ب، 220 / ب، 226 / ب، 248 / أ). وربما قام بشطب أحرف أو كلمة أو أكثر عند تكرارها أو كونها خطأ؛ انظر لذلك ــ مثلًا ــ ما في (55 /أ). وربما كتبَ حاشية لبيان معنى كلمة؛ كما في (40/أ، 79/أ، 117/أ). وقد يقوم بكتابة أول كلمتين أو ثلاث من الصفحة التالية في أسفل الصفحة السابقة؛ كما في (11 / أ، 21 / أ، 31 / أ، 45 / أ). وآثار هذه المقابلة ظاهرة بما تقدَّم، وبما وضعه من دوائر منقوطة قبل كل فصل، وبعضها قد لُوِّن بالكامل، بما يُشير إلى موضع نهاية المقابلة. ومع هذه العناية إلا أنه يوجد في الأصل بياضات ما بين كلمة إلى عدة أسطر، كما حصل تكرار في بعض الكلمات لم يتنبَّه له الناسخ، كما وقع في أخطاء في قراءة النص، وبيان ذلك في مواضعه من هوامش التحقيق. ومن تجويده لنسخته أنه يميِّز الفصول والكلمات التي تدل على بداية الجواب من مثل (فيقال) أو (والجواب) بخطٍّ كبيرٍ محبَّر. كما أنَّ الناسخ التزم تشبيك بعض الكلمات من مثل: (معمن) و (كلما)، وأكتفي بالتنبيه هنا عن بيان ذلك في مواضعها من الرد. ومع هذه العناية من الناسخ إلا أنه وقع في أخطاء غير قليلة، وبقيت بياضات في النسخة لم تملأ، وتكرار لبعض الكلمات والجُمَل. أما ناسخ المخطوط فهو: شهاب الدين (1) محمد بن أبي بكر بن _________ (1) ذكر ذلك الحُسيني وابن رافع.

(المقدمة/72)


أحمد بن هارون بن أسعد السلمي الساوجي ــ كما هو مُدَوَّنٌ في آخر المخطوط ــ، وهو سبط الشيخ شرف الدين بن حمويه. وقد ذكر الحُسيني في ذيله على (العِبَر في خبر من غبر) (1) أنه توفي عن سبعين سنةً، وهذا يدل على أنه ولد في عام (679)، حيث إنه توفي في عام (749). والذي يبدو أنه كان من أهل العلم، فقد وَلِيَ مشيخة خانقاه القصَّاعين (2)، ووثَّقَهُ الحسيني، ووصفه بالمشيخة ابن رافع في وفياته. وقد سمع جامع الترمذي على الفخر ابن البخاري، وحدث بالمجلس الأخير منه (3)، وهو من مناقب عبد الله بن عباس إلى آخره. وقد كان صوفيًا بخانقاه الطواويس. وتوفي - رحمه الله - في يوم الأحد 18/ 7 / 749 ودفن بِقَاسِيُون (4). أما بالنسبة لمخطوط (التحقيق) للسبكي؛ فأصله محفوظ في المتحف البريطاني برقم (5/ 9262 OR)، وهو من مصورات مكتبة الملك فيصل _________ (1) (4/ 151) وهو ملحق بكتاب العبر وذيله للذهبي. (2) ذكر ذلك الحُسيني في ذيل العبر (4/ 151)، ونقله عنه النعيمي في الدارس في تأريخ المدارس (2/ 132). (3) والذي أفاده الحسيني أنه حدَّث بالترمذي كاملًا. (4) الدرر الكامنة في تراجم أعيان المائة الثامنة (4/ 20)، والوفيات لابن رافع السلامي (2/ 89)، وذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد (1/ 105)، وكتب التراجم شحيحة في ذكر شيءٍ من سيرته وأخباره.

(المقدمة/73)


للبحوث والدراسات، وتقع النسخة في (55) لوحة، في كل صفحة (27) سطرًا، في كلِّ سطر قرابة خمسةَ عشرَ كلمةً. كُتِبَ في اللوحة الأولى عنوان المخطوط بخط كبير (كتاب التحقيق في مسألة التعليق)، وتحته اسم المؤلف تقي الدين السبكي، وفي أعلى العنوان من الجهة اليسرى كتب (بالله يَثق العبد الفقير محمدٌ، حسبه ربي وكفى)، وبجانب اسم المؤلف خَتْمُ وقفية الكتاب، وفيها (وقف لله تعالى هذا الكتاب محمد السيد أبو الأنوار) (1). والنسخة ناقصة الآخر حيث انتهت المصوَّرة والكلام لا يزال متصلًا. وخطُّ النسخة مقروءٌ في الجملة، ويوجد لَحَق وتصحيحات على هوامش النسخة، مع أنها لا تَسلم من الأخطاء.

  المبحث السابع: منهج التحقيق:

وقد اعتنيت بالكتاب وفق المنهج التالي: 1 ــ نسخ المخطوط وفق القواعد الإملائية ــ ما عدا الآيات فقد جعلتها موافقة للرسم العثماني ــ ومقابلته ثلاث مرات (2). 2 ــ تقسيم الكتاب إلى فقرات، وإضافة علامات الترقيم. _________ (1) هذا ما استطعت قراءته. (2) آخرها كان غالبه مع الشيخ: عبد السلام بن إبراهيم الحصين، وفي مواضع منه مع الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن القادري؛ فجزاهما الله خيرًا على ما بذلاه من الوقت والجهد.

(المقدمة/74)


3 ــ عزو الآيات إلى مواضعها من القرآن الكريم. 4 ــ تخريج الأحاديث والآثار؛ وذلك من خلال المنهج التالي: أـ إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما؛ فأكتفي بالعزو إليهما دون غيرهما إلا عند الحاجة إلى ذلك. ب ــ ما كان خارج الصحيحين فإني أكتفي بذكر بعض المصادر مبتدأً بمن تقدمت وفاته، وفي الغالب أني لا أتجاوز الكتب المشهورة كالسنن الأربع ومسند الإمام أحمد ونحوها إلا عند الحاجة. هـ - ذيلت تخريج الحديث والأثر ــ قدر الطاقة ــ بذكر المصادر التي اعتنت بتخريجه وبيان طرقه ورواياته، ومثله العزو للكتب المسندة التي خُرِّجَت أحاديثها تخريجًا موسَّعًا كمسند أحمد وغيره. وـ الحديث الذي يذكره المصنِّف دون بيان راويه أو مصدره، فأشير إلى بعض مَنْ رواه من الصحابة إنْ وجد. 5 ــ اجتهدتُ في توثيق النصوص والأقوال التي ينقلها شيخ الإسلام من مصادرها الأصلية، وإنْ تعذَّر ذلك لكونه مفقودًا أو غير ذلك فأُشير إلى من نقله؛ وكل هذا حسب الوسع والطاقة. 6 ــ قمتُ بعزو كلام السبكي إلى رَدِّهِ الكبير على ابن تيمية المسمَّى بِـ (التحقيق في مسألة التعليق) حيث لم أعثر على مخطوطٍ لِـ (رافع الشقاق)، والذي يَحتمل أن يكون هو الكتاب المردود عليه. 7 ــ ترجمتُ للأعلام غير المشهورين ــ من وجهة نظري ــ ممن نقل كلامه المجيب أو المعترض، أما رجال الأسانيد ونحو ذلك فلم أُترجم لأحدٍ منهم.

(المقدمة/75)


8 ــ ربطتُ ــ حسب المستطاع ــ إحالات المصنف التي يُشير إلى بسطها في موضع آخر مع كتبه الأخرى. 9 ــ علقتُ على مواضع من الكتاب بتتميم فائدة، أو ذكرٍ لاختيار ابن تيمية، أو مواضعَ بحثِ هذه المسألة من كتبه الأخرى، أو نحو ذلك مما رأيتُ فائدته لقارئ الكتاب؛ ملتزمًا في ذلك كلِّه الاختصار. وأرجو ألا أكون داخلًا فيمن عناهم الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم - رحمه الله - في مقدمته لمجموع الفتاوى (1 / د): (وأعيذ بالله مَنْ قد يتولاه أنْ يُحَشِّي عليه، فهو ذهبٌ مصفَّى، حقَّقَهُ مَنْ قد علمتَ نزرًا من مزايا فضله، فهو غنيٌّ عَن زعم تحقيق بعض العصريين الذين لم يَبلغوا شأوه، وغَنِيٌّ عن عنونتهم وغيرها أثناء كلامه، وعن تعليقاتهم؛ فلبعضهم من الاعتراضات والسقطات ما يَعرفه الناقد البصير). 10 ــ صنعت فهارس للكتاب، وهي على النحو التالي: أولًا: الفهارس اللفظية؛ وتشمل: أـ فهرس الآيات القرآنية. ب ــ فهرس الأحاديث النبوية. ج ــ فهرس الآثار. د ــ فهرس الأشعار. هـ ــ فهرس الأعلام. وـ فهرس الكتب.

(المقدمة/76)


ثانيًا: الفهارس العلمية؛ وتشمل: أ - العقيدة. ب - الحديث وعلومه. ج - أصول الفقه. د - القواعد الفقهية والأصولية. هـ- اللغة والنحو. و- فوائد متفرقة. وختمت الفهارس بفهرس مراجع التحقيق. وقدمت للكتاب بمقدمات تبيِّن أهميته، وصحة نسبته لمؤلفه، وما يتعلق بذلك، وعرَّفت بجملةٍ من الكتب التي تحدثت عن تعليق الطلاق. وأرجو ممن وقعَ على خطأ أو استدراك أنْ يزودني به مشكورًا، لتدارك ذلك في الطبعات القادمة إن شاء الله، (ويأبى الله العصمة لكتابٍ غير كتابِهِ، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه) (1). وأحمد الله على إعانته لي على إتمام هذا العمل، وأسأله ــ سبحانه ــ أن يَجعله خالصًا لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه عبد الله بن محمد المزروع mzroa [email protected] 0504460717 _________ (1) تقرير القواعد وتحرير الفوائد (1/ 4).

(المقدمة/77)


نماذج من النسخة الخطية

(المقدمة/79)


اللوحة الأولى من ردّ ابن تيمية على السبكي

(المقدمة/81)


لوحة يظهر فيها أثر الرطوبة التي أصابت بعض صفحات المخطوط

(المقدمة/82)


اللوحة الأخيرة من ردّ ابن تيمية على السبكي

(المقدمة/83)


اللوحة الأولى من كتاب (التحقيق في مسألة التعليق) للسبكي

(المقدمة/84)


اللوحة الأخيرة من كتاب (التحقيق في مسألة التعليق) للسبكي

(المقدمة/85)


[ ... ] (1) الدين ما لم يأذن به الله، وهذا ينكر من الدين ما شرعه الله! فنفاة المعاني الشرعية والحِكَم الإلهية الذين لا يعتصمون إلا بظاهرٍ من القول إنما يعتصمون بعمومات فيدخلون فيها ما لم يُرِدْهُ المتكلم، أو باستصحاب حال البراءة الذي هو من أضعف الأدلة، وليس هو دليلاً شرعيًا في الحقيقة وإنما هو عدم دليل؛ ولهذا تنازع الناس فيه؛ هل يصلح للنفي أو للدفع على قولين: قيل: تُنْفَى بهِ الأحكام لكن بعد البحث التام عن الناقل بالاتفاق. وقيل: لا يُنْفَى بهِ شيء بل يدفع بهِ قول المثبت، فيصلح للمنع لا للنفي، والمانع لا دليل عليه، والنافي عليه دليل (2). فالمانع مطالِبٌ بالدليل؛ كذلك المستمسك بالاستصحاب العدمي المعلوم بالعقل، وأما النافي فهو كالمثبت لا بُدَّ لهُ من دليلٍ عَلِمَ بِهِ النفيَ، والمثبت لا بُدَّ له من دليل عَلِمَ بِهِ الإثبات. وهؤلاء يقولون: المستصحب طالب علم ليس معه علمٌ لا بنفي ولا إثبات، فليس له أن يعتقد موجَب الاستصحاب ولا يُفتي به ولا يحكم به؛ بل يمسك عن الإثبات كالذي لم يقم معه دليل لا على إثبات ولا نفي (3). _________ (1) من هنا بدأت النسخة، وهو المجلد الثاني من ردِّ ابن تيمية، وقد تقدم التنبيه على وجود سقط في أول هذا المجلد قرابة عشر لوحات. (2) مجموع الفتاوى (11/ 342) (13/ 112) (23/ 15 وما بعدها) (29/ 165)، جامع المسائل (2/ 282)، المسوَّدة (1/ 304) (2/ 885 وما بعدها)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 255، 314) (2/ 442 - 444، 617 - 620، 626). (3) القواعد الكلية (ص 419) ــ وهو في المجموع (29/ 166) ــ: (أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي: فقد أجمع المسلمون وعُلِمَ بالاضطرار من دين الإسلام: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك؛ فإنَّ جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مغيِّر لهذا الاستصحاب، فلا يُوْثَقُ به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك).

(1/3)


فنفاةُ القياس عمدتهم إما الاستصحاب وإما العموم، وأما المُخَلِّطُون فيه الذين لا يميزون بين صحيحه وفاسده؛ بل يُعَلِّقونَ الأحكام بما رأوه من الصفات الشبهية والمعاني الذي يَخْطُرُ بقلوبهم أنها مناط الحكمِ في الشرع من غير دليلٍ يَدُلُّ على ذلك = فهم يُشْبِهُونَ أهل الخرص والحَزْر والتكهن الذين يتكلمون بلا دليل، وخير الأمور أوساطها، كما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من (1) اعتبارِ المعاني التي اعتبرها الله ــ عز وجل ــ ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والاستدلال بالألفاظ التي تُبَيِّن مرادَ اللهِ ورسولِهِ؛ فيعلم مراده باللفظ ويعرف الأسباب والحِكَم التي عَلَّقَ بِها الأحكام بما يَدُلُّ على ذلك، والمجتهد المصيب له أجران، والمخطئ له أجر، وخطؤه مغفورٌ له (2). والمقصود هنا: أنه اشترط في النذر شرطًا بلا دليل، وفَرَّقَ بِهِ وَمَنَعَ ثبوتَ الوصفِ المؤثر وتعليق الحكم به، وهو قصده اليمين الذي يتضمن أنه لم يقصد الجزاء [2/ أ] بحال؛ بل قَصَدَ أنْ يَلتزمَهُ ليكون لُزُومُهُ معَ كراهةِ لزومِهِ مانعًا له من قصد الملزوم لا موجبًا لقصد اللازم. _________ (1) كتب الناسخ بعدها: (غير) ثم ضرب عليها. (2) انظر ما سيأتي (ص 36، 39، 807 - 809 مهم).

(1/4)


فصلٌ ثم أورد (1) على نفسِهِ سؤالاً ولم يُجِب عنه؛ فقال: (فإنْ قلتَ: يلزمُ أنَّ العتق المُنَجَّزَ لا يقع إذا لم ينوِ التقرب به، وأنَّ النذر المنجَّزَ أو المعلَّق إذا لم يقصد بِهِ التقرب لا يقع) (2). وتوجيه السؤال: أنه إذا اُشْتُرِطَ في النذر قصد التقرب فلأن يُشترطَ ذلك في قصد المنذور إذا فعلَهُ بطريق الأولى؛ فيلزم أنَّ مَن فعل (3) شيئًا من جنس ما يُنذَر ــ كالعتق والصدقة ــ بغير قصدِ التقرب لا يصح إذا لم ينو التقرب بهِ، ومعلومٌ أنَّ العتق والصدقة تصح من الكافر الذي ليس مِنْ أهلِ قصد التقرب إلى الله (4)، ويصح عِتْقُ العبد وإنْ لم يَخْطُر بقلبِ صاحبِهِ التقربَ، وكذلك الصدقة. لكن حصول الثوابِ من الله يكونُ مشروطًا بقصد التقرب، لكن لا يلزم من عدمِ الثواب ألا يَعْتُق، ولا يملك الفقير ما أُعطيَهُ. وقال في الجواب: (قلتُ: أما الأول؛ فإما أن يلتزمَ ذلك على مذهبِ أبي ثور ويُفَرِّق بين الطلاق والعتق، وإما أَنْ يقول: العتق لا يُشترطُ فيه التقرب إلا للثواب (5) عليه، أما من جهة تحرير أو إزالة الملك فلا. _________ (1) في الأصل: (أودر). (2) «التحقيق» (34/ ب). (3) كتب الناسخ فوقها: (أظنه). (4) انظر ما سيأتي (ص 11 - 12، 370 - 371، 671). (5) في الأصل: (الثواب)، والمثبت من «التحقيق».

(1/5)


فإنَّ العتق (1) له جهتان: إحداهما: كونه إسقاط ملك وهو حَقٌّ مِن جملةِ الحقوق؛ فمن هذه الجهة لا يشترط فيه قصد القربة، كالإبراء من الديون وما أشبهَهُ. والثانية: كونه مُعِينًا على التخلص لعبادةِ الله ــ تعالى ــ؛ ومن هذه الجهة هو قربةٌ وطاعة، ورافعٌ الإذلال (2) الذي هو يلزم. فإنْ قَصَدَ المعتقُ بعتقِهِ ذلك حَصَلَ له الثواب، وإنْ لم يقصد ذلك حصل العتق كما يحصل الإبراء من الحقوق من غير قصد القربة (3). وأما الثاني: فإنْ قلتَ: إذا كان المشي مقصودًا، والمشيُ طاعة؛ فالطاعة مقصودةٌ. قلتُ: قصدُ المشي له جهتان: إحداهما: قصده من حيث كونه امتثالاً للأمر المطلق في الترغيب في النوافل، وهذا هو الطاعة، وليس مقصودًا هاهنا. والثانية: قصدُهُ لأمرٍ آخر، كما هو في نذر اللجاج والغضب، فإنه إنما قَصَدَهُ ليكون مانعًا له من ذلك الفعل لا ليتقرب به؛ فهذا ليس بطاعة، فلا [2/ ب] يدخل في قوله: «من نَذَرَ أن يطيعَ الله فليطعه» (4)) (5). _________ (1) في الأصل: (المعتق)، والمثبت من «التحقيق». (2) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (للإذلال). (3) في «التحقيق» أعاد الجهة الثانية مرتين، وفيه اختلاف يسير. (4) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6696) وبرقم (6700) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (5) «التحقيق» (34/ ب).

(1/6)


وأما الثاني [ ... ] (1). فيقال: أما قوله: (أما الأول: فإما أنْ يلتزم ذلك على مذهب أبي ثورٍ ويُفرِّق بين الطلاق والعتق) فيقال: أولاً: أنتَ تُخطِّئ أبا ثورٍ ومن قال بقوله. وثانيًا: أنَّ هذا ليس موافقةً لأبي ثور؛ فإنَّ أبا ثور كانَ يجعل هذا يمينًا من أيمان المسلمين، ويحتجُّ بالقرآن، ويقول: إنَّ مقتضى الدليل أنَّ جميع الأيمان تجري فيها الكفارة إلا أنْ ينعقدَ الإجماعُ في صورةٍ على خلاف ذلك = لم يكن مأخذَ أبي ثورٍ - رحمه الله -. وقد ذَكَرَ هو نفسُهُ لفظَ أبي ثورٍ فقال: (قال أبو ثور: مَنْ حلفَ بالعتق فعليهِ كفارةُ يمين، ولا عِتْقَ عليه). قال: (وذلك أنَّ اللهَ أوجبَ في كتابِهِ كفارةَ اليمين على كلِّ حالفٍ فقال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] يعني: فحنثتم) قال أبو ثور: (فكلُّ يمينٍ حَلَفَ بها الإنسانُ فَحَنِثَ فعليه الكفارة على ظاهرِ الكتاب إلا أنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ولم يجتمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارةَ، وألزمناه الطلاقَ للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة، لأنَّ الأمةَ لم تجتمع على ألا كفارةَ فيه) (2). _________ (1) بياض في الأصل مقدار كلمتين. (2) نقل كلام أبي ثور: محمد بن نصر المروزي في كتابه اختلاف الفقهاء (ص 492). ونقل السبكي في «التحقيق» (44/ ب) كلام أبي ثور بواسطة الاستذكار لابن عبد البر، وابن عبد البر نقله من كتاب المروزي. وستأتي مناقشة المجيب لكلامه (ص 603 - 608، 823 - 827).

(1/7)


فهذا أبو ثورٍ قد بيَّنَ مذهبَهُ: أنَّ الحالف بالعتق حالفٌ يمينًا عليه فيها كفارةٌ، وهذا مقتضى الدليل عنده على كلِّ حالفٍ؛ فالطلاقُ كان مقتضى ظاهر الكتاب عنده أنْ يكونَ على الحالفِ بالطلاق الكفارة, لأنه يمين من أيمانِ المسلمين حَلَفَ بها الإنسان فحَنِثَ (1). ثم قال (2): (إلا أنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ولم يجتمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارةَ، وألزمناه الطلاقَ للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة، لأنَّ الأمةَ لم تجتمع على ألا كفارةَ فيه). فقد بيَّنَ أبو ثورٍ مأخذه، وأنَّ مقتضى ظاهر القرآن عنده: أنَّ كُلَّ حالفٍ سواء إِنْ حَلَفَ بالطلاق أو غيرِهِ أنه تجزئه كفارةُ يمينٍ إذا حنث، لكنَّ الإجماعَ الذي يعتقدُهُ إذا عارضَ ظاهرَ القرآن رَجَّحَ الإجماع، والإجماع الذي اعتقدَهُ: إجماعُهُم على ألا كفارةَ فيه [3/ أ] لا على أنَّه لا (3) يلزمه طلاقٌ ــ كما بيَّنَهُ ــ، لكن إذا أجمعوا أنه لا كفارةَ فيه امتنع أنْ يجب عليه كفارة، وحينئذٍ فهو حالفٌ عنده، وموجَب يمينِهِ لزومُ ما حلفَ بهِ أو الكفارة، فلما سقطت الكفارة بما ظَنَّه من الإجماع، والواجب عنده إذا سقطَ هذا لزوم الآخر= ألزمه (4) بالطلاق. _________ (1) نقل ابن المنذر في الأوسط (12/ 132) عن أبي عبيد أنَّ الطلاق أشبه بالعتق منه بغيره من وجهين. (2) أي: أبو ثور. (3) كذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها. (4) في الأصل: (الإجزاء لزمه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/8)


وهذا مسلكُ محمد بن جرير (1) تلقاهُ عن أبي ثور، واعتقد الإجماع كما اعتقده أبو ثور وعنه أخذَهُ، وكان كتابُ أبي ثورٍ عنده ينقل منه كما نقلَ منه في كتاب (الاختلاف) ألفاظَ أبي ثورٍ بعينها. وابن جرير كانَ أوسعَ ادعاءً للإجماع من أبي ثور، فإنه كان يقول: إنَّ خلافَ الواحد والاثنين لا يُعتدُّ بِهِ، فجعلَ قولَ الجمهور إجماعًا؛ كما فعلَ ذلك في مسائل كثيرة (2)، كما ادعى الإجماع على أنَّ متروكَ التسميةِ سهوًا يُباحُ أكلُهُ (3)، وأمثالِ ذلك مما يُنكرُهُ عليه جمهور العلماء، ثمَّ إنَّه مع ذلك _________ (1) كتب الناسخ في الهامش: (أظنه: ابن نصر). ويحتمل ما هو مثبت ويحتمل ما أشار إليه الناسخ في الهامش، وذلك لأنَّ لكلٍّ من المروزي والطبري كتابًا بعنوان (اختلاف الفقهاء)، وكلاهما نقل عن أبي ثور الإجماع في هذه المسألة. انظر: اختلاف الفقهاء للمروزي (ص 491 وما بعدها)، وأما (اختلاف الفقهاء) للطبري فالمطبوع منه لا يوجد فيه هذا النقل عن أبي ثور إلا أنَّ ابن تيمية في (ص 169) أشار إلى أنَّ الطبري نقل الإجماع استنادًا على كلام أبي ثور. والذي يظهر لي ــ والله أعلم ــ أن المثبت هو الصواب؛ لأنَّ هذا هو المنقول من الأصل المنسوخ منه، ولأنَّ الكلام الذي بعده متعلق بالطبري لا المروزي. (2) منهاج السنة (8/ 335). وانظر ما سيأتي (ص 225، 227). وما ذكره المجيب عن ابن جرير هو المشهور في كتب الأصوليين، وقد نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء (6/ 2458) تعريف الطبري للإجماع فقال: (ولو رجع ــ أي: ابن داود ــ إلى كتابه في رسالة اللطيف وفي رسالة الاختلاف وما أودعه كثيرًا من كتبه من أن الإجماع هو: نقل المتواترين لما أجمع عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآثار، دون أن يكون ذلك رأيًا ومأخوذًا جهة القياس). (3) جامع البيان في تفسير القرآن (9/ 529).

(1/9)


كان عنده أنَّ هذه ليست أيمانًا منعقدة تجب فيها الكفارة، ولا تَدخلُ في عموم الآيةِ؛ بل جعلها أيمانًا غير منعقدةٍ، كأيمانِ أهل الشرك، واتَّبَعَ مَنْ قالَ ذلك في الحلف بالنذر والعتق؛ كما قال ذلك الحارث العكلي وغيره (1). وقال: إنه لا يجب عليه شيءٌ لا في الحلف بالعتق ولا غيرِهِ. وأما داود فكان هو وأصحابُهُ أكثر توسعًا في الأدلة والنظر وأقوال أهل العلم، والعلمِ بالإجماع والاختلاف، لكن كانَ من نُفاة القياس هو وأصحابهُ، فقال في جميعِ هذه التعليقات التي يُقصدُ بها اليمين: إنه ليس فيها شيء، وطردوا ذلك في الطلاق لعلمهم بما فيهِ من النزاع. وأبو ثورٍ لم يذكر فرقًا معنويًا بين الطلاق وغيره، ولا بينَ الصفات المؤثرة من (2) الفرق بين الطلاق وغيره، ولكن ظن الإجماع على أنَّ الحلف بالطلاق لا كفارةَ فيه، وقد بيَّنَ مراده في كلامِهِ الذي ذكرناه عنه في غير هذا الموضع عن الإجماع = أنَّ مراده بالإجماع عدم علمه بالمُنَازِع، فهذه مقدمة. والمقدمةُ الأخرى: أنه إذا انتفت الكفارةُ لَزِمَ وقوعُ المحلوفِ به، لأنَّ هذه عنده أيمانٌ منعقدة يتناولها عموم قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] لفظًا ومعنى، لكن للإجماع المظنون في سقوط الكفارة فَرَّقَ، وهذا إنما يصح [3/ ب] على قول من يُجَوِّز الاستحسان الذي تُخَصُّ بِهِ العلة الشرعية لفظًا ومعنى بدون فوات شرطٍ ولا انتفاء مانع؛ وهذا أصلٌ ضعيف، كما قد بُسِطَ في موضعه (3). _________ (1) المغني (13/ 461 - 462). (2) كتب الناسخ في الهامش: (في) وفوقها حرف (خ) إشارة إلى أنه في نسخة. (3) مجموع الفتاوى (20/ 167)، بيان الدليل (ص 329 وما بعدها)، المسوَّدة (2/ 774). وانظر ما سيأتي (ص 275 - 276، 378).

(1/10)


وَبُيِّنَ أنَّ العلة التي دَلَّ الشرع على صحتها لا يجوز تخصيصها إلا بفوت شرطٍ أو وجودِ مانع، فتكون صور التخصيص مختصة بوصف يوجب الفرق بينها وبين غيرها، وإلا فالشارعُ أحكمُ الحكماء لا يجوز أن ينسب إليه الفرق بين المتماثلين، والتسوية بين المختلفين، ولا أنه يجعل المعنى الموجب للحكم يُوجِبُهُ تارةً ولا يُوجبُهُ أخرى، مع عدم اختصاص إحدى الصورتين بمعنى يوجب الإثبات أو النفي؛ وهل يصدر هذا إلا عن متناقض ناقص العلم أو الحكمة؟! يَفعل ذلك إما لنقصِ علمهِ وإما لنقصِ حِكمتِهِ. وإنه ــ تعالى ــ عليمٌ حكيم، فوقَ كل عليمٍ، وفوقَ كلِّ حكيمٍ، فيمتنع أن يكون في شرعِهِ الذي بعثَ به خاتم المرسلين وأفضلهم وأتمهم علمًا وحكمةً= يمتنع أنْ يكونَ في أحكامِهِ من التناقض ما يدل على نقص فاعلِهِ، فإذا كان مثل هذا النقص مستلزمًا (1) نقصَ علمِ صاحبه أو حكمته، والله ــ سبحانه وتعالى ــ يتقدس عن ذلك= كانَ انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم (2). والمقصود: أنَّ أبا ثورٍ ــ رحمة الله عليه ــ قد بيَّن مذهبه أنَّ هذه التعليقات أيمانٌ تدخل في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وأنَّ ظاهر القرآن يدل على تكفير جميع هذه الأيمان الحلف بالطلاق والعتاق وغير ذلك؛ فأين قول أبي ثور من قولِ هذا المعترض الذي ينكر أن تكون هذه أيمانًا ويمنع دخولها في القرآن؟! فَدَلَّ على أنَّ ما ذكره أبو ثورٍ حجةٌ عليه لا لَهُ، وأنَّ أبا ثور لم يُفرِّق بين _________ (1) في الأصل: «مستلزم» والصواب ما أثبت. (2) شرح الأصبهانية (ص 142).

(1/11)


العتق والطلاق لكون النذر يُشترط فيه قصد القربة، ولا قال أبو ثور: إنَّ العتق المنجَّز لا يقع إذا لم يَنوِ التقرب به، ولا قال هذا أحدٌ من الأئمة المعروفين؛ بل هم متفقون على صحة عِتق الكافر لعبده؛ بل أبو ثور بيَّن أنَّ التعليق الذي يُقصدُ بِهِ اليمين هو يمين، وإنْ كانَ المُعلَّقُ عتقًا وطلاقًا، وأنَّ ظاهر القرآن يوجب تكفير كل يمين، فإنْ وافقت أبا ثور [4/ أ] فالزم ذلك، وهاتِ دليلاً يدل على خروج الطلاق من ظاهر القرآن لفظًا ومعنى؛ فإنَّ ظاهر القرآن الذي هو لفظه، وباطنُهُ الذي هو معناه يدلُّ على أنَّ الحالف (1) بالطلاق أو العتق أو غيرهما تجزئه كفارة يمين كما تجزئ غيره. وما من منصف إلا وهو يُسَلِّمُ أنَّ ظاهر القرآن يدل على هذا كما يُسلمه أبو ثور؛ فإذا ادَّعَى الإجماع فهنا مقامان: أحدهما: أنْ نقول: النزاعُ معلومٌ، ومع العلمِ بالنزاع يمتنع دعوى الإجماع، وأبو ثورٍ وإنْ لم يَبلغه النزاع في الكفارة، فقد بلغ غيره؛ كما أنَّ طائفةً أخرى ادعت الإجماع في أنَّ العتق المحلوف به يلزم (2)، وقد بلغ غيرها من النزاع ما لم يبلغها، وتقرير النزاع مبسوط في مواضع أخر. وهذا المعترض إذا قُرر النزاعُ عليه بطلت هذه الدعوى، وقد تقدم قريبًا أنه في الكتاب الذي نقل منه الإجماع على وقوع الطلاق المعلَّق المقصود به الإيقاع = فيه نقلُ النزاع في الطلاق المعلَّق الذي يقصد به اليمين، وفيه ذِكرُ الأقوال الثلاثة: هل يُكَفِّر، أو لا يكفر ولا يَلزمه طلاق، أم يلزمه طلاق ولا _________ (1) في الأصل: «الحلف». (2) نقل الإجماع على ذلك ابن جرير الطبري في اختلاف الفقهاء (ص 34). وانظر ما سيأتي (ص 297، 747 - 748، 751 - 752).

(1/12)


تجزئه الكفارة. والثاني: أنَّا قبل أنْ نعلم النزاع مَعَنَا ظَنَّان: ظنُّ الإجماع، وظنُّ عموم القرآن لفظًا ومعنى؛ فمن كان قوةُ ظنِّ الإجماع عنده أقوى ــ كأبي ثور ــ قدَّمَ هذا الظن، ومن كان ظنُّه بكلام الله وعلمه وحكمته أتم، وأنَّ الله ــ تعالى ــ لا يُفرِّقُ بين المتماثلين ولا ينقض العلة لغير مخصصٍ معنوي، وكان ــ أيضًا ــ إذا رجعَ إلى نفسهِ لم يَجد عنده اعتقادًا بنفي النزاع يقاوم هذا الاعتقاد الذي عَلِمَهُ من كلام الله وكلام رسوله = حَكَمَ بأنَّ الأمةَ لا تجتمع على مثل هذا، وأنها معصومةٌ أن تجتمع على خطأ. والفرق بينَ المتماثلين ونقض العلة بدون مخصص معنوي تُنَزَّهُ الأمةُ أن تجتمع عليه؛ كما نَزَّهَ الله ــ عز وجل ــ رسولهُ - صلى الله عليه وسلم - أن يكونَ في حُكمِهِ مثل هذا التعارض الذي يوجب القدح في أحدها؛ إمَّا في دلالة الكتاب والسنة لفظًا ومعنى، وإمَّا في دلالة الإجماع، وكلٌّ من الدلالتين [4/ ب] صحيحة، والحقُّ لا يَتعارضُ (1). ثم إذا نظرَ في كلِّ إجماع معلوم وجده موافقًا للنصوص لا مخالفًا لها، ولا تجد قطُّ إجماعًا يخالفُ دلالة الكتاب والسنة إلا ومع الإجماع دلالة أخرى من الكتاب والسنة توجب ترجيحها على الأول، فيكون أحدُ النصين ناسخًا للآخر، إمَّا دفعًا لحكمه ــ وهو النسخ الخاص ــ، وإما دفعًا لظاهر دلالته ــ وهو النسخ العام ــ؛ وهذا أصلُ أحمد بن حنبل وغيره من سلف الأمة وأئمتها المتبعين للصحابة لا يعارضون قط دلالة كتاب وسنة بإجماعٍ، كما فعل أبو ثور وأمثاله (2). _________ (1) بيان الدليل (ص 333). وانظر ما سيأتي (ص 87 - 88). (2) قال في مجموع الفتاوى (32/ 115) ــ وهو في الفتاوى الكبرى 3/ 179 ــ: (وكلُّ من عارض نصًا بإجماعٍ، وادَّعى نسخه من غيرِ نصٍّ ناسخٍ يُعارض ذلك النص؛ فإنه مخطئٌ في ذلك، كما قد بسط الكلام على هذا في مواضع أخر؛ وبيّن أنَّ النصوص لم يُنسخ منها شيءٌ إلا بنصٍّ باقٍ محفوظٍ عند الأمة، وعلمها بالناسخ الذي العمل به أهمُّ عندنا من علمها بالمنسوخ الذي لا يجوز العمل به، وحفظُ الله النصوص الناسخة أولى من حفظه المنسوخة). وانظر ما سيأتي (ص 633).

(1/13)


وأحمد كان يقول: (من ادَّعَى الإجماع فقد كذب، وما يُدريهِ أنَّ الناس أجمعوا (1) كان مقصوده بذلك: أنَّ يَرُدَّ ما يحكى له عن أبي ثورٍ ونحوه من الإجماعات، فإن طائفةً من أصحابه كانوا يسألونه عن أشياء يقولها أبو ثور (2). وكان أبو ثور؛ إمامًا مجتهدًا فقيهًا أفقه أهل بغداد، أو من أفقه أهل بغداد بعد أحمد، وكان أحمد كثيرًا يدلُّ عليه في الفتيا، فيقول للسائل: (سل الفقهاء، سل أبا ثور). ويقول: (هو في مسلاخ الثوري) (3). وكان أحيانًا ينكر عليه إذا رأى أنه قال أقوالاً مبتدعة، كقوله في المجوس: إنه يباحُ نكاحهم وذبائحهم (4). حتى يقولَ أحيانًا: (أبو ثورٍ كاسمِهِ) (5). وفي _________ (1) في الأصل: (اختلفوا)، ولا تستقيم العبارة إلا بما أثبتُّ، وستأتي على الصواب في (ص 15). (2) مجموع الفتاوى (19/ 271)، الفتاوى الكبرى (6/ 286)، الإخنائية (ص 459). وانظر ما سيأتي (ص 136، 604 - 605). (3) تاريخ بغداد (6/ 579). وانظر: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص 92). وما سيأتي (ص 605). (4) أهل الملل والردة والزندقة من كتاب الجامع للخلال برقم (456 - 458، 1053 - 1055، 1058). وانظر: قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم (ص 172)، أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 816)، شرح الزركشي (6/ 645). (5) انظر: أحكام أهل الذمة (2/ 817)، طبقات الشافعيين (ص 99).

(1/14)


روايةٍ أخرى عنه: (كيف يجوز للرجل أن يقولَ: أجمعوا؟! إذا سمعتهم (1) يقولون: أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إني لم أعلم مخالفًا جاز). وكذلك نقلَ عنه أبو طالبٍ أنه قال: (هذا كذبٌ؛ ما عِلْمُهُ أنَّ الناس مجمعون؟! ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافًا، فهو أحسن من قوله: إجماع الناس). وكذلك نقلَ عنه أبو الحارث: (لا ينبغي لأحدٍ أنْ يدَّعي الإجماع، لعل الناس اختلفوا) (2). فأحمد وأمثاله يقولون: (من ادَّعى الإجماع في مثلِ هذا فقد كَذَبَ، وما يدريه أنَّ الناس أجمعوا، ولكن يقول: لا أعلم منازعًا)، وعدمُ علمهِ بالمنازع لا يُزيلُ بهِ ما بيَّنَه اللهُ ورسوله في كتابهِ وسنةِ نبيه من الدلالة البيِّنَةِ لفظًا ومعنى. وحينئذٍ؛ فإذا رأى هذا فلا يَزال يبحث حتى يجدَ الصورة المدعى فيها الإجماع تختص بفرق مؤثرٍ في الشرع، فيكون الله ورسوله قد فرَّقَ [5/ أ] بمثلِ ذلك، وإما أنْ يَعلمَ أنَّ في المسألة نزاعًا يَرفعُ ما ادُّعِيَ من الإجماع، وحينئذٍ فيحكِّم الكتاب والسنة، وعلى قَدْرِ علمه بدلالة الكتاب والسنة لفظًا ومعنى وبعدمِ النزاع = يكون ترجيح أحد القولين؛ فمن كانت تلك الدلالة عنده أقوى من ظَنِّ عدم النزاع قَدَّمَ ذلك، ومن كان ظنُّ عدم النزاع عنده أقوى من دلالة الكتاب والسنة على تلك المسألة قوي ما ظَنَّهُ إجماعًا؛ كما فعل أبو ثور وابن جرير. _________ (1) في الأصل: (سمعتم)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) سيأتي توثيق هذه النقول عن الإمام أحمد في (ص 604 - 605).

(1/15)


فهذه مآخذ العلماء المجتهدين، وليس في هؤلاء مَن نازع في كونِ ذلك يمينًا كما فعل هذا المعترض وأمثاله، ولا ادعوا ما يُعْلم فسادُهُ من كون المعلِّق تعليق اليمين قَصَدَ وقوعَ الجزاء عند وجود الشرط ونحو ذلك من الدعاوي التي يظهر فسادُها ومخالفتها للأدلة السمعية والعقلية. وقوله: (وإما أن يقول العتق لا يشترط فيه التقرب) إلى آخره كما تقدم. فيقال: الكلام على هذا من وجوه: أحدها: أنَّ هذا حُجَّة على المعترض ــ أيضًا ــ فإنه إذا لم يُشترط في العتق قَصْدُ التقرب، فكذلك لا يُشترط في صحة نذره قصد القربة بطريق الأولى والأحرى؛ فإنَّ المقصود بالنذر: فعلُ الطاعة، فإذا لم يشترطوا في فعل الطاعة قصدَ القربة فألا يشترطوا ذلك في نذره أولى وأحرى. الثاني: أنَّ ما ذكره مضمونه: أنَّ العتق فيه حقان؛ حق العبد بزوال الملك عنه كالإبراء، وحقٌّ لله بتخليصه من الرق. فيقال: وهذا صحيح، لكن دعواه أنَّ قصد القربة معتبرٌ في حقِّ الله في تلك دون هذه خطأ، فإنه لا يُعتبر في واحدةٍ منهما قصد التقرب؛ بل يصير حُرًّا خالصًا لله وإنْ لم يقصد التقرب، وإذا اشترط قصد التقرب للثواب، فلا يُثاب لا من هذه الجهة ولا من هذه إلا بقصد التقرب؛ فأين حصولُ الثواب من حصول الحرية التي هي حقٌّ للهِ وحقٌّ للعبد؟ وهذان الوجهان قد اعتبرهما الفقهاء؛ فقال جمهورهم: تجوز الشهادة بالعتق من غير تقدم دعوى، كما يصح بالطلاق لما فيه مِنْ حق الله ــ تعالى ــ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقال [5/ ب] أبو حنيفة: لا بُدَّ من دعوى العبد.

(1/16)


الثالث: أن يقال: هَبْ أنَّ العتق تكلفت فيه هذا التكلف الفاسد؛ فكيف تصنع في النذر المُنَجَّز أو المعلَّق إذا لم يُقصد به التقرب؟ فإنك قد سألتَ نفسك وقلتَ: إنه يلزمك أنَّ هذا لم يقع، ولم تذكر عنه جوابًا، بل اقتصرت على قولك: (وأما الثاني ... )، ولم يمكنك تُحَبِّرُ (1) جوابًا. الرابع: أن يقال: إذا كان العتق الذي يلزم عندك إذا كان معلقًا سواءً قصد اليمين أو الإيقاع، وقد فَرَّقْتَ بينه وبين الطلاق اتباعًا لأبي ثور؛ فأبو ثورٍ يُفرِّقُ بين تلك الأمور ــ أيضًا ــ وبين الطلاق، فينبغي إنْ كنتَ متبعًا له أنْ تقولَ تلك الأمور يشترط فيها قصد القربة، كما ادعيتَ أنَّ أبا ثور اشترط ذلك في العتق. ثم من العجائب: أنَّ قصدَ القربة هو عنده مانعٌ من اللزوم، وأبو ثور يُلزم بالعتق وبنذر الطاعات دون الطلاق، فإنْ كانَ مأخذه أنه لم يقصد التقرب به، فيكون عدم قصد التقرب هو الموجب للزوم الوفاء، ويكون ما لم يقصد به التقرب يجب الوفاء به، وما قصد به التقرب لا يجب الوفاء به، وهذا نقيض ما ادعيته. وهذا إنما لزمه لأنه اعتضد بقول أبي ثور، وهو مناقضٌ لقوله لا موافقٌ له، ولكن شاركه في صورة الفرق بين العتق وغيره. وأيضًا؛ فقد زعم أنَّ في العتق جهتين (2): حقَّ الحقِّ، وحقَّ الخلقِ؛ وَجَعَلَ هذا هو الفرق إنْ لم يوافق أبا ثور، وهذا موجودٌ في نذر الصدقة والهَدي ونحو ذلك مما فيه حقان؛ حقٌّ لله وحقٌّ للعباد. _________ (1) الكلمة غير منقوطة في الأصل، ولعلها ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (جهتان)، والجادة ما أثبتُّ.

(1/17)


فصلٌ قال: (الخامس عشر: أنَّ اقتضاء التعليق المذكور لوقوعِ الطلاق أمرٌ مشهور عند الخاصة والعامة لا يقبل التشكيك، وإدراجُ الحَلِفِ بالطلاق في أيمانِ المسلمين إنما كان لإدخال من أدخلها في البيعة، وقد كان في زمان هشام بن عبد الملك أميرٌ اسمه: توبة بن أبي أسيد (1) مولى بني العنبر (2)، أحسنَ إلى الناسِ وألانَ جانبَهُ، وأحسنَ إلى الجندِ، وامتنعَ أنْ يحلفهم بالطلاق [6/ أ] وكانَ الناس بعد موتهِ يُحَلِّفُونَ الجندَ بتلك الأيمان، ويُسمونها أيمان توبة. ولمَّا قَدِمَ عاصمُ بن عبد الله وأرادَ أنْ يُحلِّفَ الناسَ بالطلاق فأبوا، وقالوا: نحلف أيمانَ توبة؛ فهذا أمرٌ مشهورٌ عند العوام من ذلك العصر، ولولا ذلك لم يَمتنعوا منه، ولم يُحلِّفوهم به، ولاكتفوا منهم بالأيمان بالله) (3). والجواب من وجوه: أحدها: أنَّ كونَ الحلف بالطلاق يمينًا، والحلف بالعتق يمينًا، والحلف بالمشي وصدقة المال يمينًا، والحلف بالحرام يمينًا، وقول القائل: قد حلفَ بالطلاق أنه لا يَفعل، وحلف بالمشي أو بصدقة المال أنه لا يَفعل؛ فهذا أشهرُ عند العامة والخاصة من كلِّ ما يُناقضه. _________ (1) كذا في الأصل وبعض كتب التراجم، وفي بعضها: (الأسد). (2) هو: توبة بن كيسان، أبو المُوَرِّع العنبري البصري، ولد سنة (57)، وتوفي في الطاعون سنة (131). انظر في ترجمته: الطبقات لخليفة بن خياط (ص 365)، تاريخ دمشق (11/ 94)، تهذيب الكمال (4/ 336). (3) «التحقيق» (34/ ب)، وهو الوجه العشرون.

(1/18)


ولهذا يوجد (1) المتكلم بأنَّ هذه وأمثالها أيمانٌ في لغة العرب وأصناف العجم والترك والفرس والبربر والهند والحبشة، ويوجد ذلك في كلام المسلمين والكفار وإنْ لم يعتقدوا في موجِبها ما يعتقده المسلمون، ويوجد ذلك في كلام من لا يرى لزوم الطلاق من العلماء؛ السنة والشيعة والظاهرية والقائلين بالمعاني والاعتبار. فهذا مما يوجد في كلام جميع الطوائف بخلاف وقوعِ الطلاق بالحالف، فإنَّ هذا إنما يوجد في بعض المسلمين. الوجه الثاني: أنَّ قولَه: (اقتضاء التعليق لوقوع الطلاق أمرٌ مشهور) لفظٌ مجملٌ؛ فإنَّ هنا ثلاثة أمور: إرادةُ وقوعِ الطلاقِ عند الصفة أو كراهة وقوع الطلاق عند الصفة. والثاني: رَبْطُ الجزاءِ بالشرطِ وجعلُ الشرطِ مستلزمًا لوقوع الجزاء ومقتضيًا له. والثالث: اعتقادُ وقوعِ الطلاق عند الصفة وكذلك في سائر التعليقات. فإنْ أرادَ أنَّ كلَّ تعليقٍ يقصدُ بهِ اليمين فإرادة وقوعِ الطلاق عند الصفةِ بهِ أمرٌ مشهورٌ؛ فهذا مكابرةٌ تصدرُ عن جهلٍ أو عنادٍ؛ بل الأمر بخلاف ذلك، فليس أحدٌ من الخاصة ولا العامة إلا إذا رجعَ إلى نفسه عند تعليق الحلف إلا وهو يجدُ في نفسهِ كراهة تامة لوقوع الطلاق وغيره من اللوزام المعلقة، ويجد نفسَهُ غير مريدةٍ لذلك إذا وجدت الصفة. فإذا قيل له: (افعل كذا وكذا) لأمورٍ لا يريد أن يفعلها، فقال: لا أفعل، فألحوا [6/ ب] عليه، فحلف أنَّه لا يفعل. وقال: إنْ فعلتُ هذا فنسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وسائر مالي صدقة، وعليَّ عشرُ حججٍ، وأنا بريءٌ _________ (1) كذا في الأصل.

(1/19)


من الإسلام ونحو ذلك مما يُعلقه ويجعله لازمًا له إذا فعل ذلك، فهو يعلم من نفسه والناس يعلمون ــ أيضًا ــ منه أنه لم يرد إذا فعل ذلك الأمر أنْ يقع شيءٌ من هذا؛ لا طلاقُ نسائهِ، ولا عتقُ عبده، ولا أنْ يلزمه خروجه من ماله، ولا أن يلزمه عشر حجج، ولا أنْ تلزمه البراءة من دين الإسلام؛ بل هو يعلم من نفسه وهم يعلمون أنه لا يريد هذه الأمور البتة، سواء فعلَ ذلك الفعل أو لم يَفعله، وإنْ كان قد يريد بعضها ــ أحيانًا ــ، لكن مجموع هذه اللوازم المعلقة لا يريدها أحد أن تلزمه. والحالفُ كلما أراد أنْ يُغلظَ يمينه كثَّر من اللوازم التي يعلم هو وغيره أنه لا يريد أن تلزمه؛ ولهذا إذا طُلِبَ منه الحنث واعتقد أنها تلزمه يذكر ما عليه في لزومها له من الضرر العظيم الذي لا يريده حتى يُعْذَرَ في ترك الحنث، كما يُعذر الرجل إذا علم أنه إذا فعل فعلاً قُتِلَ وأُخِذَ أهلُهُ ومالُهُ وعُذِّبَ عذابًا شديدًا، فيقول: إنْ فعلتُ كذا حصلَ لي كذا، فإذا عُرِفَ أنه يلزم من فعل ذلك الضرر الذي ذكره عذروه بترك الفعل، وإنْ كانَ حصولُ ذلكَ ليس بعقده واختياره؛ بل بفعل مَنْ يَظلمه ويعتدي عليه إذا فعلَ ذلك، فيكون مكرهًا على ترك ذلك الفعل، فَيَعْذُرُ الناس الحالِفَ كما يعذرون المكره إذا عرفوا (1) أَنَّ فعلَ كلٍّ منهما يستلزم لوازم تَضره، وهو وهم يعلمون أنه لا يريد تلك اللوازم البتة؛ بل ما زال ولا يزال كارهًا لها. والإنسان مجبولٌ على حبِّ ما لائَمَهُ وبغض ما ينافيه، فليس في طبيعته محبةُ الأشياء التي تنافيه، ولا كراهة الأشياء التي تلائمه، لكن كثيرًا ما تتلازم المكاره والمحاب، فلا يوجد محبوبٌ إلا بمكروه. وحينئذٍ فيرجِّح أحدَهُمَا؛ _________ (1) في الأصل هنا زيادة: (أنه)، والنص مستقيم بدونها.

(1/20)


فإذا كانت (1) إرادته لدفع المكروه [أقوى] (2) دَفَعَهُ وإنْ فاتَ المحبوب، وإنْ (3) كانت إرادته للمحبوب أقوى طلبه وإنْ حصلَ المكروه. ومثل هذا يقعُ كثيرًا في تعليق الطلاق، إذا علَّقه بأمرٍ مكروه مثل مخالفتها له، وإضرارها به في نفسه وماله وعرضه، أو بأولادِه أو أمه أو جيرانه [7/ أ] أو أصدقائه، أو فعلها أمرًا مكروهًا في الدين ونحو ذلك، فهو يكره ذلك وهو يُحِبُّهَا ويكره طلاقها؛ فهنا يَجتمعُ محبوب ومكروه، فيريد أنْ ينهاها عن المكروه، ويقول لها: لا تفعلي ذلك. ثم تارةً يحلفُ عليها ألا تَفعله، ولا يُريدُ أنْ يُطلقها إذا فعلته، لأنَّ إرادتَهُ لبقائها معه أقوى من إرادتِهِ لدفع المكروه، فهي وإنْ كانت ــ أحيانًا ــ تخونه في بعض ماله أو تُطَوِّل لسانها عليه، أو تضرب أولادَهُ، أو تَخرجُ من منزله بغيرِ إذنهِ، أو تُطْعِمُ مالَهُ لأهلها، أو تَمتنع عليه ــ أحيانًا ــ من الفراش= فإنَّهُ يَكره ذلك وينهاها عنه، ولكن مع ذلك فراقُهَا أَكرهُ إليه وأبغض إليه من مقامِهَا على تلك الحال. كما يكون للرجل الولد الذي يؤذيه فينهاه عن الأذى، ويحلف عليه أنه (4) لا يؤذيه، ولا يختار مفارقةَ ابنه وإنْ آذاه، وكذلك قد يكون الأمر كذلك في مملوكه وصديقه فهو في مثل هذه الأمور يَحلفُ على أحدهم أنْ _________ (1) في الأصل: (كانَ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) إضافة يستقيم بها الكلام. (3) في الأصل: (فإن)، والصواب ما أثبت. (4) كذا في الأصل، ولعلها (أن) كما تقدم في الفقرة السابقة وكما سيأتي.

(1/21)


لا يَفعل ذلك، وكذلك يحلف على المرأة؛ وهؤلاء يَبَرُّونه لئلا يؤذوه (1) بالحنث ولئلا يَغضب عليهم إذا حَنَّثُوهُ، ولئلا يُعاقبهم إذا حنثوه، والمرأة تَبرُّه لذلك، وتَبَرُّهُ ــ أيضًا ــ لئلا يقعَ بها الطلاق إذا اعتقدت أنه إذا حَنثَ طَلُقت لما عليها في ذلك من الضرر بفراقه، فقد يَمنعها هذا من تحنيثِهِ. فهذا إذا قال: إنْ فعلتِ كذا فأنتِ طالقٌ، أو قال لولده: إنْ فعلتَ أنت كذا فامرأتي طالقٌ، أو قالَ ذلك لعبدِهِ أو صديقِهِ فهو كما لو قال: الطلاق يلزمني لا تفعلين، أو يقول لابنِهِ ومملوكِهِ وصديقِهِ: الطلاق يلزمني لا تَفعل هذا، أو يقول عن نفسِهِ: الطلاقُ يلزمني لا أفعل كذا؛ فهنا يعلم من نفسهِ أنَّه لم يُرِد أنْ يطلقها عند وقوع الصفة؛ بل لم يزل ممتنعًا من الطلاق كارهًا له غيرَ مريدٍ لوقوعِهِ سواءً وجدت الصفة أو لم توجد، وإنما علَّقَهُ بالصفةِ مع علمِهِ أنه كارهٌ لوقوعِهِ، ليجعل امتناعه من وقوعِهِ موجبًا لامتناع وجودِ الشرطِ الملزوم، وقصده باليمين منع أولئك، أو منعُ نفسهِ من الشرط بما علقه بالجزاء وجعلِهِ لازمًا له من الطلاقِ وغيرِهِ من الأمور التي جعلها لازمةً للشرطِ وهي أمورٌ لا يريدُها بل يَكرهُهَا [7/ ب]، بل فيها ما يَمتنعُ في العادة أنْ يريده، وما يَمتنع في الطبيعةَ وللجِبِلَّةِ أنْ يريده. وكلَّمَا غَلَّظَ اليمينَ زادَ من تعليق هذه الأمور التي هو في غايةِ الامتناع من إرادتها مثل أن يقول: إنْ فعلتُ كذا فلا أماتني الله على دين الإسلام، وقطع أربعتي، وسلبني بصر عيني، وحشرني مع فرعون وهامان وأُبَيِّ بن خَلَفٍ وأمثال ذلك من الأدعية التي يدعو بها على نفسه. والداعي طالب للمدعو مريد لوقوعه إذا كان الدعاء مقصودًا له، وأمَّا _________ (1) في الأصل: (يؤذونه)، والوجه النصب.

(1/22)


إذا كان معلقًا بالشرط الذي يريد عدَمَه فهو لم يرد الدعاء ولا المدعو به؛ بل هو من أبغض الناس وأبعدهم عن إرادة هذا الدعاء والطلب، وعن إرادة المطلوب المدعو به؛ بل يمتنع في الطبيعة أنْ يريد البشر مثل هذه المضار العظيمة المستلزمة لغاية الضرر في الدين والدنيا والآخرة، ومَنْ جَوَّزَ على البشر أنْ يريد الإنسان كلَّ ما يضره فهو جاهل بحقيقة الإنسان. كما يظن بعض الغالطين أنَّ صاحب الفناء عن إرادة ما سوى الحق، أو شهود ما سواه ينتهي إلى ألا يُفرِّق بين ما يؤلمه ويضره وبينَ ما يَلَذُّهُ وينفعه، ويبقى هذا له مقامًا ثابتًا، فإنَّ هذا جهلٌ بحقيقة الحي وصفات الحي؛ بل قد يعرض له ــ أحيانًا ــ حالٌ يغيب فيها عن الإحساس ببعض الأشياء مع أنَّ هذه ليست مما يؤمر بها، ولا يكون صاحبها بها أفضل ممن هو أكملُ منه، وليست هذه الحال من اللوزام لمن سلكَ طريقَ الله ولا غاية له، كما يظن هذا وهذا بعض الغالطين، ولكنَّها أمورٌ عارضةٌ لبعضِ الناس، وغايتُهُ أنْ يكونَ فيها معذورًا حصولها له بغير اختيارِهِ، وقد يُحمد على ما يقترن بها مما يُحبه الله ــ تعالى ــ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا أنَّ نفسَ عدمِ التمييز مما يحمد صاحبه عليه، كما يعذر الإنسان على ما يجده من الحزن والخوف ونحو ذلك مما لا يمكنه دفعه عن نفسهِ، فيعذر ولا يُذَم لعجزه لا أنه يحمد ويمدح على ذلك؛ بل يحمد ويمدح ويؤجر على صبره ونهيه نفسه عن الهوى، ومجاهدتِهِ لنفسه عن الهوى؛ كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله» (1)، ولبسط هذه _________ (1) أخرجه بلفظ: «المجاهد من جاهد نفسه» الترمذي في جامعه (1621) وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، والنسائي في الكبرى (11794) من حديث فَضَالة بن عبيد - رضي الله عنه -. وقد جاء في مسند الإمام أحمد (39/ 375، 381، 386، 387) بزيادة ألفاظ مقاربة «لله» «في الله» «في طاعة الله» «في سبيل الله». أما اللفظ الذي ذكره المؤلف بزيادة «في ذات الله» فهو عند الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (4/ 149) دون إسناد، وإنما قال: وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكره. وقال عنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/ 635)، (14/ 460): ثابت.

(1/23)


الأمور مواضعُ غير هذه (1). [8/ أ] والمقصود: أَنَّ المعلِّقَ يُعَلِّقُ اليمين لم يرد أن تلزمه تلك اللوازم التي علقها بالشرط؛ بل فيها ما يمتنع أن يريده البتة ولا يتصور أن يريده بشر، ومنها ما يمتنع أَنْ يريده مسلم، ومنها ما لا يريده الناس في العادة الغالبة ولكن قد يريده نادرًا، ومنها ما يريده في حال ولا يريده في حال وهذا القسم هو الذي اشتبه حاله على كثيرٍ من الناس؛ كإيجاب الحج والعبادات فإنَّ هذا الإيجاب قد يراد بالنذر، وكإنشاء الطلاق والظهار والحرام فإنَّ الإنسان قد يريد أَنْ يُطَلِّقَ ويظاهر من امرأته ويُحَرِّمَهَا أو يُحَرِّمَ عليه بعض ماله الحلال، وأما تحريم جميع الحلال فهذا لا يريده أحد، ولهذا لا يقول الناس: الحِلُّ عليَّ حرام، أو ما أَحَلَّ اللهُ عليَّ حرام، أو يحرم عليَّ كل ما يحل للمسلم ونحو هذه العبارات المتضمنة تحريم جميع الحلال إلا إذا كانوا حالفين، لا يقولونها عند الإنشاء بالتحريم والابتداء به وإيقاعه، بخلاف تحريم امرأته أو شيء من طعامه وبعض ماله فإنَّ هذا يحرمه ابتداء. والصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ تكلموا في تحريم المرأة وتحريم ماله (2)، _________ (1) جامع المسائل (6/ 8 وما بعدها)، التدمرية (ص 221 وما بعدها)، والرد على الشاذلي (ص 191)، الرد على المنطقيين (ص 561 وما بعدها). (2) انظر ما ورد عنهم في: مصنف عبد الرزاق (6/ 399 وما بعدها)، ومصنف ابن أبي شيبة (9/ 601 وما بعدها).

(1/24)


وأما الحلف بذلك فلم يتكلموا فيه فيما بلغنا، كما تكلموا في تعليق الطلاق على الملك (1) ولم يتكلموا في الحلف به فيما بلغنا؛ لأن الناس لم يكونوا يعتادون الحلف بالحرام ولا بالظهار ولا بالطلاق في أوائل الأمر، لكن بعد ذلك اعتادوا الحلف بها، وقد كانوا يحلفون بالنذر قبل ذلك، لأنَّ هذا فيه التزام عبادة لله، فهو أخف على الإنسان من تحريم أهله وماله؛ فقد يختار الرجل أن يتصدق بماله لله، ولا يختار بشر أن يحرم عليه جميع ما أحله الله له، فصاروا يغلظون الأيمان شيئًا بعد شيء، كما أنهم في أول الأمر لم يكن ولاة الأمور يُحَلِّفُونَ الناس بأيمان البيعة، ثم حلفهم الحجاج بأربعة أيمان أو خمسة، ثم زاد الناس في أيمان البيعة أضعاف ما فعله الحجاج (2). وقد نُهي عن تغليظ الأيمان لما في ذلك من زيادة تعظيمها لا لأنها من أيمان الشرك؛ فيظن الغالط أَنَّ ذلك يقتضي أنها لا تلزم للنهي عنها، ولو تغلظت الأيمان المنعقدة غاية التغليظ، فإنَّ أيمان المسلمين [8/ ب] لا تغير شرائع الدين؛ بل ما كان الله ورسوله قد أَمَرَ به قبل الأيمان المغلظة على تركه فقد أمر به بعد ذلك، يفعله العبد كما أمر الله ــ تعالى ــ به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويُكفِّر أيمانه المغلظة، وما نهى الله عنه ورسوله بعد تغليظه الأيمان على فعله فإنه منهي عنه بعد أَنْ حَلَفَ الأيمان المغلظة أنه لا يفعله، فيكفر أيمانه ولا يفعله (3). _________ (1) انظر ما ورد عنهم في: مصنف عبد الرزاق (6/ 415 وما بعدها)، ومصنف ابن أبي شيبة (9/ 524 وما بعدها). (2) انظر ما سيأتي في (ص 41 - 44، 835). (3) مجموع الفتاوى (33/ 144 وما بعدها)، الفتاوى الكبرى (3/ 265)، قاعدة العقود (1/ 257 وما بعدها).

(1/25)


ولو غَلَّظَ الأيمان أَيَّ تغليظٍ كان لم يمنع ذلك من تكفيرها مثل أن يقول: إِنَّ عليَّ الحج ماشيًا حافيًا (1) على أغلظ مذهب في الإسلام أو على مذهب مالك بن أنس، أو يقول على أشدِّ ما أخذ أحدٌ على أحدٍ، أو مالي صدقة وعليَّ الحج ونسائي طوالق وعبيدي أحرار على مذهب مَنْ يُلزم الحالف ما التزمه، أو على أني لا أقلد من يفتي بالكفارة، أو لا أستفتي من يفتي بذلك ونحو هذه العبارات التي يلتزم فيها ما يجعله لازماً له لزوماً ثابتاً، ويميناً معقودة لا يمكن تحليلها، فإنَّ عَقْدَهُ وَرَبْطَهُ وتعليقه لو بالغ فيه ماذا عسى أَنْ يبالغ لم يكن ذلك برافعٍ لحكم الله ورسوله الذي شرعه على لسان نبيه محمد عبده ورسوله حيث قال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» (2). فقد تبين أنَّ المشهور عند العامة والخاصة لو عَلَّقَ تعليقًا يَقصد به الأيمان أنه يكره وقوع ما علقه لا يريده سواءً كان المعلق بالشرط وقوع الطلاق أو العتاق أو الظهار أو الحرام، أو وجوب حج أو صيام أو صدقة أو هدي أو أضحية أو وقف أو غير ذلك مما يلتزمه المسلمون عند أيمانهم، وكذلك إن كان المعلق كفرًا كقوله: إنْ فعلتُ ذلك فأنا بريءٌ من الله ورسوله، وأنا يهودي ونصراني، وأنا مشرك بالله، وأقول: إن الله ثالث ثلاثة، وأعبد الصليب دون الله إن فعلت كذا، وأقول: إن القرآن ما هو كلام الله، وأقول: إن القرآن شعر وسحر إن فعلت ذلك، وأستحل وطء أمي في كعبة _________ (1) في الأصل: (ماشي حافي)، والصواب ما أثبتُّ. (2) أخرجه مسلم (1650) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(1/26)


المسلمين إن فعلت ذلك إلى أنواع من هذه التعليقات التي يعلقها كثير من الناس، ويعلقون ما هو عندهم أغلظ أنواع الكفر الذي يمتنع في تلك الحال أن يقصدوا لزومه [9/ أ] لهم غاية الامتناع، لأنهم في غاية الإرادة لنقيضه والكراهة له، والإرادةُ الجازمةُ لوجودِهِ تُنَاقِضُ الإرادةَ الجازمةَ لعدمِهِ (1). وكذلك إِنْ كان المعلق بالشرط دعاءً يدعو به على نفسه من أنواع الشر، كقوله: إِنْ فعلتُ كذا قطع الله يدي، أو أَماتني على غير الإسلام، وذبح الله ولدي على صدري (2) ونحو ذلك. وكذلك إِنْ كان المعلَّق اتصافه بقبائح ومنكرات يكره اتصافه بها غاية الكراهة، وإن كان اتصافه بها ممتنعًا في نفس الأمر لكن يقدر لزومها له؛ كقوله: إن لم أفعل كذا فأنا بريء من قرابتي من رسول الله، أو تكون هذه اللحية على مخنث، أو أكون بغَّاءً أو يركبني (3)، أو يقول النصراني: أكون بريئاً من الصليب، أو من المسيح، أو من السيدة، أو يقول مَنْ يُعَظِّمُ بعض المشايخ أو القرابة أو الصحابة: أنا بريء من الشيخ فلان أو من علي بن أبي طالب إن فعلت كذا، إلى أمثال هذه الأيمان التي تحلف بها الأمم على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، لا يُعلِّقون تعليقًا يقصدون به اليمين إلا وهم كارهون لوقوع المعلَّق غير مريدين له، بل لا يكون إلا مِنْ أَكْرَهِ الأمورِ إليهم وأبعدهم عن إرادة وقوعه؛ فيمتنع أن يكون أحدهم قاصدًا لليمين، وهو مع ذلك يقصد وقوع الجزاء المعلَّق. _________ (1) انظر ما سيأتي (ص 118، 433 - 434، 462). (2) في الأصل: (صدره)، والصواب ما أثبتُّ. (3) هنا علامة لحق لكن لم يظهر في التصوير شيء.

(1/27)


وأما إن أُريد باقتضاء التعليق لوقوع الطلاق المشهور عند الخاصة والعامة أنهم يعلمون أَنَّ المعلِّقَ جَعَلَ الشرط مستلزمًا للجزاء مقتضيًا له بحيث يلزم من وجود الملزوم وجود اللازم= فهذا صحيح، وهذا هو الذي أراده ــ والله أعلم ــ بقوله: (إن اقتضاء التعليق لوقوع الطلاق أمر مشهور عند الخاصة والعامة لا يقبل التشكيك)؛ فهذا الاقتضاء مُسلَّم لا ينازعه فيه عاقل وهو موجَب يمينه، ولكن حقيقةُ هذا أَنَّ المعلق نفسه أثبت هذا الاقتضاء واللزوم، فإنه هو الذي عَلَّقَ وربط وألزم فجعل الجزاء لازماً لنفسه، وهذا الاقتضاء لا بُدَّ فيه من إرادة وقصد؛ لكن يجب الفرق بين قصد الربط والتعليق واللزوم وجعل الجزاء لازمًا للشرط، وبين أنْ يقصد وجود الجزاء اللازم سواء وجد الشرط أو لم يوجد. وهذا المعترض وأمثاله لا يفرقون بين هذا القصد وهذا [9/ ب] القصد؛ بل يجعلون مَنْ قَصَدَ التعليق فقد قصد وجود الجزاء المعلَّق، وهذا من أسباب غلطهم، فإنَّ قصده للتعليق والربط واللزوم بحيث جعل الأول مستلزمًا للثاني لا يوجب أَنْ يقصد وجود اللازم عند وجود الملزوم، كما أنه في الجمل الشرطية الخبرية قد جعل الثاني لازمًا للأول يوجد إذا وجد، فإنه قد جعل الثاني اللازم ثابتًا موجودًا عند وجود الملزوم، ثم ذلك لا يوجب أَنْ يكون مثبتاً للثاني؛ بل قد يكون ذلك مع نفيه للازم والملزوم، وَقَصْدُهُ من اللزوم نفي الملزوم (1) لانتفاء اللازم، ليس قصده إثبات اللازم بتقدير وجود الملزوم؛ بل هو نافٍ للازم لم يقصد الإخبار بثبوته البتة، وإنما جعله لازمًا لقصد نفي الملزوم لا لقصد إثباته على ذلك التقدير. _________ (1) في الأصل زيادة (لا)، والصواب حذفها.

(1/28)


فإذا قيل: هو بتقدير اللزوم يكون مثبتًا أو نافيًا؟ قيل: هو مثبِت على هذا التقدير، لكن هذا التقدير هو عنده منتف في نفس الأمر، لا يمكن ثبوته؛ فلا يضره جعل اللازم ثابتًا بتقدير ثبوته، وهذا كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] و {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47] {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} (1) [محمد: 4] ونحو ذلك؛ فإن هذه التعليقات تضمنت جعل الجزاء لازمًا للشرط بتقدير وجوده، وهو مع ذلك مراده نفي كل منهما. ولهذا يقول من يقول من النحاة (لو) حرف يمتنع بها الشيء لامتناع غيره؛ أي: يمتنع بها الجزاء اللازم لامتناع الشرط الملزوم، فإن امتناع الملزوم يوجب امتناع اللازم. وقيل: حرف يدل على امتناع ما يلزم من وجوده وجود مثله. فبكل حال هي تدل على عدم الشرط ونفيه له (2). وحينئذٍ؛ فالجزاء المعلَّقُ بوجوده لا يكون مُخْبِرًا بثبوته في نفس الأمر، فإنه إنما أخبر بثبوته على تقدير منتفٍ، وإذا كان لم يجعله موجودًا إلا على تقدير معدوم (3) لم يكن قد جعله موجودًا البتة؛ فإنَّ ما عُلِّقَ بالمعدوم، وقيل: إنه إِنْ وُجِدَ المعدومُ يوجد، والمعدوم لا يوجد = لم يكن قد أخبر بأنه يوجد؛ فهذا في التعليقات الخبرية. _________ (1) في الأصل: (لانتقم منهم)، وهو خطأ. (2) لابن تيمية رسالة في جواب سائلٍ عن حرف (لو) طبعت ضمن جامع المسائل (3/ 319)، ثم طبعت تامة في جامع المسائل (9/ 437). (3) في الأصل: (معلوم)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/29)


وإذا حلف [10/ أ] على هذا التعليق فقال: والله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، و [والله] (1) لو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم، ووالله لو شاء الله لهدى الناس جميعًا= لم يكن حالفًا على وجود الجزاء في نفس الأمر، لكنه حالف على وجوده بتقدير منتفٍ عنده؛ فهكذا في التعليقات الطلبية هو وإن كان قد جعل الجزاء لازماً للشرط الملزوم فمع قصده اليمين هو يكره الجزاء اللازم كراهة تامة لم يقصد لزومه في نفس الأمر سواء وجد الملزوم أو لم يوجد، كما أن الأول لم يخبر بثبوت الملزوم، بل هو نافٍ له مطلقًا، سواء وجد اللازم أو لم يوجد، لكن هو في الجملة الخبرية التعليقية نافٍ للملزوم مثبتٌ لانتفائه بانتفاء اللازم، وقد يوجد اللازم مرة أخرى ولا يوجد الملزوم، لأنه (2) يلزم من وجود الملزوم وجودُ اللازم وهو دليل، فإنَّ كل ملزوم دليل على لازمه، والدليل لا ينعكس. وأما في الجملة التعليقية الطلبية فهو كاره للازم كراهة تامة، لا يريده لا بتقدير وجود الملزوم ولا بتقدير عدمه، ولكن قصده كراهة الملزوم ليمتنع عن فعل الملزوم بامتناعه من فعل اللازم، فالامتناع من فعل اللازم هو ثابت، كما أن نفي الملزوم في الجملة الخبرية قد تتغير إرادته فيريد الملزوم ولا يريد اللازم، فإن لم يكن ليمينه تحلة وإلا لزم وجود اللازم وإن كان كارهًا له لم يرده، وهنا قد يحصل اللازم الذي هو الجزاء؛ كما قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] والمراد: لو عَلِمَ الله فيهم خيرًا لأسمعهم إسماع فَهْمٍ، ولو أسمعهم إسماع فَهْمٍ ولم يعلم فيهم خيرًا لتولوا وهم معرضون؛ فسماعهم سماع فهم هو اللازم، وقد يوجد اللازم بدون الملزوم، فيوجد الإسماع بدون أن يعلم الله فيهم خيرًا، لكن إذا وجد ذلك تولوا وهم معرضون. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) في الأصل زيادة: (لا)، والصواب حذفها.

(1/30)


وإذا عُرِفَ أن كون التعليق مقتضيًا لثبوت الجزاء عند الشرط لا ينازعه فيه أحد، وإنما النزاع في شيئين: في كونه كارهًا لوقوع الجزاء عند الشرط، وفي حكم الله ورسوله في التعليق الذي قصد به اليمين. لكن يقال: نحن نُسَلِّمُ أَنَّ المعلِّق [10/ ب] جعلَ الجزاء لازمًا له، وجعل الشرط مستلزمًا للجزاء، لكن النزاع في أَنَّ هذا الملزوم الذي جعله هذا المعلق وهذا الربط والعقد الذي عقده وربطه هذا العاقد الرابط الذي عقد الجزاء بالشرط وربطه به = هل يمكن في [حكم] (1) الله ورسوله حَلُّ هذا العقد والربط وقطع هذا اللزوم وَفَكُّهُ؟ بحيث يوجد الملزوم (2) المقتضي ولا يوجد اللازم الذي هو مقتضاه؛ فهذا محل النزاع. وهذا نزاع في حكم الله ورسوله في هذا الاقتضاء القَسَمي، كما أَنَّ الحالفَ إذا قال: أَحلفُ بالله لأفعلنَّ كذا؛ فمعنى هذا الربط جعل الفاعل (3) تعظيمه لله مستلزمًا للفعل مقتضيًا له، وهذا الاقتضاء القسمي مشهورٌ عند العامة والخاصة؛ فكلُّ مَنْ حَلَفَ باسمِ شيءٍ فإنما يحلف باسم ما يعظمه، وقد جعل تعظيمه له مستلزمًا للمقسم عليه، فموجب يمينه أنه إنْ حنث زال تعظيمه للمحلوف به، فلولا أَنَّ الله شَرَعَ تحلَّةَ الأيمان ــ فإذا كَفَّرَ الحالف يمينه لم يَزُلْ تعظيمه للمحلوف به ــ إذا حنث= لم يكن الحنث إلا بزوال ذلك التعظيم، _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) في الأصل: (اللزوم)، والصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (الفعل)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/31)


ولكان الحانث قد عقد عقدًا وفسخه، وجعل الحلف (1) لازمًا للتعظيم وقد نقض عقده = بمنزلة الغادر الكاذب، أو لا (2) يزولَ تعظيمُ المحلوفِ بِهِ من قلبه إن كان العقد باقيًا؛ فلا بُدَّ من هذا أو هذا إن لم يكن لليمين تحلة. وهكذا إذا حلف بصيغة التعليق قصدًا لليمين فلا بُدَّ إذا لم يكن لهذه اليمين تحلة من أنْ يلزمه ما علقه، أو أن يكون حانثًا في يمينه بمنزلة الغادر الكاذب؛ ولهذا كثيرٌ ممن يحلف بالطلاق أو غيره من الأيمان ثم يحنث ولا يرى أن له تحلة ولا كفارة ليمينه لا بُدَّ له من أحد أمرين: إما أن يلتزم ما عَلَّقَهُ، وإما أَنْ يعتقد في نفسه أنه حلف يمينًا وَفَجَرَ في الحنث بها كالغادر الكاذب؛ فإن كانت يمينًا بالله على شيء وَفَعَلَهُ= اعتقد أنه قد أتى ذنبًا عظيمًا إذا حنث ولم يعتقد أن له كفارة، وإنْ كان يمينًا بالطلاق واعتقد أنه يقع به= اعتقدَ أَنَّ امرأتَهُ مطلقةٌ منه، وهو يطؤها وطئًا محرمًا، وكثيرٌ منَ الناس مَنْ يُقْدِم على ذلك لرغبته فيها. فإنَّ الحالفَ بالطلاقِ إذا رأى أنه قد حنث ولزمه [11/ أ] الطلاقُ ثلاثة أقسامٍ: قسمٌ يعتقدون وقوع الطلاق وحرمةَ التحليل؛ ويكون هذا الذي اعتقدوه دينًا صحيحًا راجحًا عندهم على إرادة المرأة، فيفارقونها ــ وإن كرهوا فراقها ــ خوفًا من عقاب الله الذي اعتقدوا أنهم يستحقونه (3) إذا لم يفارقوها (4). ومنهم مَنْ يَرغَبُ في امرأته، ولا يرى له طريقًا إلا التحليل؛ فيفعله تقليدًا لمن يجوِّزُهُ، ويحتمل ما في ذلك من المكاره لاعتقاده أنها لا تحل له _________ (1) في الأصل: (الحنث)، ولعل الأقرب ما أثبت. (2) في الأصل: (أن)، ولعل الأقرب ما أثبت. (3) في الأصل: (يستحقونهم)، والصواب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (يفارقونها)، والصواب الجزم كما أثبت.

(1/32)


إلا بهذه الطريق، واعتقاده أَنَّ هذا دينٌ صحيحٌ هو من شرع الإسلام. وقسمٌ يكرهون (1) فراقَ المرأة، ويكرهون التحليل، وهم لا يعتقدون إلا ما عليه هؤلاء وأولئك؛ فيرى أحدهم أنه يقيم معها حرامًا، ويكون ذلك أهون عليه من التحليل ومن فراقها، ويرى أَنَّ التحليل أقبح وأشنع بل وأجرم من مقامه معها حرامًا، وفطرته تكره التحليل أعظم مما تكره مقامه معها على ذلك الوجه. ثم من اعتقد ذلك شرعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما أَنْ يُسَلِّمَهُ مع ما في قلبه من القدح في ذلك، لكن يُقَدِّم ما سواه دينًا على ما في قلبه، وإما أَنْ يبقى في قلبه ريبٌ واضطرابٌ، وإما أَنْ يجدَ هذا قادحًا عنده في الرسول إذا لم يكن جازمًا بنبوته وهو جازم بقبح هذا؛ فيقوم في قلبه أَنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - شَرَعَ هذا، وأَنَّ شارعَ هذا لا يكون نبيًا = فمحمدٌ ليس بنبي، وهذا قائمٌ في نفوس كثيرٍ من اليهود والنصارى كما رأيناه في كتبهم وسمعناه منهم وممن أسلم منهم وممن سمع منهم، فأخبروا عما في نفوسهم من ذلك. وأما القسم الثالث: وهو اعتقاد لزوم الجزاء عند الشرط؛ فهذا موجود في نفس الاعتقاد تابع لما يعتقده الإنسان من شرع الإسلام، فمن اعتقد أن هذا التعليق موجب لوقوع الطلاق في شرع الإسلام = اعتقدَ هذا، سواء اعتقد ذلك اجتهادًا أو تقليدًا، وهذا الاعتقاد وأمثاله من الاعتقادات لا عبرة به باتفاق المسلمين، فمن تكلم بكلام اعتقده طلاقًا لم يكن طلاقًا بمجرد اعتقاده باتفاق المسلمين؛ بل الاعتبار بحكم الله ورسوله في ذلك. فمن الناس مَنْ يرى في المنام أنه طلَّقَ امرأته فيصبح يظن أنه وقع به _________ (1) في الأصل: (لا يكرهون)، والصواب ما أثبت.

(1/33)


الطلاق كما جرى هذا لغير واحد، وهذا الاعتقاد لا [11/ ب] يُوقَع به الطلاق باتفاق المسلمين؛ بل هم متفقون على أن النائم لا يقع به طلاق إذا رأى في منامه أنه طلق وإِنِ اعتقد وقوع الطلاق بذلك (1)، وقد سألني عن هذه المسألة مَنْ وقعت به ومن لم تقع به، وسألني مرة شخصٌ (2) عمن رأى في منامه أنه حلفَ بالطلاق ليسافرنَّ من هذا البلد فأصبح عازمًا على السفر؛ بل أظنُّهُ خَرَجَ من البلد خوفًا أَنْ يحنث باليمين في منامه إذا لم يسافر. وإذا طَلَّقَ وهو سكرانٌ أو مكرهٌ ففي الوقوع نزاع بين العلماء (3)؛ فلو فرض أنَّ الشخص اعتقد أنه يقع به الطلاق، لم يكن ذلك موجبًا للوقوع باتفاق العلماء؛ بل من العلماء ممن (4) يرى أنه لم يقع به يفتيه بأنه لا يقع به وإن كان اعتقد أنه يقع به، وكذلك بالعكس لو اعتقد أنه لا يقع به لم يكن لاعتقاده تأثير في أنه لا يقع؛ بل من يرى أنه يقع به يفتيه بأنه يقع وإن اعتقد خلافه. لكن إذا اعتقد أَنَّ الطلاق لم يقع به، إما اجتهادًا وإما تقليدًا لمن يرى أنه عالم، سواء كان المفتي مصيبًا أو مخطئًا، أو اعتقد ذلك جهلًا؛ فإنه إذا وطئ امرأته بعد ذلك معتقدًا أنها امرأته وأنه لم يقع به الطلاق= لم يُحَدَّ بذلك، _________ (1) منهاج السنة (5/ 186). (2) في الأصل: (شخصا)، وعلى الألف أثر شطب. (3) انظر في طلاق السكران: مجموع الفتاوى (10/ 442) (14/ 117) (33/ 102 وما بعدها)، الفتاوى الكبرى (1/ 186) (3/ 193، 299) (5/ 489). وفي طلاق المكره: الفتاوى الكبرى (3/ 193، 299) (5/ 489)، جامع المسائل (1/ 345)، الاختيارات الفقهية (ص 366). (4) في الأصل: (مَنْ)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/34)


ويلحقه نسب الولد فلا يكون ولد زنا؛ بل هو الذي تسميه العامة «ولد حلال» باتفاق العلماء، فإن النَّسَبَ وحرية الولدِ تتبعُ اعتقادَ الواطئ؛ فمن وطئ من يعتقدها امرأته وكان نكاحه فاسدًا، أو اعتقد أنه لم يقع (1) به الطلاق ولم يعلم أنه وقع به = فالولد يلحقه نسبه، ولا يقال: إنه ولد زنا. وكذلك لو وطئ مَنْ يعتقدها امرأته الحرة أو أمته، فإنَّ ولدَهُ حُرٌّ وإن كانت في الباطن مملوكةً لغيره، ويُسمَّى هذا «المغرور»، وهذا من الأحكام المعروفة عن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وسائر علماء المسلمين يجعلون النسب والحرية تتبع اعتقاد الواطئ وإنْ كان مخطئًا في اعتقاده، وهذا مبسوط في موضع آخر (1). والمقصود هنا: أَنَّ اعتقاد المعلِّق أنَّهُ يقع به الطلاق لا يوجب وقوع الطلاق إذا حنث باتفاق العلماء؛ بل مَنْ رَأَى أنَّهُ لا يقع الطلاق يقول: إنه لا يقع وإن اعتقد أنه يقع، ومَنْ قال: إنَّهُ يقع يقول: إنَّهُ وقع وإن اعتقد [12/ أ] أنه لم يقع؛ وهكذا الحكم في سائر الكلمات التي تحتمل الطلاق أو يظن أنها طلاق كألفاظ الكنايات. فلو قال الرجل لامرأته: أنتِ خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو بائن أو بَتَّهٌ أو بَتْلَة أو حبلك على غاربك ونحو ذلك فإنه يرجع إلى مراده بهذا الكلام، هل أراد به الطلاق أم غير الطلاق؟ فإذا أراد به غير الطلاق لم يقع به وإن اعتقد أنه يقع به _________ (1) في الأصل: (وقع)، والصواب ما أثبتُّ. (2) مجموع الفتاوى (14/ 34) (29/ 326) (32/ 67، 79، 103، 383) (34/ 13 - 16، 26)، الفتاوى الكبرى (3/ 349).

(1/35)


الطلاق، وإن أراد الطلاق وقع وإن اعتقد أنه لم يقع، لكن إذا اعتقد أنَّ المفهوم من اللفظ إرادة الطلاق كان هذا مما يدل على أنه أراد به الطلاق فيقع به الطلاق لكونه أراده لا لمجرد اعتقاده. والحالفُ لم يرد وقوع الجزاء عند الشرط ومعه اعتقاده لوقوع الجزاء، والاعتقاد لا تأثير له، وكذلك معه عقد اليمين، وعقد اليمين يقتضي أنه جَعَلَ الجزاء لازمًا للشرط وهو قاصد للعقد مُرِيدٌ له؛ فَقَصْدُ عَقْدِ اليمين لا يمنع أن تكون يمينًا مكفرةً، واعتقاده وقوع الجزاء لا يمنع أن تكون يمينًا مكفَّرة. فينبغي أن تعرف هذه المعاني، فإنه بها تتبين زوال شبهاتٍ تعرض لكثير من الناس في مسائل الأيمان؛ فإنَّ من الناس مَن يشتبه عليه الاعتقاد والظن بالقصد والإرادة؛ فيجعل اعتقاده وقوع الطلاق كإرادته وقوع الطلاق أو موجبًا له أو هو هو. ومنهم مَنْ يشتبه عليه موجب العقد في الشرع الذي بعث الله به رسوله بموجبه (1) الذي أوجبه الحالف العاقد؛ والذي أوجبه الحالف العاقد لزوم الجزاء عند الشرط، لكن الشارع شرع تحليل هذه العقود وإبطال هذا الإيجاب بالكفارة التي فرض الله تعالى. ومنهم مَنْ يشتبه عليه قصده التعليق واللزوم بقصده وجود الجزاء اللازم، فجعل هذا الفعل هو ذاك أو مستلزمًا له؛ وهذا كُلُّهُ غلطٌ، بل المُعَلِّقُ تعليقًا يقصد به اليمين هو كارهٌ لوجود الجزاء وإن وجد الشرط، وهذه الكراهة يعلمها الناس بحسهم وعقلهم، فهذا أمرٌ معقولٌ عندهم لا يحتاجون _________ (1) في الأصل: (موجبه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/36)


فيه إلى غيرهم، وليس هذا حكمًا شرعيًا ولا لغويًا. وأما كون هذا يسمى يمينًا في اللغة، فهو أَمْرٌ سمعيٌ لغويٌ [12/ ب]، وحكم هذا التعليق شرعي يرجع فيه إلى الله ورسوله، لا يُعلم هذا بمجرد العقل ولا اللغة ولا العرف ولا العادة ولا اعتقاد الناس ولا اعتقاد أحد من العلماء وغيرهم، لكن العلماء المجتهدون يَستدلون على موجَب هذا وغيره في الشرع بحسب اجتهادهم، والعلماء المجتهدون مَنْ عَرَفَ منهم حكم الله ورسوله في الباطنِ فله أجران، ومن لم يعرفْ ذلك لكن استفرغ وسعه في الاجتهاد فاتبع ما اعتقده حكم الله ورسوله = فإنه له أجر وخطؤه مغفور له؛ كالمجتهدين في جهة الكعبة من أصاب القبلة باطنًا وظاهرًا كان له أجران، ومن اعتقد أنه يصلي إلى الكعبة سقط الفرض عنه ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإن كان قد استقبل ما يعتقده الكعبة لم يستقبل نفس الكعبة. فصلٌ قوله: (وإدراج الحلف بالطلاق في أيمان المسلمين إنما كان لإدخال مَنْ أدخلها في البيعة) (1). فيقال: ليس الأمر كذلك؛ ولا هذا الإدخال والتسمية مختصًا بالحلف بالطلاق، بل أهل الأرض كلُّهم على اختلاف عقولهم وأديانهم ومذاهبهم يسمون كل من عَلَّقَ تعليقًا يقصد به اليمين يكره فيه لزوم الجزاء وإن وجد الشرط = حالفًا، ويسمون هذا يمينًا، وتسمية مثلِ هذا حَلِفًا ويمينًا وتسمية صاحبه حالفًا يمينًا (2) مشهورٌ عند العامة والخاصة؛ إما أن يكون مثل شهرةِ _________ (1) «التحقيق» (34/ ب). (2) في الأصل: (ويمينًا)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/37)


الاقتضاء واللزوم عندهم أو أشهر من ذلك، فإنَّ تسميته يمينًا أَمْرٌ يتكلم به اللسان وتسمعه الآذان وتعقل معناه القلوب، وأما مجرد اللزوم فهو معنًى عقلي، وما يُعلم بالحس والعقل فهو أشهر مما يُعلم بالعقل وحده. وكذلك علم الأمم كلها بأن الحالف يكره وقوع الجزاء مشهور عند العامة والخاصة، وليس شهرة هذا بدون شهرة الاقتضاء؛ بل يقال: هو أشهر منه؛ لأنَّ علم الإنسان بكراهة نفسه مثلُ عِلْمِهِ بحبِّه وبغضه وعزمه وقصده وجوعه وعطشه ونحو ذلك من الأمور التي يجدها من نفسه ويحسها من باطنه فهي حسيات باطنة، ثم يعلم بالعقل أَنَّ هذا مثل هذا، بخلاف العلم بالاقتضاء فإنه عقلي محض، وما تعاضد على معرفته الحس والعقل كان أبلغ مما يُعْرَف بمجرد العقل [13/ أ]، وكون هذه أيمانًا مما يعرفه عموم الخلق كلهم. وأما كونها من أيمان المسلمين: فهذا بحسب اعتقاد موجَبها؛ فمن جعلها غير موجبة لا للزوم الجزاء ولا للكفارة فهي عنده ليست من أيمان المسلمين، بل من جنس الحلف بالمخلوقات، ومن جعلها توجب أحد هذين جعلها من أيمان المسلمين، وعلى هذا جمهور المسلمين قديمًا وحديثًا، ولم يُنْقَل عن الصحابة في جنس التعليقات التي يقصد بها اليمين إلا أحد هذين القولين وكذلك جماهير التابعين والعلماء، والقول بأنها أيمان غير منعقدة قول طائفة من التابعين وهو قول داود وابن جرير الطبري والإمامية، كما أن القول بأن الطلاق المعلق بالصفات لا يقع يحكى عن طائفة من الناس لم يُنْقَلْ هذا عن أحدٍ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. والقول بأن هذه ليست أيمانًا منعقدة أَضعفُ من قول مَنْ يقول: موجَبها لزوم ما علقه، فإنَّ هذا يشبه قول من جعل أيمان المسلمين لا كفارة فيها،

(1/38)


والثاني يشبه قول من جعل موجَبها الوفاءَ دون الكفارة، وهذا قد قيل إنه كان شرع أهل الكتاب؛ فالقول بلزوم ما عَلَّقَهُ من جنس الشرع المنسوخ شرعِ أهلِ الكتاب وما كانوا عليه في أول الإسلام، وأما القول بأنها غير منعقدة ولا توجب شيئًا فهذا قول من يجعل أيمان المسلمين لا توجب على الحالف شيئًا لا وفاء ولا كفارة، وهذا من جنس قول أهل الجاهلية الذي لم يشرع بحال، وشرعٌ منسوخٌ خيرٌ من قولٍ لم يشرع بحال (1). وليس هذا من خصائص هذه المسألة؛ بل كل مسألة فيها نزاع فالقول المخالف في نفس الأمر لحكم الله ورسوله لا بُدَّ أنْ يكونَ من جنسِ الدين المنسوخ أو المبدل (2)، وإنْ كانَ قائله مجتهدًا مثابًا على ما فعله من طاعة الله ورسوله وخطؤه مغفور له، لكن ليس لله ورسوله في كلِّ حادثةٍ إلا حكمٌ واحدٌ هو الذي بعث به رسوله، وسائرها ليست كذلك وإِنْ عُذِرَ فيها أصحابها وَأُجِرُوا. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة: «لقد حكمتَ فيهم بحكمِ اللهِ منْ فوقِ سبعة أرقعة» (3). _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 40)، الفتاوى الكبرى (3/ 301). وانظر ما سيأتي (ص 857). (2) مجموع الفتاوى (11/ 404)، (13/ 64)، (27/ 397)، الفتاوى الكبرى (4/ 27)، الإخنائية (162 - 163). (3) أخرجه بهذا اللفظ: ابن إسحاق في السيرة ــ كما في السيرة النبوية لابن هشام 3/ 251، وتخريج أحاديث الكشاف 3/ 103 ــ، ومن طريقه ابن زنجويه في الأموال (1/ 344) عن عاصم بن عمر بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن أبي وقاص الليثي به. قال الذهبي في العلو (ص 35) وابن حجر في الفتح (7/ 412): مرسل. انظر: إرواء الغليل (5/ 276)، السلسلة الصحيحة (6/ 557). وأصله في البخاري (3043)، ومسلم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، ولفظ البخاري: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك».

(1/39)


وكان يقول لمن يُؤَمِّره على [13/ ب] سريةٍ أو جيش: «وإذا حاصرتَ أهلَ حصن فسألوك أنْ تُنْزِلَهُم على حكمِ الله فلا تنزلهم على حكم الله؛ فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك» (1) وكلا الحديثين في الصحيح. وقال سليمان ــ عليه السلام ــ: «أسألك حكمًا يوافقُ حكمَكَ» وهو حديث جيد، رواه الحاكم في صحيحه (2). ولهذا كان الصحابة كأبي بكر وابن مسعود وغيرهما يقول أحدهم: (أقولُ فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكنْ خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه) ( 3). _________ (1) أخرجه مسلم (1731) من حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - ولفظه: « ... وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيِّهِ، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيِّه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم أَنْ تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهونُ من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أنْ تُنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيبُ حكم الله فيهم أم لا؟». (2) (1/ 84). كما أخرجه النسائي في سننه (693)، وابن ماجه (1408) وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. وصححه ابن خزيمة، وقال عنه الحاكم: هذا حديثٌ صحيحٌ، تداوله الأئمة، وقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة. انظر: الثمر المستطاب للألباني (ص 545 وما بعدها). (3) ما ورد عن أبي بكر: أخرجه الدارمي في مسنده (4/ 1944)، والبيهقي في السنن الكبير (12/ 465/ ح 12394) وفي معرفة السنن والآثار (9/ 113). وأخرجه مختصرًا: ابن أبي شيبة في المصنف (32255). قال ابن حجر في التلخيص (4/ 195): أخرجه قاسم بن محمد في كتابه (الحجة والرد على المقلدين)، وهو منقطع. وما ورد عن ابن مسعود: أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 294، 479)، وسعيد بن منصور في سننه (1/ 267)، وابن أبي شيبة في مصنفه (17402)، وأحمد في مسنده (30/ 406). كما جاء بنحوه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (9/ 214). وجاء بنحوه عن حذيفة - رضي الله عنه -: أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (3/ 1114). وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 41)، المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 112، 196).

(1/40)


والناسُ يُدخلون الحلفَ بالطلاقِ والظهارِ والحرامِ والنذرِ في أيمان المسلمين مع أن أكثرهم لا يعرفون أيمانَ البيعة، وقد كان الناسُ يسمونَ التعليق الذي يُقصدُ بِهِ اليمين يمينًا قبلَ أَنْ يُستحلفَ الناسُ في البيعة بهذه الأيمان؛ فقد سماها الصحابة مثل: عمر وابنه وابن عباس وعائشة وحفصة وزينب وغيرهم أيمانًا قبل أنْ تدخلَ هذه في أيمان البيعة. فإنَّ أولَ من رتَّبَ هذه الأيمان في البيعة هو: الحجاج بن يوسف على ما ذكره الفقهاء في كتبهم، والحجاج إنما تولى العراق بعد قتل ابن الزبير، وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - قد ماتَ قبلَ ذلكَ بمدةٍ، وتوفي ابن عمر - رضي الله عنهما - عامَ قتل ابن الزبير سنة بضع وسبعين، وإمارةُ الحجَّاج على العراق من جهة عبد الملك وتحليفه الناس له بأيمان البيعة ــ الطلاق والعتاق وصدقة المال ــ [كان] (1) بعد هذا، ثم كان مِنَ الناس مَنْ يحلفهم بها ومنهم من لا يحلفهم. _________ (1) بياض في الأصل بمقدار كلمة تقريبًا، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام.

(1/41)


وكانت إمارة هشام بن عبد الملك في أوائل المائة الثانية بعد عمر بن عبد العزيز وبعد أخيه يزيد، وهو آخر الأربعة من بني عبد الملك الذين تولوا الخلافة: الوليد وسليمان ويزيد وهشام؛ فكان توبة بن أبي أسيد لما امتنع أن يحلفهم بالطلاق قد أحسن إليهم حيث خرج عن العادة والسُّنَّة التي سَنَّهَا لهم الحجاج، وكانوا يحلفونهم بالله وبالنذر كصدقة المال ويحلفونهم بالطلاق والعتاق (1). ثم اليمين بالله تعالى مُكَفَّرَة بالكتاب والسنة والإجماع، وكذلك اليمين بالنذر عند جمهور السلف والخلف تكفر، وعليه دَلَّ [14/ أ] الكتاب والسنة، فكون الطلاق والعتاق مما كانوا يُحَلَّفُون به لا يمنع أن يكون من أيمان المسلمين المكفرة، كما كان الحلف بالله وبالنذر من أيمان المسلمين المكفرة وإن حلفوا بها. وأما قوله: (وهذا أمرٌ مشهورٌ عند العوام من ذلك العصر، ولولا ذلك لم يمتنعوا منه، ولم يحلِّفوهم به، ولاكتفوا منهم بالأيمان بالله (2)). فيقال: أما تسمية التعليق الذي يُقصد به اليمين أيمانًا فهو مشهورٌ عند الخاصة والعامة قبل ذلك العصر بل قبل الإسلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 36) (35/ 243 - 244، 290)، الفتاوى الكبرى (3/ 298) (4/ 111، 140)، القواعد الكلية (ص 446)، قاعدة العقود (1/ 118)، إعلام الموقعين (4/ 464 وما بعدها)، القواعد والضوابط الفقهية عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الأيمان والنذور (2/ 685). (2) في الأصل: (لله)، والصواب ما أثبت، كما تقدم في (ص 18).

(1/42)


حلفَ بملة غير الإسلام فهو كما قال» (1)، والصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين يسمون هذه أيمانًا. وأما تحليف الولاة أو غيرهم بها؛ فلا ريب أنَّ الصحابة لم يكونوا يحلِّفونَ أحدًا بطلاق ولا عتاق ولا ظهار ولا حرام ولا نذر مثل: الحلف بالمشي إلى مكة وصدقة المال وغير ذلك من الأيمان التي أحدث الحجاج ومن بعده تحليف الناس بها في البيعة، بل أحدث بعض قضاة الحنفية تحليفَ الناس أيمانَ الحكمِ بالطلاقِ مع أنَّ هذه بدعةٌ لم تُعْرَف عن أحد من السلف ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وذكر ابن عبد البر إجماعَ العلماء على أنه ليس للحاكم أن يحلف الناس إلا باسم الله (2). بل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون لم يكونوا عند المبايعة يَحلِفون يمينًا أصلًا، بل كانت المبايعة عقدًا (3) من العقود، فيقال: بايعناك على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا نُنَازعَ الأمرَ أهله. أو يقول: أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم (4)، أو بايعناك على _________ (1) أخرجه البخاري (1363) من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - ولفظه: «من حلف بملةٍ غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال ... ». (2) الاستذكار (15/ 95) قال: (لا ينبغي لأحدٍ أَنْ يَحلف بغير الله ... لإجماع العلماء أنَّ مَنْ وجبَ له يمينٌ على آخر في حَقٍّ قِبَلَهُ أنه لا يَحلف له إلا بالله، ولو حلفَ له بالنجم والسماء والطارق وقال: نويتُ ربَّ ذلك= لم يكن يمينًا عندهم). (3) في الأصل: (عقدٌ)، والجادة ما هو مثبت. (4) أخرجه البخاري (7199)، ومسلم (1709) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.

(1/43)


أن لا نَفِرَّ (1)، بايعناك على الموت (2). كما يقال: عاهدناك وعاقدناك. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس ويبايعونه، وذلك معاهدة ومعاقدة، وهي عقودٌ لازمة تنعقدُ بأيِّ لفظٍ دَلَّ على المقصود كسائر العقود، وهذه يجب الوفاء بها وإن لم يكن فيها حلف بالتزام ما يُكره لزومه، وقد تسمى يمينًا ــ أيضًا ــ، وما وجب الوفاء به من العقود مع الحلف بالأيمان التي يلتزم فيها ما يكره لزومه عند الحنث وجب الوفاء به [14/ ب] بدون ذلك، وما لم يجب الوفاء به بدون هذه الأيمان لم تكن اليمين موجبة لما لم يكن واجبًا، ولكنها تؤكد الواجب؛ فلما كان الناس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه يوفون بعقد المبايعة بلا إقسام، كانوا يبايعون بيعة مطلقةً (3)، ثم لما حَدَثَ غَدْرُ الناس ونكثهم لبيعة أئمتهم وحدث ظلم الأئمة لهم صاروا يُغلِّظون مبايعتهم بالإقسام باسم الله، وتارة يَضُمُّونَ إلى ذلك ما يحلف به من أيمان المسلمين أو بعض ذلك. ومن المعلوم أنَّ هذا التغليظ لا يُغَيِّرُ حكمَ الله ورسوله؛ بل ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور (4) وحَرَّمَهُ من غِشِّهم والخروج عليهم= فهذا واجب ومحرم بدون البيعة، ومبايعتهم على ذلك مبايعة على ما هو واجب بدون المبايعة؛ كما أنَّ مبايعة الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - مبايعة على ما هو واجب عليهم بدون المبايعة، فإنَّ طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة فيما يأمرهم به، بايعوه أولم يبايعوه، ولكن مبايعته التزام لأداء هذا الواجب بالشرع، كذلك المبايعة _________ (4) أخرجه مسلم (1856) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (4) أخرجه البخاري (2960)، ومسلم (1860) من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. (1) في الأصل: (مطلقًا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل زيادة: (من طاعتهم)، وبحذفها تكون العبارة أكثر استقامة.

(1/44)


الشرعية لولاة الأمور التزام لما أوجبه الله ــ تعالى ــ ورسوله لهم بالشرع، ليس في المبايعة لهم تغيير لما أمر الله به ورسوله (1). ثم لما أحدث الناس أَنْ يُقْسِمُوا على ذلك ويحلفوا عليه كانت هذه الأيمان مُؤَكِّدَةً لما أوجبه الله ورسوله ليست مغيرة لشرع الله ورسوله؛ فالواجب بها واجب وإن لم يحلف الحالف بها، ومن حلف بها على فعل محرم أو ترك واجب لم يكن له أن يفي بموجبها؛ فالكفار والمنافقون (2) إذا حلَّفوا المسلم على أنَّه يعاونهم على الكفر بالله ومعصيته ومعصية رسوله وتضييع فرائضه وتضييع حدوده=لم يكن له أَنْ يوفي بهذه الأيمان، ولهذا كان المنافقون الملاحدة الباطنية يحلِّفون الناس بالأيمان المغلظة على كتمان أسرارهم، مظهرين لهم أنهم من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم يدعون إلى الإيمان بالله ورسوله فيحلف لهم من يظنهم كذلك، ثم يتبيَّنُ له أنهم منافقون ملاحدة مبطنين الكفر بالله ورسوله وكتابه ودينه (3). [و] (4) صار الفقهاء يختلفون في موجب هذه الأيمان؛ [15/ أ] منهم من يقول: لا يلزم منها شيء؛ لأنَّ الحالف إنما حلف لمن يعتقده مؤمنًا وليًّا لله من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحلف لمنافقٍ ملحدٍ. ومنهم من يقول: بل هي _________ (1 ) مجموع الفتاوى (27/ 425) (28/ 184 - 185) (29/ 346) (33/ 146)، الفتاوى الكبرى (3/ 265). ( 2) في الأصل: (والمنافقين)، والجادة ما أثبتُّ. (3) قاعدة العقود (1/ 121). (4) إضافة يقتضيها السياق.

(1/45)


أيمان لازمة؛ ثم يأمرون بتكفير ما يرون (1) تكفيره، وما لا كفارة له عندهم كالطلاق والعتاق يحتال له بالحيل التي ذكرها بعض من يراها أيمانًا (2) لازمة إما بخلع اليمين وإما بدور الطلاق وإما بنكاح التحليل، وأما من يقول أيمان المسلمين مكفرة فغاية هذه أن تكون عنده أيمانًا مكفَّرة. والمقصود هنا: أنه ليس في تحليف مَنْ حَلَّفَ بذلك دليل على حكم شرعي أصلًا، ولكن من الناس من يقيم مذهبه بانتصاره ببعض الولاة الذين لا علم عندهم يفصلون به بين الناس فيما تنازعوا فيه، وقد يوهمونه أَنَّ أحد القولين يضاد مقصوده أو أنه يضره؛ وقد يكونون كاذبين في ذلك، ويكون قولهم أعظم مناقضة لمقصوده وأضر عليه وهو لا يعرف ذلك، ومن الناس مَنْ يكونُ مَيلُهُ إلى أحد القولين لهواه وغرضه لا لأجل أنه الحق الذي بعث الله به رسوله وهذا كثيرٌ في الولاة والرعية، وقد تجتمع شهوة وشبهة وإذا كان ذلك في الولاة كان مثل هذا من أسباب خفاء الحق في بعض المسائل عند كثير من الناس أو أكثرهم؛ كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير؟! إذا تركت بدعة، قيل: تركت السنة) (3). _________ (1) في الأصل: (يرو)، والصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (أيمان)، والجادة ما أثبتُّ. (1) أخرجه معمر بن راشد في جامعه (11/ 359)، وابن أبي شيبة في المصنف (38311)، والشاشي في مسنده (2/ 90)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/ 212/ برقم 6552)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 654) ولفظه: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سنة؛ فإنْ غيِّرت يومًا قيل: هذا منكر ... )، وفي لفظ: ( ... إذا غُيِّرَ منها شيءٌ قيل: غُيِّرَت السنة).

(1/46)


ولهذا كان بعض الناس قد يظلم بعض العلماء؛ كما ظلموا مالك بن أنس ــ رحمه الله تعالى ــ لما أفتى بأنَّ يمين المكره لا تنعقد، وضَرَبَهُ مَنْ ضَرَبَهُ بطريق الظلم ثلاثين سوطًا (1)، والشافعي ــ رحمه الله تعالى ــ ظلموه لما قَدِمُوا به على الرشيد (2)، وقد روي أنه قيل له لما قَدِمَ على الرشيد بغداد: لا تتكلم في مسألتين: إحداهما: مسألة الحلف بالطلاق قبل النكاح (3). والشافعي في قوله وقول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين: أنَّ الطلاق المعلَّق على النكاح باطل، فإذا حلف به لم يلزم شيء، ومذهب طائفة من السلف من الصحابة والتابعين: أنه يلزم في الخصوص كقول مالك، وذهب آخرون [15/ ب] إلى أنه يلزم في العموم والخصوص كقول أبي حنيفة؛ فعلى هذا القول إذا قال في أيمان البيعة: وكل امرأةٍ أتزوجها فهي _________ (1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (القسم المتمم للتابعين ص 441)، والمِحَن لمحمد بن أحمد التميمي (ص 264 وما بعدها)، وترتيب المدارك (2/ 134)، والأنساب للسمعاني (1/ 174). (2) آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 85)، مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 111 وما بعدها)، مناقب الإمام الشافعي للآبري (ص 70)، توالي التأسيس (ص 127 وما بعدها). (3) لم يذكر المسألة الثانية، ولعلها مسألة اتهامه بأنه مع العلويين ضد العباسيين. أما ما يتعلق بقدوم الشافعي إلى بغداد ونهيه عن الكلام في مسألة الحلف بالطلاق قبل النكاح؛ فلم أجد من ذكرها غير المجيب هنا، وابن القيم في إعلام الموقعين (5/ 541)، وقول الشافعي في المسألة ذكره ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ولم يُشر إلى امتحان الإمام بسببها، ولعل هذا يعود لما ذكره ابن أبي حاتم في (ص 91) ــ وكذلك غيره ــ إلى: أنَّ الحكايات المذكورة في محنة الشافعي كثيرةٌ مضطربة. وسيشير ابن تيمية إلى قصة مالك والشافعي مرةً أخرى في (ص 296).

(1/47)


طالق= طلقت كل امرأة يتزوجها. وأبو حنيفة ــ - رحمه الله - ــ وطائفة يقولون: يمين المكره منعقدة؛ فتبقى هذه اليمين لازمة وإنْ كانَ صاحبها مكرهًا، وأما مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ــ رحمهم الله تعالى ــ فلا تَطْلُق عندهم كل امرأة يتزوجها لوجهين: أحدهما: لقوله: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. والثاني: كونه مكرهًا؛ ويمين المكره لا تنعقد. ومع هذا؛ فلم يكن في تحليف من حلف بها دليل شرعي على لزوم المعلَّق، وكذلك لم يكن في الإكراه على الأيمان في البيعة وغيرها دليل شرعي على انعقاد يمين المكره؛ فالاستدلال بتحليف مَنْ حَلَّفَ بأيمان الطلاق على أنهم لولا لزومه لهم لم يمتنعوا منه ولم يحلفوهم = حجةُ جاهلٍ بالأدلة الشرعية؛ كما لو استدل بمثل ذلك على لزوم النذر للحالف بالنذر، وعلى لزوم الطلاق المعلق بالملك لتحليف مَنْ حَلَّفَ به، والاستدلال على انعقاد يمين المكره لتحليف من حلف به، وكذلك الاستدلال بامتناع الممتنع من الحلف بأنه قد يمتنع من ذلك خوفًا أن يلزموه بطلاق امرأته إذا حنث وإنْ كان لا يعتقد ذلك، وقد يمتنع لاعتقاده لزوم الطلاق كما يعتقد لزوم ما علقه من النذر. وليس اعتقاد طائفة من المسلمين حجة شرعية يجب [أن] (1) ترد إليها الأحكام الشرعية، لاسيما والنزاع في مثل هذه المسائل غير مدفوع؛ فإنَّ أبا حنيفة مثلاً يقول: يمين المكره منعقدة، ويقول: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وكل عبد أملكه فهو حر= طلقت كل من تزوجها، وعَتَقَ كل من _________ (1) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.

(1/48)


يملكه، ويقول بلزوم النذر المحلوف به في المشهور عنه والطلاق والعتاق، وأكثر العلماء ينازعونه في ذلك. ومن رأى لزوم الأيمان وصعوبة ذلك احتاج إلى الاحتيال لمن يُبْتَلَى بذلك، فصنف محمد بن الحسن وغيره كتاب (الحيل) في هذا الباب وغيره (1)، واحتجوا بقصة أيوب ــ عليه السلام ــ (2)، بل صَدَّرُوا بها كتبهم، وهذه الحجة تروى عن بعض التابعين وأظنها مروية عن عطاء (3)، وفهموا من الآية أن الله _________ (1) طبع كتاب محمد بن الحسن بعنوان (المخارج في الحيل) بمكتبة الثقافة الدينية عام 1419. وقد شكك بعضهم في صحة نسبة الكتاب لمحمد بن الحسن. انظر: المبسوط للسرخسي (30/ 209). وللمؤلفات في الحيل انظر: معجم الموضوعات المطروقة (1/ 712)، ومقدمة تحقيق د. سليمان العمير لكتاب (الحيل) لابن بطة. وقد تكلم ابن تيمية في مواضع كثيرة عن الحيل وأنواعها وأحكامها؛ بل صنف في ذلك مصنفه الجليل (بيان الدليل على بطلان التحليل)، انظر منه (ص 137 - 142). وقال - رحمه الله - في القواعد الكلية (ص 258): (ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين: إما ذنوب جوزوا عليها تضييقًا في أمورهم، ولم يستطيعوا دفعها إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاءً ... وهذا الذنب ذنبٌ عمليٌ. وإما مبالغةٌ في التشديد لِمَا اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل؛ وهذا من خطأ الاجتهاد). انظر ما سيأتي (ص 179 - 181). (2) أشار لها الله سبحانه وتعالى في سورة (ص) عند قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [آية: 44]. (3) روى سعيد بن منصور في التفسير (7/ 186/ ح 1847) ــ ومن طريقه حرب في مسائله (1/ 457) ــ قال: حدثنا أبو معاوية، قال: ثنا عبد الواحد بن أيمن، عن عطاء قال: أتاه رجل فقال: إني حلفت ألا أكسوا امرأتي درعًا حتى تقف بعرفة. فقال عطاء: احملها على حمار، ثم اذهب بها فقف بها عرفة. فقال: إني إنما عنيت يوم عرفة. فقال له عطاء: وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة نوى أن يضربها بالضغث؟! إنما أمره الله أن يأخذ ضغثًا فيضربها، ثم قال عطاء: إنما القرآن عبر، إنما القرآن عبر. وأخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 168) من طريق وكيع، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن عطاء به نحوه.

(1/49)


[16/ أ] احتال لأيوب في يمينه، ونازعهم أكثر العلماء في ذلك؛ فمنهم من قال: تلك خاصة لأيوب، لأنَّ الله وجده صابرًا، ومنهم مَنْ قال: هذا شرع من قبلنا فلا يكون شرعًا لنا إلا بدليل خاص، وشرعنا قد جاء في الضرب الواجب بالتفريق، ومنهم مَنْ قال: لا حيلة في ذلك، بل لم يكن في شرعهم كفارة، وكانت اليمين توجب المحلوف عليه في شرعهم فخفف الواجب بالنذر، كما خفف الواجب بالشرع في ضرب الزاني فإنه يجب تفريق الضرب، وإذا كان مريضًا يخاف عليه من الضرب المفرق جُمِعَ عليه الضرب كما جاءت به السنة (1)، لم نَقُل ذلك في كل مريض يُخَافُ عليه، ونُقِلَ في المريض الذي _________ (1) أخرج الإمام أحمد في مسنده (36/ 263)، والنسائي في سننه الكبرى (7268)، وابن ماجه (2574)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 74)، والطبراني في المعجم الكبير (6/ 63) وغيرهم من حديث سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا إنسان مخدَّج ضعيفٌ، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أَمَةٍ من إماء الدار يخبُث بها، وكان مسلمًا، فَرَفَعَ شأنه سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اضربوه حَدَّهُ» قالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك، إِنْ ضربناه مائة قتلناه. قال: «فخذوا له عِثْكَالًا فيه مائة شمراخ، فاضربوه به ضربة واحدة، وخلُّوا سبيله». وقد أطال النفس النسائي في سننه الكبرى في سياق أسانيد هذا الحديث وبيان الاختلافات الواردة فيه (6/ 470 - 475) وقال: أجودها حديث أبي أمامة مرسل. وضعف البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 312 - 313) إسناد هذا الحديث لعنعنة ابن إسحاق. انظر: البدر المنير (8/ 624)، تخريج أحاديث الكشاف (3/ 193)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 1215/ ح 2986).

(1/50)


أيس من برئه (1)، وهما وجهان في مذهب أحمد (2). وأنكر أكثر العلماء ما قاله أولئك في حيل الأيمان، وكانت الأيمان عند الجمهور لا تحتاج إلى الحيل التي احتاج إليها أولئك، لأنَّ يمين المكره لا تنعقد عند أكثرهم، وكذلك الحلف بالنذر يمين مكفرة عند الأكثرين إلا مالكًا؛ فمنْ طَرَدَ الدليل والقياس في الحلف بالطلاق والعتاق سَلِمَ من التناقض، وكان قوله متضمنًا إظهار محاسن الإسلام التي بعث بها خير الأنام، ومن تناقض قوله لم يكن ذلك قادحًا في حُسْنِ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسلامته من التناقض. * * * * _________ (1) في الأصل: (برؤه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) بيان التحليل (ص 308 - 313).

(1/51)


فصلٌ قال المعترض: (السادس عشر: ما رواه البيهقي في كتاب (دلائل النبوة) في الجزء السادس بإسناده إلى الواقدي، ثم قال: وذكر موسى بن عقبة في المغازي هذه القصة بمعنى ما رويناه إلا أنه ذكر في قصة الكنز أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل كنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق عن ذلك، وسأل مع كنانة حيي بن الربيع بن أبي الحقيق فقالا: أنفقناه في الحرب، ولم يبق منه شيء. وحَلَفَا له على ذلك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «برئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إنْ كان عندكما» أو قال نحوًا من هذا القول. فقالا: نعم؛ فأشهد عليهما، ثم أمر الزبير بن العوام أنْ يُعَذِّبَ [16/ ب] كنانةَ فعذَّبَهُ حتى خافه فلم يعترف بشيء (1). وفي رواية الواقدي في مصالحته يهود: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وبرئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إنْ كتمتموني شيئًا» فصالحوه (2). ورواه البيهقي من طريق آخر قال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو جعفر البغدادي قال: [حدثنا علاثة] (3)، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، _________ (1) دلائل النبوة (4/ 233). (2) أخرجه الواقدي في مغازيه (2/ 671) ــ ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (4/ 226) ـــ عن جماعةٍ من شيوخه. وأخرجه ابن شبةَ في تاريخ المدينة (2/ 464) من مراسيل ابن شهاب. وقال ابن تيمية في الصارم المسلول (2/ 155) عن رواية الواقدي لقصة كعب بن الأشرف: وما ذكره الواقدي عن أشياخه يوضح ذلك ويؤيده، وإنْ كان الواقدي لا يُحتجُّ به إذا انفرد، لكن لا ريب في علمه بالمغازي، واستعلام كثيرٍ من تفاصيلها من جهته .... (3) زيادة من «التحقيق» ودلائل النبوة.

(1/52)


حدثنا أبو الأسود، عن عروة بن الزبير: ثم إنَّ المسلمين حاصروا اليهود أشدَّ الحصار، فلمَّا رأوا ذلك سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأَمَنَةَ على دمائهم ويتبرؤون (1) له من خيبر وأرضها وما كان لهم من مال، فقاضاهم على الصفراء والبيضاء ــ وهو: الدينار والدرهم ــ وعلى الحلقة ــ وهي: الأداة ــ وعلى البَزِّ إلا ثوبًا على ظهر إنسان، وبرئت ذمة الله منكم إن كتمتم شيئًا، ثم ذكر بقيته إلى أنْ قال: [ثم إن] (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الزبير فدفع كنانة بن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة فقتله (3). فهذه القصة تضمنت التعليق المقصود به المنع من الكتمان، ولما كتموا ترتب عليه مشروطه وهو براءة ذمة الله وذمة رسوله، لأمره - صلى الله عليه وسلم - بقتل كنانة بن أبي الحقيق، وكذلك القصة الأولى تضمنت تعليقًا مقصودًا به التصديق. فإنْ قلتَ: القتلُ لم يكن بمقتضى الشرط، وإنما كان لأنَّ المصالحة وقعت على الوفاء بالشرط، فلمَّا لم يفوا به رجعوا إلى الأصل الذي كانوا عليه وهو الحرابة. قلتُ: ابن تيمية يَدَّعِي أَنَّ الشرط متى لم يكن مقصودًا في نفسه، وَقُصِدَ به حث أو منع أو تصديق أو تكذيب لم يترتب عليه إلا الكفارة وهذه القصة ترد عليه، والله أعلم) (4). _________ (1) كلمة لم أستطع قراءتها، وتحتمل ما أثبتُّ، وهي كذلك في «التحقيق» وفوقها حرف (ظ)، وفي الدلائل: (ويبرزون). (2) في الأصل: (فدفع)، والمثبت من دلائل النبوة. (3) دلائل النبوة (4/ 231). (4) «التحقيق» (33/ أ)، وهو الوجه الثامن.

(1/53)


والجواب بعد النزول عن المطالبة بصحة الحديث: بأنه ليس فيه حجة على محل النزاع؛ فلهذا لم نحتجْ إلى المطالبة بصحته؛ وذلك أَنَّ قولَهُ: «برئت منكم ذمة الله إن كان عندكما شيء»، وقوله (1): «برئت ذمة الله منكم إن كتمتم شيئًا» ليس من الأيمان المعقودة، بل هو من جنس تعليق فسخِ العقود على الشروط، كقول المشتري: إِنْ جئتك بالثمن إلى وقت كذا وإلا فلا بيع بيننا، وسواء كان هذا الشرط صحيحًا أو فاسدًا، فإنَّ في ذلك نزاعًا بين العلماء، وأكثرهم على أنه شرط صحيح، وذلك منقول عن [17/ أ] ابن عباس - رضي الله عنهما -، ومثل قول أحد الشريكين للآخر: إِنْ خالفتَ شرطي فلا شركةَ بيننا أو فقد فسخت الشركة، وقول الوكيل لوكيله: إِنْ لم تفعل كذا فقد عزلتك عن الوكالة؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَّقَ براءته من الذمة التي بينه وبينهم على كتمان شيء. وكذلك في شروط عمر - رضي الله عنه - على النصارى (2) شَرَطَ مثل هذا، فقال: إِنْ خالفتم شيئًا مما شرطناه عليكم فقد حَلَّ لنا منكم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق (3)، وليس هذا وأمثاله من جنس الأيمان التي فرض الله _________ (1) في الأصل: (فقوله)، والصواب ما أثبت. (2) وضع الناسخ (على) في الهامش وكتب فوقها (صح) وهذا هو الصواب؛ وبناءً عليه قمتُ بتعديل (للنصارى) إلى (النصارى) ليستقيم الكلام. (3) أخرجه الخلال في جامعه (2/ 431/ رقم 1003)، والبيهقي في السنن الكبير (19/ 66/ ح 18751) وغيرهما. وقد أطال في ذكر طرقه ابن كثير في مسند الفاروق (2/ 334 - 338) نقلاً عن ابن زبر في جزءٍ له جمعه في الشروط العمرية. ثم قال: فهذه طرقٌ يشد بعضها بعضًا، وقد ذكرنا شواهد هذه الشروط، وتكلمنا عليها مفردة، ولله الحمد. وقد طُبع جزء ابن زَبر الرَّبَعِي عدة طبعات أجودها بتحقيق الشيخ أنس بن عبد الرحمن العقيل ضمن لقاءات العشر الأواخر عام (1427)، كما طبع للدقاق جزء فيه شروط عمر بن الخطاب على النصارى بتحقيق الشيخ نظام محمد يعقوبي ضمن لقاءات العشر الأواخر عام (1422). قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 365): (وهذه الشروط أشهر شيءٍ في كتب الفقه والعلم، وهي مجمعٌ عليها في الجملة بين العلماء المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة). وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (3/ 1164): (إنَّ الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بها). وانظر: مجموع الفتاوى (28/ 652).

(1/54)


تحلتها عند أحد من العقلاء، وقد تقدم نظير هذا. ومن العجب: أنَّ القول المعروف بأن مثل هذا المعترض وأمثاله يتقلدونه هو مخالف للنصوص التي يحتجون بها (1)، ويحتجون بتلك النصوص حيث لا تكون حجة لهم، فيتضمن قولهم أنهم يخالفون النصوص فيما دلت عليه، ويحتجون بها فيما لم تدل عليه؛ كما احتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة» رواه البخاري (2)، وهذا حديث صحيح يخالفونه فيما دلت عليه وفي نظائره، ويحتج به المعترض فيما لم يدل عليه؛ بل فيما دلت النصوص على نقيضه، فإن النصوص دلت على تكفير أيمان المسلمين، فإذا احتج به على أنه لا كفارة في بعضها كان ذلك تركًا للنصوص في الموضعين، واستدلالًا _________ (1) كذا في الأصل، والعبارة فيها قلق، والمعنى واضح. (2) أخرجه البخاري برقم (4261) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - ولفظه: «إنْ قُتِلَ زيدٌ فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة».

(1/55)


بالنصوص فيما لم تدل عليه، وهذا غاية ما يكون من تحريف الكلم عن مواضعه ولبس الحق بالباطل، وإن كان صاحبه المتأوِّل معه مغفورًا له خطؤه، وهو مأجور على ما فعله من الحق. وكذلك هذا الحديث هو وشروط عمر - رضي الله عنه - تدل على أن أهل العهد إذا خالفوا العهد بترك شيء مما شُرِطَ عليهم = انتقض عهدهم وحَلَّت دماؤهم وأموالهم، لا سيما مع بيان ذلك بقوله: «وبرئت منكم ذمة الله إن كتمتم شيئًا» مع أن كثيرًا منهم ينازع في هذا. وقد أورد على نفسه سؤالًا صحيحًا، وأجاب عنه بجواب كذب! فقال: (فإنْ قلتَ: القتل لم يكن بمقتضى الشرط، وإنما كان لأن المصالحة وقعت على الوفاء بالشرط، فلما لم يَفُوا به رجعوا إلى الأصل الذي كانوا عليه؛ وهو الحرابة. قلت: ابن تيمية يَدَّعي أنَّ [17/ ب] الشرط متى لم يكن مقصودًا في نفسه، وَقُصِدَ به حث أو منع أو تصديق أو تكذيب لم يترتب عليه إلا الكفارة؛ وهذه القصة ترد عليه). فيقال له: هذا غلطٌ مقطوعٌ بغلط صاحبه على ابن تيمية؛ [إذ لم يقل] (1) هذا قط! بل ولا خَطَرَ هذا بقلبه، ولا قال هذا أحد من الناس قبله، ولا يقول هذا عاقل! وكلام ابن تيمية وكتبه الكثيرة المصنفة في الأيمان والطلاق كلها تُصَرِّحُ بنقيض هذا القول تصريحًا لا يحتمل النقيض. وهذا من جنس كذب مَنْ يقول: ابن تيمية يفتي بالكفارة في كل طلاق _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(1/56)


معلَّق لأنَّ هذا حالف، أو يفتي به في كل طلاق لأنَّ المطلق حالف؛ وابن تيمية إنما قال ذلك فيمن حلف يمينًا سواء كانت بصيغة القسم أو بصيغة التعليق (1). والتعليق الذي يُقْصَدُ به القسم تسميه الناس كلهم يمينًا، والصحابة - رضي الله عنهم - سموه يمينًا، وأفتوا فيه بكفارة يمين، وروي عن بعضهم رواية أخرى أنهم ألزموا بموجَبه، وجمهور التابعين بعدهم يسمون هذا التعليق يمينًا، وأكثرهم أفتوا في جنس هذا التعليق بكفارة، ومنهم مَنْ خَصَّصَ، لكنَّ اسم اليمين لم يتنازعوا فيه. وابن تيمية سماه يمينًا كما سماه هؤلاء يمينًا، وأدخل في اليمين المذكورة في القرآن هذا التعليق الذي يقصد به اليمين كما أدخله الصحابة في القرآن، ولم يُفَرِّق بين تعليق وتعليق إذا كان كلاهما يُقْصَدُ به اليمين، والصحابة - رضي الله عنهم - لم يعرف عن أحد منهم أنه فَرَّقَ بين تعليق وتعليق، وكذلك كثيرٌ من التابعين ومن بعدهم لم يُعْرَف عنه الفرق، بل منهم مَنْ عُرِفَ منه طردُ الأصل الذي دَلَّ عليه القرآن، ومنهم مَنْ عُرِفَ أصله ولم يعرف تناقضه، ومنهم من تناقض؛ وكذلك مَنْ بعدهم. ومعلومٌ أن هؤلاء لم يجعل أحدٌ منهم كُلَّ شرطٍ لم يقصد وقصد به حث أو منع يمينًا، بل هم وسائر الأمم يعلمون أنَّ الشرط الذي لم يقصد وقصد به حث أو منع إذا كان المعلق به وعيدًا كان جنسًا آخر غير اليمين، بل غالب (2) ما يستعمل الفقهاء لفظ الحث والمنع فيما يخص اليمين، وما سوى ذلك يسمى أمرًا ونهيًا وشرطًا وعقدًا، كما يقال: شَرط عليهم ألا يكتموا شيئًا [18/ أ] وقال: _________ (1) قاعدة العقود (1/ 298 وما بعدها)، القواعد الكلية (ص 455). (2) في الأصل: (غاية)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/57)


«إن كتمتموني شيئًا برئت منكم الذمة» ومثل هذا لا يدخل في قول الفقهاء: إذا حلف يمينًا يقصد بها حضًا أو منعًا، فإنه لا يسمى يمينًا بحال، وهم لا يُدخلون هذا في لفظ الحض والمنع الذي يستعملونه (1) في الأيمان، وإنْ كان يسمى في اللغة منعًا؛ فإنَّ هذا مَنْعٌ دخل بين اثنين فصار له اسم يخصه. وإنْ كان المعلَّق به دعاءً على الغير لم يكن يمينًا؛ كما يقول الإنسان لغيره: إنْ ظلمتني فالله ينتقم منك، وإن لم تعطني حقي فالله يأخذ حقي منك ونحو ذلك؛ فإنَّ هذا شرط ليس مقصودًا في نفسه، ومقصوده أَنْ يعطيه حقه وليس يمينًا، بخلاف ما لو كان الدعاء على نفسه كقوله: إنْ لم أعطك حقك يقطع الله يدي ورجلي؛ فهذا يمين سواء كانت مُكفَّرة أو غير مُكفَّرة. وكذلك ألفاظ الوعيد كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} [الأنفال: 19] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]، ولم يقل أحدٌ أَنَّ هذا يمين. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نصرني الله إنْ لم أنصر بني بكر» (2) يمين، وكذلك قول القائل: إِنْ لم أفعل كذا، وإن فعلت كذا فكل مملوك لي حرٌّ وكل امرأة لي طالق وعليَّ ثلاثون حجة ومالي صدقة= يمينٌ. _________ (1) في الأصل: (يستعملوه)، والجادة ما أثبت. (2) لم أجده بهذا اللفظ. وأخرجه أبو يعلى في مسنده (7/ 343)، والفاكهي في فوائده برقم (230) من حديث عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: «لا نصرني الله إِنْ لم أنصر بني كعب». قال الهيثمي في المجمع (6/ 162): رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش، عن أبيه، عنها؛ وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(1/58)


وإذا قال: إِنْ خالفتِ أمري أو عصيتني أو فعلتِ ما نهيتُكِ عنه فأنت طالق ــ وقصدُهُ أَنْ يقعَ الطلاقُ إذا فعلت ذلك ــ فهذا مُطَلِّقٌ عند الصفة طلاقًا مقيدًا موصوفًا بتلك الصفة ليس هذا بحالف، ولو قال: الطلاق يلزمني لا تفعلي كذا وكذا أو إِنْ فعلتيه فأنت طالق، وهو يكره وقوع الطلاق وإِنْ فَعَلَتْهُ كما يكره طلاق نسائه وعتق عبيده وخروجه من ماله وبراءته من دين الإسلام، وإنما عَلَّقَ ذلك المكروه لاعتقاده أَنَّهُ إذا حلفَ عليها تَبَرُّ قَسَمَهُ إما إكرامًا له وإما خوفًا من ضررٍ يلحقه بتحنيثه يمينَه أو طلاقها = فهذا حالف. والحالف يحلف وهو يعتقد أَنَّ المحلوف عليه يَبَرُّ قسمه، ولو اعتقد أنه يحنثه لم يحلف إذا اعتقد أنه يلزمه ذلك المكروه؛ فالحالف باللوازم التي يكره لزومها إذا اعتقد أنها تلزمه لم يحلف إلا إذا اعتقد أنه لا يحنث، لا يقع في العادة أن يعلم أن تلك المكروهات التي لا يريدها تلزمه إذا حنث ويعلم أنه يحنث وهو مع ذلك [18/ ب] يحلف، فإنَّ هذا يستلزم أن يكون غير مريد لِأَنْ يقع بحال، ويفعل ما يعلم أنه مستلزم لوقوعها، وإرادةُ الملزومِ إرادةٌ للازم، فيلزم أن يكون غير مريد وهو مريد، وهذا لا يفعله إلا من يكون مكرهًا على اليمين، وكثيرًا ما يعتقد الحالف أنه لا يحنث ثم يحنث. وأما إذا اعتقد أنه لا بُدَّ أَنْ يحنث وحلف؛ فهذا يكون ممن يرى في الحنث مخرجًا، أو أَنْ يُقَدِّرَ في نفسِهِ أنه إذا حنث لزمه ذلك الأمر الذي لم يرده البتة، ولكن حصل بغير إرادته فيحتمله كما يحتمل المكرَه ما يُكرَه عليه من العقاب الحاصل بغير إرادته، وإِنْ علم أَنَّ مقصوده لا يحصل بدونه. وأما المعلِّق الذي يقصد الإيقاع فهو يريده إذا وجد الشرط ويعلقه به مع علمه بأنَّ الشرط يكون، بل إذا علم وجود الشرط كان أدعى له إلى الإيقاع،

(1/59)


وقد يُعَلِّقُ الطلاق بفعلها ظنًّا أنها لا تختار الطلاق، سواء كان الشرط مقصودًا أو غير مقصود، كما يقول لها: إِنْ أبرأتني من صداقك فأنت طالق، وهو يظن أنها لا تبرئه ولا تختار طلاقه، ولو عَلِمَ ذلك لم يقل لها ذلك، لكن يقول ذلك ليريها أنه ليس براغب فيها إذا فعلت ذلك مع أنه راغب فيها؛ فهذا في وقوع الطلاق به نزاع. وكذلك لو اعتقد أنها فعلت أمرًا نهاها عنه فقال: هي طالق، ثم تبين له أنها لم تفعله؛ ففي وقوع الطلاق به قولان معروفان، والأظهر: أنه لا يقع؛ كما قد بسط في موضع آخر (1). والمقصود هنا: أنَّ التعليق الذي يَقصد به يمينًا ــ حضًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا ــ يسميها الصحابة والتابعون وعامة العلماء وأهل الإسلام يمينًا، ولا يسمون ما ذكره من تعليق فسخ العقود يمينًا كقوله: «برئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتم شيئًا» (2). ومن الفقهاء مَنْ يسمي كل تعليق للطلاق يُقصد به حضٌّ أو منعٌ يمينًا، أو كُلَّ تعليقٍ للطلاق يمينًا، ولا يسمون هذه التعليقات يمينًا وإِنْ كان فيها حضٌّ أو منعٌ= لكن هذان عرفان حادثان، وهؤلاء عمموا الاسم دون الحكم. ولم يُعْرَف تسمية ذلك يمينًا عن الصحابة بل ولا عن التابعين لكونهم كانوا أحدث علمًا باللغة [19/ أ] التي نزل بها القرآن، وكانوا أعرف بمعنى اليمين المعقول والفرق بينه وبين غيره؛ ولهذا كان جمهورهم على التكفير _________ (1) مجموع الفتاوى (19/ 210)، (32/ 86)، (33/ 210 - 215 مهم)، الفتاوى الكبرى (3/ 209)، منهاج السنة (5/ 90). (2) تقدم تخريجه في (ص 52).

(1/60)


فيما يظهر فيه معنى اليمين كالحلف بالنذر، فإنَّ الشرط هناك إذا لم يكن مقصودًا لم يكن الجزاء مقصودًا ــ أيضًا ــ من الأمر العام، بخلاف الطلاق فإنه قد يكون الشرط فيه غير مقصود والجزاء فيه مقصود؛ فلما رأوا في تعليق الطلاق الذي يقصد به الحض والمنع ما يقصد به الطلاق كثيرًا بخلاف تعليق النذر = كان هذا مما أوجب إفتاءهم في كثيرٍ من تعليق الطلاق الذي يقصد به الحض والمنع بالوقوع. ثم منهم مَنْ فَرَّقَ بين قصد اليمين وغيره طردًا للأصل وتسويةً بين المتماثلين، ومنهم من لم يُفَرِّق لاشتباه أحد النوعين بالآخر، ونظرًا إلى قصد الحض والمنع في تعليق الطلاق ليس موجب كونه يمينًا العادة المعروفة، بل قد يَقْصِدُ ذلك ولا يكون يمينًا، لا سيما حيث كانوا لا يحلفون بالطلاق أو لا يكاد يُحلف به إلا نادرًا (1)؛ فكان المعتاد منهم أَنَّ تعليق الطلاق مع قصد الحض والمنع ليس بيمين بل تطليق، ثم صار الناس يعلقونه تعليق يمين كما يعلقون النذر وغيره فيكونون ممتنعين من إيقاعه ووقوعه عند الصفة، وإنما علقوه مع ذلك لئلا يقع الشرط فقط لا ليقع الطلاق بحال سواء وقع الشرط أو لم يقع، بل هم ممتنعون من إيقاعه على التقديرين، وهؤلاء كارهون للشرط كارهون للجزاء وإِنْ وجدَ الشرط. والحالف لا يكون حالفًا إلا بهذين الشرطين: بكراهة الجزاء، مع قصد الحض والمنع، لا أَنَّ مجردَ الحض والمنع يصير به وحده حالفًا. وكذلك قصد التصديق والتكذيب لا بُدَّ أن يكون معه كارهًا للزوم ما _________ (1) كتب الناسخ في الحاشية (في النادر) وبعدها (صح) وفوقها حرف (خ) إشارةً إلى وجودها في نسخة أخرى.

(1/61)


عَلَّقَهُ من الطلاق سواء [أكان] (1) خبره مطابقًا أو غير مطابقٍ، وأما إذا قصد وقوع الطلاق عند مطابقة الخبر، فهذا ليس بحالف في الحقيقة وإِنْ أظهرَ أنه حالف، بل هذا يقع به الطلاق؛ فلو قال: ما فعلتُ كذا وإن كنتُ فعلته [فامرأتي طالق] (2)، أو الطلاق يلزمني ما فعلته وهو يعلم أنه فعله، وقصده أن يوقع الطلاق بها وأظهر ذلك في صورة اليمين ليكون [19/ ب] ذلك عذرًا له عند مَنْ يلومه على الطلاق فيقول: أنا قصدت أن أبرئ نفسي فحلفت لها= فهذا يقع به الطلاق. وأما الذي يقصد اليمين فلا يكون إلا كارهًا للزوم الجزاء المعلَّق وإِنْ وجد الشرط، فهو وإِنْ حَلَفَ يمينًا غموسًا فقال: ما فعلتُ وإِنْ كنتُ فعلتُهُ فامرأتي طالق، فهو لا يريد أَنْ يطلقها وإِنْ كان فَعَلَهُ (3)، بل أظهر هذا اللزوم ليظهر للناس أنه صادق حيث إِنَّه (4) جعل كذبه ملزوم الطلاق، وهم يعلمون أنه لم يقصد الطلاق وأنه (5) لم يرده وإن كان كاذبًا، لكن جَعَلَهُ لازمًا له على تقدير الكذب نافيًا للكذب، لا على تقدير الكذب مثبتًا للكذب، فَجَعَلَهُ لازمًا للكذب الذي نفاه، ومع نفي اللزوم لا يكون مثبتًا للازم قاصدًا لوقوعه مع ثبوت الملزوم، فإنه مع ثبوت كذبه لم يقصد وقوع الطلاق وإن جعله لازمًا له مع نفيه للملزوم. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) إضافة يقتضيها السياق. (3) في الأصل: (وإن كانت فعلته)، والسياق يقتضي ما أثبت. (4) في الأصل: (إن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (5) في الأصل: (وإن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/62)


وأيضًا؛ فالحض والمنع إذا دخل في عقد آخر غير عقد اليمين كان له اسم آخر، مثل دخوله في العقد بين اثنين مثل: عقد النكاح والبيع والإجارة؛ فإنه تضمن أن كلًا منهما يطلب من الآخر مقصوده ولا يسمي الفقهاء هذا حضًّا، وتضمن أَنَّ كلًا منهما يمنع الآخر عن خلاف موجَب العقد ولا يسمون هذا منعًا، بل لفظ الحض والمنع يَخُصُّونَهُ بالطلب المؤكد بالقسم. فإنَّ لفظ الحث يتضمن نوع تأكيد للطلب والاقتضاء، فلا يستعمل هذا غالبًا في مطلق الطلب، بل في الطلب المؤكد، كما يقال: حَضَّهُ وحَرَّضَهُ، فإذا قُرِنَ بهذا المنع أرادوا به المنع المؤكد بالقسم؛ ففيهما معنى الأمر والنهي، لكن أمر مؤكد بالقسم ونهي مؤكَّد بالقسم (1). فصار لفظ اليمين ولفظ الحض والمنع يقتضي تخصيص ذلك بالمؤكد، والمؤكد هو الذي يُعلِّقُ به ما يكره لزومه له وإن وجد الشرط، فإنَّ ما كان كذلك كان التخصيص والمنع به أبلغ من جهة الحالف، فإنه إذا التزم عند المخالفة ما يكره لزومه له كان أشد امتناعًا منه، بخلاف ما إذا التزم ما لا يكره هو لزومه له، فإنه لا تكون كراهته له مثل كراهته لما يلتزم به ما يكره، كمن [20/ أ] نهى غيره عن فِعْلٍ وتوعَّدَهُ عليه بعقابه، فإنَّ العقاب ضررٌ يلحق بالمنهي الممنوع لا بالناهي المانع، بخلاف لزوم ما يكره عند الحنث فإنه ضرر يلحق بالمانع الحالف لا بالممنوع المحلوف عليه، لكن قد يضره من جهة أخرى كما يضر المرأة أنْ تُطَلَّق. _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 232)، المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 35)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 538)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 329). وانظر: بدائع الفوائد (2/ 644 - 646).

(1/63)


ولكن الحلف بالطلاق لا يختص بمنع المرأة، بل قد يحلف به لمنع نفسه، وقد يحلف لمنع صديق له أجنبي، وبمنع ولده ومملوكه، ويحلف به لمنع امرأته؛ وغير المرأة لا يلحقها الطلاق فلا يتضرر بوقوعه، مع أنه قد يحلف عليه بالطلاق، كما قد يحلف عليه بصدقة ماله وتحريم الحلال عليه وغير ذلك مما لا يكون الضرر فيه بالحنث إلا على الحالف، وإنْ كان قد يلحق غيره ضررٌ آخر بالعرض، ولو لم يكن إلا مخالفة الحالف الذي يوجب أن يعاقبه على تحنيثه له. * * * *

(1/64)


فصلٌ قال المعترض: (السابع عشر: لمَّا قالت بنو لَحْيَان لسرية عاصم بن ثابت: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلًا. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر (1). وقول جُبير بن مُطْعِم لمولاه وحشي لما قَتَلَ حمزةُ طعيمةَ بنَ عدي بنِ الخيار ببدر: إِنْ قتلتَ حمزةَ بِعَمِّي فأنت حر، فقتل وحشيٌّ حمزةَ (2) عام عَينين ــ جبلٌ بحيالِ أُحُدٍ (3) ــ (4). وجه الاستدلال من هاتين القصتين: أَنَّ المقصود بهذين التعليقين الحثُّ على تحصيل الشرط من القتل والنزول، فهو يشبه قوله: إِنْ لم يفعل كذا فأنت حر، فلو كان ذلك التعليق لا يترتب عليه الحرية (5) ولم يحصل مشروطه لكان هنا كذلك، لا يترتب عليه عتق وحشي ولا حصول الذمة لسرية عاصم، وهو خلاف ما فهموه منهم وفهمه كل أحد، وهم أهل اللسان وَصِحَابُهُ ــ أعني: سرية عاصم ــ فليس يخفى عنهم مدلول اللفظ لغة وشرعًا، وكذلك ما لا يحصى من _________ (1) أخرجه البخاري (4086) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) من قوله: (طعيمة بن عدي) إلى هنا غير موجود في «التحقيق». (3) في البخاري: (وعَينين جبل بحيال أُحُد، بينه وبينه وادٍ). انظر: الأماكن للهمداني (ص 707)، معجم البلدان (4/ 173). (4) أخرجه البخاري (4072) من حديث وحشي - رضي الله عنه -. (5) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (الكفارة).

(1/65)


الشروط الواردة في الكتاب والسنة؛ والله أعلم) (1). والجواب أن يقال: أما قول جبير بن مطعم (2): إِنْ قتلتَ حمزة بعمي فأنت حر، فإيرادُ هذا في الاستدلال في هذا المكان في غاية الفساد وبُعد الذهن، فإنَّ هذا شرطٌ مقصودُ الوجود، وتقدم الكلام فيه غير مرة: أَنَّ الشرط إما أَنْ يكونَ يمينًا إذا كان غير مقصود فيكون منعًا منه. وأَمَّا الحضُّ عليه [20/ ب] فلا بُدَّ أن يكون مع حرف النفي، فيقول: إنْ سافرتُ معكم فعبدي حر؛ فهنا مقصوده منع نفسه من السفر، ومراده ألا يسافر، وأما إذا قال: إِنْ لم أسافر معكم فعبدي حر؛ فهنا مقصوده حض نفسه على السفر، ومراده أنه يسافر؛ كمسألة ليلى بنت العجماء فإنها قالت لمملوكها: إِنْ لم أُفَرِّقْ بينك وبين امرأتك فمالي في سبيل الله وعليَّ (3) المشي إلى بيت الله وكل مملوك لي حر وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية؛ فهذه كان مقصودها حض نفسها على التفريق بين الزوجين؛ ولهذا قال لها الصحابة: يا هاروت وماروت! خَلِّ بينَ الرجل وبين امرأته، وكَفِّرِي يمينك (4)؛ فأتت بصيغة الشرط مع حرف النفي. فإنَّ الحلف بصيغة التعليق المقدَّم فيها الشرط يكون المنفي في الشرط _________ (1) «التحقيق» (33/ ب)، وهو الوجه التاسع. (2) في الأصل: (طعيمة بن عدي)، والمثبت هو الصواب، كما في البخاري وكتب التاريخ والسير، وتقدم على الصواب. (3) في الأصل: (وعليها)، والسياق يقتضي ما أثبتُّ. (4) سيأتي تخريجه في (ص 201 - 209).

(1/66)


مثبتًا والمثبت منتفيًا، والمقدم في صيغة الشرط والجزاء مؤخرًا في صيغة القسم والمؤخَّر مقدمًا، فلو حَلَفَتْ بصيغة القسم لقالت: العتق يلزمني والمشي يلزمني والصدقة بمالي تلزمني لَأُفَرِّق بينك وبين امرأتك؛ كما يقول الحالف: الطلاق يلزمني لأفرقنَّ بينك وبين امرأتك، ولو قال: هذه الأشياء تلزمني إن لم أفعل هذا كان الشرط مثبتًا وكانت هذه صيغة شرط أيضًا. فإنَّ الجملة الشرطية يُقَدَّمُ فيها الشرط تارة ويؤخر أخرى، والأصل فيه أن يكون مقدمًا، فإنه له صَدْرُ الكلام، وجوابه بعده إذ كان هو السبب للجزاء، والسبب يتقدم على المسبب. واختلف النحاة فيما إذا أُخِّرَ كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وقول الحالف: والله لأفعلنَّ كذا إن شاء الله، وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ونحو ذلك؛ فذهب سيبويه وأصحابه إلى أن جواب هذا الشرط محذوف لدلالة ما تقدم عليه، وقالوا: الكلام كلمتان تقديره: لأفعلن كذا إن شاء الله لأفعلنه، لكنه حذف جواب الشرط المذكور لدلالة ما تقدم عليه، وذهب الفَرَّاء وغيره إلى أن هذا الشرط متعلق بما قبله وليس في الكلام محذوف، وجعلوا الشرط يقدم تارة ويتأخر أخرى، وهذا أرجح القولين، وكما أن جواب القسم يحذف إذا سَدَّ مسدَّهُ [21/ أ] جواب الشرط، ولا يكون هناك جواب قسم محذوف؛ فكذلك إذا تقدم جواب الشرط أغنى عن تأخره ولا يكون هناك شيء محذوف ولا يخطر ببال أحد ولا استعمل قط، وما لا يخطر ببال المتكلم ولم يذكر في الاستعمال لم يجز أن يجعل محذوفًا، فإنَّ المتكلم إنما يقصد أن يربط بالشرط المؤخر ما تقدم من الجملة,

(1/67)


لا جملة أخرى لم تخطر بباله، وبسط هذا له موضع آخر (1). والمقصود هنا: أَنَّ الشرط قد يتقدم وقد يتأخر، لكن المنفي فيه مثبت في صيغة القسم والمثبت فيه منفي؛ فقول القائل لِيُرَغِّبَ عبده في فعلٍ: إِنْ فعلتَ هذا فأنت حر، كقوله: إِنْ أعطيتني ألفًا فأنت حر، وإِنْ قتلتَ عدوي فلانًا فأنت حر، كما قال جبير بن مطعم (2) لغلامه وحشي: إِنْ قتلتَ حمزة فأنت حر، ونحو ذلك من باب التعليق الذي يقصد به الشرط والجزاء جميعًا، كقول الناذر: إِنْ شفى الله مريضي فعبدي حر، وهذا إيقاع للعتق عند الصفة، ليس بحلف بالعتق عند أحد من العقلاء لا من الفقهاء ولا غيرهم. فإنَّ الحالف يكره شرطين وجوديين: يَكرهُ الشرط ويَكرهُ الجزاءَ عنده؛ كقوله: إِنْ كلمتُ فلانًا فعبيدي أحرار ونسائي طوالق، وإذا كان الشرط منفيًا كقول ليلى بنت العجماء: إِنْ لم أفرق بينكما فكل مملوك لي حر وعليَّ المشي وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية؛ فالشرط عدم هذه الأمور وهو يكره هذا العدم ويريد وجود نقيضه وهو التفريق؛ فالشرط في اليمين أبدًا مكروه والجزاء أيضًا مكروه، فإن كان الشرط ثبوتيًا كُرِهَ ثبوته وأريد عدمه، وإِنْ كان عدميًا كره عدمه وأريد وجوده، والجزاء مكروه وإن تحقق الشرط. وقوله: إِنْ قتلتَ عدوي فلانًا فأنت حر؛ كقول سيد وحشي له: إِنْ قتلتَ _________ (1) مجموع الفتاوى (6/ 225) (7/ 454، 460) (8/ 426) (17/ 196) (20/ 490)، شرح الأصبهانية (ص 257 وما بعدها). وانظر: بدائع الفوائد (1/ 186). (2) في الأصل: (طعيمة بن عدي)، وصوابه ما أثبتُّ كما تقدم التنبيه عليه.

(1/68)


حمزة فأنت حر = هو فيه مريدٌ للشرط الذي هو قتل حمزة، وقد جعل العتق لازمًا له، وإرادة الملزوم تستلزم إرادة اللازم؛ كسائر من يعلق العتق بشرط يريد وجوده، فإنَّ هذا يقع به العتق، ولم ينازع أحدٌ في هذا؛ بل ذَكَرَ غيرُ واحدٍ الإجماعَ على وقوعِ العتقِ المعلَّقِ بالصفةِ المقصودةِ والعتقِ المعلَّقِ إذا قُصِدَ إيقاعه عند الصفة (1)، وإنما النزاع فيما إذا عَلق العتق قاصدًا [21/ ب] لليمين كقوله: إِنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك فعبدي حر، وإنْ فعلتَ كذا فكل مملوك لي حر. ومنه إذا قال: والله لا أبيع هذا المملوك وإن بعته فهو حر، وقصده ألا يبيعه وألا يكون حرًّا = فهذا حالفٌ؛ فيه النزاع: هل يكفِّر يمينه أم لا يكفِّر؟ والذين قالوا: لا يكفر اضطربوا؛ هل يَعتق أو لا يَعتِق أو يَعتِق إذا شرط الخيار؟ وكلُّ قولٍ فيها ضعيف، لأنَّ الرجل لم يقصد أن يعتقه بعد خروجه من ملكه إلى ملك المشتري، ولا يقصد هذا عاقل، وليس هذا كالتدبير؛ فإنَّ الذين قالوا يَعْتِق شبهوه بالمدبَّر، لأنَّ المدبَّر لم ينتقل إلى ملك الورثة بل عتق عقب الموت، والتدبير منعه من الانتقال. وهنا إذا قال: إِنْ بعتك فأنت حر؛ فإنْ أراد البيع الشرعي اللازم، فالبيع الشرعي اللازم لا يكون إلا ناقلًا للملك إلى المشتري، وإن أراد بالبيع التلفظ ببيع لا ينقل الملك لم يكن هذا بيعًا، بل كان بمنزلة بيع المجنون والمحجور عليه وغيرهما. وبعد هذا إذا قال لغيره: بعتك، وقال الآخر: قبلت ــ إِنْ كان هذا بيعًا ــ فقد صار له موجَبان متضادان: انتقاله إلى المشتري وعتقه، بخلاف موت سيد المدبَّر؛ فإنَّ موته لم يوجب انتقاله إلى الورثة مع _________ (1) انظر ما سيأتي (ص 416).

(1/69)


عتقه، بل لولا العتق لانتقل إلى الورثة مع وجود السبب وهو الموت، وهنا إذا عتق لم يكن هناك بيع أصلًا؛ وحقيقة كلامه: إذا بعتك فلا بعتك أو إذا بعتك لم أكن بعتك، فقد عَلَّقَ على الشرط نقيض موجبه، والنقيضان لا يجتمعان، وهو لو قصد هذا المعنى فقال: إذا بعتك لم أكن بعتك لم يلتفت إليه، بل إذا باعه انتقل إلى المشتري. وأيضًا؛ فمثل هذا يكون لاعبًا بالمشتري هازئًا به، وذلك لأنه لم يقصد أن يعتقه إذا باعه، وإنما قصد ألا يبيعه، وجعل العتق لازمًا لبيعه لكراهته عتقه وإن وجد البيع، لا لإرادته عتقه إذا وجد البيع، وهو بمنزلة قوله: إِنْ بعتك فثمنك عليَّ حرام، فإذا باعَهُ لم يحرم ثمنه عليه، لكن عليه كفارة يمين في أظهر قولي العلماء وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما، كما لو قال ابتداءً: ثمنك عليَّ حرام، ومراده أنه لا يبيعه، وأما إِنْ كان مراده التزام عتقه فهذا نذر لعتقه. ومن قال: إنه لا يعتق لكونه [22/ أ] قد خرج عن ملكه بالبيع إما مطلقًا، وإما إذا لم يكن للمشتري خيارٌ، أو كان ثَمَّ خيار وقيل (1) ذلك للمشتري؟ فيقال له: هَبْ أَنَّ البيع سبب لنقل الملك إلى المشتري، فهو ــ أيضًا ــ سبب لزوال الرق وثبوت الحرية، وتعليق العتق مُقَدَّم؛ فَلِمَ قُدِّمَ أَحَدُ المسبَّبَين دون الآخر وكلاهما ثبت بقوله؟ فهذا الذي جعل البيع مستلزمًا لعتقه وهو الذي باع بيعًا يكون ناقلًا للملك. وأما قول بني لحيان لسرية عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح: لكم العهد _________ (1) الكلمة غير منقوطة في الأصل.

(1/70)


والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلًا. فقال عاصم: أَمَّا أنا فلا أنزل في ذمة كافر؛ فهذا كقول يعقوب ــ عليه السلام ــ: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66]، ومسألة قول القائل: عَليَّ عهدُ الله وميثاقه لأفعلنَّ كذا= وهذا يمين. وأما قوله: (فوجه الاستدلال من هاتين القصتين: أَنَّ المقصود بهذين التعليقين (1) الحث على تحصيل الشرط من القتل والنزول، فهو يشبه قوله: إن لم أفعل (2) كذا فأنت حر، فلو كان ذلك التعليق لا يترتب عليه الحرية (3) ولم يحصل مشروطه لكان هنا كذلك لا يترتب عليه عتق وحشي ولا حصول الذمة لسرية عاصم، وهو خلاف ما فهموه وفهمه كُلُّ أَحَدٍ، وهم أهل اللسان وَصِحَابُهُ ــ أعني: سرية عاصم ــ، فليس يخفى عنهم مدلول اللفظ لغة وشرعًا، وكذلك ما لا يحصى من الشروط الواردة في الكتاب والسنة). فيقال له: لم يقل أحد إن كُلَّ ما يُقصد به الحث على تحصيل الشرط يكون يمينًا، كقوله: إِنْ لم أفعل كذا فأنت حر، ولا يقول هذا عاقل، بل الناس كلهم يُفَرِّقُونَ بين قوله: إِنْ قتلتَ عدوي فأنت حر، وبين قوله: إِنْ لم أفعل كذا وكذا فأنت حر، ويعلمون أَنَّ الأول عَلَّقَ العتقَ على قتل عدوِّهِ، ومقصودُهُ أَنْ يقتل عدوَّه ويعتِق إذا قتله، فهو يقصد الشرط ويريد وقوع _________ (1) من قوله: (أنَّ المقصود) إلى هنا غير موجود في الأصل، والمثبت من «التحقيق»، وقد تقدم ذكرها في أول الفصل. (2) في «التحقيق»: (تفعل). (3) في «التحقيق»: (الكفارة).

(1/71)


الجزاء إذا وقع، والثاني كارهٌ (1) للشرط الذي هو عدم الفعل مريدٌ لنقيضه وهو الفعل، وكارهٌ للحريَّةِ وَإِنْ وجد الشرط، كقول ليلى بنت العجماء: إِنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي حر (2). وكذلك قوله: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل أحدًا منكم؛ فمعناه: نعاهدكم بالله إن نزلتم إلينا ألا نقتل، ونعطيكم عهد الله وميثاقه إن [22/ ب] نزلتم ألا نقتل، فهو بمنزلة مَنْ حلف لا يقتل زيدًا إذا أتى إليه. وإذا عَبَّرَ عن هذا بصيغة الشرط قيل فيه: إن نزلت إليَّ فلك العهد والميثاق ألا أقتلك، فهو إثبات للعهد والميثاق إذا وجد الشرط، وهو تعليق للجزاء المقصود على الشرط المقصود، وهو يشبه قوله: لكَ عهد الله وميثاقه لئن أديت إليَّ ألفًا لأُعتقنَّك، وقوله: لكِ عهد الله وميثاقه لئن أديتِ إليَّ ألفًا لأطلقنَّك. ولو قصد الإيقاع عند الشرط لوقع، فلو قال: إن أديتَ إليَّ ألفًا فأنت حر أو إن أديتِ إليَّ ألفًا فأنت طالق؛ وقع الطلاق والعتاق إذا وجد الشرط، كما لو قال الناذر: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ عتق رقبة أو فعبدي حر أو فعليَّ الحجُّ، فإنه إن وجد الشرط وجد الجزاء. بخلاف قوله: إِنْ سافرتُ معكم أو إن كلمت فلانًا فعليَّ عتق عبد أو (3) فمالي صدقة؛ فإنَّ هذا مقصوده ألا يسافر، ومقصوده ألا يعتق عبده ولا يكون ماله صدقة، وإن سافر وكلم فهو ممتنع من فعل الشرط وممتنع من _________ (1) في الأصل: (كان)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) سيأتي تخريجه في (ص 201 - 209). (3) في الأصل زيادة: (قتلت)، ولعل حذفها هو الصواب، فلم يُشِر لها فيما بعد.

(1/72)


إيقاع الجزاء وإن وجد الشرط = فهذا هو الحالف. فأهل اللغة والصحابة ــ كعاصم وغيره ــ فهموا [فهمًا] (1) صحيحًا، والذي فهموه هو مقتضى اللغة والشرع ولم ينازع في ذلك أحد، ولكن مَنْ جَعَلَ مقتضى هذا مثل قصد التعليق الذي يقصد به اليمين، فقد أثبت اللغة والشرع بالقياس الفاسد، وجعلَ ما يُقْصَدُ وجودُهُ مثلما لا يقصد وجوده، وجعل المريد لإيقاع الشيء مثل الممتنع من إيقاعه، وخالفَ الصحابةَ والتابعينَ وعامة العلماء الذين جعلوا الممتنع من الشرط والجزاء حالفًا، وجعلوا ذلك التعليق يمينًا بخلاف ما يقصد وقوعه لا سيما إذا قصد الشرط كما في القصتين، فإنَّ في إحداهما: إعتاق. وفي الأخرى: أَمَانٌ على نفي القتل إذا نزلوا لا على إثباته، فهو كما لو قال: إِنْ نزلتم إلينا وقتلنا منكم أحدًا فنحن برآء من الله؛ فهذا يمين على نفس القتل. واليمين إذا كانت على العقود بين الناس كانت لازمة لا يجوز فيها الحنث والتكفير باتفاق الناس، كما في اليمين على النذر كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) [23/ أ] فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 ــ 77]، فمعاهدتهم لله إن آتاهم من فضله لنصدقنَّ ولنكوننَّ من الصالحين هو نظير معاهدة أولئك لسرية عاصم لئن نزلتم إلينا لا نقتل منكم أحدًا، والأول نذر لله مؤكد باليمين، والثاني مصالحة ومهادنة _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(1/73)


ومعاهدة لسرية عاصم مؤكدة باليمين، ومثل هذا يجب الوفاء به باتفاق المسلمين ولا يجوز فيه الحنث والتكفير. ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15]، فإن تولية الأدبار من الكبائر، والامتناع من التولي واجب بالشرع، فإذا عاهدوا الله عليه توكَّد وجوبه؛ كالذي يعاهد الله على العمل بطاعته، وكالذين يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإيمان به وطاعته قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] فقد بين أن ما بايعوا الله عليه فقد عاهدوا الله عليه. ومنه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] قال غير واحد من السلف: يتساءلون به أي: يتعاقدون ويتعاهدون؛ فإنَّ كل واحد من المتعاهدين المتعاقدين يسأل بالله (1) ويطلب منه ما عاهده عليه (2)، وهذه معاهدة بالله وإن لم يتكلم بها بحرف القسم، وتسمى هذه أيمانًا؛ قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ _________ (1) في الأصل: (الله)، والصواب ما أثبتُّ. (2) انظر آثار السلف في ذلك: تفسير الطبري (6/ 342 وما بعدها)، تفسير ابن المنذر (2/ 548)، تفسير ابن أبي حاتم (3/ 854). وانظر: مجموع الفتاوى (29/ 139 - 140، 32/ 13)، الفتاوى الكبرى (4/ 83 - 84)، القواعد الكلية (ص 385)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 308، 327)، الصارم المسلول (2/ 42)، أحكام أهل الذمة (3/ 1387 وما بعدها).

(1/74)


أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 1 ــ 4] إلى قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ [23/ ب] إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 7 ــ 8] والإِلُّ: القرابة، والذمة: العهد. إلى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ [وَطَعَنُوا] (1) فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 12 ــ 13]. وقال: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} [النحل: 91 ــ 92]. قال المفسرون: نزلت في الرجل كان يعاهد القوم، فإذا وجد قومًا أَرْبَا _________ (1) ليست في الأصل ..

(1/75)


منهم، غَدَرَ بالأولين ونكث عهدهم وعاهد هؤلاء (1). وقال تعالى: {وَالَّذِينَ عاقدت (2) أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وكانوا يسمون الرجل حليفًا مأخوذ من الحِلْف (3)، وهذه الأيمان لا يجوز فيها النكث والتكفير بل هذه يجب الوفاء بها بمطلق العقد، فإنَّ مطلق العقود التي بين الناس هي معقودة بالله، والله أمر بالوفاء بها، وإذا وَكَّدُوهَا بالحلف باسمه كان ذلك توكيدًا لها. ولفظ اليمين في الأصل هو يمين الرجل، ثم لما كان إذا عاهد غيره يعقد يمينه بيمينه سُمِّي ذلك عقدًا ويمينًا، كما يسمى صفقة لأنه يصفق بيده على يده، وسمي مبايعة لأن كلا منهما يَمُدُّ باعه إلى الآخر، كما سميت المعانقة لأن كلًا منهما يمد عنقه إلى الآخر، والمصافحة لأن كلًا منهما يصفح يده بيد الآخر؛ أي: يمس صفحة يده بصفحة يده. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] يدل على أن مبايعتهم كانت بأيديهم مع أقوالهم، وكذلك كان _________ (1) الفتاوى الكبرى (4/ 83)، القواعد الكلية (ص 385)، الصارم المسلول (2/ 42). وانظر: تفسير الطبري (14/ 340، 346 - 347)، أحكام أهل الذمة (3/ 1387 وما بعدها). (2) كذا في الأصل، وهي قراءة أبي عمرو وغيره من السبعة، والتي كان يقرأ بها شيخ الإسلام. انظر: جامع البيان في القراءات السبع (3/ 1010)، والنشر في القراءات العشر (2/ 249). (3) مجموع الفتاوى (35/ 321).

(1/76)


النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع الرجال بيده (1)، وأما النساء فقد روي في الصحيح: أنه ما مس امرأة بيده (2)، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» (3)، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يضع يده في ماء ويضعن أيديهن فيه (4)، وفي هذا نظر والأول أعرف. _________ (1) ثبت هذا في أحاديث كثيرة وحوادث متعددة؛ منها: حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أخرجه مسلم في صحيحه (121). وحديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -: أخرجه ابن حبان في صحيحه (15/ 471). وحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: أخرجه الشاشي في مسنده (3/ 122). وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (14/ 482). وأخرج مسلم في صحيحه (1844) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - مرفوعًا: «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقةَ يده». (2) أخرجه البخاري في صحيحه (2713) من حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظه: والله ما مست يده يدَ امرأةٍ قط في المبايعة. (3) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 578)، والطيالسي (3/ 192)، وعبد الرزاق في مصنفه (9826)، والإمام أحمد في مسنده (44/ 556)، والنسائي (4181)، والترمذي (1597)، وابن ماجه (2874) من حديث أُميمة بنت رُقيقة - رضي الله عنها -. وصححه ابن حبان (10/ 417)، وقال الترمذي في روايةٍ مختصرةٍ له: هذا حديث حسن صحيح ... وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: لا أعرف لأميمة بنت رقيقة غير هذا الحديث، وأميمة امرأة أخرى لها حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وانظر: السلسلة الصحيحة (2/ 63). (4) أخرجه ابن إسحاق في المغازي ــ كما في الفتح 8/ 637 ــ عن أَبَان بن صالح، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغمس يده في إناء، وتغمس المرأة يدها فيه. قال السُّهيلي في الروض الأنف (4/ 71): وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن المقري النقَّاش في صفة بيعة النساء وجهًا ثالثًا أورد فيه آثارًا، وهو أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغمس يده في إناء، وتغمس المرأة يدها فيه عند المبايعة، فيكون ذلك عقدًا للبيعة، وليس هذا بالمشهور، ولا هو عند أهل الحديث بالثبت، غير أنَّ ابن إسحاق ــ أيضًا ــ قد ذكره في روايةٍ عن يونس عن أبان بن صالح. وانظر: جامع المسائل (5/ 221).

(1/77)


وقد أنكر هذا بعضهم (1) قال: لأن البيع من ذوات الياء؛ يقال: باع يبيع بيعًا، والباع من ذوات الواو أصله؛ يقال: باع وأبواع. وجوابه: أنَّ هذا من باب الاشتقاق الأكبر، وهو اتفاق اللفظتين في أكثر الحروف وفي بعضها يتفقان [24/ أ] في جنسها لا في عينها؛ كما قال أبو جعفر: العامة اسم مشتق من العَمَى، ما رضي الله بأن شبههم بالأنعام حتى قال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (2) [الفرقان: 44]، والعامة من عَمَّ يَعم، والعمى مِنْ عَمَى يعمى، لكن العرب تعاقب بين الحرف المعتل والمضعَّف كما يقولون: تقضَّى البازي وتَقَضَّضَ (3). _________ (1) اعترض على هذا صاحب المُطْلِع على أبواب المقنع (ص 227) من وجهين: أحدهما: أنه مصدر، والصحيح أنَّ المصادر غير مشتقة. والثاني: أنَّ الباع عينه واو، والبيع عينه ياء؛ وشرط صحة الاشتقاق موافقةُ الأصل والفرع في جميع الأصول. (2) أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 168) من طريق عبد الله بن محمد بن عجلان وجعله من قول علي بن محمد بن الرضا. وأخرجه ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد (19/ 141) من طريق ابن عجلان هذا وجعله من قول علي بن موسى بن جعفر الرضا. وقد أطال ابن النجار النفس في تضعيف هذا الأثر. والذي يبدو أن ابن تيمية يقصد أبا جعفر الباقر ــ واسمه: محمد بن علي بن الحسين ــ حيث نسب ابن القيم في شفاء العليل (1/ 252) هذا الأثر إليه، ولم أجده مسندًا عنه. (3) قال في مجموع الفتاوى (10/ 369): قال أبو جعفر: العامة اسم مشتق من العمى؛ فراعوا الاشتراك في الحروف دون الترتيب؛ وهو الاشتقاق الأوسط، أو الاشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الأكبر. وانظر: منهاج السنة (5/ 190).

(1/78)


ومنه قيل: سُرِّيَّة مأخوذة من السِّرِّ وهو الجماع، والسرر من المضعَّف، والسرية من المعتل كما قال امرؤ القيس: ألا زعمت شباب (1) الحي أني ... كبرت وأن لا يحسن السِّرَّ أمثالي (2) والله ــ تعالى ــ إذا شرع للمؤمنين تحلة أيمانهم ــ وهي الأيمان التي يعقدونها ليحض أحدهم نفسه أو غيره أو يمنعها ــ وعقدوها بالله ولله توكيدًا= كذلك الحض والمنع، وأما ما يكون من العقود بينهم وبين غيرهم؛ فهذا (3) لم يفرض الله تحلته وإنْ سُمِّيَ يمينًا، وكذلك ما عقدوه لله بالتزام ما أوجبه عليهم، فهذا واجب بأمر الله ــ تعالى ــ لم يَفْرِض الله تحلته؛ فكل عقدٍ أمر الله بالوفاء به عينًا ــ إما لحقِّه وإما لحق العباد ــ فلم يفرض تحلته، وإِنْ حلف حالف بالله ليوفين فيه، وما وَفَى بل غدر كان عليه مع الإثم الكفارة، مع أنَّ إثم الغدر والنكث باقٍ عليه. ثم قد يقال: إنما سمي من العقود يمينًا ما يتضمن الحلف بالله وإن كان الوفاء به واجبًا (4) وإن لم يُذكر فيه اسم الله بل ذكر فيه ألفاظ أخرى؛ كقوله: عليَّ عهد الله وميثاقه، أو عليَّ العهد والميثاق؛ والفقهاء متنازعون في انعقاد _________ (1) في هامش الأصل: (بسباب) وفوقها حرف (ظ) وقبله حرف (خ). (2) ديوان امرئ القيس (ص 28)، والبيت فيه هكذا: أَلا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليومِ أنني ... كبرتُ وَأَنْ لا يُحْسِنَ اللهوَ أمثالي وفي غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 238) وغيره: «السِّرَّ» بدلًا عن «اللهو». (3) في الأصل: (غيرها فلهذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (واجب)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/79)


اليمين بهذه الألفاظ وإن لم يذكر فيها اسم الله؛ فأكثرهم يقولون: ينعقد بها اليمين، ومنهم من يقول: لا ينعقد إلا إذا ذكر اسم الله (1). وأما لفظ العهد المجرد كقوله: أَمَّنْتُكَ أو بعتك أو أجرتك أو أنكحتك أو [ ... ] (2) فهذا موجبه يقتضي الوفاء بالعقد، لكن يمنع كون هذا يسمى يمينًا فلا يتناوله قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فإنَّ هذا لا كفارة فيه إذا غدر، بل فيه الإثم. * * * * _________ (1) بدائع الصنائع (3/ 8)، الاختيار في تعليل المختار (3/ 394)، المدونة (1/ 579 وما بعدها)، الأم (8/ 152)، الحاوي الكبير (15/ 279)، نهاية المطلب (18/ 301)، المغني (13/ 463)، الفروع (10/ 435). انظر: مجموع الفتاوى (29/ 138)، الفتاوى الكبرى (4/ 83)، القواعد الكلية (ص 384 - 388). وانظر ما سيأتي (ص 533 - 536). (2) بياض مقدار كلمة.

(1/80)


فصل قال المعترض: (الثامن عشر: أنَّ معظم ما استدل به ابن تيمية في الطلاق قياسه على العتق، وسنذكر الفرق بينهما على تقدير تسليم الحكم في العتق فيمتنع إلحاقه به) (1). فيقال: أولًا: أنت في ذكر أدلة الشرع الدالة على [24/ ب] أَنَّ التعليقين: التعليق المجرد عن قصد اليمين، والتعليق الذي يقصد به اليمين ليتبين بذلك حكم تعليق الطلاق المجرد وتعليقه المتضمن قصد اليمين= أنت (2) لم تذكر البتة دليلًا لا على هذا ولا على هذا؛ بل إما مقدمات مُدَّعَاةٌ بلا حجة، وإما حُجَّةُ عمومٍ وإطلاقٍ لا تقول بموجبه، بل هو عندك منقسم إلى قسمين، ولم تذكر ما يميز أحد القسمين من الآخر وأنَّ الطلاق من أحدهما، وإما قياسٌ لم تُبيِّن فيه أن المشترك هو المؤثر في الحكم، وإما أدلة لا تتناول محل النزاع بل إنما تدل على غيره؛ كالتعليق الذي يقصد به الوعيد، والذي يقصد به الشرط والجزاء، والذي يقصد به فسخ العقد عند الشرط ونحو ذلك، ثم ذكرت من الأدلة ما ليس دليلًا، وإنما هو من باب الجواب عن حجة من احتج على أن هذه يمين فتدخل في النص، وقاسها على نذر اللجاج والغضب؛ كتفريقك بين ذلك وبين تعليق نذر اللجاج والغضب ومنعك تسمية هذه أيمانًا، ومثل هذا الوجه وهو وعدك بالفرق بينه وبين العتق. _________ (1) «التحقيق» (33/ ب)، وهو الوجه العاشر. (2) في الأصل: (وأنت)، والصواب ما أثبتُّ، أو حذفها كاملة.

(1/81)


ومعلوم أَنَّ ذكر الجواب عن هذه المعارضة من الأدلة كلامُ مَنْ لا يفرق بين الدليل وبين الجواب عن المعارضة، والمستدِلُّ عليه أَنْ يقيم الأدلة ثم يجيب عن المعارضة؛ ولهذا كان جنس الأسولَةِ الواردة عليه تنحصر في نوعين في الممانعة وفي المعارضات: إما أن يمنع مقدمات دليله، وإما أن يعارض بما يدل على نقيضها، ثم قد يعارض في أدلة المقدمات وقد يعارض في حكمها؛ ففي الأدلة يجيب عن الممانعات ثم يذكر ما استدل به المعارض ويجيب عنه، وهذا قد انتدب أولًا للاعتراض على المجيب المستدل على أن هذه يمين مكفرة، ثم نصب نفسه منصب المستدل، فإنَّ المعترض لو منع مقدمة استدل على صحة منعها بإثبات الحكم المتنازع فيه، مثلُ أَنْ يقول: الدليلُ على فسادها أنه يلزم من صحتها الحكم المتنازع فيه وهو باطل= لكان هذا غصبًا لمنصب الاستدلال وهو غير مقبول. فكيف إذا شرع يستدل ابتداء وهو في مقام الاعتراض قبل أن يعترض على أدلة المستدل، ثم لما استدل على نقيض قول المستدل الأول= جعل (1) من جملة أدلته ما زعم أنه جواب [25/ أ] عن أدلة المستدل؛ وهذا خروج عن قانون النظر والاستدلال والمناظرة المستقيمة، ثم المستدل سامحه في ذلك كله ولم يؤاخذه إذ كان مقصوده الكلام على ما أبداه، هل فيه دليل صحيح على بطلانه أو جواب صحيح على دليل المجيب، فلم يكن منه ــ مع التخليط المذكور ــ لا دليل صحيح ولا جواب صحيح عن أدلة المستدل المجيب أولًا، وذلك مثل قوله هنا: (إِنَّ معظم ما استدل به ابن تيمية في الطلاق قياسه على العتق وسنذكر الفرق). _________ (1) في الأصل: (وجعل)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/82)


فيقال لك: هذا وأمثاله من الاعتراضات على أجوبة المجيب لا يصلح أن يكون دليلًا لك في المسألة، وإنما يصلح أن يكون جوابًا عن استدلاله؛ ومع هذا فليس بجواب صحيح، بل كلا المقدمتين اللتين (1) ذكرتَهما في الجواب ظاهرة البطلان، فإنَّ ابن تيمية لم يكن معظم استدلاله هو القياس على العتق، ولا ذكرتَ بينهما فرقًا مؤثرًا في الشرع، بل أنت معترف بفساد الفرق بينهما، وأنَّ هذا الفرق وإن كان قد قاله أحد من الصحابة فقد أخطأوا في ذلك. أما المقدمة الأولى: فمعلومٌ أن النزاع في العتق مشهور، والأربعة وغيرهم ينازعون في العتق، وقد ادعى بعضهم الإجماع على وقوع العتق المحلوف به؛ فكيف يكون هذا حجة؟! بل إذا قيس الطلاق على العتق فلا بُدَّ من إثبات الحكم في الأصل بدليل يدل عليه. وأيضًا؛ فالمجيب استدل بالكتاب والسنة ودلالتهما من جهة عموم الخطاب عمومًا محفوظًا من أظهر الأدلة القولية، ومن جهة عموم المعنى المؤثر في سائر الصور؛ وهذا غاية ما يُستدل به على الأحكام الشرعية، فإن النص على كل فردٍ فردٍ ممتنع، وإنما بُعث الشارع بجوامع الكلم التي تَجْمَعُ في الكلمة الواحدة أنواعًا وأعيانًا؛ كما قال: «بعثت بجوامع الكلم» (2). ولما (3) سُئل عن الحُمُر قال: لم يَنزل عَلَيَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ _________ (1) في الأصل: (التين)! (2) أخرجه البخاري (2977)، ومسلم (523) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) في الأصل: (لما)، ولا يستقيم الكلام إلا بما أثبتُّ.

(1/83)


شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ــ 8] أخرجاه في الصحيحين (1)، وقال: «إذا قلتم: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض» (2)، وفي الصحيحين ــ أيضًا ــ عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أَنَّ [25/ ب] النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن الأشربة، فقيل: عندنا شرابٌ (3) يُصْنَعُ من الذرة يقال له: المِزْر، وشرابٌ (4) يصنع من العسل يقال له: البِتْع، وكان قد أوتي جوامع الكلم؛ فقال: «كل مسكر حرام» (5). وكلماته الجامعة هي القواعد الكلية وهي الألفاظ العامة، وهي ضوابط شرعه وقوانين دينه، لكن بعض الألفاظ يدخلها تقييدٌ يُجْعَلُ تخصيصًا لها، وقد لا يفهم منها المعنى العام الذي جعله الشارع مناط الحكم، فإذا كان خطابه العام وكلمته الجامعة باقية على عمومها لم يخص منها صورة، والمعنى الذي جعله مناط الحكم موجودًا في الصورة المستدل عليها= كان هذا غاية ما يستدل به على الأحكام، وإذا تم تصور الإنسان لمقصود الشارع كان علمه بذلك قطعيًا وإن كان غيره لم يفهم ذلك أو لم يحصل له فيه إلا ظن (6). وأيضًا؛ فالقياس الجلي في المسألة وهو قياسه على ما ثبت إما بإجماع _________ (1) أخرجه البخاري (2371)، ومسلم (987) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه البخاري (6328)، ومسلم (402) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (3) في الأصل: (شرابًا)؛ ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (وشرابًا)، ولعل الصواب ما أثبت. (5) أخرجه البخاري (4343)، ومسلم (1733) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (6) لابن تيمية - رحمه الله - قاعدة بعنوان (شمول النصوص للأحكام) طبعت ضمن جامع المسائل (2/ 237).

(1/84)


الأمة وإما بإجماع الصحابة وإما بدلالة الكتاب والسنة من أن تعليق النذر الذي يقصد به اليمين هو يمين تجري فيه كفارة يمين، وهذا المعنى موجود في تعليق الطلاق والعتاق إذا قصد به اليمين؛ فهذه الأدلة تدل على أن تعليق الطلاق والعتاق جميعًا إذا قُصِدَ به اليمين كانت يمينًا مكفرة، ثم ذكرنا الآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين في العتق لنبين النزاع فيه وندفع من ظن في ذلك إجماعًا، وكان تعليق العتق قد اشتهر النقل فيه عن الصحابة والتابعين لكون الحلف بالتزام القُرَبِ كان قد ظهر في زمن الصحابة، بخلاف الحلف بالطلاق والظهار والحرام فإنَّ هذا لم يكن مشهورًا في زمنهم [قد كثر في كلامهم من ذلك] (1) ليعلم أنهم إذا أجابوا في ذلك بكفارة يمين معللين ذلك بأنه يمين كان جوابهم في الحلف بالطلاق بكفارة يمين أولى وأحرى لشمول الدليل والعلة له، وأنَّ العتق مع كونه قربة يَلزم بالنذر إذا كان قصد اليمين في تعليقه مانعًا من لزومه فلأن يكون هذا مانعًا من لزوم الطلاق الذي لا يلزم بنذر وليس بقربة بطريق الأولى والأحرى. ومذاهب العلماء المجتهدين يؤخذ من عموم خطابهم وعموم [26/ أ] تعليلهم، كما يؤخذ حكم الشارع من عموم خطابه وعموم علته (2)؛ وعموم العلة أقوى من عموم اللفظ، فإنَّ العموم اللفظي يَقبل التخصيص لمطلق الأدلة، وأما العلة فلا يجوز تخصيصها إلا بفرقٍ معنوي مؤثِّر يبين اختصاص صورة الفرق بوصف يوجب انتفاء الحكم عنها، وإلا فلو ساوت سائر الصور في العلة الموجبة للحكم= لوجب أن يساويها في الحكم، وإلا _________ (1) كذا في الأصل. (2) انظر ما سيأتي (ص 607، 819).

(1/85)


كان ذلك تناقضًا ينزه الشارع عنه. فإنه إذا قال: كل مسكر خمر وكل مسكر حرام؛ فعلَّق الحكم بوصف مشتق مناسب وهو السُكر، ثم أباح بعض المسكرات دون بعض مع عدم اختصاص ذلك المسكر بوصف يوجب الإباحة = كان هذا تناقضًا؛ بخلاف ما إذا أباح المسكر للضرورة ــ كما أباح الميتة للضرورة ــ مثل إباحته لدفع الغصة أو إباحته لمن أُكْرِهَ على شربه أو للعطش ــ إِنْ قيل إنه يدفع العطش ــ فهذا تخصيص بمعنى يوجب الفرق، كما يوجد مثل هذا التخصيص في تحريم الميتة، ولكن هو ــ سبحانه ــ في القرآن قال في الميتة والدم ولحم الخنزير: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] ولم يَذكر مثل ذلك في تحريم الخمر، لأنَّ الحاجة إلى الغذاء حاجة عامة، فالاضطرار إلى أكل هذه المحرمات يقع كثيرًا، وأما الخمر فلا يكاد أَحَدٌ يحتاج إلى شربها؛ فإنه لا يكاد أَحدٌ يغص بالطعام وليس عنده إلا خمر، وكذلك لا يكاد أحد يعطش وليس عنده إلا خمر، فإن الماء متيسر غالبًا، وكذلك وجود غيرها من المرطبات التي هي أبلغ منها في دفع العطش كثير جدًا، وأما هي فقد قيل تزيل العطش وقيل لا تزيله، ولهذا اختلف الفقهاء في شربها للعطش بناء على هذا المأخذ (1). _________ (1) قال في مجموع الفتاوى (14/ 471): (وكذلك الخمر يباح لدفع الغصة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء؛ ومَنْ لم يبحها قال: إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد؛ فحينئذٍ فالأمر موقوف على دفع العطش بها؛ فإنْ عُلِمَ أنها تدفعه أُبيحت بلا ريبٍ؛ كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورةُ العطش الذي يرى أنه يُهلكُهُ أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع، فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحةَ في شيءٍ من ذلك). وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 462) (27/ 230 وما بعدها)، جامع الرسائل (2/ 82).

(1/86)


وكذلك في الأيمان إذا قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وكان هذا الخطاب يتناول ما هو يمين من أيمان المسلمين وإن كان بصيغة التعليق كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج ومالي صدقة ونحو ذلك كما ثبت ذلك عن الصحابة وجمهور التابعين، بل ويتناول قوله: وكل مملوك لي حر؛ فمن المعلوم أَنَّ تناول ذلك ــ أيضًا ــ للحلف بالطلاق واجب كتناوله لهذه الصورة وأولى، ويمتنع أن يكون الشارع قد جعل هذا الخطاب متناولًا للحلف بالنذر أو بالنذر والعتق دون [26/ ب] الحلف بالطلاق، ويمتنع أن يكون كون التعليق يمينًا هو الوصف المؤثر في تحليل هذه اليمين بالكفارة، ثم تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين لا يؤثر كونه يمينًا في تحليل هذه اليمين بالكفارة، فإنَّ هذا من أعظم التناقض الذي يُنَزَّهُ عنه الصحابة - رضي الله عنهم - فضلًا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضلًا عن رب العالمين ــ سبحانه وتعالى ــ. ويمتنع أن يقوم دليل شرعي إجماع أو غير إجماع على [أنَّ] (1) هذا التعليق القسمي يكفر دون هذا التعليق، كما يمتنع أن يقوم إجماع أو غير إجماع على الفرق بين هذا المسكر وهذا المسكر مع تساويهما من كل وجه في الصفات المعتبرة في الشرع، فإن الأمة لا تجتمع على خطأ ولا على ضلالة (2)، _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) في الأصل: (ظلاله)؛ والصواب ما أثبتُّ.

(1/87)


والفرق بين المتماثلين ونقض العلة مع تساويها في محالها, ومخالفة الكتاب والسنة = من الخطأ الذي نَزَّه الله الأمة أن تجتمع عليه (1). ولهذا ــ ولله الحمد والمنة ــ لا توجد الأمة مجتمعة على حكم إلا وأدلته أدلة صحيحة سالمة عن المعارض المقاوم، والاحتجاج بدعاوى الإجماعات المخالفة للكتاب والسنة والقياس الجلي في مثل هذه المسائل مما ابتدع في الإسلام بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان بل وبعد عصر التابعين، ولهذا أنكر أئمة الإسلام مثل هذه الدعاوى؛ كما أنكر ذلك أحمد بن حنبل وغيره، وكذلك الشافعي ذكر أن السلف لم يكونوا يَدَّعُون مثل هذه الإجماعات (2). * * * * _________ (1) انظر: (ص 13). (2) انظر: (ص 157 - 158).

(1/88)


فصلٌ قال المعترض: (التاسع عشر: أن الأدلة التي ذكرها ابن تيمية (1) والتي يتخَيَّل ــ أيضًا ــ ترجع إلى شيئين: أحدهما: أَنَّ التعليق على هذه الصورة يسمى يمينًا، والثاني: أنه لا يسمى تطليقًا. أما الأول: فقد منعناه؛ وبَيَّنَّا أَنَّ ذلك إنما هو بحسب الاصطلاح لا بحسب اللغة والشرع، وإيقاع الطلاق به إذا عُلِّقَ بالحلف إنما هو إذا قُيِّدَ كقوله: (2) حلفت بطلاقك. وأما الثاني: فممنوع أيضًا؛ وقد بَيَّنَّا أن ذلك تطليق. ثم إما أنْ يكون قول القائل: عَلَّمْتُهُ فما تَعَلَّم حقيقة أو مجازًا، فإنْ كان حقيقةً وَجَبَ أَنْ يكون مجرد تعليق الطلاق تطليقًا، وإن كان مجازًا فلا إشكال أنه إذا حصل العلم بصدق التعلم (3) حقيقة، ولا [27/ أ] امتناع في توقف إطلاق اسم التعليم على محاولة أسبابه إلى أَنْ يحصل أثرها، فإذا حصل أثرها صدق عليها اسم التعليم حقيقة، وإلا لوجب ألا يصدق التعليم أصلًا، لا قبل حصول العلم (4) ولا بعده؛ فإنَّ العلم في الغالب لا يحصل وقت التعليم بل لا بُدَّ من مُهلة= كذلك التطليق المعلَّقِ يتوقف إطلاق اسم _________ (1) في «التحقيق» زيادة: (جميعها). (2) في «التحقيق» زيادة: (إن) وهو خطأ، كما سيأتي في (ص 95). (3) في «التحقيق»: (التعليم)، وانظر ما سيأتي (ص 95). (4) في الأصل زيادة: (أصلًا)، وليست في «التحقيق»، وانظر ما سيأتي (ص 96).

(1/89)


التطليق عليه على وجود شرطه، فإذا وُجِدَ تَرَتَّبَ عليه أثره وسُمِّيَ تطليقًا؛ كما يُسَمَّى التعليم عند وجود أثره تعليمًا، ولو لم يكن كذلك لزم ألا يقع الطلاق المعلَّق بالصفات التي ليس فيها يمين كطلوع الشمس، وابن تيمية يوافق على وقوعه فيلزم (1) على سياق كلامه أَنَّ ذلك غير داخل تحت اسم التطليق، فإنْ قال: إنه عند الصفة يصير تطليقًا، فليقل: بأنه عند وجود الشرط والحنث يصير تطليقًا) (2). والجواب: أنَّ هذا معناه على الوجه الصحيح: دليلان أو مقدمتا دليل؛ أنَّ هذين الأصلين عليهما يُبْنى الحكم في هذه المسائل باتفاق المسلمين، فإنَّ من أوقع الطلاق جعل ذلك كله تطليقًا تتناوله النصوص، ومن لم يوقعه لم يجعله تطليقًا، وكذلك من قال بالكفارة جعله يمينًا تتناوله النصوص، ومن لم يجعل فيه كفارة؛ فإما أَنْ يُنَازع في كونه يمينًا، أو في كونه يمينًا من أيمان المؤمنين. فإنَّ الله قال لعباده بعد قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ _________ (1) في «التحقيق»: (فيلزمه)، وانظر ما سيأتي (ص 96). (2) «التحقيق» (33/ ب)، وهو الوجه الحادي عشر.

(1/90)


ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 87 - 89]، وقال ــ أيضًا ــ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقال ــ أيضًا ــ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، فذكر تعالى في كتابه: حكم أيمان المؤمنين وذكر حكم الطلاق؛ فمن الأقوال ما هو طلاق شرعي باتفاق المسلمين؛ كالطلاق المنجَّز إذا أوقعه على الوجه المباح مع سائر شروطه، مثل أن يقول لها: أنت طالق أو مطلقة أو قد طلقتك ونحو ذلك، ومنها ما هو يمين مكفَّرة باتفاق المسلمين؛ كالحلف باسم الله، مثل أنْ [27/ ب] يقول: والله لأفعلنَّ كذا؛ إذا حلف مع الشروط التي معها تكون اليمين مكفرة، ومن الأقوال ما تنازع فيه المسلمون. وكذلك من الأقوال ما هو عتق، ومنها ما هو ظهار، ومنها ما هو نذر، ومنها ما تنازع فيه المسلمون هل هو طلاق وظهار ونذر؛ وإذا كان يمينًا فهل هو يمين مكفرة كفارة يمين أم ليست (1) مكفرة كفارة يمين. فالطلاق إذا قيل ليس بيمين فهو طلاق، ولا كفارة في الطلاق بإجماع المسلمين. وكذلك العتق لا كفارة فيه. فإذا قيل: ليس بيمين كان عتقًا واقعًا. وأما الظهار إذا قيل ليس بيمين بل هو ظهار، ففي الظهار كفارة الظهار بالنص والإجماع. وكذلك تعليق النذر إذا قيل ليس هو بيمين بل هو نذر، فقد تجب فيه _________ (1) في الأصل: (ليس)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/91)


كفارة يمين إذا لم يفعل المنذور عند كثير من العلماء؛ فمذهب أحمد أَنَّ المنذور لا بُدَّ فيه مِنْ فعلِهِ أو فعلِ بَدَلِهِ أو كفارة يمين، وهذا معنى ما نُقِلَ عن كثير من الصحابة والتابعين؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (1). فمن جَوَّزَ النزاع في التعليقات التي يُقصد بها اليمين كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج ومالي صدقة وكل مملوك لي حر وامرأتي عليَّ كظهر أمي والحِلُّ عليَّ حرام وأنا يهودي ونصراني؛ فمن العلماء من يقول: إذا وجد الفعل كان مُطَلِّقًا وناذرًا ومعتقًا ومظاهرًا ومُحَرِّمًا ولكن ليس بكافر، وهذا قول مالك - رحمه الله -. ومنهم من يقول: بل يكون مُطَلِّقًا ومعتقًا ومظاهرًا ومُحَرِّمًا ولا يكون ناذرًا بل حالفًا يجزئه كفارة يمين، وكذلك في الكفر تجزئه كفارة يمين وهذا هو المنصوص عن أحمد، وتجزئه عنده كفارة واحدة، واتَّبَعَ في ذلك حديث ليلى بنت العجماء (2)، والكفارة عنده إنما هي في النذر. ومنهم من يقول: هو حالفٌ في الجميع إلا في الطلاق والعتاق. ومنهم من يقول: هو حالفٌ في الجميع إلا في الطلاق فإنه مُطَلِّق. ومنهم من يقول: بل هو في الجميع حالف (3). ومن العلماء مَنْ جعل هذه التعليقات أو أكثرها أيمانًا، ويجعلها من جنس _________ (1) أخرجه مسلم (1645) من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. (2) سيأتي تفصيل روايات هذا الأثر في كلام المجيب فيما سيأتي (ص 201 - 209). (3) في الأصل: (حالفٌ في الجميع)، ووضع الناسخ علامة التقديم والتأخير، وكتب في الهامش ما هو مثبت.

(1/92)


الأيمان بالمخلوقات فلا تنعقد ولا يجب فيها كفارة (1)، ثم مِنْ هؤلاء مَنْ طرد هذا في الجميع، ومنهم من استثنى الطلاق، ومنهم من استثنى الطلاق والعتاق. [28/ أ] ومن السلف (2) مَنْ عُرِفَ قوله في بعض هذه الأيمان ولم يُعرف قوله في الآخر؛ فمن العلماء من استثنى الطلاق والعتاق، ولا أعلم قوله في الحلف بالظهار والحرام، هل هو عنده من باب الحلف بالنذر أو من باب الحلف بالطلاق والعتاق؟ والشافعي - رضي الله عنه - رأيته استثنى الطلاق والعتاق، ولم أقف له على نَصٍّ في الحلف بالظهار والحرام لكن أصحابه [يقولون: الحلف بالظهار والحرام في لزوم المحلوف به؛ كالحلف بالطلاق والعتاق] (3). وإذا كان منشأ النزاع بين العلماء في التعليق الذي يُقصد به اليمين هل هو يمين أم هو من جنس ما عُلِّقَ فيه نذرٌ أو طلاق أو عتاق= فقد عادَ النزاعُ في هذه المسائل إلى تحقيق المناط الذي عَلَّقَ الله به الحُكْمَ؛ هل هو موجودٌ _________ (1) الحلف بالمخلوقات يمينٌ غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء، ووقع الخلاف في الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعض أهل العلم عَدَّاه إلى غيره من الأنبياء. انظر: مجموع الفتاوى (1/ 286، 335) (27/ 226) (33/ 62، 68، 122، 126، 136، 142، 222) (35/ 243)، الفتاوى الكبرى (3/ 222 وما بعدها، 236، 245، 308، 312)، (4/ 110، 115 - 117)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 440)، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 231)، والقواعد الأصولية والفقهية من مجموع الفتاوى لابن غديان (2/ 69 - 70). وانظر: (ص 132، 364)، ومعطية الأمان من حنث الأيمان (ص 80 - 85). (2) في الأصل: (ومنهم)، وفي الهامش كتب الناسخ ما أثبتُّ وفوقها حرف (خ). (3) يوجد هنا بياض في الأصل بمقدار سطر إلا كلمتين. وانظر: قاعدة العقود (1/ 224).

(1/93)


في هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين أم لا؟ هل هي يمين أم هي تطليق ونذر وإعتاق وظهار وحرام؟ وحينئذٍ؛ فمن قال: إنها يمين وليست بطلاق عليه أَنْ يُبَيِّنَ هذا وهذا، ومن قال: هي تطليق وليست يمينًا عليه أَنْ يبين هذا وهذا. والقائلون بأنَّ هذا يمين يقولون: ليس هذا بمطلِّقٍ ولا ناذر ولا مظاهر ولا محرم ويُصرِّحونَ بذلك، سواء ادعوا أنها يمين مكفَّرة أو غير مكفرة ــ وقد تقدم بعض كلامهم في ذلك ــ؛ وإذا كان كذلك فهذا المعترض لم يُقِم دليلًا على أَنَّ هذا مُطَلِّق ولا على أنه ليس بيمين. وقد تقدم ذكر ما زعم أنه دليل على أنه تطليق وأنه ليس في شيء منها دليل، وأما كونها ليست يمينًا فلم يُقِم عليه دليلًا (1) بل اكتفى بمجرد الدعوى، ولو قام مقام المانع المطالِب لكونها يمينًا لم يكن عليه دليل على النفي، وإنما قام مقام النافي الجازم بكونها ليست أيمانًا، ومعلوم أنَّ عليه دليلًا على نفي كونها من الأيمان، كما أَنَّ المثبت لكونها من الأيمان عليه الدليل، وهو لم يقم دليلًا على النفي، وإنما غايته دعاوى مجردة، أو نقل من ليس معه إلا الدعوى المجردة. وأما المجيب فبيَّن أنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمين بالنقول المستفيضة عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ والتابعين وعلماء المسلمين وعامتهم، بل بإجماع [28/ ب] الصحابة والتابعين على أنها تسمى أيمانًا من غير خلاف يُعرف عنهم في التسمية، وباتفاق الأمم عربهم وعجمهم على تسمية ما _________ (1) في الأصل: (دليل)، والجادة ما أثبتُّ.

(1/94)


يقصد به هذا المعنى يمينًا، وبَيَّنَّا أنَّ المعقول في اليمين موجود في هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين (1) وأن ذلك لا يختلف باختلاف اللغات، وباتفاق الفقهاء على (2) إدخال هذه في مسمى اليمين والحلف (3). وأما قوله: (أنه لا يتناوله اسم الحلف واليمين في كلام الفقهاء وغيرهم إلا مع القيد كقوله: حلفت بطلاقك). فعنه جوابان؛ أحدهما: أنَّ هذا باطل؛ فإن الصحابة وغيرهم سموا التعليق الذي يقصد به الحلف يمينًا باللفظ المطلق لا بالقيد؛ كقولهم: هذه يمينٌ من الأيمان، وكَفِّر عن يمينك ونحو ذلك، بل أدرجوها في لفظ الأيمان في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وكذلك الفقهاء أدرجوها في ذلك (4). فصلٌ قال: (وقد بَيَّنَّا أَنَّ ذلك تطليق؛ ثم إما أَنْ يكون قول القائل: عَلَّمْتُهُ فما تَعلَّم حقيقة أو مجازًا؛ فإنْ كانَ حقيقة وجب أن يكون مجرد تعليق الطلاق تطليقًا، وإنْ كان مجازًا فلا إشكال أنه إذا حصل العلم بصدق التعليم حقيقة، ولا امتناع في توقف إطلاق اسم التعليم على محاولة أسبابه إلى أنْ يحصل _________ (1) في الأصل زيادة: (يمينًا)، والصواب حذفها. (2) في الأصل زيادة: (أنَّ)، والصواب حذفها. (3) انظر (ص 878). (4) لم يذكر الجواب الثاني إلا أنْ يكون الجواب الأول: منع دعوى بطلان حجة الخصم، والثاني: إثبات صحة كلام المجيب بما ذكره هنا.

(1/95)


أثرها، فإذا حصل أثرها صدق عليها اسم التعليم حقيقة، وإلا لوجب ألا يَصدق التعليم أصلًا لا قبل حصول العلم ولا بعده؛ فإنَّ العلم في الغالب لا يحصل وقت التعليم بل لابد من مهلةٍ. كذلك التطليق المعلَّق يتوقف إطلاق اسم التطليق عليه على وجود شرطه، فإذا وجد ترتب عليه أثره وسمي تطليقًا كما يسمى التعليم عند وجود أثره تعليمًا، ولو لم يكن كذلك لزم ألا يقع الطلاق المعلق بالصفات التي ليس فيها يمين؛ كطلوع الشمس. وابن تيمية يوافقُ على وقوعه، فيلزم على مساقِ كلامه أنَّ ذلك غير داخل تحت اسم التطليق. فإنْ قال: إنه عند الصفة يصير تطليقًا، فليقل: بأنه عند وجود الشرط والحنث يصير تطليقًا) (1). فيقال: قد تقدم الكلام على أنه ليس فيما ذَكَرَ دليل على أنه تطليق. وأيضًا؛ فتمثيل ذلك [29/ أ] بقوله: (عَلَّمْتُهُ فتعلَّم أو ما تعلم) لو كان التمثيل صحيحًا لكان حجة عليه؛ لأنه حينئذٍ يقال: عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ وَعَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ، فيجب إِنْ كان مثله أنْ يقال: طلقتُها فَطَلُقَتْ وطلقتها فما طلقت؛ وليس الأمر كذلك، لأنَّ التطليق لا يتوقف على أمر تفعله المطلَّقة كما يتوقف التعليم على أمر يفعله المتعلم، لكن التطليق يتوقف على كون المحل قابلًا للطلاق؛ فلو طلق الأجنبية من زوجها لم تطلق باتفاق المسلمين، كما في _________ (1) «التحقيق» (33/ ب)، وقد تقدم في أول الفصل السابق.

(1/96)


السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» (1)، وإنما الطلاق الذي قَصَدَ إيقاعه عند الصفة، فهو تطليق عند الصفة من غير أن يحتاج إلى فعل في الصفة بل بمنزلة الظرف؛ كما لو قال: أنتِ طالق عند الهلال. وأما قوله: (وابن تيمية يوافق على وقوع الطلاق المعلق بالصفة التي ليس فيها يمين؛ فيلزمه على مساق كلامه إذا قال: إنه عند الصفة يصير تطليقًا، فليقل: بأنه عند وجود الشرط والحنث يصير تعليقًا). فيقال: ابن تيمية مع قوله بالفرق يقول: لا حجة للمعترض وأمثاله ممن يجمع ويُفَرِّق في أحكام التعليقات بغير دليل شرعي على من نفى وقوع _________ (1) أخرجه أبو داود (2190)، والترمذي (1181)، وابن ماجه (2047) وغيرهم من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده بألفاظ متقاربة. وقال الترمذي: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح، وهذا أحسن شيءٍ روي في الباب. وقال في العلل (برقم 302): وسألتُ محمدًا عن هذا الحديث، فقلتُ: أيَّ حديثٍ في هذا الباب أصحُّ في الطلاق قبل النكاح؟ فقال: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وصححه الحاكم (2/ 222)، وابن الجارود (برقم 743)، وابن الملقن في تحفة المحتاج (2/ 206). وقال ابن معين ــ كما في علل ابن أبي حاتم 4/ 132 ــ: لا يصحُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا طلاق قبل نكاح»، وأصحُّ شيءٍ فيه حديث الثوري، عن ابن المنكدر، عمن سمع طاوسًا، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا طلاق قبل نكاح». انظر: نصب الراية (3/ 230)، البدر المنير (8/ 88)، صحيح أبي داود (الأم) (6/ 393).

(1/97)


الطلاق المعلَّق، فإنهم يجمعون بين ما فرق الله بينه ويفرقون بين ما جمع الله بينه، فلم يكن لهم حجةٌ شرعيةٌ على ما يذكرونه من وقوع الطلاق المعلق ــ سواءً قصد به اليمين أو الإيقاع ــ من المنع من وقوع غيره من الأحكام المعلقة؛ كالولايات والوكالات والضمانات والأنكحة وغيرها من الأحكام. وأما ابن تيمية فإنه يقول: الطلاق الذي يَقصد إيقاعه عند الصفة يَلزم، كما يلزم النذر المعلَّق بالصفة والعتق المعلَّق بالصفة والجعالة المعلَّقة بالصفة والظهار المعلَّق بالصفة والتحريم المعلَّق بالصفة والولايات المعلَّقة بالصفات، وغير ذلك من الأحكام مما يدخل في مسمى الاسم الذي عُلِّقَت به الأحكام لفظًا ومعنى، ويُفَرِّقُ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي يقصد به الإيقاع، وهو يقول: كما أَنَّ لفظ النذر والعتق يتناول مُنَجَّزَهُ ومُعَلَّقَهُ= فكذلك لفظ الطلاق وغيره لا فرق بينهما لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع [29/ ب] ولا العقل. فلما كان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (1) يتناول المُطْلَقَ والمعلَّق بالنص والإجماع، وقوله: «الولاء لمن أعتق» (2) يتناول المنجِّزَ للعتق والمعلِّقَ له بالإجماع= فكذلك قوله: «الزعيم غارم» (3) يتناول المنجِّز _________ (1) تقدم تخريجه (ص 6)، وهو في البخاري. (2) أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (3) أخرجه الطيالسي في مسنده (2/ 451)، وعبد الرزاق في المصنف (4/ 148) (8/ 173، 181) (9/ 48)، وابن أبي شيبة (20562، 22843)، وأحمد في المسند (36/ 628)، وأبو داود (3565)، والترمذي (1265، 2120)، وابن ماجه (2405) وغيرهم من حديث أبي أُمامة - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: حديث حسن، وقد روي عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير هذا الوجه، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل العراق وأهل الحجاز ليست بذلك فيما تفرد به؛ لأنه روى عنهم مناكير، وروايته عن أهل الشام أصح. وصححه ابن الجارود (رقم 1023)، وحسنه البغوي في شرح السنة (8/ 252). وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (4/ 144): هذا الحديث حسنه الترمذي، ورواية إسماعيل عن أهل الشام جيدة، وشرحبيل من ثقات الشاميين؛ قاله الإمام أحمد، ووثقه - أيضًا - العجلي وابن حبان، وضعفه ابن معين. انظر: نصب الراية (4/ 57 وما بعدها)، الدراية (2/ 163)، البدر المنير (6/ 707)، إرواء الغليل (5/ 245)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 166/ ح 610).

(1/98)


للضمان والمعلِّق له، كقوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فهذا ضمانٌ بحِمْلِ بعير، وهو معلَّق على المجيء بالصاع، وهو تعليق للجعالة وللكفالة، لكنه تعليق على سبب الوجوب، ولهذا كان جمهور العلماء أحمد وغيره على أنَّ تعليق الضمان على سبب الوجوب يجوز، مثل أن يقول: إنْ أقرضتَهُ ألفًا فأنا ضامنٌ له، وتنازعوا فيما إذا عَلَّقَهُ بغيره كطلوع الشمس، وفيه وجهان في مذهب أحمد؛ والأظهر جوازه. وعلى هذا فالمطلِّق موقعٌ للطلاق عند الصفة، كما أَنَّ الناذرَ ملتزمٌ للمنذور عند وجود الصفة، وهو من جنس التعليق يُطَلِّقُ طلاقًا مقيدًا موصوفًا لا طلاقًا منجزًا مرسلًا، كما أَنَّ الناذر من حين يعلق النذر ناذرٌ نذرًا مقيدًا موصوفًا لا نذرًا مطلقًا، ولا فرقَ بينَ حال المطلِّق والناذر والجاعل بين عقد التعليق وبين وجود الصفة التي لا تتعلق بفعله، فإنه لم يتجدد منه

(1/99)


شيء، لكن إذا حدثت الصفة وقع الطلاق الذي كان عَلَّقَهُ به، كما يجب المنذور الذي كان عَلَّقَهُ بالصفة، ويحصل العتق الذي عَلَّقَهُ بالصفة، ويجب الجُعْلُ الذي علقه بالصفة إذا قال: مَنْ رَدَّ عبدي الآبق له عشرة دراهم فإذا حصل الرد وجب الجعل، فالتطليق متقدم من حين عقد التعليق، ووقوعُ الطلاقِ حاصلٌ إذا حصلت الصفة التي عَلَّقَ بها الطلاق كسائر الأمور المعلقة بأسبابها. ومجرد تعليق الطلاق تطليقٌ معلَّقٌ بالصفة (1) ليس تطليقًا مجردًا منجزًا مرسلًا، ولا يقول: إنه لا يسمى تطليقًا معلقًا بالصفة إلا عند وجودها، بل هو موجود، ويسمى بذلك قبل أنْ يقع، لكن عند وقوعها وقع الطلاق وصارت المرأة مطلَّقة؛ فحصول المجموع وهو في تلك الحال صار مطلقًا بالفعل طلاقًا وَقَعَ وَحَصَل. وأما القاصد لليمين فهذا لا نُسلِّم أنه مُطلِّق؛ كما أنَّ المعلِّق للنذر القاصد لليمين لا نسلم [30/ أ] أنه ناذر، بل هذا حالف وهذا ناذر، لا هذا أراد النذر ولا هذا أراد الطلاق، ولا المعلِّق للعتق والظهار والحرام على وجه اليمين أراد العتق والظهار والحرام، لا هو ناذرٌ لا مطلقًا ولا مقيدًا، ولا مُطلِّقٌ لا مطلقًا ولا مقيدًا، ولا معتقٌ ومظاهِرٌ ومحرِّم لا مطلقًا ولا مقيدًا؛ فكيف يصير مُطَلِّقًا عند وجود الصفة بدون أن يكون عند التعليق لا مُطَلِّق لا مطلقًا ولا مقيدًا؟! وليس بين تعليق النذر على وجه اليمين وبين تعليق الطلاق والعتاق _________ (1) في الأصل: (بالعقد)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/100)


والظهار والحرام إلا فرقٌ غير مؤثر في الشرع، فإنَّ الناذر عَلَّقَ الوجوب بالشرط، والوجوب مقتضاه أَنْ يفعل ما أوجبه، فمقتضى التعليق أفعالٌ (1) يؤمر بها، والموقِعُ عَلَّقَ بالشرط وقوع الطلاق والظهار والحرام. والوقوع مقتضاه حرمة أفعال وتركها والكَفُّ عنها؛ فمقتضاه ترك محظورات، كما أَنَّ مقتضى النذر فعل مأمورات، ولما كانت الحرية إذا ثبتت لم يؤمر الإنسان بفعلٍ ينشئه بعدها بل الكَفُّ والإمساك، والوجوب يؤمر فيه بفعل المنذور، وصار الناذر يفعل، ثم إنه بعد الحلف بالنذر قد يخير بين فعل المنذور والتكفير. وأما الحرية فهي إذا ثبتت لم توجب إلا الكَفَّ والإمساك، فلا يُعْقَلُ تَخَيُّرٌ بينَ فعلٍ وبين تكفير وهذا فرق صوري؛ فإنه إذا كان قصده اليمين لم يثبت هناك وجوب، بل كان مخيرًا بين فِعْلِ ما عقد سبب وجوبه من التكفير؛ وهنا إذا كان قصده اليمين لم يثبت وقوع، بل كان مخيرًا بين إيقاع ما انعقد سبب وقوعه وبين التكفير، وهو مخيرٌ بين التكفير وبين الإيقاع الموجب للوقوع والمقتضي للكف، وهناك (2) مخيرٌ بين التكفير وبين الفعل الذي انعقد سبب وجوبه؛ فالوقوع هناك متقدم على الفعل الذي يخير بينه وبين التكفير، وهنا الوقوع متأخر عن الإيقاع الذي يخير بينه وبين التكفير، وهذا فَرْقٌ لا تأثير له في الشرع. والجمع والفرق إنما يكون بالصفات المؤثرة في الشرع، المعتبرة في _________ (1) في الأصل: (أفعالًا)، والجادة ما أثبتُّ. (2) كتبها الناسخ في الهامش وفوقها حرف (ظ) و (خ)، وفي الأصل: (وهنا).

(1/101)


الكتاب والسنة؛ وهي الصفات التي عَلَّقَ الشارع بها الأحكام، ولهذا يقول (1) [30/ ب] الفقهاء: هذا وَصْفٌ شَهِدَ له الشرعُ بالاعتبار، وهذا وَصْفٌ شَهِدَ له بالإلغاء والإهدار، وتكلم كثيرٌ منهم في المناسب المرسل والمصالح المرسلة هل يجوز تعليق الأحكام بها أم لا؟ بناءً على اعتقادهم أن في الوجود مناسبًا ومصالحَ (2) لم يعتبرها الشرع ولم يلغها؛ وهذا غلط، فليس في الوجود وصف يظن أنه مناسب أو مصلحة إلا والشارع قد اعتبره أو أهدره (3). وقد بَيَّنَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - جميع الدين وما تعلق به الشرع من الأوصاف، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (4)، وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ _________ (1) الكلمة غير واضحة، ولعلها ما أثبت. (2) في الأصل: (ومصالحًا)، والجادة ما أثبتُّ. (3) مجموع الفتاوى (11/ 342 - 344)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 22)، جامع المسائل (2/ 192)، (4/ 46)، قاعدة في المحبة (ص 81). وانظر ما سيأتي (ص 807). (4) أخرجه أحمد (28/ 367/ رقم 17142)، وابن ماجه (43) وغيرهما من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. وصححه الحاكم (1/ 175)، وقال أبو نعيم في مستخرجه (1/ 36): وهذا حديث جيد من صحيح حديث الشاميين، وهو وإنْ تركه الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج فليس ذلك من جهة إنكار منهما له، فإنهما ــ رحمهما الله ــ قد تركا كثيرًا مما هو بشرطهما أولى وإلى طريقتهما أقرب، وقد روى هذا الحديث عن العرباض بن سارية ثلاثة من تابعي الشام معروفين مشهورين: عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر ويحيى بن أبي المطاع؛ وثلاثتهم من معروفي تابعي الشام. انظر: السلسلة الصحيحة (2/ 610/ رقم 937).

(1/102)


نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. لكن قد يخفى على كثيرٍ من الناس ما بيَّنه الله ــ تعالى ــ وَدَلَّ عليه من الأحكام وما عَلَّقَ به تلك الأحكام من الصفات المعتبرة المناسبة وما في ضمن ذلك من المصالح والحِكَم، وقد يَظُنُّ أنَّ ما أهدره وألغاه فيه مصلحة وهو مناسب، وتكون مصلحته ــ إِنْ كان فيه مصلحة ــ مرجوحة بالمفسدة الراجحة، وكذلك إن كان فيه نوع مناسب فتكون مرجوحة بالمناسبة التي تقتضي خلافه. والشارع أحكم الحكماء يُرَجِّح عند التعارض والتزاحم أرجح المصلحتين وإن فاتت أدناهما (1)؛ كما يدفع أعظم المفسدتين وإن لزمت أدناهما، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ _________ (1) انظر: القواعد الأصولية والقواعد والضوابط والفوائد الفقهية من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 15 - 33).

(1/103)


تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] (1) لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]، وقال: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وبسط هذا له موضعٌ آخر (2). والمقصود هنا: أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين، إذا كان المعلَّقُ وجوبَ فعلٍ خُيِّر بين ذلك الفعل وبين التكفير، وإذا كان المعلَّق وقوع طلاق أو ظهار يقتضي ترك فعلٍ خُيِّرَ بين التزام (3) ذلك الطلاق والظهار وبين التكفير، والطلاق لا يكون لازمًا له [31/ أ] حتى يوقعه، فيكون الفعل هنا الذي خير بينه وبين التكفير الذي أوجبه التعليق هو الموجِب للوقوع المقتضي للكف والإمساك، وهناك الفعل الذي يخير بينه وبين التكفير هو الذي أوجبه التعليق، والتعليق هناك أوجب فعلًا أو أوجب تركًا، فإذا خير هناك لم يحتج إلى فعلٍ يقتضي الحكم، بل يخير بين الفعل الذي جعله واجبًا _________ (1) ليست في الأصل .. (2) مجموع الفتاوى (1/ 138، 265)، (8/ 94، (10/ 512)، (13/ 96)، (15/ 312 وما بعدها)، (20/ 48)، (23/ 182، 343)، (24/ 278)، (27/ 178)، (28/ 591)، (29/ 251، 271)، (30/ 136، 193، 234، 359)، (31/ 266)، الفتاوى الكبرى (3/ 14)، (4/ 362)، (5/ 153)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 383)، جامع الرسائل (2/ 141)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 123)، جامع المسائل (1/ 177، 179)، (6/ 416، 422)، الاستقامة (1/ 288، 439)، الجواب الصحيح (2/ 215)، (6/ 17)، منهاج السنة (1/ 551)، (3/ 84)، (4/ 527)، (6/ 118)، الواسطة بين الحق والخلق (ص 33)، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 200). (3) في الأصل: (إلزام)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/104)


عليه وبين التكفير، وإذا خير هنا احتاج إلى فعلٍ يقتضي الحكم الذي جعله واقعًا منه، فإنَّ الوقوع بعد الإيقاع الذي يريد أن يفعله إذا لم يكفر، وهناك لا يحتاج إلا إلى الفعل الذي أوجبه، لا يحتاج إلى فعلِ مقتضٍ للحكم الذي هو الوجوب، وهذا لأن المقصود من الوجوب فعل الواجب فإذا فعله هناك فقد فعل ما جعله لازمًا له، والمقصود من الوقوع الترك، والوقوع لا يحصل إلا بعد إيقاع، فإذا اختاره لم يحصل بمجرد كَفِّهِ وإمساكه وامتناعه، بل لا بُدَّ من إنشاء طلاق تصير به مطلقة. وأما في الظهار والتحريم إذا اختار أن تصير مظاهرة ومحرمة؛ فهذا حرام عليه (1)، لا يجوز له أن يظاهر (2) ولا يحرم؛ بل يُنهى عن ذلك فلا نخيره نحن، بل لو حرمها أو ظاهر منها صار مظاهرًا ولزمته كفارة الظهار (3)، كما لو كان الطلاق الذي علَّقه في تعليق اليمين محرمًا مثل الطلاق الثلاث أو الطلاق في الحيض ونحو ذلك لم نخيِّره بين التكفير وبين التطليق؛ بل نأمره بالكفارة عينًا، لكن إِنْ طَلَّقَ لزمه الطلاق وسقطت عنه الكفارة عند من يقول الطلاق المحرم واقع، وأما من يقول إنه غير واقع فلا يخيره، وإذا طلق في الحيض لم يقع به الطلاق؛ فيتعين في مثل هذه الصورة عليه الكفارة. وأما إذا قال: إن فعلت كذا؛ كما لو قال: والله لئن فعلت كذا لأطلقنك في الحيض، فإنه تتعين الكفارة، والطلاق في الحيض متعذر؛ كما لو قال: والله لأنكحنَّك في العِدَّة ولأشترينَّ هذه الجرار الخمر؛ هذا إذا كان مقصوده _________ (1) في الأصل: (عليها به)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (يظهار). (3) في الأصل: (الطلاق)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/105)


النكاح والبيع والطلاق الذي يحصل (1) به مقصوده وهو الذي يريده عامة الناس، وأما إن كان مقصوده (2) [31/ ب] صورة العقد بَرَّ في يمينه بفعل ذلك، وأما إذا كان المعلَّق هو الطلاق الثلاث كان تقدير الكلام: والله إن فعلتِ ذلك ليقعن بك الطلاق الثلاث، فإذا أوقع بها الثلاث ــ وقلنا: لا يقع به إلا واحدة ــ فقد حنث في يمينه. فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فامرأتي طالق ثلاثًا، وَقُدِّرَ أنه اختار أَنْ يطلقها ولا يكفر يمينه لم يجز له أن يطلقها إلا واحدة، فلو طَلَّقَ ثلاثًا لم يقع به إلا واحدة؛ وحينئذ فتتعين عليه الكفارة هنا أيضًا. فمتى كان المعلَّق في تعليق اليمين طلاقًا محرمًا أو ظهارًا أو تحريم حلال تعينت الكفارة، كما لو كان المعلَّق في تعليق النذر فعلًا محرمًا مثل أن يقول: إن فعلت كذا فلله عليَّ قتل فلان أو ذبح نفسي ونحو ذلك، فهنا تتعين عليه الكفارة؛ فإنه من التزم لله أو بالله معصية لم يكن له أن يفعلها وتعينت الكفارة عليه. ولو كَفَّرَ المعلِّق للظهار والتحريم كفارة ظهار من غير إنشاء ظهار كان قد أتى بأعلى الكفارتين، كما لو كَفَّرَ في اليمين بذلك، فإذا كانت الكفارة عتقًا أو إطعام ستين مسكينًا فهذا يجزئ باتفاق المسلمين, وأما إن كانت صوم شهرين متتابعين، والواجب كفارة اليمين عتقًا أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم (3). _________ (1) سواد في الأصل، ولعل ما أثبتُّ هو الصواب. (2) سواد في الأصل، وهكذا قرأتها. (3) بهذا انتهى الفصل، وكأن الكلام لم يتم بعد.

(1/106)


فصل قال المعترض: (العشرون: لو لم يكن الطلاق بحيث يقع عند الشرط لم تنعقد اليمين به، كما لو قال للأجنبية: إنْ دخلتِ الدار فأنت طالق، وتزوجها بعد ذلك ثم دخلتِ الدار؛ فهذا لا يلزمه شيء بلا خلاف، فلو كان قَصْدُ اليمين وحده كافيًا لكفى ههنا. فإن قلتَ: قصد اليمين مع كون الشيء بحيث يقع لولا إرادة اليمين، فإرادة اليمين مانعة؛ وكذلك نذر اللجاج فإنَّ ما سماه في نذر اللجاج لا يحصل عند القائلين بالكفارة أو التنجيز ومع ذلك تنعقد اليمين به. قلتُ: الناذر في اللجاج ملتزم لاقتران الفعل الذي مقصوده الامتناع منه بالإعتاق مثلًا، كما أَنَّ الحالف ملتزم لاقتران ما حلف عليه بتعظيم المحلوف به، فإذا حصل ذلك الفعل فنقول له: إن أعتقت (1) فقد وَفَّيْتَ بمقتضى التزامك من اقتران الإعتاق بالفعل، [32/ أ] وصار كما لو لم يحنث في الأيمان، واستمريت في التزام حرمة الاسم، وإنْ تركتَ العتق تكون قد خالفته (2) وتركت ما التزمت اقترانه بالفعل، كما لو خالف الحالف بالحنث فترك مقتضى ما التزمه من حرمة الاسم، فتجب (3) عليك الكفارة؛ فهي حينئذٍ مكفَّرة لترك العتق لا لحصول الفعل، وصار النذر كاليمين المعلقة، كأنه _________ (1) في الأصل: (عتقت)، والمثبت من «التحقيق». (2) في «التحقيق»: (خالفت). (3) في الأصل: (تجب)، والمثبت من «التحقيق».

(1/107)


قال: والله إِنْ فعلتُ كذا أعتقت هذا العبد (1)، فإن أعتق فقد بَرَّ في قسمه ولم يحنث، وإن لم يعتق وجبت الكفارة؛ فافهم هذا فإنه من نفيس البحث، وبه يظهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (2)، وسيكون لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله) (3). والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: إن أراد أنه لو لم يقع عند الشرط مطلقًا لم تنعقد به اليمين؛ فهذه دعوى مجردة تضمنت دعوى محل النزاع بلا دليل. وحقيقة كلامه أن الحالف لو لم يلزمه الطلاق المعلق إذا قصد بتعليقه اليمين لم تنعقد اليمين به، وهو كمن يقول: لو لم يلزمه النذر المعلَّق والظهار المعلَّق والتحريم المعلَّق والهدي (4) المعلَّق والكفر المعلَّق والوقف المعلَّق والأضحية المعلَّقة على وجه اليمين لم تنعقد اليمين به؛ وهذا باطل، فإنه لو علَّق النذر بشرط يقصده لزم، فإذا قال: إنْ شفاني الله من هذا المرض فَثُلُثُ مالي صدقة، أو هذا البعير هدي، أو هذه الشاة أضحية ونحو ذلك صَحَّ، ولو قصد به اليمين فقال: إِنْ سافرتُ معكم فثلث مالي صدقة، وهذا البعير هدي أو هذه الشاة أضحية أجزأته كفارة يمين عند الجمهور والمعترض وغيره. ولو قال: إن سافرت معكم فأنا بريء من الله ورسوله لم يبرأ، ولو قال: إنْ أعطيتموني ألفًا فأنا بريءٌ من الله ورسوله صار بريئًا من حين قال ذلك، _________ (1) انظر ما سيأتي (ص 120 وما بعدها). (2) سبق تخريجه (ص 92)، وهو في صحيح مسلم. (3) «التحقيق» (33/ ب ــ 34/ أ)، وهو الوجه الثاني عشر. (4) في الأصل: (وبالهدي)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/108)


فهذا إذا علقه تَنجَّز ولم يتوقف على الشرط لقوة نفوذه، وهو إذا عَلَّقه تعليقًا يقصد به الأيمان لم يلزم، فالذي لا يتنجز مع التعليق بل يتأخر إلى وجود الشرط= أولى ألا يلزم إذا قصد به اليمين (1). وإن أراد أنه لو لم يكن مما يجوز تعليقه في الجملة لم تنعقد به اليمين، لأنه حينئذٍ [32/ ب] معلَّق، وما لا يقبل التعليق لا يصير محلوفًا به إذا عَلَّقَهُ؛ فهذا المعنى ينفعنا لا يضرنا، فإنَّا نسلم أنه مما يقبل التعليق في الجملة، كما أَنَّ النذر يقبل التعليق. وإذا قصد بالتعليق اليمين لم يكن نذرًا، وسواء كان النذر وجوب شيء في الذمة أو ثبوت ذلك في عين معينة. فإذا قال: إِنْ فعلت كذا فهذا البعير هدي وهذه الشاة أضحية وهذه الدار وقف على المساكين وهذا المال صدقة ونحو ذلك، فهو كقوله: فهذا العبد حر، وهذه المرأة طالق، فإنه لو قال: هذا البعير هدي وهذه الشاة أضحية وهذه الدار وقف على المساكين لزم ذلك، كما يلزم إذا قال: هذا العبد حر وهذه المرأة طالق، ثم إذا عَلَّقَ ذلك تعليقًا يقصد به اليمين كان يمينًا مكفَّرة. الوجه الثالث (2): أَنْ يقال: هذا الكلام حجة على من يوافقهم المعترض في الفرق بين المُطْلَق والمعلَّق الذين يقولون: إذا قال: إن فعلت كذا فمالي _________ (1) مجموع الفتاوى (32/ 91). (2) هكذا في المخطوط، وقد ألحق في هامش النسخة قبل هذا الوجه: (الوجه الثاني) دون أنْ يذكر تحته شيئًا.

(1/109)


صدقة كان يمينًا، ولو قال: إذا طلع الهلال فمالي صدقة، أو قال: هذا المال صدقة لم يصح، وكذلك إذا قال: عليَّ نذر لم يلزم، وإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ نذر لزم. ولو قال: عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي أو إذا جاء رأس الشهر فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي لم يلزم. ولو قال: إِنْ سافرتُ معكم فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي كان عليه كفارة يمين؛ كما ذَكَرَ ذلك مَنْ ذَكَرَهُ من أصحاب الشافعي وجعلوه مذهب الشافعي، والشافعي نفسه فَرَّقَ بين أن يقول: عليَّ نذر، وبين أن يقول: إن فعلت كذا فعليَّ نذر (1)؛ فهؤلاء يجعلون المعلِّق يقصد اليمين يمينًا وإن كان لا يلزم منجزًا فضلًا عن أن يلزم مع الشرط، فيجعلون التعليق الذي يقصد به اليمين في اقتضاء كونه يمينًا أبلغ من المنجز ومن التعليق المحض. وهذا يناقض دليل المعترض الذي زعمه بقوله: (لو لم يكن الطلاق بحيث يقع عند الشرط لم تنعقد اليمين به) فإنَّ هذه الأمور تنعقد بها اليمين عندهم وهي مما لا يلزم عندهم منجزة ولا معلقة بشرط؛ بل يلزم عند طائفة النذر المعلَّق وإن لم يلزم المعلق بالصفة، كما يلزم عندهم الذي يقصد به اليمين [33/ أ] وَإِنْ لم يلزم المعلق بالصفة ولا المنجز، وهذا لأنه إذا قصد اليمين صار حالفًا فيدخل في النصوص الموجبة للكفارة، وإذا لم يقصد اليمين صار ناذرًا للطلاق وغيره من المباحات، ونذر المباحات لا يلزم _________ (1) الأم (3/ 655).

(1/110)


الوفاء بها، أو (1) صار منجزًا لما لا ينعقد بصيغة التنجيز عندهم كقوله: مالي صدقة ــ في أحد الوجهين ــ، وكالنذر المنجَّز مطلقًا ــ في أحد الوجهين ــ. وهذا لأنَّ القاصد لليمين لم يقصد أن يلزمه ما عَلَّقَهُ، ولا أن يكون ذلك؛ لا نذرًا لمباحات ولا نذرًا منجزًا ولا تطليقًا ولا إعتاقًا، وإنما يقصد أن يعلق بالفعل ما يكره لزومه ليكون حاضًّا ومانعًا له، ويكون ذلك المعلق حقًّا محضًا لله، فيكون قد التزم لله عند الحنث ما لا يريد أن يلزمه إذا حنث؛ فهذا معنى اليمين عندهم، سواءٌ كان ذلك مما يلزم مجردًا أو معلقًا بالصفة أو مما لا يلزم؛ هذا حقيقة هذا القول المأثور عن الشافعي ومن ذكره من أصحابه، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين عنه. ولو قال: عَبْدُ فلانٍ حر؛ لم يعتق عنده ولا عند أحد من المسلمين. ولو قال: إنْ شفى الله مريضي فعبد فلانٍ حر؛ فإنَّ عليه كفارة يمين في إحدى الروايتين (2)، كما لو قال: لله عليَّ أنْ أشتريه وأعتقه فإنه مع التعليق قد نذر أن يصير حرًّا كأنه قال: فعليَّ أَنْ أُعتقه، فإذا تعذر عتقه كان عليه كفارة يمين، ولو أعتقه لم يلزمه شيء آخر. والمقصود: أَنَّ من العلماء من يُلزم مع التعليق ما لا يُلزم مع التنجيز، ومع قصد اليمين ما لا يُلزم بدونه، فما ذكره لو كان حجةً كان حجةً على هؤلاء فكيف ولم تكن حجة؟! وذلك يتبين بِـ الوجه الرابع: وهو أَنَّ هذا القياس الذي ذكره لم يذكر ما يدل على _________ (1) هذه هي الحالة الثانية فيمن لم يقصد اليمين. (2) المغني (13/ 480).

(1/111)


صحته. فيقال له: لا نُسَلِّمُ أَنَّ العلة في الأصل ما ذكرتَ، وهذا المنعُ يكفي في منعه من الاستدلال به، ثم نذكر من الفرق ما يُبَيِّنُ به بطلان قياسه وهو أن قوله للأجنبية: إِنْ دخلتِ الدارَ فأنتِ طالق إيقاع طلاق بأجنبية، والأجنبية لا يلحقها الطلاق لا منجزًا ولا معلقًا، وهو إنما جعلها طالقًا إذا دخلت الدار فلم يشرط أن تدخل الدار وهي زَوجُهُ، فلو قال: إِنْ دخلتِ وأنتِ زوجتي [33/ ب] فأنت طالق؛ فهذا فيه النزاع المشهور. ولو قال: إِنْ دخلتِ الدار فلله عليَّ أَنْ أُطلقك من زوجِكِ، فهذا عليه كفارة يمين؛ كما لو قال: فوالله لأطلقنَّك من زوجك، أو قال: إن دخلت الدار فلله عليَّ أَنْ أطلق امرأتي؛ كما ذكرنا في مذهب أحمد وأبي حنيفة وهو الذي جعله الخراسانيون مذهب الشافعي. ولو قال: إن سافرت معكم فامرأة فلان طالق؛ فهو كقوله: مملوكه حر أو فبعيره هدي أو فماله وقف، فتصرفه في ملك الغير بدون وكالة وولاية لا ينفذ لا منجزًا ولا معلقًا؛ لكن هل يكون هذا كقوله: فلله عليَّ أَنْ أُعْتِقَ عبد فلانٍ وأهدي بعيره وأَقِفَ ماله، ويكون هذا بمنزلة أن يحلف ليفعلنَّ ذلك، كما لو قال: إن فعلت ذلك فعليَّ أَنْ أقتل فلانًا، وإِنْ أظفرني الله بفلان فلله عليَّ أَنْ أقتله، هذا مما يحتمل النزاع في مذهب أحمد وغيره. الوجه الخامس: قوله: (لو كان قصد اليمين وحده كافيًا لكفى هنا). يقال له: قوله: إِنْ دخلت الدار فأنت طالق؛ إِنْ كان قصده منعها من الدخول وهو لا يكره الطلاق إذا دخلت بل يريده؛ فليس هذا بحالف، ولا

(1/112)


هذا وحده يمينًا، وهذا مما تكرر ذكر المعترض له وعليه بنى كلامه، حيث ظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَّقَ حكمًا بأمر يكرهه فإنه حالف قد قصد اليمين، وعرف أن هذا خطأ على جميع الخلق العامة والخاصة والصحابة والتابعين والفقهاء وغيرهم، وإن كان يكرهه فهو حالف (1). فإن أراد: إِنْ دخلتِ الدارَ فأنت طالق مني الآن؛ فهذا كلام باطل فإنه لو قال: لله علي أن أطلقك الآن لكان باطلًا. وإن قال: فأنت طالق إِنْ تزوجتك فهذا يمين، كما لو قال إن فعلت كذا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، ولو قال لأجنبية: إن فعلت كذا فوالله لأطلقنك إن تزوجتك، أو فلله عليَّ أَنْ أطلقك إن تزوجتك فهو يمين. ولو قال: فأنت طالق إذا تزوجتك ففيه نزاع مُرَتَّبٌ؛ فمن قال: إِنَّ الطلاق المعلق بالنكاح يلزم، يقول بانعقاد هذه اليمين، [و] (2) في إجزاء الكفارة فيها النزاع الذي نحن فيه، ومن قال: إن الطلاق المعلق بالنكاح لا يلزم تنازعوا إذا صار مستحقًّا للغير أو كان [34/ أ] التعليق في ملكه، وفي ذلك روايتان مشهورتان مثل أن يقول لامرأته: إن تزوجت عليك امرأة فهي طالق؛ فهنا نص أحمد في إحدى الروايتين على أنها تطلق إذا تزوجها مُفَرِّقًا بين ذلك وبين أن يقول ابتداءً: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فإنه هناك مقصوده الامتناع من نكاحها، وهذا لا يلزم، بخلاف ما إذا صار الطلاق حقًّا للمرأة، فإن من أصله أنه لو شرط لها ألا يتزوج عليها صحَّ الشرط، ولو تزوَّج عليها _________ (1) كذا في الأصل. (2) إضافة يقتضيها السياق.

(1/113)


كان لها فسخ النكاح، فصار في امتناعه من النكاح حق لها. ولو قال: إنْ تزوجت فلانة فلله عليَّ أنْ أُطلقها لم يكن عليه أنْ يُطلِّقَهَا؛ بل عليه كفارة يمين عند أحمد وأبي حنيفة ومن معهما، لأنَّ هذا يمين. ولو شَرَطَ لامرأته ألا يتزوج عليها، وإنْ تزوَّجَ فلله عليَّ أنْ أطلقها = كان الطلاق حقًّا لها، فإذا لم يَفِ بشرطها كان لها أنْ تفارقَه ولا يسقط حقها بالكفارة؛ فلهذا قال (1): إنْ تزوجتُ عليكِ امرأةً فهي طالق؛ تطلق إن تزوجها، لأن الطلاق صار مستحقًا للمرأةِ، والمعلَّقُ هنا وقوعه (2). وأصل أحمد أنَّ المضافَ إلى الملك من الحرية والظهار يقع في الملك؛ كقول الجمهور مالك وأبي حنيفة وغيرهما، فالمشهور من مذهبه أنه لو قال: إنْ تزوجت فلانة فهي عليَّ كظهر أمي، أو إذا مَلَكْتُ فلانًا فهو حُرٌّ صَحَّ الظهار ووقع العتق، وإنما مَنَعَ من الطلاق المعلَّق على الملك، لأنَّ مقصوده الامتناع من النكاح، ومعناه: لا أتزوج، وهذا لا يلزم؛ فإذا صار حقًّا لها صار ممتنعًا من النكاح لأجلها، وعلى الرواية الأخرى عنه: هو معلل بأنه لا طلاق قبل النكاح وهذا لا يجوز، لأنه فسخ للعقد قبل انعقاده وهو باطل، بخلاف الحرية [فليست] (3) فسخًا للبيع؛ بل هي تقرير للملك الحاصل به. فإذا قال: إذا اشتريت فلانًا فهو حُر؛ فهو إعتاقٌ له بعد ملكه له وليس _________ (1) أي: الإمام أحمد. (2) مجموع الفتاوى (32/ 164، 166، 169، 170) (33/ 119)، الفتاوى الكبرى (3/ 90، 124، 196، 217) (5/ 461). (3) إضافة يقتضيها السياق.

(1/114)


ذلك فسخًا للبيع، والظهار تحريم لها، وتحريم الأجنبية ممكن؛ فكيف إذا علَّقَ التحريم بالملك؟! ولو قال لها في العِدَّة: إنْ تزوجتك فأنتِ طالق؛ فعنه فيه روايتان، وإذا كان كذلك، فإذا قال لأجنبية: إنْ فعلتِ كذا فأنتِ عليَّ كظهرِ أمي، أو [إِنْ فعلتِ كذا] (1) إذا تزوجتك فأنتِ عليَّ كظهرِ أمي؛ فهذا يمين بالظهار [34/ ب] بخلاف ما إذا قال ابتداءً: أنتِ عليَّ كظهرِ أمي، أو إذا تزوجتك فأنت عليَّ كظهرِ أمي، فإنَّ هذا ظهار محضٌ منجز ومعلق بالملك، فكذلك إذا قال لأجنبية: إن فعلتِ كذا فأنتِ طالق إذا تزوجتك فإنَّ هذا إذا قصد أنْ يمنعها من ذلك الفعل بإيقاع طلاقها إذا تزوجها فهذا يمين، كقوله: إن فعلتِ كذا فلله عليَّ أنْ أطلقك إذا تزوجتك، ثم قد يقول بأنَّ هذا يمين مَنْ لا يقول بلزوم هذا الطلاق لو كان مجردًا تعليقًا محضًا، ويقول بلزوم الكفارة فيه كما يقوله في نظيره. الوجه السادس: قوله: (الناذر في اللجاج ملتزم لاقتران الفعل الذي مقصوده الامتناع منه بالإعتاق مثلًا) ليس بمسلَّم؛ بل إنما قُرِنَ بالفعل إيجاب العتق أو وجوبه لا نفسُ الإعتاق، فإنه إذا قال: إن فعلت كذا فلله عليَّ أن أعتق هذا العبد أو أتصدق بمالي أو أنْ أحجَّ لله؛ لم يَقْرِن بالفعل الذي امتنع منه شيئًا من هذه الأفعال لا الحج ولا الإعتاق ولا الصدقة؛ بل إنما قَرَنَ بذلك إيجاب هذه الأفعال ووجوبها، ولو كان المعلَّق نفس الأفعال لكانت الأفعال توجد إذا وجد شرطها في قصد النذر المحض، كما إذا قال: إنْ شفاني الله من مرضي فلله عليَّ أَنْ أعتق هذا العبد وأتصدق بثلث مالي _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(1/115)


وأحج إلى بيتِ الله، فإذا وجد الشرط كان الحاصل وجوب هذه الأفعال في ذمته لا نفس هذه الأفعال، وفي اليمين المعلق بالشرط هو هذا الوجوب، لكنه هناك علقه مع بُعْدِهِ عن هذا الإيجاب وامتناعه منه، ليكون لزومه له مانعًا له من الشرط؛ وَلَمَّا كان المعلق هو إيجاب الفعل المقتضي للفعل، فإن أعتق فقد وفَّى بموجب تعليقه، ولم يبقَ في ذمته شيء، وإنْ لم يفِ فعليه كفارة يمين. وهكذا إذا قال: إنْ فعلت كذا فمماليكي أحرار؛ فالمعلق حصول العتق بالمماليك، لكنه لم يقصد إيقاع هذا العتق؛ بل هو من أبعد الناس عنه، وهو ممتنع منه غاية الامتناع؛ بل علقه ليكون لزومه عند الشرط مانعًا له من الشرط؛ وهكذا الطلاق المعلق على وجه اليمين إذا قال: إنْ فعلتُ كذا فكل نسائي طوالق لم يُعَلِّق إيقاع الطلاق إلا وهو من أبعد الناس عنه وممتنع [35/ أ] منه غاية الامتناع، وعلقه ليكون لزومه مانعًا له من الفعل، ثم جَعْلُهُ اللزومَ مانعًا له من الفعل هو موجب ربطه وتعليقه. وأما حكم هذا اللزوم فإلى الشارع، فإنْ جعله عقدًا لازمًا لزم، وإن جعل له تحليلًا بالكفارة التي فرضها الله تحلةً لأيمانِ المؤمنين كان له حل هذا العقد بالكفارة. وهذا الحالف باسم الله قَرَنَ ما حلف عليه بتعظيم المحلوف به؛ فموجب عقده أنه إذا وجد التعظيم وجد الفعل الذي حلف ليفعلنه، والتعظيم موجود في قلبه فيلزمه الفعل، فَجَعَلَ الشرعُ لتعقيدِ الأيمان تحليلًا كما قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فلو لم يشرع

(1/116)


الكفارة لكان إذا حصل المحلوف عليه زال تعظيمه للمحلوف به، لأن الفعل قد جعله لازمًا للتعظيم، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، لكنْ شَرَعَ الله الكفارة تحلة لأيمان المؤمنين، وشرع لهم حَلَّ هذا العقد، وإبطال هذا اللزوم بالكفارة التي فرضها. وهذا المعنى موجود في كل ربط قصد به اليمين، لكن إنما تجب الكفارة إذا كان اللازم بالحنث هَتْكَ حرمة الأيمان، أو (1) انتهاك حرمة اسم الله، لأنَّ ذلك انتهاك لحرمة المسمى، وهذا يتضمن إسقاط ما في القلب من تعظيم الله (2). وكذلك إذا التزم الكفر المضاد للإيمان إذا فعل؛ فهذا أعظم انتهاكًا لحرمة الأيمان، وأبلغ من زوال تعظيم الله من القلب، وكذلك إذا التزم لله _________ (1) في الأصل: (أما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) انظر (ص 532 - 534). وقال في قاعدة العقود (1/ 181 - 182): وقد بَيَّنَّا في غير هذا الموضع: أنَّ وجوب الكفارة في النذر وتحريم الحلال والحالف بقوله: أنا يهودي أو نصراني أولى من وجوب الكفارة في الحالف باسم الله، لأنَّ هذه الأيمان فيها من الالتزام بمثل حرمة الأيمان أعظمُ مما في الحلف باسم الله، فإذا كان الحالف باسم الله يجب عليه الكفارة لما فيه مِنْ هَتْكِ حُرمةِ اسم الله؛ فما في هذه الأيمان من هتك حُرمة المسمَّى أحق بوجوب الكفارة، فإنَّ تحريم الحلال تبديلٌ لحكم الله، ليس هو من أمر الله، ولو اعتقد معتقدٌ أنه يُغَيِّرُ الدِّين لكان كافرًا؛ وكذلك التزام الكفر إنْ فعل كذا وكذا، فإنَّ ما عَقَدَهُ لله أبلغ مما عقده به؛ فقوله: لله عليَّ أَنْ أفعل أَبلغُ من قوله: والله لأفعلنَّ؛ فإذا كان الحانث في هذا يجب عليه كفارة، فالحانث في ذلك أولى وأحرى.

(1/117)


شيئًا ولم يفِ بما التزمه له فهو أعظم من أن يلتزم به شيئًا ولا يفعل ما التزم به، فإنَّ التعظيم الذي في قلبه لله يزول إذا التزم له شيئًا ولم يفِ بما التزم له أعظم مما يزول إذا التزم به شيئًا ولم يفِ بما التزمه. وإذا جعل التزامه لله وبالله مانعًا مِنْ فِعْلِ ما أُمِرَ فقد دخل في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]، وقوله عز وجل: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] فالائتلاء والتألي والإيلاء هو الالتزام (1) وهي الحلف واليمين. ولهذا كان قوله: لله عليَّ إذا قَدَّرَنِي الله على فلان [35/ ب] لأقتلنه؛ يمينًا عند جمهور العلماء، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة، وهذا الذي ذكره الخراسانيون مذهبًا للشافعي، وهو لم يقصد بما التزمه لله أن يتقرب به إليه، وإنما قصد أن يَحُضَّ نفسه عليه كما يقصد ذلك بقوله: والله إذا قدرت عليه لأقتلنه. وقوله: لله عليَّ لأقتلنه أبلغُ من قوله: بالله لأقتلنه؛ وهذا من اليمين، كما قال عقبة بن عامر: النذر حَلْفَةٌ (2). وهو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة _________ (1) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ. وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 51)، رسالة الاجتماع والافتراق (ص 80)، جامع المسائل (1/ 373)، وفي الأخير: والإيلاء هو اليمين، وهو القَسَمُ والحلف. (2) لم أجده مسندًا، وقد ذكره المجيب هنا وفي غيره من تصانيفه، فمرةً يشير إلى أنه مرفوعٌ ومرة يذكر أنه موقوفٌ على عقبة؛ وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم في بعض مصنفاته. انظر: مجموع الفتاوى (25/ 277) (35/ 258، 271)، والفتاوى الكبرى (4/ 129)، والقواعد الكلية (ص 469، 491)، وقاعدة العقود (ص 154، 162) وعزاه إلى الجوزجاني، والصارم المسلول (2/ 42)، وأحكام أهل الذمة (3/ 1387)، ومدارج السالكين (1/ 353)، وذكره ابن قدامة في المغني (13/ 626) بصيغة التمريض. وأقدم من وقفت عليه ناسبًا هذا اللفظ لعقبة: ما ورد في مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (1/ 396): قلت: مَنْ نَذَرَ أَنْ يصومَ يوم الفطر ويوم الأضحى كيف يصنع؟ وما يجب عليه؟ قال: أما ابن عمر فقال: أمر الله بوفاء النذر ونهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام هذين اليومين. وأما عقبة بن عامر فقال: النذر حلفة. وقال: لا يصوم يوم النحر ولا يوم الفطر ويكفِّر يمينه ويصوم يومًا. وقد جاء عنه مرفوعًا بمعنى ما ذكره المجيب؛ فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده (28/ 575)، وأبو يعلى في مسنده (3/ 283)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 313) عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «إنما النذر يمين، وكفارتها كفارة يمين». وذكره أبو يعلى في الروايتين (3/ 67 - 68) مرفوعًا بلفظ: (النذر حَلِفٌ، وكفارته كفارة يمين).

(1/118)


النذر كفارة يمين» (1)، وهو هنا مقصوده حضُّ نفسِهِ على قتله. والتزم هذا لله كما يلتزمه بالله ليقتلنَّه (2). ومن قال: لا يلزمه شيء لأنه التزم معصيةً لله فهو شبيهٌ بقول من يقول في قوله: والله لأقتلنه: ليس عليه شيء إذا لم يقتله؛ لأنه التزم بالله معصيةً، وكفارتها تركها، وهو نظير قول من يقول: المولي لا شيء عليه إذا فاءَ، لأنه فعل الواجب، فهؤلاء لم ينظروا إلى المعنى الموجب للكفارة، وهو انتهاك حرمة الأيمان بالله، وزوال التعظيم الذي في القلب لله إذا التزم به شيئًا ولم يوفِ بذلك. _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92)، وهو في صحيح مسلم. (2) في الأصل: (لا يقتلنه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/119)


وهو لو قال: عليَّ عهدُ الله وميثاقه لأفعلنَّ كذا، كان يمينًا، ولو قال: عليَّ لأفعلنَّ كذا، كان يمينًا ونحو ذلك. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]. ولو قال: أشهد بالله لقد زنيت، كان هذا يمينًا أبلغ من قوله: أحلف بالله لقد زنيت، وهي شهادة مؤكدة باليمين. الوجه السابع: أنه قال: (فهي ــ حينئذٍ ــ مكفرة لترك العتق لا لحصول الفعل، وصار النذر كاليمين المعلَّقة، كأنه قال: والله إنْ فعلتُ كذا أعتقتُ هذا العبد، فإنْ أعتقَ فقد بَرَّ في قَسَمِهِ ولم يحنث، وإنْ لم يُعْتِق فقد وجَبَت عليه الكفارة. ثم قال: فافهم هذا، فإنه من نفيس البحث، وبه يظهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارةُ يمين» (1) وسيكون لنا عَودَةٌ إلى هذا البحث). فيقال: هذا الذي ذكرتَه صحيح، وهو ــ ولله الحمد ــ من أعظمِ الحجج للقول الذي نَصَرَهُ المجيب؛ فالحمد لله الذي جَعَلَ المعاني الصحيحة التي تستحق التعظيم كلها حجة على ذلك القول، وجعل ما يُخالفُهُ معاني فاسدة [36/ أ] متناقضة. فإنَّ هذا الذي ذكره في تعليق وجوب العتق وإيجابه إذا قصد به اليمين هو موجود في تعليق وقوعه وإيقاعه إذا قصد به اليمين، وهو ــ أيضًا ــ موجود في تعليق وقوع الطلاق وإيقاعه إذا قُصِدَ به اليمين، كما أنه موجود _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92)، وهو في صحيح مسلم.

(1/120)


في تعليق وجوب جعل البهيمة هديًا وأضحية إذا قصد (1) به اليمين، فإنه إذا قال: هذا هدي وهذه أضحية صارت هديًا وأضحية؛ كما يصير العبد حرًا إذا قال: هذا حر، وكما تصير الأرض وقفًا على المساكين إذا قال: هذه وقف على المساكين، وكما يصير الفرس حبسًا إذا قال: هذه الفرس حبس في سبيل الله، ثم إذا قصد بذلك كُلِّهِ اليمين أجزأت فيه كفارة اليمين، وكما أن العبد يخرج عن ملكه بالعتق، فكذلك الأرض (2) تخرج عن ملكه بالوقف، لكن هل يشترط في الوقف إخراجها عن يده؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد؛ أحدهما: يشترط كقول مالك ومحمد بن الحسن. والثاني: لا يشترط؛ كقول الشافعي وأبي يوسف. وكذلك الهدي والأضحية؛ هل تزول عن ملكه بذلك أم يجب عليه أن يزيله بالذبح؟ فيه قولان. وقد تنازع العلماء في إبدال [الهدي] (3) والأضحية بخير منها والمنصوص عن أحمد جواز ذلك كقول أبي حنيفة، وفي مذهبه قول آخر: لا يجوز كقول الشافعي، اختاره أبو الخطاب (4). وجعل هو وطائفة معه هذا الخلاف مستلزمًا للخلاف في زوال الملك؛ _________ (1) كأن رسمها في الأصل: (قتل)، والصواب ما أثبت. (2) في الأصل: (العتق)، ولعل الصواب ما أثبتُّ؛ كما تقدم قريبًا. (3) إضافة يقتضيها السياق. (4) مجموع الفتاوى (31/ 212، 232، 240، 252)، الفتاوى الكبرى (4/ 359). وانظر ما سيأتي (ص 352).

(1/121)


وقالوا: إنْ قلنا: يزول ملكه، لم يجز الإبدال وإلا جاز؛ وليس بشيءٍ؛ فإنَّ العبد المنذور عتقه لم يزل ملكه عنه ولا يجوز إبداله بلا نزاع، لأنه هو المستحق للحرية فلا يصرف عنه، والمسجد الذي زال ملكه عنه يجوز إبداله حيث يجوز الإبدال: إما إذا تعذَّرَ الانتفاع وإما إذا كان البدل خيرًا من المبدل منه؛ كما فعل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - لما أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد أصلح منه للمسلمين وصار الأول سوقًا للتمَّارين (1). فجواز الإبدال والمنع منه ليس ملازمًا لبقاء الملك وزواله، ولا ريب أنَّ مَنْ جعلها هديًا أو أضحية عليه أن يذبحها وهو أحق بذلك من غيره، وكذلك [36/ ب] إذا قال: هذا المال صدقة فهو بهذه المنزلة. _________ (1) أخرج الطبراني في معجمه الكبير (9/ 192/ رقم 8949) من طريق القاسم قال: قَدِمَ عبد الله وقد بَنَى سعدٌ القصر، واتخذ مسجدًا في أصحاب التمر، فكان يخرج إليه في الصلوات؛ فلمَّا ولي عبد الله بيت المال نُقِبَ بيتُ المال، فأخذ الرجل، فكتبَ عبد الله إلى عمر، فكتب عمر: (ألا تقطعه، وانقل المسجد، واجعل بيت المال مما يلي القبلة؛ فإنه لا يزال في المسجد مَنْ يصلي) فَنَقَلَهُ عبد الله وَخَطَّ هذه الخُطَّة، وكان القصر الذي بنى سعد شَاذروان، كان الإمام يقوم عليه، فأمر به عبد الله فنقض حتى استوى مقامُ الإمام مع الناس. قال في المجمع (6/ 275): رواه الطبراني؛ والقاسم لم يسمع من جده، ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه الطبري في تاريخه (4/ 46) في خبرٍ طويلٍ. وإسناده لا يصح. وانظر: مجموع الفتاوى (30/ 405)، (31/ 93، 252، 254، 266)، الفتاوى الكبرى (4/ 156، 288، 359، 360، 362).

(1/122)


والتحقيق: أَنَّ الملك الذي كان على ذلك أولًا من قدرته على التصرف المطلق زال، ولم يبق له إلا قدرة على تصرفٍ خاص، والملك هو القدرة الشرعية على التصرف، والقدرة تتنوع؛ فقد يقدر على تصرف دون آخر. ومن هنا يغلط كثير من الفقهاء فيجعلون الملك شيئًا واحدًا مماثلًا في محالِّهِ، ثم يتنازعون في ثبوته وانتفائه في مواضع، ويكون كلا القولين الإثبات والنفي خطأ؛ كتنازعهم في الكفار هل يملكون أموال المسلمين؟ وفي العبد هل يملك؟ وفي الوقف هل هو ملك للموقوف عليه أو الواقف أو لله؟ وفي الهدي والأضحية هل هو باقٍ على ملك مَنْ جعل ذلك هديًا وأضحية أو خارجٌ عنه؟ ونحو ذلك. فمن قال: الكفار لا يملكون، قال: لأنهم ظالمون بالاستيلاء فصاروا كالغاصبين. فقال منازعوهم: الغاصب يَضمن ما أتلفه للمغصوب وهؤلاء لا يضمنون. فقال الأولون: فإنهم لا يعتقدون تحريم القتال كأهل البغي. قال النفاة: أهل العدل والبغي لا يضمنون ــ أيضًا ــ ما أتلفوه بالتأويل، ومع هذا لا يملكون ما استولوا عليه، فلا يلزم من نفي الضمان ثبوت الملك. قال المثبتون: الكفار يعتقدون جواز تملك ما استولوا عليه، بخلاف أهل البغي فإنهم لا يعتقدون جواز تملك ما استولوا عليه، ومعلومٌ أَنَّ من جعلهم يملكون كما يملك المسلم منهم فقد غلط، ومن جعلهم لا يملكون

(1/123)


كما لا يملك المسلم الذي يعتقد تحريم التملك فقد غلط؛ بل هم نوع آخر يُحكم فيهم بما مضت به السنة وَحَكَمَ به الخلفاء الراشدون. فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أسلم على شيء فهو له» (1)، ولما أسلم الكفار لم يأمرهم برد ما في أيديهم من أموال المسلمين، وقد سأله - صلى الله عليه وسلم - بعض المهاجرين أَنْ يرد عليهم ديارهم التي كانت بمكة واستولى عليها الكفار، فسألوه رَدَّهَا لما فتح مكة فلم يردها (2)، وجعلها - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الدماء التي سفكت في الله، والله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فما أُخِذَ في الله من دم ومال فأجر المؤمنين فيه على الله لا عوض له [37/ أ] في الدنيا، وأما ما أُخِذَ منهم بغير عوض فإنه يُرَدُّ إلى صاحبه؛ كما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقته من التي أخذتها منهم ونذرت أن تنحرها، فقال: «بئس ما _________ (1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (10/ 226)، والبيهقي في السنن الكبير (18/ 366/ ح 18306) وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 97/ رقم 190) من حديث ابن أبي مليكة. وأخرجه أيضًا (1/ 96/ رقم 189) من حديث عروة بن الزبير. قال البيهقي في السنن الصغير (3/ 404): مرسل .... وقال بعد تضعيف المرفوع الموصول: وإنما يروى عن ابن أبي مليكة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وعن عروة مرسلًا. والموصول أعلَّه كذلك ابن عدي. وقال عنه أبو حاتم: هذا حديثٌ لا أصل له. وانظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 554)، نصب الراية (3/ 410)، البدر المنير (9/ 171)، إرواء الغليل (6/ 156). (2) انظر طرفًا من ذلك في: أخبار مكة للأزرقي (2/ 875)، والفاكهي (3/ 256). وانظر: الصارم المسلول (2/ 301 - 308).

(1/124)


جزيتها، لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا نذر في معصية» (1). وما أُخِذَ بعوض لم يؤخذ من صاحبه إلا بعوض، كما كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بذلك فيما اشتراه التجار من أهل الحرب من أموال المسلمين= حَكَمَ بأنَّ صاحب المال إن أدى إلى التاجر الثمن الذي أداه وإلا فهو أحق به (2)، لأن الكفار لم يلتزموا أحكام المسلمين، ولا يُمَكَّنُ التاجر أن يرجع عليهم بالثمن وهو لم يخلص المال إلا به وإلا فقد كان ذهب من صاحبه، وبسط هذا له موضع آخر (3). والمقصود هنا: أَنَّ لفظ الملك جنس تحته أنواع متنوعة، وليس الملك معنى متماثلًا في جميع موارده، وإن كان لا بُدَّ فيه من نوع قدرة شرعية أباح الشارع لصاحبها نوعًا من التصرف لِحَظِّ نفسه بخلاف من يتصرف لغيره كالولي والوكيل. _________ (1) أخرجه مسلم في صحيحه (1641) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - ولفظه: «سبحان الله! بئسما جزيتها؛ نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنَّهَا؛ لا وفاء في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد» وفي رواية: «لا نذر في معصية الله». (2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2/ 335/ رقم 2803)، والبيهقي في السنن الكبير (18/ 365/ ح 18304). قال الشافعي ــ كما نقله البيهقي ــ: في رواية أبي عبد الرحمن عنه: هذا عن عمر - رضي الله عنه - مرسل، إنما روي عن الشعبي عن عمر - رضي الله عنه -، وعن رجاء بن حيوة عن عمر؛ وكلاهما لم يدرك عمر - رضي الله عنه - ولا قارب ذلك. قال الشافعي: وحديث سعد أثبت من حديث عمر - رضي الله عنه -، لأنه عن الركين بن الربيع عن أبيه أنَّ سعدًا فعله به، والحديث عن عمر - رضي الله عنه - مرسل. (3) مجموع الفتاوى (22/ 9) (29/ 212).

(1/125)


وقول المعترض: (اليمين مكفرة لترك العتق لا لحصول الفعل). فيقال: لكن لا بُدَّ من الأمرين: العتق اللازم مع عدم الفعل الملزوم، كما في قوله: والله إِنْ فعلتُ لأعتقنك؛ فإنما يكون حانثًا إذا فعل ولم يعتق، وكذلك إذا قال: إِنْ فعلت لأطلقنك؛ بخلاف ما لو قال: والله لأعتقنك أو لأطلقنك فهنا يكون حانثًا بعدم الفعل المحلوف عليه. وقوله هنا: (والله) تعليقٌ؛ كما لو قال: (لله عليَّ أَنْ أفعلَ) وهو كقوله هناك: لله عليَّ إِنْ فعلت أَنْ أُطَلِّق أو أُعتق، وإذا قال: إن فعلت كذا فأنت طالق وهو حر وهذا هديٌ وأُضحية ووقفٌ كقوله: إِنْ فعلت كذا لَتَكُونَنَّ فلانةُ طالقًا أوليكونَنَّ فلانٌ (1) حرًّا وليكونَنَّ هذا هديًا وهذا أُضحيةً وهذا وقفًا. فإنَّ قوله: لله عليَّ أن يكون كذا؛ بمنزلةِ قولِهِ: والله ليكونن كذا؛ لكن هنا إذا التزم قربة لقصد التقرب كان نذرًا يلزمه الوفاء به، وإن لم يقصد إلا الحض والمنع فهو حالف، وإذا لم يكن ما التزمه قربة مع قصدِ الحضِّ والمنع فهو أَدخلُ في معنى اليمين. فإنَّ النذر لا يكون نذرًا لازمًا إلا بشرطين (2): أَنْ يلتزم قربةً، وأَنْ يقصد به الالتزام لله لا لمجرد الحض والمنع؛ فإذا التزم (3) [37/ ب] لله ولم يكن قربةً فهو يمين محضةٌ، كقوله: لله عليَّ أنْ أقتل فلانًا، وكذلك لو كان قربة ولم يلتزمه لله بل للحض والمنع، كما لو قال: والله لأُسافرنَّ (4) إلى مكة أو لأمشينَّ إلى _________ (1) في الأصل: (فلانًا)، والجادة ما أثبتُّ. (2) مجموع الفتاوى (33/ 199). (3) في الأصل: (لم يلتزم)؛ والصواب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (لا سافرتُ)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/126)


مكة لطلب غريمٍ له هناك أو للتجارة، فإذا قال: إنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ المشي إلى مكة؛ فهنا الفعل وإِنْ كان قربة فهو لم يقصد أن يلتزمه لله وإنما قصد الحض والمنع بلزومه، وكذلك إذا قال: لله عليَّ أنْ أُعتق عبدي أو فعبيدي أحرار، وإنْ كان الفعل ليس قربة ولكن التزمه لله يَظُنُّهُ قربة كقوله: إنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أنحر نفسي أو ولدي لله أو لأدعنَّ اللحم لله والنكاح لله ونحو ذلك، فهذا لا يلزمه لكن في الكفارة قولان مشهوران؛ وظاهر مذهبِ أحمد لزوم الكفارة، وظاهر مذهب الشافعي أن لا كفارة عليه، وأما أبو حنيفة ومالك فاستثنيا بعض المعاصي كذبح الولد لِمَا نُقِلَ عن ابن عباسٍ وغيره (1). وأما إذا لم يكن الفعل قربة ولا قصد التقرب به إلى الله بل الحض أو المنع كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي أو فهي طالق أو فهي عليَّ كظهر أمي أو فعليَّ أَنْ أتظاهر منها أو فهي عليَّ حرام أو فعليَّ أن أُحَرِّمَهَا = فهذا لا يلزم إذا كان نذرًا في الذمة بلا نزاع، وأما إذا كان إيقاعًا في العين فهو محل النزاع، ومعلومٌ أَنَّ هذا أولى أن يكون يمينًا. _________ (1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 610)، وعبد الرزاق في المصنف (15903)، وابن أبي شيبة (12654) وغيرهم أنَّ امرأة سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - فقالت: إني نذرت أن أنحر ابني. فقال: لا تنحري ابنك، وكفري عن يمينك. فقال رجل: كيف يكون في طاعة الشيطان كفارة يمين؟ فقال ابن عباس: أليس قد قال الله في الظهار: {إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}؟ فيه من الكفارة ما قد سمعت. قال البيهقي في السنن الكبير (20/ 195): إسناده صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف (12655) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وجاء عن جماعةٍ من التابعين: أخرج مروياتهم ابن أبي شيبة في مصنفه (12656 - 12660).

(1/127)


ولا يلزم من قوله: إذا فعلت كذا فهذا هدي وهذه أضحية وهذه الأرض وقفٌ على المسلمين، بل قوله: فعليَّ أَنْ أُطلِّق أو أعتق لأن تلك قربة تعلقت بالأعيان لا بالذمة ومع هذا لم يلزم وهذا كذلك، وإذا قيل هناك: عليه أفعال واجبة كالذبح والصدقة. قيل: وهنا عليه أفعال واجبة كتخلية سبيل العبد والمرأة. وأيضًا؛ فإنه إذا كان العقدُ الواجب في الذمة الموجب عليه أفعالًا في أعيان وأحكامًا لا يصير مع قصد اليمين موجبًا؛ فالعقد الذي لا يقتضي إلا حُكمًا في عينٍ أولى ألا يصيرَ مع قصدِ اليمين موجبًا، فإنه من المعلوم أنه إذا وجب عليه أن يعتق فقد وجب عليه ما وجب عليه بالعتق وزيادة، فإنه يجب عليه أن ينشئ العتق، ثم ــ حينئذٍ ــ يفعل ما يفعل إذا عتق العبد، وكذلك إذا وجب عليه [38/ أ] أَنْ يطلق المرأة فإنه يجب عليه أن يطلقها، ثم يفعل ما يفعل إذا كان قد طلقها. وإذا قال: عليَّ أَنْ أُهدي شاة أو بعيرًا؛ فعليه أَنْ يهديه ويذبحه ثم يفعل ما يفعله بالهدي المعين إذا ذبحه، وإذا قال: لله عليَّ أن أتصدق بثلث مالي فعليه أنْ يتصدق؛ فهذه التعليقات توجب عليه أفعالًا، وتلك الأفعال توجب أحكامًا، وتلك الأحكام توجب أفعالًا أخرى. فقوله: لله عليَّ أن أُعتق؛ يُوجب عليه أن يعتق، والإعتاق يوجب العتق، والعتق يوجب تخلية سبيله؛ فهذه الواجبات بإيجاب العتق أكثر من الواجب بالعتق المعلق. فإن كُلَّ ما يجب بالعتق المعلق يجب بتعليق إيجاب العتق وزيادة، ثم قصد اليمين منع تلك الواجبات إنْ ثبت شيءٌ منها (1) فرفع إيجابَ العتق _________ (1) كذا في الأصل، ولعل صوابها: (أَنْ يَثْبُتَ شيءٌ منها).

(1/128)


ووجوبه، فلا يقع إعتاق ولا عتق ولا تخلية سبيل، فإذا منع قصد اليمين هذا كله= فلأن يمنع بعض ذلك وهو الإيقاع والوقوع بطريق الأولى والأحرى؛ فإن اقتضاء التعليق للإيقاع والوقوع كاقتضائِهِ للإيجاب والوجوب، وذلك يتضمن الإيقاع والوقوع، فإذا لم يثبت شيءٌ من ذلك لأجل اليمين= فَلَأَن لا يثبت الإيقاع والوقوع بطريق الأولى. لكنَّ الغالط يظن أنه إذا كان المعلَّق إيقاعًا فقد حصل، ويظن هناك أَنَّ المعلَّق هو الفعل وهو باختياره، وليس الأمر كذلك، بل المعلَّق هناك إيجاب الفعل ووجوبه، وهو حكم شرعي، وهو يوجب على العبد الإيقاع والوقوع، وقَصْدُ اليمين منع ذلك الإيجاب ومقتضى ذلك الإيجاب وهو الإيقاع ولازم الإيقاع وهو الوقوع؛ فإذا منع ذلك كله= فلأن يمنع مقتضى الوجوب وهو الوقوع الذي هو لازم للإيقاع الذي يقتضيه الوجوب بطريق الأولى والأحرى. ووقوع الطلاق بالإيقاع هنا كحصول الملك للفقير بالصدقة عليه الذي هو موجَب المتصدَّق المنذور إذا قال: فمالي صدقة، ووقوع العتق بالإعتاق كمصير الماشية هديًا وأضحيةً والدار وقفًا، كمصيرها نسكًا بالذبح الذي هو فعله، فإنه إذا ذبحها صارت لله بذلك فلا يمكنه بيع اللحم. * * * *

(1/129)


فصلٌ قال المعترض: (الحادي والعشرون: قوله - صلى الله عليه وسلم - [38/ ب]: «المؤمنون عند شروطهم إلا شرطًا أَحلَّ حرامًا أو حرم حلالًا» (1) فدخل الشرط الذي عَلَّقَ الطلاق به في الشروط، فيجب الوفاء بمقتضاه الذي جُعل شرطًا فيه وهو الطلاق عملًا بالحديث، والله أعلم. و (2) كذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]) (3). والجواب من وجوه (4): _________ (1) لم أجده بهذا اللفظ؛ وإنما ورد بلفظ: «المسلمون على شروطهم؛ إلا شرطًا حرَّم حلالاً، أو أحلَّ حرامًا». أخرجه الترمذي في جامعه (1352)، وابن ماجه (2353)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 22) من حديث عمرو بن عوف المزني - رضي الله عنه - وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. كما أخرجه أبو دواد (3594)، وابن الجارود (برقم 367، 1001)، والحاكم في المستدرك (2/ 57) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بنحوه. وقال الحاكم: رواة هذا الحديث مدنيون، ولم يُخَرِّجَاه. وجاء عن غيرهما من الصحابة. انظر: البدر المنير (6/ 552)، إرواء الغليل (5/ 142)، السلسلة الصحيحة (6/ 992/ رقم 2915). (2) إضافة من «التحقيق». (3) «التحقيق» (34/ أ)، وهو الوجه الثالث عشر. (4) لم يذكر إلا وجهًا واحدًا.

(1/130)


أحدها: أن يقال: ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أَنَّ ما كان من العقود من أيمان المسلمين فالوفاء به إنْ أريد به أنه لا بُدَّ من الكفارة عند الحنث وأنه يجب عليه أن يحفظ يمينه فإما أَنْ تَبَرَّ وإما أنْ تحنث= فهذا الوفاء بهذه العقود واجب بالنص والإجماع. وإنْ أريد بالوفاء بعقود الأيمان أنه يلزمه جعله لازمًا بيمينه فهذا خلاف دين المسلمين، ولكن هذا يقال إنه كان شرعًا لمن قبلنا، وكذلك كان الأمر في الجاهلية، واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى أنزل الله للمسلمين ما شرع به كفارة الأيمان وفرض للمؤمنين تحلة أيمانهم، فبقي الوفاء بالعقود والشروط التي يقصد بها الأيمان أنه إذا حنث كَفَّرَ، وصار شرعُ المسلمين أن أيمان المسلمين لا تُغَيِّرُ شرائع الدين؛ بل ما كان واجبًا قبل اليمين فهو واجبٌ بعدها، وما كان محرمًا قبل اليمين فهو محرمٌ بعدها، فاليمين لا توجب فعلًا ولا تحرم فعلًا، ولا توجب لزوم شيء مما جعله الحالف لازمًا لنفسه إذا كَفَّر يمينه، بل إذا كَفَّر يمينه صار بمنزلة من لم يحلف ولم يُلْزِم نفسه بشيء مما جعله لازمًا (1). ومن جعل شيئًا من أيمان المسلمين توجب لزوم شيء من الأشياء وَجَعَلَهَا يمينًا غير مكفرة= كان قوله هذا موافقًا لما كانوا عليه في أول الأمر وفي الجاهلية وما قيل إنه كان شرع من قبلنا، ولم يكن هذا هو الشرع الذي أنزل الله ــ عز وجل ــ به القرآن وشرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته وجعله شرعًا للمسلمين؛ بل من جعل شيئا من أيمان المسلمين تُلْزِم الحالفَ ما جعله _________ (1) قال في الفتاوى الكبرى (5/ 552): (ولم يقل أحدٌ إن اليمين على شيء تغيره عن صفته بحيث توجب إيجابًا أو تحرم تحريمًا لا ترفعه الكفارة).

(1/131)


لازمًا له إذا حنث ولا يجزئه في رفع ذلك اللزوم الكفارة، فإنه يقابله من جعل هذه الأيمان لا توجب شيئًا من الأشياء، لا ما جعله لازمًا ولا الكفارة ولا غير ذلك، حتى إن من الناس من يقول: قول هؤلاء أرجح من قول أولئك، ومنهم مَنْ [39/ أ] يقول: قول أولئك أرجح. والقول الوسط الذي بعث الله ــ تعالى ــ به رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو: ما أنزل الله ــ سبحانه ــ في كتابه وجاء به رسوله المتضمنة للتعظيم لله، وهو أنه ليس من الأيمان قط يمين توجب على المسلمين شيئًا ولا تحرم على المسلمين شيئًا، ولا تُلْزِمُ بشيء لا مما ألزموه أنفسهم عند الحنث ولا غيره، بل ما كان مقصوده تعظيم المخلوقات فهو يمينُ شركٍ لا حرمة لها ولا كفارة فيها إذا حلف، وما كان المقصود به تعظيم الخالق ــ تعالى ــ فإنَّ فيه كفارة إذا حنث الحالف، ثم إنه يُؤمر بالحنث تارةً إذا كان فيه طاعة لله، وَيُنْهَى عنه أخرى إذا كان معصية، وَيُبَاح له تارة إذا كان كلا الأمرين مباح؛ والكفارة واجبة عليه بالحنث في الأنواع الثلاثة. وحدثني بعض الفقهاء الثقات عن بعض أهل العلم الذين كانوا يفتون بالكفارة في الحلف بالطلاق أنه كان يقول لمن ينازعه: يا كذا وكذا لم تُدْخِلُونَ في دين الإسلام ما ليس منه، وتُضَيِّقُون على المسلمين ما وسَّعَ الله عليهم؟! أين في دين المسلمين يمينٌ يَلزم صاحبها موجبها من غير أن يكون فيها كفارة؟! أو نحو هذا الكلام (1). * * * * _________ (1) سيذكر المجيب هذه القصة مرةً أخرى في (ص 176).

(1/132)


فصلٌ قال المعترض: (قال ــ يعني المجيب ــ: وهذا مذهب (1) أبي ثور وغيره من الفقهاء في العتق، وكذلك رواه حماد بن سلمة في جامعه عن حبيب بن الشهيد أنه سأل الحسن البصري عن رجل قال: كل مملوكٍ لي حر إن دخل على أخيه. قال: يكفر عن يمينه (2). وروي ذلك عن أبي هريرة وعائشة وأم سلمة - رضي الله عنهم - (3). قلت: هذا والذي قبله مقصودٌ به إنْ ثبتَ الخلاف في العتق، ولاشك أَنَّ غيره قد نقل ذلك ــ أيضًا ــ في العتق عنهم، على أَنَّ ابن المنذر نقل عن أبي ثور في الإشراف (4) فيما إذا قال لعبده: إنْ لم أضربك فأنت حر، وأراد بيعه أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق عليه؛ وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا يقع. وكذلك نُقِلَ عن الحسن فيما إذا قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، أنه يعتق من مال البائع (5) ــ يعني: إذا باعه ــ فهذا تصريحٌ من الحسن بوقوع العتق في _________ (1) في «التحقيق» والفتوى المعترض عليها: (قول). (2) لم أجده، وقد نقله المعترِض من فتوى ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى (33/ 188). وانظر ما سيأتي (ص 149 - 150). (3) سيأتي تفصيلها والكلام عليها في كلام المجيب عن قصة ليلى بنت العجماء (ص 201 - 209). (4) الإشراف (8/ 123). وانظر: (ص 148). (5) رواه سحنون في المدونة (2/ 388) عن ابن وهب، عن سهل بن أبي حاتم، عن قرة بن خالد قال: سئل الحسن البصري عن رجل قال لمملوكه: إنْ بعتُكَ فأنت حرٌّ؛ فباعَهُ. قال: هو حُرٌّ من مال البائع. وقال ابن حزم في المحلَّى (ص 1421): وقد رُوِّيْنَا هذا القول عن إبراهيم النخعي والحسن ــ أيضًا ــ وهذا تناقضٌ منه. وذكره عن الحسن: ابن المنذر في الإشراف (8/ 105)، والإقناع (2/ 601). وقد أشار له المجيب في مواضع من ردِّه هذا ــ كما في (ص 150، 735) ــ مشيرًا إلى أنه نقلٌ مرسلٌ ليس له إسناد.

(1/133)


الحلف به. ونقل عنه أبو الحسن [39/ ب] الجُوْرِي (1) أنه إنْ باعه على ألا خيار لواحد منهما لم يكن لهما خيار المجلس فلا يعتق؛ فالحكايتان [عنه متفقتان] (2) على خلاف ما نقله عنه، وسنتعرض (3) لذلك فيما بعد ــ إن شاء الله ــ) (4). والجواب: أن هذا قد سلك في المنقولات عن الصحابة والتابعين وإجماعهم ونزاعهم مسلكًا في غاية الفساد والتناقض، ما علمتُ أحدًا سلكه من علماء المسلمين المحمودين عند الأمة لا من الأولين ولا من الآخرين، ولا يسوغ لعاقلٍ أنْ يسلكه فضلًا عنْ أَنْ يسلك مثله في الأحكام الشرعية _________ (1) هو: علي بن الحسين، القاضي، أبو الحسن الجوري، والجور بضم الجيم ثم واو ساكنة ثم راء بلدةٌ من بلاد فارس، أحد الأئمة أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي، ومن تصانيفه كتاب (المرشد في شرح مختصر المزني). انظر: طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح (2/ 614)، طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 394)، طبقات الشافعية للسبكي (3/ 457). (2) زيادة من «التحقيق». (3) في الأصل: (وسنعترض). (4) «التحقيق» (34/ ب).

(1/134)


المتلقاة عن الأدلة النبوية المتبع فيها سبيل من سلف قبلنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان. وذلك أنه أراد أن يثبت أقوال السلف وإجماعهم بنقل منقطع، ونقلٍ عَلِمَ خطأَ صاحبه، ونقلٍ لا يدل على مقصوده، ونقلِ طائفةٍ ظنت إجماعًا؛ وينفي مع ذلك نقل هؤلاء وغيرهم لأقوال الصحابة والتابعين المشهورة عند عامة أهل العلم المذكورة في عامة كتب الإجماع والخلاف؛ وذلك أنه أراد أن يثبت إجماعهم على الطلاق وليس معه نقلٌ صحيحٌ صريحٌ عن أحدٍ من الصحابة - رضي الله عنهم - بأنَّ الطلاق المحلوف به يقع، فضلًا عن أن يكونوا مجمعين على ذلك، بل ويُثبت إجماعَ التابعين ومن بعدهم إلى زماننا ويطعن فيما استفاض عنهم من قولهم في العتق المحلوف به أنه لا يلزم، بل وفيما استفاض عنهم من أنَّ التعليق الذي يُقصدُ به اليمين يمينٌ (1)؛ فيأتي إلى الروايات الثابتة على شرط الصحيحين التي تداولها أهل العلم قديمًا وحديثًا يُعللها بعلل لا يُقْدَحُ فيها عند أهل العلم، مع أنَّ أهل العلم بالإجماع والاختلاف الذين يَعتمد هو وأمثاله في الإجماع في هذه المسألة على نقلهم كلُّهم متفقون على نقل النزاع في العتق، ومعهم غيرهم ممن ينقل النزاع في الطلاق ــ أيضًا ــ، والذين اعْتَمَدَ في نقل الإجماع على قولهم؛ أولهم أبو ثور كمحمد بن نصر وابن جرير وابن عبد البر، ومن أخذه عن ابن عبد البر كابن رشد الحفيد (2)، ومن نقل إجماع منْ يحفظ قوله في المسألة كابن المنذر؛ _________ (1) في الأصل: (يمينًا)، والوجه الرفع. (2) انظر: بداية المجتهد (1/ 411). ومثله جَدُّه في المقدمات الممهدات (1/ 567) وانظر: (ص 169).

(1/135)


وكل هؤلاء نقلوا النزاع في (1) العتق وأثبتوه وصححوه، وهو عندهم وعند كُلِّ [40/ أ] عالم أثبتُ وأَصَحُّ (2) من نفي النزاع في الطلاق. فكيف يسوغ لمن يدري ما يقول أن يحتج بنقل هؤلاء للإجماع في الطلاق ولا يُمَكِّنَ غيره أَنْ يحتج بنقلهم للنزاع في العتق؟! مع أَنَّ العلم بالنزاع أيسر من العلم بالإجماع؛ فإن النزاع يُعرف بقول بعض أهل العلم، وأما الإجماع فلا يعرف حتى يعرف أقوال أهل الإجماع وأنه لم ينازعهم أحد من العلماء، وهذا العلم باتفاق العقلاء إما متعذر وإما متعسر (3). لا يقول عاقلٌ أَنَّ علم العلماء الناقلين لأقوال أهل الإجماع والنزاع بعدم النزاع أقوى ولا أيسر من علمهم بالنزاع؛ فإنَّ ذلك غاية أحدهم فيه عدم العلم بالنزاع، وكذلك صَرَّح أبو ثور (4) ــ إمام هؤلاء الذين نقلوا الإجماع على عدم التكفير في اليمين بالطلاق ــ، صَرَّحَ بأنَّ ما أذكره من الإجماع مرادي به عدم علمي بالنزاع، وعلى ذلك يجب أَنْ يُحْمَل كلام مثله وأمثاله من أهل العلم والعدل الذين يتقون الله ويقولون قولًا سديدًا. ومع هذا؛ فلمَّا كان يُحكى عنه وعن غيره أنه يَدَّعِي الإجماع في مثل هذه الأمور، أنكر الإمام أحمد على من يَدَّعِي هذا، وكان إنكار أحمد هذه الدعوى تتضمن الإنكار على أبي ثور خصوصًا لا سيما في مثل هذه المسألة، فإنَّ أبا ثور _________ (1) في الأصل: (وفي). (2) في الأصل: (واحتج)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) انظر ما سيأتي (ص 611، 692 - 693). (4) كتب الناسخ في الهامش: (حاشية: الثور: السيد). وانظر: مجمل اللغة (1/ 165)، لسان العرب (4/ 108).

(1/136)


كان هو أشهر الناس بالاجتهاد في عصر أحمد وغيره، وكان من أشهر الناس بالاستدلال على هذه الإجماعات، وكان أحمد يُسأل عما يَدَّعِيه هو وغيره من ذلك فيقول: (من ادعى الإجماع فقد كذب). ولهذا لم يَدَّعِ أحمد ولا إسحاق ولا أبو عبيد ولا أمثالهم إجماعًا في ذلك، بل كان غاية أحمد في العتق أَنْ يحكي ذلك عن بعض الصحابة، ويعارض بذلك بما نقل عنهم فيه. وأما الطلاق؛ فلا أحمد ولا غيره من الأئمة لا الأربعة ولا غيرهم نقلوا عن الصحابة حرفًا واحدًا في أنَّ الطلاق المحلوف به يقع، هذا مع فرط عنايته وعناية أمثاله بآثار الصحابة، وأنه كان من أحرص الناس على معرفتها واتِّبَاعِهَا، وكان يقول: (العلم أن تكتب ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء عن الصحابة، ثم أنت في التابعين مخيَّرٌ). وفي رواية: (ثم ما جاء عن التابعين) (1). وكان يقول: (ما تكلم الناس في مسألة إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها) (2). وهو كما قال؛ [40/ب] فإنَّ الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ وإنْ كانوا لم يتكلموا في الحلف بالطلاق، فقد تكلموا في نظيره وهو الحلف بالعتق والنذر، ولو كان عند أحمد أو غيره في الحلف بالطلاق لذكروه وقاسوا عليه العتق، بل أحمد لما سئل عن الطلاق المؤجل لم يكن عنده فيه عن الصحابة أثر إلا عن أبي ذر (3) في العتق المؤجل (4)، وقاس الطلاق المؤجل عليه، _________ (1) مسائل الإمام أحمد لأبي داود (رقم 1789). وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 364). (2) مجموع الفتاوى (19/ 200، 285)، الفتاوى الكبرى (1/ 156). وانظر (ص 226 - 227). (3) أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (17896) عن أبي ذر أنه قال لغلامٍ له: (هو عتيقٌ إلى الحول). (4) مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (3/ 130) قلت: الرجل يقول: أنت طالق رأس الشهر؟ قال: إذا جاز رأس الشهر طلقت؛ أذهب إلى حديث أبي ذر: هو عتيق إلى رأس الحول. وانظر: مسائل الإمام أحمد لابن هانئ (1/ 237)، وأحكام أهل الملل (ص 353).

(1/137)


وهذا بخلاف الطلاق المعلَّق بالصفة إذا قصد به الإيقاع (1) فإنَّ فيه آثارًا (2) عن الصحابة، لكن لا يلزم من جواز تعليقه بالشرط الذي يمكن وجوده وعدمه جواز تعليقه بالشرط الذي يأتي لا محالة، بل في هذا نزاعًا مشهورًا، لأنَّ هذا يوجب أن يصير النكاح مؤقتًا بوقت، فهو يشبه نكاح المتعة لكنه صار مؤقتًا بعد أنْ كان مطلقًا. ولهذا اختلف كلام أحمد في ذلك إذا كان الطلاق يوجب تحريمًا كالطلقة الثالثة هل تتوقت أم لا تتوقت؟ على روايتين، وأما الرجعي فلم يختلف كلامه أنه يتوقت، لأن الرجعية زوجة فلا تصير مثل نكاح المتعة، وقد نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - جواز توقيت الطلاق (3). والمقصود: أَنَّ هذا المعترض عمدته فيما ينقله من الإجماع على وقوع الطلاق على هؤلاء المذكورين أبي ثور ومن وافقه؛ وهؤلاء كلهم نقلوا النزاع في العتق؛ فممن نَقَلَ عمن نَقَلَ عنه من الصحابة والتابعين أن الحالف بالعتق إذا قال: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر؛ أنه لا يعتق شيء من مماليكه إذا فعله بل تجزئه كفارة يمين = نقل هذا عمن سماه من الصحابة والتابعين: أبو ثور، وذهب إلى ما نقله من ذلك، وبنى عليه مذهبه المتواتر _________ (1) في الأصل: (الإع)؛ وما أثبتُّ هو الصواب. (2) في الأصل: (آثار)؛ وما أثبتُّ هو الصواب. (3) أخرجه ابن أبي شيبة (18194).

(1/138)


عنه، وروى هذا الحديث حديث ليلى بنت العجماء عن محمد بن عبد الله الأنصاري ــ قاضي البصرة صاحب الجزء المشهور ــ (1)، عن أشعث بن عبد الملك (2) الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني. وهذه الطريق لم تبلغ أحمد بن حنبل، كما لم تبلغه طريق جسر بن الحسن عن بكر، وإنما بلغه طريق سليمان التيمي فتكلم عليها. ومعلومٌ أَنَّ علم أبا ثور بما نقله بإسناده المعروف واتبعه وجعله مذهبًا له أعظم من علمه بما نفاه من عدم علمه بالنزاع في تكفير اليمين بالطلاق؛ فكيف يجوز [41/ أ/ أ] (3) أن يعتمد على نقل أبي ثور للإجماع على نفي الكفارة للطلاق مع القدح في نقله للنزاع في العتق؟! وهو أثبت عنده وعند جميع أهل العلم وهذا يجزم به، ونفي النزاع يقول: ليس عندي فيه إلا عدم العلم بالمنازع؛ فاعتقاده لذلك الإثبات أعظم من اعتقاده لهذا النفي، وحجته في ذلك الإثبات النقلي أعظم من حجته في هذا النفي النقلي. وأحمد بن حنبل لم يطعن في هذه الطريق التي احتج بها أبو ثور وغيره على النزاع في العتق؛ وطعنهم فيه بانفراد التيمي عنه مسألة اجتهادية من أهل النقل، وأما طعن أحمد في دعوى الإجماع الذي ينقله أبو ثور ونحوه فظاهر مشهور وحجته فيه واضحة، وأحمد لم يدَّعِ إجماعًا لا في هذا ولا في هذا، _________ (1) طبع برواية أبي مسلم الكجِّي وأبي محمد بن ماسي عنه. بتحقيق: مسعد بن عبد الحميد السعدني، لدى مكتبة أضواء السلف. (2) في الأصل: (عبد الله)، والصواب ما أثبتُّ، وسيأتي على الصواب في عدة مواضع. (3) صُوِّرت هذه اللوحة مرتين، في الوجه الثاني من الصورة الأولى ورقة في الوسط تحجب ما تحتها من الأصل، وفي الصورة الثانية تم التصوير بعد إزالة الورقة؛ فرمزت للأولى بالألف الثانية. وسيأتي نظائر لذلك في لوحات أخرى.

(1/139)


فإنه كان أعلم وأعقل وأفقه وأتقى لله من ذلك، ولكن عرضت له شبهة في ذكر العتق فذكر ما عنده فيه، وهو جازم بتخطئة من جزم بالإجماع في الطلاق ونحوه، ويقول: ليس معهم في مثل ذلك إلا عدم العلم، فإن جاز أنَّ يحتج بقول أحمد: انفرد به التيمي، وقد علمنا من جهة أخرى أنه لم ينفرد به، ولكن قال أحمد بحسب ما بلغه = فَلَأَن يحتج بقول أحمد وإنكاره على من ادعى ما لا علم له به من الإجماع بطريق الأولى والأحرى؛ فإنَّ هذا يجعل عدم علمه حجة لله على جميع المسلمين يجب عليهم اتباعها، والإعراض عما بينه الله ورسوله في كتابه وسنة رسوله وعما يعارض عدم علمه من علم غيره ما في ذلك من النزاع. وأما قول القائل: لم أعلم روى هذا إلا التيمي؛ فليس في هذا إثبات حجة شرعية على غيره، وهب أن ذكر العتق في حديث ليلى لم يذكر بحال، فالنزاع في العتق عن السلف (1) معروف بدون ذلك، وقد نَقَلَ النزاع في العتق مع أبي ثور: محمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وداود بن علي الظاهري وأبو بكر بن المنذر وأبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم، ونقله عامة الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية، لكن جمهورهم يتبعون حديث ليلى بنت العجماء وأنها يمين مكفَّرة مع تنازعهم في العتق إلا ابن جرير وداود وابن حزم، فإنَّ [41/ ب/ ب] هؤلاء يقولون: بأنها ليست بشيء بل لا شيء في ذلك؛ ومع هذا فقد نقل هؤلاء في الحلف بالعتق عن الصحابة كما نقلوا عنهم التكفير في الحلف بالنذر= فَعُلِمَ أَنَّ هذا نقلٌ ثابتٌ عند الموافقين له والمخالفين له، فإنه مع اعتراف المخالف له _________ (1) في الأصل زيادة: (في العتق)، ولعل الأقرب حذفها.

(1/140)


بصحته نَعلم أنهم لم يتمكنوا من القدح فيه. وقد قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري لما تكلم على مسألة نذر اللجاج والغضب في كتابه (اللطيف) (1) قال: (وَيُسْأَلُ القائلون: إِنَّ العتق واقع بمملوكِ القائلِ: مملوكُهُ فلانٌ حر إنْ كَلَّمَ اليوم فلانًا إذا حنث في يمينه؛ أتسقطون (2) عنه [الكفارة]؟ (3)). إلى أنْ قال: (فإن ادعوا أنَّ ذلك إجماع. قيل لهم: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، وقد روي عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين أنَّ في ذلك كفارة يمين) (4). هذا نقل ابن جرير مع اختياره أنه لا يعتق ولا كفارة عليه. وكذلك ابن حزم وهو مع داود يقولون ــ أيضًا ــ: إنه لا يعتق ولا كفارة عليه، كما يقول ذلك في الحلف بالنذر، ويقولون ــ أيضًا ــ: لا تطلق المرأة _________ (1) للطبري - رحمه الله - كتاب بعنوان: (لطيف القول في أحكام شرائع الدين) وأحيانًا يُسميه (لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام) ذكره في مواضع متعددة من تفسيره وتهذيب الآثار واختلاف الفقهاء، ولا أعلم عن وجوده شيئًا. انظر: تاريخ دمشق (52/ 196)، معجم الأدباء (6/ 2458) وقد أثنى عليه ثناءً عاطرًا، سير أعلام النبلاء (14/ 273). (2) في الأصل: (المسقطون)، والمثبت من قاعدة العقود (2/ 332). (3) زيادة من الموضعين الآتيين، وقاعدة العقود. (4) ذكر المجيب هذا النص عن الطبري مرةً أخرى في (ص 698)، وبأطول منه في (ص 212 - 215).

(1/141)


المحلوف بطلاقها ولا كفارة عليه ــ وهذا قول ابن جرير ــ مع أنه يقول (1): (وصح عن عائشة وأم سلمة ــ أمي المؤمنين ــ، وعن ابن عمر أنَّه جعل في قول ليلى بنت العجماء كل مملوك لها حر وكل مالٍ لها (2) هدي وهي يهودية و (3) نصرانية إنْ لم تطلق امرأتك: كفارة يمين واحدة (4). وعن عائشة ــ أم المؤمنين ــ أنها قالت فيمن قال في [يمينٍ: مالي] (5) ضرائب في سبيل الله، أو قال: مالي [كله] (6) في رتاج الكعبة = كفارة يمين (7). وعن أم سلمة وعائشة ــ أمي المؤمنين ــ فيمن قال: عليَّ المشي إلى بيت الله إن لم يكن كذا = كفارة يمين، من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع _________ (1) من هنا بدأ نقل المجيب كلام ابن حزم من المحلى (ص 991). (2) في الأصل: (لي)، والمثبت من المحلَّى. (3) في المحلَّى: (أو). (4) أخرجه الدارقطني (5/ 288)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 174/ ح 20070). وسيأتي كلام المجيب عنه في (ص 201 - 209). (5) زيادة من المحلَّى. (6) زيادة من المحلَّى. (7) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 214)، وعبد الرزاق في مصنفه (8/ 483)، وابن المنذر في الأوسط (12/ 109 - 110)، والبغوي في شرح السنة (10/ 35) وغيرهم.

(1/142)


عنهما (1). قال: وروينا عن جابر بن عبد الله أنه قال: النذر كفارته كفارة يمين (2). وعن ابن عباس مثل هذا (3). وعن عمر بن الخطاب [نحوه] (4). وعن عكرمة والحسن فيمن قال: مالي كله في رتاج الكعبة = كفارة يمين (5). قال: وصح عن طاووس وعطاء؛ أما طاووس فقال: الحلف بالعتاق ومالي هدي وكل شيء لي [42/ أ] في سبيل الله وهذا النحو= كفارة يمين (6). وأما عطاء فقال فيمن قال: عليَّ بدنة، أو قال: عليَّ ألف حجة، أو قال: مالي هدي، أو قال: مالي في المساكين= كل ذلك _________ (1) لم أجده، والمروي من هذا الطريق ما جاء عن أم سلمة وعائشة، في قصة ليلى بنت العجماء. (2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 442). (3) أخرجه عبد الرزاق (8/ 480)، وابن أبي شيبة (12172، 12175)، وفيهما أنها يمين مغلظة. (4) زيادة من المحلَّى. والأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 177/ ح 20073). (5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 483، 489). (6) أخرجه عبد الرزاق (8/ 483).

(1/143)


يمين (1). قال: وهو قول قتادة، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر (2). قال أبو محمد بن حزم: كل هذا خلافٌ لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأنَّ الشافعي أخرج من ذلك العتق المعين. قال: والذي ذكرنا عمن ذكرنا من الصحابة والتابعين هو قول عبيد الله بن الحسن وشريك وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وبه يقول الطحاوي، وذكر أنه قول زفر بن الهذيل وأحد قولي محمد بن الحسن. قال: وقد روينا من طريق ثابتة عن ابن القاسم ــ صاحب مالك ــ أنه أفتى ابنه في المشي إلى مكة بكفارة يمين) (3). قلتُ: مقصوده بذلك النقل عن هؤلاء أنهم أفتوا في التعليق الذي يقصد به اليمين بكفارة يمين، ليس مقصوده أنهم كلهم أفتوا في العتق بعينه، بل فيهم من أفتى بذلك في العتق أيضًا؛ كأبي ثور، ومنهم من نفاه كأحمد وإسحاق وأبي عبيد، ومنهم من لم يعرف قوله في العتق. _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (8/ 483). (2) نقله عنهم أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار (15/ 47)، ولم أقف عليها مسندةً. (3) هنا انتهى النقل من المحلَّى. والرواية عن ابن القاسم أسندها ابن حزم في المحلَّى (ص 991)، وابن عبد البر في الاستذكار (15/ 43) وقال عنها: رواها الثقات العدول. وقال ابن رشد في البيان والتحصيل (3/ 474): إنْ صحَّ ذلك عنه.

(1/144)


قال (1): (وقد روينا مثل تفريق الشافعي ــ أيضًا ــ بخلاف قوله ــ أيضًا ــ عن ابن عمر وابن عباس من طريق إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن حاضر قال: حَلَفَت امرأة: مالي في سبيل الله وجاريتي حرة إن لم تفعل [كذا] (2). فقال ابن عباس وابن عمر: أما الجارية فتعتق، وأما قولها: مالي في سبيل الله فتصَّدَّق بزكاة مالها) (3). قلتُ: معنى قوله مثل تفريق الشافعي؛ أي: مثل قوله في أَنَّ العتق يلزم، لم يُرِدْ مثلَ تفريقِ الشافعي بين العتق والنذر، حيث قال في النذر كفارة يمين، وفي العتق يلزم؛ فإن هذه الفتيا إنما فيها التسوية بين العتق والنذر في لزوم الجميع، وفيها ــ أيضًا ــ أنه يجزئه أن يتصدق بزكاة ماله ليس فيها تكفير ذلك كما يقوله الشافعي وأحمد وغيرهما. قال (4): (وقد روينا مثل قول أبي حنيفة [ومالك] (5) عن ابن عمر من طريق لا يصح، وقد خالفوه ــ أيضًا ــ فيها؛ كما روينا من طريق سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا جميل بن زيد، عن ابن عمر (6) [42/ ب] قال: مَنْ حلف على يمين إِصْرٍ فلا كفارة له (7). والإصْرُ: أَنْ يحلف بطلاق أو عتاق أو مشي أو نذر، _________ (1) ابن حزم في المحلَّى (ص 991). (2) زيادة من المحلَّى. (3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (15998)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 182/ ح 20081). (4) ابن حزم في المحلَّى (ص 991). (5) ما بين المعقوفتين ليس في المحلى. (6) الكلمة غير واضحة في الأصل، والمثبت من المحلَّى. (7) لم أجده عند سعيد بن منصور في المطبوع من سننه وتفسيره. والأثر أخرجه ابن قتيبة في غريب الحديث (2/ 316)، وابن المنذر في الأوسط (12/ 131) وقال: ليس بثابت. وضعفه ابن حزم كما سيأتي.

(1/145)


ومن حلف على يمين غير ذلك؛ فليأت الذي هو خير فهو كفارته. قال ابن حزم: جميل بن زيد ساقط، ولو صح لكانوا قد خالفوه في هذا الخبر نفسه، لأنه لم يجعل فيمن أتى خيرًا مما ترك (1) أن يفعله كفارة إلا فعله ذلك فقط. قال: فإن قالوا: قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا بالكفارة. قلنا: نعم؛ وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بغير الله (2)، ونهى عن الوفاء بنذر المعصية (3)؛ فإن كان قولُهُ يمينًا فهي (4) معصية، وإن كان نذرًا فهو معصية إذا (5) لم يقصد به قصد القربة إلى الله، فلا وفاء فيه ولا كفارة؛ فحصل قول هؤلاء القوم خارجًا عن أقوال السلف). _________ (1) في المحلَّى: (حلف). (2) جاء في الباب نصوص كثيرة بالنهي والوعيد لمن حلف بغير الله؛ منها حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركبٍ وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو فليصمت» أخرجه البخاري (6108) ومسلم (1646). وحديث عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم» أخرجه ابن أبي شيبة (889)، وابن ماجه (2095). (3) فقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»، وقد تقدم تخريجه (ص 6). (4) في المحلَّى: (فهو). (5) في المحلَّى: (إذ).

(1/146)


قلتُ: ليس المقصود ذكر بحثه لقوله الذي اختاره هو أَنَّ هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين ليس نذرًا ولا يمينًا منعقدة، وهذه قول طائفة من السلف، وهي أصل مذهب داود وابن حزم أيضًا؛ لكن المقصود: جزمه وتصحيحه لما نقل عن الصحابة والتابعين من أن الحالف بالعتق إذا قال: كل مملوك لي حر إن فعلت فإنها يمين مكفرة عند من ذكر عنه ذلك من الصحابة والتابعين، وأنَّ ما ذهب إليه من إلزام الحالف بهذه التعليقات بجميع ما التزمه أو ألزمه بغير العتق فإنه مما نقله ابن حزم قولٌ خارج عن أقوال السلف، وهذا كما قال ابن حزم فإنه لا يُعْرف عن أحد من الصحابة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه ألزم الحالف بهذه الأيمان بجميع ما أَلزم نفسَهُ فيها ولا أَلزمَهُ بجميع ذلك إلا العتق، بل ولا ألزمه بجميع ذلك إلا (1) العتق والطلاق، فليس مع القائل بشيءٍ من هذه الأقوال نقل مسند (2) عن أحد من الصحابة، ولكن ذكره ابن عبد البر بلا إسناد عن عائشة (3) في استثناء الطلاق والعتاق (4). والمروي عن عائشة - رضي الله عنها - بالإسناد المعروف يناقض ذلك؛ فتارة تصرح بالتكفير في العتق وغيره (5)، وتارة يعم لفظها جميع الأيمان (6)، ولم _________ (1) كذا في الأصل، وفوقها حرف (ظ). (2) في الأصل: (سند)، والصواب ما أثبتُّ. (3) (عن) وحرف العين من عائشة غير واضح في الأصل، وبما أثبت يستقيم الكلام. (4) لم أجده مسندًا. وقد ذكره ابن عبد البر في الاستذكار (15/ 406) بلفظ: (كلُّ يمين ليس فيها طلاق ولا عتاق، فكفارتها كفارة يمين). (5) كما في قصة مولاة أبي رافع، وسيأتي ذكرها في كلام المجيب. (6) كما في قولها: (كل يمين ــ وإنْ عظمت ــ فكفارتها كفارة يمين).

(1/147)


يُسْنَد عنها لفظ تستثني [43/ أ] فيه الطلاق والعتاق فيما بلغنا، ولا ذكر ذلك أحد عنها مسندًا. فكيف يسوغ مع هذا أنْ يُنْكِرَ أقوال الصحابة - رضي الله عنهم -، أو الصحابة والتابعين في العتق مع كثرة من نقل عنهم، وجلالة أقدارهم، وسعة علمهم، وتثبتهم فيما ينقلونه، وهم يَرْوون ذلك بالأسانيد الثابتة المعروفة عن الصحابة والتابعين، ثم يَدَّعِي الإجماع على الطلاق؟! وبعضُ هؤلاء هو الذي نَقَلَ الطلاق، وقد نازعه غيره من هؤلاء، فهم متفقون على نقل النزاع في العتق مختلفون في نقل الإجماع في الطلاق، فلو لم نعلم خلافًا ثابتًا في الطلاق لكان إمساكنا عن نقل الإجماع في الطلاق مع اختلافهم فيه ونَقْلُنا للنزاع في العتق الذي اتفقوا على نقل النزاع فيه= أولى من أنْ نجزم بالإجماع في الطلاق مع ما ثبت من نقل النزاع فيه، وننفي النزاع في العتق مع ما ثبت واشتهر وعرفه الفقهاء من نقل النزاع فيه. وأما ما نقله ابن المنذر في الإشراف عن أبي ثور فيما إذا قال لعبده: إنْ لم أضربك فأنت حر وأراد بيعه؛ أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع عليه العتق، وقوله: وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا يقع (1). فيقال له: ابن المنذر نفسه ممن نقل النزاع في العتق عن الصحابة والتابعين، وعن أبي ثور نفسه، وهو في هذا النقل موافق لسائر العلماء الناقلين لأقوال السلف مسندة بألفاظها ومرسلة بمعانيها أو بألفاظها، وقول أبي ثور في العتق مشهور يعرفه عامة العلماء، فلا يحتج بمفهوم نقل ابن _________ (1) تقدمت الإشارة له في (ص 133).

(1/148)


المنذر على نقيض ما صرح به هو وغيره. بل قوله: (إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق عليه) كلامٌ صحيحٌ؛ ومقصوده: أنه يخالف قول من يقول: يقع العتق عليه، أو يُلْزَم بإيقاع العتق إما مطلقًا وإما مع نية القربة، كما هو قول كثير من أهل العلم، وأبو ثور يقول في مثل ذلك: لا عتق عليه ولا كفارة، وابن المنذر لم يقل ولا كفارة عليه، مع أنَّ هذا مذهب أبي ثور في هذا الموضع، وأما بعد وجود الصفة فمذهبه أنه إن شاء أعتقه، وإن شاء كَفَّر ولا عتق عليه. وما نقله عن الحسن؛ إن صحَّ كان روايةً عن الحسن (1). وقد روي عنه رواية أخرى ذكرها حرب: أنه يستثني [43/ ب] الطلاق والعتاق (2). وقد نُقِلَ عن غير واحد من التابعين في هذا الأصل اختلاف؛ كما نقل عن الشعبي وغيره (3)، والرواية التي ذكرناها عن الحسن في العتق ثابتة معروفة، وقد نَقَلَ ذلك عن الحسن عامة العلماء مثل: أبي ثور، ومحمد بن _________ (1) نقله المعترض كما سبق (ص 133). (2) ساق المصنف - رحمه الله - إسناد حرب الكرماني في القواعد الكلية (ص 471): عن معتمر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن قال: (كل يمين ــ وإِنْ عظمت ــ ولو حلف بالحج والعمرة، وإِنْ جعل ماله في المساكين؛ ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حَلَفَ، أو عتق غلام في ملكه يوم حلف؛ فإنما هي يمين). وانظر: مجموع الفتاوى (35/ 259)، الفتاوى الكبرى (4/ 121). (3) سينقل المصنف إسناد أثر الشعبي وغيره من كتاب اللطيف لابن جرير، كما في (ص 214).

(1/149)


نصر، وابن عبد البر، وقد ذكرنا الإسناد الثابت عن الحسن، وقد رواه حماد بن سلمة في (جامعه) المعروف عن حبيب بن الشهيد أنه سأل الحسن البصري عن رجل قال: (كل مملوك له حر إِنْ دخل على أخيه. فقال: يكفر يمينه). وكذلك نقله ابن عبد البر. وأما ما نقله (1) عنه من قوله لعبده: (إِنْ بعتك فأنت حر؛ أنه يعتق من مال البائع)، فهذا لم يذكر إسناده؛ ومع هذا فينبغي أَنْ يُعرف أَنَّ ما ذكرناه صريح عنه بأنه إذا قصد اليمين كفر يمينه ولا يلزمه العتق، لأن هذه الصيغة وهو قول: كل مملوك له حر إن فعل كذا؛ لا يقصد به في العادة إلا اليمين، فالصيغة ظاهرة في اليمين، بخلاف قوله: إن بعتك فأنت حر؛ فإنه لا يظهر فيها قصد اليمين كما يظهر في تلك، فقد يكون الحسن لم يتبين له أَنَّ هذا قَصَدَ اليمين، بل رآه تعليقًا للعتق فرتَّب عليه موجبه، وكذلك ما نقل عنه في الطلاق. وقد تكون الصيغة التي تحتمل قصد اليمين وقصد العتق والطلاق يحملها على ذلك، ولا يقبل من القائل خلاف ذلك بخلاف ما يظهر منه قصد اليمين؛ وذلك أَنَّ قولَهُ: إن بعتك فأنت حُرٌّ؛ قد يقصد به: أَيَّ وقت قصدتُ إخراجَكَ من ملكي بالبيع فأنت حر يقصد إعتاقه، ولهذا جعله يَعتق من مال البائع، فإنه ليس مراده: إذا بعتك بيعًا يخرج به عن ملكي؛ فإنَّ هذا لا يقصده عاقل، فإنه جَمْعٌ بين المتناقضين، بل يكون مراده: إذا قصدتُ أَنْ أبيعك وعقدتُ بيعك، فالبيع باطل وأنت حُرٌّ لوجه الله؛ ومن أراد هذا عَتَقَ _________ (1) أي: المعترض في صفحة (133).

(1/150)


عليه من ملكه، فنجمع بين قولي الحسن ولا نضرب أحدهما بالآخر (1). وما نقله أبو الحسن الجُوري عنه (2) من أنه إذا باعه على أنه لا خيار لواحد منهما، لم يكن لهما خيار المجلس فلا يعتق، فهذا نَقْلٌ [لا] (3) يُعرف إسناده، ولا الناقل من المشهورين بنقل أقوال الصحابة والتابعين العارفين بها؛ فلا يعارض مثلُ هذا النقلِ الثابتَ بالإسناد المعروف [44/ أ]. وهذا يناقض قوله: إنه يعتق من مال البائع مطلقًا، وهذا القول هو معروف لبعض المتأخرين من أصحاب أحمد الذين يعللون العتق بكون البائع له في مدة الخيار أن يعتقه، بخلاف ما إذا لم يكن له خيار. وقال هؤلاء: يعتق إلا إذا شرط نفي الخيار، وقلنا: يصح الشرط، فإنَّ هذا هو إحدى الروايتين عن أحمد. وأما الشافعي فعنده هذا شرط باطل، لأنه إسقاط للحق قبل وجوبه بخلاف ما إذا أسقطه في المجلس، وأحمد عنده في الموضعين روايتان، لأنَّ الإسقاط قَارَنَ سبب الإيجاب. * * * * _________ (1) انظر ما سيأتي (ص 735). (2) أي: عن الحسن؛ كما تقدم في أول الفصل. (3) يوجد طمس هنا، وبما أثبت يستقيم المعنى.

(1/151)


فصلٌ قال المعترض: (ولو صَحَّ الخلاف في مسألة العتق لم يَلزم طرده في الطلاق للإجماع المتقدم، وللفرق الذي سنذكره ــ إن شاء الله تعالى ــ. وقد تمسك في النقل عن الصحابة الذين ذكرهم في العتق بالأثر الذي يذكره، وذلك لو ثبت لا يفيده للفرق الذي سنذكره ــ إن شاء الله ــ، وللإجماع على الطلاق المانع من الإلحاق. فقد عَرَّفْتُكَ ــ فيما تقدم ــ أني تتبعت أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم إلى زمننا هذا؛ فلم أعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف!) (1). قوله: (لو صح الخلاف في العتق لم يلزم طرده في الطلاق للإجماع)؛ فعنه جوابان: أحدهما: أَنَّ المجيب لم يذكر النزاع في الطلاق أخذًا له من النزاع في العتق، بل الطلاق فيه نزاع مذكور فيه بخصوصه بين السلف والخلف، لا نحتاج في نقل النزاع في الطلاق إلى نقله في العتق، وليس في كلام المجيب قط أَنَّ النزاع في الطلاق ذُكِرَ لأجل النزاع في العتق، وإنما ذَكَرَ النزاع في العتق لأنَّ أحدًا من السلف والأئمة المشهورين لم يفرق بين الطلاق والعتاق، بل يقولون بلزومهما جميعًا؛ فإذا عُرِفَ الخلاف المشهور عن الصحابة والتابعين _________ (1) «التحقيق» (35/ ب).

(1/152)


في العتق= كان الدليل الدال على أنه لا يلزم بل يجزئ فيه كفارة يمين هو بعينه يدل على ذلك في تعليق الطلاق وأولى، فيكون ذلك عملًا بالدليل الجامع لهما، واستثنينا النزاع في العتق لئلا يَدَّعِي من لا يعلم النزاع فيه أنَّ فيه إجماعًا؛ كما ادعى ذلك طائفة ادعوا أَنَّ الطلاق والعتاق لا كفارة فيهما بالإجماع [44/ ب] إذ كان لم يبلغهم النزاع في ذلك فذكروا ما عندهم. ولهذا أنكر ابن جرير الطبري (1) على هؤلاء وقال لمن ادعى ذلك: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، ثم ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في إجزاء الكفارة في الحلف بذلك إذا قال: إِنْ فعلت كذا فمملوكي حر؛ وكان ما نَقَلَهُ هؤلاء الأئمة وما يُنْقَلُ بالإسناد الثابت يتضمن الرد على من يحرف الكلم عن مواضعه، ويجعل قولهم في الحلف بالعتق إذا قال: العتق يلزمني وأراد به نذر العتق لا إيقاعه؛ مع أَنَّ هذا كما زعمه المعترض مع أنه يقول في قوله: الطلاق يلزمني؛ أنه إيقاع (2). فيقال له: كلا اللفظين سواء؛ والمشهور عند الناس إذا قال أحدهم: العتق يلزمني أو الطلاق يلزمني؛ أنه جعل اللازم له وقوع الطلاق والعتق، لم يجعل اللازم له إيقاعًا في ذمته حتى يكون بمنزلة الناذر لذلك (3). وكذلك قولهم: أيمان المسلمين تلزمني والحرام يلزمني ونحو ذلك؛ إنما يريد به الناس في العرف المعروف بينهم أنه يلزمه أن يكون الحلال حرامًا، لم يرد أنه يلزمه أن ينشئ بعد ذلك تحريمًا للحلال. _________ (1) في كتابه (اللطيف) كما تقدم (ص 141). (2) عبارة المجيب من قوله: (ويجعل قولهم في الحلف بالعتق) إلى هنا فيها إشكال. (3) في الأصل: (كذلك)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/153)


وكذلك إذا قال: أيمان المسلمين تلزمني؛ مراده: أنه يلزمني ما يلزم المسلمين في أيمانهم إذا حلفوا بها، لم يرد أنه يلزمني أن أحلف بها فيما بعد. الثاني: أن الصحابة والتابعين الذين أفتوا في قوله: إِنْ فعلتُ كذا فكل مملوك لي حر؛ إذا كانوا قد عللوا ذلك بأنه يمين وسووا بين ذلك وبين قوله: إِنْ فعلت فمالي في سبيل الله ومالي هدي= عُلِمَ أَنَّ الفرق الذي يذكره مَنْ يُفَرِّق بين الحلف بالعتق والحلف بالنذر باطل عندهم، وأَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمينٌ (1) عندهم سواء كان المعلَّق وجوبًا في الذمة أو كان المعلَّق وقوعًا في عين. فعلم بذلك أن ما يذكره المعترض وغيره من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يُفَرِّقُ بين الطلاق والعتاق وبين النذر باطل عند هؤلاء الصحابة والتابعين، وأَنَّ مناطَ الحكمِ عندهم كونه قَصَدَ اليمين دَلَّ (2) على ذلك كلامهم؛ وحينئذٍ فيستدل بذلك على أن كل من قصد اليمين (3) بتعليقه هو حالفٌ عندهم، وإنْ كان المعلق وقوعًا. والشافعي [45/ أ] وأحمد وغيرهما من الفقهاء طردوا أقوال الصحابة والتابعين في جنس الحلف بالنذر، وليس معهم إلا فتياهم في بعض الصور، لأنهم جعلوا ذلك يمينًا وعلقوا الحكم بذلك. _________ (1) في الأصل: (يمينًا)، والجادَّة الرفع. (2) مقدار كلمة لم أستطع قراءتها، ويظهر في آخرها حرف اللام، ولعلها ما أثبتُّ. (3) كلمة (اليمين) لم يظهر منها إلا بعض الحروف، وبها يستقيم الكلام.

(1/154)


وهذا معنى عام لكل ما يقصد به اليمين من التعليقات مثل قوله: إِنْ فعلت كذا فمالي في الأضاحي ومالي وَقْفٌ ونحو ذلك مما لم ينقل عن الصحابة، وكذلك إذا قال: إِنْ فعلت كذا فالحلُّ عليَّ حرام وأنت عليَّ كظهر أمي وامرأتي طالق؛ هذا ــ أيضًا ــ إنما قَصَدَ به صاحبه اليمين، فالمعنى الذي جَعَلَ الصحابةُ التعليقَ يمينًا لأجلِهِ موجودٌ في هذه التعليقات، وعموم علتهم تتناوله كما تتناول غير ذلك من الصور. ومعلوم أن العلماء كلهم إذا أفتى أحدهم في عين أو نوع وعَلَّلَ ذلك بعلة يوجد في غيرها= لزم أن يكون قوله في تلك الصورة كذلك؛ ولهذا ينقل الناس مذاهب السلف إذا عرفوا عللهم ومآخذهم، لاسيما إذا لم يكن بين الصورتين فرق يذهب إليه مجتهد (1)، وليس بين الطلاق والظهار والحرام وبين العتق فرق يذهب إليه مجتهد، بل كل من تدبر الشرع علم قطعًا أنه إذا كان قوله: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر= لا يلزم عتق شيء من مماليكه، بل تجزئه كفارة يمين= فقوله: إِنْ فعلت كذا فأنتِ عليَّ كظهر أمي والحِلُّ عليَّ حرام ونسائي طوالق= أولى ألا يقع به الظهار والتحريم والطلاق، بل تجزئه كفارة يمين؛ فإنَّ العتق يتشوف إليه الشارع، وهو من القُرَبِ والطاعات، وله سراية ونفوذ في ملك الغير، وهو مما يلزم بالنذر إذا نذره وقد جعله واقعًا عند وجود الصفة. ثم هؤلاء الصحابة والتابعون لهم بإحسان الذين أفتوا بأنه لا يقع العتق الذي عَلَّقَهُ بالصفة وجعله واقعًا عند وجود الصفة لكونه قصد اليمين لم _________ (1) مجموع الفتاوى (29/ 40)، الفتاوى الكبرى (4/ 26)، القواعد الكلية (ص 252). انظر (ص 160، 274 - 276، 278 - 280، 288 - 290).

(1/155)


يقصد الإيقاع ولا الوقوع إذا وجدت الصفة، بل هو من أبعد الناس عن ذلك= يقولون ــ أيضًا ــ: إنه لا يلزمه الظهار والتحريم والطلاق الذي جعله واقعًا عند وجود الصفة إذا قصد به اليمين بطريق الأولى والأحرى. فإنَّ الشارع على الالتزام بالطلاق أبعد منه عن الالتزام بالعتاق، والعتق يأمر به ويحض عليه، والطلاق لا يأمر به إلا إذا لم يقوما بالواجب، [45/ ب] بل يحرمه في مواضع باتفاق المسلمين، وفي مواضع أخر إما أن يكرهه أو لا يستحبه بل يحب تركه. وهذا المعترض ونحوه ممن يقول على هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - ما لم يقولوه من التفريق بين الطلاق والعتاق يقول: إنهم أخطأوا في هذا القول والتفريق، فيحكي عنهم قولًا يَشهد بفساده، ولم يقولوه قط، ولا قالوا ما يدل عليه، ولا نُقِلَ عنهم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، بل كلامهم الثابت عنهم يدل على أنهم يُسوون بين النوعين ويقولون بالتكفير فيهما. وهذا القول إذا قالوه لم يمكن أحدًا أن يقول: إنهم تناقضوا وأخطأوا، بل يكون الذي قالوه موافقًا للكتاب والسنة والقياس الجلي؛ فأي الفريقين أولى بالصواب: مَنْ يحمل أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان على ما يدل عليه لفظهم وتعليلهم وسائر كلامهم مع أنه صواب مستقيم موافق للمعقول والمنقول للكتاب والسنة والقياس الجلي، أم من يحمل كلامهم على شيء لم يقولوه ولم يقولوا ما يدل عليه لا لفظًا ولا معنى بل قالوا ما يدل على نقيضه؟! ثم مع نقله هذا عنهم يقول: إنهم أخطأوا وغلطوا؛ فلينظر أي الطريقين أحق بالصواب وأعلم وأصدق وأعدل وأقوم بما أوجبه الله ــ عز وجل ــ من حقوق

(1/156)


الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وبما يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار؟ وهذا الذي يُقَوِّلُهُم ما لم يقولوه ويزعم أنهم أخطأوا ليس معه بذلك نقل عنهم أصلًا، لكن معه عدم علم أبي ثور بالنزاع في مسألة الطلاق، وعدم علم من اتبعه؛ فكان عدم علم هؤلاء عند هذا المعترض وأمثاله موجبًا لما سلكه من تقويل الصحابة ما لم يقولوه، بل قالوا ما يدل على نقيضه، وتخطئتهم فيما قوَّلهم إياه مع أنهم أحق الناس بالصواب في هذا وغيره. فإنَّا كما أَنَّا نعلم مجملًا أنهم فوقنا في كُلِّ علم وهدى وفقه وفضل وفهم وكُلِّ سببٍ ينال به علم أو يدرك به حق= كان رأيهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا، فإنا ــ ولله الحمد ــ قد علمنا مفصلًا أن أقوالهم التي يخالفهم فيها مَنْ بعدهم هي الصواب دون قول منازعيهم، كما عرفنا ذلك في مسائل الأيمان والطلاق وغير ذلك. وأبو ثور - رحمه الله - [46/ أ] لم يفرِّق بين الطلاق والعتاق بفرقٍ معنوي ولا دليلٍ شرعي من الكتاب والسنة يذهب إليه المجتهد من الصحابة، بل جعل ذلك موضع استحسان، وجَوَّزَ تخصيص العلة لغير فوات شرط ولا وجود مانع لما ظنه من الإجماع (1). ومعلومٌ أن هذه طريقة باطلة؛ وهي ممتنعة من الصحابة، فإنه لا إجماع قبل زمانهم يَعتمدون عليه كما اعتمد عليه أبو ثور ونحوه (2)، والحلف بالطلاق في عهد الصحابة كان أقل من غيره، وقد علم يقينًا أنه لم يكن فيه _________ (1) انظر ما سيأتي (ص 160 - 161، 378). (2) انظر ما سيأتي (ص 168 - 169، 345، 377، 676).

(1/157)


إجماع في عهد الخلفاء الراشدين، بل ولا ينقل عن أحد منهم الإفتاء فيه ولا الحكم في شيء منه، ولا هو مما يدل القرآن عليه دلالة بينة، ولا فيه سنة معروفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تقدم عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - ونحوهم من الصحابة الذين أفتوا في الحلف بالعتق والنذر بالكفارة لكون ذلك يمينًا = لم يتقدمهم من الخلفاء - رضي الله عنهم - نقل مشهور في الحلف بالطلاق يُظَنُّ أنه إجماع ليفعلوا ما فعل أبو ثور، بل لا يُعرف قَطُّ عن أحدٍ من المسلمين قبل أبي ثور أنه فَرَّقَ بين الحلف بالطلاق والعتاق. وابن جرير إنما فَرَّقَ موافقة لأبي ثور لعدم العلم بالنزاع، لأنَّ له في دعوى الإجماع أصلًا ضعيفًا؛ فإنه يجعل قول الجمهور إجماعًا ولا يعتد بخلاف الواحد والاثنين (1)، بخلاف ما يحكيه من النزاع فإنه ليس له فيه أصل ضعيف؛ فلهذا كان الواجب أن نعتمد على نقله للنزاع دون نقله للإجماع كما فعله المجيب، دون ما فعله المعترض ونحوه من اعتماده على نقله للإجماع دون نقله للنزاع. والمقصود: أَنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - لم يسبقهم إجماع يعتمدون عليه ليظنوا إجماعًا كما ظنه أبو ثور. والشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة يذكرون أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يَدَّعون الإجماعات في مثل هذه الأمور. قال الشافعي: [ ... ] (2). _________ (1) انظر ما تقدم (ص 9). (2) بياض مقدار سطر ونصف.

(1/158)


فلو فرقوا لم يفرقوا إلا بكتاب أو سنة أو قياس، ومن المعلوم أنه ليس في [46/ ب] الكتاب والسنة فرق بينهما ولا في القياس، بل الفرق بينهما خطأ محض، كما اتفق على ذلك سلف الأمة وجمهورُها، لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء أنه فرق بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتاق، بل كلهم متفقون على أن هذا الفرق خطأ، وكلام الصحابة الذين سَوَّوا بين العتاق والنذر بل والذين أفتوا في النذر بالكفارة يدل على التسوية، وأن التعليق الذي يقصد به يمين من أيمان المسلمين هو يمين عندهم ليس إيقاعًا لعتاق ولا نذر ولا ظهار ولا تحريم ولا طلاق. فتبيَّن أَنَّ المجيب ذكر نصوصهم في العتق لِتَبِينَ (1) بذلك أقوالهم في الطلاق = كان ما سلكه أحسن مما يسلكه المعترض، حيث جعل قولهم ما لم يقولوه من الفرق، وَخَطَّأَهم في ذلك لمجرد ظَنِّ ظانٍّ بعدهم بأكثر من مائتي سنة أنه لا يَعرف نزاعًا في الحلف بالطلاق، والحلف بالطلاق لا يُعرف عن أحدٍ من الصحابة بإسناد ثابت صريح أنه يلزم، ولا يُعْرَف أَنَّ أحدًا نقل ذلك عنهم، بل من نقله إما أن ينقله بإسنادٍ ضعيفٍ بل مكذوبٍ، أو بلفظٍ لا يدل دلالة بينة، مع أن الأظهر عنهم نقيض ذلك؛ وغايته أن ينقله عن ابن عمر الذي اختلفت النقول عنه في التعليق الذي يقصد به اليمين. نُقِلَ عنه: أنه يُلزِم به؛ نُقِلَ ذلك عنه من وجه صحيح ووجه متوسط ووجه ضعيف. ونُقِلَ عنه من وجوه أثبت من ذلك: أنه لا يُلْزِم به، بل يقول فيه بالتكفير؛ نقل ذلك عنه من وجه صحيح ومن وجه متوسط، وفيه أنه رجع عن ذلك القول، ومثل هذا يوجب أن يكون عنه روايتان في هذا الأصل، وكثيرًا ما اختلف _________ (1) الكلمة غير منقوطة، وتحتمل: (لِيُبَيِّنَ).

(1/159)


اجتهاده واجتهاد غيره من الصحابة - رضي الله عنهم -. وهذا الأصل ـ وهو أن هذا التعليق الذي يقصد به اليمين ـ هل هو يمين أم لا؟ مما اختلف فيه اجتهاد التابعين ومن بعدهم، وصار إلى كل قول طوائف من أكابر العلماء، كما اختلفوا في مسألة نذر اللجاج والغضب. فإذا قيل عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يقول بهذا تارة وبهذا تارة = كان هذا مما يليق بمثله وأمثاله من أهل العلم والدين، وابن عمر قد أفتى في روايةٍ بالتكفير في العتق (1) ورواية الإلزام بالعتق، فإنَّ الحلف بالعتق كالحلف بالنذر، تارة يقول [47/ أ] بتكفير الجميع وتارة يقول بأنه يلزم الجميع، لم يُقَوِّلْهُ أَحَدٌ ولا نَقَلَ عنه أحد أنه يفرق بين العتق والنذر، فَيُلْزِمُ بالعتق ويقول في النذر بالتكفير، مع أَنَّ هذا قولُ جماعةٍ من أكابر العلماء كالشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن نصر وغيرهم، ولهؤلاء مأخذ قد يشتبه على أكابر المجتهدين، وإن كان جمهور الناس على إبطال هذا الفرق وإفساده. فإذا كان الصحابة لم يَرُجْ عليهم مثل هذا الفرق، ولم يُفَرِّقْ أحدٌ منهم بين العتق والنذر فيلزمون بالعتق دون النذر، بل كان ما أعطاهم من العلم والإيمان كاشفًا لهم عن فساد هذا الفرق؛ فكيف يظن بهم أنهم فرقوا بين الطلاق والعتاق مع أَنَّ هذا لم يقله أحد قبل أبي ثور؟! ولا بينهما فرق معنوي يجوز أن يذهب إليه مجتهد. وأبو ثور - رحمه الله - لم يذهب إلى الفرق لفرقٍ معنوي يَذْهَبُ إليه مجتهد، _________ (1) في الأصل: (التكفير للعتق)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/160)


بل جعله استحسانًا خارجًا عن القياس لغير معنًى أصلًا، ولا ذكر معنى اختص به الطلاق يفرق بينه وبين العتق، بل لظنه الإجماع؛ فمن ادعى بعد هؤلاء فرقًا معنويًا يدل عليه كتاب وسنة وقياس = فهو المبتدع قولًا في الإسلام لم يَسْبِقهُ إليه أحد، ولا يُحكى هذا عن أحد من العلماء البتة؛ فكيف إن اعترف بفساد الفرق؟! وقول هذا لا [ ... ] (1) الأمة من الصحابة والتابعين وجعلهم مخطئين مع أنه ليس في كلامهم ما يدل على الفرق، بل على التسوية والجمع بين ما جمع الله ــ عز وجل ــ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بينهما؛ فالله ــ تعالى ــ ينتصر لأوليائه الذين هم صفوة الأمة وخلاصتها، ويُبيِّن الحق، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وهو الذي أرسل رسوله (2) بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا. ومعلومٌ أَنَّ أصحاب الأئمة كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والثوري وإسحاق لا يرضون لأئمتهم بهذا، بل إذا نَصَّ أحدهم على مسألةٍ لعلةٍ وَنَصَّ على نظيرها بخلاف ذلك، فإنه إنْ كان بينهما ما قد يُظَنُّ أنه فَرْقٌ مؤثِّر اختلف اجتهادهم؛ فمنهم من يرى التسوية [فيحكي] (3) لذلك الإمام في المسألة قولين، وينصر في أحدهما خلاف نصه، ويجعله قوله [47/ ب] حيث كان مقتضى تعليله، ومنهم من يرى أَنَّ ذلك فَرْقٌ صحيحٌ فيفرِّقُ بينهما وينتصر لصحة الفرق، وأما أَنْ يَنقل عن إمامه الفرق مع اعترافه بفساد الفرق _________ (1) كلمة مطموسة لم يظهر منها إلا حرف الألف والنون (ـان). (2) في الأصل: (رسله)، والصواب ما أثبتُّ. (3) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.

(1/161)


ويجعل ذلك قوله؛ فهذا لا يرضى به أصحاب الأئمة لهم، بل يقولون نصه على فردٍ من نوع نَصٌّ على ذلك النوع؛ فكيف يُرضى لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان بما لا يُرضى لمن بعدهم؟! مع أَنَّ غايةَ مَنْ بعدهم خصوصًا في هذه المسائل أنْ يتبعهم فيها. فهذا الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد غايتهم أن تبعوا فيها ما روي عن أولئك، والشافعي أَصْلُ قوله هو قول عطاء، وعليه فَرَّع كما صَرَّحَ بذلك في كتبه (1)، ولو علم الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم ما قاله الصحابة في العتق لم يعدلوا عنه؛ لكنَّ الشافعي بلغه أثر ليلى مجملًا ولم يكن عنده به إسناد، ولا ذكر إسناده ولا متنه في كتبه، بل قال: (ولو قال: مالي في سبيل الله أو صدقة على معاني الأيمان؛ فمذهب عائشة وعدد من الصحابة وعطاء والقياس: أَنَّ عليه كفارة يمين) (2)، وهؤلاء العدد هم المذكورون في حديث ليلى بنت العجماء مثل ابن عمر وزينب ومثل ابن عباس وأبي هريرة وحفصة وأم سلمة، وَنُقِلَ قبلهم عن عمر؛ فهؤلاء السبعة مجموع الصحابة الذين نَقَلَ عنهم ذلك الشافعي، كما ذكر أصحابه وغير أصحابه، واعتمد أصحابه وغير أصحابه على حديث ليلى بنت العجماء، وعليه اعتمد أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة. وأما أبو حنيفة ومالك فلم يبلغهما ذلك، ولو بلغهما لم يعدلا عنه مع موافقته للقياس ولدلالة القرآن؛ كيف وقد اتبعا - رضي الله عنهما - فيما إذا حلف بذبح _________ (1) الأم (3/ 656). (2) الأم (3/ 656).

(1/162)


ولده فتيا بلغتهما عن ابن عباس؟! فأبو حنيفة يقول بها مع اعترافه بمخالفتها القياس (1)، ومالك ــ أيضًا ــ يقول بها؛ فتارة يوجب هديًا وتارة كفارة يمين (2)، وكل ذلك منقول عن ابن عباس، وهما لا يقولان بذلك في سائر نذور المعاصي. وأحمد بن حنبل ــ أيضًا ــ اتبع ابن عباس في ذلك وقال بقوليه، فإنَّ ابن عباس ثبت عنه الإفتاء في ذلك بكفارة يمين، وثبت عنه الإفتاء بهدي؛ وكذلك أحمد بن حنبل أفتى تارة بكفارة يمين وتارة بهدي كما أفتى ابن عباس (3). [48/ أ] لكن من الناس من يظن أن ابن عباس اختلف كلامه في ذلك، كما يظنون ذلك بأحمد بن حنبل ــ أيضًا ــ، ولهذا ذكر أصحابه عنه في ذلك روايات: رواية أنه يجب فيه الهدي؛ وهي اختيار أكثرهم كالقاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه، ورواية أنه يجب فيه كفارة يمين لأنه معصية؛ وكفارة نذر المعصية عنده كفارة يمين وهو اختيار أبي الخطاب وأبي محمد، ورواية ثالثة بالجمع، ورواية رابعة لا شيء عليه كقول الشافعي. والصحيح الذي كان أحمد بن حنبل يفتي به، وهو حقيقة قول ابن عباس: أنه إنْ نذر ذبح ولده تقربًا إلى الله ــ تعالى ــ أجزأه كبش، لأنه بدل النفس كما فدا الله الذبيح بكبش، وإن حلف بذلك فقال: إنْ فعلت كذا فعليَّ _________ (1) المبسوط (8/ 139). (2) المدونة (1/ 576). (3) الروايتين والوجهين (3/ 70).

(1/163)


ذبح ولدي فهنا (1) يجزئه كفارة يمين، لأنه حالف بالذبح لا ناذر له (2). وهذا الفرق حقيقة قول ابن عباس وغيره من الصحابة يفرقون بين النذر وبين الحلف بالنذر، وهو حقيقة مذهب أحمد بن حنبل، وهو ــ أيضًا ــ حقيقة قول أبي حنيفة إذا نذر المعصية لقصد الحلف لا لقصد النذر فعليه كفارة يمين، وكذلك ذكر الخراسانيون من أصحاب الشافعي. والمقصود: أَنَّ الأئمة الأربعة وغيرهم مِن اِتِّبَاع الصحابة وتعظيم أقوالهم بهذه المنزلة، ولكن قد يخفى عليهم بعض أقوالهم، كما قد يخفى عليهم بعض النصوص؛ ولهذا لم يُفْتُوا في الحلف بالعتق ونحوه بكفارة يمين لَمَّا لم يبلغهم ذلك عنهم، كما لم يفت أبو حنيفة ومالك في الحلف بالنذر بكفارة يمين لَمَّا لم يبلغهم ما قال الصحابة في ذلك، ثم أبو حنيفة رجع إلى أصل الصحابة قبل موته بثلاث، ومالك خالفه ابن وهب (3) وابن _________ (1) في الأصل: (وهنا). (2) أخرج هذه المرويات عن ابن عباس: ابن حزم في المحلى (995 - 996)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 194 - 199). ووجَّه البيهقي اختلاف المرويات عن ابن عباس بقوله: (اختلاف فتاويه في ذلك (فيمن نذر أَنْ ينحر نفسه) وفيمن نذر أن ينحر ابنه يدلُّ على أنه كان يقوله استدلالًا ونظرًا، لا أنه عرف فيه توقيفًا، والله أعلم). وانظر لزامًا: قاعدة العقود (1/ 282 - 284)، والمسائل الفقهية التي حُكِيَ فيها رجوع الصحابة (2/ 701). (3) عبد الله بن وهب بن مسلم، أبو محمد المصري، ولد سنة خمسٍ وعشرين ومائة، روى عن مالك والليث وخلق كثير، توفي سنة سبعٍ وتسعين ومائة، عن اثنين وسبعين عامًا. ترتيب المدارك وتقريب المسالك (3/ 228 - 243)، الديباج المذهب لابن فرحون (ص 132)، سير أعلام النبلاء (9/ 223).

(1/164)


أبي الغمر (1) وغيرهما من أصحابه (2)، وكان ابن وهب أعلم بالآثار، ولم يكن مالك يكتب إلى أحدٍ (الفقيه) إلا إليه (3). وأما نقل أبي ثور ومحمد بن نصر وابن عبد البر للنزاع فقد اعترف به (4) هذا المعترض، ونقل ما ذكره ابن عبد البر من نقل محمد بن نصر لكلامهم وكلام أبي ثور، وقد نقلت أنا كلام محمد بن نصر من مصنفه في الاختلاف (5)، كما نقله منه ابن عبد البر، وقد ذكر هذا المعترض ذلك نقلا له من الاختلاف (6). [48/ ب] قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي (7): (إذا حلف بالمشي إلى مكة أو بثلاثين حجة أو بصيام أوجبه على نفسه في اليمين أو بغير ذلك من الأيمان سوى الطلاق والعتاق؛ فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك: ففي قول أصحابنا كلهم كفارة يمين [و] (8) ليس عليه أكثر من ذلك، _________ (1) عبد الرحمن بن عمر بن أبي الغمر، أبو زيد، ولد سنة (160)، رأى مالكًا ولم يأخذ عنه، وكان فقيهًا متقنًا، توفي سنة (234). ترتيب المدارك (4/ 22)، الديباج المذهب (ص 148). (2) مجموع الفتاوى (32/ 84) (33/ 320). (3) ترتيب المدارك (3/ 230 وما بعدها). (4) كلمة غير واضحة تحتمل ما أثبتُّ. (5) كلمة (الاختلاف) غير واضحة؛ ولعل ما أثبتُّ هو الصواب، لأنَّ للمروزي كتابًا بعنوان (اختلاف الفقهاء). (6) في الأصل كلمة لم يظهر منها إلا هذه الأحرف: الا، ولعلها ما أثبتُّ. (7) في كتابه اختلاف الفقهاء (ص 491). (8) إضافة من (اختلاف الفقهاء) للمروزي.

(1/165)


وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد، فإن حلف بطلاق [أو عتاق] (1) فقد أجمعت الأمة على أَنَّ الطلاق لا كفارة فيه، وأنه إِنْ حنث في يمينه فالطلاق لازم له. واختلفوا في العتق؛ فقال أكثرهم: الطلاق والعتاق سواء، لا كفارة في العتاق كما لا كفارة في الطلاق، وهو لازم للحالف به كلزوم الطلاق، وممن قال ذلك: مالك بن أنس وسفيان الثوري [وأصحاب الرأي] (2) والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وإسحاق. وقال أبو ثور: من حلف بالعتق فعليه كفارة يمين ولا عتق عليه؛ وذلك أن الله أوجب في كتابه كفارة اليمين على كل حالف، فقال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] يعني: فحنثتم. قال أبو ثور: وكل يمين حلف بها الإنسان فحنث فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أن تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ولم يجتمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة وألزمناه الطلاق للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة لأنَّ الأُمَّةَ لم تجتمع على أن لا كفارة فيه (3). _________ (1) إضافة من (اختلاف الفقهاء) للمروزي. (2) إضافة من (اختلاف الفقهاء) للمروزي. (3) العبارة في المطبوع فيها اختلاف يسير، وبعدها الزيادة التالية: (ورووا عن الأنصاري، عن الأشعث، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع أنَّ مولاته حَلَفَت بالمشي إلى بيت الله، وكل مملوك لها حر، وهي يومٌ يهودية ويومٌ نصرانية، وكل شيءٍ لها في سبيل الله أَنْ تُفَرِّقَ بينه وبين امرأته. قال: فسألتُ ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة وعائشة وحفصةَ وأم سلمة - رضي الله عنهم - فكلهم يقولون لها: كفِّري عن يمينك، وخلِّي بينهما. ففعلت. ويروى عن طاووس والحسن مثل قولِهِ).

(1/166)


قال أبو عبد الله: وقد روي عن الحسن وطاووس مثل قول أبي ثور). قال أبو عمر (1): (الخلاف الذي ذكره أبو ثور في العتق هو ما رواه معتمر بن سليمان؛ يعني: حديث ليلى بنت العجماء). فهذا نَقْلُ النزاع من أبي ثور وابن نصر وابن عبد البر، وهم الذين اعتمد عليهم في نقل الإجماع على الطلاق؛ فكيف يجوز الاعتماد عليهم في النقل الذي ليس معهم فيه إلا عدم العلم بالنزاع، ولا يعتمد عليهم في النقل الذي أثبتوه وأسندوه ونقلوه كما ينقل سائر أقوال الصحابة والتابعين، بل وليس معهم عن الصحابة نقل في إثبات الطلاق مثل هذا النقل عن الصحابة في نفي العتاق، والنقل عن التابعين بنفي العتاق المحلوف به مشهور كثير أشهر من النقل [49/ أ/ أ] (2) عنهم بإثبات الطلاق المحلوف به، وقد ثبت عنهم النزاع في الطلاق، ولم يعرف عن أحد منهم الفرق بين الطلاق والعتاق، ولا اشتهر عنهم الفرق بين الطلاق والعتاق وبين غيرهما كما اشتهر عنهم التسوية بين العتق والنذر وغيرهما، ولا عنهم نَقْلٌ بأنَّ كُلَّ حالف بالطلاق أو بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به، وإنما يُنقل اللفظ العام ــ إِنْ نُقِلَ ــ عن نفرٍ قليل، والنقل بإلزام الطلاق للحالف عن عدد قليل لا يبلغون عشرين رجلًا؛ كما تقدم التنبيه عليه. _________ (1) في الاستذكار (15/ 46). (2) سبق التنبيه على سبب وجود الألف الثانية في (ص 139).

(1/167)


فصلٌ وأما قوله: (وقد تمسك في النقل عن الصحابة الذين ذكرهم في العتق بالأثر الذي يذكره، ولو ثبت ذلك لا يفيده للفرق الذي سنذكره، وللإجماع على الطلاق المانع من الإلحاق؛ فقد عَرَّفْتُك ــ فيما تقدم ــ أني تتبعت أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم فلم أعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف) (1). فيقال: أولًا: ليس عمدته قياسه على العتق؛ بل الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة لفظًا ومعنى تدل على ذلك في الحلف بالطلاق، كما يدل عليه في الحلف بالعتاق والنذر. وأيضًا؛ فقياسه على العتق قياس صحيح في معنى الأصل، بل هو من قياس الأولى، والفرق الذي وعد به المعترض قد اعترف هو بفساده، والأمة قبل أبي ثور مجمعة على بطلان هذا الفرق، وهذا إجماعٌ محققٌ لا يقدر أحد أن يَنقل لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أَنَّ أحدًا قبل أبي ثور فَرَّقَ بين الطلاق والعتاق. وأبو ثور فَرْقُهُ عَدَمُ عِلْمٍ لا لفرق وجده من كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا فَرْقُ قياسٍ استنبطه من الكتاب والسنة، ولكن فَرَّقَ لعدم العلم، وهو يُسمِّي عدم العلم بالنزاع إجماعًا، وهذا حقيقة ظنه عدم النزاع، ومن _________ (1) «التحقيق» (35/ ب).

(1/168)


جعل هذا جزمًا بالإجماع فهو جاهل جهلًا بينًا؛ بل لو كُلِّفَ أَنْ يحلف بالطلاق ــ مع اعتقاده لزومه ــ أَنَّ أحدًا من الأمة لم يخالف في الطلاق لَمَا اجترأَ على ذلك (1)، وأما المثبِت للخلاف فيحلف الأيمان المغلظة ويباهل من يباهله على أَنَّ الخلاف موجود في الأمة من سلفها وخلفها في وقوع الطلاق وفي التكفير. وأئمة العلم ينكرون على مثل هذا المعترض وأمثاله الذين يتكلمون بالجهل، ويَقْفون ما ليس لهم به علم، ويجزمون بإجماع الأمة على ذلك، وليس لهم بهذا الإجماع من علم البتة؛ وغاية ما عندهم نَقْلُ مَنْ نَقَلَ ذلك، وأسبق من نقل الإجماع في ذلك أبو ثور، وكل من جاء بعده فعنه أخذ ذلك؛ ومحمد بن نصر عنه أخذه، وكذلك ابن جرير الطبري، وابن عبد البر عنه أخذه ابن رشد الحفيد (2). وابن المنذر لَمَّا كان أوسع علمًا بالاختلاف في هذا، وعَلِمَ قلة عدد القائلين بذلك= لم يذكر إلا إجماع من يحفظ قوله ــ لم يذكر إجماع العلماء ــ كما جرت عادته في المسائل التي لم يحفظ فيها أقوال عامة الأمة، وإنما يحفظ فيها قول عددٍ منهم، فيقول: أجمع من نحفظ قوله؛ يعني: مَنْ يحفظ قوله في تلك المسألة لا يريد كُلَّ من قال قولًا ما، وهذا بَيِّنٌ في كتابه، وقد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع (3). _________ (1) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ. (2) انظر ما تقدم (ص 135). (3) انظر (ص 597 - 600، 625) ففيه كلامٌ مطوَّل للمجيب حول إجماعات ابن المنذر.

(1/169)


وقول هذا المعترض أنه تتبع أقوال الصحابة والتابعين فلم يعلم أحدًا قال بهذا القول؛ فهو مُصَدَّقٌ في هذا القول الذي أخبر فيه بعدم علمه ولم يكن في ذلك إلا مثل ابن عبد البر وأمثاله، ومثل ابن [41/ أ/ ب] (1) حزم وأمثاله؛ بل وأبي ثور ومحمد بن جرير ومحمد بن نصر وأمثالهم ممن يقول مثل هذا القول في مسائل كثيرة ويكون فيها نزاع لم يعلمه، كما قد بسط الكلام على ذلك في موضع آخر. وأما قوله: إنه لم يعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف؛ فهذا قاله بناء على عدم علمه وظنه الفاسد الذي لا يغني من الحق شيئًا، وابن تيمية يَعلم علمًا جزمًا (2) بأنه لم يخترع هذا القول بل قد سبقه إليه غير واحد من السلف والخلف، بل هم ــ والله ــ من أَجَلِّ السلف وأجلِّ الخلف، وهم في أعصارهم وأمصارهم أفضل من غيرهم، ويَعلم مع ذلك أنه شرع الله ــ تعالى ــ الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. وابن تيمية يجزم بذلك، ويباهل عليه من يباهله، بل يباهل على هذا وعلى أَنَّ هذا القول هو القول الذي بعث الله ــ عز وجل ــ به رسوله؛ فَلْيَقُمْ هذا وأمثاله فليباهلون على أن هذا لم يقله أحد من السلف والخلف، وأنه خطأ مخالف لشرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تناظر مرة الأوزاعي والثوري في مسألة رفع اليدين في المواطن الثلاثة؛ فاحتج الأوزاعي على الرفع بحديث الزهري عن سالم عن ابن عمر _________ (1) سبق التنبيه على سبب إضافة الحرف الثاني. (2) كذا في الأصل، وله وجه.

(1/170)


أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا كَبَّرَ (41/ ب/ أ) وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع (1)، واحتج عليه الثوري بحديث يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في أول مرة ثم لا يعود (2)، فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر، وتحدثني عن يزيد بن أبي زياد؟! قم إلى الحجر الأسود لنبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين! فلما رأى الثوري غضب الأوزاعي سكت (3)؛ فمن كان جازمًا بقوله نقلًا وبحثًا فليباهل عليه. ثم هذا المعترض يعترف بالنزاع في وقوع الطلاق، وإنما يظن هو ونحوه أنه لم يقل أحد بالتكفير مع عدم الوقوع، بل إما أن يقع وإما ألا يقع ولا كفارة عليه. _________ (1) أخرجه البخاري (735). (2) أخرجه أبو داود (479) وغيره. وقد ضعَّف زيادة: (ثم لا يعود) الإمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن حبان وابن القيم وغيرهم. وقد جاء الحديث بنحوه عن ابن عمر وابن مسعود وغيرهما. انظر: كتاب رفع اليدين في الصلاة للبخاري (ص 86)، والمجروحين (2/ 450)، زاد المعاد (1/ 219)، تهذيب السنن (1/ 380)، رفع اليدين في الصلاة لابن القيم (ص 43 وما بعدها)، نصب الراية (1/ 402)، البدر المنير (3/ 480)، ضعيف سنن أبي داود (الأم) (1/ 285)، السلسلة الضعيفة (2/ 346). (3) أسند هذه القصة: البيهقي في السنن الكبير (3/ 500/ ح 2574). وذكرها غير واحدٍ من المصنفين؛ كالذهبي في سير أعلام النبلاء (7/ 112)، وابن القيم في زاد المعاد (3/ 643)، وابن كثير في البداية والنهاية (13/ 445)، وابن رجب في الفتح (6/ 329)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (7/ 112).

(1/171)


فيقال لهم: إذا كان النزاع في وقوع الطلاق معلومًا، لم يكن إثبات الوقوع بالإجماع بل لا بُدَّ من دليل، وأنتم لم تذكروا دليلًا صحيحًا على الوقوع، ثم إذا قُدِّرَ أَنَّ المجيب أو غيره قويت عنده الأدلة الدالة على عدم الوقوع، والتكفير قد نقل فيه خلاف ولم يُعلم ثبوتُهُ ولا انتفاؤه؛ ألم يكن في الاحتياط إذا رأى الرجل أنه لا يقع به الطلاق أَنْ يُكَفِّرَ مع ذلك خشية أن تكون الكفارة واجبة عليه؟! هذا إذا سمع أن فيها خلافًا ولم يَعلم بطلانه، فالاحتياط بإخراج [49/ أ/ ب] (1) الكفارة مع الشك أولى من الاحتياط بإيقاع الطلاق مع الشك؛ فإنَّ هذا يتضمن مع تحريمها على زوجها تحليلها لغيره. وهب أَنَّ الاحتياط مشروع فيما إذا اشتبه الحلال بالحرام، فإنه ليس مشروعًا في تحليل ما كان محرمًا بيقين، وهذه المرأة محرمة على الأجانب بيقين؛ فمن أوقع الطلاق بها مع الشك فقد أَحَلَّ الحرام بالشك، وهذا لا يجوز بالاتفاق، وأما إذا أمر بالتكفير مع الشك فليس فيه إلا أمر بعبادة يشك في وجوبها، ولا ريب أَنَّ مَنْ شَكَّ في عبادة عليه فاحتاط بأدائها كان محسنًا، وإذا أمره الآمر بأن يحتاط لنفسه فيؤدي ما يشك في وجوبه كان محسنًا في ذلك لم يكن هذا بمنزلة من يحرم المرأة عليه ويحلها للأجنبي بالشك، فإنه لا يقدر أحد أن يقيم حجة على وقوع الطلاق المحلوف به. والمسألة التي تَنازع العلماء في وقوع الطلاق [فيها] (2) إذا لم يترجح _________ (1) صورت هذه اللوحة مرتين، لوجود ورقة معترضة تحجب اللوحة الأساسية، كما تقدم التنبيه على نظائرها. (2) إضافة يقتضيها السياق.

(1/172)


عند المفتي أحد القولين لم يجز له أن يفتي بما لم يترجح عنده، والأصل بقاء النكاح؛ ولهذا كان أحمد يقول في طلاق السكران: إن من قال: إنه يقع؛ فقد حرمها على زوجها وأحلها لغيره، فقد فعل شيئين، ومن لم يحرمها أبقاها على ما هي [49/ ب/ أ] عليه، فلم يفعل إلا شيئًا واحدًا (1). فالاحتياط للمفتي إذا لم يحرم ويحلل بالشك، بل أمسك عن ذلك، وأمر بالكفارة للاحتياط بأدائها لِمَا نُقِلَ من الخلاف في وجوبها؛ فهذا أحوط الأقوال الثلاثة قبل أن ينظر في الأدلة المفصلة مع ما ينضم إلى ذلك من المرجحات الكثيرة؛ فكيف ولست تجد في كلام أحد من العلماء على الإيقاع دليلًا يُعتمد عليه فضلًا عن أن يكون راجحًا، بل ليس معهم كتاب ولا سنة ولا آثار عن الصحابة ولا قياس جلي؛ بل الكتاب والسنة والقياس الجلي يدل على عدم الوقوع. والنزاع في الوقوع ثابت بلا ريب وكذلك النزاع في الكفارة؛ ولكن المقصود أن ندرج الكلام في مقامات هذه المسألة درجة درجة؛ فإنَّ من الناس من يقول: لم يَثبت عندي النزاع في الكفارة، فيقال له: لا ريب أنه قد نقل النزاع في ذلك، كما نقله غير واحد منهم ابن حزم، وأنت لا تجزم جزمًا قاطعًا بأن الأمة اتفقت على نفي التكفير؛ وحينئذٍ فإذا ترجح عندك القول _________ (1) لم أجده في المطبوع من مسائل الإمام أحمد، ولكن نقل غلام الخلال في زاد المسافر (3/ 291)، وابن القيم في مواضع من كتبه ــ كإعلام الموقعين (5/ 454)، وإغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان (ص 26)، وزاد المعاد (5/ 191، 220) ــ عن الإمام أحمد أنه قال في رواية أبي طالب: (والذي لا يَأمر بالطلاق فإنما أتى خَصلة واحدة، والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين: حَرَّمَهَا عليه، وأحلَّها لغيره؛ فهذا خيرٌ من هذا، وأنا أنفي جميعها). وفي بعض المصادر: (وأنا أتقي جميعًا).

(1/173)


بعدم الوقوع كان احتياطك بالتكفير أولى في العقل، وأمرك بالتكفير لغيرك احتياطًا أبرأ لعرض كل منهما ودينه، وهذا [49/ ب/ ب] احتياطٌ بفعل خيرٍ وبر، ليس فيه شيء من الشر، وهو دائر بين الإيجاب والاستحباب، فإن لم يكن واجبًا فلا ريب أنه مستحب. وأما إيقاع الطلاق فليس بواجب ولا مستحب من الزوج فضلًا عن أن يكون واجبًا أو مستحبًا من المفتي؛ فإنَّ المفتي والحاكم وولي الأمر كلٌّ منهم لا يَحِلُّ له أن يحرمها على زوجها ويحلها لغيره إلا بدليل شرعي سالم عن المعارض، ومع النزاع في الإيقاع لا يمكنه دعوى الإجماع، وليس معه كتاب ولا سنة ولا قياس. وإذا كان معه تقليد طائفة من علماء المسلمين؛ فالتقليد ليس فيه علم بالشرع ودليله الخاص، وإنما فيه علمٌ بأنَّ هذا قول فلان، وأنه يسوغ تقليده، فالمقلِّد لا يعلم ولا يظن أن هذا حكم الله في نفس الأمر إن لم يقترن بذلك أمارات تقوي ظنه أن هذا حكم الله في نفس الأمر؛ وحينئذٍ فلا يكون تقليدًا محضًا. وإذا عَرَفَ المقلد أنَّ النزاع حاصلٌ في المسألة، وأن الذين يُقَلِّدُهُم لم يظهر لهم حجة يقطعون بها مَنْ نازعهم، ولا أظهروا علمًا يجب على الأمة اتباعه، مع توفر الهمم والدواعي على إظهار العلم ومسيس الحاجة إلى ذلك، ووجود ما يحمل النفوس على إظهار ما عندها من العلم لما وجد في ذلك من التحدي (1) والمعارضة والمخاصمة، وتشوف همم العامة _________ (1) وتحتمل في الأصل: (التحري)؛ والأقرب ما أثبتُّ.

(1/174)


والخاصة إلى ما في ذلك من العلم وإلى ما يحصل لصاحبه من مصلحة الدنيا والدين والآخرة= فإن هذا مما يوجب عند المقلد أنه لا علم عند من كان يقلده بهذه المسألة. وطالب العلم الذي له معرفة بالدليل الشرعي، وهو ممن يمكنه الاجتهاد في بعض المسائل ــ وإن لم يكن مجتهدًا مطلقًا ــ إذا استفرغ وسعه فيما ذكره العلماء في هذه المسألة ونحوها من النقل والبحث= جَزَمَ جَزْمَ مثله أنه ليس عندهم علم جازم بوقوع الطلاق، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، بل ولا ظنّ راجح مستند إلى دليل شرعي، بل إنما معهم عادات وتقليد وليس شيء منه حجة شرعية باتفاق المسلمين. ومن قال: إنَّ قول أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أو عشرة أو اثني عشر معينين أو غير معينين من علماء المسلمين حجةٌ معصومةٌ يجب (1) على الناس اتباعها ويحرم مخالفتها= فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع [50/ أ] من الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين الأئمة الأربعة وغيرهم، فإنهم متفقون على أَنَّ مثل هذا ليس بحجة شرعية تفصل النزاع بين المسلمين فيما تنازعوا فيه من أمر دينهم. وقول هذا المعترض: (إن هذا القول قول مخترع) له أسوة بما يقوله هو وأمثاله من أقوال تخالف الكتاب والسُنة واتفاق السلف مع دعواهم أن القول الذي يخالفهم قول مخترع، فليس هذا بأول بدعة يقولونها ويقولون لمن يخالفها إنه مبتدع، فهذا أمر يكثر فيمن يتكلم في الدين في أصوله _________ (1) هكذا قرأتها.

(1/175)


وفروعه بغير اعتصام بالكتاب والسنة، بل بما يظنه هو وأمثاله إما إجماعًا وإما رأيًا. وعامة أهل البدع يخالفون الكتاب والسنة بدعوى إجماع أو معقول؛ ولهذا قال أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب، هذه دعوى الأصم والمَرِيسي وابن عُلَيَّة. ولهذا المعترض أسوة بهؤلاء المبتدعين وأمثالهم في هذا وغيره الذين يتكلمون في الدين بلا علم. والقول الذي يقوله هذا المعترض وأمثاله من أن هذا قول مبتدع، قد قابلهم عليه من هو أعلم منهم بشرع الله ــ تعالى ــ في هذه المسألة ممن كان يفتي فيها بالكفارة قبل أن يتكلم فيها المجيب، بل وقبل أَنْ يُخْلَق، فكان يقول لمن ينازعه فيها: يا دجاجلة! لم تدخلون في الإسلام ما ليس منه؟! أين في دين المسلمين يمين منعقدة لا كفارة فيها؟! (1). وهذا هو الحق؛ فإن القول بأن من أيمان المسلمين المنعقدة ما لا كفارة فيه هو قول مبتدع لا ريب فيه، لكن قد قاله كثير من أهل العلم والدين مجتهدون مثابون على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم؛ كسائر الأقوال المخالفة في نفس الأمر لِمَا جاء به الرسول، فإنها في الحقيقة مبتدعة لم يشرعها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، لكن القائل بها مجتهد قصد الحق بحسب استطاعته، واعتقد أن هذا هو شرع الله، فأثابه الله على اجتهاده، وغفر له قوله، ولو كان بدعة في نفس الأمر. وما أحسن ما كان الصحابة - رضي الله عنهم - يقولون كما قال أبو بكر وابن مسعود _________ (1) تقدمت الإشارة إلى هذه القصة في (ص 132).

(1/176)


وغيرهما من الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه (1). ومن تَدَبَّر هذه (2) [50/ ب] الإجماعات التي يذكرها مثل هؤلاء القاصرين في معرفة علم الكتاب والسنة وأقوال السلف والخلف لا سيما في أصول الدين فضلًا عن فروعه= وَجَدَ من ذلك أمورًا كثيرة، فلا يعجب بعدها من دعواهم إجماعات لا علم لهم بحقيقتها، فإنَّ هذا كثير منهم جدًا، وهو من البدع التي انتشرت بعد انقضاء القرون المفضلة حتى كان الأئمة كأحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وغيره يذمون هؤلاء المبتدعين على دعواهم ما لا علم لهم به. ولهذا قال الشافعي - رضي الله عنه - (3): وإنما الأقوال المبتدعة المخالفة للكتاب والسنة ولما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون التي هي أقوال منكرة تناقض مقصود الرسالة، وتُسَلِّطُ أعداءَ الملة على القدح فيها = هي الأقوال التي أُحدثت لما كَثُرَ القول بلزوم الطلاق ووقوعه حيث لم يوقعه الله ورسوله، فأحدثت لأجل ذلك بدعة كالقول بأن تتزوج المرأة من لا يريد أن يتزوج بها ولا يريد إلا أن يحلها للأول، وقد لعن الله ورسوله هذا المحلِّل والمحلَّل له (4). _________ (1) تقدم تخريج الأثرين في (ص 40). (2) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ. (3) لم أجد هذا النقل عن الشافعي، وأخشى أن يكون كلام الشافعي قد سقط من الأصل؛ والله أعلم. (4) أخرجه ابن أبي شيبة (36190)، وأحمد في مسنده (7/ 313)، والنسائي (3416)، والترمذي (1120)، والبغوي في شرح السنة (9/ 100) وغيرهم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. وقال ابن حزم (ص 1763): لا يصح في هذا الباب سواه. وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 159): وقد روي هذا المعنى من طرق صحاح عن ابن مسعود وغيره. انظر: العلل لابن أبي حاتم (4/ 35)، نصب الراية (3/ 238)، البدر المنير (7/ 612)، إرواء الغليل (6/ 307)، صحيح أبي داود (الأم) (6/ 315).

(1/177)


وكذلك استفاض ذمه وتحريمه عن الخلفاء الراشدين المهديين وغيرهم من الصحابة مثل: عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -؛ حتى قال ابن عمر: لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها له (1). وقال أبوه عمر - رضي الله عنهما -: لا أُوتَى بمحلِّل ومحلَّل له إلا رجمتهما (2). _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 265)، ومسدد ــ كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 109 - . وعزاه ابن تيمية في بيان الدليل (ص 403 - 404) إلى حسين بن حفص في جامعه، والجوزجاني. وانظر: إرواء الغليل (6/ 311 - 312). (2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 265)، وسعيد بن منصور في سننه (2/ 75)، وابن أبي شيبة (37344) وغيرهم. قال ابن تيمية في المجموع (33/ 30): وقد ثبت عن عمر ثم ذكر هذا الأثر. وقال في بيان الدليل (ص 400): وهو مشهور محفوظ عن عمر، ورووه بالأسانيد الثابتة. وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 480): وهو صحيحٌ عن عمر. انظر: تخريج أحاديث الكشاف (1/ 148)، التحجيل (ص 368).

(1/178)


وقال عثمان - رضي الله عنه -: لا يُحلها إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة (1). ولم يُعرف أَنَّ أحدًا من الخلفاء والصحابة أعاد امرأة إلى زوجها بنكاح تحليل (2). وكذلك من جنسه أن يؤمر الزوجان بالخلع، مع أن الرجل مريد لامرأته، وهي مريدة له، ليس لواحد منهما غرض في مفارقة الآخر فيؤمر بالخلع في مثل هذه الحال مع قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. ومثل دور الطلاق الذي يَجعل نكاح المسلمين مثل نكاح النصارى لا _________ (1) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 152)، وابن حزم في المحلى (ص 1763)، والبيهقي في السنن الكبير (14/ 405/ ح 14309) بلفظ: (لا تَرجع إليه إلا بنكاح رغبةٍ غيرَ دُلْسَةٍ). وعزاه ابن تيمية في بيان الدليل (ص 402) إلى ابن وهب. وعزاه ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 272) إلى أبي إسحاق الجوزجاني في كتاب (المترجم). انظر: تخريج أحاديث الكشاف (1/ 149)، التحجيل (ص 369). وروي معنى هذا الأثر مرفوعًا؛ كما نقل ذلك ابن تيمية في بيان الدليل (ص 394 وما بعدها)، وأطال النفس في الكلام عليه. (2) قال الترمذي بعد حديث ابن مسعود: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

(1/179)


طلاق فيه بحال، وهي [51/ أ] بدعة مخالفة لصريح المعقول مع مناقضتها لشرع الرسول؛ إذ كان معنى قول القائل: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا، [و] إذا طلقتك فلم أطلقك، وإذا وقع عليك طلاق لم يكن قد وقع عليك طلاق، وهو جمع بين النقيضين مع تضمنه محالًا آخر، وهو إيقاع طلقة مسبوقة بثلاث تطليقات، وهذا ممتنع في الشرع (1). ومثل الاحتيال بطلب إفساد النكاح، مع أنه لولا الطلاق لكان النكاح عندهم صحيحًا، يَستحِلَّان به ما يستحلان بالنكاح الصحيح من الوطء والميراث وغير ذلك إلى أن يطلقها= جعلوه فاسدًا لئلا يقع الطلاق (2). ومثل الاحتيال في ألفاظ الأيمان بما يخالف قصد الحالف ومراده (3)؛ _________ (1) وهذه المسألة تُسمى (السُّرَيجية)، ولابن تيمية كلام كثير حولها؛ بل صنَّف فيها قاعدة خاصةً؛ ذكرها ابن رشيق في أسماء مؤلفاته (ص 309 ضمن الجامع)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 80)، وأشار إلى هذه القاعدة في كتابه (الرد على المنطقيين) (ص 301 - 302) حيث تكلَّم عن (الدور الحكمي الفقهي) وذكر أنه أفرد هذا الدور بمصنفات تبيِّن حقيقته، وأنه باطل عقلاً وشرعًا، وفي مصنفٍ آخر هل في الشريعة شيءٌ من هذا الدور أم لا؟ وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 39، 64، 240 - 245)، (35/ 294)، الفتاوى الكبرى (3/ 137، 237، 300، 316)، القواعد الكلية (ص 523). ولابن القيم كلامٌ مطوَّل عن هذه المسألة في إعلام الموقعين (5/ 201 وما بعدها). وانظر ما سيأتي (ص 600). (2) مجموع الفتاوى (33/ 39، 64)، الفتاوى الكبرى (3/ 237، 300)، القواعد الكلية (ص 522). وانظر ما سيأتي (ص 600). (3) مجموع الفتاوى (33/ 39، 64، 148)، الفتاوى الكبرى (3/ 237، 267، 300).

(1/180)


فهذه هي البدع التي أُحدثت في الإسلام لما صاروا يعتقدون وقوع الطلاق المحلوف وغيره مما ليس هو بطلاق واقع في الشرع، فصاروا لأجل ذلك حزبين: حزبًا دخلوا في هذه الحيل التي تتضمن تحريم ما أحله الله ورسوله وتحليل ما حرمه الله ورسوله، وإن كان المجتهد فيها مأجورًا وخطؤه مغفورًا والمقلد له معذورًا، وكذلك الحزب الآخر الذين ألزموا الناس بالآصار والأغلال وتحريم ما أباحه الله من الحلال؛ والله يرضى عن جميع أئمة الدين ويغفره لجميع المؤمنين والمؤمنات (1). لكن المقصود بيان ما هي الأقوال المخترعة المبتدعة في الإسلام، وإن كان أهلها مجتهدين مأجورين غير مأزورين، وما هي الأقوال الموافقة لشرع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78] فَخَصَّ أحد النبيين بالفهم مع ثنائه على كُلٍّ منهما بما آتاه من العلم والحكم؛ والعلماء ورثة الأنبياء (2). وهذا الموضع الذي غلط فيه مثل المعترض وأمثاله، قد وقع نظيره لقوم _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 64)، الفتاوى الكبرى (3/ 237). وانظر: إغاثة اللهفان (1/ 581). (2) مجموع الفتاوى (20/ 224، 305)، (33/ 29، 41، 159)، (35/ 360 وما بعدها، 387)، الفتاوى الكبرى (3/ 274، 293، 302، 5/ 97)، جامع المسائل (3/ 81)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 153)، الجواب الصحيح (6/ 494)، منهاج السنة (3/ 411)، رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص 38). وانظر ما سيأتي (ص 808).

(1/181)


في مواضع يظنون في المسألة إجماعًا فيعملون به، مع مخالفتهم في ذلك الكتاب والسنة، مثل: من اعتقد أن نكاح الزانية قبل التوبة جائزٌ (1) بالإجماع، وخالف بذلك الكتاب والسنة (2). ومن هؤلاء مَنْ يقول: الإجماع [51/ ب] يَنسخ الكتاب والسنة؛ وكنا نَظُنُّ بمن يقول ذلك أنه يريد به: أَنَّ الإجماعَ دَلَّ على نَصٍّ ناسخٍ، حتى ذَكَرَ مَنْ صَرَّحَ في نقله بأن نفس الإجماع يُنسخ به، وهذا من جنس قول النصارى الذين يُجوِّزون لأحبارهم أن يغيروا شريعة الأنبياء برأيهم، وهؤلاء ممن عناهم الله بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم حين قال: ما عبدوهم. فقال: «أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم؛ فكانت تلك عبادتهم إياهم» (3)؛ فمن جوَّز لعلماء _________ (1) في الأصل: (جائزًا)، وصوابها ما أثبتُّ. (2) مجموع الفتاوى (32/ 109 وما بعدها، 145)، الفتاوى الكبرى (3/ 151 وما بعدها، 176 وما بعدها)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 446). وانظر ما سيأتي (ص 774). (3) أخرجه البخاري في تاريخه (7/ 106)، والترمذي في جامعه (3095)، وابن جرير في التفسير (11/ 417) وغيرهم بألفاظ متقاربة. وقال الترمذي: هذا حديثٌ غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغُطيف بن أَعين ليس بمعروفٍ في الحديث. وقال ابن تيمية في الإيمان (ص 58) ــ وهو في الفتاوى 7/ 67 - : وهو حديث حسن طويل. وقال الذهبي في المهذب (8/ 4108): غطيف ضعفه الدارقطني، وقيل: غضيف. وانظر: السلسلة الصحيحة (7/ 861).

(1/182)


الأمة بعد نبيها أن ينسخوا (1) شيئًا من شرعه كان قوله من جنس هذا القول، وهذا بخلاف ما إذا اجتهد واحد منهم؛ فإنَّ هذا يقول كما قال أبو بكر وابن مسعود - رضي الله عنهما -: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه (2). والواحد من العلماء ليس بمعصوم يجب اتباعه، بخلاف الأمة فإنها معصومة. فإذا قيل: إنها قد تنسخ نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإجماعها على خلافه، وهي معصومة في إجماعها = فهذا اتخاذ لهم أربابًا من دون الله، يحللون الحرام ويحرمون الحلال (3). ومثل من اعتقد إجماع الأمة على أَنَّ مسافة القصر لا تكون أقل من يومين (4)، فلزمهم ألا يقصر أهل مكة في عرفة ومزدلفة ومنىً، وهو خلاف _________ (1) في الأصل: (ينسخ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) تقدم تخريجه في (ص 40). (3) مجموع الفتاوى (19/ 257)، (33/ 94)، الفتاوى الكبرى (3/ 259). وقد صرَّح في بعض المواضع بمن قال بذلك؛ فذكر منهم: عيسى بن أَبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك. وانظر ما سيأتي (ص 633 - 634). (4) ذكر المجيب في (ص 695) وابن القيم في الصواعق المرسلة (2/ 587) أنَّ الليث بن سعد حكى الإجماع على أنَّ المسافر لا يقصر الصلاة في أقلَّ من يومين. وانظر ما سيأتي (ص 775).

(1/183)


سنته ــ التي لا ريب فيها ــ من أَنَّ أهل مكة صلوا بصلاته في عرفة ومزدلفة ومنى جمعًا وقصرًا (1)، وكذلك كانوا يفعلون في خلافة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وصدرًا من خلافة عثمان - رضي الله عنه - لمَّا كان يقصر الصلاة (2)، ثم لما أتمها للاجتهاد الذي رآه. تشعب للناس عن ذلك أقوال مذكورة في غير هذا الموضع. واختلف الناس في مأخذه في اجتهاده: هل كان ذلك لأنه كان تَأَهَّلَ بمكة؟ أو لأن بعض الأعراب ظنوا الصلاة لا تكون إلا قصرًا؟ أو لأنه رأى جواز الأمرين ففعل الجائز؟ أو لأنه لما عُمِرَت منى وكان المقيم بها لا يحمل الزاد والمزاد رأى عثمان - رضي الله عنه - أنَّ النازل بها مقيم، ولهذا لم يقصر بعرفة ومزدلفة مع وجود [52/ أ] ما ذكر من الإتمام، ولم يكن عثمان - رضي الله عنه - يقصر في طريقه من المدينة إلى مكة، ولا كان ممن يجوز له المقام بمكة، بل كان إذا اعتمر يُنيخ راحلته ويعتمر ثم يخرج، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رَخَّص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد نسكه ثلاثًا. أخرجاه في الصحيحين (3). _________ (1) هذا الكلام من المجيب مجمل؛ بيانه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع وقصر في عرفة ومزدلفة، أما منى فقد كان يقصر فيها دون جمع. وهذا واضحٌ من سياق الأحاديث الواردة في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما. وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 45، 124)، مجموعة الرسائل والمسائل (2/ 11 مهم، 72)، جامع المسائل (6/ 323)، الفتاوى العراقية (1/ 319). (2) أخرجه البخاري (1082) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وفي (1084) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (3) أخرجه البخاري (3933)، ومسلم (1352) من حديث العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه -.

(1/184)


ومثل من ظن إجماع (1) الصحابة على أن التكبير على الجنازة لا يجوز أن يزاد على أربع، وخالف السنة الثابتة في جواز التكبير أكثر من ذلك (2). ومثل من ظن إجماع الصحابة على وجوب جلد ثمانين للشارب، وخالف بذلك ما تقدم من السنة في جواز الاقتصار على أربعين (3). ومثل من ظن الإجماع على أنه لا يجوز قتل الشارب بحال، وخالف بذلك [ما] (4) ثبت من جواز القتل في الجملة، وبعض الناس جعل القتل واجبًا، والسنةُ إنما دلت على الجواز فإنه أمر بالقتل في الرابعة (5)، وأُتي _________ (1) في الأصل: (الإجماع)، والصواب ما أثبتُّ. (2) أخرج مسلم في صحيحه (957) عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنه كان يكبر على الجنائز أربعًا، وأنه كبَّر على جنازة خمسًا. فسأله عبد الرحمن بن أبي ليلى. فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبِّرُها. وانظر لأحاديث الباب: نصب الراية (2/ 267)، البدر المنير (5/ 260)، وأحكام الجنائز للألباني (ص 141 وما بعدها). وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 22)، القواعد الكلية (ص 148 - 149). (3) مجموع الفتاوى (28/ 336)، (34/ 214)، الفتاوى الكبرى (3/ 425)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 498)، جامع المسائل (1/ 337)، المسودة (2/ 629) ونقله في المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 120)، منهاج السنة (6/ 39، 82 وما بعدها)، السياسة الشرعية (ص 134 وما بعدها). وانظر ما سيأتي (ص 740، 774). (4) إضافة يقتضيها السياق. (5) جاء هذا عن جماعةٍ من الصحابة منهم: معاوية بن أبي سفيان، وابن عمر، وأبي هريرة ــ رضوان الله عليهم ــ وغيرهم. وأقوى ما ورد في الباب: حديث معاوية بن أبي سفيان؛ أخرجه أبو داود (4482)، والترمذي (1444)، والنسائي في الكبرى (5278)، وابن ماجه (2573) وغيرهم. وقال البخاري: حديث أبي صالح، عن معاوية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا أصحُّ من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورجَّح الدارقطني في العلل (10/ 91) روايةَ معاوية بن أبي سفيان وأنها هي المحفوظة. وصححه ابن حبان (10/ 295)، والحاكم (4/ 414). وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (34/ 219) عندما سئل عن قتل شارب الخمر: نعم؛ له أصل، وهو مرويٌ من وجوه متعددة، وهو ثابت عند أهل الحديث. انظر: شرح العلل (1/ 4)، نصب الراية (3/ 346)، السلسلة الصحيحة (3/ 347/ ح 1360).

(1/185)


بشخص أكثر من الشرب ولم يقتله (1)، وقيل له - صلى الله عليه وسلم - عن طائفة لم ينتهوا. قال: «فاقتلوهم» (2). ومن الناس من ظن الإجماع على ترك حديث المصرَّاة (3). _________ (1) جاء عن جماعةٍ من الصحابة؛ فقد أخرجه البخاري (6780) من حديث عمر بن الخطاب، وأخرجه أبو داود (4485) من حديث قبيصة بن ذؤيب. كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 379) من حديث أبي هريرة. وأخرجه النسائي في الكبرى (5283، 5284) من حديث جابر بن عبد الله. (2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (29/ 567 - 571)، وأبو داود في سننه (3683) من حديث ديلم الحميري. (3) أخرجه البخاري (2151)، ومسلم (1524) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 532 وما بعدها)، (29/ 426 وما بعدها)، وحاشية ابن عابدين (5/ 44). وينظر في المسألة بحث الدكتور/ ذيب بن مصري القحطاني في مجلة الجامعة الإسلامية في عددها (81 - 82). وانظر ما سيأتي (ص 774 - 775).

(1/186)


ومنهم من ظن الإجماع على أن شهادة العبد لا تقبل، وأنس (1) بن مالك قد ذكر الإجماع على أنها مقبولة (2). ومن الناس مَنْ ظَنَّ الإجماع على أَنَّ فسخ الحج الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه - رضي الله عنهم - في حجة الوداع لا يجوز، مع أَنَّ طائفةً من السلف والخلف يقولون: لا يجوز الحج بدون سوق الهدي إلا للمتمتع إما مبتدئًا وإما فاسخًا (3)؛ ومثل هذا كثير. * * * * _________ (1) وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وفي الهامش وضع حرف (ظ). (2) مجموع الفتاوى (20/ 247 وما بعدها)، رفع الملام (ص 32)، النبوات (1/ 479)، الطرق الحكمية (1/ 442 وما بعدها)، الصواعق المرسلة (2/ 583)، بدائع الفوائد (1/ 9). وانظر ما سيأتي (ص 775). (3) مجموع الفتاوى (22/ 336)، (26/ 49، 54، 67)، الفتاوى الكبرى (3/ 261، 284)، جامع المسائل (1/ 365 وما بعدها)، منهاج السنة (4/ 183 وما بعدها)، شرح العمدة (2/ 501 وما بعدها). وانظر: شرح علل الترمذي (1/ 331).

(1/187)


فصلٌ قال: (قال أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا عارم بن الفضل، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي: حدثنا بكر بن عبد الله، أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها محرر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية إنْ لم تُطَلِّق امرأتك أو تفرِّق بينك وبين امرأتك. قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة ــ وكانت إذا ذُكِرَت امرأة [بالمدينة] (1) فقيهة ذكرت زينب ــ. قال: فأتيتها، فجاءت يعني إليها. فقالت: في البيت هاروت وماروت؟! قالت: يا زينب؛ جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مالٍ لها [52/ ب] هدي، وهي يهودية وهي نصرانية. فقالت: يهودية ونصرانية! خَلِّ بين الرجل وبين امرأته، يعني: وكفري عن يمينك. [فأتيت حفصة أم المؤمنين، فأرسلت إليها فأتتها، فقالت: يا أم المؤمنين؛ جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها محرر وكل مالٍ لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية. فقالت: يهودية ونصرانية؟! خلي بين الرجل وبين امرأته] (2) فأتيت عبد الله بن عمر فجاء ــ يعني إليها ــ فقام على الباب فَسَلَّمَ. فقالت: بِيَبِي أنت وَبِيَبِي أبوك (3). فقال: أمن حجارةٍ أنتِ أم من حديد (4)؟ أم من أي شيء أنت؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين _________ (1) زيادة من «التحقيق». (2) إضافة يقتضيها السياق التالي، أثبتها من القواعد الكلية (ص 464 - 465). (3) في «التحقيق»: (سي أنت وسي أبوك) بدون نقط، وفي الأصل نقط الباء الثانية. وهي لغة في «بأبي». انظر: الزاهر لابن الأنباري (1/ 233)، والبيان والتبين (1/ 182). (4) في الأصل زيادة: (أنت). وليست في «التحقيق».

(1/188)


فلم تقبلي فتياهما. قالت: يا أبا عبد الرحمن؛ جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية. فقال: يهودية ونصرانية! كَفِّرِي عن يمينك، وَخَلِّ بين الرجل وبين امرأته. قال: قلتُ: هذا الأثر عمدته في النقل عن هؤلاء الصحابة، والكلام عليه في أمرين: أحدهما: في إثبات الحلف بالعتق فيه، وسيأتي الكلام في ذلك عند كلام الإمام أحمد عليه، وأجمع طرقه ــ إن شاء الله تعالى ــ. والثاني: على تقدير صحته فنقول: إنَّ لفظ زينب وابن عمر (1) كما رأيت كل منهما صدَّر فتياه بقوله يهودية ونصرانية؟! فيحتمل أن يكون اقتصر في الجواب على هذه اليمين؛ لعظمها عند المستفتية، وتوهمها أن لا مُخَلِّصَ منها، وأنَّ مقتضاها الخروج من الدين الذي لا شيء عند المسلم أخوف منه، وسكت عن العتق والصدقة لسهولة أمرهما عليها (2)، وفي تصدير كل منهما فتياه بذلك إشعار بما قلناه، وإن لم يكن ظاهرًا فهو محتمل، وكأنه قال: كفري عن يمينك [هذه. وفي الرواية عن زينب نظرٌ آخر، وهو: أنَّ الراوي قال عنها: خلِّ بين الرجل وبين امرأته؛ يعني: كفري عن يمينك] (3)؛ فزينب لم تقل: وكفري يمينك، فلعل ذلك فَهْمٌ من الراوي؛ فمن أين أن مراد زينب ذلك؟ ولعلهما أرادا أن التفريق بين الزوجين حرام، وهذه اليمين معصية، فَخَلِّ بين الرجل وبين امرأته، وَإِنْ أَوجَبَ _________ (1) وكذلك أم المؤمنين حفصة؛ كما تقدم. (2) في الأصل: (عليهما)، والمثبت من «التحقيق». (3) زيادة من «التحقيق».

(1/189)


الحنثُ ما أَوجب؛ ومع هذين الاحتمالين لا يجوز نسبة هذا القول إليها. والقائل: يعني: وكفري عن يمينك؛ لا أعلم مَنْ هو مِنَ الرواة، والظاهر أنه المصنف، فإني لم أقف على هذه اللفظة في شيء من طرق الحديث، بل بعضهم لا يتعرض للتكفير البتة، وكذلك رواه ابن حزم (1) بإسقاط التكفير من فتيا زينب وحفصة مستدلًا به على عدم وجوب شيء لا كفارة ولا غيرها، وبعضهم يَذْكُرُ عنها الأمر بالتكفير، وأما لفظ (2): (يعني) فما رأيته (3)، وسنجمع في آخر [53/ أ] الفصل طرق هذا الأثر ــ إن شاء الله تعالى ــ (4)). والجواب: أن هذا الذي ذكره من أن ابن عمر وزينب - رضي الله عنهما - إنما أفتيا في قوله هي يهودية ونصرانية دون العتق والصدقة = من أظهر القول الباطل؛ وهو خلاف ما أجمع الناس عليه في هذه القضية؛ فإنَّ جميع العلماء الذين ذكروا قصة ليلى بنت العجماء هذه اتفقوا على أنهم أفتوها في الحلف بالصدقة وغيرها مما ذكرته، لم يقل أَحَدٌ أنهم أفتوها في بعض ما ذكرته دون بعض، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّ فيها ذكر العتق قال: إنهم أفتوها في الحلف بالعتق، لم يقل أحدٌ إنه كان في كلامها من الأيمان ما لم يجيبوها عنه؛ فهذا الذي قاله مخالفٌ لإجماع العلماء قاطبة بلا ريب. فلا يُعْرَف أحد من المسلمين حمل هذه القضية على ما ذكره، مع العلم بأنَّ هذا الأثر ما زال يتداوله العلماء قديمًا وحديثًا، وهو مما اعتمد عليه _________ (1) في المحلى (ص 991). (2) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (لفظة). (3) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (رأيتها). (4) «التحقيق» (35/ ب ــ 36/ أ).

(1/190)


الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وأبو بكر بن المنذر ومحمد بن جرير والطحاوي وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم، وعامة أصحاب الشافعي وأحمد، متقدميهم ومتأخريهم، من زمن الإمامين إلى هذا الوقت؛ فكل من ذكر هذا الأثر منهم ــ كالشيخ أبي حامد الإسفراييني والقاضي أبي الطيب والماوردي، وكأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وغيرهم ــ يذكرون أن الصحابة أجابوا ليلى بنت العجماء فيما ذكرته من الأيمان سواءً وافقوا هذا الأثر أو خالفوه، لكن نقل الأقوال أمانة. والذين لم يقولوا بهذا الأثر من أصحاب أبي حنيفة ومالك لم يَطعن أحدٌ منهم في صحته، ولا تأولوه على ما ذكره هذا المعترض من أن الجواب كان عن غير الصدقة والعتق، بل عارضوا ذلك بحديث عثمان بن حاضر الذي اعتمد عليه المعترض. وذكر أبو جعفر الهِنْدُواني (1): (إن القول بلزوم النذر المحلوف به هو قول العبادلة) (2)، ومستنده حديث عثمان بن حاضر، وطعن في ذلك _________ (1) محمد بن عبد الله بن محمد، أبو جعفر الهندواني، نسبةً إلى محلةِ باب هندوان، فقيه حنفي، كان يقال له من كمال فقهه: (أبو حنيفة الصغير)، توفي سنة (362). انظر: الجواهر المضية (3/ 192)، تاج التراجم في طبقات الحنفية (2/ 74)، سير أعلام النبلاء (16/ 131)، تاريخ الإسلام (8/ 207). (2) نقل كلام أبي جعفر الهندواني: الماوردي في الحاوي (15/ 459)، والمجيب في قاعدة العقود (2/ 328 مهم)، وسيعيد هذا النقل مرة أخرى في (ص 260 - 261). والمراد بالعبادلة هنا: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير ــ كما في قاعدة العقود (2/ 328)، وما سيأتي (ص 260 - 261) ــ، وهذا خلاف ما ذكره عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنفية (4/ 531): (كثيرًا ما يقول أصحابنا الحنفية في كتبهم: وهو قول العبادلة. والمراد بهم عندنا: ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر؛ هكذا ذكره صاحب المُغْرِب. وذكر صاحب الهداية في الحج في مسألة أشهر الحج (شوال وذو القَعدة وذو الحجة) كذا رُوي عن العبادلة الثلاثة وابن الزبير).

(1/191)


أصحاب الشافعي وأحمد كالشيخ أبي حامد [53/ ب] والقاضي أبي يعلى وأتباعهما قالوا: إنَّ هذا لا يُعرف. وأما حديث ليلى بنت العجماء فلم يطعن فيه أحد من العلماء، ولا حَرَّفَ معناه ــ كما حرف معناه هذا ــ أحد من العلماء، فما ذكره هذا المعترض من التعليل له والتحريف لمعناه= قول ابتدعه لم يسبقه إليه أحد من علماء المسلمين، لا الموافقين لهذا الأثر ولا المخالفين له، ولكن من يريد أن يخالف الحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا بُدَّ له من تكذيب المنقول الصحيح أو تحريف الكلم عن مواضعه، كما يفعل سائر أهل البدع، فمن جعل السنة بدعة والبدعة سنة = كان أحق بأن يجعل قوله كذلك. ثم مما يُبَيِّنُ غلط ما ذكره: أَنَّ هؤلاء الصحابة أمروها أَنْ تُخَلِّيَ بين الرجل وبين امرأته، وذموها على إصرارها على التفريق بينهما، فإنْ لم يجيبوها عن الحلف بجميع أيمانها لم يحصل المقصود، فإنها لو كان مماليكها يعتقون وكل مالها هدي لَبَيَّنُوا لها ذلك، ولو عَرَفَتْ ذلك؛ فالأظهر أنها لا تجيبهم إلى ذلك، فإنه يَعِزُّ عليها عتق مماليكها وجعل مالها هديًا. وقولهم لها: (يهودية ونصرانية؟!) إنكارٌ عليها أَنْ تحلف بهذه اليمين، فإنَّ الحلف بالكفر يمين منكرة بخلاف الحلف بالعتق والنذر، ولهذا قال

(1/192)


- صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حلف بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال» (1) فهذا وعيدٌ شديدٌ. والناس متنازعون في اليمين الغموس إذا حلف هل يَكْفُر أم لا يَكْفُر؟ وظاهر الحديث يقتضي كفره ولكن كنظائره، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قال ابن عباس وطاووس وأحمد وغيرهم: كفر دون كفر (2)، ومثله قوله: «كُفْرٌ بالله تبرؤٌ من نسب» (3)، وقوله: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به _________ (1) تقدم تخريجه (ص 42). (2) ما ورد عن ابن عباس: أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 342)، والبيهقي في السنن الكبير (16/ 147/ح 15951). وقال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد روي عنه تفسير الآية بألفاظ مختلفة. وما ورد عن طاووس: أخرجه الثوري في تفسيره (ص 101) ــ ومن طريقه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (2/ 522)، والخلال في السنة (4/ 160) ــ وغيرهم بلفظ: (ليس بكفرٍ ينقل عن الملة). وما ورد عن الإمام أحمد: نقله إسماعيل الشالنجي ــ كما في فتح الباري لابن رجب (1/ 139) ــ حيث ذكر له قول ابن عباس المتقدم وسأَلَهُ: ما هذا الكفر؟ قال: هو كفرٌ لا ينقل عن الملة. مثل الإيمان بعضه دون بعض؛ فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمرٌ لا يُختلف فيه. (3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (11/ 592)، وابن ماجه (2744) وغيرهما عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 379): وهذا إسناد صحيح. وأخرجه ابن الجعد في مسنده (ح 2785)، والدارمي (4/ 1890)، والبزار (1/ 139) وغيرهما من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. قال البزار: وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن أبي بكر عنه. ورواه عن أبي بكر قيس بن أبي حازم بهذا الإسناد. ورواه أبو معمر عن أبي بكر، واختلفوا في رفع حديث أبي معمر: فرواه جماعة عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي معمر، عن أبي بكر موقوفًا، وأسنده بعضهم، والذي أسنده فليس بالحجة في الحديث، والسري بن إسماعيل ليس بالقوي، وقد حَدَّثَ عنه الزهري، وجماعة كثيرة واحتملوا حديثه. قال ابن حجر في إتحاف المهرة (8/ 217): أبو معمر لم يسمع من أبي بكر. وقد قال البزار: إنَّ بعض أصحاب حماد رفعه عن الحجاج عن الأعمش، والحفاظ يوقفونه. وقال الدارقطني: والموقوف أشبه بالصواب. وقال الإمام أحمد في أصول السنة ــ كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 175) ــ بعد أن ذكر جملةً من الأحاديث: ونحوه من الأحاديث مما قد صحَّ وحُفِظَ. انظر: العلل للدارقطني (1/ 254، 262)، السلسلة الصحيحة (7/ 1111/ ح 3370)، تنبيه الهاجد (1/ 592/ ح 494).

(1/193)


أحدهما» (1)، وقوله: «لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كُفْرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم» (2)، وقوله: «أَيُّمَا عبدٍ أَبَقَ من مواليه فقد كفر» (3) وهذا ظاهره كفر، لكن يقولون: هو كفر دون كفر. وفي الحديث المتفق على صحته: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (4)، فقد _________ (1) أخرجه البخاري (6103) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه البخاري (6830) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وقد أخرج البخاري (6768) ومسلم (62) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: «لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فهو كفر». (3) أخرجه مسلم (68) من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -. (4) أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -.

(1/194)


يكون [54/ أ] في الرجل شعبة من النفاق والكفر، وإن كان معه من الإيمان ما يخرج به من النار ولا يخلد فيها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الإيمان ما يزن ذرة» (1). ومذهب أهل السنة والحديث: أن الإيمان يَتبعَّض؛ فبعضه يمنع الخلود في النار، وبعض الكفر والنفاق يقتضي دخول النار كسائر الكبائر. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فهو كما قال» مع أن الحالف لم يقصد أن يكون كافرًا، لا يستلزم أن يكون من حلف يمينًا غموسًا بنذر أو طلاق أو عتاق، لأنَّ هذا من باب الوعيد (2) [54/ ب] كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف يمينًا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان» (3) ثم غضبه عليه إذا لقيه يزول بالتوبة وبالحسنات الماحية وبغير ذلك؛ فكذلك كونه «كما قال» هو ــ أيضًا ــ وعيد يزول بالتوبة وبالحسنات الماحية. وأما كونه مُطلِّقًا ومعتقًا وناذرًا فهو مشروط بقصد المتكلم بأسباب ذلك، أو بقصد حكم ذلك لأجل النزاع في الهازل، والحالف بذلك لم يقصد واحدًا منهما فلا نثبت حكم ذلك في حقه ــ كما أَنَّ المكره على ذلك لا يثبت في حقه حكم ذلك ــ ولكن هو داخل تحت الوعيد. فقوله: «لقي الله وهو عليه غضبان» فهذا الوعيد لكل من حلف يمينًا فاجرة من أيمان المسلمين ولو كانت بنذر أو طلاق أو عتاق، ولهذا من _________ (1) أخرجه البخاري (44)، ومسلم (193) من حديث أنس - رضي الله عنه - بلفظ مقارب. (2) باقي الورقة قام الناسخ بشطبها، لأنها إعادة لما ورد في الصفحة التي قبلها. (3) أخرجه البخاري (2356)، ومسلم (138) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

(1/195)


حلف يمينًا غموسًا بالكفر لم يُجعل مرتدًّا كسائر المرتدين الذين تباح دماؤهم بالردة لأنهم بدلوا دينهم، فلزوم الطلاق والعتاق والنذر له عند كذبه في الغموس وحنثه في غيرهما بمنزلة جعله مرتدًّا عند كذبه وحنثه وهذا باطل؛ فكذلك الأول. وأيضًا؛ فقول الصحابة لها: كَفِّرِي يمينك، ينصرف إلى اليمين التي ذَكَرَتْها لهم، وهي قولها: كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية إِنْ لم تفرق بينك وبين امرأتك، وهي يمين واحدة عَلَّقَتْ فيها الهديَ والعتقَ والكفرَ، ولهذا لما أخذ أحمد بهذا الأثر، جعل كفارة واحدة تجزئ في هذا كُلِّهِ، فقال فيمن قال: إنْ فعلتُ كذا فمالي هدي وعليَّ الحج وأنا يهودي ونصراني: تجزئه كفارة يمين واحدة (1)، واستدل بهذا ــ أيضًا ــ على أَنَّ الحلف بالكفر فيه الكفارة عند هؤلاء الصحابة، واتبعهم في ذلك إذ لم يخالفهم غيرهم، فإنه لو لم تكن يمينًا مُكَفَّرَة لأفتوها بالكفارة فيما يُكَفَّر، وقالوا في الباقي: لا كفارة فيه. وأما قوله: (إنه ليس في قول زينب: خَلِّ بين الرجل وبين امرأته؛ أمرًا بالتكفير). فيقال: إِنْ كانت زينب وحفصة لم يأمرا بالتكفير، بل جعلا هذه يمينَ لغوٍ، فهذا يصلح أَنْ يحتج به مَنْ رأَى ذلك يمينًا غير منعقدة، فلا يقع عتق ولا نذر ولا كفارة في ذلك، وهذا مذهب ابن جرير [55/ أ] وداود وأصحابه كابن حزم، واحتج هؤلاء بهذا. _________ (1) مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (2/ 484).

(1/196)


وَطَرَدَ داود وأصحابه أصلهم في الطلاق، فقالوا: هو يمين غير منعقدة، فلا يلزم به طلاق ولا كفارة؛ فعلى هذا التقدير يكون هؤلاء الصحابة قد جعلوا هذه أيمانًا غير منعقدة، وهو خلاف قول المعترض وأمثاله: إنها ليست أيمانًا أو إنها أيمانٌ تُلْزِمُ الحالف فيها ما التزمه. وإذا كانوا يقولون: إِنَّ الحالف بالعتق لا يلزمه العتق ولا كفارة فيه= ثبت النزاع في العتق؛ وحينئذٍ فنقيم الدليل على أَنَّ هذه أيمان ليست كالتعليقات التي يلزم فيها المعلَّق. وأما كونها يمينًا مكفَّرة أو غير مكفَّرة فهو مقام آخر، والقول بالتكفير ثابت (1) عن السلف لا ريب فيه، يُقِرُّ بِهِ هؤلاء الذين قالوا إنها أيمان غير منعقدة كابن جرير وداود وابن حزم، وقد تقدم نقل ابن جرير وابن حزم للنزاع في ذلك عن الصحابة والتابعين، فلا يمكن أحدًا منهم دعوى الإجماع على عدم التكفير، وإنما النزاع في كونها من جنس أيمان المسلمين أو من جنس أيمان الكفار، فتبين أَنَّ ما ذكره المعترض يضره لا ينفعه. قال أبو محمد ابن حزم (2): (وكذلك من أخرج نذره مخرج اليمين فقال: عليَّ المشي إلى مكة إِنْ كلمت فلانًا وإن زُرْتُ (3) فلانًا؛ فهذا (4) لا يلزم الوفاء بِهِ ولا كفارة فيه إلا الاستغفار فقط). ثم قال (5): (وقولنا هو قول طائفة من السلف؛ كما روينا من طريق _________ (1) كررها الناسخ. (2) في المحلى (ص 988). (3) في الأصل: (فرق)، والمثبت من المحلى، مع وجود سقط يسير هنا. (4) كذا في الأصل، وفي المحلى: (فكل هذا). (5) المحلى (ص 991).

(1/197)


عبد الرزاق، عن المعتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه، عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت لي مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية أو نصرانية إن لم تطلق امرأتك، فأتيت زينب بنت أم سلمة ــ أم المؤمنين ــ فجاءت معي إليها، فقالت: يا زينب ــ جعلني الله فداك ــ إنها قالت: كل مملوك لها حر وهي يهودية. فقالت لها زينب: يهودية ونصرانية! خَلِّ بين الرجل وامرأته، فكأنها (1) لم تقبل، فأتيت حفصة ــ أم المؤمنين ــ فأرسلت ــ يعني: إليها ــ، فقالت: يا أم المؤمنين ــ جعلني الله فداك ــ إنها قالت: كل مملوك لها حرٌ وكل مالٍ لها هدي وهي يهودية ونصرانية، فقالت أم المؤمنين: يهودية ونصرانية! خَلِّ بين الرجل وبين امرأته). قال (2): (ومن طريق عائشة [55/ ب] ــ أم المؤمنين ــ فيمن قال لغريمه: إِنْ فارقتك فمالي عليك في المسلمين (3) صدقة، ففارقه؛ أَنَّ هذا لا شيء يلزمه فيه). قال (4): (وَصَحَّ هذا عن الحَكَم بن عُتيبة، وحماد بن أبي سليمان من طريق شعبة عنهما. وهو قول الشعبي، والحارث العكلي، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وأبي سليمان وأصحابنا). _________ (1) في الأصل: (فإنها)، والمثبت من المحلى. (2) المحلى (ص 991). (3) في المحلى: (المساكين). (4) المحلى (ص 991).

(1/198)


قال (1): (فإن قالوا: فقد أفتى ابن عمر في ذلك بكفارة يمين. قلنا: نعم؛ وقد اختلف الصحابة - رضي الله عنهم -؛ فما الذي جعل قول بعضهم أولى من قول بعض بلا برهان؟!). قال (2): (وصحَّ عن عائشة وأم سلمة ــ أمَّيِ المؤمنين ــ. وعن ابن عمر أنه جعل في قول ليلى بنت العجماء: كل مملوكٍ لها حر وكل مالٍ لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك كفارةَ يمين واحدة، وعن عائشة ــ أم المؤمنين ــ - رضي الله عنها - أنها قالت فيمن قال في يمينٍ: مالي ضرائب في سبيل الله، أو قال: مالي كله في رتاج الكعبة: كفارة يمين. وعن أم سلمة وعائشة ــ أمي المؤمنين ــ فيمن قال: عليَّ المشيُ إلى بيت الله إن لم يكن كذا: كفارة يمين، من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع عنهما. وَرُوِّينَا عن جابر بن عبد الله: النذر كفارته كفارة يمين. وعن ابن عباس مثل هذا. وعن [عمر بن الخطاب] (3) نحوه. _________ (1) المحلى (ص 991). (2) المحلى (ص 991). (3) في الأصل: ابن عمر بن الخطاب، وهو خطأ، والتصويب من المحلى (ص 991) ومما تقدم (ص 143).

(1/199)


وعن عكرمة والحسن فيمن قال: مالي كله في رتاج الكعبة: كفارة يمين). قال (1): (وصحَّ عن طاووس وعطاء؛ أما طاووس فقال: الحلف بالعتاق ومالي هدي وكل شيء لي في سبيل الله وهذا النحو: كفارة يمين، وأما عطاء فقال: فيمن قال عليَّ [ألف] (2) بدنة أو قال عليَّ ألف حجة أو قال مالي هدي أو قال مالي في المساكين: كل ذلك يمين). قال (3): (وهو قول قتادة، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر. قال أبو محمد: كل هذا خلافٌ لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأنَّ الشافعي أخرج من ذلك العتق المعين) (4). فهذا ابن حزم يعترف بصحة النقل عن الصحابة والتابعين فيمن قال: إن فعل فكل مملوك لي فهو حر بإفتائه بكفارة يمين، وأثبت ذلك عن ابن عمر ــ في حديث ليلى بنت العجماء ــ وعن عائشة وأم سلمة، ثم أعاده عن أم سلمة وعائشة من طريق أشعث [56/ أ] عن بكر، ولكنه ادعى أن زينب وحفصة أفتيا بسقوط الكفارة حيث لم يكن ذلك مذكورًا في رواية معتمر عن أبيه، كما لم يذكرها عارم عن معتمر، ولا ذكرها عبد الرزاق، فيما ذكره ابن حزم. _________ (1) المحلى (ص 991). (2) زيادة من المحلى. (3) المحلى (ص 991). (4) هنا انتهى النقل من المحلى.

(1/200)


وأما ابن عبد البر فذكر أَنَّ في رواية عبد الرزاق (1) عن معتمر: ذكر الكفارة عن الثلاثة، ولذلك لم يذكره يحيى بن سعيد من رواية التيمي، وضم إلى ذلك رواية عائشة. فقال: ليس في الحديث أنهما أسقطتا الكفارة، وإنما في الحديث عدم ذكرها، وقد جاء ذكرها من طريق آخر، وأَنَّ الثلاثة أفتوها بكفارة يمين، بل وفي غير هذا الطريق أَنَّ غير هؤلاء الثلاثة من الصحابة كعائشة وأم سلمة [وابن عمر] (2) أفتوها بكفارة يمين (3). قال البخاري في تاريخه ــ ونقله منه أبو بكر البيهقي ــ: (حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إياس بن أبي تميمة ــ أبو مخلد صاحب البصريين (4) ــ، حدثنا عبدالرحمن بن أبي رافع، عن أبيه أنه كان مملوكًا لابنة عم عمر بن الخطاب، فحلفت أَنَّ مالها في المساكين صدقة، فقال ابن عمر: كَفِّرِي يمينك) (5). قال: (وحدثني محمود، عن النضر، أخبرنا أشعث، عن بكر بن عبد الله، _________ (1) في الأصل: (ابن عبد الرزاق)، والصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل طمس مقدار كلمة، ولعله ما أثبتُّ. (3) لم أجد كلام ابن عبد البر بالنص، وإنما بمعناه في الاستذكار (15/ 107 وما بعدها). مع أني أخشى أن يكون نقل ابن تيمية إنما هو من (الأجوبة المستوعبة من المسائل المستغربة) لابن عبد البر؛ ففي الحديث العشرين وقع سقطٌ في المخطوط، والموجود منه هو آخر الكلام، وفيه ما يُشير إلى أنه يتعلق بمسألة اليمين على الأهل. (4) عند البخاري والبيهقي: البصري. (5) التاريخ الكبير (1/ 435)، السنن الكبير (20/ 173/ ح 20065).

(1/201)


عن أبي رافع، عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة قالوا: تكفر يمينها) (1). وقال: (حدثنا حجاج، عن حماد، عن علي بن زيد (2)، عن أبي رافع، عن زينب ــ امرأة من المهاجرات ــ وعبد الله بن عمر وحفصة بنت عمر نحوه (3). وعن حماد، عن ثابت، عن أبي رافع [نحوه] (4). وعن حماد، عن حميد، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع نحوه) (5). ولفظ البخاري ــ فيما عندنا من تاريخه الكبير (6) ــ: (قال موسى، حدثنا إياس بن أبي تميمة، حدثني عبد الرحمن بن أبي رافع، عن أبيه أنه كان مملوكًا لابنة عم عمر بن الخطاب [فحلفت أنَّ مالها في المساكين صدقة] (7)، فقال ابن عمر: كَفِّرِي يمينك. وقال: حجاج: حدثنا حماد، عن علي بن زيد (8)، عن أبي رافع أَنَّ ليلى _________ (1) التاريخ الكبير (1/ 435)، السنن الكبير (20/ 174/ ح 20066). (2) في الأصل: (يزيد)، وكتب الناسخ في الهامش ما هو مثبت، وعليها حرف (ظ) أي هو الظاهر، وهو الصواب الموافق لما في التاريخ الكبير والسنن، ولما سيأتي قريبًا. (3) التاريخ الكبير (1/ 435)، السنن الكبير (20/ 173/ ح 20067). (4) زيادة من التاريخ الكبير والسنن. (5) التاريخ الكبير (1/ 435)، السنن الكبير (20/ 174/ ح 20069). (6) التاريخ الكبير (5/ 281). (7) إضافة من الموضع الأول (1/ 435) كما تقدم، وليس في مطبوع التاريخ الكبير في هذا الموضع. (8) في الأصل: (يزيد)، وكتب الناسخ في الهامش ما هو مثبت، وعليها حرف (ظ) أي هو الظاهر، وهو الصواب الموافق لما في التاريخ الكبير والسنن ولما سيأتي قريبًا.

(1/202)


حلفت فأتت (1) زينب من المهاجرات، وقالت حفصة بنت عمر وعبد الله بن عمر: كفري يمينك. وعن ثابت، عن أبي رافع نحوه. وقال محمود: حدثنا النضر، حدثنا أشعث، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع حلفت مولاةُ أبي رافع فسألت عائشة وأم سلمة وابن عمر فأمروها أن تكفر. وقال إسحاق: عن معتمر، عن أبيه، عن بكر، عن أبي رافع [قال: حلفت] (2) مولاتي ليلى بنت [العجماء] (3) فأتت زينب بنت أم سلمة ــ وكانت ذات فقه بالمدينة ــ، فقالت: كَفِّرِي، وقال ابن عمر: كَفِّرِي) (4). فهذه ثلاث طرق عن حفصة وزينب أنهما قالتا: تكفِّر، وفيها طريق حماد، عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع؛ وهي طريق صحيحة، وطريقان متابعة لبكر؛ أحدهما: طريق حماد، عن ثابت، عن أبي رافع وهي طريق صحيحة، وحديث حماد بن سلمة عن ثابت البناني من أصح الحديث، وثابت ثابت مثل بكر بن عبد الله، وقد وافقا عليَّ بن زيد عن أبي رافع؛ قالوا ثلاثتهم: عن أبي رافع أنهم قالوا مثلما في حديث أشعث: تُكَفِّر يمينها؛ كما في رواية ابن أبي رافع عن أبيه ذكر ابن عمر وحده أنه قال: كفري يمينك، _________ (1) في الأصل: (فأتتها)، والمثبت من التاريخ الكبير. (2) في الأصل: (قالت)، والمثبت من التاريخ الكبير. (3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. (4) انتهى النقل من التاريخ الكبير (5/ 281).

(1/203)


وفي رواية أشعث: عن بكر عن أبي رافع أنَّ ابن عمر وعائشة وأم سلمة قالوا: كفري يمينك. وهذه الطرق التي ذكرها البخاري لم يستوعبها غيره كما استوعبها، ومع هذا فلم يذكر حديث معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه، ولم يذكر غير الصدقة، لأنه اختصرها ومقصوده ذكر الرجال، ومع هذا فلم يذكر اختلافًا عنهم في ذكر الكفارة، بل جعل رواية المُشَبَّهِ كرواية المشبَّهِ به أنهم قالوا: كفِّري يمينك. وقال أبو عمر بن عبد البر (1): (وروى ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن ثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع ــ وكان أبو رافع عبدًا لليلى بنت العجماء، ابنة عمةٍ لعمر بن الخطاب ــ: أَنَّ سيدته قالت: مالها هدي، وكل شيء لها في رتاج الكعبة، وهي مُحْرِمَةٌ بحجة، وهي يومًا يهودية ويومًا نصرانية ويومًا مجوسية إِنْ لم تطلق امرأتك، فانطلقتْ إلى حفصة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إلى زينب بنت أم (2) سلمة، ثم إلى عبد الله بن عمر؛ وكلهم يقول: كَفِّرِي عن يمينك، وخَلِّي (3) بين الرجل وامرأته. قال أبو عمر: ليس في رواية ابن وهب لهذا الخبر: وكل مملوك لها حر، وهو من رواية سليمان التيمي وأشعث الحمراني عن بكر بن عبد الله _________ (1) الاستذكار (15/ 110). (2) كذا في الأصل، وفي المطبوع من الاستذكار: (أبي). (3) في الأصل: (خَلِّ)، والتصويب من الاستذكار.

(1/204)


المزني في هذا الحديث. قال: وفي رواية أشعث في هذا الحديث: ابن عباس وأبو هريرة [وابن عمر] (1) وحفصة وعائشة وأم سلمة، وإنما [57/ أ] هي زينب بنت أم سلمة) (2). فهذه عن ثابت البناني وبكر جميعًا، وفيها أن الثلاثة يقولون (3) لها: (كَفِّرِي عن يمينك، وَخَلِّي بين الرجل وامرأته)، وكذلك أشعث وغيره ذكروا قول الثلاثة لها: (كَفِّرِي عن يمينك، وَخَلِّي (4) بين الرجل وامرأته) مع ذكرهم العتق. ورواه الأوزاعي: حدثنا جسر بن الحسن، حدثني بكر بن عبد الله المزني، حدثني رُفيع (5) قال: كنتُ أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار، فَحَلَفَتْ بالهدي والعتاق أَنْ تُفَرِّقَ بيننا، فأتيت امرأة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت لها، فأرسلت إليها أَنْ كَفِّرِي يمينك، فَأَبَتْ، ثم أتيتُ زينب ابنةَ (6) أم سلمة فذكرت ذلك لها، فأرسَلَت إليها أَنْ كَفِّرِي يمينك فَأَبَتْ، فأتيت ابن عمر فذكر ذلك له فأرسل إليها أَنْ كَفِّرِي يمينك فَأَبَتْ، فقام ابن عمر فأتاها، _________ (1) زيادة من الاستذكار. (2) انتهى النقل من الاستذكار (15/ 110 - 111). (3) في الأصل: (يقول)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (خَلِّ)، والصواب ما أثبت. (5) عند أبي العباس الأصم في جزئه: رافع أو رفيع. (6) في إعلام الموقعين (4/ 437): (و) وفي بعض النسخ (أو) وليس فيه (ابنة)، والمثبت من الأصل ومن جزء حديث أبي العباس الأصم.

(1/205)


فقال: أرسلتْ [إليكِ] (1) فلانة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وزينب أَنْ تكفري يمينك فأبيتِ؟! قالت: يا أبا عبد الرحمن حلفتُ بالهدي والعتاقة. قال: وإِنْ كُنْتِ حَلَفْتِ [بهما]. وقد رواه أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجُوزجاني (2) في كتاب (المترجَم) له (3) ــ الذي شرح فيه مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي (4) (5) _________ (1) زيادة من إعلام الموقعين، ومثلها ما في آخر الأثر. (2) أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، نسبة إلى جوزجان من كور بلخ بخراسان، له عن أحمد مسائل مشهورة في جزءين، وكان الإمام أحمد يكاتبه، توفي سنة (256) أو (259). انظر: طبقات الحنابلة (1/ 257)، البداية والنهاية (14/ 544)، تاريخ دمشق (7/ 278). (3) وقد ساق إسناده المجيب في (1/ 305)، وكذلك ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 437) فقالا: وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في (المترجم) له: حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي به. وأخرجه أبو العباس الأصم في الثاني من حديثه (ح 18) قال: أخبرنا عقبة، عن الأوزاعي به. (4) إسماعيل بن سعيد الكسائي الشالنجي، فقيه، صنَّف كتاب (البيان في الفقه) على مذهب أبي حنيفة، أثنى عليه الإمام أحمد فقال: (كان من الإسلام بمكان، كان من أهل العلم والفضل). توفي سنة (230)، وذكره ابن الجوزي في وفيات سنة ست وأربعين ومائتين. انظر: الجرح والتعديل (2/ 587)، طبقات الحنابلة (1/ 273)، تاريخ الإسلام (5/ 533)، الجواهر المضية (1/ 406)، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (11/ 341). (5) هذه المسائل لا أعلم عن وجودها شيئًا وأظنها مفقودة، إلا أنَّه كتاب عظيم يثني عليه ابن تيمية كثيرًا؛ فقد قال في الفتاوى الكبرى (5/ 111): (ومسائل إسماعيل بن سعيد هذا من أَجَلِّ مسائل أحمد ... ). وانظر: مجموع الفتاوى (21/ 511)، (30/ 403)، (34/ 114)، جامع المسائل (3/ 402)، بيان الدليل (ص 13)، شرح عمدة الفقه (1/ 363). وانظر ما سيأتي (ص 859 - 680).

(1/206)


عن أحمد بن حنبل ــ وسليمان بن داود الهاشمي (1) وابن أبي شيبة. ففي هذه الطرق كلها أَنَّ الثلاثة أفتوها بكفارة (2). ورواه الدارقطني (3) ــ ومن طريقه البيهقي (4) ــ: (5) عن أبي بكر النيسابوري، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا أشعث، حدثنا بكر بن عبد الله، عن أبي رافع أَنَّ مولاته أرادت أَنْ تُفَرِّقَ بينه وبين امرأته، فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا (6) نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل الله وعليها المشي إلى بيت الله إِنْ لم تُفَرِّق بينهما، فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة _________ (1) سيلمان بن داود الهاشمي العباسي، إمام حافظ من كبار الأئمة، توفي سنة تسع عشرة ومائتين. انظر: طبقات ابن سعد (7/ 343)، التاريخ الكبير (4/ 10)، سير أعلام النبلاء (10/ 625). (2) قاعدة العقود (1/ 294 - 297). (3) في كتابه السنن (5/ 288). (4) في السنن الكبير (20/ 174/ ح 20070). وأخرجه البخاري ــ ومن طريقه البيهقي ــ كما تقدم قريبًا مختصرًا. (5) في الأصل زيادة: (رواه الدارقطني) ولا حاجة لها. (6) لم تظهر الكلمة كاملة، وبإثباتها يستقيم الكلام.

(1/207)


- رضي الله عنهم - فكلهم قال لها: أتريدين أَنْ تكوني مثل هاروت وماروت؟! وأمروها أَنْ تُكَفِّرَ يمينها وتخلي (1) بينهما. وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا الأنصاري ــ يعني: محمد ــ، عن الأشعث، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع أَنَّ مولاته حلفت بالمشي إلى بيت الله وكل مملوك لها حر وهي يومًا يهودية ويومًا [57/ ب] نصرانية وكل شيء لها في سبيل الله إن لم تفرق بينه وبين امرأته فكلهم يقولون: كَفِّرِي يمينك، وَخَلِّي (2) بينهما ففعلت (3). وقد تقدم قول ابن عبد البر في رواية أم سلمة إنما هي زينب بنت أم سلمة (4)؛ ففي هذه الرواية أَنَّ حفصة ــ أيضًا ــ أفتتها بكفارة يمين وكذلك زينب على قول ابن عبد البر، وإن كانت (5) استفتت أم سلمة ــ أيضًا ــ، فهي ــ أيضًا ــ ممن أفتاها بكفارة يمين كحفصة وابن عمر وابنتها زينب. ففي هذه الروايات المتعددة التي يُصَدِّقُ بعضها بعضًا ــ وأكثرها على شرط الصحيح ــ أن الثلاثة أفتوها بكفارة يمين، وهذا هو الذي نقله عامة العلماء عن هؤلاء؛ كما نَقَلَ ذلك: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن المنذر وابن عبد البر _________ (1) في الأصل: (وتخلِّ)، والمثبت من السنن. (2) في الأصل: (وَخَلِّ)، والصواب ما أثبت. (3) اختلاف الفقهاء (ص 492)، وهو نفس الإسناد السابق الذي أخرجه الدارقطني والبيهقي. (4) في (ص 205). (5) في الأصل: (كان)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/208)


وأمثالهم من أهل العلم = نَقَلُوا عن هؤلاء أنهم أفتوها بكفارة يمين. وابن حزم قد سَلَّمَ أَنَّ هذا صحيح عن ابن عمر وعن عائشة وأم سلمة؛ فابن جرير يصحح أَنَّ أم سلمة أم زينب هي ممن أفتى بكفارة يمين، وابن عبد البر يقول: بل زينب هي التي أفتت بذلك، فإن كانت كلاهما أفتت بذلك فحسن، وإِنْ كانت المفتية بذلك إحداهما (1)، فلا ريب أنها زينب، كما جاء ذلك في الروايات الثابتة، وفيها أنها أفتت بكفارة يمين. فَتَبَيَّنَ أَنَّ عدمَ ذكر ذلك في الرواية المذكورة عن سليمان لا يدل على شيء أصلًا، ولو لم ينقل أنهم أفتوها بكفارة يمين، فليس في قول القائل: (خَلِّي (2) بين الرجل وامرأته) ما يدل على أنه لا كفارة عليها، بل فيه أَمْرٌ لها بأنْ لا تُصِرَّ على اليمين بل تحنث فيها، ولم يَنْقُلْ أحدٌ أنهم أفتوها بلزوم ماحلفت به لا في العتق ولا في غيره، فالروايات المعروفة الصحيحة لم يعارضها شيء أصلًا، بل قد تبيَّن أنهم أفتوها بكفارة يمين؛ كما قاله جماهير العلماء الناقلين للإجماع والاختلاف. وابن جرير قبل ابن حزم، وهو موافق له على ألا كفارة في ذلك، لكن هو معترف بأن هؤلاء الصحابة إنما أفتوها بكفارة يمين. وقد تقدم قوله (3) لمن ادعى إجماعًا أَنَّ القائل: كل مملوك [له] (4) حُرٌّ _________ (1) في الأصل: (أحدهما)، والوجه ما أثبتُّ. (2) في الأصل، (خَلِّ)، وسبق التنبيه عليها مرارًا. (3) أي: قول ابن جرير الطبري في كتابه (اللطيف). (4) يحتمل وجود كلمة هنا غير ظاهرة في الأصل، تقديرها ما أثبتُّهُ.

(1/209)


إِنْ فعلت كذا يقع به العتق ولا كفارة عليه، وأنه قال: إِن ادعوا [58/ أ] في ذلك إجماعًا، قيل لهم: لا عِلْمَ لكم باختلاف أهل العلم، وقد رُوِيَ عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعة يَكْثُرُ عددهم من أئمة الصحابة والتابعين أنَّ في ذلك كفارة يمين (1). وهذا النقل عن القاسم بن محمد يُعَارِضُ نَقْلَ ابن حزم عنه أنه لا شيء عليه (2)، وكذلك نَقَلَ عن ابن المسيب خلاف ما نقل عنها (3)، وما نقله ابن حزم من إثبات ذلك فهو منقول، وكذلك ما نقله ابن جرير؛ فلا يكاد القائل يغلط في الإثبات إلا قليلًا، وأكثر الغلط في النفي. فقول (4) ابن حزم: (إنهما أسقطا الكفارة) غلطٌ بلا ريب، وما نقله عن عائشة - رضي الله عنها - من موافقة ذلك لم يذكر إسناده (5)، وقد ثبت عن عائشة من الوجوه الثابتة باتفاق أهل العلم أنها كانت تقول في مثل ذلك بكفارة يمين، وهذا معروف عنها من غير وجه (6)، فلا يعارض بنقل لم يثبت أو لفظ لم _________ (1) تقدمت الإشارة إلى ذلك في (ص 141). (2) المحلى (ص 991). (3) كذا في الأصل. وانظر: المحلَّى (ص 991)، السنن الكبير للبيهقي (20/ 172/ ح 20064). (4) في الأصل: (يقول)، والصواب ما أثبتُّ. (5) حيث قال في المحلى (ص 991) بعد أنْ ساق حديث أبي رافع مع مولاته: (ومن طريق عائشة ــ أم المؤمنين ــ فيمن قال لغريمه: إنْ فارقتك فمالي عليك في المساكين صدقة ففارقه: إنَّ هذا لا شيء يلزمه فيه). (6) رواه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 483/ ح 15987) عن ابن جريج، عن عطاء، عن صفية، عن عائشة. ورواه البيهقي في السنن الكبير (20/ 171/ ح 20061) من طريق سلمة بن كهيل، عن عطاء، عن عائشة دون ذكر صفية. ورواه الدراقطني في سننه (5/ 281/ ح 4320) من طريق غالب بن عبيد الله، عن عطاء، عن عائشة مرفوعًا بزيادات فيه. قال الدارقطني: غالب ضعيف الحديث. وسيأتي ــ قريبًا ــ تفصيل الروايات عن عائشة في كلام المجيب.

(1/210)


يفهم معناه. وأما قول القائل: (بمعنى لا يدري مَنْ هوَ) (1)، والمجيب ذكر ذلك في نقل مذاهب الصحابة، لأنه قد علم أن مرادهما ذلك بالروايات الثابتة عنهما كما قد بين في غير هذا الموضع (2)، وكما نقله سائر أهل العلم عنهما من أنَّ قولهما هو الإفتاء بكفارة يمين في هذا الجواب؛ كما نقله أحمد بن حنبل وأبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن المنذر وابن عبد البر وعامة العلماء من نقل قولهما، لم أعلم أحدًا ادعى عليهما نفي التكفير إلا ابن حزم، وقد عُلِمَ أَنَّ هذا نفي منه لما ليس معه دليل على نفيه البتة، لو لم يكن معنا إثباتٌ يناقض هذا النفي؛ فكيف وقد ثبت عنهما في القصة أنهما أفتيا بكفارة يمين؟! والروايات لَمَّا سُكِتَ في بعضها عن التكفير، وفي أكثرها ذكر التكفير عنهما= بَيَّنَ المجيب ذلك لئلا يَظُنَّ ظَانٌّ أنهما أفتيا بسقوط الكفارة كما ظنه ابن حزم. _________ (1) هذا من كلام المعترض حيث قال (ص 189 - 190): (والقائل: يعني: (وكفري عن يمينك) لا أعلم مَنْ هو من الرواة، والظاهر أنه المصنف؛ فإني لم أقف على هذه اللفظة في شيءٍ من طرق الحديث). (2) مجموع الفتاوى (35/ 342).

(1/211)


ومحمد بن جرير يختار أنه لا كفارة في الحلف بالنذر، وهو مع هذا معترف بأن حديث ليلى بنت العجماء إنما أفتى فيه الصحابة كلهم بالكفارة، لم يفت أحد منهم بسقوط الكفارة، وإنما أثبت النزاع [58/ ب] في ذلك بآثار ذكرها نقلها عن التابعين، وبأثرٍ نقله عن عائشة مع ذكر الاختلاف عنها. قال (1) محمد بن جرير في كتابه (اللطيف) (2): (ويسأل القائلون: إِنَّ العتق واقعٌ بمملوكِ القائلِ: مملوكُهُ حُرٌّ إن كلم اليوم فلانًا إذا حنث في يمينه؛ أَتُسْقِطُونَ (3) عنه الكفارة؟). إلى أَنْ قال: (فإن ادعوا أَنَّ ذلك إجماع. قيل لهم: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، وقد روي عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين أَنَّ في ذلك كفارة يمين). إلى أَنْ قال: (إِنْ قيل: إِنَّ مِنْ أصلك أَنَّ ما كانت الحجة مُجْمِعَةٌ عليه: دينٌ لا يجوز خلافه، ولا يسع أحدًا الاعتراض فيه، وقد تركت أصلك في ذلك بإسقاط الكفارة عن الحالف بصدقة ماله والحج والاعتكاف وما أشبه ذلك من أعمال البر إذا حنث في حلفه بذلك، وتركت (4) إلزامه بالوفاء بما حلف (5) به، إذ كان الذي عليه عُظْمُ متفقهة العراق والحجاز أن على الحالف به الوفاء، _________ (1) في الأصل: (قاله)، والصواب ما أثبتُّ. (2) انظر ما تقدم (ص 141). (3) في الأصل: (المسقطون)، والمثبت من قاعدة العقود (2/ 332). (4) في الأصل: (وتركك)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (5) في الأصل: (حلفت)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/212)


وإن كان [في] (1) ذلك اختلاف بَيْنَ (2) متقدمي الأمة من الصحابة والتابعين، وتنازع بين متأخري أهل الحجاز بإيجاب بعضهم في ذلك إذا حنث صاحبه: كفارة يمين، وإيجاب بعضهم: الوفاء به. قيل: لو وُفِّقْتَ لفهم ما نقوله في صحة الحجة القاطعة للعذر فيما نُقِلَ من الشرائع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلمتَ أَنَّا من مذهبنا على سَنَنٍ واحدٍ؛ وذلك: أَنَّ الذي نقضي عليه من الأحكام فيما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - مما لم يأت عنه بروايته الآحاد العدول أنه حجة قاطعة عُذْرَ مَنْ بلغته= ما كان مستفيضًا علمه في علماء أمصار الإسلام منتشر فيهم خلافه قديمًا وحديثًا؛ فأما ما كان الاختلاف فيه بين الصحابة والتابعين موجودًا مستفيضًا قديمًا من غير استنكار الأمة ذلك فيه بينهم، فلا شك أن الحكم فيه كان بينهم عن اجتهاد واستخراج لا عن توقيف، وإذا كان كذلك= كان لأهل العلم: الاجتهادُ وتَخَيُّرُ الأشبه من أقوالهم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -). قال: (فَإِنْ قِيلَ: فاذكر بعض من قال هذا القول [59/ أ] من الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الدين ليجعله حجةً مَنْ كان باختلاف السلف وعلماء الخلف جاهلًا؟! قيل: حدثنا عبد الحميد القَنَاد (3)، حدثنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية (4) بنت شيبة، عن عائشة في الرجل يقول: _________ (1) إضافة من يقتضيها السياق. (2) وضع الناسخ فوق الياء علامة على كونها مشدَّدة، ولا أدري ما وجهه؟! (3) انظر: معجم شيوخ الطبري (ص 302 وما بعدها). (4) في الأصل: (حبيبة)، والصواب ما أثبتُّ، كما في مصادر التخريج.

(1/213)


كل مالي في رتاج الكعبة. قالت: إِنَّ هذا البيت لغني عن ماله؛ فلم تره شيئًا (1). وحدثنا أبو كريب، حدثنا هشيم، حدثنا مطرف، عن الشعبي والحكم والحارث أنهم قالوا عن رجل قال: كل مالي صدقة في المساكين فحنث. قالوا: ليس بشيء (2). وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد، أخبرنا موسى بن هلال، سألت ابن المسيب عمن قال: عليَّ المشيُ إلى بيت الله. فقال: لا شيء عليه حتى ينذر (3). _________ (1) أخرجه ابن الجعد (ح 2404) من طريق شريك به، وزاد: إنَّ هذا البيت يُنْفَقُ عليه من مال الله. ثم أخرجه برقم (2315) من طريق شريك، عن جابر، عن عطاء، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة نحوه. وقالت: (يكفر عن يمينه). (2) رواه ابن وضَّاح ــ كما في الاستذكار (15/ 111) ــ قال: حدثنا زهير بن عباد، قال: حدثنا هشيم به. كما رواه ابن أبي شيبة ــ كما في الاستذكار (15/ 106) ــ قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن الشعبي والحارث العُكلي والحكم عن رجل جَعَلَ مالَهُ في المساكين صدقة في يمينٍ حَلَفَ بها. قالوا: (ليس بشيء). وقد أشار إلى هذا الأثر البغوي في شرح السنة (10/ 37). (3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (12559) قال: حدثنا حماد بن خالد الخياط، عن محمد بن هلال به. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 452) عن عبد الرحمن بن حرملة بنحوه. وجاء عن ابن المسيب خلاف هذا؛ كما في الموطأ وغيره. انظر: الاستذكار (15/ 24 وما بعدها)، وشرح السنة للبغوي (10/ 23).

(1/214)


وحدثنا ابن المثنى، أنبأنا ابن جعفر، ثنا شعبة سألت الحكم وحمادًا: عن رجل لزم غريمًا له، فقال: إِنْ فارقتُكَ فما عليك صدقة في المساكين، ففارقه. فقالا: ليس عليه شيء) (1). قال: (وتركنا ذِكْرَ كثيرٍ من القائلين بذلك كراهة إطالة الكتاب). قال: (فإِنْ قيل: فَإِنَّ عائشةَ قد روي عنها خلاف ذلك، وذلك فيما حدثكم به محمد بن عبد الأعلى، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: سُئلت عائشة عمن قال مالي هدي إلى الكعبة. فقالت: ليس عليه إلا كفارة يمين (2). قيل: غير مستنكر أَنْ تكونَ قد كانت تقول بأحد هذين القولين، ثم تبين لها خطؤه وصواب الآخر، فتركته وقالت بالآخر، فَرَوَى عنها كُلَّ قولٍ في ذلك مَنْ سمعها؛ يعني: وليس في اختلاف الرواية عنها في ذلك دلالة على أَنَّ إحدى الروايتين عنها صحيحة والأخرى باطلة). هذا كلامه. فأما هذا الذي ذكره عن عائشة؛ فمذهبها كفارة يمين في نفس المسألة التي روتها عنها صفية (3) بنت شيبة، وقد بَيَّنَ ذلك الأئمة الأثبات في هذه _________ (1) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (20/ 89) من طريق محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر به. قال ابن حزم في المحلى (ص 991) وصحَّ هذا ــ أيضًا ــ عن الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان. (2) أخرجه الأثرم ــ كما نقله المجيب (ص 447) ــ من طريق حسن بن صالح، عن ابن أبي نجيح به نحوه. (3) كذا في الأصل وفوقها (صح)، وفي الهامش: (حبيبة) ووضع بجانبها (ظ)، والذي في كتب الحديث المسندة: صفية.

(1/215)


المسألة، وذكروا أنها أفتت في ذلك بكفارة يمين في نفس هذه المسألة التي روتها صفية (1) بنت شيبة. رواه مالك، ورواه سفيان الثوري في جامعه ــ وقد رواه البيهقي في سننه من جامع سفيان ــ عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ رجلًا أو امرأةً سألتها عن شيءٍ كان بينها وبين ذي قرابةٍ لها، فحلفت [إنْ] (2) [59/ ب] كلمته فمالها في رتاج الكعبة. فقالت عائشة: يكفره ما يكفر اليمين (3). ورواه ــ أيضًا ــ عن منصور: يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه يزيد بن هارون، وقد رواه البيهقي ــ أيضًا ــ من هذه الطريق الصحيحة ــ أيضًا ــ عن يحيى، عن منصور بن عبد الرحمن ــ رَجُلٌ من بني عبد الدار ــ، عن أُمِّهِ صفية أنها سمعت عائشة - رضي الله عنها - وإنسانٌ يسألها عن الذي يقول: كل مال له في سبيل الله أو كل ماله في رتاج الكعبة ما يُكَفِّرُ ذلك؟ قالت عائشة: يكفره _________ (1) في الأصل: (حبيبة)، والمثبت من كتب الحديث. (2) إضافة يقتضيها السياق. (3) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 617) ــ ومن طريقه البغوي في شرح السنة 10/ 35 ــ عن أيوب بن موسى، عن منصور. ومن طريق الثوري: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 483/ ح 15988)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 172/ ح 20063). قال ابن حجر في التلخيص (4/ 171) عن رواية مالك: بسند صحيح، وصححه ابن السكن.

(1/216)


ما يكفر اليمين (1). وأما لفظ [ما] (2) رواه إبراهيم بن مهاجر، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة في الرجل يقول: كل مالي في رتاج الكعبة. قالت: إِنَّ هذا البيت لغنيٌ عن ماله فلم تره شيئًا (3)؛ فمراده لم تَرَهُ عقدًا لازمًا، فلا يلزمه بِهِ ما التزمه من النذر. ومثل هذا موجود في كلام الصحابة والتابعين يقولون: ليس بشيءٍ، ولم يَرَهُ شيئًا؛ يريدون نفي لزوم ذلك العقد، فإنَّ العاقد (4) السائل اعتقده عقدًا لازمًا يلزمه به ما جعله على نفسه فيريدون أَنْ يَنْفُوا هذا، فيقولون: (ليس بشيء) و (لم يره شيئًا) وهم مع ذلك موجبون للكفارة، لأنَّ الكفارة تجب بإيجاب الشارع لا بعقده. ومثل هذا: ما رواه الإمام أحمد بإسناده ــ وهو مما نقله عنه ابنه عبد الله، وذكره أبو بكر عبد العزيز (5) في الشافي (6) ــ، قال أحمد: حدثنا محمد بن _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة (12479)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 171/ ح 20062). وانظر (ص 447). (2) إضافة يقتضيها السياق. (3) أخرجه ابن الجعد في مسنده (ح 2404)، وسحنون في المدونة (1/ 576). (4) في الأصل: (العاقل)، وفي الهامش: (العاقد) وعليها حرف (ظ). (5) عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، المعروف بغلام الخلال، فقيه حنبلي، ولد سنة (285)، وتوفي (363). انظر: طبقات الحنابلة (3/ 213)، تاريخ بغداد (12/ 229)، سير أعلام النبلاء (16/ 143). (6) كتاب (الشافي) كتابٌ فقهي، كبيرٌ جدًا، نحو من ثمانين جزءًا، قال عنه الذهبي في السير (16/ 144): (ومن نظر في كتابه (الشافي) عرف محله من العلم، لولا ما بشَّعه بغضِّ بعض الأئمة، مع أنه ثقةٌ فيما ينقله).

(1/217)


جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس قال: سُئِلَ عن الخلع. فقال: ليس بشيء. فقال له قائل: إنك لا تزال تأتينا بشيء لا ندري ما هو؟! قال: والله لقد جَمَعَ ابن عباس بين رجل من أهل اليمن وامرأته كان قد طلقها طلقتين ثم خلعها (1). يقول طاووس في الخلع: ليس بشيء أرادَ ليس بطلاق، فإنهم كانوا يظنونه طلاقًا محسوبًا من الثلاث تحرم به المرأة بعد طلقتين. فقال: ليس بشيءٍ نفيًا لهذا، لا نفيًا لكونه فُرْقَة شرعية؛ فإنَّ (2) مذهبه ومذهب ابن عباس وعامة المسلمين أنه فرقة بائنة، ولم يَقل أَحَدٌ من المسلمين أَنَّ وجود الخلع كعدمه، ولا يقول هذا مسلم فإن كون الخلع مشروعًا أَمْرٌ ظاهر في الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وطاووس وغيره له في ذلك من الأجوبة ما يكثر ذكره؛ كما قال الأثرم في سُننه [60/ أ]: حدثنا ابن أبي شيبة، [عن ابن عيينة] عن عمرو، عن طاووس، عن ابن عباس يعني في الخلع قال: إنما هو فُرْقَةٌ وفسخ ليس بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع بين ذلك فليس بطلاق (3). قال الله تعالى: _________ (1) مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله (ص 339 - 340). وسيأتي في (ص 637 - 638). وأخرجه الجصاص في أحكام القرآن (2/ 95) من طريق أبي الوليد قال: حدثنا شعبة به. ثم قال: (ويقال هذا مما أخطأ فيه طاووس، وكان كثير الخطأ مع جلالته وفضله وصلاحه، يروي أشياء منكرة). (2) في الأصل: (فإنه). (3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11771)، وابن أبي شيبة (18766) و (19566)، والبيهقي في السنن الكبير (15/ 191/ ح 14977) عن ابن عيينة به. وما بين المعقوفتين من مصادر التخريج. وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 497) من طريق حبيب بن ثابت، عن طاووس به بلفظ: «الخلع فرقة وليس بطلاق». وانظر ما سيأتي (ص 638).

(1/218)


{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. قال أبو بكر عبد العزيز: قد رسمنا عن أبي عبد الله في الخلع قولين؛ أحد القولين: أنه طلاق وما أَقَلَّ من رواه عنه. والقول الآخر: أنه فسخ للعقد وما أكثر من رواه عنه، والعمل على أنه فسخ للعقد على ما قاله ابن عباس (1). وذكر أحمد عن ابن عيينة قال: قال ابن عباس: ما كان من قِبَلِ النساء فهو خلع، وما كان من قِبَلِ الرجال فهو طلاق، يعني: الفرقة (2). أرسله كذا. قال أبو بكر عبد العزيز: لا خلاف عن أبي عبد الله أَنَّ الخلع ما كان من قبل النساء، فإذا كان من قبل الرجال فلا تنازع أنه طلاق، ولا يكون ذلك فسخٌ للعقد إنما هو طلاق (3). والمقصود هنا: أَنَّ طاووسًا قال في الخلع: ليس بشيء؛ أي: ليس _________ (1) مسائل إسحاق (9/ 4605 وما بعدها)، مسائل ابن هانئ (1/ 232)، مسائل أبي داود (برقم 1188)، مسائل صالح (3/ 178). وأشار للروايتين: أبو يعلى في كتابه الروايتين والوجهين (2/ 136). وانظر للخلاف في الخلع: الفتاوى الكبرى (3/ 270). (2) لم أجده. (3) مسائل حرب (2/ 668). وقد ذكر ابن قدامة في المغني (10/ 288) عن أبي بكر قولَهُ: (لا خلاف عن أبي عبد الله، أنَّ الخلع ما كان من قبل النساء؛ فإذا كان من قبل الرجال فلا نزاع في أنه طلاق تملك به الرجعة ولا يكون فسخًا).

(1/219)


بطلاق مع أنه يُثبت حكمًا آخر، وهو الفرقة البائنة؛ وهكذا ذكر عبد الرزاق في مصنفه (1) عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئًا. قلت: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري. وقد روى هذا ــ أيضًا ــ سفيان بن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه، وهو من حديث ابن عيينة الذي يُروى من طريق المكيين، فقد جزم ابنه عنه أنه قال: ليس الحلف بالطلاق بشيءٍ، وتوقف هل كان يراه يمينًا أم كان لغوًا عنده؛ فدلَّ على أنَّ هذا اللفظ عندهم لا يُفهم منه عند الإطلاق أنه لغو إذ لو كان هذا مفهوم اللفظ لم يتوقف ابنه، فلو لم ينقل عن من يتكلم بهذا اللفظ منهم ــ كعائشة وغيرها ــ ما يبيِّن مرادها لتوقفنا؛ هل أرادت به أنه لغو أم أرادت نفي ما يظنه السائل؟ وهذا كما في الصحيح عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكُهَّان، فقال: «ليسوا بشيءٍ». فقيل له: [إنهم يحدثونا أحيانًا بالشيء يكون حقًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فَيَقُرُّهَا في أُذن وليِّهِ قَرَّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة»] (2) (3)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُرِد بذلك أنَّ وجودهم كعدمهم، وإنما أراد نفي المقصود الذي يعتقده السائل لهم، وهو أنهم يَصْدُقُونَ في الإخبار [60/ ب] بالمغيبات، فإنَّ هذا مقصود السائل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليسوا بشيء»؛ أي: هذا المعتقَد فيهم باطل (4). _________ (1) (6/ 406/ ح 11401). (2) ما بين المعقوفتين في الأصل: (إنَّ) ثم بياض مقدار نصف سطر. (3) أخرجه البخاري (6213)، ومسلم (2228). (4) وقد بوَّب البخاري على هذا الحديث في صحيحه بقوله: (باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء؛ وهو ينوي أنه ليس بحق). كما بوَّب عليه في الأدب المفرد (ص 127): (باب الرجل يقول: ليس بشيء، وهو يريد أنه ليس بحق).

(1/220)


وطاووس نفسه كان يرى الحلف بالطلاق يمينًا منعقدة، لم يكن يراها لغوًا، فالحلف بالطلاق عنده يمين منعقدة، ومع هذا قال: ليس الحلف بالطلاق بشيء؛ أي: لا يقع بها طلاق وإن وجبت فيها الكفارة، وهكذا عائشة - رضي الله عنها - الحلف بالنذر عندها يمين منعقدة، وقالت: ليس بشيء؛ أي: لا يلزمه ما التزمه من النذر، وإن كانت فيها الكفارة. فروى سعيد بن منصور في سننه (1): حدثنا حماد بن زيد، عن ليث، عن طاووس في الرجل يقول: إنْ لم أفعل كذا فامرأته طالق إن شاء الله. قال: له ثنياه في الطلاق والعتاق. وقال ــ أيضًا ــ (2): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا ليث، عن عطاء وطاووس ومجاهد والنخعي والزهري أنهم قالوا في قول الرجل لامرأته: أَنتِ طالق إنْ لم تفعلي (3) كذا وكذا إن شاء الله؛ فلم تفعل= فله ثنياه. وقال (4): حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه كان يرى الاستثناء في الطلاق جائزًا. فلو لم يكن هذا التعليق عنده يمينًا منعقدة، بل كان لغوًا لا يجب به شيء لا طلاق ولا كفارة= لم يحتج إلى استثناء. _________ (1) (2/ 35/ ح 1812). (2) (2/ 35/ ح 1813). (3) في الأصل: (تفعل)، والمثبت من السنن. (4) (2/ 35/ ح 1814).

(1/221)


وقول القائل: إِنْ لم أفعل كذا وكذا ونحوه هو مما يقصد به اليمين ليس هو في التعليق الذي جرت العادة بأن يقصد به إيقاع الطلاق عند الصفة، وهذا معروف من مذهب طاووس في التعليق الذي يقصد به اليمين أنه يمين مكفرة، وفي الحلف بالطلاق أنه يمين منعقدة أيضًا ليس لغوًا. وقد نقل الطحاوي (1) عن طاووس وطائفة من التابعين أنهم كانوا يقولون فيمن حلف بالله أو بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا وفعله ناسيًا ليمينه: إنه يحنث. فقولهم يُبَيِّنُ أنها يمين منعقدة عندهم، وعلم بذلك أن مذهبه أن الحالف بالطلاق إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا= يحنث، فكيف إذا فعله عامدًا؟ وأَنَّ قوله: ليس بشيء؛ أي: ليس بطلاق. ونظيره قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في الحرام: ليس بشيء (2)، وهذا اللفظ في الصحيح [يُبَيِّنُ] (3) أنه يمين مكفرة عنده، ومراده: ليس بتحريم، كما ثبت عنه في الصحيح (4) أنه كان [61/ أ] يقول في الحرام: يمينٌ يكفرها، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وفي لفظٍ آخر (5): إذا حَرَّمَ الرجلُ عليه امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. _________ (1) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 260). (2) أخرجه البخاري (5266). (3) سواد في الأصل، وقدرته بما أثبتُّ، والله أعلم. (4) أخرجه البخاري (4911)، ومسلم (1473). (5) عند مسلم (1473).

(1/222)


فقد قال ابن عباس: إنَّ الحرام ليس بشيء، مع أنه لم يُختلف عنه أن فيه كفارة؛ إِمَّا الكفارة الكبرى وإِمَّا الصغرى (1)، وكذلك لم يختلف في ذلك عن الصحابة، ولم يقل أحد من الصحابة إنَّ الحرام لغو، وإنما نقل ذلك عن بعض التابعين كمسروق (2)، كما أَنَّ الصحابة لم يُنقل عنهم أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين لغو، ومَنْ طَرَدَ ذلك عن بعضهم ــ كما ظنه من قال بهذا ــ فقد غلط عليهم. والمقصود بهذا: أَنَّ مثل هذه العبارة معروفٌ في كلام الصحابة والتابعين أنهم يعنون بها نفي الحكم الذي سئلوا عنه ــ الذي ظنه السائل لازمًا ــ وإن كانوا يجعلون في ذلك كفارة، فقول عائشة مثل قول ابن عباس وطاووس وغيرهما، وكل من نقل مذهب طاووس نَقَلَ عنه أنه كان يقول في الحلف بصيغة التعليق: إنها يمين يكفرها حتى (3) نقلوا ذلك عنه في العتق صريحًا، ثم لم يَنقل أَحَدٌ عنه في الطلاق أنه يَلزم إذا علَّقَهُ على وجه اليمين أن الحلف به لغو لا يلزم. _________ (1) الكفارة الكبرى هي كفارة الظهار، والكفارة الصغرى هي كفارة اليمين. (2) أخرجه عبد الرزاق (6/ 402/ ح 11375). وقال بهذا القول أيضًا: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء، والشعبي، وداود، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد قولي المالكية، اختاره أصبغ. انظر: مجموع الفتاوى (35/ 242 وما بعدها)، الفتاوى الكبرى (4/ 110 وما بعدها)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 535)، القواعد الكلية (ص 445 - 448)، إعلام الموقعين (4/ 450 مهم)، زاد المعاد (5/ 302). (3) هكذا قرأتها.

(1/223)


قال ابن حزم (1): (صَحَّ عن طاووس أنه قال: الحلف بالعتاق، ومالي هدي، وكل شيء لي في سبيل الله وهذا النحو؛ كفارة يمين). وقال ابن عبد البر (2): (وروى معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه فيمن جعل ماله في رتاج الكعبة أو في سبيل الله؛ يعني: إِنْ فَعَلَ كذا. قال: هي يمين يكفرها). وقد نقل محمد بن نصر عن طاووس والحسن إذا قال: إذا فعلت فكل مملوك لي حر أنها يمين (3). وأما قول طاووس في الطلاق الذي نَقَلَهُ عنه ابنه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس بشيء، فهذا لم يبلغ أبا ثور ومحمد بن نصر وابن عبد البر ونحو هؤلاء الذين لم يذكروا في الطلاق نزاعًا، ولهذا لم يذكر هذا الأثر الذي نقله عنه ابنه أحد منهم، مع أنهم لو كانوا مستحضرين له لكان مما تتوفر داعيتهم على نقله لصحة إسناده وجلالته (4) وجلالة قائله، ولو قُدِّرَ أنه شاذٌ عندهم فهم ينقلون ما هو أشذ منه. [61/ ب] وكذلك ما نقله عن سعيد بن المسيب فيمن قال: إِنْ فعلت كذا فعليَّ المشيُ إلى مكة: أنه لا شيء عليه حتى ينذر (5). إنما أراد به سعيدٌ _________ (1) المحلَّى (ص 991). (2) الاستذكار (15/ 109). (3) اختلاف الفقهاء (ص 492). (4) كذا قرأتها. (5) تقدم تخريجه في (ص 214).

(1/224)


ــ والله أعلم ــ أنه ليس عليه نذر حتى ينذر، لم يرد به أنه ليس عليه كفارة ولا نذر حتى ينذر؛ فإن هذا لا يقوله أحد، بل الكفارة تجب عليه بدون النذر، وقد نقلوا عن سعيد بن المسيب أَنَّ مثل هذا التعليق يوجب الكفارة، كما في الحديث الذي في سنن أبي داود: عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر أنه قال: إِنَّ الكعبة لغنيةٌ عن مالك، كَفِّرْ يمينك وكَلِّم أخاك (1). وسعيدٌ نَقَلَهُ نَقْلَ موافقٍ له لا مخالف له. وأما السؤال الذي أورده ابن جرير على نفسه وأجاب عنه فهو مبنيٌ على أصله، وهو أنَّ مِنْ أصلِهِ أنه لا يعتد بخلاف الواحد والاثنين (2)، وأنَّ الإجماع لا يكون مستنده إلا نصًّا، فما أجمعوا عليه فهو منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإذا كان الجماهير على قولٍ كان ذلك عنده نقلًا منهم لذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا ظَهَرَ الخلاف كان ذلك اجتهادًا منهم = فأورد على نفسه: أنَّ القول بلزوم المعلق في نذر اللجاج والغضب هو قول عظم متفقهة الحجاز والعراق ــ فإنَّ هذا قول ربيعة ومالك وجمهور أصحابهم وهم المشهورون بالفتيا في الحجاز ــ، وهو قول عثمان البَتِّي، وهو المشهور عن أبي حنيفة _________ (1) أخرجه أبو داود في سننه (3272) ــ ومن طريقه البيهقي في السنن الكبير (20/ 172/ ح 20064)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 191) ــ. وصححه ابن حبان (10/ 197)، والحاكم (4/ 333). وقال ابن المديني ــ كما في مسند الفاروق (1/ 552) ــ: هذا منقطع، لأنَّ سعيدًا لم يسمع من عمر إلا حديثًا عند رؤية البيت. انظر: البدر المنير (9/ 475). (2) انظر ما تقدم (ص 9).

(1/225)


وأصحابه كأبي يوسف وغيره من المشهورين بالفتيا في البصرة والكوفة، ولم يبلغه أنَّ أبا حنيفة رجع عن ذلك ووافقه محمد بن الحسن لشهرة العمل بهذا القول في الحجاز والعراق. ثم قال: وإنْ كان في ذلك اختلاف بينَ متقدمي الأئمة من الصحابة والتابعين وبينَ متأخري أهل الحجاز بإيجاب بعضهم في ذلك إذا حلف كفارة يمين، وهذا يريد به خلاف الشافعي ــ رحمه الله تعالى ــ لمالك - رحمه الله - وغيره من الحجازيين؛ إذ كان الشافعي يوجب في ذلك كفارة يمين، فأثبتَ الخلاف المتقدم بين الصحابة والتابعين والمتأخرين الحجازيين، ولم يكن ابن جرير يَعْتَدُّ بخلاف المتأخرين كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبَيد وأبي ثور وغيرهم إن لم يجد في ذلك نزاعًا قديمًا، وكذلك إسماعيل بن إسحاق (1) [62/ أ] القاضي (2) وأمثاله لا يعتدون بخلاف الشافعي ونحوه. وأحمد بن حنبل كان لا يعتد إلا بخلاف الصحابة والتابعين بعدهم، لا يعتد بخلاف من بعدهم، ولا يكاد يذكر أقوالهم إلا على سبيل المتابعة، لأنَّ الصحابة والتابعين قد تكلموا في عامة الحوادث، قَلَّ عنده أن تقعَ واقعة إلا وقد تكلم الصحابة - رضي الله عنهم - فيها أو في نظيرها، وكان لكثرة علمه بأقوال _________ (1) كتب الناسخ (وكذلك إسحاق) وتحت (وكذلك) كتب (إسماعيل بن) وبعدها (صح). (2) إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الأزدي، أبو إسحاق، فقيه مالكي، قاضي بغداد، صنف تصانيف عدة في اللغة والفقه والحديث، توفي سنة (282). انظر: تاريخ بغداد (7/ 272)، شذرات الذهب (3/ 334)، سير أعلام النبلاء (13/ 339)، الإرشاد في معرفة علماء الحديث (2/ 607).

(1/226)


الصحابة والتابعين لا يحتاج إلى أن ينقل كلام مَنْ بعدهم (1). ولمَّا كان هذا من أصل ابن جرير؛ كان يدعي الإجماع في مسائل متعددة مع شهرة النزاع فيها بين الأئمة الأربعة (2) مثل: ادعائه الإجماع على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها، وأنَّ متروك التسمية مباح (3)، ومثل ذلك؛ حتى يتأوَّل ما نُقِلَ في ذلك من النزاع؛ كما قال في مسألة اليمين الغموس (4): (وقد علمت ما حدثكم به ابن العلاء ويعقوب، حدثنا هشيم، حدثنا حجاج، عن عطاء والحكم أنهما كانا يقولان فيمن حلفَ كذبًا متعمدًا: أنه يُكَفِّر) (5). قال: (أما الحكم؛ فإنَّ الصحيح عندنا أنه كان يأمر في ذلك بالكفارة استحبابًا، وذلك أنَّ أبا كريب حدثنا عن ابن إدريس، عن شعبة في الرجل يتعمد الحلف على الإثم (6). قال حماد: ليس فيه (7) كفارة، وقال الحكم: الكفارةُ خير (8). وأما عطاء؛ فإنَّ الراوي عنه حجاج، وحجاج يجب في أخبارِهِ التثبتُ لأسبابٍ كثيرة). _________ (1) انظر (ص 137، 626 - 627). (2) في الأصل: (والأربعة)، وما أثبتُّ هو الصواب. (3) تقدمت الإشارة إلى ذلك في (ص 9). (4) انظر: مجموع الفتاوى (35/ 325)، الفروع (10/ 444 - 445). (5) أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 39). (6) في المصنف: (يحلف على الشيء يتعمده). (7) في المصنف: (لهذا). (8) وأخرجه ــ أيضًا ــ ابن أبي شيبة (12452) عن ابن إدريس به.

(1/227)


إلى أَنْ قال: (فالواجب على عطاء ومن قال بقوله في ذلك ــ إذا صحت عنه الرواية بما رواه حجاج ــ اتباع ما نَقَلَتهُ الأئمة مستفيضًا عنهم: ألا كفارة على الحالف الحانث عمدًا) (1). فلم يَعْتَدَّ بخلاف الشافعي في اليمين الغموس. وتأمل ما نقل عن الحكم [فهو] (2) أضعف مما نقل عن عطاء، ثم [قال لهم:] (3) إنه بتقدير صحة قوله؛ فالواجب عليه وعلى من قال بقوله كالشافعي ــ فإنَّ الشافعي كان كثير الاتباع لقول عطاء (4) ــ: أَنْ يتبعوا ما نقلته الأئمة مستفيضًا عنهم ألا كفارة على الحالف الكاذب عمدًا، فجعل هذا إجماعًا مستفيضًا في الأمة نقلوه عن النبي، ومعلومٌ أنَّ جمهور العلماء تنازعوا في هذا، فلا يجعلون مثل هذا إجماعًا، ولا يجعلون كل ما ادعي [62/ ب] فيه الإجماع أنهم نقلوا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نقلوا لفظ الحديث والقرآن، وإنْ قالوا: إنَّ القرآن أو السنة دَلَّ على موافقة الإجماع، فلا يقولون: إِنَّ كل من وافق على الحكم مستنده نص منقول عنده عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وابن جرير هو ممن اعتمد المعترض ونحوه على ما ادعاه من الإجماع في وقوع الطلاق التي يدعيها، وهذا معنى كلامه في الإجماعات التي _________ (1) إلى هنا ينتهي النقل عن الطبري، والظاهر أن المجيب ينقل من كتابه «اللطيف». (2) في الأصل: (و)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (لكم). (4) مجموع الفتاوى (7/ 208) (22/ 428) (35/ 254، 260)، الفتاوى الكبرى (4/ 117، 121)، قاعدة العقود (1/ 214)، الإيمان (ص 165)، منهاج السنة (7/ 530).

(1/228)


يدعيها، مثلما قال في متروك التسمية (1). قال: (فإنْ [قال] (2) قائلٌ في ذبيحةِ الناسي ذِكْرَ اسمِ اللهِ ــ تعالى ــ على ذبيحتِهِ: حرامٌ أَكْلُ ذبيحته؛ فقوله خارجٌ من قول جميع الحجة، والثابت من خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي حدثني به سعيد بن عثمان التنوخي (3)، عن محمد بن يزيد بن سنان، عن معقل بن عبيد الله (4)، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم يكفيه اسمه، فإنْ نسي أنْ يُسمي حين يذبح؛ فليسم ويذكر اسم الله ويأكل» (5)). إلى أنْ قال: (لم يُحَرِّمْ أَكْلَ ما تُرِكَ ذكرُ اسمِ الله عليه ناسيًا أَحَدٌ، وإنما كرهه ونحن نكرهه؛ فأما تحريمه فلم يصح عن أحدٍ منهم). _________ (1) انظر ما تقدم (ص 9). (2) إضافة يقتضيها السياق. (3) كتب الناسخ فوقها (أظنه)، وظنه صواب؛ كما في معجم شيوخ الطبري (ص 254). (4) في الأصل: عبد الله، والمثبت من مصادر التخريج. (5) وأخرجه ــ أيضًا ــ الدارقطني في سننه (5/ 535)، والبيهقي في السنن الكبير (19/ 183/ ح 18923) وفي الصغير (4/ 43) من طريق معقل به مرفوعًا. ورواه سفيان، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفًا بلفظ: «إذا ذبح المسلم ونسي أن يذكر اسم الله فليأكل، فإنَّ المسلم فيه اسم من أسماء الله ــ عز وجل ــ». أخرجه سعيد بن منصور في التفسير (5/ 81/ برقم 914)، والبيهقي في السنن الصغير (4/ 43) وهذا لفظه. وهو المحفوظ. انظر: معرفة السنن والآثار (13/ 447)، نصب الراية (4/ 182)، البدر المنير (9/ 263)، إرواء الغليل (8/ 169).

(1/229)


ثم روى عن ابن سيرين والشعبي كراهيته، قال: (ولو صح عنهما أنهما حَرَّمَا ذلك، لم يَجُزْ الاعتراض بهما على [الحجة] (1) فيما كانت عليه مجمعة؛ فكيف وإنما الرواية عنهما بالكراهة، مع اختلاف في ذلك في الرواية عن بعضِ مَن رُوِيَتْ عنه الكراهة) (2). فهو - رحمه الله - يدعي الإجماع وثبوت الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وكلاهما ضعيف. قال البيهقي (3) في حديث ابن عباس هذا: كذا رواه مرفوعًا، ورواه غيره عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن عين (4) ــ وهو عكرمة ــ عن ابن عباس موقوفًا. ورواه (5) من حديث سعيد بن منصور [وأبي بكر الحميدي] (6)، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر بن زيد (7)، [عن عين] (8)، عن ابن عباس قال: «إذا ذبح المسلم ونسي أن يذكر اسم الله فليأكل، فإن المسلم فيه اسم من _________ (1) هكذا قرأتها. (2) انظر للمجيب: مسألةٌ في التسمية على ذكاة الذبيحة والصيد؛ ضمن جامع المسائل (6/ 375). (3) في السنن الكبير (19/ 184). (4) في الأصل: (يحيى)! ووضع الناسخ فوقها (ظ)؛ والمثبت من السنن. (5) أي: البيهقي في السنن الكبير (19/ 184/ ح 18924، 18925). (6) في الأصل: (الخدري)! ووضع الناسخ فوقها (ظ)؛ والمثبت من السنن. (7) في الأصل: (يزيد)؛ والمثبت من السنن. (8) في الأصل: (أخبرني علي)؛ والمثبت من السنن.

(1/230)


أسماء الله» (1). وفي لفظ: «فإنَّ المسلم فيه اسم الله، وإن لم يذكر التسمية» (2). ورواه ــ أيضًا ــ (3) من حديث عطاء، عن ابن عباس. ورواية مثل هؤلاء الثقات تُبيِّنُ الغلط في تلك الرواية المرفوعة، لاسيما وراويها محمد بن [63/ أ] يزيد بن سنان، رواه عنه أبو حاتم ــ أيضًا ــ (4). * * * * _________ (1) هذا لفظ رواية سعيد بن منصور. (2) هذا لفظ رواية الحميدي. (3) أي البيهقي في السنن الكبير (19/ 184/ ح 18926) ولفظه: «من ذبح فنسي أنْ يُسمي فليذكر اسم الله عليه وليأكل، ولا يدعه للشيطان، إذا ذبح على الفطرة». وأخرجه ــ أيضًا ــ عبد الرزاق في المصنف (8541)، وسعيد بن منصور في التفسير (5/ 83/ برقم 915). (4) أخرجه الدارقطني في سننه (5/ 535)، والبيهقي في السنن الكبير (19/ 183/ ح 18923). وتقدم تخريجه (ص 229).

(1/231)


فصلٌ قال: (قال المجيب: وهذا الأثر معروفٌ؛ قد رواه أحمد وغيره، وذكروا أن الثلاثة أفتوها بكفارة يمين، لكن سليمان التيمي ذكر في روايته: كل مملوك لها حر، ولم يذكر هذه الزيادة حميد، وبهذا أجاب أحمد لما فَرَّقَ بين الحلف بالعتق والحلف بغيره، وعارض ذلك بأثر آخر ذكره عن ابن عمر وابن عباس، فقال المَرُّوذي: قال أبو عبد الله: إذا قال كل مملوك له حر؛ فيعتق (1) عليه إذا حنث، لأنَّ الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة. وقال: ليس يقول: كل مملوك لها حر في حديث ليلى بنت العجماء ــ حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب وذكرت العتق فأفتوها بكفارةٍ ــ إلا التيميُّ، وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق (2). قال: قلت: هذا كلام أحمد الذي تقدمت الإشارة إليه في إثبات قوله: كل مملوك لها حر في هذا الأثر، وقد عَلَّلَهُ أحمد - رضي الله عنه - كما ترى بالاختلاف (3) على بكر [بن عبد الله] (4)، وأَنَّ سليمان [التيمي] (5) انفرد عنه _________ (1) في الفتاوى: (يعتق). (2) كلام الإمام أحمد نقله ابن تيمية في مواضع منها الفتوى المعترض عليها. انظر: مجموع الفتاوى (33/ 190)، (35/ 261)، الفتاوى الكبرى (4/ 122)، القواعد الكلية (ص 474 - 475). (3) في الأصل: (والاختلاف)، والمثبت من «التحقيق». (4) زيادة من «التحقيق». (5) زيادة من «التحقيق».

(1/232)


بذكرها، وسائر الرواة عنه غيره لم يذكروها، وهذه عِلَّةٌ حديثية تقتضي التوقف في قبولها، إلا أن يعتضد جانب الإثبات بأمور يغلب على الظن رجحانه على جانب الإسقاط) (1). والجواب: أما قوله: (هذه علة حديثية تقتضي التوقف في قبولها، إلا أن يعتضد جانب الإثبات بأمور يغلب على الظن رجحانه على جانب الإسقاط) (2). فيقال: هذه الزيادة ــ وهي: ذكر العتق فيه ــ أثبتها الذين اعتمد المعترض وغيره على نقلهم للإجماع في عدم التكفير للطلاق أو في وقوعه، فإنَّ عمدته وعمدة غيره في نقل هذا الإجماع على أبي ثور ومن وافقه؛ كمحمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وابن عبد البر، ومن ذكر إجماع من يَحفظ قوله كابن المنذر؛ وهؤلاء كلهم أثبتوا هذه الزيادة، ونقلوا عن هؤلاء الصحابة وغيرهم من التابعين إثبات الكفارة في العتق إذا قال: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر، وبَيَّنُوا ذكر العتق في حديث ليلى بنت العجماء، واتبعهم على ذلك سائر أهل العلم بعدهم، فذكروا أقوال هؤلاء الصحابة ومَنْ [63/ ب] وافقهم من التابعين في أنَّ الحالف بالعتق يجزئه كفارة يمين، وهؤلاء رووا ذلك من غير طريق سليمان التيمي التي عللها أحمد. رووه من طريق أشعث بن عبد الملك (3) عن بكر، ورواه عن أشعث: محمد بن عبد الله الأنصاري، ورواه عن الأنصاري مثل: أبي ثور _________ (1) «التحقيق» (36/ أ). (2) وقد أجاب في قاعدة العقود (2/ 327) عن التعليل بانفراد التيمي بجوابين. (3) في الأصل: (سوَّار)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/233)


ومحمد بن يحيى النيسابوري، ورواه ــ أيضًا ــ روح بن عبادة، عن أشعث (1). وهذه الطريق لم تبلغ أحمد وبلغت هؤلاء فأثبتوا بها ذكر العتق، ورواه ــ أيضًا ــ الأوزاعي عن جسر بن الحسن عن بكر بن عبد الله المزني موافقة للتيمي وأشعث (2)؛ وهي طريق ثالثة لم تبلغ أحمد. ومعلومٌ أَنَّ علم هؤلاء بما نقلوه من النزاع الذي أثبتوه وبينوا طرقه ورووه بألفاظه = أتم وأكمل من علمهم بنفي النزاع في الطلاق؛ فإنَّ ذلك لا يمكن أن يعلمه بشرٌ بالحس، فإنَّ أحدًا من الناس لا يمكنه مشافهة كل عالم مضى وغبر من المسلمين حتى يَسْمَعَ منهم أنَّ الطلاق المحلوف به يقع، بل ولا معه نقل صحيحٌ صريحٌ بنفس (3) وقوع ذلك عن أحدٍ من الصحابة، وغاية ما عنده عن التابعين عددٌ قليلٌ نحوُ عشرة أو عشرين، لا يُسَلَّم له نقل في التعليق الذي يعلم أنه قصد به اليمين عن عشرين البتة، بل نقل الطلاق المعلق مطلقًا لا يسلم له نَقْلُهُ إلا عن نحو عشرين أو ثلاثين من التابعين؛ فمن أين يعلم أَنَّ أقوال جميع التابعين وتابعيهم كذلك؟ هذا لا يمكن أحدًا علمه، لا سيما وليس معه علم بأنَّ هذه الفتاوي اشتهرت عند كل واحد من علماء التابعين فأقروها، حتى يُحَصِّل ذلك إجماعًا إقراريًا؛ فكيف جاز له أَنْ يَحتجَّ بنقلِ هؤلاء بمثل هذا الإجماع، وتَرَكَ نقلهم للنزاع في العتق؛ ونَقْلُهُم لذلك أصح؟! _________ (1) انظر: (ص 237 وما بعدها). (2) انظر (ص 139). (3) غير واضحة في الأصل، والمثبت هو أقرب ما تقرأ به الكلمة.

(1/234)


وإن كان يحتج بتعليل أحمد لرواية التيمي؛ فيقال له أحمد ــ رحمة الله عليه ــ طَعْنُهُ في إجماع هؤلاء أشهر وأظهر من تعليله لرواية التيمي، والنقل بذلك عنه مستفيض؛ فأحمد ينكر دعوى هؤلاء للإجماع، ويجزم بخطأ من جَزَمَ بهذا الإجماع أعظم مما يجزم بانفراد سليمان التيمي وبعدم حفظه لهذه الزيادة؛ فإنَّ أحمد ــ أيضًا ــ ليس معه علم جازمٌ بأنَّ هذه الزيادة لم يروها إلا التيمي، ولا معه جزم بأنه غلط فيها، وأحمد أعلم [64/ أ] وأتقى لله من أن يقول مثل هذا، وهو ينكر على غيره دعوى ما لا علم له به من النزاع. وقولنا: لم يروه إلا فلان، مثل قولنا: لم ينازع في هذا أحد؛ وإذا قُدِّرَ أنه لم يروه غيره، فهو لا يجزم بغلطه فيما أثبته مع جلالة قدره وفقهه وحفظه، وغيره لم يخالفه فلم ينف هذه الزيادة، بل سكت عن ذكرها، وغيره لو نفاها لكان الإثبات مقدمًا على النفي إذا لم يكن مع النافي حجة ترجح جانبه؛ فكيف إذا كانت هذه الزيادة لم ينفها أحد من الرواة؟ ولكن أحمد لما جَوَّزَ غَلَطَ التيمي فيها لظنه انفراده بها، وانضم إلى ذلك ما روي عنهما من أن العتق يلزم = صارَ هذا مرجحًا عنده للزوم العتق (1)، ولو قيل لأحمد: هذه الزيادة قد تابع التيمي عليها: أشعث الحمراني وجسر بن الحسن= لم يقل انفرد بها التيمي؛ فكلام أحمد يقدحُ فيما احتج به هؤلاء من الإجماع أعظم مما يقدح فيما احتج به غيرهم من إثبات أقوال الصحابة. فإن قالوا: قول أحمد ليس بحجة علينا إلا بدليل. _________ (1) قاعدة العقود (1/ 293).

(1/235)


قيل: وليس هو حجة لكم إلا بدليل. وحينئذٍ؛ فالنزاع في شيئين: أحدهما: في ثبوت هذا النقل عن الصحابة، وأنهم أفتوا في الحلف بالعتق بكفارة يمين. والثاني: في نفي قول أحد من علماء المسلمين إن الطلاق المحلوف به لا يلزم أو لا يُكَفَّر. ومعلوم أن حجج الإثبات في كل واحد من [هذين] (1) راجحةٌ ثابتةٌ على حجج النفي؛ فالأدلة المثبتة لإفتاء الصحابة بالتكفير لا يعارضها أدلة قوية، والعمل واجب بالدليل السالم عن المعارض المقاوم؛ فكيف بالأدلة المتعددة؟! وكذلك الأدلة المثبتة لوقوع النزاع في الحلف بالطلاق وتكفيره هي ــ أيضًا ــ سالمة عن المعارض المقاوم، والكتاب والسنة والقياس الجلي تُوجب أن هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين والمعلَّق فيها حق لله وحده= هي أيمان ليست إيقاعات، بل هي أيمان من أيمان المسلمين يجب فيها ما يجب في أيمان المسلمين، وهو مما بيَّنه الله في كتابه وسَنَّه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأدلة لا يعارضها إلا عدم العلم ببعض ما روي من الآثار، وعدم العلم بأقوال العلماء، وعدم العلم بدلالة الكتاب والسُّنة والاعتبار، وعدم العلم [64/ ب] لا يعارض العلم؛ بل العلم يجب تقديمه على عدم العلم. * * * * _________ (1) بياض مقدار كلمة، تحتمل ما أثبتُّ.

(1/236)


فصلٌ وأما قوله: (وقد يرجَّح جانب الإسقاط بعدد راويه (1)، وبالرواية عن ابن عمر في فتياه بخلاف ذلك التي رواها عنه عثمان بن حاضر ــ كما سيأتي ــ، وفي جانب الإثبات هاهنا ما يرجحه، وهو جلالة سليمان التيمي وفضله، فهذا ترجيح بالكيفية، والترجيح الأول بالعدد ترجيح (2) بالكمية، وفي مثل ذلك يجب على المجتهد الموازنة بين الظنين، والعمل بما ينقدح في نفسه رجحانه، وقد انضاف إلى الترجيح العددي هنا فتيا ابن عمر المعارضة للإثبات ههنا، مع أن حميدًا ليس منحطًّا عن فَضْلٍ وإنْ كان دون سليمان) (3). فيقال: الجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ الإثبات للعتق وتكفيره ــ كما ذكر ــ رواه سليمان التيمي ــ الإمام الفقيه الصالح ــ، ورواه ــ أيضًا ــ أشعث بن عبد الملك الحمراني، ورواه جسر بن الحسن. ورواها عن سليمان التيمي: ابنه المعتمر بن سليمان، ويحيى بن سعيد القطان؛ وهذان من أعظم أئمة زمانهما في الثقة والإتقان والعلم والدين. ورواية أشعث رواها عنه: محمد بن عبد الله الأنصاري ــ قاضي البصرة ــ، _________ (1) في هامش الأصل: (رواية) وفوقها حرف (خ) و (ظ)، وهو كذلك في «التحقيق». (2) في الأصل: (وترجيح)، والمثبت من «التحقيق» وهو الصواب. (3) «التحقيق» (36/ أ).

(1/237)


ورَوح بن عبادة. ورواية جسر بن الحسن رواها عنه: الأوزاعي؛ وهؤلاء أئمة من أَجَلِّ حملةِ العلم وأوعيته، وغيرُ هؤلاء لم ينفها أحدٌ منهم، ولكن لم يذكرها حميد الطويل، ولا ذكرها غَالِبٌ عن بكر فيما بلغنا (1)، ولا ذكر المعترض طريقًا فيها ذكر لفظ التيمي بأشياء متعددة إلا عدة الطرق. وأما البخاري - رحمه الله - فهو في تاريخه (2) اختصر الروايات لم يسقها بألفاظها؛ فإنَّ مقصوده ذكر الرجال الذين رووا هذا الأثر، لم يكن مقصوده ذكر لفظه؛ ولهذا لم يذكر في لفظه إلا الحلف بصدقة المال؛ فإن النزاع في الحلف بصدقة المال أكثر وأشهر من النزاع في جميع صور التعليقات، ولهذا كان للعلماء فيه أقوال كثيرة. قيل: بلزوم جميع المال، وقيل: المال الزكوي، وقيل: ثلث المال، وقيل: ربع عشر المال (3). وإذا كان كذلك؛ فقول القائل: (إنَّ جانب الإسقاط يرجح بعدد راويه (4))؛ إنما يصح إذا ثبت أن الذين لم يذكروا هذه الزيادة أكثر، وهذه دعوى مجردة. _________ (1) في الأصل: (لم يبلغنا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل (في صحيحه)؛ والصواب ما أثبت. وقد عزاه المجيب للتاريخ في مواضع متقدمة ولاحقة، ولعله سبق قلم من الناسخ. انظر: التاريخ الكبير (1/ 435). (3) قد بسط أقوال أهل العلم وأدلتهم على هذه المسألة ابن المنذر في الأوسط (12/ 109 - 115). (4) في الأصل: (رواية)، والمثبت أصح.

(1/238)


فإنْ قيل: هو كتب هذا لما وقف على الجواب [65/ أ] المختصر الذي كان المجيب ذكره أولًا، وليس فيه إلا متابعة جَسر بن الحسن للتيمي. فيقال: هب أنَّ الأمر كذلك؛ فهذان إمامان أثبتا الزيادة ولم يذكرها حميد وبكر، فمن أين علم أنَّ من لم يذكرها أكثر؟ وأحمد لم يكن بلغه أنه ذكرها إلا التيمي، وقد بلغه رواية حميد وغالب ولم يذكراها. فقال: وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق؛ فأحمد تعارض عنده كثرة العدد مع جلالة سليمان فناسبه أن يقف، وأما من علم أن غير (1) سليمان تابعه فلا يجوز له أن يسلك هذا المسلك؛ فكيف وقد تابعه اثنان؟ (2) الوجه السادس: أنه لو سُلِّمَ أنه لم يُثْبِتِ الزيادة إلا سليمان التيمي، فالباقون لم ينفوها البتة، فلو نفوها لكان هذا تعارضًا (3) يوجب ترجيح أحدهما، ثم قد يقال: المثبت مقدم على النافي، والتيمي أَجَلُّ وأثبت ممن خالفه، لكن أولئك لم يخالفوا التيمي، فإنَّ عدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، ومثل هذا موجود في عامة الأحاديث يذكر أحد المحدثين من الزيادة ما لا يذكره الآخر مع اتفاق أهل العلم بالحديث والفقه على إثبات تلك الزيادة، ومثل هذا لا يحصى. وقد تنازع العلماء في الزيادة من الثقة إذا لم يخالف المزيد إذا كان _________ (1) في الأصل: (عن)، والصواب ما أثبتُّ. (2) بعد هذا يوجد علامة اللحق إلا أنه لا يظهر في الورقة شيء، غير أنَّ السقط ظاهر في هذا الموضع حيث ذكر المؤلف - رحمه الله - (الوجه السادس) مع أنه لم يتقدم قبله إلا (الوجه الأول)، مما يدل على سقوط الوجه الثاني والثالث والرابع والخامس. (3) في الأصل: (تعارض)، والجادة ما أثبتُّ.

(1/239)


الذين تركوها أكثر مع التساوي في الحفظ؛ وفيه قولان لأصحاب أحمد وغيرهم، ويذكر روايتان عن أحمد (1). وأما إذا خالفت المزيد فهذا مقام تعارض، مثل: أن يذكر أحدُهما أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المسؤول المجيب، ويذكر الآخر أَنَّ المسؤول المجيب هو ابن عباس في قصة واحدة؛ فهذا تعارض وليس هذا بزيادة لا تُناقِضُ المزيد؛ كما في حديث القلتين: روى بعضهم عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» (2)، وروى بعضهم أن ابن عمر هو الذي سئل وأجاب بهذا الجواب (3)؛ فإذا كانت القصة واحدة فهذا تعارض. وأما إذا ذكر بعضهم زيادة حفظها (4) لم يذكرها غيره= فهذا ليس _________ (1) المسودة (1/ 588). (2) أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي في سننه (52)، وابن ماجه (517) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة (92)، وابن الجارود (44)، والحاكم (1/ 225)، وأعلَّه بعض أهل العلم بالاضطراب في سنده ومتنه، وبوقفه على ابن عمر. انظر: مجموع الفتاوى (20/ 520، 21/ 35)، المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 17). انظر: علل الدارقطني (12/ 434)، تعليقة على علل ابن أبي حاتم (ص 13)، نصب الراية (1/ 104)، البدر المنير (1/ 404)، تهذيب السنن لابن القيم (1/ 152 وما بعدها «مهم»). (3) أخرجه ابن أبي شيبة (1537)، والبيهقي في السنن الكبير (1/ 396) وغيرهما. وانظر التعليق السابق. (4) لم يظهر من الكلمة إلا الثلاثة الأحرف الأولى، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/240)


بتعارض، ولكن متى كان التاركون لها أكثر صار هذا علة توجب اختلاف العلماء في قبول هذه الزيادة. مثال [65/ ب] ذلك في هذا الأثر: أن في عامة رواياته أَنَّ المسؤول هو: ابن عمر وحفصة وزينب بنت أم سلمة، ولم يذكر أم سلمة وعائشة إلا أشعث عن (1) بكر بن عبد الله، وفي بعضها عن بكر (2) أشعث ذكر ابن عباس ــ أيضًا ــ مع عائشة وأم سلمة، وقال غالب عن بكر: أن المسؤول أم سلمة وابن عمر، وأما سليمان التيمي وجسر بن الحسن وحميد فلم يذكروا إلا الثلاثة. فمن يطلق القول بأن الزيادة من الثقة مقبولة ولا ينظر إلى العدد والإتقان فجعل هذا فتيا سبعة من الصحابة ابن عمر وابن عباس (3) وثلاثة من أمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما من ينظر نظرًا خاصًا في عدد الذاكر والتارك وإتقانهم، فإنه يجزم بأن في المسؤولين ابن عمر وحفصة وزينب ربيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قد يقول: أشعث وحده لا يقاوم في العدد والحفظ هؤلاء الذين لم يذكروا إلا هؤلاء الثلاثة مثل: التيمي وجسر بن الحسن وغالب، وقد يقول: إنَّ غالبًا اشتبه عليه أم سلمة بابنة أم سلمة وغيره أحفظ منه؛ يبيِّن أن المسؤولة هي زينب بنت أم سلمة لا أم سلمة. _________ (1) في الأصل: (و)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) هنا علامة لحق، ولم يظهر في هامش الأصل إلا حرف (ظ) الدَّالِّ على أن الناسخ استظهر شيئًا إلا أن التصوير لم يسعف في ظهوره. (3) بعدها علامة لحق وكتب في الهامش (وا).

(1/241)


قيل: هذا ترجيح قول ابن عبد البر على قول ابن حزم وغيره ممن جعل المسؤولة هي زينب فقط، وأما آخرون مثل: محمد بن نصر وابن حزم وابن المنذر ونحوهم فيثبتون هذا كله، ويقولون هذه زيادة من الثقة فتكون مقبولة، وفي هذا نزاع مشهور، وفيه لأصحاب أحمد وغيره قولان، وقد تختلف ــ أيضًا ــ باختلاف القضايا فقد يُعلم من حفظ الرجل وإتقانه في قصةٍ ما لا يعلم من حفظ غيره وإتقانه فيها. والمقصود: أنَّ ما ذكره من الترجيح بالعدد يذكره العلماء في مثل هذا، ويرجح جانب الإسقاط بأن الذين لم يذكروا إلا الثلاثة أحفظ وأتقن من أشعث، وإن كان أشعث أفقه منهم؛ فالفقيه ضبطُهُ لمعاني الخبر أعظمُ من ضبطه لرواته، بخلاف المحدث فإنه يضبط أسماء الرواة أكثر مما يضبط معانيه، وذلك بحسب المواضع. ولهذا لما كان مقصود (1) البخاري في تاريخه ذكر من رواه لم يتعرض لذكر ألفاظه، بل ذكر [66/ أ] طرقه وذكر منها ما لم يذكره غيره. وأما ذكر العتق؛ فسليمان التيمي أجل قدرًا وأفقه وأحفظ ممن لم يذكره، وقد تابعه أشعث وجسر بن الحسن، وترك ذكره حميد وبكر؛ فلو قُدِّرَ التعارض بالإثبات والنفي بين سليمان وحميد، فأثبت سليمان ما نفاه حميد، لرجحت رواية سليمان بلا ريب، ثم أشعث وجسر أرجح من غالب؛ فكيف إذا لم يتعارضا؟ بل ليس فيه إلا زيادة لم ينفها الآخر. ومما يبين ذلك: أنَّ ألفاظ اليمين المذكورة في هذه القضية يَذكر فيها _________ (1) في الأصل: (المقصود)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/242)


هذا ما لا يذكره هذا، وهي قصة ثابتة بلا ريب. ففي حديث سليمان التيمي: هي يهودية وهي نصرانية وكل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي إن لم تطلق امرأته. وفي حديث أشعث: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مالٍ لها في سبيل الله وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما. وفي حديث غالب عن بكر: كل مالها في رتاج الكعبة وهي يومًا يهودية ويومًا نصرانية ويومًا مجوسية إنْ لم تفرق بينك وبين امرأتك. وفي حديث حميد الطويل عن ثابت وبكر: مالها وكل شيء لها في رتاج الكعبة وهي محرمة بحجة وهي يومًا يهودية ويومًا نصرانية ويومًا مجوسية إن لم تطلق امرأتك. وفي حديث جسر: أنها حلفت بالهدي وبالعتاقة لم يذكر غير ذلك. والبخاري لم يذكر إلا الحلف بالصدقة بقولها (1): مالي في المساكين صدقة (2). ولا ريب أنَّ بعض هؤلاء الرواة روى بالمعنى، وبعضهم اقتصر على بعض ما ذكر، وقد يذكر أحدهم لفظًا بدل لفظ لاعتقادهم أنَّ معناهما سواء، وقد يكون نسي اللفظ فرواه بالمعنى الذي فهمه حين سمع؛ وهذا كقول بعضهم: عليَّ المشي، وقول الآخر (3): وأنا محرمة؛ فإنَّ كلاهما حالف _________ (1) في الأصل: (فقولها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في التاريخ الكبير (1/ 435): (حلفت أنَّ مالها في المساكين صدقة). (3) في الأصل: (الحر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/243)


بالحج، وقول بعضهم: مالها هدي، وقول بعضهم: في رتاج الكعبة، ومالها في سبيل الله، ومالها في المساكين صدقة؛ فإنَّ هذا كله حلف. فإخراج المال والحلف بالكُفْر ذكره أكثرهم، [والغضبان] (1) يَحلف عند الغضب بهذا كله وبأكثر منه وبأقل منه، وهو كله حلف يتعلق [66/ ب] بقصده اليمين، ولهذا تجد من يذكر مثل هذا يذكر مثالًا أو مثالين، ثم يقول: ونحو ذلك أو أشباه ذلك؛ كما قال طاووس. قال ابن حزم (2): (وصح عن طاووس أنه قال: الحلف بالعتاق ومالي هدي وكل شيء لي في سبيل الله وهذا النحو: كفارة يمين). وأما ما ذكره (3) من فتيا ابن عمر المعارِضة لهذا في حديث عثمان بن حاضر (4)؛ فيقال: تلك الرواية إما أن تكون ثابتة أو غير ثابتة؛ فإن لم تكن ثابتة فلا حجة فيها، وإن كانت ثابتة فليس فيها إلا التسوية بين الحلف بالعتق وغيره من لزوم المعلَّق الذي ألزمه نفسه، ليس فيه التفريق بين العتق وغيره؛ فمن نقل عن ابن عمر أو غيره من الصحابة أنه فرق بين الحلف بالعتق وغيره بمثل هذا= فقد كذب عليهم، مع تصريحهم بالتسوية بينه وبين غيره إما في لزوم الجميع وإما في تكفير الجميع، ولم ينقل أَحَدٌ لا عن ابن عمر ولا عن غيره من الصحابة أنه قال: العتق يَلزم والنذر يجزئ فيه كفارة يمين، ولا قالوا _________ (1) كلمة لم أستطع قراءتها لم يظهر منها إلا الأحرف الأولى والحرف الأخير، ولعلها ما أثبتُّ أو نحو ذلك. (2) في المحلَّى (ص 991). (3) يحتمل أنَّ الضمير يعود لابن حزم، حيث ذكر هذه الفتوى في المحلى (ص 991). (4) قاعدة العقود (2/ 327).

(1/244)


أيضًا: أن الطلاق والعتاق يلزم، وفي الباقي يجزئ كفارة يمين؛ فكل من هذين القولين لم ينقل عن الصحابة بإسناد، واستثناء الطلاق وحده لم ينقل عن أحد من السلف لا بسندٍ (1) صحيح ولا ضعيف، وأما استثناء الطلاق والعتاق فهو منقول عن بعض التابعين، كما نُقِلَ عن الحسن في رواية مع اختلافٍ عنه في ذلك (2). وأما نقل ذلك عن عائشة؛ فباطل لم يعرف أن أحدًا نقله بإسناد لا صحيح ولا ضعيف، بل المروي عنها بالإسناد نقيض ذلك، فقد روي أنها أحد المفتين في حديث ليلى بنت العجماء وفيها ذكر العتق. وإذا كان كذلك؛ فنحن لم نذكر قول أحد من الصحابة والتابعين والعلماء للاحتجاج به، بل قصدنا ذكر مذاهب المسلمين في هذه المسألة، وقد تبين أن النزاع في العتق ثابت عن غير واحد من الصحابة والتابعين، وأنَّ هذا مما يَنقله عامة أهل العلم الناقلين لمذاهب السلف، منهم من وافقه ومنهم من خالفه، وأنهم جزموا بصحة ذلك عنهم، وأن الإسناد الذي فيه هذا النقل من أصح الأسانيد التي يروى بها العلم، ورجالُها من أعلى رجال الصحيحين [67/ أ] وأثبتهم نقلًا، وأن الحجة فيه مع من أثبت العتق. وإذا قُدِّرَ أَنَّ ابن عمر وغيره أفتوا مرة أخرى، بأن (3) مثل هذه الحالفة يلزمها ما حلفت به من عتق وهدي وصدقة وحج؛ فغاية هذا: أن تكون المسألة في _________ (1) في الأصل: (لإسناد)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) انظر: (ص 721 - 722، 754 - 755). (3) في الأصل: (فإن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/245)


الصحابة على القولين، والاختلاف المذكور هو عن ابن عمر، وأما حفصة وزينب فلم يختلف عنهما (1) في ذلك؛ فلا يَنقل أحد عن الصحابة بإسناد مقبول أن ذلك يلزم إلا ونقل عنه بالإسناد الذي هو أثبت منه أنه لا يلزم بل تجزئ فيه كفارة يمين. وابن حزم وموافقوه يَدَّعون أَنَّ للصحابة فيها قولًا ثالثًا، وهو: أنه لا يلزم ولا كفارة يمين، وابن حزم يجعل فيها للصحابة ثلاثة أقوال، وأَنَّ مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لا يوافق واحدًا منها؛ فمذهب أحمد كمذهب الشافعي، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فلا يجعلون للصحابة في ذلك إلا قولًا واحدًا وهو التكفير إلا في العتق، وهم لم ينقلوا عنهم في العتق قولًا بالفرق بينه وبين غيره، بل هذا القول المنقول عنهم يقتضي لزوم جميع ما حَلَفَ به، ولكن فيه أن في المال زكاته، وهذا لو وافق لم يوافق إلا قول من يلزم الحالف ما حلف به، كما يقوله مالك وأبو حنيفة في الرواية المشهورة المتقدمة عنه، لكن هما لا يقولان بربع العشر، فلم يكن عن الصحابة حجة لأحد ممن يقول باللزوم، ولا من يقول بالفرق بين الطلاق والعتاق وغيرهما، وأما الفرق بين الطلاق وغيره فلم يُنْقَل عن أحدٍ من المسلمين قبل أبي ثور لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. * * * * _________ (1) في الأصل: (عنها).

(1/246)


فصلٌ قال: (قال ــ يعني: المروذي ــ: وسألتُ أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين. قلت: فيها المشي؟ (1) قال: نعم؛ أَذهبُ إلى أن فيه كفارة يمين. قال أبو عبد الله: ليس يقول فيه (كل مملوك) إلا التيمي. قلتُ: فإذا حلف بعتق مملوكه [فحنث] (2). قال: يعتق؛ كذا روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: الجارية تعتق. ثم قال: ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر. قلتُ: فأيُّ شيءٍ إسناده. [67/ ب] قال: معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن حاضر، عن ابن عمر وابن عباس. وقال إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى، وهما مكيان (3). _________ (1) استظهر محقق القواعد الكلية (ص 475) أنَّ صواب العبارة: شيء، وليس بظاهر بدليل ما في آخر الفصل هنا. (2) أصاب هذا الموضع سواد لم تتضح من خلاله الكلمة، والمثبت من «التحقيق» والقواعد الكلية. (3) نقل ابن تيمية سؤال المرُّوذي في عدة مواضع. انظرها في: مجموع الفتاوى (33/ 190، 193)، (35/ 261)، والفتاوى الكبرى (4/ 122)، والقواعد الكلية (ص 474 وما بعدها).

(1/247)


قلتُ: هذا الأثر المعارض للأثر الأول في فتيا ابن عمر، وهو مما يرجح جانب الإسقاط ــ كما تقدم ــ، وقد عَلَّلَهُ المصنف بعد ذلك بورقتين بأنَّ الأثر الأول أثبت، ورجاله من أئمة العلم والفقهاء الذين يعلمون ما يروون، وهذا الأثر فيه غربة (1) ولم يثبت (2) لنا لفظه؛ فإنْ صَحَّ كان في ذلك نزاع بين الصحابة) (3). والجواب: أن الإمام أحمد قد أثبت (4) أن في حديث ليلى بنت العجماء المشي إلى مكة. قال المَرُّوذي: سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين. قلت: فيها المشي؟ قال: نعم؛ أَذهبُ إلى أن فيه كفارة يمين. قال أبو عبد الله: ليس يقول فيه: (كل مملوك لي حر) إلا التيمي إلى آخره. والمشي هو مذكور في حديث أشعث، وفيه ذكر قوله: (كل مملوك لها حر) ولم أقف على طريقٍ فيها ذكر المشي دون العتق لكن الطرق كثيرة، _________ (1) كذا في الأصل و «التحقيق» في هذا الموضع، وفي مجموع الفتاوى (33/ 193): (تمويه). وانظر (ص 596). (2) كذا في الأصل و «التحقيق» في هذا الموضع، وفي مجموع الفتاوى (33/ 193): (يضبط). وانظر (ص 596). (3) «التحقيق» (36/ أـ ب). (4) في الأصل: (ثبت)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/248)


ومعلومٌ أنَّ الذين تركوا ذكر المشي أكثر بكثير ممن ذكره؛ فكيف يجوز إثبات هذا في الحديث مع أَنَّ أكثر الرواة لم يذكره ولا يثبت العتق والذين ذكروه أثبت وأكثر ممن ذكر العتق؟! لكنَّ أحمد لم يبلغه إلا طريق التيمي. * * * *

(1/249)


فصلٌ وأما قوله: (إنما يتم ترجيح الأثر الأول على هذا بجلالة رواته وشهرته لو سَلِمَ من الاختلاف، أما إذا لم يسلم فيصلح هذا ــ مع ثقة (1) رجاله ــ مرجِّحًا لأحد وجهي الاختلاف في الأثر الأول) (2). فالجواب: بعد أَنْ يقال أَثَرُ ليلى لم يختلف الرواة فيه، فلم ينف أحدهما العتق مع إثبات الآخر له، بل سكت عن ذكره، وليس هذا باختلاف، بل هذا باتفاق العلماء يُستدل به، إذ لو كان اختلافًا لكان اختلافًا في كل موضع، ولكن هذا قد يورث رِيْبَةً قد يظن أَنَّ ذاكر الزيادة غلط؛ كالشاهدين إذا شهد أحدهما بعشرة آلاف وشهد الآخر بعشرة آلاف وخمسمائة. [68/ أ] ثم الريبة يُبحث عنها؛ فإنْ لم يظهر قدحها في (3) الدليل لم يلتفت إليها، وقد تبين أنها لا تقدح في الدليل من أوجه: أحدها: أَنَّ أثر عثمان لم يُفَرَّق فيه بين العتق وغيره، بل سَوَّى بين الجميع في اللزوم؛ فهو لا يعارض رواية من ذكر العتق وحده، بل يعارض رواية الجميع الذين نقلوا عن ابن عمر وغيره من الصحابة أنهم أفتوا بكفارة يمين في صورة من الصور، وكذلك ابن عباس ثبت عنه أنه أفتى بكفارة يمين _________ (1) في الأصل: (رفقة)، والتصويب من «التحقيق». (2) «التحقيق» (36/ ب). (3) في الأصل: (من)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/250)


في غير حديث ليلى بنت العجماء. فقد ثبت بالطرق الراجحة على طريق عثمان باتفاق أهل العلم أَنَّ الصحابة أفتوا في الحلف بالتعليق الذي يقصد به اليمين بكفارة يمين، وفي حديث عثمان بن حاضر أفتوا باللزوم؛ وحينئذٍ فلا يختلف أحدٌ من أهل العلم في وجوب تقديم تلك الروايات الثابتة على رواية عثمان بن حاضر، فإنه لا يعارض أولئك. ولكن لو كان في حديث عثمان أنهم فَرَّقُوا بين العتق وغيره= لكان هذا يعارض رواية من روى أنهم أفتوا في العتق وغيره بكفارة يمين، ولكن رواية عثمان خالفت جميع الروايات الثابتة عن الصحابة، ولهذا طعن فيها أكثر أصحاب الشافعي وأحمد؛ كالشيخ أبي حامد والقاضي أبي يعلى وغيرهما وقالوا: لم يثبت عن الصحابة في ذلك خلاف. الوجه الثاني: أَنَّ حديث ابن حاضر قد اختلفت ألفاظه أكثر مما اختلفت ألفاظ حديث ليلى بنت العجماء؛ وسيأتي ذكر ذلك. الوجه الثالث: أَنَّ حديث ليلى بنت العجماء تلقاه العلماء بالقبول والتصديق، لا يعرف أحد من العلماء طعن فيه وضعفه، بل جميع أهل العلم بالحديث والفقه الموافقين له والمخالفين له يصدقونه، وأما حديث عثمان بن حاضر فقد طعن فيه كثير من العلماء، لا سيما من أصحاب الشافعي وأحمد. الوجه الرابع: أَنَّ هذا الأثر مما انعقد الإجماع على خلافه بعد ربيعة (1)، _________ (1) الأوسط (12/ 112)، الاستذكار (15/ 107). وقال في الأوسط: (وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول بمثل قول مالك ــ أي: يخرج ثلث ماله ويتصدق به ــ ثم صار إلى أنْ قال: زكاة ماله).

(1/251)


فلا يعرف في أهل العلم من يفتي بموجبه، بخلاف الأول فإنه لم يزل في الإسلام من يفتي بموجبه، والكتاب والسنة والقياس الجلي يدل على هذا، وذاك لا يدل على ما فيه دليل صحيح. الوجه الخامس: أن هذا إذا ثبت إنما يصلح لمعارضة ما روي (1) [68/ ب] عن ابن عمر، أو ابن عمر وابن عباس، وأما ما روي عن حفصة وزينب وغيرهما من الصحابة فلم ينقل عن هؤلاء ما يناقض هذه الرواية. وحينئذٍ؛ فلو قُدِّرَ أنَّ ابن عمر وابن عباس لم يَختلف قولهما بلزوم ما يحلف به لم يرفع ذلك خلاف غيرهما (2). والمقصود: إثباتُ النزاعِ في الحلف بالعتق، فإنَّا لم نَدَّعِ إجماعًا فيه، وإذا ثبت النزاع على كل تقدير= حصل المطلوب. * * * * _________ (1) لم يظهر من الكلمة إلا حرف الراء، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام. (2) قاعدة العقود (2/ 327 وما بعدها).

(1/252)


فصلٌ قال المعترض: (وقوله: (فإنْ صَحَّ كان في ذلك نزاع بين الصحابة)، إنما يثبت (1) النزاع بين الصحابة بِأَنْ يثبت كُلٌّ من الأثرين (2) ولا علة فيه، أما مع التعليل فيحتمل أنْ يكونا صحيحين أو الأول وحده أو الثاني وحده؛ وعلى هذين التقديرين= لا يثبت النزاع، ونحن يكفينا الاحتمال) (3). والجواب: أنَّ هذا كلام فاسدٌ لفظًا ومعنىً، صورةً ومادةً، فلا مقدمات صحيحة ولا نظر صحيح! أما فساده صورة ولفظًا؛ فيقال: إنَّ المجيب قال: (إنْ صحَّ كان في ذلك نزاعٌ بين الصحابة - رضي الله عنهم -) فلم يذكر النزاع إلا على تقدير صحة هذا، لأنه قد بَيَّنَ صحة الآخر؛ فالاعتراض على هذا أنْ يُقالَ: لا نُسلِّم أنه بتقدير صحته ثبت النزاع، لأنه إنما يثبت إذا صحَّ حديث ليلى بنت العجماء، وهو (4) لم يصح أو لا نسلم صحته. وأما أَنْ يقال: على هذين التقديرين لا يثبت النزاع؛ فالمجيب لم يثبت النزاع إلا على تقدير صحة حديث ابن حاضر، لأنه تبيَّنَ صحة الآخر فلم _________ (1) في الأصل: (ثبت)، والمثبت من «التحقيق». (2) في الأصل: (الأمرين)، والمثبت من «التحقيق». (3) «التحقيق» (36/ ب). (4) في الأصل: (وإن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/253)


يثبت النزاع إلا على تقدير صحتهما (1)، فلا حاجة إلى قوله: إنما يثبت النزاع عن الصحابة بأن يثبت كل من الأمرين ولا علةَ فيه. ثم تناقض فقال: (أما مع التعليل فيحتمل أن يكونا صحيحين). فيقال له: وإذا كانا صحيحين فقد ثبت النزاع وإن كان فيهما علة غير قادحة، لأنَّ العلة مع الصحة لا تكون قادحة فيه؛ فكيف في حديث فيه علة لا تقدح في صحته بل قد عُرِفَ ضعفها أو بطلانها؟ وإذا كان بتقدير صحتهما فقد ثبت النزاع بين الصحابة سواء كان فيهما علة أو لم يكن فقوله: لا يثبت النزاع بين الصحابة إلا إِنْ ثبت كل منهما ولا علة فيه = كلامٌ باطل. [69/ أ] وأما قوله: (ونحن يكفينا الاحتمال). فيقال له: الاحتمال المرجوح لا يقدح في الأدلة الشرعية، ولو جاز أن يكون مجرد هذا قادحًا = لم يُحَتَجَّ بالعموم ولا خبر الواحد ولا القياس. وإنما القادح هو: الاحتمال المقاوم، فإذا بَيَّنَ المعترض أن ما ذكر يحتمل أن يكون كما ذكره المستدل، ويحتمل أن يكون بخلاف ذلك؛ احتمالين متساويين= وُقِفَت دلالته، وإنْ بَيَّنَ أن احتمال الخلاف أظهر= بطلت دلالته. ثم يقال: مثل هذا الكلام يقوله مَن يحتج بمن (2) نقل الإجماع مع العلم بأنه لا علم له بِنَفْي النزاع، وأنه قد نقل إجماعًا غير هذا وظهر فيه نزاعٌ (3) لم يطلع عليه، وأنه يحتمل أن يكون فيها نزاع لم يطلع عليه، وهذا احتمال لا _________ (1) في الأصل: (صحتها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) تحتمل في الأصل: (لمن). (3) في الأصل: (نزاعًا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/254)


سبيل إلى العلم بنفيه؛ ومجرد الاحتمال كافٍ في منع الجزم بالإجماع، وإن ادَّعى أن ظن الإجماع كافٍ وهو حاصل قِبَل (1) أبي ثور وأمثاله. قيل: وظن صحة خبر ليلى بنت العجماء وذكر العتق فيه كاف وهو حاصلُ بعضِ ما ذكرناه. وأما فساده من جهة المعنى ومادة الدليل؛ فيقال له: خبر عثمان بن حاضر إنْ كان صحيحًا فهو مخالف قطعًا لما ثبت عن الصحابة من الكفارة في الحلف بالنذر والحلف بالعتق، والنزاع في ذلك ثابت عن الصحابة بخبر ليلى وخبر غير ليلى؛ فإنَّ خبر عثمان يُسَوِّي بين العتق وغيره لا يُفرق بينهما. وأيضًا؛ فإنه ليس فيه خلاف عن كل مَن ذُكِرَ في خبر ليلى وإنما فيه خلاف عن ابن عمر؛ وأما حفصة وزينب فلم ينقل عنهما خلافُ ما في خبر ليلى. وحينئذٍ؛ فلا يجوز دفع ما فيه نَقْلٌ عن حفصة وزينب بما نُقِلَ عن غيرهما، بل إذا صح ما نُقِلَ عن غيرهما كان في ذلك نزاع بينهما وبين ما نقل عنهما، ولم يكن ما نقل عن غيرهما مُضَعِّفًا لما نقل عنهما. وحينئذٍ؛ فلا يجوز أَنْ يُعَارَضَ بأثرِ عثمان ما نُقِلَ عن حفصة وزينب، وقد عُرِفَ أَنَّ ذاك نَقَلَهُ الثقات ولم يعارضه (2) شيء؛ فإن كان أثر عثمان صحيحًا فغايته أَنْ يُثْبِتَ النزاعَ بين الصحابة - رضي الله عنهم -. * * * * _________ (1) كذا في الأصل، والإجماع أول من نقله أبو ثور، فالنقل من قِبَلِهِ. ويحتمل أنها تصحفت على الناسخ ويكون صوابها (بقول). (2) هكذا قرأتها، والكلمة غير واضحة.

(1/255)


فصلٌ قال: (وقوله: (ولم يثبت لنا [لفظه] (1) عجيبٌ لأمرين: أحدهما: أنه إنما يحسن ذلك لو كان عنده في بعض (2) [69/ ب] ألفاظ الحلف يحكم بالوقوع، فكان ينزل (3) الأثر على ذلك اللفظ، كما ذلك عندنا وعند أرباب المذاهب المشهورة كما ستعرفه؛ أما إذا كان الحلف عنده بكل لفظ غير موقع، فلا فائدة في معرفته اللفظ الذي حكم فيه ابن عمر وابن عباس بالوقوع) (4). والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ الأمر ليس كما ادعاه؛ فإنَّ صيغ التعليق التي تتضمن الحض والمنع منها ما هو إيقاع لم يقل أَحَدٌ أنه يمين مُكَفَّرَة، بل فيه نزاع هل يقع به الطلاق أو لا يقع؟ ولم يقل أحد أَنَّ فيه يمينًا. ومنها ما هو يمين فيه الأقوال الثلاثة؛ وذلك لا يكون إلا إذا كان الجزاء مما يَكره المعلِّق وقوعه [فَعَبَّرَ به لفظة تفيد انتفاء دلالته] (5) من وجوه أخرى _________ (1) هذه الزيادة من «التحقيق»، وهي في الأصل غير واضحة. (2) كذا قرأتها، ويحتمل وجود كلمة بعدها لكنها غير ظاهرة، ولا يوجد كلمة هنا في «التحقيق». (3) في «التحقيق»: (ترك). (4) «التحقيق» (36/ ب). (5) كذا قرأتها، وموضع الكلام فيه سواد شديد.

(1/256)


غير هذا؛ كما قد بينا ذلك لمَّا وَقَفْنَا بعد ذلك على لفظه، وبَيَّنَّا أنه ليس فيه حجة لمن فَرَّقَ بين العتق والطلاق وغيرهما؛ بل فيه ما يدل على أَنَّ قائل ذلك مخالفٌ لجميع ما نُقِلَ عن الصحابة في النفي والإثبات؛ فكان لفظه حجة للمجيب لا عليه. والمجيب كتب هذا الجواب المختصر أولًا في قعدةٍ واحدة، ولم يكن بلغه حديث عثمان بن حاضر إلا كما ذكره أحمد ذكرًا مجملًا في جواب السائلين له، لم يروه أحد في جواب السائلين بإسناده ولفظه. الثاني: أن لفظه حجة على المحتجِّ به المفرِّق بين العتق والنذر، وقد ذكره (1) المعترض عن مصنف عبد الرزاق، وقد ذكر أحمد أنه لم يسمعه إلا من عبد الرزاق. فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن [أبي] (2) حاضر قال: جَلَسَت (3) امرأة من أهل ذي أصبح فقالت: مالي في سبيل الله وجاريتها حرة إن لم يَفعل كذا وكذا ــ لشيءٍ كرهه زوجها ــ فحلف زوجها ألا يفعله، فسئل عن ذلك ابن عمر وابن عباس، فقالا: أما الجارية _________ (1) في الأصل: (ذكر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) الزيادة من الأوسط والسنن والمصنف. تنبيه: وقع في بعض المواضع من الأصل (عثمان بن حاضر) وفي بعضها (عثمان بن أبي حاضر)، وهذا عائد إلى الاختلاف في ذلك؛ فقد غلَّط الإمام أحمد عبدالرزاق في قوله: عثمان بن أبي حاضر. وقال ابن حجر ــ أيضًا ــ: وهو وهمٌ. انظر: التاريخ الكبير (3/ 200)، تهذيب الكمال (19/ 349)، تقريب التهذيب (4489). (3) في المصنف: (حَلَفَت).

(1/257)


فتعتق، وأما قولها في سبيل الله: فتتصدق بزكاة مالها (1). وقد رواه (2) البيهقي (3) من طريق عبد الرزاق ــ أيضًا ــ، وقال البيهقي: كذا في هذه الرواية؛ وقد روينا عن ابن عمر وابن عباس ما دَلَّ على جواز التكفير في الحلف بالصدقة (4). وذكره ابن عبد البر (5) من رواية أبي القاسم البغوي عبد الله [70/ أ] بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا داود بن عمرو، حدثنا مسلم بن خالد، عن إسماعيل بن أمية، عن رجل يقال له: عثمان بن حاضر ــ قال إسماعيل: وكان رجلًا صالحًا قاصًّا (6) ــ أنَّ رجلًا قال لامرأته: اخرجي من ظهري (7)؛ فَأَبَتْ أن تخرج، فلم يزل الكلام بينهما حتى قالت: (8) هي تنحر نفسها، وكل مالها في سبيل الله إن خرجت، ثم بدا لها فخرجت. قال ابن حاضر: فأتتني فسألتني، فأخذت بيدها فذهبت بها إلى ابن عباس، فقصَّت عليه القصة. فقال ابن عباس: أما جاريتكِ فهي حرة، وأما قولك: تنحري نفسك؛ فانحري _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 485)، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (12/ 112/ ح 8896)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 182/ ح 20081). (2) في الأصل زيادة: (من طريق)؛ والصواب حذفها ليستقيم الكلام. (3) في الأصل زيادة: (رواه)؛ والصواب حذفها ليستقيم الكلام. (4) قوله: (في الحلف بالصدقة) ليست في السنن الكبير (20/ 173/ ح 20066). (5) في الاستذكار (15/ 107). (6) كذا في الأصل، وفي الاستذكار: (فاضلًا). وانظر ما سيأتي (ص 270). (7) وفي الاستذكار: (اخرجي في ظهري). (8) في الاستذكار زيادة: (جاريتها حُرَّة، و)، وانظر ما سيأتي في المقطع التالي.

(1/258)


بدنة، ثم تصدقي بها على المساكين. وأما قولكِ: مالي في سبيل الله؛ فاجمعي مالك كله فَأَخْرِجِي منه مثلما يجب فيه من الصدقة. قال: ثم ذهبتُ بها إلى ابن عمر فقال لها مثل ذلك، ثم ذهبت بها إلى ابن الزبير فقال لها مثل ذلك ــ قال: وأحسب أنه قال ــ: ثم ذهبتُ بها إلى جابر بن عبد الله فقال مثل قولهم. قال: وأما الثلاثة فقد أثبتهم [عن الزهري في هذه المسألة] (1). هكذا في كتاب ابن عبد البر، وقد سقط فيه من السؤال: وجاريتها حرة (2)؛ فهذان طريقان، وقد زاد في هذا زيادة فتيا ابن الزبير وشك (3) في جابر، وفيه: أنهم أمروها في ذبح النفس: بنحر بدنة. وقد رواه ابن حبيب (4) بطريق ثالثة بلفظ ثالث، رواه عبد الملك بن حبيب الأندلسي (5) في كتابه (الواضحة) (6) فإنه روى أَنَّ عليًّا وابن عباس _________ (1) الزيادة من الاستذكار. (2) وقد تقدم التنبيه على وجودها في المطبوع من الاستذكار؛ بل في جواب الصحابة ما يدلُّ على ذلك. (3) يوجد سواد شديد، وهكذا قرأتها. (4) يوجد سواد شديد، وهكذا قرأتها. (5) هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان الأندلسي القرطبي المالكي، فقيهٌ مشاركٌ في عِدَّةِ علوم، إلا أنه ضعيف في الرواية كما سيأتي، ولد سنة (174)، وتوفي سنة (238) وقيل (239). انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 102)، الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (3/ 548)، تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (ص 269). (6) الواضحة في عدة مجلدات كما وصفها الذهبي، وبعضهم يزيد في اسمها (الواضحة في السنن والفقه)، وأشار الزركلي إلى أنَّ نسخةً منها مخطوطة في خزانة الرباط، وأثنى عليها جماعةٌ من المالكية كابن الفرضي حيث قال: (الواضحة لم يُؤلَّف مثلها). وتكلَّم فيها بعضهم. سير أعلام النبلاء (12/ 103)، تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (ص 270)، معجم المؤلفين (2/ 316)، الأعلام (4/ 157).

(1/259)


وابن عمر أفتوا فيمن نَذَرَ أنْ يهدي ابنه مائة من الإبل (1). قال ابن حبيب: وحدثني ابن المغيرة، عن الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن حاضر أنهم ثلاثتهم سئلوا عن ذلك بعد ذلك، فقالوا: ينحر بدنة، فإن لم يجد فكبشًا (2). ففي هذه الرواية ذُكِرَ عليٌّ بدل ابن الزبير، وأنهم أفتوا ببدنة، فإن لم تجد فكبشًا؛ وهذا مما يُبين وقوع الغلط في هذا الحديث قطعًا. وهذا الأثر هو الذي اعتمد عليه أبو جعفر الهندواني وغيره من أصحاب أبي حنيفة حيث نقلوا عن العبادلة إيجاب ما عَلَّقَهُ من نذر اللجاج والغضب. قال أبو جعفر الهندواني: ولزوم الوفاء به (3) قول العبادلة: ابن عمر _________ (1) كلمة لم أستطع قراءتها، وفي المحلى (ص 996): (أن يهدي مائة من الإبل). (2) ساق إسناد ابن حبيب: ابن حزم في المحلى (ص 996) وقال: وروِّينا من طريقٍ ساقطةٍ فيها ابن حبيب الأندلسي وذكرها. وتكلَّم في روايته غيرُ واحدٍ حتى اتهم بالكذب، إلا أَنَّ الذي يظهر في ذلك ما قالَهُ الذهبي في الميزان (2/ 653): (الرجل أَجَلُّ من ذلك، ولكنه يَغلط). وقال في السير (12/ 106) بعد أنْ ذكر تضعيف ابن حزم له: (ولا ريبَ أنَّ ابن حبيب كان صحفيًا، وأما التعمُّد (أي: تعمد الكذب) فكلا). وانظر ما سيأتي (ص 446). (3) غير واضحة في الأصل، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام، وتقدم هذا النقل.

(1/260)


وابن عباس وابن الزبير (1). وهذا مما نقله عنه أصحاب الشافعي وأحمد، وذكره أبو الحسين القدوري (2) في شرح مختصر الكرخي (3). [70/ ب] وقد أنكر نزاع الصحابة في ذلك مَنْ أنكره مِنْ أئمة أصحاب الشافعي وأحمد، وقالوا: إِنَّ هذا لا يُعرف في كتب الحديث؛ وفيه أنواع من العلل: أحدها: أَنَّ ابن عمر عنه روايتان ثابتتان كل منهما تخالف ما روي عنه؛ إحداهما: قال ابن عبد البر: ذكر معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر في (4) رجل جعل ماله في المساكين إن لم يفعل كذا ثم حنث. قال: ماله في المساكين (5). فهذا فيه أنه جعل جميع المال في المساكين خلاف رواية عثمان بن حاضر. وروي عن ابن عمر في حديث ليلى بنت العجماء أنه أفتى بكفارة يمين، _________ (1) انظر ما تقدم (ص 191). (2) هو أحمد بن محمد بن أحمد، المعروف بالقدوري، نسبةً إلى القدور جمع قِدْر، من فقهاء الحنفية، ولد سنة (362)، وتوفي سنة (428). الجواهر المضية (1/ 247)، البداية والنهاية (15/ 662)، شذرات الذهب (5/ 132)، تاريخ بغداد (6/ 31). (3) لم يظهر منها إلا الأحرف الأولى (الكر). وقد ذكر في ترجمة القدوري أنَّ له شرحًا على مختصر الكرخي؛ وصفه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة (5/ 28) وكحالة في معجم المؤلفين (1/ 242) بأنه في عِدَّةِ مجلدات. (4) في الأصل: (عن)، والمثبت من الاستذكار. (5) الاستذكار (15/ 106) وفيه أنه جعل ماله في سبيل الله.

(1/261)


وقد روي عنه أَنَّ هذه الرواية هي المتأخرة التي رجع إليها، كما روى (1) أن ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب أنَّ رجلًا جعلَ ماله في رتاج الكعبة. فقال ابن عمر: تَفِي بما قلتَ. قال: فذهب إلى عمر (2). فقال: أطعم عشرة مساكين، فرجعت إلى (3) ابن عمر، فقلت له ما قاله أبوه، فقال: [هو أعلم] (4). وهذا الحديث معروف عن سعيد بن المسيب عن عمر؛ كما رواه أبو داود في سننه (5) من حديث يزيد بن زريع، حدثنا حبيب (6) المعلِّم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب أنَّ أخوين من الأنصار كان (7) _________ (1) كذا في الأصل، والذي يظهر أنَّ ابن تيمية - رحمه الله - نقلها من الاستذكار لمَّا لم يجدها في مؤلفات ابن أبي شيبة؛ فلذا قال: روى ــ أي ابن عبد البر ــ. (2) غير واضحة، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) كررت (إلى) مرتين. (4) في مطبوعة الاستذكار: «هذا عِلْمٌ» وهو تحريف. والأثر لم أجده في مصنف ابن أبي شيبة ولا في بقية كتبه التي بين يدي، وإنما رأيتُ ابن عبد البر نقله في الاستذكار (15/ 108) وقال: وذكر ابن أبي شيبة ثم ساق الأثر. (5) برقم (3272). وقد تقدم تخريجه في (ص 225). (6) في الأصل تحتمل: (حسين)؛ والمثبت من مصادر التخريج. (7) الكلام هنا غير واضح، والمثبت من السنن.

(1/262)


بينهما ميراث، فَسَأَلَ أحدُهما صاحبَه القسمة، فقال: إنْ عُدتَ تسألني القسمة، فكل مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إِنَّ الكعبة غنية عن مالك، كَفِّرْ عن يمينك وقاسم أخاك؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك». فقد يكون سعيد هو المفتي بقول عمر، فلما ذكر له فتيا ابن عمر أمسك عن الفتيا باللزوم وقال: هو أعلم، سواء كان ذلك في حياة عمر أو بعد موته؛ ففيه توقف عن ذلك، وتسليمٌ أَنَّ أباه أعلم بهذه المسألة منه، وأبوه أفتى بكفارة يمين. والمقصود هنا: أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قد ثبت عنه من عدة طرق ما يخالف حديث عثمان بن حاضر من رواية سالم عنه ورواية أبي رافع، وكل من هذين أحفظ بكثير وأفقه من عثمان بن حاضر، وقد انضم إليهما الرواية [71/ أ] الثالثة عن ابن عمر؛ فكيف يجزم عن ابن عمر بما خالفه فيه هؤلاء؟ والحلف بالعتق هو ــ أيضًا ــ في حديث ليلى الذي هو أصح باتفاق أهل العلم من حديث عثمان بن حاضر. والعلة الثانية: أَنَّ ابن عباس قد ثبت عنه ضد ما في حديث عثمان بن حاضر؛ روي ذلك من بعض طرق حديث ليلى بنت العجماء. وقال أبوبكر الأثرم: حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا عمران، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى: أَنَّ امرأةً سألت ابن عباس أَنَّ امرأة جعلت بردها عليها هديًا إِنْ لبسته. فقال ابن عباس: أفي غضبٍ أم رضا؟ قالوا: في غضب. قال:

(1/263)


إِنَّ الله لا يُتَقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها (1). قال: وحدثني ابن الطباع، حدثنا أبو بكر بن عياش (2)، عن العلاء بن المسيب، عن يعلى بن [نعمان] (3)، عن عكرمة، عن ابن عباس سئل عن رجل جعل ماله في المساكين. فقال: أمسك عليك مالك، وأَنْفِقْهُ على عيالك، واقْضِ دينك، وكَفِّرْ يمينك (4). وقال البخاري (5): قال ابن عباس الطلاق عن وَطَر، والعِتقُ ما ابتغي به وجه الله. فهذه أسانيد ثابتة عن ابن عباس بخلافِ ما في حديث عثمان بن حاضر، وأنه جعل في التعليق الذي يُقصد به اليمين كفارة يمين، ولم يُلزم المعلق ما عَلَّقَهُ كما في المعلق بالوفاء وجعله لازمًا؛ ومعلومٌ أَنَّ بعض هذه علة في حديث عثمان بن حاضر؛ فكيف بمجموعها؟ وهذا أثبت عن ابن عباس من ذاك. فَإِنِ المعترضُ يجعلها روايتين عن ابن عباس. _________ (1) لم أجد هذا النص فيما بين يدي من كتب الأثرم، إلا أنَّ المصنف نقل هذا الأثر عن الأثرم في عدة مواضع من كتبه منها: مجموع الفتاوى (35/ 256، 340)، الفتاوى الكبرى (4/ 119)، القواعد الكلية (ص 465)، وسيذكره فيما بعد. (2) في الأصل: (عابس)، والمثبت من كتب ابن تيمية الأخرى. (3) بياض مقدار كلمة، والمثبت من القواعد الكلية (ص 466) وغيرها. (4) لم أجد هذا النص فيما بين يدي من كتب الأثرم، إلا أنَّ المصنف نقل هذا الأثر عن الأثرم في عدة كتب منها: مجموع الفتاوى (35/ 256، 340)، الفتاوى الكبرى (4/ 119)، القواعد الكلية (ص 466). (5) في باب الطلاق في الإغلاق والكره ... إلخ.

(1/264)


قيل: حَصَلَ المقصود؛ فإنَّا نحن نكتفي بإثبات النزاع، لم نَدَّعِ في ذلك إجماعًا، وإنما اعتمدنا في مسائل النزاع على الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة لفظًا ومعنى، وهذا الاعتبار والقياس الصحيح. فإنْ قيل: ما ذكرتم عن ابن عمر وابن عباس من الإفتاء بالكفارة في التعليق الذي يقصد به اليمين يعارض حديث ابن حاضر في النقل عنهما، عن (1) ابن الزبير لا معارض له عنه، وكذلك في فتياه (2) إنْ كان قال ذلك. قيل: فتيا ابن الزبير مذكورةٌ من طريق مسلم بن خالد وفيه نظر (3)، إذا ثبت ذلك عن ابن الزبير عارضه مَنْ لم يختلف النقل عنهم أنهم أفتوا في العتق بكفارة [71/ ب] مثل حفصة وزينب. وإذا قيل: ذِكْرُ العتقِ انفردَ به سليمان التيمي. قيل: لو انفرد به سليمان التيمي لكان الاحتجاج بانفراده عَمَّن سليمان أثبت منه (4) أولى من الاحتجاج بانفراد مسلم بن خالد عمن هو أوثق من مسلم بن خالد وهو معمر؛ وقد تابع سليمان التيمي أشعث بن عبد الملك وجسر بن الحسن. فتبين أنه كيفما أدير الأمر؛ فالقول بأنَّ في الصحابة من أفتى في الحلف بالعتق بالكفارة أقوى من القول بأنَّ فيهم من أفتى بأنه لا كفارة فيه؛ فإنْ صَحَّا ثبت النزاع، وإنْ كان الصحيح أحدهما؛ فهو: إثبات التكفير دون نفيه ــ بلا _________ (1) كتب الناسخ فوقها حرف (ظ)، ولعل الصواب: (وعن). (2) في الأصل: (فتيايه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) كما في (ص 258 - 259). (4) قاعدة العقود (2/ 327).

(1/265)


ريب ــ بعد معرفة الطرق وأحوال رواتها ومعرفة ما نقل في ذلك عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ. العلة الثالثة: أَنَّ في رواية معمر أنها استفتت ابن عمر وابن عباس، وأَنَّ اليمين كانت جملتين (إِن فعلت فمالي في سبيل الله وجاريتها حرة). وفي رواية مسلم بن خالد: أنها حلفت بثلاثٍ هي: (تنحر نفسها، وكل مالها في سبيل الله، وجاريتها حرة) وأنه استفتى ابن الزبير ــ أيضًا ــ وشك (1) في جابر، وهذا اختلاف في الرواية. فإنْ قيل: أحد الروايتين أثبتت ما سكت (2) الآخر عنه. قيل له: وهكذا في حديث ليلى بنت العجماء، فَلِمَ جَعَلَ هذا علة في حديث ليلى، ولا يكون علة في حديث هذه؟! ونحن إذا عللنا بهذه (3) لأنَّ هذه الرواية الثالثة رواها مسلم بن خالد، وليس هو بالحافظ المتقن مثل: سليمان التيمي ومن وافقه كأشعث وجسر ابن الحسن، ومعمر أحفظ من مسلم، ولهذا لم نجزم بحفظه للزيادة، وسليمان أحفظ من حميد وقد تابعه غيره، وليس التارك بأكثر من المثبت. العلة الرابعة: أن في هذه أن هذين الصحابيين أفتياهما من المال بزكاته، وهذا القول لا يَعرفه أهل العلم عن أَحَدٍ قبل ربيعة، وهو من رَأْيِ ربيعة الذي أنكره الناس عليه، لم يُعْرف له فيه سلف ولا تَبِعَهُ فيه خلف؛ ولو كان هذا _________ (1) هكذا قرأتها. (2) مقدار كلمة أو كلمتين لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ. (3) كذا؛ أي: بهذه العلة.

(1/266)


ثابتًا عن ابن عمر وابن عباس لم يكن الأمر كذلك، ولم يجعل هذا مما شَذَّ به ربيعة (1). العلة الخامسة: أن فيه أن في (2) نحر نفسه بدنة؛ ومعروف عن ابن عباس أن في ذلك شاة أو كفارة يمين، [72/ أ] وهذا ثابت عن ابن عباس بالأسانيد الثابتة، وجمهور العلماء اتبعوا ابن عباس في ذلك؛ كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ومنهم من لم يوافقه كالشافعي. وعمدة الفقهاء في ذلك: اتباع الصحابة؛ فلو كان قد ثبت عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير أو جابر أنهم قالوا في ذلك ببدنة= لكان اتباع هذا أولى، وهذا حجة على من قال: إنَّ الإفتاء باللزوم في نذر اللجاج والغضب هو قول العبادلة، وهم لا يوافقون العبادلة لا في إيجاب بدنة ولا في إيجاب زكاة المال، بل ليس من الفقهاء مَنْ عُرِفَ عنه أنه أخذ بهذا القول المنقول عن العبادلة في هذا الجواب، فإنه لم ينقل (3) عن أحدٍ أنه أفتى بوجوب الزكاة إلا ربيعة، وهو لا يوافقهم على إيجاب البدنة، والذين وافقوا على لزوم العتق كالأربعة لم يقولوا بسائره في إيجاب البدنة والاجتزاء بزكاة المال، وإيجاب البدنة تغليظ والاجتزاء بزكاة المال تخفيف؛ وهذا غير مناسب. وأيضًا؛ فعثمان بن حاضر هذا ليس من المعروفين بضبط العلم، ولا هو مشهورًا يُعرف ضبطه بكثرة روايته، ولا روى له أصحاب الصحيح شيئًا لا البخاري ولا مسلم، ولم يرو له من أهل السنن لا النسائي ولا الترمذي، _________ (1) قاعدة العقود (2/ 330 وما بعدها)، وقد تقدم ذكر قول ربيعة (ص 251 - 252). (2) بياض مقدار كلمة، ولعل تقدير ذلك ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (لو نقل).

(1/267)


وإنما روى له أبو داود وابن ماجه (1). وفي سنن ابن ماجه عدة أحاديث موضوعة نحو بضعة عشر حديثًا (2)؛ مثل الحديث الذي رواه في فضل قزوين (3)، وفي رجال أبي داود مَنْ (4) لا يعتمد على ما انفرد به، بل ينفرد بما هو كذب؛ مثل الذي روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له كاتب اسمه السجل (5) رواه من طريق المراوزة (6)؛ وهذا مما يجزم _________ (1) تهذيب الكمال (19/ 349). (2) مسألة المرابطة بالثغور (ص 60)، وجامع المسائل (5/ 364). (3) أخرجه تحت رقم (2780) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعًا. وحَكَمَ عليه بالوضع: ابن الجوزي (2/ 316) وقد تعجب من إخراج ابن ماجه له، والذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 20) وقال: فلقد شان ابن ماجه سننه بإدخاله هذا الحديث الموضوع فيها، وابن القيم في زاد المعاد (1/ 435)، وبرهان الدين ابن القيم في تحقيق القول في سنة الجمعة (ص 68)، والسيوطي في اللآليء المجموعة (1/ 423)، وابن عَرَّاقَ في تنزيه الشريعة المرفوعة (2/ 50)، والشوكاني في القواعد المجموعة (ص 432). وانظر: جامع المسائل (5/ 364). (4) في الأصل: (فإنه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (5) في الأصل: (السجيل)، والمثبت من السنن وباقي المصادر. (6) أخرجه أبو داود (2935)، والنسائي في السنن الكبرى (11272)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 170/ ح 12790)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 1529)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 1454)، والبيهقي السنن الكبير (20/ 371/ ح 20428) وَ (20/ 372/ ح 20429) من حديث نوح بن قيس، عن يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ورواه أبو نعيم (3/ 1453) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. قال الطبري في تفسير الآية (104) من سورة الأنبياء (16/ 425) بعد أَنْ أَخرجَ هذا الأثر وغيره: وأولى الأقوال عندنا بالصواب قول مَنْ قال: السجل في هذا الموضع الصحيفة، لأنَّ ذلك هو المعروف في كلام العرب، ولا يعرف لنبينا كاتب كان اسمه السجل، ولا في الملائكة مَلَكٌ ذلك اسمُهُ. وقال ابن عدي في الكامل (7/ 205): وهو غير محفوظ. وقال ابن كثير في تفسيره (5/ 383): وهذا منكرٌ جدًا من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصحُّ أصلًا؛ وكذلك ما تقدم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصحُّ أيضًا. وقد صرَّحَ جماعةٌ من الحفَّاظ بوضعه ــ وإنْ كان في سنن أبي داود ــ منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي ــ فَسَحَ الله في عمره ونسَأَ في أجله وختمَ له بصالح عمله ــ وقد أفردتُ لهذا الحديث جزءًا على حِدَةٍ، ولله الحمد، وقد تَصدَّى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث وردَّهُ أتمَّ رَدٍّ .... وأمَّا مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا؛ فإنما اعتمد هذا الحديث لا على غيرِهِ، والله أعلم. وقال ابن القيم في تهذيب السنن (3/ 1467 وما بعدها): سمعتُ شيخنا أبا العباس ابن تيمية يقول: هذا الحديث موضوع، ولا يُعرف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتب اسمه (السجل) قط، وليس فيهم من اسمه (السجل)، وكُتَّاب النبي معروفون، لم يكن فيهم مَنْ يُقال له (السجل). قال: والآية مكية، ولم يكن لرسول الله كاتب بمكة، والسجل هو: الكتاب المكتوب. وقال ابن كثير في البداية والنهاية (8/ 340): وقد عرضتُ هذا الحديث على شيخنا الحافظ الكبير أبي الحجاج المزي فأنكره جدًّا، وأخبرته أنَّ شيخنا العلامة أبا العباس ابن تيمية كان يقول: هو حديثٌ موضوعٌ وإِنْ كانَ في سنن أبي داود. فقال شيخنا المزي: وأنا أقولُهُ. وانظر: السلسة الضعيفة (12/ 399/ ح 5676)، وضعيف أبي داود (الأم) (2/ 412)، والبداية والنهاية (8/ 339 وما بعدها)، والمصباح المضي في كُتَّاب النبي الأُمي (1/ 104).

(1/268)


بأنه كذب.

(1/269)


فقد تبين أن ألفاظ الحديث تقدح في صحته، وتدل على أنه غير محفوظ، وأنَّ الثقات الأثبات يخالفون هذا ابن حاضر فيما رواه لو كان من العلماء المعروفين بالضبط؛ فكيف ونحن لا نعلم أنه ضابط لما يرويه، كونُهُ قاصًّا (1) ورجلًا صالحًا (2) لا يوجب كونه ضابطًا، بل هو من أمارات عدم حفظه (3)؛ فإنَّ عامة القصاص الصالحين كصالح المُرِّي ومالك بن دينار وغيرهما ممن (4) [72/ ب] كان فيه صلاح وكان يقص، لا يضبطون ألفاظ الحديث، ولا يحتج بمجرد روايتهم في الأحكام، فضلًا عن أنْ يُعَارَضَ بروايتهم ما روته الثقات الضابطين الصالحين (5). * * * * _________ (1) لم يظهر من الكلمة إلا حرف القاف والألف، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام إن شاء الله. (2) في الأصل زيادة: (كما)، وبحذفها يستقيم الكلام. (3) كذا قرأتها. (4) كذا قرأتها. (5) مجموع الفتاوى (18/ 375)، الفتاوى الكبرى (5/ 356)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 40)، بيان تلبيس الجهمية (6/ 127 وما بعدها)، منهاج السنة (2/ 468)، المنتقى من منهاج الاعتدال (ص 95). وانظر: تحذير الخواص من أكاذيب القُصاص للسيوطي.

(1/270)


فصلٌ وأما قول المعترض: (فكلامُ ابنِ عباس وابنِ عمر فيه نَصٌّ بالتفصيل لا يَحتمل التأويل، وهو يُبَيِّنُ لنا أنَّ مرادهما في أثر ليلى وفتيا ليلى بنت العجماء= أَنَّ مرادهما ما عدا العتق) (1). فيقال له: بل كلام ابن عباس وابن عمر ــ إِنْ صحَّ ــ فهو نص في التسوية في الحلف بالعتق والصدقة، وفي الرواية الأخرى: ونحر نفسه؛ وأنَّ الواجب في جميع ذلك اللزوم لا الكفارة. ورواية ليلى ــ أيضًا ــ صريحةٌ في التسوية بين العتق وغيره، والمنقول عن الصحابة نفيًا وإثباتًا لا يدل إلا على التسوية بين الحلف بالعتق وغيره لا على قول مَنْ فَرَّقَ؛ فمن فَرَّقَ فقد خالف جميع ما نُقِلَ عن الصحابة، وهذا هو المخالف لإجماع الصحابة إذ لم يُعرف عن الصحابة في ذلك نزاع. فهذا الحديث نَصٌّ على خلاف من يوجب الوفاء بالنذر المحلوف به من الفقهاء، ولم يَقُلْ بهذا أحد من الفقهاء؛ فلا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ولا أحد من العلماء المعروفين غيرهم يقول بما في هذا الحديث؛ فهو نص في خلاف قول جميع العلماء الذين تُعرف أقوالهم، فلم يقل أحد من العلماء الذين تعرف أقوالهم أَنَّ في الحلف بصدقة المال الزكاة وفي الحلف بنحر نفسها بدنة، بل ربيعة يعرف عنه بعض هذا. _________ (1) «التحقيق» (37/ أ).

(1/271)


وأيضًا؛ فالروايات الثابتة عن ابن عمر وابن عباس توافق حديث ليلى بنت العجماء وتناقض هذا الخبر؛ وحينئذ، فلا بُدَّ من أحد أمرين: إما أَنْ يقال: إِنَّ الصحابة أفتوا بهذا تارة وبهذا تارة؛ فيكون عن ابن عمر وابن عباس روايتان. وإما أَنْ يقال: بل إحدى الروايتين هي الصحيحة دون الأخرى؛ وحينئذٍ لا يستريب عالم بالمنقولات في وجوب تقديم رواية من روى التكفير عنهم في هذه الأيمان على رواية من روى لزوم ما حلف به، ولم ينقل أحد منهم استثناء العتق. فقول [73/ أ] القائل: إِنَّ مرادهما في حديث ليلى بنت العجماء ما عدا العتق؛ قولٌ لم ينقله (1) أحدٌ عنهم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، واستدلالٌ بما لا يدل، بل يدل على نقيض ذلك من التسوية بين العتق وغيره من كلا الروايتين؛ فليتدبر اللبيب ما اعتمد عليه مَنْ يُقَوِّل الصحابة ما لم يقولوه من التفريق بين العتق وغيره، فإنه لا يدل ما يذكرونه إلا على نقيض مطلوبهم لا على مطلوبهم. فصلٌ وأما مَنْ ذكر في حديث ليلى من قوله: وأعتقي جاريتك؛ فهذا غلط محضٌ، لم ينقله أحد في حديث ليلى؛ كما قد بسط في موضعه (2). _________ (1) في الأصل: (يقله). (2) قال في المجموع (33/ 195): (وأما ما ذكره من الزيادة في حديث أبي رافع، وأنهم قالوا: (أعتقي جاريتك) فهذا غلطٌ؛ فإنَّ هذا الحديث لم يذكر فيه أحدٌ أنهم قالوا: (وأعتقي جاريتك). وقد رواه أحمد والجوزجاني والأثرم وابن أبي شيبة وحرب الكرماني وغير واحدٍ من المصنفين فلم يذكروا ذلك. وكلام أحمد في عامة أجوبته يبيِّن أنه لم يذكر أحد عنهم ذلك، وإنما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي. وأبو محمد نقلَ ذلك من جامع الخلال، والخلال ذكر ذلك ضمن مسألة أبي طالب ــ كما قد بيَّنَّاه ــ؛ وذلك غلطٌ على أحمد. وأبو طالب له ــ أحيانًا ــ غلطاتٌ في فهم ما يرويه؛ هذا منها). وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 190)، وقاعدة العقود (2/ 337 وما بعدها)، والفروع (9/ 99)، وما سيأتي (ص 859 وما بعدها).

(1/272)


فصلٌ (قال المجيب: قلت: فهذا الذي ذكره الإمام أحمد - رضي الله عنه - في أجوبته، ولكنَّ أصولَهُ [المنصوصة عنه في غير موضع] تقتضي أنه تجزئه كفارة يمين، فإنه قد نَصَّ في غير موضع: أَنَّ الاستثناء لا يكون إلا في اليمين المكفَّرة، ونَصَّ على أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق كان له أن يستثني، بخلاف ما إذا أوقع الطلاق والعتاق فإنَّ مذهبَهُ أنه لا يَنفع الاستثناء قولًا واحدًا، كما نقل ذلك عن ابن عباس، وهو مذهب مالك وغيره. وقد نَقَلَ عنه الشيخ أبو حامد الإسفراييني ومن تبعه: التفريق في الاستثناء بين الطلاق والعتاق؛ وذلك غلطٌ عليه، وإنما هو قولُ القدرية، فإنهم يقولون: إنَّ المشيئةَ بمعنى الأمر، والعتق طاعة بخلاف الطلاق، فإذا قال: عبدُهُ حر إِنْ شاء الله وَقَعَ العتق، وإذا قال: امرأته طالق إن شاء الله لم يقع

(1/273)


الطلاق، ورووا في هذا حديثًا مسندًا) (1). والجواب: أَنَّ هذا كلام مَنْ لم يفهم ما ذكره المجيب، ولا ما هو عادة أهل العلم من تخريج الجواب في إحدى المسألتين إلى الأخرى؛ فإنَّ المجيب لم يَدَّعِ أَنَّ أحمد سكت عن الجواب في العتق، ولا أَنَّ مذهبه المنصوص عنه هو الكفارة، حتى يقال: خاصُّ كلامِهِ يقضي على عامِّه. بل المجيب قد ذكر أَنَّ قوله المنصوص عنه هو الفرق بين الحلف بالعتق وغيره، وهذا قول الشافعي وإسحاق وغيرهما، ومع التصريح بالفرق لا يقال إنهم صَرَّحُوا (2) بالتسوية، لكن يقال: هذا هو القول المنصوص، وقد نص أحمد في مواضعَ أُخَر على ما يناقض هذا؛ فيكون له قول آخر مخرَّج يناقض هذا القول المنصوص. [73/ ب] كما جرت عادة أتباع الأئمة يفعلون ذلك في أجوبتهم إذا قضوا (3) في مسألتين متماثلتين على جوابين متناقضين؛ فإن لم يكن بينهما فرق يَذْهَبُ إليه مجتهد، فهم في مثل هذا متفقون على التخريج، لئلا يكون الإمام قال قولًا لا يجوز أن يذهب إليه مجتهد. وإِنْ كان بينهما فَرْقٌ يذهب إليه مجتهد؛ فمنهم من يُخرِّج إذا رأى ذلك _________ (1) «التحقيق» (37/ أ - ب)، وما بين المعقوفتين من «التحقيق» ومجموع الفتاوى (33/ 191). (2) يوجد سواد شديد، وهكذا قرأت الكلمة. (3) كذا في الأصل، ولعلها: (وقفوا).

(1/274)


الفرق ضعيفًا أو غير مناسب لأصول الإمام، ومنهم من يقر النص إذا رأى ذلك الفرق. ثم إِنْ كان ذلك الفرق عنده قد دَلَّ الشرع عليه أبطل قول المُسَوِّي، وإن كان الفرق مما لا يمكنه الاستدلال عليه جعل قول الإمام وإن كان ضعيفًا في الشرع كما إذا صرَّحَ بالفرق؛ فإنْ كان صاحب المذهب قد نصَّ على تعليل أحد الحكمين بعلة عامة، فإنهم يقولون ــ إِنْ كان ممن يقول بتخصيص العلة ــ: لم يجز تخريج قول آخر له، وإِنْ كان ممن لا يقول بتخصيص العلة لزم التخريج طردًا لعلته؛ هكذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره (1). وقد اختلف أصحاب أحمد في تخصيص العلة؛ وذكروا فيه قولين؛ والذي يدلُّ عليه المشهور من كلامه وكلام سائر الأئمة: أَنَّ العلة يجوز تخصيصها لفوات شرطٍ أو وجود مانع، وأما التخصيص مع تماثل الصورتين في المعاني (2) الموجبة للحكم والمانعة منه فلا، وإذا قُدِّرَ أَنَّ بعض الأئمة يجوِّزُ تخصيص العلة لا لفوات شرط ولا لوجود مانع كما ذكر _________ (1) العدة في أصول الفقه (4/ 1386 وما بعدها)، والمسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين (ص 71)، وتهذيب الأجوبة (2/ 867)، والمسودة (2/ 938)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص 138)، وتغير الاجتهاد (3/ 151)، والتمذهب (1/ 300، 514). وانظر ما سيأتي (ص 288 - 290). (2) هكذا قرأتها.

(1/275)


عن القائلين بالاستحسان (1) لمجرد دليل، بلا فرق معنوي، وهو مما يستعمله كثير من الفقهاء؛ فهذا ضعيف (2). وحينئذٍ؛ فإذا خُرِّجَ قول آخر على قول ذلك الفقيه فمعناه: أنه يلزمه أن يقوله لا أنه موجب قوله، ونحن في هذا القول الذي خرجناه من كلام أحمد قد بَيَّنَّا أنه موجب قوله الذي نص عليه في مواضع أخر، لا أنه لازم قوله، بل إِنْ صحَّ قوله في تلك المواضع لزم إجزاء الكفارة في الحلف بالعتق، فلا بُدَّ من أحدِ أمرين: إما أنْ يُصحح قوله الذي ذكره في أَنَّ الاستثناء لا يكون إلا في يمين مكفرة، وأنَّ الحلف بالطلاق والعتاق يكفر؛ فيكون في الحلف بهما استثناء. وإما أنْ يُصَحَّحَ قولُهُ في أَنَّ الحلف بالطلاق والعتاق لا يكفران؛ فلا يكون فيهما استثناء. [74/ أ] وأما القول بأنهما يكفران ولا استثناء فيهما؛ فهذا مناقض لقوله: إنه لا استثناء إلا فيما يكفر، فلا يمكن الجمع بين صحة هذا القول وصحة هذا القول؛ ومن اعتقد أنه يمكن الجمع بين صحة القولين فهو مسفسط. وقوله: (لا استثناء إلا فيما يكفر)؛ لم يذكره مذهبًا له ليقال إنه لخصوصه، بل ذكره حجة له يحتج به على من يستثني في إيقاع الطلاق والعتاق. _________ (1) في الأصل: (بالاستحباب)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. انظر: قاعدة في الاستحسان - ضمن جامع المسائل (2/ 186) -، وما سيأتي (ص 378). (2) وفي هامش النسخة كتب الناسخ: حاشية من خطِّ الشيخ لفظه في أصول الفقه. وانظر: تنبيه الرجل العاقل (2/ 369 وما بعدها)، ومباحث التخصيص عند الأصوليين (ص 85)، وأثر تخصيص العلة في الفروع الفقهية (ص 35 وما بعدها).

(1/276)


فقال أحمد: السنة إنما وردت بالاستثناء في الأيمان، وإيقاعُ الطلاق والعتاق ليس بيمين، لأنَّ اليمين لا تكون إلا مكفَّرة (1)، لأنَّ القرآن قد دَلَّ على أَنَّ كل يمين من أيمان المؤمنين مكفرة؛ فلو كان إيقاع الطلاق والعتاق يمينًا لكان فيه الكفارة؛ فإنها من لوازم اليمين، فإذا لم يكن فيها كفارة لم يكونا من الأيمان، فلا يدخلان في لفظ النص الوارد في الاستثناء ولا في معناه، لأنه إنما ورد في اليمين فلو كان ذلك يمينًا لكانَ مكفرًا، فلمَّا لم يكن مكفرًا لم يكن يمينًا، فلا يكون فيه استثناء، فإنَّ الاستثناء يستلزم التكفير، فكل ما فيه استثناء ففيه تكفير، والكفارة لازمة للاستثناء فإذا انتفت (2) الكفارة اللازمة للاستثناء انتفى الاستثناء الملزوم؛ فهذا صريح حقيقة كلام الإمام أحمد الذي استدل به على أن الطلاق والعتاق لا يكفران. فإذا قال ــ مع هذا في إحدى الروايتين عنه ــ: إن الحلف بالطلاق والعتاق فيهما استثناء، وفرَّق بين إيقاعهما وبين الحلف بهما كما يفرق بين إيقاع النذر وبين الحلف به= فلم تختلف نصوصه، ومذهبه أن الحلف بالنذر فيه الكفارة، وفيه ــ أيضًا ــ الاستثناء= لزم من ذلك إذا جعل في الحلف بهما الاستثناء: أن يكون في الحلف بهما الكفارة كما في الحلف بالنذر، وإلا فالقول بأن فيهما الاستثناء دون التكفير يبطل قوله: (إنما يكون الاستثناء فيما يكفر) (3) حيث أثبت في الحلف بهما الاستثناء دون الكفارة. _________ (1) مسائل الإمام أحمد للكوسج (4/ 1578 - 1579) (5/ 2447 - 2465)، زاد المسير (5/ 128). (2) في الأصل: (انتفى)، والصواب ما أثبتُّ. (3) نقله أبو طالبٍ عنه؛ كما ذكره ابن تيمية في الفتوى المعترض عليها (33/ 193). وانظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (12/ 530 - 533)، وما سيأتي (ص 285، 860 - 862).

(1/277)


وإذا قيل: هذا تناقضٌ منه. قيل: هكذا جميع الأقوال المخرَّجة للعلماء جميعهم؛ فإنَّ العالم الذي له في المسألة قولان أو ثلاثة معناه: أن له فيها قولين متناقضين، يناقض أحدهما الآخر، أو ثلاثة أقوال متناقضة، ليس المراد أنه يمكن الجمع بينهما، فإنه لو كان كذلك لم يكن (1) [74/ ب] له إلا قول واحد، ولكن العالم يتكلم باجتهاده وبحسب علمه، فيظهر له تارة رجحان أحد القولين فيفتي به، ويظهر له تارةً رجحان القول الآخر فيفتي به. والأنبياء ــ صلوات الله عليهم ــ يدخل في شرعهم المنسوخ والناسخ، لكن الحكم المنسوخ الذي شرعه الله والناسخ كلاهما كان شرعًا لله باطنًا وظاهرًا في وقته؛ كاستقبال القبلة، فإنَّ الله ــ تعالى ــ لما أمر رسوله ابتداءً باستقبال الصخرة كان هذا شرع الله ودينه باطنًا وظاهرًا، ثم لما حَوَّل القبلة وأمر باستقبال القبلة كان هذا شرعَ الله ودينه باطنًا وظاهرًا، لا يقال: إنه كان لله في الباطن حُكْمٌ لم يعرفه النبي وقت الحكم المنسوخ، بخلاف العالم فإنه ليس بنبي يُوحَى إليه، وإنما يجتهد ليعرف الحكم الذي استقر عليه شرع الرسول، فقد يتبين له تارة قولًا وتارة قولًا يناقضه، ثم قد يكون القول الأول هو الصواب في نفس الأمر، وقد يكون الثاني هو الصواب (2). ولهذا اختلف الناس في الإمام إذا كان له قولان متقدم ومتأخر، بل كان له قول وصرَّحَ برجوعه عنه، هل يجوز أَنْ يحكى له قولان أو لا يُحكَى عنه إلا القول المتأخر، واختلف في ذلك أصحاب أحمد على قولين؛ منهم من _________ (1) هنا سواد في الأصل، وما أثبته احتمال يستقيم به الكلام إن شاء الله. (2) مجموع الفتاوى (29/ 41)، الفتاوى الكبرى (4/ 27).

(1/278)


يقول: إنَّ القول القديم لا يجوز أن يجعل مذهبًا له مع رجوعه عنه لا سيما مع تصريحه بالرجوع عنه، ومنهم مَنْ يُفَرِّق بين ما صَرَّح برجوعه عنه وما لم يصرح بذلك، ومنهم من يَحكي له القولين مع تصريحه بالرجوع، ويقول: هو قال ذلك القول باجتهاده وهذا باجتهاده، وقد يكون القول المتقدم هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة (1). والعالم ليس كالنبي الذي إذا نسخ قولًا علم قطعًا أن المنسوخ ليس بشرعٍ لله، بل قد يكون القول المتقدم الذي رجع عنه العالم هو دين الله في نفس الأمر. قالوا: ونحن نذكر أقوال العلماء لنستدل (2) بها على شرع الله ورسوله؛ فإنهم وسائل ووسائط بيننا وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاز أن يكون قوله الأول هو قول الرسول دون الثاني، وجاز أن يكون الثاني هو قول الرسول =لم يمكنا [75/ أ] أن نجزم بأن القول الأول باطل في نفس الأمر. وإذا قال القائل: القول المتقدم ليس هو مذهبه. قيل له: إِنْ أردت أنه لم يكن مذهبًا له؛ فهذا غلط، بل كان مذهبًا له في بعض الأوقات، وإن أردت أنه ليس هو مذهبه الذي مات عليه؛ فهذا صحيح، لكن هذا لا يفيدنا أن يكون هو شرع الرسول في نفس الأمر، بل نحن نذكر أنه كان يذهب إلى هذا ثم ذهب إلى نقيضه، فكان هذا قولُه أولًا ثم صار هذا قوله ثانيًا، وإذا رَجَّحَتِ الأدلةُ الشرعيةُ أحدَ القولين رَجَّحْنَاه، _________ (1) التمذهب (3/ 1195)، تغير الاجتهاد (3/ 164) والمراجع التي أحالا عليها. وانظر ما سيأتي (ص 736، 746). (2) هكذا قرأتها.

(1/279)


وإذا كان أشبه بأصوله ونصوصه رَجَّحْنَاه في مذهبه. ومن لم يكن مقصوده إلا تقليده المحض من غير تصرف لا في مذهبه ولا نظرٍ إلى ما قاله أصحابه وسائر العلماء فإنما يقلده في القول المتأخر، لكن هذا ينبني على جواز تقليد الميت، وفيه للناس قولان؛ والجمهور على جوازه، وليس هذا موضع بسط ذلك (1). وأما قول المعترض: (إنَّ الدليل الذي ركبَّهُ من هاتين المقدمتين يتوقف على عموم الأولى) (2). فيقال له: إن لم تكن تلك المقدمة عامة= بطل كلام أحمد واحتجاجه، فإنه حينئذٍ يقال له: ليس كل ما لا يكون مكفَّرًا لا يكون فيه استثناء، بل يكون الاستثناء فيما لا يكفر؛ وحينئذٍ فيمكن أن يكون الطلاق والعتاق مما فيه استثناء بدون التكفير، والتخريج من منصوص أحمد إنما هو بتقدير أن يكون كلامه صحيحًا، فإن كان كلامه صحيحًا فما ذكرناه لازم له لزومًا لا محيد عنه. _________ (1) مجموع الفتاوى (20/ 585) (23/ 399)، الفتاوى الكبرى (2/ 329)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 558)، المسوَّدة (2/ 934)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 121 - 124)، إعلام الموقعين (6/ 201). وانظر ما سيأتي (ص 745 وما بعدها). قال ابن القيم في إعلام الموقعين (6/ 129): (والثاني: الجواز؛ وعليه عمل جميع المقلِّدين في جميع أقطار الأرض، وخيار ما بأيديهم من التقليد: تقليدُ الأموات! ومَنْ مَنَعَ منهم تقليد الميت؛ فإنما هو شيءٌ يقولُه بلسانِهِ، وعملُهُ في فتاويه وأحكامه بخلافِهِ. والأقوال لا تموت بموت قائلها؛ كما لا تموت الأخبار بموت رواتها وناقليها). (2) «التحقيق» (37/ ب).

(1/280)


وإِنْ قيل: بل كلامه هذا باطل. قيل: ليس كلامه هذا بأولى من إبطال قوله: (إِنَّ الحلف بالعتاق والطلاق لا كفارة فيه)؛ وحينئذٍ فليس لقائل أن يقول: قوله هذا هو الصواب دون الأول بأولى من العكس، بل الدليل الشرعي يدل على أَنَّ هذا القول أولى بالصواب من ذاك لو تعارضا؛ فكيف إذا أمكن إقامة الدليل الشرعي على صحة كلٍّ منهما؟ وأما قوله: (إِنَّ أحمد تقدمت نصوصه الصريحة بأنَّ الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه) (1). فيقال له: قد يقال: إن أحمد قال هذا بناء على قوله: إنَّ الحلف بالطلاق والعتاق لا استثناء فيه، كما روى ذلك عنه الأثرم، وهو (2) [75/ ب] وغيره نقلوا عنه أَنَّ الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه. وهكذا يقول مالك في رواية ابن القاسم إنَّ هذا كله لا استثناء فيه ولا كفارة (3)، وأما على رواية ابن الحَكَم فإنَّ (4) الحلف بالطلاق والعتاق ينفع فيه الاستثناء وإن لم ينفع في [إيقاع] (5) الطلاق والعتاق. ومعلومٌ أَنَّ أحمد إذا قال هذا وعلل ذلك بأن الاستثناء إنما يكون في اليمين المكفرة، لو قال في هذه الحال: إن الطلاق والعتاق ينفع فيه _________ (1) «التحقيق» (37/ ب). (2) يحتمل وجود كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ. (3) المدونة (1/ 469)، الفواكه الدواني (2/ 910)، حاشية العدوي (3/ 40). (4) في الأصل: (أَنَّ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (5) إضافة يقتضيها السياق. انظر ما سيأتي (ص 285 - 287).

(1/281)


الاستثناء، وليس هو من الأيمان المكفرة= لكان هذا تناقضًا لا يخفى على أدنى الناس، فضلًا عمن هو مثل أحمد. وقوله: إنَّ الطلاق والعتاق لا ينفع فيه الاستثناء، لأن الاستثناء إنما يكون فيما فيه كفارة، والطلاق والعتاق لا يكفران فلا استثناء فيهما؛ فإنه إذا قيل له: ما معنى قولك: الطلاق والعتاق لا يكفران ولا استثناء فيهما؟ أي: لا يكفر إيقاعهما ولا يستثنى في ذلك، والحلف بهما ــ أيضًا ــ لا يكفر ولا يستثنى فيه = كان قد طَرَدَ قوله. وأما إذا قال: الحلف بهما يستثنى فيه، وقال مع ذلك [لا] (1) يُكَفَّرَان = كان هذا مبطلًا لأصل كلامه، بل يجب أن يقول مع ذلك: إذا كان فيهما استثناء= ففيهما كفارة. والعام الذي يُقَدَّمُ عليه الخاص إنما يكون في الصيغ العامة، فأما المعاني والعلل والأدلة التي يستدل بها المستدل= فلا يقبل منه أن ينقضها ويخصها من غير بيان فرق بين صورة النقض وصورة الاستدلال (2)، فإذا جعل عدم التكفير مستلزمًا لعدم الاستثناء، واستدل بذلك على أن ما لا كفارة فيه لا استثناء فيه، وكان من الصور ما فيه استثناء دون الكفارة = بطلت علته ودليله ومذهبه، ولا يقبل منه أن يقول: هذا خاص وهذا عام إن لم يبين ما يوجب الفرق، ولو جاز هذا ما بطلَ دليلُ أحدٍ ولا علته؛ فمن كان يقول: الاستثناء في الأيمان المكفرة دون ما لا كفارة فيه لأن ذلك هو اليمين؛ فاليمين عنده لها لازمان: الكفارة والاستثناء، فإذا قيل: من الأيمان ما يستثنى ولا يكفر= انتقض أصله ودليله وعلته. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) انظر ما سيأتي (ص 474 - 475).

(1/282)


وأحمد ــ رحمة الله عليه ــ كان يتوقف في (1) الاستثناء في الطلاق والعتاق تارة، ويجيب فيه تارة بالوقوع؛ ولهذا [76/ أ] خَرَّجَ طائفة من أصحابه كالقاضي أبي الحسين وغيره له روايتين في ذلك، وهو وإن وافق مالكًا على ذلك فقوله أوسع من قول مالك، فإنَّ أحمد لم يختلف كلامه في أن الحالف بالنذر تجزئه الكفارة، وكذلك ينفع فيه الاستثناء عنده كما ذكر ذلك أصحابه، فإنه إذا أجزأ فيه الكفارة فالاستثناء بطريق الأولى، لكن قد يقال: النذر يُخيّر فيه بين الوفاء والكفارة. فيقال: إنما يخير إذا فعل الشرط، وأما إذا وجد الشرط ولم يوجد الجزاء= تعينت الكفارة؛ ولهذا يجب أن يقال: إن أعاد الاستثناء إلى النذر لم ينفعه، كما لو أعاد الاستثناء في تعليق الشرط إلى الطلاق. فإذا قال: أنتِ طالق إنْ دخلتِ الدار إن شاء الله، أو أنت طالق إن شاء الله إن دخلت الدار؛ ومراده: أنك تطلقين مع الدخول إن شاء الله طلاقك؛ فهذا استثناء في الطلاق فلا ينفعه إذا قيل: لا ينفع في الطلاق المنجَّز، وأما إذا أعاد الاستثناء إلى الفعل واليمين فأراد: منعتُك وحلفتُ عليك لا تدخلين الدار إن شاء الله ألا تدخلي؛ فهذا ينفعه الاستثناء. ولهذا كان طائفة من أصحابه كأبي محمد وأبي البركات يقولون: إِنْ أعادَ الاستثناء إلى الفعل نفعه، وإن أعاده إلى الطلاق لم ينفعه، وَإِنْ طَلَّقَ ففيه روايتان، ويقولون في صيغة القَسَم إذا قال: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ أو لا أفعل؛ نفعه الاستثناء قولًا واحدًا، وهذا جيد من جهة المعنى، لكن الصحيح _________ (1) هنا يحتمل وجود كلمة، وتقديرها ما أثبتُّ.

(1/283)


أن النزاع عنه في الصيغتين، ولأصحابه في تحقيق النزاع فيما إذا قال: إن فعلت كذا فأنت طالق إن شاء الله طُرُقٌ ذكرت في غير هذا الموضع (1). * * * * _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 193) (35/ 283 - 286)، الفتاوى الكبرى (4/ 137 - 139)، القواعد الكلية (ص 510 - 514).

(1/284)


فصلٌ قال المعترض: (وقوله: إنه قال في رواية أبي طالب (1): وقد سئل عن الاستثناء. قال: الاستثناء فيما يكفر، قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فكل يمين فيها كفارة غير الطلاق والعتاق. قلنا: هذا صريحٌ في استثناء الطلاق والعتاق؛ فلا يجوز بعد ذلك أن يُنْسَبَ (2) إلى أحمد، ولا أَنْ يُخَرَّج على قواعده، لأنه (3) إنما يخرج على قاعدة إمام (4) ما لم يُصَرِّح بِرَدِّهِ، وفي استثنائه تصريح (5) بنفي الحكم عنه) (6). فنقول: لمَّا قال الاستثناء فيما يُكَفَّر، والطلاق والعتاق لا كفارة فيهما فلا استثناء فيهما [ ... ] (7) [76/ ب] أَنَّ الاستثناء فيما يكفر، [و] (8) أن الاستثناء إنما هو _________ (1) انظر ما تقدم قريبًا (ص 277). (2) في الأصل: (وينسبه)، والمثبت من «التحقيق». (3) في الأصل: (و)، والمثبت من «التحقيق». (4) هنا كلمة غير واضحة في الأصل، والمثبت من «التحقيق». (5) في الأصل: (صريح)، والمثبت من «التحقيق». (6) «التحقيق» (38/ أ). (7) يحتمل وجود كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها (تبيَّن) أو (دلَّ على) أو نحوهما. (8) إضافة يقتضيها السياق.

(1/285)


في الأيمان، والأيمان فيها الكفارة، لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] فأثبت سبحانه لتعقيد الأيمان كفارة دون اللغو، والطلاق والعتاق لا كفارة فيهما ولا لغو في إيقاعهما فلا يكونان من الأيمان فلا يكفران؛ هذا معنى كلامه. فإذا قال مع هذا: إن الحلف بالطلاق والعتاق لا استثناء فيهما ولا كفارة= اِطَّرَدَ قوله هذا، ونازعه مَنْ ينازعه في أن ذلك يمين أم لا، وإن قال مع ذلك: إنَّ الحلف بهما يجوز فيه الاستثناء ولا يجوز في إيقاعهما= صحَّ مع هذا أن يقول: إنَّ الطلاق والعتاق لا استثناء في إيقاعهما، كما أنه لا كفارة في إيقاعهما باتفاق المسلمين، فإن هذا مما لا ينازع فيه مسلم، ولزم إذا قال في الحلف بهما استثناء أن يكون في الحلف بهما تكفير، وأن يفرق في التكفير بين الحلف بهما والإيقاع لهما، كما فرق في الاستثناء بين الحلف بهما وبين الإيقاع بهما، وإلا انتقض علته ومذهبه ودليله حيث قال: الاستثناء فيما يكفر، وقيل له: الاستثناء عندك ينفع فيما يكفَّر وما لا يكفَّر، ولم يمكنه مع هذا أن يقول كل يمين فيها كفارة إلا ألزمهما مع قوله إن في اليمين بهما الاستثناء دون الكفارة. ومما يوضح ذلك: أن أصحابه ــ كأبي محمد وغيره ــ احتجوا على جواز الاستثناء في تعليقهما على وجه اليمين، بأنَّ هذا يمين فتدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ فقال: إن شاء الله؛ فلا حنث عليه» (1) فيجب على هذا: أن _________ (1) جاء هذا الحديث عن جماعةٍ من الصحابة؛ فأخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 516) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 516) ــ ومن طريقه الترمذي في جامعه 1532) ــ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: سألتُ محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث. فقال: هذا حديث خطأ، أخطأ فيه عبد الرزاق اختصره من حديث معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ سليمان بن داود قال: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة غلامًا، فطاف عليهم فلم تلد امرأة منهن إلا امرأة نصف غلام». فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو قال: إن شاء الله؛ لكان كما قال». هكذا روي عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه هذا الحديث بطوله. وقال: سبعين امرأة. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة. وأخرجه البزار (12/ 169) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وقال: وهذا الحديث لا نعلم أسنده إلا أيوب عن نافع عن ابن عمر، ورواه عبيد الله عن نافع عن ابن عمر موقوفًا إلا رجل سمعته يحدث عن أبي معاوية عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنكرته عليه، وهو عباس البحراني. والحديث صححه ابن حبان (10/ 183). انظر: علل الترمذي الكبير (برقم 455)، العلل للدارقطني (13/ 103)، نصب الراية (3/ 234، 301)، البدر المنير (9/ 453)، إرواء الغليل (8/ 196).

(1/286)


يدخل تعليقهما على وجه اليمين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه» (1). قال الشيخ أبو محمد المقدسي (2). _________ (1) أخرجه مسلم، وتقدم في (ص 26). (2) كتبها الناسخ في الهامش، وقد وضع علامة اللحق بعد نهاية الحديث، ولم ينقل كلام ابن قدامة؛ فانظره في المغني (13/ 488).

(1/287)


فصلٌ وأما قوله: (إنما يخرج على قاعدة [إمام] ما لم يصرح بِرَدِّهِ، وفي استثنائه تصريح (1) بنفي هذا الحكم عنه [بخصوصه]) (2). فيقال له: التخريج على قواعد العلماء وأصولهم ومقتضى نصوصهم وتعليلهم على وجهين: أحدهما: تخريجٌ يُجعل (3) مذهبًا له ولا (4) يجعل قولًا في مذهبه؛ فهذا يسوغ فيما لم يُصَرِّح بِرَدِّهِ، وأصحاب [77/ أ] أحمد متنازعون: هل يجعل ما يخرج على قوله مذهبًا له؟ على طريقين: أحدهما: يجعل مذهبًا له؛ وهي طريقة الأثرم والخرقي وأبي عبد الله بن حامد والقاضي وأكثر أصحابه. والطريقة الثانية: لا يجعل مذهبًا له؛ وَذُكِرَ ذلك عن الخلال وصاحبه. وقد ذَكَرَ النزاعَ في ذلك: أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي أبو يعلى فيما قرراه من أصول المذهب (5)، وذكر القاضي أن هذا ينبني على مسألة تخصيص العلة. _________ (1) في الأصل: (صريح)، والمثبت من «التحقيق». (2) «التحقيق» (38/ أ)، وما بين المعقوفتين من «التحقيق». (3) في الأصل: (يجعله)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) غير واضحة في الأصل. (5) تهذيب الأجوبة (1/ 522 - 533).

(1/288)


وقال أبو الخطاب (1). النوع الثاني من التخريج: أَنْ يُخرَّج له قولٌ يُخالفُ القولَ المنصوصَ عنه؛ كما يَفعل ذلك من يفعله من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما، حيث يقولون: قد نَصَّ في المسألة الفلانية على كذا وفي نظيرها على خلاف ذلك؛ فيُخَرَّجَ (2) له قولان، وربما قالوا: نَصَّ على كذا وقياس مذهبه كذا خلاف ما نص عليه، فإنهم يجعلون مذهبه هو القول المخرَّج دون المنصوص، ويجعلون المنصوص أفتى فيه بخلاف أصله، وهو بمنزلة غلط المحدث [و] بمنزلة الغلط في الرواية، وهذا إذا لم يكن القول (3) المنصوص يجري على أصوله الصحيحة، فإنْ أمكن تصحيحه جعلوها على قولين. ثم إذا كانت المسألتان متماثلتين لا يجوز أن يكون بينهما فَرْقٌ يَذهب إليه مجتهد، لم يختلفوا في المسألة على روايتين (4)؛ كما إذا نصَّ على أنَّ مَنْ قال: إِنْ فعلتُ فعليَّ صدقة أنه يجزئه كفارة يمين، وإنْ قال: فعليَّ هديٌ أنه يلزمه إخراج ماله. _________ (1) كتبها الناسخ في الهامش بعد علامة اللحق، ولم يذكر ما قاله، وإتمامًا للفائدة سأنقل ما قاله أبو الخطاب في التمهيد. قال في التمهيد (4/ 366): (إذا نصَّ في مسألةٍ على حكمٍ وعلَّلَ بعلةٍ توجد في مسائل أُخَر؛ فإنَّ مذهبه في تلك المسائل مذهبه في المسألة المعللة، سواء قلنا بتخصيص العلة أو لم نقل). (2) هكذا قرأتها. (3) في الأصل: (للقول)، ولعل ما أثبتُّ هو الصواب. (4) انظر ما سيأتي (ص 274 - 275).

(1/289)


وأما إذا كان بينهما ما قد يُظَنُّ أنه فَرْقٌ= تنازعوا في الصريح؛ ومثل هذا: إذا نَصَّ في الماء المستعمل في الوضوء على أنه طهور أو طاهر، وفي الماء المستعمل في الجنابة على خلاف ذلك؛ كان له في المسألتين قولان إذ لا فرق بينهما. * * * *

(1/290)


فصلٌ قال المعترض: (قال المجيب (1): وأما كون سليمان التيمي هو الذي ذكر كل مملوك له حر؛ فجوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ سليمان التيمي ثقة ثبت، وهو أَجَلُّ من الذين لم يذكروا الزيادة، ويشبه ــ والله أعلم ــ أَنْ يكون الذين لم يذكروا العتق هابوه (2) [لِمَا] (3) فيه من النزاع؛ يُبَيِّنُ ذلك: أَنَّ مِنَ الناس مَنْ لم يذكر [العتق في] (4) ذلك عن التيمي [أيضًا، مع] (5) أن التيمي كان يذكر العتق بلا نزاع. قال الميموني: قال أحمد: وابن (6) [77/ ب] أبي عدي لم يذكر في حديث أبي رافع عتقًا (7). قلتُ (8): ومحمد بن أبي عدي هو أحد (9) من رواه عن التيمي، فَعُلِمَ أَنَّ _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 193). (2) سواد في الأصل، والمثبت مما سيأتي في رَدِّ ابن تيمية على هذا الكلام (ص 293)، وهو كذلك في «التحقيق» والفتوى المعترض عليها. (3) ما بين المعقوفتين من «التحقيق» والفتوى المعترض عليها. (4) ما بين المعقوفتين من الفتوى المعترض عليها. (5) سواد في الأصل، والمثبت موافق لما في «التحقيق» والفتوى المعترض عليها. (6) لم يظهر في الأصل إلا بعض الأحرف، والمثبت موافقٌ لما في الفتوى المعترض عليها، وفي «التحقيق» بدون (واو) قبل ابن أبي عدي. (7) في الأصل: (عتق)؛ والمثبت موافقٌ لما في الفتوى المعترض عليها. وقارن بما في زاد المسافر (4/ 471). (8) القائل هو: ابن تيمية. (9) في الفتوى المعترض عليها: (أجل).

(1/291)


من الرواة من كان يترك (1) ذكر هذه الزيادة مع أنها ثابتة في الحديث، ولهذا لَمَّا ثبتت (2) عند أبي ثور أخذ بها. قلتُ (3): أما هذا الجواب الأول، وهو: أَنَّ سليمان التيمي ثقة ثبت أجل من الذين لم يذكروا الزيادة؛ فقد تقدم) (4). والجواب أَنْ يقال: قوله: (أما هذا الجواب الأول، وهو: أَنَّ سليمان التيمي [ثقة] ثبت أَجَلُّ من الذين لم يذكروا الزيادة فقد تقدم التعرض له، وأَنَّ ذلك يُعارض بكثرة من ذكرها، ومعارضة الأثر [الآخر] لها، وأَنَّ المدعى هو المعارضة من غير ترجيح، وأَنَّ الواجب ترجيح أقوى الظنين) (5). فيقال: قد تقدم (6) أنه لم يترك الزيادة من يقاوم سليمان التيمي لو انفرد بها (7)، فإنما عُرِفَ أنه تركها حميد وآخر، وقد أثبتها ثلاثة أجل وأكثر ممن تركها، _________ (1) في الأصل: (ترك)، والمثبت من «التحقيق» والفتوى المعترض عليها. (2) في الأصل: (ثبت)، والمثبت من الفتوى المعترض عليها. (3) القائل هنا هو: السبكي. (4) «التحقيق» (38/ أ). (5) «التحقيق» (38/أ) وما بين المعقوفين منه. ومن قوله: (وأن المدعى هو المعارضة) إلى آخره بالمعنى. والذي في «التحقيق»: (أعني أثر عثمان بن حاضر، لست أدعي الآن أن جانب الإسقاط أرجح، ولكن أردت التنبيه على وجه الاحتمال، وطريق الترجيح ما تقدم من موازنة الظنين ومعرفة تقاومهما وتفاوتهما). (6) في الأصل زيادة: (أنَّ سليمان التيمي)، وبحذفها يستقيم الكلام، ولعل هذا بسبب انتقال بصر الناسخ. (7) انظر (ص 239 وما بعدها).

(1/292)


وأثر عثمان بن حاضر قد عرف أن الروايات الثابتة عن ابن عمر وعن ابن عباس تناقضه، وأن هذا الحديث يخالفه في غير العتق كما يخالفه في العتق، فلم يخالفه في العتق وحده، وأن هذا يوجب القطع إما بغلط راويه وإما بأنَّ الصحابة عنهم نزاع في هذا الباب، وأنه لا يمكن أحدًا أَنْ يُرَجِّح روايةَ من روى أن من الصحابة من أفتى بأن الحلف بالعتق يلزم على رواية من روى أن فيه كفارة، بل هذا مردود بعد معرفة الطرق والنظر فيها بلا نزاع بين أهل العلم بذلك. وأحمد لم تُجْمَعْ (1) عنده طرق حديث ليلى الدالة على صحة ذكر العتق، ولا اجتمعت عنده طرق حديث عثمان بن حاضر الذي يدل على اضطرابه؛ فالكلام في صحة الحديث وضعفه (2) قد يكون من مسائل الاجتهاد التي يبحث فيها أهل العلم بذلك. وقد عُرِفَ أن جميع العلماء الذين بلغهم طرق حديث ليلى بنت العجماء مثل: أبي ثور ومحمد بن نصر وابن المنذر وأبي جعفر محمد بن جرير وابن عبد البر وابن حزم وغير هؤلاء ممن نقل النزاع = كلهم قطعوا بأن ابن عمر وحفصة وغيرهما أفتوا في الحلف بالعتق بكفارة يمين، لم أعلم أحدًا من الناس بلغته هذه الطرق طعن فيها، وأحمد لم يعلله إلا [78/ أ] بانفراد سليمان به وقد عُرِفَ أنه لم ينفرد به. فصلٌ قال: (وأما قول المجيب: يشبه أن يكون الذين لم يذكروا العتق هابوه لما فيه من النزاع)؛ فإنَّ المجيب لم يجزم بهذا، بل جَوَّزَ هذا. _________ (1) كذا في الأصل، ولعلها: (تجتمع). (2) في الأصل زيادة: (كما)، وبحذفها تستقيم العبارة.

(1/293)


وقول المعترض: (ليس هذا عادة الرواة؛ فكم من حديث أطبق الرواة على روايته مع تنازع الفقهاء في حكمه؟ وكم من راوٍ روى ما يخالفه فيه الجم الغفير، ولم يسمع عن أحدٍ يُوثَقُ به أنه كان عنده حديث فيه حكم امتنع عن روايته هيبةً من أحد، بل إذا كان النزاعُ تَقِلُّ الهيبة، وإنما تكون الهيبة لو كانت [فيما] يخالفُ الإجماع والسواد الأعظم) (1). فيقال له: بل من الرواة من يترك ما هو عنده إذا كان العمل المشهور بخلافه، وهذا معروفٌ مِنْ حال مالك وغيره؛ ربما روى الحديث ثم يمتنع مِنْ روايته إذا كان العمل عنده بخلافه، كما امتنع من تحديثه بحديث أم سلمة: «إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فلا يأخذ من شعره ولا بَشَرِهِ شيئًا» (2) حَدَّثَ به لشعبة (3)، ثم تركه لكون العمل عنده بخلافه، وكان إذا سئل عنه لم يحدث (4). _________ (1) «التحقيق» (38/ أ)، وما بين المعقوفتين زيادة من «التحقيق». (2) أخرجه مسلم (1977). (3) في الأصل: (لسبعة)، ولعل الصواب ما أثبت، كما سيأتي في التعليق التالي من تحديث شعبة به عنه. (4) قال ابن عبد البر في التمهيد (17/ 237): (وقد ذكر عمران بن أنس أنه سأل مالكًا عن حديث أمِّ سلمة هذا، فقال: ليس من حديثي! قال: فقلتُ لجلسائِهِ: قد رواه شعبة وحدَّث به عنه، وهو يقول: ليس من حديثي! فقالوا لي: إنه إذا لم يأخذ بالحديث قال: ليس من حديثي) اهـ. وانظر: الاستذكار (11/ 185)، والبيان والتحصيل (17/ 315).

(1/294)


وكذلك حديثٌ أَنَّ في المِلْطَاة (1) نصف الموضحة (2)، ثم ترك روايته لَمَّا رأى العمل بخلافه (3)، وكثير من أهل الحديث يكون عنده حديث عَمِلَ الناس بخلافه فلا يحدث به. وأما قوله: (إذا كان الصحابة ــ كما قال المُصَنِّف ــ على وفق هذه الرواية؛ فمن أين تحصل الهيبة؟! والرواية كانت في إثر عصرهم، لأن المسقطين لها حميد وغيره من التابعين قبل حدوث المتأخرين المخالفين لها بزعمه) (4). فيقال له: حميد لم يكن من المشهورين بالفتيا والفقه كسليمان التيمي، بل كان شيخًا مُعَمَّرًا عاش بعد سليمان التيمي [إلى] (5) سنة بضع وأربعين ومائة، وكان المشهورون بالرأي بالعراق وبالمدينة مثل: ربيعة الرأي وعثمان البَتِّي _________ (1) الملطاة بالهاء، وبالمد دون هاء، وبالهمز؛ وهي الشَّجَّةُ التي تُسمَّى: السِّمحاق. انظر: الغريب المصنف (1/ 238) وغريب الحديث (3/ 75) كلاهما لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم، مقاييس اللغة (5/ 251)، المخصص لابن سيده (1/ 490). (2) لم أجده مرفوعًا، وإنما روى عبد الرزاق في المصنف (9/ 313/ ح 17345)، وابن أبي شيبة (27356)، والبيهقي في السنن الكبير (16/ 334/ ح 6293 - 6295) أنَّ عمر وعثمان قضيا في الملطاة بنصف دية الموضحة. وذكرت بعض كتب الغريب أنَّ في الحديث: «يقضى في الملطاة بدمها». وانظر: الجامع في العلل والفوائد (2/ 450). (3) كان مالك يحدث به ثم ترك التحديث به؛ فسئل عن ذلك فقال: (إنَّ العمل عندنا على غيره، وليس الرجل عندنا هنالك؛ يعني: يزيد بن قسيط). انظر: المصنف لعبد الرزاق (9/ 313/ ح 17345)، ما رواه الأكابر عن مالك لابن مخلد العطار (ص 43)، وغرائب حديث مالك لابن المظفر (ص 73). (4) «التحقيق» (38/ أ). (5) إضافة يقتضيها السياق.

(1/295)


وأبي حنيفة وغيرهم يفتون بأنَّ فيه كفارة يمين (1)، وكان من الملوك من يكره أَنْ يُفْتَى في مثل هذا بكفارة يمين، كما هو الواقع في كثيرٍ من الأزمنة. حتى إِنَّ مالكًا لما أفتى بأن يمين المكره لا تلزم، جَعَلَ من أراد (2) الانتقام منه هذا حجة في ضربه، وحتى شهروه وضربوه ثلاثين سوطًا (3)، وقد (4) [78/ ب] روي عن الشافعي أنه قال: إنما حقد أمير المدينة عليه لتفضيله عثمان على علي، وسئل عن ذلك. فقال: لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها (5)، ولكن الهاشمي لم يمكنه إظهار العقوبة على هذا، فجعل ذلك حجة ليقال إنه عاقبه غضبًا للمنصور، وأنه حَلَّ أيمان البيعة، واتفق هو وقاضي المدينة على هذا. وكذلك الشافعي؛ رُوِيَ (6) أنه لمَّا قدم بغداد في زمن الرشيد نُهِيَ أن يتكلم في الحلف بالطلاق المعلق على النكاح، لكراهة الرشيد لذلك (7). وقد رأينا من ذلك في زماننا وغيره ما فيه عبرة؛ فكيف لا يقال مع ذلك: إنَّ حميدًا هاب ذكر العتق خوفًا من هؤلاء العلماء المُفَتِّنِيْنَ ومن الولاة المسلَّطين؟! وكان الإفتاء بلزوم العتق مشهورًا بالعراق، وهذا لما اشتهر تحليف _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: (بأن ليس فيه كفارة يمين)، حيث سيذكر المجيب أن الإفتاء بلزوم العتق كان مشهورًا في العراق. (2) هكذا قرأتها. (3) انظر ما تقدم (ص 46). (4) هكذا قرأتها، ويحتمل غير ذلك. (5) منهاج السنة (8/ 225). (6) في الأصل: (روى الشافعي) وقد وضع الناسخ علامة التقديم والتأخير. (7) انظر ما تقدم (ص 46 - 47).

(1/296)


الناس بالطلاق والعتاق وإن لم يكن ذلك مشهورًا على عهد الصحابة، حتى إنه قد اِدَّعَى الإجماع على لزوم العتق المحلوف به من ادعاه من العلماء، كما ذكر ذلك ابن جرير عمن ذكره وأنكره عليه (1)، وكما ذكر إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني الإجماع على أَنَّ العتق المحلوف به والطلاق المحلوف به لا كفارة فيهما (2)؛ فلولا ظهور العمل بأن الحالف بذلك يلزمه ولا تنفعه الكفارة ما ادعى الإجماع مَنْ هو مِنْ أهل العلم. وإذا ظهر العمل بقول في بلد أو بلاد هاب مَنْ يهاب ذكر ما يخالف ذلك، لاسيما إذا اقترن بذلك غَرَضُ بعض الولاة وعقوبتهم لمن يخالفهم، حتى إنَّ البلاد التي تظهر فيها بدعة من البدع لا يمكن أهل الحديث أن يظهروا من الأحاديث ما يخالف تلك البدعة. ولما أظهرت محنة الجهمية امتحنوا الناس عليها، حتى كتب ابن أبي دؤاد على أستار الكعبة (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم) ولم يكتب {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؛ حتى كانوا إذا افْتَكُّوا الأسير امتحنوه، فإنْ قال: القرآن (3) مخلوق؛ جعلوه مسلمًا فافتكوه وإلا لم يفتكوه، وقطعوا أرزاق (4) من لم يوافقهم وعزلوه، وكان في تلك المدة لا يُظهر أحد في [ ... ] (5) الأحاديث المخالفة لقول الجهمية. _________ (1) انظر ما تقدم في (ص 12). (2) انظر: القواعد الكلية (ص 472 وما بعدها). (3) هكذا قرأتها. (4) هكذا قرأتها، حيث ظهر في الأصل حرف الألف والقاف. (5) بياض في الأصل مقدار كلمة، ويحتمل أنه موضع بلد.

(1/297)


وكذلك مذهب الرافضة [79/ أ] إذا ظهر في بلد لم يُمَكِّنُوا أحدًا من رواية ما يخالف مذهبهم، حتى إنه في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر فيها قول الرافضة مع كثرة من يوجد فيها من أهل السنة ــ أيضًا ــ طلبوا قراءة البخاري فما أمكنهم قراءته إلا بين الحجر والحائط الشرقي في ذلك الموضع المستور، ثم لما ظهر عليهم الرافضة منعوهم حتى أظهر الله السنة بعد ذلك، حتى إنَّ بني عُبيد لما استولوا على مصر لم يمكن أحدًا من أهل الحديث أن يروي شيئًا من الحديث، حتى جرت مع إبراهيم بن سعيد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد قصة مع الصدفي (1). ولما حَدَّثَ الشعبي في الكوفة بحديث فاطمة بنت قيس، وأَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «لا سكنى لكِ ولا نفقة» (2) قام بعض أكابر فقهاء الكوفة [ ... ] (3) حضره، وقالوا: تُحَدِّثُ بحديثٍ أنكره عمر؟! (4) وهذا حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه. وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه وغيره يعملون به، وقد جعل بعض الحنفية هذا عِلَّة، فقالوا: إذا رَدَّ السلف الحديث لم يُعمل به؛ ومثلوه بهذا (5). _________ (1) انظر: تاريخ الإسلام (11/ 218). ومنهاج السنة (6/ 179). وقد حصل للخطيب البغدادي موقفٌ قريبٌ من هذا، ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (16/ 28). (2) أخرجه مسلم (1480). (3) بياض مقدار ثلاث أو أربع كلمات. (4) انظر هذه الحادثة في: شرح معاني الآثار (3/ 67)، والسنن الكبير للبيهقي (15/ 541). (5) انظر في المطاعن التي طعن بها في حديث فاطمة بنت قيس والجواب عنها: زاد المعاد (5/ 528 مهم)، أصول السرخسي (1/ 365)، كشف الأسرار (2/ 567 وما بعدها)، شرح معاني الآثار (3/ 69).

(1/298)


وقد كان أبو هريرة يحدِّث بأحاديث يقول: حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرابين؛ أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم مني البلعوم (1) (2)، وذلك الجراب وإن لم يكن فيه شيء من الأحكام وأصول الدين، وإنما فيه ذكر الملاحم والفتن. فالمقصود: أَنَّ المحدث قد يترك التحديث بأشياء خوفًا من أذًى يلحقه، ولم نَقُلْ أَنَّ كل مسألة فيها نزاع تَرَكَ كُلُّ الناس ما روي فيها، بل يَرْوِي ما فيها مَنْ لم يخف لظهور القول بذلك، أو لكونه لا يُؤذى إذا خالف ذلك، أو لا يُنكر عليه إذا حَدَّث به ونحو ذلك. وفي الجملة؛ فنحن لا نجزم بأنَّ الترك كان لهذه العلة، بل هذا أمر محتمل، وقد رأينا لهذا نظائر متعددة، يكون في الحديث لفظ يمنع منه بعض الناس، فيترك الراوي ذكره؛ إما مطلقًا وإما في بعض الأحوال. وبكر بن عبد الله قد حَدَّثَ بهذا الحديث مرات؛ فلعله تارة كان يستوفيه وتارة يختصره، فإنَّ هذا يقع كثيرًا ــ أيضًا ــ؛ وإنما (3) كان يستوفيه لبعض الناس ويختصره لبعضهم. _________ (1) أخرجه البخاري (120) بلفظ: (حفظتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين؛ فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم). (2) كتب الناسخ في الهامش: (حاشية: قال البخاري: البلعوم: مجرى الطعام). ولم أجد في المطبوع من الصحيح هذه العبارة، وإنما نقلها الحميدي في الجمع بين الصحيحين (3/ 148). (3) كلمة غير واضحة تحتمل ما أثبتُّ.

(1/299)


فصلٌ قال المعترض: (قال المجيب (1): يبيِّن ذلك أن من الناس من لم يذكر ذلك عن التيمي إلى [آخره] (2) [79/ ب] عجيبٌ، ومن أين له أَنَّ ابن أبي عدي معترفٌ بثبوتها مع عدم روايته لها؟! وليس مراد أحمد بقوله: (وابن أبي عدي لم يذكر في حديث أبي رافع عتقًا) إلا أن الخلاف حاصل على (3) التيمي [بين ابن أبي عدي] وغيره، [كما أنَّ الخلاف حاصل على بكر بين التيمي وغيره]؛ فيزداد الخلاف قوة والزيادة وهنًا) (4). والجواب: أنَّ ابن أبي عدي لم يَنقل عنه أحدٌ إنكاره لها، بل ولا نقل عن أحد من الرواة لها عن بكر أنه أنكرها، ولا عن أبي رافع أنه أنكرها، وقد أثبتها من يعرف ابن أبي عدي بأنه أحفظ منه وأتقن، كيحيى بن سعيد القطان الذي قال أحمد: ما رأيت يعني مثله (5). وهو إمام هذا الفن على الإطلاق لا يُشَبَّهُ به ابن أبي عدي ولا أمثاله، وأثبتها معتمر بن سليمان التيمي وهو ــ أيضًا ــ _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 193). (2) كلمة مطموسة تحتمل ما أثبتُّ. (3) في الأصل زيادة: (مرمى)! وليست في «التحقيق». (4) «التحقيق» (38/ أ) وما أثبت بين معقوفتين منه. (5) انظر كلام الإمام أحمد وثناءه على يحيى بن سعيد في موسوعة أقوال الإمام أحمد في رجال الحديث وعلله (4/ 114 وما بعدها).

(1/300)


أثبت في حديث أبيه بل وفي غيره من محمد بن أبي عدي (1). وحينئذٍ؛ فلا ريب أَنَّ التيمي ذكرها، وابن أبي عدي لَمَّا لم يذكرها؛ فأحد الأمرين لازم: إما أن التيمي لم يذكرها حين حَدَّثَهُ بل اختصر الحديث لسبب من الأسباب، وإما لأنه لم يُحدِّث بها إما نسيانًا لها وإما لسببٍ آخر. وأما قوله: (يرجح إسقاطها عن بكر لكثرة الذين لم يرووها) (2). فيقال له: لا كثرة فيهم؛ بل الذين أثبتوها أجل وأكثر من الذين لم يثبتوها، وإن كان أحمد لم تبلغه الطرق المتعددة، وإنما بلغه طريق التيمي فقط. وقوله: (إنا لا نجزم بثبوتها عن التيمي، وإسقاط ابن أبي عدي لها، وأنَّ هذا الجزم لا تقتضيه صناعة الحديث، ولا يدل عليه علم الفقه والنظر) (3). فيقال له: لم نجزم بأنَّ ابن أبي عدي هو الذي أسقطها، بل المجزوم به أن التيمي ذكرها ثم تركها؛ إما لكونه هو لم يحدث بها لبعض الناس، وإما لأن الراوي أسقطها أو نسيها، ولم نجزم قط بأنه تعمد تركها لغرضٍ، بل هذا مما يجوز، وأهل صناعة الحديث وأهل صناعة الفقه والنظر كلهم متفقون على ما ذكرناه من الجزم بأنَّ التيمي ذكرها. _________ (1) انظر ترجمة معتمر بن سليمان في تهذيب الكمال (28/ 250)، وترجمة ابن أبي عدي في تهذيب الكمال (24/ 321). (2) «التحقيق» (38/ أ). (3) نصُّ عبارة السبكي في «التحقيق» (38/ أ): (وأما أنَّا نجزم بثبوتها عن التيمي، ونقول: إنَّ ابن عدي أسقطها لغرضٍ من الأغراض؛ فهذا ما لا تقتضيه صناعة الحديث، ولا يدلُّ عليه علم الفقه والنظر؛ والله أعلم).

(1/301)


فأحمد ــ مع أنه لم يعمل بها ــ جَزَمَ بأنَّ التيمي ذكرها، وجَزَمَ بثبوتها عن الصحابة فضلًا عن ثبوتها عن التيمي: أبو ثور ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وأبو بكر بن المنذر وأبو عمر بن عبد البر وأبو محمد ابن حزم، ومن شاء الله من أئمة أهل الحديث وأئمة أهل الفقه والنظر. وهذه [80/ أ] كتب الناس مملوءة بحكاية الكفارة في الحلف بالعتق عن ابن عمر وحفصة وزينب، لا يُحصى عدد مَنْ نقل هذا ممن ينقل أقوال الصحابة ويرويها، ولا يُعرف أحدٌ (1) من الناس طعن في رواية هذا (2) عن التيمي، لا من أهل صناعة الحديث، ولا من أهل الفقه والنظر، ولا يعرف أحد ممن روى طريق التيمي وأشعث طعن في هذا، بل ذَكَرَ الحلف بالعتق فيه ولا علل ذلك، بل جميع أهل العلم الذين بلغنا ذكرهم لهذا ذكروا هذه الزيادة وثَبَّتُوها ونقلوها عن الصحابة. ثم يقال له: إذا روى اثنان ثبتان كبيران حديثًا ذكرا فيه زيادة، وترك ذكرها من هو دونهما في الحفظ والإتقان؛ فالمثبتون للزيادة أكثر عددًا وأحفظ وأتقن، والتارك لها لم ينفها بل لم يذكرها، وهذا مما يصحح ذكر الزيادة فيه أهل صناعة الحديث وأهل صناعة الفقه والنظر، وإنما يختلفون إذا كَثُرَ المسقطون أو كانوا أحفظ، وأما إذا كانوا أكثر وأحفظ فما علمتهم تنازعوا في هذا. وقد تقدم ذكر هذه الزيادة من رواية معتمر بن سليمان عن أبيه، ورواها عن معتمر عبد الرزاق وعارم بن الفضل ــ كما ذكره الأثرم عنه ــ وغيرهما، _________ (1) في الأصل: (أحدًا)؛ والصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (هذه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/302)


والظاهر أنَّ أحمد ــ أيضًا ــ سمعه إما من عبد الرزاق وإما من معتمر، إذ لا بُدَّ له من إسناد في حديث التيمي. وأما طريق يحيى بن سعيد القطان عنه؛ فذكرها أبو بكر بن زياد النيسابوري الحافظ ــ وكان له عناية بالأحاديث الفقهية وصَنَّفَ في ذلك ــ، رواها عنه: زاهر بن أحمد السرخسي، وعن زاهر: أبو حامد الإسفراييني. ورواه البيهقي عنه (1): قال أبو بكر بن زياد، حدثنا عبد الرحمن بن بشر، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، حدثنا بكر بن عبد الله، عن أبي رافع: أَنَّ ليلى بنت العجماء مولاته قالت: هي يهودية وهي نصرانية وكل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي إِنْ لم يطلق امرأته إِنْ لم تفرق بينكما، فأتى زينب فانطلقت معه. فقالت: ههنا هاروت وماروت؟ قالت: قد علم الله ما قلتُ؛ كُلُّ مالٍ لي هدي وكل مملوك لي محرر وهي يهودية وهي نصرانية. قالت: خَلِّي بين الرجل وامرأته. قالت: فأتيت حفصة فأرسلت إليها كما قالت زينب قالت: خَلِّي (2) [80/ ب] بين الرجل وبين امرأته، فأتيت ابن عمر، فجاء معي فقام على الباب، فلما سَلَّمَ. قالت: بأبي أنت وأبوك. قال: أَمِنْ حجارةٍ أنتِ أم من حديد أنتِ؟ أفتتك زينب وأرسلت إليك حفصة. قالت: قد حلفت بكذا وكذا. قال: كَفِّرِي عن يمينك وخَلِّي بين الرجل وامرأته. فلو فُرِضَ أَنَّ ابن أبي عدي نفاها، وأثبتها يحيى بن سعيد، لم يختلف _________ (1) السنن الكبير (20/ 176/ ح 20072). (2) لم تظهر في الأصل، والمثبت من السنن.

(1/303)


أهل الحديث أَنَّ يحيى بن سعيد أثبت فيه؛ فكيف وقد أثبتها معه: معتمر بن سليمان عن أبيه؟! وابن أبي عدي لم ينف ذلك بل لم يذكره؛ فهل يقول عالم من علماء أهل الحديث أو من أهل الفقه والنظر أَنَّ ذلك يمنع جَزْمَنَا برواية التيمي لها؟! * * * *

(1/304)


فصلٌ قال المعترض: (قال المجيب (1): الوجه الثاني: أن أبا عبد الله ــ - رحمه الله - ــ قال: بحسب ما بلغه من طرق هذا الأثر، وقد روي من وجهٍ آخر: رواه أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي في كتابه المسمى بالمترجم الذي شرح فيه مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن أحمد وغيره، وقال فيه: حدثنا صفوان بن صالح، قال: حدثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي، حدثني جسر بن الحسن، حدثني بكر بن عبد الله المزني، حدثني رفيع (2). قال: كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار، فَحَلَفَتْ بالهدي والعتاق أَنْ تفرق بيننا، فأتيتُ امرأةً من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ لها ذلك، فأرسلت إليها: أَنْ كفري يمينك؛ فأبت [، ثم أتيت ابنةَ أمِّ سلمة فذكرتُ ذلك لها، فأرسلت إليها: أَنْ كَفِّرِي يمينك فَأَبَت]، فأتيت ابن عمر فذكرت ذلك له) (3) (4). والجواب: أَنَّ جسر بن الحسن لم نجعل روايته عمدة يحتج بها، وإنما جعلناها متابعة وشاهدًا لرواية التيمي، ولو كان الرجل فيه ضعف وهو مجروح كابن _________ (1) لم أجد هذا الكلام في الفتوى المعترض عليها المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى. (2) في الأصل: (نُفيع)، وقد تقدَّم (ص 205) أنه رفيع، وهو كذلك في قاعدة العقود (1/ 296)، وإعلام الموقعين (4/ 437). (3) وضع الناسخ علامة اللحق، وكتب في الهامش: (يتلوه الوريقة) كذا قرأتها، ولم أجد ما أشار إليه. (4) «التحقيق» (38/ أ - ب)، وما بين المعقوفتين منه.

(1/305)


لهيعة وأمثاله لجاز أَنْ يعتضد بروايته ويعتبر بها عند أهل العلم بالحديث وغيرهم، وهذا مما لا ينبغي لعاقل أن يُنازع فيه، فإنه لا يشك عاقل أن الظن يَقْوَى (1) بمتابعة شخص آخر، إذا لم يُعْرَف غلط هذا الثاني ولا كذبه. ولهذا كان التواتر يحصل عند كثرة المخبرين وإن كانوا كفارًا وفساقًا (2)؛ ولهذا تعتبر (3) شهادة الفساق والصبيان والنساء لوثًا عند أكثر الفقهاء (4)، والبخاري ــ صاحب (5) الصحيح ــ يذكر في صحيحه متابعة من لا يحتج به في (6) الصحيح، فإنَّ ذلك يُقَوِّي [81/ أ] الحديث ويؤيده (7). فإذا كان جسر بن الحسن شيخًا من شيوخ البصرة لم نَعلم أحدًا جَرَحَهُ= كان الاعتضاد بروايته ومتابعته لسليمان التيمي أولى من أَنْ نعتمد في معارضة التيمي على مثل عثمان بن (8) حاضر، ولعله إما مثل جسر وإما دونه وإما قريب منه؛ فالاعتضاد بمثل هؤلاء أولى من أَنْ تُعارض بهم رواية الثقات الحفاظ. _________ (1) الكلمة غير واضحة، وتحتمل ما أثبتُّ أو نحوها. (2) مجموع الفتاوى (6/ 403)، (10/ 680 - 681)، (13/ 353)، (18/ 26)، المسوَّدة (1/ 468)، شرح الأصبهانية (ص 567 وما بعدها، 678). (3) الكلمة غير واضحة، وتحتمل ما أثبتُّ. (4) مجموع الفتاوى (15/ 299، 306)، جامع المسائل (2/ 227)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 166 من مجموع مخطوط، 5/ 201 - 206). (5) الكلمة غير واضحة، وتحتمل ما أثبتُّ. (6). في الأصل: (من)، والصواب ما أثبت. (7) الفتاوى الكبرى (5/ 81)، منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح (ص 135 وما بعدها). (8) كتب الناسخ في الهامش (أبي) وفوقها حرف (ظ). وانظر ما تقدم (ص 257).

(1/306)


وأيضًا؛ فأشعث بن عبد الملك الحمراني قد تابع سليمان التيمي، وأشعث هذا جليل القدر، وهو أحد المجتهدين بالبصرة، وهو من أوثق الناس، لكن غالب ما يرويه هو الفقه، فلذلك قَلَّت (1) روايته في المسندات. قال البخاري في تاريخه (2): كان يحيى بن سعيد وبشر بن المفضَّل (3) يثبتون الأشعث. قال يحيى بن سعيد: هو عندي ثقة مأمون (4). وقال ابن معين: سمعت يحيى بن سعيد يقول: لم أدرك أحدًا من أصحابنا هو أثبت عندي منه، ولا أدركت بعد ابن عون من أصحاب ابن سيرين أثبت منه (5). وقال يحيى بن معين: أشعث الحمراني ثقة (6). وقال محمد بن سعد (7): أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا أبو حُرَّةَ قال: كان الحسن إذا رأى الأشعث قال: هات ما عندك، هات هات ما عندك. وقد رواه عن أشعث: محمد بن عبد الله الأنصاري وروح والنضر. وأما قوله: (لفظه متردد بين أن يقول: العتق يلزمني، وبين أن يقول: عبدي حر؛ وجعله الأول من باب النذر الذي فيه الكفارة دون الثاني) (8). فيقال: هذا غلط من أوجه: _________ (1). في الأصل رسمت الكلمة هكذا: (بلت) بدون نقط، ولعل الصواب ما أثبت. (2) (1/ 432). (3) في الأصل: (وبسر بن الفضل)، والمثبت من التاريخ الكبير. وفيه زيادة: معاذ بن معاذ. (4) الجرح والتعديل (2/ 275). (5) الجرح والتعديل (2/ 275). (6) تاريخ ابن معين (4/ 81 برواية الدوري). (7) الطبقات (9/ 276). (8) «التحقيق» (38/ ب) وما هنا مختصر بمعنى كلامه هناك.

(1/307)


أحدها: أنَّ القصة قصة واحدة ليست قصتين، فإذا كان سليمان وأشعث جزما بأنها قالت: كل مملوك لي حر، وقال جسر: حلفت بالهدي والعتاقة؛ وجب حمل رواية هذا بالمعنى على اللفظ الذي ذكره أولئك، لأنَّ الأصل اتفاق الروايات وتصادقها لا اختلافها وتناقضها. الثاني: أنه إذا قال: فلان حلف بالعتق والهدي؛ فالمفهوم منه: أنه حلف بلزوم العتق، كقوله: إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر أو مملوك فلان حر ونحو هذا، وأما إذا قال: إن فعلت كذا فعليَّ أَنْ أُعتق، فهذا حالف بالنذر، بنذر العتق، لم يحلف بنفس العتق. الثالث: أن الحلف (1) [81/ ب] بالعتق الذي اعتاده الناس هو الحلف بإيقاعه لا بنذره. الرابع: أن حمله لذلك على قوله: (العتق يلزمني) حجةٌ عليه؛ فإنه قد قال في قوله: (الطلاق يلزمني)؛ أن هذا يراد به في العرف الحلفُ بوقوعِ الطلاق لا أنه يحلف بالالتزام لإيقاعه، فكذلك إذا قال: (العتق يلزمني) إنما يراد به في العرف الحلف بوقوع العتق لا الحلف بالتزام إيقاعه، لا فرق بين قول القائل: الطلاق يلزمني والعتق يلزمني. والمعروف عند الناس إذا قال القائل: العتق يلزمني والحرام يلزمني والطلاق يلزمني وأيمان المسلمين تلزمني؛ فإن هذا كله حلف بلزوم هذه الأمور له لا نذرٌ لهذه الأمور، ولكن هذا اللفظ قد يراد به: أنه يلزمني أن أعتق، كما قد يراد به: يلزمني أَنْ أُطَلِّقَ فهذا نذر، ولكن المعنى المعروف منه _________ (1) هكذا قرأتها.

(1/308)


عند الإطلاق إنما هو: يلزمني وقوع العتق ووقوع الطلاق، وهو بمنزلة يقع بي العتق إن فعلت كذا، أو يقع بي الطلاق إن فعلت كذا، أو وقوع الطلاق قد يلزمني إن فعلت كذا، أو وقوع العتق قد لزمني إن فعلت كذا. الخامس: أنه لو سلم أنَّ لفظ الحالف: (إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُعْتِقَ عبدي)؛ فسنبين ــ إن شاء الله ــ أنه ليس بين قوله (1): (فعليَّ أن أعتق)، وبين قوله: (فعبدي حر) فَرْقٌ معنوي في باب الأيمان، ولا يُعرف عن أحدٍ من الصحابة أنه فَرَّقَ بينهما، وقد ثبت النزاع في قوله: وكل مملوك لي حر، والروايةُ بالكفارة في ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - أَثبتُ من الرواية بلزوم ذلك، وحينئذٍ؛ فهو حجة لنا على كل تقدير. ونحن إنما ذكرنا أَنَّ الأوزاعي إمامٌ يَعرف معاني الحديث لنبيِّن أَنَّ ضبطه ذكر العتاقة في الحديث مع علمه بما فيه من النزاع، ومع أَنَّ قوله يخالفه= لِيُعْلَمَ؛ فيكون هذا مما يقوي ذكر العتق في الحديث. وأما قوله: (فتمسك (2) باللفظ الذي رواه) (3). فيقال: لا يقول عاقل إنَّ اللفظ الذي رواه ظاهره أنه يحلف بنذر العتق [كـ] (4) قوله: إن فعلت [فَعَلَيَّ] (5) أن أعتق؛ فإنَّ عاقلًا لا يقول: إنَّ هذا ظاهر روايته، بل لا يُفْهَم هذا مِنْ هذا اللفظ. _________ (1) في الأصل: (قولها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (فمسك)، والصواب ما أثبتُّ. (3) «التحقيق» (38/ ب). (4) طمس في الأصل، ويحتمل ما أثبتُّ. (5) إضافة يقتضيها السياق.

(1/309)


وحينئذٍ؛ فإما أن يكون الحديث عامًّا في الصورتين: [82/ أ] صورة الحلف بنذر العتق وصورة الحلف بالعتق، كما يدل عليه كلام المعترض حيث قال: (ولا نحمله على ما هو أخص منه) (1)، وإما أن يكون مختصًّا بإحداهما؛ فيكون اللفظ مشتركًا أو حقيقة ومجازًا. فإنْ كان اللفظ عامًّا لهما حصل المقصود، وَدَلَّ على أنهم أفتوا بالكفارة في كليهما (2)، وذلك مثل أن تقول المستفتية للصحابة: حلفت بالهدي وبالعتاقة، وقولها: حلفتُ بالعتاقة؛ يتناول قولها: إن فعلت فمملوكي حر. وقولها (3): فعلي أن أعتق مملوكي والعتق يلزمني ونحو ذلك. فإذا كان لفظ المستفتية يَعُمُّ هذا كله، وقد أجابها الصحابة بالكفارة في هذا= حصل مقصود المجيب، وأنهم أفتوها بالكفارة في صورة النزاع؛ إذ هي أحد أفراد اللفظ العام التي تتناولها الفتيا. فإنْ قيل: اللفظ إنما يدل على صورة واحدة دون أخرى؛ إما بطريق الاشتراك اللفظي وإما بطريق الحقيقة والمجاز، فمعلوم أَنَّ المجاز والاشتراك على خلاف الأصل (4)؛ فَحَمْلُ اللفظ على ما ينفيهما أولى من _________ (1) «التحقيق» (38/ ب). (2) في الأصل: (كلاهما)، والصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (وقوله)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) مجموع الفتاوى (7/ 108) (31/ 167)، الفتاوى الكبرى (4/ 333)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 525) (4/ 423)، الجواب الصحيح (3/ 198 وما بعدها)، الإيمان (ص 90). وانظر ما سيأتي (ص 877 - 878، 885).

(1/310)


حمله على ما يثبتهما. وإن قيل: بل لفظ الحلف بالعتاقة يَعُمُّ، والسائلة إنما سألت بلفظٍ يدل على الخاص، ولم ينقل إلينا ذاك. قيل: إطلاق الناقل لهذا اللفظ والجواب دليلٌ على أَنَّ مناط الحكم هو القدر المشترك العام الموجود في الصورتين لا ما يختص به إحداهما. وحينئذٍ؛ فيكون الراوي لهذا الحديث فَهِمَ ممن حَدَّثَهُ أن الصحابة الذين أجابوا يسوون بين الصورتين، فتكون هذه الرواية موافقة لتلك لا مخالفةً لها. ولو قُدِّرَ أَنَّ هذا اللفظ محتمل، وتلك الرواية من طريقين قد بين أن السؤال كان عن قولها: (كل مملوك لي حر)، وهذا قال في روايته: (إنه حَلَفَ بالعتاقة) = كان حمل هذه الرواية على ما يوافق تلك أولى؛ فإنَّ الأصل اتفاق الرواة لا اختلافهم. فإنَّا لو (1) حملناه على أنها حلفت بالنذر لَزِمَ تغليطُ إحدى الروايتين، مع أنه لا دليل على غلطه بوجهٍ من الوجوه، وحمله على الموافقة يتضمن [نفي الغلط، والنافي] (2) للغلط مُقَدَّمٌ على مثبته، لا سيما في حق مَنْ لم يُعْرَف غلطه، وأن الغلط في الرواية نادر جدًّا بالنسبة إلى عدمه حتى في حق المعروفين [بكثرة الغلط؛ فما] (3) [82/ ب] لا يغلطون فيه من الألفاظ أضعاف أضعاف ما يغلطون فيه. وحينئذٍ؛ فيلحق النادر بالغالب لا سيما من _________ (1) غير واضحة في الأصل تحتمل ما أثبتُّ. (2) غير واضحة في الأصل، وزيادة (نفي) ليست في الأصل، ولكن يقتضيها السياق. (3) ما بين المعقوفتين غير واضح في الأصل، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/311)


محدث لم يعرف غلطه، وما يَحْمِل كلام المحدثين على الغلط بلا دليل أصلًا ولا شبهةِ دليلٍ إلا مَنْ هو أبعد الناس في العلم والدين (1). ثم بتقدير غلط أحدهما؛ تغليط جسر بن الحسن أولى من تغليط التيمي وأشعث الذين رويا أنها قالت: كل مملوك لي حر؛ وجسر يحتج بمتابعته على ذكر العتق، لا على لفظه الذي خالف فيه من هو أوثق منه وأكثر منه عددًا، هذا لو صرح بما يخالف لفظهما؛ فكيف والأمر بخلاف ذلك؟ وأيضًا؛ فقد بيَّنَّا أن الحلف بالعتاقة إنما يفهم منه عند الإطلاق: الحلف بوقوعه لا بنذره [ ... ] (2)، فقول المعترض: (لفظ الحلف بالعتاقة متردد بين كذا وكذا) إنْ أراد أنه بطريق أن اللفظ لا يدل إلا على أحدهما، لأن دلالته على الآخر بطريق الاشتراك أو المجاز= كان هذا مناقضًا لقوله: (لا يحمله على ما هو أخص منه)، فإنَّ هذا يدل على أنَّ اللفظ الذي رواه الأوزاعي مشترك (3) لا حقيقة ومجاز. وإن أراد أنَّ اللفظ عام؛ فالعام لا تردد فيه، وإن أراد أنه لا يعلم ماذا وقعَ في لفظ الراوي إذا كان عامًّا= كان دليلًا على أنه فهم أنَّ المعنيين سواء عند السائل للصحابة الذين أفتوه، وأن السائل فهم عن الصحابة التسوية، وتكفي الرواية بالمعنى لا سيما ومن هو أكثر عددًا وأفضل منه حفظًا وفهمًا ذكروا لفظ الحالِفَة: (كل مملوك لي حر إِنْ فعلت كذا). _________ (1) مجموع الفتاوى (13/ 349، 353) (18/ 26)، منهاج السنة (6/ 301). (2) مقدار كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها: (وإيقاعه). ويكون صواب العبارة كاملة: (الحلف بلزومه لا بنذره وإيقاعه). وانظر (ص 308 - 309). (3) في الأصل زيادة (و)، والصواب حذفها.

(1/312)


وأما قوله: (وقد علمنا أَنَّ مذهب الأوزاعي وقوع العتق إذا حلف به) (1). فيقال: هذا حجة لنا؛ فإنه لمَّا رواه مع مخالفته لمذهبه دَلَّ على أَنَّ العتق محفوظ فيه مذكور في الحديث، وأما مخالفته له؛ فمعلومٌ أَنَّ المسألة فيها نزاع بين التابعين ومن بعدهم، وقد نُقِلَ النزاع فيها عن الصحابة أيضًا، وفقهاء الحديث الذين هم أعلم بالآثار وأتبع لها من الأوزاعي ــ كأحمد وإسحاق ومحمد بن نصر وغيرهم ــ رووا هذه الزيادة [من] (2) طرقٍ أثبتُ من الطريق التي رواها الأوزاعي، ثم خالفوها لمعارضة [الأثر] (3) بما عندهم؛ فالأوزاعي يخرج عن ذلك؟! (4). وهذا مالك يروي أحاديث (5). [83/ أ] بعض الرواة عما ذكره بعضهم، ولو نفى حميد (6) ما أثبته سليمان التيمي وأشعث لقضي لهذين على ذينك؛ فكيف إذا أثبتا ما لم يتعرض ذانك لا لنفيه ولا لإثباته؟ والمجيب لم يصحح رواية سليمان بهذه كما ادعاه المعترض (7)، بل _________ (1) «التحقيق» (38/ ب). (2) طمس بالأصل، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام. (3) طمس بالأصل، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام. (4) كذا في الأصل، ولعل صواب العبارة: (فالأوزاعي لا يخرج عن ذلك). (5) هنا سقطت لوحة من المخطوط حسب الترقيم الموجود في أعلى الأصل. (6) وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وفوقها حرف (ظ)، ولم يثبت شيئًا. (7) في الأصل: (المجيب)، وعلَّقَ عليها الناسخ بقوله: (أظنه: المعترض)، وما ظنه هو الأقرب لسياق الكلام. تنبيهٌ: في الأصل بعد قوله (المجيب) هذه العبارة: (بل بيَّن أنَّ سليمان لم ينفرد بهذه كما ادعاه المجيب)؛ والظاهر أنَّ هذا خطأٌ بسبب انتقال بصر الناسخ.

(1/313)


بيَّن أنَّ سليمان لم ينفرد بهذه الرواية، فلا يجوز تعليل روايته بالانفراد؛ ولو قُدِّرَ أنَّ الانفراد علة فإنه لو تابعه عليه مَنْ فيه جرح لم (1) يكن منفردًا عند أهل العلم بالحديث؛ فكيف إذا تابعه أشعث بن عبد الملك الحمراني (2) وهو إمام كبير، وجسر بن الحسن وهو شيخٌ لا نَعرف أحدًا جرحه (3) بمعلوم (4)؛ والرواية عن هذين ثابتة باتفاق أهل المعرفة بالحديث. ورواه عن الأشعث مثل: محمد بن عبد الله الأنصاري القاضي، وروح بن عبادة. ورواه عن جسر مثل: الأوزاعي؛ هذا مما يوجب القطع بأن سليمان التيمي لم ينفرد بذكر العتق = فبطل تعليل ذكر العتق بانفراد سليمان التيمي. وسليمان التيمي في نفسه ثقةٌ إمامٌ فقيهٌ، هو أَجَلُّ قدرًا في العلم والفقه والحفظ والدين مِن كل مَن روى هذا الحديث عن بكر بن عبد الله المزني. فإذا قيل: قد انفرد بذكر العتق؛ فعرفنا أنه قد تابعه هذا وهذا، علمنا قطعًا أنه لم ينفرد به؛ فبطل التعليل بهذا لو كان علة. وإذا عرفت أنه لم ينفرد، وقد _________ (1) في الأصل: (ولم). (2) في الأصل: (أشعث بن الحسن)، وصوابه ما أثبتُّ، وتقدم على الصواب مرارًا. (3) انظر ترجمته في: تاريخ دمشق (72/ 96)، الكامل في ضعفاء الرجال (2/ 170)، تهذيب الكمال (4/ 556). (4) في الأصل: (فمعلوم)، ولعل الصواب ما أثبت؛ والمراد أي: بجرحٍ مفسَّر. وقد قرر المجيب في مجموع الفتاوى (24/ 351) أنه إذا كان الجارح والمعدِّل من الأئمة لم يُقبل قول الجارح إلا إذا كان مفسَّرًا.

(1/314)


روى ذكر العتق، وفي لفظ الحالفة أنها قالت: وكل مملوك لي حر. وقال هذا: حلفت بالعتاقة؛ فهل ينازع عاقل أن حمل الروايتين على الائتلاف أولى من حملهما على الاختلاف؟! ولو كان لفظ الحلف بالعتاقة قد تساوى فيه الحلف بالعتق والحلف بنذر العتق، وإنْ قيل: إنه يَعُمُّ النوعين؛ فهو حجة لنا. وأما تخصيص هذا اللفظ بالحلف بالنذر؛ فهذا لا يقوله من (1) يدري ما يقول، فكيف يجوز حمله عليه؟! وهذا الشيخ المتابِع للتيمي [ ... ] (2) يكفينا منه أنه يذكر العتاقة، فيصير متابعًا لمن ذكر العتق [ ... ] (3) وحده يكفينا في لفظه حلفها؛ فكيف إذا تابعه أشعث؟ فإنْ ثبتَ (4) ذكر الحلف بالعتاقة ثبت أَنَّ هؤلاء الثلاثة ذكروا الحلف بالعتق فوجب (5) [83/ ب] قطعًا تقديم روايتهم على رواية حميد وآخر دونه لم يذكر العتق، بل لو نفى هذان (6) ذكر العتق وقالا: لم يذكر العتق، وقال أولئك الثلاثة: بل ذكر العتق = لوجب ترجيح روايتهم. وإذا ثبت أن فيه ذكر العتق؛ فقد عيَّن التيمي وأشعث أن لفظ الحالفة: _________ (1) في الأصل: (حين) وفوقها ما أثبتُّ، ولعله هو الصواب. (2) طمس في الأصل مقدار كلمتين، والكلام متصل. (3) مقدار كلمة أو كلمتين لم أستطع قراءتها. (4) مقدار كلمة لم أستطع قراءتها، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (5) مقدار كلمة لم أستطع قراءتها، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (6) في الأصل: (هذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/315)


(وكل مملوك لي حر)؛ وجسر لم يخالفهما في ذلك، ولو خالفهما جسر وقال: بل لفظها (1): (وعليَّ أَنْ أعتق كل مملوك لي) (2) لوجب تقديم رواية واحد منهما على رواية جسر فكيف بروايتهما جميعًا؟! فكيف وجسر لم يخالفهما البتة بل وافقهم؟! والله أعلم. * * * * _________ (1) في الأصل: (لفظهما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) هنا زيادة قوله: (حر) ثم كتب الناسخ فوقها (كذا).

(1/316)


فصلٌ وأما قول المعترض: (ليس في لفظ ابن عمر في هذه الرواية الأمر بالتكفير، بل في لفظ حفصة وزينب خاصة) (1). فيقال له: هذه غفلةٌ ظاهرةٌ؛ ففي لفظ الرواية المذكورة أنَّ الزوج قال: فأتيت ابن عمر فذكرت له ذلك، فأرسل إليها أن كفري يمينك، فقام ابن عمر فأتاها، فقال: أرسلت فلانة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وزينب أَنْ تكفري يمينك فأبيتِ؟! قالت: يا أبا عبد الرحمن حَلَفتُ بالهدي والعتاقة. قال: وإنْ كنتِ حلفتِ (2). فكأنَّ هذا المعترض نظر إلى قول ابن عمر حين أتاها، فقال: وإن كنتِ حلفت، فلم يقل: وكَفِّرِي، ولم ينظر إلى قوله في أثناء الحديث: أتيتُ فذكرت ذلك له، فأرسل إليها أنْ كفِّرِي يمينك فأبت؛ ففيه أن ابن عمر أرسل إليها ثم أتاها، وفيه أنَّ ابن عمر أرسل إليها بالتكفير، وذكر عن حفصة وزينب أنهما أمرتاها بالتكفير. وقد تقدم نقل هذا من طرق متعددة ثابتة تُبَيِّنُ غَلَطَ من قال: إنهما لم يأمراها بالتكفير؛ محتجين بعدم ذكر ذلك في بعض الروايات (3). وأيضًا؛ فيقال: لو قُدِّرَ أنه لم يذكر في ذلك أمر ابن عمر بالتكفير، فقد اتفقت الروايات كلها على أَنَّ ابن عمر أمرها بالتكفير؛ كما ذكر ذلك حميد _________ (1) «التحقيق» (39/ أ). (2) تقدم تخريجه في (ص 205 - 206). (3) (ص 201 - 209).

(1/317)


والتيمي وأشعث وغالب وغيرهم؛ فالروايات كلها متفقةٌ (1) على أَنَّ ابن عمر أمرها بالكفارة، فلو قُدِّرَ أنَّ جَسرًا لم يذكر ذلك لم يكن هذا تعارضًا (2)؛ فكيف وقد ذكره؟! * * * * _________ (1) مقدار كلمة غير مقروءة، وتحتمل ما أثبتُّ أو كلمة نحوها. (2) مقدار كلمة غير مقروءة، وتحتمل ما أثبتُّ أو كلمة نحوها.

(1/318)


فصلٌ وأما قوله: (وبين الطريقين اختلاف أيضًا؛ يقرر هذا: أَنَّ في الأول أَنَّ حفصة وزينب جاءتا إليها، وفي [84/ أ] هذا أنهما أرسلتا إليها) (1). فالجواب عنه أيضًا: أنَّ هذه غفلة ظاهرة؛ فليس في حديث سليمان التيمي أن حفصة جاءت إليها، وإنما فيه أن زينب جاءت إليها، وفيه أَنَّ حفصة - رضي الله عنها - أرسلت، وهكذا ذكره المجيب (2) في الطريق الذي رواه من رواية الأثرم: حدثنا عارم، حدثنا معتمر بن سليمان، حدثنا أبي فذكره. وفيه قال: فأتيت حفصة أم المؤمنين، فأرسلت إليها فأتتها. فقالت يا أم المؤمنين: جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر. وكذلك رواية يحيى بن سعيد عن التيمي، وكذلك في سائر الروايات، وإنما أتاها زينب وابن عمر، وأما أم المؤمنين ــ رضوان الله عليها ــ فلم تأتِ إليها. وهذا هو المناسب؛ فإنَّ أمهات المؤمنين قد أُمِرْنَ أنْ يَقَرْنَ في بيوتهن، فلم يَكُنَّ ليخرجنَ بخلاف غيرهنَّ، وأما زينب - رضي الله عنها - ففيه أنها جاءت إليها. فقالت: في البيت هاروت وماروت؟! قالت: يا زينب إنها قالت: كل مملوك لها حر. فقد فصل (3) في الحديث بين زينب وحفصة، وأنَّ زينب أَتتها وحفصة لم تأتِ إليها، بخلاف ما زعم هذا الذي يظن من يظنه من كلامه أنه يضبط ما _________ (1) «التحقيق» (39/ أ). (2) في الفتوى المعترض عليها؛ انظر: مجموع الفتاوى (33/ 188). (3) أي: التيمي.

(1/319)


ينقله، فإذا تثبت فيما نقله وجد فيه تخليطًا كثيرًا، لا عذر لأحدٍ في الغلط فيه. فيغلط على لفظ الحديث ويجعله مضطربًا، وليس فيه اضطراب، ولم تختلف الروايات فيما ذكره، ولكن من حديث جسر أنَّ زينب أرسلت إليها، وفي رواية سليمان التيمي: أنها أتتها، وليس هذا اختلاف؛ بل ابن عمر أرسل إليها أولًا، ثم أتاها ثانيًا؛ فيمكن أن زينب فعلت كما فعل ابن عمر أرسلت إليها ثم أتتها. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ هذا اختلافٌ؛ فمثل هذا لا يقدح في الرواية باتفاق أهل العلم بالحديث، بل الأحاديث التي في الصحيحين التي اتفق المسلمون على صحتها يقع فيها مثل هذا (1)، بل غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها من الأمور المتواترة يقع فيها مثل هذا، بل [وفي أحاديث] (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقع فيها مثل هذا الاختلاف الذي لا يضر؛ كاختلاف الرواة في مقدار ثمن بعير جابر، وحديثه مما اتفق (3) [84/ ب] العلماء على صحته، واختلفوا في قَدْرِ ثمنه (4). * * * * _________ (1) انظر ما سيأتي في (ص 325 - 326، 332 - 333). (2) طمس يحتمل ما أثبتُّ. (3) كلمة لم أستطع قراءتها، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام. (4) أخرجه البخاري (2309)، ومسلم (715) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، وقد ساق المهلب بن أبي صفرة في المختصر النصيح (3/ 72) أسانيد الحديث وألفاظه سياقًا حسنًا.

(1/320)


فصلٌ قال المعترض: (ثم إني نظرت في هذا الأثر وجمع طرقه من كتب عبد الرزاق وأبي بكر البيهقي وأبي عمر بن عبد البر وأبي محمد بن حزم لتبيين الحق في ذلك؛ وهاأنا أُلَخِّصُهَا ههنا: قال البيهقي (1): أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الأصفهاني، حدثنا أبو أحمد ابن فارس (2)، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري (3)، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إياس بن أبي تميمة أبو مخلد صاحب البصري، حدثنا عبد الرحمن بن أبي رافع، عن أبيه أنه كان مملوكًا لابنة عم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فحلفت أنَّ مالها في المساكين صدقة. فقال ابن عمر: كَفِّرِي يمينك) (4). والجواب: أما قوله: (فانظر هذا الاختلاف العظيم الذي وَقَعَ في هذا الأثر في سنده وفي متنه) (5). فيقال: ليس فيه ــ ولله الحمد ــ اختلافٌ عظيمٌ؛ بل وأكثر ما سَمَّاهُ _________ (1) في السنن الكبير (20/ 173/ ح 20065). (2) في الأصل: (أبو الحرث فارس)؛ والمثبت من السنن. (3) التاريخ الكبير (1/ 435)، (5/ 281). (4) «التحقيق» (38/ أ). (5) «التحقيق» (39/ أ).

(1/321)


اختلافًا ليس هو باختلافٍ أصلًا، والاختلاف اليسير الذي انفرد به بعض الرواة ليس بمؤثِّر، بل القدح بمثل هذا خلاف إجماع العلماء المتقدمين والمتأخرين، فإنهم كلهم تلقوا هذا الأثر بالتصديق والقبول وصححوه؛ فعامة علماء أهل الحديث عملوا به، والذين لم يعملوا به لم يطعنوا في صحته ولا قدحوا في ذلك، بل سَلَّمُوا صِحَّتَهُ، بل عارضوه؛ فالقادح فيه مخالف لإجماع علماء أهل الحديث العارفين بالمنقولات (1). الثاني: إنَّ رواة هذا الحديث من أَجَلِّ علماءِ المسلمين وثقاتهم (2)؛ فقد رواه غير واحد عن أبي رافع مثل: ثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني وهما هما، فإنهما من أجل ثقات المسلمين باتفاق العلماء، ومن أجل رجال الصحيحين، وقد تابعهما عبد الرحمن [بن أبي] (3) رافع وعلي بن زيد بن جدعان. ورواه عن بكر غير واحد [من الثقات] (4): سليمان التيمي وحميد الطويل وأشعث بن عبد الملك [الحمراني] (5) وغالب القطان وجسر بن الحسن، وبعض هؤلاء يكفي لكونه [من رجال] (6) الصحيحين الثقات. ورواه عن سليمان التيمي غير واحد من العلماء [85/ أ] مثل: يحيى بن _________ (1) مجموع الفتاوى (13/ 351 - 352)، (20/ 257 - 258). (2) في الأصل: (واتفاقهم)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) طمس في هذا الموضع، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) طمس في هذا الموضع، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (5) لم يظهر من الكلمة إلا آخر ثلاثة أحرف منها، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (6) طمس في هذا الموضع، ولعله ما أثبتُّ.

(1/322)


سعيد القطان وابنه معتمر بن سليمان. وعن أشعث مثل: محمد بن عبد الله الأنصاري وروح بن عبادة والنضر. وعن حميد الطويل يحيى بن أيوب وغيره إلى غير ذلك من الطرق التي لم يذكرها؛ وبمثل هذه الطرق لو كان مرفوعًا= لكان من أَجَلِّ ما يرويه البخاري ومسلم، لكنهما إنما وضعا كتابيهما للمرفوعات لا للآثار، وإلا فبدون هذه الطرق يكون الحديث من أحاديث الصحيحين. فهل يطعن فيما يروى بمثل هذه الأسانيد إلا مَن هو مِن أبعد الناس عن طريقة أهل العلم والدين؟ إما لنقص علمه وإما لفساد قصده؛ وإلا فصاحب علم ودين لا يتصور أن يقدح في مثل هذا الحديث المروي بمثل هذه الطرق. وأبو رافع هو الصائغ، وهو من المخضرمين، من أكابر التابعين الثقات، من أجل رجال الصحيحين، وإنْ قُدِّرَ أنَّه مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من الصحابة، وهو أرفع قدرًا من الصائغ؛ فعلى كل تقدير قد اتفق العلماء على أنه من الثقات. الوجه الثالث: أنَّ قوله: (بعضهم قال في الحالفة: إنها الأنصارية، وبعضهم قال: إنها بنت عم عمر) (1). فيقال له: الرواية بأنها ابنة عمة (2) لعمر أثبت من كونها بنت عمه، ولا منافاة بين كونها أنصارية وكونها بنت عمة عمر؛ هكذا في حديث ابن وهب: _________ (1) «التحقيق» (40/أ). (2) في الأصل: (عمر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/323)


عن يحيى بن أيوب، عن حميد، عن ثابت البناني. وبكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع. وكان أبو رافع عبدًا لليلى بنت العجماء ابنة عمة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وفي حديث عبد الرحمن بن أبي رافع عن أبيه أنه كان مملوكًا لابنة عم عمر بن الخطاب. وأما قوله: لامرأة من الأنصار، فهو من رواية جسر بن الحسن، وسائر الروايات قالوا: ليلى بنت العجماء، ولم يذكروا أنها أنصارية، ولا أنها ابنة عمه؛ وبكل حال: فالمرأة معروفة باسمها واسم أمها، ليلى بنت العجماء، وهو اسم غريبٌ لا يُعرف فيه اشتراك، مع كثرة الاشتراك في أسماء الأعلام، فهي متميزة بهذا الاسم معروفة عند العلماء لم تشتبه بغيرها (1). وأما كونها أنصارية [أو قرشية] (2) وبنت عمة لعمر أو بنت عم له؛ فهذا لا يضر جهله والاختلاف [فيه وإنْ لم] (3) نعرفها ونميزها عن غيرها، ولا يَجعل مثل هذا قدحًا في الحديث [إلا جاهل] (4) أو معاند، فإنَّ كثيرًا (5) من الناس المشهورين يختلف في بعض [أنسابهم] (6) [85/ ب] ولا يقدح ذلك _________ (1) انظر كلامًا للمجيب حول الاشتراك في أسماء الأعلام في درء تعارض العقل والنقل (7/ 68 - 69). (2) طمس مقدار كلمة أو كلمتين، والمثبت مقدَّر من كلام المجيب الآتي (ص 334). (3) طمس في هذا الموضع، وما أثبتُّ تقديرًا، وبه يستقيم الكلام. (4) طمس في هذا الموضع، وما أثبتُّ تقديرًا، وبه يستقيم الكلام. (5) في الأصل: (كثير)، والصواب ما أثبتُّ. (6) طمس مقدار كلمة، وبما أثبت يستقيم الكلام.

(1/324)


في معرفتهم. كما يقال في أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: مولى العباس؛ فهل يقدح ذلك في معرفته التي يحتاج إليها في العلم؟ الرابع: أن هذه ليست هي الراوية (1) للحديث حتى يحتاج إلى معرفتها، بل هي المستفتية، وإنما الراوي مولاها أبو رافع، وهو معروف نفسه باتفاق أهل العلم، ولو لم يُسَمِّ هذه المرأة لم يَقدح ذلك في العلم بجواب الصحابة، ولهذا لا تُسَمَّى في بعض الروايات، فَذِكْرُ اسمها لا يُحتاج إليه ولا إلى معرفته. وحينئذٍ؛ فإذا قدر الاختلاف في ذلك كان اختلافًا عن أمر خارج عن المقصود، لا يقدح في العلم بالمقصود، وهذا كما أن الثلاثة الذين خُلِّفُوا المذكورين في قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] لا نحتاج [في] (2) معرفة ما أخبر الله به من توبتهم إلى معرفة أسمائهم، ثم إذا عرفت أسماؤهم وأنهم: هلال بن أمية وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع، والزهري قد ذكر في روايته أنَّ مرارة بن الربيع وهلال بن أمية (3) شهدا بدرًا، وخالف الزهري غيره، وبعضهم يقول: مرارة بن ربيعة= فالاختلاف في مثل هذا لا يقدح في العلم بأسمائهم؛ فضلًا أن يقدح في العلم المقصود من قصتهم (4). _________ (1) في الأصل: (الرواية)؛ والصواب ما أثبتُّ. (2) زيادة يقتضيها السياق. (3) في الأصل: (هلال وأمية)، والصواب ما أثبتُّ. (4) أخرج حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا: البخاري (4418)، ومسلم (2769). وانظر: مرويات الإمام الزهري في المغازي للعواجي (2/ 807).

(1/325)


وكذلك روي في الصحيح: أنَّ أعرابيًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عمَّا فرض الله عليه، فذكر الصلاة والزكاة والصيام، وهو لا يُسَمَّى في كثيرٍ من الروايات، وفي بعضها سُمِّيَ (1). فصلٌ وأما الراوي عنها؛ فهو أبو رافع الصائغ مولى ليلى بنت العجماء، من قدماء التابعين من رجال الصحيحين، كما ثبت ذلك في الروايات الثابتة، وكما ذكر ذلك عامة العلماء، وروى عنه: بكر وثابت وعلي بن زيد وغيرهم. وأبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس هو مولى ليلى بنت العجماء بلا ريب، فإنَّ ذاك مات قديمًا بُعَيْدَ قتل عثمان - رضي الله عنه - سنة خمس (2) وثلاثين، لم يدركه أحد من هؤلاء مثل: بكر وثابت وأمثالهما، وهذا [مجزومٌ به] (3) قطعًا. قال الحافظ عبد الغني (4): نفيع أبو رافع الصائغ [ ... ] (5) أدرك الجاهلية _________ (1) أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11) من حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -، وليس في روايته التصريح باسمه. وأخرجه البخاري (63)، ومسلم (12) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وفي رواية البخاري التصريح باسم السائل، وأنه: ضمام بن ثعلبة. وقد تعقب المجيب في شرح العمدة (2/ 185 الحج) ابن عبد البر في زعمه أن الرجلين في الحديثين واحد؛ فانظره هناك. (2) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبت. (3) كلمة غير مقروءة، وما أثبتُّ تقديرًا، وبه يستقيم الكلام. (4) في الكمال في أسماء الرجال، والكتاب ما زال مخطوطًا. (5) كلمة لم أستطع قراءتها، وفي تهذيب الكمال (30/ 14): المدني، نزيل البصرة، مولى ابنة عمر بن الخطاب. وقيل: مولى ليلى بنت العجماء.

(1/326)


ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -، انتقل إلى البصرة. روى عن: [86/ أ] أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي موسى، وأبي هريرة، وحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه: الحسن البصري، وبكر بن عبد الله المزني، وثابت البناني، وعلي بن زيد بن جُدْعان، ومروان الأصفر، وخلاس بن عمرو؛ وسمَّى آخرين. وقال أبو عبد الله بن منده في كتاب الكنى (1): أبو رافع الصائغ، بصري أدرك الجاهلية، روى عن: عمر بن الخطاب، روى بإسناده عن ثابت عن أبي رافع قال: [إنَّ أطيبَ شيءٍ أكلتُهُ] (2) في الجاهلية نَبِيْشَةُ (3) سَبُع، روى عنه: الحسن وقتادة. ثم قال (4): أبو رافع مولى عمر بن الخطاب حَدَّثَ عن عمر (5)، ويقال: مولى ليلى بنت العجماء. _________ (1) فتح الباب في الكنى والألقاب (ص 320). (2) في الأصل بياض مقدار كلمة أو كلمتين، وفي آخره كلمة تحتمل: (عليه)؛ والمثبت من كتاب ابن منده. (3) في الأصل: (سنة)، والمثبت من كتاب ابن منده. (4) في (ص 321). (5) في المطبوع من الكنى: (عمرو)؛ ولعل الصواب ما في الأصل.

(1/327)


أخبرنا خيثمة، أخبرنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن التيمي، عن أبيه، عن بكر بن عبد الله المزني، حدثني أبو رافع مولى ليلى بنت العجماء. أخبرنا محمد بن يعقوب، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي قال: سألته عن أبي رافع مولى عمر. فقال روى عنه: الحسن، وبكر بن عبد الله المزني، وثابت البناني، وخلاس بن عمرو، ومروان الأصفر وعلي بن زيد. قلت لأبي: روى بكر أنه مولى ليلى أراه أبو رافع (1) مولى عمر. فقال: أحسب [أنَّ] (2) ليلى اشترته من عمر، وهما عندي واحد (3). وكذلك سائر العلماء المصنفين لم يذكروا أبا رافع الذي يروي عنه بكر بن عبد الله وعلي بن زيد و (4) ثابت البناني ونحوهم من البصريين إلا أبا رافع الصائغ واسمه نفيع. وقالوا: إنه انتقل من المدينة إلى البصرة، ولهذا كان المفتون له عن هذه القصة هم من أهل المدينة، والرواة عنه من أهل البصرة. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه (5): نفيع أبو رافع الصائغ؛ روى عن: أبي بكر وابن مسعود. روى عنه: الحسن وثابت البناني وعلي بن زيد. _________ (1) كرر الناسخ قوله: (مولى ليلى أراه أبو رافع). (2) زيادة من الكنى. (3) قال ابن منده بعد ذلك: (ففي هذه الحكاية ما يدل على أنَّ من تقدم هو هذا). (4) في الأصل: (بن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (5) الجرح والتعديل (8/ 489).

(1/328)


سمعت أبي يقول ذلك، [و] (1) سألته عنه. فقال: ليس به بأس. وقال النسائي في كتاب الكنى: أبو رافع نفيع الصايغ؛ روى عنه: ثابت. وقال أبو القاسم اللالكائي (2) في رجال البخاري: نفيع أبو [رافع] (3) الصايغ البصري روى (4) عن أبي بكر وابن مسعود. روى عنه: الحسن وثابت [86/ ب] البناني، تحول إليها من المدينة. يقال: إنه أدرك الجاهلية سمع أبا هريرة، روى عنه: الحسن وبكر بن عبد الله المزني وثابت البناني وقتادة. وقال أبو بكر ابن منجويه في رجال مسلم (5): نفيع الصائغ أبو رافع البصري. [روى] (6) عن أبي هريرة. روى عنه: الحسن البصري وبكر بن عبد الله المزني وثابت البناني وخلاس بن عمرو وحميد بن هلال وذكر آخرين. والرواية التي في تاريخ البخاري (7) عن عبد الرحمن بن أبي رافع أنه _________ (1) زيادة من الجرح والتعديل. (2) في الأصل: (الألكاني)، والصواب ما أثبتُّ. وهو: هبةُ الله بن الحسن الطبري، الحافظ الفقيه الشافعي، صنَّف كتابًا في شرح السنة، وكتابًا في رجال الصحيحين، توفي سنة (418). انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (16/ 108)، العبر (2/ 236)، شذرات الذهب (5/ 92). (3) لم يظهر من الكلمة إلا حرف الراء والألف. (4) كتبها الناسخ في الهامش، وفوقها: (ظ) ثم (لا). (5) رجال صحيح مسلم (2/ 292). (6) زيادة من المطبوع. (7) (1/ 435) (5/ 281).

(1/329)


كان مملوكًا لابنة عم عمر بن الخطاب. قال ابن عمر: كَفِّرِي يمينك. تُبيِّن (1) أنه ليس هو أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ ذاك لم يكن مملوكًا لليلى بنت العجماء التي يقال: إنها ابنة عم عمر باتفاق العلماء. وإذا قال قائل: يحتمل أن يكون هو أبا رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل له: هذا إن كان حقًا لا يقدح في الحديث بل يزيده قوة، فإنَّ أبا رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة، فهو أجل من أبي رافع الصائغ، وإن كان مَنْ جعله أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غلط في ذلك، فغلط هذا الظان لا يقدح في صحة الحديث. فتبيَّن أَنَّ الحديث صحيحٌ ثابتٌ على كل تقدير؛ وليس لنا حاجة [في] (2) الكلام على ما ذكره البخاري في تاريخه؛ فإنه ــ أولًا ــ لم يصرِّح بأنَّ هذا المذكور في حديث العتق: عبد الرحمن بن أبي رافع صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ذكر الروايات في هذا الباب؛ ليعرف ما روى، ويميَّزَ بينَ ذلك؛ ولهذا ذكر ابن أبي رافع عن أبيه مولى لحفصة، ومعلوم أنَّ هذا ليس أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يمكن أن يقال: إنه الصائغ، وأنه نسبه (3) إلى حفصة كما نسبه إلى أبيها، ولو قُدِّرَ أَنَّ بعض الناس ظن أنه ذاك؛ فهذا الظن خطأٌ (4) قطعًا، ولو قُدِّرَ أنه صواب لم يقدح في صحة الحديث. وأما قول القائل: (إِنَّ أبا رافع الصائغ لا يكون مملوكًا لها ومولى النبي _________ (1) في الأصل: (بين)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) إضافة يقتضيها السياق. (3) في الأصل: (نسب)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) كلمة غير مقروءة، وتحتمل ما أثبتُّ.

(1/330)


- صلى الله عليه وسلم -) (1)؛ [فكلامٌ صحيحٌ] (2)، وهو يدل على خطأ من جعله الصاحب، وعامة العلماء على أنه [التابعي] (3) كما تقدم كلامهم، وما علمت أحدًا صرَّحَ بنقيض هذا، وَإِنْ قُدِّرَ أنه قال ذلك فقد غلط. وأما قوله: (إنَّ أبا رافع الصائغ لا يُعرف في ولده من اسمه [87/ أ] عبد الرحمن) (4)؛ فهذا نفي ما لم يعلمه الرجل، فقد يكون له ولد اسمه عبد الرحمن ولم يعرفه، وإنْ قُدِّرَ أنه لم يكن له ولد؛ فغايته أن تكون رواية إياس بن أبي تميمة عن عبد الرحمن غلطًا، فيكون وجودها كعدمها، وهذا لا يقدح في رواية الثقات الأثبات الذين ذكروا أنه كان مولى لليلى بنت العجماء وأنَّ مولاته حلفت، ومثل هذه القصة يحفظها صاحبها، لأنه هو كان المبتلى بها، وهو الذي أرادت سيدته أَنْ تفرق بينه وبين امرأته، وهو الذي ذهب إلى من ذهب إليه من الصحابة وأمهات المؤمنين لِيَنْهَيْنَهَا عن ذلك، ويأمرنها بما يخرجها من يمينها؛ فمثل هذه القصة يضبطها العامي إذا وقعت له؛ فكيف لا يضبطها مَنْ هو معروف بحمل العلم ونقله؟! وقد أخرجا له في الصحيح ما أخرجوه، مثل حديثه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (5). _________ (1) «التحقيق» (40/ أ). (2) لم تظهر إلا بعض الحروف، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام. (3) لم تظهر إلا بعض الحروف، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام. (4) «التحقيق» (40/ أ). (5) أخرج البخاري (291)، ومسلم (348) من حديث أبي رافع، عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا جلسَ بين شُعبها الأربع، ثم جهدها؛ فقد وجب الغسل» وأحاديثَ أُخَر. انظر: البخاري (283، 458، 766، 6192، 7553)، ومسلم (371، 439، 550، 578، 956، 2141) وغيرها.

(1/331)


فصلٌ وأما قوله: (إنهم اختلفوا في صيغة اليمين) (1) فهذا غلط؛ فلم يختلفوا في صيغة اليمين، فإنَّ قول بكر وأشعث إنها قالت: كل مملوك لها حر إن لم تفرق، لا ينافي رواية جسر أنها حلفت بالعتاقة؛ فإنَّ هذا يسمى حلفًا بالعتاقة بلا ريب، وإذا كان الثقات ذكروا زيادة لم يذكرها غيرهم لم يُعَدَّ هذا من الاختلاف القادح في الحديث عند أهل العلم، بل كثير من أحاديث الصحيحين وغيرهما بهذه المثابة (2). وكذلك الأمر بالتكفير لم ينفه أحد من الرواة (3)، بل كلهم ذكروه، لكن بعضهم يختصر الحديث فيذكره عن ابن عمر لكونه راجعها أكثر من غيره، وبعضهم يستوفيه فيذكره عن الثلاثة. وقد تقدم أنَّ عامة العلماء بينوا ذكر التكفير فيه عن الصحابة كلهم، ولو قُدِّرَ أنه أسقط عن بعضهم، فلا خلاف أَنَّ بعض الصحابة أَمَرَ بالتكفير، وبذلك يحصل المقصود، ومثل هذا يقع كثيرًا في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يقع في الأحاديث المتفق على صحتها من تنوع الألفاظ أكثر من هذا، كما في حديث ابن عمر: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر على كل صغير وكبير، ذكر وأنثى [وحُرٍّ وعبد] (4). زاد مالك وغيره: من المسلمين (5)، ولم يُجعل _________ (1) «التحقيق» (40/ أ). (2) مجموع الفتاوى (18/ 47). (3) «التحقيق» (40/ أ). (4) ما بين المعقوفتين غير مقروء في الأصل، والمثبت من لفظ الحديث. (5) ذكر هذه الزيادة جماعةٌ منهم: مالك بن أنس؛ أخرجه البخاري (1504)، ومسلم (12/ 984). وعمر بن نافع؛ أخرجه البخاري (1503). والضحاك؛ أخرجه مسلم (16/ 984) وغيرهم. انظر: نصب الراية (2/ 410 وما بعدها)، البدر المنير (5/ 614).

(1/332)


ذلك علة في أصل الحديث [مع زيادة] (1) [87/ ب] مالك (2). فصلٌ وقوله: (إنَّ هذا الاختلاف والاضطراب يوجب التوقف في هذا الأثر) (3)؛ عنه أجوبة: أحدها: أَنَّ هذا باطل قطعًا باتفاق أهل العلم؛ فكلهم متفقون على تلقي هذا الأثر بالقبول، كما يتلقى أمثاله من الأخبار الثابتة، وكلهم يَحكي ما فيه عن هؤلاء الصحابة، لم يتنازعوا في شيء من ذلك إلا في ذكر العتق، لكون الإمام أحمد لم يبلغه إلا طريق التيمي، وأما الذين بلغهم طريق أشعث بن عبد الملك مع التيمي فلم يطعن أحد منهم في ذكر العتق، بل جزموا بنقل الإفتاء بالعتق عمن ذكر فيه من الصحابة؛ حتى صرح بصحة ذلك من لا يقول به: كابن حزم، وثبتَّه من لا يقول به: كابن جرير الطبري. الثاني: أنه إذا رُويَ الأثر بهذه الأسانيد الثابتة التي هي من أجلِّ شروط البخاري ومسلم، مع تعدد الطرق وشهرة الرجال بالصدق والدين، بل والعلم والفقه؛ فيكف يجوز أن يتوقف فيه لمجرد كون المرأة المستفتية لم تُعلم قبيلتها؟! أو لكون أبا رافع لم يعلم مولاه إِنْ قُدِّرَ ذلك؟! أو لكون بعض _________ (1) كلمة غير مقروءة، ولعلها ما أثبتُّ. (2) شرح العلل لابن رجب (1/ 418). (3) «التحقيق» (40/ أ).

(1/333)


الرواة ظنها أنصارية وبعضهم ظنها قرشية؟! فإنَّ مثل هذا لا يضر لا جهله ولا الاختلاف فيه في الرواية، ثم جمهور الثقات الأثبات لم يذكروا قبيلتها البتة، فلم يذكروا أنها أنصارية ولا أنها قرابة لعمر، بل ذكروا اسمها ليلى بنت العجماء، وفيهم من لم يُسَمِّهَا. فلو قُدِّرَ طرح رواية أولئك لم يكن هذا قادحًا في رواية هؤلاء الثقات الأثبات، حتى إنه لا يجوز القدح بمثل ذلك في الشهادة، فلو شهد عدد من الشهود وقُدِّرَ أنَّ بعضهم اختلفوا اختلافًا يقدح في شهادتهم، لم يقدح ذلك في شهادة من لم يختلفوا ولم يذكروا ما يقدح في شهادتهم؛ مع العلم بأنَّ باب الرواية أوسع من باب الشهادة (1). الثالث: أنه إِنْ كان هذا الاختلاف موجبًا للتوقف في حديث ليلى بنت العجماء؛ فالتوقف في حديث عثمان بن (2) حاضر بالاختلاف الكثير الذي فيه، وبمخالفته ما رواه الثقات الأثبات عن الصحابة = أولى وأحرى، بل لا يَستريب عالم أنَّ القوادح في حديث عثمان بن حاضر أعظمُ بكثيرٍ من القوادح في حديث ليلى [88/ أ] بنت العجماء. وحينئذٍ؛ فقول القائل: (إِنَّ الأئمة لم يعتنوا بالآثار كما اعتنوا بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر عللها والاختلاف فيها وتحقيق الصواب فيه، لأنهم رأوا أَنَّ _________ (1) منهاج السنة (4/ 198). ولابن القيم - رحمه الله - في الطرق الحكمية (1/ 445) اعتراض على إطلاق هذه العبارة. (2) ألحق الناسخ (أبي) في الهامش، وقد تقدم نقل الخلاف في اسمه (ص 257).

(1/334)


الخطب في نقل مذاهب العلماء يسير) (1) = هو حجةٌ عليه في احتجاجه بحديث عثمان بن (2) حاضر على مذاهب الصحابة، مع كثرة اضطرابه وعدم معرفة شهرة رواته بالعلم والضبط، ومخالفته لما هو الثابت المعروف عن الصحابة، واتفاق أهل العلم على عدم اتباعه؛ فما ذكره بكونه طعنًا في حديث عثمان بن حاضر أولى من كونه طعنًا في حديث ليلى، وغاية ما يقال: إنه لم يَثبت لا هذا ولا هذا، فلا يثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم - في الحلف بالعتق شيء، لا إلزام ولا القول بالتكفير، كما لم يثبت ذلك عنهم في الحلف بالطلاق. وأما التابعون: فقد ثبت عنهم النزاع في الحلف بالعتق من وجوهٍ ثابتة ــ كما تقدم ــ، وحينئذٍ؛ فثبت النزاع في العتق وهو المطلوب؛ إذ (3) المقصود أنَّ الأمة لم تتفق على أن العتق المحلوف به يلزم؛ فمتى ثبت النزاع عن الصحابة أو عن التابعين إذا لم يكن عن الصحابة في ذلك شيءٌ= حصل المقصود. وإذا لم يكن إجماعٌ؛ فما تنازع فيه المسلمون وَجَبَ رَدُّهُ إلى الله والرسول. وأيضًا؛ فما ذكره من عدم الاعتناء بنقل الآثار لأنهم رأوا أن الخطب في نقل مذاهب العلماء يسير، يَسُدُّ عليه طريق المعرفة بإجماع العلماء، فإنه إذا كان قول الواحد والاثنين والثلاثة من الصحابة لم يثبت عنده مع نقله بهذه الطرق المشهورة المتصلة؛ فكيف يَثبت عنده قول كل واحد من علماء الصحابة أو علماء التابعين أو تابعي التابعين مع أنه ليس معه نقل بسند عن جمهورهم؛ بل غاية ما عنده نقل عن بعضهم، وأكثر النقل هو دون هذا النقل في الصحة، وما _________ (1) «التحقيق» (40/ أ). (2) في الأصل زيادة: (أبي)، وقد تقدم التنبيه على ذلك في (ص 257). (3) في الأصل: (إذًا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/335)


كان أقوى من هذا فغايته أنْ يثبت النقل فيه عن عدد من أهل العلم، ليس معه نقل عن كل واحدٍ واحد، والعلماء عنده لم يعتنوا بنقل مذاهب السلف. فإذا كان معرفة أقوال بعضهم مما يتوقف فيه عنده [فلماذا] (1) لا يتوقف في نقل مذاهبهم كلهم مع انتفاء النقل المسند في ذلك، بل [والنقل] (2) المرسل؟! فإنه ليس أحدٌ ممن ينقل الإجماع يسمي كلَّ واحدٍ من علماء الصحابة والتابعين [88/ ب] [ ... ] (3) فأما أن يجعل قوله ما رواه عثمان بن حاضر فوق ما رواه [مَنْ هو أوثقُ] (4) منه = فهذا لا يقوله عالم. فتبين أنَّ ما قاله العلماء قاطبة [موافق للذي] (5) تضمنه ذكر الحلف بالعتق في حديث ليلى بنت العجماء هو إفتاؤها (6) بالكفارة في قولها (7): إنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر، وأَنَّ من أثبت هذه (8) الرواية وزعم أنهم لم يفتوها بالكفارة إلا في غير العتق، فهو مع مخالفته (9) لعلماء المسلمين المتفقين على خلاف هذا = قولُهُ ظاهرُ الخطأ. _________ (1) طمس مقدار كلمة تقريبًا، قدرته بما أثبتُّ. (2) طمس مقدار كلمة تقريبًا، ولعلها ما أثبتُّ. (3) طمس مقدار كلمة تقريبًا، ولم يظهر منها إلا حرفان هما (ان). (4) لم يظهر من العبارة المثبتة بين معقوفتين إلا آخر حرفين من الكلمة الأخيرة، وبما أثبتُّ تستقيم العبارة. (5) العبارة غير واضحة، وما أثبته تقديرًا. (6) العبارة غير واضحة، وبما أثبت يستقيم الكلام. (7) في الأصل: (قوله)، ولعل الصواب ما أثبت. (8) غير واضحة، وكذا قرأتها. (9) لم تظهر إلا الأحرف الأخيرة من الكلمة.

(1/336)


وهذا ــ أيضًا ــ مما يُظهر خطأ التأويل الآخر، وهو قوله: (يحتمل أنه لم يكن لها مملوك حين الحلف) (1)، فإنَّ هذا مع مخالفته لمدلول الحديث، هو خلاف ما اتفق العلماء على فهمه من هذا الحديث، وخلاف ما نقلوه عن هؤلاء الصحابة. الجواب الرابع (2): أنَّ المستفتية خاطبها واحد بعد واحد من الصحابة، وهي تخبر كل واحد منهم بيمينها، وتقول: قلتُ: إنْ لم أفعل كذا فكل مملوك لي حر، ولم يسألها أحد منهم: هل لك مملوك أم ليس لك مملوك؟ ولا قال لها: كَفِّرِي يمينك إلا العتق، وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يُنَزَّلُ منزلة العموم في المقال (3). _________ (1) «التحقيق» (40/ ب). (2) في الأصل: (الثالث) وهو خطأ؛ فالجواب الثالث تقدم في (ص 334)؛ وأكتفي بالتنبيه هنا على تعديل الأجوبة التالية. (3) مجموع الفتاوى (21/ 496، 515، 527، 572)، الفتاوى الكبرى (1/ 248، 395، 443) (6/ 301)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 16)، شرح عمدة الفقه (2/ 292). وهذه القاعدة نسبها ابن تيمية وغيره إلى الشافعي - رحمه الله - وليست في شيءٍ من كتبه؛ ولذا قال السبكي في الأشباه والنظائر (2/ 139): وهذا وإنْ لم أجده مسطورًا في نصوصه، فقد نقله عنه لسان مذهبه؛ بل لسان الشريعة على الحقيقة أبو المعالي - رضي الله عنه -. اهـ وهو أقدم من نقلها عنه على ما وقفتُ عليه. انظر: البرهان (1/ 237)، القواطع في أصول الفقه (1/ 348)، دلالات الألفاظ عند شيخ الإسلام (2/ 603). وهذه القاعدة لم يختص بها الشافعية بل عمل بها الحنابلة أيضًا؛ فقد قال المجد في المسوَّدة (1/ 263): وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد - رحمه الله -؛ لأنه احتجَّ في مواضع كثيرة بمثل ذلك، وكذلك أصحابنا؛ وأمثلة ذلك كثيرة.

(1/337)


وهذا لا يناقض قولنا: حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال (1)، بل كلاهما حق كما قاله العلماء (2)؛ فالأول إذا سأل سائل بكلمة مطلقًا فأطلق له الجواب كان السؤال كالمعاد في الجواب، فيعم صوره إذا لم يكن هناك ما يدل على أنه عرف اختصاص السؤال ببعض الوقائع؛ كالذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إِنِّي أحرمت بعمرة، وعليَّ جُبَّة، وأنا متضمخ بخلوق. فقال: «انزع عنك الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجك» (3). فقوله: أحرمتُ بالعمرة؛ مطلق لا يخص الإحرام دون الميقات وقبله، وقوله: وعليَّ جُبَّةٌ؛ مطلق لا يخصُّ جبة بيضاء من صفراء، فكان ترك استفصال النبي - صلى الله عليه وسلم - له في حكاية حاله حين سأله مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة قوله: مَنْ أحرم بعمرة وعليه جبة فلينزعها، سواء أحرم قبل الميقات أو بعده، وعلى أيِّ لونٍ كانت الجبة (4). [89/ أ] وكذلك الأعرابي لما سأله فقال: إني وقعت على أهلي في _________ (1) لم أجد ابن تيمية - رحمه الله - ذكر هذه القاعدة في كتبه الأخرى، إلا أنَّ هذه القاعدة منسوبة للشافعي - رحمه الله - أيضًا؛ كما في مراجع الحاشية السابقة. (2) الفروق للقرافي مع حاشية ابن الشاط (2/ 159)، الأشباه والنظائر للسبكي (2/ 145)، نهاية السول (2/ 74)، البحر المحيط في أصول الفقه (3/ 152)، التحبير شرح التحرير (5/ 2387)، شرح الكوكب المنير (3/ 172)، حاشية العطار على جمع الجوامع (2/ 25). (3) أخرجه البخاري (1697)، ومسلم (1180) من حديث يعلى بن أمية - رضي الله عنه -. (4) مجموع الفتاوى (19/ 15، 286) (21/ 204) (22/ 328)، الفتاوى الكبرى (1/ 156، 333) (2/ 159)، درء التعارض (7/ 338 وما بعدها).

(1/338)


رمضان [فأمره] (1) بالكفارة (2)، ولم يسأله هل أنزلت أم لم تنزل= دَلَّ على عموم الجواب (3). [وكذلك لمَّا] (4) سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: «ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم» (5)، [ولم] (6) يسأل هل كان جامدًا أو مائعًا = دَلَّ على عموم الجواب (7)، لا سيما مع أن الغالب بالمدينة أنه يكون مائعًا، ورواية من روى: «إنْ كان جامدًا ... وإنْ كان مائعًا ... » (8)؛ ضعيفة ــ كما قد _________ (1) بياض مقدار كلمة تقريبًا تقديرها ما أثبتُّ. (2) أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) مجموع الفتاوى (19/ 15) (22/ 328)، الفتاوى الكبرى (2/ 159)، درء التعارض (7/ 338 وما بعدها)، الصارم المسلول (2/ 337). (4) كلمة مطموسة تقديرها ما أثبتُّ. (5) أخرجه البخاري (235) من حديث ميمونة - رضي الله عنها -. (6) بياض مقدار كلمة، وتقديرها ما أثبتُّ. (7) مجموع الفتاوى (19/ 16، 285 وما بعدها) (21/ 515، 517، 527) (22/ 327، 330)، الفتاوى الكبرى (1/ 156) (2/ 158 - 161)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 16)، درء التعارض (7/ 338 وما بعدها)، نقد مراتب الإجماع (ص 299). (8) أخرجها أبو داود (3842)، والنسائي (4260) من حديث ميمونة - رضي الله عنها -. ولفظه: «إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه». وجاء من حديث أبي هريرة، وابن عمر - رضي الله عنهم -. وقال الترمذي: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: وحديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيه أنه سئل عنه فقال: «إذا كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإنْ كان مائعًا فلا تقربوه» هذا خطأ؛ أخطأ فيه معمر. قال: والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة. انظر: العلل لابن أبي حاتم (4/ 392)، العلل للدارقطني (7/ 285)، الضعفاء للعقيلي (2/ 840)، البدر المنير (5/ 23) (6/ 444)، السلسلة الضعيفة (4/ 40).

(1/339)


بُيِّنَ في موضع آخر ــ (1). وأما تطريق الاحتمال إلى حكاية الأحوال فهي ما يحكى من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل فعلًا يحتمل وجهين، مثلما روى بلال أنه صلى في البيت ركعتين (2)، والمصلي تارة يصلي فرضًا وتارة يصلي نفلًا، والصلاة الواحدة لا تكون نفلًا وفرضًا، فإنَّ الفعل لا يعم كما يعم القول، فلا يمكن أن يقال: كانت الركعتان فرضًا وكانتا نفلًا. فهؤلاء الصحابة لما ذكرت يمينها وأنها قالت: إنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك فمالي هدي وكل مملوك لي حر وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية؛ وأمرها كل واحد بكفارة يمينها مطلقًا، وهي يمين واحدة حلفت بها على فعل واحد بهذه اللوازم، ولم يسألها أحد منهم هل لك مملوك أم لا؟ = كان هذا مما يدل دلالة من أقوى الدلالات؛ بل دلالة قطعية على أنهم أفتوها بالكفارة في الجميع، وسواء كان لها مملوك أم لم يكن. _________ (1) مجموع الفتاوى (20/ 490 - 494، 515، 519)، الفتاوى الكبرى (1/ 244 وما بعدها، 441 وما بعدها)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 15)، جامع المسائل (3/ 339). (2) أخرجه البخاري (1114) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وهو في مسلم (1329) دون ذكر الركعتين.

(1/340)


الجواب [الخامس]: أن هذه مولاة أبي رافع، وأبو رافع كان مملوكها، وليس في الحديث أنها كانت قد أعتقته. [الجواب السادس]: أن من ليس له مملوك لا يقول في يمينه: وكل مملوك لي حر؛ ولا جرت في عادة الناس بذلك، كما أن من ليس له امرأة لا يقول في يمينه: كل امرأة لي طالق. ومن ليس له ماشية لا يقول: وكل بعير لي هدي. ومن ليس له دار لا يقول: كل دار لي وقف. ومعلومٌ أَنَّ المرجع في دلالة الألفاظ واللغات إلى عادة الناس التي اعتقدوها في خطابهم فإذا حملنا كلام المتكلم على ما لم تجر عادة مثله بإرادته = فسد الاستدلال باللغات (1)، وانسدَّ باب البيان الذي امتن الله ــ عزو جل ــ به على عباده حيث (2) [95/ ب] [يقول] (3): {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ} (4) [الرحمن: 1 - 3]. فصلٌ وأما (5) قول القائل: (أو يكون المُفْتُون تركوا ذكر العتق لها لعلمها به، وذكروا لها حكم اليمين المقرونة (6) به وهو التكفير) (7). _________ (1) الفتاوى الكبرى (6/ 521)، منهاج السنة (2/ 551). (2) من هنا يبدأ الخلل في ترتيب بعض الورقات في الأصل. (3) طمس مقدار كلمة، يحتمل ما أثبتُّ. (4) كذا في الأصل، والشاهد هو الآية التالية: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. (5) غير واضحة في الأصل، وتحتمل ما أثبتُّ. (6) في الأصل: (المعروفة)، والمثبت من «التحقيق». (7) «التحقيق» (40/ ب).

(1/341)


فمثل هذا الكلام وأمثاله لولا أن المعترض سطَّره لم يكن بنا حاجة إلى أن نذكره ونجيب عنه، فإنه وأمثاله من كلامه مما يظهر فيه أنه من جنس كلام القرامطة، الذين يحرفون كلام المتكلم عن مواضعه، ويحملونه على ما لم يخطر ببال أحد من المستمعين أنه أراده! فإنَّ هذه المرأة كانت تعتقد أنه يلزمها ما حلفت به من الهدي والعتق والكفر، ولهذا جعلت ذلك عذرًا لها في الإصرار على اليمين، وصارت تقول لكل واحد من أولئك السادة: حلفتُ بالهدي والعتاق، فيقولون: وإنْ كنتِ حلفت بالهدي والعتاق، وتستعظم أن تحنث في يمينها لِظَنِّهَا لزوم تلك الأمور التي عَلَّقَتْهَا بالشرط؛ وتقول لابن عمر: بأبي أنت وبأبي أبوك! قلت: كذا وكذا، تُظْهِرُ له عظيم ما جعلته لازمًا لها من الهدي والعتق والكفر وغير ذلك، ثم مع هذا يقولون لها: كَفِّرِي يمينك، لا يأمرونها بغير هذا. أفتظنُّ أنَّ هذه كانت تُفَرِّق بين الحلف بالعتق وغيره، وترى العتق يلزم والهدي والكفر لا يلزم؟! أم كان الجميع عندها سواء في اللزوم، لأنَّ ذلك موجب عقدها؟ وهي لم تكن تَعرف أَنَّ الله جعل لهذا العقد تحلة، فأفتاها الصحابة بالكفارة وحدها ولم يأمروها بشيء غير ذلك، ولا قالوا لها إنه يعتق كل ما في ملكك من الرقيق مع الكفارة. فلو قال بعض الناس: كان الأمر بالكفارة في الحلف بالكفر وحده، والباقي لازم ــ كما يقوله بعض أصحاب أبي حنيفة ــ كان قوله من جنس قول من قال: بل الكفارة في النذرِ، والعتقُ لازم؛ وكلاهما باطل قطعًا، وبطلانه أظهر من بطلان قول من يقول: بل الكفارة كانت في العتق والهدي، وأما الكفر؛ فلا كفارة فيه.

(1/342)


وأما من قال: الكفارة عن النذر، وأما العتق فلازم، والكفر لا شيء فيه ــ كما يقوله من يقوله من نحو المعترض ــ [96/ أ] فمعلومٌ أنَّ قول هؤلاء من أبعد الأقوال عن أقوال هؤلاء [الصحابة] (1)؛ فإنهم ــ رضوان الله عليهم ــ أفتوا بالكفارة في الحلف بهذه [الأيمان] (2) الثلاثة أو برابع معها وخامس، فأفتاها الصحابة في الحلف بذلك بكفارة يمين، وقالوا: كَفِّرِي يمينك. فقول القائل: إِنَّ الكفارة عن بعض ما حلفت به، وبعض ذلك يلزمها ولا يؤثر فيه التكفير، وبعض ذلك لا يلزم ولا حاجة فيه إلى تكفير = مما يُعلم يقينًا أن أولئك الصحابة لم يفتوا به، بل ولا نقل عن أحد من الصحابة أنه أفتى به، بل هذا القول وأمثاله مخالف لكل ما نقل عن الصحابة في التعليق الذي يقصد به اليمين، مع مخالفته لدلالة الكتاب والسنة والقياس الجلي. * * * * _________ (1) بياض في المخطوط، وتقديره ما أثبتُّ. (2) طمس مقدار كلمة، وما أثبته تقديرًا.

(1/343)


فصلٌ قال المعترض: (ثم على تقدير ألا يكون شيء من الاحتمالات المذكورة، وأنهم كانوا يعتقدون التكفير في العتق، لا يلزم منه اعتقادهم ذلك في الطلاق، لأنَّ العتق قربة (1) والحالف لم يقصد التقرب بعتقه، بخلاف الطلاق فإنه ليس بقربة فلا يشترط فيه ذلك). قال: (وهذا الفرق وإن كنا لا نعتقده إلا أنه لا يمتنع أَنَّ بعض الصحابة يعتقده؛ فلا يجوز أنْ نلزمهم قياس ما يحتمل أنهم يُفَرِّقُونَ فيه) (2). والجواب من وجوه: أحدها: إنا نحن في الجواب الذي اعترض عليه لم نَذكر عن الصحابة في الطلاق نقلًا؛ فهذا الكلام لا يستحق الجواب. الثاني: أن يقال: لا يجوز لأحد أن يحكي عن الصحابة قولًا يَحكم فيه بخطئهم من غير أن يكون في كلامهم ما يدل على ذلك. وحينئذٍ؛ فإذا جعل قول هؤلاء الصحابة هو الفرق بين الطلاق والعتاق، مع الحكم بأن ذلك خطأ = كان هذا القائل قد قَوَّلَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخطأ الباطل عنده ما لم يقولوه، ولا نقله أحد عنهم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. _________ (1) من قوله: «لا يلزم منه اعتقادهم ... » إلى هنا ليس في «التحقيق». (2) «التحقيق» (40/ ب).

(1/344)


ومعلومٌ أَنَّ مثل هذا لو [93/ ب] فَعَلَهُ (1) الإنسان بمن هو دون الصحابة = لكان فيه من القول بلا علم وتقويل الأكابر من الخطأ ما لم يقولوه (2) ما فيه من حَقِّ الله وحقهم، وما يتصل بذلك من الكلام في الدين بالباطل ما يكون أقل أحواله: أن يكون مردودًا على قائله. الوجه الثالث: أن هذا القول لم يُعرف عن أحدٍ من المسلمين قبل أبي ثور، ولا نقله أَحَدٌ عن أَحَدٍ قبل أبي ثور، ولولا أَنَّ أبا ثور قاله لم يعرف به قائل في الإسلام، فلا يعرف في الإسلام من جعل في الحلف بالنذر والعتق: الكفارة، وألزم الحالف بالطلاقِ الطلاقَ إلا أبا ثور، ولو كان هذا مما يعرف عن أحد من الصحابة أو يفهم من كلامهم = لكان هذا مما يتوفر نقل العلماء له عنهم، ولكان نقل ذلك عنهم أولى من نقله عن أبي ثور. وإذا قيل: هذا النقل تركب من نقل الإجماع على الطلاق والنزاع في العتاق. قيل: أول من حكى هذا الإجماع من العلماء هو أبو ثور، وأبو ثور قد صَرَّحَ عن نفسه بأنَّ مرادي في الإجماع الذي أحكيه: عدمُ العلمِ بالمنازع؛ فليس معه عن هؤلاء الصحابة إلا عَدَمُ علمِهِ بقولهم في الطلاق (3). وإذا لم أعلم قول قائل في مسألة وقد أفتى في نظيرها = لم يجز أنْ أجزم عنه بأنَّ فتياه في نظيرها مخالف فتياه فيها، بل إما أنْ أجعل قوله في _________ (1) كلمة غير واضحة، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام. (2) في الأصل: (يقولونه)، والجادة ما أثبتُّ. (3) انظر ما تقدم (ص 10، 136 وما بعدها)، وما سيأتي (ص 417).

(1/345)


نظيرها كقوله فيها، أو أسكت عن التخريج، فأما أَنْ أجعل قوله في نظيرها مخالفًا لقوله فيها، ثم أحكم بخطئه = فهذا لا يفعله أحد من العلماء بأحد ممن هو دون الصحابة فضلًا عن الصحابة، ولا يُجَوِّزُ مثلَ هذا مَنْ يدري ما يقول، وما علمتُ عالمًا فعل هذا بالصحابة. فإنَّ أبا ثور وإن ظن الإجماع، فهو يقول بالفرق بين الطلاق والعتق؛ فعلى قول أبي ثور: يكون هؤلاء الصحابة فَرَّقُوا بين الطلاق والعتق، والفرق صحيح، [و] (1) هو حكم الله ــ عز وجل ــ ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا يقول أبو ثور: إنهم فرقوا وأخطأوا في الفرق. ومن جعل هذا الفرق باطلًا وسَوَّى بين العتق والطلاق إما في اللزوم وإما في عدمه كسائر العلماء من الأئمة كأبي حنيفة ومالك [94/ أ] والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل، بل داود [بن علي] (2) وغيره=لم يحك أَحَدٌ من هؤلاء إجماعًا لا على وقوع الطلاق ولا [العتاق] (3). والذين جاؤوا بعد أبي ثور مثل: محمد بن نصر وابن عبد البر نقلوا الإجماع الذي ظَنَّهُ أبو ثور مع تسويتهم بين الطلاق والعتاق، ومع نقلهم لأقوال الصحابة الذين أفتوا في الحلف بالعتق بكفارة يمين؛ فهؤلاء يلزمهم أَنْ يُخَطِّئُوا الصحابة، وأَنْ يُقَوِّلُوهم ما لم يقولوه، ويقولوا مع ذلك إنهم أخطأوا فيه، ولا علم عندهم بذلك إلا تقليد أبي ثور في إجماعٍ ليس عنده فيه إلا عدم العلم. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) كلمة غير واضحة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ. (3) الكلمة غير واضحة، ولعل ما أثبتُّ هو الصواب.

(1/346)


ومن جزم بخطأ الصحابة ولا مستند له إلا عدم علمه كان هو أحق بالخطأ من الصحابة، ولا ريب أن من ظن إجماعًا في هذه المسألة فهو مخطئ قطعًا، لا سيما من ظن إجماعًا على وقوع الطلاق، فإن النزاع في وقوع الطلاق معروف عن غير واحد من العلماء قديمًا وحديثًا؛ منهم من يقول الطلاق المعلَّق بالصفة لا يقع بحال، ومنهم مَنْ يُفَرِّق بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي يقصد به الإيقاع؛ وعلى هذا القول فإذا قصد به اليمين لم يلزمه، وهل عليه كفارة؟ على قولين؛ فهذه ثلاثة أقوال أخر للمسلمين وهي أقوال [معروفة] (1)، فخطأ من لم يعلم النزاع معلوم قطعًا. وأما الصحابة الذين خَطَّأهم هؤلاء فلم يقولوا قولًا يظهر فيه خطؤهم، بل الكتاب والسنة والاعتبار يدل على صواب أقوال الصحابة - رضي الله عنهم -، فكيف يحكم بخطئهم دون خطأ الذين قد علمنا قطعًا أن في نقلهم خطأ عليهم، بل وعلى غيرهم من الصحابة والتابعين؟! فإنه من لم يُنقل عنه من الصحابة فتيا لا بالتكفير ولا باللزوم لا يجوز أن يقول: هو كان يعتقد لزوم الطلاق أو الطلاق المحلوف به؛ فكيف إذا كان مِنْ قوله: أَنَّ العتقَ المحلوف به لا يلزم بل يجزئ فيه كفارة يمين؟ كيف يجوز مع ذلك أن يحكم عليه أنه [اعتقد] (2) فرقًا يعلم أنه خطأ وهو لم يفرق؟ الوجه الرابع: أن نقل المذاهب بالاستنباط والاستدلال (3). (4) _________ (1) إضافة يستقيم بها الكلام. (2) إضافة يستقيم بها الكلام إن شاء الله. (3) انظر كلام المؤلف الآتي حول نقل المذاهب (ص 382 - 383، 397، 414 - 415). (4) تكملة هذه الورقة لم أعثر عليه.

(1/347)


[89/ ب] [ ... ] (1) ابن عباس. فقال: إني نذرت لأنحرنَّ نفسي. فقال ابن عباس: {[لَقَدْ كَانَ] (2) لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ثم تلى ابن عباس: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]. قال البيهقي: هذا يدل على أنه أراد برسول الله إبراهيم. قال (3): قد روي عن ابن عباس فيمن نذر أن يذبح نفسه فَتْوى أخرى، وروى بإسناده الثابت عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس قال: أتاه رجل، فقال: إني نذرت أن أنحر نفسي. قال: وعند ابن عباس رجل يريد أن يخرج إلى الجهاد ومعه أبواه، وابن عباس مشتغل به يقول له: أقم مع أبويك. قال: فجعل الرجل يقول: إني نذرت أَنْ أنحر نفسي. فقال له ابن عباس: ما أصنع بك؟! اذهب فانحر نفسك! فلما فرغ ابن عباس من الرجل وأبويه، قال: عليَّ بالرجل. قال: فذهبوا فوجدوه قد بَرَكَ على ركبتيه يريد أن ينحر نفسه، فجاؤوا به إلى ابن عباس فقال له: ويحك! لقد أردت أنْ تُحِلَّ ثلاث خصال: أَنْ تُحِلَّ بلدًا حرامًا، وتقطع رحمًا حرامًا ــ نفسُك أقرب الأرحام إليك ــ، وأن تسفك دمًا حرامًا. أتجد مائة من _________ (1) مقدار كلمة أو كلمتين غير واضحة. وهذا الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 196 - 197/ ح 20108) من طريقين عن ابن وهب قال: حدثني الليث بن سعد قال: قال يحيى بن سعيد: وزعم ابن جريج أنَّ عطاء بن أبي رباح حدَّثَهُ أنَّ رجلًا أتى ابن عباس. وقبل هذا الحديث ساق البيهقي جملةً من الآثار عن ابن عباس. (2) ما بين المعكوفتين غير واضحة في الأصل. (3) في السنن الكبير (20/ 197).

(1/348)


الإبل؟ قال: نعم. قال: اذهب فانحر في كل عام ثلثًا، لا يَفْسُدِ اللحمُ. وفي رواية: ابن نمير (1) عن الأعمش. قال كريب: فترصدته (2) عامين، فأما الثالث فلا أدري ما فعل. قال (3): ورواه الثوري، عن الأعمش بمعناه، وزاد: قال الأعمش: فبلغني عن ابن عباس أنه قال: لو اعتلَّ عليَّ (4) لَأَمَرْتُهُ بكبشٍ. قال البيهقي (5): وقد روي من وجه آخر عن ابن عباس: أنه أمر في هذه المسألة بكبش. وروى البيهقي من حديث إسحاق الأزرق، حدثنا ابن عون، حدثني رجل أَنَّ رجلًا سأل ابن عمر عن رجل نذر ألا يكلم أخاه فإن كلمه فهو ينحر نفسه بين المقام والركن في أيام التشريق. فقال: يا ابن أخي أبلغ من وراءك أنه لا نذر في معصية الله، لو نذر ألا يصوم رمضان (6) فصامه كان خيرًا له، ولو نذر ألا يصلي فصلى كان خيرًا له؛ مُرْ صاحبك فليكفر عن يمينه، وليكلم أخاه (7). _________ (1) في الأصل: (ابن نمر)، والمثبت من السنن. (2) في السنن: فشهدته. (3) (20/ 198). (4) أي: اعتذر عن نحر الإبل وهو قادر. انظر: القاموس المحيط (4/ 21). (5) (20/ 198). (6) في الأصل: (ومضى)، والمثبت من السنن. (7) أخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 199/ خ 20111)، وفي السنن الصغير (4/ 115). وقال في السنن الكبير: هذا عن ابن عمر منقطع.

(1/349)


فهذه الآثار ثابتة عن ابن عباس باتفاق أهل العلم، وقد تبع ابن عباس جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. وقال مالك: من حلف فقال: أنا أنحر ابني إن فعلت كذا، فحنث فعليه كفارة يمين (1). [90/ أ] وقال مرة: إن كان نوى بذلك الهدي؛ عليه هدي، وإن كان لم [ينو فيها؛ لا] (2) شيء عليه، لا هدي ولا كفارة (3). وقال مرة: إن نذر ذلك عند مقام [إبراهيم] (4) فعليه هدي، وإن لم يقل عند مقام إبراهيم فكفارة يمين (5). وقال أبو حنيفة: من نذر ذبح ولده فعليه شاة (6)، وطائفة لم تتبعه، بل قالوا: لا شيء في ذلك، كالشافعي ويذكر هذا رواية عن أحمد، وظاهر مذهبه كما قال ابن عباس، لكن أفتى أحمد في غير موضع بكفارة يمين، كما روي عن ابن عباس من رواية القاسم (7)، وهو اختيار طائفة من أصحاب _________ (1) المدونة (1/ 576). (2) ما بين المعكوفتين غير واضح. (3) المدونة (1/ 576). (4) ما بين المعكوفتين غير واضح في الأصل. (5) المدونة (1/ 576). (6) اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (2/ 601)، الغرَّة المنيفة في تحقيق بعض مسائل أبي حنيفة (ص 186). (7) تقدم تخريجه في (ص 127، 163 - 164).

(1/350)


أحمد كأبي الخطاب وأبي محمد قالوا: لأنَّ هذا نذر معصية، ونذر المعصية فيه كفارة يمين في ظاهر مذهب أحمد، كما نقل عن الصحابة في ذلك، وأفتى في مواضع بكبش، كما نقل عطاء وعكرمة عن ابن عباس، وهو اختيار كثير من أصحابه: كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وطائفة من أصحابه كالخرقي وغيره قالوا عن أحمد فيمن حلف ينحر ولده روايتان: إحداهما يلزمه كفارة يمين، والأخرى يذبح كبشًا (1). لكن أكثر نصوص أحمد تُفرِّق بين أن يحلف بذلك وبين أن ينذر ذلك؛ وهو القول الرابع في مذهبه، وهذا مقتضى نصوصه بالجواب بكفارة يمين فيمن حلف بذلك، وبالكبش فيمن نذر ذلك، لأنَّ من أصله أن من حلف بالنذر الواجب فعليه كفارة يمين. فكيف إذا حلف بالنذر الذي لا يجب بعينه بل يجب بدله؟! ونظير هذا لو قال: إنْ فعلت كذا فعليَّ أنْ أصوم يوم العيد، فهنا تجزئه كفارة يمين ولا يحتاج إلى صوم لا نزاع فيه، فإنه لو قال: إِنْ فعلت كذا فلِلّه عليَّ أَنْ أصوم؛ أجزأته كفارة يمين، وكذلك لو قال: إِنْ فعلت كذا فلله عليَّ أَنْ أهدي بدنة أو مائة من الإبل؛ أجزأته كفارة يمين بلا خلاف في مذهبه، فكيف لا تجزئ هنا كفارة يمين؟! وأما إذا نذره على وجه التبرر يعتقد أن ذبح ابنه أو نفسه قربة يتقرب بها إلى الله، فهنا يكون الجواب بأنه يذبح كبشًا، كما قال ابن عباس ويقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وهو إبراهيم، فإنَّ _________ (1) مختصر الخرقي (ص 242)، شرح الزركشي (7/ 100)، الفروع (11/ 79).

(1/351)


الله يقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4]، وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - [94/ ب] لَمَّا أُمِرَ بذبح ابنه، ثم حرم عليه ذلك، فداه الله بِذَبْح كبش (1)، وجعل هذا بدلًا مما أوجبَ أولًا من ذبح الابن. والواجب بالنذر كالواجب بالشرع، إذا تعذر الأصل انتقل إلى البدل؛ كما لو نذر أن يصوم يومًا فأفطر لعذر فإنه يصوم يومًا مكانه، ولهذا إذا أبدل المنذور بخيرٍ منه أجزأه، كما لو نذر أن يصلي بالمسجد الأقصى فصلى في أحد المسجدين ــ المسجد الحرام، أو مسجد المدينة ــ أجزأه ذلك (2). ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما أنه يجوز إبدال الهدي والأضحية بخير منهما (3)؛ وهذا بخلاف تعيين الشارع، فإنه لا يعين الشيء إلا وهو أفضل من غيره، وأما الناذر فقد يُعَيِّنُ الشيءَ وغيرُهُ أفضل منه. ولهذا جاز أن يفعل عن الميت كل نذر لم يفعله حتى الاعتكاف والصلاة في أصح الروايتين عن أحمد، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل النذر كالدين الذي في ذمة الميت، والدين يقبل فيه قضاء الغير فالله أحق بالقضاء (4)، ويقبل فيه أداء خير منه، لكن الغير لا يفعل عنه العبادات البدنية إلا مع العجز، لأنه غير بدنه وليس بدن غيره أفضل؛ فصار كما إذا نَذَرَ عبادة فاضلة _________ (1) تقدم تخريجه (ص 348)، وقد جاء تفصيل قصته في سورة الصافات (الآية 100 - 109). (2) مجموع الفتاوى (31/ 242، 245، 252)، الفتاوى الكبرى (4/ 359). (3) مجموع الفتاوى (31/ 212، 232، 240، 252)، الفتاوى الكبرى (4/ 359 - 360) (5/ 433)، الاختيارات لابن عبد الهادي (ص 38). (4) أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

(1/352)


ليس له أن يبدل ذلك إلا إذا تعذر الأصل. ولذلك أفتى ابن عباس فيمن نذر أَنْ يطوف على أربع، فقال: يطوف طوافًا ليديه وطوافًا لرجليه (1)، واتبعه أحمد فإنه لما نذر أن يطوف على اليدين وليس ذلك بمشروع أمره أن يبدل ذلك بالطواف على رجلين. وقد روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أخت عقبة بن عامر: أَنْ تهدي هديًا لِمَا تعجز عنه من المشي في الحج. رواه أبو داود في سننه (2) من حديث همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أَنَّ أخت عقبة بن عامر نذرت أَنْ تمشي إلى البيت، ولأنها لا تطيق ذلك فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تركب وأَنْ تهدي هديًا. ورواه [ ... ] (3) حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أَنَّ عقبة بن عامر قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت. فقال: «إن الله غني عن نذر أختك؛ لتحج راكبة، وتهدي بدنة» (4). قال البيهقي (5) [95/ أ]: ورواه هشام الدستوائي ولم يذكر الهدي، بل _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (8/ 457)، ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 180). انظر: التحجيل (ص 562). (2) (3296). (3) بياض مقدار كلمة. (4) أخرجه أحمد (2134، 2139)، والدارمي (3/ 1506)، وصححه ابن الجارود (برقم 936)، وابن خزيمة (3045). وانظر: البدر المنير (9/ 507)، السلسلة الصحيحة (6/ 1037). (5) في السنن الكبير (20/ 218).

(1/353)


قال: «إنَّ الله غنيٌ [عن] (1) نذرها؛ فمرها فلتركب». وكذلك رُوِيَ عن خالد الحذاء، عن عكرمة دون ذكر الهدي. ورواه ابن أبي عروبة عن قتادة فأرسَلَهُ، ولم يذكر الهدي فيه. قال أبو داود (2): ورواه خالد عن عكرمة بمعناه، وقيل (3): عن عكرمة عن عقبة بن عامر دون ذكر الهدي فيه. قلتُ: وقد روي من طريق ثابتة، عن عكرمة، عن ابن عباس. وفيه ذكر الهدي؛ وقد رواه أحمد في المسند (4). ورواه البيهقي (5) بالإسناد الثابت من حديث إبراهيم بن طهمان، عن مَطَرٍ الورَّاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إنَّ أختَ عقبة نذرت أَنْ تَحُجَّ ماشية، وإنها لا تُطيق ذلك [فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لغنيٌ عن مشي أختك؛ فلتركب، ولتُهْدِ بدنة»] (6). _________ (1) غير واضحة في الأصل. (2) (3297) ونصُّهُ في السنن: رواه سعيد بن أبي عروبة نحوه. وخالد عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ثم قال (ح 3298) بعد أن ساق إسناده عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة أنَّ أخت عقبة بن عامر بمعنى هشام، ولم يذكر الهدي. وقال: «مُرْ أختك فلتركب». قال أبو داود: رواه خالد عن عكرمة بمعنى هشام. (3) تحتمل في الأصل (وفيه)؛ والصواب ما هو مثبت لموافقته لِمَا في السنن الكبير (20/ 219)، وابن تيمية هنا ينقل من سنن البيهقي حتى ما نقله من كلام أبي داود. (4) (4/ 38). (5) في السنن الكبير (20/ 217/ ح 20140). (6) ما بين المعقوفتين في الأصل بياض مقدار كلمتين، والمثبت من السنن.

(1/354)


ولفظ أحمد عن [قتادة، عن عكرمة] (1) عن ابن عباس، أنَّ عقبة بن عامر سألَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ أخته نذرت أنْ تمشي إلى البيت، وَشَكَى ضعفها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله غنيٌ عن نَذْرِ أختك، فلتركب ولتُهْدِ بدنه». وروى ــ أيضًا ــ (2) من طريق ابن عباس في مثل ذلك الأمر بالكفارة. وروى ــ أيضًا ــ [دون] (3) ذكر الهدي: أحمدُ وأبو داود (4) من حديث شريك، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس قال: جاءت امرأةٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! إنَّ أُختي نذرت أنْ تحجَّ ماشيةً. فقال: «إنَّ الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، لِتَخرج راكبةً، ولتكفِّر يمينها». وقال البيهقي (5): تفرد به شريك. وروى (6) من حديث عقبة بن عامر ــ ولفظه في الصحيحين (7) ــ عن عقبة بن عامر قال: نَذَرَت أختي أنْ تمشي إلى بيتِ الله، فأمرتني أن أستفتي لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته. فقال: «لتمشِ ولتركب». _________ (1) مقدار كلمتين أو ثلاث لم أستطع قراءتها، والمثبت من المسند (2134، 2139). (2) (5/ 34/ ح 2828). (3) إضافة يقتضيها السياق. (4) مسند الإمام أحمد (5/ 34)، والسنن لأبي داود (3295)، وأبو يعلى (4/ 331). وصححه ابن حبان (10/ 229)، والحاكم (4/ 335) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (5) السنن الكبير (20/ 219/ ح 20146). (6) أي: البيهقي في السنن الكبرى (20/ 220/ح 20147). (7) البخاري (1866)، ومسلم (1644).

(1/355)


وفي رواية لمسلم جاء فيه: غير مختمرة (1). وفي رواية لأحمد (2): نذرت أختي أنْ تمشي إلى الكعبة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لغنيٌ عن مشيها؛ لتركب، ولتهد بدنة». وفي رواية لأهل السنن (3): أنَّ أخته نذرت أنْ تمشي ــ جاء فيه ــ غير مختمرة. وفي لفظ (4): أنْ تحجَّ لله ماشيةً غير مختمرة، فَسَأَلَ النبي ــ صلى الله [90/ ب] عليه وسلم ــ، فقال: «إنَّ الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا؛ مُرْهَا فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه من حديث يحيى بن سعيد، عن عبيد الله (5) بن [زحر] (6)، عن أبي سعيد الرُّعَيْنِي، عن عبد الله بن مالك، عن عقبة بن عامر الجهني. وقد اختلف الناس في حديث عقبة وفي حكمه؛ منهم مَنْ ثَبَّتَ ذكر [كفارة] (7) اليمين دون الهدي، ومنهم من عكس، ومنهم من ضعفها. _________ (1) لم أجد هذه الرواية في مسلم، وسيأتي بيان مَن أخرجها. (2) (29/ 331/ ح 17793). (3) أبو داود (3293)، الترمذي (1544)، النسائي (3815)، ابن ماجه (2134). (4) ذِكْرُ (الحج) عند أحمد وأبي داود والترمذي. وبلفظ (البيت) عند أحمد والترمذي. (5) في الأصل: (عبد الله)؛ والمثبت من السنن الكبير. (6) ما بين المعقوفتين بياض في الأصل، والمثبت من السنن الكبير. (7) إضافة يقتضيها السياق.

(1/356)


قال البخاري (1): لا يصح فيه ذكر الهدي. وهذا أشهر الروايتين عن أحمد، اختارها أكثر أصحابه كالخرقي وغيره، أوجب فيمن نذر المشي إلى مكة وعجز عنه= كفارة يمين مع الركوب. والقول بترجيح (2) رواية من ذكر الهدي هو إحدى الروايتين عن أحمد وأبي حنيفة، يَلْزَمُهُ دمٌ وهو قول الشافعي، وأفتى به عطاء وهو قول مالك وأبي حنيفة. وأبو حنيفة يقول: عليه هديٌ سواء عجز [عن] (3) المشي أو قدر عليه، وأقلُّ الهدي شاة، وهذا مأثورٌ عن ابن عباس نفسه أنه أفتى بالهدي، وهذا يؤيد روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والقول الثالث: تضعيف الروايتين جميعًا، وأنه لا يلزمه مع العجز شيء، وهو القول الثاني للشافعي. قال: لا يلزمه مع العجز كفارة بحال إلا أن يكون النذر مشيًا إلى بيت الله الحرام، فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان، وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء؛ وحجةُ هذا: أَنَّ ذكر البدنة والكفارة ليس في واحد من الصحيحين، بل في الصحيحين (4) ــ أيضًا ــ عن ثابت [عن أنس] (5). قال: مَرَّ شيخٌ كبيرٌ يُهادَى بين ابنيه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال هذا؟». قالوا: نذر يا رسول _________ (1) التاريخ الكبير (5/ 204). (2) في الأصل: (ترجيح)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) إضافة يقتضيها السياق. (4) البخاري (1865)، ومسلم (1642). (5) إضافة يقتضيها السياق.

(1/357)


الله أَنْ يمشي. قال: «إنَّ الله عن تعذيب هذا نفسَهُ لغنيٌ»، وأمره أنْ يركب فركب. هكذا هو في الصحيحين من حديث مروان الفزاري وغيره، عن حميد، عن ثابت، عن أنس. ورواه عبد الوارث، عن حميد فذكر البدنة، وصحح هذا محمد بن جرير الطبري، فقال: صحَّ الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما حدثني به عمرو بن بحر (1)، حدثنا [91/ أ] عبد الوراث، حدثنا حميد الطويل، عن أنس قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يُهادى بين رجلين. قال: «إنَّ الله لَغَنِيٌ عن تعذيب نفسه». قالوا: يا رسول الله، إنه نذر. قال: «اركب، وعليك بدنة» (2). قال (3): وصحَّ الخبر بما حدثني به سهل بن محمد السجستاني، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري (4)، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عقبة بن عامر أَنَّ أخته نذرت أَنْ تمشي إلى البيت فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن عامر، فسأله. قال: «إِنَّ الله غنيٌ عن نذر أختك؛ فلتركب ولتهد بدنة» (5). _________ (1) كذا في الأصل، وفي معجم شيوخ الطبري (ص 384): عمرو بن علي بن بحر، إلا أنه لم يرو عن عبد الوارث بن سعيد. وفي قاعدة العقود (1/ 144): عمرو بن عفرة. وفي ترجمته من معجم شيوخ الطبري (ص 391) الإشارة إلى روايته عن عبد الوارث؛ فلعله هو الصواب. (2) لم أجد أحدًا أخرجه من حديث أنس بهذا اللفظ غير ما ذكره المجيب هنا عن الطبري، والظاهر أنَّ هذا الأثر رواه الطبري في تهذيب الآثار أو في كتابه اللطيف، ومسند أنس - رضي الله عنه - من التهذيب لم يطبع. (3) أي: ابن جرير الطبري. (4) تحتمل ما أثبت، وهو: عبد الله بن يزيد القرشي. انظر: تهذيب الكمال (16/ 320). (5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 38) فقال: حدثنا بهز، أخبرنا همام به.

(1/358)


قال ابن جرير: (فإنْ قيل: كيف استجزت أنْ تجعل حديث حميد عن أنس في ذلك حجة يعتمد عليها، وقد عَلِمْتَ ما حدثكم به ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يُهادى بين ابنيه. فقال: «ما هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي. قال: «إنَّ الله لغنيٌ عن تعذيب هذا نفسه» فأمره أن يركب (1)، وليس فيه ذكر الأمر بهدي ولا غيره. قيل: إنَّ زيادة العدل واجب قبولها، وعبد الوارث ثقة، وزيادته مقبولة) (2). قلت: ورواه مسلم ــ أيضًا ــ من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك شيخًا يمشي بين ابنيه يتوكأ عليهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما شأنُ هذا الشيخ؟» قالوا: كان عليه نذر. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اركب ــ أيها الشيخ ــ فإنَّ الله غنيٌ عنك، وعن نذرك» (3). وهذه حجة مَنْ قال: إنه لا كفارة في نذر المعصية، لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ نذر أَنْ يطيع الله فليطعه، ومَنْ نذر أَنْ يعصي الله فلا يعصه» رواه البخاري (4)، وليس في الصحيح ذكر كفارة، وكذلك لم يذكر الكفارة في حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم (5)، _________ (1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (19/ 95)، والترمذي (1537). (2) هنا ينتهي النقل عن ابن جرير، كما يتضح ذلك بالمقارنة بما في قاعدة العقود (1/ 144). (3) أخرجه مسلم برقم (1643). (4) تقدم تخريجه في (ص 6). (5) أخرجه البخاري (6704) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

(1/359)


وفي حديث المرأة التي نذرت أن تذبح ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نذر فيما لا يملك، ولا في معصية» (1). والمأثور عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ في نذر المعصية والنذر المعجوز عنه: الإفتاء إما ببدل وإما بكفارة يمين، كما في حديث عقبة بن عامر الذي رواه أهل السنن من حديث ابن عباس ومن حديث عقبة (2). قال الشافعي (3): عن ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن علي في الرجل يحلف عليه المشي. قال: يمشي، فإنْ عجز ركب وأهدى بدنة. وروى أبو داود الطيالسي (4): حدثنا أبو عامر صالح بن رُسْتُم، عن كثير بن شِنْظِير، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: قَلَّمَا قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا حثنا فيه على الصدقة ونهانا عن المثلة. وقال: «إِنَّ من المثلة أَنْ يخرم أنفه، ومن المثلة أن ينذر أن يحج ماشيًا، فإذا نذر أحدكم أن يحج ماشيًا فليهد هديًا وليركب» (5). _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 124 - 125). (2) تقدم تخريجهما قريبًا. (3) الأم (7/ 180)، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبير (10/ 139). ورواية الحسن عن عليٍّ مرسلة. انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص 31 وما بعدها). (4) في مسنده (2/ 174). (5) وجاء من حديث يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، عن سمرة مقتصرًا على أوله. أخرجه الإمام أحمد في مسنده (33/ 376). وانظر: العلل لابن المديني (ص 208).

(1/360)


[91/ ب] قال البيهقي (1): ورواه محمد بن عبد الله (2) الأنصاري، عن صالح. وقال [في] (3) الحديث: «فليهد بدنة وليركب». وقد روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه أمرها أن تركب ما مشت، فجعل ذلك البدل كافيًا. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أمرها بذلك، وبالهدي أيضًا. قال ابن وهب (4): أخبرني مالك بن أنس وعبيد الله (5) بن عمر، عن عروة بن أُذَيْنَة. قال: خَرَجْتُ مع جَدَّةٍ (6) لي عليها مشي، حتى إذا كُنَّا ببعض الطريق عجزت، فأرسلت مولًى لها إلى عبد الله بن عمر يسأله، فَخَرَجْتُ معه، فسألَ ابن عمر، فقال: مُرْهَا فلتركب، ثم لتمش من حيثُ عجزت. وقال ابن وهب (7): أخبرني سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن عباس قال: قال ابن عباس: وتنحر بدنة. وروى البيهقي (8) بإسناد جيد عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أنه _________ (1) في السنن الكبير (20/ 222). (2) في الأصل: (عبدٍ)، والمثبت من السنن الكبير. (3) طمس لعل تقديره ما أثبتُّ. (4) أخرجه من طريقه: البيهقي في السنن الكبير (20/ 223/ ح 20153)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (40/ 193). (5) في الأصل والسنن الكبير: (عبد الله)، والتصويب من مصنف ابن أبي شيبة (7/ 579) (8/ 243). وانظر: التاريخ الكبير (7/ 33)، الجرح والتعديل (6/ 396). (6) في الأصل: (حرة)؛ والمثبت من السنن. (7) أخرجه من طريقه: البيهقي في السنن الكبير (20/ 223/ ح 20154). (8) في السنن الكبير (20/ 223/ ح 20155).

(1/361)


سُئِلَ عن رجلٍ نَذَرَ أَنْ يمشي إلى الكعبة، فمشى نصف الطريق ثم ركب. قال ابن عباس: إذا كان عامُ قابلٍ فليركب ما مشى، وليمش ما ركب، وينحر بدنة. وقد روي عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا فيمن نذر نذرًا لا يطيقه كفارة يمين. رواه أبو داود وغيره (1). ورواه البيهقي (2) من حديث (3) ابن جريج، عن ابن أبي هند، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن كريب (4)، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، [ومن نذر نذرًا لم يطقه فكفارته كفارة يمين] (5)، ومن نذر نذرًا فأطاقه، فَلْيَفِ به». قال البيهقي (6): وهكذا روي عن طلحة بن يحيى؛ تارة عنه عن عبد الله بن سعيد (7) بن أبي هند [عن بكير] (8)، وتارة عنه عن الضحاك بن عثمان عن عبد الله بن [سعيد] بن أبي هند. _________ (1) سنن أبي داود (3322). (2) في السنن الكبير (20/ 188/ ح 10094). (3) في الأصل زيادة: (مالم يطقه، فكفارته كفارة يمين)، وقد حذفتها لأنها غير موجودة في السنن، وليستقيم الكلام. (4) في الأصل: (عكرمة)؛ والمثبت من السنن الكبير، وهو الصواب؛ حيث إنه لا يُعلم لبكيرٍ رواية عن عكرمة بخلاف كريب. انظر: تهذيب التهذيب (1/ 492). (5) في الأصل مكان ما بين المعقوفتين: (روي عنه)؛ والمثبت من السنن. (6) في السنن الكبير (20/ 193). (7) في الأصل: (سعد)؛ والمثبت من السنن، وكذلك المواضع التالية. (8) إضافة من السنن.

(1/362)


قال (1): ورواه وكيع بن الجراح، عن عبد الله بن [سعيد] موقوفًا على ابن عباس. قال (2): وروي من وجه آخر [ضعيف] (3) عن ابن عباس، وروى بإسناده (4) عن عبد الكريم، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «[إنَّ النذر نذران] (5): فما كان لله فكفارته الوفاء به، وما كان للشيطان فلا وفاء له، وعليه كفارة يمين». قلت: وقد روى [ابن] (6) جرير، حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو نعيم، عن أبي أسامة [92/ أ] ــ وهو زيد الحجام ــ (7)، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مَنْ نذر لله فالوفاء أو كفارة، [ومن] (8) نذر للشيطان فلا وفاء ولا كفارة (9). _________ (1) في السنن الكبير (20/ 193). (2) في السنن الكبير (20/ 194). (3) ما بين المعقوفتين من السنن. (4) في السنن الكبير (20/ 194/ ح 20102). وانظر: السلسلة الصحيحة (ح 479). (5) ما بين المعقوفتين من السنن. (6) إضافة يقتضيها السياق. (7) في أعلى الورقة كتب الناسخ: (هو أبو أسامة زيد الحجام الكوفي سمع القاسم وسالم وعكرمة، روى عنه عيسى بن يونس؛ ذكره القباي [كذا] في كتاب الأسماء والكنى)، وفوقها: (حشر). (8) ما بين المعقوفتين غير ظاهر، وما أثبتُّ تقديرًا، وبه يستقيم الكلام. (9) لم أجد من خرَّج هذا الأثر عن ابن عباس بهذا اللفظ، وقد تقدم بمعناه، وقد قال المجيب في قاعدة العقود (1/ 154) بعد أن ذكر الرواية المرفوعة السابقة وتضعيف البيهقي لها: لكن أظنُّهُ عن ابن عباس موقوفًا جيد.

(1/363)


ورواها بإسناد ثابت [عن] (1) مسروق أنه قال: النذر نذران؛ فنذرٌ لله ونذرٌ للشيطان، فما لله فأوفِ به، وما كان للشيطان فلا وفاء ولا كفارة (2). وقول ابن عباس: ما كان لله (3)؛ ففيه الوفاء أو كفارة، مع سائر الروايات الثابتة المستفيضة عن ابن عباس تدل على أنه لا بُدَّ عنده فيمن نذر شيئًا لله أن يفي به أو يكفر. والوفاء تارة يكون بفعل المنذور، وتارة بفعل بدله، وسواء كان المنذور طاعة أو معصية، وسواء قدر أو عجز. وأما قوله في هذا الحديث: «فما كان للشيطان فلا وفاء ولا كفارة» فالنذر الذي ينذر لغير الله كالنذر للطواغيت وللكنائس والبِيَع وقبور الأنبياء والصالحين وغير ذلك= فإن النذر لها نذر لغير الله، فهو كالحلف بغير الله. فإنَّ عقبة بن عامر قال: النذر حَلِفٌ (4)، وهو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة أخته، وروى عنه أنه قال: كفارة النذر كفارة يمين. رواه مسلم في صحيحه (5). ومن حلف بالمخلوقات لم تكن يمينه محترمةً ولا كفارة فيها (6)، كذلك من نذر للمخلوقين، بخلاف من نذر لله ما يعتقده قربة يتقرب به إلى _________ (1) مقدار كلمة لم أستطع قراءتها، وتحتمل ما أثبتُّ. (2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 462)، وابن أبي شيبة (12277) وغيرهما. ولفظ ابن أبي شيبة: النذر نذران: فنذر لله ونذر للشيطان؛ فما كان لله ففيه الوفاء والكفارة، وما كان للشيطان فلا وفاء ولا كفارة. (3) ألحق الناسخ في الهامش (فيه) وفوقها حرف (ظ). (4) تقدم في (ص 118). (5) (ح 1645) وقد تقدم. (6) انظر ما تقدم (ص 93).

(1/364)


الله، (1) وهو معصية كذبح نفسه، أو نذر المعصية على سبيل الحض والمنع له لا على سبيل التقرب، فهذا بمنزلة اليمين فكفارته كفارة يمين. وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين البحيرة والسائبة ونحو ذلك، فإنَّ مِنَ الفقهاء مَنْ شَبَّهَ نذرَ المعصية بالبحيرة، وتلك لا كفارة فيها، كما أَنَّ منهم من شَبَّهَ الوقف بالبحيرة والسائبة، كما قال ابن سريج (2): لا حبس عن فرائض الله (3). ويروى أن أبا يوسف ومالكًا تناظرا في الحبس بحضرة الرشيد، فقاسه أبو يوسف على السوائب التي كان أهل الجاهلية يسيبونها، فأجابه مالك: بأنَّ أولئك كانوا يُسَيِّبُون لغير الله، وهذا الحبس لله؛ فلا يُشَبَّهُ ما حُبِسَ لغير الله بما حبس لله (4) = كذلك هنا قال الشافعي (5) في نذر المعصية: أصلُ معقولِ قول _________ (1) في الأصل زيادة: (كيف)، والمعنى يستقيم بدونها. (2) كذا في الأصل، ولم أجد هذه الرواية عن ابن سريج، وإنما المعروف عن شريح؛ ولذا قال البيهقي في السنن الكبير (12/ 271) بعد أنْ رواه مرفوعًا: وهذا اللفظ إنما يُعرف من قول شريح القاضي. (3) أخرجه عبد الرزاق (9/ 196/ ح 16921)، وابن سعد في طبقاته (6/ 138 ت. إحسان عباس)، والطحاوي - كما في إتحاف المهرة 19/ 72 - ، والبيهقي في السنن الكبير (12/ 271/ ح 12031) وغيرهم عن شريح. وجاء مرفوعًا من حديث ابن عباس؛ أخرجه الدارقطني في السنن (5/ 119) وقال: لم يُسنده غير ابن لهيعة عن أخيه؛ وهما ضعيفان. انظر: كتاب الوقوف من مسائل الإمام أحمد (1/ 200 - 217)، نصب الراية (3/ 476)، الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/ 145). (4) تفسير الإمام الشافعي (2/ 802)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 704)، المقدمات الممهدات (2/ 418). (5) نقله البيهقي في السنن الكبير (20/ 183).

(1/365)


عطاء في هذا: أنه ذهب إلى [92/ ب] [أنه لم يكن] (1) عليه قضاء ولا كفارة. قال الشافعي (2): وإنما أبطل الله النذر [في] (3) البحيرة والسائبة أنها معصية، ولم يذكر في ذلك كفارة، وبذلك جاءت السنة. والجمهور الذين يخالفون هذا يقولون: النذر في البحيرة والسائبة نذر لغير الله كما أنها حبس لغير الله، وهذا بخلاف النذر لله فإنه كاليمين بالله، ولو حلف بالله ليفعلن معصية ولم يفعل = لزمه كفارة يمين عند الأربعة والجمهور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» (4). والنذر لله أقوى من الحلف باسمه؛ فإذا كان من حلف به إذا لم يُوفِّ فلا بُدَّ له من الكفارة؛ فالناذر له إذا لم يوف فلا بُدَّ له من الكفارة بطريق الأولى، لأنَّ هذا التزم لله وذاك التزم به، والذم لتارك النذر أعظم من ذم الحالف الحانث. ومن قال: لا شيء في نذر المعصية، فقوله من جنس قول من قال: لا شيء في الحلف على فعل المعصية وأضعف، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «لا نذر ولا يمين في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم» (5) مراده: أنه لا وفاء بذلك، _________ (1) مقدار كلمتين أو ثلاث لم يظهر منها إلا (ـكن)؛ والمثبت من السنن. (2) نقله البيهقي في السنن الكبير (20/ 183)، ومعرفة السنن والآثار (14/ 195). (3) في الأصل: (و)، والمثبت من السنن والمعرفة. (4) تقدم تخريجه في (ص 26)، وهو في مسلم. (5) أخرجه أبو داود (3274)، والنسائي (3792) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ: «لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم؛ ومَنْ حَلَفَ على يمين فرأى غيرها خيرًا منها= فليدعها وليأت الذي هو خير؛ فإن تركها كفارتها». وانظر: العلل للدارقطني (2/ 155).

(1/366)


ليس مراده أنه لا كفارة في ذلك؛ فكذلك ما روي من الحديث: «لا نذر فيما لا يملك ولا في معصية» فالمراد به: أنه لا وفاء بذلك، ليس مراده أنه لا كفارة في ذلك. والمعروف عن الصحابة الأمرُ بالكفارة لمن لم يوف بنذره مطلقًا سواء كان المنذور معصية أو معجوزًا عنه؛ كما رواه أحمد وغيره (1)، ورواه البيهقي (2) بالإسناد الثابت عن همام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن هَيَّاج بن عمران البُرْجُمِي أَنَّ غلامًا لأبيه أَبَقَ، فجعل لله عليه لئن قدر عليه ليقطعنَّ يده، فلما قَدَرَ عليه بعثني إلى عمران بن حصين فسألته، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحث في خطبته على الصدقة، وينهى عن المثلة. فقال: قل لأبيك: فليكفر عن يمينه، وليتجاوز عن غلامه. قال: وبعثني إلى سمرة بن جندب فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة. فقال: قل لأبيك: فليكفِّر عن يمينه وليتجاوز عن غلامه. قال البيهقي: وهذا إسناد [موصول] (3) [93/ أ] إلا أن الأمر بالتكفير فيه موقوف على عمران ابن حصين وسمرة (4). _________ (1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (33/ 78)، وأبو داود في سننه (2667). (2) في السنن الكبير (20/ 192/ ح 20100). (3) هذه الزيادة من السنن، وليست موجودة في الأصل. (4) انظر: العلل لابن المديني (ص 208)، إرواء الغليل (7/ 291)، وصحيح أبي داود (الأم) (7/ 419).

(1/367)


قلت: [قد] (1) قال البيهقي ذلك، لأنه قد روى عن عمران مرفوعًا: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» (2)، وروي ذلك من وجوه (3)؛ وفيه للناس كلام مبسوط في غير هذا الموضع (4). والمقصود هنا: ذكر ما تقدم من رواية ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذر أخت عقبة في أمره لها بالهدي وفي أمره لها بكفارة يمين، كما روي هذا وهذا جميعًا عن عقبة بن عامر، ولا منافاة بين الروايتين؛ فإنها نذرت أن تحج ماشية غير مختمرة، وروي حافية وعجزت عن الركوب، فاشتمل نذرها على معصية وهو ترك الاختمار وعلى معجوز عنه، فإن المرأة مأمورة بالاختمار= فأوجب في نذر المعصية كفارة يمين كما لو قالت: والله لأحُجَّنَّ غير مختمرة، كما قال: «مَنْ حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» (5). وأما المشي فهو طاعة، فأمرها أن تمشي ما قدرت وتركب ما عجزت _________ (1) غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبت. (2) السنن الكبير (20/ 190/ ح 20098). (3) جاء هذا المتن من حديث جماعة من الصحابة؛ كابن مسعود، وعائشة، وابن عباس - رضي الله عنهم -. انظر: البدر المنير (9/ 495)، التلخيص الحبير (4/ 175)، إرواء الغليل (8/ 214). (4) مجموع الفتاوى (21/ 494)، الفتاوى الكبرى (1/ 247)، قاعدة العقود (1/ 175 - 178). (5) تقدم تخريجه في (ص 26)، وهو في مسلم.

(1/368)


وتهدي هديًا، لأنَّ هذا لما نذرته صار واجبًا في النسك، ومن ترك شيئًا من النسك الواجب كان عليه هدي. والمقصود هنا: أنَّ ابن عباس - رضي الله عنهما - قد ثبت عنه أنه أفتى بالكبش لمن نذر ذبح نفسه، وجعل ذلك بدلًا، لأنَّ الله جعله بدل الذبح الواجب على إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وكما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي بدلًا عما تركه الناذر من الركوب الذي أوجبه. وأما فتيا ابن عباس بكفارة يمين فيحتمل أنه أفتى بذلك فيمن حلف بذبح ابنه، فقال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أن أذبح ابني، وهذا موافقٌ لأصل ابن عباس، وهو أن الحالف بالنذر عليه كفارة يمين، والناذر عليه [فعل] (1) المنذور أو بدله، وهو أصل أحمد بن حنبل، وهو المأثور عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). وإذا عُرِفَ هذا؛ عُرِفَ أَنَّ رواية عثمان بن حاضر التي فيها أَنَّ ابن عباس قال: أما الجارية فتعتق، وأما المال المنذور فأدِّ زكاته، وأما نحر نفسك فانحري بدنة= هو (3) مخالف للروايات الثابتة عن ابن عباس التي لم يتنازع أهل العلم في صحتها عنه؛ فإن كانت هذه الرواية ــ أيضًا ــ محفوظة، فغاية ذلك أَنْ يكون [ ... ] (4). _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) قاعدة العقود (1/ 274 - 275، 282 - 284 مهم). (3) في الأصل: (وهو)؛ ولعل الأقرب ما أثبتُّ. (4) لم أجد تكملة هذه الورقة.

(1/369)


[96/ ب] بطريق الأولى والأحرى. وأما قول القائل: (العتقُ قربةٌ، والحالف لم يقصد التقرب بعتقه، بخلاف الطلاق فإنه ليس بقربة، فلا يشترط ذلك فيه) (1). فيقال له: لا ريب أَنَّ النزاع في اشتراط القصد في إيقاع الطلاق أظهر من النزاع في اشتراط التقرب في إيقاع العتق؛ فإنَّ طائفة ذهبوا إلى أنَّ طلاق الهازل لا يقع، وضعفوا الحديث المأثور فيه (2)، وقالوا: لا يقع الطلاق إلا بالنية، وذكر أبو بكر عبد العزيز عن أحمد في اشتراط النية في الطلاق روايتين (3). وأيضًا؛ فلا ريب في اشتراط قصد المتكلم به، فلو أراد أن يقول: طاهر، فسبق بطالق، لم يلزمه فيما بينه وبين الله شيء بلا نزاع. وأما كون العتق لا يقع إلا إذا قصد به المعتق التقرب إلى الله، فهذا من _________ (1) «التحقيق» (40/ ب). (2) وهو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: «ثلاثٌ جدهنَّ جد وهزلهنَّ جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة» وفي لفظ: «والعتاق» بدل «الرجعة». أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039). وقد ضعف هذا الحديث ابن حزم في المحلى (ص 1189) وغيره كما هو مبيَّنٌ في مواضع تخريج الحديث، وما سيأتي في (ص 670). انظر: تنقيح التحقيق (4/ 411)، نصب الراية (3/ 293)، البدر المنير (8/ 81)، إرواء الغليل (6/ 224)، صحيح أبي داود (الأم) (6/ 397)، القول الجد لعمر التونسي، تنبيه الرفاق بعلل أحاديث الطلاق (ص 360). (3) الفتاوى الكبرى (6/ 63).

(1/370)


أغرب الأقوال! وما علمتُ هذا القول منقولًا عن أحد من العلماء المعروفين المعتبرين، وإنما يحكى هذا عن بعض الرافضة، وبكل حال فهو قولٌ معلومُ الفسادِ (1)، فإنَّ عتق الكافر يصح بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه، فغير واحد من الكفار أعتق مملوكًا له وأنفذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عتقهم، كما أنفذ ما فعلوه من العطية التي قصدوا بها الصدقة (2). وقد قال عمرو بن العاص: إنَّ العاص بن وائل نَذَرَ أن يعتق [ ... ] (3). وما يشترط فيه التقرب إلى الله كالصلاة والحج لا يصح من كافر، وإِنْ قيل: إِنَّ الكفار كانوا يقصدون بعتقهم التقرب إلى الله ولهذا يثابون على ذلك إذا أسلموا في أظهر القولين؛ كما في الصحيح من حديث حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية من _________ (1) انظر ما سيأتي (ص 671). (2) انظر حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - الآتي قريبًا. (3) بياض مقدار سطر ونصف. والحديث أخرجه أبو داود (2883)، والبيهقي في السنن الكبير (13/ 58/ ح 12763) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ العاص بن وائل السهمي أوصى أَنْ يُعْتَقَ عنه مائة رقبة؛ فأعتقَ ابنُهُ هشام خمسين رقبة، فأراد ابنه عمرو أنْ يُعتق الخمسين الباقية. فقال: حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إنَّ أبي أوصى بعتق مائة رقبة، وإنَّ هشامًا أعتق عنه خمسين، وبقيت عليه خمسون رقبة؛ أفأعتق عنه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه، أو تصدقتم عنه، أو حججتم عنه؛ بَلَغَهُ ذلك». ولم أجده بلفظ النذر إلا ما قد يُفهم من رواية عبد الرزاق في مصنفه (9/ 61) ولفظها: كان على العاص بن وائل مائة رقبة يعتقها ... إلخ.

(1/371)


صدقة وعتاقة [وصلة رحم] (1) هل لي فيها من أجر؟ فقال: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ» (2). ولا ريب مع ذلك أنهم كانوا يعتقون لأسباب أخر، والكتابة جائزة بالنص والإجماع وهي معاوضة، ولو قال السيد لعبده: إِنْ أعطيتني ألفًا فأنت حر، فأعطاه عَتِقَ ــ أيضًا ــ، والمعاوضة تمنع أن تكون قربة محضة. وفي الجملة؛ جَعْلُ العبد حرًّا إعادة له إلى [97/ أ] الأصل، وهذا أَمْرٌ لازمٌ في الشرع، سواء قصد أن يعتقه لله أو يعتقه لغرض آخر، لكن إن أعتقه لله أثابه الله على ذلك، وإذا عمل لغير الله لم يثبه الله، كما إذا أعطى غيره مالًا يُمَلِّكُهُ، وإن كان أعطاه لغرض يناله منه من [مالٍ] (3) وَنَفْعٍ لم يعطه لله، لكن إن أعطاه لله كان صدقة لله يثيبه الله عليها، وأما حصول الملك للمعطى فلا يشترط فيه قصد التقرب، ولهذا لو عَلَّقَ العتق تعليقًا يقصد به الإيقاع عند الصفة= لوقع وإن لم يقصد به التقرب، وقد ذكر الإجماع على ذلك غير واحد (4). وفي الجملة؛ فهذا مما لا يعرف فيه نزاع بخلاف الطلاق المعلق بالصفة، فإنَّ النزاع فيه معروف، وهو في التعليق الذي يقصد به اليمين أظهر _________ (1) في الأصل بياض مقدار كلمة تقريبًا، والمثبت من الصحيحين. (2) أخرجه البخاري (1436)، ومسلم (123). (3) في الأصل: (ما لم) ووضع الناسخ عليها علامة لحق في الحاشية، وكتب (ظ) حيث كتبها استظهارًا؛ ولعل الأقرب ما أثبتُّ. (4) موسوعة الإجماع لسعدي أبو جيب (ص 757 - 758)، وموسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (3/ 844).

(1/372)


وأظهر، فيمتنع أن يحمل كلام الصحابة على خلاف الإجماع الذي لا يعلم فيه نزاع، ولا يحمل على خلاف ما ظُنَّ من الإجماع الذي عرف فيه النزاع. فَمَن حَمَلَ كلامَ الصحابة على أنهم أفتوا بالكفارة لكون العتق لا بُدَّ أن يقصد به التقرب، فقد حَمَلَ كلامهم على خلاف إجماعٍ، اعتقادُ كونِهِ إجماعًا= أظهر من اعتقاد كون الطلاق المعلَّق بالصفة ــ فضلًا عن المحلوف به ــ إجماعًا؛ فكان حَمْلُ كلامهم على ما لا يخالف ذلك الإجماع ــ وإن خالف الثاني ــ أولى من حمل كلامهم على ما يخالف الإجماع الأول دون الثاني. وأيضًا؛ فالصحابة رتَّبوا الحكم على كون التعليق يمينًا، فقالوا: كَفِّرِي يمينك، وسَوَّوَا في ذلك بين جميع ما علقه على وجه اليمين، والحكم المعلَّق باسم مشتق مناسب: يدل على أن ذلك المعنى هو المؤثر في الحكم، فدلَّ على أن المؤثر عندهم كونه قصد بالتعليق اليمين، لا كونه لم يقصد التقرب بالعتق. وأيضًا؛ فلو كان المانع كونه لم يقصد التقرب بالعتق لكان ذلك يوجب إبطال العتق لا يوجب الكفارة، والصحابة أوجبوا كفارة يمين، وكفارة اليمين لا تجب في إيقاع العتق الذي لم يقصد به القربة عند أحدٍ من المسلمين، كما أَنَّ الكفارة لا تجب في إيقاع الطلاق الذي لم يقع، فلم يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ مَنْ أوقعَ [97/ ب] الطلاق فلم يقع يلزمه كفارة يمين، ولا أَنَّ من أوقع العتق فلم يقع تلزمه كفارة يمين، فضلًا عن أَنْ يقال: إنَّ مَنْ قصد إيقاع العتق لغير الله، فلم يقع يلزمه كفارة يمين، بل لو نذر نذرًا لغير الله لم يلزمه كفارة يمين بلا ريب، فلو نذر نذرًا لبعض المخلوقات لم ينعقد ولا كفارة فيه.

(1/373)


فإنَّ الناذر إما أن يقصد التقرب إلى الله، وإما أن يقصد التقرب إلى غيره، وإما أن يقصد معنى اليمين لا يقصد التقرب إلى أحد؛ فهذه الأقسام الثلاثة التي تسمى نذرًا؛ فإنْ قصد التقرب به إلى الله لزمه الوفاء، وإنْ قصد التقرب إلى غيره كان شركًا، كما لو حلف بغير الله، وعليه أن يتوب إلى الله من عقد هذا النذر ويستغفر، ويؤمر أن يفعل حسنة تمحو هذا النذر، كما يؤمر الحالف بغير الله، كما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعالَ أقامرك؛ فليتصدق» (1). وفي سنن النسائي وغيره عن أبي إسحاق السبيعي، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: حلفتُ باللات والعزى. فقال لي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بئسَ ما قلتَ، اِئتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فلقيته فأخبرته، فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات، وتعوَّذَ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن شمالك ثلاث مرات، ولا تَعُدْ (2) له» (3). وفي لفظ النسائي وغيره (4) ــ أيضًا ــ فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، واتفل عن شمالك ثلاث مرات، وتعوَّذ بالله من الشيطان، ثم لا تعد». _________ (1) أخرجه البخاري (4860)، ومسلم (1647). (2) في الأصل: (تعود)، والمثبت من مصادر التخريج. (3) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 150، 168)، والنسائي (3776)، وابن ماجه (2097)، وصححه ابن حبان (10/ 206 - 4365). وانظر: إرواء الغليل (8/ 192)، العلل للدارقطني (4/ 323). (4) أخرجه النسائي (3777).

(1/374)


وأما إِنْ قصد معنى اليمين: إما بالنذر المفرد، كقوله: لله عليَّ أَنْ أقتل فلانًا إن ظفرت به، وعَليَّ أَنْ أُغِيْرَ على بني فلان ونحو ذلك، وإما بأنْ يُعَلِّقَ على الفعل ما يلزم إذا قصده، ويقصد بالتعليق اليمين لا لزومه، كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج وعليَّ عتق رقبة، فهذا النوع يمين. ومعلومٌ أنه إذا قصد النذر لغير الله ولم يقصد به اليمين لم يكن عليه كفارة يمين، فلو كان الصحابة قد أبطلوا [98/ أ] العتق لكونه لم يقصد التقرب به إلى الله لا لكون الحالف قصد اليمين = لم يكن عليه كفارة يمين، فلما أفتوه بكفارة يمين دَلَّ على أنهم جعلوا هذا يمينًا، لم يجعلوه من باب مَنْ قصد أن ينذر لغير الله أو يتقرب إلى غير الله أو يعتق لغير الله. وأيضًا؛ لو كان العلة ما ذكره (1) لم تجب كفارة لا في النذر ولا في العتق، كمن نذر لغير الله، فإنه من المعلوم أن النذر لغير الله لا يلزم، بل يشترط في النذر اللازم أن يكون الناذر قصد التزامه لله؛ فإنَّ النذر أن يلتزم لله وإن كان قد التزمه على سبيل المقابلة لِمَا حصل له من النعمة، وهذا أحد الأسباب التي علل بها كراهة النذر. قال أبو جعفر محمد بن جرير بعد أَنْ ذَكَرَ حديثي ابن عمر وأبي هريرة في النذر أنه لا يأتي بخير وأنه لا يَرُدُّ القَدَرَ (2) قال (3): (لا ينبغي لأحدٍ ثَبَتَ عنده _________ (1) في الأصل: (ذكروه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) أخرجه البخاري (6608)، ومسلم (1639) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، وقال: «إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل». وهذا لفظ مسلم. وأخرجه البخاري (6609) ومسلم (1640) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لا تنذروا؛ فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا، وإنما أستخرج به من البخيل» وهذا لفظ مسلم. (3) لم أجد كلام الطبري هذا فيما بين يدي من كتبه، ولا مَن نقله عنه.

(1/375)


نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر؛ فيكون جامعًا بذلك من فعله خلالًا ضارة غير نافعة؛ منها: تغريمه ما نذره من ماله؛ إذ كان يلزمه بنذر ما نذر الوفاء به من غير اعتياض منه بذلك عوضًا من ثواب الآخرة ولا من عرض الدنيا). قلت: وهذا فيه نظرٌ وكلامٌ ليس هذا موضعه. قال (1): (ومنها: التقدمُ على نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عما نهى عنه من النذر، وغير مأمون عليه بذلك من فعله العقوبة من الله إما عاجلة وإما آجلة. ومنها: الاستخفاف بحق الله، إذ جعلَ لِمَا سَأَلَه من حاجته أن يصيب عوضًا من ماله، أو من عمل بدنه، ولم يتمحض ما كان منه من ذلك لله خالصًا لوجهه إلا بعوضٍ يُعَجَّلُ له منه، وقد ذَمَّ الله قومًا عبدوه على هذا المعنى في كتابه فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية [الحج: 11] غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإنَّ على الناذر نذرًا في طاعة الله الوفاءَ به لإجماع الجميع نقلًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الواجب عليه ذلك، وقد روي عنه بذلك من جهة نقل الآحاد آثار يستغنى بنقل الجميع عنها، غير أنا سنذكر بعضها)، ثم ذكر حديث القاسم عن عائشة (2)، وحديث عمر في نذره الاعتكاف (3). _________ (1) أي: الطبري - رحمه الله -. (2) تقدم تخريجه (ص 6)، وهو في البخاري. (3) أخرجه البخاري (2043)، ومسلم (1656) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في قصة نذر أبيه.

(1/376)


فصلٌ وأما قول القائل: (فلا يجوز أن يَلزمهم قياس [98/ ب] ما يحتمل أنهم يفرقون) (1)؛ فعنه أجوبة: أحدها: أنا لا نحتاج أن نلزمهم ذلك، ولم نكن ادعينا أن الصحابة قالوا ذلك حتى يقال: فلا يجوز إلزامهم بذلك. الثاني: أَنَّ المفرق هو الذي يُلزمهم القول الذي هو عنده خطأ، وأما نحن فلو ألزمناهم لم نلزمهم إلا ما هو عندنا صواب؛ فأيُّ الفريقين أولى بالحق واتباع الصحابة وتعظيمهم؟! الثالث: أنه لا بُدَّ إذا كانوا يقولون: إنَّ مَنْ قال: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر، أنه يكفر يمينه. إما أَنْ يكون قولهم في الحلف بالطلاق إنه لا يلزم أيضًا، أو إنه يلزم أَنْ يكون الفرق هو الصواب، أو إنه يلزم ويكون قولهم خطأ. ومعلوم أَنَّ إلزامهم بالأول أولى من الثاني والثالث، فإنهم إذا كانوا يسوون بين تعليق الطلاق والعتاق المقصود به اليمين = كان هذا قول الأمة خلفًا عن سلف قبل أبي (2) ثور، فكان هذا القول هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية: الكتابُ والسُنة والقياس الجلي، ولم يكن هناك ما يُخافُ وقوعه، فليس قبل الصحابة إجماع حتى يقال إنهم خالفوه، كما يقول ذلك من يقوله _________ (1) «التحقيق» (40/ ب). (2) في الأصل: (أبو)، والجادة ما أثبتُّ.

(1/377)


من المتأخرين. وأما إنْ علمنا أنهم فَرَّقُوا مع صحة الفرق؛ فهذا باطل قطعًا، فإنه لا يمكن أحدًا أَنْ يأتي بفرق مؤثِّرٍ بينهما، حتى أبو ثور ومحمد بن جرير وغيرهما لم يُفَرِّق أَحَدٌ منهم بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتق بفرق مؤثر أصلًا، بل جعلوه من مواضع الاستحسان المردودة عند جمهور العلماء، وهو تخصيص العلة بدون فوات شرط ووجود مانع، والتفريق بين المتماثلين بلا سبب يخص أحدهما (1). وإِنْ قيل: بل فرقوا مع الخطأ في الفرق؛ كان هذا إلزامًا لهم بالخطأ من غير أن يكون في كلامهم دليل عليه، وكان في هذا خلافُ إجماعِ الأمة قبل أبي ثور، فإنَّ حُكمنا بأنه لم يفرق أحد من العلماء بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتاق قبل أبي ثور= حُكْمٌ لم نعلم أحدًا نازع فيه، ولا نُقِلَ فيه خلافٌ لا شاذ ولا غير شاذ، بخلاف حُكمنا بأنَّ وقوع الطلاق مجمع عليه، فإن هذا مما قد نقل فيه النزاع قديمًا قبل أبي ثور، فكيف يُلزم الصحابة [99/ أ] بهذا دون ذاك؟ وأيضًا؛ فهذا المعترض عمدته فيما نقل عن الصحابة على ما ذكره _________ (1) انظر في الكلام عن تخصيص العلة: مجموع الفتاوى (6/ 453) (20/ 167 - 168) (24/ 46)، الفتاوى الكبرى (6/ 199، 201)، جامع المسائل (2/ 178 - 219)، مجموعة الرسائل والمسائل (2/ 12)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 134 - 229)، تنبيه الرجل العاقل (2/ 369). وانظر: (ص 10 - 11، 275 - 276)، وإعلام الموقعين (4/ 370).

(1/378)


البخاري (1) عن نافع قال: طَلَّقَ رجل امرأته البتة إِنْ خَرَجَتْ، فقال ابن عمر: إِنْ خَرَجَتْ فقد بُتت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. ولم يذكر عن الصحابة في الطلاق المعلق الذي يمكن أن يكون يمينًا غير هذا. وإن قيل: بل نعلم قول الصحابة في الحلف بالعتقِ، والحلفُ بالطلاق ليس لهم فيه قول؛ فهذا يبطل أن يكونوا أفتوا في الحلف بالطلاق بالوقوع، ثم لما تكلم التابعون في هذه المسألة وأفتى بعض التابعين بوقوع الطلاق المحلوف به، فهؤلاء لم ينقل عن أحد منهم ــ أيضًا ــ أنهم فَرَّقُوا بين الحلف بالعتاق والحلف بالطلاق مطلقًا، بل يكون قولهم هذا بناء على أَنَّ الحلف بالعتاق يلزم. وإنْ قيل: منهم من نُقِلَ عنه أَنَّ الحلف بالعتق لا يلزم، كما نُقِلَ عن الحسن وعطاء. قيل: ونقل عنهما أن الحلف بالعتق يلزم؛ فيحتمل أن يكون قولهما بلزوم الطلاق على هذا القول، ويحتمل أن يكون هؤلاء أفتوا في صور لا يتمحَّض فيها الحلف بالطلاق، بل يستعمل في الحلف وفي الإيقاع إما لظنهم أَنَّ ذلك كله إيقاع، وإما لأنَّ بعض ذلك لما كان يقصد فيه الإيقاع كثيرًا جعلوا الباب واحدًا لِعُسْرِ الفَرْق، فلا يجوز أن يلزمهم التعليق الذي يتمحض فيه الحلف عند الحض والمنع، كما تمحَّض الحلف بالنذر والعتق. فإنَّ النوع الذي يظهر فيه أَنَّ قصده اليمين دون الإيقاع، ليس مثل النوع _________ (1) في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون.

(1/379)


الذي يخفى فيه الفرق بين قصد الأيمان وقصد الإيقاع، فإذا كان قد اشتبه على العالم الخفي لم يلزم أن يشتبه عليه الجلي. وذلك: أَنَّ تعليق الطلاق فيه ما ليس فيه حَضٌّ ولا منع ولا تصديق ولا تكذيب، كتعليقه على الطُّهْرِ وعلى دخول الشهر ونحو ذلك، فهذا ليس بيمين مكفَّرة عند أحد من المسلمين، وفيه ما فيه حض ومنع لكن قد يقصد إيقاع الطلاق عند إيقاع الصفة، فإذا قصد إيقاع الطلاق عند إيقاع الصفة= لم يكن هذا يمينًا مكفَّرة عند أحد من المسلمين، بل هذا النوع والذي قبله قد قال بعض الناس إنه لا طلاق فيهما؛ كما قال أبو عبد الرحمن [99/ ب] الشافعي (1) وابن _________ (1) هو: أحمد بن يحيى بن عبد العزيز البغدادي، من كبار الأذكياء، ومن أعيان تلاميذ الشافعي؛ فلذا نُسِبَ إليه. قال أبو ثور: كُنَّا نختلف إلى الشافعي، فكان يقول لنا: لا تذهبوا إلى أبي عبد الرحمن يعرض لكم، فإنه يُخطئ، وكان ضعيف البصر. وسئل أبو داود السجستاني عن أصحاب الشافعي، فذكر جملةً منهم، ثم قال: ورجلٌ ليس بالمحمود؛ أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى ــ الذي يُقال له: الشافعي ــ وذلك أنه بَدَّلَ وقال بالاعتزال. قال الدراقطني: كان من كبار أصحاب الشافعي الملازمين له ببغداد، ثم صار من أصحاب ابن أبي دؤاد واتَّبَعه على رأيه؛ وكذلك قال الشيخ أبو إسحاق. قال ابن كثير معلِّقًا على قول أبي إسحاق بأخذ أبي عبد الرحمن بقول ابن أبي دؤاد: إنما صار إلى رأي أبي دؤاد في القول بخلق القرآن؛ فأما في الفروع فهو باقٍ على مذهب الإمام الشافعي، وله وجوهٌ تُحكى. وقال ابن حجر في لسان الميزان (9/ 113): ومن مفردات أبي عبد الرحمن قوله: إنَّ الطلاق لا يقع بالصفات. انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (6/ 441)، تاريخ الإسلام (5/ 736، 981)، سير أعلام النبلاء (10/ 555)، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/ 64)، طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 124)، «التحقيق» للسبكي (10/ أ).

(1/380)


حزم وكثيرٌ من الشيعة مثل: المفيد (1) والطوسي (2) والموسوي (3) وغيرهم، ونقلوا هذا عن علماء أهل البيت. وهؤلاء رأوا بعض الأجوبة المنقولة عن بعض أهل البيت في بعض التعليقات، ويكون ذلك مما يقصد به اليمين، فلم يتفطنوا لهذا الفرق، ونقلوا عن أولئك العلماء من أهل البيت أنهم يُسَوُّون بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي يقصد به الإيقاع، وغلطوا عليهم في هذا النقل، كما غلط هذا المعترض وأمثاله فيما ينقلونه عن بعض الصحابة والتابعين من التسوية بين هذين التعليقين، ومن الفرق بين التعليق الذي يقصد به اليمين وبين تعليق _________ (1) هو: محمد بن محمد بن النعمان، المعروف بالمفيد شيخ الرافضة، أبو عبد الله، ولد سنة (336) وقيل (338)، وتوفي سنة (413). انظر في ترجمته: شذرات الذهب (5/ 72)، تاريخ الإسلام (9/ 227)، سير أعلام النبلاء (17/ 344). (2) هو: محمد بن الحسن بن علي الطوسي، أبو جعفر، تفقَّه أولًا على مذهب الشافعي، ثم لازم المفيد فتحوَّل إلى مذهبه الرفض، توفي سنة (460). انظر في ترجمته: تاريخ الإسلام (10/ 122)، سير أعلام النبلاء (18/ 334)، طبقات الشافعية الكبرى (4/ 126). (3) هو: علي بن الحسين بن موسى، أبو القاسم الموسوي العلوي، المعروف بالشريف المرتضى، وهو أخو الشريف الرضي، كان رافضيًا ورأسًا في الاعتزال، ولد سنة (355)، وتوفي سنة (436). انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (13/ 344)، تاريخ الإسلام (9/ 557)، شذرات الذهب (5/ 168 وما بعدها).

(1/381)


الطلاق وتعليق العتق. وذلك: أَنَّ عامة الآثار المنقولة عن السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل البيت وغيرهم إنما هي أجوبة في قضايا معينة، لم يُنْقَل عن أحد من الصحابة أن كل من حلف بالطلاق يلزمه، بل ولا نقل هذا عن التابعين، ولا نقل عن أحد منهم ولا التابعين أَنَّ كل من عَلَّقَ الطلاق بصفة فإنه لا يقع، بل ولا كُلَّ مَنْ حَلَفَ بالطلاق فإنه يقع، كما أنه لم ينقل عنهم أنه لا يقع الطلاق بأحدٍ عَلَّقَهُ، بل المنقول عنهم في تعليقات لا يقصد بها اليمين الإيقاع، أو في تعليقات يقصد بها اليمين عدم الوقوع، وفي بعض ذلك نقل عنهم الوقوع. وما علمت لفظًا عامًّا منقولًا عن الصحابة والتابعين في النفي والإثبات إلا ما ذَكَرَ ابن طاووس عن أبيه أنه كان يقول: (ليس الحلف بالطلاق شيئًا)؛ فهذا أفتى فتيا عامة في كل حالف بالطلاق أنه لا يلزمه، كما قد ذكرنا ألفاظه في هذا الباب في موضع آخر (1). وأما المنقول عن السلف من الصحابة والتابعين في تعليق الطلاق أو الحلف به، فما علمتُ أحدًا نَقَلَ عن أحدٍ من الصحابة أو التابعين أنه قال: كُلُّ طلاقٍ معلَّقٍ بصفة فإنه يقع، بل ولا من قال: كل مَنْ حَلَفَ بالطلاق فإنه يلزمه، بل نقل عنهم في كثير من صور التعليق وبعض صور الأيمان، فجعل الباقي مثله بالقياس على ما ذكره. فإنْ كان نقل المذاهب بالقياس باطلًا؛ لم يكن لأحدٍ أَنْ ينقل عن أحدٍ _________ (1) في (ص 218، 650 - 652، 715).

(1/382)


من الصحابة والتابعين [100/ أ] أنه قال: كل طلاق معلَّقٍ يقع، ولا كل طلاق محلوف به يقع. وإن كان النقل بالقياس جائزًا؛ فإنه يجوز أن يُنقل عنهم أن التعليق الذي يُقْصَد به اليمين هو يمين، ليس هو طلاقًا ولا عتاقًا ولا نذرًا ولا كفرًا، بل فيه كفارة يمين، فإنهم نَصُّوا على صورٍ متعددة من هذا النوع، وجعلوا هذا التعليق يمينًا مكفرة، وأمروا فيه بالكفارة التي تجب في اليمين (1). فكان النقل عن الصحابة والتابعين الذين جعلوا التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا مكفرة أنهم يفتون في ذلك بكفارة يمين، سواء حلف بالعتاق أو الطلاق أو غيرهما، لا سيما مع تسويتهم بين الحلف بالعتق وغيره = أولى من أن ينقل عنهم أنهم قالوا: كُلُّ مَنْ عَلَّقَ طلاقًا بصفة فإنه يلزم، أو كل من حلف بالطلاق فإنه لم يلزم، مع أنه لم ينقل عن أحد منهم هذا العموم، وإنما نقله مَنْ نَقَلَهُ من إفتائهم في بعض صور ذلك، وجعل المسكوت كالمنطوق بالقياس، ثم قد يكون الذي أفتوا فيه من التعليق الذي لا يقصد به اليمين، فجعل هذا الناقل قولهم في التعليق الذي يقصد به اليمين كذلك، وهذا غلط عليهم. وكذلك مَنْ نَقَلَ عن أحد من الصحابة الفرق بين الحلف بالطلاق والعتاق وغيرهما فقد غلط عليه، ومن نَقَلَ عن أحد منهم الفرق بين الحلف بالعتق والطلاق فغلطه واضح، لا سيما مع اعترافه بفساد هذا الفرق. _________ (1) انظر في تخريج المذاهب بالقياس: التخريج عند الفقهاء والأصوليين (ص 232)، وتحرير المقال فيما تصح نسبته للمجتهد من الأقوال (ص 51)، والتمذهب (1/ 284، 538).

(1/383)


وكل من نقل إجماعًا في التعليق أو الحلف فهو أولًا إنما يَعلم قول بعض المجتهدين في تلك الأقوال، ليس فيها لفظ عام لا في التعليق ولا في الحلف، بل قاس المسكوت على المنطوق، ولم يعلم عن غيرهم نزاعًا؛ فكان نقله مبنيًا على مقدمتين: إحداهما: نقل مذاهبهم بالقياس الصحيح تارة والفاسد أخرى. والثانية: عدم علمه بالمنازع لا علمه بعدم المنازع؛ فأيُّ النقلين أَحَقُّ بالاتباع؟ هذا أو من ينقل ألفاظهم بأعيانها الدالة على أنهم يجعلون التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا مكفرة، ويجعل ما سكتوا عنه من الأيمان بمنزلة ما أفتوا فيه، مع أنه موجود عن بعضٍ لفظٌ [100/ ب] عام في الحلف بالطلاق؛ كقول طاووس: (ليس الحلف بالطلاق بشيءٍ)، ومع أنه قد ثبت عن طاووس في تعليق العتق الذي يقصد به اليمين وتعليق النذر وما كان من هذا النحو: أنه يمين مكفرة؛ فعنه نَصٌّ عامٌّ في الحلف بالطلاق، ونصٌّ في الحلف بالعتق والنذر وما كان مثله: أنه يمين مكفرة. ومعلومٌ لمن تدبر هذه (1) الأقوال: أَنَّ من نقل عن هؤلاء الصحابة والتابعين أنهم يقولون في تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين أنه يمين ليس بطلاق لازم = كان نقله أصح وأثبت مِنْ نَقْلِ مَنْ نَقَلَ عن أحد من الصحابة والتابعين أن كل طلاق معلَّق بالصفة أو كل طلاق محلوف به يلزم. * * * * _________ (1) في الأصل: (هذا)؛ والصواب ما أثبتُّ.

(1/384)


فصلٌ قال المعترض: (قال ــ يعني المجيب (1) ــ: وأما ابن عباس فقد ذكر البخاري عنه في صحيحه (2) أنه كان يقول: لا طلاق إلا عن وطر، ولا عتق إلا ما ابتغي به وجه الله. فهذا يُبيِّن أن الحلف بالعتق والطلاق لا يقع به ذلك، فإنَّ هذا لم يكن له وطر في الطلاق، ولا الآخر قَصَدَ عتقًا يبتغي به وجه الله، وإنما حلف به قصدًا ألا يقع به العتق، [قلتُ: مقصودُهُ بهذا رَدُّ الرواية التي نقلها أحمد عن ابن عباس بوقوع العتق] (3) ومعارضتها بما نقله عنه البخاري كما ذكر. واعلم أن البخاري لم ينقله عن ابن عباس بهذا اللفظ الذي ذكره، بل لفظه: (وقال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به وجه الله). فَنَقَلَهُ هو بالمعنى وزاد عليه، فإنَّ لفظ البخاري ليس فيه حصر، ولا صريحًا في العموم، بخلاف اللفظ الذي نقله هو عنه، وشَرْطُ النقلِ بالمعنى: المساواةُ في الجَلاء والخفاء. وإنما ذكر البخاري ذلك في باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون وأمرهما (4) والغلط والنسيان في الطلاق والشرك _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 197)، وهو نقلٌ لمعنى كلام المجيب. (2) كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره. (3) ما بين المعقوفتين من «التحقيق». (4) في الأصل: وأمره، والمثبت من الصحيح و «التحقيق».

(1/385)


وغيره؛ ومقصوده ــ والله أعلم ــ: ما إذا قام مانع من الأشياء المذكورة في الترجمة يمنع من قَصْدِ الطلاق، ولم يسق الكلام في معرض حلف ولا نذر، فكيف يجعل ذلك معارضًا لما رواه أحمد عن ابن عباس صريحًا أنه إذا حلف بعتق مملوكه؛ فحنث= يعتق (1). وفي هذا الباب نقل البخاري أثر ابن عمر الذي قدمناه عنه في الطلاق، وهو يوافق ما نقله أحمد من رواية عثمان بن حاضر عن ابن عمر [101/ أ] وابن عباس) (2). والجواب من وجوه ــ بعد أن نذكر لفظ البخاري وما نقله في هذا الباب ــ، فإنَّ هذا المعترض قد حَرَّف الكلم عن مواضعه، وحَمَلَ كلام البخاري على غير مراده، فإذا ذُكِرَ لفظه وسياقه تبين مراد البخاري ومعنى ما نقله عن السلف. قال البخاري (3): باب الطلاق في الإغلاق والكره (4) والسكران والمجنون وأمرهما (5) والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى». وتلى الشعبي: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وما لا يجوز من إقرار الموسوس. _________ (1) لم أقف عليه. وانظر ما سيأتي في (ص 145). (2) «التحقيق» (40/ ب - 41/ أ). (3) في صحيحه (ص 947). (4) في الأصل: (والمكره)، والمثبت من الصحيح. (5) في الأصل: (وأمره)، والمثبت من الصحيح.

(1/386)


قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي أقرَّ على نفسه: «أَبِكَ جنون؟». وقال علي - رضي الله عنه -: بَقَرَ حمزةُ خواصر شَارِفَيَّ، فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يلوم حمزة، فإذا حمزة قد ثَمِلَ محمرةٌ عيناه، ثم قال حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي، فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد ثَمِلَ، فخرج وخرجنا معه. وقال عثمان - رضي الله عنه -: ليس لمجنون ولا سكران طلاق. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. وقال عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: لا يجوز طلاق الموسوس. وقال عطاء ــ رحمة الله عليه ــ: إذا بدا بالطلاق فله شرطه. وقال نافع ــ رحمة الله عليه ــ: طَلَّقَ رجل امرأته البتة إن خرجت. فقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: إِنْ خَرَجَت فقد بُتَّتْ منه، وإن لم تخرج فليس بشيءٍ. وقال الزهري فيمن قال: إِنْ لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق ثلاثًا: يُسْأَل عَمَّا قال وَعَقَدَ عليه قلبه حين حلف بتلك اليمين، فإن سَمَّى أجلًا أراده وعقد عليه قلبه حين حلف= جُعِلَ (1) ذلك في دينه وأمانته. وقال إبراهيم: إِنْ قال لا حاجة لي فيك (2) نيته، وطلاق كل قوم بلسانهم. وقال قتادة: إذا قال: إذا حملتِ فأنت طالق ثلاثًا، يغشاها عند كل طهر _________ (1) كتب الناسخ في الهامش: (أظنه). وما ظنَّه صواب. (2) في الأصل: (لك فيه) ووضع الناسخ فوقها خطًا، وكتب في الهامش ما هو مثبت وبجانبها (ظ).

(1/387)


مرة، فإن استبان حملها فقد بانت منه. وقال الحسن: إذا قال: الحقي بأهلك؛ نِيَّتُهُ. وقال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتق ما ابتغي به وجه الله. قال الزهري: إِنْ قال: ما أنتِ بامرأتي؛ نِيَّتُهُ، وإن نوى طلاقها؛ فهو ما نوى [101/ ب]. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ألم تعلم أنَّ القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يُفيق، وعن الصبي حتى يُدرك، وعن النائم حتى يستقيظ. وقال عليٌّ: كل الطلاق جائز إلا طلاقَ المعتوه. ثم أسند البخاري حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم». وقال قتادة: إذا طَلَّقَ في نفسه فليس بشيء. وأسند عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر أَنَّ رجلًا من أسلم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، فقال: إنه قد زنا، فأعرض عنه، فتنحى لشقه الذي أعرض، فشهد على نفسه أربع شهادات، فدعاه فقال: «هل بك جنون؟ هل أحصنت؟». قال: نعم؛ فأمر به أن يرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة جَمَزَ حتى لحق بالحرة فقتل. وأسند ــ أيضًا ــ عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أَنَّ أبا هريرة قال: أتى رجل من أَسْلَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله، إِنَّ الأَخِرَ قد زنا ــ يعني: نفسه ــ

(1/388)


فأعرض عنه، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قِبَلَه. فقال (1): يا رسول الله! [إنَّ] الأَخِرَ قد زنا فأعرض عنه، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فعاد فقال له ذلك، فأعرض عنه، فتنحى الرابعة؛ فلما شَهِدَ على نفسه أربع شهادات دعاه فقال: «هل بك جنون؟». قال: لا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اذهبوا به فارجموه» وكان قد أحصن. وعن الزهري قال: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى بالمدينة، فلما أذلقته الحجارة جمز، حتى أدركناه بالحرة، فرجمناه حتى مات. فهذا مقصود البخاري في الترجمة يُبيِّنُ أَنَّ مراده اعتبار نية المطلِّق، وحينئذٍ؛ فالجواب من وجوه: أحدها: قوله: (مقصوده بهذا رَدُّ تلك الرواية بهذه الرواية). فيقال له: ليس الأمر كذلك؛ لا في كلام المجيب ما يدل على ذلك ولا هو قصد ذلك، وإنما ذكر هذا لِيُبيِّنَ أنه عن ابن عباس ما يبين أَنَّ الطلاق والعتاق المحلوف به لا يقع، كما قدمناه عنه وعن غيره من الصحابة [102/أ] أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمين، وأنَّ تعليق العتق الذي يقصدُ به [اليمين] (2) يمينٌ مكفرة. وذكرنا أَنَّ ما يعارض هذا عنه من رواية عثمان بن حاضر؛ إما أن تكون _________ (1) في الأصل زيادة: (له ذلك)، وليست في الصحيح، ويؤدي إثباتها إلى ارتباك في السياق. (2) إضافة يقتضيها السياق.

(1/389)


باطلة، وإما أن تكون عنه روايتان، وكذلك ذكرنا هذا الأثر عنه موافقًا لما ثبت عنه مما يؤيد ذلك، وإذا ثبت هذا عنه = كان أحد الأمرين لازمًا: إما ترجيح الروايات الثابتة عنه على الرواية الضعيفة، وإما أن يكون عنه روايتان، لا أَنَّا بمجرد نقل هذا الجواب نرد تلك الرواية، فإنَّ هذا ليس بطريق صحيح. فإنه إذا ثبتت تلك الرواية وثبتت هذه= لم يكن رَدُّ إحداهما بالأخرى بأولى من العكس، بل بَيَّنَّا أَنَّ تلك الرواية ليس فيها ولا في غيرها أَنَّ ابن عباس أو غيره من الصحابة فَرَّقُوا بين الحلف بالعتق وبين الحلف بالنذر، كما يقوله من يقول بذلك من يحتج بقولهما ممن قال: إن قوله موافق لقول أحد من الصحابة من الفرق بين الحلف بالعتق والنذر، فقوله لم يُنقل عن أحد من الصحابة. وأحمد لم يَنقل عن أحد من الصحابة أنه فرق بين العتق وغيره لا هو ولا غيره من العلماء، بل لما نُقِلَ له عن بعضهم القول في العتق ولم تبلغه تلك الرواية إلا من طريق واحد عللها، فلم يثبت عنده عن الصحابة في العتق إفتاء بالتكفير، ثم رأى في هذه الرواية إفتاء بعضهم بلزومه إذا حلف به، فأفتى هو بلزومه ولزوم الطلاق دون لزوم النذر، كما قال ذلك أمثاله من العلماء كالشافعي وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، وليس في هؤلاء مَنْ نَقَلَ قوله عن الصحابة، بل ولا من بعدهم كمحمد بن نصر المروزي وأمثاله مع موافقتهم لهم= لم يَنْقُلْ أَحَدٌ من هؤلاء عن أحدٍ من الصحابة أنهم فَرَّقُوا بين الحلف بالعتق والنذر، ولا بين الحلف بالطلاق والعتاق والحلف بالنذر، ولا بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتق، ولا بين الحلف بالطلاق والحلف بالنذر = فهذه الفروق لم ينقلها أحد من العلماء عن أحد من

(1/390)


الصحابة بإسناد (1) صحيح ولا ضعيف. ولكن نقل بعضهم ما نقله [102/ ب] أحمد من أثر عثمان بن حاضر أنهم أفتوا بلزوم العتق، ولكن إنما أفتوا بذلك مع إفتائهم بلزوم الصدقة وذبح النفس، وجعلهم في الصدقة الزكاة وفي ذبح النفس بدنة، وهذا القول إنْ كان هؤلاء الصحابة قالوه: ففيه التسوية بين الحلف بالعتق والحلف بالنذر في لزوم الجميع لا في لزوم العتق وحده وتكفير الباقي، فأمَّا أَنْ يجعل لمجرد هذه الرواية أنهم أفتوا بلزوم العتق وتكفير غيره = فهذا كذبٌ صريحٌ عليهم، بل لو قُدِّرَ أنه لم يُنقل عنهم في حديث ليلى بنت العجماء ذكر العتق بحال= لم يجز أن يقال: إنهم يفتون في العتق باللزوم وفي غيره بالتكفير بحديث عثمان بن حاضر، فإنه ليس فيه إلا الإفتاء بلزوم الجميع، بل أفتوا بأن العتق وغيره يلزم. وحينئذٍ؛ فمقصود مَنْ نصر قول أحمد في هذا الجواب: إما أَنْ يكون مقصوده أَنْ يحكي عنهم الإفتاء بلزوم العتق وتكفير غيره؛ فهذا كذبٌ صريحٌ عليهم، وأحمد - رضي الله عنه - لم يقل هذا، ومن هو دون أحمد لا يستجيز مثل هذا الكذب الظاهر عليهم؛ فكيف بأحمد وأمثاله؟ وإما أَنْ يكون مقصوده أَنْ يعارض رواية التيمي برواية عثمان بن حاضر، ويقول: قد اختلف النقل عنهم في العتق؛ فهذا متوجه يسلكه أحمد ومثله من العلماء، لكن يقال: المعارضة ثبتت في العتق وفي غيره؛ فعثمان نقل في الجميع اللزوم، والتيمي نقل في حديث ليلى بنت العجماء في الجميع الكفارة، وهو ومن اتبعه وأنتم وجميع العلماء تُقَدِّمُون حديث ليلى _________ (1) في الأصل: (لإسناد)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/391)


بنت العجماء في الصحة والثبات (1). وأحمد مع الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومحمد بن نصر وغيرهم من فقهاء الحديث مع أكثر السلف يقولون بحديث ليلى بنت العجماء في الحلف بالنذر، ولم يقل أحد من العلماء بما في حديث عثمان بن حاضر، فإذا قلتم بموافقته في العتق دون النذر= لم يكن ما قلتموه قول أحد من الصحابة، فلا يجوز لأحدٍ منكم أَنْ يجعلَ قوله في العتق قول أحد من الصحابة. وقد تكلم العلماء فيما إذا اختلف الصحابة في مسألتين على قولين وسَوَّوا بينهما؛ هل لمن بعدهم [103/ أ] أَنْ يُحدث قولًا ثالثًا بموافقة هؤلاء في قول وموافقة هؤلاء في قول؟ (2). ومَثَّلُوا ذلك باختلاف الصحابة في العمريتين: زوج وأبوين، وزوجة وأبوين؛ فإن الجمهور من الخلفاء الراشدين وغيرهم كعمر (3) وعثمان (4) _________ (1) في الأصل: (الثبوت)، وكتب في الحاشية ما أثبتُّ، وفوقها (صح). (2) مجموع الفتاوى (13/ 59) (15/ 95) (27/ 308)، الفتاوى الكبرى (6/ 498 - 499، 524)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 359)، المسوَّدة (2/ 634)، شرح عمدة الفقه (1/ 333). وانظر ما سيأتي: (ص 803). (3) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 54/ برقم 6)، وابن أبي شيبة في مصنفه (31700) وغيرهما عن ابن مسعود قال: كان عمر بن الخطاب إذا سَلَكَ بنا طريقًا فاتبعناه وجدناه سهلًا، وإنه سُئِلَ عن امرأةٍ وأبوين. فقال: للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب. انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 110 - 111). (4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31697) وغيره عن أبي المهلب: أنَّ عثمان سُئل عنها فقال: للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وسائر ذلك للأب. انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 111 - 112).

(1/392)


وعلي (1) وابن مسعود (2) وزيد بن ثابت (3) - رضي الله عنهم - قالوا: بأن الباقي بعد فرض الزوجين للأم ثُلُثُهُ والباقي للأب، جعلًا لما يَبقى بعد فرضهما بمنزلةِ أصلِ التركة إذا لم يكن وارث غيرهما، وجعلًا لذلك بمنزلة ما تَبَقَّى بعد الوصايا وقضاء الديون. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - وطائفة: بل للأم الثلث فيهما (4). _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31699) وغيره عن الشعبي، عن علي في امرأة وأبوين: للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب. انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 112 - 113). (2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 253) عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود قال: ما كان الله ليراني أنْ أُفَضِّلَ أُمًّا على أب! انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 113 - 114). (3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 254)، وابن أبي شيبة (31710) وغيرهما عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن: زوج، وأبوين. فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب الفضل. فقال ابن عباس: أفي كتاب الله وجدته؟! أم رأيٌ تراه؟ قال: بل رأيٌ أراه، لا أرى أنْ أُفضِّلَ أُمًّا على أب. وكان ابن عباس يجعل لها الثلث من جميع المال. وهذا لفظ عبد الرزاق. انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 114 - 116). (4) سبق تخريج ما ورد عن ابن عباس في الحاشية السابقة في قصته مع زيد بن ثابت - رضي الله عنهما -. وانظر ما ورد في الباب من آثار في: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 116 - 119).

(1/393)


فقال بعض التابعين ــ إما مروان وإما ابن سيرين (1) ــ بقول عمر في زوج وأبوين، وبقول ابن عباس في زوجة وأبوين (2)، لئلا يُفَضِّلَ أُمًّا على أب، فالزوج إذا أخذ النصف وأخذت الأم الثلث يبقى للأب السدس، بخلاف ما إذا كانت زوجة فإنها تأخذ الربع والأم الثلث يبقى ثلث وزيادة (3) = فهذا تنازع الناس في جوازه، والأكثرون لا يُجَوِّزونه. وقد اختلف الناس من أصحاب أحمد وغيرهم في جواز مثل هذا، فقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز، وقيل: إِنْ صَرَّحُوا بالتسوية بين المسألتين لم يجز الفرق وإلا جاز. وهذا في مسألتين يكون مأخذهما واحدًا كاختلافهم في الرَّدِّ وذوي الأرحام؛ فقيل: بالرد وتوريث ذوي الأرحام، وقيل: بنفيهما، ولم يقل أحد بالرَّدِّ دون توريث ذوي الأرحام والمأخذ واحد. ولم يقل أحد من العلماء بأنه يجوز أن ينقل عن الصحابة الفرق الذي قاله بعض التابعين= فثبت أنه لا يجوز أن ينقل عن أحد من الصحابة الفرق _________ (1) وفي تنبيه الرجل العاقل (1/ 359)، والمسوَّدة من كلام جد شيخ الإسلام (2/ 635) نسبة هذا القول إلى مسروق! (2) أخرجه ابن حزم في المحلى (ص 1469) من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أيوب السختياني: أنَّ محمد بن سيرين قال في رجلٍ ترك امرأته وأبويه: للمرأة الربع، وللأم ثلث جميع المال، وما بقي فللأب. وقال في امرأة تركت زوجها وأبويها: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب ما بقي. قال: إذا فضل الأب الأم بشيءٍ؛ فإنَّ للأم الثلث. (3) في الأصل: (وربع)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/394)


بين الحلف بالعتق وغيره باتفاق العلماء، ولم يَحْكِ هذا عنهم لا أحمد ولا غيره، ولكن فعله الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وهؤلاء الأئمة ــ رضوان الله عليهم ــ إذا كان النقل عنهم بتكفير الحلف بالعتق وغيره ثابتًا وباللزوم وغيره ثابتًا هو نظير ما فعله بعض التابعين من الفرق بين العمريتين. فإنَّ الصحابةَ نُقِلَ عنهم في الحلف بالعتق والنذر جوابان: أحدهما: تكفير الجميع، والثاني: الإلزام بالجميع [103/ ب]؛ فهؤلاء فَرَّقُوا بين العتق وغيره؛ فألزموا الحالف بالعتق دون غيره، كما فَرَّقَ ابن سيرين بين العمريتين. والصحيح في مثل هذا: أنه لا يجوز التفريق بين ما سَوَّى الصحابة بينه مع اتحاد المأخذ؛ فإنَّ المأخذ أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين هل هو يمين أم لا؟ فإنْ كان يمينًا فهو يمين في الجميع، وإن لم يكن يمينًا فليس بيمين في الجميع، والصحابة نُقِلَ عنهم هذا وهذا، لكن النقل عنهم بأنه يمين أثبت وأكثر طُرُقًا، وهو منقول عنهم في قضايا متعددة بخلاف هذا. وبتقدير صحة الجوابين: فالصواب موافقتهم؛ إما في هذا وإما في هذا، وأما التفريق بين ما جمعوا بينه مع اتحاد المأخذ فهذا (1) يُضَعَّفُ كضعف قول من فَرَّق بين العمريتين، وهذا المفرِّق ذهب إلى ما لم يذهب إليه أَحَدٌ من الصحابة من التعليل بمجرد تفضيل الأم على الأب. كما أَنَّ هؤلاء المفرِّقين بين العتق وغيره ذهبوا إلى ما لم يذهب إليه أَحَدٌ من الصحابة من تعليل الحلف بالعتق بأنه وقوعٌ معلَّقٌ بالصفة، بخلاف النذر _________ (1) في الأصل: (فليس)، وهي تعكس المعنى، فلعل الصواب ما أثبت.

(1/395)


فإنه وجوب معلَّقٌ بالصفة؛ فإن هذا الفرق لم يذهب إليه أحدٌ من الصحابة بل ولا من التابعين، فهو فَرْقٌ مسبوق بالإجماع على خلافه، ودعوى الإجماع القديم على إلغاء هذا الفرق أولى من دعواه على وقوع كُلِّ طلاق معلق بصفة أو محلوف به، مع أَنَّ هذا اللفظ لم يُنقل عن أحد منهم فضلًا عن أن يكون إجماعًا، وما نقل عن بعضهم من الإفتاء في بعض ذلك فإنه وإِنْ عُلِمَ مأخذه فلم يُعلم موافقة الباقين له، بل عُلِمَ أَنَّ الناس يخالفونه فامتنع عن (1) هذا المأخذ؛ ومع العلم بالنزاع يمتنع دعوى الإجماع، بخلاف ما لم يعلم فيه نزاع فإنَّ دعوى الإجماع فيه أظهر. وأما إذا قيل: لم يثبت عنهم في العتق شيءٌ لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لم يكن ما فعلوه مخالفًا لما قاله الصحابة، وإِنْ ثبتَ النقل عنهم في أحدهما ــ كما بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الثابتَ عنهم في العتق هو التكفير دون نقيضه ــ فهذا أقوى من قوة هذا القول. وأحمد - رضي الله عنه - لَمَّا لم يَعْرِف ثبوت الحلف بالعتق عنهم، لم يكن فيما علمه مخالفًا لأحد منهم، وذكر الأثر الآخر [104/ أ] عنهم، وأما العتق فيلزم، وفيه التسوية بينه وبين غيره باللزوم؛ فتبيَّن أنه قد نقل عنهم في الجملة الإلزام بالعتق، وإن كانوا سووا بينه وبين غيره، فهو إذا فَرَّقَ بينه وبين غيره لم يكن فيما علمه مخالفًا لإجماعهم، وإنما يكون مخالفًا لهذا الأثر أثر عثمان، فالنفي في الموضعين واحد. الجواب الثاني: قوله: (إن البخاري لم ينقله بهذا اللفظ، بل لفظه: وقال _________ (1) كتب الناسخ بخط صغير فوقها (كذا).

(1/396)


ابن عباس: الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله. فَنَقَلَهُ هو بالمعنى وزاد عليه، فإنَّ لفظ البخاري ليس فيه حصر، ولا هو صريحًا [في العموم] (1)، بخلاف اللفظ الذي نقله هو عنه، وشَرْطُ النقلِ بالمعنى المساواةُ في الجلاء والخفاء). فيقال: أمَّا نقله بالمعنى: فالمذاهب إنما تُنقل بالمعنى، وحديث الرسول يجوز نقله بالمعنى عند الجماهير، وأما مذاهب العلماء فما زال العلماء ينقلونها بالمعنى، وما علمت طائفة معتبرة نازعت في هذا، كما نازعت في نقل حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وإن لم يكن نقل المذاهب بالمعنى جائزًا فعامة ما في كتب الناس من نقل مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم غير جائز؛ بل نقلها بالمعنى الذي عُرِفَ أَنَّ المتكلمَ أراده أولى من نقلها بلفظ يحتمل ذلك المعنى وغيره؛ فإنَّ المتكلم قد يكون تكلم بلفظٍ معناه معروفٌ عنده، ثم يُغَيَّر العرف والاصطلاح في ذلك اللفظ؛ فمن نقل لفظه ولم ينقل عُرْفَه وعادَته فيه = أفهمَ الناس خلافَ مراده وجعلهم يكذبون عليه، ومَنْ نقله بالمعنى الذي عُرِفَ أنه أراده = جَعَلَ الناس يصدقون عليه (2). وأما قوله: (إن الناقل زاد على المعنى) فغلطٌ. وقوله: (لفظ البخاري ليس فيه حصر ولا عموم) غلطٌ منه، فإنَّ قول ابن _________ (1) في الأصل: (بالعموم)؛ والمثبت موافق لما تقدم في (ص 385). (2) تهذيب الأجوبة (1/ 402 - 409)، المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (2/ 1075). وانظر ما سيأتي قريبًا.

(1/397)


عباس: الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله = يفيد الحصر والعموم؛ كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الماء من الماء» (1)، وقوله أو قول بعض السلف: «الشفعة فيما لم يقسم» (2). وقوله: «الأعمال بالنيات» فإنه هكذا في الصحيح (3)، [104/ ب] وروي ــ أيضًا ــ: «إنما الأعمال بالنية» (4)، وقد روي ــ أيضًا ــ: «إنما الأعمال بالنيات» (5)، وهذه الألفاظ الثلاثة في الصحيح، ويروى في غير الصحيح: «الأعمال بالنيات» (6)، والناس إنما رووه تارة بحرف «إنما»، وتارة بدون هذا الحرف، لأنَّ المعنى عندهم في الموضعين سواء. وكذلك ما عُرِّفَ بالإضافة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (7)، فإنَّ هذا يفيد الحصر والعموم؛ _________ (1) أخرجه مسلم (343) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وهو في البخاري (180) بلفظ آخر دون هذه الزيادة. (2) أخرجه البخاري (2214) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. (3) كذا في الأصل، ولعله خطأ من الناسخ، فالنسخ المطبوعة من الصحيحين لا يوجد فيهما هذا اللفظ «الأعمال بالنيات»، والذي في البخاري (54): «الأعمال بالنية»؛ ويؤكد هذا أنَّ المجيب - رحمه الله - قال بعد ذلك: ويُروى في غير الصحيح: «الأعمال بالنيات». (4) أخرجه البخاري (6689)، ومسلم (1907). (5) أخرجه البخاري (1). (6) أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/ 113) وغيره. (7) أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: هذا الحديث أصحُّ شيءٍ في هذا الباب وأحسن. وقال البغوي في شرح السنة (3/ 17): هذا حديث حسن. وصححه الضياء في المختارة (2/ 341 - 342). انظر: العلل للدارقطني (11/ 323)، الضعفاء للعقيلي (2/ 502)، نصب الراية (1/ 307)، البدر المنير (3/ 447)، أصل صفة الصلاة للألباني (1/ 184)، إرواء الغليل (2/ 9)، صحيح أبي داود (الأم) (1/ 102).

(1/398)


أي: لا مفتاح لها إلا الطهور، ولا تحريم لها إلا التكبير، ولا تحليل لها إلا التسليم. ومن المُعرَّف باللام قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ مَنْ أَمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد مَنْ جاهد نفسه في ذات الله» (1)، فهذا نظير قوله _________ (1) ورد بألفاظ متقاربة؛ منها: حديث فضالة بن عبيد أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ المؤمن من أَمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب». أخرجه البزار (9/ 206)، والبغوي في شرح السنة (1/ 29). وقال الهيثمي في المجمع (3/ 268): رواه البزار والطبراني في الكبير باختصار، ورجال البزار ثقات. وانظر: السلسلة الصحيحة (2/ 89/ ح 549). وحديث عبد الله بن عمرو أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله! مَنِ المسلم؟ قال: «مَنْ سلم المسلمون من لسانه ويده» قال: فمن المؤمن؟ قال: «مَنْ أَمِنَهُ الناس على أموالهم وأنفسهم» قال: فمن المهاجر؟ قال: «مَنْ هَجَرَ السيئات» قال: فمن المجاهد؟ قال: «مَنْ جاهد نفسه لله ــ عز وجل ــ». أخرجه عبد بن حميد (برقم 336). وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن مَنْ أمنه الناس، والمسلم مَنْ سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء؛ والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه». أخرجه الإمام أحمد في مسنده (20/ 29)، وأبو يعلى (7/ 199) وغيرهما. وصححه ابن حبان (2/ 264)، والحاكم (1/ 55)، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 54): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجاله رجال الصحيح إلا علي بن زيد، وقد شاركه فيه حميد ويونس بن عبيد. وصوَّب الدارقطني في العلل (12/ 235) إرساله. انظر: تخريج الكشاف (4/ 100).

(1/399)


تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [الحجرات: 15]، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]، ومثله قولهم: العالِمُ مَنْ يخشى الله، فإنه مثل قولهم: إنما العالم من يخشى الله، وما يؤثر عن الله ــ عز وجل ــ أنه قال: «عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاقٍ قِرْنَه» (1)، فإنه كقوله: إنما عبدي كل عبدي، ومثل هذا كثير (2). _________ (1) لم أجده بدون «إن» في أوله. وبهذا اللفظ أخرجه الترمذي (3580) وابن أبي عاصم في الاحاد والمثاني (5/ 151) وغيرهما عن عمارة بن زعكرة. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث الواحد. (2) مجموع الفتاوى (5/ 517) (14/ 293) (15/ 322 - 323) (16/ 77، 178، 295) (18/ 264 - 266) (21/ 382) (25/ 77، 153 - 155، 160، 163) (29/ 142)، الفتاوى الكبرى (4/ 85)، القواعد الكلية (ص 388)، بيان تلبيس الجهمية (7/ 569، 598)، منهاج السنة (4/ 483)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 502)، الجواب الصحيح (4/ 41)، شرح حديث النزول (ص 387)، الصارم المسلول (3/ 862 - 863).

(1/400)


والقول بأن مثل هذا يفيد الحصر والعموم قول جماهير أهل العلم، وهو معروف من قول أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما (1)، لكن تنازعوا: هل يفيده بطريق المنطوق أو بطريق المفهوم؟ على قولين، ومن قال: إنه بطريق المفهوم= جَعَلَهُ أعلى مراتب المفهوم، أعلى من مفهوم الغاية وغيره، وجعل الخلاف في ذلك شاذًا ليس كالخلاف في مفهوم الصفة والعدد. والصحيح: أنه يفيده بطريق المنطوق لا بطريق المفهوم الذي هو دليل الخطاب، فإنَّ ذلك إنما يكون فيما سكت عنه المتكلم، فيدل المنطوق على المسكوت إما لتخصيصه بالذكر مع تمام المقتضي للتعميم، وقصد التخصيص بالحكم يتضمن نفي حكم المنطوق عن المسكوت، سواء انتفى عن جميع أفراده أو كان في نفيه عن بعضها [105/ أ] تفصيل وتقييد، فقصد تخصيص المذكور بالحكم= يبين أنه ليس حكم المسكوت كحكم المنطوق، ويكفي في ذلك الخلاف من بعض الوجوه. فقوله: «مطل الغني ظلم» (2) و «لَيُّ الواجدِ يُحِلُّ عرضه وعقوبته» (3) _________ (1) انظر: اختيارات شيخ الإسلام وتقريراته في النحو والصرف (ص 151)، ودلالات الألفاظ عند شيخ الإسلام (1/ 271) (2/ 508). (2) أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه أبو داود (3628)، والنسائي (4689)، وابن ماجه (2427) من حديث الشريد بن سويد - رضي الله عنه -. وصححه ابن حبان (11/ 486)، والحاكم (4/ 114). انظر: البدر المنير (6/ 656)، وإرواء الغليل (5/ 259).

(1/401)


يدل على أنَّ مطل الفقير ليس كذلك، وأَنَّ لَيَّ الفاقد ليس كذلك. وقوله: «في السائمة الزكاة» (1) يدل على أَنَّ المعلوفة ليست كذلك، فلا يجب فيها ما يجب في السائمة، ثم إذا قيل: إنه يجب فيها زكاة التجارة، لم يكن في هذا مخالفة لدلالة المفهوم، فإن المفهوم لا عموم له؛ فهو لا يقتضي انتفاء حكم المنطوق عن جميع صور المسكوت في جميع الأحوال، إذ كانت دلالته إنما هي من جهة أن المنطوق قُصِدَ تخصيصه بذلك الحكم، فإذا كان ذلك الحكم لا يثبت في المسكوت كثبوته في المنطوق = حصل الاختصاص، وهذا يحصل بألا تكون الزكاة في غير السائمة كالزكاة في السائمة. فكذلك قوله: «لَأَنْ يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ خيرٌ له مَنْ أَنْ يمتلئ شعرًا» (2) يقتضي أَنَّ ما دون الامتلاء ليس كذلك (3). وقد تكون دلالة المفهوم من جهة العلة؛ فإن الحكم إذا عُلِّقَ باسم مشتق مناسب كان موضع الاشتقاق علة للحكم (4)، وكذلك مع عدم ظهور المناسبة عند الأكثرين، وهو أشهر القولين لأصحاب أحمد وغيرهم، وإذا _________ (1) لم أجده بهذا اللفظ مع شهرته في كتب الأصوليين، وقد ذكره المجيب ــ أيضًا ــ في مجموع الفتاوى (31/ 137). وأخرجه البخاري (1454) من حديث أنس - رضي الله عنه - بلفظ: «في صدقة الغنم في سائمتها ... ». (2) أخرجه البخاري (6155)، ومسلم (2257) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وجاء عن غيره في الصحيحين. (3) دلالات الألفاظ عند شيخ الإسلام (2/ 673). (4) الفتاوى الكبرى (6/ 237 - 238)، الصارم المسلول (3/ 659)، منهاج السنة (2/ 42).

(1/402)


كان الوصف عِلَّة للحكم= انتفى ذلك الحكم لانتفاء علته؛ فهذان الوجهان: قصد التخصيص، والتعليل= هما وجه دلالةِ مفهومِ الخطاب الذي يسمى مفهوم المخالفة، ويسمى دليل الخطاب (1). وأما مفهوم الموافقة فَأَنْ يظهر أن الحكم في المسكوت أولى منه في المنطوق (2)؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، فإذا حرم قتلهم مع خوف الفقر فتحريمه مع الغنى أولى. وقد يكون التخصيص بالذكر لسبب اقتضاه، فلا يدل على المسكوت لا موافقة ولا مخالفة؛ فهذه الأقسام الثلاثة موجودة، بل تُعلم الموافقةُ والمخالفةُ بدليلٍ منفصلٍ؛ فالموافقة هو: قياس الجمع (3)، والمخالفة: قياس الفرق. وأما قوله: «إنما الماء من الماء» (4)، و «إنما الأعمال بالنيات» (5) فصيغة «إنما» تفيد الحصر [105/ ب] كقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] كما يفيد الاستثناء من النفي، كقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73]، _________ (1) مجموع الفتاوى (6/ 179) (15/ 446) (21/ 327) (31/ 345)، جامع المسائل (2/ 312 - 313)، الجواب الصحيح (1/ 380) (3/ 152)، شرح عمدة الفقه (3/ 141). (2) مجموع الفتاوى (6/ 179)، جامع المسائل (2/ 313)، شرح عمدة الفقه (3/ 141)، شرح الأصبهانية (ص 238). (3) في الأصل: (الجميع)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) تقدم تخريجه قريبًا. (5) تقدم تخريجه قريبًا.

(1/403)


وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]، ومثل هذا يفيد نفي كونه زائدًا على حَدِّ الرسالة، فليس بملك من الملائكة، وليس بمخلد؛ بل هو رسول يجوز عليه ما يجوز على الرسول كقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] أي: لا يَتَعَدَّى حَدَّ الرسالة، فلا يكون إلهًا، وأمه صديقة ليست رسولًا ولا نبيًّا، فضلًا عن أن تكون إلهًا. فدلالة «إنما» على النفي والإثبات بطريق اللفظ، وكذلك الدلالة بأدلة التعريف مع حذف «إنما» إذا قيل: «الماء من الماء» (1) و «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (2) فإنَّ اسم الجنس المعرَّف بلام الجنس يقتضي الاستغراق عند جماهير السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا يعرف في ذلك نزاع بين القرون الثلاثة، وإنما أنكر العموم في مثل هذا طائفة من المتأخرين من أهل البدع (3)، كما ذكر غير واحد من العلماء قالوا: إنكار صيغ العموم بدعةٌ حدثت بعد القرون الثلاثة (4). والنزاع في الاسم المفرد الذي له جمع كالإنسان نزاعٌ شاذٌ، وأما اسم _________ (1) تقدم تخريجه قريبًا. (2) تقدم تخريجه قريبًا. (3) مجموع الفتاوى (6/ 440 - 441) (12/ 481 - 484)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 272 - 273)، ونصَّ على أنَّ الذين أنكروا العموم هم الواقفة من المرجئة، وبعض الأشعرية والشيعة. (4) نقل ابن القيم في الصواعق المرسلة (2/ 690) هذه العبارة عن شمس الأئمة السرخسي.

(1/404)


الجنس الذي يتناول الواحد والكثير؛ كالماء والطلاق والعتاق فليس فيه نزاع، اللهم إلا أَنْ يكونَ عند من لا يرى صيغ الجمع ــ كالمسلمين والمشركين ــ للعموم، وهذا ــ أيضًا ــ شاذٌ؛ وليس هذا موضع بسط ذلك (1). لكن بَيَّنَّا (2) أَنَّ قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: (الطلاق عن وطر، والعتق ما ابتغي به وجه الله) من هذا الباب، وإذا كان هذا مفيدًا للحصر والعموم بطريق اللفظ عند السلف وجماهير الخلف، كما يفيده إذا قال: «إنما الماء من الماء» (3)، وإنما الطلاق عن وطر، وإنما العتق ما ابتغي به وجه الله. وإنْ كان الحصر والعموم قد يظهر لبعض الناس في هذا أكثر من هذا؛ فلا ريب أَنَّ مراد ابن عباس وأمثاله باللفظين واحد. وأيضًا؛ فيمتنع ألا يكون مراد ابن عباس الحصر والعموم، بل مراده أَنَّ بعض الطلاق يكون عن وطر وبعضه يُبتغى به [106/ أ] وجه الله، فإنَّ هذا معلومٌ لكل أحد، وهو كلام لا فائدة فيه، وإنما يفيد إذا قصد الحصر والعموم لينفي أن يكون ما سوى ذلك طلاقًا وعتاقًا. الجواب الثالث: قوله: (شرط النقل بالمعنى المساواة في الجلاء والخفاء). _________ (1) مجموع الفتاوى (21/ 544)، الفتاوى الكبرى (1/ 375)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 543). وانظر ما سيأتي: (ص 666). (2) في الأصل زيادة: (أن يعلم)، وبحذفها يستقيم الكلام. (3) تقدم تخريجه قريبًا.

(1/405)


فيقال: هذا في نقل مذاهب العلماء غلط باتفاق العلماء، بل وفي نقل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بل الصحابي إذا عَلِمَ مُرادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظه الذي تعوَّد (1) الخطاب به = كان له أن يبين للتابعين مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ آخر يفهمون به مراده، وإذا كان هذا اللفظ أوضح في الدلالة كانت الرواية به أولى، وإنما يتحرى اللفظ إذا لم يعلم مراده، فيؤدي اللفظ بعينه. والله ــ تعالى ــ قد حكى أقوال الأمم قبلنا باللفظ العربي الذي هو أتم في البيان والدلالة من الألفاظ التي كانوا يتخاطبون بها، لا سيما لنا، فإنَّ البيان لنا أَجَلُّ بلا ريبٍ، والجلاء والخفاء أمر نسبي، ومعلوم أن ما ذكره الله ــ تعالى ــ من قول موسى ــ عليه السلام ــ وفرعون، ويعقوب ــ عليه السلام ــ وبنيه وغيرهم ممن كانت لغته غير عربية، بل إما عبرية وإما قبطية وإما سريانية وإما غير ذلك = ذكرها الله ــ تعالى ــ باللغة العربية، وهكذا كل مُتَرْجَمٍ يترجم كلام غيره بعبارة أجلى من تلك العبارة للمستمعين. ثم العربية متفوقة (2)، فليس بين عبارة القرآن وغيره نسبة في البلاغة؛ ومع هذا فالله ــ سبحانه وتعالى ــ حكى أقوالهم بهذه الألفاظ البليغة. والصحابة والتابعون بعدهم مازالوا يحكون كلام بعضهم بلفظٍ آخر يَبِين به المعنى المراد للمستمعين، إن (3) كان ذلك أجلى لهم. وهذا المعترض قد حكى أقوال الصحابة والتابعين أقوالًا لم يقولوها، _________ (1) في الأصل بالياء (يعود)، ولعل الصواب ما أثبت. قال في القاموس (ص 387): جَعَلَهُ من عادته. (2) في الأصل: (متقاربة)، ولعل الصواب ما أثبت أو كلمة نحوها. (3) في الأصل: (وإن).

(1/406)


وَقَوَّلَها لهم، ونقلها بحسب فهمه وقياسه مع خطئه؛ فكيف يُنْكِرُ على غيرِهِ نَقْلَ قولِ قائلٍ منهم مع القطع بأنه أراد المعنى الذي نقله؟! ومع أَنَّ حذف «إنما» وإثباتها في هذا الموضع مما لا فرق بينهما في المعنى، بل التسوية بينهما قول أهل العلم قديمًا وحديثًا، وإن كان في ذلك نزاعٌ فهو شاذ فاسد. الجواب الرابع: قوله: (إنما ذكر البخاري ذلك في باب الطلاق في [106/ ب] الإغلاق والمكره والسكران والمجنون وأمره والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره، ومقصوده ــ والله أعلم ــ: ما إذا قام مانع من الأشياء المذكورة في الترجمة يمنع من قصد الطلاق، ولم يَسُقِ الكلامَ في معرض حَلِفٍ ولا نذر). فيقال: لا ريب أن هذا مقصود البخاري، وهو أنه ما مَنَعَ من قصد الطلاق مَنَعَ من وقوعه، كالإكراه والسُكر والإغلاق؛ والإغلاق يُفَسَّرُ بالغضب وبالإكراه وبالجنون (1). وذكر قول ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتق ما ابتغي به وجه الله؛ _________ (1) انظر: مجموع الفتاوى (20/ 244). وقال ابن تيمية - كما نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد (5/ 215) -: وحقيقة الإغلاق: أَنْ يَنغلق على الرجل قلبه، فلا يقصد الكلام أو لا يَعلم به، كأنه انغلق عليه قصده وإرادته ... ويدخل في ذلك: طلاق المكره والمجنون ومَنْ زال عقله بسكرٍ أو غضبٍ وكلُّ مَنْ لا قصد له ولا معرفةَ له بما قال. انظر: الصواعق المرسلة (5/ 563)، مدارج السالكين (1/ 226) وقد نقل فيهما كلامًا لابن تيمية، وإعلام الموقعين (5/ 456)، وكتاب ابن القيم المسمى (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان) نفيسٌ في بابه، ويحيل عليه في هذه المسألة في مواضع من كتبه.

(1/407)


والوَطَرُ: واحد أوطار النفس، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وهو: ما يقصده الإنسان ويريده، وهو غَرَضُهُ ومقصوده. وهو إما أَنْ يريد نفس المصدر، وإما أن يريد به المفعول به؛ فإما أَنْ يقال: لا طلاق إلا عن إرادةٍ وغرضٍ في الطلاق، وإما أَنْ يقال: لا طلاق إلا عن أمرٍ مراد، مراد ذلك المراد وهو وطر الإنسان، وذلك المراد يوجب له إرادة الطلاق؛ وعلى التقديرين فلا بُدَّ أن يكون مريدًا للطلاق. بَيَّن البخاري ــ رحمة الله عليه ــ أَنَّ ابن عباس - رضي الله عنه - حَصَرَ الطلاق فيما كان عن أَمْرٍ مرادٍ للإنسان أوجب أَنْ يُطَلِّق، فإنَّ إرادة الطلاق لا تكون إلا بسببٍ أوجبَ تلك الإرادة، وإلا فالمرأة كانت زوجته ولم يكن يريد طلاقها، فلا يكون مريدًا للطلاق إلا بسبب اقتضى إرادته وهو الوطر، مثل إرادته أن يتزوج غيرها ولا يحصل ذلك إلا بطلاقها؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20]، أو عن إرادة سكنى بلد آخر لا يمكن نقلها إليه، أو طلب مال أو ولاية أو غير ذلك مما لا يحصل إلا بطلاقها، فيطلقها لذلك الوطر، أو عن بُغْضٍ منه لها إما لخَلقها أو لخُلقها أو دينها، ويكون بُغْضُهُ لذلك داعيًا له إلى طلاقها، وإما لطلب أبيه لطلاقها فيطلِّقها طاعةً لأبيه؛ كما طَلَّقَ ابن عمر - رضي الله عنهما - امرأته لَمَّا أَمَرَهُ أبوه عمر - رضي الله عنه - بطلاقها، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: «أطع أباك» (1)، فإرادته [107/ أ] لطاعة أبيه وبِرِّهِ اقتضت أَنْ _________ (1) أخرجه بهذا اللفظ: ابن أبي شيبة (19397)، وأحمد (8/ 332) وغيرهما. وصححه ابن حبان (2/ 169)، والحاكم (2/ 215)، والضياء في المختارة (13/ 170). وأخرجه بلفظ مقارب لما ذكره المجيب: أبو داود (5138)، والترمذي (1189)، وابن ماجه (426). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(1/408)


يُطَلِّقَ امرأته (1). فهذا ونحوه هو الطلاق عن وطر، والحالف كاره لطلاقها، ليس هناك سبب يدعوه إلى طلاقها، فلا يريد الطلاق، ولا يريد شيئًا يقتضي إرادة الطلاق، بل هو كاره للطلاق كراهةً أقوى وأثبت من كراهته للشرط الذي عَلَّقَ به الطلاق، ولكون كراهته للطلاق أقوى وأثبت عَلَّقَهُ بذلك الأمر الذي كراهته له دون كراهته للطلاق، وَجَعَلَ الطلاقَ لازمًا له ليكون امتناعه من الطلاق مانعًا له من ذلك الشرط، فلا يكون لا الطلاق ولا ذلك الشرط. فالحالف كاره للجزاء المعلق ــ كالطلاق ــ كراهة ثابتة، سواء وجد الشرط أو لم يوجد، وكاره للشرط الذي علق به الطلاق كراهة دون ذلك؛ ولهذا جعل الطلاق له ليكون امتناعه من اللازم موجبًا لامتناعه من الملزوم، ثم تزول كراهته للشرط فيريد فعله ويريد أن لا يوجد الطلاق اللازم؛ فإما أن يحنث وإما أن يندم على اليمين، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اليمين حنث أو مندمة (2)، ويروى هذا مرفوعًا (3). _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 112). (2) أخرجه ابن أبي شيبة (12757)، وابن بطة في إبطال الحيل (ص 130)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 67/ ح 19869). (3) أخرجه ابن ماجه (2103)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 67/ ح 19868) وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وصححه ابن حبان (10/ 198). وقال البخاري في التاريخ الكبير (2/ 129): وحديث عمر أولى بإرساله. وقال الذهبي في المهذب (8/ 4000) عن أحد رواة حديث ابن عمر المرفوع: بشار ضعَّفه أبو زرعة. وانظر: السلسلة الضعيفة (8/ 232/ ح 3758) (14/ 821/ ح 6859).

(1/409)


وأما قوله: (فكيف يجعل هذا معارضًا لما رواه ابن عباس صريحًا أنه إذا حلف بعتق مملوكه فحنث يعتق). فالجواب: أنه لم يذكر هذا وحده معارضًا، بل المعارض ما ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - صريحًا في التعليق الذي يقصد به اليمين أنه يمين (1)، وفي بعض الروايات عنه في الحلف بالعتق (2)، وأما الحلف بالنذر فثابت عنه من غير وجه (3)، والذي رواه أحمد ــ وهو: حديث عثمان بن حاضر ــ لم يروه في العتق وحده، ولا في الفرق بين العتق والنذر، بل فيه أنه جعل على الحالف بالعتق وبالنذر لزوم الجميع، ثم إنه جعل في المال الزكاة وفي ذبح النفس بدنة؛ فهذا الأثر قد ثبت عن ابن عباس آثار صالحة صريحة أَصَحُّ منه باتفاق أهل العلم أنه جعل في ذلك الكفارة دون اللزوم. ولم يفرق ابن عباس ولا غيره من الصحابة بين الحلف بالعتق وغيره، ولا روى ذلك عنه لا أحمد ولا غيره؛ فذاك النقل [107/ ب] الصحيح الصريح هو المعارض لحديث عثمان بن حاضر الذي رواه أحمد، وهذا الذي ذكره البخاري موافق لتلك الآثار، وفيه ذكر الطلاق والعتق جميعًا؛ _________ (1) تقدم تخريجه (ص 263 - 264). (2) تقدم تخريجه (ص 207 - 208). (3) تقدم تخريجه (ص).

(1/410)


ففيه أن ابن عباس لا يوقع لا الطلاق ولا العتاق بالحالف به، لأنه لا وَطَرَ له في الطلاق، ولا هو مريد له، بل هو كاره له، ممتنع من إرادته = فكان قولُ ابن عباس - رضي الله عنهما - نصًّا في أنه لا يقع. وأما الأثر الذي نقله البخاري ــ رحمة الله عليه ــ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فليس مقصود البخاري به أنَّ الطلاق المحلوف به يقع، ولكن مقصوده أَنَّ الطلاق المعلَّق بشرطٍ لا يقع بدون وقوع الشرط، سواء قَدَّمَ الشرط أو أَخَّرَه خلافًا لشريح إذا أخر الشرط (1). وفيه: أن الطلاق المعلق قد يقع به الطلاق، أو يقع إذا قصد إيقاعه عند الصفة، وليس فيه أنَّ السائل لابن عمر - رضي الله عنهما - كان حالفًا يكره وقوع الطلاق وإن وجد الشرط، بل ترجمة البخاري تبين أنه لم يفهم من حديث ابن عمر أنه يقع إلا إذا قصد إيقاع الطلاق؛ فالمعلِّق له بشرطٍ يَقصدُ إيقاعَه عنده قَصْدَ إيقاعه عند الصفة فيقع تبعًا لقصده، وإن كان الشرط يتأخر فإنه لم يقصد إيقاعه إلا عند الشرط، والحالف لم يقصد إيقاعه سواءٌ وُجِدَ الشرط أو لم يوجد. وأما أثر عثمان بن حاضر فهو في الحلف بالنذر والعتق، وهو يقتضي أَنَّ المعلِّق إذا قصد اليمين يلزمه ما علقه من نذر وعتق، ولكن في نذر المال زكاته، وفي نذر ذبح النفس البدنة، وهذا الأثر لم يقل به أحد من علماء المسلمين لا أحمد ولا غيره من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، والفرق بين العتق وغيره لم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة. _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 379)، وابن أبي شيبة في مصنفه (برقم 18318، 18322).

(1/411)


ولكن إن كان أثر عثمان بن حاضر ثابتًا عن هؤلاء الصحابة، فيمكن أن يكون قولهم في الطلاق المعلق بقصد اليمين أنه يلزم كما يلزم العتق والنذر، ونحن لم نَدَّعِ إجماعًا في عدم لزوم الطلاق والعتاق والنذر لا عن الصحابة - رضي الله عنهم - ولا عن التابعين به، كما يدَّعي [108/ أ] غيرنا إجماعات باطلة، فغاية ما في هذا إثبات نزاع عن الصحابة في ذلك، وهذا لا يضرنا بل ينفعنا. مع أنَّ من ادعى أنَّ الصحابة قد تفرق بين العتق والطلاق مع خطئهم في الفرق. يقال له: لا يلزم إذا جعلوا العتق واقعًا أن يجعلوا الطلاق واقعًا، فإن العتق قربة وطاعة، وهو لو عَلَّقَ وجوبه على وجه النذر= لزمه بالنص والإجماع. فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أُعتق عبدًا، أو عبدي فلان؛ لزمه. ولو قال: فعليَّ أَنْ أُطَلِّق امرأتي أو نسائي؛ لم يلزمه الطلاق الذي ليس بطاعة لله بالنص والإجماع، ولكن إن كان الطلاق قربة لسبب أوجب كونه قربة لزم من هذه الجهة، وإذا لم يلزمه الطلاق لزمته كفارة يمين ــ نصَّ عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة والخراسانيين من أصحاب الشافعي ــ إذا قصد بذلك اليمين. وأحمد يوجب الكفارة وإن لم يقصد اليمين، بل قصد التقرب إلى الله ــ تعالى ــ بالطلاق معتقدًا أنه قربة، مثل أَنْ يعتقد أَنَّ الترهُّبَ دين مشروع كمن ينذر لله أنه لا يأكل ولا يشرب الماء ولا يتزوج النساء ولا يأكل اللحم، أو أَنْ يطلق نساءه، أو أَلا يلبس القطن والكتان، أو لا ينام على جَنْبٍ، أو ألا يتكلم = فإذا نذر هذه الأمور التي ليست عبادة وهو يعتقدها عبادة، لم يلزمه

(1/412)


الوفاء بها بالاتفاق، ولكن عليه كفارة يمين في مذهب أحمد وغيره، وعند الشافعي لا كفارة فيها إلا إذا قصد اليمين على نزاع في مذهبه؛ فوجوب العتق يلزم بالنذر، ووجوب الطلاق لا يلزم بالنذر. فإذا قيل: إن نذر اليمين المسمى نذر اللجاج والغضب كنذر التبرر ــ كالأثر المروي في حديث عثمان بن حاضر ــ كان يوجب هذا أنه إذا نذر وجوب العتق لزمه، وإذا نذر وجوب الطلاق لم يلزمه. فلو قال: إن فعلت كذا كان عليَّ أَنْ أُعتق عبدي لزمه، ولو قال: كان عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي لم يلزمه، فإذا عَلَّقَ الوقوع على وجه اليمين، فقال: إِنْ فعلت كذا فعبدي حر وقع به العتق. كما يلزمه النذر على هذا القول المأثور في حديث عثمان بن حاضر، ولا يلزم [108/ ب] ــ حينئذٍ ــ أَنْ يقع به الطلاق، لأن الطلاق لم يلزم وجوبه في نذر التبرر ولا في نذر اليمين، كما يلزم وجوب العتق، فلا يلزم ــ حينئذٍ ــ إذا كان العتق يقع حيث يجب (1) أن يقع الطلاق حيث لا يجب. بل لو قال قائل: إنه إذا لزم وجوب العتق لزم وقوعه، وإذا لم يلزم أحدهما لم يلزم الآخر، والطلاق لا يلزم وجوبه بالاتفاق فلا يلزم وقوعه = كان هذا أوجه وأشبه مِنْ أَنْ يقال عن الصحابة إنهم قالوا: لا يلزم العتق المحلوف به ويلزم الطلاق، فإن هذا القول في غاية الفساد والمناقضة لأصل الشرع ومقاصده ونصوص الشارع. والعتق يصح تعليقه بالشرط كما ذكر غير واحد الإجماع على ذلك ولا _________ (1) في الأصل زيادة: (ولا يقع).

(1/413)


يعرف فيه نزاع (1)، والطلاق قد عرف فيه النزاع، فلو علق وقوع العتاق (2) بشرط محض وقع، لأنَّ قصده إيقاعه عند ذلك الشرط، وكذلك إذا علق وجوبه كما لو قال: إذا جاء رأس الحول لله عليَّ أَنْ أُعتق عبدي، فإنَّ هذا نذرٌ لازم، إذ النذر المجرد عن الشرط يلزم، والمعلق على حدوث نعمة واندفاع نقمة يلزم، فإذا عُلِّقَ بشرطٍ محض لزم ــ أيضًا ــ، بخلاف ما عُلِّقَ تعليقًا يقصد به اليمين؛ فهذا مورد النزاع. فإذا قيل: إنَّ بعض الصحابة أوقع العتق المحلوف به كما يوجب النذر المحلوف به، ولم يوقع الطلاق المحلوف به = كان هذا أبعد عن ثلبِ الصحابة ــ رضوان الله عليهم أجمعين ــ ونسبتهم إلى عدم الفقه من أن يقال عنهم: إنهم ألزموا الطلاق المحلوف به دون العتق المحلوف به. وأيضًا؛ فالعتق والنذر طاعة لله وقربة إليه، فإذا ألزمَ الصحابةُ الحالفَ بذلك جعلًا لتعليق اليمين كتعليق التبرر = كان هذا قولًا قد ذهب إليه كثير من العلماء، وأما الطلاق فليس بقربة ولا طاعة لله. فلا يلزم إذا قال أحدهم: إنَّ العتق والنذر المحلوف به يلزم أَنْ نلتزم أنْ نحكي نحن عن هذا القائل أنه قال: إنَّ الطلاق المحلوف به يلزم، إلا أَنْ يُعلم من أصوله أو نصوصه ما يقتضي [109/ أ] التسوية بينهما. وأما حكاية ذلك عنهم لمجرد قياس لم يَعلم صحته على أصل المعنى، _________ (1) انظر: موسوعة الإجماع لسعدي أبو جيب (ص 757)، وموسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (3/ 844). (2) في الأصل: (الطلاق)، وكتب الناسخ في الهامش: (أظنه: العتاق). قلت: وهو الصواب كما يدلُّ عليه السياق.

(1/414)


مع أنه لا يَحكي عنهم بالقياس ما دَلَّ كلامهم وتعليلهم عليه ــ كما يفعل هذا المعترض وأمثاله ــ؛ فهذا قلبٌ للحقائق، فإنه إن لم يجز نقل المذاهب بالقياس والتعليل والألفاظ العامة، لم يجز أن ينقل عنهم في الحلف بالطلاق شيء، لا سيما عن ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ وإنْ جاز ذلك كان النقل عنهم أن الطلاق المحلوف به لا يلزم أولى من النقل عنهم أنه يلزم، فإنَّ تعليق الحكم بكونه قصد اليمين يتناول الحلف بالطلاق وغيره. وقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: (الطلاق عن وطر)؛ يقتضي تعليله وعمومه أن الطلاق المحلوف به لا يقع، وليس عن ابن عباس حرف واحد يدلُّ على وقوع الطلاق المحلوف به، وما نقل عنه في العتق إن كان ضعيفًا فلا حجة فيه، وإنْ كان صحيحًا فقد ثبت عنه ما يناقضه، وبتقدير أن يكون هذا رواية عنه؛ فإلحاق الطلاق بالعتاق في اللزوم أضعف من إلحاق الطلاق بالعتاق في عدم اللزوم. فإذا قال قائل: إذا كان العتق المحلوف به لا يلزم، فالطلاق كذلك وأولى. وقال آخر: إذا كان العتق المحلوف به يلزم، فالطلاق المحلوف به كذلك وأولى، ولا ريب أَنَّ كلام الأول أصح وأشبه بالأصول التي دَلَّ عليها الكتاب والسنة والإجماع. فإنَّ وقوع العتق ونفوذه أقوى من وقوع الطلاق ونفوذه، وهذا يحبه الله ويأمر به ويوجبه على مَنْ نذره، وهذا لا يحبه ولا يأمر به ولا يوجبه على من نذره، وهذا محرم في مواضع بالنص والإجماع كما يحرم طلاق الحائض وطلاق الموطوءة بالنص والإجماع، والعتق لا يحرم مع تمام الملك، والعتق يجب تكميله ويسري إلى ملك الغير، والطلاق لا يتصور ذلك فيه،

(1/415)


والعتق جعله الله من الكفارات كما جعل الصيام والصدقة والهدي؛ فأنواع الكفارات [109/ ب] أربعةٌ: أحدها العتق، والطلاق لم يجعله الله تكفيرًا لشيء من السيئات، والطلاق رفعٌ للنكاح الذي يحبه الله ويأمر به، والعتق إزالة للرق عن ابن آدم الذي خلقه الله حرًّا، فهو إعادة له إلى أصله؛ ولهذا كان سبب الرق الكفر فالحر المسلم لا يسترق بحال (1)، وأما المرأة فإنما خُلِقَتْ لأن تكون منكوحة لا أن تكون مطلَّقة، والحرة المسلمة بقاؤها مع زوجها خيرٌ لها في أكثر الأحوال من أن تكون مطلَّقة متضررة (2)، فالعتق نفعٌ للعبد بالتحرير ونفعٌ للسيد بالثواب، والطلاق المحلوف به في الغالب ضررٌ على المرأة وضررٌ على الزوج بلا ثواب. فإذا قال قائل من الصحابة أو غيرهم: إنَّ الطلاق المحلوف به لا يلزم بخلاف العتق كان هذا أوجه من أَنْ يقول: إنه يلزم الطلاق دون العتق (3)؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أَنَّ الطلاق المعلق لا يقع طلاقًا، وأما العتق المعلق إذا قصد إيقاعه فإنه يقع بلا نزاع، وهذا القول أقوى من قول أبي ثور بوقوع الطلاق المحلوف به دون العتاق المحلوف به، وقد قاله أبو عبد الرحمن الشافعي وهو في عصر أبي ثور، وكلاهما من أصحاب الشافعي البغداديين، ووافقه عليه ابن حزم وطائفة. فإنْ قيلَ: هذا مخالفٌ للإجماع؛ فقول أبي ثور أولى أن يكون مخالفًا للإجماع، وإنْ جعلَ ذلك خلافًا سائغًا حتى يحمل عليه قول بعض _________ (1) انظر ما سيأتي (ص 684 - 688). (2) تحتمل: (مضررة). (3) في الأصل: (العتق دون الطلاق)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/416)


الصحابة، فهذا أولى أن يكون خلافًا سائغًا يحكى عن بعض الصحابة. وبالجملة؛ فأبو ثور ــ مع علمه وفقهه ــ حكى إجماعًا معناه عنده عدم العلم بالمنازع، وقد عُلِمَ المنازع في عصره وقبل عصره، فإنَّ النزاع في الطلاق المعلَّق بالصفة أعم من الطلاق المحلوف به، فكلُّ مَنْ نازع في الأول نازع في الثاني ولا ينعكس. فإنَّ التعليق قد يكون تعليق يمين، وقد يكون تعليق إيقاع؛ فمن نازع في المعلق مطلقًا فإنه ينازع في التعليق الذي يقصد به اليمين بطريق الأولى، وإذا حلف بصيغة القسم فهو أولى بالنزاع من المعلق بالصفة، وأبو ثور لم يعلم نزاعًا في تكفير الطلاق [110/ أ] المحلوف به، وركَّبَ على ذلك أنه يقع، والنزاع واقع في وقوعه وفي لزوم الكفارة إذا لم يقع. وأما القول بوقوع الطلاق دون العتاق فهو الذي يُقطع بأنَّ مخالفته للإجماع أظهر من مخالفة من لم يوقع الطلاق ولا العتاق المحلوف به، وحجة من لم يوقعهما أظهر من حجة مَنْ فَرَّقَ بينهما. وحينئذٍ؛ فإنْ كان القول عن بعضهم بلزوم العتق صحيحًا وجاز أَنْ يُحكى عنهم الفرق بين العتق والطلاق = جاز أَنْ يُحكى عنهم القول بلزوم العتق دون الطلاق، وإذا كان القول بلزوم العتق ليس صحيحًا بطل قول المعترض، وقد عُلِمَ أَنَّ القول بتكفيره أصح عنهم، فقد ثبت النزاع عنهم في العتق على هذا التقدير. وحينئذٍ؛ فإنْ كان قولهم التسوية بينهما فقد لزم أن يكون من قولهم أنه لا يقع عتق ولا طلاق محلوف به، وإنْ كان من قولهم الفرق بينهما فالفرق بأنهم إذا ألزموا بالعتق لم يلزموا بالطلاق أظهر من الفرق بأنهم إذا ألزموا

(1/417)


بالعتق يلزمون بالطلاق. ومعلومٌ أنه لم ينقل عن ابن عباس ولا عائشة ولا حفصة - رضي الله عنهم - ولا غيرهم ممن أفتى بتكفير العتق والنذر حرفٌ واحد بوقوع الطلاق المحلوف به، بل المنقول عنهم يقتضي عمومُهُ وتعليلُهُ أنه لا يقع طلاق محلوف به كما ذكرناه عن ابن عباس، وكما نقل عن عائشة - رضي الله عنها - مِنْ جعلها التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا، وما نقل عنها من أنها قالت: كُلُّ يمينٍ ــ وإِنْ عَظُمَتْ ــ فكفارتها كفارة يمين بالله تعالى (1). وأما ابن عمر - رضي الله عنهما - فقد ثبت عنه ما يناقض ما نقله عنه عثمان بن حاضر ــ أيضًا ــ، وأنه جعل التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا مُكفَّرة، وهذا في العتق أثبت عنه من ابن عباس؛ فإنَّ جميع الرواة الذين نقلوا حديث ليلى بنت العجماء ذكروا فيه أن ابن عمر كان من المفتين لها بعدم اللزوم، وأما ابن عباس فإنما ذكر من طريق أشعث بن عبد الملك الحمراني. وابن عمر (2) قد روي عنه ــ من غير طريق عثمان بن حاضر ــ من طريق _________ (1) لم أجده مسندًا، وقد ذكره المجيب - رحمه الله - في مجموع الفتاوى (33/ 61، 207)، الفتاوى الكبرى (3/ 236). وقال الباجي في المنتقى (3/ 252): (وهذه الرواية لا تصح عن عائشة فيما عَلِمْت، ولو صَحَّتْ لجازَ أَنْ يَلحقها التخصيص، أو يكون رأيًا رأته لم توافق عليه). (2) في الأصل: (ابن عباس)، وكتب الناسخ في الهامش: (أظنه: ابن عمر). ولعل ما ظنه الناسخ هو الأقرب، لأن الكلام في سياق ما ورد عن ابن عمر، كما أنَّ سالمًا هو المعروف بالرواية عن ابن عمر لا عن ابن عباس، والمجيب في عدة مواضع يشير إلى أنَّ ابن عمر ورد عنه ثلاث روايات، وسيأتي قريبًا قوله: (ثم إنَّ أبا حامد ذكر رواية عثمان بن حاضر ... ) إلخ.

(1/418)


سالم أَنَّ الحلف بالنذر [110/ ب] يلزم؛ فقد ثبت عنه في الحلف بالنذر روايتان (1)، ولكن الذي يظهر أنَّ (2) المتأخرة هي رواية التكفير، وأما الطلاق فالجواب المنقول عنه يحتمل أنه فيمن قصد إيقاع الطلاق فلا يكون قوله مناقضًا للرواية الأخرى عنه. وأما رواية عثمان بن حاضر فهي مخالفة لما رُوِيَ عنه (3) من الوجهين الثابتين (4)؛ فإنْ كانت صحيحة فهي رواية ثالثة، ومضمونها أنه يلزمه ما علقه، لكن جَعَلَ في المال الزكاة، وحينئذٍ؛ فيكون هذا موافقًا لرواية عثمان بن حاضر ــ أيضًا ــ وهي إحدى الروايتين عنه؛ هذا إنْ جُعِلَ مُسَوِّيًا بين الطلاق والعتاق، وإِنْ جعل مفرِّقًا بينهما فقوله بإيقاع العتق دون الطلاق إذا أوقع العتق أولى من التفريق بوقوع الطلاق دون العتق إذا لم يوقع العتق كما تقدم. وكثيرٌ من أئمة أصحاب الشافعي وأحمد يجعلون الصحابة مجمعين على أن التعليق الذي يقصد به اليمين تجزئ فيه الكفارة. ثم منهم مَنْ يطعن في رواية عثمان بن حاضر؛ كما فعل القاضي أبو الطيب الطبري (5) والماوردي والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب. _________ (1) في الأصل: (روايتين)، والوجه فيه الرفع كما أثبت. (2) في الأصل: (أنها). (3) في الأصل: (عنها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (الثابتة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (5) هو: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، القاضي والفقيه الشافعي، ولد سنة (348)، وتوفي سنة (450). انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (10/ 491)، تاريخ الإسلام (9/ 745)، طبقات الشافعية الكبرى (5/ 12).

(1/419)


ومنهم من يقول: إما أن نسقط من اختلف قوله أو نُقدِّم الرواية الموافقة لغيره من الصحابة؛ وهذه طريقة الشيخ أبي حامد الإسفراييني قال في مسألة نذر اللجاج والغضب: قال الشافعي: ولو قال: مالي في سبيل الله أو صدقة على معاني الأيمان؛ فمذهب عائشة وعدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعطاء والقياس أن عليه كفارة يمين. قال أبو حامد (1): (قد اختلف الناس في موجب هذا النذر على ستة مذاهب، فذهب الشافعي إلى أنه يشبَّه بالأيمان، وأنه إذا نذر نذر لجاج وغضب لم يلزمه أن يفي بما نذره إذا وجد الشرط، وهو إذا كَلَّمَ زيدًا وقد منع نفسه منه لأنَّ الكلام يقع منه، وهو إذا نَذَرَ نَذْرَ لجاج ألا يكلمه ثم كلمه إذا علقه بشرط وقد وجد؛ فعندنا: أنه مخيَّر بين أن يفي بما نذره أو يكفر كفارة يمين). قال: (وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس وعائشة وحفصة وزينب بنت أم سلمة ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - [111/ أ]، ومن التابعين عطاء وطاووس والحسن، ومن الفقهاء أبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد وإسحاق وأبو ثور، ثم ذكر قول النخعي والحكم وحماد إنه لا يتعلق بهذا النذر حكم، وقول ربيعة إنه يلزمه زكاة ماله). قال: (وروي نحو ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وقال مالك: يلزمه الصدقة بثلثه، وقال أبو حنيفة: يلزمه أن يتصدق بالمال الزكوي، وقال البَتِّي: _________ (1) انظر: الحاوي الكبير (15/ 457).

(1/420)


يلزمه أن يتصدق بجميع ماله). قال: (وقد روي هذا عن ابن عمر - رضي الله عنهما -). ثم قال في حجة الشافعي ومن وافقه: (ولأنه إجماع روي عن ستة من الصحابة - رضي الله عنهم - ذكرناهم؛ فأما أربعة فقد صرحوا وقالوا: كفارة النذر كفارة يمين، وهم: عمر وعائشة وحفصة وزينب، واثنان اختلفت الرواية عنهما وهما: ابن عمر وابن عباس، لأن ابن عباس رويت عنه روايتان فيه إحداهما مثل قولنا، والأخرى مثل قول ربيعة. وابن عمر عنه ثلاث روايات؛ فإما أن نقول قد تعارضت تلك الروايات وسقطت جملة، حتى كأنه لم يوجد منها شيء، وتجرد لنا قول أربعة من الصحابة لا مخالف لهم، أو نقول: إنَّ الرواية التي توافق قول غيرهما من الصحابة مقدمة على الرواية التي تخالفها، لأنَّ وفاق غيرهما يعضد ما روي عنهما في مثل ذلك) (1). ومعلوم أن هذا النقل الذي فيه عن حفصة وزينب وعن ابن عمر من التكفير هو في حديث ليلى بنت العجماء، فإنه لم يُنقل عنهم ذلك في غير هذا، بخلاف عائشة وابن عباس فإنَّ التكفير معروفٌ عنهما من غير هذا الوجه. وهؤلاء هم الذين أشار إليهم الشافعي (2) بقوله: فمذهب عائشة وعدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعطاء والقياس أن عليه كفارة يمين. _________ (1) وضع الناسخ هنا ثلاث نقط إشارةً إلى انتهاء النقل. (2) الأم (3/ 656).

(1/421)


ثم إن أبا حامد ذكر رواية عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس أن في المال زكاته، وذكر عن ابن عمر رواية ثالثة أنه يخرج جميعه وهي رواية سالم، ثم أجاب إما بالتساقط وإما بالترجيح. وهذا بعينه موجود في الحلف بالعتق، فإنه إنما نقل في حديث عثمان [111/ ب] ابن حاضر، وفي حديث ليلى بنت العجماء عن عدد من الصحابة القول بالتكفير منهم ابن عمر وابن عباس؛ فإما أن تتساقط الروايتان (1) عن ابن عمر وابن عباس ويَسلم قول حفصة وزينب ومن معهما بلا نزاع، وإما أن يرجح قول ابن عمر وابن عباس الموافق لقول غيرهما. وإذا ثبت قولهم في العتق فالطلاق بطريق الأولى، وليس عن أحد منهم في الطلاق ما يخالف ذلك ولا حرف واحد إلا اللفظ المحتمل عن ابن عمر، وحينئذٍ؛ فإذا قُدِّرَ أن ابن عمر ثبت عنه ذلك في الطلاق فهو على إحدى الروايتين عنه في العتق، فإنه قد اختلف عنه فيه على روايتين، وإنْ قُدِّرَ أن ابن عمر يفرق بين الطلاق والعتاق فقد يكون ذلك لظنه أن الطلاق المعلق حضًّا ومنعًا يُقصَد إيقاعه. فإنَّ كثيرًا من الطلاق الذي يقصد به الحض والمنع يقصد به الإيقاع، بخلاف العتق والنذر المعلق تعليقًا يقصد به الحض والمنع، فإنَّ هذا إنما يراد به اليمين في العادة الغالبة، فيظهر قصد اليمين في هذا كما ظهر في قصة ليلى بنت العجماء، بخلاف قوله لامرأته: إِنْ خرجت من منزلي فأنت طالق؛ فإنه كثيرًا ما يقصد بهذا الإيقاع عند الصفة. فإن كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إنما أفتى لمن قصد الإيقاع اِطَّرَدَ قوله: إنَّ _________ (1) في الأصل: (الروايتين)، والوجه الرفع كما أثبت.

(1/422)


كل من قصد اليمين لا يقع لا طلاق ولا عتق، وإن كان أفتى مطلقًا فلأن هذا التعليق يكثر قصد الإيقاع به، فقد يكون ابن عمر - رضي الله عنهما - اعتقد أنه لا يراد به إلا الإيقاع، إذ كان الحلف بذلك في عهدهم غير معروف، وقد يكون ابن عمر لما رأى مثل هذا التعليق يقصد به الإيقاع في العادة جعلها تعليقًا. وإِنْ قيلَ: إِنَّ ابن عمر غَلِطَ؛ فغلطه في مثل هذا الأمر الخفي، وأنه لم يتفطن لكونه قد يقصد به اليمين أولى مِن أَن يُظَنَّ بأنه مع علمه بأنه يقصد اليمين يجعله غير حالف، ويجعل المعلق للعتق إذا قصد اليمين حالفًا مع علمه بأنَّ كليهما (1) قصد اليمين، فإنَّ هذا مما يظهر أنه خطأ لعموم الناس. * * * * _________ (1) في الأصل: (كلاهما)، والجادة ما أثبتُّ.

(1/423)


فصلٌ قال المعترض: (ومن العجب [112/ أ] أَنَّ المصنِّف عَارَضَ بأثر ابن عباس الذي رواه البخاري هذا، واعتمد على ما فهمه منه، وقال بعد ذلك بورقة: وقد ذكر البخاري عن ابن عمر أثرًا في الطلاق يحتمل أَنْ يكون من هذا الباب، ويحتمل ألا يكون منه؛ يشير إلى أثر ابن عمر الذي قَدَّمْنَاهُ، وكلاهما مذكور في البخاري في هذا الباب الذي أشرنا إليه. ولفظ ابن عمر وما [سئل عنه] (1) مبينٌ لا يحتمل أمرًا آخر، إلا أَنْ يقول مُتَعَسِّفٌ في غاية التعنت إنه لم يقصد الحلف بل التعليق المجرد، وذلك في غاية البُعْد لإطلاق ابن عمر الجواب، ويعضده رواية أحمد الصريحة في الحلف، ورواية مالك في الموطأ (2) عن عمر وابن عمر وغيرهما ــ كما تقدم ــ كانوا يقولون: إذا حلف الرجل بطلاق امرأة قبل أن ينكحها، ثم أَثِم؛ إنَّ ذلك لازم له [إذا نكحها] (3). رواه بلاغًا. فإذا كان هذا قول ابن عمر قبل النكاح، فما ظنك فيما بعده؟ فهذه الآثار الثلاثة تبين لنا مذهب ابن عمر، وأنه من القائلين بوقوع الطلاق والعتق عند _________ (1) في الأصل: (شمل)، والصواب ما أثبتُّ؛ كما سيأتي بعد قليل في مناقشة ابن تيمية لكلامه هذا، وكما في «التحقيق». (2) الموطأ (2/ 98). وهذا البلاغ نقله مالك عن عمر وابنه وابن مسعود وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وابن شهاب وسليمان بن يسار. (3) ما بين المعقوفتين زيادة من الموطأ.

(1/424)


الحنث) (1). والجواب: أما قوله: (المصنِّف) فلم يكن ذلك الجواب مصنَّفًا، وإنما كان جواب سؤال في فتيا، ولهذا لم يستوعب المجيب القول فيه، كما استوعبه بعد ذلك. وقوله: (إِنَّ المصنف عارض بأثر ابن عباس الذي رواه البخاري هذا ــ يعني: حديث عثمان بن حاضر ــ) فقد تقدم أنه لم يقصد معارضته بهذا، بل إنما عارضه بما يدل على بطلانه، ويجب تقديمه عليه باتفاق أهل العلم، وإنما ذكر هذا لأنه مما يعرف به مذهب ابن عباس في الطلاق والعتاق المحلوف بهما. وقوله: (واعتمد على ما فهمه منه). فيقال: هذا هو المفهوم لعامة أهل العلم، وهو الذي يدل عليه اللفظ، وهو الذي قصده البخاري، بل هذا الذي لا يحتمل اللفظ سواه، فإنه إما أن يريد به الحصر، وإما أن يراد به أن بعض الطلاق والعتاق يكون كذلك، وهذا مما لا فائدة في ذكره. وأما قوله: (وقال بعد ذلك بورقة، وقد ذكر البخاري عن ابن عمر أثرًا في الطلاق يحتمل أَنْ يكون من هذا الباب، ويحتمل ألا يكون منه؛ يشير إلى (2) أثر ابن عمر الذي قدمناه، وكلاهما مذكور في البخاري [112/ ب] في هذا الباب الذي أشرنا إليه، ولفظ ابن عمر وما سئل عنه مبين لا يحتمل أمرًا آخر). _________ (1) «التحقيق» (41/ أ). (2) في الأصل زيادة (أن)، وبحذفها يستقيم الكلام، كما ورد في أول الفصل و «التحقيق».

(1/425)


فيقال: هذا غلطٌ بَيِّنٌ؛ فإنه إذا قيل: طَلَّقَ رجلٌ امرأته البتة إِنْ خَرَجَتْ؛ فهذا اللفظ يراد أنه أراد وقوع طلاقها إذا خرجت، ويراد به اليمين، وهذا مستعمل في كلام الناس في هذا وهذا، يقولون: طَلَّقَ إن فعل كذا؛ لمن قصد إيقاع الطلاق ولمن قصد اليمين. فالذي يقصد إيقاع الطلاق يقصد أن يطلقها إما عقوبة لها على مخالفته، وإما كراهة لمقامه مع امرأةٍ تخالفه أو مع امرأة تخرج، لأنَّ خروجها فيه من الضرر عليه ما لا يحتمل المقام معه. والذي يقصد اليمين لا يريد طلاقها إذا خرجت، بل يريد منعها وزجرها، وهو لا يريد طلاقها خرجت أو لم تخرج، بل هو ممتنع من ذلك؛ كما لو قال: الطلاق يلزمني ما تخرجين، وكما لو حلف عليها بيمين أخرى أنها لا تخرج، وكما لو قال: إن خرجت فعبيدي أحرار ومالي صدقة وأنت وسائر نسائي طوالق ونحو ذلك مما يقصد به في العادة اليمين، لا يراد به وقوع هذه اللوازم. وقد ذكرنا أَنَّ قصد الإيقاع بمثل هذا اللفظ كان أظهر في زمن ابن عمر والصحابة من قصد اليمين بذلك، فإنهم لم يكونوا قد اعتادوا الحلف بالطلاق، وابن عمر - رضي الله عنهما - أجابه بأنها تطلق إذا خرجت؛ إما لأنَّ اللفظ الذي ذكره بَيَّنَ فيه ذلك، أو لأنه ظهر له ذلك من دلالة، أو لأنَّ هذا اللفظ لما كان المعتاد عندهم قصد إيقاع الطلاق به لا قصد الحلف = فهم ابن عمر منه ذلك وإن كان الحالف قصد اليمين، ولم يعرف ابن عمر أنه قصد اليمين، أو لأنه لما كان قصد اليمين خلاف الظاهر لم يستفصله: هل أردت (1) خلاف _________ (1) في الأصل: (أرادت)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/426)


الظاهر؟ لكونه لا يقبل منه دعوى إرادة خلاف الظاهر. ومثل هذا إذا كان مذهبًا لابن عمر فهو أحد قولي العلماء، وإذا كان قول ابن عمر يحتمل هذا وغيره احتمالًا بينًا، كان الجزمُ بأنه عَلِمَ أنه قصد اليمين، وأنه جعل التعليق الذي يقصد به اليمين كالتعليق الذي يقصد به الإيقاع، وجعل هذا قولًا واحدًا لابن عمر [113/ أ] مع علمنا بأنه قد ثبت عنه ــ أيضًا ــ التفريق بين هذا التعليق وهذا التعليق= جزمًا بما لا يجوز الجزم به. ولو قُدِّرَ أَنَّ ابن عمر لم يختلف كلامه في أن التعليق الذي يقصد به اليمين كالتعليق الذي لا يقصد به اليمين، فكلام أكثر الصحابة يخالف قوله في ذلك. وقول المعترض: (إلا أن يقول متعسف في غاية التعنت أنه لم يقصد الحلف بل التعليق المجرد، وذلك في غاية البعد لإطلاق ابن عمر الجواب). فيقال له: الذي هو في غاية البعد أن يكون قصده أَنْ يعلق الطلاق على الخروج من غير منع منه لها عن الخروج ولا كراهة له، بل يُعَلِّقُ الطلاقَ بالخروجِ كما يُعلقه بطلوع الهلال ودخول الحول وبالطهر وبغير ذلك مما يجعله وقتًا للطلاق لا يكون هو السبب الموجب للطلاق. وهذا المعترض يريد بالتعليق المجرد هذا، فإنه يجعل كل من قصد المنع حالفًا، وإن كان مقصوده وقوع الجزاء عند الشرط، حتى يجعل قوله: إِنْ تزوجتُ فلانة فهي طالق حالفًا، ويجعل ذلك من صور النزاع التي نازع فيها المجيب ويقول فيها بالتكفير، ويجعل أقوال الصحابة والتابعين الذين

(1/427)


لم يفتوا في مثل ذلك بالتكفير حجة على المجيب، كما تقدم في ذلك غير مرة، حتى جعل تعليق الوعيد كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] مما يدخل في صور النزاع، وأنه يجب أن يكون يمينًا عند الحنث، وأن يجب في مثله التكفير. وقد تقدم أن هذا سوء فهم منه، لم يخطر ببال المجيب أن أحدًا يفهم من كلامه هذا، فإنه لم يقل ما يدل على ذلك، ولو خَطَرَ لَهُ أَنَّ أَحدًا يَفْهَمُ هذا لَبَسَطَ الكلامَ في ذلك الجواب المختصر الذي اعترض عليه المعترض، وإنْ كان المجيب قد بسط الكلام في ذلك في مواضع أُخَر (1)، وبَيَّنَ الفرق فيما يقصد به الحض والمنع وبين أن يقصد الإيقاع كما تقدم، وبَيَّنَ أَنَّ من قصد الإيقاع فليس بحالف، ولا قال أحد من أهل العلم إن هذا يمين مكفرة، لا المجيب ولا غيره، ولا سَمَّى أحدٌ من الصحابة هذا حالفًا، بل ولا من التابعين في الأقوال المعروفة عنهم [113/ ب] بأسانيدها، مثل الأقوال التي جمعها المعترض، وطالع عدة كتب حتى جمعها، واجتهد في جمع ما أمكنه من كلام الصحابة والتابعين في هذا الباب ليجعله حجة على المجيب، ومع هذا فلم يذكر عن أحد منهم لفظًا أنه جعل من قصد الإيقاع عند الشرط حالفًا. وإنما سَمَّى مثل هذا حالفًا من الفقهاء مَنْ لا فرق عنده بين أن يقصد الإيقاع وبين ألا يقصده، فلما استويا عنده في الحكم نقل اسم أحدهما إلى _________ (1) انظر المواضع التي تكلم فيها ابن تيمية عن هذه المسألة في المقدمة (ص 36 - 43).

(1/428)


الآخر؛ فمنهم من يسمي كل من قصد الحض والمنع حالفًا وإن قصد الإيقاع، ومنهم من يُسمي كُلَّ مَنْ عَلَّقَ الطلاق حالفًا وإن كان تعليقًا محضًا ليس فيه حض ولا منع، ومنهم من يستثني المعلَّق بالطهر والحيض والسفر لأن له أسماء تخصه، والأقوال الثلاثة لمتأخري أصحاب أحمد، والأول لأصحاب الشافعي، والثالث لأبي حنيفة. وسواء على ذلك ما إذا قال: إِنْ حلفتُ بطلاقكِ فعبدي حر، أوقال: إنْ حلفتُ بطلاقك فأنت طالق، أو فضرتك طالق، أو والله لا أحلف بطلاقك. فاختلفوا فيما يدخل في قوله: إِنْ حلفتُ؛ على هذه الأقوال الثلاثة، وأما أحمد وقدماء أصحابه ومالك وغيرهما فإنهم يرجعون في مثل هذا بعد نِيَّةِ الحالف وسبب اليمين إلى عُرْفِهِ نفسه وما يفهمه هو من هذا اللفظ؛ فمن العامة مَنْ يُسمِّي كُلَّ مُطَلِّقٍ حالفًا، فهذا إذا قال: والله لا أحلف بطلاقك فطلقها حنث، وعلى تلك الأقوال جميعها لم يحنث، فإنه نجَّز الطلاق ولم يعلقه. ومِنَ الناس مَنْ يجعل الحلف هو التعليق، والحلف بصيغة القسم، ومنهم من يجعل التعليق الذي يقصد به الحض والمنع، ومنهم من يقصد به المعنى اللغوي العقلي الذي كان يقصده الصحابة، وهو أن تعليقه مع كراهته لوقوعه عند الصفة كما يحلف به بصيغة الجزاء. ولما كان هذا المعترض قد ظنَّ أنَّ المجيب يَجعل كل تعليق قصد به المنع فهو حلف، لا يفرق بين قصد الإيقاع وقصد اليمين وأن التعليق المجرد عنده لا يكون إلا في شرط لا يقصد وجوده ولا عدمه تولد له من هذا الغلط غَلَطٌ [114/ أ] كبير في فهم كلام الصحابة والتابعين والعلماء،

(1/429)


وغلطه هذا يلزم كُلَّ مَنْ فرق بين تعليق اليمين وتعليق الوعيد وأمثاله، فسموا الأول يمينًا ولم يسموا الثاني يمينًا. فإنه من المعلوم أن أحدًا لم يسم مثل قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] يمينًا، وسموا مثل قوله: إِنْ فعلتُ فكل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق يمينًا، وإن كان كلاهما فيه منع من الفعل، لكن الحالف يقصد منع نفسه أو منع غيره ممن (1) يرى أنه يَبَرُّ قَسَمَه فيعلق بالفعل ما يكره أن يلزمه، ويكون المحلوف عليه لا يرى أن يوقعه فيما يكره، فلا يحلف على من يعلم أنه يفعل الشرط فيقع الجزاء. ولا يقول الأسير لمن أسره وهو لا يبالي أَطَلَّقَ امرأته أم لم يطلقها، ولا لعدوِّه ولا لقاهرٍ يظلمه ولا يبالي بطلاق امرأته، ولا لمن هو خارج عن طاعته ولا يعرفه ولا يبالي أَطُلِّقَت نساؤه وعتق عبيده وذهب ماله أم لم يكن كذلك = لا يقول: لا تفعل كذا وإن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار ومالي صدقة؛ لا سيما إذا كان ذلك الشخص يريد ذلك الفعل. ولا يقول للمحارب الذي يريد أخذ ماله: إِنْ أخذت مالي فمماليكي أحرار ونسائي طوالق، بل يقول إن أخذت شيئًا عاقبتك وانتقمت منك وقاتلتك أو شكوتك إلى ولي الأمر. ولا يقول المسلمون لعدوهم المحاربين لهم أو أمير المسلمين: الطلاق يلزمني ما تفعلون كذا أو إن فعلتم كذا فنسائي طوالق وعبيدي أحرار، بل يقول: إنْ فعلتم كذا فسوف تعلمون ما أفعل بكم، إن قتلتم أحدًا _________ (1) في الأصل: (من)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/430)


من أَسْرَانا قتلنا وفعلنا كذا وكذا، يتوعدهم بأمر يشق على أولئك. وفي كلا الموضعين المقصود بالتعليق: المنع من فعل، لكن إذا عَلَّق به ما يكرهه المعلِّق وإنْ وجد الشرط كان يمينًا، وحَلِفُهُ به على نفسه وعلى مَنْ يرى أنه لا يُحَنِّثُهُ ويُلْزِمُهُ ما يكره لزومه له، فإنه قد عُلِمَ أنه إذا حلف كره وقوع ما لزمه ولو أنه الكفارة، فيحلف على من يظن أنه لا يلزمه بهذا الذي يكرهه، وأما من يرى أنه يقصد إيذاءه وإلزامه بما يكره ويقصد إيذاءه لا يبالي أحلف أم لم يحلف، بل إذا حلف كان ذلك مما يغريه بتحنيثه (1)، فإنَّ مثل [114/ ب] هذا لا يحلف عليه في العادة، ولكن إذا منع مثل هذا منعه بالوعيد الذي يكرهه الممنوع، فيقول: إِنْ فعلتَ كذا فعلتُ بك كذا وكذا، لا يمنعه بمجرد اليمين التي يكون الحالف هو الذي ألزم بالحنث فيها ما يكرهه هو. ولَمَّا كان الطلاق تارة يكرهه الرجل، وتارة تكرهه المرأة، وتارة يكرهانه جميعًا، وتارة لا يكرهه واحدٌ منهما = اختلفت الأحوال في تعليقه؛ فتارة يقول لها: إن فعلتِ كذا فأنت طالق يقصد اليمين فقط، لأنه يكره الطلاق عند الصفة، وهي ــ أيضًا ــ تكره أَنْ يلزم الطلاق؛ إما لكونها تكره تحنيثه لرغبتها إليه ورهبتها منه وإن كانت لا تكره نفس الطلاق، وإما لكونها تكره أَنْ يطلقها وإن كانت لا تكره تحنيثه بغير هذه اليمين، وتارة لكونها تكره هذا وهذا؛ تكره تحنيثه إكرامًا له وتكره أن يطلقها لما عليها في الطلاق من الضرر. وقد يظن الرجل بالمرأة أنها تكره الطلاق وتكره تحنيثه، ولا يكون _________ (1) في الأصل: (فيحنثه)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ.

(1/431)


كذلك، فيحلف عليها بالطلاق فتحنثه وتفعل، ولو عَلِمَ أنها لا تَبَرُّ قَسَمَهُ لم يحلف، كما يحلف على غير امرأته ظانًّا أنه يبرُّ قسمه. وقد يكون قصده إيقاع الطلاق إذا خالفته؛ فيكون طلاقها يشبه الوعيد من بعض الوجوه لا من جنس الأيمان، وقد لا يقصد به عقوبتها، بل يقصد دفع مضرة عنه بالطلاق إذا وجد الشرط الذي منع منه، كما يقول: إِنْ خنتني، إِنْ سرقتِ مالي، إِنْ فعلتِ فاحشة فأنت طالق؛ وقد يقول هذا مَنْ يظن أنها تكره هذا الطلاق، ويجعله زاجرًا لها مع قصده للطلاق إذا فعلته، ويكون هو لا يكره الطلاق، بل قد يختاره ويريده؛ إما مطلقًا، وإما إذا وجد الشرط وهو لا يعلم، مثل أن تكون مائلة إلى غيره، فيقول لها: إنْ فعلتِ كذا فأنت طالق، يقصد طلاقها إذا فعلته، فتفعله ليقع الطلاق لتنال غرضها إذا طلقت، ومثل هذا: قَصْدُ الإيقاعِ عند شرطٍ اعتقدَ أنه لا يكون؛ وفي وقوع الطلاق بهذا نزاع. والمعترض لما ظن أن المجيب يقول: إِنَّ كل تعليق [115/ أ] منع منه أو حض عليه هو يمين، وأن التعليق المجرد ما ليس فيه حض على الشرط ولا منع منه بحال = كان مراده بقوله: إلا أن يقول متعسف في غاية التعنت في قول نافع: طَلَّقَ رجلٌ امرأته البتة إِنْ خَرَجَت؛ أنه لم يقصد الحلف بل التعليق المجرد، أي: لم يقصد المنع من الخروج البتة، بل قصد الطلاق مجردًا بلا قَصْدِ مَنْعٍ، كما يقصده في قوله: إذا جاء رأس الشهر، أو إذا طَهُرْتِ فأنتِ طالق، أو إذا قَدِمَ الحجاج فأنت طالق. ومَنْ حَمَلَ كلام ابن عمر على هذا فقد تعسف؛ فإن عادة الناس لم تجر في تعليق الطلاق بأفعال النساء إلا أنهم يقصدون منع النساء من ذلك، فإذا

(1/432)


قال: إِنْ خرجتِ فأنتِ طالقٌ، إِنْ دخلتِ دار فلان فأنتِ طالق، إِنْ أَخذتِ من مالي شيئًا بغير إذني فأنت طالق، إِنْ ضربتِ ابني فأنت طالق، إِنْ أنكرت ما أعطيتك فأنت طالق، إِنْ كتمتِ ما أعطيتك فأنت طالق، إِنْ لم تَرُدِّي المال الذي أخذتيه فأنت طالق، ونحو ذلك = كان مراده منعها من ذلك الفعل ونهيها عنه، أو حضها عليه وأمرها به، لكن مع ذلك قد يقصد الطلاق إذا خالفته فلا يكون حالفًا، وقد لا يقصد إلا مجرد الحض والمنع وتوكيد ذلك باليمين مع كراهته للطلاق مطلقًا وإن خالفته= فهذا هو الحالف. ومعلوم أن الذي ذكر عنه نافع أنه طَلَّقَ امرأته إِنْ خَرَجَت وإن كان مانعًا لها عن الخروج، فلا يعلم أنه كان كارهًا لطلاقها إذا خرجت، كما في قول القائل: إِنْ فعلتِ كذا فكل نسائي طوالق وكل عبيدي أحرار ومالي صدقة وعليَّ ثلاثون حجة ونحو ذلك أنه كاره للزوم هذه الأمور، وإذا كان لا يعلم أنه كاره احتمل أن يكون غير حالف، واحتمل أن يكون حالفًا. ولهذا قال المجيب: وقد ذكر البخاري عن ابن عمر أثرًا يحتمل أن يكون من هذا الباب، ويحتمل ألا يكون منه؛ وإذا عُرِفَ مراد المجيب لم ينازع في الاحتمال إلا معاند. وقول المعترض ــ حينئذٍ ــ أنه مبيَّن لا يحتمل أمرًا آخر؛ كلامٌ باطلٌ، نعم لا يحتمل إلا المنع من الفعل لا يحتمل أنه جعله تعليقًا لا منع فيه، بل مع المنع من الفعل يحتمل (1) أنه أراد طلاقها إذا خرجت، ويحتمل أنه لم يرد إلا الحلف عليها مع كراهته [115/ ب] للطلاق وإِنْ خَرَجَتْ، كما لو قال: إِنْ _________ (1) في الأصل: (لا يحتمل)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/433)


خَرَجْتِ فكل مملوك لي حر ومالي صدقة وعليَّ ثلاثون حجة، فإن هذا فيه المنع، ومع هذا فهو لا يريد أَنْ يَعتق عليه عبيده ويخرج عن (1) ماله ويبقى في ذمته ثلاثون حجة، بل هذا لا يقصده عاقل، وإنما عَلَّقَه لأنه في غاية الامتناع والكراهة له، لا أنه يريده عند الشرط. وقوله: (لإطلاق ابن عمر الجواب). فيقال له: يا سبحان الله! هَلَّا ذكرت من إطلاق ابن عمر وحفصة وزينب وغيرهم الجواب في حديث ليلى بنت العجماء مع تصريح المرأة بأنها حلفت بقولها: وكل مملوك لي حر؟! وهلَّا جعلت الجواب هناك يتناول هذه اليمين كما اتفق على ذلك أئمة أهل العلم في نقل هذا عن ابن عمر وغيره لما ثبت عندهم ذكر العتق؟ وإطلاق الجواب هناك أَدَلُّ على إرادة ابن عمر للحلف بالعتق من كون إطلاقه هنا يتناول الحلف بالطلاق. ثم يقال ثانيًا: نحن نُسَلِّمُ أنه لم يُجِبْ إلا مِنْ منع امرأته من الخروج لا أنه لم يمنعها من الخروج، لكن إطلاق الجواب مع هذا يحتمل أن يكون السائل سأله بلفظ أظهرَ به أنه يقصد الإيقاع لا اليمين، ونافع لم يذكر لفظه، ويحتمل أنه ظهر مع اللفظ من حاله ما دلَّ على أنَّ قصده الإيقاع، ويحتمل أنه لما كان الغالب عليهم إذا علقوا الطلاق إنما يقصدون الإيقاع لا اليمين، لأنهم لم يكونوا قد اعتادوا الحلف به وإنما اعتادوا أن يطلقوا عند وجود أمور يكرهون بقاء النكاح على تلك الحال، ويختارون الطلاق إذا وقعت فيوقعون الطلاق لتلك الأحوال، وليس في هذا أن ابن عمر لو علم أنه لو _________ (1) تحتمل في الأصل: (من).

(1/434)


كان مع المنع يمتنع من إيقاع الطلاق [الذي] (1) يكرهه وإن خالفته= كان يوقعه به، ويحتمل أَنَّ ابن عمر لم يكن يظن أَنَّ (2) مراده بهذه الصيغة اليمين وقد أراد بها اليمين، ويحتمل أنه مع علمه بإرادة اليمين يوقع الطلاق على قوله بأن التعليق الذي يقصد به اليمين كالتعليق الذي لا يقصد به اليمين، لا على الرواية الأخرى التي هي أشهر الروايتين عنه بل وآخرهما: أن التعليق الذي يقصد به اليمين [يمين مكفرة] (3). ومع هذه الاحتمالات الظاهرة لا يجعل ابنَ عمر يوقع الطلاق المحلوف به على كُلٍّ من الروايتين عنه إلا جاهلٌ أو [116/ أ] معاندٌ. وأما قوله: (ويعضده رواية أحمد الصريحة في الحلف)؛ فتلك إنما هي في الحلف بالعتق مع غيره، وقد أجاب في الجميع باللزوم، وهذا خلاف الرواية المشهورة الثابتة عنه، وخلاف رواية سالم عنه؛ وعلى هذه الرواية فيجوز أن يكون ابن عمر - رضي الله عنهما - يُفتي بوقوع الطلاق المحلوف به كما قال، ويحتمل أن يفرق بينهما فيفتي بوقوع العتق دون الطلاق كما تقدم. وأما على الرواية المشهورة عنه في الإفتاء في أن التعليق الذي يقصد به اليمين يمين مكفرة دون اللزوم، فالطلاق أولى ألا يلزم، وهذه الرواية المشهورة عنه في أنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمين مكفرة، لا سيما مع دخول الحلف بالعتق في ذلك يعضد الاحتمال الآخر، وهو أن هذا المعلِّق كان قصده الإيقاع دون اليمين، فالرواية الثابتة المشهورة تعضد عدم وقوع _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) في الأصل: (أنه). (3) زيادة يقتضيها السياق، كما سيأتي قريبًا.

(1/435)


الطلاق المحلوف به، والرواية الضعيفة المرجوحة التي لم توافق تعضد القول بوقوع الطلاق. وقد قدمنا أن هذه الرواية لم يقل بجميع ما فيها أحد من علماء المسلمين؛ فهذا العاضد هو مخالف لإجماع المسلمين، والعلم بعدم النزاع في ذلك أظهر من العلم بعدم النزاع في الطلاق. وأما قوله: (ويعضده رواية مالك في الموطأ عن عمر وابن عمر وغيرهما ــ كما تقدم (1) ــ كانوا يقولون: إذا حلف الرجل بطلاق امرأته قبل أن ينكحها، ثم أَثِمَ أن ذلك لازم له. رواه بلاغًا. وإذا كان هذا قول ابن عمر قبل النكاح، فما ظنك بما بعده؟). فقد تقدم جواب ذلك؛ وأنه من المعلوم الفرقُ بينَ أَنْ يُعَلِّقَ الطلاق على النكاح وبين أن يحلف بذلك، فالأول أَنْ يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، أو يقال له: تَزَوَّج. فيقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. وأما الثاني: فمثل التحليف في أيمان البيعة وغيرها مثل أَنْ يقول: إن فعلت كذا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو فكل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة فهي طالق. والآثار المروية عن الصحابة - رضي الله عنهم - في ذلك إنما هي فيمن عَلَّقَ الطلاق على النكاح؛ فأما الحلف بذلك فلم يَنقل أحد عن الصحابة في ذلك شيئًا، فإنهم لم يكونوا قد اعتادوا الحلف بالطلاق الذي يقع بالاتفاق؛ فكيف بالحلف بالطلاق على الملك؟ والحلف بالطلاق كان نادرًا؛ فكيف بالحلف بنادر النادر؟! _________ (1) (ص 424).

(1/436)


وأصحُّ شيءٍ روي في وقوع الطلاق المعلَّق بالملك قول ابن مسعود - رضي الله عنه - (1)، وإنما كان فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق. وكذلك الرواية عن عمر - رضي الله عنه - مع ضعفها (2)، وأما رواية ابن عمر - رضي الله عنهما - فلم يعرف إسنادها (3)، ومن تتبع الآثار المنقولة عن الصحابة - رضي الله عنهم - في هذا تبين له أنه لم يُنقل عنهم الجواب إلا فيمن علق الطلاق على الملك لا فيمن حلف بالطلاق المعلق بالملك (4). ولكن لما كان الأمران سواء عند مالك ومن تلقى عنه من شيوخه حيث كان الحلف بالطلاق وإيقاع [116/ ب] الطلاق عندهم سواء، ومالك ــ رحمة الله عليه ــ لم يذكر إسنادًا ولا لفظ الصحابة - رضي الله عنهم -، وإنما ذكر ما بَلَّغُوه (5) أولئك الذين كان الأمران عندهم سواء، فكانوا قد سمعوا عن _________ (1) ولفظ ما ورد عنه: سئل ابن مسعود - رضي الله عنه - عمن قال: إنْ تزوجتُ فلانة فهي طالق. فقال: قد بانت منك امرأتك؛ فاخطبها إلى نفسها. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 420)، وابن أبي شيبة (18143)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/ 138)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 1281). (2) ولفظ ما ورد عنه: أنَّ رجلًا أتى عمر بن الخطاب فقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالقٌ ثلاثًا. فقال له عمر: فهو كما قلت. أخرجها عبد الرزاق في المصنف (6/ 421/ ح 11474). وقد أشار المجيب إلى ضعفها، وذلك من جهة أنَّ أبا سلمة بن عبد الرحمن راوي القصة عن عمر لم يسمع منه. (3) تقدم تخريجها في (ص 424)، وهي في الموطأ بلاغًا، ولم يتكلم عليها ابن عبد البر في الاستذكار (18/ 114 وما بعدها). (4) انظر ما ورد عنهم في: مصنف عبد الرزاق (6/ 415 وما بعدها)، ومصنف ابن أبي شيبة (9/ 524 وما بعدها). (5) كذا في الأصل، وهي لغة (أكلوني البراغيث).

(1/437)


هؤلاء الصحابة أَنَّ مَنْ عَلَّقَ الطلاق بالملك يقع به في الخصوص، فكان هذا كمن عَلَّقَ الطلاق بعدُ بالملك، وهم في الجميع يقولون: من حلف بالطلاق وحنث لزمه الطلاق؛ كما ذكره أبو مصعب (1) من أقوالهم في مصنفه الذي صنفه في مذهبهم (2)، وهو إجماع المتأخرين من أهل المدينة. قال أبو مصعب في مختصره: قد أجمع أهل المدينة ودار الهجرة وبلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أقوال في الحلال والحرام لم يختلفوا في ذلك، واختلفوا في أمر فتناظروا فيه وبحثوا عن أصله حتى انتهى بهم الحق إلى ما كتبت في كل باب مما يحتاج إلى علمه؛ فكان من ذلك ما أجمعوا عليه وذكروه من السنة، وذَكره على أبواب الفقه، وذَكَرَ فيه مسائل من الحلف بالطلاق؛ منها: ومَنْ حَلَفَ بالطلاق لا تخرج زوجته إلى أهلها فخرجت إليهم فقد طلقت مكانها ولا ينتظر بذلك بلوغها إياهم، وكذلك لو رَدَّهَا بعد ذهابها لطلقت عليه، وكذلك لو حَلَفَ لا تحج فخرجت وأحرمت من الميقات فهي طالق، وإِنْ رَدَّهَا بعد إحرامها فهي طالق. فأبو مصعب يذكر مثل هذه المسائل عن أهل المدينة، ومعلوم أَنَّ مراده بذلك أهل المدينة المتأخرون ــ ربيعة وابن هرمز وأمثالهما ــ لا الصحابة ولا أكابر التابعين، فإنَّ مثل هذه المسائل لا يمكن نقلها عن أحد من الصحابة _________ (1) هو: أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث القرشي الزهري، الفقيه، قاضي المدينة، ولد سنة (150)، وتوفي سنة (242). انظر في ترجمته: الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء (ص 62)، ترتيب المدارك (3/ 347)، سير أعلام النبلاء (11/ 436)، الديباج المذهب (ص 30). (2) لعله يريد كتابه: (مختصر في قول مالك)، ولم أقف عليه مطبوعًا.

(1/438)


وأكابر التابعين، بل أكثر العلماء يخالفون ما ذكره أبو مصعب في ذلك، وَيَرُدُّونَ ذلك بعد اعتبار النيةِ، وبعدَ اعتبارِ سببِ اليمينِ وناقلها (1) ــ عند من يقول بذلك كمالك وأحمد بن حنبل ــ إلى عُرْفِ المتكلم في الخروج إلى أهلها وفي الحج. ولو حلف لا يصلي ولا يصوم ولا يحج هل يحنث بالشروع؟ فيه نزاع مشهور. والمقصود: أنه لَمَّا كان مشهورًا عند متأخريهم أَنَّ الحالف كالمُوقِع حتى في الحلف بالنذر كما ذكره مالك في موطئه ولم يذكر في ذلك أثرًا عن أحد من الصحابة، مع أنه من عادته إذا كان في الباب أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوعن الصحابة ذكره، [117/ أ] بل ويذكر ما روي عن التابعين. ولَمَّا ذكر قولهم في الحلف بالمشي وصدقة المال والحلف بالطلاق والعتاق ونحو ذلك وأنه يلزمه ما حلف به =لم يذكر في ذلك أثرًا عن أحد من الصحابة كعادته، فدلَّ على أَنَّ ذلك من رأي متأخريهم؛ كربيعة وابن هرمز وأمثالهما (2). وهذا مما يعلم قطعًا؛ لا سيما في مثل مَنْ حَلَفَ على شيءٍ لا يجزم (3) به فإنهم يلزمونه الطلاق وإن ظهر صدقه، كمسألة [في اللوزة حبتين] (4) _________ (1) وضع الناسخ فوق الحرف الأول (ظ)؛ ولعل الصواب: (وباعثها). (2) قاعدة العقود (2/ 312). (3) في الأصل: (يحرم)، والصواب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (الملوذين)، وكتب الناسخ في الهامش (ظ)، ولعل الصواب ما أثبت، حيث ذكر هذه المسألة ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 224، 304). وانظر: النوادر والزيادات (4/ 286)، والتلقين (1/ 127)، والكافي في فقه أهل المدينة (2/ 578).

(1/439)


ونحو ذلك، ومثل هذه المسائل لم ينقلها أَحَدٌ من العلماء لا هم ولا غيرهم عن أحد من الصحابة، بل ولا عن أكابر التابعين = فعلم أنها من الرأي المتأخر الذي ليس إجماعًا يجب اتباعه عند عامة علماء الإسلام من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، حتى أئمة أصحاب مالك فإنهم مُصَرِّحُونَ بأنَّ الإجماع المدني المتأخر ليس بحجة يجب اتباعها على علماء المسلمين (1) وكلام مالك يدل على ذلك (2)، ولكن كان هذا مشهورًا عندهم، فنقل مالك أقوالهم بحسب ما بَلَّغَهُ هؤلاء ذلك، وهم لا يُفَرِّقون بين الأمرين، فصار هذا كلفظ الحلف والتطليق عند مَنْ يرى أَنَّ كل تعليق حلفًا أو كل تعليق فيه حض ومنع حلفًا وهو تطليق عنده، فلا فَرْقَ عنده بين أَن يُقال بعد وجود الصفة: طَلَّقَهَا أو حَلَفَ بطلاقها وحنث. وفي عُرْفِ كثيرٍ من العامة يجعلون لفظ الطلاق مطلقًا ولفظ الحلف بالطلاق سواء حتى في الطلاق المنجز، فيقولون لكل مَنْ طَلَّقَ امرأته: حَلَفَ بطلاقها وحنث، ويقولون: حنث فيها بطلقة ونحو ذلك. ومعلوم أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يتكلمون بهذه العبارات والاصطلاحات الحادثة، ولا يجوز نقل مذاهبهم بمثل هذه العادات (3)، _________ (1) وضع الناسخ في الهامش: (حاشية: ومالك نفسه لم يرى الإجماع المتأخر حجة؛ كذلك قال عبد الوهاب والباجي وغيرهما). (2) مجموع الفتاوى (20/ 303 فما بعدها) (28/ 493)، جامع المسائل (5/ 272)، منهاج السنة (5/ 166). (3) كذا في الأصل, وربما كان صوابها: (العبارات).

(1/440)


والمنقول المسند عنهم إنما هو فيمن عَلَّقَ الطلاقَ بالملك لا مَنْ حَلَفَ بهذا التعليق ــ كما تقدم ــ. والنقل المسند عن عمر من وجهين؛ من رواية ابن المسيب عنه، ومن رواية مجاهد؛ وكلاهما إمام ثقة مِنْ أَخْبَرِ الناس بقول عمر أَنَّه كان يُفَرِّقَ بين التعليق الذي يقصد به اليمين، والتعليق الذي يقصد به لزوم الجزاء، وقد رَوَى ذلك أبو داود (1). وعامة العلماء يحتجون بما ينقله ابن [117/ ب] المسيب عن عمر، ما علمتُ أحدًا من المتقدمين طعن في هذا، وروي أن ابن عمر كان يسأل ابن المسيب عن قضايا عمر (2). وَمَنْ عَلَّلَ ذلك بأنه مرسل، لكون سعيد لم يسمع من عمر إلا على المنبر = لم يكن له أن يحتج بالإجماعات المرسلة التي ينقلها مثل: أبي ثور ومحمد بن نصر وابن جرير وابن عبد البر وأمثالهم، فإن ذلك نقل عن عمر وحده شيئًا مع قرب العهد، فهؤلاء لو نقلوا قول واحد من الصحابة لم ينبغي أَنْ يُقبل مجرد نقلهم إذا رُدَّ نقل سعيد بن المسيب؛ فكيف إذا نقلوا ما لا يمكن حصره من إجماع العلماء؟ ولم يَنْقُل أحدٌ عن عمر خلاف ذلك كما ثبت مثل ذلك عن حفصة ابنته _________ (1) رواية أبي داود من طريق ابن المسيب، وقد تقدم تخريجها (ص 225)، أما ما جاء من طريق مجاهد؛ فقد أخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 177/ ح 20071) قال: قال عمر بن الخطاب وعائشة في الرجل يحلف بالمشي، أو ماله في المساكين، أو في رتاج الكعبة: إنها يمين يُكفِّرها إطعام عشرة مساكين. (2) منهاج السنة (7/ 525).

(1/441)


وزينب وعائشة ولم يَنْقُل أحد عنهن خلاف ذلك إلا ما ذَكَرَ ابن عبد البر عن عائشة بلا إسناد من الفَرْقِ بين الطلاق والعتاق وغيرهما (1)، والمأثور عنها بالإسناد خلاف ذلك فلو كان بائنًا لكان قصدًا مثل النقل عن ابن عمر وابن عباس، وأما ابن عمر فنقل عنه هذا وهذا. وأما قوله: (فهذه الآثار تُبَيِّنُ لنا مذهب ابن عمر، وأنه من القائلين بوقوع الطلاق والعتاق عند الحنث). فيقال له: إِنْ أردت أَنَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يُفرق بين الحلف بالطلاق والعتق وبين غيرهما، فهذا لم ينقله أحدٌ عنه لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، ولا نقله نقلًا مرسلًا ولا بلاغًا، وكذلك إِنْ أردتَ أنه كان يوقع الطلاق دون العتق. وإن أردت أن ابن عمر كان يقول بوقوع الطلاق والعتق كما يقول بلزوم النذر المحلوف به فَيُسَوِّي بين الجميع في اللزوم؛ فلا ريب أَنَّ حديث عثمان بن حاضر إِنْ كان صحيحًا ففيه أنه كان يفتي بلزوم العتق ولزوم النذر جميعًا إذا عَلَّقَه بقصد اليمين، لكن فيه أنه كان يجعل في نذر المال زكاته، وفي نذر ذبح النفس بدنة، وهذا خلاف النقول الثابتة عنه؛ فعنه في المال روايتان أصح من هذا إحداهما: أنه كان يلزم به، والرواية الأخرى أنه كان لا يلزم به ولا بالعتق ولا غيره مما يحلف به، بل يجعل في ذلك كفارة يمين. فإنْ كان أثر عثمان [118/ أ] صحيحًا، أمكن أن يكون قوله في الطلاق كقوله في العتق والنذر، وتكون فتياه فيمن طَلَّقَ إِنْ خرجت، محتملًا أن _________ (1) الاستذكار (15/ 406).

(1/442)


يكون في الحالف، ويحتمل مع هذا أنه كان يفرق بين الحلف بالطلاق والعتق، لكن التسوية أظهر. فإنْ نَقَلَ مذهبَ ابن عمر على تقدير رواية عثمان بن حاضر وجعلَ ذلك روايةً عنده، فهذا متوجِّهٌ يُسَلَّم ظهوره، ولكن رواية مَنْ روى أنه لا يلزم لا بهذا ولا بهذا بل يجعل فيه كفارة يمين = أثبتُ وأصحُّ باتفاق أهل العلم، وهي المتأخرة كما تقدم. وحينئذٍ؛ فإذا حُكِيَ قولُهُ على تلك الرواية في الطلاق بالقياس فَيُحْكَى قوله على هذه الرواية بقياس أصح من ذلك، ويكون قوله على أصح الروايتين أنه لا يلزم الطلاق المحلوف به ولا العتق المحلوف به ولا النذر، بل يُجزئ في جميع ذلك كفارة يمين. وعلى هذا؛ فيكون قولُهُ فيمن طلق امرأته إن خرجت هو فيمن قصد طلاقها عند الصفة لا فيمن قصد الحلف وهو يكره طلاقها؛ فتبين أن النقل عنه بالتكفير للحالف بالنذر والعتاق والطلاق أقوى من لزوم ذلك عنه، وهو الرواية المتأخرة. وبالجملة؛ فلا تنازع في أنه روي عنه روايتان، لكن الباطل عنه قطعًا التفريق بين الحلف بالطلاق والعتاق وبين الحلف بالنذر، كما ينصره المعترض وأمثاله، ويذكرون عن ابن عمر أو ابن عباس أو غيرهما ما يوهم أنهم قالوا ذلك، وهذا التفريق لم ينقله أَحَدٌ لا نقلًا مرسلًا ولا نقلًا مسندًا، لا عن ابن عمر ولا عن ابن عباس، بل هذا القول مخالفٌ لكل ما نقل بالإسناد عن الصحابة.

(1/443)


ولم أجد أحدًا قط نقل هذا نقلًا مسندًا عن أحد من الصحابة، لكن ابن عبد البر نَقَلَه مرسلًا عن عائشة، والمسندُ عن عائشة في حديث ليلى بنت العجماء أنها جعلت تعليق العتق الذي قصد به اليمين كتعليق النذر، وأفتت في الجميع بكفارة وتعليلها في سائر أجوبتها في التعليق الذي يقصد به اليمين يوافق ذلك، فإنه قد ثبت عنها من غير وجه أنها كانت تجعل التعليق الذي [118/ ب] يقصد به اليمين يمينًا مكفَّرة، وروي عنها ألفاظ عامة توافق ذلك، فَنَقْلُ مذهبها في مثل هذا أولى ــ بلا ريب ــ من نقل مذهبها في قول لم يسنده أحد، ولو قُدِّرَ ثبوته لكان عنها روايتان. وطائفة من الفقهاء ذكروا قول عائشة مسندًا (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واحتجوا به، منهم: الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب. قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: وروي عن عائشة أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيمن حلف أَنْ يجعل ماله في رتاج الكعبة أو في سبيل الله أو في المساكين: «إنما هي كفارة يمين» (2). قال أبو حامد: وهذا نص. _________ (1) أي: مرفوعًا، لا أنه بإسناد متصل، فليس من عادة من ذكرهم من الفقهاء ذكر أسانيد ما يذكرونه من الأحاديث والآثار. انظر: معرفة أنواع علم الحديث (ص 114)، وفتح المغيث (1/ 132)، تدريب الراوي (1/ 199). (2) لم أجده مسندًا، وقد ذكره ابن قدامة في المغني (13/ 462) ولم يعزه؛ وقد تقدَّم هذا عنها موقوفًا. وسيأتي كلام المجيب حول عدم ثبوته مرفوعًا.

(1/444)


وكذلك قال الماوردي (1): روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ حلف بالمشي أو الهدي أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة؛ فكفارته كفارة يمين». وقال القاضي أبو الطيب والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب: روى إسماعيل بن أبي زياد (2) في تفسير القرآن عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ذلك. ومعلومٌ أن هذا النقل أجود من النقل عنها أنها كانت تُفَرِّقُ بين الطلاق والعتاق وغيرهما، فإنَّ ذاك لم يُذكر له إسناد، ولا عُزِيَ إلى كتاب، وهذا فيه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى هذا التعليق حلفًا، وأوجب فيه كفارة يمين؛ ومع هذا فنحن لم نعتمد على هذا، لأنه ليس بثابت عند أهل العلم بالحديث، والمعروف عندهم أَنَّ هذا من كلام عائشة لم ترفعه. وأضعف منه ما رواه ابن حبيب: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تحلفوا بالطلاق ولا بالعتاق، فإنهما مِنْ أيمان الفُسَّاق» (3) فهذا في غاية السقوط. _________ (1) الحاوي (15/ 458) ثم قال: وهذه الأخبار كلها نصٌّ، ولأنه بانتشاره عن سبعة من الصحابة لم يظهر خلافهم إجماع لا يجوز خلافه. (2) هو إسماعيل بن أبي زياد الشامي، قاضي الموصل، له كتاب في التفسير، وقد تُكُلِّم فيه بكلامٍ كثيرٍ، حتى وصف بالدجل والكذب! الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/ 390)، تاريخ الإسلام (4/ 581)، إكمال تهذيب الكمال (2/ 173)، لسان الميزان (2/ 126). (3) لم أجده. قال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 273): ولم أقف عليه، وأظنُّه مدرجًا، فأوَّله وارد دونه. وقال البرزالي في فتاويه (2/ 122): فعن ابن حبيب في واضحته أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبَ كتابًا بُثَّ فيه في الأمصار: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى ورثة الأنبياء وإلى الناس وأشباه الناس. أما بعد: لا تحلفوا بالطلاق ولا بالعتاق؛ فإنهما من أيمان الفسَّاق». فقيل: يا رسول الله! مَنْ ورثة الأنبياء؟. قال: «أهل الحواضر». قيل: مَنْ أشباه الناس؟ قال: «أهل البوادي». وقال ابن العربي في الرسالة الحاكمة (ص 69): هذا حديث باطل موضوع، ليس له إلى الصدق رجوع، ولا له عليه وقوع، وإن كان قد ذكره من يقتدى به، ولكن ممن ليس له بالحديث بصر، ولكل علم رجاله، وعند الله مقدار الكل وحاله. وقال الدسوقي في حاشيته (4/ 181): وهذا الخبر ذكره ابن حبيب في الواضحة، ولا يُعرف في كتب الحديث المشهورة. وعزاه إلى ابن حبيب: ابن رشد في البيان والتحصيل (9/ 325)، وابن عليش في منح الجليل (8/ 434) وغيرهما. وانظر: كشف الخفاء (2/ 52)، الجد الحثيث (ص 133).

(1/445)


وابن حبيب مع براعته في العلم والفقه، وكثرة ما يرويه من الآثار، فإنه قليل المعرفة بالحديث، فكثيرًا ما يحتج بآثار ضعيفة بل موضوعة، وبعض الناس يطعن فيه نفسه، والرجل جليل القدر، لكنه كان يتناول الكتب من شيوخه كأسد بن موسى وغيره ويقول: فيها حدثنا وأخبرنا، وقد يغلط؛ [119/ أ] وأما تعمد الكذب ــ كما ترميه به طائفة مثل ابن حزم وغيره ــ= فهذا بعيدٌ جدًا من مثله (1). _________ (1) انظر: الإلماع للقاضي عياض (ص 108 - 109)، ترتيب المدارك (4/ 123، 127)، 129 وما بعدها مهم)، بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس (ص 377)، سير أعلام النبلاء (12/ 102)، فتح المغيث (2/ 187)، التنكيل (2/ 551). وانظر ما تقدم (ص 260).

(1/446)


وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - بالإسناد المرضي أنها سُئِلَت عَمَّن جعل ماله في المساكين أو في رتاج الكعبة إِنْ فعل كذا فقالت: يكفر يمينه. وفي لفظٍ: هي يمين يكفرها ما يكفر اليمين. وهذا معروفٌ من حديث منصور بن عبد الرحمن الحُجُبِي، عن أمه صفية بنت شيبة عنها. رواه مالك (1) والثوري (2) ويحيى بن سعيد (3)، وثبت ذلك عنها ــ رضوان الله عليها ــ من حديث عطاء ــ أيضًا ــ، كما رواه شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن عطاء، عن عائشة - رضي الله عنها - في رجل جَعَلَ ماله في المساكين صدقة قالت: كفارة يمين. رواه البيهقي وغيره (4). وروى الأثرم عن أبي نعيم: حدثنا حسن ــ يعني: ابن صالح ــ، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة قالت: مَنْ قال: مالي في ميزاب الكعبة وكل مالي فهو هدي وكل مالي في المساكين؛ فليكفر يمينه (5). وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسْأَل عن رجل قال: ماله في رتاج الكعبة. فقال: كفارة يمين، واحتج بحديث عائشة (6). _________ (1) في الموطأ (1/ 617). (2) أخرج روايته عبد الرزاق في مصنفه (8/ 483). (3) أخرج روايته البيهقي في السنن الصغير (4/ 109). (4) أخرجها البيهقي في السنن الكبير (20/ 171/ ح 20061). (5) أخرجه الطبري ــ كما تقدم (ص 215) ــ، وقد ساق المجيب إسناد الأثرم في مجموع الفتاوى (35/ 255)، والفتاوى الكبرى (4/ 118)، والقواعد الكلية (ص 463). (6) ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (35/ 254)، والفتاوى الكبرى (4/ 118)، والقواعد الكلية (ص 462).

(1/447)


وكذلك الشافعي ذَكَرَ أنه مذهب عائشة وعددٍ من الصحابة وعطاء، وأنه القياس؛ أَنَّ هذا من باب الأيمان المكفَّرَة لا من باب النذور اللازمة (1). وروى البيهقي (2) بإسناده إلى قتيبة: حدثنا حبيب، عن العوام، عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب وعائشة في الرجل يحلف بالمشي أو ماله في المساكين أو في رتاج الكعبة: إنها يمين يكفرها إطعام عشرة مساكين. وروى مالك (3): عن هشام بن عروة، عن أبيه. ورواه البيهقي وغيره (4) من طريقه أَنَّ عائشة كانت تقول: أيمان اللغو ما كان في المِرَاء والهزل وَمُزَاحَةِ الحديث الذي لا يعتمد (5) عليه القلب، وإنما الكفارة في كل يمين حلفتَها على جِدٍّ من الأمر، في غضب أو غيره؛ لتفعلنَّ أو لتتركنَّ، فذلك عَقْدُ الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة. فقولها: وإنما الكفارة في كل يمين حلفتَها، مع تصريحها بأن التعليق الذي يقصد به اليمين هو يمين مكفرة = يدل على دخول ذلك في كلامها. وقد روي عنها دخول العتق بعينه ــ أيضًا ــ [119/ ب] في الأيمان المكفرة من وجهين: _________ (1) الأم (3/ 656)، ونقله عنه: البيهقي في السنن الكبير (20/ 171)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 190). (2) في السنن الكبير (20/ 177/ ح 20073). (3) لم أجده في روايات الموطأ التي بين يدي، وقد رواه البيهقي من طريق روح بن عبادة، عن مالك به. (4) أخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 120/ ح 19961). (5) كذا في الأصل، وفي السنن الكبير: (يعقد).

(1/448)


أحدهما: حديث ليلى بنت العجماء من رواية أشعث. والثاني: ما رواه ابن أبي حاتم في كتاب التفسير له (1): حدثنا أبي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن عطاء قال: جاء رجلٌ إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! إني نذرت إِنْ كلمتُ فلانًا، فإنَّ كل مملوك لي عتيق لوجه الله ــ تعالى ــ وكل مالي (2) سِتْرٌ للبيت. فقالت: لا تجعل مملوكيك عتقًا لوجه الله، ولا تجعل مالك سترًا للبيت، فإنَّ الله يقول: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} الآية [البقرة: 224]. قالت: تُكَفِّر عن يمينك. وهذا الإسناد كلهم ثقات مشاهير إلا يحيى بن سلمة فإنَّ فيه ضعفًا، وهو ممن يكتب حديثه ويعتضد به لا ممن يحتج به إذا انفرد. قال أبو أحمد بن عدي (3): وهو مع ضعفه يكتب حديثه. ومعلومٌ أَنَّ هذين الإسنادين عن عائشة في العتق المحلوف به مع عموم كلامها وتعليلها أولى أَنْ يُحكى عنها من روايةٍ لا يُعرف لها إسناد لا صحيح ولا ضعيف. وقد تبين بهذا: أنه ليس عن ابن عمر ولا عن ابن عباس نقلٌ أصلًا (4) بالفرق بين الطلاق والعتاق وغيرهما، ولا نقل ذلك عن أحد من الصحابة إلا _________ (1) (2/ 406/ ح 2144). (2) في التفسير: (مالٍ لي). (3) في الكامل (7/ 197). (4) في الأصل: (أصل)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/449)


رواية مرسلة عن عائشة روي عنها مسندًا ما هو أثبت منها، وعموم كلامها المعروف عنها يناقضها. وتبين بهذا أَنَّ قول المعترض: فهذه الآثار الثلاثة تبين لنا مذهب ابن عمر، وأنه من القائلين بوقوع الطلاق والعتاق المحلوف به = تلبيسٌ وغلطٌ. أما التلبيس: فإنَّ هذا يوهم أن ابن عمر كان يُفَرِّق بين الحلف بالطلاق والعتاق وبين النذر، وهذا لم ينقله أحد عن ابن عمر لا مرسلًا ولا مسندًا، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، بل المنقول عنه التسوية بين الحلف بالعتق والنذر إما في تكفير الجميع وإما في لزوم الجميع، فالمفرقون مخالفون لابن عمر على كل قولٍ، كما هم مخالفون لغيره من الصحابة. وأما الغلط: فإنَّ هذا غايته أَنْ تكون رواية عن ابن عمر، والرواية الثانية عنه: أنه كان يأمر بالتكفير في الحلف بالعتق، وهو قد جعل مذهبه أنه يقع العتاق والطلاق المحلوف به قولًا واحدًا، فهو غالط؛ بل كاذب عليه. * * * *

(1/450)


[120/ أ] فصلٌ وأما قوله: (وترجمة البخاري لا تشير إلى تأويل لأثر ابن عمر بخلاف أثر ابن عباس، فكيف يجعل أثر ابن عباس القابل للتأويل القريب من هذا الباب وأثر ابن عمر الصريح أو كالصريح [فيه ليس منه]؟ ولكن الميل إلى مذهبٍ يَصُدُّ عن النظر فيما سواه) (1). فيقال له: هذا كما يقال في المثل: (رمتني بدائها وانسلت) (2)، فإنَّ المجيب لم يكن هذا القول مما تربى عليه، ولا له فيه غرض يميل لأجله إليه، بل كان يعتقد خلافه ويفتي دائمًا بخلافه، لكن لما نظر ورأى الحق لم يجز له أن يقول خلاف ما تبين له، والله ــ سبحانه وتعالى ــ يعلم وعباده المؤمنون الذين هم شهداء الله في الأرض أنه لم يمل (3) إلى قول إلا قصدًا لاتباع الحق الذي بعث به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جهة قيام الحجة به، وإيجاب الله ورسوله عليه ألا يقول على الله إلا الحق، وأن يرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول؛ بخلاف مَنْ تربى على قول تَقَلَّدَه أولًا بلا حجة، ثم لما نوزع فيه أخذ يلفق حججًا لم يذكرها أصحابه الذين هم أحق بمعرفة تلك الحجج لو كانت صحيحة، بل يحتج له بمنقولات لا دلالة في شيء منها، وبأقيسةٍ _________ (1) «التحقيق» (41/ أ)، وما بين المعقوفتين منه. (2) جمهرة الأمثال (1/ 387)، مجمع الأمثال (1/ 286). وكثيرًا ما يذكر المجيب هذا المثل فيمن يصنع كصنيع المعترض؛ انظر: مجموع الفتاوى (5/ 340)، درء تعارض العقل والنقل (10/ 242)، شرح حديث النزول (ص 96)، منهاج السنة (1/ 68) (7/ 276)، الإخنائية (ص 398). (3) في الأصل: (يميل)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/451)


ومعانٍ (1) هي أضعف في الحجة من تلك المنقولات التي لا حجة فيها، فليس معه دلالة لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع الأمة المعلوم ولا من قياس صحيح، بل معه ظن كاذب للإجماع، وظنٌّ مخطئ في معرفة مسمى الطلاق والعتاق والنذر والظهار، والفَرْقِ بينَ هذه الأمور وبين مسمى اليمين؛ حيث أخرجَ ما هو يمين عند الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجمهور السلف عن كونه يمينًا وجعله عتقًا ونذرًا وطلاقًا. وأما قوله: (ترجمة البخاري لا تشير إلى تأويل أثر ابن عمر بخلاف أثر ابن عباس). فيقال: هو لا يشير إلى تأويل لا لهذا ولا لهذا، بل البخاري ذكر كلًّا منهما مقرًّا له على ظاهره. وأما قوله: (كيف يجعل أثر ابن عباس القابل للتأويل القريب من هذا الباب وأثر ابن عمر الصريح أو كالصريح ليس منه؟). فيقال له: بل أثر ابن عباس - رضي الله عنهما - هو الصريح في مدلوله، وأما أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - [120/ ب] فهو المحتمل، بل كونه غير يمين أظهر من كونه يمينًا. فإنَّ قول ابن عباس بَيِّنٌ في الحصر، وأنه عنده لا طلاق إلا عن وطر ولا عتق إلا ما ابتغي به وجه الله، ولو حمل على أنه لم يرد الحصر بل أراد أنَّ الطلاق يكون عن وطر وغير وطر، والعتق يكون مما ابتغي به وجه الله ويكون بخلاف ذلك= لم يكن في هذا الكلام فائدة، ولم يكن لحكاية _________ (1) في الأصل: (معاني)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/452)


البخاري له في الترجمة معنى. فإنَّ البخاري ذكر في هذا الباب ما يدل على أَنَّ القصد معتبر في الطلاق، فلا يقع طلاق السكران والمكره والناسي وطلاق الإغلاق، وهذا إنما يناسب ذكر قول ابن عباس إذا كان مراده الحصر. وأما أثر ابن عمر؛ فالاحتمال فيه ظاهر، لا ينازع فيه عاقل يفهم الفرق بين من يقصد بالتعليقِ الإيقاعَ تارةً واليمينَ أخرى. وهذا المعترض لَمَّا لم يفهم هذا الفرق، وجعل الجميع يمينًا عند المجيب، وظنه أنه لا يخرج عن اليمين إلا التعليق الذي ليس فيه حض ولا منع كالتعليق بطلوع الشمس = صار أثر ابن عمر عنده صريحًا أو كالصريح، ونحن نُسَلِّم له أنه صريح أو كالصريح في التعليق الذي يقصد به المنع من الخروج. فإنَّ قولَ نافعٍ: (طَلَّقَ رجلٌ امرأته البتة إِنْ خَرَجَتْ)؛ يقتضي أنه عَلَّقَ طلاقها بالخروج، وهذا لا يكون في العادة إلا إذا كان مانعًا لها من الخروج، لكن مع هذا: قد يريد طلاقها إذا خرجت فيكون مطلقًا، وقد يكون يكره الطلاق وإن خرجت فيكون حالفًا. ومعلومٌ أَنَّ الناس تارة يقصدون هذا وتارة يقصدون هذا، والغالب على أهل زماننا قصد اليمين، وأما في زمن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ فكان الغالب عليهم قصد الإيقاع عند الصفة، كما نُقِلَ مِثْلُ ذلك عن غير واحد من الصحابة في تعاليق متعددة يراد بها الإيقاع عند الصفة وإن كان فيها حض أو منع.

(1/453)


ومما غَلَّطَ المعترضَ: ظَنُّهُ أَنَّ الحالف يريد الطلاق والعتاق والنذر عند الصفة، ولهذا قال: (وقوله: إِنَّ الحالف ليس له وطر في الطلاق ولا في العتق؛ ممنوعٌ، بل هو قاصد للطلاق على تقدير وقوع شرطه، فإنَّ ذلك [121/ أ] مقتضى الربط الذي رَبَطَ بين (1) الشرط وجزائه؛ نعم (2) مقصوده ألا يقع الشرط، وذلك لا يمنع من قصد وقوع المشروط على تقدير وجود الشرط) (3). فيقال له: الغلطُ في هذا الموضع هو من أعظم ما أوقع المعترض ونحوه في التسوية بين تعليق اليمين وتعليق الإيقاع، وما ذكره مما يَعْلَمُ فسادَهُ جميعُ الناس إذا رجعوا إلى ما يجدونه في أنفسهم عند قصد اليمين وما يعلمونه من غيرهم. فإنَّ الناس يعلمون أَنَّ المعلِّق إذا قال: إِنْ سافرتُ معكم، إِنْ كلمتُ فلانًا، إِنْ زَوَّجْتُهُ ابنتي؛ فكل نسائي طوالق وعبيدي أحرار ومالي صدقة وعليَّ ثلاثون حجة وصيام عشرة أعوام وأنا يهودي ونصراني وبريءٌ من الإسلام وقطع الله يدي ورجلي ولا أماتني على الإسلام ولا خَتَم لي بخير وذبح أولادي على صدري، وقد يقول: إِنْ غلبتني ركبتني، وإِنْ غلبتني أكون مخنثًا، أو أكون ولد زنا إِنْ لم أفعل كذا، أو لست ابن فلان إن لم أفعل كذا ونحو ذلك وأمثال ذلك مما يُعلِّقه على الفعل الذي منع منه نفسه وعَلَّقَ به هذا الجزاء يقصد به اليمين، فإنه يعلم من نفسه والناس يعلمون منه أنه لا _________ (1) في الأصل: (من)، والمثبت من «التحقيق». (2) في الأصل: (يَعُمُّ)، والمثبت من «التحقيق» وما سيأتي في (ص 461). (3) «التحقيق» (41/ أ).

(1/454)


يريد قط أن يهلكه الله ولا أَنْ يميته على غير الإسلام ولا أن يختم له بالشر ولا أن يقطع يديه ورجليه ويذبح أولاده على صدره ولا أن يخرج عن ماله ولا يبقى له مملوك ولا امرأة ولا أَنْ يبقى في ذمته ثلاثون حجة وصيام ثلاثة أعوام وأمثال ذلك مما يُعلِّقه بالفعل. فالناس كلهم يعلمون علمًا يقينًا من أبلغ العلوم الضرورية أَنَّ المعلق هذا التعليق لا يريد أَنْ يحصل له هذا الشر العظيم والضرر الزائد على الحد الذي لا يقصده قط أَحدٌ لنفسه سواء وجد الشرط أو لم يوجد. فمن قال: إنَّ هذا قاصد لهذه اللوازم ــ الطلاق وما معه ــ على تقدير وجود الشرط؛ فهو ضالٌّ ضلالًا مبينًا يعرفه جميع الناس، وهو يخبر عما في قلوب بني آدم ونفوسهم بنقيض ما يعلمونه ويجدونه في قلوبهم ونفوسهم، وما يعلمونه من غيرهم أيضًا. وإذا انتهى البحث إلى هذا؛ كان صاحبه مسفسطًا [121/ ب] إما جهلًا وإما عمدًا، وليس من شرط السفسطة أَنْ يتعمد الكذب، بل من أنكر الحقائق المعلومة للناس علمًا ضروريًا فهو سوفسطائي (1). فمن قال: إِنَّ الجائع والعطشان لا يجد أَلَمًا، والآكل والشارب لا يجد _________ (1) ذكر ابن تيمية في الرد على المنطقيين (ص 374) أنَّ السفسطة لفظةٌ معربةٌ من اليونانية أصلها (سوفسطيا) أي: حكمةٌ مموهةٌ، فلمَّا عُرِّبَت قيل (سفسطة). وتكلَّم ابن تيمية في مواضع من كتبه عن أصل السفسطة وأنواعها وما يتعلق بها؛ فانظر ذلك في: مجموع الفتاوى (13/ 151) (19/ 144)، الفتاوى الكبرى (6/ 365)، بيان تلبيس الجهمية (3/ 450 - 451)، الصفدية (1/ 98) (2/ 323)، منهاج السنة (1/ 231، 242) (2/ 525) (7/ 464 - 465)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 130).

(1/455)


لَذَّةً فهو مسفسط، ومن قال: إن الإنسان لا يكون قط مريدًا للنكاح والطلاق فهو مسفسط، ومن قال: إن كل مَنْ عَلَّقَ الطلاق بصفة لا يريد إيقاع الطلاق عند الصفة فهو مسفسط، ومن قال: إن كل من قصد بتعليقه اليمين فهو مريد للطلاق والعتاق والنذر والدعاء على نفسه بالشرور العظيمة وسائر ما علقه بالشرط، كما يريد ذلك إذا لم يكن قصده اليمين= فهو مسفسط. فإنه من المعلوم بالضرورة أَنَّ المعلق الذي يقصد الحض والمنع تارة يريد وقوع الجزاء عند الشرط وتارة يكره ذلك مطلقًا، وهذا الثاني هو الحالف دون الأول؛ فالحالف لا يريد الشرط ولا يريد الجزاء وإن وجد الشرط، بل هو كارهٌ للجزاء ممتنع من قصد إيقاعه وجد الشرط أو لم يوجد، وإنما عَلَّقَهُ مع امتناعه من وقوعه لئلا يقع إذا وقع الشرط، والفرق ظاهر بين أن يقصد وقوعه إذا وقع الشرط وإِنْ كره الشرط وبينَ ألا يقصد وقوعه بحال، بل لا يقصد إلا عدم الشرط، فلا يقصد لا الشرط ولا الجزاء. والحالف لا يكون حالفًا إلا إذا لم يرد لا هذا ولا هذا، وأما إذا لم يرد الشرط وهو يريد الجزاء بتقدير وجود الشرط؛ فهذا مُوْقِعٌ ليس بحالف. وحينئذٍ؛ فيعلم بالاضطرار أن الحالف ليس له وطر في الطلاق والعتاق، كما أنه ليس له وطر أن يدعو الله ألا يختم له بخير وأن يقطع يديه ورجليه ويذبح أولاده على صدره، وليس له وطر في أَنْ يخرج من جميع أهله وماله فيبقى لا زوجة له ولا مملوك ولا مال ينتفع به، بل يكون قد وتر أهله وماله، ومع ذلك ففي ذمته عبادات لا يطيقها مثل: ثلاثين حجة وصوم عشرة أعوام وأمثال ذلك.

(1/456)


فمعلومٌ أنه ليس له وطر في أَنْ تزول عنه نعمة الله في دينه ودنياه، ويحل به بأس الله في دينه ودنياه، فإذا لم يبق له زوجة [122/ أ] ولا مملوك ولا مال زالت عنه نعم الله في دينه ودنياه، وإذا مات على الكفر فقد زالت عنه نعمة الله في دينه ودنياه، وإذا كان مع ذلك قد قطع الله يديه ورجليه وأهلكه وذبح أولاده على صدره وزنا بأمه في كعبة المسلمين ونحو ذلك من الأمور المفسدة لدينه ودنياه = فنحن نعلم أنه ليس له وطر في هذا قطعًا، فَعُلِمَ قطعًا أَنَّ الحالفَ بالطلاق ليس له وطر في الطلاق، وأَنَّ قولَ ابن عباس: الطلاق عن وطر؛ يُبيِّن أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق عند ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقول القائل: (بل هو قاصد للطلاق على تقدير وقوع شرطه فإنه مقتضى الربط). فنقول: نحن لا نسلم أَنَّ مقتضى الربط وقوع الطلاق، وأن الحالف قصد الربط والتعليق، لكن فَرْقٌ بين قصد الربط والتعليق وبين قصد وقوع الجزاء المعلق، فإنه قَصَدَ الربط والتعليق للكفر ودعاءه على نفسه بالعظائم وخروجه من أهله وماله وأمثال هذه اللوازم، ولم يقصد وقوع هذه المعلقات المربوطة بالفعل مع قصد الربط = هو ممتنع غاية الامتناع من قصد هذه التعليقات، كارهٌ غاية الكراهة لوقوعها وإنْ وجد الشرط، وقَصْدُهُ بربطها وتعليقها أن تكون لازمة للفعل الذي قَصَدَ منع نفسه منه ليمنعه هذا الربط من ذلك الفعل، لامتناعه هو وكراهته من الجزاء المعلق اللازم، وإذا كان كارهًا ممتنعًا من اللازم= صَار كارهًا ممتنعًا من الملزوم، فهذا هو مقصوده بالربط والتعليق؛ لم يقصد قط أن يوجد اللازم المعلق سواء وجد الملزوم أو لم يوجد، بل إنما جعله لازمًا حين كان كارهًا ممتنعًا من الملزوم الذي هو الشرط.

(1/457)


وإذا جعله لازمًا مع كراهته للملزوم ومع كراهته للازم وإن وجد الملزوم = لم يجب أن يكون قد أراده إذا وجد الملزوم، فإنه في حال كونه كارهًا للازم كراهة تامة مانعة من قصد الفعل لا يكون مريدًا له، وهو كاره له كراهة تامة وإن وجد الملزوم أو لم يوجد، فلا يكون مريدًا له إذا وجد الملزوم. وإذا قيل للحالف الذي قال: إِنْ سافرتُ معكم فعل الله بي [122/ ب] كذا وكذا؛ أتريد إذا سافرت معهم أن يسلبك الله نعمته عليك في الدين والدنيا ويعذبك بهذه اللوازم؟ لقال: لا والله؛ ما أريد ذلك قط، سافرتُ أو لم أسافر، لكن جعلت هذه الأمور التي لا أريدها قط لازمةً للسفر لئلا أسافر، فليس قصدي إلا منع نفسي من السفر، ووكدت ذلك بالتزام هذه المكروهات العظيمة الكراهة التي يمتنع أن أريدها على تقدير الفعل، لِأَنْ أَمتنع بذلك من ذلك التقدير، ولاعتقادي أَنَّ ذلك التقدير لا يقع، ولو اعتقدت أن ذلك التقدير يقع لم ألتزم هذا، ولم أجعل هذا لازمًا له. والقائل قد يلتزم على التقدير الممتنع ما لا يقصده البتة، بل ما يمتنع كونه في خبره وفي إنشائه؛ ففي الخبر كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فهو جعل الفساد لازمًا للآلهة ليخبر بوجود الفساد بتقدير وجود الآلهة؛ فإن هذا التقدير ممتنع، فلا يكاد يتصور أَنْ يكون ليكون عنده الفساد، بل المقصود: نفي هذا وهذا؛ أي: فلا فساد فيهما، فليس فيهما إله غير الله.

(1/458)


وقد قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] مع علمه تعالى أن أنبياءه معصومون من الشرك، فالمعلِّق للجزاء بالشرط إذا كان مخبرًا وقصده نفيهما، أو كان منشئًا وقصده عدمهما = لا يكون قصده أَنْ يقع الجزاء البتة إذا كان منشئًا، ولا قصده أَنْ يخبر بوقوعه البتة إذا كان مخبرًا، بل المخبر (1) يعلم أنه منتف في نفس الأمر لا يقع بحال، فلا يقع الفساد ولا يقع شرك الأنبياء ولا يقع عَوْدُ الكفار إلى ما نُهوا عنه، لأنَّ الشرط لا يقع فلا يقع الجزاء المعلق به، وإن كان مضمون التعليق أنه لو وقع الشرط لوقع الجزاء، لكن مع هذا التعليق فهو مخبر بعدم الشرط، ومع إخباره بعدمه لا يكون مخبرًا بثبوت الجزاء البتة. كذلك المعلِّق بقصد اليمين هو ينشئ التعليق لقصد ألا يكون الشرط، وَجَعَلَ الجزاء اللازم الذي لا يقصد وقوعه البتة لازمًا لوجود الشرط لئلا يكون الشرط، لم يقصد [123/ أ] وجود الشرط بحال، ولا قصد إذا وجد أن يكون الجزاء، بل الجزاء مكروه له على كل حال، بخلاف من يكره الشرط ولا يكره الجزاء إذا وجد، كما لو قال: إِنْ خرجتِ من داري بغير إذني أو سرقتِ مالي أو زنيتِ أو ضربتِ أمي أو ابني فأنتِ طالق، وهو يقصد إذا فَعَلَت هذه الذنوب أَنْ يطلقها، فإنَّ هذا ليس بحالف، بل هو ناهٍ لها عن هذه الأفعال، وتوعدها بوقوع الطلاق إذا فعلتها. وقد يتوعدها بإيقاع الطلاق كما لو قال: إِنْ فعلتِ كذا فلأطلقنَّك أو لله _________ (1) في الأصل: (المخير)، وما أثبتُّ هو الصواب.

(1/459)


عليَّ أَنْ أطلقك، لكن هذا التزام لأن يطلقها، والطلاق لا يلزم بالنذر والالتزام، فإنْ شاءَ طَلَّقَ وإن شاء لم يطلق، لكن قد يكون عليه كفارة يمين إذا نذر أن يفعله ولم يفعله، وإِنْ حلف ليفعلنه ولم يفعله. وقد يتوعدها بوقوع الطلاق فيقول: إِنْ فعلتِ كذا فأنت طالق، فالوعيد هنا وقوعه لا قصد إيقاعه، كما في قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فالوعيد هنا: حبوط العمل؛ فمتى أشرك ومات مشركًا حبط عمله لا محالة، ليس هذا من الوعيد الذي يمكن إيقاعه وعدم إيقاعه، كذلك الطلاق المعلق إذا جعله عقوبة لها إذا خالفت فقال: إِنْ خالفتني فأنت طالق، فهنا إذا وجد الشرط وقع الطلاق الذي قصده عند الشرط، وإن كان كارهًا له عند عدم الشرط، وإن كان كارهًا للشرط. فهذه الصور وما أشبهها يسلمها المجيب أنه يقع بها الطلاق خلافَ ما ظَنَّ المعترض عليه أنه يجعل هذه أيمانًا مكفرة، فإنَّ أحدًا من المسلمين لم يجعل هذه أيمانًا مكفرة، ومَنْ حكى إجماع العلماء على عدم الكفارة في الطلاق فكلامه صحيح في هذا وأمثاله، فإنَّ الطلاق المنجز لم يقل أحد أن فيه كفارة، وكذلك المعلَّق إذا قصد إيقاعه عند الشرط لم يقل أحد إنَّ فيه كفارة. وإنما النزاع فيما إذا كان قصده اليمين، وهذا لا بُدَّ أن يكون كارهًا للجزاء وإن وجد الشرط، وهو ــ أيضًا ــ كاره للشرط، فيجتمع في الحال كراهةُ كلٍّ من الشرط ومن الجزاء، [123/ ب] بخلاف الموقِع فإنه لا يكره وقوع الجزاء عند الشرط بل يريده، وإن كانت نفسه تبغض الطلاق لكنه يريده عند الشرط، كما يريد تنجيز الطلاق وإن كانت نفسه تبغضه لأمرٍ

(1/460)


أوجب له أن يريد الطلاق ويرجح إرادته على عدم إرادته، لكون المكروه الذي يحصل به مع الطلاق أهون عليه من المكروه الذي يحصل إذا لم يُطَلِّق، مثل أَنْ يكون طلاقه إياها أهون عليه من مقامه مع بَغِيٍّ ومفسدةٍ لمالِهِ ودينِهِ وعرضِهِ ونحو ذلك، وإن كانت نفسه تحبها. وهذا الطلاق المعلَّق إذا قصد وقوعه عند الصفة؛ قد قال بعض الناس: إنه لا يقع، لكن لم يقل أحد إن فيه كفارة إذا لم يقع، بخلاف ما [لا] (1) يقصد وقوعه وإنما عُلِّقَ لقصد اليمين؛ فهذا فيه الأقوال الثلاثة: هل يقع، أو لا يقع ولا كفارة فيه، أو لا يقع وفيه الكفارة؟ ولَمَّا كانت الكفارة إنما تلزم في بعض صور الحض والمنع لا في سائر صور الحض والمنع ولا في غير ذلك من صور التعليق = خَفِيَ حكمها على كثير من العلماء، فإن أكثر تعليقات الطلاق لا كفارة فيها باتفاق العلماء، وإنما يقع في التعليق الذي يقصد به اليمين، وهو أن يكون الشرط مكروهًا والجزاء مكروهًا. وبهذا يظهر أَنَّ قول المعترض: (نعم (2) مقصوده ألا يقع الشرط، وذلك لا يمنع من قصد وقوع المشروط على تقدير وجود الشرط) (3) كلامُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لم يقصد الشرط فهو حالف، وأنه يقال فيه بالكفارة، وليس الأمر كذلك، بل الحالف هو الذي لا يقصد الشرط ولا يقصد الجزاء وإن وجد _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) انظر ما تقدم في (ص 454). (3) «التحقيق» (41/ أ).

(1/461)


الشرط، فإنْ قَصَدَ وجود المشروط ــ الذي هو الجزاء ــ على تقدير وجود الشرط = فليس بحالف، لم يقل المجيبُ أَنَّ مجردَ قَصْدِ عدم الشرط مانعٌ من قصد المشروط، بل قد ذَكَرَ في غير موضعٍ من كتبه أن الذي لا يقصد الشرط تارة يقصد المشروط فيكون موقعًا لا حالفًا، وتارة لا يقصده فهذا هو الحالف، فمع عدم قصد [124/ أ] الشرط يكون حالفًا تارة وموقعًا أخرى (1). لم نقل إِنَّ عدم قَصْدِ الشرطِ مستلزمٌ لعدم قصد الجزاء، كما يظنه هذا الغالط الذي بنى كلامه على هذا الأصل الفاسد، وجعل ما نُقِلَ عن الصحابة والتابعين في وقوع الطلاق عند كل شرط يقصد عدمه = يقتضي أَنَّ اليمين لا كفارة فيها، بل جعل ما يُعَلَّقُ من الوعيد وغيره لكون المعلِّق قَصَدَ ألا يكون الشرط = موجبًا أن يكون الوعيد من الأيمان المكفَّرة عند من يقول: إِنَّ تعليق النذر والطلاق والعتاق تارة يكون يمينًا وتارة يكون إيقاعًا، وإذا كان يمينًا فهو يمين مكفَّرة في أظهر القولين، وهو الثابت عن الصحابة وجمهور التابعين وأكثر العلماء، وقيل: بل لغو، فلما ظَنَّ هذا الغالط أَنَّ المناط الذي جعله هؤلاء يمينًا هو مجرد عدم قصد الشرط = صار يُدْخِلُ في ذلك كُلَّ من لم يقصد الشرط وإن كان مُتَوَعِّدًا وإنْ كان مُطَلِّقًا. ولو تدبر كلام الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ والتابعين وسائر العلماء الذين فَرَّقُوا بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي لا يقصد به اليمين= لتبين له أَنَّ الحالف عندهم الذي أمروه بالكفارة إنما كان حالفًا لأنه كاره للشرط وكاره للجزاء وإن وجد الشرط، وأن الناذر نذر اللجاج والغضب إذا _________ (1) في الأصل: (يكون حالفًا وتارة موقعًا أخرى)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/462)


قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج ماشيًا أو عليَّ ثلاثون حجة أو مالي صدقة ومالي في سبيل الله ونحو ذلك؛ لم يقصد قط أن ينذر هذه العبادات ولا أن تلزمه وإن وجد الفعل، بل هو ممتنع من نذرها ومن إلزام نفسه بها غايةَ الامتناع، كارهٌ للزومها له غايةَ الكراهة، ولكن جعل هذا الأمر المكروه عنده الذي هو ممتنع من وقوعه غاية الامتناع = جعله لازمًا لذلك الأمر الذي أراد المنع منه. * * * *

(1/463)


فصلٌ قال: (وقوله: إنه لم يقصد عتقًا يبتغي به وجه الله، فالشرط قصد العتق، وهو حاصل على تقديرٍ ــ كما قلناه ــ لا قَصْدُ القربةِ؛ بدليلِ أَنَّ مَنْ نجز عتق عبده [124/ ب] غيرَ قاصدٍ التقرب إلى الله يصح (1) عتقه، وكذلك صح عتق الكافر المشرك الذي لا يصح منه قَصْدُ التقرب؛ فقد أعتق حكيم بن حزام في الجاهلية مائة رقبة، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: «أسلمت على ما أسلفت لك من خير» (2)، ولم يحكم بأن ذلك العتق لم يقع) (3). والجواب: أَنَّ المجيب فَسَّرَ كلام ابن عباس، لم ينظر لكون العتق لا يصح إلا بشرط ابتغاء الله، فاحتجاجه بصحة العتق وإن لم يقصد به وجه الله ــ إِنْ صح ــ فإنما هو حجة على ابن عباس لا على المجيب. ثم هذا المعترض قد قال قَبْلَ هذا ما يُناقض هذا! أو هذا الحديث حجةٌ عليه؛ حيث ذكر في الفرق بين نذر اللجاج والغضب والطلاق، فقال: (الثالث عشر: أَنَّ المشي ــ مثلًا ــ إنما يلزم (4) في نذر اللجاج لأنه غير قاصد للتقرب، وأما الطلاق فالطلاق قصده فقط، وأما (5) قصد التقرب فلا يشترط) (6). _________ (1) في «التحقيق»: (صَحَّ). (2) تقدم تخريجه في (ص 371 - 372). (3) «التحقيق» (41/ أ - ب). (4) كذا في الأصل و «التحقيق»، ولعلها: (لم يلزم). (5) بعدها خمس كلمات مكررة ضرب عليها الناسخ، وهي: (قاصد للتقرب أما الطلاق فالطلاق). (6) «التحقيق» (34/ ب) مختصرًا، وهو الوجه التاسع عشر.

(1/464)


ثم قال: (فإنْ قلتَ: فيلزم أن العتق المنجز لا يقع إذا لم ينو التقرب به، وأن النذر المنجز أو المعلق إذا لم يقصد التقرب به لا يقع) (1). وقال: (قلتُ: أما الأول: فإما أَنْ يلتزم (2) ذلك على مذهب أبي ثور وَيُفَرِّق بين الطلاق والعتق، وإما أَنْ يقول: قصد التقرب لا يشترط إلا للثواب (3)) (4)، ولم يُجِبْ عن قصد النذر؛ وقد تقدم الكلام على ما في هذا الكلام من الفساد (5)، والمقصود هنا الإشارة. ثم نقول جوابًا عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن ابن عباس تَكَلَّمَ بصيغةِ حصر، وصيغةُ الحصر يُنفى بها ما كان من جنس المثبت، لا يُنفى بها كل ما سوى المثبت؛ كقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22]، فهو لم ينف جميع الصفات سوى الإنذار، فإنه مبشر مع كونه منذر، وهو شاهد وداعٍ إلى الله ــ تعالى ــ كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 45 - 46] فوصفه [125/ أ] بأربع صفات، وكونه نذيرًا واحد منها فليس مراده بقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} لست ببشيرٍ ولا شاهدٍ ولا داعٍ إلى الله، وإنما مقصوده: نَفْيُ كونه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، _________ (1) «التحقيق» (34/ ب). (2) في الأصل: (يلزم)، والمثبت من «التحقيق». (3) وعبارته في «التحقيق»: (العتق لا يشترط فيه التقرب إلا للثواب عليه ... ). (4) «التحقيق» (34/ ب). (5) انظر: (ص 5 وما بعدها، ص 16 وما بعدها، ص 370 وما بعدها).

(1/465)


ولهذا قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، [فأخبر عن] (1) ما طلبه المشركون حيث قال: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 7]، فقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] لست الذي ينزل الآيات، بل هذا إلى الله. وكذلك قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] فقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} لم ينفِ كونه مع التذكير مبشرًا وهاديًا وداعيًا. ولَمَّا كان من عادة المسلمين إذا أَعتقوا أَنْ يَبتغوا بذلك وجه الله = صار هذا لازمًا لعتق المسلمين، فنفى اللازم لقصد نفي الملزوم، ومراده: لا عتق إلا لمن قَصْدُهُ العتق، وقاصد العتق من عادة المسلمين يبتغي به وجه الله، ليس مراده: إِنْ أَعتَقَ (2) ولم يقصد وجه الله لا يصح عتقه، وهذا كما قال عطاء والشافعي في نذر التبرر. قال الشافعي (3): ومن حلف بالمشي إلى بيت الله ففيها قولان؛ أحدهما: معقولُ معنى قولِ عطاء: أَنَّ كل مَن حلف بشيءٍ مِن النسك صومٍ أو حجٍّ أو عمرةٍ فكفارته كفارة يمين إذا حنث، ولا يكون عليه حجة ولا عمرة ولا صوم؛ ومذهبه: أَنَّ أعمالَ البِرِّ لله لا تكون إلا لفرض يؤديه من فروض الله عليه، أو تبررًا يريد به الله، فأما على غلق الأيمان فلا يكون تبررًا، وإنما يعمل _________ (1) بياض في الأصل بمقدار كلمة أو كلمتين، ولعل الصواب ما أثبتُّ أو كلمةً نحوها. (2) في الأصل: (لم أُعتق)، والصواب ما أثبتُّ. (3) في الأم (3/ 658).

(1/466)


التبرر لغير الغَلْقِ. فقد بين الشافعي قول عطاء الذي يوافقه عليه الشافعي، وهو: أَنَّ الناذر نذر اللجاج والغضب ــ وهو غلق الأيمان ــ لا يكون تبررًا يريد اللهَ بِهِ، وإنما يعمل التبرر لغير الغلق، وجعل كونه لا يراد الله به هو الموجب لكونه يمينًا مكفرة = فهكذا ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ مع أن عطاء والشافعي لا يشترطون في نقل الملك قصد التقرب، بل مقصودهم أَنَّ الناذر هو الذي يقصد التزام ما يتقرب به إلى الله، وهذا لم يقصد التقرب إلى الله فليس بناذر، والمسلم من شأنه أن يفعل القربة تقربًا إلى الله بها، فيعتق ويهدي ويضحي ويتصدق تقربًا إلى الله ــ تعالى ــ. فإذا حلف بلزوم العتق والصدقة والهدي والأضحية لم يكن قصده التقرب إلى الله بذلك، لأنه لم يقصد أن يلزمه ذلك فيمتنع أن يقصد التقرب بشيء لم يقصد لزومه، فلو قَصَدَ لزومه لَقَصَدَ التقرب به في عادة المسلمين، ولكن انتفى قصد لزومه فانتفى قصد التقرب به؛ فلهذا قال ابن عباس وعطاء والشافعي وغيرهم: إنه إذا لم يقصد التبرر لم يلزمه، بل هو حالف لا لأنه عندهم قصد لزومه ولم يقصد التقرب به، بل لم يقصد لزومه بحال، ثم إذا جعله لازمًا وفعله يفعله لكونه لزمه بالحنث لا لقصد التقرب به. ومن الناس كابن جرير من يجعل المنذور نذر التبرر لا يقصد [125/ ب] به التقرب إلى الله، لكنه قصد المكافأة، وهو مع هذا لازم عندهم وهم ذكروا الإجماع على ذلك، وهذا أرادوا به الفرق بين من يفعله لأنه نذره فيلزمه وبين من يفعله ابتداءً، وأما الحالف به فلم يقصد لزومه لا لله ولا لغير

(1/467)


الله، فإذا قيل: يلزمه؛ أُلْزِمَ بفعلِ ما لم يقصد لزومه بحال، ولا كان له نية في فعله لله حين عقد اليمين بخلاف نذر التبرر، فإنه كان له قصد أن يلتزمه لله لكن إذا حصل غَرَضُهُ. * * * *

(1/468)


فصلٌ قال: (وقوله: (وإنما حلف به قصدًا ألا يقع العتق به)؛ كلامٌ بعيدٌ عن الإنصاف، فإنَّ الدعاوى ثلاث: أحدها: ما نَدَّعِيه نحن أَنَّ الحالف قاصد للعتق على ذلك التقدير وغير قاصد لذلك التقدير الآن. الثانية: ما أشار هو إليه ــ أولًا ــ أنه غير قاصد للشرط ولا للمشروط؛ وقد منعناه. وأما هذه الثالثة وهو: أَنَّ قَصْدَهُ بالحلف ألا يقع العتق على ما دَلَّ هذا اللفظ، فإنه دَالٌّ على أَنَّ العلة في حلفه قصد عدم العتق ضرورة أنه جعله مفعولًا لأجله= فهذا في غاية المكابرة؛ والله أعلم) (1). والجواب: أنَّ معنى الكلام: أنه حلف قاصدًا ألا يقع العتق به، لِيُبَيِّنَ أَنَّ الحالف لم يقصد وقوع العتق المعلق، لم يرد أَنَّ قصده بيمينه كان منع نفسه عن العتق كما توهمه المعترض، فإن هذا مما تكرر كلام المجيب فيه (2)، وبَيَّنَ أَنَّ الحالف لم يقصد وجود الجزاء، بل هو مكروه له سواء وجد الشرط أو لم يوجد، وإنما قصده بيمينه مَنْعَ نفسهِ عن الشرط، فهو يقصد عدم الشرط _________ (1) «التحقيق» (41/ ب). (2) أعاد الناسخ كتابة هذه الجملة: (لِيُبَيِّنَ أن الحالف لم يقصد وقوع العتق المعلق ... ) إلى هنا.

(1/469)


وعدم الجزاء، بل قصده عدم الجزاء كان موجودًا قبل عقد اليمين، وهو موجود عند عقد اليمين، وهو موجود عند الحنث. فَظَنَّ المعترض أَنَّ الحالف إنما عقد اليمين لقصد منع الجزاء، وهذا لا يقوله عاقل، ولا يَظُنُّ بالمجيب أنه أراد هذا مَنْ فيه نوعٌ من الإنصاف، فإنَّ المجيب قد بَيَّنَ حقائق ما في نفوس الناس من الإرادات والكراهات بيانًا شافيًا، وبَيَّنَ أَنَّ الحالف لم يزل كارهًا للجزاء، وإنما عَلَّقَهُ بالشرط لئلا يقع الشرط؛ فكيف يُظَنُّ به [أنه إنما أراد] (1) عقد اليمين لئلا يقع الجزاء = إلا مَنْ هو عديم الإنصاف. ولو كان الحالف قد جَدَّدَ قصد منع الجزاء باليمين لكان ذلك مما يفيد كونه حالفًا، بل قصده عدم الجزاء أمر لازمٌ له، ثابتٌ قبل اليمين وبعدها، ولكن قال: إن الحالف لم يقصد عتقًا يبتغي به وجه الله، وإنما حلف به قصدًا ألا يقع العتق، أي: حلف به قاصدًا ألا يقع العتق لا قاصدًا لوقوع العتق، ومن لم يقصد العتق لم يبتغ به وجه الله. وإذا قيل: الحالف بالنذر والطلاق والعتاق والكفر والظهار (2) لم يقصد هذه الأمور، وإنما حلف بها قصدًا ألا تقع. فالمراد: أنه حلف به قاصدًا أن [126/ أ] لا يقع (3)، وهو ــ أيضًا ــ باليمين قصده أنها لا تقع، فكان قبل اليمين غير مريد لوقوعها، وقد يعزب عن قلبه حضور إرادتها بقلبه نفيًا وإثباتًا، وأما عند اليمين فهو يكره وقوعها، _________ (1) في الأصل: (أراد أنه إنما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل زيادة: (حلف)، وبحذفها تكون العبارة مستقيمة. (3) كرر الناسخ هذه الجملة: (فالمراد أنه حلف قاصدًا أن لا يقع).

(1/470)


ويقصد ألا تقع، ليس المراد أن العلة في حَلِفِهِ قصد عدم العتق ضرورة أنه جعله مفعولًا لأجله؛ فإنَّ المجيب قد دل كلامه كله على أنه لم يقصد هذا، وهذا اللفظ لو كان ظاهره أنه أراد ذلك = لكان الواجب أن يحمل المتشابه من كلامه على المحكم المعروف، بل لو أراد المجيب هذا المعنى فَسَدَ كلامه وفسد دليله، فإنه لو كانت العلة في حلفه قصد عدم العتق لكان الحامل له على اليمين هذا القصد، والعلة وإن كانت متقدمة في العلم والقصد فهي متأخرة في الوجود والحصول؛ فأول البغية آخر الدرك، وأول الفكرة آخر العمل (1). وحينئذٍ؛ فكان عدم العتق لا يحصل إلا باليمين فيكون متأخرًا عن اليمين، ولو كان ذلك= لامتنع أن يحلف به، فإنه يكون محلوفًا لأجله لا محلوفًا به، كما لو قال: والله لا أعتق العبد وإن أعتقته فنسائي طوالق؛ فهنا قصد بيمينه مَنْعَ نفسه من العتق، وهذا المنع وكَّده بيمينه. وأما إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعبدي حر؛ فهنا العتق محلوفٌ به، وهو كارهٌ له ممتنعٌ منه، غيرُ قاصدٍ له عند اليمين، وإنما حلف به ليمنع به نفسه من شيءٍ آخر، وهو الفعل الذي عَلَّقَ به العتق، وهذا أَمْرٌ واضحٌ يفهمه العام والخاص، لا يُظَنُّ بأقلِّ الناسِ أنه يفهم خلافه. _________ (1) مجموع الفتاوى (8/ 83) (10/ 284، 587)، الفتاوى الكبرى (5/ 252) (6/ 111)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 116)، منهاج السنة (7/ 219)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 114)، درء تعارض العقل والنقل (5/ 91) (10/ 51) وقال في الموضع الأخير: أي: أول ما تبغيه فتريدُهُ وتطلبُهُ، هو آخر ما تدركه وتنالُهُ. وانظر: أدب الكاتب (ص 8)، وشرحه لأبي منصور الجواليقي (ص 37).

(1/471)


فَظَنَّ هذا المعترض أَنَّ المجيب قصدَ نقيضَ هذا، ونسبه إلى قلة الإنصاف وغاية المكابرة = هو من قلة إنصافه ومكابرته، حيث جعل المجيب يقصد هذا، ومن نظر في كلام المجيب مثل نظره، أو كان له به خبرة متوسطة يعلم علمًا ضروريًّا أَنَّ المجيب لا يقصد هذا، وأَنَّ مَنْ جعله قاصدًا لهذا فهو المكابر القليل الإنصاف، هذا لو كان لفظه يدل على ذلك دلالة ظاهرة، فكيف وليس اللفظ ظاهرًا في ذلك؟! فإنَّ قوله: (حلف به قصدًا ألا يقع)؛ يجوز أن يكون نصبًا على الحال أي: قاصدًا ألا يقع العتق، والمصدر يكون حالا كثيرًا، فإنَّ التعبير بالمصدر عن الفاعل كثير جدًا؛ كقولهم: رجل عدل (1)، ويجوز أن يكون المعنى فعله لقصده ألا يقع؛ أي: لقصده اللازم الدائم ألا يقع، كما يقول: قعدت عن الحرب جبنًا، أي: الجبن دعاني إلى ذلك، وكذلك قَصْدُهُ ألا يقع دَعَاهُ إلى الفعل، ومنه قوله تعالى: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 265]، وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20]، فإنَّ ابتغاء وجه الرب هو الذي دعاهم إلى الفعل، وهذا الابتغاء موجود قبل الفعل، ويجوز أن يكون المعنى: أنه عند اليمين يؤكد قصده ألا يقع، ويجدد حصوله في قلبه مع قصده ألا يحصل الجزاء، فإنه قبل اليمين قد يكون ذاهلًا عن هذا القصد، وعند اليمين يحصل في قلبه؛ وحينئذٍ فهو باليمين قصد منع نفسه من الشرط، وهو ــ أيضًا ــ قاصد [126/ ب] الامتناع من الجزاء، وَقَصْدُ هذا الامتناع يحصل عند اليمين، وإن (2) كان ذاهلًا عنه قبل اليمين، ويكون قصده باليمين _________ (1) انظر: اختيارات شيخ الإسلام وتقريراته في النحو والصرف (ص 229). (2) في الأصل: (وإذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/472)


ألا يقع العتق ولا يقع الفعل، وكلاهما مقصود باليمين، لكن الباعث الداعي إلى اليمين هو قصد المنع من الشرط، وهو مع ذلك لا بُدَّ أَنْ يقصد عدم الجزاء ــ أيضًا ــ ليكون هذا القصد مانعًا من الشرط الملزوم، فإنه لولا قصد عدم الجزاء لم يصر الشرط مقصود العدم. وبالجملة؛ فلا يجوز أَنْ يراد أن الحالف لم يحلف إلا لقصد المنع من الجزاء لا لقصد المنع من الشرط، فإنَّ هذا لا يقوله عاقل، ولا يَظُنُّ عاقلٌ أَنَّ المجيبَ قَصَدَهُ، وغايتُهُ أنه استدراكٌ لفظيٌّ لا فائدةَ في الإطالة فيه، والمجيب يُعْرِضُ عن مثل هذه الاستدراكات في كلام المعترض وأمثاله، إذ لو فُتِحَ هذا الباب طال الخطاب بما لا فائدة فيه عند أولي الألباب. فإن ظَنَّ المعترض أَنَّ المجيب قصد أن اليمين لم تُعقد (1) إلا لقصد منع الجزاء = فهذا من الظن الذي هو أكذب الحديث، وهو من الظنون السيئة التي يزع عنها العقل والدين، وإن ظن أنه أراد أنه باليمين قصد ألا يقع الجزاء مع قصده باليمين ألا يقع الشرط، فإن الحالف قصده ألا يقع العتق المحلوف به ولا الفعل المحلوف عليه. * * * * _________ (1) في الأصل: (تقصد)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/473)


فصلٌ قال المعترض: (قال ــ يعني المجيب ــ: (وقد تبيَّن أَنَّ هذا القول مُخَرَّجٌ على أصول أحمد من عدة أوجهٍ؛ منها: أنه قد جعل التكفير والاستثناء متلازمين، وهذه اليمين ينفع فيها الاستثناء في أحد القولين عنه، بل في الصحيح من قوليه؛ فكذلك الكفارة). قلتُ (1): شَرَعَ في تعديد الأوجه التي يُخَرَّجُ القول الثالث على أصول أحمد منها، فذكر هذا الوجه الأول وقد تقدم الجواب عنه، وأنه يجب تقديم النص الخاص على العام، ولا يجوز القياس مع وجود النَّصِّ الصريح، لا سيما المذكور على وجه الاستثناء، فإنَّ أحمد قد صَرَّحَ باستثناء الطلاق والعتاق من الأيمان المكفَّرة ــ كما تقدم ــ) (2). والجواب: أنه قد تقدم الجواب عن [127/ أ] جوابه، وأن (3) تقديم الخاص على العام إنما يكون في العمومات اللفظية إذا كان المتكلم ليس له قولان؛ كالنبي المعصوم، وأما حيث كان العموم مرادًا (4) إما لكونه علة معنوية يمنع تخصيصها بدون فوات شرط ولا وجود مانع، أو (5) لكون المتكلم قصد _________ (1) القائل هو: السبكي. (2) «التحقيق» (41/ ب). (3) في الأصل: (وأنه). (4) في الأصل: (مراد). (5) وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وكتب في الهامش (مع) وفوق العين ضمة. ومعنى الكلام مستقيم بدون هذا اللحق.

(1/474)


العموم= فلا يحمل العام على الخاص. ولهذا تنازع العلماء في العام المتأخر هل يُبْنَى عليه الخاص المتقدم في خطاب الشارع على قولين (1)، هما روايتان عن أحمد؛ إحداهما: يُبْنَى عليه؛ وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - بناءً على أَنَّ العام لو أريد به الخاص لكان ناسخًا للخاص، وإذا لم يرد به لم يلزم النسخ. والثانية: لا يُبْنَى عليه؛ بناءً على أَنَّ العام يدل [على] (2) إرادةِ أفراده به إذا لم يقترن به المخصص، وحينئذٍ؛ فيكون ناسخًا للخاص فيما خالفه فيه. وقد تقدم أَنَّ أحمد - رضي الله عنه - له روايتان في الاستثناء في الحلف بالطلاق والعتاق، وأنه نَصَّ في غير موضع أن الاستثناء والتكفير متلازمان، وأنه جعل ذلك حجة له في أنه لا يكفر في الطلاق والعتاق، واختلف قوله في الاستثناء في الحلف بهما، ونَصُّهُ على استثناء الطلاق والعتاق إذا أريد به استثناء الحلف بهما فإنما يتوجه على إحدى الروايتين عنه، وأما على الرواية الأخرى فلا يجوز أَنْ يُستثنى من التكفير إلا إيقاعهما لا الحلفُ بهما، وإلا فلو استثنى الحلف بهما من التكفير مع قوله بالاستثناء في الحلف بهما، وقوله إن التكفير والاستثناء متلازمان، واحتجاجه بذلك على أن ما لا كفارة فيه لا استثناء فيه = كان هذا تناقضًا يفسد حجته وأصله ومذهبه. _________ (1) مجموع الفتاوى (21/ 263)، الفتاوى الكبرى (1/ 297)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 204). وانظر ما سبق (ص 282). (2) إضافة يقتضيها السياق.

(1/475)


وأحمد وغيره من الأئمة ليسوا أنبياء، بل هم متبعون للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومقصودهم اتباع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس لأحدهم أَنْ يعم ما أراد ويستثني منه ما أراد، وإنما يعممون ما عمَّمه الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخصون ما خصه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأحمد يخبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما قاله، فيمتنع أن يخبر [127/ ب] عنه بكلام متناقض، لامتناع التناقض في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا إذا احتج أحد العلماء بحجة ونقضها؛ قيل: هذه فاسدة وعلة فاسدة، لم يجز أن يقال في كلامه عام وخاص، كما يقال ذلك في كلام المعصوم - صلى الله عليه وسلم -. فلو قال أحدهم: إنما حرم الله ــ تعالى ــ الخمر لأنها مسكرة، ثم أباح بعض المسكرات؛ لكان هذا تناقضًا يفسد علته وحجته، لا يجوز أن يقال: هذا من باب الخاص والعام. فإذا قال أحمد وغيره من العلماء: لا يجوز الاستثناء في الطلاق والعتاق لأنه لا كفارة فيهما، والاستثناء إنما يكون فيما يكفر لا فيما لا يكفر، وقال مع هذا: إنَّ الحلف بالطلاق يجوز فيه الاستثناء دون التكفير = لكان هذا تناقضًا يقتضي فساد قوله، ليس هذا من باب العام والخاص. فَعُلِمَ أَنَّ ما قاله أحمد ــ رحمة الله عليه ــ إنما يتوجه على إحدى الروايتين، وهو قوله: إنه لا استثناء لا في إيقاعه ولا في الحلف، وأما على الرواية التي يقول فيها إنه يجوز الاستثناء في الحلف به دون إيقاعه؛ فلا بُدَّ على هذه الرواية من أن يقول بجواز التكفير فيما جاز فيه الاستثناء، أو يَبْطُلَ قولُهُ: لا استثناء إلا فيما فيه كفارة، لكن هذا الأصل أصل مذهبه الذي بَنَى

(1/476)


عليه مذهبه، وعليه دل الكتاب والسنة، فإنْ كان هذا صحيحًا لزمه جواز التكفير [في] (1) الحلف بالطلاق إذا قيل بجواز الاستثناء فيه، وهذا أَمْرٌ واضحٌ كما تقدم (2). * * * * _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) انظر ما كتبه المجيب (ص 276 - 284).

(1/477)


فصلٌ قال المعترض: (قال ــ يعني المجيب ــ: الوجه الثاني: أنه أخذ بحديث أبي رافع، وقد ثبت فيه ذكر العتق. قلنا: هذا الوجه الثاني من التخريج، وقد تقدم الجواب عنه في سنده ومتنه؛ فإنه يشير إلى حديث جسر بن الحسن) (1). فيقال له: قد ثبت ذكر العتق في حديث جسر بن الحسن، وفي حديث أشعث بن عبد الملك ــ أيضًا ــ، وإن كان الجواب الأول المختصر لم يذكر فيه طريق أشعث بن عبد الملك، وهذا الطريق [128/ أ] هو الذي بلغ عامة العلماء؛ كأبي ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن المنذر وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم، وصحح هؤلاء وغيرهم من العلماء ذكر العتق فيه، ولم يُعْلَم أحدٌ من العلماء بلغه هذا الطريق فطعن في ذكر العتق. وأحمد لم يبلغه هذه الطريق، ولا طريق جسر بن الحسن، وإنما بلغه طريق التيمي خاصة، ونحن نعلم منه أنه لو بَلَغَهُ طريق أشعث بن عبد الملك وطريق جسر = لم يقل إنَّ التيمي انفرد به، بل كان يعلم أن للتيمي متابِعًا، وهو مُتَّبع لحديث ليلى بنت العجماء، وإنما لم يأخذ بذكر العتق لتعليله بانفراد التيمي، فإذا زالت هذه العلة وجب على أصله العمل به. _________ (1) «التحقيق» (41/ ب).

(1/478)


وأما قول المعترض: (ثبت فيه حكم العتق باللفظ المتنازع فيه أو بغيره) (1) فعنه أجوبة: أحدها: أَنَّ أحمد بل وسائر أهل العلم لا يلتفتون إلى مثل هذه السفسطة، بل لا علة له عند أحمد إلا أنه لم يذكر فيه العتق، فإذا ثبت فيه ذكر العتق زالت العلة، ولم يقل أحمد ولا غيره: إن ذكر العتق في هذه الرواية يراد به نذر العتق، وفي الأخرى يراد به الحلف به، فإنَّ مثل هذا ليس من أصول أهل العلم كأحمد وأمثاله، بل هو من جنس السفسطة التي هي تشكيك في المعلومات. الثاني: أنه قد ثبت ذكر العتق باللفظ المتنازع فيه في حديث أشعث بن عبد الملك الحمراني، وقد ذكره المعترض، ورواه أبو ثور ومحمد بن نصر المروزي والدارقطني والبيهقي بالأسانيد الثابتة، ولفظه: (فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل الله)؛ فصرحت باللفظ المتنازع فيه، وهو قولها: (حر) (2). الثالث: أَنَّ ذكر ذلك اللفظ، وهو قوله: (حلفت بالهدي والعتاقة)؛ يحصل المقصود من عدة أوجه، كما تقدم بيانه. * * * * _________ (1) «التحقيق» (41/ ب)، ونصُّ كلامه في «التحقيق»: (وقولُهُ: ثبتَ فيه العتق. قلنا: باللفظ المُتَنَازع في حكمه أو بغيره؟ الأول ممنوع، والثاني مُسلَّم، ولا يحصل به مقصوده). (2) تقدم تخريجه (ص 201 - 209).

(1/479)


فصلٌ قال المعترض: (قال ــ يعني المجيب ــ: الثالث: أنه قد اختلفت الرواية عنه فيما إذا حلف بعتق عبد غيره، مثل أَنْ يقول: عبد فلانٍ حرٌ لا أفعل كذا، [أو] إِنْ فعلتُ كذا فعبد فلانٍ [128/ ب] حر؛ هل يلزمه بذلك كفارة أم لا؟ على روايتين. إحداهما: أنه لا يلزمه شيء، كما لو قال: عبد فلان حر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا عتق لابن آدم فيما لا يملكه» (1). والثانية: عليه كفارة يمين، كما لو قال: عليَّ أن أعتقه إِنْ فعلت كذا، أو إن فعلت كذا فعليَّ أَنْ أعتقه، لأنه حَلَفَ بعتقٍ لم يقع، وهذه الرواية تقتضي أن الحلف بالعتق يكون فيه كفارة إذا لم يقع العتق، وحينئذٍ؛ فإذا حَلَفَ بعتق عبده لم يجز أن يقول: يقع العتق، لأنه لا كفارة فيه؛ فإنَّ هذا دور. فإنا إنما قلنا: تثبت الكفارة إذا لم يقع العتق، فلو عَلَّلنا وقوع العتق بعدم الكفارة = لزم أن يكون كلٌّ منهما علةً للآخر؛ وهذا دور ممتنع. قلت: الدور أَنْ يتوقف كلٌّ منهما على الآخر، فإنما يصح الدور ههنا ــ كما زعم ــ لو كان ثبوت الكفارة معللًا بعدم وقوع العتق، وعدم وقوع _________ (1) أخرجه أحمد في مسنده (11/ 392)، وأبو داود (2190)، والترمذي (1181) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيءٍ رُوِيَ في هذا الباب. وانظر: السلسلة الصحيحة (5/ 216).

(1/480)


العتق معللًا بثبوت الكفارة، وحينئذٍ؛ يلزم الدور، أما على ما ذكر هو في المقدمة الثانية أن وقوع العتق معللٌ بعدم الكفارة، فكلُّ واحدٍ منهما معلل بعدم الآخر، وهذا ليس بدور، فإنَّ كلًا من الضدين مشروطٌ بعدم الآخر) (1). والجوابُ أَنْ يقال: وجه الدور: أنه على هذه الرواية قد أفتى في الحلف بالعتق الذي لا يقع، وهو حلفه بعتق عبد غيره بكفارة يمين، وحينئذٍ؛ فيقال: إذا حلف بعتق عبده لم يجز أن يقال يقع العتق، لأنَّ الحلف بالعتق لا كفارة فيه، لأنه قد أجاب بأنَّ في الحلف بالعتق كفارة يمين. فإذا قيل: هناك لَزِمَتِ الكفارة، لأن العتق لم يقع. فيقال: فبطلَ قولُ القائلِ: الحلفُ بالعتق لا كفارة فيه مطلقًا، وإنما الواجب أَنْ يقال: الحلف بالعتق إذا وقع العتق فلا كفارة فيه، وإذا لم يقع (2) ففيه الكفارة. وحينئذٍ؛ فيقال: لم لا يجوز أن يكون في الحلف بالعتق في محل النزاع كفارة يمين؟ فإذا قيل: لأنَّ الحلف بالعتق لا كفارة فيه = بطلت هذه العلة، فإنَّ العلة إنما هي [129/ أ] إذا حلف بالعتق ولم يقع العتق، ففيه كفارة يمين؛ فيحتاج أن يقيم الدليل على أن العتق هنا لم يقع. فإذا قلنا: يقع العتق لأن الحلف بالعتق لا كفارة فيه = كانت هذه العلة _________ (1) «التحقيق» (41/ ب). (2) في الأصل: (وإذا وقع)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/481)


باطلة على هذا القول، لأنه ــ أعني الحلف بالعتق ــ لا كفارة فيه مطلقًا، بل إذا كان الحلف بالعتق لا يقع ففيه الكفارة. وحينئذٍ؛ فلا يجوز أن يقال: يقع العتق هنا لأنه لا كفارة في الحلف. يقال: هناك وجبت الكفارة في الحلف به لأنه لم يقع، فنكون قد عللنا وقوع العتق بانتفاء الكفارة في الحلف به، وعللنا وجوب الكفارة في الحلف به بانتفاء الوقوع، فيكون عدم التكفير هو الموجب لوقوع العتق. وإذا قيل هناك: لم يقع العتق لكونه غير مالك. قيل: المنجِّزُ لعتقِ عبد غيرِهِ غيرُ مالكٍ ولا كفارةَ عليه، وإنما وجبَت هنا لكونه حالفًا مع أنَّ العتقَ لم يقع، لا لكونه أعتقَ عبد غيرِهِ، وفي صورة النزاع هو حالف ــ أيضًا ــ. فإذا قيل: فالعتق هنا واقع. قيل: إنما قلتم يقع مع كونه حالفًا؛ كقولكم الحلف بالعتق لا كفارة فيه، وقد انتقض هذا الأصل، وأوجبتم في الحلف به الكفارة في بعض الصور؛ فإذا قلتم هناك لم يمكن إيقاع العتق = فلم يكن بُدٌّ من الكفارة لأنه حالف. قيل: فهذا يدل على أن الحلف به مقتضٍ لوجوب الكفارة، وفي صورة النزاع الحلف قائم فيلزم وجوب الكفارة. فإذا قلتم: لكن العتق هنا قد وقع، فلا تجب الكفارة مع وقوعه. قلنا: هذا محل النزاع؛ فلا يجوز الاحتجاج به، فما دليلكم على أن العتق يقع وأنتم تقولون فيمن عَلَّقَ تعليقًا يقصد به اليمين أنه يكفر إلا في العتق والطلاق؟ فلم قلتم لأن العتق والطلاق لا كفارة فيهما؟ فإنما عللتم

(1/482)


وقوعهما بعدم الكفارة فيهما، ومع قولكم بالكفارة في بعض الصور لا يصح ذلك، بل يقال: قد ثبتت (1) الكفارة في الحلف بذلك في بعض الصور = فلا يصح قولكم: يقع؛ لأنه لا كفارة فيه، مع قولكم هنا: إنه يكفر في الحلف به. فإنه إذا قيل بأن العتق المحلوف به تدخله الكفارة في الجملة = لم يصح أَنْ يقال: يقع هنا، لأنه [129/ ب] لا كفارة فيه إلا إذا قيل مع ذلك: إنه واقع، ومع وقوعه لا تجب الكفارة، وأنتم لم تذكروا حجةً في وقوعه، وهذا وحده كافٍ. وحينئذٍ؛ فليس لكم أن تقولوا هنا: يكفر، لأن العتق لم يقع، وتقولوا هناك: يقع العتق، لأنه لا كفارة فيه، فإنَّ هذا تعليلٌ لوقوع العتق المحلوف به بانتفاء الكفارة فيه، وأنتم تقولون في العتق المحلوف به الكفارة في بعض الصور، فإذا قلتم هناك لم يقع لانتفاء شرطه وهو الملك. قيل: وهنا ــ أيضًا ــ لا يقع لانتفاء شرطه، وهو قصد الإيقاع، فإنه لا بُدَّ في وقوعه من أن يكون إيقاعًا في مَحَلٍّ قابلٍ، فكما أنه ينتفي لانتفاء محله، فإنه ينتفي لانتفاء إيقاعه كما أنَّ طلاقَ المرأة ينتفي تارة لكونها ليست زوجة، وتارةً لانتفاء الإيقاع مثل: طلاق المجنون والسكران والمكره فإنَّ الإيقاع انتفى لانتفاء قصده، وكذلك في اليمين، وأنتم على هذا القول [قد أوجبتم] (2) الكفارة فيما إذا حلف بعتق عبد الغير مع أنه غيرُ واقعٍ، ولم يلتزم شيئًا في ذمته = فعلم أنَّ الحلف بالعتق مقتضٍ لوجوب الكفارة إذا لم تتم شروط الإيقاع؛ وفي محل النزاع لم تتم شروط الإيقاع= فتجب الكفارة. _________ (1) في الأصل: (ثبت)، والصواب ما أثبتُّ. (2) هكذا قرأتها، وفي هذا الموضع سواد شديد.

(1/483)


فإنْ قلتم في محل النزاع: يقع ولا كفارة، لأنه لا كفارة في الحلف به = كانت هذه علةً منتقضةً باطلةً، فلا بُدَّ أنْ تقولوا: بل الحلف به يوجب الكفارة إذا لم يقع، وهنا قد وقع، لأن الحلف بعتق عبد الغير (1) لم يقع؛ فلهذا وجبت الكفارة في الحلف به، أو تقولوا: هنا أمكنه أن يوقع العتق بخلاف عبد الغير فإنه لا يمكنه إعتاقه. فيقال: ولو حلف: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ عتقُ عبدي؛ هنا يمكنه إعتاقُ عبده ولم يوجبوه؛ فَعُلِمَ أَنَّ إمكان الإعتاق وصف عديم التأثير، وإنما المؤثر عندكم في وجوب الكفارة كونه قصد اليمين، وهذا المعنى مشترك في الجميع. نعم؛ هناك كونه ملكًا للغير مانع من أن يعتقه، فتتعين الكفارة، وفيما إذا قال: إِنْ فعلته فعبدي حر يمكنه إعتاقه [130/ أ] فلا تتعين الكفارة، بل يخير بين أَنْ يُعتِقَهُ وبينَ أَنْ يُكفِّر. ومما يوضح هذا: أنهم ذكروا الروايتين في لفظ القَسَم، وهو أَنْ يقول: غلام فلانٍ حر لأفعلنَّ كذا؛ هذا لفظها في الكتب الكبار والصغار، حتى في هداية أبي الخطاب ومقنع أبي محمد ومحرر أبي البركات (2)؛ وهذه صيغة قسم. ووجه الدور: أَنَّا إذا قلنا: يقع العتق المعلَّق المحلوفُ به، لأنَّ هذا لا كفارة فيه بخلاف تعليق النذر المحلوف به = كان هذا تعليلًا لوقوع العتق بعدم الكفارة. _________ (1) في الأصل زيادة: (فإنه)، وبحذفها يستقيم الكلام. (2) الهداية لأبي الخطاب (ص 427)، المقنع (ص 463)، المحرر (2/ 198).

(1/484)


فإذا قيل: وَلِمَ لَمْ تجب فيه الكفارة مع أنه قصد اليمين؟ فقال القائل: لأنَّ هذا التعليق يقع فيه العتق فلا كفارة فيه؛ كان هذا دورًا ممتنعًا، فإنه جَعَلَ علةَ وقوعِ العتق امتناعَ الكفارة فيه، وجعلَ علةَ امتناع الكفارة فيه أنه يقع فيه العتق فلا تقع الكفارةُ؛ فعلل كليهما (1) بالآخر، وهذا دور ممتنع. ثم هنا طريقان من الكلام: أحدهما: أَنْ يُقالَ: إذا قلتم على إحدى الروايتين: إنَّ الحالف بعتقِ عبد الغير يلزمه الكفارة = بطل قولكم العام: إنَّ الحلف بالعتق ليس فيه كفارة، وثبت أنه قد يكون فيه كفارة. والثاني: أنكم إذا قلتم: الحلفُ بالعتق لا يكفَّر، لأنَّ العتق لا كفارة فيه، وقلتم العتق لا كفارة فيه، لأنه قد وقع فلم يكفر = كان هذا دورًا ممتنعًا، ولكن هذا الثاني يدل على بطلان القول، فلم يُخَرِّج منه قولًا في مذهب أحمد بخلافه، وإنما يخرَّج مذهب الرجل من كلامه لا مما يبطل كلامه، بخلاف الوجه الأول فإنه إذا قال على إحدى الروايتين: إنَّ الحلف بعتق عَبْدِ الغير يكفر يمينه دَلَّ على أنه يرى في الحلف بالعتق التكفير، وحينئذٍ فلا يمكن في صورة النزاع أَنْ يُقالَ: العتقُ وقعَ، لأنه لا كفارة في الحلف بالعتق لنصِّهِ على نقيض ذلك في هذه الرواية، والتخريج إنما هو عليها. وحينئذٍ؛ فنحن إذا أثبتنا الكفارة إذا لم يقع العتق المحلوف به وإلا فلو ثبت لم تجب كفارة، فلو قلنا: العتق المحلوف به يقع لأنه لا كفارة فيه = كُنَّا _________ (1) في الأصل: (كلاهما)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/485)


قد جعلنا [130/ ب] عدم الكفارة سببًا لوقوعه، والمقتضي للكفارة قائمٌ وهو الحلف، ولهذا أثبتناها هناك لوجود الحلف فلا بُدَّ أَنْ يفرق بينهما: بأنه هنا وقع العتق فانتفت الكفارة، وهناك لم يقع فوجبت. وحينئذٍ؛ فيقال: وقوعه إنما يكون إذا لم يمكن التكفير، وإلا فمع إمكان التكفير لا يقع، فلو نفينا الكفارة لوقوعه وأثبتنا وقوعه لانتفاء التكفير = لزم الدور. وكذلك ــ أيضًا ــ إذا علَّلنا ثبوتَ الكفارةِ بعدمِ العتقِ، وعَلَّلنا وقوع العتق بعدم الكفارة ــ كما في الجواب ــ لزم الدور، فإنَّ ثبوتَ التكفير وثبوت العتق ضدان لا يجتمعان، بل ولا يرتفعان في هذه الصورة، بل إِنْ ثبتَ العتقُ انتفت الكفارة وإن انتفت الكفارة ثبت العتق، والضدان وإِنْ كان كل منهما مشروطًا (1) بعدم الآخر، لكن لا يجوز أن يكونَ كلٌ منهما هو العلة في عدم الآخر، ولا عَدَمُ كلٍ منهما هو العلة في وجود الآخر. فلا يجوز أَنْ يقالَ: وُجِدَ هذا لعدم هذا وعُدِمَ هذا لوجود هذا، بل إِنْ كان وجود ذاك هو العلة لعدم هذا = امتنع أن يكون عَدَمُ هذا عِلَّةَ وجود ذاك، وإِنْ كان شرطًا له، فليس كلُّ ما كان شرطًا كان علة، فلا يجوز أَنْ نجعل ثبوت الكفارة بعدم وقوع العتق، ونقول: وقع العتق لعدم وجوب الكفارة، فإنه يلزم تعليل وجود هذا بعدم ذاك، وتعليل وجود ذاك بعدم هذا، وهذا النوع من الدور ليس هو دور في الأنواع، والأول دور في الأعيان. فدور الأعيان: أَنْ يتوقف كلٌّ من الشيئين المعيَّنين على الآخر، وأما _________ (1) في الأصل: (مشروط).

(1/486)


الدور في الأنواع فمثل أَنْ يقال: الموجِبُ للسواد هو عدم البياض، والموجب للبياض هو عدم السواد؛ فهذا نظير قولنا: يقع العتق لعدم الكفارة، وتَلزم الكفارة لعدم العتق، يجعل وجود كُلٍّ من الضدين لأجل عدم الآخر؛ وهذا باطل. بل الواجب أَنْ يقال: السواد موجبٌ لعدم البياض، والبياضُ موجب لعدم السواد؛ فيقال: وقع العتق فلا كفارة، أو لزمت الكفارة فلا عتق؛ فيكون وجود أحدهما هو المانع من الآخر، لا أَنَّ عدمَ أحدِهما هو الموجب لوجود الآخر، فإن العدم لا يقتضي وجودًا، بل الوجود [131/ أ] يقتضي العدم، وكان هذا دورًا في التعليل والاستدلال، لأنه إذا كان عَدَمُ كلٍّ منهما هو المقتضي لوجود الآخر، وأحدهما لا يُعْدَم إلا مع وجود ضده، فلا يثبت وجود هذا الضد حتى يُعدم الآخر، ولا يُعدم ذاك حتى يوجد هذا، ولا يوجد هذا حتى يعدم ذاك = وهذا هو الدور. كما إذا قيل: لا تجب الكفارة إلا إذا عدم العتق، ووجود الضدِّ وإن كان ثابتًا مع عدم الآخر، لكن لا يجوز أن يكون عدم كل منهما هو علة وجود الآخر، لأنَّ العلة لا بُدَّ أن تتقدم المعلول، وعَدَمُ أحدِهما هنا لا يكون إلا مع وجود الآخر، لا يجوز أن يتقدم عليه بوجهٍ من الوجوه لا تقدمًا عقليًا ولا وجوديًا = فامتنع أن يكون علةً له، فإذا جُعِلَ علةً له لزم الدور. وبهذا ظهر الجواب عن قول المعترض: (الدورُ أَنْ يتوقف كلٌّ منهما على الآخر؛ فإنما يصح الدور هنا ــ كما زعم ــ لو كان ثبوت الكفارة معللًا بعدم وقوع العتق، وعدم وقوع العتق معللًا بثبوت الكفارة؛ وحينئذٍ يلزم الدور، إما على ما ذَكَرَ هو من المقدمة الثانية أَنَّ وقوع العتق يعلل بعدم

(1/487)


الكفارة، فكلٌ منهما معللٌ بعدم الآخر، وهذا ليس بدور، فكلٌ من الضدين مشروطٌ بعدم الآخر). فيقال له: الدور الممتنع أعمُّ من هذا، فإذا كان توقف ثبوت الشيء على نفسه كان دورًا ممتنعًا، وإنما جعل توقفُ كلٍّ منهما على الآخر دورًا لهذا المعنى، فإنه إذا كان كلٌ منهما علةً للآخر = لزمَ ألا يوجد الشيء إلا بعد وجود علته، فلا يوجد ذاك إلا بعد هذا، ولا هذا إلا بعد ذاك، فيلزم ألا يوجد واحد منهما حتى يوجد، فلزم توقف كلٍّ منهما على نفسه وهذا المعنى موجودٌ هنا، فالدور حاصل، لكن التوقف قد يكون بواسطة وقد يكون بغير واسطة؛ فإذا كان وجود أحدهما معللًا بعدم الآخر، والمعلول بعد علته، وعدمُ أحدِهما لا يكون إلا مع وجود الآخر ــ إذ التقدير هذا ــ فإنَّ هذين الضدين لا يجتمعان ولا يرتفعان، بل لا بُدَّ في الحلف بالعتق؛ إما من العتق وإما من الكفارة، فلا يجتمعان ولا يرتفعان، بل هذا الذي يقال فيه: مانعة (1) الجمع والخلو (2). فالحالف بالعتق إما أَنْ يُعتق وإما أَنْ يُكفِّر؛ كما يقال: العددُ إما شفعٌ وإما وتر، فإنْ وَجَبَ العتقُ لم تجب الكفارة، وإن وجبت (3) [الكفارة لم يجب _________ (1) في الأصل: (ممانعة). والمثبت من كتب المنطق وكتب ابن تيمية الأخرى. (2) مجموع الفتاوى (3/ 39 - 40) (5/ 340، 151 - 152) (9/ 151، 193)، الفتاوى الكبرى (6/ 515، 554)، التدمرية (ص 63 - 64)، الرد على المنطقيين (203 - 204، 249)، درء تعارض العقل والنقل (1/ 289) (2/ 378) (5/ 137)، شرح الأصبهانية (ص 529)، بيان تلبيس الجهمية (4/ 351). (3) وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وكتب في الهامش: (الوريقة المعترضة)، وهي ورقة معترضة في وسط الوجه الثاني، وقد وضعت هذا اللحق بين معقوفتين.

(1/488)


العتق، وإن لم يجب العتق وجبت الكفارة، وإن لم تجب الكفارة وجب العتق، فاستثناء عينِ كلٍّ منهما يستلزم نقيض الآخر، واستثناء نقيضِ كلٍّ منهما يستلزم عين الآخر، كما إذا قيل: إن كان شفعًا لم يكن وترًا وإن كان وترًا لم يكن شفعًا، وإن لم يكن شفعًا كان وترًا وإن لم يكن وترًا كان شفعًا. وإذا كان كذلك: امتنع في مثل هذا أَنْ يُجعل عدمُ كلٍّ منهما علةً لوجود الآخر، أو وجود كل منهما علة للآخر، لأنَّ العلة تتقدم المعلول، فلا يوجد أحدهما إلا في حال عدم الآخر، فلا يكون متقدمًا عليه، ولا يعدم أحدهما إلا في حال وجود الآخر، فلا يكون متقدمًا عليه (1). فإذا قلنا: عدم هذا علةُ وجود ذاك، وعدم ذاك علة وجود هذا = كان وجود ذاك بعدَ عَدَمِ هذا وعَدَمُ هذا قبل وجود ذاك، وكان وجودُ هذا بعد عدم ذاك وعدم ذاك قبل وجود هذا. ومعلومٌ أَنَّ وجود كلٍّ منهما وعدم الآخر متلازمان، لا يسبق أحدهما الآخر، وحينئذٍ؛ فإذا جُعِلَ وجودُ ذاك بعد عدم هذا وعدم هذا مع وجود ذاك، فقد جعل وجود الشيء بعد وجوده، وقيل: إنه لا يوجد حتى يوجد. وقوله: (إذا كان كل منهما معللًا] بعدم الآخر فليس هذا بدور، فإنَّ كلًا من الضدين مشروط بعدم الآخر) كلام من لم يفهم الدور [131/ ب] الممتنع والجائز، والفرق بين العلة والشرط؛ فإن العلة غير الشرط، فإن الشرط يقارن المشروط، بخلاف العلة فإنها تتقدم المعلول (2). _________ (1) جامع المسائل (6/ 88)، درء تعارض العقل والنقل (3/ 61 وما بعدها). (2) مجموع الفتاوى (9/ 139) (16/ 15)، جامع المسائل (6/ 195)، الرد على المنطقيين (ص 190 - 191، 422، 426)، درء تعارض العقل والنقل (3/ 294، 298)، منهاج السنة (1/ 223، 256) (2/ 281) (3/ 127).

(1/489)


والدور في الشروط جائز وهو الدور الاقتراني، والدور في العلل غير جائز وهو الدور السبقي (1)، فإذا قيل: لا يوجد هذا إلا بعد ذاك ولا يوجد ذاك إلا بعد هذا = كان هذا ممتنعًا، بخلاف ما إذا قيل: لا يوجد ذاك إلا مع هذا ولا هذا إلا مع ذاك، فإنَّ هذا جائزٌ، كما إذا قيل: لا توجد الأبوَّة إلا مع البنوة ولا البنوة إلا مع الأبوة، فإنَّ هذا جائزٌ، بخلافِ ما إذا قيل: لا توجد الأبوة إلا بعد البنوة ولا البنوة إلا بعد الأبوة، فإنَّ هذا ممتنع، وهنا لو قيل: لا يكون وجوب الكفارة إلا مع عدم العتق ولا العتق إلا مع [عدم] (2) وجوب الكفارة= كانَ صحيحًا. وأما إذا قيل في تعليق الحلف بالعتق: الكفارة واجبة، لأنَّ العتقَ لم يقع، وقيل: العتق واقع لأن الكفارة لم تجب؛ فهذا باطل، فإنَّ الحلف بالعتق، إما أَنْ تكون الكفارة فيه مشروعة وإما أن [131/ ب/ ب] (3) لا تكون، فإنْ لم تكن مشروعة = كان الواجب أَنْ يقال: يقع العتق لامتناع الكفارة، وقيل: تجب الكفارة لامتناع العتق؛ مع أنَّ وقوع العتق وامتناع الكفارة متلازمان لا يسبق أحدهما الآخر = كان هذا دورًا باطلًا، لأنَّ امتناع الكفارة _________ (1) مجموع الفتاوى (8/ 152 - 153) (9/ 214)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 168)، الرد على المنطقيين (ص 301)، الرد على الشاذلي (ص 188)، الصفدية (1/ 12، 49، 94) (2/ 218)، درء تعارض العقل والنقل (1/ 281) (3/ 143، 161، 364)، شرح الأصبهانية (ص 57، 68، 96، 97، 135 وما بعدها، 143، 145). (2) إضافة يقتضيها السياق. (3) تقدم الإشارة إلى مثيلاتها.

(1/490)


لا يكون إلا مع وقوع العتق، فكأنه قيل: يقع العتق لوقوع العتق، فَجَعَلَ وجودَ الشيء متقدمًا لوجود نفسه، بل علةً لوجود نفسه؛ وهذا من أظهر الدور الممتنع. * * * *

(1/491)


فصلٌ قال المعترض: (ولا نُسَلِّمُ أَنَّ مرادَ أحمد تعليلَ وقوع العتق بعدم الكفارة، وكيف تَخَيَّلَ ذلك؟ بل علةُ وقوعِ العتق: التعليقُ، وإنما أشار أحمد إلى أَنَّ الوقوع والكفارة مما لا يجتمعان؛ فحيث كانت اليمين مما تَقْبَلُ وقوعَ المعلَّق ــ كالطلاق والعتق المعلقين في المملوك ــ فلا كفارة فيهما، فحينئذٍ يَحكمُ بوقوعِ العتقِ، وحيث كانت اليمين مما لا يقبل الوقوع كالحلف بعتقِ عبد غيره [132/ أ] فيحكم بالكفارة لعدم المانع منها؛ وهو وقوع العتق) (1). والجواب أَنْ يقالَ له: مراد أحمد - رضي الله عنه - في ذلك ظاهر؛ فإنه قد تقدم في كلامه غير مرة أنه علل وقوع الطلاق والعتاق بأنهما لا يكفران، ولا يجوز أَنْ يعلل بكونه تعليقًا ــ كما ذكره ــ، فإنَّ نذرَ اللجاج والغضب تعليق ــ أيضًا ــ وفيه الكفارة عند أحمد وجمهور السلف والخلف؛ فأحمد لم يعلل وجوب الكفارة بكونه تعليقًا، والتعليل بذلك لا يصح، بل يظهر فساده فإنه أجاب في أكثر صور التعليق الذي يقصد به اليمين بالكفارة، وفَرَّقَ بينَ تعليقِ النذر وتعليق العتق، فلا بُدَّ أَنْ يُفَرِّقَ بوصف يخص العتق والطلاق، فكيف يقوِّلُهُ ما لم يقله ــ وهو قول باطلٌ ظاهر البطلان ــ وَيَدَعُ قولَهُ المنصوص عنه؟! وأما قوله: (وإنما أشار إلى أنَّ الوقوع والكفارة مما لا يجتمعان؛ فحيث كانت اليمين مما (2) تقبل وقوع المعلَّق ــ كالطلاق والعتق المعلَّقين في _________ (1) «التحقيق» (41/ ب - 42/ أ). (2) هنا في الأصل زيادة (لا)، والصواب حذفها لما تقدَّم في أول الفصل، وكما في «التحقيق»، ولا يستقيم الكلام إلا بذلك حيث إنه سيأتي الكلام على ما لا يقبل الوقوع.

(1/492)


المملوك ــ فلا كفارة فيهما، فحينئذٍ نحكم بوقوع العتق، وحيث كانت اليمين مما لا يقبل الوقوع كالحلف بعتق عبد غيره نحكم بالكفارة لعدم المانع منهما وهو وقوع العتق). فيقال له: كون الوقوع والكفارة مما لا يجتمعان ظاهرٌ معروف لا يحتاج إلى تبيينه (1) أحمد، وأما الذي يحتاج إلى البيان انتفاء الكفارة تارة وثبوتها أخرى، وقد علل ذلك بأنَّ العتق واقع، وإذا وقع امتنعت الكفارة بخلاف الحلف بعتق عبد الغير فإنه لا يقع؛ فلهذا كفر. فيقال ــ حينئذٍ ــ: إذا كان الحلف بالعتق يقبل التكفير، فلماذا لم يكفر الحالف بعتق عبده؟ ولم قلتم: إنه وقع فلا يقبل التكفير؟ ولا يجوز تعليل وقوعه بعدم التكفير، لأنه قد علل وجوب الكفارة في الحلف بالعتق بعدم وقوع العتق فيما إذا حلف بعتق عبد الغير = فصار عدم وقوع العتق في الحلف علة لوجوب الكفارة. وأعني بالعلة: ما هو [132/ ب] أعم من العلة القاصرة (2)، أو جزء العلة وهو: السبب الذي يضاف إليه الحكم. فإنَّ الكفارة إنما وجبت لكونه عقد يمينًا بعتقٍ وإنه لم يجعل العتق يوجب الكفارة لمجموع الأمرين، ودَلَّ ذلك على أَنَّ الحلف بالعتق مما يسوغ فيه الكفارة، فلا يقال: الحلف بالعتق لا كفارة فيه بحال، لكن إنما _________ (1) في الأصل: (تنبيه). (2) في الأصل: (القاصر)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/493)


وجبت الكفارة مع عدم حصول العتق فإنهما لا يجتمعان. وحينئذٍ؛ فلا يجوز أن يقال في صورة النزاع: يقع العتق المحلوف به، لأنَّ العتق لا كفارة فيه. وأما الفَرْقُ بكون العتق هنا ممكنًا لكونه صادفَ ملك العتق، بخلاف تلك الصورة فإنه واقع في ملك الغير. فيقال: هذه علة صحيحة تقتضي وقوع العتق في ملكه دون ملك الغير، لا تقتضي ثبوت الكفارة (1) في الحلف بعتق عبد الغير، ولا تقتضي وقوع العتق في الحلف بعتق عبده إنْ لم يثبت أَنَّ الحلفَ بالعتق إعتاق، وهذا محل النزاع. وإنْ قيل: بل الحلف بالعتق يقتضي العتق إِنْ أمكن وإلا فالتكفير. قيل: اقتضاؤه للتكفير يوجب أَنْ يكون يمينًا، وحينئذٍ؛ فمقتضى اليمين التكفير، والحكم الواحد يكون له علتان (2)؛ فعتق عبد الغير المحلوفِ به أوجب الكفارة لكونه محلوفًا به، فلو كان الحلف بالعتق ليس سببًا للكفارة لامتنع (3) وجوب الكفارة. فَعُلِمَ أنه على هذا القول لا بُدَّ إما من الإعتاق وإما من الكفارة، وحينئذٍ؛ فلا يقال في صورة النزاع: العتق لا كفارة فيه. _________ (1) كرر الناسخ كلمة (الكفارة). (2) مجموع الفتاوى (15/ 123) (20/ 170 - 172) (21/ 263)، الفتاوى الكبرى (1/ 297)، جامع المسائل (6/ 92)، المسوَّدة (2/ 780). (3) في الأصل رسمت الكلمة هكذا (لا منع)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/494)


وإن قيل هنا: العبد مملوك له. قيل: هب أنه مملوك له؛ لكن أين السبب التام المقتضي لإعتاقه إنما وجد يمين؟ فإنْ قلت: اليمين إعتاق؛ لزم إذا كانت بعبد الغير ألا تقع ولا كفارة فيها، لأن إعتاق عبد الغير لا كفارة فيه. وإِنْ قلتَ: هي يمين، واليمين لا كفارة فيها = انتقضت بهذه الصورة. وإِنْ قلتَ: هي يمين بعتق، فقيل: العتقُ وملك غيره (1) عقد لا يقبل العتق، قيل: وكونه قابلًا للعتق يقتضي [133/ أ] أنَّ الحالف يمكنه أَنْ يعتقه وأَنْ يكفر، لا يقتضي وقوع العتق، وهذا فرقٌ صحيح؛ فإنه هنا يخير بين الإعتاق والتكفير، وهناك يتعين التكفير على هذه الرواية، فأما أَنْ يقال: كونه قابلًا للعتق وصفٌ موجب لوقوع العتق= فليس كذلك. ونكتة المسألة: أَنَّ الحلف إن كان إعتاقًا فلا كفارة فيه إذا لم يقع، وإن كان يمينًا ففيه الكفارة مطلقًا، لكن إِنْ أمكنَ إيقاعُهُ خُيِّرَ بين التكفير والإيقاع، وإِنْ تَعَذَّرَ تعيَّن (2) التكفير؛ فهذا مقتضى الأصول لمن تَدَبَّرَ ذلك؛ والله أعلم. _________ (1) كتب الناسخ (الغير) وتحتها ما أثبت وبعدها كلمة (صح). (2) في الأصل: (يعني)، والمثبت هو الصواب إن شاء الله، والمعنى: إن تعذَّر الإيقاع بأن كان مملوكًا للغير تعيَّن فيه التكفير.

(1/495)


فصلٌ قال: (ثم إِنَّ غاية هذا الوجه ــ لو صح ــ إثبات التناقض بين كلامَي إمامه، ولزوم الدور له في تعليله، وهذا ليس دأب المخرِّجين، بل التخريج استنباطٌ مما يدل عليه كلام الإمام؛ والله أعلم) (1). والجواب عنه من وجوه: أحدها: أَنْ يقال: هذا التناقض كما أنه لازمٌ لأحمدَ - رضي الله عنه - فهو لازمٌ لسائر الأئمة - رضي الله عنهم - ألزم وألزم، فإنه ليس من الفقهاء أحدٌ إلا وهو يجعل هذا التعليق يمينًا في بعض الأحكام؛ فمنهم من يجعله يمينًا في الإيلاء، والإيلاء هو اليمين، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية [البقرة: 226]، وجمهورهم يقولون: الحالف بهذه مولٍ، ثم منهم مَنْ يدرجها في لفظ الإيلاء، ومنهم مَنْ يقولُ الحكمُ فيها يثبت قياسًا؛ وعلى التقديرين يلزمهم مثل ذلك في الكفارة، فإنْ كانَ لفظ الإيلاء يعم هذا، فكذلك لفظ اليمين. وإن قالوا: أثبتنا به حكم الإيلاء بمعنى المشترك، فالمعنى المشترك هو الموجب للكفارة؛ فإنهم إذًا نظروا إلى المعنى الموجب للكفارة. فإنهم إذا قالوا: حكمُ الإيلاء ثبت لرفع الضرر عن المرأة إذا امتنع من جماعها باليمين، وامتناعه بما يلزمه من الطلاق أشد. قيل لهم: أولًا: إذا جعلتموه موليًا لزمكم أَنْ تحكموا فيه بخلاف حكم الله ــ _________ (1) «التحقيق» (42/ أ).

(1/496)


تعالى ــ في المولي، فإنَّ الله ــ عز وجل ــ خَيَّرَ المولي بين إمساكٍ بمعروف وتسريحٍ بإحسان؛ [133/ ب] فهو مخيرٌ بين أَنْ يفيءَ ويكفِّر وبين أَنْ يطلِّق، وإذا آلى (1) بالطلاق الثلاث لزمه الطلاق عندكم سواء فاء أو لم يف، فإنه إِنْ فاءَ بوطءٍ طلقت عندكم، وإِنْ انقضت المدة لزمه عندكم أَنْ يطلق أو يفيء فيطلق امرأته، فلزمه الطلاق على كل حال، وهذا خلاف حكم القرآن. وأيضًا؛ فعلى هذا التقدير: لا يَبقى في تربص أربعة أشهر فائدة لا للرجل ولا للمرأة، فإنَّ الرجلَ يلزمه الطلاق بكل حال، والمرأة ليس لها فائدة في مقامها معه مع لزوم الطلاق، ولا يحصل لها إلا وطأة واحدة على أحد قوليهم، فإنه إذا آلى بالطلاق المحرم؛ فهل يجوز له وطؤها؟ على قولين مشهورين، وهما روايتان عن أحمد، أحدهما: يجوز كقول الشافعي - رضي الله عنه -، والثاني: لا يجوز كقول مالك - رضي الله عنه -؛ ومأخذهما: أنَّ النزع هل هو محرم أو ترك للمحرم؟ وأيضًا؛ فإنْ آلى بالعتق وقيل يلزمه ذلك أو آلى بغيره؛ فمعلومٌ أنه إنما لزمه حكم الإيلاء لأجل رفع الضرر عن المرأة، وهذا هو المعنى الموجود في الإيلاء باسم الله ــ تعالى ــ. ومعلومٌ أن الله ــ عز وجل ــ إنما شرع للمسلمين تحلة أيمانهم لما عليهم من الحرج من الإلزام بمقتضى اليمين من غير تحلة، فإنَّ الناسَ يحلفون على ترك حاجاتٍ (2) يتضررون بتركها، وعلى ترك بِرٍّ يفوتُ مصلحة دينهم ودنياهم _________ (1) كتبها الناسخ (آلا) في جميع المواضع. (2) تحتمل: (مباحات).

(1/497)


بتركه، ولهذا نهاهم أن يجعلوا اليمين مانعةً من فعل الخير بقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا [وَتَتَّقُوا] (1) وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]، وقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وهذه نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - وكان قد حَلَفَ ألا ينفق على مِسْطَح بن أثاثة لما خاض في أمر الإفك (2). والنهي عن الإيلاء نهيٌ عن الإصرار على اليمين إذا كان قد عقدها، وأَمْرٌ له بالتكفير؛ ومعلومٌ أَنَّ هذا كله [134/ أ] لئلا تمنعهم الأيمان من فعل الطاعات والمباحات، فشرعت الكفارة لذلك، وهذا المعنى موجود في جميع الأيمان، فلو كان من الأيمان ما لا يخرج منها ولا كفارة فيها = لامتنعوا بها من فعل الطاعات والمباحات، وحصل بذلك من المفسدة في الحلف باسم الله. فإنَّ الناس يكرهون طلاق نسائهم وعتق عبيدهم ونحو ذلك أعظم مما يكرهون غيره، فيكون امتناعهم بهذه الأيمان ــ إِنْ لم تكن مكفرة ــ عن (3) البر والتقوى والإصلاح بين الناس أعظم، ويكون امتناعهم إذا ابتلوا بها أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله أعظم، والفساد الحاصل إذا لم تكن هذه الأيمان مكفرة في امتناع الناس بها مما يحبه الله أعظم _________ (1) ما بين المعقوفتين ليست في الأصل. (2) أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (3) في الأصل: (من).

(1/498)


وأعظم، والشارع قصده زوال ذلك الفساد. وكما أَنَّ المولي امتنع بيمينه من وطء امرأته، فالحالفون يمتنعون بأيمانهم من حقوقٍ لله ولعباده أعظم من وطء المرأة، يحلف أحدهم ألا يقضي حقوقًا واجبة عليه لله ــ تعالى ــ ولأبويه ولغيرهما؛ فإذا كان دفع الضرر عن امرأةٍ أَثبتَ حكم الإيلاء في جميع الأيمان، فقصد دفع الضرر عن جميع الخلق أولى أَنْ يُثبِتَ حكمَ التكفير في جميع الأيمان؛ وبسط هذا له موضع آخر (1). والمقصود هنا: أَنَّ جميع العلماء أعطوا هذه التعليقات حكم الأيمان في بعض المواضع، ومن ذلك: أَنَّ جمهورهم يجوِّزُون فيها الاستثناء، ومن ذلك أَنَّ التعليق الذي يحلف فيه بالكفر جعله جميعهم يمينًا لا تعليقًا موجبًا للكفر، ثم منهم مَنْ قال: هو يمين مكفَّرة لأنه التزم (2) هتك حرمة أيمانه، ومنهم من قال: ليس يمينًا (3) مكفرة. ومنها: أَنَّ جمهور العلماء يقولون: إِنَّ تعليق النذر الذي يقصد به اليمين يمين تجري فيها الكفارة، وهذا المعنى موجود في الحلف بالعتق والطلاق. ومنها: أَنَّ أكثرهم ــ أيضًا ــ كأبي حنيفة - رضي الله عنه - وأصحاب الشافعي الخراسانيين ــ رضي الله [134/ ب] عنهم ــ فَرَّقُوا بين تنجيز الشيء وبين تعليقه على وجه اليمين، كما في نذر المعصية والمباح، فإذا نذر ذلك لا على _________ (1) المستدرك على مجموع الفتاوى (4/ 218). (2) في الأصل: (التزمه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (يمين).

(1/499)


وجه اليمين لم يلزموه بشيءٍ، وإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أُطلِّقَ امرأتي؛ ألزموه بكفارة يمين، ففرَّقُوا بين أَنْ يقول: عليَّ أَنْ أُطلِّقَ، وبين أنْ يقول: إِنْ فعلتُ فعليَّ أَنْ أُطلِّق. كما فرَّق أحمد في إحدى الروايتين بين أَنْ يقول: غلامُ فلان حر، وبين أَنْ يقول: غلام فلان حر لأفعلن كذا؛ فجعلوا التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا مكفرة وإنْ كان المعلَّق لا يَلزم بِهِ شيء إذا كان منجزًا غير معلق بحيث لم يقصد به اليمين؛ فَعُلِمَ أَنَّ قصد اليمين مؤثر عندهم في لزوم الكفارة. وأيضًا؛ فالشافعي وغيره يلزمه من التناقض أكثر مما (1) يلزم أحمد، فإنه جعل هذا التعليق الذي يقصد به اليمين من باب الأيمان، وأَنَّ القياس يقتضي أن فيه كفارة يمين كما هو قول عائشة - رضي الله عنها - وعدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قالوه في قصة ليلى بنت العجماء وفيها العتق، ومعنى اليمين موجود في ذلك. والشافعي ــ أيضًا ــ يقول: إنَّ الطلاق والعتاق لا يكفران، لا إيقاعًا ولا حلفًا، كما قال أحمد مع وجود معنى اليمين في الحلف بهما؛ فالتناقض في هذا لازمٌ لكلِّ مَنْ خالف القول الثابت عن الصحابة الذي دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار. والجواب الثاني أَنْ يقالَ: التخريجُ هو: استنباطٌ مما دَلَّ عليه كلام الإمام، لكن إن لم يكن له في صورةِ التخريج نصٌّ جُعِلَ ذلك قياس قوله ومقتضاه، وإنْ كان خلاف نَصِّهِ جُعِلَ ذلك قولًا مخرجًا له خلاف _________ (1) في الأصل: (ما)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/500)


المنصوص؛ كما يفعل ذلك كبراء أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما إذا وجدوا للإمام نصًّا في مسألة، ووجدوا له نصًّا في أخرى مثلها بخلاف ذلك= خَرَّجُوا له فيهما قولين، والقولان متناقضان، ولا يمنع تناقض قول الإمام أَنْ يكون في ذلك قولان مخرجان، كما لو نَصَّ على قولين متناقضين (1). فالأئمة كلهم ــ الأربعة وغيرهم ــ يكون لأحدهم في المسألة الواحدة قولان [135/ أ] صريحان متناقضان، ولا يمنع تناقضهما أَنْ يكونا قولين له، لأنَّ العلماء ليسوا بأنبياء معصومين، وإنما هم مجتهدون، وإذا لم يكن في المسألة إلا قولان = كان القول الموافق لحكم الله ورسوله أحدهما دون الآخر، وصاحب القول الآخر مأجورٌ على اجتهاده وخطؤه مغفورٌ له؛ فمن يجعل تناقض أقوال العلماء مانعًا من حكاية الأقوال المتناقضة عنهم = كان هذا مخالفًا لما عليه عامةُ العلماء في حكايتهم عن العالم الواحد عدة أقوال متناقضة. ومعلومٌ أنه لا يعتقد القولين المتناقضين في وقت واحد، بل يعتقد هذا في وقت وهذا في وقت، وقد يقول في الوقت الواحد قولان، ويكون معنى ذلك التوقف؛ هل يقول بهذا أو بهذا؟ وأَنَّ المسألة تحتمل هذا وهذا، ليس مراده الجزم بأنَّ هذا قوله وهذا قوله؛ فإنَّ هذا لا يقوله عاقل، وهذا معنى قول الشافعي في المسألة قولان، وهذا يقوله أحمد ــ أيضًا ــ، وقد يذكر الأقوال ولا يرجح واحدًا منها، وإذا توقف جَعَلَ أصحابُهُ المسألةَ على _________ (1) المسوَّدة (2/ 940 وما بعدها). وانظر ما تقدَّم (ص 274 وما بعدها).

(1/501)


وجهين (1). والتوقف إذا كان مع المعرفة بالقولين ودليلهما ومَنْ قالهما كانَ هذا من علم العلماء المجتهدين، وأما إنْ كان مع عدم العلم بشيء من ذلك فهذا توقف الجاهل، وإن كان مع المعرفة بالنقل فيهما دون المعرفة بأدلتهما كان هذا مِنْ علم الحافظين لأقوال العلماء ومذاهبهم، وهو ــ أيضًا ــ علمٌ يستفاد وإن كان دون المعرفة بدليل كلٍّ من القولين (2). الجواب الثالث أَنْ نقول: قوله: (غاية هذا إثبات التناقض بين كلامَي إمامه) إما أَنْ يكون مقصوده الطعن في التخريج (3). _________ (1) جامع المسائل (6/ 322). وانظر: المسائل الفقهية التي توقف فيها الإمام أحمد (ص 112 - 126). (2) قال ابن القاص في نصرة القولين للإمام الشافعي (ص 149): والناس في العلم على ثلاث منازل: فمن عرف وجه الحق؛ فهو عالم. ومَنْ عرف الاختلاف ووجوه الاحتمال؛ فهو فقيه. ومَنْ وَضَحَ له ذلك حتى نزَّل وجوه الاحتمال منازلها ورَتَّبَ المشكلات مراتبها؛ فهو حكيم. ولو لم يسمع المتعلِّم إلا بقولٍ واحدٍ، ولم يَسلك إلا طريقًا واحدًا، ولم يَتَّسِع في تَعَرُّفِ وجوه الاحتمال من سُبُلِ الاجتهاد = لَجَبُنَ كثيرٌ من المتعلمين إذا سمع بقول المخالفين واحتجاجهم، ولم يَنبعث في النظر يوم التناظر، وأسرع إلى الانقطاع لدى المحافل حتى يتعلَّق بالتقليد تَعلُّقَ الغريق، أو يَتعذَّر بالإحسان، وذلك غايةُ الخذلان، والله المستعان. (3) كذا في الأصل، ويبدو أنَّ هناك سقطًا في الأصل بدليل ما بعده من الكلام، ولعل صواب العبارة هكذا: (إما أن يكون مقصوده الطعن في الأئمة، وإما أن يكون مقصوده الطعن في التخريج). وانظر ما تقدم في (ص 496).

(1/502)


وكلاهما باطل؛ أما الأول فلأنَّ الأقوال الصريحة المتناقضة المنقولة عن الأئمة لا توجب الطعن فيهم بالاتفاق، بل تدل على تغيُّرِ اجتهادهم، وكثرة نظرهم، واتباعهم الحق إذا ظهر لهم، وإذا كان التناقض الصريح على هذا الوجه ليس طعنًا؛ فالتناقض المستنبط أولى. وأما التخريج؛ فهذا حالُ كُلِّ مَنْ خَرَّجَ لإمامٍ من الأئمة قولًا مخالفًا لقوله [135/ ب] المنصوص، فإنه إنما يخرجه من نَصٍّ آخر يناقض النص الأول؛ فقول المعترض: (ليس دأب المخرجين) إما جهلٌ بالتخريج وإما تجاهل. وقوله: (إنَّ التخريج استنباطٌ مما يدل عليه كلام الإمام) كلامٌ صحيح، لكنه استنباط مما يدل عليه كلامه، مع أَنَّ له كلامًا آخر يخالف ذلك الكلام، فهو تخريج من ذلك الكلام المخالف لهذا الكلام. وأحمد ــ رحمه الله تعالى ــ قد اختلف كلامه في الحلف بالطلاق والعتاق؛ هل هما من الأيمان أم لا؟ فتارةً يجعلهما من الأيمان فيجوِّز فيهما الاستثناء، وتارةً لا يجوِّز فيهما الاستثناء، وتارة يقول: إنه ينعقد بها الإيلاء، وتارة يقول: لا ينعقد بهما الإيلاء، ولما ذكر أن الحالف بعتقِ عبد غيره يكفر كفارة يمين = دَلَّت هذه الرواية على أنه جعل الحلف بالعتق من الأيمان؛ وهو المطلوب، ولهذا صار مثل هذا يجعل قولًا مخرجًا مخالفًا للقول المنصوص.

(1/503)


وقد اختلف أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء؛ هل يُحكى المذهب عن العالم بالقياس والتعليل؟ فمن أصحاب أحمد مَنْ يُثبت له أقوالًا بالقياس على قوله؛ كالأثرم والحربي وابن حامد والقاضي وأكثرهم، ومنهم مَنْ لا يُثبت ذلك؛ كما ذكره ابن حامد عن الخلال وصاحبه، وذكر القاضي أَنَّ هذا مبنيٌ على مسألة تخصيص العلة (1). * * * * _________ (1) انظر ما تقدم (ص 275 وما بعدها).

(1/504)


فصلٌ قال المعترض: (قال المجيب: الوجه الرابع: أَنَّ أحمد قد أطلق في مواضع كثيرة أنَّ كل ما قُصِدَ به اليمين ففيه الكفارة. قال الكرماني: سمعت أحمد قال في رجل قال: عليَّ المشيُ إلى بيت الله وهو مُحْرِمٌ بحجةٍ وأهدى فلانًا ونحو هذا. قال: أَنَا أذهبُ إلى أنه كل ما أراد به عقد اليمين يريد بها يمينًا = فهي يمينٌ تُكَفَّر (1). وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمدَ عن النذور والأَيمان، فقال: كل من عقد شيئًا من اليمين فهو على ما أراد من ذلك، حتى يكون معناه معنى النذور، فإذا كان معناه معنى النذور وجهة القربة = فعلى ما قال أبو لبابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ مِنْ توبتي أَنْ أَنخلع من مالي صدقة لله وأهجر دار قومي، فقال النبي [136/ أ] - صلى الله عليه وسلم -: «يجزئك من ذلك الثلث» (2)؛ فَمَنْ عَقَدَ يمينًا يريد اليمين فهو _________ (1) المطبوع من مسائل حرب لا يتضمن باب الأيمان. وانظر في معنى ما نقله حرب عن الإمام أحمد: الجامع لعلوم الإمام أحمد (12/ 527 - 528). (2) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 617)، وعبد الرزاق في مصنفه (5/ 405) (9/ 74)، وسعيد بن منصور في التفسير (5/ 206/ ح 988)، والإمام أحمد في مسنده (25/ 27)، وأبو داود في سننه (3319 - 3320) وغيرهم. وصححه ابن حبان (8/ 165). وانظر: تخريج أحاديث الكشاف (2/ 22 - 25).

(2/505)


على ما عقد وإن كان من جهة النذر، كأخت (1) عقبة بن عامر قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْهَا فلتكفر (2)، وتصوم ثلاثة أيام» (3) فأمرها بالتكفير لتعذيبها نفسها، وبإنفاذ ما أوجبت على نفسها (4). فقد بَيَّنَ أحمد: أَنَّ الاعتبار في لفظ الأيمان والنذور بقصد الرجل ومراده؛ فكل مَنْ عَقَدَ شيئًا من اليمين فهو على ما أراد من اليمين، وإن كان صيغته صيغة الشرط والجزاء؛ كقوله: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ كذا؛ حتى يكون مراده معنى النذر والتقرب إلى الله ــ تعالى ــ لا الحلف بذلك، كحديث أبي لبابة، فهذا يلزمه الوفاء، لكن إذا نذر الصدقة بماله كُلِّهِ أجزأه الثلث، وأما إن كان مراده اليمين فهو على ما عقد (5) يكون يمينًا، وإذا كان نذرًا فإنه يُكَفِّرُ مع العجز، كحديث أخت عقبة بن عامر. وهذا الكلام يقتضي [أنَّ] (6) الاعتبار في باب الأيمان والنذور بمراد الإنسان ومقصوده (7)، فإذا كانت صيغته صيغة الشرط والجزاء، فتارة يقصد النذر وتارة يقصد الحلف؛ فالأول كقوله: إِنْ شَفَى الله مريضي تصدقت بكذا، _________ (1) في «التحقيق»: (كقول أخت). (2) في الأصل: (فتكفر). (3) تقدم تخريجه في (ص 353 - 356). (4) لم تطبع مسائل إسماعيل بن سعيد، وهي في عداد المفقود. وقريب منه ما في مسائل إسحاق بن منصور (5/ 2426). (5) في الأصل: (اعتقد). (6) إضافة يقتضيها السياق. (7) مجموع الفتاوى (29/ 121)، الفتاوى الكبرى (5/ 500) (3/ 271) (6/ 167)، القواعد الكلية (ص 356)، المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 139).

(2/506)


والثاني كقوله: لا أكلم فلانًا وإِنْ كلمتُهُ فعليَّ كذا، وكذلك إِنْ كانت صيغتُهُ صيغةَ القسم ومقصوده اليمين أجزأته الكفارة، وإِنْ كان مقصوده النذر لزمه الوفاء لقوله [تعالى]: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية [التوبة: 75]. وعلى هذا؛ فإذا حَلَفَ على أفعال بِرٍّ ليفعلنَّها فقد نذرها، فإنَّ القَسَمَ زادها توكيدًا؛ فإذا قال: إِنْ سَلَّمَ الله مالي تصدقت، أو قال: والله لإنْ سَلَّمَ الله مالي لأتصدقنَّ = كان هذا نذرًا مؤكدًا، كالذين ذكرهم الله في كتابه. وإذا قال: إِنْ شَفَى الله مريضي، أو سَلَّمَ غائبي فعليَّ صدقة = كان هذا نذرًا. وإِنْ قال: إِنْ كلمتُ فلانًا أو زَوَّجْتُ فلانًا ونحو ذلك فعليَّ صدقة = فهذا حالفٌ لا ناذرٌ. قال (1): قلتُ: قد طَوَّلَ في هذا الوجه؛ وملخَّصُهُ وملخَّصُ النصوص المنقولة فيه عن أحمد تُبيِّن ما يكون يمينًا وما يكون نذرًا، ويتحصَّلُ له من ذلك: أَنَّ تعليق الطلاق والعتق على وجه [136/ ب] الحث أو المنع داخلٌ في قسم اليمين ولا نزاع في ذلك؛ فقد تقدم استثناء أحمد لهما من الأيمان التي يجب فيها الكفارة، والاشتغال بعد ذلك بتقرير ما يدل من كلامه على أنهما من الأيمان لا يُجدي؛ غايته: أنْ يضم إليه أَنَّ كُلَّ يمين مكفَّرة، وهو الوجه الذي نازعناه في إرادة العموم منه، وأَنَّ النصوص الخاصة عن أحمد مُقَدَّمَةٌ عليه. ثم إِنَّهُ في هذا الفصل لم يمثِّل اليمين بعد التلخيص من كلام أحمد إلا _________ (1) أي: المعترض.

(2/507)


بقوله: لا أُكَلِّم فلانًا وإِنْ كلمته فعليَّ كذا؛ ولا نزاع في هذين المثالين أنه يتخلص (1) بالكفارة إلا عند القائلين بوجوب الوفاء بما نذر، وهو قول ضعيف. وسكت عن الصيغة التي هي محل النزاع؛ وهي قوله: إِنْ فعلتُ كذا فعبدي حر، وأحمد ــ رحمه الله تعالى ــ لم يُرِد هذه الصورة؛ فإنَّ النصوص التي نقلها عنه في هذا الفصل مشعرةٌ بأنه إنما أراد تقسيم ما يلتزمه الشخص إلى ما هو يمين وإلى ما هو نَذْرٌ، وتعليق الطلاق والعتاق ليس بالتزام على ما سنبينه، فلم يدخل في مورد التقسيم) (2). والجواب من وجوه: أحدها: قوله: (وَيَتَحَصَّلُ له من ذلك أن تعليق الطلاق والعتاق على وجه الحث والمنع داخلٌ في قسم اليمين ولا نزاع في ذلك). فيقال له: ليس كُلُّ من علَّق الطلاق والعتاق على وجه الحث والمنع يكون حالفًا، بل ولا يسمى حالفًا إلا إذا كان كارهًا للزوم الجزاء عند الشرط، وكذلك في تعليق النذر المعين لا يكون التعليق يمينًا إلا إذا كان كارهًا للزوم ما عَلَّقَهُ. وأحمد لم يقل كل من قصد الحث والمنع كان حالفًا، فلا وجه لحكاية ذلك عنه، وإنما قال: أنا أذهب إلى أنه كل ما أراد به عقد اليمين فهي يمين مكفرة، وقال: كل من عقد شيئًا من اليمين فهو على ما أراد حتى يكون معناه _________ (1) في الأصل و «التحقيق»: (يتلخص)؛ ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) «التحقيق» (42/ أ - ب).

(2/508)


معنى النذر، فإذا كان معناه معنى النذر وجهة القربة فعلى حديث أبي لبابة، فَمَنْ عَقَدَ يمينًا يريد اليمين فهو على ما عقد، وإن كان من جهة النذر؛ كقول أخت عقبة بن [137/ أ] عامر أمرها بالتكفير لتعذيبها نفسها وبإنفاذ ما أوجبت على نفسها؛ فأحمد اعتبر قصده اليمين. والقاصد لليمين لا يكون قاصدًا لليمين حتى يكون كارهًا للزوم ما عَلَّقَهُ وإِنْ وُجِدَ الشرط، فالحالف يريد الحض والمنع، ولا يريد لزوم ما عَلَّقَهُ، بل عَلَّقَهُ ليكون حاضًّا ومانعًا، وأما الناذرُ فيريد ما علَّقه، كذلك تعليق الطلاق والعتاق إذا كان حالفًا لم يكن مريدًا لهما، وإن كان موقعًا كان مريدًا لهما. الثاني: قوله: (ولا نزاع في ذلك). فيقال له: بل أنت تُنازع في كون هذه التعاليق أيمانًا في الشرع واللغة، وتَزعم أن تسمية ذلك أيمانًا اصطلاح، فقولك: لا نزاع في ذلك من العجائب! وإِنْ أراد أنه لا نزاع في ذلك في مذهب أحمد، فليس الأمر كذلك؛ بل نقول: الوجه الثالث: أَنَّ أحمد قد اختلف كلامه كما اختلف كلام غيره من الأئمة؛ فتارة يجعل تعليق الطلاق والعتاق الذي يقصد به اليمين يمينًا، وتارة لا يجعله يمينًا. وأما تعليق النذر الذي يقصد به اليمين: فعامة نصوصه على أنه يمين، فإنه جعله يمينًا في الكفارة بلا نزاعٍ عنه، وكذلك في الاستثناء هو يمين بلا ريب.

(2/509)


وأما في الإيلاء فلأصحابه طريقان: فأبو بكر (1) عبد العزيز يجعل ذلك إيلاءً عنده؛ فإنَّ الإيلاءَ في المشهور عنه [ملحقٌ] (2) باليمين المكفرة، وهذا يمين مكفَّرةٌ عنده بلا نزاع فيكون إيلاء، وأما الخرقي والقاضي وغيرهما فلا يجعلون الإيلاء إلا ما كان باسم الله ــ تعالى ــ خاصة (3). وقد نقل عن أحمد ــ رحمة الله عليه ــ ما يدل على كل واحدةٍ من الطريقتين، بل عنه روايتان صريحتان في الإيلاء بالظهار والحرام وهل تكفر (4)، لكن يكفر على المنصوص عنه بالكفارة الكبرى لا بكفارة اليمين، ولم أجد عنه نصًّا صريحًا في الحلف بالنذر أنه ليس بإيلاء، لكن نُقِلَ عنه أَنَّ الإيلاءَ إنما يكون في الحلف بالله ــ تعالى ــ، ونقل عنه: إنما يكون في الأيمان، والطلاق والعتاق ليسا من الأيمان لأنهما لا يكفران، ولهذا ذُكِرَ عنه [137/ ب] في الإيلاء ثلاث روايات: رواية: أنه يكون بكل يمين، وثانية: بكل يمين مكفرة، وثالثة: بالحلف باسم الله، وفي كلامه ما يقتضي رواية رابعة: أنه بما يكون فيه كفارة يمين. وقد جَعَلَ في الحلف بالطلاق الاستثناء تارة لأنه من الأيمان، وتارة قال: ليس من الأيمان فلا استثناء فيه؛ فكيف يقال: إنه لا نزاع في مذهبه أنهما من الأيمان؟! _________ (1) في الأصل: (فأبكر)؛ والصواب ما أثبتُّ. (2) لعل هنا سقطًا تقديره ما أثبتُّ أو نحوه. (3) انظر: المغني (11/ 5). (4) في الأصل: (وهو يكفر)، ولعل الصواب ما أثبتَّ.

(2/510)


وإذا كان النزاع عنه بذلك معروفًا فَذَكَرْنَا من كلامه ما يؤيد إحدى الروايتين، وهي أَنَّ أصوله ونصوصه المذكورة تؤيد القول بأنهما من الأيمان، لأنَّ المرجع في الفرق بين اليمين والنذر عنده إلى مقصود المعلِّق، وأن كل ما قصد به اليمين فهو عنده يمين؛ وهذا المعنى عام وهو القول الذي نصرناه، وإذا كان جميع ذلك أيمانًا، فكل يمين فهي مكفرة، وهذا هو الذي نصره المجيب وبَيَّنَ أَنَّ الذي دل عليه الكتاب والسنة أن جميع أيمان المسلمين مكفرة، وأَنَّ تقسيم أيمان المسلمين إلى مكفرة وغير مكفرة = تقسيمٌ مخالف للكتاب والسنة والاعتبار، وهي مكفرة بكفارة الأيمان. الوجه الرابع: قوله: (تقدم استثناء أحمد لهما من الأيمان التي تجب فيها الكفارة) إنما يدل على أن المنصوص عنه أنه لا كفارة فيهما، وهذا مما قد بينه المجيب، ولكن لا يمنع أَنْ يُخرَّج له قول آخر من نصوصه وأصوله بالكفارة، كسائر المسائل التي يجيب العالم فيها بجواب ويكون له نص في مسألة أخرى يقتضي قولًا آخر (1). فلو كان المجيب ادعى أَنَّ أحمد نَصَّ على الكفارة لكان كلام المعترض مُوَجَّهًا، وأما مع ذكره أن منصوصه هو عدم الكفارة، ولكن القول الآخر مخرج (2) من أصوله ونصوصٍ له أخرى خروجًا لازمًا؛ فهذا إنما يكون جوابه بأنْ يبين أَنَّ ذلك لا يلزم من تلك النصوص؛ فإذا قال أحمد ــ رحمة الله عليه ــ: الطلاق والعتاق لا استثناء فيهما إنما الاستثناء فيما يكفر، وما لا استثناء فيه لا كفارة فيه، وقال مع ذلك في إحدى الروايتين: إنَّ _________ (1) انظر ما تقدم (ص 274 وما بعدها). (2) تحتمل: (يُخرَّج).

(2/511)


الحلف بالطلاق فيه استثناء = عُلِمَ قطعًا أنه يلزم من ذلك أن يكون [138/ أ] الحلف بالطلاق إذا قيل فيه بالاستثناء أَنْ يكون فيه الكفارة؛ فالمانع من التخريج أَنْ يُبَيِّنَ صحة قوله: (لا استثناء إلا فيما فيه الكفارة) مع صحة قوله: (إن الحلف بالطلاق فيه استثناء)، وأَنَّ هذين (1) القولين يصحان، ولا يلزم من صحتهما تكفير الحلف فيه = كان كلامه مستقيمًا، وإلا كان كلامه مردودًا. ومعلوم بالاضطرار أنه يلزم من صحة قوله: (لا استثناء إلا فيما فيه الكفارة) مع صحة قوله: (إن الحلف بالطلاق فيه الاستثناء) = أَنْ يكونَ الحلف بالطلاق يكفر، لأنه (2) إذا لم يكن الاستثناء إلا فيما يكفر = لزم من نفي الاستثناء نفي الكفارة، فما لا ستثناء فيه لا كفارة فيه، ولزم من نفي الكفارة نفي الاستثناء، ولزم من ثبوت الاستثناء ثبوت الكفارة، فما فيه الاستثناء ففيه الكفارة، لأنه لو لم يكن كذلك لكان فيه استثناء ولم يكن فيه كفارة، فيكون الاستثناء جائزًا فيما لا كفارة فيه، وهذا يناقض قولنا: لا يكون الاستثناء إلا فيما فيه كفارة فإنه جعل نفي الاستثناء حيث ينفي الكفارة، فلو انتفت الكفارة هنا لانتفى الاستثناء، لكن الاستثناء ثابت فالكفارة ثابتة، وذلك لأنه جعل الاستثناء ملازمًا للكفارة فنفاه حيث انتفت الكفارة، واللازم ينتفي إذا انتفى الملزوم، فإذا ثبتت (3) الكفارة ثبت الاستثناء، وهذا ــ أيضًا ــ _________ (1) في الأصل: (هذان). (2) في الأصل: (إلا)، والصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (ثبت).

(2/512)


نصه في غير موضع أَنَّ كل ما فيه كفارة ففيه استثناء؛ ولهذا جعل في الظهار الاستثناء لأن فيه كفارة، وما لا كفارة فيه لا استثناء فيه، فإذا كان الحلف بالطلاق غير مكفر؛ لزم ألا يكون فيه استثناء، فإذا كان فيه استثناء؛ لزم أن يكون فيه الكفارة. وسبب هذه الدلالة: صيغة الحصر؛ فإن قوله: إنما الاستثناء فيما فيه كفارة، ولا يكون الاستثناء إلا فيما فيه كفارة ونحو ذلك = تضمَّن نفيًا وإثباتًا؛ تضمن أنه حيث انتفت الكفارة انتفى الاستثناء، وحيث وجد الاستثناء وجدت الكفارة، هذا مدلول الحصر واللزوم، حيث جعل الأول وهو الاستثناء محصورًا [138/ ب] في الثاني وهو التكفير (1) لا توجد الكفارة بدونه، بل متى وجد الأول وجد الثاني، فيكون ملزومًا له، فمتى وجد اللزوم ــ وهو الاستثناء ــ وجد اللازم ــ وهو التكفير ــ، وإذا انتفى اللازم ــ وهو التكفير ــ انتفى الملزوم ــ وهو الاستثناء ــ. ثم إن كان اللزوم من الجهة الأخرى كان متى جازت الكفارة جاز الاستثناء، وإذا امتنع الاستثناء امتنع التكفير وإلا لم يجب ذلك؛ وأحمد يقول بهذا واحتج به في الظهار، وجعل تكفيره موجبًا لصحة الاستثناء فيه، وقد خالفه طائفة من أصحابه في ذلك؛ كما قد بسط في موضعه (2). الوجه الخامس: قوله: (والاشتغال بعد ذلك بتقرير ما يدل من كلامه على أنها يمين لا يجدي). _________ (1) في الأصل: (الكفر)، والصواب ما أثبتُّ. (2) انظر: مجموع الفتاوى (35/ 315 وما بعدها)، وما سيأتي في (ص 866 وما بعدها).

(2/513)


فيقال له: بل ذلك يجدي؛ لِمَا تقدَّمَ من أَنَّ كلامه وكلام غيره في إثبات الاستثناء فيهما والإيلاء بهما ونحو ذلك = كان لاختلاف اجتهاده؛ هل هو من الأيمان أم لا؟ وكذلك الاختلاف في تكفيرها هو مبني على ذلك. الوجه السادس: (قوله: غايته (1) أن يضم إلى ذلك أَنَّ كل يمين (2) مكفرة). فيقال: بل بَيَّنَّا من نصوصه وأصوله على أنها يمين مكفرة ــ كما تقدم التنبيه عليه ــ، لم نكتفِ بما يدل على أنها يمين؛ بل بيَّنَّا أنَّ في نصوصه وأصوله ما يوجب أنهما يمين مكفرة، وقد تقدم ذكر بعض ألفاظه في ذلك. قوله: (وهو الوجه الذي نازعناه في إرادة العموم منه، وأن النصوص الخاصة عن أحمد مقدمة عليه). فيقال له: هو لم يَدَّعِ أَنَّ أحمد أراد بلفظه أن الطلاق يكفر، بل هو صرح بأنه لا يكفر، وإنما ذكر أَنَّ مقتضى نَصٍّ آخر وتعليلٍ آخر واستدلالٍ آخر؛ وذلك النصُّ والاستدلالُ والتعليلُ لا يمكن تخصيصه ونقضه، بل ذلك يفسده فلا بُدَّ فيه من أحد وجهين: إما أَنْ يقال بموجبه فيلزم تكفير الحلف بالطلاق، وإما أَنْ يكون باطلًا؛ فأمَّا مع القول بصحته فيلزمه القول بتكفير الحلف بالطلاق، وهذا هو التخريج والاستنباط من النصوص والأصول. فإنْ قلتَ: فلازم المذهب هل هو مذهب [139/ أ] أم لا؟ (3). _________ (1) كذا قرأتها، وانظر ما في أول الفصل. (2) في الأصل: (إن كان يمين)، والتصويب مما ورد في أول الفصل و «التحقيق». (3) انظر: مجموع الفتاوى (16/ 461) (20/ 217 مهم) (29/ 42)، الفتاوى الكبرى (4/ 27)، القواعد الكلية (ص 254 وما بعدها)، درء التعارض والنقل (8/ 108)، وتحرير المقال في ما تصح نسبته للمجتهد من الأقوال (ص 105). وانظر ما سيأتي (ص 818).

(2/514)


قيل: لازم المذهب إذا عَرَفَ به صاحب المذهب ولم يلتزمه كان تناقضًا، ولمَّا كان الإنسان يجوز عليه التناقض، وكان لو عَرَفَ لازم قوله لرجع عن ذلك القول الملزوم؛ لهذا قيل: لازم المذهب ليس بمذهب. والكلام إنما هو في لازمِ قولٍ صحيح، ولازم الحقِّ حَقٌّ، أو في لازمِ قولٍ يسوغ فيه الاجتهاد، واللازم لذلك، وفي لازمٍ دَلَّ عليه لفظه وتعليله، وفي اللوازم التي لا تقدح في أصحابها بل تجملهم (1). ومن قال: لازم المذهب ليس بمذهب؛ أرادَ بِهِ دفع الشناعات والتكفيرات عن أصحاب المذاهب الأصولية التي يلزم أحدهم لوازم فيها من مخالفة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول ما يوجب ضلال من التزمها، فيريد خصومهم أن يشنعوا عليهم بتلك اللوازم فيقال لهم: لازم المذهب ليس بمذهب. فكل مَنْ قال قولًا له لوازم لم تخطر على قلبه = فيجب أن يلتزمها إذا خطرت بقلبه وعَلِمَ ما فيها من الفساد، لكن إذا لم يلتزمها مع لزومها دَلَّتْ على فساد الملزوم، وأما مع القول بصحة الملزوم فلا بُدَّ مِنَ القول بصحة اللازم، فإنَّ صحة الملزوم توجب صحة اللازم قطعًا؛ إذ يمتنع تحقيقه بدون تحقيق اللازم. _________ (1) كذا قرأتها.

(2/515)


فصلٌ قوله: (ثم إنه في هذا الوجه لم يُمثِّل إلا بالمسألتين المذكورتين، وهما من نذر اللجاج والغضب، لم يمثِّل بمحل النزاع، وهو قوله: إِنْ فعلتِ فعبدي حر) (1). فيقال: لأنَّ هذا هو مراد أحمد قطعًا، كما ذكره هو، وأحمد ــ رحمة الله عليه ــ لم يرد العتق، بل عنده أَنَّ العتق يقع، لكن المقصود أَنَّ الأصل الذي بَنى عليه مذهبه: النظر إلى مقصود المتكلم ومراده، فإذا قَصَدَ معنى اليمين جعله حالفًا لأجل قصد اليمين ولم يجعله ناذرًا، مع أن الصيغة صيغة نذر، وهذا المعنى موجود في كل مَنْ قَصَدَ معنى اليمين سواء كان قصدُهُ تعليقَ الطلاق والعتاق أو الظهار أو الحرام، أو قصده تعليق (2) وجوب الحج والصوم والهدي وغير ذلك. وقوله: (إن أحمد لم يرد هذه الصورة؛ [139/ ب] فإنَّ النصوص التي نقلها عنه في هذا الفصل مشعرةٌ بأنه إنما أراد تقسيم ما يلتزمه الشخص إلى ما هو يمين وإلى ما هو نذر، وتعليق الطلاق والعتاق ليس بالتزام على ما سنبينه، فلم يدخل في مورد التقسيم) (3). يقال له: لم يذكر أن أحمد قصد دخوله في مورد التقسيم، بل المُدَّعَى أَنَّ الفرق المعنوي الذي فَرَّقَ به بين تعليق النذر وتعليق اليمين= موجودٌ في _________ (1) «التحقيق» (42/ أ - ب) وما هنا منقول بتصرف، وقد تقدم في أول الفصل السابق نقل المجيب كلام المعترض كاملًا. (2) في الأصل: (بتعليق)، والصواب ما أثبت. (3) «التحقيق» (42/ ب).

(2/516)


تعليق الطلاق والعتاق، فيجب طرد هذا الأصل والتعليل، وأَنْ يُرْجَعَ (1) في كل تعليق إلى قصد المعلق؛ فإنْ كان قصده اليمين وهو كاره للزوم الجزاء عند الشرط فتعليقه يمين، وإلا فهو نذرٌ أو طلاق أو عتاق أو ظهار أو تحريم بحسب ما عَلَّقَه من ذلك. ونحن نعلم أَنَّ أحمد وغيره فَرَّقُوا بين تعليق الطلاق والعتاق وقصد تعليق النذر، لكن المعنى الذي لأجله فرقوا وجعلوا ذلك التعليق يمينًا = موجودٌ في تعليق الطلاق والعتاق الذي قصد به اليمين؛ فكان موجب أصلهم ومقتضاه أَنْ يكون كل هذا يمينًا وألا يفرقوا بين تعليق الطلاق والعتاق وغيرهما. والتسوية بينهما هو المنقول عن الصحابة - رضي الله عنهم - في جميع الروايات؛ فالثابت عن غير واحد منهم أنهم جعلوا هذا التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا، وروي عن بعض هؤلاء أنهم جعلوه تعليقًا لازمًا، ولم يُفَرِّق أحدٌ من الصحابة بين تعليق الطلاق والعتاق وغيرهما، ولا بين الطلاق وغيره. بل هذه الفروق مسبوقة بالاتفاق على خلافها، فإنه إِنْ كان القول الذي لم يعلم بين السلف فيه نزاع إجماعًا = فقد انعقد إجماعهم على أنه لا فرق بين الطلاق والعتاق، بل وانعقد إجماع الصحابة على أنه لا فَرْقَ في التعليق الذي يقصد به اليمين بين تعليق وتعليق، بل صَرَّحُوا بأنه لا فرق بين الحلف بالعتق وغيره نفيًا وإثباتًا، واتفق السلف كلهم على أنه لا فرق بين الحلف بالطلاق والعتاق؛ هذا إِنْ كانَ عدم العلم بالنزاع إجماعًا، وإِنْ لم يكن إجماعًا فلا إجماع لا على وقوع طلاق ولا عتق ولا غيرهما. _________ (1) في الأصل: (وإنْ رجع)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/517)


فَعُلِمَ [140/ أ] من عدم العلم بالنزاع بين السلف إِنْ جُعِلَ إجماعًا يُحتجُّ به، فإنه يلزم من ذلك التسوية بين الطلاق والعتق وغيرهما، وهذا مع ثبوت القول بالتكفير عن أعيان الصحابة، فيلزم تكفير الجميع كما دل عليه الكتاب والسنة، وإِنْ لم يُجعل إجماعًا يحتج به= بطل دعوى الإجماع على لزوم ذلك، فثبت بطلان حجتهم على التقديرين. فصلٌ قال: (وقوله: (وإذا حلف على أفعال بِرٍّ ليفعلها فقد نَذَرَهَا؛ فإنَّ القَسَمَ زادها توكيدًا)؛ ظاهره: أَنَّ مجرد الحلف على أفعال البر تُصَيِّرُهَا منذورة وهو ممنوع، فإنَّ حقيقة اليمين غير حقيقة النذر، وكون القسم زادها توكيدًا لا يلزم منه أَنْ يكون جعلها منذورة، ولو كان كذلك= لوجب الوفاء بكلِّ ما يحلف عليه مِنْ أفعال البر، ولا يجوز التخلص منه بالكفارة، ولكان الحلف على ذلك مكروهًا، لأنه حينئذٍ يدخل في النذر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر (1)، وقد حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أفعال البر مثل قوله: «والله لأغزونَّ قريشًا» (2). _________ (1) تقدم في (ص 375)، وهو متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (2) أخرجه أبو داود (3285 - 3286) عن عكرمة مرسلًا. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (10/ 185)، والضياء في المختارة (12/ 74 - 75) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقال أبو حاتم الرازي: الأشبه إرساله. وانظر: علل الحديث (4/ 145)، نصب الراية (3/ 302 - 303)، البدر المنير (9/ 445).

(2/518)


وإنْ كان مراده ما إذا اقترن بذلك نية النذر؛ كما أَشْعَرَ بِهِ (1) قوله قبل ذلك وتقسيمه صيغة القسم إلى ما يقصد به اليمين وإلى ما يقصد به النذر، فَيُسَلِّمُهُ مَنْ يقول بصحة النذر بالنية، ومن لا يقول بذلك فللبحث فيه مجال، وفي كلامه [في] (2) هذا الفصل ما يقتضي أنه لا يعتبر في قول (3) النذر صيغة الالتزام، وسنتعرض له فيما بعد؛ والله أعلم) (4). والجواب: أنَّ الحالف ليفعلنَّ بِرًّا؛ نوعان: أحدهما: أَنْ يقصد مع ذلك التزامه لله (5)؛ فهذا ناذرٌ حالف كالذين ذكرهم الله ــ تعالى ــ في قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 75 - 76]. ولو قال الرجل: إِنْ شَفَى الله مريضي فوالله لأصومنَّ لله شهرًا، أو فوالله لأتصدقنَّ لله بألفِ درهم = لم يكن هذا دون قوله: فلأصومنَّ لله شهرًا، ولأتصدقنَّ بألف درهم، أو قوله: إِنْ شَفَى الله مريضي صمت لله شهرًا أو تصدقت له بألف، أو قوله [140/ ب]: إِنْ شفى الله مريضي صمت شهرًا _________ (1) كذا في الأصل وهو الصواب، وتحرَّف في «التحقيق» إلى: (استغربه). (2) زيادة من «التحقيق». (3) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (قبول). (4) «التحقيق» (42/ ب). (5) والنوع الثاني: أَنْ يَقصد مجرد حضَّ نفسه على الفعل من غير قصد التزامه لله. وسيذكره المجيب في ضمن كلامه الآتي.

(2/519)


وتصدقت بألف، أو إِنْ شَفَى الله مريضي فثلث مالي صدقة وبعيري هدي وهذه الشاة أضحية ونحو ذلك؛ وإذا كان إذا تكلم بهذه الصيغ بدون الحلف بالله كان ناذرًا = فمع اليمين أوكد، كما أنه إذا قال: إِنْ شفاني الله فعليَّ صوم شهر = كان ناذرًا وإن لم يقل: (لله عليَّ) عند جمهور العلماء؛ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - في الرجل يقول: عليَّ المشي إلى الكعبة. قال: هذا نذر [فليمش] (1). ولو قال: عليَّ نذرٌ؛ لزمه بلا نزاع نعرفه. وصيغة النذر المذكور في القرآن هي قوله: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75]. والنذر لا يشترط له لفظ معين؛ بل كل لفظ اقتضى أنه التزم لله شيئًا فهو نذر (2). واختلفوا: هل يثبت ذلك بدون القول؟ مثل: أَنْ يشتري أضحية وينوي أنها لله، وفيه قولان معروفان. وأما قول المعترض: (هذا يُسَلِّمُهُ مَنْ يقول بصحة النذر بالنية، ومَنْ لا يقول بذلك فللبحث فيه مجال) فليس الأمر كذلك، فإنَّ النذر هنا لم يحصل _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة (12473) (12558)، والفاكهي في أخبار مكة (1/ 349)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 15). وما بين المعقوفتين زيادة من المصنف وأخبار مكة. (2) انظر ما تقدم (ص 506).

(2/520)


بمجرد النية، بل بلفظ (1) تضمن التزامه ذلك، ونوى أنه لله، وحَلَفَ عليه باسم الله. فإنَّ قولَه: إِنْ شَفَى الله مريضي فوالله لأفعلنَّ كذا = تضمن التزام هذا الفعل؛ فإذا قَصَدَ أَنْ يلتزمه لله فهذا هو النذر كما دَلَّ عليه القرآن. وأَمَّا إِنْ قَصَدَ مجرد حَضَّ نفسه على الفعل من غير أَنْ يقصد التزامه لله بل قصد حض نفسه ومنعها فقط؛ كرجل قصد الحج فطلب منه أهله ألا يحج فحلف لَيَحُجَّنَّ؛ فهذا لم يقصد باليمين أن يلتزم لله، بل قصد توكيد عزمه عليه لما نهاه الناهون. وكلام المجيب تضمن القسم الأول، فإنه قال: (وكذلك إِنْ كانت صيغته صيغة القسم ومقصوده اليمين أجزأته الكفارة، وإِنْ كان مقصوده النذر لزمه الوفاء، لقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75]). وعلى هذا؛ فإذا حلف على أفعال بر ليفعلنها فقد نذرها، يدخل فيه ما إذا حلف [141/ أ] ليفعلنها لله متقربًا بها إليه فيكون قد نذرها لله ووكَّد نذره بالقسم، كما إذا قال: إِنْ سَلَّمَ الله مالي تصدقت، أو والله إِنْ سَلَّمَ الله مالي لأتصدقنَّ. ولو قال: إِنْ سَلَّمَ الله مالي فعليَّ صدقة، وإِنْ كلمت فلانًا أو زَوَّجْتُ فلانًا ونحو ذلك فعليَّ صدقة؛ فهذا حالف لا ناذر. وإِنْ قال: والله لأتصدقنَّ؛ يقصد حَضَّ نفسه على الفعل فقط لا يقصد أن يلتزم ذلك لله؛ فهذا ــ أيضًا ــ حالفٌ. _________ (1) في الأصل: (لفظ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/521)


فصلٌ قال المعترض: (قال ــ يعني: المجيب ــ: الوجه الخامس: أَنَّ أحمد ــ رحمة الله عليه ــ في إحدى الروايتين عنه يقول فيمن قال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو عبدي حر ثم فعله ناسيًا: لا يقع به طلاق ولا عتاق (1)، كقول المكيين والشافعي في أظهر قوليه، وهذا يقتضي أَنَّ هذا يمين لا تعليق محض، لأنه لو كان تعليقًا محضًا لوجد بوجود الصفة سواء كان ناسيًا أو لم يكن، فلمَّا لم يحنثه في إحدى الروايتين دَلَّ على أنه جعله حالفًا بذلك لا معلقًا له، وإذا كان حالفًا فالحنث لا يوجب وقوع المعلق به وإنما يوجب التكفير كسائر صور الأيمان. وقوله في الرواية التي فَرَّقَ فيها بين الطلاق والعتاق واليمين المكفَّرة؛ مأخذه: أَنَّ العتق والطلاق فيه حَقٌّ لآدمي فلا ترتفع بالكفارة بخلاف الأيمان بغير ذلك؛ وهذا الفرق ضعيف، فإنه لو قال: فعليَّ أَنْ أُعْتِق أو أُطَلِّق أو فمالي صدقة ونحو ذلك أجزأته الكفارة، ولم يحنث مع النسيان، مع أَنَّ هذا مبسوطٌ في موضعه. والمقصود هنا: أَنَّ هذا القول يُخَرَّجُ (2) على أصول أحمد من وجوه متعددة. _________ (1) انظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (12/ 548). (2) في الأصل: (يجزئه)، والتصويب من «التحقيق»، وسيأتي على الصواب.

(2/522)


قلت (1): استنبط من كلام إمامه في إحدى الروايتين عنه أَنَّ هذا يمين لا تعليق محض؛ وذلك ليس محل النزاع. ثم قال: فلما لم يحنثه في إحدى الروايتين دَلَّ على أنه جعله حالفًا بذلك لا معلقًا له. قلنا: لا مُعَلِّقًا له محضًا أو لا معلقًا له مطلقًا؟ الأول: مُسَلَّم ولا يفيدك، والثاني: ممنوع. قوله: وإذا كان حالفًا فالحنث لا يوجب [141/ ب] وقوع المعلق به. قلنا: متى؟ في الحلف المحض أو في الحلف الذي في ضمن التعليق؟ الأول: مُسَلَّم وليس محل النزاع، والثاني: ممنوع. قوله: وإنما يوجب التكفير كسائر صور الأيمان. قلنا: ما الجامع؟ فإنَّ الأيمان بالله ــ تعالى ــ وصفاته مَدركُ وجوب الكفارة فيها انتهاك الاسم المعظم وأنه غير موجود ههنا، وفي نذر اللجاج والغضب التزم شيئًا أوجبه على نفسه فأشبه اليمين بالله ــ تعالى ــ، وههنا ليس كذلك كما أشرنا إليه فيما تقدم، وسنزيده بيانًا ــ إن شاء الله ــ) (2). والجواب: قوله: (استنبط من كلام الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه أَنَّ هذا يمين لا تعليق محض، وذلك ليس محل النزاع). فيقال: بل أصل محل النزاع أَنَّ الطلاق والعتاق المعلق الذي يقصد به _________ (1) القائل هو: السبكي. (2) «التحقيق» (42/ ب).

(2/523)


اليمين هو من الأيمان حكمه حكم الأيمان، أم هو من باب الطلاق والعتاق المعلق على شرط؟ وأحمد ــ رحمة الله عليه ــ قد اختلف كلامه في ذلك كما اختلف كلام غيره، واختلف في ذلك السلف والخلف، لكن الثابت المشهور عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ أَنَّ هذا التعليق من باب الأيمان حكمه حكم الأيمان المكفَّرة، والمجيب لم يقصد تسمية هذا أيمانًا، فإنَّ هذا قد سلمه من ينازع في حكم هذه اليمين، بل قصده أَنَّ أحمد في إحدى الروايتين جعل حكمه حكم الأيمان لا حكم التعليقات التي ليست أيمانًا؛ فإنه لما فَرَّقَ بين أن يفعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلًا وبين أن يفعل عمدًا = كان هذا [هو] (1) الفرق، لأنَّ الحض والمنع في الأيمان كالطاعة والمعصية في الأمر والنهي لا يكون عاصيًا إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا = فكذلك لا يكون حانثًا، فلو كان تعليق الأيمان كالتعليق المحض لم يصح هذا، وإنما يصح إذا كان معنى اليمين معتبرًا في التعليق. لكن لقائل أَنْ يقول: المعتبر هنا أنه قصد الحض والمنع ولم تحصل المخالفة عمدًا، وهذا أمر مشترك بين اليمين والوعيد وسائر صور الأمر والنهي، فلو قال: إن فعلتَ كذا فعلتُ بك وصنعتُ؛ لم يكن هذا يمينًا، ومع [142/ أ] هذا إذا فعله ناسيًا لم يستحق الوعيد. وإذا كان المؤثِّر هنا هو أمرًا أعم من كونه يمينًا وهو الحض والمنع ــ وهو الذي يظنه المعترض معنى اليمين ــ لم يكن في هذا ما يدل على أَنَّ أحمد اعتبر في ذلك خصوص اليمين، وهو التزامٌ يكره لزومه له، لكن هذا _________ (1) زيادة يقتضيها السياق.

(2/524)


يقتضي أَنَّ أحمد فَرَّقَ بين التعليق الذي فيه معنى الحض والمنع وما ليس كذلك، فجعل النسيان مؤثرًا في الأول دون الثاني، وليس في هذا أنه إذا فعل المحلوف عليه عمدًا لا [يلزمه به] (1)، فإنما فيه أنه عَذَرَهُ عند النسيان ولم يعذره عند العمد، ثم إذا لم يعذره فقد يجعل التعليق من جنس التعليق الذي يقصد به الحض والمنع مع قصده الوقوع عند وجود الشرط، وهذا ليس بيمين مكفرة عند أحد من العلماء، وإنْ ظَنَّ هذا المعترض ونحوه أنه مما يقول المجيب فيه بالكفارة = فهذا غلط كما تقدم غير مرة. فهذا القسم يعذر أحمد فيه بالنسيان والجهل على إحدى الروايتين، وليست يمينًا مكفرة عند المجيب = فعلم أَنَّ عذر الناسي والجاهل لكونه ممنوعًا ومحضوضًا لا لكون ذلك من باب الأيمان المكفرة، فلو ذكر المعترض مثل هذا الكلام لكان فيه منع التخريج من هذا الوجه على أصل أحمد، لكنه لا يمكنه ذكر ذلك، فإنه لا يفرق في التعليق الذي يقصد به الحض والمنع بين من يقصد وقوع الجزاء وبين [من يكره] (2) وقوع الجزاء، بل يظن الجميع من الأيمان التي نازع فيها المجيب. ومع هذا؛ فقد يقال: أحمد لما راعى قصد المعلق في الشرط فينبغي ــ أيضًا ــ أَنْ يُرَاعِيَ قصده في الجزاء؛ فإذا كان قَصْدُهُ الحض والمنع جعله كالآمر الناهي يعذر المنهي إذا خالفه ناسيًا، فكذلك في الجزاء إذا قصد إيقاع الجزاء كان موقعًا وإن كان كارهًا لإيقاع الجزاء كان حالفًا، فأصوله ونصوصه تقتضي أنه يعتبر المقاصد والنيات في جميع العقود، ويكون بهذا _________ (1) ما بين المعقوفتين غير واضحة تحتمل ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (ذكره)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/525)


المعلق إذا كان إنما قصد اليمين وهو كارهٌ لوقوع الجزاء، فهو من الحالفين حكمه حكم الحالفين ليس من الموقعين، وعلى هذا الوجه فيتم التخريج [142/ ب] على أصول أحمد - رحمه الله - ونصوصه من هذا الوجه ــ أيضًا ــ. فصلٌ قال: (قال المجيب: فلمَّا لم يحنثه في إحدى الروايتين دَلَّ على أنه جعله حالفًا بذلك لا معلقًا له). قال المعترض: قلنا: لا معلقًا له محضًا ولا معلقًا له مطلقًا؛ الأول مُسَلَّم ولا يفيدك، والثاني ممنوع). فيقال: بل المراد هو المسَلَّم، وهو أنه ليس تعليقًا محضًا بل تعليقًا فيه معنى الحض والمنع، وهذا حالف إذا كان كارهًا لوقوع الصفة عند المخالفة، وإلا فهو معلقٌ حاضٌّ مانعٌ وليس بحالف يمينًا مكفرة. قال: (قوله: وإذا كان حالفًا فالحنث لا يوجب وقوع المعلق به (1). قلنا: متى؟ في الحلف المحض أو في الحلف الذي في ضمن التعليق؛ الأول مُسَلَّم وليس محل النزاع، والثاني ممنوع). قلنا: بل في كل حالف؛ سواء كان حالفًا بصيغة التعليق أو صيغة القسم، كما أَنَّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلوا التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا مكفرة، وكذلك جمهور التابعين، ولأنَّ الصحابة والتابعون جميعهم سَمَّوا هذا التعليق يمينًا، ولم يسموا ما يقصد به الإيقاع يمينًا، فيدخل في قوله _________ (1) في الأصل: (المحلوف)، وفي «التحقيق» ما أثبتُّ، وقد تقدم على الصواب في (ص 523).

(2/526)


تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، ولأنه في معنى النذر. = سَلَّمَ الجمهور الفرق بين التعليق الذي يقصد به اليمين فجعلوا فيه الكفارة، والتعليق الذي يقصد به لزوم المنذور فلم يُجَوِّزوا تكفيره، بل جعلوا المعلَّق فيه لازمًا، وهذا المعنى موجود في تعليق الطلاق والعتاق، فَإِنْ قَصَدَ به اليمين كانت فيه الكفارة وإن قصد به وقوع المعلق لم يكن فيه كفارة، ولأنَّ المعنى الذي جُعِلَ لأجله هذا يمينًا مكفرة موجود في هذا، وهو أنه التزم عند المخالفة ما يكره لزومه له، بخلاف من يقصد الإيقاع فإنه لم يلتزم عند المخالفة ما يكره لزومه، بل ما يريد لزومه كتعليق الإيقاع وتعليق الوعيد، ولأنَّ القرآن والسنة إنما عَلَّقا (1) التكفير بمسمى حلف المؤمنين وأيمانهم، وهذا المعنى موجود في أي صورة [143/ أ] كانت. وأيضًا؛ فالمنازع لا يخص الكلام بصورة التعليق، بل لو حلف عنده بصيغة القسم، فقال: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا، أو امرأتي طالق لأفعلنَّ كذا؛ فهذا صيغة قسم تُلُقِّيَ (2) الجواب فيه بلام القسم، ومع هذا لا يجعله يمينًا مكفرة. فإنْ قال: هذا معنى كلامه معنى كلام المعلق، وإن كانت صفته صفة القسم؛ فألحقته بالمعلق. قيل له: عكست الشريعة؛ فإنَّ الواجب أَنْ تجعل المنصوص أصلًا _________ (1) في الأصل: (عَلَّقَ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: تلقا.

(2/527)


وتلحق به غير المنصوص، والنص ورد في أيمان المسلمين، فالواجب أَن تثبت الحكم في جميع أيمان المسلمين، والصيغة التي يظن أنها ليست صيغة يمين إذا كان معناها معنى اليمين ألحقتها (1) بها، وأنتَ جعلتَ صيغةَ التعليق هي الأصل وألحقت بها صيغة القسم. وصيغة التعليق لم يعلِّق الله بها ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - حكمًا من الأحكام، لا نفيًا ولا إثباتًا، بل يُرَدُّ إلى معناها؛ فإن كان معناها نذرًا فهي نذر، وإن كان جعالة فهي جعالة، وإن كان وكالة فهي وكالة، وإن كان عتقًا أو طلاقًا فهي عتق أو طلاق، وإن كان خلعًا فهي خلع (2). فقولنا: صيغة تعليق مثل قولنا صيغة خبر وأمر، وجملة شرطية وسلبية وثبوتية ونحو ذلك؛ هو: اسم لصورة اللفظ المتضمن تعليق الثاني بالأول، وهذا المعنى ليس وصفًا مؤثرًا في الأحكام الشرعية، ولا عَلَّقَ الشارع بذلك حكمًا من الأحكام، بل تختلف أحكامه بحسب تنوع أقسامه ومعانيه. ولهذا؛ لَمَّا كان تعليق النذر تارة نذرًا وتارة يمينًا جعل النذر نذرًا واليمين يمينًا؛ كذلك تعليق الطلاق إذا كان تارة يمينًا وتارة تطليقًا، فاليمين يمين والطلاق طلاق = فتبين صحة قول المجيب. وإذا كان حالفًا؛ فالحنث لا يوجب وقوع المحلوف به، وإنما يوجب التكفير كسائر صور الأيمان. _________ (1) في الأصل: (ألحقتا). (2) مجموع الفتاوى (35/ 246 وما بعدها)، الفتاوى الكبرى (4/ 112 وما بعدها)، القواعد الكلية (ص 451 وما بعدها). وانظر: (ص 97 وما بعدها، 951).

(2/528)


قول المعترض: (متى لا يوجب الحنث وقوع المحلوف به في الحلف المحض أو في الحلف الذي في ضمن التعليق؟). يقال له: ليس معك في كتاب ولا [143/ ب] سنة ولا إجماع ولا قياس أَنَّ الحانث يلزمه طلاق ولا عتاق، بل النصوص كلها تدل على أَنَّ الحالف الحانث إنما عليه التكفير، وتفريقك بين حانث وحانث بمجرد حكاية مذهب وقولك: إنَّ هذا ممنوع = لا فائدة لك فيه، فإنه قد علم أنك تمنعه، لكن الشأن في أن تجيب عن أدلة المستدل أو تقيم (1) دليلًا على هذا الفرق إما مُعَارِضًا به وإما مبتدئًا به، وكلا الأمرين منتفٍ، فلا ينفعك مجرد المنع مع قيام حجة المنازع من الكتاب والسنة والاعتبار على أن التكفير بالحنث في أيمان المسلمين. قال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فجعل التَّحِلَّة لمسمى أيمان المسلمين؛ فَعُلِمَ أَنَّ المعنى [المؤثر في تحلة (2) اليمين] (3) كونها يمينًا من أيمان المسلمين. وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} يقتضي أَنَّ هذا كفارة لما هو من أيمان المسلمين، فالمؤثر في جواز الكفارة = كون العقد يمينًا من أيمان المسلمين، والكفارة في اليمين له أن يكفر قبل الحنث وبعده، ولهذا سماه الله تحلة، وتحليلها قبل الحنث أوكد، لكن إنما يجب إذا حنث. _________ (1) غير واضحة في الأصل، ولعل ما أثبتُّ هو الصواب. (2) وتحتمل: (تحليل). (3) هكذا قرأتها.

(2/529)


ولا تحتاج الآية إلى إضمار كما يقوله بعضهم (1): إذا حلفتم فحنثتم، فإنه لم يوجب الكفارة لمجرد اليمين، بل بَيَّنَ أن هذا كفارة اليمين المحلوف بها، وهي كفارة لها سواء كَفَّرَ أو لم يكفر، لكن إِنْ كَفَّر انحلت يمينه وإلا فهي معقودة. والمكفِّر إنما يكفر يمينه، فيزيل بالكفارة ما كانت اليمين سببًا له من الإثم الذي أوجبه عقدها إذا حنث، والحنث شرط في وجوب الكفارة، كما أَنَّ العَوْدَ شرطٌ في استقرار كفارة الظهار. وقول المجيب: إنما يوجب الحنثُ التكفيرَ كسائر صور الأيمان؛ لم يذكره لمجرد القياس، بل لأن نصوص الكتاب والسنة بينت أَنَّ الحنث في الأيمان إنما يوجب التكفير في جميع صور أيمان المسلمين، لم تفرق النصوص بين يمين ويمين، ولا بين صيغة وصيغة إذا كانت الأيمان من أيمان المسلمين المعقودة [144/ أ] المحترمة، وهي ما يقصد بها تعظيم الله بعقدها به أو له، دون ما يقصد بها تعظيم المخلوق بأن يعقد به أو له، فإنه يمين غير محترمة ولا كفارة في الحنث فيها؛ فصارت هذه الأيمان داخلة في نصوص الكتاب والسنة لفظًا ومعنى. وأيضًا؛ فلو ذكر ذلك قياسًا، فالجامع بينهما هو الجامع بين نذر اليمين وبين الحلف باسم الله، وهو أنه هَتَكَ حرمة أيمانه بالله بالحنث حيث عقد لله أو بالله عقدًا ولم يوف به، وهذا المعنى هو المؤثر في الشرع بدليل ثابت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كفارة النذر كفارة يمين» رواه مسلم (2)، _________ (1) هو أبو ثور؛ كما تقدم في (ص 7). (2) تقدم في (ص 92).

(2/530)


وقال عقبة بن عامر ــ راوي الحديث ــ: النذر حَلْفَةٌ (1). وحينئذٍ؛ فقوله: «كفارة النذر كفارة يمين» إما أَنْ يراد به أن النذر نوع من اليمين؛ فيكون لفظ اليمين المكفَّرة يتناول الالتزام لله والالتزام بالله، وإما أن يراد به أن النذر كاليمين في أنه كفارته كفارة اليمين بالله = فهذا دليل على أَنَّ المعنى المشترك بين اليمين والنذر هو الموجب للكفارة؛ فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ النذر كاليمين في ذلك، فلو لم يكن المشترك هو الموجب للكفارة لكان الموجب ما يختص باليمين، ولو كان الموجب مختصًا باليمين لم تكن كفارة النذر كفارة اليمين؛ فَعُلِمَ أَنَّ الموجب يشترك بينهما. وحينئذٍ؛ فقول القائل: فحروف القسم مختصة بالقسم، فلا يجوز أن يكون شرطًا في التكفير، بل المؤثر في التكفير معنى يشترك فيه النذر واليمين؛ وحينئذٍ فما يذكره المعترض وغيره من خصائص اليمين المكفرة عندهم هي منتفية في النذر؛ فعلم أنها عديمة التأثير، وأنها ليست شرطًا في التكفير، بل المقتضي له أعم منها. ومعلوم أَنَّ النذر يكون بصيغة التعليق بالنص والإجماع؛ فعلم أَنَّ كون الصيغة تعليقًا لا يمنع من كونه مكفرًا كفارة اليمين إذا وجد فيه المعنى المشترك بين النذر واليمين، ومن المعلوم أنهما يشتركان في المعنى المشترك بين العقد لله وبالله، [144/ ب] وإن شئت قلت: في التزام العقد لله أو بالله، فيكون العقد إما لله وإما بالله لا بُدَّ أَنْ يوجد في النذر واليمين. وأما قول المعترض: (فإنَّ الأيمان بالله وصفاته مَدْرَكُ وجوب الكفارةِ _________ (1) تقدم في (ص 118).

(2/531)


انتهاكُ الاسم المعظَّم، وأنه غير موجود هاهنا). فيقال: هذه دعوى مجردة، لم يذكر عليها حجة أصلًا، لا بينة ولا شبهة، ويكفي في ذلك المنع؛ فيقال: لا نسلِّم أنَّ هذا مدرك وجوب الكفارة. ثم نقول: من المعلوم أَنَّ جمهور العلماء، بل جميعهم على خلاف ذلك، وأَنَّ الكفارة تجب بدون انتهاك الاسم المعظم. أما مالك وأبو حنيفة وأحمد في منصوصه وظاهر مذهبه؛ فإن اليمين بالله تنعقد عندهم بالكنايات، فلو قال: أُقسم أو أَحلف ولم يذكر اسم الله البتة كانت يمينًا عند الثلاثة وأكثر العلماء، لكن عند مالك وأحمد في إحدى الروايتين هي كناية فلا بُدَّ أن ينوي اليمين، وعند أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى هي يمين عند الإطلاق، فهي صريح في اليمين. ولو قال: إِنْ فعلت كذا فعليَّ نذر أو يمين وحنث وجبت الكفارة أيضًا. ولو قال: عليَّ نذر لزمته كفارة يمين أو أكثر منها عند عامة السلف والخلف، وذكر بعضهم هذا إجماعًا، وفي [ ... ] (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من نذر نذرًا ولم يُسَمِّهِ، فكفارته كفارة يمين» (2) وإنما نازع في هذا الشافعي. ثم الشافعي - رضي الله عنه - يوجب كفارة اليمين من غير انتهاكٍ لاسم الله _________ (1) بياض في الأصل مقدار كلمة أو كلمتين، ولعله اسم أحد كتب السنة التي روت الحديث. (2) تقدم تخريجه في (ص 362 - 363).

(2/532)


ــ تعالى ــ كما يوجبها في نذر اللجاج والغضب، وكما يوجبها في تحريم أمته، وكما ذكر أصحابه ــ رحمة الله عليهم ــ إيجابها فيما إذا قال: إِنْ فعلت كذا فعليَّ أَنْ أُطَلِّق امرأتي، وفيما إذا قصد بالنذر اليمين فقال: عليَّ أَنْ أشرب أو أقتل فلانًا = فذكر الخراسانيون أَنَّ عليه كفارة يمين، فهو الذي اشترط من بين الأئمة أَنْ تكون اليمين المكفَّرة بصريح اسم الله، وجعل العلة انتهاك حرمة الاسم [145/ أ] المعظَّم، ومع هذا فجعل هذا الوصف عديم التأثير، فأوجب الكفارة ــ كفارة اليمين ــ في غير موضع بدون هذا. = فتبيَّن أَنَّ جَعْلَ كفارة اليمين مختصةً بهذا خلافُ إجماعِ الأئمة، بل خلاف إجماع الأمة، وهو خلاف نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال: «كفارة النذر كفارة يمين» (1) فأوجب فيه كفارة يمين وإن لم يذكر هناك اسمٌ معظَّمٌ. وأيضًا؛ فنحن نُسَلِّم أنه إذا انتهك حرمة الاسم المعظَّم بالحنث كان عليه كفارة يمين؛ لكن لخصوص انتهاك حرمة الاسم، أو لِمَا في ذلك من انتهاك حرمة المسمى؟ ومعلوم أَنَّ الاسم إنما صار له حرمة لحرمة المسمى سبحانه، فإنَّ هذا هو المقصود الأصلي، وانتهاك حرمة الاسم تابعة له (2). ولهذا كان الذي أفتى به الصحابة - رضي الله عنهم - وهو قول الأكثرين أنه إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فأنا يهودي أو نصراني وحنث= أنه يلزمه الكفارة، لأنه لما التزم الكفر عند الحنث ــ وفي الكفر من انتهاك حرمة الإيمان بالله أعظم _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92)، وهو في صحيح مسلم. (2) قاعدة العقود (1/ 181 - 182)، زاد المعاد (5/ 316).

(2/533)


مما في مجرد انتهاك اسمه ــ = كان وجوب (1) الكفارة بهذا الانتهاك أولى من وجوبها بانتهاك حرمة الاسم. وإذا قال: وايم الله وايمن الله؛ فهي يمين مكفرة مع النية بلا ريب، وفي الإطلاق قولان مشهوران، وهذا جَمْعُ يمين، فإنما حَلَفَ بأيمان الله لا باسم الله. ولو قال: عَلَيَّ عَهْدُ الله وميثاقه لأفعلنَّ؛ كان يمينًا باتفاق الأئمة، أو قال: عليَّ عهد الله وميثاقه لأفعلنَّ (2)؛ كان يمينًا عند الجمهور. وإِنْ أَطْلَقَ ذلك؛ فقال: العهد والميثاق لأفعلنَّ؛ كان يمينًا مع النية، وإِنْ أَطْلَقَ ففيه قولان هما روايتان عن أحمد، كما في قوله: أَحلف وأُقْسِمُ ولم يحلف هنا باسم من أسمائه. وعائشة - رضي الله عنها - حَلَفَت بالعهد ألا تُكَلِّمَ ابن الزبير - رضي الله عنهما -، فلمَّا كَلَّمَته أعتقت أربعين رقبة، وكانت إذا ذكرته تبكي وتقول: واعهداه (3). وقال أحمد بن حنبل ــ رحمة الله عليه ــ: العهد شديد، في عشرة مواضع من كتاب الله (4). _________ (1) في الأصل: (وجود)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) كذا تكررت هذه العبارة، ولعل الصواب: أو قال: عليَّ العهد والميثاق لأفعلنَّ. انظر ما تقدم (ص 79 - 80). (3) أخرجه البخاري (6073) دون قولها: (واعهداه). (4) نقله ابن قدامة في المغني (13/ 463)، وابن مفلح في الفروع (10/ 452) عن أبي طالب.

(2/534)


وقوله: عليَّ عهد الله وميثاقه؛ ليس من صيغ القسم التي يذكرها النحاة، [145/ ب] ولا هو حَلِفٌ بالاسم المعظم. وأيضًا؛ فالحلف بصفات الله يمين مكفرة بالنص والإجماع، فلو قال: وعزة الله؛ انعقدت يمينه ولم يحلف باسم الله، وإنما حَلَفَ بصفةٍ من صفاته. فإذا قيل: الحلف بالصفة يتضمن الحلف بالموصوف. قيل: فهذا يدل على أنه عقد يمينه بالله، فهي يمين مكفرة وإن لم يذكر اسم الله، وإذا عقدها لله فهو أوكد وأوكد (1). وقوله: عليَّ نذر؛ فيه كفارة يمين بالنص وقول عامة العلماء، وليس فيه ذكر اسم الله ــ تعالى ــ، وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر إذا لم يُسَمَّ كفارةُ يمين» رواه الترمذي (2)، وقال: حديث حسن صحيح غريب. _________ (1) قال في درء التعارض (10/ 71): (وثبت عنه الحلف بعزَّة الله، والحلف بقوله: لَعَمْرُ الله؛ فلو كان الحلف بصفاته حلفًا بغير الله لم يجز؛ فَعُلِمَ أنَّ الحالف بهما لم يحلف بغير الله، ولكن هو حالفٌ بالله بطريق اللزوم، لأنَّ الحلف بالصفة اللازمة حلفٌ بالموصوف ــ سبحانه وتعالى ــ). وانظر: مجموع الفتاوى (35/ 273)، الفتاوى الكبرى (4/ 130)، القواعد الكلية (ص 494). (2) برقم (1528). وقد تقدَّم بلفظ: «كفارة النذر كفارة يمين» وهو في مسلم بدون زيادة: «إذا لم يُسَمَّ». وقال البيهقي في السنن الكبير (20/ 110): والرواية الصحيحة عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين». وانظر: نصب الراية (3/ 295)، إرواء الغليل (8/ 209).

(2/535)


وهذا منقول عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعائشة - رضي الله عنهم -، وهو قول عامة السلف والخلف. قال أبو محمد (1): (لا أعلم فيه مخالفًا إلا الشافعي قال: لا ينعقد نذره ولا كفارة فيه، لأنَّ من النذور ما لا كفارة فيه، ثم إنه قال: إذا فعلت كذا فعليَّ نذر، فعليه كفارة يمين؛ فأوجب الكفارة في هذه اليمين بدون ذكر اسم الله ــ تعالى ــ). وأما قول المعترض: (وفي نذر اللجاج والغضب التزم شيئًا أوجبه على نفسه فأشبه اليمين بالله ــ تعالى ــ، وهاهنا ليس كذلك). فيقال له: فهذا الكلام ينقض قولك: (ما الجامع؟ فإنَّ الأيمان بالله وصفاته مدرك وجوب الكفارة فيها انتهاك الاسم المعظَّم، وإنه غير موجود هنا). فيقال لك: إذا كان هذا هو مدرك الوجوب فحيث انتفى الوجوب وجب أن تنتفي الكفارة في نذر اللجاج والغضب لانتفاء هذا القول، ثم إذا قِسْتَ نذر اللجاج والغضب على اليمين بجامعٍ بينهما، وهو أنه التزم شيئًا أوجبه على نفسه كان مدرك الوجوب أنه التزم شيئًا أوجبه على نفسه، وهذا المدرك أعم من ذاك؛ فتناقضتَ في كلامٍ واحدٍ قليلٍ متصلٍ بعضه ببعض. وأيضًا؛ فإنه إذا التزم شيئًا أوجبه على نفسه، فهذا معنى النذر لا معنى اليمين، فكان يجب جعل هذا نذرًا موجِبًا على [146/ أ] نفسه ما أوجبه لا يجعل فيه كفارة، وهذا الكلام يناسب قول من يجعل نذر اليمين نذرًا واجبًا _________ (1) المغني (13/ 624).

(2/536)


لا من جعله يمينًا مكفرة، ولكن هؤلاء متناقضون تناقضًا بينًا، فإنهم جعلوا نذر اللجاج والغضب من الأيمان المكفرة، ولم يجعلوا الحلف بالطلاق والعتاق كذلك، بل جعلوا هذا التعليق كتعليق النذر اللازم؛ فصاروا إذا ناظروا من يقول بلزوم نذر اللجاج والغضب ينصرون أنه يمين، وإذا ناظروا من يقول بتكفير الحلف بالطلاق والعتاق ينصرون أنه ليس بيمين، ويقولون: إِنَّ نذر اللجاج والغضب أشبه اليمين، ويذكرون مِنْ شَبَهِهِ ما يوجب أن يكون نذرًا لازمًا؛ وهذا غلطٌ بَيِّنٌ. وإنما الذي ذكره الصحابة - رضي الله عنهم - والسلف والأئمة الشافعي وأحمد وغيرهما ــ رحمة الله عليهم ــ أن قصد صاحبه قصد الحالف لا قصد الناذر، وأنه من باب الأيمان لا من باب النذور، وهذا المعنى يوجب أن يكون الطلاق والعتاق المحلوف بهما كذلك، ليس بينهما فرق مؤثر؛ فليتدبر اللبيب هذا التناقض العظيم، والكلام في هذه المسائل بلا أصل يعتمد عليه من نص ولا قياس = يعللون حكم الأصل بعلة مختصة، ثم يثبتون الحكم بعلة أخرى، وتلك العلة توجب ضد ذلك الحكم، وهذا كلام مَنْ لم يُحْكِم الأصل الذي بنى عليه قوله، وهم معذورون في مثل هذا الموضع الذي اضطرب فيه أكثر الناس. فإنْ قلت: بل ذاك مدرك وهذا مدركٌ ثانٍ؛ فالكفارة تجب لهذا ولهذا، فقد سلمتَ أَنَّ الكفارة تجب حيث لم يذكر الاسم المعظم، وحينئذٍ؛ فإنْ لم تذكر مدركًا يمنع دخول الحلف بالطلاق والعتاق = لم يكن معك فرق أصلًا، لا مؤثر ولا غير مؤثر، وليس معك إلا حكاية المذهب.

(2/537)


ثم يقال: إذا كان هنا مدركٌ ثانٍ وهو أنه التزم شيئًا أوجبه على نفسه = لزمك أَنْ توجب الكفارة في كل من أوجب شيئًا ولم يفعله، فيلزمك وجوب الكفارة [146/ ب] في نذر المباحات والمعاصي، وهذا مذهب أحمد وغيره دون الشافعي. وأيضًا؛ فيقال: إذا وجبت الكفارة لأنه التزم شيئًا أوجبه على نفسه، فإنَّ اليمين تكون تارة حضًّا وتارة منعًا؛ فالحض فيها إيجاب والمنع فيها تحريم؛ فكما (1) قِسْتَ على اليمين من الإلزام ما كان فيه إيجاب على نفسه = فقس عليها ما كان فيه تحريم على نفسه. ومعلومٌ أنه إذا عَلَّقَ الظهار والحرام والطلاق والعتاق على وجه اليمين، فقد حَرَّمَ على نفسه بهذا التعليق كما أوجب بذاك التعليق، وكل من الإيجاب والتحريم يكون موجب اليمين. فإنْ قلتَ: قوله: «كفارة النذر كفارة يمين» محمولٌ عندنا على نذر اللجاج والغضب (2). قيل: المذاهب تتبع الأدلة الشرعية، [والأدلة الشرعية] (3) لا تتبع مذهبًا، وليس لأحد أن يتأول كلام الله ورسوله على ما يوافق مذهبه إِنْ لم يقم عنده _________ (1) في الأصل: (فكلما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) قال البيهقي في السنن الكبير (20/ 110) ــ ومثله في معرفة السنن والآثار (14/ 169) ــ: وذلك محمول عند أهل العلم على نذر اللجاج الذي يَخرج مَخرج الأيمان، والله أعلم. ثم قال: وهو ــ إنْ صحَّ ــ محمول عند مَن لا يقول بظاهره على نذر اللجاج والغضب، والله أعلم. (3) إضافة يقتضيها السياق.

(2/538)


دليلٌ شرعيٌ على أَنَّ الله ورسوله أراد ذلك الكلام؛ فإنَّ المقصود بالتأويل: معرفة مراد المتكلم بكلامه، فإنْ لم نَعرف ذلك ولم يَقم على مراده دليلٌ= كُنَّا قائلين على الله ما لا نعلم، ثم جاعلين كلام (1) الله ورسوله تبعًا لكلامنا. وقوله: «كفارة النذر كفارة يمين» لفظٌ عامٌّ لا وجه لتخصيصه. ونذر اللجاج والغضب ليس بنذر في الحقيقة، بل هو يمين داخل في قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وموجَب هذا النص: أَنَّ كل نذر لم يوف به ففيه كفارة يمين، وهذا مذهب أحمد وغيره؛ كما أن كل يمين لم تَبرَّ فيها ففيها كفارة يمين، لكن الوفاء بالنذر واجب ليس كاليمين، فإذا قُدِّرَ أنه لم يف به= كان فيه كفارة يمين، ثم إيجاب كفارة يمين في النذر إذا لم يوف به يدل على أن نذر اليمين فيه كفارة يمين أيضًا، لأنه قصد بنذره اليمين = فكان أولى بالتكفير. ولهذا كان هذا لا يجب فيه فعل المنذور، بل تُجزئُهُ الكفارة بخلاف الناذر المحض، فإنَّ عليه الوفاء، فإنْ لم يفِ كان عليه كفارة يمين. وتَبيَّن بالنص والإجماع أَنَّ [147/ أ] كفارة اليمين تجب في أعم مما ذكره من الحلف بالاسم المعظم، وحينئذٍ؛ فالحالف بالطلاق والعتاق والحالف بالنذر كل منهم قصد بما عَلَّقَهُ لله الحلف، وهو كاره للزوم ما عَلَّقَه، لم يقصد لا وجوبًا ولا وقوعًا. وما ذكرتَه في أنه لا حنث على الحالف في أظهر قولي الشافعي - رضي الله عنه - فهو كما ذكرت، فإنَّ هذا اختيار أئمة أصحابه العراقيين _________ (1) في الأصل: (لكلام).

(2/539)


والخراسانيين (1). وما ذكرتَ من توقف المصريين والماوردي ليس مما يعارض هذا (2)، _________ (1) قال السبكي في «التحقيق» (42/ ب): (وقوله: (إنَّ الأظهر من قول الشافعي عدم حنث الناسي) هو في ذلك تابعٌ للرافعي وجماعة كثيرةٍ من العراقيين وغيرهم، وقد قال ابن المنذر في الإشراف: إنَّ القول بالحنث هو المشهور من مذهب الشافعي عند أصحابه). (2) قال السبكي في «التحقيق» (43/ أ): (وقد قال صاحب الحاوي: البغداديون من أصحابنا ذهبوا إلى تصحيح القول بعدم الحنث في الناسي لما ارتكبوا من مخالفة أبي حنيفة. وأما البصريون فقال شيخنا أبو القاسم الصيمري: ما أفتيتُ في يمين الناسي بشيءٍ قط. وحكى عن شيخه أبي الفياض أنه لم يُفت فيه بشيءٍ قط. وحكى أبو الفياض عن شيخه أبي حامد المروروذي أنه لم يفت فيه بشيءٍ قط. قال: وهو أحد البصريين؛ فاقتديت بهذا السلف، ولم أُفت فيها بشيءٍ قط، لأنَّ استعمال التوقِّي أحوط من فرطات الأقلام [وفي الحاوي: ورطات الإقدام]. قال ابن الصلاح: ومع هذا؛ فالقول بالحنث هو الأرجح دليلًا، وإنْ كان أعوص، وهو قولٌ لكثيرٍ [من] العلماء السالفين والخالفين، وهو قول أئمة المذاهب الأربعة، والشافعي وأحمد وإن اختلفت الرواية عنهما؛ فالحنث أثبت عنهما. وفي كتاب الهداية في مذهب أحمد أنه يحنث في الطلاق والعتاق ولا يحنث في اليمين بالله ــ تعالى ــ والظهار. قال: وهو [قول] أكثر شيوخنا، وعنه أنه لا يحنث في الجميع. وقال القاضي حسين: إنه لا خلاف فيما إذا قال: والله لا أدخل عامدًا ولا ناسيًا، فدخل ناسيًا أنه يحنث. وفي هذا جوابٌ عن متمسَّكهم بأنَّ مقصوده المنع، وهو أقوى ما لهم، والحديث محمول على نفي المؤاخذة والذم [بياض مقدار كلمة]، وقد رأيت شيخنا ابن الرفعة في آخر عمره يتوقف ولا يُفتي فيها بشيء، وقال لي: إنه [بياض مقدار كلمة] من ذلك أنه أَوجبْ على ما نصَّ الشافعي، والله أعلم).

(2/540)


وهؤلاء أعلم بمذهبه وأصوله من غيرهم، ولم يكن مقصودنا هنا ترجيح هذا القول على غيره حتى نبسط القول فيه، بل المقصود ما يلزم أصحابه. فصلٌ قال: (وما ذكره ــ يعني: المجيب ــ من تضعيف الفرق بأنَّ العتق والطلاق [فيه] حقٌّ لآدمي فلا يرتفع بالكفارة، بخلاف الأيمان بغير ذلك، وضَعَّفَهُ بإجزاء الكفارة فيما إذا قال: فعليَّ أَنْ أُعتق أو أُطَلِّق. قلنا: الفرق بينهما أَنَّ هذا التزام بخلاف ذلك كما أشرنا، ويرشد (1) إلى هذا قول الفارق فلا يرتفع، فإنه يؤذن بالوقوع؛ أي: فلا يرتفع بعد ذلك) (2). والجواب: أن الذين فَرَّقُوا في مسألة الناسي بين الحلف باليمين المكفَّرة وغير المكفَّرة، وهو الحلف بالطلاق والعتاق بناءً على اعتقادهم أَنَّ هذه غير مكفرة = فَرَّقُوا بأنْ قالوا: اليمين التي ليست مكفرة يتعلق بها حَقُّ آدمي فتعلق به مع النسيان كالإتلاف، ولأنه حكمٌ عُلِّقَ على شرط فوجد بوجدان الشرط؛ كالمنع من الصلاة بعد العصر. فيقال لهم بعد المنع من تقسيم الأيمان إلى مكفرة وغير مكفرة: حَقُّ الآدمي يتعلق بالوجوب المعلق كتعلقه بالوقوع المعلق. فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أعتق عبدي وأُطَلِّقَ امرأتي؛ فقد تعلق به حق آدمي، وهو لو نَذَرَ عتق عبد مُعيَّن تعيَّن ووجب عليه عتقه؛ فإن كان الموجِب للفرق تَعَلُّقُ حق الآدمي فيجب في مثل هذه الأيمان ألا يعذر الناسي والجاهل، وهم يعذرونه _________ (1) في الأصل رسمت هكذا: (وتريد) بدون نقط، والمثبت من «التحقيق». (2) «التحقيق» (43/ أ)، وما بين المعقوفتين زيادة من «التحقيق».

(2/541)


لأنها عندهم يمين مكفرة وإِنْ تعلق بها حق آدمي، وهي مع [147/ ب] هذا عندهم يمين مكفرة. وقول المُفَرِّق: إِنَّ العتق والطلاق فيه حق لآدمي فلا يَرتفع بالكفارة؛ بناه على أصله في أنه وقع فلا يرتفع بالكفارة، وهذا كقول مَنْ يُلزم بالوفاء في نذر اللجاج والغضب، ويقول: قد وجب في ذمته فلا يرتفع بالكفارة، وإلا فمن يقول: إنه لم يحنث لا يُسَلِّم أن العتق والطلاق وقع، وكذلك مَنْ يقول بإجزاء الكفارة لا يقول: إنه وقع واحد منهما، ولو وقع لم يرتفع بعد وقوعه، بل ما قَصَدَ به اليمين لم يقصد به الإيقاع فلا يقع، بل تجزئه كفارة يمين، وإن أوقعه لم يكن عليه شيء غير ذلك. وكذلك مَنْ لا يُحَنِّث الناسي والجاهل يقول: وجود فعلهما وعدمه (1) لم يأتيا بالمخالفة. وأيضًا؛ فالناسي والجاهل إنما عُذِرَ في اليمين المكفرة لأنه لم يقصد المخالفة، فصار كمن فعل المنهي عنه ناسيًا، وهذا المعنى موجود في جميع الأيمان. ولكن أحمد ــ على قوله بلزوم ذلك ــ قطع شَبَهَ ذلك بالأيمان وجعله إيقاعًا، كما منع من الاستثناء في ذلك في إحدى الروايتين عنه، وكما جعل الحلف بهما ليس بإيلاء؛ وقد تقدم أَنَّ أحمد تارة كان يجعل الحلف بهما من باب الإيقاع لا اليمين، وتارة يجعله من باب اليمين. _________ (1) أي: سواء.

(2/542)


فقوله: فالفرق يَتوجَّه على أنه لم يجعلهما من الأيمان إذ كان لا كفارة فيهما عنده ولا استثناء في إحدى الروايتين عنه؛ فيوجَّه هذا: أنه طلاق وعتق معلَّق (1) بصفة= فيقع إذا وجدت، لكن قد تبين بالدليل أَنَّ جَعْلَهُ لهما أيمانًا هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة، وأَنَّ الواجب إثبات حكم الحلف بهما إذا حلف بهما في جميع الأيمان، لا يجعل ذلك في حكمٍ يمينًا وفي حكمٍ غير يمين، مثل أَنْ يقال: الحلف بهما في الاستثناء يمين، وفي الكفارة ليس بيمين، وفي الإيلاء ليس بيمين؛ فإنَّ هذا تناقض بَيِّنٌ، بل الواجب أَنْ يقال في الحلف بهما ما قيل في الحلف بالنذر = وهو أنه يمين في الكفارة وفي الاستثناء، وكذلك الإيلاء على القول الصحيح الذي هو ظاهر مذهب أحمد كما ذكره أبو بكر عبد العزيز [148/ أ] وغيره، وعامة نصوص أحمد تدل عليه. وأما كون الحلف بالنذر ليس بإيلاء، وإنما كان الإيلاء ما كان باسم الله كما يختاره الخرقي والقاضي وطائفة؛ فهو قول ضعيف جدًا مثل قول الشافعي القديم، وهذا يناسب قول من لا يجعل الحلف بالنذر يمينًا مكفرة ولا نذرًا، بل لا يجعله موجبًا لشيء كطائفة من السلف، وهو مذهب داود وابن جرير الطبري (2). فإذا قيل: الحلف بالنذر ليس يمينًا ولا نذرًا، فإنَّ هذا يناسب ألا ينعقد به الإيلاء، وأما مع إيجاب الكفارة فيه أو إلزامه النذر فالقول بأنه لا ينعقد به الإيلاء = قولٌ ضعيف جدًا ليس فيه شيء من الفقه. _________ (1) كرر الناسخ كلمة (معلق). (2) انظر ما تقدم (ص 509 - 510).

(2/543)


وأما قولهم في الحلف بالطلاق والعتاق: إنه حكم معلق بشرط يوجد عند وجود شرطه؛ فينتقض بنذر اللجاج والغضب، فإنه معلق بشرط، وهو مع هذا يعذر فيه الناسي والجاهل لأنه يمين مكفرة. وأيضًا؛ فالحكم المعلق بشرط تارة يقصد به اليمين وتارة لا يقصد به اليمين، وقد ثبت بالنص والآثار والقياس أَنَّ قصد اليمين وصفٌ مؤثرٌ، وهم يُسلِّمون ذلك، وحينئذٍ فلا يجوز إلغاؤه، والواجب أَنْ يُلحق الحالف بالطلاق والعتاق إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلًا بسائر الحالفين؛ كما هو مذهب جماهير السلف والخلف، فإن المشهور قولان: إما الحنث في الجميع، وإما عدم الحنث في الجميع. وأما التفريق ــ فهو وإن اختاره طائفة كبيرة من أصحاب أحمد ــ فهو ضعيف، والذين نقلوا عن أحمد التسوية بمنزلة الذين نقلوا الفرق فيما وجدته من كلام أحمد، فلم يكن جوابه بالفرق أكثر من جوابه بالتسوية، ولكن اختار الفرق من اختاره من أصحابه كما يختارون أقوالًا وغيرُها أكثر في أجوبته، كما اختار الخرقي والقاضي وغيرهما أن الماء المتغير بالطاهرات ليس بطهور، وأكثر أجوبة أحمد على أنه كالمتغيِّر بأصل الخِلْقَة [148/ ب] وبما يشق صونه عنه (1). وأما تفريق المعترض بين ما عورضوا به وبين ما يحلف بالعتق والطلاق، بأنَّ الأول التزام بخلاف هذا. فيقال له: أولًا: التضعيف وارد على فرقهم بأن هذا فيه حق لآدمي _________ (1) مختصر الفتاوى المصرية (ص 13)، الاختيارات الفقهية للبعلي (ص 8 - 9).

(2/544)


بخلاف هذا، فكونه حقًّا لآدمي يتناول ما إذا التزم حقًّا لآدمي أو أوقع ما يتضمن حقًّا لآدمي، وفي كون أحدهما التزامًا لا يقدح في كون كل منهما حقًا لآدمي، فعلم أن كونه حقًّا لآدمي وصفٌ غير موجِب للوقوع. بل ثَمَّ جوابٌ آخر، وهو: أَنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ الطلاق والعتاق حق لآدمي، بل هما حقان لله؛ أما الطلاق فباتفاق الأئمة، ولهذا لو شهد به شهود من غير تقدم دعوى أحدٍ صَحَّت شهادتهم به باتفاق الأئمة، وحقوق الآدميين ليست كذلك. وأما العتق؛ فإذا شهدوا به ابتداءً صحت شهادتهم عند الأكثرين وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد وأصحاب أحمد وغيرهم، وقال أبو حنيفة: لا تقبل، لأنَّ فيها حقًّا للعبد، والأكثرون قالوا: المُغَلَّب فيه حق الله، فالطلاق قد اتفقوا على أنه حق لله. وأيضًا؛ فلو كان الطلاق حقًّا لآدمي = لوجب بالنذر إذا قال: لله عليَّ أَنْ أُطلقك، كما يجب العتق إذا قال: لله عليَّ أَنْ أعتقك؛ ولَمَّا لم يجب بالنذر= عُلِمَ أنه ليس فيه حق لآدمي، وليس هو قربة إلى الله؛ فلهذا لم يجب بالنذر، وإن كان فيه له حَقُّ التحريم الذي يوجبه الطلاق، فإنَّ حرمة الفروج حق لله ــ تعالى ــ، ليس للعباد إحلال ما حرمه الله من الفروج، كتحريم الخبائث وذوات المحارم فإنها حق محض لله، ليس لأحد إحلال ما حرمه الله، بخلاف ما حُرِّمَ لحق الآدميين كالأموال والدماء، فإنه يجوز الإبراء والعفو عنها، ويجوز بذل المال ابتداءً وإن لم يجز بذل الدم، بخلاف الفروج فإنها لا تباح بالإباحة، ولا يسقط إثمها وعقوبتها بالعفو.

(2/545)


فصلٌ قال: (قال المجيب: والمقصود هنا: أَنَّ هذا القول يُخَرَّجُ على أصل أحمد من وجوهٍ متعددةٍ. قلنا: لم يُبيِّن ذلك من وَجْهٍ من الوجوه الخمسة يَسلم من النزاع) (1). فيقال: إِنْ أراد نزاعًا قادحًا [149/ أ] فلا ريب أَنَّ الوجه الأول والثاني الأمر (2) فيهما ظاهر، وليس في ذلك نزاع يَقدح، وأما الثالث فالأمر فيه أخفى ولكن هو متوجِّهٌ، وكذلك الرابع، وأما الخامس ففيه نزاع أقوى من ذلك ولكن يمكن توجيهه ــ أيضًا ــ كما تقدم، وثَمَّ وجوهٌ أُخَر. * * * * _________ (1) «التحقيق» (43/ أ). (2) في الأصل: (فالأمر).

(2/546)


فصلٌ قال المعترض: (قال المجيب: وكذلك يُخَرَّج على أصل الشافعي وغيره [ممن يوافقه على مسألة نذر اللجاج والغضب]. قلتُ: فَرَغَ من تخريجه على مذهب أحمد، وَشَرَعَ في تخريجه على مذهب الشافعي وغيره ــ كما زعم ــ ظانًّا أَنَّ ذلك فَرْدٌ من أفراد مسألة اللجاج والغضب. وحُقَّ لنا الآن أَنْ نُبدي الفرق بينهما؛ فنقول: تصرفات الشخص التي يستقل بها: تارةً تكون في نفسه خاصة كالنذر، فإنَّ موجَبه التزام شيء في الذمة ولا أثر له في غيره، وتارة تكون في غيره ويَرِدُ على مَحَلٍّ خارجٍ يباشر (1) به؛ كالطلاق والعتق الواردين على الزوجة والمملوك. فإنَّ معنى الطلاق: قَطْعُ العصمة لا التزام قطعها، ومعنى العتق: قَطْعُ ملك اليمين لا التزام قطعه، وكلٌّ من التصرفين يكون مُنَجَّزًا ومعلقًا؛ فتارة يكون النذر منجزًا كقوله: لله عليَّ؛ فهو التزام في الحال، وتارة يكون معلقًا كقوله: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ كذا؛ فهو التزام مُعَلَّقٌ بصفة. وكذلك الطلاق والعتق تارة يكون منجزًا، وهو: إيقاع الطلاق في الحال، وتارة يكون معلقًا وهو: إيقاعٌ بتلك الصفة، فالمعلِّقُ للطلاق موقعٌ له؛ غايته: أنه ما أوقعه مطلقًا وإنما أوقعه مقيدًا بصفة، فيقع بتلك الصفة، ويتأخر الوقوع إلى أَنْ توجد تلك الصفة. _________ (1) في «التحقيق»: (يتأثر).

(2/547)


فقد تبيَّن أَنَّ تعليق الطلاق من باب التصرف الذي يوقعه الشخص؛ إما بأنْ ينجزه في الحال، وإما أَنْ يجعله منوطًا بتلك الصفة الذي هو أَحَدُ نوعي التطليق الممكن منه شرعًا، ويُسَمَّى الأول: الطلاق المباشر، ويسمى: إيقاعًا، والثاني يُسَمَّى: عقد طلاق بصفة، ويسمى: عقد صفة. فعقد الطلاق والعتاق بالصفة مزيلٌ للنكاح والملك، وَيَتَوَقَّفُ الزوال على الصفة، كما أَنَّ عقد الهبة مزيلٌ للملك ويتوقف على القبض، والبيع ناقلٌ للملك ويتوقف على انقضاء الخيار عند من يقول به، [149/ ب] بل الإيجاب مقتضٍ لذلك، ويتوقف على القبول. إذا تقرر ذلك؛ فنقول: نذر اللجاج والغضب معناه: التزامُ أمرٍ على تقديرِ ثبوتِ أمرٍ يُقْصَدُ عدمه، أو عَدَمُ أَمرٍ يُقصد ثبوته؛ فكل ما كان كذلك فهو في معنى نذر [اللجاج والغضب] (1) كقوله: العتق يلزمني لأفعلنَّ كذا؛ فإنه التزم العتق على تقدير عَدَمِ ذلك الفعل، أو: العتقُ يلزمني لا فعلتُ كذا؛ فإنه التزم العتق على تقدير ذلك الفعل، ومقتضاه أنه لو حصل الشرط المذكور = لزمه إنشاء العتق لا وقوع العتق على عبيده لما قلناه: إنَّ مورد النذر هو الذمة لا غير. وكذلك جميع أمثلة نذر اللجاج والغضب من هذا الباب، كقوله: إن فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أعتق أو أتصدق أو أحج أو أُطَلِّق؛ إن لم يشترط القربة، وما أشبه ذلك حتى لو قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُعتق عبدي فلانًا كان من نذر اللجاج، لأنَّ المشروط التزام إنشاء عتقه لا وقوع عتقه، والملتزم للإنشاء _________ (1) زيادة من «التحقيق».

(2/548)


قد يفي بما وجب عليه وقد لا يفي، وأما المعلق للوقوع فغير متمكن من الرجوع عن مقتضاه. والمعلِّقُ للطلاق والعتق؛ المشروطُ في كلامه صيرورةُ المرأة طالقًا والعبد حرًا، لا أنه ينشئ لهما طلاقًا وعتقًا، هذا مقتضى كلامه ومقصوده، وبين المعنيين بونٌ عظيم؛ فقد لاح الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج. نعم؛ هو فيه شَبَهٌ من جهة أَنَّ كلًّا منهما مَنَعَ نفسه من الشرط المذكور أو حَثَّهَا (1)، ولكنه بسببين (2) مختلفين؛ في نذر اللجاج بسبب خوفه من لزوم ما التزمه على ذلك التقدير، وهنا بسبب خوفه من وقوع ما أوقعه على ذلك التقدير، وما حصل الحث والمنع إلا بهذا الاعتبار؛ فهذا فَرْقٌ جليٌّ واضح يُبين أَنَّ هذا ليس من نذر اللجاج في ورد ولا صَدَر. ومن هنا ــ والله أعلم ــ كان الإمام أبو الفتح محمد بن محمود الطوسي (3) ــ أحد الأئمة من متأخري الشافعية ــ يفتي في قوله: الطلاق يَلزمني؛ بعدم الحنث، ويقول: التزام ما لا يلزم فلا يلزم، وذلك مستفيضٌ عنه (4). _________ (1) في الأصل: (أَوْجَبَهَا)، والمثبت من «التحقيق». (2) في الأصل: (بشيئين)، والمثبت من «التحقيق». (3) هو: شهاب الدين محمد بن محمود بن محمد، أبو الفتح الطوسي الشافعي، نزيل مصر، ممن عليه مدار الفتاوى في مذهب الشافعي، ولد سنة (522)، وتوفي سنة (596). انظر في ترجمته: تاريخ الإسلام (12/ 1088)، طبقات الشافعية لابن كثير (2/ 699)، طبقات الشافعية الكبرى (6/ 401). (4) قال في حاشية عميرة (3/ 325): (وكذا حَكى في المطلب عن الطوسي ــ تلميذ ابن يحيى صاحب الغزالي ــ أنه كان يُفتي بعدم الوقوع في قول: عليَّ الطلاق، وإنْ نوى في قول القائل: الطلاق يلزمني، لأنه التزام ما لا يلزمه. وكان يقول: الطلاق وُضِعَ لِحَلِّ النكاح لا لليمين. قال الزركشي بعد حكاية ذلك: والحق الوقوع، لاشتهاره في معنى الطلاق، وكأنه لم يشتهر له في ذلك الزمان). وانظر: النجم الوهاج (7/ 485).

(2/549)


وممن أخبرني به: أبو العباس أحمد بن الرفعة (1) عنه [150/ أ] مرسلًا. وأخبرني به متصلًا أبو عمرو عثمان بن محمد بن أبي سعد (2) أنه سمعه من ضياء الدين ابن [القصنطين] (3) ــ أحد أصحابه ــ عنه، وأنه كان يقول: إِنَّ الطلاق وُضِعَ لِحَلِّ قَيْدِ النكاح ولم يوضع لليمين، وفي هذه الحكاية عنه إشعارٌ لا يوجب به شيئًا، وكذلك المنقول عنه؛ حتى قال لي ابن الرفعة: إنه كان الشخص يأتي إليه وهو على باب منازل العز يقصد الركوب، فيقول: قلت: الطلاق يلزمني ما أفعل كذا، أو فعلته؟ فيقول: وأنا أقول: الطلاق يلزمني ما أركب هذه البغلة ثم يركبها، كأنه يلمح (4) أَنَّ المعلق ههنا التزام الطلاق وهو لا يلزم. على أَنَّ هذه الفتوى في هذا الزمان لا يمكن القول بها لشهرة هذا اللفظ في معنى التعليق، حتى إنه ما صار يُفهم منه إلا ذلك، وكأنَّ هذه القضية _________ (1) هو: أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة، نجم الدين أبو العباس، من كبار أئمة الشافعية في زمانه، ولد سنة (645)، وتوفي سنة (710). انظر في ترجمته: طبقات الشافعية لابن كثير (2/ 854)، طبقات الشافعية الكبرى (9/ 24)، وانظر: الجامع لسيرة ابن تيمية (ص 425، 509). (2) لم أجد له ترجمة! (3) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (القصطي). ولم أجد له ترجمة! (4) في الأصل: (ليمح).

(2/550)


منقولة عرفًا إلى هذا المعنى، وإلا فليس لها دلالة من حيث اللغة على التعليق ولا على الحلف. وتوسعوا في ذلك حتى طردوه في قوله: الطلاق يلزمه لا فعلت؛ كذا حُكِيَ عن أبي سعيد أحمد بن محمد بن نمير الخوارزمي الضرير (1) ــ وأبو سعيد هذا كان معاصرًا للقاضي (2) أبي الطيب، ومات قبل أبي الطيب، يقال: لم يكن في وقته بعد أبي الطيب أفقه منه (3) ــ أنه قال في الجواب عن قولهم: أَنتِ طالق لا دخلت الدار: ليست (لا) بدلًا من حرف الشرط، وإنما وقع الطلاق بالدخول، لأنَّ قوله: أنت طالق يصلح أَنْ تقام مقام أُقْسِمُ أو أَحْلِفُ؛ الدليل عليه: أنه لو قال: أَنتِ طالقٌ إِنْ [حلفتُ، ثم قال: أنتِ طالقٌ إنْ] (4) دخلتِ الدار طلقت (5)) (6). _________ (1) هو: أحمد بن محمد بن علي بن نمير، أبو سعيد الخوارزمي الضرير، أحد الفقهاء الشافعيين، وكان يُقَدَّم على أبي القاسم الكرخي وأبي نصر الثابتي، توفي عام (448). انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (6/ 233)، طبقات الشافعية لابن الصلاح (1/ 391)، طبقات الشافعية الكبرى (4/ 84). (2) في الأصل: (القاضي)، والمثبت من «التحقيق». (3) وهذه الكلمة قالها الخطيب في تاريخ بغداد (6/ 233). (4) ما بين المعقوفتين من «التحقيق» وطبقات الشافعية. (5) وتكملة كلامه: (فإنه يقع الطلاق بالقول الثاني؛ فقد صار التعليق حلفًا، وإذا صار حلفًا ثم عقب بِ (لا) صاحب؛ كقوله: والله لا دخلتُ. ولو قال: والله لا دخلت الدار كان يمينًا. وذلك أنَّ اليمين على الإثبات تكون بِ (إنْ) واللام؛ فيقول: (والله لا دخلت الدار) في النفي، ويقول في الإثبات: (لتدخلنَّ الدار)، ويقول: إنْ دخلتِ فأنت طالق). طبقات الشافعية لابن الصلاح (1/ 392 - 393). (6) «التحقيق» (43/ أ - 44/ أ).

(2/551)


والجواب (1): أَنَّ ما ذكره من الفرق الصوري بين النذر وبين تعليق العتق والطلاق، وهو أن النذر لا بُدَّ أَنْ يتضمن التزامَ فعلٍ يُنشئه، فيكون مضمون النذر: إيجابُ فِعلٍ يفعل لله ــ تعالى ــ وإن كان في عينٍ معينة، فإذا قال: لله عليَّ أَنْ أعتق هذا العبد، أو قال: هذه الشاة هدي أو أضحية، أو قال: إِنْ شَفى الله مريضي فثلث مالي صدقة ونحو ذلك = ففي جميع هذه المواضع: عليه أَنْ يفعل فعلًا؛ فيعتق العبد، ويذبح الأضحية والهدي، بل ويفرق لحم ذلك، ويقسم الصدقة بين [150/ ب] الفقراء. وهذا الفعل الواجب بالنذر هو متمكن من فعله وتركه، بخلاف العتق والطلاق المعلق، فإنه وقوع مجرد؛ فإذا عُلِّقَ وَقَعَ عند الصفة بغير فعل منه، والوقوع لا يوجب عليه فعلًا يفعله، وإنما يوجب عليه ترك ما كان مباحًا له قبل العتق والطلاق من الاستمتاع والحبس وما يتبع الملك؛ فإذا زال ملكه حرم عليه ما يحرم على غير المالك من غير أن يجب عليه فعلٌ في الذمة ينشئه. فيقال له: أولًا: الجواب من وجوه: منع لزوم ما ذكره من النذر، ومنع انتفائه مطلقًا في العتق والطلاق، ثم بيانُ عدم تأثيره، ثم بيان أن هذا يوجب عدم الطلاق والعتق المحلوف به بطريق الأولى. الوجه الأول: أَنْ يقال: ليس مِنْ شَرْطِ كُلِّ نذر أن يلزمه فعل يفعله بعد النذر، بل قد لا يوجب المنذور عليه إلا مجرد الكف والإمساك، فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي فداري وقف على الفقراء والمساكين= صارت وقفًا بوجود _________ (1) انظر (ص 108 وما بعدها، 516 وما بعدها).

(2/552)


الشرط، ولا يتوقف ذلك على فعل، وكذلك في قوله: فبعيري هدي وأضحية لله، أو قال: إِنْ شَفَى الله مريضي ففرسي حبسٌ في سبيل الله ونحو ذلك؛ يلزم ذلك بوجود الشرط، وليس له رَفْعُهُ بعد وجود الشرط، وإنما عليه فعل آخر يفعله بعد ذلك، وهذا زيادةٌ في الوجوب بخلاف قوله: لله عليَّ أنْ أُعتق؛ فإنه لا يَصير حُرًّا حتى يعتقه. وأيضًا؛ فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي فداري وقفٌ على الفقراء والمساكين ونَظَرُهَا لفلان، أو قال: فمالي صدقة وولايةُ قَسْمِهِ لفلان، أو قال: فبعيري هدي أو أضحية وأمره إلى فلان؛ فهنا إذا وجد الشرط يلزم النذر، ولم يبق عليه فعل يفعله، بل إنما عليه الكَفُّ عن التصرف في ذلك المال حتى يتسلمه مَنْ له النظر فيصرفه في مصارفه الشرعية. فعلم أنه ليس من شرط النذر أن يكون المنذور التزام عمل في الذمة، بل قد يكون حقًّا متعلقًا بعينٍ من الأعيان لا يمكنه رفعه بعد وقوعه؛ بل إما أَنْ يوجب عليه فعلًا في العين، أو لا يوجب عليه إلا كما يوجبه [151/ أ] العتق من امتناعه من تصرف المالك. وكذلك لو قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أبرئ الناس من الديون التي لي عليهم؛ فالإبراء إسقاطٌ محضٌ كالعتق. ولو قال: إِنْ شَفَى الله مريضي فزيد وعمرو برآء مما لي عليهما من الدين= كان هذا بمنزلة قوله: فعبدي فلان حرٌّ؛ أي: قد برئ مما لي عليه من الملك. وكذلك لو قال: إِنْ شَفَى الله مريضي فقد عفوت عن القَوَد الذي أستحقه على فلان؛ فهذا المنذور إسقاط حق مال أو قود لا يثبت في الذمة، ولا

(2/553)


يحتاج إلى إنشاء تصرف يتصرف فيه. فإذا قال على وجه اللجاج والغضب: إِنْ سافرتُ معكم فقد برئ الناس من جميع أموالي، أو فكلُّ مالٍ لي على الناس صدقة عليهم؛ فهو بمنزلة: كُلُّ عبد لي حر، ومع هذا ليس هذا بعتق ولا طلاق، بل فيه كفارة يمين. فعلم أَنَّ التكفير في نذر اللجاج والغضب ليس موقوفًا على أن يكون المنذور التزام فعل يفعله، بل هذه الصور إيقاعٌ للإسقاطِ والإبراء، أو إيقاعٌ للوقف والهدي والأضحية؛ كما أَنَّ العتق إيقاع أيضًا، ليس ذلك التزام شيءٍ في الذمة. ثم منها ما لا يوجب عليه إلا الكف والإمساك كالعتق والطلاق، ومنها ما يوجب عليه أفعالًا أخر مع وقوع ما عَلَّقَهُ؛ فيكون هذا أبلغ من العتق. فإذا قال: فبعيري هدي وهذه الشاة أضحية، بل إذا قال: فثلث مالي صدقة = كان قد أوقع حكمًا في غيره، وأوجب فعلًا آخر، وهذا أبلغ من مجرد إيقاع حكم في معين. فإذا كان قصد اليمين يمنع ثبوت الإيقاع وما أوجبه من الفعل، فمنع ثبوت الإيقاع وما اقتضاه من الترك= أولى وأحرى. ولو قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ صوم شهر أو صوم يوم الاثنين والخميس= كان الواجب عليه إمساكًا في وقت بعينه، لم يجب عليه أفعال يفعلها. وإذا قال: فعبدي حر؛ وجب عليه اعتقاد زوال الملك والامتناع من استعباده وتخلية سبيله.

(2/554)


الوجه الثاني (1): أَنْ يقال: بل في تعليق العتق والطلاق قد يجب عليه فعلٌ (2) في الذمة، فإنه إذا زال الملك وجب عليه أَنْ يُبَيِّنَ للعبد والمرأة زوال [151/ ب] ملكه عنهما، وأن يخلي سبيلهما فيرفع الموانع المانعة لهما من الانطلاق، ويمتع المرأة ــ والمتعة واجبة عند الجمهور ــ؛ إما لِكُلِّ مطلقة، وإما لكل مطلقة سوى المطلقة بعد المسيس، وإما للمطلقة قبل الفرض والمسيس؛ وهي ثلاث روايات عن أحمد، الأُولى اختيار طائفة من السلف والخلف، والثانية مذهب الشافعي وهو مروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - (3)، والثالثة مذهب أبي حنيفة واختيار كثير من أصحاب أحمد (4). وبالجملة؛ فعليه أَنْ يُسَرِّحَ المطلقة بإحسان؛ كما قال تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49] فأمر بالتمتع والتسريح، وهما فعلان يثبتان في الذمة يمكنه أن يفعلهما وألا يفعلهما. وقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فعليه في الطلاق الرجعي أَنْ يمسك بمعروف أو يُسَرِّحَ بإحسان، _________ (1) انظر (ص 573). (2) في الأصل: (فعلًا)، والصواب ما أثبتُّ. (3) أخرجه مالك في الموطأ (668) ــ ومن طريقه الشافعي في مسنده (1273) ــ، وعبد الرزاق في مصنفه (12224)، وسعيد بن منصور في سننه (1773)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 87/رقم 19023) وغيرهم ولفظه: (لكل مطلقة متعة إلا التي يطلقها وقد فرض لها صداق ولم تمس؛ فحسبها ما فرض لها). (4) مجموع الفتاوى (32/ 26 وما بعدها).

(2/555)


وكلاهما فعلٌ يفعله. وأيضًا؛ فاعتقاده زوال الملك وامتناعه من الاستعباد والاستمتاع فعلٌ يَقصده وينشئه من حين وقوع الطلاق، وهذا كالصوم فإنه مأمور به وإن كان كفًّا وإمساكًا. فلو قال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ صومُ شهرٍ، أو إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ صوم شهر = لم يكن الواجب بهذا النذر إلا إمساكًا يمسكه، ولو قال: لله عليَّ صومُ يوم الاثنين والخميس أو صوم الشهر الفلاني = كان الواجب صوم زمانٍ معيَّنٍ، وذلك إمساكٌ في ذلك الزمان، والصوم هنا ليس في الذمة ولا يحتاج إلى إنشاء فعل، بل إنما عليه الإمساك عن الفطر مع النية، وإذا وقع العتاق والطلاق فعليه الإمساك عن الاستعباد والاستمتاع مع اعتقاد زوال الملك، وهو لو حلف بنذر صوم معين أو مطلق أجزأته كفارة يمين. فتبيَّن أَنَّ العتق والطلاق قد يوجب أفعالًا من جنس ما يوجبه النذر، وأَنَّ النذر قد يوجب إيقاعَ حكمٍ في عينٍ مِنْ جِنْسِ ما يوجبه الإعتاق والتطليق؛ وظهر بهذا أَنَّ ما ذكر من [152/ أ] أن النذر إنما موجِبه شيء في الذمة لا أثر له في غير الناذر = كلامٌ باطل، بل من النذر ما يكون موجِبه ثبوتَ حكمٍ في شيء غيره، وَيَرِدُ على محلٍّ خارجٍ عنه يتأثر به كالطلاق والعتاق الواردين على الزوجة والمملوك، مثل: ورود الوقف على العين الموقوفة، وورود جعل المال المعيَّن هديًا وأضحية وصدقة على العين المعينة، وهذا مما اتفق عليه العلماء؛ اتفقوا على أَنَّ النذر ينقسم إلى مطلق في الذمة ومُعيَّن، كما أَنَّ الهدي والأضحية تنقسم إلى مطلق في الذمة ومعين، فليس من شرط المنذور أَنْ يكون مطلقًا في الذمة يمكنه فعله وتركه.

(2/556)


وقول المعترض: (الفرقُ: نذر اللجاج والغضب معناه: التزام أمر على تقدير ثبوت أمر يقصد عدمه، أو عَدَمُ أَمرٍ يقصد ثبوته) ليس بحدٍّ جامع، بل منه ما يكون إثبات حكم في عين معينة خارجة عنه، يرد النذر على ذلك المحل الخارج المعين. فقوله: (إِنَّ مورد النذرِ الذمةُ لا غير) خطأٌ محض باتفاق العلماء، وليست أمثلة نذر اللجاج والغضب منحصرة في قوله: فعليَّ أَنْ أتصدق أو أعتق أو أحج أو أطلق ونحو ذلك من الصيغ الذي تُثْبِت وجوب فعلٍ في الذمة، بل من أمثلته ما يقتضي إثبات حكم في عين معينة، كقوله: إِنْ فعلت فثلث مالي صدقة، وفرسي وقف على الفقراء والمساكين، وماشيتي هدي في سبيل الله أو أَضَاحِيْ لله، ومالي الذي في ذمم الناس فهم برآء منه، وقاتل أبي وأخي بريءٌ من القَوَد الذي لي عليه وأمثال ذلك؛ فهذا ونحوه مُعَلَّقُ الوقوعِ كمعلَّق الطلاق والعتاق، وهو لو علَّقَهُ تعليق نذر لوقع، ولم يكن متمكنًا من الرجوع عن مقتضاه، كما لا يتمكن المطلِّق والمعتِق الذي شرط في كلامه صيرورة المرأة طالقًا والعبد حرًّا من غير أن ينشئ لهما طلاقًا وعتقًا. وكذلك هنا؛ عَلَّقَ مصيرَ المال وقفًا وهديًا وأضحية وصدقةً من غير أن ينشئ لها وقفًا وهديًا وأضحية ولا إبراء من الدين والقود ونذر تصدق، بل قد يجب عليه موجَب [152/ ب] كونه هديًا ووقفًا وصدقة، وذاك زيادة عملٍ واجبٍ في الذمة من غير أن يتمكن من رَفْع (1) ما أوقعه من هذه الأعيان، وهو مع هذا إذا كان قصده بالتعليق اليمين أجزأته الكفارة، ولم يصر ذلك وقفًا ولا هديًا ولا أضحية، ولا تَبرأ ذمة المعين إذ كان قصده اليمين لم يقصد _________ (1) في الأصل: (وقع)، والصواب ما أثبتَ كما سيأتي في الفقرة التالية.

(2/557)


إيقاع ذلك عند الشرط. الجواب الثالث: أنه بتقدير أن يكون النذر وجوب فعل في الذمة؛ فيقال له: لا ريب أَنَّ المعلَّق في النذر وجوب تلك الأفعال، كما أن المعلَّق هناك وقوع العتق والطلاق، ولو كان التعليق نذرًا محضًا ــ وهو نذر التبرر ــ للزم ثبوت هذا الوجوب المعلق في الذمة، ولم يمكنه رفع وجوب هذه الأفعال عن ذمته بكفارة ولا غيرها، ولم يكن متمكنًا من رفع هذا الوجوب، كما لا يتمكن من رفع وقوع الطلاق والعتاق، فالوجوب كالوقوع. ثم إذا قصد بالنذر اليمين لم يثبت هذا الوجوب عند الشرط، بل تجزئه كفارة يمين إلا أَنْ يَلزم مقتضى التعليق، وهو فعل ما أوجبه؛ كذلك في تعليق الطلاق والعتق على وجه اليمين لا يثبت هذا الوقوع عند الشرط، بل تجزئه كفارة يمين إلا أن يلزم مقتضى التعليق ــ وهو وقوع الطلاق والعتق ــ فينشئ حينئذٍ إعتاقًا وطلاقًا، وإذا فعل ذلك لم يكن عليه كفارة يمين هنا، كما ليس عليه كفارة يمين إذا فعل ما عَلَّقَ وجوبه؛ هذا مذهب الجمهور. وذكر أحمد بن حنبل أَنَّ هذا إجماعًا، وفيه قولٌ للشافعي اختاره طائفة من الخراسانيين، وذُكِرَ ذلك رواية عن أحمد حكاها جماعة من أصحابه أنه لا بُدَّ من الكفارة. والمقصود: أنَّ ثبوت الوجوب في الذمة بالتعليق القَسَمِيِّ والإيقاعي كثبوت الوقوع بالتعليق القسمي والإيقاعي، ليس بينهما فرق مؤثر أصلًا البتة، فإذا كان قصد اليمين مانعًا من ثبوت الوجوب = كان ــ أيضًا ــ مانعًا من ثبوت الوقوع.

(2/558)


الجواب الرابع: أَنَّ قولَ المفرِّقِ بينهما: إنه إذا قال: (إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُعتق عبدي [153/ أ] فلانًا؛ كان هذا من نذر اللجاج والغضب، لأنَّ المشروط التزام إنشاء عتقه لا وقوع عتقه، والملتزم للإنشاء قد يفي بما وجب عليه وقد لا يفي، وأما المعلِّقُ للوقوع فغير متمكن من الرجوع عن مقتضاه، والمعلِّق للطلاق والعتاق المشروط في كلامه (1) صيرورة المرأةِ طالقًا والعبد حرًّا؛ لا أنه ينشئ لهما طلاقًا وعتقًا، هذا مقتضى كلامه ومقصوده، وبينَ المعنيين بَونٌ عظيم؛ فقد لاحَ الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج والغضب). يقال له: الفَرْقُ كالجمع؛ فلا يجوز أَنْ يُجْمَع بين فرعٍ وأصلٍ ولا يفرق بينهما في الأحكام الشرعية إلا بالصفات المؤثِّرة في الشرع التي عَلَّقَ بها الشارع الأحكام لا بغير ذلك من الصفات، وإِنْ كانت من أظهر الأمور (2)، وَمَنْ جَمَعَ بينَ ما فَرَّقَ الله بينه كان بمنزلة الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، وقالوا: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله= فقاسوا الميتة على المُذَكَّى، والربا على البيع. _________ (1) في الأصل: (كلاهما)، والمثبت هنا هو المثبت في أول الفصل، والمثبت - كذلك - في «التحقيق». (2) قرر هذا المعنى ابن تيمية في كثيرٍ من المواضع منها: مجموع الفتاوى (20/ 395) (21/ 27) (23/ 297) (24/ 35) (27/ 316)، الفتاوى الكبرى (6/ 267)، مجموعة الرسائل والمسائل (2/ 4)، جامع المسائل (2/ 206)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 155)، الاستقامة (1/ 343)، الصارم المسلول (3/ 771)، شرح عمدة الفقه (1/ 330). وانظر: (ص 101 وما بعدها، 931).

(2/559)


ومَنْ فَرَّقَ بين ما جمع الله بينه كان بمنزلة من يقول: الميراث للابن الكبير الذي يَرُدُّ الغَارةَ دون النساء والصبيان، فَيُفَرِّق في الميراث بين ما جمع الله بينه، فإنَّ الله ــ تعالى ــ سَوَّى في الميراث بين الصغير والكبير، والغني والفقير، وإِنْ كان قد فَرَّقَ بينهما في أحكام أخرى. ومن الأول (1) أَنْ يقول: إِنَّ البُضْعَ كالمال، فإذا مات الإنسان ورث وليه امرأته كما يرث ماله، أو يقول: الظهار كالطلاق، لأنه لفظٌ قُصِدَ به الطلاق، فيكون كنايةً فيه كسائر الكنايات؛ ونحو ذلك من الأقيسة التي تتضمن الجمع بين ما فَرَّقَ الله ــ تعالى ــ بينه. ومن الثاني أَنْ يقول: إذا كان الحانث في يمينه غنيًّا فينبغي أَنْ يؤمر بكفارة الظهار، فإنَّ فيه تغليظًا (2) عليه بخلاف الفقير، فيريد أَنْ يفرق بين ما جمع الله ــ تعالى ــ بينه، وكذلك إذا قال: يجوز للإنسان أَنْ يعتق عبد غيره ويؤدي ثمنه، لأنَّ هذا قربة إلى الله ــ تعالى ــ بخلافِ الطلاق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد سَوَّى بينهما حيث قال: [153/ ب] «لا عِتْقَ لابن آدم إلا فيما يملك، ولا طلاق لابن آدم إلا فيما يملك» (3)، ونظائر هذا كثيرة (4). فإنَّ كثيرًا من الصفات التي يَظُنُّ كثير من الناس أَنَّ لها ما يؤثر (5) في الجمع والفرق، وهي ملغاة عند الله ــ تعالى ــ ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما ذكره هذا _________ (1) أي: الجمع بين ما فَرَّق الله ورسوله بينه. (2) في الأصل: (تغليظ)؛ والصواب ما أثبتُّ. (3) تقدم تخريجه في (ص 480). (4) انظر بعضًا منها في المواضع التي تقدم ذكرها قريبًا. (5) في الأصل: (يرى)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/560)


المُفَرِّق وأمثاله من هذا الباب. فيقال له: المعلَّق في النذر إذا كان هو وجوب فعل يلتزمه في ذمته، والمعلَّق في الطلاق والعتاق هو وقوع حكم في محل معين لا يحتاج إلى إنشاء طلاق وعتاق= عديم التأثير، فإنه إذا عَلَّق فعل ما يقصد به النذر، كقوله: إِنْ شفى الله مريضي أو سَلَّم مالي الغائب فعليَّ أَنْ أحج حجة أو أتصدق بألف درهم أو أصوم شهرًا أو عليَّ أن أعتق عبدي فلانًا = فالمعلَّقُ هنا: وجوب فعل في ذمته قد التزمه عند الشرط، وقد يَفي بما وجب عليه وقد لا يفي، وليس المشروط عتقًا بل إنشاءُ عتق، ومع هذا فلما كان تعليقًا لازمًا ثبت الوجوب في ذمته، ولم يكن مخيَّرًا بين الفعل والترك بالنص والإجماع. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] وهذا نذرٌ في الذمة لا شيء معين. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يطيع الله فليطعه» (1)، وقال في ذم القَرْنِ الرابع: «ويَنذرون ولا يُوفون» (2)، وقال: «آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّثَ كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» (3)، والناذر قد وعد الله ــ تعالى ــ وعدًا يجب عليه الوفاء به، كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 6). (2) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2535) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -. (3) أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(2/561)


يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77]. وبالجملة؛ هذا النذر لازمٌ بالإجماع، وقد ذكر بعضهم أنه يجزئ فيه الكفارة، وذكر بعضهم هذا عن أحمد، وهذا غلط على أحمد، وما عُلِمَ بهذا القول قائلٌ معين، وبكل حال؛ فهو يوجب إما المنذور وإما الكفارة. ولكن ذُكِرَ هذا عن بعض أهل الحديث محتجين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (1)، وليس لهذا القول أصل معروف عن أحمد، والوفاء بنذر الطاعة واجب بالكتاب والسنة والإجماع. وبالجملة؛ فهذا مُسَلَّمٌ بين طوائف الأمة، وإذا كان كذلك مع أن الناذر التزم في ذمته فعل أشياء وقد وجبت عليه لما كان قادرًا = عُلِمَ أَنَّ كون المنذور التزامُ فعلٍ في الذمة ليس هو وصفًا مانعًا من لزوم الجزاء وثبوتِ الوجوب في الذمة إذا حصل التعليق الموجب لذلك، فلما سقط هذا في نذر اللجاج والغضب عُلِمَ أَنَّ المُسْقِطَ ليس هو هذا الوصف المشترك بين نذر التبرر ونذر اللجاج والغضب، بل وصف مختص بنذر اللجاج والغضب إذ لو كان المُسْقِطُ مشتركًا لم يجب شيء من المنذورات، وهو خلاف ما اتفقوا عليه، وخلاف ما سَلَّمه كل منازع، وخلاف النص. ويتبين بذلك أَنَّ هذا المُفَرِّق فَرَّقَ بوصفٍ مُهْدَرٍ مُلغًى في الشرع، وجعل هذا الوصف مانعًا من الوجوب وليس بمانع منه، بل الوجوب ثابت معه إذا حصل النذر الموجب، وأَنَّ الوجوب إنما لم يحصل في نذر اليمين لانتفاء (2) النذر الموجب، لا لكون المنذور فيه التزام فعلٍ في الذمة. _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92). (2) هكذا قرأتها.

(2/562)


فالفرق الشرعي هو: فَرْقٌ يعود إلى نفس عقد التعليق، وقصدِ المعلِّق الناذر والحالف، لا فَرْقٌ يعود إلى نفس المعلَّق؛ هل هو التزام فعل في الذمة أو إيقاع حكم في عين؟ ومعلومٌ أَنَّ الفرق العائد إلى عقد النذر وقصد المعلِّق الناذر الحالف المطلق المعتق، غيرُ الفرق العائد إلى الأمر المعلَّق هل هو إلزام أم إيقاع؟ والشارع إنما اعتبر الفرق العائد إلى العقد والعاقد، لا الفرق العائد إلى المعقود عليه؛ فليتدبر اللبيب هذا، يتبين له غلط من أَلغى الصفات الشرعية التي ناط الشارع بها (1) الأحكام، واعتبرَ صفاتٍ بدعيةً ما أنزل الله بها من سلطان، ويتبين له أن العقد الموجب للأمر المعلَّق موجَبه، وإِنْ كان المعلَّق وجوب فعل في الذمة، وأنه إِنْ [154/ ب] كان غير موجَب لم يوجِبه، وإن كان المعلَّق وقوع حكم في عين. ويقال لهذا المُفَرِّقِ بالفروقِ الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان، المعرضِ عن الفروق الشرعية الدينية التي أنزل الله بها سلطانه ــ وهو كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - [ ... ] (2) ــ: الوقوعُ المعلَّق هنا كالوجوب المعلَّق هناك، وأنت تجعل الوجوب لازمًا في نذر التبرر، ولا تجعله لازمًا في نذر اليمين، وكلاهما قد اقتضى تعليقُهُ التزامَ فعلٍ في الذمة، فلو كان كونه التزام فعل في الذمة هو المانع من وجوبه = لم يجب بالنذر شيءٌ في الذمة، وليس الأمر كذلك؛ بل يجب في الذمة ما أوجبه النذر، وإنما لم يجب في نذر اليمين لأنه لم يقصد النذر، بل قصد اليمين، وهو كارهٌ للزوم الجزاء وإِنْ وُجِدَ الشرط، وهذا المعنى بعينه موجود في تعليق الطلاق والعتاق، فإنْ كان _________ (1) في الأصل: (بهذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) بياض في الأصل مقدار كلمة، ويظهر أنَّ الكلام متصل؛ والله أعلم.

(2/563)


المعلِّق قاصدًا للوقوع وقع ولم يرتفع، وإِنْ كان قاصدًا لليمين لم يقع طلاق ولا عتاق، كما لم يجب هناك حج ولا صلاة ولا صيام ولا صدقة. وقوله: (الملتزم للإنشاء قد يَفِي بما وَجَبَ عليه وقد لا يفي). يقال له: له (1) اختيار في الفعل، لكن لا اختيار له في وجوب الفعل عليه، بل هو في تعليق النذر يجب عليه الفعل، وإِنْ كان قد يفي وقد لا يفي، ثم هذا الوجوب انتفى في تعليق اليمين المسمى بنذر اللجاج والغضب، وأما وقوع الطلاق والعتاق فلا اختيار له في رَفْعِهِ إذا أوقعه منجَّزًا أو معلقًا تعليقًا يَقصد به إيقاعه. وأما إذا كان قصده اليمين فلا نُسَلِّم أنه وقع، بل ولا يمكن وقوعه مع هذا القصد، كما لا يمكن ثبوت وجوب تلك الأفعال مع قصد اليمين، لكن إِنْ وَفَّى بموجب التعليق فأوقعه وقع بإيقاعه لا بنفس التعليق ولا كفارة عليه، كما أنه هناك إِنْ وَفَّى بفعل ما أوجبه التعليق من العبادات برئت ذمته ولا كفارة عليه، لأنه فعل ما أوجبه التعليق، كما أنه هنا أوقع ما أوجبَ التعليقُ وقوعه، لكن هناك يبرأ بالفعل الذي عَلَّقَ وجوبه ولم يجب، وهنا يبرأ [155/ أ] بإيقاع العتاق والطلاق الذي علق وقوعه ولم يقع، فإنَّ المقصودَ من وجوب الفعل نفس الفعل، والمقصود من الإيقاع الوقوع؛ [فالوقوع المعلق لا يقع بحال لا بذلك التعليق، وقد علق الوجوب ومع قصد اليمين إلا بإيقاعه لا يحصل الوجوب] (2)، لكن انعقد سبب الوجوب، فإذا فعل ما انعقد سبب وجوبه برئت ذمته، كما لو فعله بعد الوجوب، فإنَّ غايةَ سبب _________ (1) كتب الناسخ فوقها كلمة (صح). (2) ما بين المعقوفتين لم يتضح لي معناه!

(2/564)


الوجوب إِنْ ثبتتْ الوجوب، ولو أثبته لبرئ بفعل الواجب. وأما تعليق الإيقاع فمقصوده المتضمن للوقوع، فإذا قصد اليمين لم يحصل إيقاع ولا وقوع، لكن إذا أوقعه فقد فعل ما انعقد سبب وقوعه، وغايته: سبب (1) الوقوع أن يكون موجبًا للوقوع، فإذا أوقعه فقد برئ، فإنه فعل ما يقتضيه التعليقُ الموجِبُ للإيقاعِ؛ فكيف بما هو سبب للإيقاع من غير إيقاع؟ الوجه الخامس: قوله: (فقد لاح الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج والغضب). فيقال له: بل قد تبين أنهما سواء عند الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الفرق بينهما من جنس فرق الجاهلية، وإنما فرق الشارع بين مَنْ يقصد اليمين ومن يقصد النذر، ولم يفرق بين من عَلَّقَ شيئًا في الذمة وعلق حكمًا في عين. فالشارع فَرَّقَ بين نذر اللجاج والغضب ونذر التبرر؛ فأوجب نذر التبرر مع ما ذكره من الوصف المانع من لزومه، وهو كونه التزم أمرًا في الذمة، فهذا الوصف جعله المفرِّق هو المانع من وجوب المنذور، والشارع لم يجعله مانعًا من وجوب المنذور، بل جعل المانع هو قصد اليمين، وقصد اليمين هو المشترك بين اليمين بالنذر واليمين بالطلاق والعتاق، وأما التزام فعل في الذمة فهو مشترك بين نذر التبرر ونذر اليمين، والشارع فَرَّقَ بالوصف الأول الذي ألغاه هذا المفرق، وجَمَعَ بالوصف الثاني الذي اعتبره هذا المفرق، فَفَرَّقَ بين ما جمع الله ورسوله بينه، [155/ ب] وَجَمَعَ بين ما _________ (1) هكذا قرأتها، وتحتمل غير ذلك.

(2/565)


فَرَّقَ الله ورسوله بينه، حيث اعتبر بالوصف المشترك بين نذر التبرر ونذر اليمين، وهذا وصفٌ ملغًى عند الشارع (1)، وألغى الوصف المشترك بين الحلف بالنذر والحلف بالطلاق والعتاق، وقد اعتبر الشارع هذا الوصف = فكان في جمعه وفرقه جامعًا مُفَرِّقًا بوصفٍ لم يجمع الله به ولا رسوله، وتاركًا للجمع والفرق الذي اعتبره الله ورسوله. = جَعَلَ المؤثِّر في نذر اللجاج كونه إلزامًا في الذمة، وهذا الوصف منتفٍ في الحلف بالطلاق والعتاق، موجودٌ في تعليق النذر، وَقَصَدَ بذلك أَنْ يُفَرِّقَ بين الحلف بالنذر والحلف بالطلاق والعتاق، ولو كان ما قاله صحيحًا لم يجب نذر شيءٍ في الذمة لوجود هذا الوصف، والشارع إنما جعل المؤثر في التعليق الذي يقصد به اليمين= كونه قصد اليمين، لا لكونه التزم شيئًا في الذمة، وهذا الوصف موجود في الحلف بالعتاق والطلاق؛ فيجب التسوية بينهما في ذلك. الجواب السادس: قوله: (نعم؛ هو فيه شَبَهٌ منه من جهة أَنَّ كلًّا منهما منع نفسه من الشرط المذكور أو حثها). يقال له: ليس الشبه بينهما مجردَ ما ذكرتَهُ من الحثِّ والمنع من الشرط، فإنَّ هذا المعنى موجود في تعليق الوعيد؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، فإنَّ هذا فيه حَثٌّ على الشرط وَمَنْعٌ منه، وليس هو من الأيمان في شيء، ولا يُسَمِّي أحد هذا يمينًا، ولا حُكْمُهُ حُكْمُ اليمين. _________ (1) كتب الناسخ في الهامش: (الشرع) وفوقها حرف (خ).

(2/566)


وكذلك إذا عَلَّقَ الطلاق بصفة يكرهها، ولكن يختار الطلاق إذا وقعت، كقوله: إذا تزوجتُكِ فأنتِ طالق؛ فإنَّ هذا وإن كان مقصوده المنع من الشرط، فلم يقل أحد من الصحابة أَنَّ هذا يمين، بل ولا من التابعين، ولا قال مُسْلِمٌ أَنَّ هذا يمين مكفرة، وإنما النزاع فيما إذا حلف بمثل ذلك. ولكن وجه الشبه بينهما: أَنَّ كلًّا منهما فيه حضٌّ ومنع، مع أَنَّ المعلِّقَ لا يريد الجزاء عند الشرط، فالمعلِّق لا يريد الشرط ولا الجزاء إذا وجد الشرط، [156/ أ] فهما مشتركان في كراهة الشرط وكراهة الجزاء وإن وجد الشرط. الجواب السابع: قوله: (ولكنه بسببين مختلفين؛ في نذر اللجاج بسبب خوفه من لزوم ما التزمه على ذلك التقدير، وهنا بسبب خوفه من وقوع ما أوقعه على ذلك التقدير، وما حصل الحث والمنع إلا بهذا الاعتبار). فيقال له: هذا القدر المشترك بينهما، وهو أن كلًّا منهما منع نفسه أو حثَّهَا بسبب خوفه من المحذور الذي علَّقه وهو يكره لزومه إياه، وهو معنى اليمين الذي به فُرِّقَ بين نذر اللجاج والغضب وبين نذر اليمين، وكون الخوف هنا من لزوم ما التزمه، والخوف هنا وقوع ما أوقعه = فَرْقٌ عديمُ التأثير، وكما أن لزوم ما التزمه على ذلك التقدير لا يثبت مع قصد اليمين فكذلك وقوع ما أوقعه لا يثبت على ذلك التقدير مع قصد اليمين، فدعوى المدعي أن قصد اليمين مانع من اللزوم وليس مانعًا من الوقوع تفريق بين المتماثلين، وليس هنا فرق شرعي أصلًا.

(2/567)


الجواب الثامن: قوله: (فهذا فرقٌ جليٌّ واضحٌ). يقال له: فَرْقٌ بين كون هذا المعلَّق لزومًا والمعلَّق هنا وقوعًا، وقد تبين أن هذا الفرق ليس له تأثير في الشرع، بل قد يكون المعلق لزومًا ولا يجب (1) إذا كان قصده اليمين، وإنما امتنع اللزوم لقصد اليمين لا لكونه لزومًا، وقصد اليمين موجود في تعليق الوقوع؛ فدعواه أن نذر اليمين لا تَلزمه (2) لكونه لزوم أمرٍ التزمه = كلامٌ باطلٌ، فإنَّ هذا الوصف ثابت في نذر التبرر وقد لزمه فيه ما التزمه؛ فعلم أن هذا الوصف تارة يثبت معه اللزوم وتارة لا يثبت، فلم يكن له أثر في إثباته ونفيه، وإنما المؤثر في نفي اللزوم كونه قَصَدَ اليمين، وهذا المعنى موجود في تعليق الوقوع إذا قصد به اليمين؛ فالفرق الواضح في دين المسلمين يوجب الفرق بين ما جَمَعَ بينه والجمع بين ما فَرَّقَ بينه بخلاف ما ذكره. وأما قوله: إِنَّ هذا بَيِّنٌ؛ أَنَّ هذا ــ يعني: تعليق الطلاق والعتاق ــ ليس من نذر [156/ ب] اللجاج والغضب في وِرْدٍ ولا صَدَر = فكلامُ من لا معرفة له بما في هذه المسألة من المنقولات، ولا بما فيها من الأدلة الشرعية. فإنْ قَصَدَ أَنَّ تعليق الطلاق والعتاق إذا قُصِدَ به اليمين ليس معناه معنى نذر اللجاج والغضب في أن كلًّا منهما قصد به اليمين لم يقصد به لزوم الجزاء = فهذه مكابرة، وإِنْ أراد أَنَّ المعلَّق في هذا التزامٌ لفعلٍ، وفي هذا إيقاع لحكم؛ فقد قدمنا أَنَّ هذا الوصف ممنوع في الأصل والفرع، وأنه لو كان كذلك لكان فرقًا عديم التأثير، وأَنَّ المؤثِّرَ في الفرق إنما هو قصد اليمين، وأما كونه التزامًا لفعل فثبت لزومه إذا قصد النذر. _________ (1) في الأصل: (ويجب)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (تلزمه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/568)


وأيضًا؛ فقد ثبت عن غير واحد من الصحابة - رضي الله عنهم - التسويةَ بين تعليقِ النذر وتعليقِ العتق إذا قصد به اليمين، بل لم يُنقل عن الصحابة - رضي الله عنهم - إلا التسوية بين تعليق العتق وتعليق النذر إذا قصد به اليمين، لم يُنقل عن أحدٍ منهم لا بإسنادٍ صحيح ولا ضعيف أنه فَرَّقَ بين نذر العتق والطلاق وبين تعليق النذر إذا قصد بهما اليمين. فإذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - لم يُنقل عنهم إلا التسوية بينهما سواء قالوا هما يمين يُكفرها أو قالوا بلزوم ما التزمه = كان المُفَرِّقُ بينهما مخالفًا لإجماع الصحابة الذي لم يعلم فيه نزاع بينهم، وكان مُفرِّقًا بين ما سوّى الصحابة بينهما، وكان ــ أيضًا ــ ملغيًا للمعنى الذي اعتبره الله ــ عز وجل ــ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى اليمين، ومعلِّقًا للحكم بوصف ملغًى عند الله ــ تعالى ــ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو كونه التزامُ فعلٍ مع أَنَّ هذا الملتزم يلزمه ما التزمه إذا كان ناذرًا؛ فالوصف منتقضٌ عديم التأثير، والفرق بمثل هذا في غاية الفساد. فإنَّ الوصفَ يَبطلُ بالنقض ويَبطلُ بعدم التأثير؛ فكيف إذا اجتمعا جميعًا؟! فإنه لا يكون مطردًا ولا منعكسًا، بل يثبت والحكم منتفٍ، وينتفي الحكم وهو ثابت، فقد يكون الالتزام موجودًا والحكم ــ الذي هو الكفارة ــ منتفٍ، ويثبت الحكم ــ الذي هو الكفارة ــ والالتزام في الذمة منتفٍ. وقوله: (ليس من نذر اللجاج والغضب [157/ أ] في وِرْدٍ ولا صَدَر)؛ فكلامٌ يستلزم إسرافًا (1) إما من (2) قلة العلم والفقه، وإما من قلة العدل والإنصاف. _________ (1) في الأصل: (إسرافٌ). (2) في الأصل: (في).

(2/569)


فإنَّ جماهير علماء المسلمين من السلف والخلف يُسَوون بين تعليق الطلاق والعتاق وبين تعليق النذر؛ إما في لزوم المعلَّق، وإما في القول بالتكفير، وإما في نفي هذا وهذا. والمنقول عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ في هذا الباب بالإسناد الصحيح والضعيف ليس في شيء منه التفريق، بل إنما فيه التسوية بينهما؛ إما في الكفارة ــ وهي النقل الثابت بلا ريب عنهم ــ، وإما في الإلزام بالجميع، وأَمَّا الفرق (1) بينهما فلم ينقله أَحَدٌ علمناه عنهم بإسنادٍ صحيح ولا ضعيف. وأيضًا؛ فلا يستريب عاقل أَنَّ بَيْنَ التعليقين إذا قُصِدَ بهما اليمين قَدْرًا مشتركًا، وهو قصد اليمين، فإنَّ هذا معلوم بالضرورة، ولا يستريب عاقل أَنَّ كونَ المعلِّق قصد بتعليقه اليمين وصفٌ مؤثر عند جمهور علماء المسلمين من السلف والجمهور، وهو الثابت عن الصحابة وعامة التابعين = مِنْ جنس التعليق الذي يقصد به اليمين، ثم جمهورهم يقولون: هي يمين مكفرة، ومنهم مَنْ قال: هي يمين غير محترمة، وليست من أيمان المسلمين، فلا كفارة فيها. وأما القول بأنَّ القاصد قصد يمينًا لازمًا (2) بقوله بل (3) يلزمه ما علَّقه= فليس هو قولًا مشهورًا عن الصحابة والتابعين، وإنما اِشْتَهَرَ بعد ذلك، ثم القائلون به يسوون بين تعليق النذر وتعليق الطلاق في لزوم الجميع، والذين _________ (1) في الأصل: (لِفَرقٍ)، والصواب ما أثبت. (2) هكذا قرأتها، وحرف الزاي ساقط من الأصل. (3) كذا في الأصل، ولعلها: (بأن).

(2/570)


فَرَّقُوا بين التعليقين من المتأخرين كالشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد ومَنْ قد يُنقل عنه ذلك من السلف، كرواية منقولة عن الحسن البصري (1) بأنهما يشتركان في وصف بظن (2) المجتهد= فهؤلاء يعترفون أنه مؤثر، ولهذا يذكرون ما يذكرونه من الفرق؛ لا يقول عالمٌ منصفٌ: إِنَّ هذا ليس من وِرْدٍ ولا صَدَر. ومعلومٌ أَنَّ التصريح بالفرق بين تعليق الطلاق والعتاق كما أنه ليس منقولًا بإسناد عن الصحابة فليس هو مما كثر نقله عن التابعين، بل لست أعلم نقلًا مصرحًا إلا في رواية الحسن البصري روي عنه بخلافها، وخلافُهَا أثبت عنه؛ روي ذلك من وجهين، لكن قد [157/ ب] يقال ذلك بطريق التخريج، كما يقال نقيضه بطريق التخريج، فإنه قد تنقل (3) عنهم أجوبة قليلة في مسائل من تعليق الطلاق الذي يحلف به أنه يلزمه الطلاق؛ وحينئذٍ فيكون قولهم في العتق كذلك لعدم الفرق. ومِنْ هؤلاء مَنْ نُقِلَ عنه في تعليق النذر أنه تجزئ فيه الكفارة (4)؛ كما نُقِلَ هذا وهذا عن عطاء وبعض التابعين. وحينئذٍ؛ فهذا التخريج يقابَل بمثله من وجهين: أحدهما: أَنْ يقال: بل يخرج عنهم في تعليق النذر ــ أيضًا ــ أنه يَلزم، كما قالوا في تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين، أو أَنْ يقال: بل مِنْ هؤلاء _________ (1) تقدمت هذه الرواية في (ص 133). (2) في الأصل: (يظن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (يقال)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) كتب الناسخ في الحاشية: (كفارة) وفوقها حرف (خ).

(2/571)


مَنْ قال في تعليق العتق إن فيه كفارة وإنه لا يلزم الحالف به؛ وحينئذٍ فالطلاق لا يلزم الحالف به بطريق الأولى. ومِنْ هؤلاء مَنْ عُرِفَ قولُهُ في تعليق النذر ولم يُعرف قوله في تعليق الطلاق والعتاق، ولكنهم علقوا الحكم بكونها يمينًا، وهذا معنًى موجود في كل تعليق يقصد به اليمين، فيكون قولهم في تعليق الطلاق والعتاق إذا قصد به اليمين أنه يكفر. ففي الجملة؛ [فمنهم] (1) مَنْ لم يُعرف مِنْ قولِهِ أنه يفرق بين تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين وبين تعليق النذر، لكن كثيرٌ منهم عُرِفَ قوله في تعليق النذر الذي يقصد به اليمين أنه لا يلزمه ولم يُعرف قوله في تعليق الطلاق والعتاق، ومنهم مَنْ عُرِفَ قولُهُ أَنَّ تعليق العتاق عنده كتعليق النذر ولم يُعرف قوله في تعليق الطلاق، ومنهم مَنْ نُقل عنه في بعض مسائل تعليق الطلاق أنه يلزم ولم يُعرف قوله في تعليق العتق والنذر أو في أحدهما، ومنهم مَن اختلفتِ الروايةُ عنه في بعض ذلك. فإنْ لم يجز نقل قول أحد بالتخريج والاستنباط والقياس= لم يجز أن ينقل عن أحد منهم الفرق بين تعليق الطلاق والعتاق، وفي تعليق النذر نقلٌ شاذٌ كروايةٍ عن الحسن نُقِلَ عنه من وجهين، أَثبتُ منها ما يخالفها. وإِنْ جاز نقل أقوالهم بالتخريج والاستنباط والقياس؛ فمعلومٌ أَنَّ القولَ الذي عُرِفَ أَنَّ الجمهورَ يقولونه من التسوية بين تعليق الطلاق [158/ أ] والعتاق وبين النذر؛ إما في لزوم المعلق وإما في لزوم التكفير وإما في _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(2/572)


عدمهما = أولى أن ينقل عنهم من الفرق؛ فإن الجميع من التعليقات التي يقصد بها اليمين إما في اللزوم وإما في الإلغاء وإما في التكفير = أظهر من الفرق بين تعليق وتعليق، فإنَّ هذا لم يُؤْثَر عن الصحابة، ولا عُرِفَ أنه قولُ واحدٍ من التابعين لم يُختلف عنه فيه، وهو ضعيف جدًّا متناقض، حيث جَعَلَ قصد اليمين تارة يجعل التعليق يمينًا وتارة لا يجعله يمينًا، بل وجعل قصد اليمين مانعًا من اللزوم في الذمة ولم يجعله مانعًا من اللزوم في الأعيان، واللزوم في الذمة أقوى من اللزوم في الأعيان، فإنَّ التصرف في الذمة أوسعُ وألزم من التصرف في الأعيان، وشروط لزومه أيسر بخلاف التصرف في الأعيان فإنها أضيق وشروط لزومها أكثر (1). ولهذا؛ قد ينفذ تصرف المحجور عليه لحق الغير كالمفلس والعبد في الذمة لعدم الضرر في ذلك على السيد والغرماء، ولا ينفذ في العين لتعلق حق الغير بها، والصبي والمجنون تثبت الحقوق في ذممهما ولا تثبت في أبدانهما؛ ولهذا يجب في ذممهما ديون الآدميين كثمن المبيع وبدل القرض بتصرف الولي، ويثبت في ذممهما كثير من حقوق الله ــ تعالى ــ كالخراج والعُشْرِ وصدقة الفطر والزكاة عند أكثر العلماء، ولا يجب على أبدانهما حَدٌّ ولا حَجٌّ ولا صلاة ولا صيام. ويثبت في الذمة ما يتعلق بحق الغير، فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي فلله عليَّ أَنْ أشتري عبد فلان لأعتقه= لزم ذلك، وكان عليه فعل ذلك إن استطاعه. ولو قال: فعبد فلانٍ حر= لم يلزم أن يصير حرًّا باتفاقهم، بل غاية _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 221)، الفتاوى الكبرى (3/ 244). وانظر: (ص 786).

(2/573)


ما يقال: إنه يلزمه أَنْ يشتريه ويعتقه أو إنه يكفر كفارة يمين، لم يقل أحد: إنه يصير حرًّا لأن التصرف في الأعيان له شروط متعددة يقف عليها، بخلاف التصرف في الذمة فإنه أسرع لزومًا. ولهذا؛ لما كان إيجاب الشارع إنما هو على أعيان العباد لم يوجب ما لا يطيقونه، ولما كان النذر يوجبه العبد في ذمته فقد يوجب ما لا يطيقه، ولهذا جَعَلَ الشارعُ النذرَ كالدين الذي في [158/ ب] الذمة، يفعل عن الميت بغير إذنه، بخلاف ما يوجبه الرب بالصلاة المفروضة، لا يصليها أحد عن أحد حيًّا ولا ميتًا بلا نزاع نَعرفه (1). وكذلك الصوم المفروض عند جماهير العلماء إنما بدله عند العجز أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، كما كان كذلك في الكفارة جعل الله الإطعام بدلًا عن الصيام في حقِّ المكفِّر بقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، وكما خَيَّرَ الله ــ عز وجل ــ في أول الإسلام بين الصيام وبين إطعام مسكين، ثم قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، فجعل صيام يوم خير من إطعام مسكين، ولهذا كان جمهور السلف والخلف على أَنَّ العاجز عن صيام رمضان يطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا يأمر أحدًا يقضي عنه الصوم باتفاق _________ (1) قال في مجموع الفتاوى (30/ 203): صلاة الفرض لا يَفعلها أحدٌ عن أحدٍ لا بِأُجرة ولا بغير أُجرة باتفاق الأئمة. انظر: مجموع الفتاوى (10/ 439) (25/ 269)، الفتاوى الكبرى (1/ 185) (2/ 475)، جامع المسائل (4/ 245) (5/ 350)، مسألة في المرابطة بالثغور (ص 38)، منهاج السنة (5/ 228).

(2/574)


العلماء (1). وأما الصوم المنذور فيفعل عن الميت (2)، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه (3)، وهو مذهب ابن عباس وغيره من السلف، وقول فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما. وابن عباس - رضي الله عنهما - نفسه الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يصوم عن الميت وليُّهُ [روي عنه أنه] (4) يفرق بين صيام النذر وصيام الفرض، واتبعه أحمد وإسحاق وغيرهما، وصومُ الفرض لم يدخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (5)؛ فإنَّ الله ــ سبحانه ــ لم يوجب الصيام على مَنْ يَعجز عنه، والميت عاجز بخلاف [الميت الناذر] (6) فإنه أوجبه في ذمة نفسه، وذلك يتناول ما يقدر عليه وما يعجز عنه. ولهذا كان مذهب فقهاء الحديث أن جميع العبادات المنذورة تفعل عن الميت حتى الاعتكاف والصلاة كما نقل عن الصحابة، وهو أصح _________ (1) مراتب الإجماع (ص 72)، جامع المسائل (4/ 245 - 247)، منهاج السنة (5/ 228). (2) مجموع الفتاوى (24/ 310)، الفتاوى الكبرى (3/ 30)، جامع المسائل (4/ 245 - 247)، منهاج السنة (5/ 228). (3) سيأتي تخريج بعضها. (4) في الأصل: (وأنه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (5) أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147) عن عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأخرجه مسلم (1149) من حديث بريدة - رضي الله عنه - بمعناه. (6) في الأصل: (الميتاذر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/575)


الروايتين عن أحمد، لأن النذر المطلق في الذمة، والله ــ تعالى ــ أحق بقبول قضاء (1) الدين الذي في ذمة الميت من العباد؛ كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ذلك، فجاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، إِنَّ أمي ماتت وعليها صوم نذر؛ أفأصوم عنها؟ قال: «أرأيتِ لو كان على أمك دين [159/ أ] فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟» قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك»، وفي لفظ: «فدين الله أحق أَنْ يقضى»، وفي رواية: «أحق بالقضاء» رواه ابن عباس في الصحيحين (2)، وفي لفظ: جاء رجل (3)، وبهذا اللفظ وصل البخاري سنده. فالله ــ سبحانه وتعالى ــ أرحم، ودينه أوجب، ولم يأت في مباني الإسلام ما يُفعل عن الغير إلا الحج، فإنه أَذِنَ للولد أن يحج عن أبيه الشيخِ الكبيرِ، لأنَّ العاجز لا يَقدر أَنْ يحج بنفسه ولا ماله بدون بدن غيره فدخلته النيابة للحاجة، بخلاف الصلاة المفروضة فإنه يقدر أَنْ يصلي بنفسه، والصوم المفروض يمكنه أن يطعم عن نفسه (4). فالشارع أوجب مباني الإسلام على بدنه، فإنْ عجز ففي ماله، فإن عجز عنهما قام غيره مقامه؛ ولهذا قام ولي الصبي والمجنون عنهما مقامهما في الزكاة عند الجمهور، وأما العاقل البالغ فلا بُدَّ أَنْ يؤديها إما بنفسه وإما بنائبه، فيقصد إخراجها؛ فإنْ أَخَذَهَا الإمامُ كُرْهًا سقطت عنه في الظاهر كسقوط الديون التي توفى عنه، ولكن لا يثاب على ذلك إذا لم يقصد _________ (1) في الأصل: (بقضاء)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) أخرجه البخاري (6699)، ومسلم (1148). (3) أخرجه النسائي (2643). (4) شرح عمدة الفقه (2/ 141، 165، 236 وما بعدها)، منهاج السنة (5/ 228).

(2/576)


إخراجها؛ فدخلت النيابة فيما هو حق للعباد دون ما هو حق لله ــ تعالى ــ، فالشارع عليم حكيم رحيم يوجب العبادات بحسب طاقة العباد، وأما الناذر فهو الموجِب على نفسه، وقد نُهِيَ عن النذر، لكن قد يوجب على نفسه ما يعجز عنه؛ فمن رحمة الشارع به أنه جَوَّزَ له أن يأتي ببدل النذر إذا عجز عن المنذور، وإقامة غيره مقامه إذا فات (1)، وحيث عجز عن الأصل والبدل جُوِّزَ له أن يكفر كفارة يمين. ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد أَنَّ ما حَلَفَ عليه الإنسان وعَجَزَ عنه يكفر كفارة يمين، كما يكفر ما عجز عنه من المنذور بكفارة يمين، فإنَّ اليمين سبب للإيجاب، فلا بُدَّ من فعل المحلوف عليه أو الكفارة، كما في النذر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (2). ولهذا كان مذهب أحمد أن إيجاب العبد على نفسه لا يخلو عن فعل الواجب أو بدله أو كفارة يمين، وكذلك تحريمه على [159/ ب] نفسه فيه الكفارة، بخلاف إيجاب الشارع، فإنه لا يوجب إلا ما يقدر العبد عليه، فما عجز عنه سقط بغير كفارة، كما يسقط عنه واجبات الصلاة التي يعجز عنها، وكذلك ما له بدل إذا عجز عن الأصل؛ وهذه المسائل لبسطها موضع آخر. والمقصود: أَنَّ الوجوب في الذمة أوسع وأيسر في الشرع، وشروطه أقل، وموانعه أقل، والوقوع أكثر شروطًا وأكثر موانع، ومع هذا فالتعليق الذي يُقصد به اليمين يَمنع الوجوب في الذمة، فإذا كان مانعًا من ثبوت الوجوب واللزوم في الذمة= فَلَأَنْ يكون مانعًا من ثبوت الوقوع واللزوم في _________ (1) وضع عليها الناسخ (خ)، وفي الهامش (مات) ثم وضعها حرف (خ). (2) سبق تخريجه في (ص 92) وهو في صحيح مسلم.

(2/577)


الأعيان بطريق الأولى والأحرى، فإن كل ما منع اللزوم في الذمة منع اللزوم في الأعيان ولا ينعكس؛ فمن جعل قصد اليمين يمنع اللزوم في الذمة ولا يمنع اللزوم في الأعيان فقد عكس الشريعة، فإن جاز أن تُنقل أقوال الصحابة والتابعين بالتخريج والقياس والاستنباط، فَنَقْلُهُ لما يوافق أصول الشرع ويدل عليه كلامهم أولى من نقله على وَجْهٍ لا يدل عليه كلامهم ويلزمهم مع ذلك مخالفتهم لأصول الشرع. فصلٌ وأما ما ذكره المعترض عن أبي الفتح الطوسي أنه كان يفتي في قوله: الطلاق يلزمني بعدم الحنث، ويقول: إلزام ما لا يلزم فلا يلزم، وأن ذلك مستفيضٌ عنه (1)؛ فهذا القول منقول صريحًا عن أبي حنيفة نفسه. قال أبو الحسين القدوري في شرح مختصر الكرخي: قال محمد في الأصل (2): إذا قال رجل: عليَّ المشي إلى بيت الله وكل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق إذا دخلت الدار. فقال رجلٌ: عليَّ مثلما جعلتَ على نفسك إِنْ دخلتُ الدار، ثم دخل الثاني الدار، فإنه [يلزمه المشي] (3)، ولا يلزمه العتاق والطلاق. ثم قال: ألا ترى أنه لو قال: عليَّ طلاق امرأتي، فإن الطلاق لا يقع عليه. _________ (1) «التحقيق» (43/ ب). (2) (2/ 368). (3) في الأصل: (لا يلزمه شيء)، وهو خطأ لمخالفته لما في كتب الحنفية، ولعدم استقامة الكلام به.

(2/578)


قال: وهذا يُستدل به على أَنَّ مَنْ قالَ: الطلاقُ عليَّ واجب أَوْ لِيْ لازم لا يقع طلاقه. وكان أصحابنا بالعراق يقولون فيمن قال: الطلاق لي لازم: إنه يقع طلاقه لِعُرْفِ الناس أنهم يريدون به الطلاق، وكان محمد بن مسلمة (1) يقول: إِنَّ الطلاق يقع [160/ أ] بكل حال. وحكى الهندواني: عن علي ابن (2) أحمد، عن (3) [نصر] (4) بن يحيى، عن محمد بن مقاتل أنه قال: المسألة على الخلاف. قال أبو حنيفة ــ رحمه الله تعالى ــ إذا قال: الطلاق لي لازم أو عليَّ واجب لم يقع. وقال محمد: يقع في قوله لازم ولا يقع في قوله واجب. وحَكَى [ابن] (5) سماعة عن أبي يوسف في نوادره في رجل قال: أَلزمتُ نفسي طلاق امرأتي، أو ألزمت نفسي عتق عبدي هذا؛ إِنْ أرادَ الطلاق والعتاق فهو واقع، وإلا لم يلزمه. وكذلك لو قال: ألزمت نفسي طلاق امرأتي هذه إنْ دخلتُ الدار، أو عتق عبدي هذا فدخل الدار وقع الطلاق والعتاق إِنْ نوى ذلك، وإذا لم ينو فليس بشيء (6). وهذا القول المنقول عن أبي حنيفة هو قول طائفة من أصحاب الشافعي _________ (1) في المبسوط (9/ 34)، وبدائع الصنائع (5/ 89): محمد بن سلمة. (2) كذا في الأصل بالألف. (3) في بدائع الصنائع: (بن). (4) بياض في الأصل مقدار كلمة أو كلمتين، والمثبت من بدائع الصنائع. (5) في الأصل: (أنَّ)، والمثبت من بدائع الصنائع. (6) انظر: بدائع الصنائع (5/ 89).

(2/579)


الخراسانيين كالقفال وصاحب التتمة (1)، ويفتي به طائفة من أصحاب الشافعي في زماننا من أهل خراسان والجزيرة وبعض أهل تَبريز (2) وغيرهم (3). وحجة هذا القول: أَنَّ قولَ القائلِ: الطلاقُ يلزمني، أو العتق يلزمني، أو أيمان المسلمين تلزمني، أو أيمان البيعة تلزمني = صيغةُ نذر لا صيغة إيقاع، وهذا اختيار بعض المالكية مثل أبي [عمر] (4) بن القطان، ذكر ذلك في الحلف بأيمان المسلمين. وقد تنازع الناس في هذه الصيغ: هل هي صريح في الإيقاع، أو كناية فيه، أو ليست صريحًا فيه ولا كناية؟ على ثلاثة أقوال، وهي ثلاث أقوال في _________ (1) هكذا قرأتها. وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 131)، الفتاوى الكبرى (3/ 305)، قاعدة العقود (1/ 301 - 302) (2/ 310). وقد نسب هذا القول إلى (صاحب شرح التنبيه)، كما وجد هذا النقل عنه في آخر رسالة الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق بخط ابن رشيق (ص 99)، ونقله ابن القيم ــ أيضًا ــ في إغاثة اللهفان (2/ 793). (2) بفتح أولها وكسره، من أشهر مدن أذربيجان، وهي مدينة عامرة حسناء، وأهلُها من أيسر أهل البلاد وأكثرهم مالًا، ولها أسوار محكمة، وبها عِدَّةُ أنهرٍ وبساتين محيطة بها. انظر: الأماكن للهمداني (ص 152)، معجم البلدان (2/ 13)، آثار البلاد وأخبار العباد (ص 339)، مراصد الاطلاع (1/ 252). (3) انظر تسمية بعضهم في: إعلام الموقعين (4/ 433 وما بعدها)، ومعطية الأمان من حنث الأيمان (ص 234 وما بعدها). (4) بياض في الأصل مقدار كلمة أو كلمتين، ولعله ما أثبتُّ؛ فإنَّ لأبي عمر اختيارات وأقوال ينقلها المالكية في كتبهم.

(2/580)


مذهب أبي حنيفة والشافعي، وأما أصحاب مالك وأحمد فعندهم أنها صريحة في الإيقاع إلا ما ذكرته عن ابن القطان، وهذا ظاهر مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، ولكن يحتمل النذر فإن نوى بها ذلك جاز. ومنشأ النزاع: أَنَّ لفظ الطلاق يراد به الإيقاع ويراد به الوقوع، يقال: طلقها تطليقًا وطلاقًا، فطلقت المرأة طلاقًا، فلفظ الطلاق يراد به ما يراد بالتطليق، ويراد به ما يراد بالمصدر طلقت طلاقًا؛ وهذا كما يقال: أنبتَ الله الزرعَ إنباتًا ونباتًا، ويقال: نَبَتَ نباتًا. فإذا قال: الطلاقُ والعتقُ يلزمني؛ فقد يراد به: يلزمني أَنْ أُطَلِّق أو أُعْتِق [160/ ب]، وكذلك إذا قال: أيمان المسلمين أو البيعة تلزمني؛ فقد يراد به: يلزمني أَنْ أحلف بأيمان المسلمين والبيعة، فيكون معنى كلامه: عليَّ أَنْ أُطَلِّق، وعليَّ أن أعتق، وعليَّ أن أحلف بأيمان المسلمين والبيعة. ولو قال: عليَّ أن أطلق كان نذرًا، والنذر لا يجب الوفاء به إن لم يكن طاعة، فإذا لم يكن مأمورًا بالطلاق لم يثبت في ذمته، ولم يجب عليه أن يطلق باتفاق العلماء. ولكن تنازعوا في لزوم الكفارة؛ والمنصوص عن أحمد أَنَّ عليه الكفارة إذا نذر الطلاق، وكذلك قال أصحاب أبي حنيفة [و] (1) الخراسانيون من أصحاب الشافعي إذا قصد بذلك اليمين يكون مراده: والله لأطلقنك. وقد يراد به: وقوعُ الطلاقِ يلزمني، أو وقوع العتق يلزمني، والحلف بأيمان البيعة وأيمان المسلمين تَلزمني؛ قال هذا على سبيل قصد الأيمان= _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(2/581)


كان بمنزلة قوله: أَنتِ مُطَلَّقة، وأَنتِ طالق، ونحو ذلك من الصيغ التي يقصد بها الإنشاء، وقد يراد بها الإخبار بتقديرِ أنتِ (1) مُطَلَّقَةٌ قبل هذا، أو أَنتِ طالق قبل هذا؛ إما مني وإما من غيري، كما يقول الرجل عن امرأة غيره: هي طالق، وهي مطلَّقة؛ يقصد الإخبار بأنَّ زوجها طلَّقَهَا لا أنه هو أنشأ طلاقها. لكن لو قال لزوجته: أَنتِ أو هي أو فلانة طالق أو مُطَلَّقَة وقصد به إنشاء الطلاق لا الإخبار عن طلاقٍ متقدم = كان تطليقًا بلا نزاع. فكذلك قوله: الطلاق لازمٌ لي أو العتق لازمٌ لي إذا قصد به أَنَّ وقوعه لازمٌ لي في الحال أو يلزمني في الحال = كان إيقاعًا ولم يكن نذرًا، ولكن كثيرًا ما يستعمل ذلك في اليمين، بل هو الغالب؛ فيقول: الطلاق يلزمني أو لازم لي لأفعلنَّ كذا؛ كما يقول: الحرام يلزمني لأفعلنَّ كذا، والحج يلزمني لأفعلنَّ كذا، والظهار يلزمني لأفعلنَّ كذا، أو إِنْ لم أفعل كذا؛ فهنا قد جعل ذلك لازمًا له إذا حنث، والحنث مستقبل، ولم يجعل ذلك لازمًا له في الحال. وصيغة المضارع واسم الفاعل تصلح للحال والاستقبال (2)؛ فلهذا يراد بها هذا تارة وهذا تارة. وإذا قال: أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني لأفعلنَّ كذا، أو إِنْ لم [161/ أ] أفعل كذا؛ فقد يحتمل: يلزمني الحلف بها، وقد يحتمل: يلزمني الحنث فيها مع الحلف؛ فإنَّ الحالف هو الذي يلتزم عند الحنث ما يكره _________ (1) في الأصل: (بتقديرات)، والصواب ما أثبتُّ. (2) انظر: الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات ابن تيمية (ص 450، 454)، التحبير شرح التحرير (1/ 350).

(2/582)


لزومه له، والذي يكرهه هو الحنث فيها، وأما مجرد الحلف بها إذا لم يرد الحنث فيها= فلا محذور عليه فيه. فمقصود القائل بقوله: أَيمان المسلمين أو أَيمان البيعة [تلزمني] (1) إن فعلت كذا؛ أي: يلزمني ما يلزم الحالف بأيمان المسلمين إِنْ فعلتُ كذا، وإِنْ أرادَ: يلزمني ما يلزم الحالف بأيمان المسلمين إِنْ فعلت كذا = كان مراده قد حَلَفْتُ بالأيمان التي يحلف بها المسلمون لا أفعل كذا، وإذا حَلَفَ بأيمان المسلمين لا يفعل كذا= كان مقتضاه أنه عند الحنث يلزمه ما يلزم الحالف بيمينِ يمينٍ منها، لكنَّ اللفظ هنا عامٌّ، وإِنْ لم ينطق بكل يمين بخصوصها، بخلاف ما إذا قال: والله لأفعلنَّ، والطلاق لي لازم لأفعلنَّ، وعليَّ الحج لأفعلنَّ ونحو ذلك، فإنَّ هذا حلف بيمينِ يمينٍ منها على سبيل التخصيص والتفصيل. والمعترض قد قال عن الطوسي: كأنه لمح أن المعلق ههنا التزام الطلاق وهو لا يلزم، وهذا معنى قولنا: إنه نذر الطلاق؛ فإنَّ النذر التزام المنذور كما يلزم الضامن دين المدين مع بقائه عليه، والضمان يلزم بالنص والإجماع. وأما النذر إذا لم يُعَلَّق بشرط فقد ذهب الصيرفي وأبو إسحاق من أصحاب الشافعي إلى أنه لا يلزم كالوعد عندهم. قالوا: ولأنه عقد تبرع، والتبرعات لا تَلزم بالعقد، بل بالقبض بخلاف المعاوضات، كما إذا قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أُعتق؛ فهذا فيه شوب المعاوضة. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(2/583)


والجمهور على خلاف هذا القول، ونقضوا عليهم بالضمان، فإنَّ الضمان التزام للمدين قضاء دينه بدون المعاوضة وقد لزمه، والناذر التزم لله عبادة، وكلاهما ملتزم، لكن هذا التزم لله ــ تعالى ــ طاعة وهذا التزم للمخلوق قضاء دينه؛ والوعد فيه نزاعٌ وتفصيلٌ ليس هذا موضعه (1). وقد سمى الله النذر وعدًا (2)، فلا نقول: إِنَّ كل وعد لا يلزم الوفاء به؛ ولكن النزاع هل نفس الوعد يوجب أو لا يوجب إلا في صورٍ [161/ ب] مخصوصة كالنذر والضمان؟ وقوله: (إِنَّ الفتوى في هذا الزمان لا يمكن القول بها) كلامٌ صحيح، بل ولا في غير هذا الزمان، اللهم إلا أَنْ يكون قد كان بعض الناس يقصد بها النذر، ولعل هذا قد كان في زمن أبي حنيفة، ولهذا جعل هذا نذرًا، وإلا فالذي يعرف من عامة من يتكلم بهذه الصيغة أنه يقصد بذلك الإيقاع لا النذر، فيحمل كلامهم على ما هو المعروف من معناه عندهم. وأما تعليله بقوله: (لشهرةِ هذا اللفظ في معنى التعليق) فهذا تعليلٌ باطلٌ، فإنَّ هذا اللفظ يستعمل منجزًا ومعلقًا، فيقول الرجل: الطلاق يلزمني منك، أو الطلاق لازمٌ لي. _________ (1) انظر: الفروع (6/ 391 - 393). (2) في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77]. وانظر: مجموع الفتاوى (28/ 649 - 650).

(2/584)


وقد يقول: الطلاق يلزمني ثلاثًا؛ ومراده: إيقاع الطلاق بها وأنها تصير مطلقةً منه، ليس مراده: أنه قد لزمني أَنْ أطلقك فيما بعد، واللفظ يحتمل أن يراد به ذلك المعنى الآخر. وكذلك اللفظ المعلق؛ إذا قال: إِنْ فعلت كذا فالطلاق لازم لي أو يلزمني؛ فإنه ظاهر في أنه يلزمه وقوعه، ويحتمل أَنْ يراد به النذر؛ أي: يلزمني أَنْ أُطَلِّق فيما بعد؛ فكلٌّ من التعليق والتنجيز ظاهر في لزوم الوقوع، ويحتمل أَنْ يرادَ به النذر وليس لكونه معلقًا تأثير، بل هو عديم التأثير وجودًا وعدمًا. فإنَّ النذر قد يُعَلَّق كما يُعَلَّقُ الإيقاع، والإيقاعُ قد ينجز كما قد ينجز النذر، بل التعليق في النذر يصح بالإجماع، وفي الطلاق نزاع؛ والطلاق المنجَّز يقع بالإجماع، وفي النذر المنجَّز نزاع. فقول القائل: (لشهرة هذا اللفظ في معنى التعليق حتى إنه ما صار يفهم منه إلا ذلك؛ وكأنَّ هذه القضية منقولة عرفًا إلى هذا المعنى) تعليلٌ باطلٌ، وكلامٌ باطلٌ؛ فإنَّ اللفظ مشهورٌ في قصد الإيقاع لا في قصد النذر، سواء كان منجزًا أو معلقًا، وهذا هو العلة في وقوع الطلاق، فإنَّ معناه عند الإطلاق هو: إيقاع الطلاق لا نذر الطلاق، ثم إذا قصد به النذر؛ فقد يكون منجزًا ومعلقًا، فليس كونه تعليقًا هو المشهور، ولو كان هو المشهور لم يصلح أن يكون ذلك علة في وقوع الطلاق المنجز بهذا اللفظ والجملة الواحدة، كقوله: (الطلاق يلزمني منك) لا تعليق فيها (1) [162/ أ]. _________ (1) في الأصل: (منها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/585)


فإنْ قيل: المعترضُ إنما قصدَ بقولِهِ: (لشهرة هذا اللفظ في معنى التعليق) أي (1): إذا تكلم به معلقًا، كقوله: إِنْ سافرتُ فالطلاق يلزمني، وجعل صيغة القسم كصيغة التعليق. قيل: نعم؛ ونحن نُسَلِّم أنه أراد ذلك، لكن احتمال اللفظ لمعنًى في حالِ تعليقه كاحتماله له في حال تنجيزه، فليس المؤثر في وقوع الطلاق في حال التعليق كونه (2) تعليقًا، بل لأنه تعليق لوقوع الطلاق، وإلا فلو قصد بالتعليق النذر = كان تعليقًا للنذر لا للطلاق، فلم يقع به طلاق، ولا يجب عليه إذا لم يكن الطلاق طاعة لله أَنْ يُطَلِّقَ، بل إنما يجب عليه (3) إذا حلف ليفعله أو نذر ليفعلنَّه= كفارة يمين، وإنما المؤثر في وقوعه: كون الصيغة مشهورة في معنى إيقاع الطلاق لا في نذره. وأما قوله: (وإلا فليس لها دلالة من حيث اللغة على التعليق ولا على الحلف)؛ فلم يُرِدْ به الصيغة المنجَّزَة، فإنَّ تلك ليست تعليقًا وحلفًا؛ فالمشهور من معناها هو: الإيقاع، وهذا موافقٌ للغة؛ كما تقدم من أَنَّ لفظ الطلاق يراد به اسم مصدر التطليق (4)، ويراد به مصدر الفعل المطاوع له، وهو طَلُقَتْ طلاقًا، فإنه يقال: طَلَّقْتُهَا فَطَلُقَت، وليس لقولهم: طَلُقَتْ مَصْدَرٌ إلا هذا، بخلاف قولهم: طَلَّقَهَا، فإن مصدره القياسي هو التطليق، والطلاق _________ (1) في الأصل: (إلا)، ولعل صوابها ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (لكونه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل زيادة: (كفارة يمين)، والأقرب حذفها حيث يغني عنها ما جاء في آخر الجملة. (4) في الأصل: (التعليق)، والصواب ما أثبت كما سيأتي.

(2/586)


اسم للمصدر، كالكلام مع المتكلم، والنبات مع الإنبات، والحركة مع التحريك ونحو ذلك (1)؛ فالمصدر يدل على الحدث مع إضافة إلى فاعل (2)، واسم المصدر يدل على الحدث فقط (3)؛ فالكلام يدل على القدر المشترك بين التكليم والتكلم، والحركة تدل على القدر المشترك بين التحريك والتحرك، والطلاق يدل على القدر المشترك بين طَلَّقَ الرجل امرأته وبين طلقت هي، ثم قد تدل على أحدهما مع قرينة مخصصة كما يقال: طلق طلاقًا، فيكون بمعنى التطليق، ويقال: طلقت المرأة طلاقًا، فيكون مصدر الفعل المطاوع، وكذلك يقال: كَلَّمَهُ كلامًا، وتكلم زيد كلامًا، ويقال: أنبته إنباتًا، ونبت هو نباتًا، وإنما أراد الصيغة المعلَّقةَ (4) والمحلوف بها. ومع هذا؛ فقوله: (ليس لها دلالة من حيث اللغة على التعليق ولا على الحلف) خطأٌ؛ أما في صيغة [162/ ب] التعليق فظاهر، فإنه إذا قال: إِنْ دخلتِ الدار فالطلاق لازمٌ لي؛ فهذا تعليق في اللغة لا يستريب في ذلك أدنى من له معرفة بمثل هذه الأمور في اللغة، وكذلك إذا قال: إِنْ فعلتِ كذا _________ (1) جامع المسائل (1/ 284). (2) مجموع الفتاوى (10/ 238) (12/ 513) (15/ 273) (16/ 227) (20/ 420)، الفتاوى الكبرى (5/ 219)، مجموعة الرسائل والمسائل (3/ 139)، درء تعارض العقل والنقل (8/ 83). وانظر: اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراته في النحو والصرف (ص 226)، والدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات ابن تيمية (ص 449). (3) اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراته في النحو والصرف (ص 235). (4) في الأصل: (المتعلقة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/587)


فالحرام يلزمني أو فالعتق يلزمني أو الحج يلزمني أو الصدقة بمالي تلزمني، أو فأيمان المسلمين تلزمني، أو قال: الطلاق يلزمني إنْ فعلت كذا، أو العتق يلزمني إنْ فعلته، أو الحج أو الصدقة بمالي أو صوم شهر يلزمني إِنْ فعلته؛ فهذه صيغة تعليق في اللغة بلا ريب، سواء قَدَّمَ الشرط أو أَخَّرَهُ. وأما الشبهة في صيغة القسم إذا قال: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا أو العتق يلزمني لأفعلنَّه أو الحرام يلزمني لأفعلنه أو أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني لأفعلنه أو لا أفعله ونحو ذلك؛ فهذه صيغة قَسَمٍ، لأنه تَلَقَّى الجملة الثانية بلام القسم التي يتلقى بها جواب القسم في مثل قوله: والله لأفعلنَّ، وهذه اللام التي يتلقى بها جواب القسم من خصائص القسم، لا تكون إلا فيه؛ ولهذا إنما يستعمل معها الألفاظ المستعملة في جواب القسم، نفيًا وإثباتًا (1). فكما تقول: والله لأفعلنَّ أو لا أفعل تقول: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ أو لا أفعل؛ ولَمَّا لم يكن من لغة العرب أن يذكروا الإثبات إلا مؤكدًا = صاروا يقولون: والله أفعل، ومرادهم: ما أفعل؛ كقوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] أي: لا تفتأ؛ أي: تزال تذكر يوسف حتى تكون حَرَضًا، لأن عدم لوازم الإثبات دل على أَنَّ المراد النفي، فَحَذَفَ حرف النفي اختصارًا، إذ كان في الكلام ما يدل عليه، وكثير من العامة يقصد الإثبات بمثل هذا، فيقول: والله أقوم؛ أي: لأقومنَّ، وهذا إذا قصد الإثبات حُمِلَ على عُرْفِهِ دون لغة العرب، كما لو قال: أَنْ دَخَلَ الدارَ بالفتح، ومراده: _________ (1) انظر (ص 67، 527، 875).

(2/588)


التعليق على دخول مستقبل (1). وهذا يوافق ما ذكره عن أبي سعيد الخوارزمي الضرير ــ الذي يقال: إنه لم يكن في أصحاب الشافعي في وقته بعد أبي الطيب الطبري أفقه منه ــ أنه قال في الجواب عن قولهم: أنت طالق لا دخلت الدار؛ ليست (لا) بدلًا من حرف الشرط، وإنما وقع الطلاق بدخوله، لأنَّ [163/ أ] قوله: أنت طالق يصلح أَنْ يقام مقام: أُقْسِمُ وأَحْلِفُ؛ والدليل عليه: أنه لو قال: أنت طالق إِنْ حلفت، ثم قال: أنت طالق إِنْ دخلتِ الدار = طلقت. وهذا الذي ذكره عن أبي سعيد قد ذكره غير واحد من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وذكروا أنهم استعملوا في ذلك صيغة القسم، وخالفهم طائفة قليلة فقالوا ــ واللفظ لأبي عبد الله بن تيمية (2) ــ: (فأما ما يخرجه العامة مخرج الشرط بغير هذه الحروف ــ يعني: بغير حروف _________ (1) مجموع الفتاوى (32/ 87)، الفتاوى الكبرى (3/ 209)، الصعقة الغضبية للطوفي (ص 565 وما بعدها). (2) هو: فخر الدين محمد بن الخضر بن محمد الحراني، الفقيه المفسِّر الواعظ، ولد سنة (542)، وتوفي سنة (622). انظر في ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة (3/ 321)، المقصد الأرشد (2/ 406)، سير أعلام النبلاء (22/ 288). ولم يطبع له إلا كتاب (بلغة الساغب) لكن كتاب الطلاق والأيمان غير موجودين فيه! ومن مؤلفاته التي وجدتُ ابن تيمية يُصرِّح بالنقل منها: التلخيص، وترغيب القاصد، وشرح الهداية لأبي الخطاب. انظر: مجموع الفتاوى (20/ 288) (31/ 226) (34/ 112، 114 وما بعدها)، الفتاوى الكبرى (5/ 93، 305)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 614، 616)، المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 66، 68).

(2/589)


الشرط ــ كقوله: أنتِ طالق لأتزوجنَّ عليك، أو أنتِ طالق لأفعلنَّ كذا = فيصح إذا نوى التعليق وكان (1) جاهلًا بالعربية، وإن كان عالمًا ونوى التعليق خُرِّجَ على روايتي (2) تعليق المطلِّق بالنية) (3)؛ فهؤلاء لم يجعلوا هذا اللفظ في اللغة قَسَمًا ولا جعلوه تعليقًا، بل جعلوه في لحن العامة الذي ينوون به الشرط، كما لو قال: (أَنْ دخلتِ الدار فأنت طالق) بالفتح؛ فإذا نوى به ما يقصده العامة وكان جاهلًا بالعربية = كان شرطًا، كما لو نواه، وجعلوه في العربية حُكْمُهُ حكم المنجز. وأنَّ قوله: (أنت طالق لأخرجنَّ) جملتان [لا] (4) ارتباط لإحداهما بالأخرى، كقوله: أنت طالق عند الخروج (5)، فإذا نوى التعليق بذلك كان كما لو نواه باللفظ المطلق، فخرجوه على روايتي (6) تعليق الطلاق بالنية؛ وهذا القول ضعيف جدًا من وجوه: أحدها: أن هذه الصيغة صيغة قسم لا شرط. الثاني: أَنَّ هذا موافقٌ للغة لا مخالفٌ لها. الثالث: أنها سواء كانت (7) في عرف الناس يقصدون بها ارتباط الطلاق _________ (1) في الأصل: (فكان). (2) في الأصل: (روايتين)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) لم أجد مَنْ نقلَ كلام أبي عبد الله هذا، ويبدو أن النقل عنه ينتهي هنا. (4) إضافة يقتضيها السياق. (5) في الأصل: (الخرج). (6) في الأصل: (روايتين)، والصواب ما أثبتُّ. (7) في الأصل زيادة: (إنها)، وبحذفها يستقيم الكلام.

(2/590)


بالفعل، ليس إحدى الجملتين منفصلة عن الأخرى، فحمل كلامهم على ذلك غلط. الرابع: أنه لا يُعرف في اللغة مَنْ تكلم بهذا، وجعلهما جملتين منفصلتين، لا اتصال لإحداهما بالأخرى، حتى يقال: إنَّ لها معنًى في اللغة بخلاف معناها عند العامة، بخلاف قولهم: أَنْ دخلتِ الدار فأنت طالق بالفتح؛ فإنَّ معنى هذا في اللغة: لأجل دخول الدار أنت طالق، وهو كقوله: أنت طالق لدخولك الدار [163/ ب] فلهذا كان له معنى في اللغة، ومعنى في عرف الجهال بالعربية، بخلاف قوله: أنت طالق لأفعلنَّ كذا، فإنه ليس له معنى في اللغة يخالف معناه المعروف عند العامة. لكن لو قُدِّرَ أَنَّ هذا يخالف قياس العربية، لكان من العربية المولَّدة لا من العربية الملحونة. فإنَّ العربيةَ أربعةُ أنواع: عربية محضة، وعربية معربة؛ وكلاهما نَطَقَ بها العرب العرباء، وعربية مولَّدة؛ وهي ما نطق بها المولَّدون من العرب ــ كما يقسم الشعراء إلى عرب ومولَّدين ــ كلفظ الماهية والكيفية والبيطرة ونحو ذلك؛ والرابع: عربية ملحونة (1). الخامس: أنه لو قُدِّرَ أَنَّ معناها عند العامة يخالف معناها في اللغة، فإذا تَكَلَّمَ بها النحوي وقصد ما يَقصده العامة حُمل على ذلك، فإنَّ النحوي _________ (1) انظر: مجموع الفتاوى (5/ 147) (6/ 99) (31/ 47) (32/ 252)، الفتاوى الكبرى (4/ 258)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 52)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 391)، المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 139)، الجواب الصحيح (5/ 10 - 11).

(2/591)


يتكلم بالكلام المعرب تارة، وبالكلام الملحون أخرى؛ وإنما النزاع إذا أَطلق؛ هل يُحمل كلامه على العربية أو على مقتضى كلام العامة؟ على وجهين؛ كما أنه لو نوى موجب اللفظ في العربية وهو لا يعرفه؛ فوجهان. وعلى هذا؛ فإذا قصد المتكلم بذلك القَسَمَ والتعليق لم يبق في ذلك نزاع أصلًا، كما لو قال: أنت طالق واحدة في ثلاث، ونوى وقوع واحدة فقط، وأن يكون التكسير ظرفًا لا يقع به شيء؛ فلهذا يقبل منه وإن كان حاسبًا، وكذلك لو نوى الجمع، ولكن إذا لم ينو شيئًا؛ ففيه أوجه: هل يقع واحدة أو ثنتان أو ثلاث أو يُفَرَّق بين الحاسب وغيره؟ * * * *

(2/592)


فصلٌ قال: (وقد يستشكل تعليق الإنشاء، ويقال: كيف جاز تعليق الطلاق والعتق مع كونهما إنشاءين؟ وإنْ كان هذا السؤال لا يَصْدُرُ من المُصَنِّف لكونه موافقًا على صحة التعليق، ولا من جهة الظاهرية لموافقتهم على تعليق العتق. فاعلم أَنَّ تعليق الطلاق والعتق ليس من باب تعليق الإنشاء، فإنَّ الإنشاء هو الإعتاق والتطليق، وأما العتق والطلاق فهما أَثَرَاهُمَا؛ فالإنشاء في الحقيقة هو التعليق الذي هو يُصَيِّرُ الطلاق والعتق مُعَلَّقَين بذلك الشرط [164/ أ]، والوقوعُ المعلَّق أَثَرُ ذلك الإنشاء؛ والإنشاء من مقولة الفعل، والوقوع من مقولة الانفعال. فالزوج لم يُعَلِّق تطليقًا ولا إعتاقًا، وإنما عَلَّقَ طلاقًا وعتقًا؛ ويُبيِّنُ ذلك قول الفقهاء: التعليق مع الصفة تطليق، فلم يجعلوا الوقوع المعلق وحده تطليقًا؛ والله أعلم) (1). والجواب: أَنَّ هذا الكلام قد تقدم منه مبسوطًا، وتقدم الكلام عليه، ولكن ــ والله أعلم ــ كان قد اعترض أولًا اعتراضًا مختصرًا ذكر فيه هذا الكلام، ثم بسط الاعتراض بما تقدم ذكره له أولًا؛ فلهذا تكرر هذا منه، ولا نؤاخذه في ذلك؛ بل نقول: مَنْعُهُ هُوَ من تعليق الإنشاء حجةٌ عليه، فإنَّ الوقوعَ تَبَعٌ للإيقاع مستلزم له، يمتنع وقوع بلا إيقاع، فإنْ كان الإيقاع لا يجوز تعليقه لم يجز تعليق الوقوع. _________ (1) «التحقيق» (44/ أ).

(2/593)


ومعلوم أنه لم يوقع الطلاق عند الصفة لا منجزًا ولا معلقًا وإنما عَلَّقَهُ قبل ذلك، فإنْ لم يكن التعليق إيقاعًا منجزًا ولا معلقًا لم يقع الطلاق بحال، وكذلك سائر التعليقات؛ وإن كان إيقاعًا في الحال لِمَا يقع في المآل= فإما أن يكون الإيقاع منجزًا أو معلقًا؛ فإن كان منجزًا لزم الوقوع في الحال، وإنْ كان معلقًا فالإيقاع عنده لا يقبل التعليق. وإنْ قال: هو إيقاعٌ منجَّز مقتضاه وقوعٌ مُؤَخَّرٌ= لم يكن هذا معقولًا، بل المعقول: أن الإيقاع المنجَّز حكمه: وقوعٌ منجَّز. وإنْ قال: [الإيقاع] (1) المنجز تارة يُجعل وقوعه منجزًا، وتارة يُجعل وقوعه معلقًا = كان معناه أنه أوقع الآن ما لا يقع الآن، بل يقع فيما بعد. فيقال له: هذا مكابرة؛ فإنه لم يوقع الآن شيئًا، بل الآن عَلَّقَ الطلاق، ومجرد التعليق ليس إيقاعًا في الحال، وإنما هو إيقاع عند الصفة، فإن لم يكن الإيقاع معلقًا= فلم يوقعه لا منجزًا ولا معلقًا. وأيضًا؛ فالوقوع لازم للإيقاع الشرعي، والإيقاع الشرعي مستلزم للوقوع، يمتنع وجودُ أحدِهما دون الآخر، والإيقاع عِلَّةٌ تامةٌ للوقوع وهو الإيقاع الجازم، فلا يتأخر الوقوعُ عن عِلَّتِهِ [164/ ب] التامة، والإيقاع الجازم عِلَّةٌ تامة للوقوع، فلو كان المعلِّق قد وُجِدَ منه إيقاعٌ تامٌّ لَلَزِمَ وجودُ الوقوع في الحال؛ فعلم أنه لم يوجد منه في الحال إيقاع تام، وإنما يتم إيقاعه إذا حصلت الصفة، فإنه قصد أن يقع عند الصفة، لم يقصد أن يقع قبل ذلك، فإذا وُجِدَتِ الصفة عُلِمَ أنه أراد الوقوع حينئذٍ. _________ (1) في الأصل: (الإنجاز)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/594)


فإنَّ مراد الإنسان نوعان: نوع يريده إرادةً جازمةً، ونوعٌ يريده إرادةً معلقةً بشرطٍ؛ فإذا وُجِدَ الشرطُ كان مرادًا له، وإنْ لم يوجد لم يكن مرادًا له، وهذا معنى قول جمهور الفقهاء مع الصفة تطليق، فلم يجعل الوقوع المعلَّق وحده تطليقًا، فَعُلِمَ أنه لم يصر مُطَلِّقًا إلا بالتعليق ووجود الصفة، والتطليق هو إيقاع الطلاق؛ فَعُلِمَ أنه لم يقع منه عند التعليق إيقاع جازم ولا تام ولا منجز، وإنما وقع منه تطليق معلق بالصفة. ومن الفقهاء مَنْ قال: التعليق ليس بتطليق البتة؛ والطلاق الواقع بوجود الصفة لم يوقعه هو، بل هو وقع؛ وعلى هذا ينبني النزاع فيما إذا قال: إنْ طلقتكِ فعبدي حر أو فلانة طالق، فإنَّ هذا يتناول ما نجزه من الطلاق بعد هذا، وذلك ما يعلقه بعد هذا بشرطٍ يقع الطلاق عنده في المشهور عند أكثر العلماء (1)، وهو قول جمهور أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما. ومنهم مَنْ قال: إذا وقع بعد هذا بتعليقٍ متأخر لم يكن تطليقًا، فلا توجد الصفة؛ وهذا أحد الوجهين في مذهبه ذكره القاضي أبو يعلى وهو ضعيف، وأما الطلاق إذا وقع بصفةٍ متقدمةٍ على هذا التعليق لم يكن قد طَلَّقَ بعد التعليق الثاني، بل وقع الطلاق بالتعليق الأول، فلا تحصل الصفة فلا يحصل المعلَّق بها، اللهم إلا أَنْ يقصد مجرد حصول المعلَّق سواء كان بتعليقٍ متقدم أو بغير ذلك. * * * * _________ (1) وضع الناسخ عليها حرف (خ)، وفي الهامش كتب (الفقهاء) وفوقها حرف (خ).

(2/595)


فصلٌ قال المعترض: (قال ــ يعني المجيب ــ: وأبو ثورٍ طَرَدَ هذا الأصل، وقال بموجبه في العتق، وقال: إِنْ لم يكن في الطلاق إجماعٌ فهو بمنزلة العتق، وقد تبيَّنَ أنه لا إجماع فيه، فإذا كان الصحابة أفتوا في الحلف بالعتق أنه لا يقع مع أنه [165/ أ] قربة وطاعة وَبِرٌّ = فَأَنْ يقولوا في الحلف بالطلاق أنه لا يقع بطريق الأولى والأحرى [لأنه ليس فيه قُربةٌ ولا طاعة؛ بل إما مكروهٌ وإما محرم]. وأما الرواية الأخرى عن ابن عباس وابن عمر؛ فقد قال أحمد: ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر. وعثمان بن حاضر قد قيل: إنه سمع من ابن عباس، وقال أبو زرعة (1): هو يماني حميري ثقة. وقد روى له أبو داود وابن ماجه. والأثر الأول أثبتُ؛ ورجالُهُ من أئمة العلم والفقهاء الذين يعلمون ما يروون، وهذا الأثر فيه غربة (2)، ولم يثبت لنا لفظه، فإنْ صَحَّ كان في ذلك نزاعٌ بين الصحابة. وقد ذكر البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أثرًا في الطلاق يحتمل أن يكون من هذا الباب، ويحتمل ألا يكون منه. ثم قال: قلتُ: أما نقله عن أبي ثور؛ فاعلم أَنَّ أبا ثور نُقِلَ عنه التصريح _________ (1) الجرح والتعديل (6/ 148). (2) كذا في الأصل و «التحقيق»، وتحرّف في مجموع الفتاوى إلى (تمويه).

(2/596)


بالإجماع في مسألة الطلاق، وكذلك عن الإمام محمد بن نصر المروزي، وهو من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام. قال ابن عبد البر في الاستذكار (1): قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: إذا حلف بالمشي إلى مكة ــ وساق كلامه إلى قوله ــ قال أبو عمر: الخلاف الذي ذكر أبو ثور في العتق هو: ما رواه معتمر بن سليمان ــ يعني: أثر ليلى بنت العجماء ــ، ثم قال: قلت: وقد تقدم الكلام عليه. وكذلك نقل ابن المنذر الإجماع؛ قال (2): أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم قولَهُ على أن الحالف بالطلاق على زوجته في أمر لا يفعله ففعله أن الطلاق يقع عليها؛ هذا قول مالك وأهل المدينة والليث بن سعد وأهل مصر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي وأبي عبيد) (3). والجواب: أن أول مَنْ نَقَلَ في هذه المسألة إجماعًا هو أبو ثور، وعنه تلقى ذلك من نقله، كمحمد بن نصر وابن عبد البر. وأما ابن جرير الطبري ــ وإِنْ كانَ هو لم يذكره ــ فالإجماع عنده هو قول الجمهور؛ فلا يحتج بنقله. وأما ابن المنذر؛ فلفظه (4): أجمع كل من نَحفظ عنه قولَه؛ وعادة ابن المنذر إذا ذكر مثل هذا ينقل [165/ ب] قول من حفظ قوله في تلك المسألة، _________ (1) (15/ 44 وما بعدها). (2) في الأوسط (12/ 134). (3) «التحقيق» (44/ أ - ب)، وما بين المعقوفتين زيادة منه. (4) في الأصل: (فلفظ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/597)


ولم ينقل ذلك إجماعًا للأمة ولعلمائها، لأنه لا يكون قد عرف أقوال سائر العلماء في ذلك، فَنَقَلَ قولَ من حفظ قولَهُ؛ وهذا يدل على أن ابن المنذر لم يعلم أقوال سائر العلماء في هذه المسألة، ولم ينقل فيها إجماعًا يَحتج به، كما ذكر ألفاظه في مثل هذا الإجماع وفي غيره بما يتبين مراده. وذكرنا مع ذلك أن كثيرًا من الإجماعات التي نقلها عن جميع العلماء يكون فيها نزاع لم يبلغه؛ فكيف بما يَنقل فيه قول من حفظ قوله؟! فإنَّ مثل هذا يكون فيه كثيرًا نزاع لم يعرفه. فإذا أراد أن ينقل الإجماع العام، قال: أجمع أهل العلم على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة إذا وجد المرء السبيل إليها (1). وأجمع أهل العلم على أن خروج الغائط من الدبر، وخروج البول من الذكر وقُبُلِ المرأة، وخروج المذي، وخروج الريح من الدبر، وزوال العقل بأيِّ وجهٍ زال= ينقضُ كل واحد منها الطهارة ويوجب الوضوء (2). وقال: أجمع أهل العلم أن الضحك في غير الصلاة (3) لا ينقض الطهارة ولا يوجب وضوءًا (4). وأجمعوا على أن الضحك في الصلاة ينقض الصلاة (5). _________ (1) الإجماع (ص 29). (2) الإجماع (ص 29 - 30). (3) كتب في الهامش: (صلاة). (4) الإجماع (ص 30). (5) الإجماع (ص 31).

(2/598)


وأجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر زوال الشمس (1). وأما إذا قال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم؛ فإنه يدل على أن هذا القول قول مَنْ يَعرِفُ قولَه في تلك المسألة، ولم يعرف فيها سائر أقوال العلماء؛ سواء سماهم أو لم يسمهم، وهذا إجماع خاص لا عام؛ كقوله (2): أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم وعلماء الأمصار على أَنَّ [القذف و] قول الزور والكذب والغيبة [لا يوجب طهارة] (3)؛ هذا مذهب المدني والكوفي والشافعي وأحمد وإسحاق، قال: وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا بالوضوء من الكلام الخبيث. قال: وذلك عندي استحباب ممن أمر به، لأنَّا لا نعلم حجةً توجب في شيء من الكلام وضوءًا. وكذلك قوله (4): أجمع من نحفظ قوله أنَّ الوضوء غير جائز بماء الورد، وماء الشجر، وماء العصفر، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق يقع عليه اسم الماء. ومعلومٌ أَنَّ في ذلك نزاعًا؛ أما ماء الورد ونحوه ففيه [166/ أ] نزاع عن ابن أبي ليلى والأوزاعي وغيرهما، وأما المياه التي تجري من الشجر فيجوز التوضؤ به في مذهب أبي حنيفة أيضًا. ثم قال (5): وأجمع أهل العلم على أن الاغتسال والوضوء لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ؛ ففي الأشربة حكى إجماع أهل العلم، وهو _________ (1) الإجماع (ص 41). (2) في الأوسط (1/ 334)، وما بين المعقوفتين منه. (3) في الأوسط: (لا تنقض طهارةً ولا توجب وضوءًا). (4) في الأوسط (1/ 358). (5) في الأوسط (1/ 359).

(2/599)


الإجماع العام، وفي ماء الورد حكى إجماع مَنْ يحفظ قوله، ومثل هذا كثير. ثم يقال: كثيرٌ ممن يفتي بوقوع الطلاق المحلوف به، يفتي بأقوال قد ذكر ابن المنذر الإجماع على خلافها، فإنَّ منْ أجودِ حيلهم: الاحتيالُ بخلع اليمين (1)؛ فهو خيرٌ من السُّرَيجية، وخير من نكاح التحليل، وخير من التحيُّل على إفساد النكاح، ومع هذا؛ فقد قال ابن المنذر لما ذَكَر آية الخلع (2): قد حَرَّمَ الله على الزوج في هذه الآية أن يأخذ منها شيئًا مما آتاها إلا بعد الخوف الذي ذكره الله ــ تعالى ــ، ثم أكد تحريم ذلك بتغليظ الوعيد على كل من خالف أمره، فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} الآية [البقرة: 229]، وبمعنى كتاب الله جاء الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه خالع بين خولة (3) بنت سلول وبين زوجها لما قالت: إني لا أستطيعه، وأكره الكفر في الإسلام (4). قال (5): وبه قال عوام أهل العلم، وحظروا على الزوج أَخذَ شيءٍ من مالها إلا أن يكون النشوز من قبلها، روينا ذلك عن ابن عباس وعطاء ومجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والقاسم بن محمد وعمرو بن شعيب وعروة بن الزبير والزهري وحميد بن عبد الرحمن وقتادة، وبه قال: _________ (1) انظر: مجموع الفتاوى (32/ 146) (33/ 39، 64، 148)، الفتاوى الكبرى (3/ 237، 267، 300) (6/ 99)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 545). وانظر ما تقدم (ص 45). (2) الأوسط (9/ 316)، الإشراف (5/ 259). (3) كذا في الأصل والأوسط والإشراف، وفي مصادر التخريج: (جميلة). (4) أخرجه البخاري (5273) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (5) في الأوسط (9/ 317)، الإشراف (5/ 259).

(2/600)


الثوري ومالك وإسحاق وأبو ثور. وحكي عن النعمان أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته= فهو جائزٌ ماضٍ، وهو آثم لا يحل [له] (1) ما صنع ولا يُجبر (2) على رَدِّ ما أخذ. قال أبو بكر بن المنذر (3): وهذا مِنْ قولِهِ خلافُ ظاهرِ الكتاب، وخلاف الخبر الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلاف ما أجمع عليه عوام أهل العلم من ذلك. قال: ولا أحسب مَنْ قال (4) لامرئٍ: اجتهد بنفسك (5) في طلب الخطأ، ما وجد أمرًا أعظم من أن ينطق [166/ ب] الكتاب بتحريم شيءٍ، ثم يُقَابِلُهُ مُقَابِلٌ بالخلاف نصًّا، فيقول: بل يجوز ذلك ولا يجبر على رَدِّ ما أَخَذَه. وقال قائل ــ يعني الشافعي ــ: لَمَّا جاز أن يأخذ ما طابت به نفسًا على غير طلاق = جاز أن يأخذ منها ما أعطته على طلاق أو فسخ نكاح. قال (6): وهذا وإن لم يكن في باب الخطأ أقربُ مما مضى من خلاف الكتاب والسنة فليس بدونه، لأنه يحرم في باب المعاوضات [ما حَرَّمَه _________ (1) ما بين المعقوفتين من الإشراف. (2) كذا قرأتها، وهي كذلك في الأوسط. (3) في الأوسط (9/ 317)، الإشراف (5/ 360). (4) في الإشراف: (أَنْ لو قيل). (5) في الإشراف: (أَجْهِد نفسك). (6) الإشراف (5/ 260).

(2/601)


الله] (1) من الربا، ويجيز الهبات والعطايا في غير باب المعاوضة، وهذا سبيل كل من خالف كتابَ الله والخبرَ الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال (2): وإنه ليبلغني أَنَّ كثيرًا ممن نصب نفسه للفتيا في النوازل يُعَلِّمُ مَنْ حلف بطلاق زوجته ثلاثًا ليفعلنَّ كذا أو لا يفعله، وكل واحد من الزوجين يَرُدُّ إلى صاحبه ما أوجب الله عليه أن يقول له: خُذْ منها كذا وافسخ عنها نكاحها، أو طَلِّقها على ما تأخذ منها طلقة [ثم احنث وتزوَّجها، وتكون عندك على ما بَقي من الطلاق] (3) فليس فيما قلناه حديث، فيحتال القائل بما ذكرناه عنه أن يطعن في إسناده، ولا تلك آية تحتمل التأويل فيحتال في دفعها بالتأويل، وإنما هو ظاهر لا يحتمل إلا معنىً واحدًا. فلو تكلم المتكلم عن عطاء والزهري والثوري حيث أجازوا الشغار، وقالوا: إنما أجزناه لتراضيهما به، وأنتم لا يفسد العقد عندكم بفساد المهر، أو قال: بعض من يجيز نكاح المحرم أنا أبيحه بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وأَنَّ العقد بولي وشهود، والنكاح في نفسه مباح، وإنما نهى عن العقد في وقتٍ؛ كما قال مَنْ خالفنا في عقد البيع بعد النداء لصلاة الجمعة: أَنَّ ذلك لوقت وهو جائز، فلما رأيتك لا تلتفت إلى الوقت اقتديت بك، وأجزت نكاح المحرم إذ هو لوقت، هل يقابَل مَنْ خالف هذه _________ (1) ما بين المعقوفتين من الإشراف. (2) في الإشراف (5/ 260). (3) من الإشراف.

(2/602)


الأشياء إلا بأن يقال له: إِنَّ النكاح لا ينعقد بما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، وإذا نهاك الله ــ عز وجل ــ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ بَطَلَ عقدُ النكاح؛ كما أبطلت البيع الذي عُقِدَ على الربا، ما بينَ شيءٍ مِنْ ذلكَ فَرْقٌ. فهذا ابن المنذر قد بَيَّنَ بكلامِهِ أنه لم يعلم أحدًا ممن مضى [167/ أ] أفتى بالخلع لأجل حَلِّ اليمين، وهو قد أنكر على من فسخ الخلع إذا لم يكن النشوز من قبلها، وإِنْ كان قاصدًا للخلع، وذكر أنه مخالف للكتاب والسُّنة وقول عوام أهل العلم، وهذا غايةُ ما يذكر من الإجماع في مثل هذه المسائل. وإذا كان العمدةُ في نقلِ الإجماعِ على أبي ثور؛ فأبو ثور قال: مَنْ حَلَفَ بالعتق فعليه كفارة يمين ولا عتق عليه، وذلك أَنَّ الله ــ عز وجل ــ أوجب في كتابه كفارة اليمين على كل حالف، فقال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] يعني: فحنثتم. قال أبو ثور ــ رحمة الله عليه ــ: فكل يمين حلف بها الإنسان فحنث فعليه كفارة على ظاهر الكتاب، إلا أنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ولم يجمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة، وألزمناه الطلاق للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة لأنَّ الأمةَ لم تجتمع على أنه لا كفارة فيه؛ هذا لفظ أبي ثور (2). _________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه (1409) من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لا يَنكح المحرم، ولا يُنكِح، ولا يخطب». (2) نقل كلام أبي ثور المروزيُ في اختلاف الفقهاء، وسبق في (ص 7).

(2/603)


وأبو ثور قد عُرِفَ مِنْ قولِهِ صريحًا أَنَّ الإجماع عنده معناه: عدم العلم بالنزاع لا العلم بعدم النزاع؛ وبهذا سَلِمَ مِنْ إنكارِ أحمد على مَنْ يَدَّعِي الإجماع؛ كقول أحمد في رواية ابنه عبد الله (1): من ادعى الإجماع فقد كذب لعل الناس قد اختلفوا؛ هذه دعوى بشر المَرِيْسِي والأصم (2)، لكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغه. وكذلك نقل المَرُّوذِي عنه (3) أنه قال: لا يجوز للرجل أن يقول أجمعوا، إذا سمعتهم (4) يقولون: أجمعوا؛ فاتهمهم، لو قال: إني لا أعلم مخالفًا لكان. وكذلك نقل (5) عنه أبو طالب أنه قال: هذا كذب! ما علمه أَنَّ الناس مجتمعون؟ ولكن يقول لا أعلم فيه اختلافًا، فهو أحسن مِنْ قوله إجماع الناس (6). وكذلك نقل أبو الحارث عنه: لا ينبغي لأحدٍ أَنْ يَدَّعي في قوله الإجماع، _________ (1) (ص 438). (2) سيأتي التعريف بهما في (ص 775 وما بعدها). (3) نقلها: أبو يعلى في العدة (4/ 1060)، وابن تيمية في المسوَّدة (2/ 617). (4) في الأصل: (سمعتم)، والتصويب من العدة لأبي يعلى والمسوَّدة. (5) في الأصل زيادة: (به)، والصواب حذفها. (6) لا أعلم أنَّ مسائله مطبوعة، وقد نقلها: أبو يعلى في العدة (4/ 1060)، وابن تيمية في المسوَّدة (2/ 617).

(2/604)


لعل الناس اختلفوا (1). وأبو ثور كان قرين أحمد ــ رحمة الله عليهما ــ وبلده بغداد، وكانت أكثر بلاد الإسلام علمًا في ذلك الزمان، وهو كان أشهر أهل ذلك العصر بالاجتهاد والإفتاء بعد أحمد، وكان أحمد كثيرًا ما يُسأَلُ عما يقول، ولهذا كان هو أول [167/ ب] من ذكره أبو إسحاق في طبقات الفقهاء المجتهدين بعد أحمد بن حنبل، وذكر بعده: ابن جرير الطبري وداود بن علي الأصبهاني (2). وكان أحمد يثني عليه تارة حتى يقول: (هو عندي في مِسلَاخ الثوري) (3)، وإذا بلغه عنه أقوال مخالفة للسنة وأقوال الصحابة كإباحته ذبائح المجوس وغير ذلك، يتكلم فيه بكلام غليظ (4). ومع هذا؛ فأبو ثور لم يَدَّعِ عَدَمَ العلم بالنزاع إلا في نفي الكفارة لا في وقوع الطلاق، ولو قُدِّرَ أَنَّ الأمة لم يقل فيها أحد بالكفارة لم يلزم اتفاقهم على وقوع الطلاق، فإنه قد كان في زمن أبي ثور، وقبل أَنْ تصنف الكتب منهم مَنْ يقول: الطلاق المعلَّق بالصفة لا يقع؛ ومنهم مَنْ يُفَرِّق بين التعليق الذي يُقصد به اليمين وبين التعليق الذي يُقصد به الإيقاع، فيوقع الثاني دون المحلوف به؛ وكان منهم مَنْ يَرَى أَنَّ التعليق الذي يُقصد به اليمين كتعليق _________ (1) لا أعلم أنَّ مسائله مطبوعة، وقد نقلها: أبو يعلى في العُدة (4/ 1060)، وابن تيمية في المسوَّدة (2/ 617). (2) طبقات الفقهاء (ص 91). وترتيب فقهاء بغداد كما ذكرهم الشيرازي هكذا: أحمد بن حنبل، ثم أبو ثور، ثم القاسم بن سلام، ثم داود بن علي، ثم ابن جرير الطبري. (3) تاريخ بغداد (6/ 579)، وتقدم في (ص 14). (4) تقدمت الإشارة إلى شيءٍ من ذلك في صفحة (14 - 15).

(2/605)


النذر لغوٌ (1) ليس فيه لزوم ولا كفارة، فإذا قُدِّرَ إجماعهم على نفي التكفير= لم يلزم إجماعهم على اللزوم، بل أبو ثور قام عنده الدليل على أَنَّ التعليقَ ــ تعليق الطلاق والعتاق والحلف بها ــ عقدٌ صحيح في الشرع، ورأى أَنَّ القرآن يدل على تكفير كل يمين، فعمل بموجب ذلك. فما علم فيه نزاعًا؛ هل يكفر أو لا يكفر؟ فأوجب فيه الكفارة، وما ظن أنه لا نزاع في تكفيره ــ وهو الطلاق ــ ألزمَ به، لأنه لم يمكنه أَنْ يقول: إِنَّ التعليق ــ لا سيما التعليق الذي يقصد به اليمين ــ باطلٌ؛ لا لإجماعٍ حكاه في ذلك، بل لما عَرَفَهُ من الدليل، ولم يمكنه القول بالكفارة لأنه لم يعلم به قائلًا، وظنَّ الإجماع على خلافه؛ فلزم من ذلك أن يقول بوقوع الطلاق لا لأن الكتاب اقتضى ذلك عنده ولا السنة ولا القياس، بل كلامه يدل على أَنَّ ظاهر النص يقتضي تكفير كل يمين، وأنه لو عرف أَنَّ قائلًا يقول بتكفير الحلف بالطلاق = لوجب القول بذلك لدلالة الكتاب عليه. وهذا معنى قول المجيب حيث قال: أبو ثورٍ طَرَدَ هذا الأصل، وقال بموجبه في العتق، وأَنَّ الطلاق [168/ أ] عنده بمنزلة العتق إذا لم يكن فيه إجماع، وقد تبين أنه لا إجماع فيه = فيلزم على أصل أبي ثور أنه لا يقع الطلاق المحلوف به بل يكفر، وذلك على أصله ألزم منه على أصل الشافعي وأحمد، وهذا بمنزلة الأقوال المعلقة للشافعي وغيره من الأئمة إذا قال: قد روي في المسألة خبرٌ إِنْ صَحَّ قلتُ بِهِ (2)؛ فيعلم أنه إذا كان صحيحًا فإنه _________ (1) في الأصل: (لغوًا)، والجادة ما أثبتُّ. (2) وقد ألَّف تقي الدين السبكي رسالة بعنوان (معنى قول الإمام المطلبي: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي) طبعت عدة مرات. كما ألَّف الشيخ سعيد عبد القادر باشنفر رسالة بعنوان (النظر فيما علَّق الشافعي القول به على صحة الخبر) وقد جمع اثنتان وخمسون مسألة علَّق الشافعي القول فيها على صحة الحديث.

(2/606)


قوله، أو إذا قال العالم: هذا هو قولي لولا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من كلامه، فإذا علِمَ أَنَّ ذاك الحديث باطل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). فإذا كان أبو ثور يقول: كلُّ يمينٍ حَلَفَ بها الإنسان فحنث فعليه الكفارة، إلا أَنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ثم قال: ولم يجتمعوا على نفي الكفارة إلا في الطلاق. ومعنى الإجماع عنده: أني لم أعلم فيه منازعًا، فإذا عُلِمَ أَنَّ في الطلاق نزاعًا هل يكفر أم لا؟ علم يقينًا أن قول أبي ثور هو أَنَّ الطلاق يُكَفَّر؛ فإنه أوجب الكفارة في كل يمين يحلف بها الإنسان إلا إذا كان إجماعٌ بخلاف ذلك، فإذا عُرِفَ انتفاء الإجماع= لزم طرد عموم قوله الذي صَرَّحَ بعمومه، كعموم دليله وتعليله. وما ذكره أبو ثور من دلالة (2) الكتاب أصل متيقنٌ عنده، وأما الإجماع فليس معه فيه إلا ظن، وتعارَضَ عنده ظن الإجماع وظن ظاهر القرآن؛ فكان ظَنُّهُ للإجماع أقوى فقدَّمَهُ. وهذا حال المجتهدين إذا تعارض عندهم ظنان رجحوا أقواهما، ومن عرف عنده هذا الظن وترجح عنده نفيُ الإجماع ووجود النزاع = بَقِيَ عنده ما دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار في تكفير أيمان المسلمين من الدليل _________ (1) كذا في الأصل وكأنَّ ثَمَّ سقطًا، وانظر ما سيأتي في (ص 822 - 823). (2) في الأصل (لا له)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/607)


السالم عن المعارض المقاوم؛ فيجب عليه العمل عنده، فكيف إذا علم امتناع اجتماع الأمة على مثل هذا؟! وعلم أنه ليس للأمةِ إجماعٌ على حكم يخالف ذلك الظاهر والقياس إلا إذا كان مع الإجماع من النص والقياس ما يدل على أن الأول منسوخ أو يفسر بما يوافق نص الإجماع؛ فأما أن يكون الإجماع مخالفًا للكتاب والميزان فهذا لا يكون قط. * * * *

(2/608)


فصلٌ قال المعترض: (فهؤلاء ثلاثة أئمة [168/ ب] نقلوا الإجماع؛ وكذلك الشيخ أبو حامد الإسفراييني نَفَى الخلافَ في ذلك، ومرادُهُ: نَفْيُ الخلافِ بين العلماء لا نَفْيُ الخلافِ المذهبي؛ يَفْهَمُ ذلكَ مَنْ نَظَرَ في كلامه، فلا نَعدل عن ذلك إلا بنقلٍ صريحٍ عن إمامٍ معتبر؛ هذا في الطلاق. وأما العتق: فلولا نقل محمد بن نصر المروزي عن أبي ثور ما رأيت كان محل النظر؛ فإنَّ ابن المنذر نقل عن أبي ثور في الإشراف (1) فيما إذا قال لعبده: إِنْ لم أضربك فأنت حر، وأراد بيعه أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق [عليه]، وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا وقع. وقد رأيتُ [ابن زَرْقُون] (2) في كتابه الأنوار [في الجمع بين المنتقى والاستذكار] نَقَلَ فيما نقله من الاستذكار نِسْبَةَ (3) محمد بن نصر موافقةَ أبي _________ (1) (8/ 123)، وقد تقدَّم في (ص 133). (2) كلمة أو كلمتين لم أستطع قراءتهما، ولعلها اسم مؤلف كتاب (الأنوار)، وفي «التحقيق» مكان ما بين المعقوفتين: أبا (بياض مقدار أربع كلمات) ابن درفول (كذا) الإشبيلي. والصواب ما أثبتُّ. وهو: محمد بن سعيد بن أحمد بن عبد البر الأنصاري الإشبيلي، يُكنى أبا عبد الله، ويُعرف بابن زرقون، من تصانيفه المشهورة: الأنوار في الجمع بين المنتقى والاستذكار، ولد سنة (502)، وتوفي سنة (586). انظر في ترجمته: التكملة لكتاب الصلة (2/ 64)، الديباج المذهب (ص 285)، الوفيات لابن قنفذ (ص 295). (3) كتبها الناسخ بطريقة ملتبسة، والمثبت من «التحقيق».

(2/609)


ثور إلى الحسن وطاووس والقاسم وسالم وابن يسار (1) وقتادة، ولم أَرَ أَنَا في الاستذكار إلا الحسن وطاووس لا غير) (2). والجواب: أَنَّ ابن المنذر لم ينقل إجماع العلماء، وإنما نقل قول مَنْ يحفظ قوله في المسألة، وليس هذا بنقل إجماع علماء المسلمين، ولم يسم ابن المنذر فيما ذكره أحدًا من الصحابة والتابعين، بل ولا تابعي التابعين سوى مالك وأبي حنيفة والليث بن سعد؛ ومعلوم كثرة العلماء في هذه الأعصار الثلاثة، لم يذكر قول ابن جريج والمكيين، ولا قول سليمان التيمي وأمثاله من البصريين، ولا ذكر قول الشاميين، ولا ذكر من الطبقة الرابعة سوى الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور. فهل يقول عالم أَنَّ هذا هو الإجماع المعصوم الذي يقوم مقام نص الكتاب والرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! بل كثيرٌ منهم يُقَدِّمُهُ على نَصِّ الكتاب والرسول، ويقول: يُستدل بهذا الإجماع على أَنَّ ذلك النص منسوخ، ومنهم مَنْ يُجَوِّزُ النسخ بالإجماع. وأما ابن نصر فهو تَبَعٌ لأبي ثور في ذلك، وأبو ثور قد عُرِفُ مراده بنقل الإجماع، وأنه لم يَعلم فيه نزاعًا، فلم يبق مع المعترض إلا عَدَمُ علم أبي ثور بالنزاع؛ وهذا غاية ظن أبي ثور. وأيضًا؛ فإنَّ هؤلاء الثلاثة وأمثالهم وأضعافهم نقلوا النزاع في العتق لحديث ليلى [169/ أ] بنت العجماء وغيره، وهذا المعترض طعن في ذلك ــ كما تقدم ــ، مع أَنَّ القول بالكفارة في الحلف بالعتق إذا قال: كل مملوك _________ (1) في الأصل: (بشار)، والمثبت من «التحقيق» ومما تقدم. (2) «التحقيق» (44/ ب). وانظر: (ص 648) فيما يتعلق بالنقل عن الاستذكار.

(2/610)


لي حر إِنْ فعلتُ كذا؛ نقله عن هؤلاء الصحابة: أبو ثور ومحمد بن نصر وأبو بكر بن المنذر ومحمد بن جرير وابن عبد البر وابن حزم وغير واحد من العلماء أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم. فكيف يَحتج بما نقله بعض هؤلاء من الإجماع ولم يحتج بما نقلوه كلهم في النزاع؟! مع أَنَّ ما ينقلونه [من النزاع] (1) هم به أعلم مما ينقلونه من نفي النزاع، فإنَّ العلم بنفي النزاعِ إما متعذر وإما متعسر، وأما العلم بثبوته فهو متيسر. ومع أن نقلهم للنزاع قد ذكروه (2) بالإسناد المعروف عن الصحابة، وأما نقلهم للإجماع فلم يذكروا عن عالم من علماء المسلمين إسنادًا، بل ولا بلغهم في ذلك قولٌ عن أكثر علماء المسلمين، فإذا طَعَنَ فيما ينقل من (3) أقوال بعض السلف المسندة المعروفة، فكيف يمكن مع هذا نقل أقوالهم كلهم؛ مع أَنَّا لا نعرف لجمهورهم في ذلك قولًا، وليست هذه المسألةُ مما ظهر للعامة والخاصةِ أنها من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يقال: إِنَّ المسلم لا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ بها، ولا هي ــ أيضًا ــ مما عُرِفَ أنها اشتهرت في الصحابة أو في جميع المسلمين ولم يُنْكِر ذلك منكر، حتى يقال: إنها إجماع إقراري. فأنواع الإجماع التي يمكن الاستدلال بها ثلاثة: إجماع إحاطي، وإجماع إقراري، وإجماع استقرائي (4)؛ فالأول: ما يحيط علمًا بأن الصحابة _________ (1) في الأصل: (للنزاع)، والصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (ذكره)، والصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (عن). (4) انظر: مجموع الفتاوى (19/ 267)، جامع المسائل (3/ 324)، نقد مراتب الإجماع (ص 286).

(2/611)


أو التابعين كانوا عليه، مثل ما علمنا أنه (1) من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الظاهر المعروف الذي لا ينكره إلا من هو كافر به. والثاني: أَنْ يشتهر القول أو العمل في السلف فلا ينكره منكر؛ فهذا إجماع إقراري، فإنَّ الأمة لا تجتمع على الإقرار على باطل، بل كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ في قوله وفعله وإقراره= فكذلك الأمة معصومةٌ في قولها وفعلها وإقرارها، وهذا كجعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الأرض المفتوحة عنوة فيما بين المسلمين وغير ذلك (2). وإذا قيل في مثل ذلك: قد يكون [169/ ب] بعضهم أنكرها. قيل: لا يسقط الفرض بإنكار الخطأ إلا إذا ظهر الإنكار، ولو أنكر ذلك منكرٌ لكان مما تتوفر الدواعي على نقله؛ كما نقلوا نزاع ابن عباس - رضي الله عنهما - في العول والعمريتين (3)، ونزاع ابن الزبير - رضي الله عنهما - في ميراث المبتوتة (4) وأمثال ذلك. _________ (1) في الأصل: (أن). (2) أخرجه البخاري في صحيحه (4235) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: أَمَا والذي نفسي بيده، لولا أَنْ أَترك آخرَ الناسِ بَبَّانًا ليس لهم شيء، ما فتحت قريةً إلا قَسَمتُها كما قَسَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، ولكني أتركها خزانةً لهم يَقتسمونها. (3) تقدم تخريجه في (ص 393). (4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/ 62) من طريق ابن أبي مُليكة أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يُطلِّق المرأة فَيَبُتُّهَا ثم يموت وهي في عِدَّتِهَا؟ فقال ابن الزبير: طَلَّق عبد الرحمن بن عوف ابنةَ الأصبغ الكلبي، ثم مات وهي في عِدَّتها، فورَّثَها عثمان. قال ابن الزبير: وأمَّا أنا فلا أرى أنْ ترث المبتوتة. وقال ابن أبي مليكة: وهي التي تَزعم أنه طلَّقها مريضًا. انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 246، 254 - 256).

(2/612)


وأما الثالث: فهو الإجماع الاستقرائي، وهو أن يتتبع (1) العالم ما أمكنه من أقوال العلماء فلا يجد أحدًا خالف في ذلك، ومعلوم أَنَّ علمه بأقوالهم التي بلغته أتم من علمه بنفي يُنازعه الغير لهم (2). وهذا المعترض يطعن في نقل أقوالهم المنقولة عنهم، فكيف يمكن مع هذا أن يقال: إنهم اتفقوا على قولٍ في مثل هذه المسائل التي لم يظهر أنها من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظهورًا عامًّا، ولا هي مما اشتهرت في الصحابة ولا في جميع التابعين فأقروا بها ولم ينكرها منكر، وإنما غاية المنقول في ذلك فتاوى خاصة في قضايا معينة عن بعض التابعين، لا يُعرف أن تلك الأقوال بلغت جميع التابعين، بل ولا أكثرهم، بل ولا يُعرف أنها بلغت جميع مَنْ في بلد المفتي منهم. وهذا المعترض قد قال فيما بعد لمَّا تكلَّمَ على حديث ليلى بنت العجماء قال: (وبالجملة؛ فهذا محل اشتباهٍ، لما تقدم من الفرق بين الألفاظ المتعدية (3). قال: ومِنْ هنا ــ والله أعلم ــ قال مَنْ قال: إِنَّ مثل هذه المذاهب القديمة لا يجوز للعامي تقليدها، وليس (4) ذلك لأمرٍ يرجع إلى أصحابها ــ حاشى لله ــ، بل هم أئمة الهدى وينابيع العلم، ولكنه لم يُعتنَ بجمع أقوال قائليها _________ (1) في الأصل: (يتبع). (2) كذا في الأصل، والمعنى واضح. (3) في «التحقيق»: (المتقدمة). (4) في الأصل: (فليس)، والمثبت من «التحقيق».

(2/613)


وتدوينها اعتناءً تامًّا حتى يستدل ببعضها على بعض، وبِبَيِّنِهَا (1) على مجملها، وبخاصِّها على عامها، ومقيَّدِها على مطلقها، كما فعل أتباع المذاهب المشهورة، وتناقلوها نقلًا مستفيضًا بحيث صار يحصل لكثيرٍ من المتمذهبين الظنُّ القوي بأنَّ تلك الأحكام هي قول إمامه ومذهبه، وتناقلها (2) المرجِّحُونَ لها قرنًا بعد قرن، عددًا يبلغ حد التواتر في معظم المسائل والقواعد من لدن زمن إمامه إليه، لا لفتيا مطلقة تُنقل عن إمامٍ لا يُدرى ما أراد بها، وهل اقترن بها مقتضى [170/ أ] ذلك أم لا؟ فكنَّا نودُّ لو دُوِّنَت (3) تلك المذاهب كما دُوِّنَت هذه، ولكن في كتاب الله وسنة رسوله التي تكفَّل الله بحفظهما بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] كفايةٌ عن كل مذهبٍ، وغَناءٌ عن كل قائل) (4). فيقال له: إذا كان هذا قولك في أقوال السلف المعروفة المنقولة عنهم بالإسناد ألفاظهم فيها، وأنت لا تجزم بقولهم في تلك المسائل؛ فكيف تجزم بقول كل واحد من السلف في مسألة ليس معك فيها نقل إلا عن قليل من التابعين لا يبلغون عشرين نفسًا؟! ثم مع هذا تدعي إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم على ذلك. وتعتمد في نقل الإجماع على نقل أبي ثور ونحوه للإجماع، وأنت لا تقبل نقلهم لأقوالٍ نقلوها بالإسناد، ونقلوا ألفاظ أصحابها، وجميع العلماء _________ (1) في «التحقيق»: (وبمبيَّنِهَا). (2) في الأصل: (تناقلوها)، والمثبت موافق لما في «التحقيق». (3) في الأصل: (دريت)، والمثبت من «التحقيق». (4) «التحقيق» (46/ أ).

(2/614)


بعدهم وافقوهم على نقل هذا النزاع، ولم يقل أحدٌ جاء بعدهم إنهم أخطأوا في نقل النزاع، ثم تحتج بنقلهم للإجماع وقد أنكر غيرهم عليهم هذا الإجماع، وقالوا: إنهم أخطأوا فيه، وأَنَّ المسألةَ مسألةُ نزاعٍ لا مسألةُ إجماعٍ ولو لم يخالفهم، فلا يكون نقلهم لقول كل واحد واحدٍ من العلماء ونفي منازعة أحد من العلماء لهم مع أنهم لم يذكروا إسنادًا إلى كل واحد، ولا معهم إسناد بنفي المنازع= بأعظم من نقلهم لقول بعض الصحابة والتابعين التي نقلوها بالإسناد ونقلوا ألفاظهم التي تعرف مذاهبهم، فإذا قَدَحَ في النقل الراجح الذي هُمْ به أعلم فَلَأَنْ يقدح في النقل المرجوح الذي لا يعلمونه كعلم ذاك بطريق الأولى. وإذا كان في كتاب الله ــ تعالى ــ وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - التي تَكَفَّلَ الله ــ عز وجل ــ بحفظهما كفاية عن كل مذهبٍ، وَغَنَاء عن كل قائل؛ ففيها غَنَاءٌ وكفايةٌ عن المذاهب المشهورة وغيرها، ووجب مع هذا أَنْ ليس في الأقوال ما هو حق إلا ما وافق الكتاب والسنة، وكل إجماعٍ معصوم فهو موافق للكتاب والسنة، وما خالف الكتاب والسنة امتنع أن يكون إجماعًا صحيحًا؛ فالاعتبار بالكتاب والسنة. وأما مسائل النزاع؛ ويقال: إنها مجمعٌ عليها أو مختلفٌ فيها [170/ ب]؛ فإنها إِنْ كانت مجمعًا عليها فلا بُدَّ أَنْ تكون مُبَيَّنَةً في الكتاب والسنة، وإِنْ كانت متنازعًا فيها فالصواب فيها ما وافق الكتاب والسنة. وأما أبو حامد الإسفراييني ــ رحمه الله تعالى ــ فمراده: نفي الخلاف في المذهبين، مذهب أبي حنيفة والشافعي - رضي الله عنهما - كما دَلَّ عليه سياقُ كلامِهِ، وهذه عادةٌ معروفة لمصنفي الخلاف.

(2/615)


والطرائق في الخلاف يحتجون على منازعهم بما يُسَلِّمُونَهُ، ويقول: ثبت بالإجماع؛ أَيْ: مِنَّا ومنكم، وكثيرٌ من أدلة المصنفين في الخلاف إنما يعتمدون فيها على النقليات الجدلية التي يُسَلِّمُهَا المنازع، إذ كان مقصودهم بيان أَنَّ قولهم أرجح مِنْ قول ذلك المنازع لهم؛ ولهذا لا يثبتون إلا ضعف قوله ورجحان قولهم على قوله، وهذا لا يفيد العلم ولا يفيد الاستدلال على حكم الله ورسوله. ومما يُبَيِّنُ ذلك: أَنَّ أبا حامد قال: (الثاني: أنْ يعلِّق به عتقًا أو طلاقًا فيقع ذلك عند وجود الشرط بلا خلاف، لأنه طلاق وعتق معلق بصفة يقع عند وجودها). فقد نفى الخلاف في الحلف بالعتاق كما نفاه في الحلف بالطلاق، ومن هو دون أبي حامد يعلم النزاع في العتق، وهو مذكور في الكتب التي ينقل منها أبو حامد الخلاف، مثلُ كتب أبي بكر بن المنذر وغيره. ولو قُدِّرَ أَنَّ أبا حامد نَفَى الخلاف في ذلك؛ فأبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وأبو بكر بن المنذر وأبو عمر بن عبد البر وابن حزم وغيرهم = نقلوا النزاع في العتق عن الصحابة والتابعين، ومعلومٌ أَنَّ الواحدَ مِنْ هؤلاء أعلم بمذاهب الصحابة والتابعين وما بينهم من النزاع من أبي حامد، فكيف بمجموعهم؟! وقد عُلِمَ أَنَّ نقل الناقل العالم مُقَدَّمٌ على نَقْلِ غيرِهِ لنفي النزاع، فإنَّ ذاك مثبتٌ والآخر نافٍ؛ هذا لو كان النافي للنزاع جازمًا بنفيه، والنفي مما يمكن العلم به؛ كنفي أسامة - رضي الله عنه - للصلاة في الكعبة (1)، فإنه جَزَمَ بنفي ذلك، _________ (1) أخرجه مسلم في صحيحه (1330).

(2/616)


وهو نفي يُحَاطُ به، ومع هذا؛ فَقَدَّمَ العلماءُ إثباتَ بلالٍ - رضي الله عنه - حيث قال: صَلَّى فيه (1) على نفي أسامة [171/ أ]؛ فكيف وليس مع النافي إلا ظَنُّ أبي ثور لعدم النزاع؟! كما صَرَّحَ عن نفسه بأنَّ الإجماع عدم العلم بالنزاع. فَعُلِمَ أَنَّ هذا المدَّعِي للإجماع ليس معه علمُ أحدٍ من العلماء بالإجماع، ومن ادعى العلم بالإجماع في ذلك عُلِمَ أنه كاذب، كما قاله أحمد بن حنبل، وإنما معه عدم علمه بالنزاع، أو ظَنٌّ لنفي النزاع. فصلٌ وأما قوله: (فلا نعدل عن هذا إلا بنقل صريح عن إمامٍ معتبر). فجوابه من وجوه: أحدها: أنه لا نُسلِّم أَنَّ مثل هذا حجة يجب الاعتماد عليها، فإنه إذا قال واحد أو اثنان أو ثلاثة: نحن لا نعلم في هذا نزاعًا، أو نظن أنه لا نزاع في ذلك = لم يكن هذا مما يوجب أن جميع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من أولهم إلى آخرهم يجب عليهم تقليدُ هذا الظانِّ فيما ظنه، فإنه لا يجب عليهم تقليده فيما يقطع به، فكيف يجب عليهم تقليده فيما ظنه؟! وهب أنه يجوز تقليده لبعض الناس، أو يجب على بعض الناس؛ لكن لا يقول عاقل: إنَّ جميع الأمة يجب عليها تقليده، وليس هذا مثل ترك رواية ما يرويه من الأخبار، فإنَّ ذاك خبر منه عما سمعه أو رآه، ليس هو خبرًا عما يظن بالاستقراء (2)، ولهذا يجب على أمثاله وعلى مَنْ هو أكبر منه أَنْ _________ (1) أخرجه البخاري (506)، ومسلم (1329) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (2) في الأصل: (بالاستقرار)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/617)


يرجعوا إلى خبره، كما كان الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - يرجعون في الأخبار إلى مَنْ سمع ما لم يسمعوا، ورأى ما لم يروا. ولا يقول أحدٌ إنه يجب على الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم أنهم يرجعون إلى أبي ثور وأمثاله فيما يظنه من عدم النزاع، مع أنه عليهم أن يرجعوا إلى مَنْ هو دون أبي ثور في العلم والفقه فيما ينقله من الأخبار إذا كان ثقةً؛ وذلك أنه ليس نقل الإجماع ونفي النزاع مثل نقل ما سمع من الأخبار، فإنَّ هذا غايتُهُ فيه الاستقراء. ثم إِنَّ هذا خبرٌ مرسل؛ فإنه يخبر أَنَّ هذا قول العلماء الذين لم يدركهم، ولا سَمَّى مَنْ أَخبرَ ذلك عنهم، بل لو نقل واحدٌ مذهب فقيهٍ من غير أن يعزوه إلى كتاب أو إسناد = لكان نقلًا مرسلًا، والغالب عليه الصواب، كما أَنَّ الغالب على مراسيل التابعين الصواب، والخطأ في ذلك أكثر [171/ ب] من الخطأ في مراسيل التابعين؛ فإذا كان مرسَل العالم المشهور لنص الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي يجب اتباعه إما ألا يكون حجة وإما أن يكون حجة ضعيفة غيرها أقوى منها؛ مع أَنَّ عِلْمَهُ بأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال هذا ممكن بطرقٍ كثيرة، فكيف بقول بعض العلماء وهو ما لا يمكنه علمه؛ بل غايته أنه يظن ألا نزاع في ذلك؟! ولهذا لم يكن الأئمة المتبوعون (1) يحتجون بمثل هذا قط، وإنما يعتمد أحدهم على استقرائه واجتهاده في معرفة النزاع وعدمه، لا يقلد في ذلك غيره، مع اتفاقهم على وجوب اتباع الأخبار؛ فَعُلِمَ أَنَّ مثل هذا الكلام ليس _________ (1) في الأصل: (المتبوعين)، والجادة ما أثبتُّ.

(2/618)


حجةً نقليةً يجب العملُ بها كما يجب العمل بالأخبار الثابتة المنقولة، لا سيما والأصوليون قد تنازعوا في الإجماع إذا نُقِلَ بخبرٍ واحدٍ هل يكون حجة أم لا؟ على قولين مشهورين (1). وهذا إذا نقل بإسناد متصل عن جميع أهل الإجماع كما نقل عن الصحابة المعروفين ونحوهم، فأما نقلُ واحدٍ متأخرٍ بعد القرون الثلاثة لإجماعٍ لم ينقله قبله أحدٌ، وليس معه فيه إلا ظن عدم النزاع؛ فكيف يجب على الأمة اتباعه بمجرد ذلك؟! نعم من استقرأ الأقوال وتتبعها فَغَلب على ظنه= كان بمنزلة أبي ثور في ذلك، وهذا الظن قد يكون صوابًا وقد يكون خطأ، وليس له أَنْ يحتجَّ على غيره بظنه إلا كما يحتجُّ على غيره بنفي المعارض، مثل أَنْ يقول: هذا دليل عام ولا مخصص له، فإني بحثت عن المخصص فلم أجده. وقد تنازع الناس في نفي المعارض هل هو جزء من الدليل في حق الناظر أو المناظر؟ والصحيح: أَنَّ الناظر المستدل لا يعمل بالدليل الظني إن لم يغلب على ظنه نفي المعارض المقاوم، وأما المناظر فلا يجب عليه في الاستدلال نفي المعارض مفصلًا، فإنَّ هذا يتعذر أو يتعسر، وهذا يظهر بِـ الجواب الثاني: وهو أَنْ يقال: هَبْ أَنَّ المحتج بنقل أبي ثور هو أبو ثور نفسه، فليس عِلْمُ الإنسان بما في قلب غيره بأعظم مِنْ علم ذلك الشخص؛ فإنَّ المناظر له يقول له: مجرد ظنك ليس بحجةٍ عليَّ إِنْ لم أستقرئ أقوال العلماء فأظن ما ظننته [172/ أ] من عدم المنازع. _________ (1) المعتمد (2/ 67)، البحر المحيط (4/ 441)، شرح مختصر الروضة (3/ 130).

(2/619)


الثالث: أَنْ يقال: المدعي للإجماع سواء اعتقده باستقرائه أو نقله عمن استقرأه = إنما يجوز له أن يحتج به ناظرًا أو مناظرًا إذا لم يكن عنده نقل بالنزاع؛ فأما مع وجود النقل بالنزاع فلا يجوز الاستدلال [به] (1) على المثبت (2) للنزاع، فإنَّ وجود النزاع ينفي الإجماع، والنقل بالنزاع في الطلاق موجود من وجوه. لكن المقصود هنا: ذكر ما هو عند المعترض في كتبه التي ينقل منها؛ فمن ذلك: أَنَّ ابن حزم نقل في كتاب (الإجماع) له في الطلاق الأقوال الثلاثة: هل يلزم أم لا يلزم؟ وإذا لم يلزم هل يكفر أم لا؟ فقال (3): (واختلفوا فيمن حلف بنحر ولده أو نحر أجنبي أو هديه (4) أو بالمصحف أو بالتوراة أو بنذر أخرجه مخرج اليمين أو بأنه مخالف لدين الإسلام (5) أو بطلاق أو بظهار أو تحريم شيء من ماله أو ما أحل الله، أو قال: عليَّ يمين، أو قال: علم الله، أو قال: حلفت، أو قال: لا يحل لي، أو قال: عليَّ لعنة الله، أو أخزاني الله= أيكفر، أم لا كفارة عليه وإن خالف ما حلف عليه؟ واختلفوا في جميع هذه الأمور التي استثنيناها أفيها كفارة أم لا؟ وفي صفة الكفارة في ذلك؟ وفي وجوب بعضها. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) في الأصل: (النافي)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) مراتب الإجماع (ص 256). (4) الكلمة غير واضحة، وكذا وجدتها مثبتة في مراتب الإجماع. (5) وكتب الناسخ في الحاشية (الله) ثم (صح)، والذي في مطبوع المراتب كما هو مثبت.

(2/620)


قال: واختلفوا في اليمين بالطلاق أهو طلاق فيلزم أم هو يمين فلا يلزم؟). فذكر في الحالف بالطلاق والظهار والنذر وسائر ما ذكره قولين: هل يكفر أم لا يكفر؟ ثم ذكر في الطلاق قولين: هل هو طلاق فيلزم أم هو يمين فلا يلزم؟ فإنْ شئت قلت: إذا لم يكفر؛ ففيه قولان: هل هو يمين لاغية أم هو طلاق لازم؟ وإن شئت قلت: إذا قيل: هو يمين؛ فهل هو يمين مكفرة أم غير مكفرة؟ فإنَّ المقصود واحد. وهذا بخلاف الظهار والحرام فإنما ذكر فيه قولين هل يكفر أم لا؟ وذلك أَنَّ الطلاق إذا قيل هو ليس بيمين، فلا كفارة فيه باتفاق المسلمين؛ فلهذا ذكر فيه النزاع إذا قيل هو يمين هل يكفر أو لا؟ ثم ذكر النزاع هل هو يمين فلا يلزم أم هو طلاق فيلزم؟ فإذا قيل: هو طلاق لازم، فلا كفارة فيه بالاتفاق، بخلاف [172/ ب] غيره. فإنه إذا قيل: إنَّ الحلف بالظهار ظهار، والحلف بالحرام حرام، والحلف بالنذر نذر؛ ففي الظهار الكفارة وفاقًا، وفي الحرام والنذر على أحد القولين، وأما إذا قيل: إنه ليس بظهار ولا حرام ولا نذر بل هو يمين؛ ففيه النزاع: هل هو يمين مكفَّرة أم غير مكفَّرة؟ فبكل حال؛ قد قيل فيه كفارة وإنْ قيل إنه ليس بيمين، بخلاف الطلاق فإنه إذا لم يكن يمينًا فلا كفارة فيه.

(2/621)


ثم ذكر في موضع آخر ــ أعني: ابن حزم ــ فقال (1): (واتفقوا على أَنَّ الطلاق إلى أجل أو بصفةٍ واقعٌ إِنْ وافقت وقت طلاق، ثم اختلفوا في وقت وقوعه؛ فمن قائلٍ الآن، ومن قائلٍ هو إلى أجله. واتفقوا إذا حان ذلك الأجل في وقت طلاق أن الطلاق واقع. قال: واختلفوا في الطلاق إذا خرج مخرج اليمين أيلزم أم لا؟). فقد ذكر النزاع في الطلاق الذي خرج مخرج اليمين في غير موضع من كتاب الإجماع. وذكر ــ أيضًا ــ في المحلى قال (2): (وأما مَنْ فَرَّقَ بين العتق المعيَّن وغيره فخطأ، وحجتهم في ذلك أنه عتق بصفة، وليس كما قالوا؛ بل هو يمين بالعتق، فهو باطل ــ أيضًا ــ لا يلزم. وقالوا: قسنا العتق المعيَّن على الطلاق المعين. فقلنا: القياس كله باطل، ثم لا يصح قولكم في الطلاق المعين إذا قصد به اليمين لا من قرآن ولا سنة ولا إجماع). فقد نفى أن يكون في الطلاق المعين إذا قصد به اليمين كتاب أو سنة أو إجماع، وهذا تخصيص منه لنفي الإجماع في الطلاق الذي قصد به اليمين دون الذي لم يقصد به اليمين، وقد ذَكَرَ الإجماع على أَنَّ الطلاق المعلق الذي لم يقصد به اليمين يقع، ثم اختار بعد ذلك في المحلى أنه لا يقع. _________ (1) مراتب الإجماع (ص 129). (2) (ص 990).

(2/622)


وقد تقدم أَنَّ هذا قول أبي عبد الرحمن الشافعي، وهذا نزاعٌ لم يكن قد اطلع عليه ابن حزم ــ أيضًا ــ، كما قد ذكرنا قطعة كبيرة من إجماعاته التي فيها نزاع لم يطلع عليه (1)، مع أنه من أعظم نقلةِ الإجماعات اطلاعًا، وأكثرهم انتقادًا. وقد قال في كتابه في (الإجماع) (2): (وإنَّا أملنا بعون الله ــ تعالى ــ أَنْ نجمع المسائل [173/ أ] التي صَحَّ فيها الإجماع، ونفردها من سائر المسائل التي وقع [فيها] الخلاف بين العلماء). إلى أَنْ قال (3): (وقد أدخل قومٌ في الإجماع ما ليس منه؛ فقومٌ عَدُّوا قول الأكثر إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا ما لا يعلمون فيه خلافًا وإِنْ لم يقطعوا على أنه لا خلاف فيه= فحكموا على أنه إجماع، وقومٌ عَدُّوا قول الصاحب [المشهور] المنتشر إذا لم يعلموا له من الصحابة مخالفًا [وإنْ وجد الخلاف من التابعين ممن بعدهم فعدوه إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا قول الصاحب الذي لا يَعرفون له مخالفًا من الصحابة - رضي الله عنهم - وإنْ لم يَشتهر ولا انتشر إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا قول أهل المدينة إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا قول أهل الكوفة] إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا اتفاق العصر الثاني على أحد قولين أو أكثر كانت للعصر الذي قبلهم إجماعًا. _________ (1) طبع هذا الكتاب عدة طبعات؛ فقد طُبِعَ ملحقًا بكتاب ابن حزم (مراتب الإجماع) بعناية الكوثري، وكذا بتحقيق: حسن إسبر، وطُبِعَ ضمن جامع المسائل (3/ 323) بتحقيق: محمد عزير شمس بعنوان (فصلٌ في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع). (2) (ص 23)، وما بين المعقوفتين من المراتب. (3) (ص 26)، وما بين المعقوفتين من المراتب.

(2/623)


قال: وكل هذا آراء فاسدة). قال (1): (وقومٌ قالوا الإجماع هو إجماع الصحابة فقط، وقومٌ قالوا: إجماع كل عصر إجماع صحيح، إذا لم يتقدم قبله في تلك المسألة خلاف). قال: (وهذا هو الصحيح لإجماع الأمة عند التفصيل عليه، واحتجاجهم به، وتركهم ما أَصَّلُوه له). إلى أَنْ قال (2): (وصفةُ الإجماع: ما تُيُقِّنَ (3) أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الإسلام، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك، مثل: أَنَّ المسلمين خرجوا من الحجاز واليمن (4) ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأَنَّ بني أمية ملكوا دهرًا ثم ملك بنو العباس، وأنه كانت وقعة صفين والحرة؛ وسائر ذلك مما يعلم بيقينٍ وضرورة). وقال ــ أيضًا ــ (5): (إنما نُدخل في هذا الكتاب الإجماع التام الذي لا نُخالَف فيه البتة، الذي نعلمه كما نعلم أَنَّ صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان). فهذا شرطه في إجماعه؛ ومع هذا: فقد ذكر إجماعات كثيرة فيها نزاع لم يعلمه، بل فيها ما قد خالفه هو ــ أيضًا ــ، قد ذكرنا منها قطعة فيما كتبناه في الإجماع في غير هذا الموضع. _________ (1) (ص 27). (2) (ص 28). (3) في الأصل: (ما بُيِّنَ)، والمثبت من المراتب. (4) في الأصل: (اليمين)، والمثبت من المراتب. (5) (ص 33).

(2/624)


وأما ما ينقله ابن عبد البر من الإجماعات؛ فيوجد في كثيرٍ منها من النزاع أكثر مما يوجد في إجماعات ابن حزم، وهما في عصرٍ واحدٍ وبلدٍ واحدٍ؛ مثل هذه المسألة، فإنَّ ابن عبد البر نقل فيها الإجماع مع أَنَّ من عادته أنه ينقل قول داود وأصحابه، ويقال: إنه كان أولًا على مذهبهم، كما كان أبو إسحاق الشيرازي على مذهبهم؛ ومع هذا فلم ينقل ابن عبد البر مذهبهم في ذلك كما نقله ابن حزم، لأنه [173/ ب] لما رأى ما ذكره أبو ثور وابن (1) نصر تبعهما في ذلك، وقد تبين أن الأصل في ذلك عدم علم أبي ثور بالنزاع أو ظنه عدم النزاع، وهذا إذا عارضه مَنْ أثبتَ النزاعَ مجملًا لم يكن لأحدٍ أَنْ يجزم بنفي النزاع، بل ولا يظنه إذا لم يعلم انتفاءه مع جزم الناقل بثبوته، فكيف وقد عرف ثلاثة أقوال أخر؟! قولُ مَنْ يقول: الطلاق المعلق بالصفة لا يقع بحال؛ كقول أبي عبد الرحمن الشافعي وابن حزم ومن وافقهم من الإمامية كالمفيد والموسوي والطوسي وغيرهم، وإِنْ كان هؤلاء لم ينفردوا عن أهل السنة بقولٍ صواب، فإذا قالوا قولًا قاله بعض أهل السُّنَّة ذُكِرُوا تبعًا لأهل السنة، وقد ذكرنا تنازع الناس في أهل الأهواء هل يعتد بنزاعهم أم لا في موضع آخر (2). والقول الثاني: قولُ مَنْ يُفَرِّقُ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي لا يقصد، لكن يقول: إذا قَصَدَ اليمين لم يقع ولا كفارة عليه كما يقول ذلك طائفة أكثر من ذلك، وهو محكي عن داود وغيره وعن طائفة من أهل البيت. _________ (1) في الأصل: (وأبي). (2) انظر ما سيأتي: (ص 659).

(2/625)


والقول الثالث: مَنْ يقولُ فيما خرج مخرج اليمين: لا يلزم ولكن يكفر كفارة اليمين؛ وهو القول الثالث الذي ذكره ابن حزم، وهو قول طاووس وغيره، وبه يفتي جماعة متعددة من أصحاب مالك وغيرهم. الوجه الرابع: قوله: (لا نَعدل عن ذلك إلا بنقلٍ صريحٍ عن إمامٍ معتبرٍ). يقال له: ما تعني بالإمام المعتبر؟ وما تعني بكونه معتبرًا؟ ومَنْ هو الذي يعتبره؟ فما من عالمٍ من علماء المسلمين إلا وله طائفة تعتبره وتُعَظِّمُ أقواله، وطائفةٌ تُخالف أقواله وتضعفها؛ فإنْ أَردتَ مَنْ يَعتبرُ أقوالَهُ جميعُ المسلمين (1). ثم اعتبارُ أقوالِهِ؛ قد يعني به حكايتها والاعتناء بها، وقد يعني به تقليدها واتباعها، وقد يعني به الاعتداد بخلافه؛ وكل هذا مما اختلف فيه الناس: تارة بحسب علمهم وقدرتهم، وتارة بحسب قصدهم وإرادتهم؛ فهذه الطوائف تحكي أقوالَ قومٍ لا تحكيها هذه الطائفة، وتتبع أقوال قوم لا تتبعها هذه الطائفة، وتعتد بخلافِ قومٍ لا تعتد بخلافها هذه الطائفة، ومَنْ له خبرة [174/ أ] بأقوال العلماء، وقول بعضهم في بعضٍ= يَعرفُ هذا (2). _________ (1) كذا في الأصل، والكلام لم يتم بعد، ولعل الساقط: (فهذا ليس لأحدٍ من الناس إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -) أو نحو ذلك. (2) قال في مجموع الفتاوى (20/ 293) والفتاوى الكبرى (4/ 449): (ولا أحد في الإسلام يُجيب المسلمين كلهم بجوابٍ عام أنَّ فلانًا أفضل من فلانٍ فيقبل منه هذا الجواب، لأنه من المعلوم أنَّ كلَّ طائفة ترجِّحُ متبوعها فلا تَقبل جواب من يجيب بما يُخالفها فيه، كما أنَّ مَن يرجِّح قولًا أو عملًا لا يَقبل قول مَن يُفتي بخلاف ذلك، لكن إنْ كان الرجل مقلِّدًا فليكن مقلِّدًا لمن يترجَّح عنده أولى بالحق؛ فإنْ كان مجتهدًا واتبع ما يترجَّح عنده أنه الحق، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] لكن عليه ألا يَتَّبِعَ هواه ولا يَتكلَّم بغير علم قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66]، وقال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6]، وما من إمامٍ إلا له مسائل يَترجح فيها قولُهُ على قولِ غيره، ولا يَعرف هذا التفاضل إلا مَنْ خاض في تفاصيل العلم، والله أعلم).

(2/626)


فطائفةٌ لا تعد خلاف الشافعي خلافًا؛ كالقاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره، وطائفة لا تعد خلاف أبي حنيفة خلافًا؛ كأكثر أهل الحديث، وطائفة تقول كان ينبغي لمالك أَنْ يَسكت؛ كما قال محمد بن الحسن وغيره، إلى أمور أخرى يطول وصفها (1). وأيضًا؛ فيقال: مَنْ هؤلاء المعتبرون الذين فرض الله ــ تعالى ــ على جميع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شرقًا وغربًا ألا يعتبروا إلا أقوالهم دون أقوال مَنْ نازعهم؟ ومن أين نعلم ذلك؟ وما الدليل على ذلك؟ وهل يتكلم بهذا مَنْ يَعرف الأدلة الشرعية وأصول الفقه التي تُبنى عليها الأحكام؟ وكذلك قوله: عن إمام؛ ماذا تعني بالإمام؟ أتعني بالإمام من ائتم به طائفة من المسلمين؟ فما من عالمٍ من العلماء إلا وله طائفة تأتم به. أم تعني به من ائتم به جميع المسلمين؟ فليس في العلماء مَنْ يتبعه جميع المسلمين، بل ولا أكثرهم في مفرداته. أم مَنْ صُنِّفَتِ الكتبُ على مذاهبهم؟ فمعلوم أَنَّ الصحابة والتابعين لهم بإحسان يعتد بخلافهم بإجماع المسلمين، ولم _________ (1) انظر: جماع العلم (9/ 25 وما بعدها)، الرسالة الباهرة في الرد على أهل الأقوال الفاسدة لابن حزم، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1087 - 1119)، جامع المسائل (5/ 72 - 75)، وما تقدم (ص 226).

(2/627)


تصنف على مذاهبهم كتب، ولم تصنف الكتب على مذاهبهم كما صنفت على مذاهب الأئمة الأربعة أو الخمسة أو الستة أو السبعة، بل صنفت الكتب على مذهب أبي حنيفة ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وابن جرير، وكلٌّ مِنْ هؤلاء له أتباع ولهم مصنفات على مذهبه. ومعلومٌ باتفاق المسلمين أن الصحابة الذين هم أجل من هؤلاء يعتد بأقوالهم في الخلاف وإن لم يكونوا كذلك، وكذلك التابعون، وكذلك سائر العلماء مثل: الليث بن سعد وحماد بن سلمة وابن جريج وسفيان بن عيينة وسليمان التيمي وأشعث وغيرهم. وأيضًا؛ فيقال: ما تعني بقولك: بنقل صريح؟ أتعني به ما يدل دلالة تبين مراده؟ أم ما يدل على خصوص محل النزاع من غير مشاركة غيره في الدلالة؟ واشتراط الثاني باطل. وأيضًا؛ فمعلوم أَنَّ النقل في هذه المسألة عن بعض العلماء ليست [174/ ب] حجة شرعية يجب على المسلمين اتباعها، وإنما يجب اتباع ما أنزل الله ــ عز وجل ــ على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المطلوب من النقل هنا أَنْ نقدح في ظن الإجماع؛ فإنَّ الإجماع نوعان: قطعي؛ يُقطع بأنَّ الأمة أجمعت عليه، وظني؛ يُظنُّ أَنَّ الأمة أجمعت عليه. وقد تنازع الناس في الإجماع هل هو حجة قطعية أم ظنية؟ وهل (1) يقطع بخطأ من خالفه؟ _________ (1) في الأصل: (وهذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/628)


والتحقيق: أَنَّ ما قطعنا بأنه إجماع الأمة قطعنا بخطأ مخالفه، فإنَّا نقطع أَنَّ الأمة لا تجتمع على خطأ، وما لم نقطع بأنه إجماع الأمة لم نقطع بخطئه من هذه الجهة، لكن إِنْ علمنا خطأه من جهة أخرى قطعنا به (1). وإذا كان كذلك؛ فمن المعلوم أنه إذا كان الطريق الذي به يُعرف الإجماع نقل أبي ثور ومن اتبعه، وهو يقول: إنما معي عدم العلم بالنزاع، وظن أنه لا نزاع = كان بمنزلة مَنْ يَقول: لا أعلم في مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة خلافًا، أو أظن أنه لا خلاف في ذلك؛ وبمنزلة مَنْ يقول: هذا الخبر لم يروه إلا فلان، أو أظن أنه لم يروه إلا فلان، أو ما أعلم رواه إلا فلان. فإذا قال غيره: بل في مذهب فلان قول آخر، وهذا الخبر رواه آخر. فإذا قال العالم الآخر: بل في الطلاق نزاع، لم نَبْقَ ظانِّين للإجماع، كما كنا نظنه لو لم ينقل هذا، بل جَوَّزنا ــ حينئذٍ ــ أَنْ يكون هناك نزاع اطلع عليه هذا دون ذاك، بل ومع هذا التجويز يرجح هذا، ولو لم يرجح لم نبق ظانين إجماعًا، فلا يبقى هناك إجماع احتج به. وإذا قام عندنا دليل خالف هذا؛ فإما أن يترجح عندنا عدم الإجماع، فيجب علينا العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم، وإِمَّا أَنْ يتساوى الأمران فلا يرجح واحد على الآخر فنقف؛ فأما الجزم بهذا النقل النافي _________ (1) مجموع الفتاوى (19/ 270)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 113)، منهاج السنة (8/ 360)، المنتقى من منهاج الاعتدال (ص 578، 580).

(2/629)


دون ذاك النقل المثبت، فهذا ترجيح بلا مرجح، بل ترجيح للمرجوح على الراجح، بل ترجيح النافي على المثبت، بل ترجيحٌ لعدم العلم على العلم، وترجيحٌ للظن الضعيف على الظن القوي؛ وكل هذا لا يفعله إلا جاهل أو متجاهل. الوجه الخامس: [175/ أ] أَنْ يقال: من المعلوم أَنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ بَيَّنَ للمسلمين الدين؛ كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فقد بَيَّنَ الله ــ عز وجل ــ للأمة ما تتقيه، والذي يتقونه هو ما نهاهم عنه. وقد قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]، وقال عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] والدلائل الدالة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة كثيرةٌ.

(2/630)


وقد أمر الله ــ سبحانه ــ المسلمين بتبليغ ما بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والحكمة، وقال تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». رواه البخاري (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا ليبلغ الشاهد الغائب» أخرجاه في الصحيح (2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «نَضَّرَ الله امرأً سمع منا حديثًا فبلَّغه إلى من لم يسمعه، فربَّ حامل فقهٍ غيرِ فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» رواه أهل السنن من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت بأسانيد حسنة (3). وإذا كان كذلك؛ فإذا دَلَّ الكتاب والسنة على حكمٍ لم يجز أن تكون _________ (1) برقم (3461) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. (2) أخرجه البخاري (4406) وفي مواضع أخرى، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -. (3) حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أخرجه الترمذي (2657، 2658)، وابن ماجه (232) وغيرهما. وقال الترمذي: هذا حديث حسنٌ صحيح. وصححه ابن حبان (1/ 268، 271). وأما حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: فأخرجه أبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230) وغيرهم. وقال الترمذي: حديث حسنٌ. وصححه ابن حبان (2/ 454). انظر: جزء فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نضر الله أو أسمع مقالتي فأدَّاها» لأبي عمرو الأصبهاني المديني، وعلل الحديث (6/ 308 - 309)، وعلل الدارقطني (12/ 363). ودراسة حديث: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي ... » رواية ودراية للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.

(2/631)


حجة الله الدافعة لذلك هو إجماعًا يُسْنِدُهُ بعض العلماء إلى عدم علمه بالمنازع بعد القرون الثلاثة، لأنَّ قول هذا العالم لا يعرفه جمهور الناس، ولا كان مَنْ قَبْلَهُ يعرفه (1)، فالعلماء الذين تكلموا في هذه [175/ ب] المسألة لا يجوز أن يكون مستندهم نقل هذا الإجماع، ولم ينقل أحد منهم إجماعًا قبله، كما كانوا ينقلون الأخبار التي يثبتون عليها الأحكام، ثم نقلها مَنْ بعدهم = فامتنع أن يكون مثل هذا النقل حجة الله التي جعلها عصمةً لعباده المؤمنين التي يهتدون بها؛ ولهذا يوجد الإجماع الذي هو إجماع يجب اتباعه معه كتاب أو سنة تقدمه على الإجماع يتبعها المؤمنون. ولهذا كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى شريحٍ يقول: اقضِ بما في كتاب الله، فإنْ لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله، فإنْ لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون. وفي روايةٍ: فبما أجمع عليه الناس (2). وكذلك قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أَفْتُوا بما في كتاب الله، فإنْ لم تجدوا فبما في سنة رسول الله، فإنْ لم تجدوا [ ... ] (3). _________ (1) في الأصل: (ولا كان مَنْ يقبله يعرفه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) أخرجه النسائي في سننه (5399) وفي الكبرى (5911) ــ ومن طريقه الضياء في المختارة (1/ 238) ـ، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 421) وغيرهم. ونقل ابن الملقن في البدر المنير (9/ 540) قول ابن دحية: وأحسن ما ورد في هذا الباب ما رواه الشعبي عن شريح القاضي وذكره. وصححه إسناده ابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر (1/ 120). وانظر: مسند الفاروق (2/ 435 وما بعدها). (3) طمس في الأصل مقدار نصف سطر. والأثر أخرجه النسائي (5397)، ولفظه: «إنه أتى علينا زمان ولسنا نقضي، ولسنا هنالك، ثم إنَّ الله ــ عز وجل ــ قدَّر علينا أن بلغنا ما ترون؛ فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم؛ فليقض بما في كتاب الله، فإن جاء أمرٌ ليس في كتاب الله؛ فليقض بما قضى به نبيُّهُ - صلى الله عليه وسلم -، فإن جاء أمرٌ ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيُّهُ - صلى الله عليه وسلم -؛ فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمرٌ ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - ولا قضى به الصالحون؛ فليجتهد رأيه، ولا يقول: إني أخاف، وإني أخاف؛ فإنَّ الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات؛ فدع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك». وقال النسائي: هذ الحديث جيد جيد. وصححه ابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر (1/ 119). انظر: سلسة الآثار الصحيحة (1/ 82).

(2/632)


فأمروا باتباع الكتاب والسنة أولًا وَأَخَّرُوا الإجماع، لعلمهم بأنَّ ما في الكتاب والسنة لا ينعقد إجماع على خلافه، بل متى انعقد إجماع على خلافِ نَصٍّ فلا بُدَّ أَنْ يكون هناك نَصٌّ ظاهرٌ معلومٌ ناسخٌ للنصِّ المخالف للإجماع (1). وأما ما يقوله بعض المتأخرين من تقديم الإجماع على نصوص الكتاب والسنة إما لكونه ناسخًا لها (2) أو دالًّا على الناسخ لها = فخطأٌ مخالفٌ لِمَا كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإنهم لم يكونوا يَرُدُّونَ نصوص الكتاب والسنة إلا بنصوص الكتاب والسنة، ولا يَستدلون على نسخ النص إلا بنصٍّ ينسخه لا بمجرد ظن الإجماع، وإلا فالقرآن _________ (1) انظر: مجموع الفتاوى (19/ 196، 257)، وما سيأتي (ص 183). (2) في الأصل: (لهذا).

(2/633)


والسنة التي أوجب الله ــ تعالى ــ اتباعهما، وقد أمر بتبليغهما الخلق = لا يجوز أَنْ يضيع ذاك على الأمة ويحيلهم على ما لا يمكن أحدًا معرفته، وإِنْ أمكنت معرفته إنما يكون لآحادِ الناس، فإنَّ العلمَ بالإجماعِ الذي يخالف النصوص ولا نص معه لو قُدِّرَ وجودُهُ = لكان العلم به متعذرٌ أو متعسرٌ، فلو كان الواجب ترك ما دل عليه الكتاب والسنة لمثل هذا = لكان قد وجب ترك ما عُلِمَ أنه حق لما لا سبيل إلى علمه، بخلاف الإجماعات المعلومة، فإنَّ معها دلائل الكتاب والسنة توافقها (1). ولهذا جمع الله ــ تعالى ــ في الوعيد بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [176/ أ] مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فإنَّ مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين متلازمان كلٌّ منهما حَقٌّ، كما أَنَّ طاعة الله وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - متلازمان كلٌّ منهما حق. الوجه السادس: أَنْ يقال: طاووس بن كيسان من أجل أئمة المسلمين، وهو ممن ثبت عنه النقل الصريح بأن الحلف بالطلاق ليس بشيء. بل طاووس أَجَلُّ أصحابِ ابن عباس؛ قال أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء (2): (قال خصيف: أعلمهم بالحلال والحرام طاووس) (3). _________ (1) انظر ما تقدم (ص 14). (2) انظر ما تقدم (ص 13، 608). (3) (ص 73).

(2/634)


وقال سفيان بن عيينة: (قلت لعبيد الله بن أبي يزيد: مع مَنْ كنتَ تدخل على ابن عباس؟ قال: مع عطاء. قلت: فطاووس؟ قال: أيهات (1) ذاك، كان يدخل مع الخواص) (2). وروى عن يحيى بن معين قال: (سُمِّيَ طاووسًا، لأنه كان طاووس القُرَّاء) (3). والقراءُ في لغة السلف هم: أهل العلم والدين؛ كما في الحديث الصحيح: كان القُرَّاء أهل مجلس عمر، شيوخًا كانوًا أو شُبَّانًا (4). فإنَّ لفظ المتكلِّم والمتصوِّف والزاهد والأصولي ونحو ذلك = ألفاظٌ محدثة، لم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان يتكلمون بها. وقال أبو حاتم بن حبان (5): (طاووس كان من فقهاء أهل اليمن وخيارهم، وعُبَّادِ التابعين وزهادهم). وقد أدرك طاووس خمسين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (6)، ومناقبه في العلم والدين مشهورة. وطاووس أعلمُ بمسائل الطلاق مِنْ كُلِّ مَنْ نازعه فيها، فإنه كان قد تلقى علمها عن ابن عباس، ولم يكن على عهد ابن عباس أعلمَ بذلك منه ولا أفقه _________ (1) لغة في (هيهات). انظر: المخصص لابن سيده (5/ 80)، تهذيب اللغة (6/ 257). (2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 500). (3) تهذيب الكمال (13/ 358). (4) أخرجه البخاري (7286) من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -. (5) في الثقات (4/ 391). (6) التعديل والتجريح لمن خرَّج له البخاري في الجامع الصحيح للباجي (2/ 647/ رقم 432).

(2/635)


منه، فإنه كان أعلم بذلك وأفقه مِنْ كل مَنْ عاصره مِنَ الصحابة مثل: عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهما، وكان عند طاووس من علم ابن عباس ما تميز به على جمهور أصحاب ابن عباس، وإنما كان يقاربه في ذلك عكرمة، لكن طاووس أكبر (1) وأعظم عند المسلمين من عكرمة؛ فإنَّ المسلمين متفقون على عِظَمِ قَدْرِهِ في العلم والدين، وأَنَّ رواياته عن ابن عباس من أصح الروايات، وفقهه في الحلال [176/ ب] والحرام من أعظم الفقه، بل يقال: إنه أعلمهم بالحلال والحرام مطلقًا. وقد ذكر عبد الرزاق في مصنفه (2): عن ابن جريج قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه: أنه كان يقول: (الحلف بالطلاق [باطل] ليس شيئًا. قلت: أكانَ يراه يمينًا؟ قال: لا أدري). وكذلك رواه سفيان بن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه. وروى ابن عيينة (3). ونحوه حديث طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أَنَّ الثلاث كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر = طلاق الثلاث واحدة (4). وكان طاووس يفتي بذلك. _________ (1) في الأصل: (أبر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) (6/ 406)، وما بين المعقوفتين منه. (3) كذا في الأصل، وليس هناك ما يدل على وجود سقط أو بياض إلا أنه تقدَّم كلام المجيب بنحو هذا في (ص 220) حيث قال بعد أن ذكر الأثر من مصنف عبد الرزاق: وقد روى هذا ــ أيضًا ــ سفيان بن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه؛ وهو من حديث ابن عيينة الذي يروى من طريق المكيين. (4) أخرجه مسلم (1472).

(2/636)


ولا يلزم إلا الطلاق المباح؛ ولهذا كان سفيان بن عيينة لا يفتي في الطلاق بشيء (1)، لتعارض الآثار عنده في ذلك، ولو كان في الحلف بالطلاق إجماع لكان ابن عيينة من أعلم الناس به، ولم يكن يتوقف في مسألة يُجْمَعُ عليها؛ فإنَّ ابن عيينة طال عمره، وكان من أعلم أهل زمانه، وأخذ عن التابعين وتابعيهم = فلم يكن ممن يخفى عليه الإجماع في مثل ذلك، ولم يكن ممن يتوقف في الإجماع، ولم يدرك الشافعي أَجَلَّ مِنْ مالك وابن عيينة. وقول طاووس: الحلف بالطلاق ليس شيئًا؛ معروفٌ في لغتِهِ وعادَتِهِ وعادَةِ أمثالِهِ من السلف أَنَّ المراد بذلك: أنه ليس بطلاق، وإِنْ لزم به حكم آخر. كما روى عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه (2). وقد رواه أبو بكر عبد العزيز في الشافي: (قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس قال: سئل عن الخلع. فقال: ليس بشيء. فقال له قائل: إنك لا تزال تأتينا بشيءٍ لا ندري ما هو. قال: والله لقد جمع ابن عباس بين رجل من أهل اليمن وامرأته كان طلقها _________ (1) نقل المزي في تهذيب الكمال (11/ 190) من رواية أبي الحسن الميموني عن الإمام أحمد قولَه: (كان سفيان بن عيينة إذا سُئِلَ عن المناسك سَهُلَ عليه الجواب فيها، وإذا سُئِلَ عن الطلاق اشتدَّ عليه). وقال ابن حزم في الإحكام (5/ 90): (وسفيان بن عيينة كان أكثر فتياه في المناسك، وكان يتوقَّف في الطلاق). وانظر: إعلام الموقِّعين (2/ 43). (2) في مسائله (ص 399).

(2/637)


تطليقتين ثم خلعها) (1). ومراده: أنه ليس بطلاق (2)، وإِنْ كان فرقة بائنة. كما روى أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، [عن طاووس]، عن ابن عباس في الخلع. قال: إنما هو فرقة وفسخ، ليس بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع بين ذلك فليس بطلاق (3). ونظير ذلك ما أخرجاه في الصحيح عن ابن عباس أنه سُمِعَ يقول: إذا حَرَّمَ امرأته فليس بشيء، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ [177/ أ] فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وفي لفظٍ لمسلم عنه: إذا حَرَّمَ الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (4). فابن عباس الذي أخذ عنه طاووس يقول في التحريم: ليس بشيء؛ ومعناه: ليس بطلاق، لم يرد أنه لغو، بل صَرَّحَ مع ذلك أنه يمين يكفرها، واستدل بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ على نفسِهِ العسل أو سُرِّيَّتِهِ فأنزل الله هذه الآية (5)، ولم يحرم على نفسه _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 218). (2) وضع الناسخ فوقها حرف (خ)، وكتب في الهامش (طلاقًا) وفوقها حرف (خ). (3) تقدم تخريجه في (ص 218 - 219)، وما بين المعقوفتين من المصنَّف لابن أبي شيبة. (4) أخرجه البخاري (5266)، ومسلم (1473) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (5) اختلف في سبب نزول هذه الآيات هل هو بسبب شرب العسل أو السُّرِّيَّة؟ انظر الوارد في الباب في: تخريج أحاديث الكشاف (4/ 59 وما بعدها).

(2/638)


امرأته؛ بل قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] يدل على أن مناط التحريم: تحريم ما أحلَّ الله (1)، وأن في ذلك كفارة يمين. كما ذُكِرَ نظير ذلك في قوله: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] ثم قال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89]. ونظير ذلك ــ أيضًا ــ: ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت فيمن جعل ماله في رتاج الكعبة إِنْ فعل كذا: إِنَّ في ذلك كفارة يمين (2). مع قولها ــ أيضًا ــ في ذلك: ليس بشيءٍ (3). فقولهم: ليس بشيءٍ؛ معروفٌ عندهم أنهم ينفون به ما ظَنَّ السائل أنه ثابت؛ فلما كان الحالف بالنذر يظن لزومه قالت عائشة - رضي الله عنها -: ليس بشيء، بل هي يمين يكفرها. وكذلك لَمَّا كان المحرِّم لامرأته يظنُّ أنه وقع به الطلاق قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ليس بشيءٍ، ولكنها يمين يكفرها. ولَمَّا كان الحالف بالطلاق يظن أنه قد لزمه الطلاق قال طاووس: ليس بشيء، وشك ابنه هل هي عنده يمين يكفرها أم لغو؟ لكن نَقَلَ عنه غيرُ ابنِهِ: أنها يمين منعقدة ليست لغوًا، فكان قوله أنها ــ أيضًا ــ يمين يكفرها، وكان _________ (1) في الأصل: (تحليلُ ما حرم الله)، والصواب ما أثبتُّ. (2) تقدم تخريجه في (ص 215، 447). (3) تقدم تخريجه في (ص 213 - 214).

(2/639)


قول طاووس ــ رحمة الله عليه ــ مِنْ جنسِ قول ابن عباس وعائشة وغيرهما. وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكهان. فقال: «ليس بشيءٍ» (1). فنفى ما ظنه السائل من أنهم يعلمون ما يُسألون عنه، ويَصدقون في ذلك؛ فأخبر أنهم ليسوا كذلك، وإنما يقع في كلامهم بعض الصدق بسبب ما تلقيه الشياطين إليهم من استراق السمع. [177/ ب] ومنه قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 68] أراد: لستم على حق وهدى حتى تفعلوا ذلك، فنفى ما يَدَّعونه مِنْ أنهم على حق وهدى. ومن ذلك: قول أهل الجرح في بعض الرواة: ليس بشيء، ينفون ما يُقصد منه وهو تصديقه في نقله، فإذا قالوا: ليس بشيءٍ؛ كان نفيًا لصدقه المطلق، فلا يوثق به، بخلاف من يكثر صدقه وضبطه ويغلط أحيانًا = فهذا لا يقولون فيه: ليس بشيء (2). وقد عُرِفَ مذهب طاووس ــ رحمة الله عليه ــ من غير وجه: أَنَّ الحلف بالطلاق يمين منعقدة ليست لغوًا، مع أنها كما نقل عنه ابنه لا يقع بها طلاق، وَعُرِفَ من مذهب طاووس أَنَّ كل تعليق يقصد به اليمين فهو عنده يمين مكفرة. _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 220)، وهو في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (2) تقدمت الإشارة إلى معنى قولهم: (ليس بشيء) في كلام المجيب (ص 217).

(2/640)


قال ابن حزم (1): (وصح عن طاووس أنه قال: الحلفُ بالعتاق ومالي هدي وكل شيء له في سبيل الله وهذا النحو= كفارة يمين). وقد نَقَلَ ذلكَ عن طاووس غير واحد، كمحمد بن نصر المروزي (2) وابن عبد البر (3) وغيرهما. وروى الأثرم في سننه (4): عن أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه في قوله: (إِنْ لم أفعل كذا وكذا فأنا مُحْرِمٌ بحجة. قال: يمين يكفرها). وقال سعيد في سننه (5): حدثنا حماد بن زيد، عن ليث، عن طاووس في الرجل يقول: (إِنْ لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق إن شاء الله = فله ثنياه في الطلاق والعتاق). وقال أيضًا (6): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا ليث، عن عطاء وطاووس ومجاهد والنخعي والزهري أنهم قالوا في قول الرجل لامرأته: (أنت طالق إِنْ لم أفعل كذا وكذا إن شاء الله فلم يفعل = فله ثنياه). فهذا يدل على أن الحلف بالطلاق منعقد عنده، ينفع فيه الاستثناء، ولو كان باطلًا ــ كما يقوله مَنْ يجعلها يمينًا لغوًا ــ لم يحتج إلى الاستثناء، بل _________ (1) المحلى (ص 991). (2) في اختلاف الفقهاء (ص 492). (3) في الاستذكار (15/ 105). (4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 453) وإسناده صحيح. (5) (2/ 35/ ح 1812)، وقد تقدم (ص 221). (6) (2/ 35/ ح 1813)، وقد تقدم (ص 221).

(2/641)


كان هذا بمنزلة ما لو طَلَّقَ أجنبيةً إِنْ فعل كذا، وبمنزلة ما لو قال: وحَقِّ الطلاقِ لا أفعل كذا. وأيضًا؛ فنقل ابن المنذر (1) في الاستثناء في الطلاق إذا كان بيمين حلف بها: أنه لا شيء عليه. [178/ أ] قال ابن المنذر (2): (وفيها قولٌ ثالث: إن بدأ بالطلاق فليس له استثناء، وإذا حلف بالطلاق على شيءٍ واستثنى فله استثناؤه). قال: (وقال أحمد: هما سواء، وإنما يكون الاستثناء في الأيمان، والطلاق والعتاق ليس بيمين). وهذا الذي نقله عن أحمد هو إحدى الروايتين عنه، والرواية الأخرى عنه كقول طاووس الذي نقله عنه: (إِنْ طلقها ابتداءً لم ينفع الاستثناء، وإِنْ حَلَفَ بالطلاق واستثنى نفعه فله استثناؤه)، وهذا صريحٌ من قول طاووس أنَّ الحلف بالطلاق يمين منعقدة ينفع فيها الاستثناء، وقد فَرَّقَ بين إنشائه والحلف به [في] (3) الاستثناء كقول أحمد في إحدى الروايتين، وهذا يمنع أن يكون الحلف بالطلاق لغوًا عنده، ويوجب أنها يمين منعقدة، ولولم يقله لم تجب الكفارة = فكان لغوًا؛ فعلم أنه يوجب الكفارة في الحلف به. _________ (1) في الإشراف (5/ 219). (2) في الإشراف (5/ 220) وعبارته هناك: (وفيه قولٌ ثالث: وهو إنْ بَدَأَ بالطلاق فليس له استثناء؛ روي ذلك عن طاووس. وقال أبو عبيد: إذا قال: أنتِ طالق إن شاء الله. قال: الطلاق له لازمٌ، فإذا حَلَفَ على شيءٍ استثنى فله ثنياه). (3) إضافة يقتضيها السياق.

(2/642)


ونقل الطحاوي (1) عن طاووس وطائفة من التابعين أنهم كانوا يقولون: (مَنْ حَلَفَ بالله أو بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا وفعله ناسيًا ليمينه = أنه يحنث). وقول طاووس وغيره: إنه يحنث= دليلٌ على أنها يمين منعقدة عندهم، واليمين المنعقدة في دين المسلمين التي يحنث فيها= لا بُدَّ فيها من الكفارة أو لزوم ما عَلَّقَه. فإذا كان قوله: (إِنَّ الطلاق لا يلزمه)، وهي يمين منعقدة عنده = عُلِمَ أَنَّ فيها الكفارة. وأيضًا؛ فمذهب طاووس: أَنَّ النذر يمين؛ كما روى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه (2): حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن طاووس قال: (النذر يمين). ومَنْ قال: إِنَّ الحلف بالطلاق لا يلزم ولا كفارة فيه، مع قوله هو يمين = إما أَنْ يقول: ليس هو من أيمان المسلمين، كالذين يقولون ذلك مِنْ حَلِفٍ بالنذر وغيره، أو يقول: إِنَّ الطلاق نفسه ليس قربة، فلو نَذَرَهُ لم يلزمه شيء، بخلاف العتق وغيره، فإنه لو نذره لزمه، فإذا حَلَفَ به لزمه. وطاووس قد عُرِفَ من مذهبه: أنه يجعل التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا لازمة، وأنه يجعل النذر يمينًا. فَمَنْ نَذَرَ مباحًا ــ كالطلاق وغيره ــ لزمه كفارة [178/ ب] يمين. فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فامرأتي طالق، كان كقوله: لله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ، _________ (1) مختصر اختلاف العلماء (3/ 260). (2) (12292).

(2/643)


وهذا عنده فيه كفارة يمين. وأيضًا؛ فمذهب طاووس إذا قال: إن فعلت كذا فقطع الله يدي أو أهلكني ونحو ذلك = أنها يمين مكفرة، فيجعل التعليق الذي جزاؤه دعاء الله على نفسه يمينًا مكفرة، والتعليق القسمي الذي جزاؤه عتق عبده يمين مكفرة، والتعليق القسمي الذي جزاؤه نذر يلزمه؛ وهذا كله يدل على أَنَّ مذهبه في التعليق القسمي أن فيه كفارة يمين، فإنَّ تعليقه للطلاق والظهار والحرام أعظم من تعليقه لدعاء الله بقطع يديه، فإذا كان هذا عنده يمينًا مكفَّرة فذاك بطريق الأولى. ومعلومٌ أنه لو قال ابتداءً: قطع الله يديه = لم يلزمه به شيء إلا التوبة، لكن لما عَلَّقَهُ بقصدِ اليمين عَلَّقَ بالشرط من الجزاء ما يكره لزومه إياه، فصار حالفًا، وهو لا يريد وقوع ما دعا الله به فصار منتهكًا لحرمة دعاء الله، حيث دعا الله ــ أي: عند وجود الشرط، ثم وُجِدَ الشرط ــ وهو لا يريد ذلك الدعاء= فعلق بالشرط نذرًا لله، ثم وجد الشرط وهو لا يريده، وهذا الدعاء هو من نوع اليمين، لكن الأكثرون يقولون: لم يلتزم هتك حرمة أيمانه فإنه لم يلتزم لله ولا بالله شيئًا، وإنما دعا الله على نفسه بشيءٍ، وطاووس يقول: بل طَلَبَ فِعْلَ اللهِ به، ودعاءُ الله تعظيمٌ له، فإذا دعاه بتقدير الشرط، ثم أراد أَنْ يكون الشرط دون ما دعاه = جعل دعاءه له لغوًا، وفي هذا انتهاك لحرمةِ دعائِهِ لله، وهو انتهاك لحرمة أَيمانه، كما لو جعل اللازم إيجابًا لله ــ تعالى ــ وتحريمًا لله، والأكثرون يقولون: هذا الدعاء لو انفرد عن التعليق ولم يقصده لم يكن منتهكًا لحرمة الأيمان. قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ

(2/644)


إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، وقال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] قالوا: نزلت في دعاء الإنسان على نفسه وولده عند الغضب بما لا يريده عند الرضا، فإذا لم يكن في مُنَجَّزِهِ شيءٌ لم يكن في تعليقه شيء، بخلاف النذر والطلاق [179/ أ] والعتاق = لَمَّا كان تنجيزه لازمًا، كان تعليقه لازمًا، لكن له أَنْ يَحِلَّ ذلكَ العقد بالكفارة. والمقصود: أنَّ طاووسًا (1) قد بالغ في إلزام المعلق تعليقًا قسميًّا بالكفارة، حتى ألزم بالكفارة مَنْ عَلَّقَ دعاءه لله على وجه اليمين، فكيف بمن عَلَّقَ الطلاق على وجه اليمين؟! وأيضًا؛ فمذهب طاووس أَنَّ الحلف بالوقوع كالحلف بالوجوب. فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعبدي حر؛ فهو عنده كقوله: فعليَّ أَنْ أُعتق عبدي = كلاهما فيه كفارة يمين، وهو لو حلف بوجوب الطلاق وهو الحلف بنذره كقوله: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُطَلِّق امرأتي لزمته كفارة يمين، لأنَّ النذر عنده يمين، فإذا نَذَرَ شيئًا ولم يفعله لزمته كفارة يمين. وإذا قال: لله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي ولم يطلقها= فعليه عنده كفارة يمين، كمذهب أحمد وغيره. وإذا كان الوجوب المعلق عنده على وجه القسم ليس بلغو، بل فيه كفارة يمين = فكذلك الوقوع، فإنَّ كل مَنْ حلف بوجوب شيء يلزم الناذر به كفارة، كان على الحالف به كفارة باتفاق الناس الذين يقولون: إنها يمين منعقدة، وقد عرف من مذهبه أنها يمين منعقدة. _________ (1) في الأصل: (طاووس).

(2/645)


وأيضًا؛ فلم يعرف أحد قال: إن الحلف بالطلاق لغو والحلف بالعتق والنذر يمين منعقدة، وطاووس من أصله المشهور عنه المعروف أن الحلف بالعتق والنذر يمين منعقدة مكفرة، فلا يقول: إن الحلف بالطلاق ليس يمينًا منعقدة، لكن لو قيل بنفي الكفارة، إنما يقال لكون الطلاق ليس بقربة، كما أَنَّ في نذر المعصية والمباح نفي الكفارة لكون المنذور معصية ومباحًا، لا لكون ذلك ليس نذرًا. يُبَيِّنُ ذلك: أن الذين قالوا في تلك الأيمان: لا شيء فيها. قالوا ذلك لاعتقادهم أنها من جنس الحلف بالمخلوقات، وهذا مما يشترك فيه تعليق النذر والعتاق والطلاق إذا خرج مخرج اليمين (1)، فإذا كان مِنْ أصل طاووس أنها أيمان مكفرة = بطل أن يكون قوله قول هؤلاء، وهو قد جعل النذر يمينًا، ومن حلف على مباح أو محرم ولم يفعله = لزمته كفارة يمين. والمعترض [179/ ب] معترف بأنه لم يَنقل عن طاووس ما يناقض ما نقله العلماء عنه، ولهذا قال: (لم أنقل عن طاووس شيئًا، لأني لم أر عنده بنصٍّ ظاهرٍ خلاف ما نقله المصنف) (2)، لكن ذكر شيئًا من جنس شبه السوفسطائية، فيما نقله العلماء عنه، فهو في ذلك من المطففين، فإنه لو قوبل فيما ينقله بمثل هذه الاحتمالات = لم يبق بيده نقلٌ عن السلف في أكثر ما ينقله عنهم، فضلًا عن كونه إجماعًا، وسيأتي الكلام على هذا قريبًا ــ إن شاء الله تعالى ــ إذا ذكرناه. _________ (1) قاعدة العقود (1/ 235). (2) «التحقيق» (45/ أ).

(2/646)


فصلٌ قال المعترض: (وأما العتق: فلولا نقل محمد بن نصر [عن أبي ثورٍ ما رأيت] لكان فيه نظر، فإنَّ ابن المنذر نقل عن أبي ثور في الإشراف (1) فيما إذا قال لعبده: إن لم أضربك فأنت حر؛ وأراد بيعه أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق عليه، وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا يقع) (2). والجواب: أنَّ النزاع في العتق ليس عن أبي ثور وحده، بل عن الصحابة والتابعين، كما نقله عامة من صَنَّفَ في الخلاف مثل: ابن المنذر وابن جرير الطبري وابن عبد البر وابن حزم، مع نقل أبي ثور ومحمد بن نصر. وأما ما ذكره عن ابن المنذر؛ فابن المنذر نفسه نقله عن أبي ثور أنه فيمن حلف بعتق رقيقه ألا يفعل كذا وحنث= أن عليه كفارة يمين. والمسألة التي نقلها ابن المنذر عن أبي ثور: فمنطوقها لا حجة فيه ــ وهو مراد ابن المنذر ــ، فإنَّ مقصودَه نقل الأقوال فيما إذا حلف ليفعلنَّ ــ وفي معناه (إِنْ) إذا دخلها النفي كقوله: إن لم أفعل كذا فامرأتي طالق وعبدي حر وعليَّ الحج ــ هل يحنث قبل أن يفوت الفعل؟ فأبو ثور يقول: لا يحنث قبل فوت الفعل، فلا يقع به العتق عند من يقول العتق المحلوف به يقع. وما ذكره ابن زرقون فهو قد نقله من الاستذكار، فإنَّ ابن عبد البر قال _________ (1) (8/ 123)، وقد تقدم نقله هذا في (ص 133). (2) «التحقيق» (44/ ب)، وما بين المعقوفتين منه.

(2/647)


في الاستذكار (1): (وقد روى يونس عن الحسن أنه جاءه رجل، فقال: إني جعلتُ كل مملوك لي حرًّا (2) إِنْ شاركت أخي. فقال: شارك أَخاك، وكَفِّر عن يمينك). قال: (وهو قول القاسم وسالم وسليمان بن يسار وطاووس وقتادة، وبه قال [180/ أ] أبو ثور). هذا لفظ أبي عمر ابن عبد البر عقب ذكره لحديث ليلى بنت العجماء. * * * * _________ (1) (15/ 46). (2) في الأصل: (حر).

(2/648)


فصلٌ قال المعترض: (قوله: وقد تبين أنه لا إجماع فيه. قلنا: لم يتبيَّن؛ بل نحن أسعد بدعوى ثبوته (1) لو ادعيناه، لأنَّ معنا نقل ثلاثة أو أكثر من أئمة المسلمين، ومصادمة نقل الإجماع لا يكون بالاستدلال والقياس، وإنما يكون بالنقل الصريح) (2). والجواب من وجوه: أحدها: أَنْ يقال: التبين وعدم التبين أمر نسبي، فإنْ كان المعترض يقول: إنه لم يتبين له، لأنه لم يقف على نزاع في ذلك؛ فهذا لا ينفي تبينه لغيره، بل وعنده من الكتب ما إذا تأمل ما فيها من النقل = تبين له ــ أيضًا ــ أنه لا إجماع في ذلك. ففي كتاب الإجماع لابن حزم الذي نقل فيه الإجماع على وقوع الطلاق المعلَّق الذي لم يُخْرِجْهُ مخرجَ اليمين، فيه ذكر النزاع في الطلاق المعلَّق إذا أخرجه مخرج اليمين، هل هو طلاق فيلزم أم يمين فلا يلزم؟ وهل فيه كفارة أم لا كفارة فيه؟ وأيضًا؛ فهو قد اطَّلَع على قول أبي عبد الرحمن الشافعي أَنَّ الطلاق المعلَّق بالصفة لا يقع بحال؛ فهذا نزاع في كل تطليق معلق بصفة. _________ (1) كذا في «التحقيق» وما سيأتي، وفي الأصل: (الإجماع). (2) «التحقيق» (44/ ب).

(2/649)


وقد تقدم ذكر أبي عبد الرحمن وتقدمه في العلم والزمان (1)، وأنه كان ممن صحب الشافعي - رضي الله عنه - ببغداد في المائة الثانية، بل قد قيل: إنه كان أجل أصحابه الذَّابِّين عن مذهبه ببغداد، بخلاف ما ظنه هذا المعترض، فإنه لم يعرف قَدْرَهُ، وظن أنه كان بعد الثلاث مائة، وهو قول ابن حزم وقولُ كثيرٍ من شيوخِ الشيعة كالمفيد وأبي جعفر الطوسي وأبي القاسم الموسوي، ونقله عن الأئمة من أهل البيت، لكن النقل الذي وجدناه مسندًا عن أبي جعفر محمد الباقر وجعفر بن محمد (2) وغيرهما من علماء أهل البيت ــ رضوان الله عليهم ــ إنما هو فيمن عَلَّقَ تعليقًا يقصد به اليمين فأفتوا بأنه لا يلزمه الطلاق. وفي الجملة؛ ففي الطلاق المعلَّق بالصفة ثلاثة أقوال، كل قول له قائل معروفٌ: قولٌ بلزومه مطلقًا، وقولٌ بأنه لا يلزم، وقولٌ بالفرق بين التعليق الذي [180/ ب] يقصد به اليمين فلا يقع والذي يقصد به الإيقاع فيقع. ثم إذا قيل: إنَّ الحالف به لا يلزمه الطلاق، فهل عليه كفارة يمين؟ على قولين. فهذه أربعة أقوال؛ وبكل قول أفتى طائفة من علماء المسلمين، وقد ثبت من حديث ابن عيينة وابن جريج عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه طاووس _________ (1) انظر (ص 380، 833 وما بعدها). (2) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 401) في ترجمة أبي جعفر: (وليس هو بالمكثر، وهو في الرواية كأبيه وابنه جعفر، ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل واحد منهم جزءًا ضخمًا، ولكن لهم مسائل وفتاوى).

(2/650)


أنه قال: (ليس الحلف بالطلاق بشيء) (1). فقيل لابنه عبد الله: (أكانَ يراه يمينًا؟ فقال: لا أدري). رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، وَنَقَلَ عن ابنه عنه أنه كان عنده يمينًا منعقدة (2). وطاووس من أجل كبار التابعين، وهو لم يجعل الحلف بالطلاق إيقاعًا له، بل يجعله يمينًا منعقدة موجبة للكفارة، كما يجعل الحلف بالعتق يمينًا مكفرة، والحلف بالنذر يمينًا مكفرة، فقوله مطردٌ في هذا الباب، وعلى قوله يدل ما قد ثبت نقله عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ في هذا التعليق الذي يقصد به اليمين. الوجه الثاني: قوله: (نحن أسعد بدعوى ثبوته لو ادعيناه، لأنَّ معنا نقل ثلاثة أو أكثر من أئمة المسلمين) تقدم جوابه (3) أَنَّ ابن المنذر لم ينقل إجماعًا عامًا، وأبو ثور إنما حكى الإجماع على نفي الكفارة، وإنْ كان قد حكاه عليهما فهو كابن نصر؛ فإنَّ ابن نصر حكى الإجماع على لزوم الطلاق المحلوف به ونَفْيِ الكفارة اتباعًا لأبي ثور، وأبو ثور يقول: معنى الإجماع عندي: عدم علمي بالمنازع؛ ولو لم يقل ذلك فمعلوم أنه ليس عالمًا بنفي المنازع، وغاية ما عنده الظن، فقد عاد الأمر إلى ظَنِّ أبي ثور لعدم النزاع. ومعلومٌ أنه لو لم يعارض ذلك إلا بعض ما يذكر من النزاع = لمنع ذلك الجزم بوقوع الإجماع، فلو لم يعارض ذلك إلا قول أبي عبد الرحمن الشافعي بنفي وقوع الطلاق المعلق = لقدح ذلك في هذا الإجماع. _________ (1) كتب الناسخ في الهامش: (شيئًا)، وفوقها حرف (خ). (2) تقدم تخريجه في (ص 220). (3) في (ص 597 وما بعدها).

(2/651)


وكذلك لو لم يعارضه إلا نقل ابن حزم للأقوال الثلاثة في الحلف بالطلاق هل يلزم أو لا يلزم؟ وهل يكفر أم لا يكفر؟ لَقَدَح ذلك فيه، فإنَّ هذا مثبت لما يمكن الإحاطة به، وذاك نافٍ لما لا يمكن الإحاطة بنفيه، والمثبت مقدم على النافي فيما يمكن الإحاطة [181/ أ] بنفيه، فكيف فيما لا يمكن الإحاطة بنفيه؟ وكذلك النقل المتقدم عن أبي جعفر محمد وابنه أبي عبد الله (1) جعفر وغيرهما في الحلف بالطلاق أنه لا يلزم. وكذلك النقل الثابت عن طاووس ــ أَجَلّ أصحاب ابن عباس - رضي الله عنه - ــ أنه كان يقول: (ليس الحلف بالطلاق بشيء)، ونَفْيُ لزومِ الطلاقِ المحلوفِ به قولُ غيرِ واحدٍ من المسلمين. ونقل سُنَيْد (2) في تفسيره عن عكرمة أنه سئل عن رجل قال: (امرأتُهُ طالقٌ إِنْ لم يضرب غلامه مائة سوط. قال: لا يضرب غلامه، ولا يُطَلِّق امرأته، لأنَّ هذا من خطوات الشيطان). رواه عن عَبَّاد المهلبي، عن عاصم الأحول عنه في سورة (3) النور (4). ولو قُدِّرَ أنه لم يُعْرَف إلا نَقْلٌ واحدٌ نُقِلَ ذلك عمن لم يسمه من العلماء _________ (1) في الأصل: (محمد)، وصوابه ما أثبتُّ ــ كما في ترجمته في سير أعلام النبلاء (6/ 255) وغيرها ــ، وسيأتي على الصواب. (2) في الأصل: (مسند)، والصواب ما أثبتُّ كما في المصادر الأخرى. (3) في الأصل: (سفره)، والصواب ما أثبتُّ كما في المصادر الأخرى. (4) هذا الأثر لم أجد مَنْ أخرجه، وقد ذكره ــ كما هنا ــ ابن القيم في إعلام الموقعين (5/ 523، 542)، والصواعق المرسلة (2/ 609) وإسناد رجاله ثقات.

(2/652)


ــ كما نقله ابن حزم ــ لكان هذا يمنع أن يجزم بصحة ظن أبي ثور أنه لا نزاع في ذلك؛ فإنه إذا قال قائل: ليس في مذهب فلان خلاف، أو ليس بين الأئمة الأربعة خلاف في ذلك، ولم يرو هذا إلا فلان. وقال آخر: بل في ذلك خلاف، أو قد رواه غير فلان = كنا قبل أَنْ نعلم أَيُّ القولين أرجح غيرَ جازمين بنفي النزاع، وحينئذٍ فلا يجوز دعوى الإجماع على هذا التقدير، وبطل قوله: (نحن أسعد بدعوى الإجماع لو ادعيناه). الثالث: أنه من المعلوم أَنَّ إجماع الأمة المعصوم (1) لا يكون إلا عن دليلٍ شرعيٍ كنصٍّ أو قياسٍ، فإنَّ القول بلا دليل قولٌ بلا علم؛ ولهذا أنكر جماعة العلماء قول يونس بن عمران بجواز انعقاد الإجماع [ ... ] (2)، فإنه يمتنع انعقاد الإجماع على خلاف الدليل الشرعي. ومعلومٌ أنه لا نَصَّ ولا قياسَ يدل على أَنَّ الذي يَقصد الحلف بالطلاق والعتاق والظهار والحرام كارهًا لوقوع ذلك عند الصفة = أنه ليس بحالف، بل هو مُطَلِّقٌ كغيره من المطلقين، ولا في الشريعة قياسٌ يدلُّ على ذلك، فإنه ليس في الشرع تعليقٌ محلوفٌ به ثبت بنص أو إجماع أنه يلزم الحالف به ما التزمه حتى يقاس هذا به، والكتاب والسنة والقياس إنما تدل على أن التعليق _________ (1) في الأصل (معصوم)، ولعل ما أثبتُّ هو الصواب. (2) بياض مقدار نصف سطر تقريبًا. وقول يونس بن عمران ــ وبعضهم يُسَمِّيه: موسى بن عمران أو مويس ــ هو أنه يُجوِّز أن يقول الله لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - أو لغيره من المجتهدين: احكم بما تَرى؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب! انظر: المسوَّدة (2/ 916 - 917)، المعتمد (2/ 57)، الإجماع ليعقوب الباحسين (ص 269 وما بعدها).

(2/653)


الذي يقصد به اليمين يمينٌ من أيمان المسلمين، وهذا مقتضى الدليل عند أبي ثور ــ كما تقدم ــ، ولم يخالفه لدليل يناقض هذا. ومعلومٌ أَنَّ الإجماع لا ينعقد على خلاف الأدلة الشرعية، بل على وفقها= فعلم امتناع الإجماع في مثل هذا، ولهذا يوجد [في] (1) كل صورةٍ فيها [181/ ب] إجماعٌ معلومٌ يكون فيها دليلٌ شرعيٌ يثبت به الحكم. ثم القول بوقوع الطلاق المحلوف به ليس منقولًا نقلًا صريحًا عن أحدٍ من الصحابة، بل ولا ظاهرًا، ولم يُنقل عن التابعين لفظٌ عامٌّ أَنَّ كل مَنْ حلف بالطلاق يلزمه، بل عامة النقول فتاوى في أمورٍ جزئية: منها ما يظهر أنه يمين، ومنها ما يظهر أنه إيقاع، ومنها ما يحتمل الأمرين، والذي يظهر أنه يمين يَكرَهُ فيها الحالف لزوم ما عَلَّقَه قليلٌ بالنسبةِ إلى غيره، إنما ثبت ذلك عن نحو عشرةِ أنفس؛ فهل يجوز أَنْ يقال: قول عشرة أو خمسة عشر أو عشرين من التابعين هو إجماع معصوم يجب على الأمة اتباعه مع أن عن بعضهم نزاعًا؟ وأنه يجب ترك دلالة الكتاب والسنة والقياس الجلي لمثل هذا الذي يُدَّعَى أنه إجماع؟ والأئمة يخالفون بموجب الكتاب والسنة عندهم ما نَقَلَ فيه غيرُ واحدٍ الإجماعَ كمخالفةِ (2) الشافعي بإيجاب القراءة على المأموم في حال الجهر، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة إلا بأم القرآن» (3) لما نَقَلَ أحمد بن حنبل _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) في الأصل: (لمخالفة)، والصواب ما أثبتُّ. (3) أخرجه بهذا اللفظ: البزار في مسنده (7/ 146) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وقال: وهذا الحديث قد رواه الزهري ــ أيضًا ــ بنحو هذا الكلام عن محمود عن عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومحمود بن الربيع قد أدرك النبي عليه السلام. وبنحوه أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394).

(2/654)


وغيره من الإجماع على أن المأموم لا يجب عليه القراءة في هذه الحال (1)، ومخالفة أبي حنيفة بإيجاب قيمة الصيد نفسه (2)، واعتقاده أَنَّ هذا موجب القرآن ما استفاض عن الصحابة والتابعين من إيجاب المثل؛ كما أوجبوا في النعامة بدنة، وفي البقرة الوحشية بقرة (3)، ونظائر ذلك. الرابع: قوله: (ومصادمة نقل الإجماع لا يكون بالاستدلال والقياس، وإنما يكون بالنقل الصريح) عنه جوابان: أحدهما: أَنَّ هذه الدعوى ممنوعة؛ بل نقل حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أبلغُ مِنْ نقلِ الإجماع مما قد يستدل على بطلانه بالأدلة الدالة على ذلك؛ فكيف لا يجوز أن يستدل على خطأ ناقل الإجماع بالأدلة الدالة على خطئه في نقله؟! ومعلوم أَنَّ نقلَ الحديث المعين المسموع من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم من الصاحب، ثم من التابع أصحُّ من نقل الإجماع؛ فإنَّ هذا نقلٌ لما علمه بالسماع، وهو نقلٌ متصلٌ لا منقطعٌ، وأما ناقل [182/ أ] الإجماع فهو ينقل عن خَلْقٍ كثيرٍ لا يمكنه الإحاطة بأقوالهم، وإذا أمكنه ذلك فهو لم ينقل ألفاظهم، وإنما نَقَلَ ما يظنه اعتقادهم، فقد يغلط في فهم مرادهم، وإذا قُدِّرَ _________ (1) مجموع الفتاوى (23/ 269، 290)، الفتاوى الكبرى (2/ 288). وانظر: الحاوي (2/ 331). (2) انظر: المبسوط (4/ 82)، بدائع الصنائع (2/ 198). (3) انظر ما ورد عنهم في: مصنف عبد الرزاق (4/ 398 - 400)، والمصنف لابن أبي شيبة (8/ 450 - 451).

(2/655)


أنه لم يغلط؛ فهو لم ينقل عنهم، ولا معه نقل مسند عن كُلِّ واحدٍ واحدٍ، بل غايته أنه نَقْلٌ مرسل. وأيضًا؛ فإنه نَقْلٌ اجتهادي يُعرف بالاستقراء والتتبع مثل: ما يستقرئه النحوي من قوانين كلام العرب، فينفي أَنَّ في كلامهم عطف على الضمير (1) المجرور بدون إعادة حرف الجار، وقد يكون في كلامهم ما لم يبلغه كقولهم: ما فيها غيره وفرسه (2). وكذلك نقل المحدث لمن روى الحديث من الصحابة، فقد يقول: لم يروه إلا فلان وفلان، ويكون قد رواه غيرهم، وهو لم يبلغه. ونقل الخلاف في مذاهب الأئمة، كقول القائل: لا يختلف مذهبه في كذا وكذا، وقد يكون فيه خلاف لم يبلغه. ونقل مذاهب المتكلمين والنحاة والأطباء، فكثيرًا ما يقول القائل: اتفق المتكلمون أو النحاة أو الأطباء على كذا، ويكون فيه نزاع لم يبلغه. وإذا كان كذلك؛ فخطأُ الناقل لها هو أبلغ من نقل الإجماع [الذي] (3) يُعلم بالاستدلال، فكيف لا يعلم خطؤه في نقل الإجماع بالاستدلال؟ لا سيما وعمدته في نقله ظَنُّهُ عدمَ النزاع، بل نفس العلم بالإجماع مما ينظر بالاستدلال: هل يمكن أم لا يمكن؟ فإذا كان الكلام في جنس الإجماع، وإمكانه، وإمكان العلم به _________ (1) في الأصل (الظمير). (2) الإنصاف في مسائل الخلاف (ص 371)، أوضح المسالك (3/ 348). (3) إضافة يقتضيها السياق.

(2/656)


بالاستدلال، فَلِمَ لا يجوز الكلام في إجماع معين وإمكانه وإمكان العلم به، ووقوع ذلك بالاستدلال؟ والناس قد تكلموا في إجماع الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ على جواز (1) القياس: هل فيه إجماع أم لا؟ وكلٌّ من الطائفتين تكلمت في ذلك بالاستدلال؛ فطائفة أثبتت إجماعهم عليه بالاستدلال، وطائفة نازعت في ذلك (2). ولما ادعى قومٌ الإجماع السكوتي، فقال: إِنَّ بعضهم إذا قال قولًا فانتشر في الناس ولم ينكروه صار إجماعًا، نازعهم آخرون في دعوى هذا الإجماع بالاستدلال، وقالوا: لا ينسب إلى ساكت قول، وقالوا: قد يكون سكوتهم لكذا وكذا (3). وما زال الناس يَدَّعِي أحدهم [182/ ب] إجماعًا، ويقيم الآخر الدليل على بطلانه؛ فإنَّ الناس تنازعوا في إجماعات متعددة هل هي إجماعات يجب اتباعها؛ كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، وكإجماعهم إذا لم ينقرض العصر حتى تنازعوا، وكإجماع التابعين دون الصحابة، وكإجماع الجمهور، وكإجماع العلماء دون العامة، أو دون العالم بالأصول والحديث، وكالإجماع المنقول بخبر الواحد ونحو ذلك. فإذا قُدِّرَ أَنَّ ناقلًا نقل إجماعًا ومستنده اعتقادُهُ بعضَ هذه الإجماعات أنها _________ (1) كتب الناسخ فوقها (كذا)، وفي الهامش: أظنه (خلاف). (2) أصول السرخسي (2/ 118)، القواطع في أصول الفقه (3/ 871)، كشف الأسرار (3/ 432). (3) انظر: قاعدة (لا ينسب لساكت قول) وتطبيقاتها الفقهية، للدكتور أحمد بن محمد السراح.

(2/657)


حجة، فلم لا يجوز لمن ينازعه في اعتقاده أَنْ يستدل على بطلان هذا الإجماع؟ وأيضًا؛ فالاستدلال تارة يكون على عدم علم الناقل للإجماع، وتارة يكون على ثبوت النزاع؛ وكلاهما يقدح في العلم بثبوت الإجماع. فإذا كان الناقل ليس عالمًا بما ينقله، فَمَنْ تَلَقَّى ذلك عن نَقْلِهِ أولى ألا يكون عالمًا به، وإذا قام دليل على امتناع الإجماع المعين أو عدمه أو وجود النزاع = دَلَّ ذلك على بطلان نقله. فإذا عرف أَنَّ الناقل للإجماع مراده ظَنُّ نفي النزاع وعدم العلم به لا الجزم بنفيه، وقد عُرِفَ أَنَّ كُلَّ من نقل إجماعًا في المسألة فقد نقل الإجماع في مسائل كثيرة وفيها نزاع ثابت = كان كثرة ما يقع من الخطأ في نقل ذلك مما يوجب ريبة قوية في نقله؛ كما إذا كثر خطأ المحدث، فإنه يبقى في نقله نوع ريبة، ولهذا لم يكن من عادة الصحابة والتابعين نقل الإجماعات. قال الشافعي - رضي الله عنه - [ ... ] (1). الجواب (2) الثاني: أنه إذا سُلِّمَ أنه لا يُصادَمُ نَقْلُ الإجماعِ إلا بنقلٍ صريحٍ للنزاع؛ فالنقل الصريح للنزاع معلومٌ من طرق متعددة ــ كما قد بُيِّنَ ــ تارةً بمن صَرَّحَ بنقل النزاع في الطلاق هل يقع أم لا يقع؟ وتارة بمن صَرَّحَ بنقل النزاع هل يكفر أم لا يكفر؟ وتارة بمن علم قولُهُ إنَّ الطلاق المعلق بالصفات لا يقع، وتارة بمن علم قوله أنه يفرق بين التعليق القسمي والتعليق _________ (1) بياض مقدار كلمة. (2) في الأصل: (الوجه)، والصواب ما أثبتُّ، فهذا هو الجواب الثاني عمَّا ذكره في أول هذا الوجه.

(2/658)


الإيقاعي وأنه لا يوقع المحلوف به ولا يوجب فيه كفارة، وتارة بمن علم من قوله أنه لا يوقعه ويأمر فيه [183/ أ] بالكفارة، وتارة بمن عرف قوله أنه لا يوقعه ولم يُدْرَ أيوجب الكفارة أم لا؟ وبواحدٍ من هذه النقول تَبْطُلُ حُجَّةُ من احتج بظنِّ ظانٍّ لعدم النزاع؛ فكيف إذا اجتمعت هذه كلها؟! وهذه النقول كلها موجودة في كتب أهل السنة. وأيضًا؛ فالنزاع في الطلاق المحلوف به والطلاق المعلق مشهور في كتب الشيعة، وهم ينقلونه عن أئمة أهل البيت، كأبي جعفر الباقر وابنه أبي عبد الله جعفر بن محمد وغيرهما، فإنْ كانوا صادقين في هذا النقل عنهم = فلا يستريب مسلم في الاعتدادِ بنزاع هؤلاء، وأنه لا ينعقد إجماع التابعين مع مخالفة أبي جعفر الباقر وأمثاله، ولا إجماع تابعي التابعين مع مخالفة جعفر بن محمد وأمثاله، وفي ذلك نقول كثيرة متعددة بأسانيد مختلفة يمتنع (1) أن تكون كلها كذبًا، لكن يقع فيها غلط أو كذب متعمد في بعضها، فإنَّ هذا يقع كثيرًا. وبتقدير أَنْ يكون كل ما نقل عن أهل البيت كذبًا، فهؤلاء عدد كثير ــ ولهم نظر واستدلال ــ يقولون: إنَّ الطلاق المعلق بالصفة لا يقع، والطلاق المحلوف به لا يقع، وليس ذلك مما انفردوا به عن أهل السنة، بل قد وافقهم طائفة من أهل السنة. وقد تنازع الناس في أهل الأهواء والبدع هل يعتد بخلافهم؟ على قولين مشهورين في مذهب أحمد ومذهب أبي حنيفة وغيرهما، وهذا قول عامة أصحاب الشافعي، وهو اختيار أبي الخطاب وغيره من أصحاب أحمد، _________ (1) في الأصل: (يمنع).

(2/659)


وأكثر الناس يقولون: إنه يعتد بخلافهم إذا كانوا من أهل الملَّة، فإنهم داخلون في مسمى الأمة والمؤمنين (1). واختلفوا ــ أيضًا ــ في الاعتداد بأقوال أهل الفسق الذين يَعرفون فِسْقَ أنفسهم، لكن أكثرهم لا يَعتد بأقوال هؤلاء كما لا تُقبل شهادتهم باتفاق العلماء ولا فتياهم (2). وأما المتأولون من أهل الأهواء؛ فأبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادتهم مطلقًا، وأما مالك وأحمد وغيرهما فيردُّونَ شهادتهم [183/ ب]. لكنْ تحقيق مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث أنهم يُفرِّقون بين الداعية وغير الداعية في الشهادة والحديث والهَجْر (3)؛ فَمَنْ كانَ داعيةً إلى البدعةِ هجروه فلم يحدثوا عنه ولم يستشهدوا به بخلاف غير الداعية، ولهذا لم يُخَرِّج أصحاب الصحيح والسنن عن الدعاة إلى البدع، وخَرَّجُوا عن عدد من الخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة، والداعية هجروه لكونه أظهر المنكر فاستحق العقوبة وأدناها الهجر. وأما مناظرتهم في الشريعة؛ فما زال السلف والخلف يتكلمون معهم، ولا يقولون لهم: أنتم خالفتم الإجماع فلا قول لكم، وكان ابن عباس _________ (1) منهاج السنة (2/ 301 - 302، 369 - 370، 476 - 479) (3/ 409) (5/ 166، 172 - 178) (6/ 380 - 381، 431 وما بعدها)، نقد مراتب الإجماع (ص 298). (2) العدة في أصول الفقه (4/ 1139)، والتحبير شرح التحرير (4/ 1560). (3) في الأصل: (والهجرة)، ولعل ما أثبتُّ أقرب.

(2/660)


- رضي الله عنهما - يخاطب نَجْدَةَ الحروري (1) ونافع بن الأزرق (2) وغيرهما. وإذا نازعوا الناس في مسألة من مسائل الشرع لم يقولوا لهم: قد انعقد الإجماع على خلافكم في هذه المسألة، بل يحتجون عليهم بالكتاب والسنة، وذلك أنهم وإِنْ كانوا ضالين فيما خالفوا فيه أهل السنة والجماعة فلا يلزم ضلالهم في كل شيء، لا سيما إذا كان قد وافقهم بعض أهل السنة والجماعة في تلك المسائل، ولا يجوز أن يكون الله أقام عليهم الحجة بقول منازعيهم الذين لم يَقُمْ دليل شرعي على عصمتهم، فإنَّ أدلةَ الإجماع إنما دلت على عصمة المؤمنين بلفظ المؤمنين ولفظ الأمة؛ كقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» (3). _________ (1) أخرجها أبو داود (2728)، والترمذي (1556)، والنسائي (4133). وقال الترمذي: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيح. وصححه ابن حبان (11/ 155). وانظر: نصب الراية (3/ 420). (2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 360)، والطبري في تفسيره (7/ 43) (8/ 406) (15/ 590، 598)، وعلَّق البخاري طرفًا منها في كتاب التفسير (تفسير سورة السجدة) وغيرهم. وقد جمع مسائل نافع الأزرق لابن عباس السيوطي في الإتقان (3/ 848 مهم)، وقد سأله مائة وثمان وثمانين مسألة. وقد حقق الدكتور محمد أحمد الدالي هذه المسائل على عدة نسخ خطية، طبعتها دار الجفان والجابي، الطبعة الأولى عام 1413. (3) أخرجه ابن ماجه (3950) وغيره من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 228): هذا إسنادٌ ضعيف، لضعف أبي خلف الأعمى ... وقد رُوِيَ هذا الحديث من حديث أبي ذر، وأبي مالك الأشعري، وابن عمر، وأبي نضرة، وقدامة بن عبد الله الكلابي وفي كلِّها نظر؛ قاله شيخنا العراقي - رحمه الله -. وانظر: تذكرة المحتاج (ص 51)، والمقاصد الحسنة (ص 460)، وكشف الخفاء (2/ 470).

(2/661)


فإذا كان اسم المؤمنين وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يتناولهم، ولهم نظرٌ واستدلالٌ، ولهم دين يُوجب قصدهم الحق = لم يبقَ وَجْهٌ لمنع الاعتداد بهم. فإنَّ المانع من الاعتداد بهم: إما عدم العلم، وإما سوء القصد؛ فَمَنْ لم يكن عارفًا بأدلة الشرع فهو عاصٍ بخلافهم (1)، يجب عليه اتباع العلماء. والعامة قد تُنُوزِعَ في الاعتداد بخلافهم؛ والأكثرون لا يعتدون بخلافهم (2). وحقيقة الأمر: أَنَّ العامة مقلدة للعلماء، فيمتنع أن يجتمع العلماء على شيء ينازعهم فيه العامة، وإذا قُدِّرَ عاميٌّ يتكلم بلا حجة فهذا جاهل لا قول له، وإنْ تكلَّمَ بحجةٍ فهو من أهل الاجتهاد [184/ أ] في تلك المسألة، وإِنْ لم يكن من أهل الاجتهاد في غيرها، فإنَّ الاجتهاد مما يقبل التبعيض والتجزؤ؛ فأكثر العلماء يخفى عليهم بعض الشرع، فلو لم يكن المجتهد إلا مَنْ يَعرف جميعَ الأحكام أو يمكنه معرفة جميع الأحكام = لم يكن في الأمة مجتهد، اللهم إلا أن يكون مثل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي لم يُعرف أنه أخطأ في مسألة من مسائل الشرع فاجتهد اجتهادًا يخالف نصًّا، بخلاف غيره فإنَّ _________ (1) يظهر في الأصل أثر شطب وضعه الناسخ على اللام والألف والفاء. (2) الفصول في علم الأصول (3/ 285)، البحر المحيط في أصول الفقه (4/ 461 وما بعدها).

(2/662)


لهم اجتهادات توجد مخالفةً لبعض النصوص، ومسائل توقفوا فيها وعجزوا عن معرفة حكمها (1). * * * * _________ (1) جامع المسائل (4/ 56 - 57)، منهاج السنة (8/ 299)، الاستقامة (2/ 93)، بغية المرتاد (ص 500)، جواب الاعتراضات المصرية (ص 76، 78).

(2/663)


فصلٌ قال المعترض: (ودعواه أَنَّ الصحابة أفتوا في العتق دعوى عريضة، فإنَّ الصحابة جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بالألف واللام يقتضي العموم، ولم يثبت له إلى الآن عن ثلاثة من المتأخرين منهم صريحًا؛ فكيف يسوغ هذا الإطلاق؟) (1). والجواب: أَنَّ مثل هذا السؤال لا يَستحق جوابًا، إذ غايته منازعة لفظية، ولو فُتِحَ هذا الباب على المعترض لكثرت الأسئلة المتوجهة عليه، ولكن هو يفتحه على المجيب مع أَنَّ ما يَقولُهُ معلومُ الخطأ، فإنه إنما تكون الدعوى عريضة إذا كان المجيب قد ادعى أَنَّ كُلَّ واحدٍ من الصحابة قال ذلك، والمعترض يَعلم ــ وكُلُّ من تدبر كلام المجيب ــ أنه لم يُرِدْ هذا، وإنما أراد جنس الصحابة، والمقصود هم الصحابة المذكورون في حديث ليلى بنت العجماء، وما نقل عن بعض الصحابة مما يوافق ذلك في قضايا أُخَر. وحديث ليلى فيه: ابن عمر وحفصة وزينب، وقد روي فيه: عائشة وابن عباس وأبو هريرة، وروي: أم سلمة، وفي غيره عن ابن عباس وعائشة ما يوافق ذلك. وحينئذٍ؛ فلامُ التعريف إما أنْ تنصرف إلى الصحابة وهم هؤلاء؛ ومعلومٌ أَنَّ أداة التعريف تفيد تعريف الاسم المذكور، فإنْ كان هناك عهد معروف انصرفت إليه، وإنْ لم يكن عهدٌ انصرفت إلى الجنس، لأنه هو العهد المعروف عند الصحابة. _________ (1) «التحقيق» (44/ ب).

(2/664)


وإما أَنْ تكون لتعريف الجنس؛ كما إذا قال: إنَّ الصحابة بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة، وفتحوا خيبر ومكة = لم يُرِد [184/ ب] أحدٌ بذلك جميع الصحابة؛ بل المراد: أن جنس الصحابة فعلوا ذلك، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] والمراد: أن جنس الناس قال لهم؛ أي: جِنْسُ الناسِ جَمَعَ لكم. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ولم يقله كل فرد فرد، وإنما قاله جنسهم، ومثل هذا كثير (1). وإذا كان سياق الكلام يدل على إرادة الجنس لم يكن للعموم ولم يمنع من الإطلاق، كما في القرآن من هذا كثير، كما ذكروا؛ كقوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] وليس كل الكفار أنكر البعث، بل أكثر أهل الكتاب يُقرون به، ولكن جنس الكفار ينكرونه. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] ومعلومٌ أنه ليس كل واحد واحد من الكفار قال ذلك. وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] ومعلومٌ أنه لم يقل ذلك كل كافر لكل مؤمن. _________ (1) مجموع الفتاوى (15/ 47)، الفتاوى الكبرى (5/ 73)، الجواب الصحيح (3/ 111) (4/ 475)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 88)، منهاج السنة (1/ 37).

(2/665)


وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [التوبة: 30] ومعلومٌ أنه لم يقل ذلك كل يهودي. وقال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66] ومعلومٌ أنه لم يكذب به كل فرد من أفراد قومه، والإنسان يقول لامرأته: أنت تكلمين الرجال وإنما كَلَّمَت بعضهم، وأنت تُضَيِّعين مالي وإنما أضاعت بعضه، ويقول الحالف: فلان يأكل الخبز واللحم والفاكهة ويشرب الماء الزلال؛ ومقصوده الجنس (1). ونحن الجمهور وإِنْ كُنَّا نقول بصيغ العموم، وأَنَّ العموم له صيغة موضوعة له في اللغة تدل عند تجردها عن القرائن على استغراق الجنس واستيعاب الطبقة= فلا نُنْكِرُ أن الصيغة مع بعض القرائن قد لا تفيد العموم، كما في الأمثلة المذكورة (2). ومعلومٌ أَنَّ كلام المجيب من أوله إلى آخره فيه من القرائن الدالة على أنه لم يرد العموم، وإنما أراد جنس الصحابة ما يحسن معه هذا اللفظ، ومِنْ عَنَتِ المعترض الذي يضيع الزمان بمثل هذا الهذيان. * * * * _________ (1) انظر: اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراته في النحو والصرف (ص 132 - 136). (2) انظر ما تقدم في (ص 404 - 405).

(2/666)


فصلٌ قال المعترض: (ودعواه أولوية الطلاق على [185/ أ] العتق إثبات للنقل بالقياس ولا يتم، على أنه قد يمكن منازعته في ذلك بما قدمه عن ابن عباس وألزم (1) به أنه لا عتق إلا ما ابتغي به وجه الله = فجاز أن يكون مَدْرَكُ من أفتى بعدم وقوع العتق كونه لم يقصد التقرب، وأما الطلاق فإنه لا يشترط فيه ذلك، فلا يلزم من فتواهم بعدم وقوع العتق أَنْ يفتوا بعدم وقوع الطلاق؛ وهذا إلزام على مقتضى اعتقاده وبحثه) (2). والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ دعوى أولوية الطلاق على العتق، يذكر تارة لإثبات حكم الشارع (3)، وتارة لإثبات مذهب المجتهد، والأول استدلال بالقياس بل بقياس الأولى، وهذا متفق عليه بين الجماهير القائلين بالقياس لا ينازع فيه إلا نفاته، والمعترض وأمثاله من مثبتة القياس لا من نفاته. ثم يقال: إما أَنْ يكون المعترض بذلك من مثبتة القياس، وإما أن يكون من نفاته؛ فإنْ كان من نفاته سُلِكَ معهم طريقة أصحاب الظاهر، وطولبوا بالأدلة من جهة الظاهر على وقوع الطلاق المحلوف به، بل والمعلَّق، مع فَرْقِهِم بين بعض التعليقات وبعضٍ من غير ظاهر، بل ولا قياس يدل على _________ (1) في «التحقيق»: والتزم. (2) «التحقيق» (44/ ب - 45/ أ). (3) في الأصل: الشاع.

(2/667)


ذلك؛ وحينئذٍ فليس معهم نصٌّ عام يتناول تعليق الطلاق على وجه اليمين، بل ولا معهم ظواهر تحكم في التعليقات بما حكموا به مِنْ جَمْعٍ وَفَرْقٍ. بل ليس في الكتاب والسنة لليمين إلا حكمين: إما أَنْ تكون اليمين مكفرة، وإما أَنْ تكون غير منعقدة، وليس في الكتاب والسنة بل ولا في القياس يمينٌ منعقدة لازمة غير مكفرة، وإذا لم يكن في دين المسلمين يمين إلا يمين مكفرة أو يمين غيرُ منعقدةٍ ولا لازمة = كانت الأيمان بالعتاق والطلاق: إما يمينًا مكفرة وإما غير منعقدة، ومن ادعى أنها طلاق معلق وإِنْ قَصَدَ بها اليمين وأنها ليست أيمانًا؛ فهذا باطل، كما قد قُرِّرَ في موضعه. ولو سُلِّمَ ذلك: احتاجوا إلى دليلٍ شرعيٍ يُفَرِّقُ بين ما يجوز تعليقه وما لا يجوز تعليقه، وأنَّ [185/ ب] الطلاق مما يجوز تعليقه = وهذا لا سبيل إليه؛ فهم محتاجون إلى مقامين: أحدهما: أَنَّ الحالف بالطلاق مُطَلِّقٌ وليس بحالف، بل هو طلاق معلق بصفة. الثاني: أَنْ يُبَيِّنُوا الفرق بين ما جعلوه يَقبل التعليق، وما جعلوه لا يقبل التعليق؛ ليمكنهم بعد ذلك بيانُ أَنَّ الطلاق المعلق بالصفة من أحد النوعين، وإلا فجعلهم الطلاق المعلق بصفة طلاقًا، والإبراء والهبة والبيع والنكاح والضمان والكفالة والولاية والوكالة والشركة وغير ذلك مما نازع فيه بعضهم من هذه الأنواع ليست كذلك = فلا بُدَّ له من دليل شرعي. وإذا قالوا: مقصودنا إثباتُ الطلاق دون غيره.

(2/668)


قيل: النزاع مع طائفتين: مع من يقول: الطلاق المعلق بالصفة لا يقع بحال، ومع من يُفَرِّقُ بين من يقصد اليمين ومن يقصد الإيقاع، ولهذا نَصَبَ المعترض النزاع مع الطائفتين؛ فإنْ لم يُقِم الحجة على الطائفتين = لم تثبت له حجة، ولم يتم ذلك إلا بالجواب عن معارضة الطائفتين، والجواب عن المعارضة إنما يتم بالفرق بين ما جعلوه يقبل التعليق وما جعلوه لا يقبل التعليق، وإلا فالقائل بأنَّ الطلاق لا يقبل التعليق قاسه على ما سلموه له من النكاح والإبراء وغيرهما. وإن كان المناظر من مثبتة القياس استدل عليه بالقياس مع الظواهر. ومعلومٌ ــ حينئذٍ ــ أَنَّ العتق المحلوف به إذا لم يكن لازمًا فالطلاق أولى، وذلك لأنَّ العتق يلزم بالنذر كما تلزم سائر القرب بالنذر، بخلاف الطلاق الذي ليس بطاعة، فإنه لا يلزم بالنذر. والعتق يجوز تعليقه بلا نزاع ذكره أحد، وكذلك النذر يجوز تعليقه بالنص والإجماع، والطلاق في تعليقه نزاع. والعتق طاعةٌ وقربةٌ بخلاف الطلاق. ثم إذا كان قَصْدُ اليمين يمنع لزوم العتق فَلَأَن يمنع لزوم الطلاق بطريق الأولى، وهذا قياس بَيِّنٌ أنه من أبين قياس الأولى، فإنه ما من وصفٍ يقتضي وقوع الطلاق المعلق إلا وهو يقتضي وقوع العتق المعلَّق بطريق [186/ أ] الأولى، فإذا كان العتق المعلق على وجه اليمين لا يلزم فالطلاق أولى، وما يذكر وصفٌ يمنع وقوع العتق إلا ذُكِرَ من جنسه ما هو أبلغ في منع وقوع الطلاق.

(2/669)


والعبرة في ذلك الفرق الذي ذكره، وهو (1): كونُ العتق لم يُقصد به التقرب، والطلاق لا يشترط فيه ذلك. فيقال: إِنْ كانَ قَصْدُ التقربِ شرطًا في وقوع العتق؛ فقصد إيقاع الطلاق يُشْرَطُ في وقوع الطلاق بطريق الأولى، ولا يُعرف أحد من المسلمين يقول: إنَّ العتق لا يقع إلا مع قصد التقرب والطلاق يقع بدون قصد الإيقاع، بل الطلاق يشترط فيه قصد إيقاعه (2) مطلقًا في أحد القولين للعلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، حكاهما أبو بكر عبد العزيز وغيره، ومذهب طائفة من العلماء. فإذا تكلم بصريح الطلاق قاصدًا للفظ لم يقع الطلاق حتى يقصد وقوعه، وهؤلاء يقولون: لا يقع طلاق الهازل، ويضعفون الحديث المروي في ذلك (3)، _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: هو. (2) كتبها في الهامش، وكتب فوقها (صح)، والمثبت في أصل الكلام: الإيقاع. (3) وهو حديث: «ثلاثٌ جدهنَّ جِد، وهزلهنَّ جِد: النكاح، والطلاق، والرجعة». أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وصححه ابن الجارود (رقم 712)، والحاكم في المستدرك (2/ 216) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو ابن أردك من ثقات المدنيين ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: فيه لين؛ يعني: عبد الرحمن بن حبيب بن أردك. وقال عنه النسائي: منكر الحديث. كما أعلَّه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 509) بابن أردك. وقال ابن العربي: ولا يصح منه شيء. وانظر: الفتاوى الكبرى (6/ 63)، إعلام الموقِّعين (4/ 429)، زاد المعاد (5/ 201). وما تقدم في (ص 370).

(2/670)


وهذا اختيار ابن حزم وغيره (1). وأما العتق فلم نعلم أحدًا اشترط في وقوعه قصد التقرب إلا قولٌ شاذ يحكى عن بعض الناس، كما ذُكِرَ ذلك عن بعض الشيعة، وهؤلاء عندهم لفظ يُنقل عن بعض فقهاء أهل البيت (2)، كما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: العتق ما ابتغي به وجه الله، والطلاق ما كان عن وطر (3). وهؤلاء إذا قيل إنهم جعلوا قصد التقرب شرطًا في وقوع العتق، فهم ــ أيضًا ــ قد يجعلون وجود الوطر في الطلاق شرطًا في وقوعه، والذين نقل عنهم هذا القول من علماء أهل البيت نُقِلَ عنهم معه أَنَّ الطلاقَ المعلَّق _________ (1) قال ابن حزم في المحلِّى (ص 1189): (واحتجُّوا بالآثار الواردة «ثلاثٌ جدهنَّ جد، وهزلهنَّ جد». قال أبو محمد: وهي آثار واهية كلها، لا يصحُّ منها شيء، ثم لو صحَّت لم يكن لهم فيها حُجَّة أصلًا، لأنَّ المُكرهَ ليس مُجِدًّا في طلاقه ولا هازلًا، فخرج أن يكون لهم حكمٌ في ذلك). (2) روى الكليني في الكافي (6/ 113) عن أبي عبد الله ــ عليه السلام ــ أنه قال: (لا عتق إلا ما أريد به وجه الله ــ عز وجل ــ). وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/ 1060): فائدة: قالت الإمامية: إنَّ العتق لا يَنفذ إلا إذا قُصِدَ به القربة، لأنهم جعلوه عبادة، والعبادة لا تصح إلا بالنية. قال ابن عقيل: ولا بأس بهذا القول لاسيما وهم يقولون: الطلاق لا يقع إلا إذا كان مصادفًا للسنة، مطابقًا للأمر، وليس بقربة؛ فكيف بالعتق الذي هو قربة؟! وانظر ما تقدم في (ص 5، 11 - 12، 370 - 371). (3) تقدم في (ص 264).

(2/671)


بالصفة لا يقع، فلم يعرف أحد اشترط قصد التقرب في العتق وأوقع الطلاق المحلوف (1) به. مع أَنَّ ابن عباس - رضي الله عنهما - ومَنْ وافقه إنما مراده بذلك: أَنَّ الحالف بالعتق لم يقصد إيقاعه، والمسلم إذا قَصَدَ العتق إنما يقصد التقرب به إلى الله، فنفي قصد الإيقاع لانتفاء لازمه المعتاد؛ وهذا كقول عطاء والشافعي وغيرهما في نذر اللجاج والغضب أنه لم يقصد التقرب [186/ ب] به إلى الله ــ تعالى ــ كما تقدم نقل ألفاظهم، وإلا فابن عباس وغيره أجل من أَنْ يقول: إِنَّ عتق الكافر لا يصح، وأَنَّ العبد لا يصير حرًّا إن لم يكن صاحبه أعتقه لله. وأيضًا؛ إذا كنا في مقام الاستدلال بالأدلة الشرعية على الحكم الشرعي= فهذا الوصف باطلٌ، فإنَّ عتق الكافر ثابت بالنص والإجماع، فعلم أنه لا يشترط في لزوم العتق قصد التقرب، وأَنَّ الحالف به إنما لم يَلزمه لكونه لم يَقصده عند الصفة، بل هو كارهٌ له، وإنما عَلَّقَهُ لقصدِ الحلف به لا لقصد إيقاعه عند الصفة، والحالف لا بُدَّ أَن يكون كارهًا لوقوعه وإن وجدت الصفة، وإلا فمن أراد وقوعه عند الصفة لم يكن حالفًا ولا كفارة في مثل هذا التعليق باتفاق العلماء، سواء قيل: إنه يلزم أو لا يلزم، وكذلك الطلاق الذي يقصد إيقاعه عند الصفة لا كفارة فيه باتفاقهم، لكن فيه قولان: قيل: يلزم؛ وهو قول السلف والجمهور، وهو الصحيح. وقيل: لا يلزم. وأما إذا كان القياس لا يناسب مذهب المجتهد؛ فيقال لهذا المعترض: لا يخلو: إما أَنْ يكون إثبات مذاهب المجتهدين بالقياس جائزًا، وإما ألا _________ (1) في الأصل (المحلوب)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/672)


يكون جائزًا (1). فإنْ لم يكن جائزًا؛ لم يجز لك أَنْ تنقل عن أحد من الصحابة والتابعين أَنَّ الطلاق والعتاق المحلوف به يقع، ولا أَنَّ الطلاق المعلق بالصفة أو العتق المعلق بالصفة يقع، فإنك لم تنقل عن أحد منهم لفظًا عامًّا في كل طلاقٍ مُعَلَّقٍ، ولا كل طلاقٍ محلوفٍ به، ولا في كل عتق محلوف به، وأنت تَدَّعِي إجماعهم، وأنت لم تَنقل هذا عن واحدٍ منهم، فضلًا عن أَنْ يكون إجماعًا. وهذا مما يتبين به التناقض العظيم في مثل هذا الكلام، فإنَّ عامة ما نُقِلَ عن السلف من الصحابة والتابعين في هذا الباب ليس معه عنهم لفظ عام، وإنما معه نَقْلٌ عنهم في صورةٍ معينة، وقد أَلحق بها غيرها، ثم إنه لم يقتصر في الإلحاق على إلحاق بعض النوع ببعض، بل يَحكِي قول أحدهم في الظهار ويجعل قوله في الطلاق مثل ذلك بالقياس، ويحكي قول أحدهم في العتق ويجعل قوله [187/ أ] في الطلاق مثل ذلك، وقد تقدم من كلامه في ذلك ما يكثر تعداده، وبنى كلامه كله على نقل مذاهب الصحابة والتابعين بالقياس. وأيضًا؛ فَكُلُّ مَنْ نَقَلَ مذهبهم في عموم الحلف أو التعليق ليس معه إلا قضايا معينة قاس عليها سائر الباب، والشافعي - رضي الله عنه - قد صَرَّحَ في نقله لمذهب عطاء بذلك، وكذلك غير الشافعي مثل: أحمد بن حنبل وأبي ثور ومحمد بن نصر وابن عبد البر وغيرهم= ليس معهم في إثبات قولهم في _________ (1) انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 382 - 401)، المدخل المفصل (2/ 1075). وانظر: (ص 382 وما بعدها).

(2/673)


الحلف بالطلاق والعتاق إلا لفظ خاص في قضية معينة، قاسوا عليها غيرها، وهذا بخلاف النفي، فإنَّ طاووسًا صرح بالنفي العام، فقال: ليس الحلف بالطلاق شيئًا (1). وإِنْ كان إثبات مذاهب المجتهدين بالقياس جائزًا = بطل نفيك لإثبات أقوالهم بالقياس، وقيل ــ حينئذٍ ــ: إذا كانوا يقولون: إِنَّ العتق المحلوف به لا يلزم، فهم يقولون: إِنَّ الطلاق المحلوف به لا يلزم بطريق الأولى والأحرى؛ وهذا القياس أصح من قياسك لوجوه: أحدها: أنهم عَلَّقُوا الحكم بكون التعليق يمينًا، وأثبتوا فيه كفارة يمين؛ وهذا المعنى موجود في كل تعليق يقصد به اليمين، وأَخْذُ قولِ العالم من تعليل كلامه أولى مِنْ أخذه من قياس لا يدل كلامه عليه، بل على نقيضه. الثاني: أنهم لو كانوا قد نفوا العتق لكونه لم يقصد التقرب ــ كما زعم المعترض ــ لم يوجبوا كفارة يمين، فإنَّ العتق الذي لا يقع لا يجب به كفارة، ومن قال من الشذوذ: إِنَّ العتق الذي لا يقصد به التقرب لا يقع = لم يقل إنَّ فيه كفارة يمين، والصحابة - رضي الله عنهم - الذين أفتوا بأن العتق لا يلزم أفتوا بكفارة يمين؛ فعلم أنه يمين عندهم لكونه قصد اليمين، وهذا المعنى موجود في تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين. لكن قد يقال: هذا إنما يكون على قول من يقول: إنه إذا نذر الطلاق لزمه كفارة يمين إذا لم يطلق، كما يقوله أحمد وغيره (2)؛ وأما مَنْ يقول: إنه _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 220). (2) انظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (12/ 604 - 605).

(2/674)


إذا نذر الطلاق لم يكن عليه شيء [187/ ب] فهؤلاء قد يقولون: إذا عَلَّقَهُ على وجه اليمين لزمه الكفارة، كقوله: إنْ لم أفعل كذا فعليَّ أَنْ أُطَلِّق امرأتي كما ذَكَرَ ذلك مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أصحاب الشافعي الخراسانيين وأصحاب أبي حنيفة. وكذلك إذا نذر الطلاق على وجه اليمين بأنْ يقول: لله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي؛ ومرادُهُ: حَضَّ نفسه؛ أي: والله لأطلقنَّ امرأتي؛ فعليه كفارة يمين إذا لم يُطلِّق عند أحمد وأبي حنيفة، وكذلك ذَكَرَهُ مَنْ ذَكَرَهُ من الخراسانيين، وأحمد يوجب عليه الكفارة سواء نذره للتقرب إلى الله لاعتقاده أَنَّ طلاقَ المرأة قربة، أو أَنَّ الطلاق والترهب قربة، أو كان قصده بالنذر الحلف، وقصده حض نفسه على الطلاق. والمقصود: أنه على كل تقدير إذا قيل: إِنَّ العتق المحلوف به لا يلزم فالطلاق أولى ألا يلزم، وأما وجوب الكفارة فلا يقال: إذا وجبت في الحلف بالعتق فهي في الحلف بالطلاق أولى، بل هذا فيه نزاع، لكن يقال قام الدليل على أَنَّ الطلاقَ المحلوف به كالعتق المحلوف به في لزوم الكفارة في ذلك. الثالث: أنه قد نقل عن بعضهم ألفاظ تَعُمُّ الطلاقَ والعتاق؛ كقول ابن عباس: (الطلاق عن وطر، والعتق ما ابتغي به وجه الله) (1). وما يروى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (كُلُّ يمينٍ ــ وإنْ عظمت ــ فكفارتها كفارة اليمين بالله) (2). فهذا يتناول الحلف بالطلاق وغيره. _________ (1) تقدم في (ص 264). (2) تقدم تخريجه في (ص 418).

(2/675)


فقد تبين أنه إِنْ كان القياس صحيحًا؛ فإنه يلزم من فتواهم بعدم وقوع العتق المحلوف به، وإيجاب الكفارة في ذلك، وجعل ذلك يمينًا، وجعل تعليق العتق غير لازم إذا قصد اليمين = أن يكون الطلاق المعلَّق إذا قصد به اليمين أولى ألا يكون لازمًا، وهذا لا ينازع فيه إلا معاند قوي العناد أو جاهل قوي الجهل. وإلا فقول القائل: العتق المحلوف به لا يلزم، بل فيه كفارة يمين لأنه (1) يمين مكفرة، وليس هذا التعليق الذي قصد به اليمين لازمًا مع القول بأن تعليق الطلاق الذي قصد به اليمين [188/ أ] لازم = في غاية التناقض والفساد الذي يصان عنه مَنْ هو دون الصحابة؛ ومَنْ نَسَبَ ذلك إلى فقهاء الصحابة فقد أسرف في نسبتهم إلى الغباوة وقلة الفقه. وأبو ثور ــ رحمه الله تعالى ــ لم يقل ذلك لدليل شرعي من كتاب أو سنة ولا قياس صحيح، ولا لمعنًى اختص به الطلاق عنده، ولا لكون العتق يُشترط فيه قصد التقرب ــ كما ذكره هذا المعترض ــ بل لظنِّهِ أَنَّ الطلاق محل وفاق، فجعله موضع استحسان مخالفًا للأصول والقياس. كما يفعل مثل ذلك مَنْ يقول بجواز تخصيص المعاني والعلل العامة بمجرد دليل، والدليل المخصِّصُ عنده هو ظنه الإجماع، وهذا الظن منتفٍ في الصحابة الذين هم أولُ مَنْ تكلَّم في هذا الباب، فلم يكن قبلهم إجماع يتبعونه، ولا عندهم ظن إجماع يهابونه؛ بل لم يتكلم أحد قبلهم في الحلف بالطلاق. _________ (1) في الأصل: (فإنه)، ولعل ما أثبتُّ أقرب.

(2/676)


وإذا انتفى عندهم الإجماع وظن الإجماع ولم يكن عندهم إلا الكتاب والسنة وما لا دلالة عليه من المعاني المؤثرة المعتبرة في القياس؛ فمن المعلوم قطعًا لمن تدبر دلالة الكتاب والسنة نصًّا واستنباطًا أنه ليس فيهما ما يُوجب كونَ الطلاق المعلق إذا قصد به اليمين أولى بالوقوع من العتق المحلوف به، بل لا يستريب عالم بل مسلم أَنَّ العتق أولى أَنْ يقع، وأَنَّ الطلاق أولى ألا يقع، فمع استوائهما في كون كل منهما معلقًا تعليقًا قصد به اليمين يمتنع على مَنْ لم يستدل إلا بالكتاب والسنة لفظًا ومعنى ولم يكن عنده تقليد يمنعه من اتباع الدليل ولا ظَنُّ إجماعٍ يظنه معارضًا لدلالة النص والقياس = يمتنع ــ والحالة هذه ــ أَنْ يقول مَنْ له أدنى معرفة بالشرع أَنْ يحكم بوقوع الطلاق دون العتق. فمن نسب أفضل القرون وأعلمهم وأفقههم إلى ذلك مِنْ غيرِ أَنْ يكونَ في كلامهم ما يدل على ذلك لأجل ظَنِّ شخصٍ جاء بعدهم في القرن الرابع أنه لا نزاع في الطلاق = كان الله ــ تعالى ــ حسيبه فيما نقصه من قَدْرِ الصحابة في العلم والفقه، وما جناه على الكتاب والسنة وأصول الشرع من تحريفِ [188/ ب] معانيها لأجل غالطٍ غلط بعدهم، وما حَرَّفَهُ من دين المسلمين حيث ألغى المعاني التي اعتبرها الله ورسوله من معاني الأيمان، واعتبر ما أهدره الله ورسوله من كون الكلام تعليقًا. وقولنا: (الله ــ تعالى ــ حسيبه) كلمةُ عَدْلٍ؛ فهو يعلم إِنْ كان جاهلًا أنه جاهل ويعفو عنه، وإِنْ كان قد استفرغ وسعه، وهو يعلم إِنْ كان مذنبًا أنه مذنب أمره إلى الله ــ تعالى ــ. ولكن المقصود بيان بعض ما يستحقه الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ من

(2/677)


معرفة قدرهم في العلم والفقه والدين، وما يستحقه الكتاب والسنة من بيان أحكامه المعتدلة المناسبة، وبيان شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي خالف من كان قبله، وإذا كان قد غلط في ذلك كثير من الناس واشتبه هذا عليهم = كان الاجتهاد في بيان ذلك من أفضل القربات، فإنَّ بيان العلم والدين عند الاشتباه والالتباس على الناس أفضل ما عبد الله ــ عز وجل ــ به و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]. * * * *

(2/678)


فصلٌ قال المعترض: (وأما دعواه انحصار الطلاق في المكروه والمحرم فممنوع؛ فإنَّ الطلاق قد يكون مندوبًا كما إذا رأى على زوجته فاحشةً، أو خاف منها بأنْ لم تكن عفيفة، أو إذا حصل الشقاق وتَعَذَّرَ الاتفاق. وأما الحديث الذي يروى: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» (1) فإنه حديثٌ ضعيف. ذكره ابن الجوزي في كتاب العلل المتناهية (2)، وهو من رواية عبيد الله (3) الوصافي. قال يحيى فيه: ليس بشيء. وقال الفلاس والنسائي: متروك الحديث. وقال ابن المنذر (4): ليس في النهي عن الطلاق ولا المنع خبر يَثبت) (5). والجواب من وجهين: أحدهما: أَنْ يقال: المجيب لم يذكر انحصار كُلِّ طلاق في المحرم _________ (1) أخرجه أبو داود (2178)، وابن ماجه (2018)، والبيهقي في السنن الكبير (15/ 208/ ح 15004) وغيرهم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وانظر: إرواء الغليل (7/ 106)، وعلل الحديث لابن أبي حاتم (4/ 117)، والعلل للدارقطني (13/ 225)، والبدر المنير (8/ 65). (2) (2/ 149) وقال: هذا حديث لا يصح. (3) في الأصل: (عبد الله)، والمثبت من «التحقيق» والعلل. (4) في الإشراف (5/ 183) (5) «التحقيق» (45/ أ).

(2/679)


[و] (1) المكروه، وإنما ذكر أَنَّ الأصل في الطلاق ــ وهو: الطلاق لغير حاجة ــ المنع؛ إما منع تحريم وإما منع كراهة، وهذا مذهب جمهور علماء المسلمين؛ كأحمد بن حنبل وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه [189/ أ] فإنهم يكرهون الطلاق لغير حاجة؛ إما كراهة تحريم وإما كراهة تنزيه، وأصحاب أحمد يذكرون عنه في ذلك روايتين حتى في المصنفات الصغار. وجمهور العلماء الذين ينهون عنه لغير حاجة يَبنون أَنَّ الأصل فيه: أَنْ يكون ممنوعًا منه؛ لما فيه من المفاسد المقتضية للمنع منه، لكن قد يحتاج إليه أحيانًا فيرخَّص فيه للحاجة، ولهذا قُصِرَ على ثلاث مرات، وحرمت المرأة على زوجها بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره، ليكون ذلك زاجرًا للمطلِّقِ أَنْ يُطَلِّقَ إذا علم أنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وكان هذا الشرع أكملُ وأيسرُ من شرع النصارى الذين يمنعون الطلاق بالكلية، فيلزمون كلًّا من الزوجين بالمقام مع الآخر، ويمنعون الرجل من استبدال زوجٍ مكان زوج، كما يمنعونه من التزوج بأكثر من واحدة ومن التسري. واليهود ــ أيضًا ــ يمنعونه من التَّسَرِّي، ومن أَنْ يتزوج بها إذا طلقها فتزوجت غيره؛ فإذا تزوجت غيره لم تحل للأول بحال= فكان الشرع الذي بعث الله ــ تعالى ــ به خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - أكمل الشرائع وأحسنها وأصلحها وأيسرها (2). وأما كون الطلاق مباحًا مستوي الطرفين بمنزلة بيع المال = مما يظهر بطلانه، وقد عُلِمَ أَنَّ ما كان فيه سببٌ يوجب تحريمه فرخَّص فيه في قدر _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) مجموع الفتاوى (32/ 90) (37/ 277).

(2/680)


الحاجة، وقد يُقَدَّرُ ذلك بثلاث؛ كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أَنْ تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوجٍ؛ فإنها تُحِدُّ عليه أربعة أشهر وعشرًا» (1)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: «لا يَحِلُّ لمسلمٍ أَنْ يهجر أخاه فوق ثلاثٍ؛ يلتقيان: فَيَصُدُّ هذا وَيَصُدُّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (2)، وكما في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أرخص للمهاجر أَنْ يُقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا (3). ونحن لم نثبت المنع من الطلاق بمجرد ما ذُكِرَ مِنْ قولِهِ: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» [189/ ب]، بل بالأدلة الشرعية. الوجه الثاني: أَنْ يقال: نحن لا نحتاج إلى أن نجعل الطلاق محرمًا أو مكروهًا في حال من الأحوال، بل يكفينا أَنْ نقول: ليس بواجب ولا مستحب في غالب الأحوال، بل غايته أَنْ يكون مباحًا كالبيع والإجارة، وهذا مما لا يمكن فيه النزاع بين المسلمين، بل هذا هو الإجماع المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام. فإنه لا يقول من يؤمن بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّ كل متزوِّجٍ يجب عليه أو يستحب له أَنْ يُطَلِّق امرأته؛ وحينئذٍ فعامة الحالفين بالطلاق لا يكون الطلاق _________ (1) أخرجه البخاري (1280)، ومسلم (1486) من حديث أم حبيبة - رضي الله عنها -، وجاء عن غيرها في الصحيحين أو أحدهما. (2) أخرجه البخاري (6077)، ومسلم (2560) من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -، وجاء عن غيره بلفظ مقارب. (3) تقدم تخريجه في (ص 184).

(2/681)


في حقهم لا واجبًا ولا مستحبًّا بخلاف الحالف بالعتق. فإنَّ العتق من القُرَبِ والطاعات، وقد يكون واجبًا كالعتق الواجب في الكفارة؛ كفارة اليمين أو كفارة الظهار أو القتل أو الجماع في رمضان والعتق الواجب بالنذر، وإِنْ لم يكن واجبًا كان مستحبًا مؤكد الاستحباب، حتى يقدمه كثيرٌ من العلماء إذا زاحم التبرعات في مرض الموت على غيره من التبرعات، وله نفوذ وسراية في ملك الغير؛ فإذا أعتق شقصًا له من عبد وهو موسرٌ = لزمه إعتاق باقيه، إما أَنْ يَعْتِقَ بإعتاقه لنصيبه (1) ويبقى منه نصيب الشريك دينًا في ذمته على أحد قولي العلماء، وإما أَنْ يتأخر العتق حتى يؤدي القيمة على القول الآخر لكن يجب عليه أداؤها، وهذان هما قولا الجمهور الآخرين في مذهب الشافعي وأحمد، والثاني قول مالك، وإما أَنْ يقال يجب هذا أو هذا واستسعاء العبد في كمال عتقه كقول أبي حنيفة. وبالجملة؛ فالعتق في الشرع: إما واجب وإما مستحب، ولكن قد يعرض أمر يمنَع أَنْ يكون مستحبًّا، كما لو كان عليه دين وهو يطالبه وله عبد فقضاء دينِهِ به أو قيمتِهِ خيرٌ له من أَنْ يعتقه، ولهذا لو أعتقه في هذه الحال كان في نفوذ عتقه قولان للعلماء، وكذلك في سائر التبرعات من المدين الذي لا فَضْلَ له يتبرع به، بل وكذلك فيمن هو محتاج إلى ما يتبرع به. وأما الطلاق؛ فالأصل فيه: أنه ليس بواجب [190/ أ] ولا مستحب، ولكن قد يَعرض له ما يجعله مستحبًّا أو واجبًا. _________ (1) في الأصل: (لشريكه)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/682)


فإنه في أحد القولين في مذهب أحمد يجب عليه أَنْ يطلقها إذا كانت مُصِرَّة على ترك الصلاة أو على فعل الفاحشة، ومذهب أحمد أنه لا يجوز له أن يتزوج الزانية حتى تتوب كما دل عليه الكتاب والسُنة، وضَعَّفَ حديث: إِنَّ امرأتي لا ترد يد لامس (1)، ولم يُجَوِّز للرجل أَنْ يكون ديوثًا، مع أَنَّ بعض أهل الكلام كأبي علي الجُبَّائي (2) ذكر الإجماع على جواز ذلك! وادَّعى أن آية النور (3) منسوخة بمثل هذا الإجماع، سواء قيل الإجماع هو الناسخ أو هو دليل على الناسخ؛ ولبسط خطأ المُدَّعين لهذه الإجماعات المخالفة للكتاب والسُنة وآثار الصحابة موضع آخر. والمقصود هنا: أنه إذا كان الطلاق المحلوف به غيرَ واجب ولا مستحب، والعتق المحلوف به مستحب ولو نَذَرَهُ لصار واجبًا بالنذر، والطلاق لا يجب بالنذر، ثم الصحابة - رضي الله عنهم - المتقدمون أفتوا في تعليق العتق ونذر الطاعات إذا قُصِدَ به اليمين: أنه لا يلزم، لكونه يمينًا مكفَّرة، _________ (1) أخرجه الشافعي في مسنده (برقم 1206)، وأبو داود (1851)، والنسائي (3465) وغيرهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال الإمام أحمد: ليس له أصل ولا يثبت. وقال النسائي: والصواب مرسل. انظر: نصب الراية (3/ 353)، البدر المنير (8/ 177)، ولابن حجر رسالة في الكلام على هذا الحديث ذهب فيه إلى صحته، ولابن المبرد (يوسف بن عبد الهادي) رسالة مخطوطة في تخريج الحديث، ولابن القيم في روضة المحبين (ص 200 وما بعدها) توجيه حسن لمعنى الحديث. (2) هو: محمد بن عبد الوهاب البصري، رأس المعتزلة، توفي سنة (303). انظر في ترجمته: تاريخ الإسلام (7/ 70)، وفيات الأعيان (4/ 267)، الأنساب للسمعاني (2/ 17). (3) وهي قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].

(2/683)


فجعلوا كونه يمينًا مانعًا من لزوم ما هو طاعة لله ورسوله، وهو محبوب إلى الله ورسوله، لأنَّ العتق والطاعات وإِنْ كانت محبوبةً لله ورسوله= فلا تلزم إلا من ألزمه الله بها، أو مَنْ ألزم نفسه بها، وهذا المعلِّق إذا قصد اليمين فلم يقصد بها إلزام نفسه بها، بل قصد اليمين = فَلَأَنْ يقولوا: إن المعلق للطلاق إذا كان قصده اليمين لا يلزمه الطلاق الذي ليس هو بمحبوبٍ لله ورسوله بطريق الأولى والأحرى، فإنَّ قصد اليمين المانع من اللزوم هناك موجود هنا، والشارع يحب ما ألزمه هناك ولا يحب ما جعله لازمًا هنا. ومما يبيِّن هذا: أن الشارع وَسَّعَ طريق العتق، وضَيَّقَ طُرُقَ الطلاق؛ فالعتق إذا كان من أهله في محلِّه = جاز في كل وقت، والطلاق لا يجوز في حال حيض المرأة، ولا يجوز إذا وطئها بعد الطهر حتى يتبين حملها، بل المنع من الطلاق في هاتين الحالين ثابت بالنص [190/ ب] والإجماع (1). والطلاق لم يَزُلْ به الملك ابتداء، بل إذا أوقعه بعد الدخول كانَ أَحَقَّ برجعتها ما دامت في العِدَّةِ، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر، وإنما يَزولُ ملكه إذا انقضت العدة، بخلاف الإعتاق فإنه يزيل الملك بنفسه، ولا يبقى بعده للسيد ملك على المملوك، ولا رجعة له بعد الإعتاق، كما له في المرأة رجعة بعد الطلاق. وأيضًا؛ فإذا زال ملكه عنها جاز له أَنْ يثبت له الملك ثانيًا بعقد ثانٍ، والعبد إذا عتق وهو مُسلم لم يَعُدْ إلى الرِّقِّ، ولو كان ذميًّا لم يَعد إلى الرق إلا أَنْ يُذنب الذنبَ الذي يبيح استرقاقه، وأما الإسلام السابق فهل يمنع _________ (1) انظر من نقل الإجماع في: موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (مسائل الإجماع في أبواب النكاح) (3/ 470 وما بعدها).

(2/684)


استرقاق المرتد حيث لا يتحتَّم قتله؟ فيه نزاعٌ بين العلماء، وهذا لأنَّ الرق إنما سببه الكفر والمحاربة فأباح (1) الله ــ عز وجل ــ لعباده المؤمنين أَنْ يستعبدوا رقاب الكفار ويأخذوا أموالهم، لأنه ــ تعالى ــ خلقهم لعبادته، وخَلَقَ الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فلما كفروا به وحاربوا أولياءه أباح لأوليائه تملك أنفسهم وأموالهم، وَجَعَلَ ذلك فيئًا يفيئه على عباده المؤمنين، لأنهم هم المستحقون له. أفاء إليهم؛ أي: أعاد إليهم ما هم المستحقون له شرعًا. ولهذا كان الإسلام مانعًا من الرقِّ الشرعي، فالحر المسلم لا يجوز استرقاقه بحال، وإذا ارتدَّ عن الإسلام تحتَّمَ قتلُهُ إِنْ لم يَعُدْ إلى الإسلام، فإن أسلم بعد الأسر فهل يسترق كما يسترق الكافر الأصلي؟ فيه نزاع. فقيل: يجوز استرقاقه، كما استرق الصحابة - رضي الله عنهم - من استرقوه من بني حنيفة (2)، ومنهم الحنفية التي تَسَرَّاهَا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (3). وقيل: لا يجوز استرقاقه، فإنه إما أَنْ يُسلم وإما أَنْ يتحتم قتله؛ بخلاف الكافر الأصلي فإنه إذا لم يسلم لم يتحتم قتله. والمرتدة يتحتم قتلها عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد، كما قتل _________ (1) في الأصل: (أباح)، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام. (2) وذلك في وقعة اليمامة مع مسيلمة ومن اتبعه. انظر خبرها في: تاريخ الإسلام (2/ 27 وما بعدها)، البداية والنهاية (9/ 465 وما بعدها). (3) أخرجه الواقدي في كتاب الردة ــ كما ساق إسناده الزيلعي ــ. ورواية ابنها محمد في «الصحيحين». انظر: نصب الراية (3/ 450)، البدر المنير (8/ 576).

(2/685)


الصديق - رضي الله عنه - مرتدة (1)، وأبو حنيفة مَنَعَ قتلها كما يمنع قتل الكافرة [191/ أ] الأصلية، والجمهور يُفَرِّقُونَ بين الردة وبين الكفر الأصلي، فإنَّ الرِّدَّةَ موجبة لقتل المرتد، بخلاف الكافر الأصلي فإنه يجوز عقد الذمة له؛ ولهذا يجب في الردة قتل من ليس من أهل القتال كالشيخ الكبير والراهب وغيرهما، ولا يجوز قتل هؤلاء عند الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد. فإنَّ الكفر الأصلي إنما يُبيح القتل مع الحراب عند الجمهور (2)، والشافعي يجعل نفس الكفر هو المبيح، ويقول: إنما استثنى النساء والصبيان لكونهم يصيرون بالاستيلاء مالًا للمسلمين، ففي قتلهم تَفْوِيتُ تملك ذلك على المسلمين، فيجعل المانع كون القتل يفوت تملكهم على المسلمين، وأما الأكثرون فيقولون: بل المانع كونهم ليسوا من أهل القتال، كما عَلَّلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لَمَّا مَرَّ في بعض مغازيه بامرأةٍ مقتولةٍ، فقال: «ما _________ (1) أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ (برقم 535)، البيهقي في السنن الكبير (17/ 125/ ح 16955، 16956)، ومعرفة السنن والآثار (12/ 255)، والدارقطني (4/ 119). قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 387): وأسانيد هذه القصة منقطعة. وقال الزيلعي: لكن قيل: إنَّ سعيدًا هذا لم يدرك أبا بكر فيكون منقطعًا. وحسنه المباركفوري في التحفة (5/ 21). انظر: نصب الراية (3/ 459)، البدر المنير (8/ 574)، التلخيص الحبير (4/ 137). وذُكِرَ أنَّ اسمها: أمُّ قرفة. (2) انظر: فهرس مجموع الفتاوى (37/ 164 - 165)، والنبوات (1/ 570)، وقاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم.

(2/686)


كانت هذه لتقاتل» (1)، ونهى عن قتل النساء والصبيان (2)، وفي السنن أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل الشيخ الكبير والعسيف (3) وغيرهما ممن ليس هو من أهل القتال؛ ولهذا لو قاتل النساء والصبيان قوتلوا وقتلوا باتفاق العلماء (4)، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا: أَنَّ سبب الرق هو الكفر (5)، والإسلام يمنع ابتداءه ولا يمنع دوامه، فإذا أسلم بعد الاسترقاق لم يَصِرْ حرًّا، فإنه إنما تاب من الكفر بعد القدرة عليه، وذلك لا يمنع بقاء أثر العقوبة عليه ــ وهو الرق ــ، بخلافِ _________ (1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (25/ 370)، وأبو داود (2669) وغيرهما من حديث رباح بن الربيع - رضي الله عنه -. وقال ابن حبان في صحيحه (11/ 113): سَمِعَ هذا الخبر المرقَّع بن صيفي عن حنظلة الكاتب، وسَمِعَهُ من جدِّهِ، وجَدُّه رباح بن الربيع وهما محفوظان. انظر: نصب الراية (3/ 387)، البدر المنير (9/ 80)، إرواء الغليل (5/ 35)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 314/ ح 701). (2) أخرجه البخاري (3014، 3015)، ومسلم (1744) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (3) النهي عن قتل الشيوخ: أخرجه أبو داود (2612) وغيره من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. انظر: نصب الراية (3/ 386). والنهي عن قتل العسيف: أخرجه أبو داود (2669)، والنسائي في سننه الكبرى (8571، 8572)، وابن ماجه (2842) وغيرهم من حديث رباح بن الربيع - رضي الله عنه -. انظر: مجمع الزوائد (5/ 315 - 318). (4) موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لسعدي أبو جيب (ص 269 - 270). (5) انظر ما تقدم في (ص 416).

(2/687)


مَنْ أسلم قبل القدرة عليه، وذلك يرفع عنه العقوبة التي لله بالكلية؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسير العقيلي لَمَّا قال: يا محمد، إني مسلم. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّكَ لو قُلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح» (1). والإعتاق يعيد الإنسان إلى أصلِ حريته، وإِنْ كان المعتَق ذميًا فعتقه كالصدقة عليه، والصدقة عليهم جائزة بخلاف الطلاق والنكاح؛ فإنَّ النكاح هو سبب دوام الآدميين، فهو أمر طبيعي في بقائهم كما أَنَّ الأكل [191/ ب] والشرب أمر طبيعي في بقاء الشخص، فلا بُدَّ منه من بقاء النوع؛ ولهذا يجب عند الضرورة إذا خاف الوقوع في الزنا. وإذا كانت له شهوة ولكن لا يخاف الوقوع في الزنا فهل هو واجب أو مستحب؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد. وإن اشتغل عنه بالصوم والصلاة، فهل هو أفضل أو الصلاة والصوم؟ فيه نزاع مشهور. وَمَنْ لم يوجبه مع أَنَّ الآدميين لا يبقون [إلا] (2) به، فإنه يكتفي بالباعث الطبعي. كما اختلف العلماء في الصناعات التي لا بُدَّ للناس منها كالحراثة والبناية؛ هل يقال: إنها فرض على الكفاية أم لا؟ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. _________ (1) أخرجه مسلم (1641) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -، وقد تقدم طرفه في (ص 124 - 125). (2) إضافة يقتضيها السياق.

(2/688)


ففي الجملة؛ هو من أصول مصالح الآدميين طبعًا وشرعًا، بخلاف الرق فإنه ثابت على خلاف مقتضى الفطرة والشرعة، وإنما يُسْتَرق مَنْ خَرَجَ عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، وعن دينه الذي شرعه. فالطلاق إزالة [النكاح] (1) الذي هو من مصالح العباد في المعاش والمعاد، والإعتاق إزالة الرِّقِّ الذي إزالته من تمام مصالح العباد في المعاش والمعاد. فالطلاق من جنس الرق الثابت على خلاف الأصل، والإعتاق من جنس النكاح الموافق لمقتضى الأصل؛ فلهذا جاءت الشريعة الكاملة بتوسيع طرق العتق والترغيب فيه، وتضييق طرق الطلاق والمنع منه، فمن عكس ذلك فقد بَدَّلَ فطرة الله التي فطر عباده عليها، وشرعة الله التي (2) أرسل بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما فيمن عَلَّقَ تعليقًا يقتضي لزوم العتق له، وجعل العتق لازمًا له عند وجود الشرط، كما جعل النذر لازمًا له عند وجود الشرط، لكن كان قصده اليمين وهو يكره لزوم ما عَلَّقَهُ سواء وجد الشرط أو لم يوجد= فإذا قيل لهذا: قَصْدُ اليمين مانعٌ لك من لزوم ما جعلته لازمًا لك ــ وإِنْ كان الله يحبه ويرضاه ــ، ولم يكن جعله لذلك لازمًا عند الشرط مع كون الله يحبه ويرضاه موجبًا للزومه، ثم يجعل جَعْلَ ما لا يحبه الله ويرضاه لازمًا له، لكونه جعله لازمًا له، فيجعل مجرد جعله لازمًا موجبًا للزومه مع أَنَّ الله لا يحبه ولا يرضاه، والذي [192/ أ] يحبه ويرضاه لا يجعل جعله لازمًا موجبًا للزومه= فَمَنْ قال هذا؛ هل أبقى في الخطأ غاية؟! _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) في الأصل: (الذي)، والجادة ما أثبتُّ.

(2/689)


ولو قيل لشخص: اجتهد في الخطأ؛ هل كان يقول إلا ما هو من هذا الجنس؟! فأيُّ القولين أولى أَنْ يُظَنَّ بخيار الأمة وأفضل القرون أنهم قالوا؟! هذا القول المتناقض وليس معه عنهم نقل بذلك، بل كلامهم يدل على نقيض ذلك، أو أنهم قالوا قولًا معروفًا يوافق الفطرة والشرعة، ويقبله العقل، ويدل عليه الكتاب والسُنة، ويكون قولهم به مطردًا متناسبًا سالمًا من التناقض، وكلامهم يدل عليه من جهة العموم المعنوي تارة، ومن جهة العموم اللفظي تارة. فإنهم إذا جعلوا كونه قاصدًا للحلف [ ... ] (1) إلا (2) للزوم المعلق مانعًا من أَنْ يَلزمه ما يحبه الله ويرضاه من العتق والنذر، فَلَأَنْ يجعلوا هذا القصد مانعًا من أَنْ يلزمه ما لا يحبه الله ويرضاه بطريق الأولى والأحرى. * * * * _________ (1) بياض في الأصل مقدار كلمة. (2) وضع الناسخ فوقها حرف (ظ).

(2/690)


فصلٌ قال المعترض: (قال المجيب: وبالجملة؛ النزاعُ في هذه المسألةِ ثابتٌ بين السلف، كطاووس والحسن البصري وغيرهما. قلتُ: أما طاووس؛ فقد تقدم الكلام عليه (1)، وإبداء الاحتمالات في اللفظ المنقول عنه. وقال ابن حزم (2): إنه صح عنه في الحلف بالعتاق كفارة يمين. وهذا ــ أيضًا ــ يحتمل أَنْ يراد به: بصيغة (العتق يلزمني)؛ فلا دلالة فيه، وتقدم فيه قول محمد بن نصر أنه روي عن الحسن وطاووس مثل قول أبي ثور (3)، فيحتمل أَنْ يريد مثل قوله في التفرقة بين الطلاق والعتق وغيرهما، فيكون ذلك نقلًا عن طاووس لوقوع الطلاق، ويحتمل أَنْ يريد مثل قول أبي ثور في العتق خاصة، ومثل هذا الاحتمال لا يحصل النقل (4)، فلذلك لم أنقل عن طاووس شيئًا، لأني لم أَرَ عنه بنصٍّ ظاهر خلافَ ما نقله المصنف) (5). والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ هذا تخليطٌ في الكلام، فإنَّ الكلام هنا إنما هو في إثبات _________ (1) «التحقيق» (25/أ). (2) في المحلى (ص 991). (3) اختلاف الفقهاء (ص 491). (4) كذا في الأصل و «التحقيق». (5) «التحقيق» (45/ أ).

(2/691)


النزاع في العتق المحلوف به، وهذا الذي قال فيه المجيب: (وبالجملة فالنزاع في هذه المسألة ثابت بين السلف كطاووس والحسن). لم يذكر [192/ ب] هنا النزاع في الطلاق، والاحتمالات التي تقدم إبداء المعترض لها مع فسادها = إنما هي فيما نقل عنه في الطلاق؛ فكيف يصلح أن يذكر هذا جوابًا فيما نقل عنه في العتق؟ الوجه الثاني: أَنْ يقال: قول طاووس: التسوية بين العتق والحلف بالنذر أنه فيه كفارة يمين، كما هو قول أبي ثور= قد نقله عامة من صنف في الخلاف مثل: محمد بن نصر، ومثل محمد بن جرير، ومثل أبي بكر بن المنذر، ومثل أبي عمر بن عبد البر، ومثل أبي محمد بن حزم وغير هؤلاء، وبعض هؤلاء هو الذي نقله، وقبل هؤلاء ذكر النزاع أبو ثور وغيره من علماء المسلمين. وأيضًا؛ فهذا النقل موجود في الكتب التي يُذْكَرُ فيها نزاع السلف من المصنفات في مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، فالطاعن في نقل ذلك عن طاووس مخالفٌ لإجماع العلماء الذين ينقلون النزاع. والمعترض معترفٌ بأنه ليس معه نقل عن طاووس يخالف ذلك؛ فكيف يسوغ رَدُّ ما نقله جميع العلماء عن طاووس بلا شيء أصلًا؟ وإنما رَدَّ ذلك بمثل ما رَدَّ بِهِ قولَهُ في الطلاق المحلوف به من التأويلات القرمطية، التي هي من باب تحريف الكلم عن مواضعه. الثالث: أَنْ يقال لمثل هؤلاء: عمدتكم في المسألة على نقل بعض هؤلاء للإجماع، ومعلومٌ أَنَّ نقلهم للنزاع أثبتُ وأقوى من نقلهم للإجماع

(2/692)


وعدم النزاع، فإنَّ نقلَ النزاع هو نقل عن عالم قالَ قولًا في مسألة يمكن معرفته؛ إما بسماعه منه وإما بإسناد ثابت عنه؛ وأما نقل الإجماع وعدم النزاع فلا يكون علمًا إلا مع العلم بعدم النزاع؛ وهذا إِنْ كان ممكنًا فهو متعسر، وإِنْ كان غير ممكن فمتعذر؛ فالأول أيسر منه، وما كان أيسر كان العلم به أيسر. ولهذا يقبل من نقل النزاع ما يقبل من رواية العدل، فإذا روى العدل الضابط عن بعض العلماء قولًا يقبل منه كما يقبل إخبار أمثاله من العدول الضابطين، وأما نقل الإجماع وعدم النزاع فلا ينتهض به إلا الأفراد من العلماء [193/ أ] المطلعين. ومع هذا؛ فالغلط فيه كثير جدًا، حتى إني لا أعرف أحدًا ينقل الإجماعات إلا وقد وجد فيما ينقله من الإجماعات ما فيه نزاع لم يطلع عليه (1). وأيضًا؛ فالغلط فيه كبير جدًّا بخلاف مَنْ ينقل الأقوال عن قائل معيَّن يثبت به النزاع، فإنَّ من الحفاظ مَنْ لم يُعرف له غلط كالزهري والثوري وغيرهما، ومنهم مَنْ يَندر غلطه كشعبة وزائدة وقتادة وزهير وغيرهم، وهؤلاء وأمثالهم أحفظ الأئمة للمنقولات من أقوال العلماء وغيرهم، وهم وغيرهم كابن جريج ومالك بن أنس وحماد بن زيد وحماد بن سلمة _________ (1) مجموع الفتاوى (13/ 25، 26) (19/ 272)، الفتاوى الكبرى (6/ 447، 495)، جامع المسائل (3/ 342)، منهاج السنة (7/ 286)، النبوات (1/ 479)، نقد مراتب الإجماع (ص 286 وما بعدها). وانظر ما تقدم (ص 658).

(2/693)


وسفيان بن عيينة وسعيد بن أبي عروبة وسليمان التيمي والأوزاعي والليث بن سعد وعمرو بن الحارث، وَمِنْ قَبْلِ هؤلاء مِنْ صغار التابعين وكبارهم كالفقهاء السبعة وكالحسن وابن سيرين ومُطَرِّفِ بن الشِّخير وكعلقمة والأسود وعَبيدة وإبراهيم التيمي وإبراهيم النخعي وأمثالهم = هم دائمًا ينقلون المنقولات المثبتة للنزاع كما ينقلون أقوال الصحابة والتابعين بعدهم مما فيه نزاع، وذلك النقل مقبول منهم، كما يقبل منهم ما ينقلونه من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). وعامة هؤلاء لا ينقلون إجماعًا، اللهم إلا أَنْ ينقلَ أَحدُهم إجماعَ الصحابة - رضي الله عنهم -؛ كما روي عن عَبيدة السلماني أنه قال: لم يجمع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على شيء كإجماعهم على أَنَّ الأخت لا تنكح في عدة أختها، وأَنَّ الخامسة لا تنكح في عدة الرابعة (2)، وهذا أراد به العدة الرجعية، فالناس يسلمون الإجماع فيه، وأما الطلاق البائن فلا يُسَلِّمُون الإجماع فيه، بل ومالك والشافعي وغيرهما يقولون: إنها تباح في العدة من الطلاق البائن. _________ (1) مجموع الفتاوى (13/ 350) (21/ 494)، الفتاوى الكبرى (1/ 247). (2) ذكره المجيب ــ أيضًا ــ في مجموع الفتاوى (32/ 72)، والفتاوى الكبرى (4/ 153)، وقد نسب حكاية الإجماع إلى عَبيدة السلماني - رحمه الله - جماعة من العلماء منهم: السرخسي في المبسوط (4/ 202)، والزيلعي في تبيين الحقائق (2/ 108)، والزركشي في شرح مختصر الخرقي (5/ 135) وغيرهم. وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 760): وذلك لحديث زرارة بن أوفى: ما أجمع أصحاب محمد على شيء ما أجمعوا على أنَّ الأخت لا تنكح في عِدة أختها ... ثم قال (2/ 761): وأما ما ذكرتم من الإجماع؛ أما البائن، فأين الإجماع فيها؟

(2/694)


وأما مَنْ يَنقل الإجماعات بعد التابعين؛ كالليث والثوري ومالك فيوجد في إجماعهم نزاع لم يَطَّلِعُوا عليه، بخلاف ما ينقلونه من النزاع، فإنَّ نقلهم له ثابت. فالليث حكى الإجماع على أنه لا تقصر الصلاة في أقل من يومين [193/ ب]، وكذلك الشافعي تبعه على ذلك؛ وقد علم النزاع في ذلك بين الصحابة والتابعين (1). والثوري حكى الإجماع على أَنَّ المطلقة الرجعية إذا ارتجعها ثم طلقها فإنها تستأنف العدة، والنزاع ثابت في ذلك معروف حتى في مذهب الشافعي وأحمد. ومالك بن أنس ذَكَرَ الإجماعَ على الحكم بِرَدِّ اليمين (2)، وعلى القسامة (3)؛ والنزاع في ذلك معروف. _________ (1) الأم (2/ 362). وانظر: مجموع الفتاوى (25/ 212)، الفتاوى الكبرى (2/ 467)، قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة (ص 216)، وما تقدم في (ص 183). (2) في الموطأ (2/ 267). وانظر: الاستذكار (22/ 57)، الطرق الحكمية (1/ 321). (3) في الموطأ (2/ 453) وقال: الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعت ممن أرضى في القَسَامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أنْ يَبدأَ بالأيمان المُدَّعون في القسامة فيحلفون، وأنَّ القَسَامة لا تجب إلا بأحد أمرين: إما أنْ يقول المقتول: دمي عند فلان، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة ــ وإنْ لم تكن قاطعة ــ على الذي يُدَّعَى عليه الدم؛ فهذا الذي يُوجب القسامة للمدعين الدم على مَن ادعوه عليه، ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين. قال مالك: وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي لم يزل عليه عمل الناس أنَّ المبدَّئين بالقسامة أهل الدم والذين يدعون العمد والخطأ. وانظر: الاستذكار (25/ 309 مهم)، الصواعق المرسلة (2/ 590 - 592).

(2/695)


والمقصود: أَنَّ العلماء نَقْلُهُم لِمَا ينقلونه من أقوال يَثْبُتُ بها النزاع أثبت من نقلهم لنفي النزاع. وأبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن المنذر وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم قد نقلوا النزاع في الحلف بالعتق عن الصحابة والتابعين، وممن سَمَّوه طاووس، وبعضهم حكى إجماعًا في الطلاق كأبي ثور ومن تبعه، وبعضهم حكى النزاع في الطلاق ــ أيضًا ــ كابن حزم ومَنْ وافقه، فلو لم يُعلم النزاع في الطلاق والحلف به بنقول (1) أخرى، لكان من المعلوم قطعًا أَنَّ إثباتَ نقلهم كلهم للنزاع في العتق أولى من إثبات نقل بعضهم لنفي النزاع في الطلاق مع مخالفة بعضهم في ذلك لوجهين: أحدهما: أَنَّ نقلَ النزاعِ أقوى وأثبت. والثاني: أَنَّ مثبتَ النزاعِ مثبتٌ، ونافيه نافٍ؛ والمثبتُ مُقَدَّمٌ على النافي. فإذا جعل المعترض ونحوه عمدتهم نقلهم للإجماع، وطعنوا في نقلهم للنزاع = كان هذا من أظهر الخطأ وأفحش التناقض. الوجه الرابع: أَنَّ النزاع في العتق ليس هو قول طاووس والحسن فقط، بل منقولٌ عن غير واحد من التابعين غيرهما، وعن غير واحد من الصحابة مع ثبوت ذلك النقل. _________ (1) في الأصل: (منقول)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/696)


وقد تقدم اعتراف محمد بن جرير الطبري وأبي محمد بن حزم بقول مَنْ قال مِن الصحابة والتابعين: إنه إذا حلف بالعتق بقوله: (كل مملوك لي حر إِنْ فعلت كذا) = أنه يُكَفِّر يمينه ولا يلزمه العتق، وهذان مخالفان لهذا القول، يريان أنه لا يلزمه عتق ولا كفارة، كما لا يلزم ذلك عندهما في تعليق النذر إذا قُصِدَ بِهِ اليمين، وقولهما في ذلك كله قول داود [194/ أ] وأصحابه، وهو ثابت في الحلف بالنذر عن طائفة من التابعين، ويروى عن محمد بن الحسن، والطحاوي يميل إليه. فهؤلاء يختارون في الحلف بالعتق أنه لا يلزم ولا كفارة فيه، كما يُذْكَرُ ذلك عن: داود وَمَنْ وافقه، وأبلغُ من ذلك قول أبي عبد الرحمن الشافعي وَمَنْ وافقه كابن حزم من أهل السنة، وكالمفيد والطوسي والموسوي وغيرهم من شيوخ الشيعة، وهم ينقلون ذلك عن فقهاء أهل البيت، ومعلومٌ أَنَّ خلافَ أئمة أهل البيت ــ كأبي جعفر محمد الباقر وجعفر بن محمد ــ معتدٌّ به باتفاق المسلمين، فإنَّ هؤلاء مِنْ أكابر أئمة المسلمين، ومن سادات أهل العلم والدين، وإِنْ كانت الرافضة تغلوا فيهم غلوًّا باطلًا، فذلك لا يمنع من معرفة أقدارهم، كغلوهم في علي - رضي الله عنه -، وغلو النصارى في المسيح ــ عليه السلام ــ. والرافضة يجعلونهم معصومين كالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويجعلون كل ما قالوه قالوه نقلًا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويجعلون إجماع طائفتهم حجة معصومة؛ وعلى هذه الأصول الثلاثة بنوا شرائع دينهم، لكن جمهور ما ينقلونه من الشريعة موافق لقول جمهور المسلمين، فيه ما هو من مواقع الإجماع، وفيه ما فيه

(2/697)


نزاع بين أهل السنة، فليس الغالب فيما ينقلونه عن هؤلاء الأئمة من مسائل الشرع الكذب، بل الغالب عليه الصدق، وفيه ما هو كذب خطأ أو عمدًا بلا ريب، وأقوالهم كأقوال نظرائهم من أئمة المسلمين. لكن قد يقال: نقل هؤلاء عنهم لا يوثق به، وقد وقفت على النقل المأثور عنهم بالإسناد المتصل عندهم، فوجدته في التعليق للطلاق الذي يقصد به اليمين، أفتوا فيه: أنه لا يلزم به الطلاق. ولفظ بعضهم يقتضي أنه لا يلزمه طلاق ولا كفارة. ولفظ بعضهم إنما فيه نفي الطلاق لم يتعرض لنفي الكفارة. وأما التعليق الذي يقصد به الإيقاع؛ فلم أجد نقلًا متصلًا عنهم أنه لا يلزم. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري لمَّا تكلمَ على مسألة الحلف بالعتق في [194/ ب] كتابه (اللطيف) (1) قال: (ويسألُ القائلونَ: إِنَّ العتق واقع بمملوكِ القائلِ: مملوكه فلان حر إِنْ كَلَّمَ اليوم فلانًا؛ إذا حنث في يمينه [أَتسقطون] (2) عنه الكفارة؟). إلى أَنْ قال: (فإن ادعوا أَنَّ ذلك إجماع. قيل لهم: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، وقد روي عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - = أَنَّ في ذلك كفارة يمين). _________ (1) انظر (ص 141). (2) في الأصل: (المسقطون)، والمثبت من قاعدة العقود (2/ 332).

(2/698)


فقد ذكر ابن جرير ــ وهو يرى أَنَّ قول الجمهور حجة، نقلته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجعل مستند الإجماع اجتهادًا، ولا يعتد بخلاف الواحد والاثنين ــ أَنَّ القول بلزوم الكفارة فيما إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فكل مملوك لي حر = هو قولُ جماعةٍ يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين، وذكر منهم مَنْ ذكر مثل: ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم. وطاووس واحد من جماعةٍ يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين، قالوا فيما إذا قال: إِنْ فعلت فكل مملوك لي حر: إِنَّ في ذلك كفارة يمين. وابن جرير أَحدُ مَن اعتمد المعترض وأمثاله على نقله للإجماع في الطلاق، مع أَنَّ ذلك لا ينفعهم؛ فإنَّ الإجماع عنده قولُ الجمهور، ليس هو الإجماع الذي يقولون هم وجمهور علماء المسلمين إنه الإجماع المعصوم. وأما نَقْلُهُ للنزاع في ذلك؛ فقد نقله عن جماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين، ومثل هذا النقل يُرجع فيه إليه باتفاق العلماء؛ فقد احتجوا بنقله فيما لا يجوز الاحتجاج به عند جماهير العلماء، وتركوا نقله فيما يحتج بنقله فيه باتفاق العلماء. فإنه من أئمة المسلمين العالمين بأقوال الصحابة والتابعين، وهو أحد المجتهدين الذين لهم أتباع ومذهب، ولهذا ذكره أبو إسحاق في طبقات الفقهاء المجتهدين (1). _________ (1) (ص 93).

(2/699)


وقال أبو محمد بن حزم (1): (صَحَّ عن عائشة وأم سلمة ــ أُمَّي المؤمنين ــ، وعن ابن عمر أنه جعل في قول ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية [195/ أ] إِنْ لم تطلق امرأتك = كفارة يمين واحدة. وعن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - فيمن قال في يمينٍ: مالي ضرائب في سبيل الله، أو قال: مالي كله في رتاج الكعبة = كفارة يمين. وعن عائشة وأم سلمة أُمَّي المؤمنين - رضي الله عنهما - فيمن قال: عليَّ المشي إلى بيت الله إِنْ لم يكن كذا = كفارة يمين؛ من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع عنهما). قال: (وروينا عن جابر بن عبد الله: النذر كفارته كفارة يمين. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - مثل هذا. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نحوه. وعن عكرمة والحسن فيمن قال: مالي كله في رتاج الكعبة = كفارة يمين). قال: (وَصَحَّ عن طاووس وعطاء؛ أما طاووس فقال: الحلف بالعتاق ومالي هدي وكل شيء لي في سبيل الله وهذا النحو = كفارة يمين. وأما عطاء فقال فيمن قال: عليَّ بدنة أو قال (2): ألف حجة، أو قال: _________ (1) في المحلى (ص 991)، وقد تقدَّم مرارًا. (2) كرر الناسخ (أو قال).

(2/700)


مالي هدي، أو قال: مالي في المساكين = كُلُّ ذلك يمين. قال: وهو قول قتادة وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر. قال أبو محمد: وكل هذا خلافٌ لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأنَّ الشافعيَّ أَخرجَ من ذلك العتق المعين). فهذا ابن حزم يذكر الحلف بالعتق إذا قال: إِنْ فعلتُ فكل مملوك لي حر عن جماعةٍ من أئمة الصحابة والتابعين، وأَنَّ ذلك صَحَّ عنهم، وَذَكَرَ فيمن ذكر طاووسًا، فلو قُدِّرَ أَنَّ طاووسًا لم يصح ذلك عنه = لكان في إثبات النزاع في الحلف بالعتق بقول بعض هؤلاء كفاية. وهذا المعترض قد رأى كلام ابن حزم في ذلك، لكنه لم ينقل إلا نقله لمذهب طاووس، ثم إنه حَرَّفَهُ، وهذا يظهر بِـ الوجه الخامس (1): فإنَّ المعترض قال: (وقال ابن حزم: إِنَّه (2) صَحَّ عنه في الحلف بالعتاقة كفارة يمين. قال: وهذا ــ أيضًا ــ يحتمل أَنْ يراد به بصيغة العتق يلزمني فلا دلالة فيه). فيقال له: ابن حزم قد قال بأنَّ قول هؤلاء خلاف لقول الشافعي، فإنَّ الشافعي أخرج من ذلك العتق المعيَّن، فلو كان [195/ ب] قصده بما نقله عن طاووس هو فيما إذا حَلَفَ بنذر العتق بِأَنْ قال: إِنْ فعلتُ فعليَّ عتقُ عبد أو عتق هذا العبد، أو قال: يلزمني أَنْ أُعتق عبدًا أو هذا العبد إِنْ فعلتُ = لم _________ (1) في الأصل: (الثالث)، وهو خطأ، فقد تقدَّم الوجه الثالث والرابع، وقد استمرَّ هذا الخطأ فيما سيأتي. (2) في الأصل: (إن)، والمثبت من المحلَّى، ومما تقدم في أول الفصل.

(2/701)


يكن قولهم خلافًا لقول الشافعي عند ابن حزم، بل كان موافقًا لقول الشافعي عنده. فإنَّ الشافعي يقول فيمن حلف بنذر العتق إنه تجزئه كفارة يمين، ويُفَرِّق بين ذلك وبين مَنْ حَلَفَ بوقوع العتق، وقد وافقه على ذلك أحمد وإسحاق وأبو عبيد ومحمد بن نصر وغيرهم، وابن حزم صَرَّحَ بأنَّ قول الشافعي هذا يخالف قول هؤلاء الذين نقل قولهم في العتق من الصحابة والتابعين، ومنهم طاووس. فإذا قيل عن ابن حزم: يحتمل أَنْ يكون نَقْله عن طاووس فيمن حلف بنذر العتق؛ كان كذبًا على ابن حزم. وأيضًا؛ فالحلف بصيغة (العتق يلزمني) كالحلف بصيغة (الطلاق يلزمني)، والمعترض قد رجَّحَ قولَ الجمهور الذين يقولون: إِنَّ هذا حلف بوقوع الطلاق لا حَلِفٌ بنذره = فكذلك يجب أَنْ يجعل هذا موجب الإطلاق في قوله (العتق يلزمني) أنه حلف بوقوع العتق لا حلف بنذره، كما أَنَّ هذا هو المعروف عند الناس من قول القائل: الحرام يلزمني والظهار يلزمني إِنْ فعلتُ كذا، وأيمان المسلمين تلزمني إِنْ فعلت، وأيمانُ البيعة تلزمني إِنْ فعلت كذا؛ فإنَّ هذا حلف بلزوم هذه الأيمان له إِنْ فَعَلَ لا حلف بنذر هذه الأيمان. فإنَّ الناس لا يَقصد أحدهم في العادة على أَنْ أَحْلِفَ في المستقبل بأيمان البيعة وأيمان المسلمين إِنْ فعلتُ، ولا يَقصد يلزمني أَنْ أُحَرِّمَ أو أُظاهر فيما بعد إِنْ فعلت، ولا يقصد يلزمني أَنْ أُطَلِّقَ أو أعتق فيما بعد إِنْ فعلت، فلا يَقصد أنه إذا حنث لزمه أن ينشئ بعد ذلك طلاقًا وعتقًا وظهارًا

(2/702)


وتحريمًا، وينشئ الحلف بأيمان البيعة وأيمان المسلمين، كما إذا قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ الحجُّ، إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج، إِنْ فعلتُ كذا فقد لزمني الحج = فإنَّ هذا يقصد إذا فَعَلَ لزومَ إنشاءِ حَجٍّ له بعد ذلك [196/ أ]، وأما هناك فإنما يقصد إذا حنث أنه قد لزمه الطلاق والعتاق، ولزمه ما يلزم الحالف الحانث إذا حلف بأيمان المسلمين وأيمان البيعة. [الوجه السادس]: قوله: (وتقدم قول محمد بن نصر: إنه روي عن الحسن وطاووس مثل قول أبي ثور (1)؛ فيحتمل أَنْ يريد مثل قوله في التفرقة بين الطلاق والعتاق، ويحتمل أَنْ يريد مثل قول أبي ثور في العتق خاصة) (2). فيقال له: وعلى كلا التقديرين؛ فيكون قد نقل عن طاووس أَنَّ الحالف بالعتق إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فكل مملوك لي حر = أَنْ يُكَفِّرَ يمينه، والكلام هنا إنما هو في قول طاووس في العتق. فقد تبين أَنَّ نقل محمد بن نصر حجةٌ عليك في إثبات قول طاووس كنقل ابن حزم، وقد انضم إلى ذلك نقل ابن المنذر، ونقل الطبري، ونقل أبي عمر بن عبد البر، وغيرهم من العلماء. وترديدك الاحتمال في هذا المقام لا ينفعك في نفي هذا النقل، بل ذكر هذا الاحتمال هنا من باب التغليط والمغالطة (3)؛ كذلك الاحتمالات _________ (1) انظر (ص 167). (2) «التحقيق» (45/ أ). (3) في الأصل: (التغليظ والمغلظة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/703)


التي ذكرتها في قول طاووس في الطلاق، فهاتيك لو قُدِّرَ أنها تنفعك لم تنفعك. فهذه الاحتمالات القرمطية التي تذكرها في قول طاووس، وفي نقل محمد بن نصر عنه، لو نفعتك لن تنفعك فيما قصدته هنا من نفي قول طاووس في العتق، بل هي حجةٌ صريحةٌ على كلا الاحتمالين على نفي مقصودك هنا. ولا عجب أَنْ يحتج (1) الشخص بحجة وتكون عليه لا له إذا كان ذلك في سياقِ رَدِّ الحق الذي لا يمكن رَدُّه، فإنَّ هؤلاء المجادلين في هذه المسألة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، أخرجهم الجدل بالباطل إلى أن جحدوا ما عُلم بالحس وبالعقل وبالسمع وبالشرع وبالخبر، فصاروا يقولون: كُلُّ مَنْ عَلَّقَ شيئًا بقصد اليمين فلا بُدَّ أَنْ يريد وقوع ما عَلَّقَهُ عند وجود الشرط وإنْ كان كارهًا له وللشرط إذا لم يوجد الشرط، بل إذا وجد الشرط فقد أراده كما يريده المعلِّق غيرُ الحالف. فصاروا يَدَّعون على مَنْ أراد أَنْ يمنع نفسه، فقال: إِنْ سافرتُ معكم [196/ ب] إِنْ كلمتُ فلانًا فنسائي طوالق وعبيدي أحرار ومالي صدقة وعليَّ ثلاثون حجة وصوم الدهر ولا أماتني الله على الإسلام وقطع الله يدي وذبح أولادي على صدري ونحو ذلك من الأمور التي يشتد كراهة الإنسان لها وامتناعه من إرادة وقوعها. ومعلومٌ بالاضطرار أنه لا يريد وقوعه سواء وجد الشرط أو لم يوجد _________ (1) كررها الناسخ في الأصل.

(2/704)


الشرط (1) فيقولون: بل هذا قاصد لوجودها إذا وجد الشرط، كما يقصد غير الحالف (2) الطلاق إذا قال: إِنْ أعطتني ألفًا فهي طالق، أو إذا طَلَعَ الهلال فهي طالق، أو إذا أَدَّيْتَ لي ألفًا فأنت حر، أو إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ الحج وعليَّ الصدقة بألف؛ فيجعلون كلَّ مُعَلِّقٍ مريدًا لوقوع الجزاء عند الشرط سواء كان الشرط مرادًا أو غير مراد، وسواء كان الجزاء مكروهًا دون الشرط أو لم يكن مكروهًا، لكنْ إذا عَلَّقَه فلا بُدَّ أَنْ يقصد وجوده عند الشرط. ومعلومٌ أَنَّ قولهم هذا خلاف لما يعلمه الناس علمًا يقينيًّا ضروريًّا من أنفسهم، بل ولما يعلمه بعضهم من حال بعض، فإنهم يعلمون أَنَّ أحدًا لا يقصد أَنْ تلزمه هذه اللوازم التي تزيل عنه نعم الله عليه في دينه ودنياه، وتجعله قد وُتِرَ أهلَه وماله ودينه وآخرته، فإنَّ أحدًا لا يقصد أَنْ يلزمه هذا بحال، فضلًا عن أَنْ يقصد إذا فعل فعلًا من الأفعال مثل سفره إلى بلد أو يُكَلِّم بعض الناس أو تزويج بنته أو إعطاء عشرة دراهم يقدر عليها، بل كل عاقل يعلم أَنَّ بَذْلَ هذه الأمور أيسر على كل عاقل من لزوم تلك المكاره، وأنه إذا خُيِّرَ بينَ أَنْ يفعل هذه الأفعال وبينَ أَنْ تلزمه تلك اللوازم = اختار أَنْ يفعلها وأضعافها، ولا تلزمه بعض تلك المصائب العظيمة في دينه ودنياه؛ فضلًا عن أَنْ تلزمه كلها. وإذا كان معلومًا بالاضطرار أَنَّ هذه الأفعال أحب إليه من لزوم تلك المصائب، فلا يختار إذا فعل هذا الفعل أَنْ تلزمه تلك المصائب العظيمة، _________ (1) بعده في الأصل: (أو لم يوجد)، وهو تكرار، والصواب حذفه. (2) بعده في الأصل: (مثلما يقصد)، ولعل الصواب حذفها.

(2/705)


فيجتمع عليه إِنْ فعلَ ما كان يكرهه وإن لزومه (1) [197/ أ] تلك المصائب، وكان حين اليمين كارهًا للفعل، وكارهًا لتلك المصائب، ثم ندم فيما بعد على التزام الفعل، فصار يختار الفعل ولا يختار أَنْ تلزمه تلك المصائب. وأما كونه يختار أن تلزمه تلك الصفات إذا فعل الفعل؛ فهذا ممتنع منه، ومن سائر (2) العقلاء لا سيما وهو حين اليمين كان كارهًا للفعل؛ فكيف يختار إذا وجد المكروه الأدنى أَنْ يوجد هو والمكروه الأعلى؟! فهو كاره لكلٍ منهما إذا انفرد، وكراهته للمصائب أعظم؛ فكيف يختار إذا وجد هذا أَنْ يوجد هذا؟! فيكون قد اختار اجتماع هذا مع هذا، وهو قط لم يختر أن تكون تلك المصائب وحدها؛ فكيف يختارها إذا قرنت بما هو مكروه عنده؟! وقد زاده اقترانها به كراهة لها، ولم يتجدد له عند الاجتماع معنىً يزيل كراهة هذه المصائب. وأما إذا قُدِّرَ أنه عند الاجتماع يُحْدِثُ معنًى يوجب إرادةَ ما عَلَّقه؛ فهذا ليس بحالف، وهذا يكون في مثل تعليق الطلاق. فإنَّ الطلاق يريده الإنسان تارة ويكرهه أخرى، فإذا عَلَّقَهُ على فعلٍ مكروهٍ فقد يقع مع كراهته له وإِنْ وجد الفعل فيكون حالفًا، وقد يكون مع إرادته له عند الفعل فلا يكون حالفًا. ولهذا لَمَّا كان تعليق الطلاق على وجه الحض والمنع: يكون تارةً مع كراهته [له] (3) عند الشرط فيكون حالفًا، وتارة مع إرادته فلا يكون حالفًا = وقعتِ الشبهةُ لكثيرٍ من الناس في هذا الباب، كالمعترض وأمثاله، بخلاف _________ (1) كذا في الأصل، ولعل صواب العبارة: وإلا لزمته. أو: وإنْ لم يفعل لزمته. (2) كرر الناسخ: (ومن سائر). (3) إضافة يقتضيها السياق.

(2/706)


ما لا يكون إلا يمينًا. ولكن مع كونه قاصدًا للحلف يمتنع أَنْ يكون مريدًا للجزاء في جميع أنواع اليمين، ولو كان مريدًا لم يكن حالفًا، فإنَّ الحالف لا بُدَّ أَنْ تكون كراهته للجزاء الذي علقه أبلغ وإِن وجد الشرط مع (1) كراهته للشرط، فيتميز عن المانع الذي ليس بحالف بوجهين: أحدهما: أنه يكره الجزاء وإِنْ وُجِدَ الشرط. والثاني: أنه يكرهه أبلغَ من كراهة الشرط، بخلافِ الذي يقصد الإيقاع، فإنَّ كراهته للشرط أبلغُ، وعند وقوع [197/ ب] الشرط لا يكره الجزاء، بل يدفع أعظم المكروهين ــ وهو الشرط ــ بالتزام أدناهما ــ وهو الجزاء ــ عنده. وأما الحالف؛ فالجزاءُ أكره الأمرين له، وأدومهما كراهة. فهؤلاء لَمَّا تكلموا فيما لم يعرفوه؛ التزموا جحد العلوم الضرورية التي يعرفها الناس من أنفسهم، ولا يقال: فقد سبقهم بعض العلماء إلى هذا. فيقال: الذي سُبِقُوا إليه القولُ بلزومِ الجزاءِ عند الشرط؛ فهذا مما قاله مَنْ قاله من علماء المسلمين، لكن هؤلاء لم يُعرفْ عن أحدٍ منهم أنه قال: إنَّ الحالف يقصد لزوم الجزاء وإِنْ وُجِدَ الشرط، فهذا ما علمتُ أحدًا من علماء المسلمين قاله، ولكنْ لمَّا ظَهَرَ الكلامُ والبحثُ التامُّ في هذه المسألة نقلًا وبحثًا = صار بعض مَنْ يجادل بها إذا ذُكِرَ له أَنَّ الحالف لم يقصد لزوم الجزاء، يقول: بل قصده! وهم وإِنْ جحدوا ما يُعلم بالاضطرار، فقد لا يكونون معاندين جاحدين _________ (1) وضع الناسخ علامة اللحق في الهامش وكتب (من)، وكتب عليها حرف (خ).

(2/707)


لما يعلمونه، بل اشتباه الأمر عليهم، وعدم تمييزهم (1) بين نوع ونوع = أوجب أَنْ جعلوا أحد النوعين مثل الآخر. وقد عُلِمَ أَنَّ المعلِّق قد يقصد الإيقاع، فظنوا كُلَّ مُعَلِّقٍ يقصد الإيقاع حتى الحالف، فجحدوا ما يعلم بالاضطرار مِنْ عَدَمِ تمييزهم (2) وتفريقهم بين نوعٍ ونوعٍ. والحِسُّ يغلط إذا لم يكن معه عقل يُميِّز بين المشتبهات؛ فكذلك قد يغلطون في حسهم الباطن إذا لم يكن معهم ما يعقلون به الفرق بين نوع ونوع؛ ولهذا قيل: غلطوا في العقل ــ أيضًا ــ وغلطوا في السمع؛ حيث أنكروا أن تكون هذه أيمانًا في اللغة وَعُرْفِ الصحابة الذين خوطبوا بالقرآن، وغَلطوا في الشرع؛ حيث ألغوا ما اعتبره الشارع من الصفات المعتبرة فيه، كوصف كون الكلام يمينًا، وَعَلَّقُوا الحكمَ بكون الكلام تعليقًا جُعِلَ فيه الجزاء لازمًا للشرط، وهذا وصفٌ مُلْغًى مُهدَرٌ في الشرع، لم يعلق به حكمًا لا في النفي ولا في الإثبات. وغلطوا في الجزم بمذاهب (3) السلف حيث يحكون عن الصحابة والتابعين ما لم يقولوه، ويُقَوِّلُونهم أقوالًا لم [198/ أ] يقولوها، مع اعترافهم ببطلانها فصار فيهم نوعٌ من القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات، حيث خرجوا عما يُعرف بالأدلة السمعية والعقلية. _________ (1) في الأصل: (تميزهم). (2) في الأصل: (تميزهم). (3) في الأصل: (الجزو هل مذاهب)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/708)


وهذا يظهر لكلِّ مَنْ تأمل كلام هذا المعترض وأمثاله في مثل هذه المسألة، فإنَّ المقصود بالجواب عن اعتراضاته ليس هو ذمهم والرد عليهم ولا ذمه، بل هو مشكورٌ محمودٌ مثنًى عليه مُكْرَمٌ، لِمَا ذكره مما استفرغ فيه وسعه، حيث كان ذلك من أسباب ما ظهر من الهدى ودين الحق الذي بعث الله ــ تعالى ــ به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ولكن المقصود: رَدُّ جنسِ الكلام الباطل الذي يناقض ما يناقضه من الهدى ودين الحق. والمردود: القول الباطل نقلًا وبحثًا، مِنْ أَيِّ قائل كان، فإنَّ ما يقوله زيد قد يقوله وما هو أفسد منه عمرو وبكر. الوجه [السابع]: أَنْ يقال: قد ذكرتَ هنا أنك أبديت احتمالات فيما نُقِلَ عن طاووس، كما ذكرت احتمالات أُخَر عنه، مع اعترافك أنك لم تر عنه نصًّا ظاهرًا خلاف ما نقله المصنف عنه، ولا ريب أنك لم تذكر عنه نصًّا ظاهرًا بخلاف ما نقله المصنف وغيره، لا في الحلف بالعتق ولا في الحلف بالطلاق، وهذا الذي رددتَ عليه لم يكن مُصَنَّفًا، ولكن أنت تُسمِّيه مصنفًا، ولكن هو جواب سائل؛ ولهذا لم يستوعب المجيب الكلام فيه في المسألة نقلًا وبحثًا، وإنما كتبه على البديهة كما يكتب جواب المسائل. ولما لم يكن الكلام فيه مستوفًى ظَنَّ هذا المعترض وأمثاله أَنَّ هذا هو غاية ما في المسألة من النقل والبحث، فَطَمِعَ مثل هؤلاء في رَدِّ ذلك، وإِنْ كانوا مع قلته لم يردوه بحق، فلمَّا انتشر الكلام فيها وظهر لهم بعد هذا من النقل والدليل ما لم يكن في هذا الجواب= تكعكع مَنْ كان يتحدى بما عنده من العلم والبيان، وكتموا ما كانوا كتبوه في حكم هذه الأيمان، وبلغني أَنَّ

(2/709)


المعترض [لمَّا] (1) رأى بعض ما ذُكِرَ ــ غَيْرَ الجواب المختصر ــ بَسَطَ هذا الاعتراض هذا البسط؛ ولهذا وقع فيه ما وقع من التكرار، وأنه لما رأى ما هو أبلغ [198/ ب] من ذلك استعفى عن معاودة الاعتراض (2). والمقصود هنا: أَنَّ المجيب لم يذكر في ذلك الجواب المختصر كلامَ طاووس وغيره في الطلاق، بل ذكر الخلاف مجملًا بأنه إذا حنث فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا حنث وقع به الطلاق والعتاق. والثاني: لا يقع به شيء ولا كفارة عليه. والثالث: عليه الكفارة. ولمَّا لم يذكر المجيب كُلَّ قولٍ ومَنْ نقله = طَمِعَ مَنْ طَمِعَ في الاعتراض على الجواب المختصر، ولكن المجيب وغير المجيب قد نقلوا عن طاووس أن الحالف بالطلاق لا يقع به الطلاق، وذكروا إسناد هذا النقل، فإنه رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه. ورواه سفيان بن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه (3). وابن حزم (4) فيمن نقله عن طاووس، وذكره من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني ابن طاووس، عن أبيه أنه كان يقول بالحلف بالطلاق ليس شيئًا. قلتُ: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) انظر (ص 18 وما بعدها) من المقدمة. (3) انظر ما تقدم (ص 220). (4) في المحلى (ص 1785).

(2/710)


وقال المعترض: (يحتمل أن يكون مراده ليس صوابًا، فإنه مكروه لأنه حلف بغير الله، أو أنه لا بأس به، أو أَنَّ مراده إذا أكره على الحلف به، وَرَجَّحَ هذا الاحتمال). فيقال له: صَرْفُ اللفظِ إلى معنىً يخالفُ ظاهرَهُ يحتاج إلى أمور: أَنْ يكونَ اللفظ مستعملًا في عُرْفِ ذلك المتكلم في ذلك المعنى، وإلى أَنْ يكون عنده دليل يبين أنه لم يرد ظاهره، وإلى ألا يُعرف عنه ما يُبين مراده خلاف ذلك؛ وهذه الثلاثة منتفية هنا (1). فإنَّا قد ذكرنا عن طاووس، وعن أَجَلَّ منه مثل ابن عباس وغيره، أَنَّ مرادهم بمثل هذا اللفظ في هذا: أنه لا يقع به الطلاق وإن لزمته الكفارة، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في الحرام: ليس يمينًا (2). وقال: إنه يمين مكفرة (3). وكما سئل طاووس عن الخلع، فقال: ليس بشيء (4). وذُكِرَ ذلك عن ابن عباس (5)، وبَيَّنَ مراده أنه ليس بطلاق بل فرقة بائنة. وكما قالت عائشة - رضي الله عنها - في نذر اللجاج والغضب: ليس شيئًا (6). ومرادها: أنه لا يلزم وإِنْ وجبت فيه الكفارة. فعادتهم [199/ أ] ينفون بهذا اللفظ ما يَظُنُّ السائل أنه ثابت وهو منتفٍ، _________ (1) مجموع الفتاوى (6/ 360). (2) تقدم تخريجه في (ص 222)، وهو في صحيح البخاري بلفظ: ليس بشيء. (3) تقدم تخريجه في (ص 222)، وهو في صحيح مسلم. (4) تقدم تخريجه في (ص 218). (5) تقدم تخريجه في (ص 218). (6) أخرجه ابن الجعد في مسنده برقم (ح 2404).

(2/711)


وإِنْ أثبتوا به شيئًا آخر، كما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان، فقال: ليسوا بشيء (1). وكذلك ما ذُكِرَ [مِنْ] (2) قول سعيد بن المسيب لَمَّا سُئِلَ عن الإيلاء: ليس بشيء (3). ومرادُهُ أنه ليس بطلاق عند مضي الأجل، كما يقوله بعض الناس، فإنَّ مذهب سعيد هو قول الجمهور: أنه يوقف؛ فإما أن يفيء وإما أَنْ يُطَلِّقَ، فمراده بقوله: ليس شيئًا: نَفْي كونه طلاقًا. كما أراد طاووس بقوله: (ليس شيئًا) في الخلع وفي الحلف بالطلاق أنه ليس طلاقًا (4). وكما أراد ابن عباس في قوله في الحرام: ليس شيئًا؛ أي: ليس طلاقًا. وكذلك محمد بن عبد الله الأنصاري (5) لما سَأَلَ ابن عون عن الدرهم الزائف: أَيَسَعُ الرجلَ أَنْ يشتري به شيئًا؟ قال: بَيَّنَهُ؟ قلتُ: لا. قال: كان محمد يكرهه. قلتُ: فإنْ بَيَّن. قال: كان محمد لا يراه شيئًا. أي: لا يراه _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 220). (2) إضافة يقتضيها السياق. (3) أخرجه ابن أبي شيبة (18898)، وسعيد بن منصور في سننه (2/ 50)، والطبري في تفسيره (4/ 85) وغيرهم عن عمرو بن دينار أنه سأل ابن المسيب ... إلخ. وإسناده صحيح. (4) في الأصل: (شيئًا)، والصواب ما أثبت، كما تقدم في (ص 218 - 220، 636 - 638) وغيرها. (5) في جزء أحاديثه (ص 48) ولفظه: سألتُ ابن عون عن الدرهم الزائف؛ أتسمح للرجل أن يَشتري به شيئًا؟ قال: بِبَيِّنَةٍ [كذا، ولعلها: يُبَيِّنُهُ]؟ قلت: لا. قال: كان محمد يكرهه. قلتُ: فإنْ بيَّن؟. قال: كان محمد لا يُحِبُّهُ. قال أبو عبد الله الأنصاري: قال لي: فما تقول لو أنَّ رجلًا باع سلعةً وبها عيب؟ قلتُ: يُبيِّن العيب. قال: لا أكرهه. قلتُ: وكذلك الدرهم الزائف إذا لم يُبيِّن. قال: فإنْ بيَّن العيب؟ قلتُ: لا أرى بأسًا. قال: وكذلك الدرهم الزائف.

(2/712)


حرامًا. فنفى بقوله شيئًا ما ظَنَّهُ السائلُ من التحريم. كما نفت عائشة بقولها في نذر اللجاج والغضب: ليس شيئًا؛ ما ظَنَّهُ السائل من لزوم النذر له مع إثباتها للكفارة فيه. وأهل الجرح والتعديل يقولون في المحدث الواهي: ليس بشيءٍ؛ ينفون عنه ما يقصد به ويُظَن فيه من العمل بروايته. وأصل هذا: أَنَّ قولَ القائل: ليس بشيء؛ نفيٌ لحقيقة الشيء، فإذا كان الشيء يراد به شيء، وذاكَ المرادُ منتفٍ فيه= قيل: ليس بشيء، كما يقال عمن يُقْصَدُ منه العلم أو العدالة أو العطاء أو الشجاعة ولا يكون كذلك= يقال فيه: ليس بشيء؛ فَيُنْفَى بذلك ما يقصد به. وكذلك اللفظ الذي يعتقد أنه خبر مطابق لمخبره إذا لم يكن مطابقًا؛ قيل فيه: ليس بشيء. وكذلك العقد الذي يعتقد أنه ثبت موجبه إذا انتفى عنه موجبه قيل: ليس بشيء. ومعلومٌ أَنَّ عقد التعليق يقتضي ثبوت المعلق عند الشرط، سواء كان المعلق نذرًا أو طلاقًا أو عتقًا، فإذا لم يكن موجبه ثابتًا بل كان مرتفعًا للكفارة أو غيرها، قيل في تعليق النذر كما قالت عائشة: ليس بشيء، وقيل في تعليق الطلاق كما قال طاووس: ليس شيئًا. وكذلك [199/ ب] قول الرجل لامرأته: أنت عليَّ حرام؛ مقتضى هذا اللفظ ثبوت التحريم، فلما كان هذا اللفظ عند ابن عباس - رضي الله عنهما - قد انتفى موجبه قال: ليس بشيء.

(2/713)


وإذا كان السائل يعتقد ثبوت موجبه، اجتمع فيه (1) أنه موجب اللفظ وأنه اعتقاد السائل، فصار قوله فيه: (ليس بشيء) أوكد وأوكد، كالكهان الذين (2) يَطلب منهم الصدق فيما يخبرون به، ويظن فيهم الصدق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «ليسوا بشيء» (3). والعرب يقولون: ليس زيد بشيء إلا شيئًا لا يُعبأ به؛ فينفون به ما يقصد من مثله إلا ما لا يعبأ به، وقد يكون هناك سبب يقتضي [ذلك] (4). وقد يعتقد الرجل في الكلام أمرًا، فيقال له: ليس بشيءٍ؛ لنفي ما اعتقده فيه، كقول ابن المسيب في الإيلاء: ليس بشيء؛ أي: ليس بطلاق (5). فهذا الثاني معروف في كلام العرب عامة، وكلام علماء الصحابة والتابعين خاصة، وكلام طاووس وشيخه ابن عباس خاصة الخاصة، قد عُرِفَ مرادهم بمثل هذا الكلام في مثل هذه العقود التي تنازع الناس فيها، هل هي طلاق أم غير طلاق؟ كالتحريم والخلع والحلف بالطلاق، فيقولون: ليست بشيء؛ ومرادهم: ليست بطلاق، وإذا عرف مرادهم وعادتهم التي يريدونها بمثل هذا اللفظ، ولم يكن عنهم ما يناقض ذلك، بل سائر النقول عنهم (6) توافق ذلك= امتنع أَنْ يحملَ كلامهم على غير ذلك. _________ (1) فوقها حرف: (ظ). (2) في الأصل: (الذي)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) تقدم تخريجه في (ص 220). (4) إضافة يقتضيها السياق. (5) تقدم في (ص 712). (6) في الأصل: (منهم).

(2/714)


وطاووس قد عُرِفَ مِنْ مذهبه أَنَّ التعليقات التي يقصد بها اليمين ــ كتعليق العتاق والنذر ــ أنها ليست عنده موجبة لمقتضاها وهو العتق والنذر، ومثل ذلك يقولون عنه في عادتهم: ليس بشيء؛ أي: ليس نذرًا ولا طلاقًا. وقد عُرِفَ من عادة طاووس وطائفته أنهم يقولون في العقود المتنازع فيها هل هي طلاق أم لا؟ ليست شيئًا؛ أي: ليست طلاقًا، كما قالوا مثل ذلك في: الخلع والتحريم والحلف بالطلاق، غايَتُهُ أَنْ يكونَ صيغةَ تعليقٍ للطلاق. فإذا قال فيه: ليس الحلف بالطلاق شيئًا، وقد عُرِفَ إطلاقُ مِثْلِ هذا العقد الذي اشتبه هل هو طلاق أو غير طلاق؟ [200/ أ] فقال: ليس بشيء؛ ومراده: ليس بطلاق، وَعُرِفَ أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين عنده لا يلزم به ما عُلِّقَ به حتى العتق، وَعُرِفَ ــ أيضًا ــ من عادتهم أنهم إذا نَفَوا لزوم المعلق قالوا: ليس بشيءٍ = كان هذا مما يوجب علمًا يقينًا لا يستريب فيه عالمٌ عادلٌ أَنَّ مراد طاووس بقوله: ليس الحلف بالطلاق شيئًا؛ أَيْ: ليس بطلاق لازم، والشَّكُّ في هذا بعدَ معرفةِ هذا من أبلغ السفسطة. ولهذا لما قال ابن جريج لابنه: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري. وابن جريج عالم مكة وإمامها، وعبد الله بن طاووس من أَجَلِّ أهل الدين والعدالة والصدق فيما ينقله عن أبيه، وهو من أَجَلِّ مَنْ يَعتمد أهل الصحيح على روايته عن أبيه، بل من أعظم أهل زمانه، حتى قال أيوب لمعمر: إِنْ كنت راحلًا إلى أحدٍ، فعليك بابن طاووس، فهذه راحلتي. وفي لفظ: هذه رحلتي إليه (1). وقال معمر: ما رأيت ابن فقيه مثل ابن طاووس. _________ (1) روى ذلك: الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 710)، والبخاري في التاريخ الكبير (5/ 123)، وابن أبي خيثمة في تاريخه (السفر الثالث) (1/ 323)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 98).

(2/715)


فقيل له: ولا هشام بن عروة. فقال: حسبك بهشام بن عروة، ولكن لم أر مثل هذا (1). وابن جريج عَلِمَ أَنَّ مراده أنه ليس بطلاق، ثم سأله هل كان يراه يمينًا؟ فقال: لا أدري. وهذا يبطل كونه أراد يمين الإكراه (2)، فإنَّ المكره إذا أكره على الطلاق، فلا يقع ولا يلزمه (3) يمين عند أحد من العقلاء، ولا يَشك عاقل أنه لا يلزمه الطلاق، بل يلزمه يمين، فلمَّا جَزَمَ ابنه بأنه قال: ليس شيئًا، وَشَكَّ هل هو يمين؟ عُلِمَ أنه لم يرد بما نقله عن أبيه من أنه أُكْرِهَ على الحلف بالطلاق. وقد قال هذا المعترض: إِنَّ (هذا الاحتمال هو الذي انقدح في نفسي وقوي، لأني رأيتُ هذا الأثر في مصنف عبد الرزاق في باب طلاق المكره، بعد أثر عن ابن جريج عن عطاء في الرجل يضطره الأمير إلى الطلاق في أمرٍ هو له ظالم. قال: ليس عليه بأس أَنْ يحلف؛ فعبد الرزاق الراوي عن ابن جريج للأثرين (4) جميعًا، وهو أقرب عهدًا بأصحابهما (5)، وأقرب إلى _________ (1) روى ذلك: الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 710)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 98). (2) كتب الناسخ في الهامش: (المكره) وبجانبها (صح) وفوقها (خ). (3) في الأصل: (فلم يقع لا يلزمه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) في «التحقيق»: (الأثرين). (5) في الأصل: (عهد بأصحابها)، والمثبت من «التحقيق».

(2/716)


معرفة (1) مرادهما= قد خَرَّجَ ذلك في باب الإكراه، وَبَوَّبَ للحلف بالطلاق بابًا مفردًا غير هذا، ولم [200/ ب] (2) يخرج الأثر فيه؛ فَدَلَّ على أنه فَهِمَ ما قلناه) (3). فيقال له: معلومٌ أَنَّ علم عبد الله بن طاووس بمراد أبيه ومراد ابن جريج وقد سمعه من طاووس= أتم وأعظم من علم عبد الرزاق، فإنَّ هؤلاء أقرب عهدًا. وكذلك سفيان بن عيينة عن ابن جريج؛ فإنَّ هؤلاء أعلم وأفضل وأفقه من عبد الرزاق باتفاق المسلمين. وعبد الرزاق كما قال أحمد فيه: لم يكن من الفقهاء أهل الاستدلال، وإنما كان محدثًا ناقلًا لقول غيره (4)، وابن جريج أحد الأئمة في الفقه. مع أَنَّ ذكر عبد الرزاق له في هذا الباب هو لمناسبته ما تقدم، فإنَّ الحاجةَ إلى معرفةِ الحلف بالطلاق في أيمان المكرهين أعظم، فإنه كثيرًا ما يُكره الرجل على الحلف بالطلاق، فيظن أنه إذا حنث لزمه الطلاق، فذكر _________ (1) في الأصل: (معفرة)، والمثبت من «التحقيق». (2) كرر الناسخ (ولم). (3) «التحقيق» (7/ ب - 8/ أ). (4) نقل أبو يعلى في طبقات الحنابلة (2/ 392) عن أبي بكر المستملي قال: سألتُ أحمد عن عبد الرزاق كان له فقه؟ فقال: ما أقَلَّ الفقه في أصحاب الحديث. انظر: الآداب الشرعية (2/ 67)، المقصد الأرشد (2/ 537)، موسوعة أقوال الإمام أحمد في رجال الحديث وعلله (2/ 355).

(2/717)


هذا مع ذلك ليبين أَنَّ طاووسًا يفتي المكره بما أفتاه عطاء أنه لا يلزم الطلاق الذي حلف به، ثم لما ذكره مرة لم يُعِدْهُ في ذلك الباب، كما جرت عادتهم أنهم يكتفون برواية الحديث والأثر في أحد البابين وإِنْ كان مناسبًا لهما جميعًا. وبالجملة؛ فليس فيما فعله عبد الرزاق ما يدل على أنه فَهِمَ اختصاص ذلك بالمكره، ولو قال ذلك = لم يكن فهمه مساويًا لفهم شيخه ابن جريج الذي هو أعلم منه وأقرب عهدًا بالمتكلم، وكذلك فهم عبد الله ابنه. ثم يمتنع أن يكونوا نقلوا قوله في المكره خاصة مع الجزم بأنه ليس بطلاق، والشك هل هو يمين أم لا، فإنَّ هذا لا يصدر من عاقل يتصور ما يقول، فإنه إذا كان الحلف بالطلاق هو تطليقًا عند طاووس يلزمه إذا أوقعه مختارًا، ثم قال في المكره عليه: لا يقع به طلاق؛ فهل يمكن مع هذا أَنْ يكون المكره على الطلاق يقال: إِنَّ ما أُكْرِهَ هل هو يمين أم ليس بيمين، وهل يشك ابنه الذي عَرَفَ مراده بقوله: ليس بشيء؛ أنه قد يكون عنده يمينًا وقد لا يكون، وكيف يتصور إذا لم يقع طلاق المكره أَنْ يكون يمينًا؟ ثم لفظ طاووس: الحلف بالطلاق ليس شيئًا؛ يذكر لفظ الحلف [201/ أ] لا لفظ الطلاق، وأطلق اللفظ وعممه ولم يخص منه المكره. فإذا قيل: المراد به المكره، لم يكن لذكر لفظ الحلف اختصاص بذلك، وَلَوَجَبَ ذِكْرُ لفظِ الإكراه؛ فكيف يجوز حمل كلام الرجل على معنى لفظٍ لم يَذكره، ويُلغى معنى اللفظ الذي ذكره، ويجعل لفظ العام المطلق خاصًّا مقيدًّا بلا دليل؟ فإنَّ المكره سواء أكره على إيقاعه أو الحلف به لا يلزمه، ولم يُفَرِّق أحدٌ

(2/718)


من العلماء بين الإكراه على الطلاق والإكراه على الحلف به فيما ذكره الناس؛ بل الجمهور يقولون: طلاق المكره لا يقع سواء كان موقعًا أو حالفًا، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فيقول بلزوم الطلاق للمكره، وغاية الحالف أَنْ يكون موقعًا فيلزمه. والحكاية التي ذكرها عن الأوزاعي تُناسب ذكر عبد الرزاق لهذا في باب الإكراه، فإنَّ ذاك الرجل من الصحابة كان عليًّا - رضي الله عنه -، وعبد الرزاق كان باليمن، وكان مع موافقته لسائر أهل السنة في محبة علي وموالاته يبالغ في ذلك [حتى] (1) نُسِبَ بسبب ذلك إلى التشيع؛ فَذَكَرَ قول طاووس مع قول عطاء ليعرف أن المكره على الحلف به لا يقع به الطلاق، لا لأن طاووسًا خَصَّ المكره مع عموم كلامه لكل حالف، ومع تخصيصه الحالف دون المُطَلِّق، ومع أن ابنه وابن جريج السائل لابنه يشكان هل جعله يمينًا أم لم يجعله، ولو كان كلامه مختصًّا بالمكره لم يكن للشك وجه كما تقدم. وأما قول القائل: مراده: أنه لا بأس به؛ فهذا أفسد مما تقدم، فإنَّ هذا اللفظ لا يحتمل هذا المعنى في عُرْفِ طاووس وأمثاله بوجهٍ من الوجوه، كما لا يحتمل ذلك في قوله لما سُئِلَ عن الخلع، فقال: ليس بشيء. وقول ابن عباس إذا حَرَّمَ امرأتَهُ فليس بشيء (2). وقول عائشة - رضي الله عنها - في نذر اللجاج والغضب: ليس بشيء (3). وقول ابن المسيب في الإيلاء: ليس _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) تقدم تخريجه في (ص 222). (3) تقدم تخريجه في (ص 711).

(2/719)


بشيء (1)؛ وكذلك تأويله ليس بصواب؛ فإنه أولًا: هذا يناقض قوله لا بأس به؛ فياليت شعري كيف يُفسَّرُ مراد الرجل بقولين متناقضين؟! ثم قد عرف عادة طاووس في [201/ ب] مثل هذا اللفظ، فلا يجوز حَمْلُ كلامِهِ على غير عادته المعروفة من خطابه. وأيضًا؛ مثل هذا اللفظ استعملوه لمثل هذا المعنى. وما ذَكَرَهُ من رواية أبي الزبير عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: فَرَدَّهَا عليَّ (2) ولم يرها شيئًا (3)، وعامة الناس فهموا من ذلك: أنه لم يَرَهَا طلاقًا؛ وهذا مما يُبَيِّنُ أَنَّ هذا هو المفهوم من مثل هذا اللفظ في عُرْفِ السلف. ثم طائفة قالت: نافع روى عن ابن عمر خلافَ ذلك (4)، وقد تابعه يونس وغيره (5)، وهو أثبت من رواية أبي الزبير، وطائفة تثبت رواية أبي الزبير، وذكروا لها شاهدًا من بعض الطرق عن نافع كما فعله ابن حزم (6) _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 712). (2) في الأصل زيادة: (رضي الله عنه)؛ وهو خطأ. (3) أخرجه أبو داود (2185) وغيره. وانظر: البدر المنير (8/ 68)، إرواء الغليل (7/ 129)، صحيح أبي داود (الأم) (6/ 389). (4) أخرجه مسلم (1471). (5) تابعه يونس بن جبر، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن دينار، وأنس بن سيرين، وطاووس؛ ورواياتهم أخرجها مسلم في صحيحه (1471). (6) المحلى (ص 1751 - 1754).

(2/720)


وغيره، ولو كان المفهوم منها لم يره صوابًا = لكانت رواية أبي الزبير كرواية غيره، وهذا خلاف ما عليه جمهور الناس. وإذا قيل: إِنَّ بعض العلماء ــ كالشافعي ــ فَسَّرَهَا بهذا. قيل له: مَحَلُّ النزاع لا يثبت بمحلِّ النزاع، فإنْ لم يثبت عرفُ استعمالٍ لهذا اللفظ أَنَّ أولئك كانوا يريدون به هذا في مثل هذا الكلام، وإلا فلا يجوز الاحتجاج بقولٍ قد خالفَ قائلُهُ جمهورَ الناس بلا حجة، بل نقول: الأصلُ في اللفظِ عدم الاشتراك، وإذا كانَ المرادُ ما قلناه؛ لزم عدم الاشتراك. وإذا جُعِلَ يستعمل في هذا تارة وفي هذا تارة؛ كان إثباتًا للاشتراك بلا حجة أصلًا، بل بمجرد الدعوى؛ وهذا لا يجوز. ومتى عُرِفَ أنهم يستعملون اللفظ في معنًى كانَ حَمْلُ لفظهم على ما جرت عادتهم بإرادته. ثم هذه القرمطة في كلام طاووس نفسه، مثل القرمطة في كلام من نَقَلَ قولَهُ كمحمد بن نصر، فإنه نقل عن طاووس والحسن مثل قول أبي ثور، فقال: (يحتمل أن يكون مراده أَنَّ طاووسًا فَرَّقَ بين الطلاق والعتاق كأبي ثور)، ومعلومٌ أنه لم يَنْقُلْ أَحَدٌ لا محمد بن نصر ولا ابن جرير ولا مَنْ بعدهم كابن عبد البر وابن حزم، ولا مَنْ قبلهم كالشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وغيرهم عَنْ أَحَدٍ من علماء المسلمين أَنَّهُ فَرَّقَ بين الحلف بالطلاق والعتاق، ولو كان هذا موجودًا لكان هذا مِنْ أعظمِ ما

(2/721)


يَستند إليه أبو ثور [202/ أ] وابن جرير في تفريقهما، مع أنهما أعلم بأقوال السلف. ومعلومٌ أَنَّ أبا ثور قد عَرَفَ النزاعَ في العتق، فلو عَرَفَ أَنَّ طاووسًا أو غيره فَرَّقُوا بينهما لذكر ذلك. وأيضًا؛ فهذه الكتب المصنَّفة في أقاويل السلف مثل: مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة وسنن سعيد بن منصور وغيرها، ليس في شيء منها نَقْلٌ عن طاووس بأنَّ الطلاقَ المحلوفَ بِهِ يقع، ولا نَقَلَ ذلك عنه أحد من أهل الخلاف، فلو كان عند ابن نصر عن طاووس نَقْلٌ بأنه يُفَرِّقُ بين الطلاق والعتاق كأبي ثور = لكان هذا النقلُ موجودًا عِنْدَ مَنْ قَبْلَهُ أو عند أحدٍ منهم (1)، وَلَنَقَلَ ذلكَ المصنِّفون لأقوال السلف والمصنفون للخلاف. ثم النقل الصريح الثابت عنه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئًا، وكان يراه يمينًا منعقدة مكفَّرة، وكذلك الحلف بالعتق والنذر عنده يمين منعقدة، وليس عتقًا ولا نذرًا، بل جميع ذلك عنده يمين منعقدة مكفرة؛ فهذا قوله المنقول عنه بالأسانيد التي يُصَدِّقُ بعضها بعضًا، ليس في شيءٍ من ذلك أنه كان يُفَرِّقُ بين الحلف بالعتق والطلاق، ولا أنه كان يرى الحالف بالطلاق يلزمه الطلاق. وهذا المعترض قد بالغ في مطالعة الكتب لعلَّه يَظْفَرُ عنه بشيء، فاعترف بأنه لم ير عنه نصًّا ظاهرًا يخالف ما نقله المجيب، ولهذا لم أنقل عنه شيئًا، وهو لم يذكر عنه في لزوم العتق لفظًا محتملًا بنقيض ما ذكره _________ (1) في الأصل: (وعنه أحد)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/722)


المجيب، فضلًا عن أَنْ يكون ظاهرًا. وأما الطلاق؛ فَذَكَرَ (1) عنه أجوبة، وكلها إنما تدل على أَنَّ الحلف بالطلاق عنده يمين منعقدة، ليس فيها ما يدل على أنه يقع به الطلاق عنده، وهذا يوافق ما يذكره المجيب عنه من أَنَّ الحلف بالطلاق عنده يمين مكفرة لا يقع به الطلاق. فذكر أَن ابن المنذر (2) نقل عنه في الاستثناء في الطلاق إذا كان بيمينٍ حَلَفَ بها: أنه لا شيء عليه. قال (3): (ولو لم يكن يعتبره (4)، لم يكن لفرض الاستثناء معنًى) (5). فيقال له: وهذا يوافق ما ذكرناه عنه من أنها [202/ ب] يمين معتبرة عنده. قال: (ثم قال ابن المنذر (6): وفيه قول ثالث: إنه إن بدأ بالطلاق فليس له استثناء، وروي ذلك عن طاووس، وإذا حَلَفَ (7) على شيء واستثنى فله استثناؤه. _________ (1) أي: المعترض. (2) في الإشراف (5/ 219). (3) أي: المعترض. (4) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (تكن معتبرة). (5) «التحقيق» (25/ أ). (6) في الإشراف (5/ 220). (7) في «التحقيق» زيادة: (بالطلاق)؛ وليست في الأصل ولا الإشراف.

(2/723)


قال (1): وقال أحمد: هما سواء؛ وإنما يكون الاستثناء في الأيمان، والطلاق والعتاق ليس بيمين) (2). فيقال له: وهذا ــ أيضًا ــ يدل على أن طاووسًا يُفَرِّق بين الحلف بالطلاق وبين إيقاع الطلاق؛ فيرى الحلف به يمينًا منعقدة فيها الاستثناء بخلاف الإيقاع، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد نقلها ابن الحكم، وما نقله ابن المنذر عنه هو رواية (3) ثانية (4) نقلها الأثرم. قال: (وَنَقَلَ القاضي أبو الطيب الطبري [عنه] موافقته لمذهبنا في أنه إذا عَلَّقَ طلاق امرأته على صفة أو شرط فإنَّ ذلك يصح، ولا يقع إلا بعد وجودها (5)، ولا فَرْقَ بين أن يكون الشرط متحققًا أو الصفة وبين أن يكون متظننًا؛ فالمتحقق مثل أَنْ يقول: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، [إذا جاء يوم الجمعة فأنت طالق]، والمتظنن مثل أَنْ يقول: إذا قدم أبوك أو جاءت القافلة [فأنت طالق]. قال (6): هذا نقل (7) أبي الطيب، وهو صريحٌ في مخالفة طاووس _________ (1) ابن المنذر في الإشراف (5/ 220). (2) «التحقيق» (25/ أ). (3) في الأصل: (روايته)، والصواب ما أثبتُّ. (4) هكذا قرأتها، وتحتمل: ثابتة. (5) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (وجودهما). (6) أي: المعترض. (7) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (كلام).

(2/724)


لمذهب ابن حزم) (1)، وقد صدق المعترض في ذلك، فإنَّ هذا صريحٌ في أَنَّ الطلاق المعلق بالصفة عنده يقع، خلافًا لأبي عبد الرحمن وابن حزم وغيرهما. وهذا مع قوله: (ليس الحلف بالطلاق شيئًا) يُبَيِّنُ أَنَّ قوله في تعليق الطلاق كقوله في تعليق العتاق وتعليق النذر، يُفَرِّقُ بينَ التعليقِ الذي يُقصد به اليمين، والتعليق الذي يقصد به النذر والطلاق والعتاق، وهذا هو الثابت عن الصحابة، وهو أصح الأقوال في هذا الباب، وهو مما يبين أَنَّ قولَ طاووس قول متناسق (2) غير متناقض. ثم إِنَّ المعترض قال: (وفي كتاب سعيد بن منصور أثر يمكن أَنْ يؤخذ منه عن طاووس مثلما أخذ عمن علل إبطال الحلف بالطلاق قبل النكاح [بالتقدم] (3)، وذكر ما رواه عن ابن المسيب فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق. وقال سعيد: مُطَلِّقٌ ما لم تتزوجه (4). وذكر عن عطاء وطاووس [203/ أ] مثل ذلك) (5). قال المعترض: (فلو كان طاووس يعتقد أَنَّ الحلف بالطلاق مُلغًى= لم _________ (1) «التحقيق» (25/ أ)، وما بين معقوفتين زيادة منه. (2) في الأصل: (مناسب)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ. (3) زيادة من «التحقيق». (4) ولفظه في السنن (1/ 293/ ح 1037): جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيب فقال: ما تقول في رجل قال: إنْ تزوجت فلانة فهي طالق؟ فقال له سعيد: كم أصدقها؟ قال له الرجل: لم يتزوجها بعد؛ فكيف يصدقها؟! فقال له سعيد: فكيف يُطلِّق ما لم يتزوجه؟! (5) (1/ 293/ ح 1038).

(2/725)


يقل مثل ذلك، وكذلك يقتضي بأنه لا يقول: بأنَّ أَثَرَهُ (1) وجوب الكفارة، لأنَّ التقدم على النكاح لا يمنعها، وإنما يمنع وقوعَ النكاحِ؛ فَدَلَّ على أنه قائلٌ به (2) إذا صدر بعد النكاح. وروى ما ذكره ابن أبي شيبة (3) عن عطاء وطاووس ومجاهد والنخعي والزهري قالوا: إذا قال الرجل لامرأته: أَنتِ طالق إِنْ لم يفعل (4) كذا وكذا إِنْ شاء الله؛ فله ثنياه) (5). فيقال له: وقد تقدم القول غير مرة بأنَّ إدخال تعليق الطلاق بالنكاح في الحلف بالطلاق الذي قيل فيه: إنه يُكَفَّر = في غاية الغلط على المجيب وعلى غيره، فلم يقل المجيب ولا يقول عالم من علماء المسلمين إنَّ المعلِّق للطلاق على النكاح أو على شرطٍ آخر ــ إذا كان مقصوده وقوع الطلاق عند الصفة ــ أنه يُكَفِّرُ يمينه؛ فَذِكْرُ هذا النوع في هذا الباب من الغلط الذي أَدَلَّ المعترض وغيره في غلط عظيم، وهو من أصول غلطهم في هذا الباب. فإنَّ التعليق الذي يقصد به الإيقاع، سواء كان تعليقًا على النكاح أو على شرط آخر = ليس فيه إلا قولان: قولٌ بالوقوع وقولٌ بعدمه، لم يقل أحد في مثل هذا إنَّ فيه كفارة يمين، وأكثر تعليق الطلاق المنقول عن السلف هو من هذا الباب، أفتوا فيه بالوقوع، لأنه ليس بيمين عندهم، وإنما تنازعوا في _________ (1) في الأصل: (إنَّ أمره)، والمثبت من «التحقيق». (2) في الأصل: (فائدته)، والمثبت من «التحقيق». (3) (18325)، وأخرجه ــ أيضًا ــ سعيد بن منصور في سننه (2/ 35/ ح 1813). (4) كذا في الأصل و «التحقيق»، وفي المصنف: (أفعل). (5) «التحقيق» (25/ أ).

(2/726)


التعليق على الملك؛ فقيل: يقع، وقيل: لا يقع؛ وعلى القولين: لا كفارة في ذلك، ولم يقل أحد: إنَّ في هذا كفارة. ولكن لو حلف بذلك، فقال: إِنْ فعلتُ كذا فكل امرأة أتزوجها طالق، أو قال: الطلاق يلزمني من فلانة إِنْ تزوجتها لا أسافر؛ فهذا إِنْ قيل: إِنَّ تعليق هذا الطلاق يلزم إذا كان مجردًا عن اليمين، فإذا حلف به، ففي تكفيره النزاعُ المذكورُ في الحلف بالطلاق. وإِنْ قيل: إِنَّ هذا لا يلزم إذا كان مجردًا، فلا شيء فيه إذا حلف به، فإنه ــ حينئذٍ ــ إذا قال: كل امرأة أتزوجها [203/ ب] فهي طالق؛ كان لغوًا لا يقع به طلاق. فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، بمنزلة أَنْ يقول: إِنْ فعلتُ كذا فامرأة زيدٍ طالق، أو إِنْ فعلتُ كذا ففلانة طالق إِنْ دَخَلَتِ الدارَ ثم تزوجها ثم دَخَلَتْ؛ هذا على قول مَنْ يقول: إنه إذا حلف بنذر الطلاق والمباحات كان كما لو نذرها لا يلزمه شيء، وأما من سَوَّى بين نذرها وبين الحلف ــ كما يقوله أحمد وأصحاب أبي حنيفة والخراسانيون من أصحاب الشافعي ــ فيقولون: إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي فعليه كفارة يمين. وإذا قال: عليَّ أَنْ أطلق امرأتي. فأحمد - رضي الله عنه - يوجب الكفارة ــ أيضًا ــ وأبو حنيفة - رضي الله عنه -، وهؤلاء الخراسانيون ــ رحمة الله عليهم ــ يوجبونها إذا قصد اليمين. أيضًا؛ يجب أَنْ يقال: إنه لا كفارة في ذلك، فإنَّ هذا لم ينذر ولم يحلف، والكفارة إنما تجب في نذر أو يمين.

(2/727)


وإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أطلقها إنما يجب إذا قصد اليمين أو النذر، فإنَّ الناذر إذا قال: فعليَّ أَنْ أطلقها كان بمنزلة قوله: والله لأطلقنها، وهذا يمين. كما لو قال ابتداءً: لله عليَّ أَنْ أُطلقها وقصده اليمين، فإنهم يوجبون عليه الكفارة، ولا يشترط في نذر اليمين أن يكون قربة، لكن يقال: لا يكون بمنزلة قوله: فوالله لأطلقنها إلا إذا كان قصده بقوله: فلله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَهَا؛ حَضَّ نفسِهِ على الطلاق لا التقرب به، كما إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أَدْخُلَ في هذه المدينة، وإِنْ فعلَ زيدٌ كذا فلله عليَّ أَنْ أقتله؛ ومراده حَضَّ نفسه، ليس مراده أنه التزم لله شيئًا، وإِنْ كان كارهًا للزومه له. وبهذا الفرقان؛ تظهرُ حقيقة هذا الموضع المشكل، فإنه إذا قال: لله عليَّ أَنْ أفعل قد يقصد بذلك حَضَّ نفسه فقط لا التقرب إلى الله؛ فهذا حالفٌ عليه كفارة يمين في مذهب أحمد وأبي حنيفة، وكذلك ذكره الخراسانيون من أصحاب الشافعي كالقاضي حسين. فإذا عَلَّقَ ذلك بشرطٍ كانت يمينًا معلَّقة بشرط، كما إذا قال: إِنْ سافرتُ معكم فلله عليَّ ألا أسافر بعدها، وإِنْ كلمتُ فلانًا فلله عليَّ ألا أكلمه أبدًا، وإذا فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ [204/ أ] امرأتي؛ فهذه يمين مكفَّرة، سواء كانت مطلقة أو معلقة. وأما إذا نذر ذلك معتقدًا أنه قربة مثل أَنْ يظن أَنَّ التبتل أفضل من التزوج، وَأَنَّ الله يحب طلاق امرأته، فيقول: لله عليَّ أَنْ أطلقها يقصد التقرب بذلك إلى الله؛ فهذا عند أحمد عليه كفارة يمين أيضًا، وعلى قول أصحاب أبي حنيفة والشافعي إِنَّ نَذْرَ المباحِ إذا لم يقصد به اليمين لا شيء عليه

(2/728)


[و] (1) لا يلزمه كفارة، فلو حلف بذلك، فقال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أُطَلِّق امرأتي يعتقد طلاقها قربة هو بمنزلة قوله: فعليَّ أَنْ أذبح نفسي لله أو فعليَّ لله ألا أتزوج أبدًا يقصد بذلك التقرب إلى الله؛ فأحمد يوجب عليه الكفارة إذا لم يفعل، كما لو قال: والله إن فعلت فلأطلقنَّها، وأما على قول أبي حنيفة والشافعي إذا كان في مُطْلَقِهِ (2) ــ وهذا لا تلزمه كفارة ــ فكذلك في مُعَلَّقِهِ بطريق الأولى والأحرى. وعلى هذا؛ فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فكلُّ امرأةٍ أتزوجها طالق، أو ففلانة إِنْ تزوجتها طالق لا يلزمه كفارة إذا كان ذلك مجردًا، فإذا كان معلقًا بالفعل ــ وقلنا: لا يقع به طلاق، وليس هو نذرًا ولا يمينًا، بل هو إيقاع لطلاق ــ لم يقع، فلا معنى لوجوب الكفارة. وأما مَنْ ظَنَّ أن الخراسانيين يوجبون عليه الكفارة إذا قال: إِنْ فعلتُ فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي تطليقًا، فهو كمن نقل عن أبي حنيفة أَنَّ نذرَ المعصية فيه الكفارة مطلقًا كما أطلق ابن المنذر والخطابي، وأصحابه العارفون بمذهبه ذكروا أنه يوجب الكفارة إذا قصد اليمين، وهكذا ذكر الخراسانيون. وأما أحمد؛ فإنَّ النذر عنده يمين، فهو يوجب الكفارة على كل مَنْ نذر ولم يوف، كما يوجبها على كل مَنْ حَلَفَ وحنث، سواء كان الفعل طاعة أو معصية. وأما من قصد وقوع الطلاق منجزًا أو معلقًا على الملك أو معلقًا بصفة أخرى ولم يقع به = فلا أحد من المسلمين يُلْزِمُ هذا بكفارة يمين، وإذا حلف بهذا فهو أولى ألا تجب فيه كفارة، كما لو حلف بطلاق امرأةِ غيره، _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) في الأصل: (مطلق)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/729)


وأحمد [204/ ب] في إحدى الروايتين يقول فيمن قال: عبد فلانٍ حرٌّ لأفعلنَّ ولم يفعل: تلزمه كفارة يمين، ولا يقول فيمن قال: امرأةُ فلانٍ طالق إن لم أفعل ولم يفعل أنه تلزمه كفارة يمين، لأنَّ طلاق امرأة الأجنبي لا يقع إلا من زوجها أو وليِّه أو وكيله، بخلاف عتق عبده، فإنه يقع من غيره إذا انتقل إليه، فكان عتقُ عبد الغيرِ ممكنًا بخلاف طلاق امرأته. ولهذا؛ إذا قال: والله لأعتقنه، كان قد حلف على ممكن فتلزمه الكفارة إذا لم يفعل. وأما إذا قال: والله لأطلقنَّ امرأةَ فلانٍ، وَغَرَضُهُ أني أُوْقِعُ بها الطلاق بلا ولاية ولا وكالة، فهذا حلف على ممتنع، كما لو قال: والله لأجعلنَّ فلانًا الحر المسلم لي مملوكًا، وإِنْ قَصَدَ أني أتسبب في طلاقها أو أُلْزِمُهُ بطلاقها، فهذا حَلِفٌ على ممكن كما لو عَنَى بكونِهِ مملوكًا استخدامه، أو عَنَى به ملكًا محرمًا مخالفًا للشريعة، وهذا كما لو عَنَى بقوله: (لأطلقنها) (1) لأخرجنها مِنْ ملكه بغير اختياره حكمًا جاهليًّا لا إسلاميًّا؛ كما يقول: والله لأسرقنَّ أولادَ المسلمين أو لأسبينَّهم، ومراده القهر والاستيلاء؛ فهذه يمين منعقدة، وعليه أَنْ يُكفِّر يمينه، ولا يفعل ما حلف عليه من معصية الله ــ تعالى ــ. وإذا أراد الملك الشرعي والطلاق الشرعي؛ فهذا مع امتناعه، كما لو حَلَفَ على ممتنعٍ ليفعلنَّه، وفي لزوم الكفارة لهذا قولان في مذهب أحمد وغيره، كما لو قال: لأصعدنَّ إلى السماء، أو لأشربنَّ الماء الذي في هذا الإناء ولا ماء فيه. * * * * _________ (1) في الأصل: (لا أطلقنها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/730)


فصلٌ قال المعترض: (وأما الحسن؛ فقال ابن حزم (1): صَحَّ عنه فيمن قال لامرأته: أنتِ طالقٌ إِنْ لم أضرب غلامي، فَأَبَقَ الغلام (2) قبل أَنْ يفعل ما قال، فقد ذهبت منه امرأته. وقد نقل ابن المنذر عنه فيما إذا قال لعبده: إِنْ بعتك فأنت حر، أنه يَعْتِقْ مِنْ مال البائع ــ يعني: إذا باعه ــ، فهذا تصريحٌ منه بوقوع العتق في الحلف به (3). ونقل عنه أبو الحسن علي بن الحسين الجوري أنه إِنْ باعَهُ على ألا خيار لواحد منهما، لم يكن لهما خيار المجلس فلا يعتق؛ فالحكايتان عنه [205/ أ] متفقتان على خلاف ما نقله عنه. وكذلك روى ابن حزم (4) عنه كرواية ابن المنذر مع زيادة أَنَّ المشتري تقدم منه تعليق العتق على الشراء، لكن الرواية التي نقلها المصنف عنه من رواية حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد ــ وهما من الثقة والجلالة ما هما ــ. _________ (1) في المحلى (ص 1784). (2) في المحلى بعد هذا: قال: (هي امرأته ينكحها ويتوارثان حتى يفعل ما قال؛ فإنْ مات الغلام قبل أنْ يفعل ما قال فقد ذهبت منه امرأته). (3) انظر (ص 133). (4) في المحلى (ص 1421).

(2/731)


وكذلك قال ابن عبد البر (1): إنَّ يونس روي عنه أنه جاءه رجل فقال: إني جعلت كل مملوك لي حر إِنْ شاركت أخي. قال: شارك أخاك، وَكَفِّرْ عن يمينك. فإنْ صَحَّ النقلان عنه، فيحتمل أَنْ يكون له في المسألة قولان، ويحتمل أَنْ يكون الحسن ــ والله أعلم ــ لاحَظَ فَرْقًا لطيفًا بين تعليق عتق العبد المعيَّن، وبينَ قولِهِ: كُلُّ مملوكٍ لي حر، وَغَلَبَ على العبارة الثانية شائبة اليمين بخلاف الأولى، أو يكون الحسن جعل (إِنْ) نافية لا شرطية، فإنَّ لفظَ الحالفِ الذي سأل: كل مملوك له حر إِنْ دَخَلَ على أخيه، وهذه يحتمل أن تكون نافية، فإنه يصح أَنْ يقال: كل مملوك لي حر لا دخلت على أخي؛ وحينئذٍ ليس هنا تعليق البتة بل هو قَسَمٌ محض، ولا يَلزم مِنْ كونِ الحسن يوجب الكفارة فيه أَنْ يوجبها في التعليق وإِنْ أريد به الحلف. وفي الرواية التي نقلناها عن الحسن لا تحتمل (إِنْ) غير الشرطية فيجمع بينهما بذلك، أو يكون مقصوده كُلَّ ما يملكه في المستقبل، أو يكون الحالف لا مملوك له وقت اليمين؛ فهذه احتمالات في تحقيق مذهب الحسن - رضي الله عنه -. وروى ابن حزم ــ أيضًا ــ (2) من طريق حماد بن سلمة قال: أخبرنا زياد الأعلم، عن الحسن البصري فيمن قال لآخر: إِنْ بعت غلامي هذا منك فهو حر [فباعه] (3). قال الحسن: ليس بحر، ولا يُعْلَمُ مَدْرَكُ الحسن في ذلك هل _________ (1) في الاستذكار (15/ 46). (2) في المحلى (ص 1784). (3) زيادة من «التحقيق».

(2/732)


هو لإلغاء التعليق عنده أو لغيره؟ والظاهر: أنه لاعتقاد زوال الملك بالبيع، فلا يمكن وقوع العتق كما [هو] (1) مذهب جماعة ممن يُصَحِّح التعليق؛ فهذا طريق في الجمع بين النقلين) (2). والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ إثبات النزاع في الحلف بالعتق مشهورٌ عند العلماء، اتفق عليه جميع مَنْ نَقَلَ الخلافَ والنزاعَ [205/ ب] ونَقَلَهُ (3) مثل: أبي ثور ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن جرير وابن عبد البر وابن حزم، ونقلوه عن جماعة من أئمة الصحابة والتابعين، ونقل النزاع في ذلك أصحابُ الشافعي وأحمد وغيرهما من المصنفين الذين يذكرون خلاف السلف والخلف: أَنَّ ذلك قول جماعة من الصحابة، وذكر ابن جرير أنه قولُ ابنِ عمرَ وعائشةَ وحفصةَ وأُمِّ سلمةَ وعطاءٍ وطاووسٍ والقاسمِ وسالمٍ (4). قال: وجماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -. وذكر محمد بن نصر أنه قول [ ... ] (5) وقول طاووس والحسن. وذكر ابن عبد البر أنه قول الحسن وطاووس والقاسم وسليمان بن يسار وقتادة. ذكره ابن زرقون في كتاب الأنوار. _________ (1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق، وفي «التحقيق»: (ذلك). (2) «التحقيق» (45/ أ - 45/ ب). (3) كذا في الأصل. (4) في الأصل: (وسالمًا)، والجادة ما أثبتُّ. (5) بياض مقدار كلمتين أو ثلاث.

(2/733)


وإذا كان كذلك؛ فبعض هؤلاء هو الناقل للإجماع المدَّعَى في الطلاق، فإنْ قَدَحَ في نقلهم للنزاع في العتق فالقدح في نقلهم للإجماع أولى. وإذا لم يكن مع المدعي نقلُ إجماعٍ معتبر، فلو لم يعلم النزاع بطلت حجته، وقيل له: ليس معك إجماع تحتج به؛ فإما أَنْ تَعلم النزاع فعليك بالدليل، وإِنْ لم تعلم إجماعًا ولا نزاعًا فأمسك عن الكلام ولا تتكلم فيما لا تعلم. ثم إذا عُلِمَ ــ قطعًا ــ النزاعُ ولو مِنْ واحدٍ، بقي نزاعًا معلومًا (1) لا يعارضه نقلٌ معتبر للإجماع، فيجبُ ــ حينئذٍ ــ الرجوعُ إلى الكتاب والسنة نصًّا واستنباطًا. والنقل في النزاع في الحلف بالعتق والحلف بالطلاق ثابت بأسانيد لا يحتاج معها إلى نقلِ ناقلٍ مُرْسَلٍ نَقْلُهُ بخلافِ نقلِ الإجماع، فإنه ليس معه به نقل مسند، ليس معه فيه إلا نقل مرسل، وهو نقل هؤلاء؛ فإذا بطل نقلهم للنزاع والإجماع، والنزاع ثابت بالأسانيد المتصلة، والإجماع ليس به إسناد متصل= ثبت النزاع دون الإجماع، وهو المطلوب. وإِنْ كان نقلُ هؤلاء متبعًا فكلهم أَثْبَتَ النزاعَ في العتق، وبعضهم أَثبتَ النزاعَ في الطلاق ــ أيضًا ــ. وَمَنْ قُدِّرَ أنه نَفَى النزاع في العتق كأبي إسحاق الجوزجاني، وَمْن أشار إليه ابن جرير؛ فإثباتُ هؤلاء مقدَّم على نفيه، وكذلك مَنْ نَفَى من هؤلاء النزاع في الطلاق فالإثبات [206/ أ] مُقَدَّمٌ على نفيه لو كان نفيه مما يحاط به؛ فكيف إذا لم يكن معه إلا الظن؟! وهذا لو لم يكن معنا بالنزاع إسناد متصل، بل تعارض النقل المرسل للإجماع والنزاع، وأما إذا ثبت النزاع بالإسناد المتصل؛ فهذا لا يعارضه نقل الواحد من هؤلاء إذا جزم الواحد من _________ (1) في الأصل: (نزاع معلوم)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/734)


هؤلاء بنفي النزاع؛ فكيف إذا كان مراده نفي علمه بالنزاع أو ظنه عدم النزاع؟ الوجه الثاني: أَنَّ النقلَ الثابتَ المتصل عن غير واحد من السلف يُغْنِي عن نقل الناقلين الإجماع والنزاع؛ وَمِنْ هؤلاء الحسن، وقد ثبت ذلك عن الحسن من طريقين ثابتين بإسناد متصل، ولم يذكر المعترض عنه إسنادًا متصلًا يعارض ذلك. فأما قوله: (إِنَّ ابن المنذر نقل عنه فيما إذا قال لعبده: إِنْ بعتك فأنت حر أنه يَعتق مِنْ مالِ البائع ــ يعني: إذا باعه ــ). فيقال: هذا نقلٌ مرسلٌ، لم يُسنده ابن المنذر، وابن المنذر نفسه نَقَلَ عنه فيمن حلف بالعتق [ ... ] (1). وأيضًا؛ فروى ابن حزم عنه من طريق حماد بن سلمة، حدثنا زياد الأعلم، عن الحسن البصري فيمن قال لآخر: إِنْ بعتُ غلامي منك فهو حر، فباعه. قال الحسن: ليس بحر. وقد ذكرها المعترض (2). فهذه الرواية المسندة تُناقض تلك المرسلة، فكيف تُعَارَضُ الروايات الثابتة المسندة عن الحسن برواية لا يعلم إسنادها؟! ولكن روى حرب الكرماني روايةً مسندةً عنه (3) بوقوع الطلاق والعتاق المحلوف به [ ... ] (4). _________ (1) بياض مقدار سطر وربع تقريبًا، وانظر ما تقدم في (ص 133 - 134). (2) في (ص 732). (3) تقدمت الإشارة إليه في (ص 149). (4) بياض مقدار سطر إلا ربع.

(2/735)


فصلٌ قال المعترض: (واعلم أنه لو صح النقلان عنه، ولم يمكن الجمع بينهما، وفرضنا أنه أفتى بأحدهما في وقت ثم بالآخر في وقت آخر، فيكون الثاني رجوعًا عن الأول، ولا يعلم الثاني منهما، فلا يثبت الخلاف بالشك ولا الإجماع بالشك؛ بل نتوقف، فإن اتفق إجماع من بعده اعتبر) (1). والجوابُ من وجوهٍ: أحدها: أَنَّ الخلاف في ذلك ليس هو قول الحسن وحده، بل قول عددٍ من أئمة الصحابة [206/ ب] والتابعين ــ كما تقدم ــ، فلو فرض أَنَّ الحسن خالفهم قولًا واحدًا= لم يوجب ذلك رفع نزاعهم؛ فكيف إذا كان أثبتُ الروايتين عنه موافقتَهُم؟! الثاني: أنه لو قُدِّرَ أنه لم يعلم آخر الروايتين، وكلاهما قاله في وقت؛ فقد (2) تنازع الناس في المجتهد إذا قال في المسألة قولين، هل يذكر الأول عنه؟ والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه يحكى عنه كلا القولين، لأنَّ العلماء ليسوا كالأنبياء ــ عليهم الصلاة والسلام ــ الذين يكون آخر قوليهم ناسخًا للأول، بل هم قالوا بالاجتهاد ليبينوا ما هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد يكون قوله الأول هو الصواب دون الثاني، فلا يمكن الجزم بأنَّ آخر قوليه هو الصواب. _________ (1) «التحقيق» (45/ ب). (2) في الأصل: (وقد).

(2/736)


نعم؛ قد يقال: المُقَلِّدُ لَهُ تَقْلِيدُ آخِرِ قوليه؛ فإنَّ الأول قوله (1)، وأما المجتهد الذي يَحكي أقوال العلماء؛ فيحكي كُلَّ واحدٍ من قوليه كما يَحكي أقوال سائر العلماء، لجواز أَنْ يكون الصوابُ هو الأول دون الثاني (2). ولهذا اتفق العلماء على حكاية الخلاف المنقول عن الصحابة والتابعين والعلماء بعدهم وإِنْ نُقِلَ عن أحدهم في المسألة روايتان وأكثر. ولو لم يكن قوله إلا القول الثاني وهو لا يُعلم = لم يَجُز أَنْ يُحكى قولٌ عمن اختلفت الرواية عنه، لأنَّ قوله هو الآخر، وهو غير معلوم، فلم يُعلم له قول في المسألة، وَمَنْ لا يُعلم قوله لا يُحكى له قول ولا يُقَلَّد له قول. فلما اتفق الناس على نقل الأقوال والروايات المختلفة عن الصحابة والتابعين وَمَنْ بعدهم من العلماء، والاعتداد بذلك في الإجماع والنزاع = دَلَّ ذلك على أَنَّ هؤلاء يَعتدُّون في الإجماع والنزاع بالروايات الثابتة المنقولةِ عن السلف، وَإِنْ كان عن أحدهم روايتان. وفي إجماع أهل العلم قاطبةً على ذلك إبطالٌ لقولِ هذا المعترض: (إذا لم نعلم الثانية لا يثبت الخلاف بالشك ولا الإجماع بالشك، بل نتوقف). والعلماء قاطبة يذكرون ما عن الصحابة وغيرهم من الروايات المختلفة _________ (1) كذا. (2) المعتمد لأبي الحسين البصري (2/ 312)، العدة لأبي يعلى (5/ 1616)، شرح مختصر الروضة (3/ 625)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص 380). وانظر: مجموع الفتاوى (18/ 43) (20/ 207)، وما تقدم في (ص 278 - 279).

(2/737)


حتى مع علمهم بالأول، كما يذكرون عن عمر - رضي الله عنه - في مسألة [207/ أ] الحمارية الملقَّبَة بالمشرَّكة روايتين (1)، فيذكرون أَنَّ عامة الصحابة اختلف عنهم فيها إلا عن علي وزيد - رضي الله عنهما - (2). وأيضًا؛ فالقول الأول من المجتهد الذي وافق فيه سائر أهل العلم مُقَدَّمٌ على الثاني عند كثير من الناس أو أكثرهم، فإنهم متنازعون في انقراض العصر هل هو شرط في الإجماع (3) أم لا؟ فَمَنْ جعله شرطًا يُجَوِّزُ للعالم _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (10/ 249)، والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 332) من طريق وهب بن منبِّه، عن الحكم بن مسعود عنه. وقال: لم يتبيَّن لي سماع وهب من الحكم. وقال الذهبي في الميزان (1/ 580): هذا إسناد صالح. وللأثر طرقٌ أخرى انظرها في: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 277 - 281). (2) أما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقد ورد عنه من طرق عدم التشريك؛ انظرها في مصنف ابن أبي شيبة (31753 - 31757). وذكر وكيع بن الجراح أنه ليس أحدٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اختلفوا عنه في المشركة إلا علي فإنه كان لا يُشَرِّك. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31759) بإسناد صحيح. وأما زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فالثابت عنه التشريك؛ أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 44/ برقم 5) وله طرق أخرى يتقوَّى بها، إلا أنه ورد عنه بإسناد ضعيف عدم التشريك؛ أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 58/ برقم 26)، وابن أبي شيبة في مصنفه (31758). انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 283 - 284). وقد أطال ابن تيمية الكلام عن مسألة المشركة في جامع المسائل (2/ 297). (3) في الأصل: (الاجتهاد).

(2/738)


أَنْ يرجع عن قوله الأول الذي وافق فيه الباقين، ومن لم يجعله شرطًا لم يجوِّز له الرجوع، وأشهر الروايتين عن أحمد أنه (1) يشترط انقراض العصر، بل يجوز له الرجوع عن القول الذي وافق فيه الباقين، وهذا قول كثيرٍ من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره. والقول الثاني: إنه ليس بشرط؛ فلا يجوز له الرجوع، وهو الذي ذكره أبو سفيان (2) عن أصحاب أبي حنيفة، وهو قول كثيرٍ من المتكلمين، وبعض أصحاب الشافعي، وهو القول الآخر في مذهب أحمد، اختاره أبو الخطاب وغيره (3). وقد قال أحمد في رواية عبد الله: الحجةُ على مَنْ زَعَمَ أنه إذا كان أمرًا مجمعًا عليه ثم افترقوا: أَنَّا نقفُ على ما أجمعوا عليه حتى يكون إجماعًا= أَنَّ أُمَّ الولدِ كان حكمها حكم الأَمَةِ بإجماع، ثم أعتقهنَّ عمر، وخالفه عليٌّ بعد موته، فرأى أَنْ تُسترق (4)؛ فكان الإجماع في الأصل أنها أمة. _________ (1) في الأصل زيادة: (لا)، والصواب حذفها، لأنه بإضافتها لا يكون هناك فرقٌ بين هذا القول والقول الثاني، ثم إنَّ اختيار أبي يعلى القول باشتراط انقراض العصر هو الموافق لما في العُدَّة. (2) ولم يتبيِّن لي مَنْ هو؟ إلا أنَّ المجيب ينقل من العدة في أصول الفقه (4/ 1097)، وقد نسبه القاضي في مواضع بالسرخسي، وأنَّ له مسائل، وهو من تلاميذ أبي بكر الرازي. (3) التمهيد (3/ 348)، العدة في أصول الفقه (4/ 1095)، الإحكام لابن حزم (4/ 544)، التبصرة في أصول الفقه (ص 375)، اللمع (ص 184). وانظر: الفتاوى الكبرى (6/ 165)، المسودة (2/ 624). (4) أخرجه عبد الرزاق (7/ 291/ ح 13224)، وسعيد بن منصور في سننه (2/ 86/ برقم 2046)، وابن أبي شيبة (22010)، والبيهقي في السنن الكبير (21/ 535/ ح 21824) (21/ 519/ ح 21794)، وفي السنن الصغير (4/ 228)، ومعرفة السنن والآثار (14/ 468) وغيرهم.

(2/739)


قال: وَحَدُّ الخمر؛ ضَرَبَ أبو بكرٍ أربعين، ثم ضرب عمر ثمانين، وضرب علي في خلافة عثمان أربعين. وقال: ضَرَبَ أبو بكر أربعين وكَمَّلَهَا عمرُ ثمانين، وَكُلٌّ سنة (1). فالحجةُ عليه في الإجماع في الضرب أربعين، ثم عمر خالفه فزاد أربعين، ثم ضَرَبَ عليٌّ أربعين (2). قال القاضي (3): (فظاهر هذا: أنه اعتبر انقراض العصر، لأنه اعتد بخلاف عليٍّ بعد عمر في أم الولد، وكذلك اعتد بخلاف عمر بعد أبي بكر في حد الخمر)، وبسط هذا له موضع آخر (4). والمقصود: أنَّ قول العالم الأول عند كثيرٍ من الناس يجب اعتباره إذا وافق الباقين دون الثاني؛ فكيف يقال: قوله الثاني هو قوله مطلقًا؟ فإنْ قيل: فهذا حجة عليكم في مسألة [207/ ب] الحلف بالعتق، فإنَّ قول الحسن بالكفارة إِنْ كان هو الأول فقد رجع عنه، وإِنْ كان هو الثاني فقد خالف الإجماع. _________ (1) أخرجه مسلم (1707). (2) نقله أبو يعلى في العدة (4/ 1095). (3) في العدة (4/ 1096). (4) لم أجد بحثًا مبسوطًا للمجيب حول هذه المسألة، وانظر: الفتاوى الكبرى (6/ 165)، المسودة (2/ 624)، أصول الفقه وابن تيمية (1/ 319).

(2/740)


قيل: هذا إنما يكون لو كان الناس غير الحسن قد أجمعوا على ذلك، وقد ثبت أَنَّ الصحابة والتابعين أفتوا في الحلف بالعتق بالكفارة، وَأَنَّ النقل عنهم بذلك أثبت من النقل بنفي الكفارة. وأيضًا؛ فكل ما نقل عن الصحابة إنما فيه التسوية بين الحلف بالعتق والنذر؛ نُقِلَ عنهم الإفتاء بالكفارة فيهما، وَنُقِلَ عنهم الإفتاء باللزوم فيهما، لكنْ هذه الرواية الثانية فيها ما لم يَقل به أحدٌ من علماء المسلمين = فانعقد الإجماع على خلافها، فتكون باطلة؛ بخلاف الرواية الأولى فإنه ليس فيها شيء إلا وقد قال به بعض التابعين بل كثير منهم؛ وحينئذٍ فَمَنْ فَرَّقَ بين الحلف بالطلاق والعتاق وغيرهما فقد خالف إجماع الصحابة. فصلٌ وأما قوله: (فلا يثبت الخلاف [ولا الإجماع] بالشك، بل نتوقف؛ فإن اتفق إجماع مَنْ بعده اعتبر). فعنه أجوبة: أحدها: أنه قد ثبت أَنَّ القول بثبوت الكفارة في الحلف بالعتق أثبت عن الصحابة والتابعين من نقيضه، فضلًا عن أَنْ يكون نقيضه مجمعًا عليه. الثاني: أنه لو فُرِضَ إجماعُ العصر الثاني على أحدِ القولين، فهل يرتفع النزاع؟ في ذلك نزاعٌ مشهور في مذهب أحمد وغيره، والمشهور في مذهبه: أنه لا يرتفع النزاع؛ وهو قول الأشعري، وكثير من أصحاب الشافعي، واختيار القاضي أبي يعلى وغيره.

(2/741)


والثاني: يرتفع؛ وهو قول كثيرٍ من المعتزلة، وأصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي، وهو اختيار أبي الخطاب وغيره (1). وأصلُ هذه المسألة: أَنَّ قولَ الميت هل يُعْتَدُّ بِهِ أم لا؟ فيقال: إِنْ كانت الأقوال تموت بموت قائلها، ولا يعتد إلا بأقوال الأحياء = لم يجز تقليد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وبطل اعتمادُ مِثْلِ هذا المعترض وأمثالِهِ على ما ينقلونه من المذاهب المتبوعة. وإذا لم يجز تقليدهم [208/ أ] لم يَبْقَ إلا تقليدُ مَنْ كان مجتهدًا في أهل العصر، ولم يعتد إلا بخلافه لا بخلاف الأربعة وغيرهم. وحينئذٍ؛ فالمنازعون في هذه المسألة عامتهم مقلدون، لا يعرفون ما فيها من الأدلة الشرعية ومذاهب العلماء، والذين انتدبوا للمعارضة فيها ــ قبل المعترض وأمثاله ــ لا يَعرفون ما فيها من الأقوال والأدلة، فلا يُعْتَدُّ بقولهم فيها = فوجب عليهم السكوت عن الكلام فيها، لأنَّ الكلام إما بتقليد ــ والتقدير: أَنَّ تقليد الموتى لا يجوز ــ، وإما بالاستدلال والاجتهاد فلا بُدَّ معه من معرفة الأقوال من الطرفين وما فيها من الأدلة، وإلا كان كلامًا بلا علم، ولم يوجد ذلك (2). _________ (1) مجموع الفتاوى (20/ 584) (23/ 399)، الفتاوى الكبرى (2/ 328) المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 121 - 124). وانظر: الفصول في الأصول (3/ 339)، المستصفى (2/ 389)، العدة (4/ 1105)، البرهان (1/ 454)، التمهيد (3/ 346 وما بعدها). (2) التمذهب (3/ 1220 وما بعدها).

(2/742)


وإِنْ قيل: إِنَّ الأقوال لا تموت بموت قائلها؛ فالصحابة والتابعون لهم بإحسان أولى أَنْ تكون أقوالهم باقية مذكورة يعتد بها في الإجماع والنزاع؛ وحينئذٍ فلا يقع إجماع معصوم على خلاف أحد قوليهم إِنْ لم يكن معه حجة شرعية تكون حجة على أولئك الموتى (1). ومعلومٌ أَنَّ قول مَنْ بعدهم لا يكون حجة عليهم، لكن إِنْ كان قد ظهر في العصر الثاني نَصٌّ خَفِيَ على بعض أهل العصر الأول = فهذا ممكن؛ كما ظهر حديث سُبَيْعَةَ الأسلمية في المتوفى عنها (2)، وحديث التسوية بين الأصابع في الدية (3)، وحديث بَرْوَع بنت وَاشِق (4)، وغير ذلك من الأحاديث التي خالفها بعض الصحابة لكونهم لم يعرفوها (5). _________ (1) انظر مبحثًا نفيسًا في التمذهب بمذاهب الصحابة والتابعين في كتاب (التمذهب دراسة نظرية نقدية) (2/ 740)، وإحالات المؤلف التي ذكرها في هذا المبحث. (2) أخرجه البخاري (4909)، ومسلم (1485) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -. (3) أخرجه عبد الرزاق (9/ 385)، والبيهقي السنن الكبير (8/ 163) وغيرهم. وأصل قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتسوية بين الأصابع في صحيح البخاري (6895) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا: «هذه وهذه سواء» يعني: الخنصر والإبهام. (4) أخرجه أبو داود (2114، 2116)، والترمذي (1145)، والنسائي (3354)، وابن ماجه (1891). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه. وصحح ابن حبان (9/ 407)، والحاكم في المستدرك (2/ 196). وانظر: علل الحديث لابن أبي حاتم (4/ 91)، العلل للدارقطني (14/ 47)، نصب الراية (3/ 201)، البدر المنير (7/ 680)، إرواء الغليل (6/ 358) صحيح سنن أبي داود (الأم) (6/ 341). (5) انظر: رفع الملام (ص 9 وما بعدها).

(2/743)


وحينئذٍ؛ فتكون الحجة عليهم هذا النص الذي هو مستند مَنْ بعدهم، الذي لو علموا به في حياتهم لوجب عليهم اتباعه، وإلا فيمتنع أن يكون الصحابة تنازعوا ثم أجمع التابعون على أحد قوليهم بغير حجة ظاهرة يجب اتباعها على من مات لو علم بها. وإذا كان كذلك؛ امتنع تقدير هذا في مسألتنا، فإنه ليس مع القائل بأنَّ الحالف بالطلاق أو العتاق أو النذر يُلْزَمُ (1) نَصٌّ يرفع النزاع، بل دلالة النص والقياس على خلاف قوله في غايةِ القوةِ والظهورِ، وكُلُّ عالِمٍ يعترف بذلك، ولكن يعتذر بخلاف المذهب، أو بخلاف ما يظنه من الإجماع. والصواب [208/ ب] في مسألة إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة: أَنَّ ذلك إذا وقع، وجب القول بأنَّ ذلك الإجماع معصومٌ، فإنَّ الأمةَ معصومةٌ في كُلِّ عصرٍ عن الضلال، فلو قُدِّرَ إجماعُ التابعين كلهم على ضلال لكانت الأمة قد أجمعت على الضلال، ولا يغني هدى (2) العصر الأول عن ضلال العصر الثاني، لكن دعوى إجماع مَنْ بعد الصحابة على أحد قوليهم متعذرٌ في الغالب أو متعسر، وأما إجماع مَنْ بعد التابعين على أحد قوليهم فالعلمُ بهذا في غاية البعد والامتناع. ولهذا؛ ما زال الناس يذكرون أقوال الصحابة والتابعين، ويحتجون لأحدِ القولين بالأدلة الشرعية، ولا يحتج على بطلانِ أحدِ قولي الصحابة بمجرد إجماع مَنْ بعدهم من غير دلالة كتاب ولا سنة ولا اعتبار. _________ (1) أي: يُلْزم الحالف بما التزمه. (2) في الأصل: (هذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/744)


فصلٌ قال: (وكذلك نقول؛ إذا اتفق مثل هذا لإمام من أئمة المذاهب، ولم يعلم القول المرجوع عنه = لم يجز للعامي تقليده في شيءٍ منهما، إلا أَنْ يَنْضَمَّ إلى أحدهما ترجيح مِنْ قواعده أو من أحد من أصحابه فيقلده) (1). والجواب أَنْ يقال: إدخالُ جواز التقليد وعدمه في باب المناظرة بالأدلة الشرعية غير مناسب، ولا فائدة فيه، فإنَّ ما ذكره مبنيٌّ على أصول: أحدها: أَنَّ تقليد الميت هل يجوز أم لا؟ وفيه قولان مشهوران، ومن الناس مَنْ يقول: الأكثرون على أنه لا يجوز تقليد الميت؛ فعلى هذا لا يجوز للعامي اتباع الأول ولا الثاني (2). وَإِنْ قيل: إنه يجوز تقليد الميت ــ وعليه عمل أكثر الناس (3) ــ فهو تقليد الحي (4)؛ والعالم إذا أفتى عاميًّا في مسألة ثم تغير اجتهاده لم يجب على العامي أَنْ يرجع عَمَّا أفتاه به، فإنَّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ولو حَكَمَ حاكمٌ في مسألةٍ باجتهاد، ثم تغير اجتهاده لم ينقض حكمه فيها (5). _________ (1) «التحقيق» (45/ ب). (2) انظر ما تقدم في (ص 280). (3) بل عليه عمل جميع المقلِّدين في جميع أقطار الأرض؛ كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين (6/ 129). (4) كذا في الأصل. (5) انظر: تغيُّر الاجتهاد (1/ 268).

(2/745)


وأيضًا؛ فالقولان المتقدم والمتأخر للعالم كقول عالمين، ليسا كقول نبي نَسَخَ بآخر قوليه قولَه الأول، بل هما كقول عالمين يجوز أَنْ يكون الحق في كلٍّ منهما. وقد تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم فيما إذا [209/ أ] كان للمجتهد قولان متقدم ومتأخر، هل يضاف إليه القول الأول كما يضاف إليه المتأخر؟ على قولين مشهورين لهم. بل إذا صَرَّحَ بالرجوع عن القول الأول، هل يجعل الأول قولًا له؟ (1) على قولين؛ لأنَّ المجتهد ليس بنبي يُجزم بأنَّ قوله الثاني ناسخ للأول، بل هو قال أولًا باجتهاده كما قال ثانيًا باجتهاده؛ كالمجتهد في القبلة إذا ترجَّح عنده أولًا أنها في جهة ثم ترجح عنده ثانيًا أنها في جهة أخرى، فقد يكون اجتهاده الأول أصوب، كما لو اختلف اجتهاد رجلين. والمقلِّد إذا اختلف عليه اجتهاد عالمين: فإما أَنْ يُخَيَّر، وإما أَنْ يُرَجِّحَ أحدَهما إما ترجيحًا بصفاته كالعلم والدين، وإما ترجيحًا بما يظهر له من رجحان قولِهِ على قولِ غيرِهِ، وبسط هذه له موضع آخر (2). وليس كلامنا فيما نحن فيه مستلزمًا لهذا، لكن المعترض أَدْخَلَ في ذلك ما لا يستلزمه؛ وعلى هذا: فإذا كانت قواعد الإمام وأصوله تقتضي رجحان قوله الأول قُدِّمَ، وكذلك إذا كانت أدلةُ الشَّرْعِ توافقُ قولَهُ الأول كان هو الراجح، وإذا قَدَّمَ مَنْ يسوغ تقليده مِنْ أصحابِهِ قولَهُ الأول قَلَّدَهُ العامي، _________ (1) انظر ما تقدم (ص 278 وما بعدها). (2) الفتاوى الكبرى (5/ 556)، المسوَّدة (2/ 955).

(2/746)


فلا يتعين تقليده في القول الثاني في أظهر قولي العلماء، بل إِنْ كان قولُهُ هو الثاني دون الأول وَجَهِلَ ذلك= فلا قول له في المسألة بحال، فلا يقلده أحد إنما يقلد غيره. فصلٌ قال: (بل أزيد على ذلك وأقول: إنه إذا صحَّ لنا أَنَّ أَحدَ القولين مرجوع عنه؛ فهو إما أَنْ يكون الموافق لقول بقية العلماء أو المخالف؛ فإنْ كان المخالف هو المرجوع عنه، والموافق هو المرجوع إليه= فيثبت الإجماع به مع قول بقية الأمة، ولا اعتبار (1) بالخلاف المتقدم. وَإِنْ كان المتقدم هو الموافق فقد صَحَّ وانعقدَ الإجماعُ [به مع بقية الأمة، ولا اعتبار بالقول المرجوع إليه المخالف لمخالفته الإجماع]، فالإجماعُ ثابتٌ على كلا التقديرين؛ فهذه طريقةٌ يمكن أَنْ يقالَ بها (2) إذا تحققنا أَنَّ جميعَ العلماء غير ذلك الإمام قائل بأحدِ قوليه، فلينظر في ذلك؛ والله أعلم) (3). والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ هذا الكلام إنما يفيد لو كان التابعون [209/ ب] كلهم أجمعوا على أَنَّ العتق المحلوف به يلزم، ولم يخالف إلا الحسن في إحدى الروايتين. _________ (1) في الأصل: (والاعتبار)، والمثبت من «التحقيق». (2) في الأصل و «التحقيق»: (فيها)، والصواب ما أثبت كما سيأتي (ص 753). (3) «التحقيق» (45/ ب - 46/ أ)، وما بين المعقوفتين من «التحقيق».

(2/747)


وقد تبين أَنَّ الأمر بخلاف ذلك، وأَنَّ جماعةً من أئمة الصحابة والتابعين يقولون بأنَّ العتق المحلوفَ به فيه كفارة ــ كما تقدم غير مرة ــ، بل القائلون من الصحابة والتابعين بأنَّ فيه كفارة يمين أكبرُ وأجلُّ من القائلين بلزوم العتق. الثاني: أَنَّ دعوى الإجماع في ذلك مقابَلٌ بما هو أظهر منه من دعوى الإجماع على نقيضه، وذلك أَنَّ القول بالتكفير هو القول الثابت عن الصحابة - رضي الله عنهم -، ونقيضه ضعيف، والرواية المخالفة لهذه متروكة بإجماع العلماء. فالصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ روي عنهم في الحلف بالعتق والنذر روايتان؛ رواية التكفير ــ كما في حديث ليلى بنت العجماء ــ، وروايةُ التزام النذر ــ كما في حديث عثمان بن حاضر ــ، وهذه الرواية متروكة باتفاق العلماء، فإنَّ فيها أَنَّ الحلف (1) بالمال يجزئ فيه الزكاة، وَأَنَّ الحلف بالذبح يجب فيه بدنة، مع قولهم: إنَّ العبد يعتق، ولم يقل أحد من العلماء بهذه الثلاثة. وإذا كانت هذه الرواية مع ضعفها متروكة بالإجماع، فقد أجمع التابعون وَمَنْ بعدهم على ترك أحد قولي الصحابة، فإنْ كان إجماع التابعين بعد تنازع الصحابة يرفع النزاع، فقد أجمع التابعون على بطلان القول بهذه الرواية، ولم يَبْقَ عن الصحابة إلا الرواية الأولى، والصحابة لم يقولوا إلا هذا أو هذا، وفي كليهما (2) سَوَّوا بين العتق والنذر، فَمَنْ فَرَّقَ بينهما، أو قال بلزوم العتق والنذر كما قَدَّرَه = فقد خالف إجماعهم، لم يقل بقولهم هذا ولا بقولهم هذا. _________ (1) في الأصل: (الحالف)، ولعلها ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (كلاهما).

(2/748)


وإذا اختلف الصحابة على قولين؛ لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالثٍ عند عامة العلماء، فإنَّ إحداثَ قول ثالث كإحداث قول ثانٍ، إذ كان الصواب لا يخرج عن أقاويل الصحابة (1)؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل: (يلزم مَنْ قال: يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا: أَنْ يخرج من أقاويلهم إذا اجتمعوا) (2). وقال ــ أيضًا ــ: (إذا اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَخَيَّرَ من أقاويلهم [210/ أ] ولا يخرج عن قولهم إلى مَنْ بعدهم) (3)، وهذا قول عامة العلماء، وإنما نازع في ذلك شذوذ. وحينئذٍ؛ فإذا لم يكن للصحابة إلا قولان، قول بلزوم العتق والنذر وقول بتكفيرهما جميعًا، والرواية بلزومهما متروكة باتفاق التابعين بعدهم = تعين أَنْ يكون القول بتكفيرهما هو القول الصواب، لئلا يلزم اتفاق الصحابة أو التابعين على الخطأ، فإنه إِنْ كان الصواب حديث عثمان بن حاضر، وقد _________ (1) مجموع الفتاوى (13/ 59) (15/ 95) (21/ 291) (27/ 208) (34/ 125)، الفتاوى الكبرى (6/ 498) (6/ 524)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 625)، شرح عمدة الفقه (1/ 333)، تنبيه الرجل العاقل (2/ 609 وما بعدها). (2) نصَّ على ذلك في رواية عبد الله وأبي الحارث؛ كما نقله أبو يعلى في العدة (4/ 1059) (4/ 1113)، والمسودة (2/ 616). وقريب منه ما ذكره صالح في مسائله (2/ 165). (3) نصَّ على ذلك في رواية الأثرم؛ كما نقله أبو يعلى في العدة (4/ 1113). وروى الخطيب البغدادي في الفقه والمتفقه (1/ 534)، وابن الجوزي في تعظيم الفتيا (ص 67) عن الأثرم هذا الأمر من فعل الإمام أحمد.

(2/749)


أجمع التابعون وَمَنْ بعدهم على خلافه = انعقد الإجماع على خطئه، وَإِنْ كان الصواب أحد الأقوال التي قالها مَنْ بَعْدَ الصحابةِ = لزم إجماع الصحابة على خطأ. فثبت أنه إذا لم يكن للصحابة إلا قولان؛ وقد أجمع التابعون على بطلان أحدهما = أَنْ يكون الصواب هو القول الآخر، وهو المذكور في حديث ليلى بنت العجماء، فيكفر العتق وغيره. ويلزم مِنْ ذلك: أَنَّ الطلاقَ المحلوفَ بِهِ لا يلزم بطريق الأولى، فدعوى الإجماع على العتق المحلوف به والطلاق المحلوف به بهذه الطريق وغيرها = أظهرُ من دعوى نقيض ذلك، بما ذكر في الطريق الفاسدة. ولا ريب أَنَّه إِنْ كان إجماعٌ في هذه المسائل فهو إجماع خفي، والطريق إليه الظَّنُّ، لا يمكن أَنْ يكون إجماعًا ظاهرًا مقطوعًا به معروفًا لعامة العلماء؛ وحينئذٍ فيستدل بالنقول الصحيحة ولوازمها التي يثبت بها أحد الإجماعين إِنْ كان في المسألة إجماع، وإلا فالكتاب والسنة يثبت بهما نصًّا واستنباطًا تفصيل النزاع. الثالث: أنه لو فُرِضَ أَنَّ الحسن أو غيره من المجتهدين قال قولًا وافق فيه غيره، ثم رجع عن ذلك؛ كما وافق علي بن أبي طالب لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في المنع من بيع أمهات الأولاد ثم رجع عن ذلك (1) = فهذا مبنيٌّ على مسألة: انقراض العصر؛ وَمَنْ قال: إِنَّ الإجماع لا يستقر إلا بانقراض العصر يقول: يجوز للمجتهد أَنْ ينازع بعد الموافقة، وأنه إنما يتم الإجماع _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 739).

(2/750)


إذا ماتوا ولم يتنازعوا؛ كما تقدم التنبيه عليه (1)، وإلا فمثل علي بن أبي طالب والحسن [210/ ب] البصري وأمثالهما من أئمة الصحابة والتابعين أَجَلُّ قدرًا مِنْ أَنْ يقال عنهم إنهم خالفوا الإجماع المعصوم، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، والإجماع إنما انعقد بهم، وهم أحدُ أركانه، فإنْ لم يُقِمْ دليلًا على ضلالهم إذ (2) فعلوا ذلك = لم يتم قوله: (لا اعتبار بالقول المرجوع إليه المخالف للإجماع). الوجه الرابع: أَنْ نقول: مَنْ نُقِلَ عنه من الصحابة والتابعين أَنَّ العتق المحلوف به يجب فيه الكفارة أكبر وأجل ممن نقل عنه القول بلزوم العتق؛ أما الصحابة: فهذا منقولٌ عن ابن عمر وحفصة وزينب وعائشة وأم سلمة وابن عباس - رضي الله عنهم -، ومنقولٌ عن طاووس والحسن وعطاء والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وقتادة ــ رحمة الله عليهم ــ، وَذَكَرَ ابن جرير أنه روي هذا القول عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعةٌ يَكْثُرُ عددهم من أئمة الصحابة والتابعين، وأما القول بلزوم العتق فلم يُنْقَل عن أحدٍ من الصحابة إلا في روايةٍ ضعيفةٍ جدًّا مخالفةٍ لِمَا ثبت عنهم بالأسانيد الثابتة، وقد اتفق العلماء على ترك العمل بتلك الرواية فلم يَعمل أحدٌ بجميع ما فيها. وأما التابعون؛ فقد تقدم هذا (3) في حديث عبد الله بن عثمان (4) قال: حَلَفَ أخي عمر بن عثمان بعتق جاريةٍ له أَلا يشرب من يدها إلى أَجَلٍ _________ (1) في (ص 739). (2) في الأصل: (إذا)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ. (3) لعله في الجزء الأول المفقود من هذا الكتاب. (4) في الأصل: (عمر)، والمثبت من مصنف ابن أبي شيبة.

(2/751)


ضَرَبَهُ، فَنَسِيَ قبل الأجل فشرب، فاستفتيت له عطاء ومجاهدًا وسعيد بن جبير وعليًّا الأزدي فكلهم رأى أنها حُرَّة (1)، وهذا إنما رواه (2) عبد الرزاق عن مجاهد وسعيد بن جبير (3)، وقد اعترف المعترض بأنَّ الأصح عن عطاء أنها لا تعتق؛ لكونه لا يرى تحنيث الناسي، فكيف وقد نقل ابن جرير عن عطاء أَنَّ العتقَ المحلوفَ بِهِ يكفره كما تقدم، فلم يَبْقَ معه إلا اثنان أو ثلاثة من التابعين. وهذا المعترض قد اجتهدَ غايةَ الاجتهادِ فيما نَقَلَ عن الصحابة والتابعين في الطلاق والعتق المحلوف بهما، ولم يَنقل عن الصحابة في الحلف بالعتق إلا حديث [211/ أ] عثمان بن حاضر، ولا عن التابعين فتيا في العتق إلا هذه الفتيا التي ليس فيها إلا قول اثنين أو ثلاثة من التابعين، وهذا مما يبين أَنَّ ذلك في غايةِ القلة عن التابعين، إذ لو كان كثيرًا منتشرًا لروي فيه عدة قضايا عن جماعةٍ منهم، بل الذي وقفنا عليه ــ والذي ذكره بعد الاجتهاد هذا المعترض ــ من أقوال الصحابة والتابعين في الحلف بالعتق يقتضي أَنَّ القائلين بأنه يكفر أكثر من القائلين أنه لا يكفر، فذاكَ منقولٌ عن سبعةٍ من التابعين، وهذا منقولٌ عن ثلاثةٍ، وذاك منقول عن عدد من الصحابة، وهذا لو صَحَّ فإنما فيه نقل عن اثنين منهم أو ثلاثة، وإذا كان القائلون من الصحابة والتابعين بأنه يكفر أكبر وأجل من القائلين باللزوم تبين أَنَّ مُدَّعِي إجماعهم على اللزوم في غايةِ الجهلِ بأقوالِ السلفِ. _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة (19389). (2) في الأصل كرر الناسخ كلمة: (رواه). (3) والأثر لم أجده عند عبد الرزاق فيما بين يدي من كتبه.

(2/752)


ومعلومٌ أَنَّ طاووسًا (1) وعطاء والحسن والقاسم وسالمًا وسليمان بن يسار وقتادة أكثر وأجل من مجاهد وسعيد بن جبير وعلي الأزدي، ولكن لمَّا اشتهر القول بلزوم العتق في المتأخرين، وهو قول الأربعة وأتباعهم = صار مَنْ لم يَعرف أقوال السلف يَظُنُّ ذلكَ إجماعًا لعدم علمه بقول السلف. ولقد كان الكشف عن أقوال السلف في مثل هذه المسائل مِنْ نِعَمِ الله ــ تعالى ــ على الأمة، وكان اجتهاد مثل هذا المعترض وأمثاله في البحث عن أقوال السلف في مثل هذه المسائل مما يبين الله به الدين ويكشف به خطأ المخطئين الذي يظنون إجماعًا معصومًا في مسألةٍ قولُ أكثرِ السلف فيها بخلاف ذلك، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار (2)، ولكن نظائر هذا كثيرة مما يغلط فيه الغالطون من ظَنِّ إجماعاتٍ لا حقيقةَ لها لاشتهار العمل عندهم لأسبابٍ اقتضت ذلك؛ إِمَّا من العامةِ، وإِمَّا من الولاة، وإما منهما (3)؛ فيظن مَنْ لا يعرف غير ذلك أَنَّ هذا قول جميع علماء المسلمين، كما قد ذكرنا نظائر ذلك في غير هذا الموضع (4). الوجه الخامس: قوله: (فهذه طريقة يمكن أَنْ يقال بها (5) إذا تحققنا أَنَّ جميع [211/ ب] العلماء غير ذلك الإمام قائلٌ بأحدِ قوليه؛ فلينظر في ذلك). فيقال له: قد نظرنا وسبرنا، فوجدنا جمهور العلماء من السلف قائلون _________ (1) في الأصل (طاووس ... وسالم)، والجادة ما أثبتُّ. (2) مجموع الفتاوى (28/ 57)، العقود الدرية (ص 316، 321). (3) انظر: التمذهب (2/ 649 وما بعدها) والمراجع التي أحال عليها في أسباب بقاء المذاهب وانتشارها. (4) انظر أمثلة ذلك في نقد مراتب الإجماع. (5) في الأصل: (فهذه طريقين يمكن أن يقال بهما)، والمثبت مما تقدم (ص 747).

(2/753)


بذلك القول الذي يطلب الإجماع على نقيضه، وأَنَّ هذا القول هو الثابت عن الصحابة، ولم يُنقل عنهم نقيضه إلا في روايةٍ ضعيفةٍ متروكةٍ بإجماعِ العلماء بعدهم، فيلزم مِنْ كونِ إجماع الصحابة حجة أو إجماع التابعين بعدهم حجةً أَنْ يكون الصواب هو القول بإجزاء الكفارة، لأنَّ الصحابة ليس لهم إلا قولان، وقد أجمع التابعون على ترك أحدهما = فتعين أَنْ يكون الصواب هو القول المذكور في حديث ليلى بنت العجماء بالتكفير في العتق وغيره. ولا ريب أَنَّ هذا هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، مع دلالة الإجماع الخفي عليه، كما بيناه. وحينئذٍ؛ فالطلاق لا يلزم الحالف بطريق الأولى، كما دَلَّ على ذلك كلامُ الصحابة عمومًا، فإنَّ الحلف بالطلاق ليس فيه نقلٌ خاصٌّ عن الصحابة لا نفيًا ولا إثباتًا، ولكن كلامهم وتعليلهم يقتضي أنه لا يلزم الحالف كالعتق وأولى، بل تجزئ فيه الكفارة. فصلٌ قال: (هذا الكلام كله في مذهب الحسن في العتق، وأما في الطلاق: فالرواية التي رواها ابن حزم بوقوع الطلاق لا معارض لها، والله أعلم) (1). فيقال: لا ريب أنه لم يُنقل عن الحسن ولا غيره من السلف أنهم فَرَّقُوا في وقت واحد بين الحلف بالعتق والحلف بالطلاق، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة ذلك، ولا الفرق بين الحلف بالطلاق والعتاق وغيرهما، ولكن هذا الفرق نُقِلَ في روايةٍ عن الحسن، وروي عنه من وجهين ما يخالفها. _________ (1) «التحقيق» (46/ أ).

(2/754)


والمسائل المنقولة عن الحسن وغيره في العتق المعلَّق كثيرٌ منه ليس بيمين، بعضه يحتمل أَنْ يكون يمينًا ويحتمل ألا يكون، وما عُلِمَ أنه يمين لم يفتِ معه بأنَّ العتق لا يلزم، بل قد يكون هذا على إحدى الروايتين عنه في العتق [212/ أ] وأنه يلزم ولا تجزئ فيه الكفارة. فقد روى حرب الكرماني بإسناد متصل عن الحسن أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق: لزمه دون ما سواهما (1)، فإذا ثبت عنه الإفتاء بلزوم الطلاق المحلوف به= كان هذا موافقًا لهذه الرواية المسوية بين الطلاق والعتق. وأما على قوله بأن العتق المحلوف به لا يلزم فلا يمكن أَنْ يجزم بأنه يقول مع ذلك بلزوم الطلاق المحلوف به، بل تعليله يقتضي أنه لا فرق بينه وبين الطلاق. وقد علم أَنَّ كثيرًا من المجتهدين يكون لهم في الأصل قولان، ثم قد يفتون في بعض فروعه على أحد القولين، كما أَنَّ أحمد بن حنبل له في جواز الاستثناء في الحلف بالطلاق قولان مع أَنَّ أصله ومذهبه أَنَّ الاستثناء لا يكون إلا فيما فيه الكفارة، فنفيه للكفارة في الحلف بالطلاق إنما يتوجَّه على قوله بنفي الاستثناء في الحلف به، وأما على قوله بالاستثناء فيه فإنَّ ذلك لا يمكن مع قوله إنه لا استثناء إلا فيما فيه الكفارة، وإِنْ لم يقل بذلك بطل أصل مذهبه = فَعُلِمَ أَنَّ فتياه بعدم التكفير لا يتوجه إلا على أحد قوليه دون قوله الآخر، وكذلك فتياه بلزوم الطلاق المحلوف به لا يتوجه إلا على قوله بعدم لزوم العتق المحلوف به لا على قوله الآخر. * * * * _________ (1) تقدم في (ص 149).

(2/755)


فصلٌ قال المعترض: (وأما غير طاووس والحسن فيحتاج أَنْ يذكره، وقد تقدم منه، وذكر بعد ذلك نقل المذهب المذكور عن أبي هريرة وعائشة وأم سلمة - رضي الله عنهم -، ومستنده في النقل عنهم: روايةُ أشعث في أثر ليلى بنت العجماء، وقد تقدم الكلام على اضطرابه وعلى تأويله بما فيه الكفاية. وقد نقل ابن نصر عن عائشة - رضي الله عنها - خلاف ذلك (1). وأيضًا؛ فقول الراوي في ذلك الأثر: وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، وهذا اللفظ يقتضي أَنَّ زينب في ذلك الوقت كانت أفقهَ نساء المدينة، فكيف يقال هذا في حياة عائشة - رضي الله عنها -؟! وقد [212/ ب] قال ابن عبد البر في أُمِّ سلمة، وإنما هي زينب بنت أم سلمة - رضي الله عنها -. وبالجملة؛ فهذا محلُّ اشتباهٍ، لما تقدم من الفرق بين الألفاظ المتقدمة) (2). والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ أثر ليلى بنت العجماء مما اتفق جميع العلماء الذين بلغهم هذا الحديث على صحته، وأهل الفقه منهم اتفقوا على العمل به، كالشافعي _________ (1) انظر تعليق المجيب على هذا العزو لابن نصر في (ص 759)، وهو الوجه الرابع مما سيأتي. (2) «التحقيق» (46/ أ).

(2/756)


وأحمد بن حنبل وأبي ثور ومحمد بن نصر وابن المنذر، وقد صححه مَنْ لم يعمل به كابن جرير الطبري وابن حزم وغيرهما، وصححه ابن عبد البر وغيره، وَذَكَرَهُ أصحاب الشافعي وأحمد أَوَّلُوهُم وآخروهم، مُصَدِّقِينَ له، متلقين له بالقبول، واعتمدوا عليه في كتبهم الكبار والصغار، فلا يوجد منهم مصنفٌ كتابًا يذكر فيه الآثار في هذه المسألة والاحتجاج بها إلا ذكره، كما ذكره الشيخ أبو حامد وأبو الطيب الطبري والماوردي وغيرهم من أصحاب الشافعي، وكما ذكره القاضي أبو يعلى وأبو الحسن الآمدي وأبو الخطاب وغيرهم من أصحاب أحمد. ورواه أحمد بن حنبل وأصحابه كأبي بكر الأثرم وحرب بن إسماعيل الكرماني وإسماعيل بن سعيد (1) الشالنجي وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني. ورواه البخاري في تاريخه من عِدَّةِ طرق. ورواه أبو بكر النيسابوري وأبو الحسن الدارقطني وأبو بكر البيهقي ومن قبلهم ومن بعدهم، وكلهم مُصَدِّقُون مُقِرُّون بصحته وسلامته من الطعن، ولم أعرف أحدًا من الأولين والآخرين عَلَّلَهُ، ولا طعن فيه، ولا توقف في صحته إلا هذا المعترض الذي يتكلم بلا علم، ويبتدع دعوى نقلٍ عن السلف لم يَدَّعِهِ أحدٌ قبله، وَيُضَعِّفُ نقلًا ثابتًا لم يُضَعِّفْهُ أحدٌ قبله، وتحريف للكلمات الثابتة عن السلف لم يحرفها أحدٌ قبله. ولكن أحمد بن حنبل عَلَّلَ ذِكْرَ العتق فيه، لم يعلل الحديث من أصله، وقد عرف قدره وأنه لم يبلغه إلا من طريق التيمي، وأما غيره فبلغه طريق أشعث وطريق جسر بن الحسن عن بكر؛ فصار له ثلاثة طرق يصدق بعضها _________ (1). في الأصل: (سعد)، والصواب ما أثبت.

(2/757)


بعضًا [213/ أ] كما تقدم (1)، والذين خالفوا هذا الأثر من السلف لم يبلغهم، والذين بلغهم اتبعوه كالشافعي وأحمد وغيرهما. الوجه الثاني: أَنَّ نَقْلَ الحلفِ بالعتق عن الصحابة مما نقله عامة من ينقل أقوال السلف؛ كأبي ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وأبي بكر بن المنذر وابن حزم وابن عبد البر وغيرهم، والذين نقلوا الإجماع في الطلاق بعضُ هؤلاء، ونقلهم للنزاع أثبتُ من نقلهم لنفيه. فإنْ كان نقلهم للنزاع غير مقبول لجواز الغلط عليهم في ذلك = لم يُقبل نقلهم للإجماع ونفي النزاع بطريق الأولى؛ فإنَّ الغلطَ فيه أكثر بكثير. وحينئذٍ؛ فلا حاجة بنا إلى نقلهم لا للإجماع ولا للنزاع، بل نُثبت النزاع بالأسانيد المتصلة، والمعترض لا يمكنه أَنْ ينقل الإجماع بإسناد متصل ثابت = فثبت ما ادعيناه من النزاع، ولا تبقى معه حجة بنقل الإجماع. وإِنْ كان نقلهم للإجماع مقبولًا فنقلهم للنزاع أولى؛ وحينئذٍ فنقلهم للنزاع ثابت بالأسانيد المتصلة ولا مخالف لهم فيه، وأما نقلهم للإجماع فقد اختلفوا فيه؛ فمنهم مَنْ نَقَلَ فيه إجماعًا، ومنهم مَنْ نَقَلَ فيه نزاعًا، وناقل النزاع مثبت فيجب تقديمه؛ هذا لو لم يُعرف النزاع من غير جهته؛ فكيف إذا عرفنا النزاع من عدة أوجه؟! الوجه الثالث: أَنْ يقال: الذي لا ريب فيه في حديث ليلى الذي اتفقت عليه الروايات: استفتاء ابن عمر وحفصة وزينب، وأما استفتاء أبي هريرة وعائشة وأم سلمة فهو مذكور في حديث أشعث، وقد صَحَّحَ روايته طائفة _________ (1) في (ص 201 - 209).

(2/758)


منهم ابن حزم، وأثبتوا استفتاء أم سلمة. وأما ابن عبد البر فقال (1): المستفتاة هي بنتها زينب، كما جاءت في رواية التيمي وغيره، وأَنَّ في المفتين ابن عمر وحفصة وزينب بنت أم سلمة، بل وعلى أنهم أفتوا في الحلف بالعتق لم يطعن أحد ممن بلغه حديث أشعث في ذكر العتق، وأحمد لم يبلغه حديث أشعث، ولا طريق جسر بن الحسن. الوجه الرابع: قوله: (إنَّ ابن [213/ ب] نصر نقل عن عائشة - رضي الله عنها - خلاف ذلك) غلطٌ على ابن نصر، وإنما ذكر ذلك ابن عبد البر (2) عقب حكايته لما نقله عن ابن نصر، فظنَّ هذا أَنَّ ابن نصر ذكره. وكتاب ابن نصر الذي نقل منه ابن عبد البر قوله المذكور عقبه في الاستذكار عندنا، وليس فيه نقل ابن نصر عن عائشة ما ذكره ابن عبد البر، ولكن ابن عبد البر ذكره بغير إسناد، فذكر أنه نُقِلَ عن عائشة أنها أفتت بالكفارة في الأيمان إلا في الحلف بالطلاق والعتاق، وهذه الرواية لم يذكرها هو ولا غيره لا بإسناد صحيح ولا ضعيف؛ فكيف يجوز أن تُجعل هذه معارضةً لتلك مع ما نقل عن عائشة من تعليلها وعموم ألفاظها التي تقتضي تكفير كل يمين؟! الوجه الخامس: قوله: قول الراوي في ذلك الأثر: (وكانت إذا ذُكرت امرأة فقيهة بالمدينة ذكرت زينب؛ يقتضي أن زينب كانت أفقه نساء المدينة). _________ (1) في الاستذكار (15/ 111). (2) في الاستذكار (15/ 45 - 46).

(2/759)


يقال له: ليس في اللفظ: أنها أفقه أهل المدينة، وإنما في اللفظ: إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب؛ فمن أين لك أَنَّ الراوي أراد الحصر؟ وأَنَّ مراده إذا ذكرت بالمدينة فقيهة لم يذكر إلا زينب، ولم لا يجوز أَنْ يكون المراد: أنها كانت تذكر مع النساء الفقهاء بالمدينة؟ كما يقال: إذا ذُكِرَ الصالحون فَحَيَّ هَلًا بعمر؛ أي: هو ممن يذكر، لم يقصد أنه لا صالح إلا عمر. يُبَيِّنُ هذا؛ أَنَّ المدينة كان بها إذ ذاك جماعة من فقهاء النساء، لم تكن زينب مختصة بذلك، وكان بها خلا (1) زينب: حفصة بنت عمر بن الخطاب، فمن أين يعلم أَنَّ الراوي قصد تفضيل فقه زينب على فقه حفصة أم المؤمنين - رضي الله عنها -؟ ثم إِنْ قُدِّرَ أَنَّ الراوي قصد أنها كانت أفقه نساء المدينة، فلا ريب أَنَّ عائشة - رضي الله عنها - لم تكن ــ حينئذٍ ــ موجودة؛ فيكون الصحيح رواية من ذكر ابن عمر وحفصة وزينب دون ذكر عائشة، لكن هذا لا يجزم فيه بالاحتمال. الوجه السادس: قوله: (وبالجملة؛ [214/ أ] فهذا محل اشتباه). فيقال له: ليس فيه اشتباه يقدح في المقصود، والألفاظ المتقدمة في ذكر العتق مؤتلفة لا مختلفة. فقوله: (حَلَفت بالهدي والعتاقة)؛ في رواية جسر، وقوله في رواية التيمي وأشعث: قالت: (كل مملوك لها حر) = مُصَدِّقٌ تلك الرواية لهاتين الروايتين لا تخالفها. _________ (1) في الأصل: (بلا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/760)


والفرق المفيد إنما يكون إذا كان بين الألفاظ تناقض، وهذا لا تناقض فيه إلا إذا حمل اللفظ على لفظٍ ليس في الكلام ما يدل عليه، وَجُعِلَ مدلولُ ذلكَ اللفظ يُخالف مدلولَ لفظ الروايتين الأخريين؛ كما فعل هذا المتكلف حيث حَمَلَ قولَهُ: (حَلَفت بالهدي والعتاقة)؛ على أنها قالت: (العتق يلزمني). وليس في لفظ الراوي ما يدل على أَنَّ هذا لفظ الحالف. بل لا ريب أَنَّ مَنْ قال: إِنْ فعلتُ كذا فكل مملوك لي حر = حالفٌ بالعتاقة، ثم لو قُدِّرَ أَنَّ هذا لفظُهُ؛ فقوله: العتق يلزمني، كقول القائل: الطلاق يلزمني، وهذا ظاهرٌ في لزومِ الوقوعِ، فكذلك قوله: العتق يلزمني، وهذا في معنى قوله: إِنْ فعلت فكل مملوك لي حر، لكن مع هذا؛ فالذي يجب حمل الروايةِ المجملةِ على المفسرة، وهو أنه قال: إن فعلت فكل مملوك لي حر. فصلٌ قال: (ومن هنا ــ والله أعلم ــ قال مَنْ قال: إِنَّ مثل هذه المذاهب القديمة لا يجوز للعامي تقليدها، وليس ذلك لأمرٍ يرجع إلى أصحابها ــ حاشى لله ــ؛ بل هم أئمة الهدى وينابيع العلم، ولكنه لم يُعْتَنَ بجمعِ أقوالِ قائلها وتدوينها اعتناء تامًا حتى يستدل ببعضها على بعض، وبمبيَّنها على مجملها، وبخاصِّها على عامِّها، وبمقيَّدها على مطلقها، كما فعل أتباع المذاهب المشهورة، وتناقلوها نقلًا مستفيضًا بحيث صار يحصل لكثيرٍ من المتمذهبين الظنُّ القويُ بأنَّ تلك الأحكام هي قول إمامه ومذهبه، وتناقلها المُرَجِّحُون لها قرنًا بعد قرن، عددًا يبلغ حَدَّ التواتر في معظم المسائل والقواعد من لدن زمان إمامه إليه، لا كَفُتْيَا مُطْلَقَة تُنْقَلُ عَنْ إمامٍ لا يُدرى [214/ ب] ما أراد بها، وهل اقترن بها أمر يقتضي ذلك أم لا؟

(2/761)


وكنَّا نود لو دُوِّنَتْ تلك المذاهب كما دونت هذه، ولكن في كتاب الله ــ تعالى ــ وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - التي تَكَفَّلَ الله بحفظها بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] كفايةٌ عن كل مذهب، وغناءٌ عن قولِ كُلِّ قائل. ولقد كان بعض شيوخنا أشار عَليَّ بأنْ أعتني بجمع ما يتصل إلينا في الروايات من مذاهب السلف، فوجهت الهمة إلى (1) ذلك، فوجدت كثيرًا منها بألفاظ غير صريحة، بل ولا ظاهرةٍ فيما يُراد منها فانثنيتُ عن ذلك، والله أعلم) (2). والجواب من وجوه: أحدها: أنه ليس الكلام في جواز تقليد العامي لها، فإنَّ ذلك ــ أولًا ــ ينبني على جواز تقليد الميت، وعلى العلم بقوله (3)، وإنما الكلام في نقل إجماعهم ونزاعهم، فإنْ كانت مذاهب السلف لا تعلم، فلا يجوز الاحتجاج بإجماعهم، لا بإجماع الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، وإنما يحتج بإجماع أهل المذاهب المصنفة التي صُنِّفَت فيها. وحينئذٍ؛ فيقال: الخلاف في زمن هؤلاء الأئمة موجود في تعليق الطلاق بالصفات، فضلًا عن الحلف به، وفي الحلف بالعتق ــ أيضًا ــ فإنَّ أبا عبد الرحمن الشافعي كان في عصر الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ونحوهم من أهل المذاهب المشهورة، وقد نازع في تعليق الطلاق بالصفات _________ (1) في الأصل: (في)، والمثبت من «التحقيق». (2) «التحقيق» (46/ أ). (3) انظر ما تقدم (ص 279 - 280).

(2/762)


مطلقًا، سواء كان قاصدًا لليمين أو قاصدًا للإيقاع. وداود وغيره يفرِّقون بين التعليق الذي يقصد به اليمين، والتعليق الذي يقصد به الإيقاع، وأبو ثور وابن جرير وغيرهما قد نازعوا في الحلف بالعتق؛ هذا يقول يكفر وهذا يقول لا يكفر. الوجه الثاني: أنه يمتنع مع هذا أن يحتج أحدٌ بإجماع، فإنه من المعلوم أنَّ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين إجماعهم حجة قاطعة، ليس هم أربعة ولا خمسة ولا عشرة ولا اثنا عشر (1). وأيضًا؛ فقد اتفق العلماء على أنه ليس إجماع الفقهاء الأربعة أو الخمسة أو الستة أو السبعة أو الثمانية أو التسعة أو العشرة؛ كمالك والثوري وأبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي [215/ أ] وأحمد وإسحاق وداود بن علي ومحمد بن جرير = هو الإجماع المعصوم الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه (2). الوجه الثالث: أَنَّ ما ذكره خلاف إجماع المسلمين الأولين والآخرين، فلم يَقُلْ أَحَدٌ إنه لا يجوز الاحتجاج بإجماع الصحابة ولا إجماع التابعين وتابعيهم ممن يقول الإجماع حجة، بل كُلُّ من يقول الإجماع حجة يقول: أَعْظَمُ الإجماعِ إجماعُ الصحابةِ، وتنازعوا في إجماع مَنْ بعدهم على قولين، هما روايتان عن أحمد. _________ (1) الإجماع ليعقوب الباحسين (ص 117 وما بعدها). (2) انظر ما تقدم (ص 628).

(2/763)


ولم يقل أحدٌ إنه لا يعتد بالنزاع المنقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ لكن تنازعوا فيما إذا أجمع العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول، وهذا إنما يكون إذا عُلِمَ إجماعُ مَنْ بعد الصحابة والتابعين على وقوع العتق والطلاق المحلوف به؛ وليس الأمر كذلك، بل النزاع في ذلك بعد التابعين أكثر منه في زمن الصحابة والتابعين، فإنَّ الصحابة والتابعين لم يعرف عنهم نزاع في التعليق الذي يقصد به الإيقاع، فجاء بعدهم مَنْ نازع في أصل تعليق الطلاق، حتى ذهب غير واحد إلى أنه لا يقع الطلاق المعلَّق بالصفات بحال، وليس هذا قول أبي عبد الرحمن بل قاله غيره، وهذا القول قولُ خَلْقٍ كثيرٍ من شيوخِ الشيعة المتقدمين والمتأخرين، وغير الشيعة من أهل السنة وغير أهل السنة، ولا يمكن الاحتجاج على هؤلاء بإجماع من سواهم من أهل عصرهم؛ فإنَّا في نفس بدعتهم التي بها فارقوا السنة والجماعة لا يمكن الاحتجاج عليهم بإجماع مَنْ سواهم؛ فكيف يحتج عليهم في مسألة عملية شرعية بإجماع مَنْ سواهم؟ بل لا بُدَّ من إقامةِ حجةٍ عليهم من الكتاب والسنة. ولهذا كان كل فريق من أهل البدع لا بُدَّ أَنْ يكون في الكتاب والسنة ما يُبَيِّنُ فساد بدعتهم، وإذا احتج عليهم بالإجماع يحتج عليهم بإجماع مَنْ قبلهم من الصحابة لا بإجماع غيرهم من أهل عصرهم. فتبين أنه لا يمكن الاحتجاج في المسألة بإجماع مَنْ بعد الصحابة والتابعين على من نازعهم في ذلك من أهل عصرهم من أي طائفة كانت (1)، لكن إِنْ كان معهم إجماع قديم احتجوا به على مَنْ نازعهم، وإلا احتجوا عليهم بالكتاب والسنة. _________ (1) في الأصل: (كان)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/764)


[215/ ب] وأيضًا؛ فالمسائل التي أجمع التابعون فيها على أحد قولي الصحابة، إنما أجمعوا لظهورِ سنةٍ لهم صَدَرَ الإجماع عنها؛ كديةِ الأصابع، وَعِدَّةِ المتوفَّى عنها الحامل (1)، ونحو ذلك مما لا يعلم بين العلماء المشهورين المتأخرين فيه نزاعًا، وإن كان قد يكون فيه خلاف لا نعلمه، لا يجمعون على قول يكون القرآن والحديث والقياس يدل على نقيضه، فإنَّ هذا لم يقع قط. الوجه الرابع: أَنَّ جميع أئمة المسلمين كانوا يدونون ألفاظ الصحابة والتابعين في العلم وينقلونها، بل هذا كان هو العلم عندهم بعد ألفاظ القرآن والحديث، وكانت الكتب المصنفة مثل: موطأ مالك بن أنس، ومصنف ابن جريج، وسعيد ابن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وسفيان الثوري. ومن بعدهم مثل: ابن المبارك، وابن وهب، وعبد الرزاق، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وسعيد بن منصور وغيرهم. ومن بعدهم مثل: كتب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، ومحمد بن نصر= مملوءة بأقوالهم. وكذلك كتب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن مملوءة بأقوال السلف من الصحابة والتابعين؛ فإنْ كانت مذاهبهم لا تعرف من أقوالهم، فقد أجمع أهل (2) المذاهب المشهورة وغيرهم على أخذ العلم من أقوالٍ لا تفيد العلم بمراد أصحابها، وما أشبه هذا بقول مَنْ يقول مِن _________ (1) تقدم تخريجهما في (ص 743). (2) في الأصل بعد ذلك: (العلم) ويظهر عليها أثر شطب الناسخ لها.

(2/765)


الملاحدة: إنَّ ألفاظ القرآن والحديث لا تدل على مراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك مَنْ قال: ألفاظ الصحابة والتابعين وتابعيهم لا يُعرف منها مرادهم! الوجه الخامس: أَنَّ العامي المجرَّد لا يعرف المراد بألفاظ القرآن والحديث إن لم يكن له مَنْ يجمع له بين ناسخها ومنسوخها، ومجملها ومفسرها؛ فكيف يمكنه وحده معرفة قول بعض السلف؟! ولكن العالم [هو] (1) الذي يعرف كثيرًا من أقوالهم. وحينئذٍ؛ فإذا أخبره العالم بقول الثوري والأوزاعي فهو كما لو أخبره بقول مالك وأبي حنيفة، لكن لا ريب أَنَّ من الناس مَنْ هو بمذهب أبي حنيفة أعلم، ومنهم مَنْ هو [216/ أ] بمذهب مالك أعلم، ومنهم من هو بمذهب الشافعي أعلم، ومنهم من هو بمذهب أحمد بن حنبل أعلم، ومنهم من هو بمذهب الثوري أعلم، ومنهم من هو بمذهب إسحاق أعلم، ومنهم من هو بمذهب داود أعلم، ومنهم من هو بمذهب الأوزاعي أعلم. ولكن مع هذا؛ يذكر المصنفون في كتبهم في الخلاف ما يعرف به مذهب غيرهم، ويذكرون من الأقوال ما يعرف به مذاهب الصحابة والتابعين، وما زال العلماء يتداولون نقل مذاهب السلف ويذكرونها في كتبهم. وإذا قُدِّر غلط في بعض ذلك أو خفاء أقوالهم في بعض ذلك؛ فالمذهب المشهور الذي تَرَبَّى الإنسان على معرفته، يَغلطُ كثيرًا في نقل مسائله، ويخفى عليه كثير منه؛ فالغلطُ في بعضِ الأمور لا يوجبُ الغلطَ فيما _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(2/766)


ضبطوه، والجهل بما خفي لا يوجب الجهل بما علم (1). الوجه السادس: قوله: (لا كَفُتْيَا مُطْلَقَةٍ تُنقل عن إمامٍ، لا يُدرى ما أراد بها، وهل اقترن بها أمرٌ يقتضي ذلك أم لا؟). يقال له: إِنْ كانَ أَخْذُ مذاهبِ السلف من فتاويهم المنقولة عنهم لا يجوز، فما نقلته عن السلف من مذاهبهم في الطلاق باطل. فإنك إنما معك فتاوى منقولة في قضايا جزئية، وقصةُ ليلى بنت العجماء مِنْ أَبْيَنِ وَأَحْسَنِ ما نقلَ من فتاويهم، فإنْ كنت لا تدري ما أرادوا بها، ويجوز أَنْ يكون هناك قرائن تخالف ما ظهر منها وَدَلَّتْ عليه = فَجَوِّزْ ذلك فيما نقلته من فتاويهم في الطلاق، لا سيما وأكثرُ ما نقلته تعليق يحتمل قصد الإيقاع عند الشرط ويحتمل قصد اليمين، لا سيما وقد غلطت في أكثر ما نقلته عنهم في الحلف بالطلاق، فإنَّ كثيرًا مما نقلته عن الصحابة والتابعين إنما هو في تعليق الطلاق على الملك، وظننت هذا في الحلف الذي ذُكِرَ فيه النزاع هل يكفَّر أم لا يكفر؟ فلم تُفَرِّق بين من يقصد إيقاع الطلاق عند الصفة وبين مَنْ يكره وقوعها وإِنْ وجدت الصفة، وإنما علقها لقصد الحلف بها، وحكيت مذاهبهم، فقد ظهر من غلطك في نقل مذاهبهم ما لم يظهر من غلط غيرك. ودعواك [216/ ب] أنه لا يُعرف ما أرادوا بفتاويهم= إقرارٌ منك بأنك لم تفهم مرادهم، وإقرارك حجةٌ عليك لا على غيرك؛ وأما غيرك ممن قد عَرَفَ _________ (1) انظر في أثر تربية الإنسان على قول أو اصطلاح: مجموع الفتاوى (20/ 453) (26/ 202)، الفتاوى الكبرى (1/ 461 - 462). وانظر ما تقدم (ص 451).

(2/767)


مرادهم كما عرفه سائر علماء المسلمين ونقلوا مذاهبهم، فإنه ــ ولله الحمد ــ نَقَلَ مذاهبهم نقلًا صحيحًا، كما نَقل ذلك مَنْ قبله من العلماء. والعلماء الذين بلغهم حديث ليلى بنت العجماء كلهم نقلوا عن الصحابة قولهم في الحلف بالنذر، بل ونقلوا قولهم في الحلف بالعتق، كما نقل ذلك أبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وأبو بكر بن المنذر وأبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم وغيرهم من العلماء. وَمَنْ لم يَسمع العتق أو سمعه ولم يعرف أنه ثابت لم ينقله، ومن نقل إجماعًا في الطلاق كأبي ثور فقد اعترف بأنَّ مرادَه بذلك أني لا أعلم نزاعًا. كما أَنَّ أحمد بن حنبل لَمَّا قال: لم يروه إلا سليمان التيمي؛ فمراده: أني لا أعلم رواه إلا التيمي، فأحمد نَفى رواية غير التيمي بحسب ما بلغه، وأبو ثور نفى قولًا آخر في الطلاق بحسب علمه، فنفي الرواية كنفي الرأي = كُلُّ ذلكَ ينفيه مَنْ ينفيه بحسب علمه واجتهاده؛ ولهذا دائمًا يبلغ هذا ما لا يبلغ هذا، فَيُثْبِتُ من الروايات والأقوال ما لا يعلمه الآخر. الوجه السابع: أَنْ يقال: كثيرٌ من مذاهب الصحابة والتابعين تكون منقولة في الأمة خلفًا بعد سلف، بل تكون منقولة بالتواتر أعظم من تواتر نقلِ كثيرٍ من مذاهب الأئمة المشهورين. فقول زيد - رضي الله عنه - في الفرائض أشهر عند الأمة مِنْ قول أَحَدِ الأئمة الأربعة في الفرائض، بل قول عمر - رضي الله عنه - في العول أشهر عند الأمة من أكثر مذاهب الأئمة عند أتباعهم، وكذلك قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في العول يعرفه عامة العلماء، وهو متواتر بينهم ــ وإِنْ كان جمهورهم لا يقولون به ــ

(2/768)


أكثر من تواتر كثير من مذاهب الأئمة عند أصحابها (1)، بل قوله في المتعة والصرف أشهر من كثير من أقوال المتبوعين من العلماء مع أنه قول مرجوح [217/ أ] مخالفٌ للنص، وجمهور الأمة على خلافه. فإذا كان قول الواحد من الصحابة مع ضعفه قد تداولته الأمة خلفًا عن سلف وتواتر بينهم؛ فكيف بأقوالهم القوية التي اتبعها جمهورهم؟! وحديث ليلى بنت العجماء مما وافقه جمهور الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وفقهاء الحديث قاطبة يعملون به، فهو متلقَّى عندهم، متواتر بينهم، لكن بعضهم بَلَغَهُ بعضُ طرقه، وبعضهم بلغه طريق آخر أو طريقين، والذين بلغهم ذلك أثبتوا ما فيه ولم يَختلفوا، فلم يختلف أحد ممن بلغه طريق أشعث مع طريق التيمي في أَنَّ فيه ذكر الحلف بالعتق بقولها: (وكل مملوك لي حر إِنْ فعلت)؛ وهذا مثل أبي ثور وابن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم = كُلُّهم أثبتوا فيه ذكر العتق ونقلوه عن أولئك الصحابة - رضي الله عنهم -. الوجه الثامن: قوله: (وكنا نَوَدُّ لو دُوِّنَتْ تلك المذاهب كما دُوِّنَتْ هذه) (2). فيقال: قد دُوِّنَتْ ــ ولله الحمد ــ ألفاظها بأعيانها في غير مصنف كما دونت (3) ألفاظ الأئمة، وَمَنْ نُقِلَ لَفْظُهُ على وجهه كان أبلغ من أن ينقل قوله _________ (1) انظر هذه الآثار في الجامع لأحاديث وآثار الفرائض (ص 311 وما بعدها). (2) «التحقيق» (46/ أ). (3) كتب الناسخ في الهامش: (دون)، وكتبها عليها (صح) وحرف (خ).

(2/769)


بالتصرف الذي يقع فيه خطأ كثير، كما نقل الخراسانيون مذهب الشافعي بتصرفهم، فيخطئون كثيرًا فيما ينقلونه، بخلاف مَنْ يَنقل ألفاظه كالعراقيين. فنقل مذاهب السلف المنقولة ألفاظها على وجهها أَصَحُّ مِنْ نقل طائفة من مذاهب الأئمة المشهورين. الوجه التاسع: قوله: (ولكن في الكتاب والسُنة التي تَكَفَّلَ الله بحفظهما كفاية عن كل مذهب، وغناء عن قول كل قائل) (1). فيقال: هذا حق لمن استدل بهما، وَعَلَّقَ الأحكام بما دَلَّا عليه نصًّا واستنباطًا، وأما من عكس هذه الطريقة مثل مَنْ يُلغي ما دَلَّا عليه، ويعتبر ما ألغياه = فهذا ممن قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَ ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؛ فماذا تغني عنهم؟!» (2). وهذا حال أهل الأقوال المبتدعة أَصَّلُوا لهم أصلًا بلا كتاب ولا سنة، ثم تأولوا ما جاء من الكتاب والسنة يخالف قولهم، كما فعلت الجهمية والرافضة ونحوهم من أهل البدع، وكل قول يخالف دلالة الكتاب والسنة [217/ ب] فهو قول مبتدَع، وَإِنْ كان قائله مجتهدًا مثابًا مغفورًا له، وإن كان من أفاضل الأولين والآخرين. _________ (1) «التحقيق» (46/ أ). (2) أخرجه الدارمي (1/ 333)، والترمذي (2653)، والبيهقي في المدخل (2/ 301) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريب. وقال الحاكم (1/ 179): هذا إسناد صحيح من حديث البصريين.

(2/770)


ومن ذلك: أَنْ يجعل كونُ الكلام تعليقًا هو الوصف الشرعي المؤثِّر في الحكم الشرعي، ويجعل كونه يمينًا وصفًا ملغًا مهدرًا في الشرع، فإذا كان الكلام تعليقًا ويمينًا ألغى كونه يمينًا واعتبر كونه تعليقًا = فهذا ممن لم ينتفع بالكتاب والسنة، كما لم ينتفع بهما مَنْ خالف مدلولهما. الوجه العاشر: أَنْ يقال له: إذا كان فيهما كفاية؛ فمعلومٌ أنه لا ينعقد إجماع إلا وفيهما ما يدل على مثل ما انعقد عليه، وإلا فلو انعقد إجماع على حكم لا يكون فيهما لم يكن فيهما كفاية. فإنْ قال: هما دَلَّا على كون الإجماع حجة، والإجماعُ يحتج به على الأحكام. قيل له: فيحتاج حينئذٍ أَنْ يَحفظ أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم التي بها يُعرف الإجماع والنزاع، فالاكتفاء بالكتاب والسنة مع دعوى الإجماع لا تمكن إلا إذا كان ما انعقد عليه الإجماع مما دَلَّا عليه، فتكون دلالتهما موافقًا للإجماع، أو أن يكون أقوال أهل الإجماع والنزاع مما يجب الاعتناء بها ونقلها، وإلا فالإعراض عنها مع الاحتجاج بقولهم من غير دلالة الكتاب والسُنة عليها = تناقض؛ كما فعل هذا المعترض حيثُ يَدَّعِي الاكتفاء بهما، وَيَدَّعِي الاستغناءَ عن نقلِ أقوالِ السلف من الصحابة والتابعين، ثم مع ذلك يحتج بنقل إجماعٍ على حكمٍ لم يدل عليه كتاب ولا سنة، بل الكتاب والسنة والقياس يدل على نقيض ما ادعى من الإجماع، ومع أنه لا إجماع فيه، لكن القول المخالف للكتاب والسنة جاء من عند غير الله، فيوجد فيه اختلافٌ كثيرٌ؛ كقول المعترض وأمثاله في مسائل الأيمان والتعليقات تعليق الطلاق والنكاح وغير ذلك، ففيها من التناقض والاضطراب ما يطول بوصفه الكتاب؛ والله أعلم.

(2/771)


ومعلومٌ أنه لا يمكن معرفة إجماعهم وتنازعهم إلا بعد معرفة أقوالهم، فإنْ كانت أقوالهم لا يحتاج إليها، فلا يُحتجُّ بإجماعهم ولا يُذكر نزاعهم، فإنْ ذكر إجماعهم [218/ أ] ونزاعهم فلا بُدَّ من معرفة أقوالهم، وأما أَنْ يحتج بنقل إجماعهم مع أَنَّ غايتَهُ ظَنٌّ من الناقل لا علم له به، ويترك نقل نزاعهم الذي هو إما معلوم وإما مظنون ظنًّا أقوى من ظن نفي النزاع؛ فهذا فعل المطففين الذين لا يعدلون في ميزان العلم والمعاني التي هي أحق بالعدل فيها من ميزان الأموال والدراهم. وأما ما ذكر من إشارة بعض شيوخه عليه بالاعتناء بجمع ما يتصل إليه من الروايات من مذاهب السلف؛ فهذا يدل على أَنَّ شيخَهُ هذا مفرطٌ في الجهل بما فعله العلماء من ذلك وبقدر المسؤول، فإنَّ هذا الباب قد أمعن العلماء فيه، ومصنفات السلف كلها كانت من هذا الباب مثل: موطأ مالك، وجامع سفيان، ومصنف ابن جريج وحماد بن سلمة وسعيد بن أبي عروبة، ثم مصنفات عبد الله بن المبارك وعبد الله بن وهب ووكيع بن الجراح وهشيم بن بشير (1) وعبد الرحمن بن مهدي وأمثال هؤلاء، ثم مصنف عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة، ثم مصنفات الشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأصحاب أحمد مثل: الأثرم وحرب الكرماني وصالح وعبد الله ابني أحمد وأبي بكر المروذي وأمثال هؤلاء. لكن منهم مَنْ يُجَرِّدُ الآثار؛ فيذكر أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين لا يخلط بشيء من الكلام والبحث، ومنهم مَنْ يخلطها بشيء من ذلك. _________ (1) في الأصل: (بسر)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/772)


وأما تصنيف أقوال العلماء من غير آثار تُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، فهذا مما أحدثه المتأخرون، لم يكن شيء منه في عهد السلف، وليس هذا مما يصلح له شيوخ شيوخ المعترض، فضلًا عنه وعن أمثاله، ويكفيك دليلًا على إفساد أقوال السلف ما فعله بهذا الأثر المشهور عندهم، الذي اتفقوا على تلقيه بالقبول والتصديق وعلى معرفة معناه، كيف بَدَّلَ من إجماعهم بتعليل إسناده وتحريف معناه، ثم يعتمد عليهم في نَقْلِ إجماعٍ نَقَلَهُ منهم واحد وتبعه بعضهم ونازعه بعضهم، وليس مع ذلك الناقل إلا ظَنٌّ لا يغني من [218/ ب] الحق شيئًا، فَيَدَعُ ما علموه من نقلهم، وجزموا بصحته، وتلقوه بالقبول، ويحتج من نقلهم بما غايته أَنْ يكون ظنًّا إذا لم يكن خطأ، فكيف إذا تبيَّن أنه خطأ؟! وهذه عادات أهل الجهل والبدع يَطعنون في المنقولات الصحيحة الثابتة، ويحتجون بالنقول الضعيفة، وهذا معروفٌ فيهم في مسائل الأصول والفروع، فتجدهم في مسألة الرؤية يَعدلون عن الأحاديث الصحاح المتواترة عند أهل الحديث المتلقاةِ بالقبول وما يوافقها من آثار الصحابة والتابعين [إلى] (1) آثار ضعيفة ساقطة لا تُعرف إلا عن مجهول أو متهم. وكذلك في باب صفات الله ــ تعالى ــ وَعُلُوِّهِ يعدلون عما في القرآن والأحاديث الصحيحة وآثارِ الصحابة والتابعين الثابتة عنهم إلى آثارٍ موقوفة ومرفوعة موضوعة. وكذلك الرافضة يعدلون عن الأحاديث الصحيحة المتواترة إلى _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(2/773)


الأحاديث الموضوعة الضعيفة. وكذلك المسائل العملية تجد أصحاب الأقوال الضعيفةِ يعدلون عن الآثار الصحيحة المتلقاةِ بالقبول والتصديق عند أهل النقل إلى الآثار الواهية؛ كالآثار في مسألة المسكر، والآثار في سهم الفارس، والآثار في طواف القارن وسعيه، والآثار في فسخ الحج إلى العمرة، والآثار في خيار المجلس، والآثار في سجدات المُفَصَّل، والآثار في أنه لا يقتل مسلم بكافر، والآثار في حرم المدينة وأمثال ذلك. وكذلك دعوى الإجماعات في خلاف ما ثبت بالآثار، بل ونصوص القرآن؛ تارة بدعوى الإجماع على نسخها وإن كانت في القرآن والسنة المعلومة، وتارة بدعوى الإجماع على خلافها، كدعوى من ادعى الإجماع على جواز نكاح الزانية (1)، وأَنَّ يكون الرجل ديوثًا (2)، وكدعوى من ادعى نسخ العقوبات المالية (3)، وكدعوى من ادعى الإجماع على أنه لا يجوز أَنْ يُكَبَّرَ على الجنائز أكثر من أربع (4)، ودعوى من ادعى الإجماع على وجوب الثمانين في حد الخمر (5)، ودعوى من ادعى الإجماع على خلاف حديث _________ (1) انظر ما تقدم (ص 182). (2) انظر ما تقدم (ص 683). (3) مجموع الفتاوى (20/ 384) (28/ 109، 596) (29/ 294)، الفتاوى الكبرى (4/ 211)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 341)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 49)، منهاج السنة (3/ 441). وانظر مبحثًا لابن القيم في الطرق الحكمية (2/ 688). (4) انظر ما تقدم (ص 185). (5) انظر ما تقدم (ص 185).

(2/774)


المُصَرَّاة (1)، ودعوى من ادعى الإجماع على أنه لا تقبل شهادة العبد، وأنس بن مالك يَذْكُرُ [219/ أ] أنه لم يَعرف أحدًا رَدَّ شهادة العبد (2)، ودعوى من ادعى الإجماع على أنه لا تُقصر الصلاة في أقل من يومين (3)، ومثل هذا كثير. ثم من كان من الظانين للإجماع من أهل العلم والدين، إنما يظنه لأنه لم تبلغه الآثار في النزاع فهو معذور، وآخرون تبلغهم الآثار الثابتة المسندة في خلاف ما يظنونه من الإجماع، فيسلكون السبيل التي سلكها هذا المعترض، يسلكون في تلك الآثار الثابتة سندًا ومتنًا ثم إلى تعليل سندها وتأويل متنها، وليس معهم ما يعارضها إلا ظَنٌّ كاذب لإجماع لا حقيقة له. ولهذا كان أئمة السنة كأحمد بن حنبل يَعُدُّ هؤلاء من أهل البدع المذمومة، كما قال في رواية ابنه عبد الله: (مَنِ ادعى الإجماع فقد (4) كذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم) (5). وهذان من أكابر فقهاء الجهمية. أما الأصم عبد الرحمن بن كيسان (6): فكان من أكابر شيوخ أهل الكلام بالبصرة، وهو شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة الذي كان يناظر _________ (1) انظر ما تقدم (ص 186). (2) انظر ما تقدم (ص 187). (3) انظر ما تقدم (ص 183، 695). (4) في الأصل: (فهو)، وصوابها ما أثبتُّ. (5) تقدم في (ص 604). (6) انظر ترجمته في: طبقات المعتزلة (ص 56)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 300)، سير أعلام النبلاء (9/ 402)، لسان الميزان (5/ 121)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 274).

(2/775)


الشافعي بمصر، ويكتب كُلٌّ منهما ردًّا على الآخر، وكان الشافعي - رضي الله عنه - يقول فيه: (إبراهيم بن علية ضالٌّ على باب الضوال، يُعَلِّمُ الناسَ الضلال) (1). وهو الذي يذكر له أقوال شاذة في الأصول. وأبوه: إسماعيل بن عُلَيَّة من شيوخ أهل العلم والدين، أَخَذَ عنه الشافعي وأبو يوسف وأحمد بن حنبل وغيرهم (2). وبشر المَرِيْسِي كان ــ أيضًا ــ من أهل الرأي والكلام، وله مع الشافعي مناظرات معروفة، وكان من دعاة الجهمية في محنتهم (3)، ولهذا صَنَّفَ أهل السنة والإثبات رَدًّا عليه وعلى أصحابه، كما صنف عثمان بن سعيد الدارمي وغيره (4). فهذان وأمثالهما كانوا إذا أتاهم غيرهم بآثارٍ لا يعرفونها = دفعوها بما يزعمونه من الإجماعات المدعاة؛ فلهذا قال أحمد: هذه دعوى بشر المريسي والأصمِّ: وكان أحمد يُذَاكَرُ (5) في المسألة. فيقال له: قالوا: فيها _________ (1) أسند هذه الكلمة: البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 457)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6/ 513). (2) وممن نبَّهَ على ذلك: ابن تيمية في الاستقامة (1/ 337)، وابن القيم في الكلام على مسألة السماع (ص 355 - 356)، وابن حجر في الفتح (9/ 352). (3) هو: بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي، غلب علبه علم الكلام حتى صار من أعيان الجهمية، ولد سنة (138)، وتوفي سنة (218). انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (7/ 531)، المنتظم (11/ 31)، سير أعلام النبلاء (10/ 199). (4) طبع محققًا عدة مرات، وقد حُقِّقَ في رسالة جامعية، طُبعت بمكتبة الرشد الطبعة الأولى عام 1418 هـ، باسم «نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد». (5) في الأصل: (يذاكره)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/776)


إجماع. فيقول: هل عندهم فيها أثر قديم عن الصحابة أو التابعين؟ فيقولون: لا. فيذكر أَنَّ إجماعهم [219/ ب] ليس بشيء، فإنه دعوى يُعلم أَنَّ مدعيها يقول ما لا يَعلم، فإنه إذا ادعى أنه قد عَلِمَ إجماعَ الأمة في القرون المتأخرة مع تفرقها وانتشارها = فهذا مما نجزم قطعًا بأنه لا يعلمه، وإذا لم يكن معه إلا الاستقراء وهو تتبع أقوال العلماء ولم يجد خلافًا؛ فهذا يكون بحسب علمه، فأكثر المنتسبين إلى العلم لا يُحَصِّلُ لهم هذا الاستقراء لا علمًا ولا ظنًّا، لأنه ليس لهم خبرة بأقوال جميع العلماء مع كثرتهم وانتشارهم، والذين كانوا يقولون هذا لاطلاعهم على أكثر أقوال العلماء يصيبون في كثير مما ينقلونه، ويخطئون في بعض ما ينقلونه، فالمكثر (1) منهم لنقل الإجماع في هذه المسائل الظنية يكثر خطؤه، والمُقِلُّ (2) منهم لنقل الإجماع فيها يقل خطؤه، ولست أعلم أحدًا ممن يَنقل الإجماع في مثل هذه المسائل إلا وقد وجدنا فيما ينقله من الإجماعات ما فيه نزاع لم يعلمه. وأما الإجماعات التي ينقلونها وهي صحيحة فتجدها مما دَلَّ عليه الكتاب والسنة؛ فلست أعلم إجماعًا صحيحًا إلا ومعه دلالة من الكتاب والسنة توافقه، ليكون مخالف الإجماع المقطوع به داخلًا في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. * * * * _________ (1) في الأصل: (فالمنكر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (والنقل)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/777)


فصلٌ قال المعترض: (قال المجيب بعد أَنْ حكى عن أبي محمد المقدسي [ما] ذكره في شرح الخرقي (1) [من] وقوع العتق في ذلك، مستدلًّا بأنه عُلِّقَ على شرط، وهو قابل للتعليق، فيقع بوجود شرطه (2) كالطلاق. وأَنَّ أحمد قال في حديث أبي رافع: كَفِّرِي يمينك وأَعتقي جاريتك؛ وهذه زيادة يجب قبولها، ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها. قال: قلتُ: القياس المذكور عندهم ينتقض (3) بكل ما يعلقه بالشرط: من صدقة المال، والمشي إلى مكة، والهدي. وقوله: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُعتق أو أُطَلِّق، وقوله: إِنْ فعل كذا فهو يهودي ونصراني وأمثال ذلك مما صيغته صيغة الشرط وهو عندهم يمين اعتبارًا بمعناه (4). قلت (5): النقضُ المذكور لا يصح؛ لما تقدم من الفرق بين تعليق الالتزام [220/ أ] وتعليق العتق والطلاق، وقد تقدم ذلك مستوفًى فلا حاجة لإعادته. _________ (1) المغني (13/ 479). (2) في الأصل: (شرط)، والمثبت من «التحقيق». (3) في «التحقيق» والفتوى المعترض عليها: (منتقض). (4) مجموع الفتاوى (33/ 194) وهي الفتوى المعترض عليها. (5) القائل هو: المعترض.

(2/778)


واستعملَ النقضَ في القياس وهو (1) إنما توصف به العلة. وقوله: (وهو عندهم يمين اعتبارًا بمعناه (2))؛ موافقٌ لما قلناه من موافقة التعليقات المذكورة لليمين بالله في الالتزام، فلذلك جُعِلَت يمينًا، لا أَنَّ المعتبَر كونُ الحَثِّ والمنع حاصلًا فيها خاصة، لأنَّ الحَثَّ والمنع فرعٌ عن الالتزام الحامل (3) عليه) (4). والجواب من وجوه: أحدها: قول المعترض: (إِنَّ النقض المذكور لا يصح؛ لما تقدم من الفرق بين تعليق الالتزام وتعليق الطلاق والعتق) كلامٌ يتضمن الجهل بمعنى القياس صحيحه وسقيمه، والفرق بين زائغه ومستقيمه؛ وذلك: أَنَّ القياس إذا انتقض بصورة من الصور = كان هذا سؤالًا صحيحًا باتفاق الناس، لم يختلفوا أنه إذا وجد الوصف الذي عُلِّقَ به الحكم في القياس بدون الحكم أَنَّ هذا قياس منتقضٌ، وَأَنَّ هذا سؤال وارد. لكن مَنْ يقول بأن العلة لا يجوز تخصيصها يقول: بأنَّ هذا يستلزم فسادَ القياس ولا جواب عنه، ويقول: إنه متى انتقضت العلة فسدت. وَمَنْ يقول بأنه يجوز تخصيصها إما لفوات شرط وإما لوجود مانع، أو مَنْ يُجَوِّزُ تخصيصها لمطلق الدليل فإنه يجيز النقض بالفرق؛ فيفرِّق بين _________ (1) في «التحقيق»: (وهذا). (2) في الأصل: (معناه)، والمثبت من «التحقيق» وما تقدم. (3) في الأصل: (الحاصل)، والمثبت من «التحقيق». (4) «التحقيق» (46/ أ - ب)، وما بين المعقوفتين إضافة يقتضيها السياق.

(2/779)


صورة النقض وبين الأصل بِفَرْقٍ مشترَكٍ بين الأصل والفرع منتفٍ في صورة النقض، لأنَّ الوصف وُجِدَ في الأصل مقرونًا بالحكم، ووجد في صورة النقض بدون الحكم، فليس إلحاق الفرع بصورة الأصل أولى من إلحاقه بصورة النقض، فإنَّ الوصف موجود في الصور الثلاث، والحكم موجودٌ معه في صورةٍ معدومٌ معه في صورةٍ أخرى، وصورة النزاع محتملة، فليس جعلها لأجل الوصف كالأصل بأولى من جعلها مع الوصف بصورة النقض. والناس هنا لهم ثلاثة أقوال، هي ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره؛ أحدها: [220/ ب] أنهم لا يقبلون الجواب عن النقض، لقولهم: إِنَّ العلة إذا خُصَّت تبين فسادها. والثاني: يقبلون الجواب بذكر دليل يخص صورة النقض بانتفاء الحكم فيها، وهم الذين يُجَوِّزُون التخصيص لمطلق الدليل، ويقولون بالاستحسان الذي هو تخصيص العلة لمجرد دليل لا لمعنًى مؤثِّر. والثالث ــ وهو أصح الأقوال ــ: أنه يقبل الجواب ببيان فرقٍ مؤثر يوجب مفارقةَ النقض للأصل والفرع بوصفٍ اختصَّ (1) به دونهما؛ أوجب انتفاء الحكم عنه، كتخلف الحكم لفوات شرطٍ أو وجود مانع (2). والنزاع بين مَنْ يقول بتخصيص العلة لمعنى مؤثر ومن يمنعه نزاعٌ لفظي؛ فإنَّ العلة قد يراد بها العلة التامة المستلزمة للحكم (3)؛ فهذه يدخل _________ (1) أعاد الناسخ كتابة هذه الكلمة في الهامش، وفوقها: (بيان). (2) انظر ما تقدم (ص 10). (3) جامع المسائل (قاعدة في الاستحسان) (2/ 117)، شرح الأصبهانية (ص 58).

(2/780)


فيها كل معنى ينتفي الحكم بانتفائه، مثل: جزء العلة وشرطها وعدم المانع، وهذه متى انتقضت بطلت. ويراد بالعلة: المعنى المقتضي للحكم وَإِنْ كان له شروط وموانع؛ فهذه يجوز تخصيصها لفواتِ شرطٍ أو وجود مانع. وأما التخصيص بدليل لا يبين الفرق المعنوي؛ فهذا لا يقبل إلا إذا كانت العلة ثابتة بنص أو إجماع، والتخصيص كذلك، فيكون الحكم في الحقيقة ثابتًا بالخطاب، ويكون التخصيص من باب تخصيص الألفاظ لا من باب تخصيص المعاني. إذا عُرِفَ هذا؛ فهذا القياس المذكور في أَنَّ العتق المعلق بالصفة يقع وَإِنْ قصد به اليمين. قيل فيه: بأن العتق عُلِّقَ على شرطٍ وهو قابل للتعليق فيقع بوجود شرطه، كالطلاق. والقائسون بهذا القياس لم يقيموا دليلًا لا من نَصٍّ ولا إجماع على أَنَّ كُلَّ قابلٍ للتعليق إذا عُلِّقَ بأيِّ شرطٍ كان وقع، وهم يقولون: إن النذر قابل للتعليق، وإذا عُلِّقَ بشرط فَإِنْ كان على وجهِ اليمين لم يلزم، وإِنْ كان على وجه التقرب لزم؛ فَيُقَسِّمُونَ القابل للتعليق إذا عُلِّقَ إلى قسمين: قسم يلزم؛ وهو إذا قصد وجود الجزاء عند الشرط. وقسمٌ لا يلزم؛ وهو إذا قصد به اليمين. [221/ أ] فإذا قالوا ذلك؛ ثم ذكروا عن منازعيهم من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم من الفقهاء أَنَّ العتق المعلق بالصفة إذا قصد به اليمين لم يلزم وإذا قصد به الإيقاع لزم، كما قالوا هم في تعليق النذر، فإذا احتجوا عليهم

(2/781)


بقولهم: العتق عُلِّقَ على شرط وهو قابل للتعليق فيقع كالطلاق = كان هذا القياس منتقضًا بالنذر المعلَّق على شرط إذا قُصِدَ به اليمين فإنه قابل للتعليق، وهو لا يلزم إذا قصد به اليمين. ولا فرق بين أن يكون المعلق وجوبًا في الذمة أو حكمًا في عين من الأعيان، فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي ففرسي هذه حبسٌ في سبيل الله أو فشاتي أضحية أو هدي ونحو ذلك جاز، ولو قصد به اليمين لم يلزم. وكذلك لو قال: إِنْ شفى الله مريضي فداري وقفٌ على المساكين جاز في أحد الوجهين في مذهب أحمد، ولو قصد به اليمين لم يلزم. وكذلك لو قال: إِنْ شفى الله مريضي فَكُلُّ شيءٍ لي على الناس فهم في حِلٍّ منه صَحَّ ذلك في أظهر القولين. ولو قصد به اليمين لم يلزم مثل أَنْ يقول: إِنْ سافرت معكم فمالي هدي ودُوْرِي وقف ومالي على الغرماء صدقة عليهم ونحو ذلك. فالمقصود: أنه إذا قاس قياسًا، فذكر وجود الوصف بدون الحكم، كان هذا نقضًا واردًا على القياس بلا ريب، ثم إِنْ كان هناك فرقٌ صحيح كان من باب الجواب عند من يجيز النقض بالفرق، ومَنْ لا يقبله يقول: كان ينبغي له أن يذكر في العلة. فهذا الفرق الذي ذكره المعترض لو كان صحيحًا كان ينبغي عند هؤلاء أَنْ يذكر في القياس، فيقال: عُلِّقَ على شرطٍ على غير وجه الالتزام، أو حُكْمٌ في عينٍ معينةٍ عُلِّقَ على شرطٍ، ومن يقبل جواب النقض فإنه يَعترف بأنه سؤالٌ صحيحٌ لكن بذكر الفرق، لا نقول ــ كما قال المعترض ــ: (إِنَّ هذا

(2/782)


النقض لا يصح، لما ذكره من الفرق)؛ فإنه لو كان [ذا] (1) صحيحًا لما جاز أن يورد سؤال النقض على قياسٍ [221/ ب] إلا إذا لم يكن عنه جواب. الوجه الثاني: أَنْ نقول: ما ذكرته من الفرق باطلٌ من سبعةِ أوجهٍ؛ فإنه غير مُطَّرِدٍ في النقض، ولا ينعكس في الأصل، ولا مؤثر في الشرع؛ وبيان ذلك: أَنَّ المفرِّق إذا فَرَّقَ بين صورتين بوصفٍ اقتضى الحكم في إحداهما دون (2) الأخرى؛ كما إذا فرقنا بين الخمر والبنج في إيجاب الحد، بأنَّ الخمر مسكر، فيورث لذة وطربًا والنفوس تشتهيها ويدعوا إليها الطبع، فاحتاجت إلى رادعٍ شرعي، بخلاف البنج فإنه وَإِنْ غَيَّبَ العقلَ لكنه لا يُسكر، فليس فيه لذة ولا طرب ولا تشتهيه النفوس وتدعو إليها الطباع؛ وما كان كذلك = لم يحتج إلى حَدٍّ يكون رادعًا كالبول والعذرة؛ وَطَرْدُهُ: الدم والميتة ولحم الخنزير لا حدَّ فيه عند جمهور العلماء، وقد رُوِيَ عن الحسن أَنَّ فيه الحد كالخمر (3). _________ (1) وضع الناسخ ما بين المعقوفتين تحت قوله: (صحيحًا) وبجانبها (صح). (2) كررها الناسخ، ثم ضرب عليها. (3) لم أجده مسندًا عنه، وقد نقله المؤلف عنه في مواضع منها: مجموع الفتاوى (14/ 118) (21/ 570)، الفتاوى الكبرى (1/ 394). وقد جاء في المحلى (ص 2215) بإسناده إلى الثوري في أكل لحم الخنزير قال: في كلِّ ذلك حَدٌّ كحدِّ الخمر. والذي يظهر لي ــ والله أعلم ــ أنَّ هذا خطأ في طبعة المحلى ــ مع مراجعتي عدة طبعات ــ؛ ويدلُّ على ذلك أنَّ ابن حزم روى هذا الأثر من طريق عبد الرزاق ــ وهو في المصنف برقم (13828) ــ ولفظه عند عبد الرزاق: ليس فيه حَدٌّ ولا تعزير. ويؤكد هذا: أنَّ ابن حزم بعد ذلك بدأ في تفصيل الأقوال، فقال: وقولٌ فيه: أنه لا شيء فيه أصلًا، وهو قول سفيان الثوري وأَوَّلُ قولَي عطاء.

(2/783)


فهذا الفرق الذي ذكرناه بين الصورتين يوجب ثبوت الحكم به في أحدهما كأنواع المسكر، وانتفاء الحكم بانتفائه في الأخرى كأنواع البنج، ولولا ذلك لم يكن فارقًا. وهذا المفرِّق إذا فَرَّقَ بأنَّ المعلَّق في النذر كان التزامًا في الذمة قد يفي به وقد لا يفي، والمعلَّق للوقوع حكمٌ في عينٍ لا يتمكن من الرجوع عن مقتضاه = كان صحة فَرْقِهِ مشروطةً بأنه لا يحصل نذر اللجاج والغضب إذا قصد به اليمين يمينًا إلا إذا كان التزامًا في الذمة، وبجعل كل ما كان تعليقًا لحكمٍ في عينٍ من الأعيان كتعليق الطلاق والنكاح لا يلزم وإن قصد به اليمين؛ وهو لم يقل بهذا إلا في صورة الأصل وهو نذر اللجاج والغضب الذي يُقصد به اليمين، ولا في الفرع وهو التعليق الذي يلزمه به. وأيضًا؛ فكل معلِّق لا بُدَّ في تعليقه من التزامٍ في الذمة (1)؛ لكن تارة يكون مطلقًا وتارة يكون معينًا، ولو قال بذلك فليس معه دليل شرعي يقتضي تأثير هذا الوصف، بل الدليل الشرعي يدل على أن المؤثر في سقوط اللزوم ووجوب الكفارة كونه قصد بالتعليق اليمين، لا كونه قصد التزامًا في الذمة؛ فهذه خمسة أوجه تبطل فَرْقَهُ. [226/ أ] أولها: أَنْ يقال: لو كان المعلَّق في صورة النذر الذي يقصد به اليمين وجوبُ شيءٍ بعينه لا التزامًا في الذمة، مثل أَنْ يقول: إِنْ سافرتُ _________ (1) انظر ما تقدم (ص 563).

(2/784)


معكم فإبلي هدي وماشيتي أضاحي وَدُوْرِي وقف ومالي صدقة ونحو ذلك؛ فإنه تجزئه كفارة يمين، والمعلَّق هنا حكمٌ في أعيانٍ موجودةٍ خارجةٍ عن ذمته، ليس المعلَّق مجرَّد التزامٍ في الذمة؛ ومع هذا فلا يلزم إذا قصد به اليمين = فعلم أَنَّ كونَه التزامًا وصف عديم التأثير. الثاني: أنه إذا قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أحج أو أتصدق بألف درهم أو أصوم شهرًا ونحو ذلك مما يلتزمه في نذر اليمين= لزمه بالنص والإجماع، وهو التزام في الذمة وقد لزمه بالنص والإجماع لَمَّا قَصَدَ به النذر، فعلم أَنَّ كونه التزامًا في الذمة لا يمنع من لزومه إذا قام المقتضي للزومه، فلما لم يُلزمه به في صورة نذر اليمين عُلِمَ أنه لم يكن ذلك لكونه التزامًا. الثالث: أَنْ يقال: كل مُعَلِّقٍ لا بُدَّ أنْ يلتزم شيئًا في الذمة؛ لكن تارة يكون مُطْلَقًا كقوله: لله ــ تعالى ــ عليَّ أَنْ أعتق عبدًا، وتارة يكون معيَّنًا كقوله: لله عليَّ أَنْ أعتق هذا العبد، أو فهذا العبد حر. فإنَّ قوله: فهذا العبد حر وإِنْ كان يَعْتِقُ بنفس وجود الصفة، فقد أوجب ذلك عليه في ذمته اعتقاد حُرِّيَّتِهِ وامتناعه من استعباده واسترقاقه، وهذا فعل يجب عليه في ذمته، وهو غير المعين الذي اتصف به العبد، بل هذا حكمه ومقتضاه. وكذلك؛ إذا قال: فهذه الشاة أضحية أو هذا البعير هدي أو فهذا المال صدقة فإنَّ كونَهُ هديًا وصدقة يوجب عليه تسليمه إلى مستحقِّه، فيجب عليه في الهدي سوقه إلى مكة وذبحه هناك، وكونه أضحية يوجب ذبحها في عيد النحر ويقسم لحمها، وكون المال صدقة يوجب عليه صرفه إلى مستحقيه.

(2/785)


وكذلك كون المرأة مطلقة يوجب عليه اعتقاد تحريمها عليه وامتناعه من الاستمتاع بها وتخلية سبيلها وهو التسريح بالإحسان [222/ ب] الذي أوجبه الله ــ تعالى ــ على المطلِّقِ في كتابه حيث قال: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]، وحيث قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. لكن في الهدي والأضحية والوقف والحبس يجب عليه فعلٌ مع الكَفِّ، وفي العتق والطلاق يجب عليه الكف والإمساك، والفعل تابع لذلك. لكن كثرة الواجب هناك لا يُضْعِفُ وجوبه بل يقويه، فإذا كان مع قوته يَسقط مع قصد اليمين، فالواجب القليل أن يسقط مع قصد اليمين أولى وأحرى. الرابع: منع افتراقهما في الوصف الفارق؛ وذلك أَنَّ الوجوب الثابت في الذمة لا يمكن دفعه بعد وقوعه، كما أَنَّ الطلاق والعتاق لا يمكن دفعه بعد وجوبه، وإنما يمكَّنُ من فِعْلِ الواجب وتركه، كما يتمكن من إرسال العبد والمرأة وحبسهما، فأما نفس وجوب الفعل فلا يمكن دفعه، كما لا يمكنه دفع الوقوع. الخامس (1): أَنَّ هذا الفرق عكس ما طلبه؛ فإنَّ الوجوب في الذمة أوسعُ طرقًا وأثبت، والوقوع له شروط وموانع أكثر من الوجوب في الذمة (2)؛ فثبوت الالتزام أقوى من ثبوت الوقوع وأوسع، ولهذا كان ما ثبت _________ (1) في الأصل: (الوجه الخامس)، وحذفت كلمة (الوجه) لئلا يشتبه بالأوجه التي ذكرها في أول جوابه، وليكون مشابهًا لأوجه بيان بطلان فرق المعترض. (2) انظر ما تقدم (ص 573).

(2/786)


في الذمة لا يزول إلا بالأداء، لا يزول ببطلان محله، بخلاف صفات الأعيان فإنها تزول ببطلان محلها، فإذا كان قصد اليمين يمنع وجوب ما يجب في الذمة فَلَأَن يمنع الوقوعَ خارجَ الذمة بطريق الأولى والأحرى. الوجه الثالث (1): أَنْ يقال: هَبْ أنه سُلِّمَ لك كون الكفارة مع الالتزام وسقوطها مع عدم الالتزام؛ فأين الدليل الشرعي الدال على أَنَّ هذا الوصف مؤثِّرٌ في الشرع، هو الذي عَلَّقَ الشارعُ به الحكم؟ ومعلومٌ أنه ليس لأحدٍ أَنْ يُعَلِّق الأحكام الشرعية بما شاء من الصفات، فإنَّ هذا ابتداءُ شرعٍ من تلقاء نفسه، يَدْخُلُ به صاحبه في معنى الذين قيل فيهم: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ [223/ أ] الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وفي معنى الذين ذمهم بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] وأمثال ذلك مما ذم الله به من يحلل ويحرم ويشرِّع بلا كتاب منزل من الله. الوجه الرابع: أَنْ يقال: المعنى المؤثر في سقوط اللزوم ووجوب الكفارة في نذر اللجاج والغضب إنما هو كونه يمينًا؛ كما نَصَّ على ذلك الأئمة والعلماء القائلون بهذا القول، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وكما نص عليه الصحابة والتابعون القائلون بذلك، وهذا الوصف هو المؤثر في الكتاب والسُنة، فإنَّ الله ــ عز وجل ــ جَعَلَ في الأيمان كفارة يمين، ولم _________ (1) في الأصل: (السادس) والذي بعده (الوجه السابع)، ولم يتقدم سوى الوجه الأول والثاني، ولعل هذا بسبب تداخل الأوجه الخمسة التي ذكرها في الوجه الثاني (ص 784 وما بعدها).

(2/787)


يجعل ذلك في غير الأيمان، فلمَّا كان الناذر نذر اللجاج والغضب قَصْدُهُ اليمين وجبت فيه كفارة يمين، وهذا المعنى موجود سواءً كان النذر؛ إما في الذمة فيمكَّن من فعله وتركه، أو وقوعًا مضافًا إلى عينٍ معينة لا يمكن دفعه بعد وقوعه. وهؤلاء قلبوا الشريعة؛ فجعلوا كونه يمينًا ليس هو الموجب للكفارة، ولا كونه غير يمين هو المانع من ثبوتها، بل كونه التزامًا هو الموجب للكفارة، وكونه غير التزام يمنع ثبوت الكفارة، والله ــ سبحانه وتعالى ــ إنما عَلَّقَ وجوبَ الكفارة بكونه يمينًا، وهم قلبوا الشريعة في موضعين: أحدهما: جعلهم الوصف المؤثر في اللزوم كونه تعليقًا. والثاني: كون الوصف المانع من اللزوم كونه التزامًا، وهو في ذلك تعليق؛ وليس معهم دليل شرعي على أن المؤثر في اللزوم هو التعليق، ولا دليل شرعي على أن المانع من اللزوم والموجب للكفارة كونه التزامًا، ولا الوصف الأول مؤثر عندهم، بل كثير من التعليقات لا يجعلونها لازمة؛ ولا الثاني مانعًا، فكثير من الالتزامات يجعلونها لازمة. ثم نَفْيُ وجوبِ الالتزام لا يوجب ثبوت الكفارة، فما الموجب لثبوت الكفارة؟! وإنما الشريعة التي بعث الله ــ تعالى ــ به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الوصف المؤثر في [223/ ب] الوقوع واللزوم كونه مُطَلِّقًا ومعتقًا وناذرًا سواء كان بصيغة تنجيز أو بصيغة تعليق. والوصف الموجب للكفارة المسقطُ للزوم هو كونه يمينًا سواء كان المعلَّق التزامًا أو وقوعًا، وسواء كانت بصيغة تعليق أو صيغة قسم. وَمَنْ تَدَبَّرَ هذه المعاني وتصورها تصورًا جيدًا = عَلِمَ علمًا يقينًا خَطَأَ

(2/788)


هذا القول الذي أهدر فيه المعاني المعتبرة في الشرع، واعتبر المعاني المهدرة، مع تناقض أصحابه، وعلم أَنَّ القول الذي دَلَّ عليه الكتاب والسنة هو موافق للشرع مُطَّرِدٌ غير متناقض. فذاك القول لَمَّا كان من عند غير الله كان فيه اختلافًا كثيرًا، وهذا القول لما كان من عند الله كان متشابهًا يصدق بعضه بعضًا؛ وهكذا جميع الأقوال التي ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها توافق الأدلة الشرعية والعقلية فلا تتناقض، بخلاف الأقوال المخالفةِ لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنها مخالفة للشرع والعقل متناقضة. فصلٌ وأما قوله: (واستعمل النقض في القياس، وهو إنما توصفُ به العلة) فهو مع أَنَّه من المؤاخذات اللفظية التي لو فتح المجيب بابها على المعترض لطال الزمانُ بكثرة ما يرد عليه منها؛ فإنَّ هذا الاعتراض يدل على جهلِ صاحبه، وأنه لم يعرف من كلام الناس في هذا الباب إلا شيئًا يسيرًا؛ وإلا فالنقض لا تختص به العلة كما ادعى هذا المعترض الذي برز على أقرانه وظهر فضله عليهم في فعله ما يعجزون عن فعله، فإنه يتكلم كثيرًا مما لا يحققه، ويقفوا ما ليس له به علم، ويخوض من النقول والبحوث فيما لا يعرف حقيقته. ولا ريب أن المقصرين في هذه المسألة معذورون لكونهم لم يجدوا فيها من النقل والبحث ما يصلون به إلى تحقيقها، لكن من رحمة الله ــ تعالى ــ أنهم ابتداءُ ظنهم أنهم يصلون إلى آخرها من قريب، وأَنَّ فيها نقولًا وأدلة

(2/789)


تشفيهم، فلما أمعنوا النظر والكشف و [البحث] (1)، وطالت مدة النظر والمناظرة، وتبيَّن لكلِّ (2) الناس منها ما لم يكن يعرفه = عَرَفَ ــ حينئذٍ ــ مَنْ عَرَفَ عجزه، وعرف العاقل عذر المقصِّر، وعرف أَنَّ من كمال الدين الذي بعث الله ــ سبحانه وتعالى ــ به رسوله - صلى الله عليه وسلم - اشتمال الشريعة على مثل هذه الحكم [224/ أ] والأحكام التي تبين ما أنعم الله به من كمال دين الإسلام. والمقصود هنا: أَنَّ لفظ النقض لا يختص بالعلة باتفاق النظار المستعملين لهذا اللفظ، بل النقض يرد على الحد والدليل والعلة والقضية الكلية. فالدليل يرد عليه (3) النقض سواء كان قياسًا أو غير قياس؛ فلك أَنْ تقول: دليلك منتقض، ولك أَنْ تقول: قياسك منتقض، ولك أَنْ تقول: عِلَّتُكَ منتقضة، وتقول: ينقض دليله بكذا، ونَقضُ قياسه بكذا، ونقض علته بكذا. وكل ما وَجَبَ طرده وَرَدَ عليه النقض؛ فالحدُّ لمَّا وجب فيه الطرد والعكس فَسَدَ بالنقض، والعلة لمَّا وَجَبَ فيها الطرد ــ عند من يقول بامتناع تخصيصها ــ فَسَدت بالنقض، وَمَنْ يُجَوِّزُ تخصيصها لفوات شرطٍ أو وجود مانعٍ يجيز (4) النقض بالفرق بين صورة النقض وبين صورتي الأصل والفرع. _________ (1) بياض مقدار كلمة، لعلها ما أثبت أو نحوها. (2). في الأصل زيادة: (من)، وحذفها أنسب. (3) في الأصل: (على)، والصواب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (يُجْبِر).

(2/790)


والقياس ــ أيضًا ــ لمَّا وجب فيه الطرد بطرد علته ورد عليه النقض؛ فانتقاض القياس بانتقاض علته، واطراده باطراد علته؛ ولهذا يقال: طرد القياس في كذا، كما يقال: طرد العلة في كذا، ويقال: هذا قياس مُطَّرِد وقياس منتقض (1)، كما يقال علته مطردة، وما اتصف بالطرد عند وجود الاطراد اتصف بالنقض عند وجود الانتقاض، فإنَّ المنتقض ضد المطرد. فصلٌ قال: (وقوله: وهو عندهم يمين اعتبارًا بمعناه؛ موافقٌ لما قلناه من موافقة التعليقات المذكورة لليمين بالله في الالتزام، فكذلك جعلت يمينًا، لا أَنَّ المعتبرَ كونُ الحثِّ والمنع حاصلًا فيها خاصة، لأنَّ الحث والمنع فرعٌ عن الالتزام الحامل عليه). فيقال: تقدم بيانُ أَنَّ هذا خطأ محض على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الصحابة وأكثر التابعين وسائر من وافقهم من علماء المسلمين؛ وذلك من وجوه: أحدها: أَنَّ النذر فيه التزام، بل النذر هو: التزام قربة لله ــ تعالى ــ؛ ومع هذا فالنذر عقدٌ لازم يجب الوفاء به بالنص والإجماع، فلو كان مجرد كون التعليقات موافقة اليمين في الالتزام يشرع تكفيرها من [224/ ب] غير فعلِ ما التزمه = لم يجب على أحدٍ من الناذرين الملتزمين الوفاء بنذره، بل تجزئه كفارة يمين؛ وهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع، وقد ذكر بعض المتأخرين في ذلك نزاعًا عن بعض أهل الحديث؛ كما ذكره ابن عبد البر _________ (1) رسم الكلمة في الأصل: (متلعب)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/791)


وذكره ابن خويز منداد (1) في خلافه عن أحمد. وهذا غلط [على أحمد] (2) وعلى مَنْ نُقِلَ هذا عنه من علماء المسلمين؛ وسبب غلطهم عليه: أَنَّ أحمد وغيره يأخذون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (3) فظنوا أنهم يجوزون تكفير كل نذر من غير وفاء، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من علماء المسلمين، بل يعرف أنه كذب على أحمد وَمَنْ نُقِلَ عنه من العلماء. وأحمد وغيره يوجبون تكفير النذر إذا لم يُوفَ به إما لتفريط وإما لعجز. وأحمد يوجب البَدَل إذا تَعذَّر الأصل، ولا يقول بإجزاء الكفارة، لكن إذا عجز عن الأصل والبدل أوجب كفارة يمين، وَمَنْ فَرَّطَ أوجب عليه البدل والكفارة، وَإِنْ لم يُفَرِّط أوجب البدل وفي الكفارة روايتان، مثلُ ما إذا نذر صيام أيامٍ بعينها؛ فإنْ أفطر لعذر كالمرض أَمَرَهُ بالبدل وهو القضاء وفي الكفارة روايتان، وَإِنْ أفطر لغير عذرٍ أمره بالبدل وهو القضاء وبالكفارة، _________ (1) في الأصل: (جرير منذاذ)، والصواب ما أثبتُّ. وهو: محمد بن أحمد بن عبد الله ــ وقيل: علي ــ، واختلف في كنيته فقيل: أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله. له كتابٌ كبيرٌ في الخلاف، وعنده شواذ عن مالك، وله اختيارات وتأويلات على المذهب في الفقه والأصول لم يُعرِّج عليها حُذَّاق المذهب، توفي سنة (390). انظر في ترجمته: ترتيب المدارك (7/ 77)، الديباج المذهب (ص 268)، لسان الميزان (7/ 359). (2) إضافة يقتضيها السياق. (3) تقدم تخريجه في (ص 92).

(2/792)


والكفارة لما فوته من التعيين، وأما القادر على ما نذره من الطاعة فلا يختلف قول أحمد وغيره من علماء المسلمين أنه يجب عليه فعل المنذور، وليس له أن يتركه إلى الكفارة بخلاف اليمين فله أن يحنث فيها ويكفر إذا لم يكن ما حلف عليه ترك واجب ولا فعل محرم. والفرق بينهما: أَنَّ الناذر نَذَرَ لله فالتزم شيئًا لله، فعليه أَنْ يفعل ما التزمه لله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (1)، وذم الذين ينذرون ولا يوفون، كما ذم الله هؤلاء في كتابه بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77]. وأما اليمين؛ فإنْ قَصَدَ الحالف أَنْ يحض نفسه أو غيره أو يمنعه؛ فهو مريدٌ لمراد نفسه ووكَّد [225/ أ] ذلك بالحلف بالله، فهو ملتزم بالله لا ملتزم له، فإن التزم لله بالله صار ناذرًا حالفًا كالمذكور في الآية (2). والمقصود هنا: أنَّ الناذر نذر التبرر ملتزم، وقد لزمه ما التزمه بالنص والإجماع؛ فلو كانت العلة في إجزاء الكفارة في نذر اللجاج والغضب كونه التزامًا لأجزأ كل ناذر الكفارة، ولم يجب عليه الوفاء بنذره، كالقول الذي حكاه بعض المتأخرين (3) ولا يُعرف به قائل معروف من العلماء. _________ (1) سبق تخريجه في (ص 6). (2) قاعدة العقود (1/ 106). (3) وهو الذي أشار إليه قريبًا من كلام ابن عبد البر وغيره.

(2/793)


ثم إِنْ قُدِّرَ أَنَّ هذا نزاعٌ سائغٌ، وأَنَّ هذا القول صحيح؛ فهذا أعظم حجة على المعترض وأمثاله، فإنه يقال لهم: إذا كان كُلُّ معلِّق للنذر سواء كان نذر تبرر أو نذر يمين تجزئه الكفارة ولا يلزمه ما جعله لازمًا له؛ فالطلاق والعتاق أولى ألا يلزم مَنْ جَعَلَهُ لازمًا له مع قصده اليمين. بل قد يقال: إذا كان النذر المعلَّق لا يلزمه، فالطلاق المعلَّق لا يلزم بطريق الأولى والأحرى، ويكون هذا مما يحتجُّ به مَنْ يقول: الطلاقُ المعلَّقُ لا يلزم بحال، لكن النذر فيه كفارة يمين، وهذا الطلاق عند هؤلاء لا كفارة فيه، وهذا القول محدث لا يُعرف به قائل من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لكن عُرِفَ به قائلون من المتأخرين. وأما القول بأن النذر لا يلزم فما علمت به قائلًا مسمًّى، وقد عَرَفْتَ غَلَطَ مَنْ نقل ذلك عن أحمد وأمثاله. الوجه الثاني: أَنَّ الالتزام موجود في الضمان والكفالة وغير ذلك، وليس (1) في ذلك كفارة باتفاق العلماء، بل قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الزعيم غارم» (2). والعلماء المعروفون متفقون على لزوم ضمان الدين في الذمة، وجمهورهم يقولون بلزوم ضمان النفوس والأعيان وضمان المجهول وضمان ما لم يجب، كما في قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]. _________ (1) في الأصل: (فليس)، والصواب ما أثبتُّ. (2) سبق تخريجه في (ص 98).

(2/794)


الوجه الثالث: أَنَّ مشابهة ذلك لليمين في الالتزام يقتضي وجوب الالتزام، لا يقتضي ثبوت الكفارة، فإنَّ كونَ الشيءِ التزامًا إنما يُناسب وجوب ما التزمه لا يناسب سقوطه ولزوم الكفارة. الوجه الرابع: أَنَّ الكفارة في اليمين لم تجب لكونها التزامًا، بل لما في الحنث من هَتْكِ حرمة الأيمان بالله ــ تعالى ــ، فإنْ لم يكن في [225/ ب] نذر اللجاج والغضب معنى هذا الهتك لم تجب فيه كفارة اليمين. والنذر لمَّا كان داخلًا في اليمين أو مثل اليمين وجبت فيه كفارة اليمين إذا تَعَذَّرَ الوفاءُ به، كما في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كفارة النذر كفارة يمين» (1)، وقال عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: «النذر حَلْفَةٌ» (2)، وكالذي روي عن عمر (3) وجابر (4) وابن عباس (5) - رضي الله عنهم - وغيرهم (6) أنهم جعلوا النذر يمينًا، وهو مذهب أحمد وغيره. _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92). (2) سبق تخريجه (ص 118). (3) سبق تخريجه في (ص 225). (4) أخرجه مسدد ــ كما في إتحاف الخيرة المهرة (5/ 362)، والمطالب العالية (8/ 582) ــ عن جابر - رضي الله عنه - قال: (النذر يمين). (5) أخرجه ابن أبي شيبة (12300) بلفظ: (مَنْ حلف بنذر على يمين فحنث؛ فعليه كفارة يمين مغلظة). وأخرجه برقم (12303) ولفظه: (النذر يمين مُغَلَّظة). (6) أخرج مسدد ــ كما في إتحاف الخيرة المهرة (5/ 361)، والمطالب العالية (8/ 582) ــ عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (النذر يمين). وقال البوصيري: هذا إسنادٌ موقوف، وزيد بن رفيع مختلف فيه.

(2/795)


وأما إذا كان الالتزام لله؛ فهذا نذر يجب الوفاء به، ونذر اللجاج والغضب ما لو التزمه لله للزمه، لكن لم يقصد أن يلتزمه لا لله ولا لغير الله، بل قصد أن يكون لازمًا له على تقدير شرط انتفائه ليكون لزومه مانعًا له من ذلك الشرط، وهو يعتقد أَنَّ ذلك الشرط لا يكون، ولو علم أنه يكون لم يلتزم ذلك على تقدير وجوده، ومتى قصد أن يلتزمه على تقدير وجوده لم يكن حالفًا. الخامس: قوله: (لا أن (1) المعتبر كون الحث والمنع حاصلًا فيها (2) خاصة) (3). يقال له: ما قال أحد أَنَّ اليمين وجبت فيها الكفارة بمجرد حصول الحض والمنع، ولا جعل أحد من العلماء لا المجيب ولا غيره كل ما فيه حض أو منع يمينًا مكفرة، بل هذا الغلط الذي بنى عليه المعترض كلامه من أوله إلى آخره، وشاركه في ذلك مَنْ ظَنُّهُ كَظَنِّهِ. وظنوا أن اليمين إنما كانت يمينًا لأجل ما فيها من الحض والمنع، وأَنَّ من قال: كُلُّ يمينٍ من أيمان المسلمين فهي مكفرة ــ كما دَلَّ عليه الكتاب والسنة ــ فإنه يلزمه أَنْ يجعل قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، وقوله سبحانه وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] يمينًا مكفرة. وقوله: إذا _________ (1) في «التحقيق»: (لأن). (2) في الأصل: (منها)، والمثبت من «التحقيق» وما تقدم. (3) «التحقيق» (46/ ب).

(2/796)


تزوجت فلانة فهي طالق يمينًا مكفرة، وكذلك إذا قال: إن تزوجتها فهي عليَّ كظهر أمي مكفرةٌ كفارة يمين لا كفارة ظهار، ولم يُفَرِّقُوا بين الحاض والمانع الذي يقصد الجزاء عند الشرط، فيكون موقعًا للطلاق والعتاق وَمُتَوَعِّدًا، وبين مَنْ يكره الجزاء عند الشرط فيكون حالفًا؛ إما يمينًا من أيمان المسلمين، وإما يمينًا من غير أيمان المسلمين. السادس: [226/ أ] قوله: (لأنَّ الحث والمنع فرعٌ عن الالتزام الحامل عليه) (1) كلامٌ مقلوبٌ، بل الالتزام فرعٌ عن الحث والمنع الحامل عليه، فإنه يَقصد الحض والمنع أولًا، فيحمله ذلك على أَنْ يلتزم عند الحنث (2) اللوازم المكروهة، ليس الالتزام هو الحامل له على الحث والمنع، لكن الالتزام حامل له (3) على الوفاء بموجب الحض والمنع، فهو إذا أراد أَنْ يحنث بترك ما حَضَّ نفسه عليه أو يفعل ما منع نفسه منه = منعه لزومُ ما التزمه [بتقدير الحنث] (4) من الحنث (5). ثم إِنْ كان يرى أنه يلزمه ما التزمه ــ وهي أمور مكروهة عنده ــ كان المنع شديدًا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الله شَرَعَ كفارة اليمين كان المانع له وجوب كفارة اليمين، والكفارة عبادةٌ لله وطاعةٌ لا تمنع المسلم من فعل مأمور ولا ترك محظور، ولا تمنعه من فعل مباح يكون أحب إليه من إخراج الكفارة. _________ (1) «التحقيق» (46/ ب). (2) في الأصل: (الحث)، والصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (عليه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) مقدار كلمتين عليها سواد، وتحتمل ما أثبتُّ. (5) في الأصل: (الحث)، والصواب ما أثبت.

(2/797)


نعم؛ لو قال: والله لا آخذ هذا الدرهم فوفاؤه أحب إليه من الحنث (1) والكفارة، بخلاف ما لو قال: لا آخذ هذه المائة فالحنث والكفارة أيسر عليه. السابع: أَنْ يقال: كون الحض والمنع باليمين أوجب التزام ما التزمه، وكون الالتزام يمنعه من الحنث (2) ليس هو الموجب للكفارة إن لم يكن عند الحنث ما فيه هتك الإيمان، وإلا فلو التزم ما لا يَقدح في إيمانه لم يكن ذلك من أيمان المسلمين المكفرة، فلو قال: أنا بريء من الشيخ فلان، أو فلست ابن فلان، أو فلانٌ (3) ولد زنا، أو لستُ رجلًا إِنْ لم أفعل كذا، أو أكون نجسًا إِنْ لم أفعل كذا؛ كان قد التزم ما يقتضي أن يكون مذمومًا إذا لم يفعل، ولم يلتزم هتك حرمة إيمانه فلا كفارة في هذا. بخلاف ما لو قصد بالنذر اليمين فقال: لله عليَّ نذرًا إِنْ قدرت على فلان لأقتلنه، وهو لا يقصد بقتله التقرب إلى الله ــ تعالى ــ لكن يقصد قتله؛ فهذا نذرٌ معناه معنى اليمين، تجزئ فيه كفارة يمين، ولا يجب عليه فعل المنذور، بل ولا يحل له إذا كان ذاك معصومًا بالنص والإجماع، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (4). * * * * _________ (1) في الأصل: (الحث)، والصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (الحث)، والصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (فلانًا)، والصواب ما أثبتُّ. (4) سبق في (ص 6).

(2/798)


فصلٌ قال المعترض: [226/ ب] (قال ــ يعني المجيب (1) ــ: والأصل الذي قاس (2) عليه ــ يعني: المقدسي ــ ممنوعٌ، فإنَّ الطلاق فيه نزاع، بل إذا لم يُوقعوا العتاق مع كونه قربة فأولى ألا يُوقعوا الطلاق. قلتُ (3): من أين له النزاع في الطلاق ولم يَنقله عن أحدٍ بهذا الوصف الذي هو يَدَّعِيه؟ أعني: وجوب الكفارة، وإثبات الأولوية لا يُسَوِّغُ النقلَ لو سلمت؛ وقد تقدم الكلام عليها) (4). والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ هذا قياسٌ قاسوه ليحتجوا به على فساد قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، مثل: ابن عمر وحفصة وزينب الذين قالوا: إنَّ الحالف بالعتق إذا قال: كل مملوك لي حر تجزئه كفارة يمين. وقد تقدم أَنَّ هذا ثبت عن عدد من الصحابة والتابعين أكثر من نقيضه، وهو قول الذين قالوا: إنه يلزمه العتق؛ فالذين نُقِلَ عنهم من الصحابة والتابعين ــ كما ذكر ــ أنه تجزئه كفارة يمين أكثرُ وأجلُّ من الذين قالوا يلزمه العتق؛ فاحتج عليهم مَنْ بعدهم بأنْ قالوا: عُلِّقَ على شرطٍ، وهو قابل _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 195). (2) في الأصل: (قال)، وفي الفتوى المعترض عليها: (مشى)، والمثبت من «التحقيق». (3) القائل هو: السبكي. (4) «التحقيق» (46/ ب).

(2/799)


للتعليق= فيقع بوجود شرطه كالطلاق. فأجاب المناظر عن الصحابة والتابعين ــ الذين هم أَجَلُّ قدرًا وأكثر عددًا ممن خالفهم من أهل عصرهم ــ بنقض القياس، وفساد الفرق بين صورة النقض وغيرها كما تقدم. وأجاب عنهم بجوابٍ ثانٍ؛ وهو: منع الحكم في أصل القياس، فإنه من المعلوم باتفاق الناس أَنَّ القائس ليس له أن يقيس إلا على أصل معلوم إما بإجماع أو بدليل (1)، فإنْ كان ثابتًا بالنص وإجماع الأمة فهذا أحسن الأصول التي (2) يقاس عليها، وَإِنْ كان ثابتًا بنصٍّ والمناظرُ يُنازِعُ فيه جاز عند الأكثرين أن يُثبت حكمه بالنص ويَقيس عليه، ولا يكون إذا منع حكم الأصل منقطعًا. وقال بعض أهل الجدل: يكون منقطعًا، لأنَّ هذا انتقال من مسألة إلى أخرى. وليس كما قال، بل هذا إثبات مقدمة من مقدمات دليله بالدليل، ولو كان من منع [227/ أ] بعض مقدمات دليله منقطعًا يُمنع من إقامة الدليل عليها= لانسدَّ باب المناظرة والاستدلال، ولكان المجادل بالباطل يغلب المجادل بالحق بلا علم أصلًا، بل بمجرد توجيه منعه، ولأنَّ المناظر تلو (3) الناظر فهو يذكر الطريق التي بها يعلم الحكم. _________ (1) مجموع الفتاوى (9/ 259)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 150)، أصول الفقه وابن تيمية (1/ 192 - 193). وانظر ما سيأتي قريبًا. (2) في الأصل: (الذي)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) كذا في الأصل.

(2/800)


ومن أهل الجدل مَنْ فَرَّقَ بين المنع المشهور والمنع الخفي، وهذه نزاعات في الاصطلاحات الجدلية أيها أقرب إلى المقصود بالجدل المشروع الذي مقصوده بيان (1) الحق وإقامة حجته على المسترشد الطالب للعلم وعلى المخالف الجاحد للحق. وإن أراد إثبات حكم الأصل بقياس؛ فهل له ذلك؟ فيه قولان للناس معروفان، هما قولان في مذهب أحمد وغيره، فمن منع ذلك قال: هو تطويل، أو قياس فاسد، فإنه إِنْ قاسَ على الثاني بالعلة التي بها قاسه على الأول فتطويل، وَإِنْ كان بغير تلك فالقياس فاسد. وَمَنْ جَوَّزَ ذلك؛ فقال بعضهم: هذا يجوز كتعليل الحكم بعلتين؛ وهو ضعيفٌ، لأنَّ مِنْ شَرْطِ القياس اشتراك الفرع والأصل في العلة، فإذا كان الأصل الثاني إنما أثبته بعلة الأول = امتنع أَنْ يقيس عليه بغير تلك العلة، فإنه لم يثبت الحكم فيه بها. ولكن الصحيح أَنَّ هذا يجوز؛ لكون مشاركة الفرع للأصل الثاني أظهر، ولجواز أَنْ يقيس في الأول بقياس العلة وفي الثاني بقياس الدلالة وبالعكس، أو بقياس أحدهما بإبداء الجامع وفي الآخر بإلغاء الفارق والعلة في القياسين واحدة، ويجوز أَنْ يثبت الحكم بقياس مع شمول نص الأصل للفرع لتوارد دليلين على مدلول واحد فكذلك هنا؛ يقاس الفرع بالأصل الأول وبالأصل الثاني. وإن كان حكم الأصل ــ أيضًا ــ مجمعًا عليه بين الأمة جاز القياس عليه، _________ (1) هكذا قرأتها.

(2/801)


وإن كان متفقًا عليه بين المتناظرين (1) كانت هذه حجةً جدليةً لا علمية؛ وذلك يستفاد به بطلان قول أحد الخصمين إما في تلك المسألة وإما في غيرها، لا يستفاد العلم بها ولا بغيرها في نفس الأمر. فإنه إذا قاس على أصلٍ مُسَلَّمٍ بينهما؛ فغايته أَنْ يُسَوِّي بين [227/ ب] الفرع وذلك الأصل، ويقول لمناظره: أنت قد فَرَّقْتَ بينهما فأخطأت في الفرق. وحينئذٍ؛ فيقول له مناظره: يمكن أَنْ يكون خطئي في موافقتك على الأصل، ويمكن أَنْ يكون خطئي في مخالفتك في الفرع ولم تُقِم دليلًا على أحدهما؛ فلا يَلزم من كوني مخطئًا في نفي الحكم في الفرع أَنْ تكون أنت مصيبًا في إثبات الحكم فيهما، بل قد يكون الصواب قول ثالث وهو نفي الحكم فيهما (2)، وحينئذٍ؛ فيكون خطئي حيث قيل في إثباته في الأصل وحده أقل من خطئك حيث أثبته فيهما. وكثيرٌ من الأقيسة التي يستعملها متأخروا الفقهاء هو من هذا الباب، يَقيسون وينقضون بما يُسَلِّمُهُ المنازع وإن لم يُقِمْ عليه حجة علمية. إذا عُرِفَ هذا؛ فَمَنْ أَرادَ أَنْ يَقيس قياسًا يُبَيِّنُ (3) به غلط أَحَدِ القولين الذي قائله من الصحابة والتابعين أكثر وأجل من أهل القول الآخر، فقاس التعليق القسمي بالعتق على التعليق القسمي بالطلاق= لم يكن له بُدٌّ أَنْ يُثْبِتَ _________ (1) في الأصل: (المناظرين)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) منهاج السنة (3/ 216)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 228). (3) في الأصل: (بين)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/802)


هذا الأصل إما بنص وإما بإجماعٍ من الصحابة والتابعين الذي احتج عليهم بقياسه، أو بإجماعٍ جدلي مُسَلَّمٍ منهم؛ وإلا فإذا كان مناظرًا لابن عمر وحفصة ــ أم المؤمنين ــ وزينب - رضي الله عنهم -، وَمَنْ ذُكِرَ معهم كابن عباس وعائشة وأم سلمة وأبي هريرة وطاووس وعطاء والحسن البصري والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وقتادة - رضي الله عنهم - وغير هؤلاء، ولم يُعرف أنه خالف هؤلاء من الصحابة والتابعين إلا رواية تروى عن بعضهم، ومعهم مَنْ هو دونهم؛ فإذا قاس العتاق على الطلاق فمن أين له أَنَّ هؤلاء الصحابة والتابعين كلهم يُسَلِّمون له أَنَّ الحلف بالطلاق يلزم؟ ومن أين له نص على ذلك من كتاب وسنة؟ ومعلومٌ أنه لم يُنقل عن أحدٍ من هؤلاء الصحابة في وقوع الحلف بالطلاق نقلٌ صحيحٌ صريحٌ، بل النقل الصحيح عنهم يدل على أنهم لا يُفَرِّقُون بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتاق، بل يُسَوُّون بين الجميع، كما أنه لم يفرق أَحَدٌ من الصحابة بين الحلف بالطلاق والعتاق والحلف بالنذر، بل المنقول عنهم روايتان: إحداهما: أَنَّ في الجميع [228/ أ] كفارة يمين، والثانية: أنه يلزمه الجميع، لكن هذه الرواية ضعيفة من وجوه، وقد أجمع العلماء على ترك العمل بها، فلم يَعمل أحد من العلماء المعروفين بكل ما فيها. فإذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - ليس لهم إلا قولان والتابعون ومن بعدهم أجمعوا على ترك أحد القولين = تعين الأخذ بالقول الآخر للصحابة، ولم يجز أن يكون الصواب في قول ثالثٍ أُحْدِثَ بعدهم، وهو الفرق بين الحلف بالطلاق والعتاق والحلف بالنذر، ولا يكون الصواب في القول الآخر الذي

(2/803)


أجمع الناس بعد الصحابة على تركه مع ضعف روايته عنهم (1). وإذا كان المنقول عن الصحابة يدل على أَنَّ المؤثر عندهم في التكفير كون التعليق يمينًا، وَأَنَّ التعليق الذي قُصِدَ به اليمين هو عندهم يمين مكفرة = فالعموم المعنوي الذي يدل عليه كلامهم يبين ذلك، ونقل عنهم ألفاظٌ عامةٌ تدل على الحلف بالطلاق وغيره، ولم يَنقل أَحَدٌ عنهم أنهم فَرَّقُوا بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتاق، بل ولا عُرِفَ في المسلمين مَنْ قال هذا القول قبل أبي ثور ــ رحمة الله عليه ــ، وأبو ثور لم يَنقل هذا الفرق عن أحدٍ قبله، ولكن رَكَّبَهُ من دليلين: من ظاهر القرآن عنده، ومما ظنه إجماعًا؛ وجماهير العلماء الأولين والآخرين يقولون هذا فرقٌ فاسد، وفساده ظاهر جدًّا = أفيجوز أن يجعل الأكثر الأفضل من الصحابة والتابعين قالوا هذا القول المفرق، ويقول إنهم أخطأوا في هذا الفرق، وقالوا قولًا يعلم صبيان الفقهاء أنه خطأ، من غير أن ينقل هذا القول عنهم أحدٌ لا بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ ولا بنقلٍ مرسلٍ، ومن غير أَنْ يكون في خلافهم ما يدل عليه، بل على خلافه. فليس مع مَنْ يُلزم الصحابة والتابعين بهذا إلا مجرد ظنِّ واحد بعد القرون الثلاثة أنه لا نزاع في الطلاق، وهذا غايتُهُ أَنْ يَدَّعِي إجماعًا انعقد بعدهم على مسألةٍ ما تكلموا فيها، ومثل هذا الإجماع لا يكون حجة عليهم في نفس الأمر إِنْ لم يكن معه نَصٌّ يكون حجة عليهم، وإلا فيمتنع أن يأمر الله ــ تعالى ــ الصحابة والتابعين باتباع إجماعِ [228/ ب] قومٍ لم يُخْلَقُوا (2) بعد. _________ (1) انظر ما تقدم (ص 392). (2) في الأصل: (يختلفوا)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ.

(2/804)


فتبيَّن أَنَّ هذا القياس لا يجوز أَنْ يُحتجَّ به على الصحابة والتابعين إِنْ لم يكن الأصل منصوصًا عليه، وإلا فلو قُدِّرَ أَنَّ فيه إجماعًا متأخرًا لم يجز الاحتجاج به عليهم، فضلًا عن ألا يكون فيه إجماع لا قديم ولا حديث. والمجيب المناظر عن أكابر الصحابة والتابعين ــ رضوان الله عليهم ــ قال: الأصل الذي قاس عليه ممنوع، وجواب هذا المنع لا يكفي فيه دعوى إجماع متأخر لو كان موجودًا، بل لا يحتج فيه بإجماع إلا أَنْ يكون إجماع الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ على أَنَّ الطلاق المحلوف به يلزم، ولو نُقِلَ ذلك صريحًا عن واحد أو اثنين أو ثلاثة منهم؛ أفيلزم أَنَّ القائلين بالكفارة في العتق يسلمون لهم الحكم في الطلاق؟ بل ينازعونهم فيه، فلا يَفْصِلُ بينهم إلا كتاب وسنة، فكيف ولم يُنقل ذلك عن أحدٍ من الصحابة؟ بل المنقول الثابت عنهم يدل على التسوية بينهما في التكفير وعدم اللزوم. فإنْ قيل: فقد نُقِلَ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وغيره فتاوى في الطلاق المعلق بالصفة (1)، وقد يَدُلُّ بعضها على أَنَّ المعلِّق كان حالفًا. قيل: أما المنقول عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فليس بظاهر أنه كان حالفًا، فضلًا عن أَنْ يكون صريحًا. وبتقدير أَنْ يكون ابن عمر ــ رضوان الله عليهما ــ أفتى في الحالف باللزوم، فذلك موافقٌ لإحدى الروايتين عنه، فقد رُوي عنه في الحلف _________ (1) يريد بذلك ما ذكره البخاري معلَّقًا عن نافع: طلَّق رجلٌ امرأته البتَّةَ إنْ خرجت. فقال ابن عمر: إنْ خرجتْ فقد بُتَّتْ منه، وإنْ لم تخرج فليس بشيء. وانظر كلام المجيب عن هذا فيما تقدم (ص 378 وما بعدها، 425 وما بعدها).

(2/805)


بالعتق والنذر رواية أنه يَلزم، ولم ينقل أحدٌ عنه الفرق بين الطلاق والعتاق وبين النذر، فضلًا عن أَنْ يفرق بين الطلاق والعتاق؛ فإذا قُدِّرَ أنه أفتى في الحلف بالطلاق باللزوم = كان ذلك موافقًا (1) للرواية التي أفتى فيها في الحلف بالعتق والنذر باللزوم، وقد روي عنه ذلك في النذر من طريق سالم، وروي فيهما من طريق عثمان بن حاضر. فإنَّ ابن عمر عنه في نذر الصدقة بالمال ثلاث روايات، وإذا كان هذا موافقًا لإحدى روايتيه= أمكنه إذا احتج من يُناقض الرواية الأخرى عنه بقياسِ [230/ أ] ذلك على الطلاق، وألزمه أنه أفتى به= أَنْ يقول ابن عمر: إنما أفتيت به على قولي بلزوم المعلَّق وإِنْ قَصَدَ به اليمين، أما على قولي بأنه إذا قصد اليمين يكفِّر= فلم أُفْتِ به. وهذا الجواب إذا أجاب به ابن عمر كان في غاية السداد والاستقامة؛ فلأيِّ شيءٍ نَقطع بأنَّ ابن عمر لا يجيب بجوابٍ مستقيمٍ سديدٍ يدل على علمه وفقهه، ونُلزمه بالجواب الذي نَعرف به خطأ من أجاب به، وأنه من أنقص الناس في العلم والفقه؟ ولو قُدِّرَ أَنَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - سَلَّمَ الحكمَ في الطلاق رواية واحدة ــ كما يظنه هذا المعترض ــ، وزعم أَنَّ ابن عمر مخطئٌ إذا كان قد أفتى في الحلف بالعتق بالكفارة، لأنه زعم أنه قوله في الطلاق رواية واحدة= فهذا غايته أَنْ يكون حجةً جدليةً بَيَّنُوا بها خطأ ابن عمر في زعمهم، ليس في موافقة ابن عمر لهم ما يقتضي أَنَّ سائرَ الصحابة الذين أفتوا بالكفارة في الحلف بالعتق وغيرهم أجمعوا على وقوع الطلاق، وما لم يحصل نَصٌّ أو _________ (1) في الأصل: (موافق)، والجادة ما أثبتُّ.

(2/806)


إجماع من الصحابة على الطلاق = لم يكن لهم حجة على الذين [أفتوا] (1) بالكفارة في الحلف بالعتق، ولا سبيل إلى نَصٍّ أو إجماع، بل ولا سبيلَ إلى تضعيفِ هذا القول. وأما غير ابن عمر؛ فلو قُدِّرَ أَنَّ غيره من الصحابة أفتى بلزوم الطلاق لم يلزم قولًا (2)، فكيف ولم ينقل ذلك عن أحدٍ منهم صريحًا، وكيف يلزم أكابر الصحابة والتابعين بالفرق الذي يُحكم عليهم فيه بالخطأ وقلة العلم والفقه من غير نقل عنهم يدل على ذلك، وإنما يدل على نقيضه؟! وهل هذا إلا من باب قدح آخر الأمة في أولها؟! ودعواهم أَنَّ آخرها أفقه وأعلم من أولها؟! وهذا من جنس أقوال أهل البدع. مع أَنَّ هؤلاء الذين يخالفون هؤلاء الصحابة ليس معهم ــ ولله الحمد ــ لا كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا معنى معقول، ليس معهم إلا ظَنُّ مخطئٍ لا يغني من الحق شيئًا، وهذا الظن ألزمهم بهذه اللوازم التي أوقعتهم في تحريف معاني الكتاب والسنة، وبطريق القدح في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة التابعين لهم بإحسان، بل وفي تغيير (3) شريعة [229/ب] الإسلام باعتبار ما ألغاه الله ــ تعالى ــ ورسوله، وإلغاءِ ما اعتبره الله ورسوله، وَإِنْ كان مَنِ اتقى الله ما استطاع منهم ومن غيرهم من أولياء الله المتقين= هو (4) مأجور على اجتهاده وتقواه، مغفور له ما لم تصل إليه قواه. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) كذا. (3) في الأصل: (تغير)، والصواب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (وهو).

(2/807)


قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]، فهذان نبيان كريمان، فَهَّمَ اللهُ ــ سبحانه وتعالى ــ أحدهما الحكومة، وأثنى على كلٍّ منهما بما آتاه من الحكم والعلم، والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا خَصَّ أحدهما بفهمٍ وعلمٍ في مسألة= لم يمنع ذلك أَنْ يُعَظَّمَ الآخَرُ ويُثنى عليه بما أعطاه الله من العلم والحكم، لا سيما والآخر قد يكون في مسألة أخرى هو المصيب (1). وكل مجتهد مصيب؛ بمعنى: أنه هو مطيع لله إذا استفرغ وسعه، فاتقى الله حق تقاته (2). وأما بمعنى معرفة حكم الله الباطن، فلا يكون المصيب إلا واحدًا (3)؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ _________ (1) انظر ما تقدم (ص 181). (2) مجموع الفتاوى (24/ 20)، الفتاوى العراقية (2/ 840). (3) مجموع الفتاوى (4/ 438) (13/ 124 - 125) (19/ 204) (20/ 19 وقد سئل فيها: هل كل مجتهد مصيب؟ أو المصيب واحد والباقي مخطئون؟) (33/ 150)، الفتاوى الكبرى (3/ 268) (4/ 27) (6/ 96، 223)، جامع المسائل (5/ 78)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 234) (3/ 205)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 151) (2/ 381)، منهاج السنة (5/ 84 وما بعدها) (6/ 27)، الإخنائية (ص 107، 456)، الاستقامة (1/ 37، 50). وقد ذكر ابن رشيق في أسماء مؤلفات ابن تيمية (ص 308 الجامع) قاعدة بعنوان: قاعدة في المخطئ في الاجتهاد هل يأثم؟ وهل المصيب واحد؟

(2/808)


فله أجر» (1)، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن معاذ لَمَّا حكم في بني قريظة: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات» (2)، وكما قال - صلى الله عليه وسلم - لأميره: «وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أَنْ تُنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله؛ فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك» (3)، وكما دعا سليمان ــ عليه السلام ــ بثلاث دعوات، فقال: أسألك حكمًا يوافق حكمك (4). وهذا كجهة الكعبة إذا اشتبهت، وصلى أربعة طوائف كل طائفة باجتهادها إلى جهة، فالكل مصيبون بمعنى: أنهم مطيعون لله، والذي أصابَ جهة الكعبة واحدٌ منهم. والمقصود هنا: أنه إذا قال المناظر عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ أنهم قد يمنعون حكم الأصل، لم يكن للمحتج عليهم جواب إلا بأن يثبت حكم الأصل بنصٍّ أو إجماعٍ في زمنهم، بأن ينقل إجماع الصحابة في زمن ابن عمر وحفصة وزينب على أَنَّ الطلاق المحلوف به يقع، أو أَنْ ينقل [230/ أ] أَنَّ المفتين في العتق يوافقونه على وقوع الطلاق المحلوف به. _________ (1) أخرجه ابن الجارود (برقم 996)، وأبو عوانة في مسنده (4/ 168) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهو عند البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بلفظ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». (2) تقدم تخريجه (ص 39). (3) تقدم تخريجه (ص 39). (4) تقدم تخريجه (ص 40).

(2/809)


وإذا قيل بموافقة هؤلاء فقط وَعُلِمَ أنهم يقولون بالفرق بين الحلف بالطلاق والعتاق= كان قولهم كقولهم ولزم تخطئتهم في أحد القولين، إما في نفي الكفارة في الطلاق وإما في إثباتها في العتق، لم يلزم أَنْ يكون قولهم في العتق خطأ إِنْ لم يكن وقوعه على الحالف بالطلاق ثابتًا بنص أو إجماع الصحابة في ذلك الزمن، وإلا فمجردُ قول بعضهم الذي لا يثبت به الإجماع لا يعلم به الإجماع، ومجرد تسليم المنازع في العتاق للطلاق لا يفيد الإجماع، وليس شيء من ذلك حاصلًا لا تسليم هؤلاء ولا إجماع الصحابة، بل ولا قول ثلاثة من الصحابة ولا اثنين، بل ولا واحد، بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك. ونحن في هذا المقام لا نحتاج أن نثبت نزاعًا بين الصحابة، بل المحتج بالقياس عليه أن يثبت الحكم في الأصل، إما بنص وإما بإجماعهم= وإلا كان قياسه الذي احتج به عليهم حجة فاسدة على فساد قولهم إنَّ العتق المحلوف به فيه كفارة يمين. وَمَنْ أحكم معرفة الأدلة الشرعية وحذق في استعمالها = تبين له من غلط الناس في مواضع كثيرة ما لا يتبين لغيره، وَعَرَفَ مِنْ عظمة قَدْرِ الكتاب والسنة، وعظمة الصحابة، وعظمة الشريعة وكمالها وتناسبها واعتدالها مالم يعرفه غيره، وعلم أَنَّ الصحابة أفضل القرون وأعلمها وأعدلها وأفقهها، وَأَنَّ كل غلط وقع فمن عدم علم الناس لا من قصور في تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبيانه، بل قد بَلَّغَ البلاغ المبين، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا، وجزاه عَنَّا أفضلَ ما جزى نبيًا عن أمته، بأبي هو وأُمِّي - صلى الله عليه وسلم -.

(2/810)


الوجه الثاني (1): أَنَّا لو لم نعلم أحدًا نَقَلَ النزاع في المسألة؛ ولكن لم نعلم أن الصحابة كانوا مجمعين على وقوع الطلاق المحلوف به، بل لم نعلم ذلك منقولًا عن أحدٍ منهم، وناهيك بأئمة الإسلام وعلمائهم الذين فَرَّعوا من مسائل الأيمان في الطلاق ما شاء الله تعالى= لم يَنقل أحد منهم عن الصحابة في الحلف بالطلاق شيئًا، ولكن [230/ ب] نقل بعضهم عن بعض الصحابة مسائل في الطلاق المعلق بالصفة، مثلما نَقَلَ سفيان في جامعه أثرًا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (2)، ونقل ــ أيضًا ــ عن علي وأبي ذر ومعاوية وابن عمر - رضي الله عنهم - بعضها يبين فيه أنه ليس بيمين (3)، بل يقصد به الإيقاع، وبعضها محتمل والأظهر فيه ذلك، وليس فيها ما هو ظاهر فيمن قصد اليمين، ووجدنا أَثبتَ القولين عنهم وَمَنْ قائلوه أَجَلُّ وأكثر من قائلي الآخر يفتون في النذر والعتق المحلوف به بكفارة يمين = أمكن أَنْ نَجزم بأنَّ هؤلاء أخطأوا، ونقول: إنهم مجمعون على وقوع الطلاق المحلوف به والعتق [المحلوف به] (4)، وليس معنا إلا ظَنُّ مَنْ جاء من بعد القرون الثلاثة، لإجماع لم يذكر فيه أحدًا من الصحابة، ومراده به أنه لا يعلم نزاعًا، ومراد الآخر قول الأكثرين، ومراد الثالث إجماع مَنْ حَفِظَ قولَهُ؛ فهؤلاء _________ (1) تقدم الوجه الأول في (ص 799). (2) سبق تخريجه في (ص 437). (3) بعض هذه الآثار سبق تخريجها، وفيه ما لم أجده كالنقل عن معاوية. وقد ذكر المعترض في «التحقيق» (ق 13) بعض هذه الآثار وتكلم عليها، كما أنَّ المجيب أشار لها في مجموع الفتاوى (33/ 223)، والفتاوى الكبرى (3/ 246)، وستأتي الإشارة إليها قريبًا في (ص 853 - 854). (4) بياض مقدار كلمتين، ولعله ما أثبتُّ.

(2/811)


الثلاثة أئمةُ مَنْ نَقَلَ الإجماع في المسألة. أبو ثور أقدمهم وأجلهم، وقد فَسَّرَ مراده بما ينقله من الإجماع: أني لا أعلم منازعًا. وابن جرير (1) [بَيَّنَ] (2) مراده بالإجماع الذي ينقله وهو ما قاله الجمهور. وابن المنذر لم يذكر إجماعًا عامًّا، بل إجماعَ مَنْ حَفِظَ قولَهُ؛ وكلٌّ من هؤلاء يذكر مثل هذا الإجماع في أحكام لم يعرف فيها للصحابة قولًا، بل لمن بعدهم، وفيها ما لا يَعرف فيه قولًا للتابعين بل لمن بعدهم، ومراده بالإجماع: إجماع مَنْ تَكَلَّمَ في هذه المسألة وَعَرَفَ أنه تكلم فيها. فإذا لم يكن معنا إلا مثل هذا النقل عن مثل هؤلاء العلماء؛ أيجوز لنا أن نجزم بأن أفاضل الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - كانوا يقولون هذا الفرق الذي أخطأوا فيه؟! وأَنَّ الصحابة كانوا مجمعين على وقوع الطلاق المحلوف به؟ مع أَنَّا لا نجزم بقول ثلاثة منهم فيه، بل ولا اثنين، بل ولا واحد، بل يظهر لنا من كلامهم أنهم يسوون بينه وبين الحلف بالعتق والنذر، فهل يحلُّ مع هذا أن نلزمهم قولًا يستلزم أنهم أخطأوا خطأً فاحشًا؟ ونجزم بخطئهم من غير أَنْ يكون عنهم شيء يدل على ذلك البتة، بل عنهم ما يدل على نقيضه. فإنَّ الذي يوجب الجزم بخطئهم في العتق الجَزْمُ [231/ أ] بإجماعهم على الطلاق، وما لم يجزم باتفاقهم على الطلاق وأنه حصل عليه منهم _________ (1) في الأصل: (حزم)، والصواب ما أثبتُّ، كما في (ص 597، 699). (2) إضافة يقتضيها السياق.

(2/812)


إجماع معصوم، أو قد ثبت حكمه بنص من كتاب وسنة = لم يجز أن يجزم بوجوب قياس العتق عليه، فيمتنع ــ والحالة هذه ــ أَنْ يقوم عليهم حجة بالطلاق وهو المطلوب. والقائس الجامع هو الذي عليه بيان ثبوت الحكم في الأصل إما بنص وإما بإجماع منهم، وَنَقْلُ مثل أبي ثور وأمثاله للإجماع لا يُفيد لا علمًا ولا ظنًّا بأنَّ واحدًا منهم قال ذلك، فضلًا عن إجماعهم؛ لجواز أَنْ يكون الإجماع الذي ظَنَّهُ إجماعُ مَنْ بعدهم. الوجه الثالث: أَنْ يقال: النزاع ثابت في الطلاق أقوى من ثبوت نفي النزاع؛ فإنه منقول عن طاووس وَمَنْ وافقه، وعن أبي جعفر وجعفر بن محمد ومن وافقهما، وعن أبي عبد الرحمن الشافعي وعن داود وابن حزم ومن وافقهم، وببعض هؤلاء يثبت النزاع، ولم يزل النزاع في ذلك من حين تكلم السلف في هذه المسألة لم يكن عصرٌ من الأعصار إلا وفيه مَنْ يقول: إنَّ الطلاق المحلوف به لا يلزم. وإذا كان النزاع ثابتًا في الطلاق؛ فمن (1) احتج على من دون الصحابة والتابعين بقياس العتق على الطلاق فمنعوه الحكم في الأصل= احتاج أَنْ يقيم عليه حجة من كتاب وسنة، ولم يمكنه إقامته هنا بإجماع ولا بقياس، لأنه ليس هنا أصل يقاس به الطلاق المحلوف به إذ كان هو الأصل الأول عند من قاس عليه. فتبين أَنَّ هذه المسألة لا يمكن أحدًا أَنْ يحتجَّ فيها بحجة صحيحة إِنْ لم _________ (1) رسمها الناسخ: (لِمَن).

(2/813)


يأتِ بكتاب وسنة وهذا منتفٍ؛ فالحكم فيها باللزوم باطل. الوجه الرابع: قوله: (وهو لم يَنقله عن أحد بهذا الوصف الذي هو يدعيه؛ أعني: وجوب الكفارة)؛ عنه جوابان: أحدهما: أَنَّ الكلام في قياس العتاق على الطلاق في لزومه، والطلاق فيه نزاعان ــ كما ذكرهما ابن حزم وغيره ــ أحدهما: هل هو طلاق فيلزم أم هو يمين فلا يلزم؟ سواء قيل: هي يمين منعقدة مكفرة، أم يمين غير منعقدة ولا مكفرة. ثم النزاع الثاني إذا قيل هي يمين؛ فمن أَيِّ النوعين هي؟ وكلٌّ من نوعي النزاع كافٍ في المنع، ولو قُدِّرَ أنه لم يقل أحدٌ بتكفير الحلف بالطلاق كما حكاه أبو ثور = لم يجز قياس العتق المحلوف به عليه [231/ ب]. فإنه يقال: الطلاق المحلوف به لا يقع ولا كفارة فيه، وأما العتق فلا يقع وفيه الكفارة، لأنَّ العتق قربةٌ تجب بالنذر، فإذا عَلَّقَ وقوعَهُ تعليقَ يمين = كان كما لو عَلَّقَ وجوبه، وتعليقُ وجوبِهِ بقصد اليمين فيه الكفارة؛ فكذلك تعليق وقوعه. وأما الطلاق؛ فلو عَلَّقَ وجوبه لم يجب فيه كفارة عند كثيرٍ من العلماء، كما لو عَلَّقَ وجوبه في نذر التبرر، فإنه عند هؤلاء لا يقع ولا يجب فيه الكفارة، وكذلك إذا كان تعليق يمين، وكذلك إذا كان تعليق وقوع يقصد به اليمين، فلو قُدِّرَ أَنَّ بعض السلف قال ذلك كان قولًا معروفًا. وحينئذٍ؛ فإذا قالوا: العتق المحلوف به لا يلزم ويكفر، والطلاق لا يلزم ولا يكفر= كان هذا قولًا سائغًا متوجهًا، وكان نسبةُ هذا القول إليهم أولى من

(2/814)


أَنْ ينسب إليهم أنهم يقولون: الطلاق المحلوف به يلزم والعتق لا يلزم، فإنَّ هذا في غايةِ الفساد، ولم يُنقل هذا عن أحد قبل أبي ثور للعذر الذي ذُكِرَ عنه. وأيضًا؛ فطائفة من التابعين وَمَنْ بعدهم يقولون في تعليق النذر المحلوف به: لا يلزم ولا كفارة فيه ــ وكذلك يقول ابن حزم ــ، فهذا في العتق والنذر. وداود وابن حزم وغيرهما يقولون بهذا في العتق والطلاق والنذر، وابن جرير الطبري وابن حزم يجعلان هذا قولًا لبعض الصحابة ــ كما تقدم ــ؛ وإذا قُدِّرَ هذا قولًا= كان قولهم في الطلاق المحلوف به إنه لا يلزم ولا كفارة فيه بطريق الأولى. وحينئذٍ؛ فمن أوجب الكفارة في العتق المحلوف به دون الطلاق إِنْ قُدِّرَ فسادُ فَرْقِهِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الطلاق يمكن نفي الكفارة فيه = لم يمكنه أَنْ ينفي الكفارة في العتق وهو قول معروفٌ، وهذا إذا قاله وَسَوَّى بين العتق والطلاق في عدم اللزوم كان خيرًا من أَنْ يُفَرِّقَ بينهما، فَيُلْزِمَ بالطلاق دون العتق، كما فعل ابن جرير لظهور فساد هذا القول، ولأنَّ هذا لم يُنْقَل عن أحدٍ من السلف لا من الصحابة ولا من التابعين، بل ولا يُعرف عن أحدٍ قبل أبي ثور، وتبعه [ابن] (1) جرير، لكن اختلفا في الكفارة في الحلف بالعتق [232/ أ] والنذر، وهما مع ضعفهما فقول أبي ثورٍ أوجه. الجواب الثاني: أَنْ يقال: قوله: (وهو لم يَنقله عن أحدٍ بهذا الوصف الذي هو يَدَّعِيه). _________ (1) ساقطة من الأصل، والصواب إثباتها.

(2/815)


فيقال له: قد ذَكَرَ هذا القول كما ذكر القولين الآخرين، وذكر أَنَّ في المسألة ثلاثة أقوال، ولا يلزم إذا لم يُسَمِّ قائله ألا يكون قولًا له قائلٌ معروف، فعدم تسميته في جواب فتيا ليس بحجة أصلًا، بل لو لم يعلم اسم قائله وقد نَقَل النزاع فيه ناقل يَعرفُ نزاعَ العلماء = كان نقله مقدمًا على نقل النافي. وهذه الكتب مملوءة بذكر الأقوال في التفسير والفقه والأصول وغير ذلك، وكثير من الناقلين لا يُسمي القائل في كثيرٍ من الأقوال، حتى في نقل مذهب بعض الفقهاء كثيرًا ما يذكرون الوجهين، ولا يسمون مَنْ قالهما، وقد يسمون القائل لأحدهما ولا يسمون قائل الآخر. فإذا قُدِّرَ عالمٌ جَزَمَ بأنَّ في المسألة قولين، وآخر قال: لا أعلم فيها نزاعًا؛ لوجب ــ بلا ريب ــ تقديم قول الجازم بالنزاع على النافي لعلمه بالنزاع، بل لو جزم أحدهما بثبوت النزاع وجزم الآخر بنفيه = لَقُدِّمَ المثبتُ على النافي (1). وقد نقل أبو محمد بن حزم في كتاب (الإجماع) (2) الأقوال الثلاثة، ولم يُسَمِّ قائلَ هذا ولا هذا ولا هذا، والمجيب أجاب بجواب مختصر على البديهة لمن طلب منه الجواب، فكتب ما تيسر كتابته إذ ذاك، وَسَمَّى ما تيسرت تسميته، ولم يكن ذلك مصنفًا تذكر فيه الأقوال وقائلوها والأسانيد إليهم وذكر من نقل ذلك عنهم، بل ذلك مذكور في المصنفات في هذه المسألة، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في جواب ذلك الاستفتاء الذي يسميه _________ (1) أصول الفقه وابن تيمية (1/ 195). (2) (ص 301).

(2/816)


المعترض تصنيفًا. بل لو قُدِّرَ أَنَّ المجيبَ لم يذكر النزاع في الجواب أصلًا؛ فقوله: بأن الطلاق فيه نزاعٌ جزمٌ منه بالنزاع، وقول المعترض: من أينَ له؟ وهو لم يذكر ذلك في الجواب؛ كلامٌ غير مستقيم، فإنَّ المجيبَ لا يستفيد العلم بذلك من كلامه في هذا الجواب، فإذا لم يكن ذلك في هذا الجواب يقال له: من أين له ذلك؟ وهل [232/ ب] يقول عاقل إنَّ المواضع التي يستفاد منها علم ذلك هو نفس هذا الجواب، والعالم إذا ذكر شيئًا في موضعٍ ولم يذكره في موضعٍ آخر؛ هل يقال: من أين له؟ وهو لم يذكره في ذلك الموضع. والجواب المختصر إذا قيل فيه: وكان الطلاق فيه نزاعٌ= كفى، ولم يحتج في هذا المقام إلى إثبات النزاع، فإنه في مقام الاعتراض على من احتج على الصحابة، فالمحتجُّ عليه أَنْ يثبت إجماعهم. فإذا قيل: لا نسلم الحكم في الأصل كان عليه أن يثبته بنص أو إجماع الصحابة، ولكن المجيب بَيَّنَ سند منعه لئلا يُظَنَّ أنه منع منعًا لم يَسبقه إليه أحد. فقال: الصحابة لا يُسَلِّمُونَ الحكم في الطلاق، فإنَّ فيه نزاعًا محكيًا، فلا تقوم حُجةُ المحتجِّ حتى يُثْبِتَ الأصلَ بنصٍّ أو إجماع صحابي بخلاف ما لم يُذْكَر فيه نزاع أصلًا، فإنه قد يظن أن المسألة ما زالت إجماعية. الوجه الخامس: قوله: (وإثبات الأولوية لا يُسَوِّغُ النقل لو سلمت)؛ عنه جوابان: أحدهما: أَنَّ الأولوية ذكرت هنا لدفع حجة المحتج على الصحابة، فإنه احتج عليهم بقياس الحلف بالعتق على الحلف بالطلاق. فقيل له: الطلاق

(2/817)


فيه نزاع، والصحابة - رضي الله عنهم - إذا لم يثبتوا العتق المحلوف به فألا يثبتوا الطلاق المحلوف به بطريق الأولى والأحرى، فلا يُسَلِّمون لك الحكم في الطلاق = فهذا تقرير لمنعهم الحكم في الطلاق، وإظهار علمهم وفضلهم، وأنهم أَجَلُّ قَدْرًا من أن يخفى عليهم فساد هذا الفرق الذي لا يخفى على صبيان الفقهاء، فيسلمون لك الطلاق وينفون العتق، بل هم إذا لم يوقعوا العتق مع كونه قربة فأولى ألا يوقعوا الطلاق، بل يمنعونك الحكم فيه فلا يصح قياسك الذي احتججت به عليهم. وإذا لم يكن للصحابة في الطلاق كلام أصلًا، ولا خطر على قلوبهم ذكره، وألزمهم القياس أن يوقعوا العتق كما يقع الطلاق = لم يجز أن نقول إنهم يوقعون الطلاق مع أنه أولى بألا يقع من العتق وفيه النزاع، بل جَعْلُهُم يعتقدون الطلاق والحالة هذه، وجعلهم قائلين بالفرق الفاسد = كذبٌ عليهم وظلمٌ لهم. وأَمَّا [233/ أ] إذا قيل هم يقولون ذلك بطريق الأولى؛ فالمراد به: أَنَّ هذا لازمُ قولهم، وهو لازمٌ يقتضي صحة قولهم واستقامته، وأما عكسه فيقتضي فساد قولهم وتناقضه. ولازم المذهب سواء كان مذهبًا أو لم يكن، إذا كان يدل على صحة المذهب واستقامته = لم يكن في إلزام القائل به طعنٌ عليه ولا على مذهبه، بل فيه نصره ونصر قوله، بخلاف اللازم الذي يقتضي فساد قوله وتناقضه. وإذا قال العالم قولًا له لازم يقتضي استقامة قوله وسداده. قال المناظر عنه لمن يلزمه بذلك القول: هو يَلتزمه؛ وذلك لا يضره (1). _________ (1) انظر ما تقدم (ص 514 - 515).

(2/818)


فلو لم يكن الطلاق أولى بألا يقع من العتق، وكان الصحابة قد قالوا في الحلف بالعتق لا يلزم = لم يجز أن يقول هم يفرقون بينه وبين الطلاق فيكون قولهم فاسدًا، بل يقول: إذا قالوا بذلك في العتق أمكنهم طرد ذلك في الطلاق ولم يتناقض قولهم، وكان هذا جوابًا صحيحًا عنهم وإن لم يعرف قولهم. الثاني: أَنْ يقال: لا نُسَلِّم أَنَّ المذاهب لا تُعرف بالقياس، بل مذاهب المجتهدين تُعرف بما يدل عليها من كلامهم من عموم وتنبيه خطاب ومفهوم موافقة ومفهوم مخالفة ومن تعليل وقياس أولى؛ كما يُعرف بذلك حكم صاحب الشرع، بل كما يُعرف بذلك مراد سائر العلماء في كتبهم، فإذا عرف قول العالم في قضيةٍ عُلِمَ قوله فيما هو أولى بذلك الحكم (1). ثم نقول: إِنْ كانت أقوال العلماء لا تنقل بما يدل على مرادهم من قياس أولى وتعليل وغير ذلك بل بالنص الخاص = لم يجز أن ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه قال: إِنَّ كلَّ حالف بالطلاق يلزمه الطلاق إذا حنث، ولا كُلَّ مَنْ عَلَّقَ الطلاق بصفة يقع به إذا وجدت الصفة، فإنَّ هذا اللفظ العام في ذلك لم ينقل عن أَحَدٍ من الصحابة والتابعين، وقد تقدم ما استقصاه المعترض من أقوالهم، وما جمع في ذلك من أقوالٍ بعضها يدل على مراده وبعضها لا يدل، ولم ينقل في ذلك قولًا عامًّا عن الصحابة والتابعين، وإنما نَقَلَ أقوالًا خاصة في قضايا خاصة؛ فإنْ [233/ ب] كانت المذاهب لا تُنقل بالقياس فنقله ونقل غيره لهذا القول عن أحدٍ من السلف كذبٌ عليهم، وإذا كان النقل عن بعضهم ولو أنه واحدٌ كذبًا، فكيف بنقلٍ عن كل واحد واحد _________ (1) انظر ما تقدم (ص 85).

(2/819)


منهم حتى ينقل إجماعهم على ذلك؟! وهذا المعترض قد نقل من الأقوال بالقياس الفاسد ما تقدم التنبيه على بعضه، وهو يمنع نقلها بالقياس الصحيح! مع أَنَّ المجيب لم ينقلها، وإنما ذكر أَنَّ أصحابها أجل قدرًا من أن يخفى عليهم جواب الطاعن عليهم الذي ينسبهم إلى الفرق الفاسد بين العتاق والطلاق، وأنهم أجل قدرًا من أَنْ يخفى عليهم أولوية الطلاق بعدم الوقوع ــ وحينئذٍ ــ فيمكنهم مَنْعُ الحكمِ في الطلاق، فيدفع طعن الطاعن عليهم وإبطاله لمذهبهم، والقائلون بهذا أجل قدرًا وأكثر عددًا من القائلين بلزوم العتق من الصحابة والتابعين. * * * *

(2/820)


فصلٌ قال المعترضُ: (قال المجيب: وأبو ثور لم يسلم الطلاق، لكن قال: إِنْ كان فيه إجماع فالإجماع أولى ما اتُّبِعَ، وإلا فالقياس أنه كالعتاق، وقد علم أنه ليس فيه إجماع. وأما ما ذكره من [الزيادة في] حديث أبي رافع وأنهم قالوا: أَعتقي جاريتك؛ فهذا غلطٌ، فإنَّ هذا الحديث لم يذكر أحد فيه أنهم قالوا: أَعتقي جاريتك. وقد رواه أحمد والجوزجاني والأثرم وابن أبي شيبة وحرب الكرماني وغير واحد من المصنفين (1). قال المعترض (2): (وأبو ثور لم يُسَلِّم الطلاق). _________ (1) ترك المجيب باقي كلامه الذي نقله المعترض، وسأنقله إتمامًا للفائدة: (فلم يذكروا ذلك؛ وكلام أحمد في عامة أجوبته يُبيِّن أنه لم يذكر واحدٌ منهم ذلك، وإنما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي، وأبو محمد يَنقل ذلك من جامع الخلال، والخلال ذكر ذلك في ضمن مسألة أبي طالب ــ كما بيَّنَّاه ــ، وذلك غلط على أحمد، وأبو طالب له ــ أحيانًا ــ غلطات في فهم ما يرويه؛ هذا منها. وأما ما نقله عن أحمد في أنَّ الاستثناء لا يكون إلا في اليمين المكفَّرة؛ فهذا نقَلَهُ عن أحمد غيرُ واحد؛ مع أنَّ أبا طالبٍ ثقة، والغالب على روايته الصحة، ولكن إنما غلط في اللفظ. وأما ما نقَلَهُ في الاستثناء فيما يكفَّر فلم يَغلط فيه، بل نقَلَهُ كما نَقَلَهُ غيرُهُ). انظر ما تقدم في (ص 272 وما بعدها). (2) كذا في الأصل، حيث بدأ المعترض في مناقشة كلام المجيب جملة جملة، فنقل الجملة الأولى وبدأ يناقشها.

(2/821)


قلنا: قد نقل ابن المنذر عنه كما تقدم عند حكايته الإجماع، ونقله عنه صريحًا هناك، والمثبت مقدم على النافي. وأبو ثور نفسه نقل الإجماع ــ كما تقدم ــ من نقل محمد بن نصر عنه) (1). والجواب: أَنَّ المرادَ دفعُ احتجاجِ من احتج على أبي ثور ــ رحمة الله عليه ــ بقياسِ العتاق على الطلاق، وأبو ثور لم يُسَلِّم أَنَّ الكتاب أو السنة أو القياس يدل على وقوع الطلاق، ولم يُسَلِّم أَنَّ دلالةَ القرآن على تكفيرِ أيمانِ المسلمين ينفي تكفير الطلاق، ولم يُسَلِّم أَنَّ في الطلاق معنًى يوجبُ وقوعَهُ بخلافِ العتق؛ فمن احتج على أبي ثور بقياس العتق على الطلاق وطالبه بالفرق كان [234/ أ] مخصومًا معه، فإنه لم يقل: إني رأيت في الطلاق وصفًا يختص به يقتضي الوقوع، ولا قال: رأيت في العتق معنًى ينفي الوقوع يختص به دون الطلاق = حتى يحتج عليه بالقياس، فإنَّ وقوعَ الطلاق ليس هو عنده مقتضى القياس، بل مقتضى القياس وظاهر القرآن ألا يقع وهو مقتضى الدليل عنده، وإنما تركه للمعارض الذي ظنه معارضًا؛ وهو ظنه الإجماع على نفي تكفير الطلاق = فصار هذا عنده موضع استحسان على خلاف الأصل والدليل والقياس، كما يفعل ذلك كثيرٌ من العلماء في مثل ذلك. وإذا كان أبو ثور لم يفرق إلا لما ظنه من الإجماع ولو علم النزاع لم يفرق = عُلِمَ أَنَّ قولَه في نفس الأمر هو التسوية بينهما لا التفريق؛ كالأقوال _________ (1) «التحقيق» (46/ ب)، وما بين المعقوفتين منه.

(2/822)


المعلَّقة للعلماء إذا قال الإمام: قد روي في ذلك حديث فإنْ كان صحيحًا قلت به، أو إذا قال (1): هذا قولي إلا أن يكون في المسألة إجماع، أو إلا أَنْ يصح الحديث المخالف له، وإنما قلت بذلك لأجل هذا الحديث لا لمعنى آخر؛ فإنْ كان ضعيفًا فلا أقول به ونحو ذلك (2). فإذا عُلِمَ أنه لم يَعدل عنه علم أنه في نفس الأمر لا يعدل عنه، وحينئذٍ فليس لأحدٍ أَنْ يحتجَّ عليه بالطلاق؛ فإنَّ جوابه له: أَنَّ الطلاق إما أَنْ يكون فيه إجماع وإما ألا يكون؛ فإنْ كان فيه إجماع فهو عذري في الفرق، وإنْ لم يكن فيه إجماع لم أُسَلِّمْ الحكم في الأصل وَسَوَّيتُ بينهما. فهذا بيان لجوابه في نفس الأمر على قوله، وَإِنْ كان هو لم يعلم النزاع ليجيب بالمنع، وقد تقدم لفظ أبي ثور أنه قولٌ مُعَلَّق لا مُطْلَق (3). قال أبو ثور: (مَنْ حلف بالعتق فعليه كفارة يمين ولا عتق عليه، وذلك أَنَّ الله ــ تعالى ــ أوجبَ في كتابِهِ كفارةَ اليمين على كل حالف، فقال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] يعني: فحنثتم). قال أبو ثور ــ رحمه الله تعالى ــ: (وَكُلُّ يمينٍ حَلَفَ بها الإنسان فحنث، فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب، إلا أَنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيء). _________ (1) كتبها الناسخ في الهامش وفوقها حرف (ظ)، وفي الأصل: (وقيل) وفوقها حرف (خ). (2) انظر (ص 607). (3) انظر ما تقدم (ص 7).

(2/823)


قال: (ولم يجتمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة وألزمناه الطلاق للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة لأنَّ الأمة لم تجتمع على ألا كفارة فيه) (1) [234/ ب]. فهذا أبو ثور ــ رحمه الله تعالى ــ يُصَرِّحُ بأنَّ كل يمين حَلَفَ بها الإنسان فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أَنْ تُجْمِع الأمة على أَلا كفارة فيه، فأثبتَ الكفارة في كل يمين إلا إذا كان إجماعٌ على نفي الكفارة، وَظَنَّ أَنَّ في الطلاق إجماعًا على نفي الكفارة فيه، فإذا قُدِّرَ انتفاءُ هذا الإجماع: فأيُّ القولين هو قوله؟! قوله: إِنَّ كل يمين يحلف بها الإنسان فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أن تجمع الأمة على ألا كفارة فيه؛ فإذا كان حلف لم تجتمع الأمة على ألا كفارة فيه = كان قولَ أبي ثور ــ رحمه الله تعالى ــ فيه إنَّ فيه الكفارة بهذه العبارة الصريحة. وقوله: ولم يجتمعوا إلا في الطلاق إثباتٌ لإجماعهم في الطلاق، والإجماع عنده معناه: عدم العلم بالنزاع، فإذا قُدِّرَ أَنَّ ثَمَّ نزاعًا لم يعلمه = كان الإجماع منتفيًا قطعًا، وكان هذا مما أثبت فيه الكفارة لا مما نفى فيه الكفارة، فإنه أثبتَ الكفارةَ إلا على تقدير شرطٍ وذاكَ منتفٍ، ونفاها فيه على تقدير ثبوته وليس بثابت؛ فَعُلِمَ أنه لا ينفيها في نفس الأمر. ولو قال: عبدي حر إلا أنْ تكون الأمة قد اجتمعت على عدم تكفير الحلف ــ وَظَنَّ أنها أجمعت ــ، ثم تبين بعد موته أنه لا إجماع = حُكِمَ بعتق العبد لوجود الموجِب لعتقه وانتفاء عدم شرط العتق. _________ (1) اختلاف الفقهاء للمروزي (ص 492)، وتقدم في (ص 166).

(2/824)


فقول المجيب: أبو ثور لم يُسَلِّم الطلاق، لكن قال: إِنْ كانَ فيه إجماع؛ فالإجماعُ أولى ما اتبع، وإلا فالقياس أنه كالعتق= جوابٌ عن أبي ثور لمن احتج عليه بقياس العتق على الطلاق، فإنَّ أبا ثور لم يسلم الحكم في الطلاق ابتداءً، بل قال: كل يمين يَحلف بها الإنسان فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أَنْ تجتمع الأمة على خلاف ذلك؛ فكان مقتضى ظاهر الكتاب وهو مقتضى القياس عنده: تكفير الحلف بالطلاق كتكفير سائر الأيمان، وهو قد أخبر أنه يقول بذلك إلا أَنْ يكون ثَمَّ إجماع، ثم ظَنَّ الإجماع في الطلاق فقال بنفي تكفيره لظن الإجماع، لا لأنه عنده مقتضى دلالةِ النص والقياس، بل لأنَّ الإجماعَ عنده أولى بالاتباع من الظاهر والقياس، فإذا عُلِمَ أنه [235/أ] ليس ثَمَّ إجماع منع الحكم في الطلاق على أصله (1). فلو قال الشافعي أو أحمد بن حنبل أو غيرهما مثل هذا، فقال: مقتضى الدليل عندي كذا وأنا أقول به إلا أَنْ يكون ثَمَّ إجماعٌ على خلافه وَظَنَّ الإجماع، ثم وَجَدَ أصحابه النزاع لقالوا: قوله المعلَّق هو القول الذي قاله وعلقه على عدم الإجماع، كالقول الذي يعلقه على صحة الحديث وأولى. وأما قوله: وأبو ثور نفسه نقل الإجماع؛ فقد علمنا ذلك، لكنْ مراده بذلك: أني لا أعلم نزاعًا، وأني أظن عدم النزاع؛ هكذا قال عن نفسه فيما يحكيه من الإجماع، ليس نقله للإجماع كنقله لما سمعه من أقوال العلماء منهم أو ممن نقل عنهم، بل هذا أمرٌ اجتهادي مستنده الاستقراء وتتبع الأقوال، فلمَّا لم يجد فيما بلغه من أقوال العلماء من قال بالتكفير = ظَنَّ أنه لا قائل به. _________ (1) غير واضحة في الأصل.

(2/825)


كما يقول أهل الحديث: لم يرو هذا غيرُ فلان، وكما يقول بعض أتباع الأئمة: لم يذكر هذا القول أو هذا الوجه إلا فلان؛ فهذا كله مستنده فيه الاستقراء والتتبع، وهو قولٌ باجتهاد واستقراء يقع فيه الصواب والخطأ، ليس هو من باب نقل الأحاديث وأقوال العلماء التي تنقل بالسماع أو بما يوجد في الكتب عنهم. ولهذا يُفَرَّقُ في الشهادة واليمين بين الإثبات والنفي؛ فإذا حَلَفَ على الإثبات حَلَفَ على البَتِّ، وإذا حَلَفَ على النفي لفعل غيره أو الدعوى على غيره لم يحلف إلا على نفي العلم. إذا قال: أبوك غصبني أو اقترض مني أو اشترى مني، وكذلك الشاهد إذا شَهِدَ بحصر الورثة قال: ليس له وارث غيره، مع أَنَّ العلم بانتفاء هذا يحصل كثيرًا، أو قال: إنه مفلس ليس له مال، أو إنه رشيد لا يُضَيِّعُ مالَهُ؛ فمثل هذه الشهادات التي تتضمن نفيًا وتُعلم بالاجتهاد إنما تُقبل من أهل الخبرة بذلك، فتقبل كما تقبل شهادات الاجتهاد؛ ولهذا قد يَمنع من مثل هذه الشهادات من [يطلب اليقين] (1) بالشهادة. ولهذا إذا كانت هذه الشهادة مما تُعلم أسبابها = لم تقبل إلا مُفَسَّرةَ السببِ كالجرح والإخبار [عَمَّا يُعْلَم بالسمع والرؤية] (2) والشهادة باستحقاق القَوَد ونحو ذلك؛ فالخبر الذي مستنده اجتهاد الشاهد هو من جنس القيافة [235/ ب] والخرص والتقويم، ومن جنس الفتيا والحكم بالاجتهاد؛ ليست مثل الخبر عن الأمور المعلومة بالسمع والرؤية. _________ (1) بياض مقدار كلمة تقديره ما أثبت. (2) بياض مقدار كلمتين تقديره ما أثبت.

(2/826)


فنقلُ أبي ثور للإجماع الذي مستنده عنده استقراؤه لأقوال العلماء هو من الخبر عن اجتهاده واستقرائه = ليس خبرًا كأخبار المحدثين وشهادة الشهود بالأمور المعلومة بسمع أو رؤية. فإذا قال: كل يمين مكفرة إلا يمينًا فيها إجماع، وقال مع ذلك: هذه اليمين قد ظننت فيها إجماعًا، ثم تبين أنه لا إجماع فيها = كان قوله المعلَّق فيها هو التكفير. * * * *

(2/827)


فصلٌ قال المعترض: (وقوله: (وقد عُلِمَ أنه ليس فيه إجماع). قلنا: لم نَعلم؛ وهو لم يَنقله عن أحدٍ غير داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين) (1). يقال له: العلمُ أمرٌ إضافي؛ فمَن عَلِمَ الشيءَ ثَبَتَ عِلْمُهُ به، ومَن لم يعلمه لم يثبت علمه به، وقد عَلِمَ غيرُ واحدٍ من الناسِ النزاعَ في الطلاق. وقد رأى المجيب ممن علم النزاع في الطلاق عددًا كثيرًا من الثقات يخبرون به عن غيره من العلماء القائلين به المفتين به، بل (2) رآه في كتب متعددة (3) ممن يقوله ذاكرًا وآثرًا. هذا يقول: رأيته في الكتاب الفلاني. وهذا يقول: سمعتُ فلانًا يفتي به مَنْ حَلَفَ بالطلاق وحنث بكفارة يمين، وإذا كان معسرًا أفتاه بصيام ثلاثة أيام. وهذا يقول: كان فلان وفلان من كبار أهل العلم والدين يُفتون بذلك، وهم من أفضل أهل بلادهم علمًا ودينًا. _________ (1) «التحقيق» (46/ ب). (2) في الأصل: (لو)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (معددة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/828)


وهذا يقول: هذا مذهب فلانٍ ذَكَرَهُ في الكتاب الفلاني أو نَقَلَهُ عنه فلان. فأما الذين يقولون من المتأخرين بأنَّ الطلاقَ المحلوفَ بِهِ لا يلزم ويفتون بذلك في الشرق والغرب= فعددٌ كثيرٌ لا يمكنا إحصاؤهم، وقد جُمِعَ ذِكْرُ طائفةٍ منهم في غير هذا الموضع (1). وأما مَنْ نُقِلَ ذلك عنه من السلف؛ فهو منقول عن طاووس ومن وافقه، وعن أبي جعفر محمد بن علي وأبي عبد الله جعفر بن محمد ومن اتبعهما ــ وهؤلاء قبل أبي ثور ــ، وهو قول أبي عبد الرحمن الشافعي ــ وهو من أقران _________ (1) أشار السبكي - رحمه الله - في الورقات التي لَخَّصَهَا من كتابه «التحقيق» (5/ أ) إلى بعضهم فقال: (وقال في تصنيفٍ آخر أنه ما زال يُفتى بذلك ويُقضى به في بلاد الحجاز والعراق والشام ومصر والمغرب إلى اليوم، ونَسَبَهُ في تصنيف آخر إلى ثلاثةٍ من المتأخرين: ابن عبد السلام، وابن علوان، وابن جوسق). وقد كتب ابن رشيِّق في آخر رسالة (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق) ما يلي: (وقد حكى جماعة من الصلحاء والعدول في هذه الأيام أن بالمغرب جماعة من المفتين فيهم مَن يُعد من المجتهدين من كثرة علومه وتفننه، وفيهم من يشتهر صلاحُه وزهده= أنهم يفتون الحالف بالطلاق إذا حنث بكفارة يمين، فيهم مَن مات ومن هو حيّ إلى الآن، منهم الشيخ أبو يحيى الهيكوري من أهل مليانة، وأبو علي بن علوان من أهل تونس، وخطيب تونس أبو موسى، وبعض فقهاء سبتة، والشيخ الإمام أبو عبدالله بن القطان من أهل مرّاكش، والشريف أحد المفتين بها أيضًا، والشيخ أبو علي الكفيف من أهل آسف، والشيخ عمر بن عيسى الذرعي أحد المفتين بوادي سِجِلْماسة، والفقيه عبدالعزيز أبو فارس في ظاهر آسف، وجماعة لم تبلغنا فتياهم من طريق صحيح، والله أعلم).

(2/829)


أبي ثور ــ، وهو قول داود وابن حزم ومن اتبعهما على قولهما، وكلٌّ من هؤلاء قد اتبعه على قوله عددٌ كثير. فإنَّ [236/ أ] الأقوالَ في الطلاق المعلَّق بالصفة والمحلوف به أربعة أقوالٍ، كُلُّ قولٍ قالَهُ عالمٌ متبوع، واتبعه عليه طائفة. منهم مَنْ قال: الطلاق المعلَّق بالصفة والمحلوف به لا يقع بحال؛ وهذا قول طائفة من أهل السُنة والشيعة متقدمين من زمن أبي ثور ومتأخرين بعده. ومنهم مَنْ قال: بل المحلوف والمعلق تعليقًا يقصد به اليمين لا يقع، وأما المعلَّق الذي يقصد إيقاعه فيقع؛ وهذا أَصَحُّ الأقوال، وهو قول طاووس وغيره من السلف، وهو معنى ما يُروى عن أبي جعفر وابنه جعفر وغيرهما، وعليه تدل أقوال الصحابة، وهو قول أكثر أصحاب داود، وكلٌّ مِنْ هؤلاء له أتباع كثيرون جدًا. ثم مِنْ هؤلاء [مَنْ] (1) يقول: إِنَّ فيه كفارة يمين؛ كطاووس وغيره، وهو معنى قول الصحابة - رضي الله عنهم - وهو أصح الأقوال، ومنهم مَنْ يقول: لا كفارة فيه كداود وابن حزم. وقد ذكر ابن حزم في كتاب (الإجماع) (2) الأقوالَ الثلاثة في الحلف بالطلاق: قولُ مَنْ يقول هو طلاق فيلزم، وقولُ مَنْ يقول هو يمين فلا يلزم ولا كفارة فيه، وقول من يقول هو يمين فلا يلزم ولكن فيه كفارة. _________ (1) إضافة ليست في الأصل. (2) (ص 129).

(2/830)


فصلٌ وأما قوله: (وهو لم ينقله إلا عن داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين) (1). فيقال: ليس الأمر كذلك؛ بل قد قال (2): (هذا القول مأثور عن بعض السلف، وهو قول داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين). وليس مراده ببعض السلف ما توهمه المعترض حيث قال: (قوله: عن بعض السلف سبقه إليه ابن حزم، فقال: إنه صح عن طائفة من السلف. ورواه عن علي وشريح وعطاء وطاووس والحكم بن عتيبة (3) بألفاظ ليس فيها شيء صريح) (4)، فإنَّ ظَنَّهُ أَنَّ مرادَهُ بذلك هم هؤلاء الذين ذكرهم ابن حزم رجم بالغيب، وهو ظن خطأ؛ فإنَّ المجيب لا يوافق ابن حزم على نقل هذا القول عن هؤلاء، بل قد ذكر في كلامه أن ما ذكره ابن حزم عن علي وشريح وغيرهما يدل على نقيض مقصوده. وأيضًا؛ فقول طاووس ليس هو أنه لا يلزم ولا كفارة عليه، بل طاووس يقول: لا يقع [236/ ب] الطلاق المحلوف، بل هو يمين منعقدة، بل هو يمين من أيمان المسلمين المنعقدة المكفرة؛ فكيف نقل المجيب عنه أنه كان يقول لا يقع ولا كفارة فيه؟! بل المجيب يقول: إِنَّ هذا القول لم يُنقل عن أحد من الصحابة، ولكن قال: هو مأثور ــ أي: منقول ــ عن بعض السلف؛ كأبي جعفر وجعفر بن _________ (1) «التحقيق» (46/ب). (2) أي في الفتوى المعترض عليها (33/ 187). (3) في الأصل: (عتبة)، والصواب ما أثبتُّ. (4) «التحقيق» (3/أ- ب).

(2/831)


محمد وغيرهما، فإنه وُجِدَ عنهم نقولٌ بأسانيد متصلة أنهم كانوا يفتون في الحلف بالطلاق أنه لا يلزم، وَنَقَلَ ذلك عنهم غير واحد من المنتحلين لمذاهبهم المقلدين لهم فيها في الحلف والتعليق مطلقًا أنه لا يقع طلاق محلوف به ولا معلق؛ كقول أبي عبد الرحمن الشافعي وابن حزم. لكن المجيب لم يجد ذلك مسندًا إلا في تعليق يقصد به اليمين، ووجد بعض الأجوبة لم تتعرض لنفي الكفارة، وبعضها نفى القول بوجوب شيء على الحالف مطلقًا؛ فلهذا قال: هو مأثور عن بعض السلف؛ فإنه مأثور عن هؤلاء، وعن أبي عبد الرحمن، وكان في زمن الشافعي وأحمد وأبي ثور وكُلُّ هؤلاء قبل داود، فكان قول داود وابن حزم مأثورًا عن بعض السلف غير الذين سماهم ابن حزم. والمجيب ذكر داود وابن حزم وبعض المتأخرين، وداود وابن حزم يقولان إنه لا يلزم طلاق ولا كفارة عليه، وذكر أَنَّ هذا قول بعض السلف، وقد تقدم أَنَّ هذا ذُكِرَ في جوابِ سائلٍ مستفتٍ لم يُذكر في مصنف يذكر فيه الأقوال وأسماء أصحابها ومن نقل ذلك عنهم، ويستوعب الكلام في ذلك نقلًا للمذاهب واستدلالًا عليها= وحينئذٍ؛ فَعَدَمُ نَقْلِ ذلك في الجواب لا ينفي لا علمه ولا علم غيره بالنزاع من طرق أخرى. وإذا كان بعض الناس لم يعلم النزاع= لم يكن عَدَمُ علمه نافيًا لعلم من علمه كأمثال ذلك؛ فكم من مسألة فيها نزاع يعلمه بعض الناس ولا يعلمه آخرون. * * * *

(2/832)


فصلٌ قال: (فأما غيرهما فيحتاج أَنْ يبينه حتى يُنظر فيه؛ وأما داود وابن حزم فإنَّ جماعة من أئمتنا قالوا: لا مبالاة [237/ أ] بخلافهم) (1). والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ النزاع في وقوع الطلاق المحلوف به ليس مختصًا بأهل الظاهر دون القائلين بالقياس، ولا مختصًّا بالشيعة (2) دون (3) أهل السنة، ولا مختصًّا بالخلف دون السلف، ولا بالسلف دون الخلف، بل هو موجود في أهل الظاهر وفي أهل القياس. فأبو عبد الرحمن الشافعي من أعظم الناس قولًا بالقياس، وأنصرهم لأصول الشافعي. قال أبو عمر بن عبد البر (4) فيه: كان (يُعْرَفُ بالشافعي لتحققه به، وَذَبِّهِ عَنْ مذهبِهِ، صَحِبَهُ ببغداد، وكان يُنَاظِرُ على مذهبه، وكان من أَجِلَّةِ العلماء وحُذَّاقِ المتكلمين العارفين بالإجماع والاختلاف، وكان رفيعًا _________ (1) «التحقيق» (46/ ب). (2) في الأصل زيادة: (هل الظاهر)، وقام الناسخ بشطبها. (3) في الأصل زيادة: (القائلين بها)، وقام الناسخ بشطبها. (4) في الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء (ص 108)، والمترجم فيه اسمه: أحمد بن محمد بن يحيى الأشعري، والذي تقدمت ترجمته: أحمد بن يحيى بن عبد العزيز؛ فهل هما اثنان؟ لم أجد ما يشير إلى شيءٍ من ذلك، ولا تفسيرًا لكلام ابن عبد البر في مقابل كلام غيره. انظر ما تقدم (ص 380).

(2/833)


عند السلطان وذوي الأقدار، عالمًا بالحديث والأثر، متبعًا (1) في العلم مع تمكن النظر والجدل والاقتدار على الكلام، وهو أول مَنْ خَلَّفَهُ الشافعي بالعراق في الذب عن أصوله ومذهبه والنصرة لقوله حتى عُرِفَ به، وهو أحد العشرة الذين اختارهم المأمون لمجلسه والكلام بحضرته وسماهم إخوته ورسمهم في الديوان بذلك، وله مصنفات جليلة، توفي ببغداد). وهذا حال هذا الرجل ببغداد في ذلك الوقت، وهي أعظم مدائن الإسلام إذ ذاك علمًا، حتى قال الشافعي - رضي الله عنه - ليونس: (هل رأيت بغداد؟ قال: لا. قال: ما رأيت الدنيا) (2). وهذا معروفٌ عن طاووس ومن وافقه، وهو من أجل التابعين، وأجلِّ أصحاب ابن عباس - رضي الله عنهما - حتى قال خُصَيف: (هو أعلمهم بالحلال والحرام) (3). وهو ــ أيضًا ــ مأثورٌ عن أبي جعفر محمد وعن ابنه جعفر وغيرهما من فقهاء أهل البيت - رضي الله عنهم -، وهؤلاء من أئمة الإسلام باتفاق أهل السنة والشيعة، لا يختلف اثنان من علماء المسلمين بأنهم مِنْ أعظم مَنْ يُعْتَدُّ بقولِهِ في مسائل الإجماع والنزاع، لكنَّ الرافضة غلت فيهم حتى جعلتهم معصومين، وجعلوا قولهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ ومعلومٌ أَنَّ غلو النصارى في المسيح ــ صلى الله على نبينا وعليه وسلم ــ لا يوجبُ نقصَ قَدْرِهِ، وكذلك الغالية في علي بن _________ (1) في الانتقاء: (مُتَّسِعًا). (2) أخرج القصة: الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 292) وغيره. (3) التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة (السفر الثالث) (1/ 306).

(2/834)


أبي طالب وأئمة أهل البيت - رضي الله عنهم - لا يوجب نَقْصَ قدرهم. وعلى هذا القول تدل أقوال الصحابة، وإِنْ كان ليس عنهم بصريح لا بالنفي ولا بالإثبات لعدم شهرة هذه المسائل في زمانهم، [237/ ب] وإنما اشتهر الحلف بالطلاق لما حَلَّفَ الحجاج الناس بذلك، وأدخلها في أيمان البيعة، وكان ذلك لَمَّا تَأَمَّر على العراق بعد موت ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وغيرهما من الصحابة (1). وبذلك يفتي من المتأخرين مَنْ لا يُحصى عدده (2). وإذا كان كذلك؛ فقول القائل: (أما داود وابن حزم فإنَّ جماعة من أئمتنا قالوا: لا مبالاة بخلافهم) لو صَحَّ قولُ هؤلاء لم يقدح؛ فإنَّ هذا لا يمكن أن يقولوه فيمن ذكر من السلف، ولا يمكن أن يقولوا ذلك في أبي عبد الرحمن الشافعي، بل جمهور هؤلاء يَعتدون بخلاف جميع طوائف المسلمين حتى المعتزلة والشيعة وغيرهم، ومعلومٌ أَنَّ القولَ بعدمِ وقوعِ الطلاقِ المحلوفِ به يَقولُ به من أئمة هؤلاء من لا يحصى عدده لأنهم كثيرون. والجواب الثاني: أَنْ يقال: الاعتبارُ في الأقوال بأدلتها لا بقائليها، فلا يُنظر إلى من قال، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - للحارث بن حِلِّزَة ــ لَمَّا قال له الحارث: (يا علي؛ أَتظنُّ أَنَّا نَظُنُّ أَنَّ طلحة والزبير كانا على باطلٍ وأنت على حقٍّ؟) ــ فقال: (يا حارثة؛ إنه ملبوسٌ عليك! اعرف الحقَّ _________ (1) انظر ما تقدم (ص 25، 42 - 44). (2) انظر ما تقدم (ص 829).

(2/835)


تعرف أهله، إِنَّ الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق) (1). والأقوال التي رُدَّتْ على مَنْ ردت عليه من أهل البدع، وانخفضت بها أقدارهم= رُدَّتْ لمخالفتها الكتاب والسنة، لا لمجرد خلاف غيرهم لهم فيها. أترانا نحتج على المعتزلة والرافضة بإجماع مَنْ سواهم من أهل السنة على خلافهم؟ وهل يحتج بهذا عاقل؟! أم يحتج بالكتاب والسنة وبإجماع السلف الذين اتفقنا نحن وهم على أَنَّ إجماعهم حجة، كما يحتج بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على المعتزلة وبأقوال أهل البيت على الإمامية. وقد كان أبو بكر بن داود إذا ناظر ابن سُريج فقال له: إجماع. يقول له: لعلك تُسَمِّي لي فلانًا وفلانًا، وقد طعن كثيرٌ من الناس في كثير من الأئمة، ولم يوجب ذلك منع الاعتداد بقوله (2). فكثيرٌ من الحنفية والمالكية طعنوا في الشافعي - رضي الله عنه - في نَسَبِهِ وعلمه وعدالته (3)، وقالوا: لا يعتد به في الإجماع، وذكروا لذلك شبهًا. _________ (1) أخرجه البلاذري في أنساب الأشراف (3/ 990) ولفظ كلام علي ــ - رضي الله عنه - ــ: (يا حارِ؛ إنك ملبوسٌ عليك، إنَّ الحقَّ والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال؛ اعرف الحقَّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف مَنْ أتاه). وذكره قبل ذلك بلفظ قريبٍ منه في (3/ 961). والأثر مشهور باللفظ الذي ذكره المجيب في كثيرٍ من الكتب؛ كالبيان والتبين للجاحظ (3/ 211)، وتلبيس إبليس لابن الجوزي (2/ 483) وغيرهما. (2) تاريخ بغداد (3/ 158)، تاريخ الإسلام (6/ 1026). (3) انظر في كلام بعض الأئمة في بعض ما تقدم (ص 626 - 627).

(2/836)


ومنهم مَنْ هو عظيمٌ عند المسلمين مثل القاضي إسماعيل بن إسحاق كان [238/ أ] يقول: لا يُعتد بخلاف الشافعي. وأكثر أهل الحديث طعنوا في أبي حنيفة - رضي الله عنه - وأصحابه طعنًا مشهورًا امتلأت به الكتب، وبلغ الأمر بهم إلى أنهم لم يرووا عنهم في كتب الحديث شيئًا، فلا ذِكْرَ لهم في الصحيحين والسنن (1). وطعنَ كثيرٌ من أهل العراق في مالك - رضي الله عنه - وقالوا: كان ينبغي له أَنْ يسكت فلا يتكلم. وكثيرٌ من أصحاب داود ــ رحمه الله تعالى ــ يُرَجِّحُ مَذْهَبَهُ على مذهب أبي حنيفة ومالك - رضي الله عنهما - وغيرهما، وقد ناظرني على ذلك طائفة منهم. فإذا قال القائل: جماعة من أئمتنا قالوا: لا مبالاة بخلافهم. قيل لهم: وهؤلاء وغيرهم يقولون: لا مبالاة بخلاف مَنْ ذكرتَهُ من أئمتكم، لا سيما وهؤلاء الذين قالوا هذا القول فيهم؛ ليس فيهم مجتهد. وداود ــ رحمه الله تعالى ــ وأصحابُهُ أعلمُ بكثيرٍ من علوم الإسلام منهم؛ أعلم بالحديث وأقوال الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين والإجماع والاختلاف، وأولئك فيهم مِنْ قِلَّةِ العلمِ بالحديث والآثار ومذاهب فقهاء الأمصار ما يوجب لأجله أَنْ يُعَدُّوا في ذلك من غثاء العامة. وقد ذكرهم أبو إسحاق الشيرازي ــ رحمة الله عليه ــ في طبقات _________ (1) انظر: المصنف لابن أبي شيبة (20/ 53 وما بعدها)، كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 80 وما بعدها)، وقد ألفت عدة كتب في بيان حال أبي حنيفة وأصحابه عند المحدثين ما بين مدافع عنه ومثبت لكلام أهل العلم.

(2/837)


الفقهاء، فقال بعد أَنْ ذكر المجتهدين (1): (ثم انتهى الفقه بعد ذلك في جميع البلاد التي انتهى إليها الإسلام إلى الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وداود، وانتشر الفقه عنهم في الآفاق، وقام بنصرة مذاهبهم أئمةٌ ينتسبونَ إليهم وينصرون أقوالهم، وهذا بعد أَنْ ذَكَرَ داود). وقال (2): (أَخَذَ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور، وكان زاهدًا متقللًا، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد. قال: وقيل: كان في مجلسه أربع مائة طيلسان أخضر). قال (3): (وانتقل فقهه إلى جماعة من أصحابه؛ فمنهم: ابنه أبو بكر، ومنهم: أبو بكر القاساني، ومنهم: إبراهيم بن محمد نفطويه، ومنهم: أبو الحسن بن المغلِّس أخذ العلم عن ابن داود، وهو إمام جليل في المذهب، له كتاب يُعْرَفُ بِـ (الموضح) (4)، وعنه انتشر علم داود في البلاد، وأخذ عن ابن المغلس أبو الحسن حيدرة بن عمر، وعنه أَخَذ البغداديون مذهب داود). إلى أَنْ قال (5): (ثم انتقل [238/ ب] إلى طبقة أخرى، فمنهم: قاضي القضاة أبو سعد (6) بشر بن الحسين ــ وكان إمامًا من أصحاب داود ــ، _________ (1) (ص 97). (2) (ص 92). (3) (ص 175). (4) وهو كتاب قد وضعه على كتاب المزني، ونَقْلُ المجيب من طبقات الفقهاء فيه اختصار. (5) (ص 177). (6) في طبقات الفقهاء: (سعيد).

(2/838)


ومنهم: القاضي أبو العباس المقصودي (1) صاحب كتاب [النير] (2)). إلى أَنْ قال (3): (ثم انتقل إلى طبقة أخرى؛ فمنهم: القاضي أبو الحسن الخرزي (4) أخذ العلم عن بشر بن الحسين (5)، وكان نظارًا). قال أبو إسحاق (6): (سألت القاضي أبا عبد الله الصَّيْمَرِي ــ وكان إمام أصحاب أبي حنيفة في زمانه ــ فقلت له: هل رأيتَ أَنْظَرَ من الشيخ أبي حامد؟ فقال: ما رأيت أَنظرَ منه ومن أبي الحسن الداودي) (7). وذكر عن أبي الحسين القدوري أنه قال: (أبو حامد عندي أفقه وأَنْظَر من الشافعي). وهذا القول وَإِنْ كان فيه مبالغة من أبي الحسين أُنْكِرَتْ عليه، فإنه يدل على براعة أبي حامد، وقد ذكر الصيمري أنه لم يَرَ أَنظرَ منه ومن الظاهري الداودي، والحنفي مذهبه في غاية المناقضة لمذهب الداودي، فهذا الثناء والمقارنة بأبي حامد دليلٌ على البراعةِ في النظر. وذكر أبو إسحاق ناسًا آخرين مثل (8): القاضي أبي الفرج الشيرازي. _________ (1) في طبقات الفقهاء: (المنصوري). (2) بياض مقدار كلمة، والمثبت من طبقات الفقهاء. (3) (ص 178). (4) تحتمل في الأصل (الجزري)، وقد وقع اضطراب في بعض كتب التراجم هل هو (الجزري) أو (الخرزي)، والمثبت من طبقات الفقهاء، ولعله هو الصواب؛ والله أعلم. (5) في الأصل: (الحسن)، والمثبت من طبقات الفقهاء، وما تقدم قريبًا. (6) (ص 124). (7) الداودي هو: الخرزي. (8) (ص 179).

(2/839)


قال: (وكان إمامًا في مذهب داود، وعنه (1) أخذ فقهاء شيراز مذهب داود). قال: (وكنت أناظره وأنا صبي). وذكر غيره منهم علماء أكابر مثل: عبد الله بن محمد بن أخت داود الظاهري. ومنهم: المنذر بن سعيد البلوطي وغيرهم (2). وهؤلاء وَإِنْ كانت لهم أقوال شنيعة فيما يظنون أنه ظاهر الكلام؛ كمسألة صَبِّ البولِ في الإناء ثم صبه في الماء الدائم ونحو ذلك= فلكثيرٍ من أهل القياس من الأقيسة الشبهية والطردية ما هو أشنع وأقبح من هذا الظاهر، وفي أقوالهم من مخالفة النصوص الصحيحة والسنن الثابتة ما هو أكثر من مخالفة أهل الظاهر للقياس الجلي. فصلٌ وأما قوله: (والإنصاف أَنَّ خلافهم في الأمور النقلية التي مستندهم فيها الحديث أقوى في الغالب، وأما ما يستندون فيه إلى كونه لا دليل عليه وما أشبه ذلك من الأدلة التي يعتمدونها= فليس بالقوي؛ كهذا. والمنقول [239/ أ] عن داود وقوع الطلاق إذا عُلِّقَ بالوقت) (3). فيقال: لا ريبَ أَنَّ كلامهم الذي يستندون فيه إلى محض الاستصحاب يخطئون فيه، وأما إذا استندوا إلى ما يَدَّعُونَهُ من الظاهر الذي ينفون فيه _________ (1) في الأصل: (وعن)، وهو خطأ. (2) انظر: المدرسة الظاهرية بالمشرق والمغرب للدكتور أحمد بكير محمود. وطبقات أهل الظاهر للشيخ مازن بن عبد الرحمن البيروتي. (3) «التحقيق» (46/ ب).

(2/840)


الدلالات المعلومة؛ كجحد دلالة فحوى الخطاب فقولهم فيه خطأ قطعًا، كقولهم في النهي عن التأفيف أنه لا يدل على النهي عما هو أبلغ منه، وقولهم في النهي عن البول في الماء أنه لا يدل على النهي عن صب البول فيه من الإناء (1)، وكذلك مخالفتهم للقياس الجلي مثل العلة المنصوصة، لكن هذا كله لهم فيه قولان مشهوران، لكن ابن حزم يختار نفي دلالة الفحوى وقياس العلة، فلهذا شَنُعَ غلوه في الظاهر. ولكن قولهم في الطلاق ليس هو مما بنوه على ذلك؛ فإنَّ لهم في الطلاق قولان، أضعفهما: قول ابن حزم إنَّ الطلاق المعلق بالصفة لا يقع بحال، وهو قول أبي عبد الرحمن الشافعي، وقول شيوخ الإمامية (2)؛ وهذا القول ضعيفٌ، لكنْ مع ضعفه فلا يمكن الموقعين لكلِّ طلاقٍ معلق بالصفة أَنْ يقيموا حجة شرعية على صحة قولهم وفساد قول هؤلاء. ولهذا لم يَقْدِر المعترض ــ مع اجتهاده ــ على ذكر حجة صحيحة يصحح بها هذا القول ويبطل قولهم، فإنَّ كلا القولين ضعيف مخالف لدلالة الكتاب والسنة وآثار الصحابة - رضي الله عنهم - والقياس الجلي. وهؤلاء القائلون بوقوع المعلَّق ليس لهم ضابط شرعي دَلَّ عليه الكتاب والسنة في الفرق بين ما يعلق وما لا يعلق، ولهذا بَيَّنَّا أَنَّ هؤلاء مع ضعف قولهم لا يمكن هؤلاء إقامة حجة صحيحة عليهم. _________ (1) مجموع الفتاوى (22/ 331 - 332)، الفتاوى الكبرى (2/ 161) (6/ 617)، الاستقامة (1/ 7)، الإخنائية (ص 420 وما بعدها). وانظر آخر الفصل السابق. (2) قاعدة العقود (1/ 305).

(2/841)


وأما القول الثاني للظاهرية فهو الفرق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والذي يقصد به اليمين، فهذا القول كالفرق الذي عليه الجمهور في تعليق النذر بين ما يقصد به النذر وما يقصد به اليمين، وهذا القول هو الذي يدل عليه أقوال الصحابة، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار، لكن هم لا يوجبون الكفارة في [239/ ب] هذه الأيمان كلها لأنها عندهم من الحلف بغير الله تعالى كالأيمان بالمخلوقات. فقولهم في نفي وقوع الطلاق في غاية القوة، وقولهم في نفي التكفير قول يقول به بعض التابعين الذين يقولون في نذر اللجاج والغضب لا شيء عليه، وهو قول ابن حزم معهم، فليس في أقوالهم التي اعتددنا بخلافهم فيها ما انفردوا به عن غيرهم، ولا ما بنوه على أصولهم الضعيفة التي انفردوا بها. وكذلك المعتزلة والخوارج والشيعة ــ قد ذكرنا في غير هذا الموضع اختلاف العلماء من أصحاب أحمد وغيره ــ هل يعتد بخلافهم؟ على قولين (1)؛ وَبَيَّنَّا أَنَّ كل قول انفرد به طائفة من هؤلاء عن أهل السُنة فإنه لا يكون إلا خطأ، وما وافقهم فيه بعض أهل السنة: فقد يكون قولهم فيه صوابًا؛ وحينئذٍ ــ فلا ريب ــ أنه يعتد بأقوالهم التي وافقهم فيها بعض أهل السنة لجواز أَنْ يكون ذلك القول هو الصواب، فإنَّ المقصودَ الأعظم بحكاية أقوال العلماء الاستدلال على القول الصواب منها، ولا يجوز أَنْ يهمل قول يحتمل أنه حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وعلى هذا؛ فهذه مسائل الحلف بالطلاق وتعليقه قد وافقوا في أقوالهم _________ (1) انظر ما تقدم (ص 659).

(2/842)


فيها بعض أهل السُّنة، بل القول الذي وجدته مسندًا عن العلماء من ولد علي - رضي الله عنهم - كأبي جعفر محمد بن علي وابنه جعفر إنما هو في التعليق الذي يُقصد به اليمين أنه لا يلزم= لم أجد لهم قولًا مسندًا في كل تعليق، وكأن الذين نقلوا قولهم بالمعنى الذي فهموه لَمَّا وجدوه في تعليقٍ= جعلوه كذلك في كل تعليق، ولم يفرقوا بين ما يقصد به اليمين وما لا يقصد، كما أَنَّ مَنْ يحكي عن بعض الصحابة وكثير من التابعين أَنَّ الطلاق المحلوف به يقع= وَجَدَ قولهم في بعض التعليق فجعل كل تعليق كذلك، سواء قصد به اليمين أو لم يقصد. فتبين أَنَّ الاعتداد في مثل هذه المسألة بخلاف أهل الظاهر الذي لم يستندوا فيه إلى أصولهم الضعيفة، وبخلاف الشيعة الذين وافقهم عليه بعض أهل السنة= هو اعتداد بخلافهم فيما يعتد فيه بخلاف المخالف باتفاق المسلمين، وَأَنَّ الاعتداد بخلافهم [240/ أ] في مثل ذلك جائز عند جماهير الأولين (1). فقول المعترض: (مثل ما يستندون فيه إلى أنه لا دليل عليه كهذا، فلا يعتد بخلافهم) ظَنٌّ منه أَنَّ مستندهم فيه أنه لا دليل على ذلك، وهذا متوجه على قول ابن حزم إنَّ المعلق بالصفة لا يقع بحال، وأما مَنْ فَرَّقَ بينَ أَنْ يقصد الإيقاع وبين أن يقصد اليمين، فهذا يقيم الدليل على أن الأول مُطَلِّق والثاني حالف، فليس استناده إلى أنه لا دليل على ذلك. * * * * _________ (1) وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وفي الهامش كتب (والأولين) وبعدها (صح) وفوقها (ظ). وانظر: الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع الفقهية «دراسة تأصيلية» للدكتور: عبد السلام بن محمد الشويعر.

(2/843)


فصلٌ قال المعترض: (وبالجملة؛ فهم أعذر من المصنف من جهة عِزَّةِ النصوص الدالة على جواز التعليق، وتَخيُّلِ أَنَّ الإنشاءات لا تَقبل التعليق، كما قدمناه وقدمنا الجواب عنه، وأما مَنْ يُسَلِّم التعليق فأقل عذرًا) (1). والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ الكلام هنا في ثبوت النزاع في وقوع الطلاق المحلوف به، وقد عرف ذلك من وجوه متعددة، عن غير واحد من علماء المسلمين سلفهم وخلفهم؛ وقد ذكرنا أَنَّ للناس في الطلاق المعلق والمحلوف به ثلاثة (2) أقوال: أحدها: وقوعهما. والثاني: انتفاء وقوعهما والتكفير فيهما، ولا يثبت بإسنادٍ ثابتٍ واحدٌ من القولين، ولا ما يدل عليه عن الصحابة، بل ولا نُقِلَ لفظ صريح عن التابعين بأنَّ كل طلاق معلق ومحلوف به يقع، ولا كل طلاق معلق ومحلوف به لا يقع. والثالث: أنه يقع المعلق الذي يُقصد إيقاعه عند الصفة دون المحلوف به كالمعلق الذي لا يقصد إيقاعه عند الصفة، وهذا الفرق ثابت عن الصحابة - رضي الله عنهم - في تعليق الحلف بالعتق والنذر، وكلامهم يدل على أَنَّ الحلف _________ (1) «التحقيق» (46/ ب). (2) في الهامش كتب (أربعة) وفوقها حرف (خ).

(2/844)


بالطلاق كذلك، وقد صَرَّحَ به من التابعين ومن بعدهم كثير من العلماء في الطلاق والعتق والنذر، وأصحاب هذا القول لهم في الكفارة في الحلف بالطلاق والعتاق والنذر قولان. الوجه الثاني: أَنْ يقال: قوله: (هم أعذر من المصنف من جهة عِزَّةِ النصوص الدالة على جواز التعليق، وتَخَيُّلِ أن الإنشاءات لا تقبل التعليق)، يتضمن أَنَّ من لم ير وقوع الطلاق المعلَّق لِتَخَيُّلِ أنه لا يقبل التعليق وعدم دلالة النصوص عليه= أعذر ممن يُفَرِّق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والتعليق [240/ ب] الذي لا يقصد به الإيقاع. والذين قالوا لا يقع الطلاق المعلَّق طائفةٌ قليلة كأبي عبد الرحمن وابن حزم وشيوخ الإمامية، وأما المفرق بين تعليق وتعليق، فهذا القول الثابت عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وهو قول أكابر التابعين، وجمهور علماء المسلمين من الأولين والآخرين؛ لكن منهم مَنْ طَرَدَ أصله ومنهم من تناقض فاستثنى الحلف بالطلاق والعتاق أو أحدهما، وهؤلاء الذين استثنوا ذلك ليس معهم بهذا الفرق أَثَرٌ مسند عن الصحابة لا صحيح ولا ضعيف، بل قولهم مخالفٌ للقولين المنقولين عن الصحابة؛ فإنَّ عن الصحابة في تعليق النذر والعتق روايتين، والرواية الواحدة مع ضعفها اتفق العلماء بعدهم على خلافها= فوجب أَنْ تكون تلك الرواية الأخرى الثابتة هي الصواب، لا سيما ومعها الكتاب والسنة والقياس الجلي ودلالة الإجماع على أنها الصحيحة، إذ لم يكن للصحابة إلا قولان مع اتفاقهم على التسوية بين التعليق القسمي والإيقاعي، إما في اللزوم وإما في عدم اللزوم. وأما القول بعدم لزوم الطلاق المعلق مطلقًا فقولٌ لم يُعرف عن أحدٍ

(2/845)


من الصحابة، ولا نُقِلَ عن أحدٍ من التابعين به نقل صريح، بل النقولات الكثيرة المتواترة عن التابعين، بل وعن الصحابة تقتضي وقوع الطلاق المعلق إذا قصد وقوعه عند وجود الصفة. وكلام المعترض يتضمن ترجيح هذا القول الشاذ على القول المُفَرِّقَ بين تعليق وتعليق، وهو القول الثابت عن الصحابة وأكابر التابعين وجمهور العلماء، بل هو القول الذي لا يقومُ دليلٌ شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس إلا عليه. الوجه الثالث: قوله: (تَخيل أَنَّ الإنشاءات لا تقبل التعليق) يدل على أَنَّ مستند هؤلاء في منع التعليق هو هذا التخيل، وهذا التخيل لم يَذْكُر أحد من العلماء أنه مستنده؛ فليس هو قطعًا مستند مَنْ نَفَى وقوع الطلاق المعلق، لا من الفقهاء القَيَّاسِين كأبي عبد الرحمن، ولا من أهل الظاهر كابن حزم، ولا من الشيعة. فإنَّ أبا عبد الرحمن بَيَّنَ مستنده، وهو قياسه ذلك على المتعة كما تقدم. وأما ابن حزم فَبَيَّنَ مستنده، وهو أنه [241/ أ] لم يَرِدْ بذلك نص في دعواه، وأما كونه يقبل التعليق أو لا يقبله فهو لا يلتفت إلى مثل هذا الكلام، ولو كان يقبل التعليق ولم يرد به نص لم يكن تعليقًا صحيحًا. والمعترض قد سَلَّمَ أَنَّ الإنشاء لا يقبل التعليق، وإنما الذي يقبله عنده موجب الإنشاء لا نفس الإنشاء، وَسَلَّمَ أنه لا يكفي في صحة التعليق وغيره من العقود الأدلة العامة، بل لا بُدَّ من دليل خاص يدل عليه ولم يذكر دليلًا خاصًّا كما تقدم، فكان ما ذكره من الأصول التي اعتمدها حجة على بطلان تعليق الطلاق لا على صحته.

(2/846)


وما نقله عن ابن حزم وغيره من أن مأخذهم تخيل فساد تعليق الإنشاءات= غلطٌ عليهم؛ وكذلك الشيعة المانعون من تعليقه عمدتهم ما فهموه من المنقولات عن الفقهاء الذين لا يقلدون إلا لهم؛ وهم كأبي جعفر وجعفر، فليس في هؤلاء مَنْ مستنده ما ذكره المعترض= فتبيَّن غلطُهُ على هؤلاء وهؤلاء. الوجه الرابع: أنه إذا قُدِّرَ أَنَّ المستند عِزَّةُ النصوص، فهذا مستند نفاة القياس كابن حزم، وأما أبو عبد الرحمن الشافعي فليس هذا مستنده. الوجه الخامس: أَنَّ هذا لو كان مستندًا؛ فإنما هو مستند من نفى وقوع الطلاق المعلق مطلقًا، ليس هو مستند من فَرَّقَ بين التعليق الإيقاعي والقسمي. والنافي لوقوع الطلاق مطلقًا من الظاهرية هو ابن حزم، وأما داود فليس هذا مذهبه، وَإِنْ كان الشاشي صاحب (الحلية) (1) قال: (وَحُكِيَ عن داود أَنَّ الطلاق المعلَّق بالصفة لا يقع مطلقًا). فابن حزم أعلم بمذهب داود، وقد ذكر ابن حزم الإجماع على وقوع الطلاق المعلَّق مع ذكره النزاع في الطلاق المحلوف به، وذكره الأقوال الثلاثة: هل هو طلاق فيلزم أم هو يمين مكفرة _________ (1) هو أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي، شيخ الشافعية في زمانه، ولد سنة (429)، وتوفي سنة (507). وله كتاب باسم (حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء) طبع كاملًا في مؤسسة الرسالة الحديثة، ويسمى ــ أيضًا ــ بـ (المستظهري) لأنه صنفه لأمير المؤمنين المستظهر بالله. والنقل فيه (7/ 110). انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (19/ 393)، طبقات الشافعية الكبرى (6/ 70)، معجم المؤلفين (3/ 60).

(2/847)


أم يمين غير مكفرة؟ وهذا الفرق هو القول الصحيح. ومن نفى الطلاق من هؤلاء المفرقين، فإنما نفاه لكون الحالف ليس بمطلِّق، لا لأنَّ الطلاق المعلَّق لا يقع، بل هو واقع عنده قابل للتعليق؛ وهذا يتبين بِـ الوجه [السادس] (1): وهو أنه يقال: لا نسلم عِزَّةَ النصوص، [241/ ب] بل هو يقول: النصوص الشاملة للطلاق يَشمل مُطْلَقَهُ وَمُعَلَّقَهُ، كما أَنَّ نصوص العتق يَشمل مطلقه ومعلَّقه، وكذلك نصوص النذر يَشمل مطلقه ومعلَّقه، بل يَشمل مطلقه بالإجماع وفي معلَّقِهِ نزاع. وكذلك نحن نقول: نصوصُ الضمان يَشمل مُطْلَقَهُ وَمُعَلَّقَهُ، ونصوص الإذن والولاية يَشمل المطلق والمعلَّق، وذلك أَنَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الولاء لمن أعتق» (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أعتق شركًا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد ... » (3) ونحو ذلك= يتناول العتقَ المُطْلَقَ والمعلَّق بصفة إذا وقعت. وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يطيع الله فليطعه» (4) يتناول النذر المطلق والمعلق. فكذلك قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} _________ (1) في الأصل: (السابع)، وهو خطأ، وقد استمر هذا الخطأ فيما بعد هذا من الأوجه. (2) تقدم تخريجه في (ص 98). (3) أخرجه البخاري (2522)، ومسلم (1501) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (4) تقدم تخريجه في (ص 6).

(2/848)


[البقرة: 228] يتناول الطلاق المرسل والطلاق المعلق، فإنَّ كونَهُ معلقًا بمنزلة كونه مؤقتًا، وهو إيقاعٌ للطلاق في تلك الحال لا في غيرها، وهذا لا يُخرجه عن أَنْ يكون طلاقًا، كما لا يَخرج العتق والنذر عن أن يكون عتقًا أو نذرًا. ومعلومٌ أَنَّ كون الطلاق طلاقًا والعتق عتقًا والنذر نذرًا هو ثابت؛ سواء كان بلفظٍ عربي أو عجمي، وسواء كان بلفظ صريح أو كناية، وسواء كان مرسلًا مطلقًا أو كان مختصًّا بحالٍ دون حال وبصفةٍ دون صفة؛ وهذا موضع يشتبه على كثيرٍ من الناس؛ فإنَّ التقييد تارة يكون في اللفظ وتارة يكون في المعنى (1). فأما التقييد اللفظي: فتارة يكون المسمى بالمقيد لا يدخل في اللفظ المطلق، كما لا يدخل المني المسمى بالماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب، والمذكور في قوله: «إنما الماء من الماء» (2) في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وتارة يدخل كما يدخل ماء البحر وغيره في اسم الماء. وكما يدخل في الرقبةِ السوداءُ والبيضاءُ في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. وأما التقييد المعنوي: فكما يَتصور الإنسان في نفسه إنسانًا مطلقًا، ويتصوره مقيَّدًا بكونه عربيًّا وعجميًّا ومسلمًا وكافرًا ونحو ذلك مع علمه بأنَّ _________ (1) مجموع الفتاوى (2/ 164) (12/ 67) (32/ 305)، مجموعة الرسائل والمسائل (3/ 55) (4/ 20)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 192). (2) تقدم تخريجه في (ص 398).

(2/849)


معنى الإنسان ثابت مع هذه القيود. وإذا عُرِفَ هذا؛ [242/ أ] فمعنى الطلاق والعتاق والنذر ثابت؛ سواء تكلم به بلفظ عربي أو عجمي، وسواء تكلم به بلفظ هو صريح كالنص والظاهر، أو بلفظ هو كناية كاللفظ المجمل الذي يراد به هذا تارة ومعنى آخر تارة، لكنه إذا أراده بلفظ الكناية بَيَّنَ مراده [ ... ] (1) يعني الطلاق ثابتًا به. وكذلك كون الطلاق مرسلًا لا يقف على شرط، وكونه مقيدًا معلقًا بشرط يقع في حال دون حال، فإنَّ هذا لا يمنع ثبوت حقيقة الطلاق ومعناه في تلك الحال المقيدة، ولا يمنع شمول لفظ الطلاق لهذا وهذا، كما يَشمل لفظ العتق والنذر لهذا وهذا، وكما يشمل لفظ الرقبة والإنسان لما يوجد فيه المسمى وَإِنْ كان مخصوصًا بقيودٍ لا توجد في غيره. يُبَيِّنُ هذا: أَنَّ الطلاق المطلق عن جميع القيود لا وجود له في الخارج، بل وكذلك سائر مسميات الألفاظ ومعانيها إذا أُخِذَتْ مجردة عن كل قيد= لم يكن لها وجود في الخارج، بل تُقَدَّرُ في الأذهان من غير أَنْ يكون لها وجود في الأعيان (2). فالطلاق المنجَّز مقيَّدٌ بكونه منجَّزًا، وطلاق السنة الحلال مقيَّدٌ بكونه طلاق سنة حلالًا، وطلاق البدعة مقيَّد بكونه طلاق بدعة محرم، لكن هذا القيد _________ (1) بياض مقدار كلمة. (2) كثيرًا ما يُكرر ابن تيمية هذا المعنى؛ انظر لذلك ــ مثلًا ــ: مجموع الفتاوى (2/ 89، 163، 166)، مجموعة الرسائل والمسائل (4/ 19/ 21)، جامع المسائل (2/ 185)، درء تعارض العقل والنقل (6/ 43، 98) (10/ 108)، تلبيس الجهمية (1/ 328) (3/ 148).

(2/850)


أوجب اختصاصه بالتحريم والنهي، وهل هو مانع من لزومه؟ على القولين فيه كاختصاص البيع المحرم والنكاح المحرم بكونه محرمًا منهيًّا عنه. والطلاق بعوضٍ مُقَيَّدٌ بكونه طلاقًا بعوض، لكنَّ هذا القيد أوجب كونه بائنًا، ثم البائن عند أكثر فقهاء الحديث يمنع أن يكون من الطلاق المطلق في كتاب الله ــ تعالى ــ الذي جعله الله رجعيًا وَجُعِلَ ثلاث مرات وَجُعِلَ فيه تربص ثلاثة قروء في كل مرة. وأما كون الطلاق معجلًا أو مؤخرًا، وبالعربية أو بالعجمية، وبالصريح أو بالكناية= فهي صفات لا تؤثر في اختلاف أحكامه الشرعية إذا أُوْقِعَ، فإنَّ الذي أوقعه أوقعَ الطلاقَ الذي شرعه الله، لكن أوقعه إما (1) مجردًا وإما مقيدًا ببعض الأحوال، وإما بصريح وإما بكناية، وإما بعربية وإما بعجمية؛ فكما أَنَّ ألفاظ النصوص تتناول الطلاق بأيِّ لفظٍ كان من [242/ ب] عربي أو عجمي، ومن صريح أو كناية؛ فكذلك تتناوله كيف ما أوقعه إذا لم يكن إيقاعه محرمًا، سواء كان مجردًا أو مقيدًا. وابن حزم يمنع وقوع الطلاق المعلق والطلاق بالكناية، وكذلك شيوخ الإمامية، وهذا القول مخالف لما استفاضت به الآثار عن الصحابة والتابعين، ومخالف للأدلة الشرعية، فإنَّ اعتبارَ لفظٍ معين للطلاق كاعتبار لفظ معين للعتق والنذر والبيع والنكاح وسائر العقود، وذلك كاعتبار لفظ العربي دون غيره، ومعلومٌ أَنَّ هذا خلاف النص والإجماع في أكثر المواضع. _________ (1) في الأصل (أو)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/851)


فلا ريب أَنَّ البيع يصحُّ بكل لسان، وكذلك الإسلام والكفر، وكذلك الطلاق، وكذلك النكاح عند عامة علماء المسلمين، وإنما فيه نزاع شاذ ذهب إليه بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، والأئمة المتقدمون لم يقولوا شيئًا من ذلك، ولا يوجد هذا في كلام أحمد ولا كلام عامة متقدمي أصحابه، بل ولا يوجد في كلامه وكلام قدماء أصحابه تعيين لفظ الإنكاح والتزويج، ولكنَّ الشافعي اشترط ذلك، ووافقه بعض متأخري أصحاب أحمد؛ كأبي عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي أبي يعلى وَمَنْ تَلَقَّى ذلك عنه كأبي الخطاب وغيره (1). ومأخذ الشافعي - رضي الله عنه - في ذلك: أَنَّ النكاح يُشترط فيه الإشهاد، والإشهادُ إنما يكون على الصريح دون الكناية، إذ الصريح عنده لا بُدَّ أن تقترن به النية لا يُكتفى فيه بدلالة الحال، والنية باطن [ ... ] (2)، وليس له صريح إلا هذان اللفظان. وهذه المقدمات ممنوعة ــ هي أو بعضها ــ على أصل أحمد وجمهور _________ (1) قال المرداوي في تصحيح الفروع (7/ 134): وقال الشيخ تقي الدين في قاعدة القياس بعد إطلاق الوجهين: و «التحقيق» أن المتعاقدين إنْ عَرَفَا المقصود انعقدت بأيِّ لفظٍ كان من الألفاظ التي عَرَفَ بها المتعاقدان مقصودهما؛ وهذا عامٌّ في جميع العقود؛ فإنَّ الشارع لم يَحُدَّ حدًّا لألفاظ العقود، بل ذكرها مطلقةً. انظر: مجموع الفتاوى (20/ 533 وما بعدها) (29/ 7) (32/ 302، 309، 156 مهم)، الفتاوى الكبرى (3/ 271 ــ 271 مهم) (5/ 486)، تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لابن تيمية (1/ 410) (2/ 645)، اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية (6/ 19) (8/ 318) والإحالات التي ذكرها صاحبا الكتابين الأخيرين. (2) بياض مقدار كلمة. وانظر: مجموع الفتاوى (20/ 534 - 535).

(2/852)


العلماء (1) كمالك وأبي حنيفة وغيرهما؛ فإنَّ الإشهاد في اشتراطه روايتان عن أحمد؛ إحداهما: لا يشترط؛ وهو مذهب مالك وداود وغيرهما. قال أحمد - رضي الله عنه -: (ليس في الشهادة على النكاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث ثابت) (2). وأما كون الإشهاد لا يكون إلا على الصريح، فهذا مما نازع فيه الجمهور؛ فإنَّ [243/ أ] الكناية مع دلالة الحال صريحٌ عند الجمهور: أحمد ومالك وغيرهما، وإذا اقترن بها لفظ يميز معناها كانت كالصريح باتفاقهم، كما إذا قال: تصدقتُ بهذا صدقةً مُحَبَّسة؛ فمتى نوى بلفظ الصدقة لفظًا من ألفاظ الوقف أو حكمًا من أحكامه كان صريحًا عندهم؛ فكذلك إذا قال: مَلَّكْتُ بنتي على ما أمر الله به في الزوجة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان؛ فهذا صريح في النكاح، وبسط هذه المسائل له موضع آخر (3). والمقصود هنا: التنبيه على أَنَّ الصواب هو الفرق بين التعليق القسمي والتعليق الإيقاعي، دون الفرق بين الطلاق المجرد والمعلق كما قاله ابن حزم، خلاف ما قاله المعترض من أَنَّ صاحب هذا القول أعذر من صاحب ذاك القول. الوجه [السابع] (4): أَنْ يقال: مَنْ مَنَعَ تعليقَ الطلاق مطلقًا فقد خالف _________ (1) في الأصل: (العقلاء) وهو تعبير غريب على شيخ الإسلام في مثل هذا الموطن. (2) نقلها ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (32/ 35)، الفتاوى الكبرى (3/ 189)، ونسبها الزركشي في شرح مختصر الخرقي (5/ 23) إلى رواية الميموني. (3) مجموع الفتاوى (32/ 16)، الفتاوى الكبرى (6/ 103). (4) في الأصل (الخامس)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/853)


الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين، فإنَّ إيقاع الطلاق المعلَّق مأثور عن علي وابن مسعود وأبي ذر ومعاوية وابن عمر - رضي الله عنهم -، بل قد تنازع الصحابة - رضي الله عنهم - في تعليقه على الملك؛ فأوقعه ــ مع ذلك ــ ابن مسعود وغيره، ولم يوقعه علي وابن عباس - رضي الله عنهم -، وعللوا ذلك بكونه طلاقًا معلقًا، مع كونه تعليقًا قبل النكاح، فلو كان الطلاق المعلَّق لا يقع عندهم بحال لم يوقع هذا منهم أحد، ولو كان لا يقع عند بعضهم لَعَلَّلَ بذلك مَنْ لم يوقع هذا منهم، فلما أعرضوا عن هذا التعليل وعللوا بما يختص بهذا النوع= عُلِمَ أَنَّ كونه معلقًا ليس مانعًا عندهم من الوقوع. والمعترضُ جعل هذا التعليق يمينًا، وَظَنَّ أَنَّ ذلك يقتضي أَنَّ كونه يمينًا ليس بمانع عندهم، واعتقد أَنَّ المجيب يجعل هذا من الأيمان التي فيها كفارة. وقد تقدم التنبيه على هذا الغلط، وَبُيِّنَ أَنَّ هذا القول لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل يدري ما يقول، وَأَنَّ الذين تنازعوا في الطلاق المحلوف به هل هو طلاق أو يمين منعقدة مكفرة أم يمين غير منعقدة ولا مكفرة؟ لم يدخل في نزاعهم [243/ ب] الطلاق المعلَّق الذي يقصد إيقاعه عند الصفة سواء عُلِّقَ على الملك أو على غير الملك، بل هذا المعلق لم يقل أَحَدٌ إنه يمين مكفَّرة ولا غير يمين مكفَّرة، وإنما النزاع هل هو طلاق أم ليس بطلاق؟ وإذا قيل ليس بطلاق (1) فليس هو يمينًا من الأيمان، لا من أيمان المسلمين المكفرة المنعقدة ولا من الأيمان المنهي عنها كأيمان المشركين، فلا يقول _________ (1) في الأصل (بطلاس)، وهو سبق قلم.

(2/854)


قط عاقل: إِنَّ من عَلَّقَ الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها أَنَّ هذا من الأيمان التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، ولا من الأيمان التي جعل الله ــ تعالى ــ فيها الكفارة؛ فمن ظن أن أحدًا من العلماء جَعَلَ هذا من أجل هذين= فقد غلط غلطًا بينًا لا يغلط مثله من له معرفة بأقوال العلماء في مسائل الأيمان والطلاق؛ فكيف يكون أعذرُ ممن فَرَّقَ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي يقصد به الإيقاع؟! وهذا الفرق هو الذي دَلَّ عليه الكتاب والسنة واللغة والعقل والعرف، وهو القول الثابت عن الصحابة وجمهور التابعين، وَمِنْ بعدهم عامةُ علماءِ المسلمين الأولين والآخرين يقولون بهذا الفرق، لكن منهم من يجعل التعليق القسمي لغوًا، ومنهم من يجعله يمينًا منعقدة، ومنهم من يستثني بعض ذلك؛ كالحلف بالطلاق والعتاق والظهار والحرام على ما في استثناء هذه من النزاع. وأما مَنْ يجعل التعليق القسمي كالتعليق الإيقاعي مطلقًا، فهذا قولٌ قاله بعض التابعين ومن وافقهم، ومع هذا فلم يطرده أحدٌ من الأئمة، وقد روي عن الصحابة فيه رواية ضعيفة لم يقل بها أحد من الأئمة، بل الذين قالوا هذا تناقضوا واختلفوا، كما ذُكِرَ هذا في موضع آخر (1). الوجه [الثامن]: قوله: (وأما مَنْ سَلَّمَ التعليق فأقل عذرًا). فيقال له: جميع الأمة قد سَلَّمَت التعليق في النذر وغيره كالعتق، ومع هذا فجمهور سلفهم وخلفهم فَرَّقُوا بين التعليق الذي يقصد به اليمين _________ (1) تقدم في (ص 844 وما بعدها).

(2/855)


والتعليق الذي يقصد به الإيقاع، فكيف [يكون] (1) هؤلاء أقل عذرًا ممن يقول الطلاق المعلق [244/ أ] لا يقع بحال، وهو قول شاذٌ لا يُعرف عن أحدٍ من السلف؟! ثم هو قول في غايةِ الفسادِ، والفرقُ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والتعليق الذي يقصد به الإيقاع في غاية القوة؛ بل نحن نعلم قطعًا أنه من الفرقان الذي بعث الله ــ تعالى ــ به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل به كتابه، ونعلم قطعًا أَنَّ الطلاق المعلق إذا قُصِدَ إيقاعه عند الصفة يقع، فهل يَجعل مَنْ سَوَّى بينهما في النفي أعذرُ ممن فَرَّقَ إلا مَنْ هو مِنْ أَبعدِ الناس عن معرفة دين الإسلام؟! بل هذا القول يستلزم قول الذين قالوا {لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]. الوجه [التاسع]: أنه لو قال قائل: مَنْ منع وقوع الطلاق المعلق مطلقًا، أو قال: إِنَّ الطلاق المحلوف به لا طلاق فيه ولا كفارة فهو أعذر ممن ألزم الطلاق المعلق المحلوف به مطلقًا= لكان قولُ هذا القائل أَسَدُّ ممن جعل نافي الطلاق مطلقًا أعذر ممن فَرَّقَ بين التعليقين، لأنَّ ذاك يقولُ: الأصلُ بقاءُ النكاح، والأصلُ براءةُ الذمةِ من الكفارة، وهذه الأيمان نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تنعقد ولا كفارة فيها. والملزِمُ بالطلاقِ إِنْ نازعه في كونها أيمانًا كابر مكابرة يعرفها العامة والخاصة. وَإِنْ سَلَّمَ أنها أيمان، وقال: هي أيمان محرمة منهيٌّ عنها؛ بَطَلَ قَولُهُ. وإِنْ قال: أيمانٌ منعقدة مُكَفَّرَة؛ بطل قوله. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(2/856)


وَإِنْ قال: أيمان منعقدة غير مكفرة؛ فقد خالف الكتاب والسنة، وأتى بقول مبتدع؛ إذ ليس في شرع المسلمين يمين من الأيمان إلا منعقدة مكفرة، أو باطلة لا منعقدة ولا مكفرة؛ وأما يمين منعقدة غير مكفرة فهذا ليس من شرع المسلمين، وإنما هو من شرع أهل الكتاب، وكانوا عليه في أول الإسلام قبل أَنْ نَزَّلَ الله ــ تعالى ــ كفارة الأيمان. ومع هذا التوجيه؛ فنحن نقول: التسوية بين التعليقين في اللزوم وإِنْ كان قولًا ضعيفًا، فقول مَنْ نفى لزومهما جميعًا أضعف منه، وقولُ مَنْ جعل الحالف بالطلاق يلزمه الطلاق أقوى من قول من [244/ ب] يقول لا يلزمه لا طلاق ولا كفارة، ومن جعل هذا تعليقًا لازمًا ويمينًا لازمة أقوى مِن قول مَن جعل هذا تعليقًا باطلًا ويمينًا غير منعقدة. فإنَّ قولَ الملزمين من جنس الشرع المنسوخ، وقولُ المبطلين من جنس شرع الجاهلية الذي لم يشرعه الله ــ عز وجل ــ قط؛ وقولٌ شُرِعَ ثم نُسخ أرجحُ من قول ما شرعَ قط، وكل مسألة فيها نزاع فالقول الصواب فيها هو موافق لشرع الرسول المحكم، وما خالفه فهو إما من جنس الشرع المنسوخ أو من جنس ما لم يشرع قط؛ والأول خيرٌ من الثاني (1). فإنَّ هذه الأيمان هي من أيمان المسلمين بلا ريب؛ فالقول بانعقادها وعدم الكفارة فيها من جنس الشرع المنسوخ، وما كانوا عليه أولًا من أَنَّ اليمين يَلْزَمُ صاحبَها ما حَلَفَ عليه، وَأَنَّ مَنْ حَرَّمَ شيئًا حَرُمَ عليه كما حَرَّمَ إسرائيل على نفسه. والقول بأنها لا تنعقد ولا شيء فيها بمنزلة مَنْ جَعَلَ _________ (1) انظر ما تقدم في (ص 38).

(2/857)


الأيمان والتحريم قولًا باطلًا لا شيء فيه بحال وهذا لم يشرع قط؛ فما زال في كل شريعة للأيمان والتحريم حكم معتبر، إما اللزوم وإما الكفارة. فنحن وإن علمنا أَنَّ قول هؤلاء الملزمين بهذه الأيمان أرجح من قول من أهدرها، فَمَنْ عَكَسَ ذلك وجعل من جعلها لازمة أقل عذرًا ممن أهدرها= فقوله أرجح مِن قول مَن جعل قول بعض الظاهرية النافين للطلاق المعلَّق مطلقًا أعذر ممن فرق بين التعليق القسمي والإيقاعي، فإنَّ هذا جَعَلَ أضعف الأقوال أرجح من أرجح الأقوال، بخلاف الذي قبله فإنه جعل أضعفها أرجح من متوسطها. وهذا له نظائر في كلام المعترض؛ يَذكرُ من النقل والاستدلال والمنع والطعن ما هو من أسقط شيءٍ (1)، ومما أجمع العلماء على فساده؛ كما تكرر ذلك في غير موضع (2). * * * * _________ (1) في الأصل: (شيئًا)، والجادة ما أثبتُّ. (2) من هذه المواضع (ص 55، 56، 66، 81، 83، 134 - 135، 156، 192، 253، 342، 386) وغيرها.

(2/858)


فصلٌ قال: (وذكر بعد ذلك تضعيف زيادة قوله: (وأعتقي جاريتك) [و] قد قدمنا ذلك عنه، وهو محل نظر كما قلنا؛ والله أعلم) (1). والجواب: أَنْ يقال: إذا جاء الحق البيِّن الذي لا يندفع جعله (2) موضعَ شك، وإذا جاء [245/ أ] موضع الشك والوقف [جعله] موضع قطعٍ بالباطل، وهذا شأن صاحب الباطل يحتج بالمتشابه ويدفع المحكم، يدع اليقين ويتمسك بالشك. وذلك [أنَّ] (3) حديث ليلى بنت العجماء مما تداوله العلماء خلفًا عن سلف، واتفقوا كلهم على أَنَّ الصحابة أفتوا فيها بعدم اللزوم، وقال جمهورهم أفتوهم كلها في ذلك بالكفارة في الجميع، وَظَنَّ ابنُ حزمٍ أَنَّ ابن عمر أفتى بالكفارة في الجميع، وَأَنَّ حفصة أفتت بعدم اللزوم وعدم الكفارة، والذين بلغهم طريق أشعث بن عبد الملك مع طريق سليمان التيمي اتفقوا على صحة ذكر العتق فيه، وقد تابعهما على ذلك جسر بن الحسن، وأما أحمد فلم يبلغه إلا طريق التيمي فعلل ذكر العتق بانفراد التيمي به، وذكر رواية عثمان بن حاضر التي فيها الإلزام بالعتق وغيره. وأما حديث ليلى فلم يَنقل قَطُّ أَحدٌ أنهم ألزموها فيه بالعتق؛ بل كُلُّ مَنْ رَوى العتق فيه ومن أثبت رواية العتق فيه اتفقوا على أنهم لم يلزموها بالعتق، _________ (1) «التحقيق» (46/ ب). (2) في الأصل (جعل)، والصواب ما أثبتُّ. (3) بياض في الأصل مقدار كلمة، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/859)


وقد رَوى هذا أحمد بن حنبل وأبو ثور ومحمد بن نصر وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم وإسماعيل بن سعيد (1) الشالنجي وأبو بكر بن المنذر وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وأبو بكر النيسابوري وأبو الحسن الدارقطني وأبو بكر البيهقي وأبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم وغيرهم من العلماء، وكلهم متفقون على ذلك، لم يقل أحد منهم لا في روايته ولا فيما ذكره أنهم ألزموها بالعتق، فكيف يَجعل هذا محل نظر؟! والإمام أحمد قد نَقَلَ عنه غيرُ واحد هذه المسألة، والكلام على ذكر العتق؛ فكلهم ينقل عنه أَنَّ من ذكر العتق لم يذكر فيه (أَعتقي جاريتك)؛ ولكن كان يذكر حديث عثمان بن حاضر، ولكن وقع غلط في رواية أبي طالب، وذكره أبو محمد في مغنيه. (قال أبو بكر الخلال في جامعه (2): قال (3) هارون بن عبد الله: قيل لأبي عبد الله: أليس قد كان ابن عباس يرى الاستثناء بعد حينٍ؟ قال: إنما هذاك (4) في القول ليس في اليمين، كان يذهب [245/ ب] إلى قول الله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] قال أبوعبد الله: [إنما] هذا في القول ليس في اليمين، وإنما يكون الاستثناء _________ (1) في الأصل: (سعد)، والصواب ما أثبتُّ. (2) نقله المجيب في الفتوى المعترض عليها. مجموع الفتاوى (33/ 196)، كما نقلها المعترض في «التحقيق». (3) كررها الناسخ. (4) كذا، وفي مجموع الفتاوى: (هذا).

(2/860)


جائزًا فيما يكون فيه الكفارة إذا حلف بالطلاق والعتاق لا يكفر. فقد نص على أَنَّ الاستثناء إنما يكون في اليمين المكفرة، فإذا كان قد نَصَّ مع ذلك على جواز الاستثناء فيما إذا حلف بالطلاق والعتاق= لزم إجزاء الكفارة في ذلك. قلتُ (1): النص الأول الذي نقله هارون معناه: حَصْرُ الاستثناء فيما فيه الكفارة، ونفي الكفارة عن الحلف بالطلاق والعتاق؛ أي: فلا يجوز الاستثناء فيهما) (2). والجواب: قوله: (النص الأول الذي نقله هارون معناه: حَصْرُ الاستثناء فيما فيه الكفارة، ونفي الكفارة عن الحلف بالطلاق والعتاق؛ فلا يجوز الاستثناء فيهما) فيقال له: هذا صحيح؛ وإذا كان الاستثناء محصورًا فيما فيه الكفارة، وهو منفي عما لا كفارة فيه، وقد قال في إحدى الروايتين: إن الاستثناء مشروع في الحلف بالطلاق والعتاق؛ لزم من ذلك أن يكون في هذا الحلف الكفارةُ، وَأَنْ يكون قوله بنفي الكفارة عن الحلف بهما على قوله بنفي الاستثناء فيهما، وهو الرواية الأخرى عنه، وإلا فلو قيل: إنه يشرع فيهما الاستثناء ولا يشرع فيهما الكفارة؛ لزم من ذلك أَنْ يكون الاستثناء مشروعًا فيما لا كفارة فيه، فلا يكون منفيًا عما لا كفارة فيه، بل يكون ثابتًا مع انتفاء الكفارة في الحلف بالطلاق والعتاق؛ وهذا مناقض للحصر المذكور الذي اعترف به المعترض ولا يمكن فيه نزاع. _________ (1) القائل هنا هو: السبكي. (2) «التحقيق» (46/ ب ــ 47/ أ) ولكلامه تكملة.

(2/861)


فإذا قال القائل: لا يثبت الاستثناء إلا إذا ثبتت الكفارة، ثم أَثْبَتَ الاستثناء ولم يُثبت الكفارة تناقض قوله. فَعُلِمَ أَنَّ قول أحمد هذا إنما يستقيم على إحدى الروايتين عنه، وهي قوله: إنَّ الاستثناء ليس في الحلف بالطلاق والعتاق ولا في إيقاعهما. وعلى هذا فإذا قيل: لا كفارة في ذلك، وقيل الاستثناء إنما يكون جائزًا فيما يكون فيه الكفارة، وهذا لا كفارة فيه فلا استثناء فيه= كان كلامًا مستقيمًا. وأما إذا فَرَّقَ بين [246/ أ] الإيقاع والحلف، وقيل الحلف بهما فيه استثناء، وقيل مع ذلك إنما يكون الاستثناء جائزًا فيما فيه الكفارة؛ لزم أَنْ تكون الكفارة حيث كان الاستثناء، لا تنتفي الكفارة إلا إذا انتفى الاستثناء، فإذا كان الاستثناء ثابتًا كانت الكفارة ثابتة، وإلا بطل الحصر، وهو قول القائل: إنما يكون الاستثناء جائزًا فيما تكون فيه الكفارة، وقيل حينئذٍ: الاستثناء في الحلف بهما جائز ولا كفارة فيه، فكذلك في إيقاعهما. فصلٌ وأما قوله: (فهو مَسُوقٌ لنفي الاستثناء عما [ليس] (1) فيه الكفارة لا لإثبات الاستثناء في كل ما فيه كفارة) (2)؛ فعنه جوابان (3): أحدهما: أَنَّ هذا إذا سُلِّمَ فهو حجةٌ لنا، فإنه إذا كان قد نَفَى الاستثناء عما ليس فيه الكفارة وأثبت الاستثناء في موضعٍ امتنعَ انتفاءُ الكفارة في ذلك _________ (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) «التحقيق» (47/ أ). (3) الجواب الثاني (ص 866).

(2/862)


الموضع، إذ لو لم يكن فيه كفارة لوجب نفي الاستثناء عنه، فإنَّ الاستثناءَ يُنفى عن كل موضع انتفت فيه الكفارة. فالحلف بالطلاق والعتاق إذا قُدِّرَ انتفاء التكفير فيه لزم انتفاء الاستثناء فيه، لأنَّ انتفاء الاستثناء لازم لانتفاء الكفارة، فحيث انتفت الكفارة انتفى الاستثناء، فإذا لم ينتفِ (1) الاستثناء لم تنتف الكفارة، بل يثبت مع الاستثناء؛ إذ لو لم يثبت للزم أَنْ يكون الاستثناء ثابتًا مع انتفاء الكفارة، وهذا يُناقضُ قولَ القائل: إذا انتفت الكفارة انتفى الاستثناء. وهذا أمر بَيِّنٌ معلوم بالضرورة، ويمكن التعبير عنه بأنواعٍ من العبارات، مثل أَنْ يقول: نفي الكفارة مستلزم لنفي الاستثناء، فإنه إذا انتفت الكفارة انتفى الاستثناء؛ فإنه لا يُنفى الاستثناء إلا مع نفي الكفارة، فلا يُعْدَم الاستثناءُ إلا إذا عُدِمَت الكفارة، فَعَدَمُ الكفارةِ مستلزمٌ لعدمِ الاستثناء، وإذا تحقق الملزوم تحقق اللازم، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، فإذا انتفى اللازم وهو عدم الاستثناء بثبوت نقيضه وهو وجود الاستثناء= لزم انتفاء الملزوم وهو عدم الكفارة بثبوت نقيضه وهو وجود الكفارة. فصلٌ وأما قوله: (والنفي الثاني (2) الدال على جواز الاستثناء في الحلف بالطلاق [246/ ب] والعتاق ــ إِنْ صَحَّ ــ يدل على عدم انحصار الاستثناء فيما فيه الكفارة، فيكون ذلك اختلافًا من أحمد في أنه هل من شرط الاستثناء أَنْ _________ (1) في الأصل: (ينتفي)، والصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (النافي)، والمثبت من «التحقيق».

(2/863)


تكون اليمين مما تُكَفَّر أم لا؟ ولذلك أثبت أصحابه روايتين في جواز الاستثناء في الحلف به، فهذا (1) التصرف [في كلام الإمام] أولى من أَنْ يُجعل النصُّ الدال على جواز الاستثناء دالًّا على جواز التكفير مع التصريح بنفيه) (2). فيقال: هذا كلامُ مَنْ لم يَعرف نصوص أحمد ومذهبه وتعليله؛ فإنَّ عامَّهُ في عامة نصوصه يمنع الاستثناء بالمشيئة في الطلاق والعتاق، وَإِنْ كان قد توقف في ذلك في بعض أجوبته، ولأجل توقفه خَرَّجَ بعض أصحابه رواية عنه بعدم الوقوع. وأحمد ــ رحمة الله عليه ــ في نصوصه يحتج على أَنَّ الطلاق والعتاق لا كفارة فيهما: بأنَّ الكفارة إنما تكون فيما فيه الاستثناء (3)، والنص إنما جاء في الاستثناء في اليمين لم يجئ نَصٌّ بالاستثناء في طلاق وعتاق، فقال أحمد: الطلاق والعتاق ليسا بيمين، لأنهما لو كانا من الأيمان لكان فيهما كفارة فلا يكون فيهما استثناء، فإنَّ الاستثناء إنما يكون فيما يكفر، فإنه لا يكون إلا في اليمين، واليمين هو مما (4) يكفر، والطلاق والعتاق لا كفارة فيهما فلا استثناء فيهما. وأحمد جَزَمَ بنفي الاستثناء في الطلاق والعتاق لهذه العلة، واختلف _________ (1) في الأصل: (هذا)، والمثبت من «التحقيق». (2) «التحقيق» (47/ أ)، وما بين المعقوفتين منه. (3) في الأصل: (الكفارة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) في الأصل: (ما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/864)


جوابه في الحلف بهما؛ فتارة جَعَلَ ذلك كإيقاعهما فمنع من الاستثناء فيه، وتارة جَعَلَ الحلف بهما من الأيمان فَسَوَّغَ الاستثناء فيه. فلو كان أحمد - رضي الله عنه - ــ كما قاله المعترض ــ لا يَخُصُّ الاستثناء فيما فيه الكفارة، بل يقول به فيما يكفر وما لا يكفر= قال به في الطلاق والعتاق، كما قاله أبو حنيفة والشافعي - رضي الله عنهما -، بل هو في إحدى الروايتين يمنع الاستثناء في إيقاعهما والحلف بهما، وفي الأخرى يجوِّز الاستثناء في الحلف بهما دون إيقاعهما، ولا يقول بالاستثناء في إيقاعهما والحلف بهما حتى يقال: إنه لا يحصر الاستثناء فيما فيه الكفارة بل يراه فيما يكفر وفيما لا يكفر، فإنَّ هذا لم يَنُصَّ عليه قَطُّ، بل نصوصه متطابقة على أَنَّ الاستثناء إنما يكون فيما فيه الكفارة، [247/ أ] والطلاق والعتاق لا كفارةَ فيه فلا استثناء فيه، فهذا تارة يريدُ به الحلف والإيقاع جميعًا، فيقول: إِنَّ ذلك لا كفارة فيه فلا استثناء فيه، فهذا يوافق قوله: إِنَّ الحلف بهما ليس فيه استثناء. وأما إذا قال: الحلف بهما فيه استثناء وإيقاعهما ليس فيه استثناء؛ فهذه الرواية لا تطابق ما ذكره من إثبات الاستثناء فيما لا يكفر سواء كان حلفًا أو إيقاعًا، فإنه إنما أثبته في الحلف دون الإيقاع، فكيف يُكْذَبُ عليه، ويقال: بل مقصوده: أنه لا ينحصر الاستثناء في المكفر، بل يثبت فيما لا يكفر سواء كان حلفًا أو إيقاعًا؟ وهو إنما أثبت الاستثناء في الحلف بهما دون إيقاعهما، ولا يطابق ــ أيضًا ــ إثبات الاستثناء دون الكفارة في الحلف، وإنما يطابق ما ذكرناه، وقد بسطنا كلام أصحابه في هذه الرواية وتعليلها في غير هذا الموضع، مثل قول الشيخ أبي محمد - رحمه الله - (1). _________ (1) كذا في الأصل. وقد تقدم إشارة لذلك.

(2/865)


الوجه الثاني (1): أَنَّ أحمد يجعل الاستثناء والكفارة متلازمين، فكل ما فيه الكفارة يدخله الاستثناء عنده، وما لا تدخله الكفارة لا يدخله الاستثناء عنده، حتى إنه في الظهار والحرام يصح فيه الاستثناء عنده، نَصَّ عليه، وهو قول جمهور أصحابه، وخالفه بعضهم كابن بطة أو العكبري (2) وابن عقيل فقال: لا استثناء في ذلك؛ لأنه إنشاءٌ لعقدٍ من العقودِ فهو كالطلاق والعتاق. وأما الحلف بالنذر؛ فما رأيت أحدًا حكى خلافًا في مذهبه أنه يَنْفَعُ فيه الاستثناء، بل قالوا كما قال أبو محمد ــ رحمة الله عليه ــ في مغنيه (3): (يصحُّ الاستثناء في كل يمين مُكَفَّرَة كاليمين بالله والظهار والنذر). قال أبو علي بن أبي موسى في إرشاده (4) ــ وهو من أصحهم نقلًا (5) ــ: (من استثنى في يمين تدخلها كفارة فله ثنياه). قال أبو محمد: (ولأنها أيمان مُكَفَّرَةٌ يدخلها الاستثناء كاليمين بالله ــ تعالى ــ، فلو قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي إن شاء الله، أو (6) أَنتِ عليَّ حرامٌ إن شاء الله، أو إِنْ دخلتِ الدار فأنت عليَّ كظهر أمي إن شاء الله، أو لله عليَّ أَنْ _________ (1) هذا هو الجواب الثاني عن قول المعترض الذي تقدَّم نقله (ص 862). (2) كذا العبارة في الأصل. وفي مجموع الفتاوى (35/ 316): وقال طائفة من أصحابه؛ منهم: ابن بطة والعكبري وابن عقيل: لا يصح فيه الاستثناء. وفي الفروع (9/ 186)، والإنصاف (23/ 243) نسبة هذا القول: لابن شاقلا وابن بطة وابن عقيل. (3) (13/ 486). (4) الإرشاد (ص 408)، والنقل ما زال مستمرًا من المغني. (5) انظر في الثناء على نقل ابن أبي موسى: جامع المسائل (4/ 174). (6) في الأصل: (و)، والمثبت من المغني.

(2/866)


أتصدق بمائة درهم إنْ شاء الله= لم يلزمه شيء، لأنها أيمان فتدخل في قوله: «مَنْ حَلَفَ فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث» (1)) (2). [247/ ب] ومن قال من أصحابه: إِنَّ الظهار لا استثناء فيه، قال: لأنه إنشاء للتحريم فهو كسائر العقود التي ينشئها، كما ينشئ الطلاق والعتاق بخلاف اليمين، فإنه لما حلف على فعلٍ وقال: إن شاء الله= عَلَّقَ الفعل بالمشيئة [فإن] (3) وجد الفعل علمنا أَنَّ الله شاء ذلك وَبَرَّ في يمينه، وإن لم يوجد الفعل علمنا أَنَّ الله ــ تعالى ــ لم يشأه فلم يوجد الشرط فلم يحنث في يمينه، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. بخلاف قوله: أَنتِ طالقٌ إِنْ شاء الله؛ فإنَّ الله ــ سبحانه ــ قد شاءَ الأحكامَ عندَ وجود أسبابها، فإنه لا يقع الطلاق إلا بتطليق العبد، فإذا أراد بقوله: إن شاء الله وقوعَهُ بهذا الكلام، فلا ريب أَنَّ الله قد شاءه حين تكلَّم بهذا الكلام، وإن أراد وقوعه بغيره امتنع أَنْ يقع إلا أَنْ يوقعه هو، فيكون معنى كلامه: أنت طالق إن شاء الله أن أطلقك بعد هذا فتطلقين، ولو أراد هذا لم يقع به طلاق بهذا اللفظ، ولكن قد يريد بالتعليق عدم وقوع الطلاق. فقوله: أَنتِ طالقٌ إن شاء الله، ومشيئةُ الله للطلاق ممتنعة بدون إيقاع العبد له، فإنه إذا شاءه جَعَلَ العبد موقعًا له، وإذا أراد هذا فهو يخرج على تعليق الطلاق بشرطٍ ممتنع؛ هل يمنع وقوعه أو يقع ويلغوا الشرط؟ وأما قول بعض الفقهاء أنه عَلَّقَهُ بمشيئة مَنْ لا تُعلم مشيئته؛ فهذا _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 286). (2) هنا انتهى النقل من المغني. (3) ما بين المعقوفتين غير واضح، وقدرته بما أثبتُّ.

(2/867)


غلطٌ (1)، فإنَّ مشيئة الله معلومة لنا في ذلك، نستدلُّ عليها بوقوع الحادث، فكلُّ حادثٍ فالله شاءه، وما لم يكن فالله لم يشأه، والطلاق لا يمكن أَنْ يقع إلا بإيقاع العبد فلا يتصور أن يشاءه الله إلا إذا أوقعه العبد، ويكون هو ــ سبحانه ــ قد جعل العبد موقعًا له فوقع، وأما أَنْ يشاءَ وقوعه بدون إيقاعِ العبد له= فهذا ممتنع. فإذا قال: أَنتِ عليَّ كظهرِ أمي إن شاء الله؛ فقال هؤلاء: هذا بمنزلةِ قولِهِ: أَنتِ طالق إن شاء الله، فالله شاء أَنْ يصير مظاهرًا لَمَّا تكلم بالظهار، وكذلك إذا قال: هذا عليَّ حرام إن شاء الله. وأحمد - رضي الله عنه - نَظَرَ إلى مقصود هذا الكلام، وهو أنه قَصَدَ أَنْ يمتنع من الوطء؛ فمراده: لا أقربكِ [248/ أ] إن شاء الله، أَنَا مجتنبٌ لكِ إن شاء الله؛ فإنَّ الشارع لم يجعل موجب هذا اللفظ أن تصير كظهر أمه فتحرم عليه وتطلق كالأجنبية، بل هذا كان حكمهم أولًا، فلو كان هذا طلاقًا لا كفارة فيه لم يكن فيه استثناء على أصل أحمد، لكن الشارع جعله يمينًا مكفرة، فإذا عاد [لها] (2) قال: فَطَلَبَ أَنْ يجامعها كَفَّرَ يمينه قبل أَنْ يمسها، فكان حكمها في الشرع المنع لا إزالةُ مِلكٍ، وهو منع يزول بالكفارة، وصار هذا كقوله: والله لا أقربك حتى أُكَفِّر إن شاء الله. ولهذا قال طائفة من محققي أصحاب أحمد ــ كأبي محمد وأبي البركات (3) ــ في قوله: أَنتِ طالقٌ إن دخلت الدار إن شاء الله، وإن دخلت _________ (1) انظر بحثًا مطوَّلًا في الاستثناء بالمشيئة في الطلاق في إعلام الموقعين (5/ 462). (2) كلمة غير واضحة، قدَّرتها بما أثبت، وتحتمل غير ذلك. (3) المغني (10/ 473)، المحرر (2/ 72).

(2/868)


الدار فأنت طالق إن شاء الله: إنه إِنْ نَوَى عَوْدَ المشيئةِ إلى الفعل نَفَعَهُ قولًا واحدًا، كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا إن شاء الله، وَإِنْ أَطْلَقَ ففيه روايتان، وتمام ذلك (1). * * * * _________ (1) كذا في الأصل، وانتقل الناسخ بعد ذلك إلى فصل جديد دون إشارة إلى وجود سقط أو نحوه.

(2/869)


فصلٌ قال المعترض: (قال ــ يعني: المجيب ــ (1): فهذا الذي قاله هو مقتضى الكتاب والسنة، فإنَّ الله ــ تعالى ــ قال: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى قوله: {حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فجعل هذه الكفارة في عقد اليمين مطلقًا، وجعل ذلك كفارة اليمين إذا حلفنا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ فقال: إِنْ شاء الله؛ فإنْ شاءَ فعل، وإِنْ شاءَ تَرَك» (2)، فما دَخَلَ في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ في قول الله تعالى، والطلاق والعتاق المنجَّزان لا يدخلان في مسمى اليمين والحلف باتفاق العلماء، بخلاف الحلف على الحض والمنع والتصديق والتكذيب فإنه يمين باتفاق الأئمة. قلتُ (3): فَرَغَ من نسبة القول المذكور إلى السلف وتخريجه على قواعد الأئمة كما زعم، وَشَرَعَ يتعرض للاستدلال له؛ فقال: إنه مقتضى الكتاب والسنة، فاستدلَّ بالآيةِ الكريمة، وفي الاستدلال بها على ذلك نظرٌ _________ (1) مجموع الفتاوى (33/ 197). (2) أخرجه أبو داود (3262)، والترمذي (1531)، والنسائي (3793) ــ واللفظ له ــ، وابن ماجه (2105) من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا: «مَنْ حَلَفَ فاستثنى؛ فإنْ شاء مضى، وإنْ شاء ترك غيرَ حَنِثٍ». قال الترمذي: حديث حسن. ثم أشار إلى الاختلاف في وقفه ورفعه. وصحح وقفه البيهقي في السنن الصغير (4/ 99). انظر: البدر المنير (9/ 454)، العلل للدارقطني (13/ 104). (3) القائل هو: السبكي.

(2/870)


من وجهين: أحدهما: صِدْقُ اسمِ اليمين على أصل النزاع، وهو التعليق المقتضي حثًّا أو منعًا أو تصديقًا، فإنه إنما يجب شمول الآية لذلك [248/ ب] إذا ثبت أَنَّ تسميةَ ذلك حقيقة لغوية أو شرعية، أما إذا كان ذلك عرفيًّا إما خاصًّا وإما عامًّا، وتسميةُ أهل العرف له يمينًا لمشابهة (1) اليمين= فلا يلزم اندراجه في الآية) (2). والجواب: أَنَّ قوله: (فَرَغَ من نسبةِ القول المذكور إلى السلف وتخريجه على قواعد الأئمة ــ كما زعم ــ، وَشَرَعَ يتعرض للاستدلال له) = قولُ مَنْ لم يَفهم مراد المجيب وما سيق له هذا الكلام، فإنه لم يتعرض هنا للاستدلال على تكفير الطلاق، بل هو قد وعد بهذا، كما في قوله: (والمقصود: ذكر تحرير النقول عن السلف والأئمة في هذه المسائل، وسيأتي ذكر الدلائل). وإنما ذكر المجيب هنا تقريرَ قول أحمد ــ رحمة الله عليه ــ أَنَّ الاستثناء إنما يكون فيما فيه الكفارة. فقال المجيب: (هذا الذي قاله أحمد، هو (3) قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك ــ رحمة الله عليه ــ وغيره) فإنَّ النص ورد بالكفارة في الأيمان، وورد بالاستثناء في الأيمان؛ فكل ما تناوله هذا النص تناوله هذا النص، ومعلومٌ أَنَّ نَصَّ التكفير لا يتناول إنشاء الطلاق _________ (1) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (لمشابهته). (2) «التحقيق» (47/ أ). (3) في الأصل: (وهو)، والأجود ما أثبتُّ.

(2/871)


والعتاق فلا يتناوله نص الاستثناء. فلهذا قال المجيب: فإنَّ الله ــ تعالى ــ قال: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فجعل هذه الكفارة في عقد اليمين مطلقًا، وجعل ذلك كفارة اليمين إذا حلفنا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ فقال: إِنْ شاء الله؛ فإنْ شاءَ فعل، وإِنْ شاءَ تَرَك» (1)، فما دخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ في قول الله تعالى، والطلاق والعتاق المنجزان لا يدخلان في مسمى اليمين والحلف باتفاق العلماء، بخلاف الحلف على الحض والمنع والتصديق والتكذيب فإنه يمين باتفاق الأئمة. فهذا الذي ذكره المجيب دليلٌ على الأصل الذي أَصَّلَهُ الجمهور، وهو أصلُ مالكٍ وأحمد ــ رحمهما الله تعالى ــ وغيرهما، والنصُّ ورد بالاستثناء في اليمين وورد بالكفارة في اليمين، فما دَخَلَ في نَصِّ الاستثناء دخل في نص الكفارة والطلاق والعتاق، [249/ أ] [وما] (2) لا يدخلان في نص الكفارة اتفاقًا فلا يدخلان في نص الاستثناء. وهذا بَيِّنٌ؛ لكن هذا يقتضي أَنَّ الاستثناء في الطلاق والعتاق لم يتناوله النص، فإنما يتناول ما هو يمين، وهذا ليس بيمين فلا يتناوله النص، فلا يتم هذا الدليل إلا بِأَنْ يقال: الاستثناء إنما يكون في اليمين، وإنما يكون فيما ورد _________ (1) سبق تخريجه في (ص 870). (2) إضافة يقتضيها السياق.

(2/872)


فيه النص، والطلاق والعتاق ليسا (1) بيمين ولم يرد نَصٌّ بالاستثناء فيهما (2) = فلا ينفع فيه الاستثناء. يوضح ذلك: أَنَّ الحكم إذا عُلِّقَ بوصفٍ مناسبٍ كان عِلَّةً لَهُ، والحكمُ ينتفي لانتفاء عِلَّتِهِ، وكونُهُ يمينًا وصفٌ مناسبٌ، فينتفي الحكم إذا انتفى كونه يمينًا. ويقال ــ أيضًا ــ: الاستثناء في اليمين، لأنَّ المعلَّق بالمشيئة يُعْلَمُ أَنَّ الله شاءه فَوُجِدَ، وَإِنْ لم يشأه يُعْدِمُ وجودَهُ، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يلزم من جواز التعليق على مشيئةِ الله للفعل التعليقُ على مشيئته للحكم، فإنَّ الأحكام الشرعية ليست أمرًا محسوسًا، ولا تثبت دون أسبابها ولا تتخلف عن سببها التام، فلا يوجد الطلاق بدون التطليق البتة، ولا يتخلف عن التطليق الشرعي، فلا يلزم من جواز التعليق على مشيئة الله تعالى للفعل التعليقُ على المشيئة للحكم. ومن الفقهاء من استدل بقوله: «مَنْ حَلَفَ فقال: إِنْ شاء الله؛ فإنْ شاءَ فعل، وإِنْ شاءَ تَرَك» (3) على جواز الاستثناء في الطلاق، ولا ريب أَنَّ هذا غلطٌ محضٌ، فإنَّ هذا النص لا يدل على هذا البتة، بل مفهومه يدل على نقيض ذلك. نعم؛ يدل على الحلف بالطلاق والعتاق فإنهما من الأيمان، وهذا حجةٌ _________ (1) في الأصل: (ليس)، والصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (فيه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) تقدم تخريجه في (ص 870).

(2/873)


على مالك وأحمد في إحدى الروايتين، وَمَنْ قال إنَّ الحلف بهما لا ينفع فيه استثناء، وأما جمهور السلف الذين فَرَّقُوا بين إيقاعهما والحلف بهما فجوَّزوا الاستثناء في الثاني دون الأول، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد القولين في مذهب مالك؛ فالحديث حجة لهذا القول لا عليه. فصلٌ ثم إِنَّ المعترضَ لمَّا ظَنَّ أَنَّ المجيب استدل بذلك على جواز التكفير في الحلف بالطلاق تكلم على ذلك، فقال: (في الاستدلال بها على ذلك نظر من وجهين: أحدهما: [249/ ب] صِدْقُ اسم اليمين على أصل النزاع، وهو التعليق المقتضي حثًّا أو منعًا أو تصديقًا، فإنه إنما يجب شمول الآية لذلك إذا ثبت أَنَّ تسميةَ ذلك يمينًا حقيقةٌ لغوية أو شرعية، أما إذا كان ذلك عرفيًّا إما خاصًّا وإما عامًّا، وتسميةُ أهل العرف له يمينًا لمشابهة اليمين؛ فلا يلزم اندراجه في الآية) (1). فيقال له: عن هذا أجوبة: أحدها: أنه ليس من شرط محلِّ النزاع أَنْ يكون بصيغة التعليق، بل قد يكون بصيغة القَسَم، كقوله: الطلاقُ يلزمني لأفعلنَّ كذا، والعتقُ يلزمني لأفعلنَّ كذا، والحِلُّ عليَّ حرامٌ لأفعلنَّ كذا، والحرام يلزمني لأفعلنَّ كذا، وأيمانُ البيعة وأيمان المسلمين تلزمني لأفعلنَّ كذا أو لا فعلتُهُ، وامرأتي طالقٌ لأفعلنَّ كذا، والحجُّ يلزمني لأفعلنَّ كذا، ونحو ذلك مما يكون الكلام _________ (1) «التحقيق» (47/ أ).

(2/874)


فيه جملتين: جملةٌ مقسمٌ بها، وجملةٌ مُقسمٌ عليها قد تُلُقِّيَتْ بلامِ القسم التي هي من خصائص صيغة القسَم، لا يكون قَطُّ إلا إذا كانت (1) الجملة صيغة قَسَم، ثم فهذا من محل النزاع، ولفظ هذه لفظ القسم وليست جملة شرطية (2). الوجه الثاني: أَنَّ الجملةَ الشرطيةَ إذا كانت (3) بمعنى هذه التسمية، فحكمها حكمها باتفاق المسلمين، لم يُعرف أحدٌ من المسلمين فَرَّقَ بين حكمِ هذه وحكم هذه، بل مَنْ قال: إن الطلاق والعتاق والحرام والظهار والنذر يلزم في هذه قال يلزم في هذه، وَمَنْ قال لا يلزم في هذه ولا كفارة عليه قال لا يلزم في هذه ولا كفارة عليه، وَمَنْ قال في هذه تجزئه كفارة يمين ولا تَلزمه هذه الأمور قال في هذه: تجزئه الكفارة ولا يلزمه هذه الأمور، لم يُفَرِّقْ أَحَدٌ علمناه بين هذه وهذه. فإذا قال: الطلاق يلزمني، أو الحِلُّ عليَّ حرام لأفعلن، [أو] (4) قال: إن لم أفعل فالطلاق يلزمني، والحِلُّ عليَّ حرام، وقد يكون المقدَّم في هذه مؤخَّر في هذه، وقد يكون ترتيبهما واحدًا، فقد يقول: إِنْ فعلتُ كذا فالطلاق يلزمني، وقد يقول: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا، لأنَّ الشرط أصله أَنْ يُقَدَّمَ على الجزاء وقد يؤخر عنه. _________ (1) في الأصل: (كان)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) مجموع الفتاوى (33/ 46) (35/ 245 - 246، 258)، الفتاوى الكبرى (3/ 238) (4/ 111 - 112)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 441، 538)، القواعد الكلية (ص 448 وما بعدها). وانظر ما تقدم (ص 588). (3) في الأصل: (كان)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (4) إضافة يقتضيها السياق.

(2/875)


ثم قد قيل: المؤخر هو الشرط، وقيل: بل هو دليل على شرط محذوف، ولكن لما كان أَصْلُ الشرطِ [250/ أ] التقديمُ أَطْلَقَ مَنْ أَطْلَقَ مِنَ الفقهاء أَنَّ المقدَّم في هذه الصيغة مؤخر في هذه، والمنفي مثبت، لأنَّ المؤخر في صيغة الجزاء هو المحلوف عليه؛ كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ أو لا أفعل، وهذا في صيغة الشرط هو المعلَّق بالشرط، فيكون ترتيبه التقديم كقوله: إِنْ لم أفعل أو إِنْ فعلتُ فامرأتي طالق. وإذا كان حكم الصيغتين واحدًا وإحداهما صيغة قَسَم في لغة العرب؛ فالأخرى مثلها بالإجماع والمعقول. الثالث: أَنَّ تسميةَ صيغةِ التعليق يمينًا وحلفًا استعمالٌ ثابت في لغة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كما في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ حَلَفَ بملةٍ سوى الإسلام كاذبًا فهو كما قال» (1)، وهذا إنما يكون في مثل قوله: إِنْ كنتُ فعلتُ كذا فأنا يهودي أو نصراني، فيحلف كاذبًا بالملة؛ فإذا كان كاذبًا استحق أَنْ يكون كما قال (2). وأما تحريف بعض المتأخرين له بقوله: المراد إذا قال: وَحَقُّ اليهودية والنصرانية؛ فإنَّ هذا لا يقال فيه: فهو كما قال، والناس لم تجر عادة أحدٍ منهم أَنْ يحلف بذلك، والمعروف عند الفقهاء وعموم المسلمين من الحديث هو المعنى الأول، فهذا المعنى هو الذي نقلته الأمة عن نبيها - صلى الله عليه وسلم - كما نقلت ذلك اللفظ. الوجه الرابع: أَنَّ تسميةَ هذا التعليق يمينًا، بل وإدراجه في عموم الآية هو قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكابر التابعين، كما تقدم النقل الثابت عنهم _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 42). (2) انظر ما تقدم (ص 18 وما بعدها، 57 وما بعدها).

(2/876)


بذلك في غير موضع، وهم أهل اللغة التي بها نزل القرآن، ولم ينازعهم أحد في أن هذا لا يسمى يمينًا. الوجه الخامس: أَنَّ تسمية هذه أيمانًا هو لغة الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين، كما تقدم النقل عنهم بذلك، بل هو لغة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من الأمة قرنًا فقرنًا، ولم يُعرف عن أحد من السلف أنه نَفَى تسمية هذه أيمانًا، وهذا أبلغ ما يكون من أنها أيمان في اللغة والشرع. السادس: أنه إذا ثبت استعمال الصحابة والتابعين ومن بعدهم لاسم اليمين في هذه التعليقات، فلو لم [250/ ب] تكن أيمانًا للزم النقل والتغير على اللغة، والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغيرها (1). السابع: أَنَّ هذه التعليقات تسمى أيمانًا باتفاق الناس كلهم، فلو لم تكن أيمانًا لزم المجاز أو النقل، وكلاهما خلاف الأصل. الثامن: أَنَّه إذا ثبت استعمال اسم الأيمان في هذه التعليقات، واستعمالها في لفظ القسم الذي يشبه معناه معنى هذه التعليقات؛ فلا يخلو: إما أَنْ تجعل حقيقةً في أحدهما مجازًا في الآخر، أو حقيقة في ما يختص بكل منهما، أو حقيقة في القَدْرِ المشترك بينهما؛ والأول يلزم منه المجاز، والثاني يلزم منه الاشتراك اللفظي، والثالث يلزم منه التواطؤ ونفي المجاز والاشتراكِ اللفظي (2). _________ (1) مجموع الفتاوى (20/ 244) (29/ 16)، الفتاوى الكبرى (4/ 12) (6/ 234، 269)، القواعد الكلية (ص 211)، الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات ابن تيمية (ص 74). (2) مجموع الفتاوى (7/ 108)، الجواب الصحيح (3/ 199)، الإيمان (ص 90).

(2/877)


ومعلومٌ أَنَّ المجاز والاشتراك على خلاف الأصل، وَأَنَّ الأصل في كل اسم استعمل في معنيين أن يكون عامًّا لهما باعتبار معنى مشترك، لا أن يكون مجازًا في أحدهما، ولا أَنْ يكون مشتركًا اشتراكًا لفظيًّا، بل جميع الأسماء التي عُلِّقَتْ بها الأحكام مثل: اسم المؤمن والكافر والصلاة والزكاة والخمر والميسر واليمين هي من هذا الباب؛ فوجب أَنْ يحمل استعمال هذا الاسم على ذلك، لا على ما يخالف الأصل ويحتاج إلى دليل خاص (1). وأما تسمية كل تعليق يمينًا، أو تسمية التعليق الذي يراد به وقوع الجزاء عند الشرط يمينًا= فهذا لا يُعرف في استعمال أحد من الصحابة، بل ولا رأيته في كلام أحد من التابعين، بل هذا كتسمية كل إيقاع للطلاق حلفًا ويمينًا، ولا ريب أَنَّ هذا هو العُرْفُ الحادث بلا ريب. التاسع: أَنَّ كون الكلام يمينًا هو أمرٌ يتعلق بمعناه لا بصيغة مخصوصة؛ بدليل أَنَّ ذلك المعنى يسمى يمينًا سواء كان بالعربية أو بالعجمية (2)، وسواء كان بجملة فعليةٍ كقوله: أحلف بالله لقد كان كذا، أو اسمية كقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. كما يسمى الكلام أمرًا ونهيًا ونفيًا وإثباتًا وخبرًا واستخبارًا لأجل المعنى المخصوص المعبَّر عنه بالصيغة، بحيث يسمى أمرًا ونهيًا ونفيًا وإثباتًا وخبرًا واستخبارًا بأيِّ لغةٍ عُبِّرَ عن ذلك المعنى. _________ (1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 964 - 978). وانظر ما تقدم (ص 310). (2) قال في قاعدة العقود (2/ 323): (وكون الكلام يمينًا أو ليس بيمين: من الحقائق العقلية الثابتة في فِطَرِ الناس، ليس مما تختلف فيه اللغات).

(2/878)


وكذلك تسميةُ المعنى طلاقًا ونذرًا وحلفًا [251/ أ] وكتابة هو لأجلِ معناه لا لأجل لفظٍ معين. العاشر: أَنَّ معنى لفظ اليمين حيث استعمل يتضمن التزام أمرٍ مكروه عند الحنث والمخالفة، فلا بُدَّ في كل يمين من هذا. وحيث التزم العاقدُ أمرًا مكروهًا له يكره لزومه له وَإِنْ حَصَلَتِ المخالفةُ والحنث= فهو حالف. فهذا معنى مطرد منعكس في مسمى اسم اليمين، وما سواه فإما غير جامع وإما غير مانع. الحادي عشر: أَنَّ التوكيل والنيابة جائز في الطلاق والعتاق، وليس بجائز في الأيمان؛ فلو كان الحلف بالطلاق والعتاق طلاقًا وعتاقًا ليس يمينًا لجاز فيه التوكيل، كما يجوز أَنْ يوكل مَنْ يُطَلِّقُ عنه طلاقًا منجزًا ومعلقًا، وكما يجوز أَنْ يطلق الولي على موليه؛ ولا يحلف أحد عن أحد لا بطلاق ولا عتاق، ولو وَكَّلَهُ في ذلك. فعلم أَنَّ هذا من باب اليمين التي تمتنع فيها النيابة، لا من باب الطلاق والعتاق الذي تجوز فيه الوكالة، لأنَّ ذلك خُصَّ بخصوصيةٍ تتعلقُ بالقلب؛ كالإيمان بالله ــ سبحانه وتعالى ــ، وَحُبِّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وخوفِ الله ــ عز وجل ــ ونحو ذلك، وهذه الأمور لا تدخل فيها نيابة. * * * *

(2/879)


فصلٌ قال: (ولا شك أَنَّ اليمين في اللغة تطلق على الحلف بكل ما تدخل عليه أدوات القسم؛ كالحلف بالله وصفاته، والآباء ــ على عادة العرب ــ والكعبة والقرآن وغير ذلك مما يُقصد تعظيمه، فإنَّ الحالفَ مُعَظِّمٌ للمحلوف به، مُؤكِّدٌ للمحلوف عليه= كُلُّ ذلك يسمى يمينًا، لأنهم كانوا عند العهود والالتزام وأخذ المواثيق يأخذون بأيمانهم، يمسك كُلُّ واحد من المتعاقدين بيمينِهِ يمينَ صاحبِهِ؛ فَسُمِّيَ يمينًا للزوم اليمين فيه، وسمي قَسَمًا وحلفًا وعهدًا وميثاقًا وإيلاء، وَسُمِّيَ المحلوف عليه يمينًا لتلبُّسِهِ (1) بها؛ ومنه الحديث: «مَنْ حَلَفَ على يمينٍ» (2)) (3). والجواب: أَنَّ هذا الكلام يتضمن أنه لا يسمى يمينًا في الشرع إلا ما كانت فيه أدوات القسم، وأدوات القسم هي حروفه: كالباء والتاء والواو، وهذا هو الذي يَعْقِدُ له النحاة (باب القَسَم) ليتكلموا في إعراب ألفاظِ القسم. فإنَّ أصل [251/ ب] هذا الباب: أحلف بالله؛ ثم لكثرةِ دورانِ القَسَم على ألسنتهم حذفوا الفعل كثيرًا، وصاروا يقولون: بالله، ثم عَوَّضُوا الواو عن الباء لتلازمهما؛ كما قالوا: تُخَمَه، وتُهَمَه، وتُجَاه؛ وأصل ذلك الواو، فإنه من الوجه والوهم (4). _________ (1) في الأصل: (للشبه)، والمثبت من «التحقيق»، وهكذا ضبطت فيه. (2) تقدم تخريجه في (ص 26). (3) «التحقيق» (47/ أ). (4) اللباب في علل البناء والإعراب (1/ 375) (2/ 336)، المفصل في صنعة الإعراب (ص 512 ــ 513).

(2/880)


ولما كانت الواو هي البدل لم يُدْخِلُوهَا إلا على اسم ظاهر ولم يظهروا معها الفعل، ثم عَوَّضُوا التاء عن الواو في اسم الله خاصة، ونُقِلَ أنهم قالوا: تَرَبِّ الكعبة. فهذا ونحوه مما يتكلم فيه النحاة في أدوات القسم، لكنْ أَجمَعَ المسلمونَ على أَنَّ حكمَ اليمين المذكور في كتاب الله وسنة رسوله ليس مختصًّا بما تكون فيه هذه الأدوات؛ بل يكون القَسَمُ جملةً اسميةً كقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، ومنه في الحديث: «لعمرو إلهك» (1)، وفي الصحيحين من حديث الإفك عن عائشة - رضي الله عنها - أَنَّ سعد بن عبادة وَأُسيد بن _________ (1) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/ 286)، وأبو داود (3266)، وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند (26/ 121) وغيرهم من حديث لقيط بن عامر - رضي الله عنه -. وصححه إسناده الحاكم في المستدرك (4/ 605) وتعقبه الذهبي بقوله: يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري ضعيف، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 340): رواه عبد الله والطبراني بنحوه، وأحد طرقي عبد الله إسنادها متصل ورجالها ثقات، والإسناد الآخر وإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط: أنَّ لقيطًا. وقال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (7/ 46): وقد رُوِيَ مبسوطًا من وجهٍ آخر؛ كما رواه أبو بكر بن خزيمة في كتاب التوحيد (2/ 460) الذي اشترط فيه أنه لا يَحتجُّ إلا بما ثبت من الأحاديث ثم ذكره. قال ابن القيم في حادي الأرواح (1/ 528): وأما حديث أبي رزين الذي أشار إليه البخاري فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمل به كتابنا؛ فعليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما يُنادي على صحته، ثم ذكره، وقال: هذا حديث كبير مشهور ... إلخ. انظر: زاد المعاد (3/ 673)، ومختصر الصواعق المرسلة (3/ 1183). وقال ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 339): هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، وألفاظُهُ في بعضها نكارة. وانظر (19/ 354).

(2/881)


حضير كل منهما يحلف بحضرةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار فيقول: هذا كذبٌ ــ لعمرو الله ــ لا يقتله، ولا يقدر على قتله، ويقول الآخر: كذبتَ ــ لعمرو الله ــ لنقتلنَّه؛ إنك منافق تجادل عن المنافقين (1). وفي الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: بَعَثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثًا وَأَمَّرَ عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمرته، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أَنْ تطعنوا في إمرته، فقد كنتم تطعنون في إِمْرَةِ أبيه من قبل؛ وايم الله. إِنْ كان لخليقًا للإمارة، وَإِنْ كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا من أحب الناس إليَّ بعده» (2)، وفي الصحيحين ــ أيضًا ــ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلةَ على مائةِ امرأةٍ كُلٌّ منهن تأتي بفارسٍ يقاتلُ في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل: إِنْ شاء الله. فلم يفعل، فطاف عليهنَّ جميعًا، فلم يحمل منهنَّ إلا امرأة واحدة جاءت بشقِّ رجل؛ وايم الذي نفس محمدٍ بيده لو قال: إِنْ شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون» (3). وأيضًا؛ فلو قال الرجل: عليَّ عهدُ اللهِ وميثاقُهُ لأفعلنَّ كذا؛ كان يمينًا، والجملة الأولى اسمية ليس فيها شيء من حروف القَسَمِ. [252/ أ] وأيضًا؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كفارة النذر كفارة يمين» (4)، وقال عقبة بن عامر: النذر _________ (1) أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770). (2) أخرجه البخاري (3730)، ومسلم (2426). (3) أخرجه البخاري (2819)، ومسلم (1654). (4) تقدم تخريجه في (ص 92).

(2/882)


حَلْفَةٌ (1). وكذلك قال غير واحدٍ من الصحابة كعمر وابن عباس وجابر - رضي الله عنهم -: النذر يمين (2). وسواء أريد به أنه نوع من اليمين، أو أن (3) حكمه حكم اليمين؛ فهو دليل على أَنَّ كفارة اليمين لا تختص بأدوات القسم. وفي السنن عن عقبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نذر نذرًا ولم يسمِّهِ فكفارته كفارة يمين» (4) قال الترمذي: حديث صحيح. فَجَعَلَ قولَهُ: عليَّ نذرٌ موجبًا لكفارة يمين؛ وهذا قول عامة السلف والخلف، وذكره بعضهم إجماعًا، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، وإذا كان مسمَّى اليمين المكفرة في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته أعم مما فيه حروف القَسَم= بَطَلَ قولُ مَنْ يقولُ إِنَّ اليمين المكفرة ما كان فيها أدوات القسم، وَعُلِمَ أَنَّ هذا قولٌ يخالفُ النصَّ والإجماعَ. وأيضًا؛ فلو حَلَفَ بغير العربية انعقدت يمينه بالإجماع مع انتفاء الأدوات (5)، فلا بُدَّ أَنْ يوجد المعنى الذي يعبر عنه بهذه العبارة وغيرها؛ وحينئذٍ فقوله: (وأما التعليق فليس فيه شيءٌ من هذا) = كلامٌ لا ينفعُهُ إلا إذا بَيَّنَ أَنَّ لفظَ اليمين لا يتناول في الشرع إلا ما كان فيه أدوات القَسَم؛ وهذا لم يثبته. _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 118). (2) تقدم تخريجها في (ص 143). (3) غير واضح في الأصل، ولعلها ما أثبتُّ. (4) تقدم تخريجه في (ص 362 - 363). (5) المغني (13/ 623 - 624).

(2/883)


والكلام في مقامين: أحدهما: أَنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ اسم اليمين المكفرة في الشرع بما تسميه النحاة يمينًا، فإنَّ النحاةَ لهم اصطلاحٌ خاصٌ، كما يخصون نوعًا من الكلام باسم النُّدْبِة ونوعًا بالاستغاثة، مع أَنَّ لفظ النُّدبة والاستغاثة في اللغة أعم من ذلك، وهذا لم يُقِم دليلًا على اختصاص اسم اليمين في الشرع بما ذكره من الأدوات؛ ويكفي المنع، وتوجيهه: الوجه الثاني: أَنَّا قدمنا دلالةَ النص والإجماع على أَنَّ مسمى اليمين في الشرع واللغة أعم مما ذكره. فصلٌ قوله: (وأما التعليق فليس فيه شيءٌ من ذلك. نعم؛ في التعليق على وجه اللجاج والغضب حيث يكون المشروط التزام [252/ ب] [أمرٍ] (1) شَبَهٌ من اليمين لما بينهما من الاشتراك في الالتزام ــ كما قدمنا ــ، فسميت يمينًا لذلك على وجه التجوّز لا على سبيل الحقيقة) (2). والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أَنْ يقال: قد أثبتَّ قدرًا (3) مشتركًا بين القَسَمِ بأدواته وبين التعليق المسمى بنذر اللجاج والغضب، وَسَلَّمْتَ أَنَّ هذا يسمى يمينًا، ثم ادَّعيتَ أَنَّ هذا مجاز. _________ (1) ما بين معقوفتين من «التحقيق»، وليست في الأصل. (2) «التحقيق» (47/ أ). (3) في الأصل: (نذرًا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/884)


ومعلومٌ أَنَّ اللفظ إذا جُعِلَ حقيقةً في ذلك المعنى المشترك سَلِمْنَا من المجاز والاشتراك اللفظي اللذين (1) هما على خلاف الأصل، وكان اللفظ متواطئًا حقيقةً في ذلك المعنى العام المشترك اشتراكًا معنويًا، ولا ريب أَنَّ التواطؤ خيرٌ من الاشتراك اللفظي والمجاز، فيكون جعله حقيقةً في القَدْرِ المشترك أولى من جعله مجازًا، وذلك المعنى المشترك موجود في الحلف بالطلاق والعتاق= فيكون مسمَّى اليمين حقيقة في ذلك كلِّهِ؛ وهو المطلوب. الوجه الثاني: أَنَّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين نَزَلَ القرآنُ بلغتهم سموا هذه التعليقات أيمانًا وأدخلوها في الآية، لم يثبتوا الحكم فيها بمجرد القياس ــ كما زعمه ــ فَعُلِمَ أنها يمين في لغتهم، داخلة في اسم اليمين المذكور في كتاب الله ــ تعالى ــ، وجمهور العلماء اتبعوهم، وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وَنَصُّوا على أَنَّ هذه التعليقات من معاني الأيمان لا من معاني النذور. الثالث: أَنَّ القَدْرَ المشترك الذي به جُعلت هذه أيمانًا: إما في الاسم والحكم، وإما في الحكم= ليس هو كون المشروط التزامَ أمرٍ ــ كما يَدَّعِيه هذا المعترض ونحوه ــ، فإنَّ هذا المعنى موجود في نذر التبرر، فإنَّ المشروط فيه التزامُ أَمْرٍ، [إذ] (2) لا فرق في كون المشروط الذي هو الجزاء التزامَ أَمْرٍ بين أَنْ يقول: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ الحجُّ، وبينَ أَنْ يقول: إِنْ سافرت معكم فعليَّ الحج. في كلا التعليقين عَلَّقَ التزامَ الحجِّ، ومع هذا _________ (1) في الأصل: (الذين)، والصواب ما أثبتُّ. (2) إضافة يقتضيها السياق.

(2/885)


فالأول نذرٌ لازمٌ، والثاني يمين مكفَّرة (1). فَعُلِمَ أَنَّ الذي به صار ذلك التعليق يمينًا مكفرة ليس هو الالتزام الموجود في النذر اللازم، بل هو معنىً آخر، وهو قَصْدُ اليمين الذي هو تعليقه لأمرٍ يكره لزومه له وَإِنْ وجد الشرط، فإنَّ هذا المعنى [253/ أ] منتفٍ في نذر التبرر وهو موجود في اليمين؛ فعلم [أنَّ تعليقه كان يمينًا مكفرة لهذا] (2)، لا لكون المعلَّق التزامًا (3)؛ وهذا المعنى موجودٌ في تعليقِ الطلاقِ والعتاقِ على وجه اليمين، فإنه عَلَّقَ ما يكره لزومه له وَإِنْ وُجِدَ الشرط فيكون يمينًا مكفَّرة. الرابع: أَنَّ نذر اللجاج والغضب قد أجزأت فيه الكفارة، فَإِنْ كانت الكفارة وجبت فيه وليس بيمين بل لمشابهة (4) اليمين؛ لزم من هذا أَنْ تجزئ الكفارة فيما أشبه اليمين وإن لم يُسَمَّ يمينًا، ولا بُدَّ أَنْ يكون الشبه في المعنى الذي لأجله وجبت الكفارة، وقد بينَّا أَنَّ ذلك ليس هو كون المعلق التزامًا، بل كون المعلق أمرًا يكره لزومه له، وهذا موجود في تعليق الطلاق والعتاق على وجه اليمين، فيلزم إجزاء الكفارة فيه. الخامس: أَنَّ الالتزام موجود في جميع العقود؛ فإنَّ الضمانَ التزامُ وفاءِ دينِ المدين مع بقائه عليه وليس هو يمينًا، والبائع التزم تسليم المبيع، والمشتري التزم تسليم الثمن؛ فلو كان المسوِّغُ للتكفير هو الالتزام= لكان _________ (1) العبارة في الأصل هكذا: (فالأول يمين مكفرة، والثاني نذر لازم) وهو سبق قلم. (2) العبارة في الأصل هكذا: (أنه كان تعليقه يمينًا مكفرة لهذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) انظر ما تقدم (ص 60 وما بعدها). (4) في الأصل: (لمشابه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/886)


كل ملتزم تجزئه الكفارة ولا يلزمه ما التزمه! وهذا لا يقوله مسلم، بل ولا عاقل. فَعُلِمَ أَنَّ دعوى المدعي أَنَّ المعنى الموجِب للكفارة هو الالتزام، وهو موجود في نذر اللجاج والغضب= كلامُ من لم يعرف لا مسمى لفظ اليمين ولا المعنى الموجب للكفارة، فكان كلامه في الأيمان كلامُ من لا يَعرف دلالةَ الأدلةِ الشرعيةِ عليها، لا دلالةَ النصوصِ الظاهرة ولا المعاني الباطنة، فلا يعرف معنى اليمين في اللغة والشرع، ولا المعنى الموجب لتكفيرها وَمَنْ لم يعرف هذا= كان كلامه في القضية المعينة هل هي يمين مكفرة أو غير مكفرة أو ملحقة باليمين المكفرة= كلامًا بلا علم، وَحَسْبُ المجيب أَنْ يُبين أَنَّ كلام هذا المعارض كلام بلا علم. * * * *

(2/887)


فصلٌ قال: (وللعلماء في موجبها أقوال: قيل: الوفاء بما نذر؛ وهو مرويٌ عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، وعثمان البَتِّي، وأحد أقوال الشافعي نقله ابن المنذر عنه. وعن ابن عمر مطلقًا؛ ورواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر في رجلٍ جَعَلَ ماله في سبيل الله إنْ لم يفعل كذا، ثم حنث [قال: مالُهُ] (1) في سبيل الله، وقد روي عن ابن عمر خلاف ذلك [253/ ب] أيضًا. وقيل: لا شيء عليه؛ روي ذلك عن: الشعبي والحارث العكلي وحماد والحكم في اليمين بالصدقة والهدي، وكذلك عن ابن أبي ليلى في الصدقة، وعن عطاء وطاووس على خلافٍ عنهما، وهؤلاء يقولون بشمول الآية له. وقيل: بالتخيير (2) بين الوفاء بما نذره وبين الكفارة؛ وهو أشهر أقوال الشافعي عند العراقيين من أصحابه، وهو الذي يقوم الدليل عليه ــ كما سنشير إلى ذلك ــ، والقائل بهذا ــ أيضًا ــ يمنع شمول الآية [له] (3) مطلقًا. وقيل: الكفارة؛ وهو قولٌ مشهورٌ للشافعي، رَجَّحَهُ جماعةٌ من أصحابه، وهو مرويٌ عن (4) عمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة والتابعين. _________ (1) في الأصل: (قاله)، والمثبت من «التحقيق». (2) في الأصل: (التخير)، والمثبت من «التحقيق». (3) ما بين المعقوفتين من «التحقيق». (4) هنا في الأصل زيادة (ابن)، وليست في «التحقيق»، والظاهر أنها مقحمة.

(2/888)


قال الشافعي في المختصر (1): ولو قال: مالي في سبيل الله أو صدقة على معاني الأيمان. فمذهب (2) عائشة وعدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعطاء، والقياسُ أَنَّ عليه كفارة [يمين] (3). قال: ومن حنث في المشي إلى بيت الله ــ عز وجل ــ ففيه قولان: أحدهما: قول عطاء كفارة يمين، ومذهبه أَنَّ أعمال البر لا تكون إلا بما فَرَضَ الله، أو تبررًا يراد به الله. قال الشافعي: التبرر أَنْ يقول: لله عليَّ إن شفاني الله أَنْ أحجَّ له نذرًا، فأما إِنْ لم أقضك حقك فعليَّ المشيُ إلى بيت الله؛ فهذا من معاني الأيمان لا معاني النذور (4). قال المزني (5): قد قَطَعَ بأنه قولُ عددٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - [والقياس]، وقد قال في غير هذا الموضع: لو قال: لله عليَّ نَذْرُ حجٍّ إِنْ شاء فلانٌ فَشَاءَ، لم يكن عليه شيء، إنما النذر ما أريدَ به الله، ليس على معاني المعلِّق، والشائي غير الناذر. والقائلون بهذا لا يلزم أَنْ يكونوا أخذوه من دلالة الآية عليه لفظًا، بل بالقياس) (6). _________ (1) مختصر المزني (ص 390). (2) في الأصل: (فذهب)، والمثبت من «التحقيق» ومختصر المزني. (3) ما بين المعقوفتين من مختصر المزني. (4) في الأصل: (النذر)، والمثبت من «التحقيق» ومختصر المزني. (5) (ص 390). (6) «التحقيق» (47/ أـ ب).

(2/889)


والجواب من وجوه: أحدها: أَنَّ الأقوال للسلف ثلاثة فقط؛ إمَّا لزوم ما التزمه، وإِمَّا إجزاء التكفير، وإما أنه لا شيء عليه، وجمهور السلف على إجزاء الكفارة. والقائلون بإجزاء الكفارة يقولون: إذا فَعَلَ ما نذره لم يكن عليه شيء آخر، وهو معنى قول مَنْ يخيِّره بين الوفاء وبين التكفير، وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل إجماعَ الناس على أنه إذا فعل المنذور لم يكن عليه [254/ أ] شيء آخر، وَإِنْ كان قد حُكِيَ القولُ بتعين الكفارة رواية عنه، وقول للشافعي اختاره طائفة من الخراسانيين. قال أحمد: [ ... ] (1). الثاني: أَنَّ هذا المعترض ظَنَّ أَنَّ مَنْ قال بالتخيير لا يحتج بالآية، وَمَنْ قال بلزوم الكفارة لا يلزم أن يكونوا أخذوه من دلالة الآية عليه لفظًا بل بالقياس؛ وهذا الكلام فيه غلطٌ عظيمٌ على السلف والعلماء من أربعة أوجه: من جهة أَنَّ أصحاب القول الأول لم يحتجوا بالآية لعدم دلالة الآية على ذلك، وَأَنَّ أصحاب القول الثاني وإن أمكن أن يحتجوا بالآية فلا يلزم ذلك، بل يمكن أن يكون معتمدهم القياس، ثم أخذ يُضَعِّفُ حُجَّةَ هذا القول لِظَنِّهِ (2) أَنَّ مَنْ جعل هذا يمينًا مكفرة واحتج بالآية لا (3) حجة له، ومن جهة ظَنِّهِ أنه إذا كانت الحجة في الكفارة هو القياس؛ فالجامع هو: الالتزام، وهو منتفٍ في الحلف بالطلاق، وفي هذا الكلام من سوء الفهم وقلة المعرفة ما يطول وصفُهُ، لكن يُذكر ما يتعلق بمعرفة الأحكام الشرعية وأدلتها. _________ (1) بياض في الأصل مقدار ثلاثة أسطر تقريبًا. (2) في الأصل: (لِيُظَنَّ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) في الأصل: (ولا)، ولعل الصواب حذف الواو، أو تكون «فلا».

(2/890)


وأنا أعذر المعترض وأمثاله في كثيرٍ مما يقولونه، لأنَّ مَنْ هو أكبر منهم غَلِطَ في مواضع، وهم زادوا في الغلط؛ فتضاعف الغلط وضعفت معرفتهم بالكتاب والسنة ومعاني أقوال الصحابة ومن اتبعهم. وهو وإنْ كان قد غلط في هذه المواضع فقد أصاب وأحسن في قوله: (على أَنَّ هذا القول بالتحرير الذي يقوله المتأخرون ــ وهو: أَنَّ الواجب الكفارة عينًا بحيث لو أتى بالذي التزمه لا يكفي ــ لسْتُ أعرف الآن دليلًا عليه، لا من خبرٍ ولا من نظرٍ) (1)؛ فإنَّ هذا القول في غايةِ الضعف، وقد أحسن في تضعيفه، بل هو خلاف الإجماع الذي حكاه الإمام أحمد، مع تحري أحمد في حكاية الإجماع، وَرَدِّهِ على مَنْ يجزم بالإجماع، وَأَمْرِهِ له بأنْ يقول: ما أعلم خلافًا. ولكنَّ ظَنَّ هذا المعترض أَنَّ حجة المجيب إنما [254/ ب] تتوجَّه (2) على تقدير نصرة هذا القول الساقط الشاذ المخالف لإجماع السلف= ظَنٌّ كاذب، بل أَنَا أُسَلِّمُ خَطَأَ هذا القول وأجزم به، مع الجزم بأنَّ هذه يمين مكفرة؛ فصار قياسًا. وسبب الاشتباه في ذلك: أَنَّ التعليق القَسَمي كقوله: إِنْ لم أفرق بينك وبين امرأتك فمالي هدي وكل مملوك لي حر وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية ونحو ذلك، وقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج ونحو ذلك= هو إنما يكون حانثًا الحنث الموجب للكفارة إذا وجد الشرط دون الجزاء، فإنَّ كلامه تضمن لزوم الجزاء عند الشرط، فإنْ وُجِدَ الشرطُ والجزاء لم يكن قد _________ (1) «التحقيق» (47/ ب)، وسيعيد نقله المجيب مع ما بعده في الفصل التالي. (2) أول الكلمة غير واضح، وقدرتها بما أثبتُّ.

(2/891)


خالف عَقْدَهُ، وإنْ لم يوجد لا الشرط ولا الجزاء لم يكن قد خالف عقده، وأما إذا وجد الشرط دون الجزاء فقد خالف عقده؛ فلزمته الكفارة. فالحنث الموجبُ للكفارة عينًا هو: مخالفةُ عَقْدِهِ بوجود الشرط دون الجزاء، لكن هو إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج؛ فمقصوده: منعُ نفسِهِ من الفعل وجَعْلُ الحج لازمًا له إذا فعل لئلا يفعل، فإذا وجد الفعل فقد يُسمى حانثًا كما يسمى حانثًا إذا حلف ألا يفعل وفعل، ولكن إذا وجد الفعل وَقُدِّرَ مع ذلك أنه حَجَّ فقد وفّى بموجب عقده فلم يحنث وليس عليه شيء آخر، ولكن هو إذا فعل جاء يستفتي لينظر أيلزمه الحج أم لا يلزمه؟ فَظَنَّ هؤلاء المتأخرون الغالطون المخالفون لإجماع السلف أنه بالفعل صار حانثًا الحنث الموجب للكفارة فألزموه الكفارة عينًا، وَظَنَّ هذا المعترض الغالط أَنَّ قول هؤلاء هو قول الصحابة والتابعين الذين أفتوا بالكفارة في هذه الأيمان كعمر وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - وغيرهم؛ وهذا غلط عليهم، فإنَّ قول هؤلاء الصحابة هو القول الذي نَصَرَهُ الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما، وهم يفتون بالكفارة، ولو فَعَلَ ما عَلَّقَهُ لم يكن عليه شيء آخر بلا ريب، وهكذا نَقَلَ عنهم عامة العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم مثل: أبي حامد الإسفراييني الذي يعتمد على نقله، فإنه قال: (وعندنا أنه مخيَّر بين أَنْ يفي بما نذره أو يُكَفِّر كفارة يمين، وبه قال: عمر وابن عمر وابن [255/ أ] عباس وعائشة وحفصة وزينب بنت أم سلمة ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن التابعين عطاء وطاووس والحسن، ومن الفقهاء أبو عبيد وأحمد وإسحاق وأبو ثور).

(2/892)


والصحابة - رضي الله عنهم - أفتوه بالكفارة لا لأنه إذا فعل ما التزمه لزمته الكفارة أيضًا، بل أمروه أَنْ يُكفِّر ولا يحتاج مع ذلك إلى فعل ما التزمه، لأنه ليس له قصد في فعله، وإنما كان يفعله إذا كان واجبًا عليه، فإذا لم يكن واجبًا عليه بل تجزئه كفارة يمين فلا داعي له إلى فعله، وقد يُنهى ــ أيضًا ــ عن فعله لما عليه في ذلك من الضرر، لأنه ليس له في ذلك نيةٌ خالصة، كما يُنهى الإنسان عن فعل ما يضره وعن سائر أفعال القرب التي يفعلها بلا نية خالصة لله ــ عز وجل ــ، وكما يُنهى عن أن يفعل ما حَلَفَ عليه إذا حلف ليفعلنَّ محرمًا، أو ليفعلنَّ فعلًا يضره، أو ليفعلنَّ قربة من القرب على وجه المباهاة والمراءاة ونحو ذلك. فلو حلف ليحجنَّ رياءً وسمعة، أو لَيُخْرِجَنَّ ماله كله ويدع نفسه وعياله محتاجين= نهي عن فعل ذلك، وَأُمِرَ أَنْ يكفر يمينه، وَإِنْ كان لو فعل ذلك لم تجب عليه كفارة بقوله: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج؛ غايَتُهُ: أَنْ يكون بمنزلة قوله: إِنْ فعلتُ كذا فوالله لأحجنَّ ثلاثين حجة ولأُخْرِجَنَّ مالي كله ولأصيرنَّ يهوديًا ونصرانيًا ولأطلقنَّ نسائي، وهو لو فعله وَحَجَّ لم يكن عليه كفارة، لكن لو فعله لقيل له: كَفِّرْ يمينك ولا تَحُجَّ ثلاثين حجة ولا تُخْرِج مالك ولا تَكْفُر ولا تُطَلِّق نساءك، ثم لو فعل ذلك لم يكن عليه كفارة؛ فالإلزام بالكفارة مع كونه فعل ما التزمه قولٌ ضعيفٌ جدًّا. وهؤلاء سمعوا ما ذكره الشافعي ونقله عن السلف من أنهم جعلوا هذا يمينًا مكفَّرة، فظنوا أنه بمجرد (1) الفعل تتعين الكفارة ولو فعل ما التزمه؛ وليس كذلك، بل هذا كما لو قال: إِنْ فعلت فوالله لأفعلنَّ كذا وكذا، فإنه _________ (1) في الأصل: (مجرد)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/893)


يُقال: هذه يمين مكفرة، فإذا فَعَلَ ذلك الفعل أجزأته كفارة يمين، ولا يحتاج أَنْ يفعل الفعل الثاني الذي التزمه، بل يُنهى عنه إذا كان محرمًا أو مكروهًا، ومع ذلك فلو فعله لم تجب عليه الكفارة. لكن بعض الناس يقول: مَنْ حَلَفَ ليفعلنَّ معصيةً فعليه الكفارة [255/ب] وإن (1) فعلها؛ وهذا يشبه قول هؤلاء، وبإزائه قول مَنْ يقول: مَنْ حَلَفَ على طاعةٍ لا يفعلها فكفارتها أَنْ يفعلها، وهذه أقوالٌ ضعيفةٌ. فإنَّ الكفارةَ وَجَبَتْ لما في الحنث مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اليمين، وإذا فَعَلَ المعصية استحق عليها عقوبة أخرى، وإذا فعل الطاعة كان له عليها ثواب غير ما يستحقه بكفارة اليمين؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خير، وليُكَفِّرْ عن يمينه» (2) فَأَمَرَ بالكفارة مع كون الحنث خيرًا من الإصرار على اليمين؛ فَعُلِمَ أَنَّ كون الحنث بفعل طاعة لا يُسْقِطُ اليمين بل يجب مع الحنث، وإذا لم يحنث فلا كفارة عليه وَإِنْ كان عاصيًا مستحقًّا للذم والعقاب بفعل المعصية التي التزمها لا بالحنث، وإلا فإذا حَلَفَ على يمين تضمنت تَرْكَ واجبٍ أو فعل محرمٍ= كان ينبغي على هذا القول أَنْ تجب عليه الكفارة مطلقًا سواء فَعَلَ الواجب وتَرَكَ المحرم، أو لم يفعل الواجب ولم يترك المحرم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فليأتِ الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه»، وقال: «أن يلج (3) أَحدُهم يمينَهُ آثَمُ له عند _________ (1) غير واضحة في الأصل، وقدرتها بما أثبتُّ. (2) تقدم تخريجه في (ص 26). (3) في الأصل: (إِنْ يُبَح)، والصواب ما أثبت.

(2/894)


الله من أَنْ يُعطيَ الكفارة التي فرض الله عليه» (1). وإذا عُرِفَ هذا؛ فمن قال: يخير بين الوفاء بما نذر وبين الكفارة، فهذا أرادوا به إذا وجد الشرط، فإنه ــ حينئذٍ ــ يُخير بين أن يفعل الجزاء الذي جعله لازمًا، وحينئذٍ فلا يكون قد حنث، فلا يلزمه كفارة يمين. وبين ألا يفعله فيكون قد حنث فيلزم كفارة يمين، لكن مِنْ هؤلاء مَنْ يقول: هذا أَخَذَ شبهًا من اليمين وشبهًا من النذر، وجعلوا التخيير بناءً على هذا. وحقيقةُ الأمر أنه لا يكون حانثًا الحنث الموجب للكفارة إلا إذا وجد الشرط ولم يوجد الجزاء، فالتخيير هو تخييرٌ بين مخالفةِ عَقْدِهِ والوفاء به، كما يُخيَّر في غير هذه اليمين بين البِرِّ والحنث، وهذا التخيير إنما يُشْرَعُ إذا كان فِعْلُ الجزاء مباحًا، فأما مع كونه مكروهًا أو محرمًا فلا يخير. ومن قال تجب الكفارةُ عينًا؛ فلو فَهِمَ أَنَّ الكفارة إنما تجب عينًا عند الحنث الذي هو وجود الشرط وعدم وجود الجزاء= لكان قد أحسن، لكن ظَنَّ ذلك هو مجرد وجود الشرط. [256/ أ] فَجَعْلُ الكفارة تلزمه وإن فعل ما التزمه يُظْهِرُ فسادَ قولِهِ ومخالفته للأصول والنصوص (2)، بل ومخالفته لإجماع السلف، كما ذكره الإمام أحمد. الوجه الثالث: أَنْ نقول: الصحابة وجمهور التابعين الذي قالوا بإجزاء _________ (1) أخرجه البخاري (6625)، ومسلم (1655) من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ، ولفظه: «والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله، آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه». (2) بعدها في الأصل: (بل ومخالفته للأصول والنصوص)، وهذا تكرار.

(2/895)


الكفارة في ذلك؛ إِمَّا أن تكون حجتهم شمول الآية لهذا التعليق، وإما القياس على اليمين؛ وعلى التقديرين فقد أثبتوا الكفارة بالقَدْرِ المشترك، وجعلوا ذلك مناطَ وجوبِ التكفير. والقَدْرُ المشترك ليس هو الالتزام ــ كما تقدم ــ، بل هو لزوم ما يكره لزومه عند الحنث، وهذا المعنى موجود في تعليق الطلاق والعتاق إذا أريد به اليمين، فيلزم أن يجزئ في ذلك كفارة يمين، عملًا بالمعنى المشترك الذي هو عِلَّةُ الحكمِ في الأصل، أو باللفظ العام الشامل فإنه لا بُدَّ من شمول اللفظ أو (1) من شمول المعنى. الوجه الرابع: أَنَّ كلام الصحابة - رضي الله عنهم - الذين أفتوا في ذلك بكفارة يمين وكلام التابعين وسائر العلماء الذين وافقهم= بَيِّنٌ في أَنَّ هذه يمينٌ مكفَّرةٌ عندهم، يشملها لفظ اليمين ومعناه؛ فالحكم فيها ثابت بالعموم وبالقياس، بالعموم اللفظي والمعنوي. وهذا موجود في تعليق الطلاق والعتاق إذا قصد به اليمين، فإنَّ الصحابة يقولون: كَفِّرْ يمينك، هذه يمين مُكَفَّرَةٌ ــ كما تقدم ذكر ألفاظهم ــ، لم يقل أحدٌ منهم: هذه مثل اليمين، بل سَمَّوهَا يمينًا، وأوجبوا فيها ما يجب في اليمين، ولم يقل أحد منهم إنها ليست يمينًا. * * * * _________ (1) في الأصل: (وإما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/896)


فصلٌ قال المعترض: (على أَنَّ هذا القول بالتحرير الذي يقوله المتأخرون، وهو أَنَّ الواجب الكفارةُ عينًا بحيث لو أتى بالذي التزمه لا يكفي= لستُ أعرف الآن دليلًا عليه لا من خبر ولا من نظر). فيقال: قد أحسن المعترض في هذا وأصاب، ومرادهم بإيجاب الكفارة عينًا إذا وجد الشرط وإن فعل ما التزمه، وأما إذا وجد الشرط ولم يوجد الجزاء فإنه تجب الكفارة عينًا بلا ريب، لكن إيجابها مع فعل ما التزمه= هو القول المبتدع الضعيف الذي لا حجةَ له. ثم قال: (أما الخبر؛ فهم يستدلون له بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارةُ النذر كفارة [256/ ب] يمين» (1) قال: فقد تأملت معنى هذا الحديث، والذي فهمته (2) منه: تبيين (3) كفارة النذر كما بيَّن الله كفارة اليمين في كتابه العزيز، وَلمَّا لم يقتض ذلك إيجاب كفارة اليمين مطلقًا، بل بشرط مخالفتها والحنث فيها= كذلك لا يقتضي هذا وجوب كفارة النذر مطلقًا، بل بشرط ألا يفي به، وَمَنْ وَفَّى به فقد أتى بمقتضى التزامه، فهو بمنزلة ما لو بَرَّ في يمينه فلا يحتاج إلى تكفير، وكيف يقال: إنه إذا أتى بالمنذور لا يكفي، ويقول له: لا تأت به بل كَفِّر؟! والله ــ تعالى ــ قد مَدَحَ على الوفاء بالنذر؛ فهذا ما أشرنا إليه من جهة النظر. _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92). (2) في الأصل: (فهمت)، والمثبت من «التحقيق». (3) في الأصل: (يبين)، والمثبت من «التحقيق».

(2/897)


قال (1): فإنْ قلتَ: [هذا عند القائلين بوجوب الكفارة عينًا ليس بنذر لكنه يمين. قلتُ:] (2) فيبطل احتجاجهم عليه بقوله: «كفارة النذر كفارة يمين» (3) فإنه جعله نذرًا، وجمهور الأصحاب [حملوا] (4) هذا الحديث على نذر اللجاج الذي نحن نتكلم فيه، ولا دليل لهم على الكفارة فيه غيره) (5). فيقال: ما ذكره هنا هو من أحسن كلامه، وأجود ما ذكره مع احتياجه إلى تتمة وبيان؛ فيقال: أما دعوى من ادعى أَنَّ مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «كفارة النذر كفارة يمين» ليس إلا الحلف بالنذر الذي يسميه بعض الناس نذر اللجاج والغضب؛ ففي غايةِ الضعف؛ ولهذا لم يُعْرَف هذا القول عن أحدٍ من السلف، ولا قاله الشافعي ولا أحمد بن حنبل ولا أمثالهما من الأئمة الذين جعلوا في نذر اللجاج والغضب كفارةَ يمين، لكن هو قول طائفة من المتأخرين (6). وذلك أَنَّ قوله: «كفارة النذر كفارة يمين» اسمُ جنسٍ مُعَرَّفٍ بالألف واللام، فيجب أَنْ يكون عامًّا في النذر، ولم يتقدم نَذْرٌ معهود ينصرف الكلام _________ (1) القائل هو: السبكي. (2) ما بين المعقوفتين من «التحقيق»، وهو ساقط من الأصل. (3) تقدم تخريجه في (ص 92). (4) ما بين المعقوفتين من «التحقيق»، وسيذكرها المجيب في (ص 902). (5) «التحقيق» (47/ ب). (6) ولا تعارض أقوال المتأخرين من الفقهاء بأقوال السلف. انظر: جامع المسائل (4/ 255) (6/ 401، 403) (8/ 160)، الفتاوى العراقية (2/ 561، 746).

(2/898)


إليه (1). وأيضًا؛ فسواء أريد به جنس النذر أو نذر معين؛ من المعلوم أَنَّ الكفارة في النذر واليمين لا تجب (2) مع الوفاء، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» لا يقتضي وجوب الكفارة مطلقًا، بل ولا إباحتها مطلقًا، بل يقتضي أَنَّ الذي يُكَفِّرُ النذرَ هو ما يكفر اليمين؛ فثبت أَنَّ النذر فيه كفارة اليمين. وقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] قال بعض الناس (3): مراده: ذلك كفارة أيمانكم إذا حنثتم (4). ولا تحتاج الآية إلى إضمار، فإنه ليس [257/ أ] في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} إيجاب الكفارة بمجرد اليمين حتى يحتاج أَنْ نضمر الحنث الذي به تجب الكفارة، بل النصُّ دَلَّ على أَنَّ هذا هو كفارة اليمين، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] فهذه الكفارة هي كفارة عقد اليمين. كما يقال: كفارةُ الظهار؛ ومعلوم أنها إنما تجب إذا عاد إلى ما قال. ويقال: جزاءُ الصيد؛ ومعلومٌ أنه إنما يجب إذا قَتَلَهُ. ويقال: فديةُ الأذى؛ ومعلومٌ أنها لا تجب بنفس الأذى بل بالحلق، ومثل هذا كثير. ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وهي الكفارة، لكن سماها تَحِلَّة، لأنها تحل عقد اليمين، وسماها _________ (1) دلالة الألفاظ عند شيخ الإسلام (2/ 525). (2) في الأصل زيادة: (إلا)، والصواب حذفها. (3) هو أبو ثور؛ كما تقدم في (ص 7). (4) في الأصل: (حلفتم)، والصواب ما أثبتُّ. كما تقدم مرارًا، وكما سيأتي قريبًا.

(2/899)


كفارة لمحوها ما انعقد سببه من الإثم، والكفارات جعلها الله ماحية. وهذا كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فالمراد: أَنَّ ذلك يجزئه، وقد علم أنه إنما يجب إذا أفطر، ونظائره متعددة. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (1) بيانٌ لكونِ النذرِ كفارتُهُ كفارةُ يمين، ثم قد ثبت بالنص والإجماع أنه يجب الوفاء بالنذر، فإذا لم يوف به كان كاليمين التي حنث فيها تلزم كفارة يمين كما يلزمه في اليمين، وهذا قول السلف وهو مذهب أحمد وغيره. ولهذا قال عقبة بن عامر ــ راوي الحديث ــ: النذر حَلْفَةٌ (2). وقال عمر وابن عباس وجابر وغيرهم - رضي الله عنهم -: النذر يمين (3). فنذر اللجاج والغضب لم يسمِّهِ أَحَدٌ من الصحابة نذرًا، بل هو عندهم يمين من الأيمان، ولكن بعض الناس سماه نذر اللجاج والغضب تسميةً بعيدةً لكون صورته صورة النذر وَإِنْ لم يكن نذرًا، فإنه التزم ما عَلَّقَهُ على تقدير الشرط، لكن مع كراهته للزومه (4) له. ومثله تسمية الحالف بالطلاق والعتاق مُطَلِّقًا ومعتقًا، وتسمية الحالف بالظهار والحرام مظاهرًا ومحرمًا، فيقال: طَلَّقَ إِنْ فعل كذا، وظاهر إن فعل _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92). (2) تقدم تخريجه في (ص 118). (3) تقدم تخريجه في (ص 143). (4) في الأصل: (المذمومة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/900)


كذا، ونذر إن فعل كذا؛ أي: جَعَلَ [257/ ب] ذلك لازمًا له إن فعل كذا، وَإِنْ كان كارهًا للزومه لم يقصد أَنْ يلزمه سواء فعل أو لم يفعل. وإذا كان كذلك؛ فدلالة الحديث على هذا: إما أَنْ يكون بشمول اللفظ له لكونه نذرًا، فيدخل في العموم مع شرط آخر، وهو أنه نَذْرٌ لم يجب الوفاء به، ويشاركه في هذا كل نذر لم يجب الوفاء به كنذر المعصية والمباح وغيرهما. وأما تخصيصُ هذا بالحديث دون تلك، مع أَنَّ تلك نذر حقيقة وهذا قصده النذر= فبعيدٌ جدًا، ويحتاج حينئذٍ [أَنْ] (1) يبين أنه لا يجب الوفاء به بكون قصده اليمين لم يقصد أن يلتزم لله طاعة. وإما أَنْ يكون نُكُولُهُ دَلَّ على أن كفارة النذر كفارة يمين؛ فَعُلِمَ أنه لا بُدَّ من الوفاء أو التكفير، لا يجوز أن يخلو منهما كقول مَنْ قال: لا شيء في نذر اللجاج والغضب كما في سائر النذور، ولا بُدَّ مع ذلك أَنْ يقال: لا يجب الوفاء به لكون قصده اليمين. وإما أَنْ يقال: لَمَّا قال: «كفارة النذر كفارة اليمين» عُلِمَ أَنَّ الموجب للكفارة قَدْرٌ مشترك بين النذر واليمين، سواء جُعِلَ مسمى النذر نوعًا من مسمى اليمين، أو جُعِلَ نظيرَ المسمى اليمين، وإذا كان المشترك موجبًا للكفارة وقد عُلِمَ أَنَّ مَنْ قَصَدَ التقرب إلى الله فهو ناذر يلزمه الوفاء، فإنْ تَعَذَّرَ فعليه الكفارة، وَمَنْ قصد الحضَّ والمنع فهو حالفٌ يجوز له الحنث مع قدرته على الوفاء. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(2/901)


وهذا الحالف بالنذر قَصْدُهُ قَصْدُ الحالفِ لا قَصْدُ الناذر، فتجزئه كفارة يمين كما تجزئ سائر الحالفين إذا حنث فلم يفعل ما التزمه من الجزاء، وأما إذا فَعَلَ ما التزمه من الجزاء فلم يحنث فلا كفارة عليه، بل فَعَلَ ما التزمه وَإِنْ كان لم يلتزمه لله بل نذره ليحلف به لا ليتقرب به إلى الله، كما لو قَصَدَ بالنذر اليمين مثل أَنْ يقول: لله عليَّ أَنْ أَقتلَ فلانًا ونحو ذلك، فإنَّ هذا ناذر حالفٌ فعليه كفارة يمين. ففي الجملة؛ الاحتجاج بهذا الحديث على مسألة نذر اللجاج والغضب لا يمكن مع القول بتخصيص أَنَّ الحديث لم يُرَدْ به إلا هذه المسألة، ولا يمكن الاحتجاج به عليها مع دلالتها على غيرها إلا بمقدمة أخرى لا بمجرد ظاهر الحديث. وأما قول هذا المعترض أن جمهور الأصحاب حملوا هذا الحديث على نذر اللجاج، ولا دليل لهم على الكفارة فيه [258/ أ] غيره؛ فليس الأمر كذلك، بل قد احتجوا بحجج بما ذكروه عن الصحابة - رضي الله عنهم - مع الحديث. فاحتج أبو حامد الإسفراييني ومن وافقه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (1). قال أبو حامد (2): (ولم يفرق بين نذر ونذر، فهو على عمومه)؛ فاحتج بعموم الحديث، لم يخصه بنذر اللجاج والغضب. قال: (ولأنه إجماع روي عن ستةٍ من الصحابة ذكرناهم، فأما الأربعة _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92). (2) لم أجد مَن نقل كلام أبي حامد هذا.

(2/902)


فقد صرحوا وهم: عمر وعائشة وحفصة وزينب - رضي الله عنهم -، واثنان اختلفت الرواية عنهم وهما: ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -، لأنَّ ابن عباس رويت عنه روايتان: إحداهما بتكفيرها، والأخرى مثل قول ربيعة. وابن عمر عنه ثلاث روايات. فإمَّا أن نقول: قد تعارضت تلك الروايات عنهم وسقطت جملة، حتى كأنه لم يوجد منها شيء، وتجرد لنا قول أربعة من الصحابة لا مخالف لهم، أو نقول: الروايةُ التي توافق قول غيرهما من الصحابة مقدمةٌ على الرواية التي تخالفها، لأنَّ وفاق غيرهما يعضد ما روي عنهما مثل ذلك). والماوردي ذكر نحو ما ذكره أبو حامد، فقال (1): (ولأنه بانتشاره عن سبعة من الصحابة ولم يظهر خلافهم= إجماع)، وذكر الستة وزاد أم سلمة. والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب وغيرهما ذكروا ما ذكروه من الآثار عن الصحابة، وذكروا آثارًا (2) أخر عنهم في أَنَّ النذر يمين، فإنهم يقولون بهذا وبهذا. قال القاضي أبو يعلى (3): (وهذا إجماعُ الصحابة؛ حديث عمر من رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي الذي قال: إِنْ عدتَ لم أكلمكَ أبدًا وكل مالي في رتاج الكعبة. فقال عمر - رضي الله عنه -: إِنَّ الكعبةَ لغنيةٌ عن مالك، كَفِّرْ _________ (1) في الحاوي (15/ 458). (2) في الأصل: (آثارٌ). (3) لم أجد هذا النقل فيما بين يديَّ من كتب أبي يعلى، ولعله من التعليقة الكبيرة، حيث إنَّ ابن تيمية كانت له عناية بها.

(2/903)


عن يمينك، وَكَلِّمْ أخاك؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا قطيعة رحم، ولا فيما لا تملك» (1)). وذكر حديث ليلى بنت العجماء التي قالت: (إِنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك، فكل مملوك لي حر، ومالي هدي، وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية). وَذَكَرَ الصحابة الذين أفتوها بكفارة يمين، كابن عمر ومن معه (2). وقول ابن عباس في التي جعلت بُرْدَها عليها هديًا إِنْ لبسته، فقال ابن عباس: (لتكفِّر [258/ ب] عن يمينها) (3). وقول عائشة ــ أيضًا ــ فيمن جَعَلَ ماله في ميزاب الكعبة قالت: (يُكفِّر عن يمينه) (4). قال: (وروى أبو إسحاق الشالنجي بإسناده عن منصور بن عبد الرحمن الحُجبي، عن أمه، عن عائشة: مَنْ جعل ماله في سبيل الله أو في رتاج الكعبة. قالت: يكفر يمينه) (5). قال: وروى الشالنجي، عن محمد بن عبد الله السدوسي، عن ابن عباس: في النذر كفارة يمين (6). _________ (1) قد تقدم تخريجه في (ص 366) بلفظ مقارب. (2) تقدم ذكره وتخريجه في (ص 201 - 209). (3) تقدم ذكره وتخريجه في (ص 263). (4) تقدم تخريجه في (ص 215). (5) تقدم تخريجه في (ص 447). (6) تقدم تخريجه في (ص 143).

(2/904)


وروى ــ أيضًا ــ عن عقبة بن عامر قال: (النذر حَلْفَةٌ) (1). وروى ــ أيضًا ــ عن أبي الخير (2) قال: (نذرت أَنْ أصومَ بإيلياء رمضان، فشغلني شيء فلم أصم، فسألت عقبة بن عامر - رضي الله عنه - فقال: إنما النذر حَلْفَةٌ، كَفِّر عن يمينك) (3). قال القاضي: (فجعل هذا مذهب ستة من الصحابة، ولا يعرف لهم مخالف). * * * * _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 118). (2) كذا قرأتها، وتحتمل غير ذلك، إلا أنَّ مما جعلني أُرَجِّحُ ما أثبتُّ أنَّ من أشهر الرواة عن عقبة: أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني، وكان لا يفارقه. انظر: تهذيب الكمال (27/ 357). (3) تقدم تخريجه في (ص 118).

(2/905)


فصلٌ قال المعترض: (وتمام الكشف في هذه المسألة شيءٌ أذكره على سبيل النظر فيه، وهو أَنَّ القائل: إنْ فعلتُ كذا فعليَّ عِتْقٌ مثلًا؛ تضمن كلامه أمرين: أحدهما: الامتناعُ عن الفعل. والثاني: التزامُ العتقِ على تقدير الفعل، وتسمية هذا النوع نذرًا للمعنى الثاني لا للأول، لأنَّ النذر هو الالتزام لا الحث أو المنع، ولهذا يُشترط (1) في ذلك أَنْ يكون قربة كما يشرط في المنذور، والمنذور ههنا هو الإعتاق، وتسميته نذرًا لذلك، وأما تسميته يمينًا فالأسبق إلى الفهم من كلام الفقهاء أنه لأجل المعنى الأول وهو الامتناع من الفعل، فكأنه حَلَفَ ألا يَفعل ذلك الفعل، ويحتمل أَنْ يقال: إِنَّ جهةَ اليمين فيه التزام الإعتاق لأنَّ الحالفَ ملتزمٌ كما تقدم، فلذلك سمي يمينًا، والفقيه قد يَرُدُّ هذا الاحتمال في أول وَهْلَة، ولكن ينبغي أنْ يتمهل حتى ينظر فيه من جهات: أحدها: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كفارة النذر كفارة يمين»؛ ففي هذا إشارة إلى أنه أعطى النذر حكم اليمين، والنذر إنما هو التزام الإعتاق لا الامتناع ــ كما تقدم آنفًا ــ فكذلك اليمين) (2). والجواب أَنْ يقال: بعضُ ما ذكره هنا بحث جيد، ومن جيد ما ذكره المعترض وهو يؤيد قول المجيب؛ فإنَّ قولَهُ: إنَّ كلامه تضمن شيئين: الامتناع عن الفعل، والتزام العتق على تقديره، وتسميتُهُ نذرًا للمعنى الثاني لا _________ (1) في الأصل: (يشرط)، والمثبت من «التحقيق». (2) «التحقيق» (47/ ب ــ 48/ أ).

(2/906)


[259/ أ] للأول= كلامٌ صحيح. ثم قال: (وأما تسميته يمينًا؛ فالأسبق إلى الفهم من كلام الفقهاء أنه لأجل المعنى الأول، وهو الامتناع من الفعل، فكأنه حَلَفَ ألا يفعل ذلك. قال: ويحتمل أَنْ يقال: إِنَّ جهة اليمين فيه التزام الإعتاق لأنَّ الحالف ملتزم ــ كما تقدم ــ فلذلك سمي يمينًا) إلى آخره. فيقال: أما كونه حالفًا لالتزام الإعتاق ــ كما ذكره ــ وهو المعنى المشترك الذي عُلِّقَ به وجوب الكفارة؛ فهذا في غاية الفساد إِنْ لم يقرن بذلك التزام ما يكره لزومه له، لينفصل بذلك عن نذر التبرر، فإنه لو كان جهة اليمين كونه التزم الإعتاق لكان كل ملزم للإعتاق يمينًا مكفرة، ونذر التبرر فيه التزام الإعتاق وهو واجب عليه، وهو قد عَرَفَ أَنَّ هذا القول مردود عند الفقهاء، فقال: (والفقيه قد يرد (1) هذا الاحتمال، لكن ينبغي له أَنْ يتمهل حتى ينظر فيه). فيقال: حقيقةُ الأمر أن كلًّا من هذا النظر وهذا النظر يقتضي أَنَّ صاحبه لَحَظَ بعض صفات اليمين، أما كونه ممتنعًا من الفعل وحاضًّا عليه، فهذا أحد أوصاف اليمين، لكن لا يجوز أَنْ تكون يمينًا لهذا المعنى وحده، كما قد يظنه بعض الفقهاء، وكما ألزمه المعترض للمجيب وبنى عليه عامة اعتراضه، وهو هنا اعترف بفساده، إذ لو كان الموجب لليمين كونه حاضًّا ومانعًا لكان إذا قال: إِنْ فعلتُ فلله عليَّ أَنْ أطلقك؛ أي: فوالله لأطلقنك، إنما كان حالفًا لكونه مَنَعَ نفسه من الفعل لا لكونه حلف ليطلقنها إذا فعل. _________ (1) في الأصل بزيادة: (عليه)، وقد تقدمت العبارة في أول الفصل بدونها.

(2/907)


وأما ما رجحه من أَنَّ جهةَ اليمين هو التزام العتق فهو قد لحظ فيه بعض معاني اليمين، وهو أنه لا بُدَّ في اليمين مع الحض والمنع من أن يلتزم عند الحنث أمرًا من الأمور، وإلا فمجرد قصد الحض والمنع ليس كافيًا في كونه حالفًا، إذ لو كان حالفًا بذلك لكان كل مَنْ تَوَعَّدَ حالفًا؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ــ 8]، وقوله سبحانه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وقوله ــ عَزَّ وجل ــ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] ونحو ذلك، بل لا بُدَّ أن يلتزم عند الشرط ما يَكره لزومه. فاليمين تتضمن هذه الصفات [259/ ب] الثلاثة: الحضُّ والمنع في الطلب، والتصديق والتكذيب في الخبر، وتوكيد ذلك بالتزام أَمْرٍ من الأمور عند المخالفة، ولا بُدَّ أَنْ يكون ذلك اللازم مما يكره لزومه له وإن وجد الحنث، لتكون كراهته للزومه عند الحنث مانعًا من الحنث، وإلا فلو أراد وجوده على تقدير الحنث وَإِنْ كان مكروهًا بدون الحنث= امتنع ــ حينئذٍ ــ أَنْ يكون مانعًا من الحنث. فإنَّ ما يراد على تقدير الحنث ملائمٌ للحنث مناسبٌ له، بل هو موجب الحنث، ومقتضاه بمنزلة المعلول، والمعلولُ الموجب المقتضي لا يكون مضادًّا منافيًا مانعًا من عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ وموجبه الذي يقصد المعلول إذا وجد، ولكن إذا كان الجزاء مكروهًا بتقدير الحنث يكرهه مع وجود الحنث= صار لزومه للحنث مانعًا من الحنث يقتضي التعليقُ وجودَه إذا وجد الحنث، وهو مكروهٌ على هذا التقدير فتكون كراهةُ هذا اللازم موجبةٌ لكراهةِ الملزوم، والملزوم هو الحنث، فيبقى الحالف ممتنعًا بيمينه من الحنث، وأما إذا كان

(2/908)


مرادًا بتقدير الحنث امتنع أن يكون مانعًا من الحنث. ولهذا يكون الوعيد مانعًا للمتوعَّدِ من الفعل، لأنه يكره ما توعد به بتقدير الفعل فيمنعه ذلك، وأما الذي توعده بالعقوبة فلا يكون الوعيد مانعًا له من الفعل، فإنه لا يكره معاقبة المخالف له الذي توعده، وألا يمتنع من ذلك، إذ لو كان ممتنعًا كارهًا للوعد وَإِنْ وجدت المعصية= لم ينزجر العاصي، فإنه يقول: وإن عصيت فهو ممتنع من عقوبتي، وإنما يمتنع إذا عَلِمَ أنه لا يَكره عقوبَتَهُ. والمحلوفُ عليه بَرَّ قَسَمَ الحالف (1) كرامةً له، وكراهته أن يؤذيه بالحنث؛ إما لمحبته فيه وإما لرغبته في إبرار قسمه وإما لخوفه منه إذا حَنَّثَهُ، فجهة الحض والمنع مشتركة بين الحالف والمتواعِدِ، لكنَّ الحالف لا يحلف إلا بما يَكره وقوعه عند الحنث والمخالفة بخلاف المتواعِد. ومن جعله من الفقهاء حالفًا لأجل امتناعه من الفعل وحَضِّهِ عليه، فهو إنما جعل ذلك في الصورة التي يقصد فيها اليمين كالتعليق الذي يقصد به اليمين، لم يجعل ذلك في كل تعليق، وهو مع قصد اليمين لا بُدَّ أَنْ يكون [260/ أ] كارهًا لوجود الجزاء، ويجعلونه حانثًا بوجود الفعل، لأنه هو الفعل الذي منع نفسه منه، وهذا الحنث يخير فيه بين الكفارة وبين فعل ما التزمه. وأما الحنث الموجب للكفارة حتمًا فهو وجود الشرط مع عدم الجزاء؛ فهذه اليمين يُعَبَّر بالحنث فيها في مجرد وجود الفعل، وهو معنى قولنا: التزم عند الحنث ما يكره لزومه له؛ فالمراد بالحنث هنا هو: وجود الفعل الذي مَنَعَ نفسه منه، ويراد بالحنث أنه وجد الفعل اللازم ولم يوجد الجزاء اللازم _________ (1) في الأصل زيادة: (لا)، وبحذفها يستقيم الكلام.

(2/909)


له، وهذا هو الحنث الموجب للكفارة حتمًا، حتى إنه ما دام الجزاء ممكنًا لا يحكم بتحتم الكفارة عليه لإمكان أَنْ يأتي بالجزاء، فإذا مات ولم يَأْتِ به تحتمت الكفارة، فيعبر بالحنث عن هذا وعن هذا؛ فلهذا وقعت فيه الشبهة حتى ظَنَّ بعض الناس أَنَّ الحنث الأول هو الموجب للكفارة عينًا، وإنما موجبها الحنث الثاني. وهذا كما أَنَّ الحالف باسم الله إذا حَلَفَ بالله ليفعلنَّ كذا، فإنه إنما تتعين الكفارة إذا أراد الفعل مع انتفاء ما التزمه عند الحنث من هَتْكِ حُرْمَةِ إيمانه، وإلا فلو قُدِّرَ أنه لا يكره هَتْكَ حرمة (1) إيمانه، بل هو مُسْتَخِفٌّ بحرمة (2) الإيمان مرتدًّا عن الإسلام= امتنع مع هذا أَنْ يؤمر بكفارة يمين، فإنه التزم ما يلزمه عند الحنث ــ وَإِنْ كُنَّا لا نأمره به ــ كما إذا قال: والله إِنْ فعلتُ هذا الفعل لَأَكْفُرَنَّ بالله أو لأفعلنَّ كبيرةً من القتل والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك، فنحن نأمره إذا فعله أَنْ يكفِّر يمينه ولا يأتي تلك الكبيرة، لكن لو قُدِّرَ أنه فعل ما التزمه من الكفر والكبائر لم نأمره بالكفارة، لأنه لم يحنث في يمينه، بل فَعَلَ ما التزمه من الكفر والكبائر. وما ذكره من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (3) والنذر هو: الالتزام للإعتاق لا الامتناع كلامٌ صحيحٌ، وكلاهما فيه التزام النذر واليمين، لكن النذر فيه التزامٌ لله، واليمين فيها التزام بالله، وهما مشتركان في الالتزام بالله؛ إما للتقرب إليه وإما لتوكيد الحض والمنع به. _________ (1) كرر الناسخ كلمة (حرمة). (2) في الأصل: (لحرمةِ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (3) تقدم تخريجه في (ص 92).

(2/910)


فصلٌ قوله: (الثانية [260/ ب]: أَنَّا إذا جعلنا جهتي النذر واليمين واردتين على شيءٍ واحدٍ حَسُنَ النظرُ في تغليب أَيِّ الشائبتين أقوى أو تساويهما، وأَمَّا إذا جعلناه حالفًا على الفعل وناذرًا للإعتاق على ذلك التقدير فلا تزاحم بينهما) (1) كلامٌ صحيحٌ؛ ولهذا مَنْ جعله ناذرًا من الفقهاء ألزمه الوفاء بنذره لوجود شرطه، كما اتفقوا كلهم على لزوم النذر إذا علَّقه بشرطٍ يريدُ كونه، فلو كان في نذر اليمين ناذرًا للإعتاق كما هو ناذر له في نذر التبرر للزمه الإعتاق، بل من جعله حالفًا قال: إنه لم يقصد ما عَلَّقَهُ من التزام الإعتاق وغيره، بل هو كارهٌ للزومه إياه. ولكن؛ يقال له: وليس هو ــ أيضًا ــ حالفًا لكونه التزم الإعتاق على ذلك التقدير كما ظننتَه، إذ لو كان كذلك لكان الملتزم للإعتاق عند الشرط الذي يريده حالفًا، وليس كذلك، بل إنما كان حالفًا لكونه التزم ما يكره لزومه له. وقوله: (إذا جعلنا جهتي النذر واليمين واردتين على شيءٍ واحدٍ حَسُنَ النظر في التغليب أو التسوية) هو كلامُ مَنْ يَظُنُّ أنه يجتمع قصد النذر وقصد اليمين في تعليقٍ واحدٍ، وليس الأمر كذلك، بل هما يجتمعان في التعليق على طريق البدل والمعاقبة لا على طريق الاجتماع، فالحالف لا يلتزم إلا ما يكره أن يلزمه، والناذر يلتزم ما يريد لزومه، ولا تجتمع إرادةُ الفعل الموجبة له وكراهته المانعة منه في آنٍ واحدٍ، وحينئذٍ؛ فلا يحتاج إلى تغليب ولا تسوية، بل إذا قصد الجزاء عند الشرط كان ناذرًا ومطلِّقًا ومعتقًا ومظاهرًا وجاعلًا ومخالعًا وغير ذلك. _________ (1) «التحقيق» (48/ أ).

(2/911)


وإن كان يكره لزومه له وَإِنْ وُجِدَ الشرط فهو الحالف، لا يكون حينئذٍ لا ناذرًا ولا مطلقًا ولا معتقًا، ولكن يكون قد ألزم نفسه بالنذر والطلاق والعتاق على ذلك التقدير مع كراهته للزومه، ليكون لزومه مانعًا من ثبوت الملزوم، لا لإرادته للزومه إذا وجد الملزوم؛ فالمقصود بالتعليق والربط وجعل الجزاء لازمًا للشرط ألا يكون الملزوم لأنه لا يريد اللازم البتة، بل يكرهه ويمتنع منه أعظم من كراهته لوجود الملزوم، ويكرهه ــ أيضًا ــ وَإِنْ وجد الملزوم، فهو أقوى كراهةً وأدومُ كراهةً، والملزوم الذي هو الشرط كراهتُهُ أَخَفُّ وَأَقَلُّ [261/ أ] بقاء؛ ولهذا تزول هذه الكراهة في غالب الأوقات عن الحالف، فيريد ــ حينئذٍ ــ أَنْ يوجد الشرط ولا يكرهه، وهو مع ذلك كاره للجزاء ممتنع منه لا يريده. فإن اعتقد لزوم الجزاء؛ فقد يُرَجِّحُ إرادته للملزوم ويحتمل ضرر لزوم الجزاء المكروه، وهو الذي يفعل المحلوف عليه وَإِنْ طُلِّقَت امرأته وعتق عبيده ولزمه الحج والصدقة إذا كان ممن يرى لزوم هذه الأيمان، وقد يترجح عنده كراهته للازم فَيَلَجُّ في يمينه ويصر عليها ولا يختار الحنث خوفًا من تلك اللوازم التي لا يختار لزومها؛ فالأول يلتزم ما يضره من اللوازم لرغبته فيما يحبه من الحنث، والثاني يمتنع مما يحبه من الحنث خوفًا أن يلزمه ما يضره من اللوازم. فلا بُدَّ للحالف الذي يريد الحنث إذا لم تكن له كفارة (1) أَنْ يمتنع عما يريده خوفًا من لزوم ما يكرهه، إذا كان ما يريده لا يحصل إلا به، وأما على شرع خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - الذي فيه تكفير، فيمكنه مع الكفارة أَنْ يفعل ما يختاره من الحنث، ولا يلزمه ما يكرهه من المصائب التي التزمها. _________ (1) في الأصل زيادة: (إما)، وبحذفها يستقيم الكلام.

(2/912)


فصلٌ قوله: (والاعتلال بأنه لم يَقصد القربة يقتضي عدم صحة النذر لفوات شرطه، [ويترتَّبُ] (1) عليه أنه لا حث ولا منع لعدم اللزوم على هذا التقدير= فلم يبق إلا مجرد قصد الحث والمنع وأنه غير كافٍ في اليمين، كما لو قال: إِنْ فعلت كذا فأنا زانٍ أو عاصٍ لله تعالى) (2). فيقال: هذا كلامٌ صحيحٌ؛ وهو يناقض ما تقدم ذكره له غيرَ مرةٍ من أَنَّ الفرق بين تعليق الطلاق وتعليق الإعتاق والنذر: أنه لم يقصد القربة، بعد دعاوى ممتنعة بُيِّنَ فسادها؛ فثبت أَنَّ قصد اليمين غير مانع ــ يعني: من لزوم المعلق ــ، والمقتضي لوقوع الطلاق قائم باتفاق مِنَّا ومن الخصم ــ أعني: ابن تيمية ــ؛ فإنه يُسَلِّمُ تعليقَ الطلاق على الشرط، فيرتب عليه حكمه. قال: (فإنْ قلتَ: هذا منتقضٌ بنذرِ اللجاج والغضب، فإنه إذا قال: إِنْ كلمتُ فلانًا فعليَّ المشيُ مثلًا، لا يجب عليه المشي عندكم وعند جمهور العلماء، مع كون التعليق مقتضيًا له، وإخراجه على وجه اللجاج والحلف غيرُ مانعٍ على ما قررتم. قلت: الجواب [261/ ب] عنه من وجهين: أحدهما: أَنَّ هاهنا مانعًا آخر غير مجرد اليمين، وهو: كون النذر لا يلزم إلا على وجه التبرر، فلم يكن المانع مُطْلَقَ كونِهِ حالفًا، بل خصوصُ ذلك _________ (1) في الأصل: (وَتَرَتَّبَ)، والمثبت من «التحقيق». (2) إلى هنا موجود في «التحقيق» (48/ أ)، وفي هذا الفصل يظهر لي أنَّ ابن تيمية يَنقل كلامًا للمعترض ويجيب عنه، إلا أني لم أجد هذه النقول في «التحقيق»!

(2/913)


المعلق، وهو كونه نذرًا، وأنه لا يثبت إلا إذا قصد به الشخصُ الطاعةَ، فهذا التعليق على هذا الوجه الخاص مانع، ولا استحالة أن يكون الخاص مانعًا، والعام ليس بمانع. وإنما خصصنا هذا باسم النذر دون الأول، لأنَّ المشروط في هذا التزام أمرٍ فهو وما أشبهه من باب النذر، ومسألتنا المشروط فيها ليس التزامًا وإنما هو حكم، فلم يدخل تحت هذا النذر ولم يشرط فيها القربة). فيقال: قد تقدم الكلام على فساد هذا الفرق، وإنما المقصود هنا: أَنَّ المعترض وأمثاله معترفون بفساد ما يذكرونه من الفرق إذا رجعوا إلى فطرتهم السليمة، كما قال هنا رَادًّا على نفسه وموافقيه: (والاعتلال بأنه لم يقصد القربة يقتضي عدم صحة النذر لفوات شرطه)، وهذا كما قال: (وهم أوجبوا عليه كفارة يمين)، فلولا أَنَّ قصد اليمين هو المؤثر لما أوجبوا عليه كفارة يمين، ولو كان المؤثِّر في عدم لزوم النذر أنه لم يقصد القربة= لكان الواجب ألا يلزمه نذر ولا كفارة، وَتَرَتَّبَ على ذلك أنه (1) لم يؤكد الحض والمنع بأمرٍ يلزمه على ذلك التقدير، فلم يَبْقَ إلا مجرد قصد الحث والمنع من غير التزام أمر لازم على تقدير المخالفة. وهذا معنى قوله: (وترتب عليه أنه لا حث ولا منع) ــ أي: أنه لم يبق هناك حث ولا منع ــ يلزمه الوفاء به، لأنه لم يلزم على تقدير عدمه لازم لا نذر ولا يمين، لم يبق إلا مجرد قصد الحث والمنع، ومجردُ ذلك لا يوجب كونه حالفًا يلزمه كفارة يمين، وإذا لم يلزمه بتقدير المخالفة شيء وَمَثَّلَهُ بقوله: إِنْ فعلتُ كذا فأنا زانٍ وسارقٌ، فإنه إذا فعله لا يصير زانيًا ولا سارقًا _________ (1) في الأصل: زيادة (لو)، وكأنها مقحمة تفسد المعنى.

(2/914)


ولا قاذفًا لنفسه بذلك، وكذلك لو قال: إِنْ فعلتُ كذا فأنا ولد زنا، أو إِنْ لم أفعل كذا لم أكن ابن فلان ونحو ذلك مما يُعَلِّقُ بالشرط ما يكره لزومه له، لكنه لا يلزم به حكم في الشرع، ولأنه قد عرف أنه لم يقصد الإقرار بهذه الأفعال على هذا [262/ أ] التقدير، ولم يقصد الانتفاء من نَسَبِهِ مع أَنَّ الانتفاء لا (1) يصح ولو قصده، وهذا الإقرار لو كان حقًّا لم يكن فيه هَتْكُ حرمة. وهذا ــ أيضًا ــ حجةٌ عليه وعلى أمثاله؛ يبيِّن الفرقَ بين التعليق الذي يقصد به لزوم ما علقه، وبين التعليق الذي لم يقصد فيه لزوم ما علقه، فإنه لو قال: إذا جاء رأس الشهر فلفلانٍ عليَّ ألف درهم، أو قيل: هل أخذتَ مالَ فلان الذي كان في بيته؟ فقال: انظروا؛ إِنْ كان في بيتي شيء فقد أخذته، أو قال: إِنْ كنتُ أعطيت فلانًا ألف درهم فأنا ضامنها لك ونحو ذلك= كان تعليقًا يقصد به لزوم ما علقه. ولو قيل له: سافرْ معنا. فقال: إِنْ سافرتُ معكم كان لكم عليَّ ألف درهم لم يلزمه شيء، كما لو قال: إِنْ سافرتُ معكم أكون زانيًا أو سارقًا، فلو كان كل معلِّق قد قصد لزوم ما عَلَّقَهُ لكان ضامنًا في هذه الصورة، كما كان ضامنًا في الأخرى. ولو قال بعض أهل السفينة إذا ثقلت عليهم لمن كان له فيها شيءٌ ثقيل كالرصاص والحديد ونحوه: إِنْ ألقيتَ متاعك في البحر فعليَّ ضمانه، أو أَلْقِ متاعك في البحر وعليَّ ضمانه، أو عليَّ الثمن الذي اشتريت به وهو ألف كان ضمانًا معلقًا بشرط. ولو قال على وجه اليمين: إِنْ سافرتُ معكم كان لك عليَّ ألف درهم لم يكن هذا ضمانًا، وكذلك لو قال: إِنْ أَعتقتَ عبدَك عَنِّي فعليَّ قيمته، أو قال: _________ (1) في الأصل: (لم)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/915)


أعتقه عَنِّي وعليَّ ثمنه فأعتقه لزمه ثمنه، كان قد عَلَّقَ لزوم الثمن له على إعتاقه عنه ولزمه الثمن. ولو قال: إِنْ سافرتُ معكم فعليَّ ثمنُ عبيدك لم يلزمه ذلك ولا شيءَ عليه، لأنه لم يقصد لزوم ذلك وإنما قصد اليمين، ولكن لم يلتزم عند الحنث ما فيه هتك حرمة إيمانه، فإنَّ ضمان الثمن حقٌّ لآدمي لو جحده لم يكن ذلك هتكًا لحرمة إيمانه، كقوله: أنا زان أو أنا سارق، فإنه إقرار بالذنب لا يوجب هتك حرمة إيمانه، بخلاف قوله: إِنْ فعلتُ فأنا يهودي أو نصراني ونحو ذلك، فإنَّ التزام هذا يوجبُ هتكَ حرمةِ إيمانِهِ، ولهذا لو قَصَدَ لزومه له كان كافرًا، وهناك لو قَصَدَهُ لكان ضامنًا أو مُقِرًّا، لكن جميع ذلك فيه معنى اليمين إِنْ فعلتُ كذا، كما لو عَلَّقَ دعاءه على [262/ ب] نفسه بقوله: إن فعلت كذا فقطع الله يدي ونحو ذلك. وهذا للعلماء في لزوم الكفارة له إذا حنث قولان: فطاووس - رضي الله عنه - يوجب عليه الكفارة إذا حنث (1)، وهو لا يكون حانثًا في الحلف بالتعليقات إلا إذا وجد الشرط دون الجزاء، ولهذا لو حَلَفَ بالنذر فقال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج ومالي صدقة؛ متى التزم ما عَلَّقَهُ فحج وتصدق لم يكن عليه كفارة يمين. وكذلك لو قال: إِنْ فعلت فأنا يهودي أو نصراني إذا قُدِّرَ أنه التزم الكفر وَرَضِيَ بأنْ يكون يهوديًا ونصرانيًا صار كافرًا مرتدًّا، ولم يؤمر ــ حينئذٍ ــ بكفارة، فإنَّ الكفارة وجبت لئلا يهتك حرمة إيمانه بالله، فإذا قَصَدَ الهتك _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 641).

(2/916)


انهتك إيمانه فلم تنفعه الكفارة، بخلاف مَنْ جعله لازمًا له وهو يكره لزومه له، فإنَّ هذا هو الحالف. وأما المعلِّق للنذر؛ فإنه إذا التزم ما عَلَّقَهُ وَفَّى بموجب عقده مع بقاء إيمانه، وَإِنْ لم يَفِ به فقد التزم لله على تقدير الحنث ما لم يَفِ بِهِ، وفي تَرْكِ الوفاءِ به هَتْكٌ لحرمةِ إيمانه بالله، فلزمته الكفارة على هذا التقدير إذا لم يقصد الهتك، ولو قصد الهتك بِأَلا يرى للالتزام لله ولا بالله حرمة فهو ــ أيضًا ــ كافر لا تنفعه الكفارة، كمن لا يرى للحلف بالله حرمة لاستهزائه بالله وآياته ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. * * * *

(2/917)


فصلٌ قال: (الثالثة: إن صاحب التهذيب (1) وجماعة قالوا: إذا كان النذر هنا مباحًا أنه يلزمه كفارة يمين بتركه. قال الرافعي في المحرر (2): إنه لو نذر فعل مباح أو تركه لم يلزمه، لكن إِنْ خالفَ لَزِمَهُ كفارةُ يمين على المرجح في المذهب، وَصَرَّحَ صاحب التهذيب (3) أنه إِنْ قال [لامرأته]: إِنْ دخلتِ الدار فلله عليَّ أَنْ أطلقك، فهو كقوله: إِنْ دخلتِ الدارَ فوالله لأطلقنَّك، حتى إذا مات أحدهما قبل التطليق لزمه كفارة يمين، فلو كانت اليمين هي جهة الامتناع لكان المحلوف عليه الدخول لا التطليق) (4). فيقال: هذه المسألة هي مذهب أحمد المنصوص عنه، وهو المشهور في مذهبه، فإنَّ مذهبه المشهور عنه القول المأثور [263/ أ] عن الصحابة وأكثر السلف، كعمر وابن عمر وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب - رضي الله عنهم -: أَنَّ النذرَ يمينٌ (5)؛ فمن لم يفعل ما نذره فعليه كفارة يمين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (6) وسواء كان _________ (1) يريد: التهذيب في الفروع للبغوي (8/ 152). انظر: كشف الظنون (1/ 517). (2) 3/ 1609. (3) (8/ 147 وما بعدها). (4) «التحقيق» (48/ أ)، وما بين المعقوفتين منه. (5) بعض هذه الآثار تقدم في مواضع من الكتاب، وانظر بعضًا منها في: المصنف لعبد الرزاق الصنعاني (8/ 440 وما بعدها)، والمصنف لابن أبي شيبة (5/ 8). (6) تقدم تخريجه في (ص 92).

(2/918)


المنذور مباحًا أو معصية أو طاعة، لكن إِنْ [كان] (1) طاعة وجب الوفاء بها، وَإِنْ كان معصية حرم ولزمته الكفارة، وَإِنْ كان مباحًا فهو مخيَّر كما يخيَّر لو حلف عليه، وعليه الكفارة إذا تركه. وفي الواجب وجهان: أصحهما أَنَّ عليه كفارة يمين إذا تركه مع ما عليه في تركه لو لم ينذره، فإنَّ النذر زاده توكيدًا. وأما مذهب الشافعي - رضي الله عنه - المنصوص عنه؛ فإنه لا شيء عليه في نذر المعصية والمباح، وهو رواية عن أحمد - رضي الله عنه -. ولهذا كان قول الشافعي - رضي الله عنه - أنه إذا نَذَرَ ذَبْحَ نفسِهِ أو ولده فلا شيء عليه، والجمهور يوجبون عليه إما كفارة يمين وإما الهدي، كما ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (2)، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك وغيرهم - رضي الله عنهم -، وهو ثلاث روايات عن أحمد؛ أصحها: أنه إِنْ نَذَرَهُ كان عليه هدي، وَإِنْ حَلَفَ عليه أَجزأَه كفارة يمين، وعلى هذا تدل عامة نصوصه، والآثار المنقولة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - توافقُ هذا. وأبو حنيفةَ نَقَلَ عنه طائفة أَنَّ نذر المعصية فيه كفارة يمين، فالمباح بطريق الأولى، لكن الذي ذكره أصحابه أنه إِنْ كان مقصوده بالنذر اليمين، فعليه كفارة يمين، وهذا ــ والله أعلم ــ هو الذي قَصَدَهُ الخراسانيون من أصحاب الشافعي، وإلا فهو مخالفة صريحة لنصوص الشافعي. فإذا كان المنذور مباحًا وقصده بالنذر اليمين، مثل أَنْ يقول الرجل: لله عليَّ أَنْ أطلق امرأتي أو أسافر من هذه المدينة أو آكل من هذا الطعام ونحو _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) تقدم تخريجه في (ص 348).

(2/919)


ذلك، فإنَّ عامة هذا يَقْصِدُ به الناذر حَضَّ نفسه على الفعل، لا يقصد به التقرب إلى الله ــ تعالى ــ، فإنه يعلم أَنَّ هذا ليس بقربة، فيكون هذا بمنزلة قوله: والله لأطلقنَّ امرأتي أو لأسافرنَّ أو لآكلنَّ فيلزمه كفارة يمين بهذا الاعتبار، وهذا [263/ ب] كلامٌ صحيح، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما. فكذلك لو نَذَرَ المعصية يقصد بذلك اليمين، كما يقول: لله عليَّ أَنْ أقتل فلانًا، وَإِنْ أظفرني الله بفلان فلله عليَّ أَنْ أقتله ونحو ذلك، وهو لا يقصد التقرب بقتله، بل يَقصد حضَّ نفسه على القتل؛ كما قال [ ... ] (1): فليتَ رجالًا منكِ قد نذروا [دمي] (2) وقال [ ... ] (3): والنَّاذِرِينَ إذا لَقِيتُهُمَا [دَمِي] (4) فنذر هؤلاء كان معناه معنى اليمين، لم يقصدوا بذلك التقرب إلى الله ــ تعالى ــ، فهذا فيه كفارة يمين. وأما إذا قصد التقرب بالمباح أو المعصية إلى الله ــ تعالى ــ بأنْ يعتقد _________ (1) بياض مقدار كلمة، وفي «التحقيق» (54/ أ): جميل بن معمر. (2) كذا قرأتها، وفي ديوان جميل بثينة (ص 124): فليت رجالًا فيكِ قد نذروا دمي ... وهَمُّوا بقتلي يا بثينُ لَقُونِي (3) بياض مقدار كلمة، وفي «التحقيق» (54/ أ): عنترة العبسي. (4) كذا قرأتها، وفي ديوان عنترة (ص 222): الشَّاتِمِي عِرْضِي ولم أَشْتُمْهُمَا ... والناذرينَ إذا لم أَلْقَهُمَا دَمِي

(2/920)


ذلك قربة، مثل أَنْ يعتقد أَنَّ تطليق نساءه وترهُّبَهُ طاعة، أو يعتقد قتل نفسه قربة، أو يعتقد أَنَّ امتناعه من أكل الخبز وشرب الماء قربة وكلام الناس قربة، فيقول: لله عليَّ أَلا آكل خبزًا ولا أشرب ماء ولا أكلم في شهر رمضان أحدًا، أو لله عليَّ أَلا أستظل بظلٍّ ولا أغسل رأسي ونحو ذلك؛ فهذا في مذهب أحمد وأكثر السلف عليه كفارة يمين، وَإِنْ كان طائفةٌ من المصنفين في الخلاف كالقاضي وأصحابه يجعلون لزوم الكفارة في نذر المباح والمعصية من مفردات أحمد التي انفرد بها عن الفقهاء الثلاثة، فهو انفرد بعموم ذلك من غير تفصيل. ومذهب الشافعي المنصوص عنه أنه لا شيء عليه. وكذلك الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة بأنه لم يقصد حَضَّ نفسه عليه حتى يُجعل يمينًا، بل التزمه ليتقرب بذلك إلى الله، والله ــ تعالى ــ لم يأمره بهذا، وأولئك يقولون: بل التزامه لله إذا لم يُوف به أبلغ من التزامِهِ بالله، وهو إذا قصد اليمين فإنما تكلم بصيغة الالتزام لله، فصار بذلك حالفًا، وكونُهُ فعلًا لله زاده توكيدًا، فإنَّ هذا موجب الفعل إذا صادف محلًّا، وإنما لم يوجبه هنا لأنَّ الله ــ سبحانه ــ لا يوجب معصية ولا مباحًا. وأما المعنى الموجب للكفارة في النذر الذي يقصد به اليمين، فهو موجود في هذا النذر وزيادة، فلا معنى لإسقاط الكفارة عن هذا. فصلٌ وهذه المسائل حجة لمحل النزاع؛ فإنه إذا قال لامرأته: إِنْ دخلتِ الدارَ فلله عليَّ أَنْ أُطلقك [264/ أ] لزمته الكفارة في مذهب أحمد، وقد نَصَّ أحمد على ذلك وأبو حنيفة وغيرهما، وهو المرجَّحُ في مذهب الشافعي،

(2/921)


كما ذكره هؤلاء الخراسانيون، كما لو قال: إِنْ دخلتِ الدارَ فوالله لأطلقنَّك، وهنا التزم أن يطلقها عند الصفة، والطلاق لم يلزمه لكونه ليس بقربة يجب بالنذر، ولزمته الكفارة لأنه نَذَرَ الطلاقَ ولم يفعله، أو لأنه نذره على وجه اليمين ولم يفعله، فهو كما لو قال: إِنْ فعلت كذا فلله عليَّ أن أعتق عبدي فهذا نذرُ يمين عليه فيه كفارة يمين، وإذا قال: إِنْ سافرتُ معكم فامرأتي طالق وعبدي حر قصده ــ أيضًا ــ اليمين، لا يريد الطلاق والعتاق عند الصفة، كما أنه هناك لا يريد وجوب الطلاق عند الصفة، وإنما جعله واجبًا عند الشرط ليمتنع بذلك من فعل الشرط، ولذلك هنا إنما جعل العتق والطلاق واقعًا عند الشرط ليمتنع بذلك من فعل الشرط، لا ليقع عند الشرط، فالمعلَّق هنا وقوعه وهناك وجوبه، وهو لم يقصد الوجوب ولا الوقوع. فإنْ قيل: لو نذره بقصد اليمين لزمته الكفارة، ولم يجب إذا قال: لله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي؛ فلذلك لزمه عند التعليق، وإذا نَجَّزَ الطلاق وقع، فكذلك يلزمه إذا عَلَّقَهُ. قيل: لأنه إذا نذره بقصد الحض كان حالفًا. فقوله: عليَّ أَنْ أطلقك، كقوله: والله لأطلقنَّك، واليمين لا توجب فعل المحلوف عليه، بل له أَنْ يحنث ويكفر إذا نَجَّزَهُ قَصْدَ إيقاعه، فكذلك إذا عَلَّقَهُ بقصد إيقاعه عند الشرط وَقَعَ كما يقع منجزًا، فما (1) يقع منجزًا يقع معلقًا إذا قصد إيقاعه عند الصفة. وأما إذا قصد اليمين عند التعليق فهو لم يقصد وقوعه كما لم يقصد الوجوب إذا قال: إِنْ فعلت فعليَّ الحجُّ، ولم يقصد وجوبه إذا قال: إِنْ فعلتُ _________ (1) في الأصل: (بما)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/922)


فعليَّ أَنْ أطلقك، فهنا لم يقصد وجوب الطلاق، ولو قَصَدَهُ لم يلزمه، بل عليه كفارة، وفيما إذا قال: لله عليَّ أَنْ أطلقك قصد لزومه له، لكن لا يلزم بل تجزئه الكفارة، ففيما إذا علق وجوبه بمانعان (1) يمنعان من الوقوع، وإذا أوجبه بالنذر فالمانع واحد، وإذا عَلَّقَهُ بقصد اليمين فالمانع واحد، فقصد التبرر مانع وقصد النذر مانع [264/ ب] وإذا حَلَفَ بنذره صار مانعان، فإذا كان قصده اليمين فهو لم يقصد إيقاعه، كما لم يقصد في نذر اليمين وجوبَ ما عَلَّقَهُ، بل جعل ذلك لازمًا له للحض أو المنع على الفعل، كما جعل وجوب الطلاق لازمًا له، [وهو لم يقصد إيجابه عند الشرط، بخلاف ما إذا حلف ليفعلنَّه بصيغة النذر] (2) أو غيرها، كقوله: لله عليَّ أَنْ أطلقك، أو والله لأطلقنَّك؛ فهنا قَصْدُهُ حَضَّ نفسه على الطلاق وَجَعَلَهُ لازمًا له، واليمين تقتضي إما الحنث والتكفير، وإما فعل المحلوف عليه. وأَمَّا إذا عَلَّقَ وجوبه على فعل أو ترك، كما يعلق وجوب العبادات كقوله: إِنْ فعلت كذا فلله عليَّ أَنْ أطلق امرأتي أو فوالله لأطلقنَّك، وهذا كقوله: لله عليَّ أَنْ أحج، أو فوالله لأحجنَّ؛ فهنا (3) لم يقصد حَضَّ نفسه على الطلاق، ولا قَصَدَ أَنْ يطلِّق لله، فلا قصد الحلف عليه مطلقًا ولا نذره، وإنما جَعَلَ الحَلِفَ عليه أو نَذْرَهُ لازمًا له إذا حنث، كما جَعَلَ الحلف على العبادات أو نَذْرَهَا لازمًا له إذا حَنثَ في مثل قوله: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ ثلاثونَ حجة، _________ (1) كذا في الأصل، ولعلها: (مانعان). (2) ما بين معقوفتين تكرر في الأصل، ولعله بسبب انتقال بصر الناسخ. والله أعلم. (3) في الأصل: (هنا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/923)


أو فوالله لأحجنَّ ثلاثين حجة؛ فهذا تعليقٌ للنذر واليمين على وجه اليمين، وهو متضمن يمينًا في يمين. فقوله: إِنْ سافرتُ معكم فوالله لأحجنَّ ثلاثين حجة تضمَّنَ يمينَين، يمينًا أنه لا يسافر، ويمينًا أنه إِنْ سافر ليحجنَّ، وهكذا سائر التعليقات التي يقصد بها اليمين، وَإِنْ كان المعلَّق نذرًا أو تطليقًا أو ظهارًا أو تحريمًا إذا قال: إِنْ سافرت معكم فعليَّ الحج أو فعليَّ الطلاق أو فامرأتي عليَّ كظهر أمي ونحو ذلك= فهو يشبه قوله: فوالله لأحجنَّ أو لأطلقنَّ أو لأظاهرنَّ، لكن هناك المعلق نفس النذر والطلاق والعتاق، وهنا (1) المعلق الحلف على فعل ذلك، ومقصوده في الموضعين الحض أو المنع من الفعل، والنذر حَلْفَةٌ؛ فصار هذا التعليق متضمنًا يمينين، ولهذا صار فيهما حنثان حنثٌ بوجود الشرط؛ موجبه إما الكفارة وإما وجود الجزاء، وحنث ثانٍ بوجود الشرط وبعدم الجزاء، وهذا الحنث هو الموجب للكفارة عينًا كما أَنَّ قوله: إِنْ سافرت فوالله لأطلقنَّك في هذا الشهر أو عليَّ أَنْ أطلقك في هذا [265/ أ] الشهر؛ فيه حنثان: حنثٌ إذا سافر موجبه أن يطلقها أو يكفِّر، والحنث الثاني إذا سافر ولم يطلقها في ذلك الشهر؛ فموجب هذا الحنث الكفارة عينًا. فهكذا الكلام في سائر التعليقات التي يقصد بها اليمين، وَمَنْ فَهِمَ هذا تبين له حقيقة الأمر، وَمِنْ أينَ غَلِطَ من فهم بعض صفاتها دون بعض، والمعترض قد لحظ ما ذكرته، وقد أحسن في ذلك، وهو من أجود ما ذكره من المعاني في هذا الاعتراض، لكنه هابه ولم يحقِقْهُ، وهو ينقض سائر اعتراضاته على المجيب، ومن فهم ذلك عرف حقيقة المسألة. _________ (1) في الأصل: (وهناك)، والصواب ما أثبت.

(2/924)


فصلٌ ولهذا قال المعترض: (فلو كانت اليمين هي جهة الامتناع لكان المحلوف عليه الدخول لا التطليق، وبهذا يتضح التخيير؛ بمعنى (1) أَنَّا نقول للناذر: إِنْ أتيت بالمنذور فقد وَفَّيت بالتزامك، وإلا فالكفارة تَسُدُّ مَسَدَّهُ) (2). وقد صَدَقَ في قوله: (لو كانت اليمين هي جهة الامتناع كان المحلوف عليه هو الدخول)، وأخطأ في ظَنِّهِ أَنَّ المحلوف عليه التطليق وحده؛ بل الصواب أَنَّ كليهما (3) محلوفٌ عليه، وهذا يَنقض ما يقوله غيرَ مرة من أَنَّ اليمين هي يمين لكونه منع نفسه من الفعل، فهو تارة يجعل جهة اليمين المنع من الفعل، وتارة يجعل جهة اليمين التزام الفعل الثاني؛ وكلاهما خطأ، بل جهة اليمين تتضمن حضًّا على الفعل الأول ومنعًا منه، ويلتزم فيها ما يكره لزومه له؛ فهي يمينٌ لاجتماعِ الأمرين فيها. وقوله: إِنْ فعلت فوالله لأطلقنَّك في معنى يمينين في يمين، فالدخول محلوفٌ عليه ألا يكون، وقد حلف عليه بيمين أخرى تلزم إذا حنث، والطلاق محلوفٌ عليه أَنْ يكون إذا كان الدخول، وقد التزم إذا لم يطلقها ما يكرهه من الحنث، فهو حالفٌ يمينًا يحضُّ بها نفسه على الفعل بتقدير وجود فعل يمنع نفسه منه، فهو مانعٌ نفسه من الفعل الأول، ملتزم باليمين الثانية إذا فعله أَنْ يفعل الفعل الثاني، وسواء في ذلك أَنْ قال: إِنْ دخلتُ الدارَ فوالله لأطلقنَّك، أو فلله عليَّ أَنْ أطلقك، أو فَنَذْرٌ عليَّ أَنْ أطلقك ونحو ذلك؛ فمتى _________ (1) في الأصل: (يعني)، والمثبت من «التحقيق»، وسيأتي في كلام المجيب. (2) «التحقيق» (48/ أ). (3) في الأصل: (كلاهما).

(2/925)


فعل الأول كان حالفًا ليطلقها، فإنْ لم يطلقها مع وجود الفعل الأول لزمته كفارة في مذهب أحمد المنصوص المشهور عنه، وهو مذهب أبي حنيفة، وهو الذي [265/ ب] ذَكَرَهُ الخراسانيون مذهبًا للشافعي، ولم أجد عنه نَصًّا يخالفهم؛ فإنَّ نَصَّهُ على أَنَّ نذر المعصية والمباح لا كفارة فيه، إنما يتضمن إذا كان نذرًا محضًا بخلاف ما إذا قصد به اليمين، بل قد وجد عنه ما يوافقهم فإنه نَصَّ على ما إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ نذر أَنَّ عليه كفارة يمين، مع قوله فيمن قال: عليَّ نذر لا شيء عليه، وهنا إذا وجد الشرط قلنا له: أنت مخير بين أَنْ تحنث في اليمين الثانية وتكفِّر، وبين أَنْ تفعل ما حلفت عليه من الطلاق. كما نقول له في نذر اللجاج والغضب: أنت مخير إذا وجد الشرط بين أَنْ تحنث في اليمين الثانية بتكفير، وبين أَنْ تفعل ما التزمته من العبادات، لكن لَمَّا كانت هذه العبادات لم يقصد التزامها لله ولا يفعلها لقصد التقرب بها إلى الله ــ تعالى ــ، بل لاعتقاده أنها لازمة؛ لهذا أَمَرَهُ السلف والأئمة بالتكفير ولم يخيروه كما خَيَّرَهُ طائفةٌ من المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، وَظَنَّ طائفةٌ أخرى أن الكفارة لازمة وإِنْ فعل ما التزمه وهذا ضعيفٌ جدًّا. فصلٌ وأما قول المعترض: (وبهذا يتضح التخيير؛ بمعنى أَنَّا نقول للناذر: إِنْ أتيت بالمنذور فقد وَفَّيْتَ بالتزامك، وإلا فالكفارة تَسُدُّ مَسَدَّهُ) فهذا الكلام خطأ؛ وهو مبنيٌ على أصلين فاسدين: أحدهما: أنه ناذرٌ حقيقة، والثاني: أَنَّ الناذر الملتزم تسد الكفارة مَسَدَّ نَذْرِهِ إذا لم يُوفِ به، وأنه يخيَّر بين الوفاء وبين التكفير مع كونه ناذرًا حقيقة.

(2/926)


وهذا الأصل الثاني فاسدٌ مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع الأئمة وسائر علماء الأمة المعروفين (1)، فإنَّ الخلاف الذي حكاه بعض المتأخرين عن بعض أهل الحديث من أَنَّ كلَّ ناذرٍ يخير بين الوفاء والتكفير قولٌ باطلٌ، لا يُعرف به قائل معروف، وقد حكوه عن أحمد، وهو خطأ على أحمد، ونصوصُ أحمد وأصحابه المتواترة على وجوب الوفاء بالنذر، وأنه ليس لكل ناذر أَنْ يمتنع من الوفاء ويكفر كما له مثل ذلك في اليمين= أشهرُ وأكثر من أَنْ يمكن ذكرها هنا. ولكن أحمد يقول ما قاله جمهور السلف من أَنَّ كُلَّ مَنْ لم يُوفِ [266/أ] بنذره، لا بالمنذور ولا ببدله الشرعي فعليه كفارة يمين، لكن لا يجوز له أَنْ يترك الوفاء بالنذر ويُكفِّر كما يجوز للحالف على فعل مباح أَنْ يترك ما حَلَفَ عليه ويكفر، بل أحمد مذهبه مذهب سائر علماء المسلمين أَنَّ نذر الطاعة يجب الوفاء به كما دَلَّ عليه الكتاب والسنة. ولو قُدِّرَ أَنَّ قائلًا قال هذا القول؛ فهذا مخالفٌ للكتاب والسنة ولإجماع السلف، ولمذاهب سائر علماء المسلمين المعروفين الأربعة وغير الأربعة. ولو قُدِّرَ أنه مذهبٌ سائغٌ؛ فالكلام هنا مع من يُسَلِّم وجوبَ الوفاء بنذر التبرر مع أنه ملتزم فيه، كما هو ملتزمٌ في نَذْرِ اللجاج والغضب، فلو كان في كليهما (2) ناذر حقيقة وهو في كليهما قاصد (3) للزوم الجزاء عند الشرط= لكان الواجب التكفير فيهما، وليس الأمر كذلك؛ فإنَّ الكفارة لا تَسُدُّ مَسَدَّ _________ (1) في الأصل: (المعروفون)، والجادة ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (كلاهما). (3) في الأصل: (كلاهما قصد)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/927)


الالتزام الواجب بالنذر مع قدرته عليه. ولكن الفرق: أَنَّ هذا ليس بناذر حقيقة، بل هو ملتزم كما أَنَّ الناذر ملتزم، لكنَّ الناذر قَصَدَ أَنْ يلتزم الجزاء إذا وجد الشرط، وهذا لم يقصد أَنْ يلزمه الجزاء سواء وجد الشرط أو لم يوجد الشرط، ولكن التزمه ليمتنع بالتزامه مِنْ فعل الشرط، فإنه امتنع من فعل الشرط فجعل هذا الجزاء لازمًا له على تقديرٍ وهو كارهٌ للزوم الجزاء، فالتزم ما لا يُريدُ أَنْ يلزمه على ذلك التقدير، ليكون لزومه له على ذلك التقدير مانعًا له من ذلك التقدير لا لأنْ يَلزَمَهُ على التقدير، فهو ونذر التبرر يشتركان في الالتزام بمعنى أنه جعل الجزاء لازمًا له على تقدير الشرط في الموضعين، لكنْ هو في أحدهما يُريدُ الشرط ويريد لزوم ما جعله لازمًا إذا وجد الشرط، وفي الآخر يَكره الشرط ويكره لزوم ما جعله لازمًا له وَإِنْ وجد الشرط؛ فهو في نذر اليمين كارهٌ للشرط وللجزاء، وهو للجزاءِ أشد كراهةً وأدوم كراهة= فجعل هذا المكروه الأعلى لازمًا للمكروه الأدنى ليمنع ملزوم الأعلى من الأدنى، أو لِيَحُضَّ ملزوم الأعلى على الأدنى. وفي نذر التبرر هو مريدٌ للشرط إرادةً تامةً، وَعَلَّقَ به الجزاء إما شكرًا لنعمة الله ــ تعالى ــ عليه إذا وجد الشرط، وإما لاعتقاده [266/ ب] أَنَّ التزامه للجزاء سببٌ لوجود الشرط= فصار مريدًا للجزاء إذا وجد الشرط، ولا يريده بدون الشرط، وهو مريدٌ للشرط أقوى من إرادةِ الجزاء؛ فهنا كلاهما مراد، لكنَّ الجزاء مراد على تقدير الشرط تبعًا لوجوده، كما يريد البائع أداء الثمن إذا حصل له المبيع، وأما الشرط فمراد (1) أصلًا واستقلالًا. وأما في نذر _________ (1) في الأصل: (مراد)، والجادَّة ما أثبتُّ.

(2/928)


اليمين فكلاهما غير مراد بل مكروه له، وهو ممتنع منهما، ولكن هو للجزاء أشد وأدوم كراهة منه للشرط، ولكن علقه بالشرط وجعله لازمًا له ليكون لزوم الجزاء المكروه مانعًا وزاجرًا وناهيًا عن فعل الشرط، فهو كارهٌ للجزاء ممتنع منه كراهةً تامةً ثابتةً، وَعَلَّقَهُ بما هو مكروهٌ له كراهةً عارضةً خفيفةً. والمكروه يهرب منه الناس ويدفعه عن نفسه ويُقْصيه، فيكون كلما هرب من هذا المكروه الأعلى دفعه عنه وأقصاه صار هاربًا من ملزومه وهو الشرط، وصار الشرط مدفوعًا عنه بعيدًا منه، فَقَصْدُهُ إبعادُ هذا الشرط وإقصاؤه، لكونه (1) مستلزمًا لذلك الذي هو أشد بعدًا منه، وأقوى بُعدًا منه؛ فإنَّ موجب التعليق أنه إذا وجد الملزوم وهو الشرط المكروه وجد لازمه وهو الجزاء الذي كراهته أقوى وأدوم، وهذا بعيدٌ قصي، وإذا انتفى اللازم ــ وهو الجزاء ــ انتفى الملزوم ــ وهو الشرط ــ؛ فكلاهما مقصي عنده بعيد منه مكروه له منتفٍ في إرادته، لم يرد الأول ولا الثاني وإن وجد الأول. كمن غضب على بعض أصحابه وأراد إبعاده عنه، فَسَلَّمَهُ إلى عدوه الذي أشد كراهة له منه، فاستولى عليه ذلك العدو، ولم يَبْقَ تخليصُهُ ممكنًا إلا بمجيءِ عدوه إليه مثل أَنْ يكون قد ارتدَّ عندهم وصاروا يَنْصُرُونَهُ، فلو طُلِبَ قدومه لم يقدم إلا ومعه الكفار، وهو لا يختار قدوم الكفار المحاربين إلى بلاد الإسلام واستيلاءهم عليها أبدًا، لكن قد يكون قد رضي عن صاحبه وأحبَّ أَنْ يتخلص من أيدي الكفر فيهاجر إليه بدون الكفار، وقد تَعَذَّرَ ذلك للزومهم إياه وتعلقهم به، فلم يبق يمكن وجود هذا الملزوم المحبوب المراد بعد أن كان بغيضًا [267/ أ] مكروهًا إلا بهذا المكروه _________ (1) في الأصل: (فكونه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/929)


البغيض الذي لم يزل مكروهًا بغيضًا، وبغضُهُ وكراهتُهُ أقوى وأبقى. فهكذا الحالف عَرَضَ له بُغْضٌ لبعضِ الأمور فأراد مَنْعَ نفسِهِ أو غيرِهِ منه فجعلَ له لازمًا هو له أعظم بغضًا، وهو منه أعظم امتناعًا، ثم قد يزول بغضه لذلك الأول ويحبه ويريده، لكن إذا وجد وجد هذا البغيض الثاني الذي بغضه أقوى وأبقى، ووجود هذا لا سبيل إليه، فإنْ كانت اليمين لا كفارة فيها لم يبقَ له سبيل إلى ذلك الفعل الذي يريده إلا بوجود هذا البغيض، وَإِنْ كانت له كفارة حَلَّلَتْ هذا العقد فأمكنه أَنْ يفعل الأول فيكونُ بمنزلةِ مَنْ خَلَّصَ أسيره من عدوه بديةٍ يدفعها إليهم. وهكذا إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فنسائي طوالق وعبيدي أحرار، فهو مانعٌ لنفسه من الفعل، وجاعلٌ عتقَ (1) عبيدِهِ وطلاقَ نسائِهِ لازمًا له على تقدير الفعل، وهو تقديرٌ يريدُ انتفاءه، لكن إرادة انتفائه عارضةٌ له، فإذا صار بعد ذلك مريدًا للفعل لا لانتفائه= لم يمكنه ذلك إذا كان التعليق لازمًا لا تحلة له إلا بوجود اللازم الذي هو مكروهٌ له، سواءٌ أرادَ الفعل الأول أو لم يرده، فإنه على التقديرين لا يريد هذا الجزاء اللازم البتة، بل يكرهُهُ غايةَ الكراهة، ويمتنعُ منه غايةَ الامتناع، وإنما جعله لازمًا ليمتنع بامتناعه منه الشرط الملزوم المكروه، لا ليوجد إذا وجد الشرط المكروه، وهذا بخلاف ما إذا قَصَدَ الطلاق عند الشرط المكروه، فقال: إِنْ فعلتِ كذا فأنتِ طالق، وهو يريد طلاقها عند الشرط؛ فهذا قاصدٌ لطلاقها عند الشرط، لكن إيقاعًا لا حلفًا عليها. وإذا قال: إِنْ فعلتِ كذا فوالله لأطلقنَّك؛ فهو قاصدٌ لأنْ يحدث عليها _________ (1) في الأصل: (لعتق)، والصواب ما أثبتُّ.

(2/930)


طلاقًا، كما إذا قال: إِنْ فعلتِ لأطلقنَّك لكنه وَكَّدَهُ بالقَسَم. وفي قوله: إِنْ فعلتِ فأنتِ طالقٌ مع قصده= لم يجعل الجزاء التزام إنشاء الطلاق، بل جَعَلَ الجزاءَ نَفْسَ وقوعِ الطلاق، فكان الذي التزمه هنا: وقوعُ الطلاقِ بهذا الإيقاع [267/ ب] الذي عَلَّقَهُ بالشرط، وهناك التزم إذا وجد الشرط أَنْ يحدث إيقاعًا آخر غير هذا الإيقاع المعلق، فكان هذا من جنس نذر الطلاق والحلف ليطلقنَّ، وذلك من جنس إيقاعه إذا قَصَدَ إيقاعَهُ عند الشرط، وأما إذا كان كارهًا لوقوعه على التقديرين وإنما عَلَّقَهُ لمجرد المنع من الفعل لا لقصد إيقاعه عند الشرط= فهذا هو الحالف. وَمَنْ فَهِمَ هذه الأقسام وَتَصَوَّرَ الفروق بينها= تبين له حقيقة الفروق المؤثرة التي عَلَّقَ الشارعُ بها الأحكام، وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ سَوَّى بين مَنْ قَصَدَ اليمين وَمَنْ قَصَدَ الإيقاع= فقولُهُ من جنس القياس الفاسد، المتضمن للجمع بين ما فَرَّقَ الله بينه، والفرق بينَ ما جَمَعَ الله بينه؛ كقياس الذين {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] بل ظهور الفرق بين قاصد اليمين وقاصد الإيقاع أظهر لعقول الناس من الفرق بين البيع وبين كثيرٍ من صور الربا، لخفاءِ المفسدة التي حَرَّمَ الشارعُ لأجلها الربا في كثير من الصور، حتى اشتبه كثيرٌ من أبواب الربا عند كثيرٍ من السلف والخلف؛ فهذا لا يحرم شيئًا من ربا الفضل، وهذا لا يحرم إلا الأصناف الستة، وهذا يجعل المناط التماثل ــ وهو يعرف بالتقدير بالكيل أو الوزن ــ، وهذا يجعل المناط الطعم، وهذا يجعل المناط كليهما (1) ــ وهو أقرب من هذا ــ فيجعل المناط _________ (1) في الأصل: (كلاهما)، والوجه ما أثبتُّ.

(2/931)


الاقتيات وما يصلحه (1)، ثم النزاع في الفروع ــ فروع الأجناس ــ مما يطول وصفه هنا. والمعنى الذي لأجله جَمَعَ الشارعُ وَفَرَّقَ خفيَ هناك في كثيرٍ من الصور على أكابر العلماء، وأما الفَرْقُ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي يقصد به الإيقاع؛ فهو أَمْرٌ يعرفه عامةُ الناس وخاصتهم، لأنه أمرٌ يجدونه من نفوسهم، ويعرفونه من قلوبهم (2). * * * * _________ (1) مجموع الفتاوى (29/ 470). (2) انظر ما تقدَّم (ص 59 وما بعدها).

(2/932)


فصلٌ قال المعترض: (بقي هاهنا ارتباكة أخرى؛ وهي: أَنَّ كلام الأصحاب وغيرهم من القائلين بالتخيير بينه وبين ما رمزنا إليه بعض المباينة، فإنهم يجعلون الفعل الذي امتنع عليه (1) بمنزلة الحنث، وأنه موجب إما الكفارة [268/ أ] وإما الوفاء، وما رمزنا إليه يقتضي أَنَّ الفعل موجب للزوم الوفاء كما التزمه، وجعل له الشرع طريقًا إلى الخروج عن ذلك الالتزام بالتكفير، كما جعل له طريقًا إلى مخالفة اليمين بالتكفير؛ كيف وقد أشرنا إلى أَنَّ فعلَ الملتزم بمنزلة الوفاء باليمين وكأنه لم يحنث، وَتَرْكُهُ بمنزلة الحنث) (2). والجواب: أَنَّ هذا اعترافٌ من المعترض بأنَّ قولَهُ وقولَ الموافقين له قولٌ يوجبُ وقوعَ قائِلِهِ في ارتباكة بعد ارتباكة، وهذا قاله بعد البحث التام وما سَلَكَهُ من (التحقيق في التعليق) كما سَمَّى بذلك مُصَنَّفَهُ، وَدَقَّقَ فيه من المعاني، وَذَكَرَ فيه من الآثار وأَتَى فيه من النقل والبحث بما بَرَّزَ به على غيره، وهو مع هذا لمَّا تأمل حقيقة ما يقولونه تبيَّنَ له ما في ذلك من ارتباكة بعد ارتباكة، وهذا شأن كُلِّ قولٍ مخالفٍ للكتاب والسنة، مَنْ نَظَرَ فيه حَقَّ النظر= تبين له أنه قولٌ مختلف يرتبك صاحبه ارتباكًا يجمع فيه بين الحقائق المتباينة، وَيُفَرِّقُ فيه بين المتماثلة. وقوله: (وبقي هنا ارتباكةٌ أخرى؛ وهي: أَنَّ كلام الأصحاب وغيرهم من _________ (1) في الأصل: (عنه)، والمثبت من «التحقيق»، وسيأتي هكذا في كلام المجيب. (2) «التحقيق» (48/ أ).

(2/933)


القائلين بالتخيير بينه وبين ما رمزنا إليه بعض المباينة، فإنهم يجعلون الفعل الذي امتنع عليه بمنزله الحنث، وأنه يوجب إما الكفارة وإما الوفاء، وما رمزنا إليه يقتضي أَنَّ الفعل موجب للزوم الوفاء كما التزمه، وجعل له الشارع طريقًا إلى الخروج عن ذلك الالتزام بالتكفير، كما جعل له طريقًا إلى مخالفة اليمين بالتكفير؛ كيف وقد أشرنا إلى فعل الملتزم بمنزلة الوفاء باليمين وكأنه لم يحنث، وَتَرْكُهُ بمنزلة الحنث). فيقال له: لا ريب في الفَرْقِ بين ما ذكره الأصحاب وبين ما ذكرتَهُ، وليس ما ذكرتَهُ رمزًا (1) بل كلامًا بَيِّنًا معقولًا، وما ذكرتَهُ فيه بعض الحق وما ذكره الأصحاب فيه بعض الحق، وما ذكرتَهُ أَنْتَ لو وَفَّيْتَ بموجبه لكان أقرب إلى الحق؛ وذلك أَنَّا قد ذكرنا أَنَّ قوله: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أُعتق بمنزلة قوله: فوالله لأعتقنَّ، وَأَنَّ هذا يمين تضمنت يمينين، تضمنت امتناعَهُ من الفعل كما يمتنع غيره من الحالفين، وتضمن أنه إذا حنث بفعله [268/ب] ذلك الفعل فقد لزمته يمين أخرى، وهو حلفه ليعتقنَّ عبده. والإنسان إذا حلف ليفعلنَّ فعلًا عند وجود فعل آخر يكرهه كقوله: والله لئن عصيتِنِي لأطلقنَّكِ، أو إِنْ خرجتِ من داري أو خاصمت أمي فوالله لأطلقنك، أو فلله عليَّ أَنْ أطلقك، أو فنذرٌ عليَّ أَنْ أطلقك، أو قوله: إِنْ فعلتِ كذا فوالله لأضربنَّكِ، أو فوالله لأفارقنَّك ونحو ذلك مما يعقده من الأيمان على تقدير الفعل الذي يكرهه= قصده بهذه الأيمان مَنْعَ غيره (2) من ذلك الفعل الأول، ثم قد يكون مريدًا لأن يفعل ما حلف عليه إذا وجد الفعل _________ (1) في الأصل: (أمرًا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (نفسه)، وجميع الأمثلة التي ذكرها هي في الغير؛ فلعلها ما أثبتُّ.

(2/934)


الأول، وقد لا يكون مريدًا بل يكون كارهًا لذلك الفعل الثاني الذي حلف عليه، سواء وجد الفعل أو لم يوجد، لكن إذا كان يعتقد لزوم الجزاء كمن يعتقد أَنَّ نذرَ اليمين لازم، وكما قيل: إنهم كانوا يعتقدون في شرع من قبلنا وصدر الإسلام: أن اليمين تُوجب وتُحَرِّم؛ فهنا يعتقد أنه إذا فعل الأول لزمه الثاني، وَإِنْ كان كارهًا للزومه له، كما يلزمه وَإِنْ لم يكن كارهًا للزومه له. والإنسان قد يقول لامرأته: إِنْ فعلتِ كذا فوالله لأطلقنَّك أو لأضربنَّك، وهو يريد طلاقها وضربها إذا عصته، وقد يقول ذلك وهو لا يريد لا تطليقها ولا ضربها وإن فعلت ذلك، بل حلف ليفعلنَّه إِنْ فعلت، مريدًا نهيها عن الأول، معتقدًا أنها لا تخالفه، ولو عَلِمَ أنها تخالفه لم يحلف إذا خالفته أَنْ يفعل هذا، وقد يكون مريدًا إذا خالفته أَنْ يفعل هذا الثاني؛ وإذا عُرِفَ هذا الفرق فيما إذا كان المعلق يمينًا= فكذلك إذا كان المعلق نذرًا أو طلاقًا. [فهو إذا قال] (1) وتصير الأقسام المعلقة بصيغة النذر مع كونها نوعين: أحدهما: نذر التبرر؛ وهو ظاهر أَنْ يكون مقصودُهُ وجودَ الشرطِ، ووجودُ الجزاءِ عنده ضمنًا وتبعًا. والثاني: نذر اليمين؛ فهذا على وجهين: فإنه تارة يكون يمينًا، وتارة يكون نذرًا، لكن نذرًا قَصَدَ به منع نفسه من الأول، فيكون في معنى اليمين ــ أيضًا ــ لكونه لم يَقصد لزومه له على تقدير الأول، فإنه إذا قال: لله عليَّ أَنْ أحج؛ قد يقصد حَضَّ نفسه فقط لغرضٍ له في الحج؛ إما مباحٍ كتجارة أو [269/ أ] غير مباح، وقد يقصد التقرب إلى الله ــ تعالى ــ بالحج المنذور؛ _________ (1) كذا في الأصل.

(2/935)


فهذا الثاني ناذر والأول حالف. فإذا حلف بصيغة النذر فقال: إِنْ فعلتم بي كذا فلله عليَّ أَنْ أَحُجَّ وأفارقكم، أو فلله عليَّ أَنْ أَخْرُجَ من مالي وأصير فقيرًا، أو فلله عليَّ أَنْ أطلق بنتكم، أو فنذرٌ عليَّ أن أقتل فلانًا أو أطلق فلانة ونحو ذلك= فهنا إنما حَلَفَ يمينًا على تقدير الفعل، كما لو قال: إِنْ فعلتم فوالله لأفعلنَّ؛ وهنا سواء كان قصده وجود ما حلف عليه إذا وجد الشرط أو لم يكن مقصوده وجوده؛ على التقديرين هو حالف يكفر يمينه. وأبو حنيفة يُسَلِّمُ أنه في مثل هذا عليه كفارة يمين مع قوله: (إن في نذر اللجاج والغضب الوفاء)؛ فإنَّ هذا لو لم يكن معلَّقًا عنده أجزأت فيه الكفارة، فإذا كان معلقًا كان أولى. والثاني: أَنْ يُعَلِّقَ لله ما يلزم الوفاء به إذا نذره، لكن لم يقصد أَنْ يكون لازمًا له لا لله ولا لغير الله، كما لو حلف ليفعلنَّه وهو لا يريد أَنْ يفعله، فصار حالفًا بالله على ذلك؛ فهو فيما قبله لم يقصد عند وجود الفعل الأول إلا حَضَّ نفسه ومنعها من الفعل (1) الثاني، لم يقصد أَنْ يلتزم شيئًا لله. فلا فَرْقَ بين قوله: إِنْ فعلتم فلله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَهَا، وبين قوله: فوالله لأطلقنَّها؛ كلاهما لم يقصد أَنْ يلتزم شيئًا لله، وإنما يقصد أَنْ يَحُضَّ نفسه على الطلاق؛ وإذا كان هذا المعنى قَصْدُهُ فسواء قال: والله لأطلقنها، أو قال: لله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَهَا (2)؛ فلهذا يقول هنا بإجزاء الكفارة أو لزومها مَنْ لا يقول _________ (1) في الأصل زيادة: (على الفعل)، ولعلها زائدة. (2) في الأصل: (أطلقنها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/936)


به (1)، إذ كان قد التزم لله ما يلزم بالنذر على ذلك التقدير، مثل أَنْ يقول: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحجُّ أو فمالي صدقة، فإنه هنا ليس قصده أَنْ يحضَّ نفسَهُ على الحج والصدقة على ذلك التقدير، بل قَصْدُهُ أَنْ يجعله واجبًا لله على ذلك التقدير، ولكن لم يقصد إيجابه لله، بل هو كاره لإيجابه ووجوبه، وَعَلَّقَهُ بالفعل الأول ليمنع الأول لامتناعه من التزام هذا الإيجاب، فلما التزم عند الشرط ما يكره لزومه له كان يمينًا بهذا الاعتبار، فلم يكن هذا المعلَّق يمينًا إلا مع الشرط، ولو تجرد لم يكن يمينًا، بل لم يكن إلا نذرًا محضًا بخلاف النوع [269/ ب] الأول، فإنَّ المعلَّق فيه لو انفرد عن الأول لكان يمينًا، فإذا اقترن به صار يمينًا معلقة على الحنث في الفعل؛ ولهذا فَرَّقَ الشافعي - رضي الله عنه - بين قوله: لله عليَّ نذر، وبين قوله: إِنْ فعلتُ فلله عليَّ نذر (2). وهذه المعاني من تدبرها تبين له الفروق الغامضة على كثير من الناس في هذا الموضع الذي اشتبه على كثير من الناس؛ فالناذر الذي يلزمه الوفاء إنما يكون ناذرًا بثلاثة شروط: أَنْ يقصد الالتزام، وَأَنْ يلتزم لله ــ تعالى ــ وَإِنْ لم يقل بلسانه لله، وَأَنْ يكون ما التزمه طاعة لله ــ تعالى ــ؛ فإذا لم يلتزم طاعةً لله ــ سبحانه ــ لم يلزمه سواء كان منهيًا عنه أو مباحًا، وفي لزوم الكفارة نزاع وتفصيل، وإِنْ كان طاعة ولم يقصد أَنْ يلتزمه ليتقرب به إلى الله، بل لأجل حَضِّ نفسه أو غيره أو منع نفسه أو غيره منه فهذا حالف (3). _________ (1) كذا في الأصل! (2) الأم (3/ 655). (3) قاعدة العقود (1/ 106، 206).

(2/937)


فإذا قال: والله إن استوفيت مالي لأحجنَّ العام ليتجر بمكة أو ليحج، ولكن ليس مقصوده أَنْ يوجب عليه لله شيئًا، بل قصده حَضُّ نفسه على الفعل؛ فهذا حالفٌ ــ أيضًا ــ تجزئه كفارة يمين. وكذلك لو قصد هذا المعنى بقوله: إِنْ استوفيتُ مالي فلله عليَّ أَنْ أحج؛ ولم يلتزم هذا لله ــ سبحانه ــ شكرًا له على تخليصه منه وقصدًا للتقرب به إلى الله، بل قَصَدَ بذلك ما يقصده الحالف، وَإِنْ كان لم يقصد الالتزام البتة مع جعله لازمًا له ــ وهو نذر اللجاج والغضب ــ؛ فهذا أبعد عن أَنْ يكون قد التزم شيئًا لله، فإنه لم يقصد أَنْ يلزمه شيءٌ البتة، وإذا فَعَلَ ما نذره لم يفعله ليتقرب بفعله إلى الله ــ تعالى ــ، بل لكونه لزمه بغير قصد منه للزومه له. فصلٌ وقوله: (فهذه مدحضة يجب النظر فيها؛ والذي ظهر لي ما رَمزت إليه، ولكني قليل الهجوم على ما لم أسبق إليه) (1). فيقال له: لو استعملت ترك الهجوم على ما لم تسبق إليه في كثيرٍ مما ذكرته في هذا الاعتراض نقلًا وبحثًا= لم نحتج إلى بيانِ كثيرٍ من بيان غلطك نقلًا وبحثًا، [و] (2) لكان ذلك مغنيًا عن رَدِّ ما هجمتَ عليه من مخالفةِ العلماء قاطبة في تعليل آثار تلقوها بالقبول والتصديق لم يعللها أحد قبلك، وَمِنْ نَقْلِ أقوالٍ عن الصحابة والتابعين ــ رضوان الله عليهم ــ لم ينقلها عنهم _________ (1) «التحقيق» (48/ أ). (2) إضافة يقتضيها السياق.

(2/938)


أحدٌ [270/ أ] قبلك، ومن تأويل ألفاظ صريحة عنهم بتأويلات قرمطية لم يَسبقك إليها أحد قبلك. وَهَبْ أنك وافقت كثيرًا من أعيان العلماء في حكم مسألة، لكن أولئك لم يُذْكَر لهم من النقول والبحوث المخالفة لقولهم ما قيل لك، ثم تكلفوا من رَدِّ الحق وإبطاله ما تكلفته، ولكن مَثَلُكَ في ذلك مَثَلُ مَنْ ينصر طائفةً من أعيانِ العلماء المشهورين في مسألة خَفِيَ عليه فيها الأدلة الشرعية، كأحاديث صحيحة في المسألة لو بلغتهم لم يعدلوا عنها، فجاء المتعصبون لهم يتكلفون لهم من رَدِّ الحق بالباطل ما نَزَّهَ الله ــ تعالى ــ عنه أولئك الأئمة. كمن يتكلف نَصْرَ قولِ أهل الكوفة في حِلِّ النبيذ المتنازع فيه، أو نَصْرَ قولِ بعضهم في إبطال الصلاة في الاستسقاء، أو كمن ظَنَّ أَنَّ الكسوف [لا] (1) تُصَلَّى بركوعين في كل ركعة، أو أَنَّ المدينة ليس لها حَرَمٌ، أو أن الوتر لا يجوز بركعة مفصولة ونحو ذلك، أو مَنْ ينصرُ بعض قول أهل المدينة في أَنَّ المفصَّل ليس فيه سجود تلاوة، أو أَنَّ الطيرَ ليس فيها شيء محرَّم، أو أَنَّ الحاجَّ لا يُلَبِّي إذا أفاض من عرفة إلى مزدلفة ولا من مزدلفة إلى منى، أو ينصر قول من يقول: المُحْرِمُ إذا مات فُعِلَ به ما يُفعل بالحلال، أو أَنَّ الصلاة على القبور لا تجوز، أو أَنْ ينصر قول بعض العلماء في وجوب قَسْمِ كل ما فتحه الأئمة، وفي وجوب تخميس الفيء، وفي وجوب قسمةِ الخُمُس على خمسة أسهم متساوية أو ثلاثة، أو أَنَّ التيمم لا يكون إلا بضربتين إلى المرفقين، أو أَنَّ القنوتَ في الفجر منسوخٌ أو أنه سنة راتبة، أو ينصر قول من يوجب الصوم في الشك في الغيم أو الصحو ونحو ذلك من _________ (1) زيادة لا يستقيم نسبة هذا القول إلى الحنفية إلا بها. انظر: المبسوط (2/ 75).

(2/939)


الأقوال التي دلت الأدلة الشرعية فيها على قولٍ قال بعض العلماء خلافه، ولو ثبت عنده ما دلت (1) عليه النصوص الشرعية لم يعدل عنه، لكن كان معذورًا في عدوله عنه. ثم مَنْ يتعصب لقوله إذا نَصَرَهُ وقد ظهرت الأدلة الشرعية بخلافه= احتاجَ أَنْ يتكلف له من رَدِّ الحق الظاهر والاحتجاج بالباطل ما يظهر معه أنه خارج بذلك عن طريقة أهل العلم المتقدمين والسلف [270/ ب] الماضين، وعما أوجبه الله ــ سبحانه وتعالى ــ على المسلمين حيث يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. فصلٌ وقوله: (ونَشَأَ مما قلته: أَنَّ النذر هاهنا يكون بمثابة اليمين المعلقة على [ذلك] الفعل) (2) كلامٌ من أجود ما قاله المعترض في هذا الباب، ولكن لا بُدَّ له من تمام، وهو شيئان: أحدهما: أَنَّ هذا المعلِّق قَصَدَ الحض أو المنع من الفعل الأول بالتزام هذا النذر الذي جعله كاليمين، فصار كلامه متضمنًا يمينين في يمين، كما في مثل قول القائل: إِنْ صمتُ فوالله لأحجنَّ هذا العام. الثاني: أَنَّ تعليق الالتزام هنا في قوله: إِنْ فعلتُ فعليَّ الحجُّ؛ لم يَقصد به أن يلزمه نذر لله، ولا قَصَدَ به حَضَّ نفسه ومنعها على هذا الحج، كما لو _________ (1) في الأصل: (دلَّ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) «التحقيق» (48/ أ)، وما بين المعقوفتين منه.

(2/940)


قال: والله لأحجنَّ، وإنما جعل الحج لازمًا له على ذلك التقدير مع كراهته للزومه له ليمتنع بلزومه عن الشرط، فصار حالفًا بالمجموع المركَّب لا بأحدهما، بخلاف قول القائل: إِنْ فعلتُ فوالله لأحجنَّ؛ فإنَّ هذه اليمين لو تجردت عن الشرط لكانت يمينًا في يمين، سواء قصد أن يحج إذا وجد الشرط، أو قصد ألا يحج ولكن حلف مع كراهته أن يحج، وأما هناك فلا يكون حالفًا إلا إذا كان الجزاء المعلَّق مكروهًا له عند وجود الشرط؛ إذ لم يعلق هناك ما يكون بمجرده يمينًا وإنما صار بالتعليق يمينًا، للتزامه (1) لله ما يكره لزومه له؛ فهو عند التعليق كارهٌ للزومه له، بخلاف من لا يكون عند عقد اليمين كارهًا لفعل المحلوف عليه. فصلٌ وأما قوله: (وينشأ عليه: أَنَّ التكفير قبل فوات الفعل بمنزلة التكفير قبل الحنث، ولكن لعله يترجح هنا ليعلم أنه قد خَلَصَ مما وجب عليه بالنذر، وَأَنَّ التكفير قبل دخول الدار ــ مَثَلًا ــ بمنزلةِ التكفير قبل انعقاد اليمين؛ فلا يصح، ولم أر في شيء من ذلك نقلًا؛ فهذا ما ظهر لي في ذلك، وهو خلافُ ما يَسبق إلى الفهم من كلامِ كثيرٍ من الأصحاب أَبْدَيْتُهُ لِيُنْظَرَ فيه) (2). فيقال: بل النقل في ذلك [271/ أ] موجود بخلاف ما قلته، ولستَ في ذلك مخالفًا لأصحاب الشافعي وحدهم، بل ولأصحاب أحمد وغيرهم من الصحابة والتابعين، وجمهور السلف والخلف الذين يقولون بإجزاء _________ (1) في الأصل: (لالتزامه)، والصواب ما أثبتُّ. (2) «التحقيق» (48/ أ).

(2/941)


الكفارة، فإنهم أمروا بالتكفير بعد عَقْدِ هذه اليمين وقبل وجود الفعل الأول؛ كما تقدم قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لمن قال لأخيه: إِنْ عُدْتَ تذكر القسمةَ لم أكلمك أبدًا، وكل مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: كَفِّرْ عن يمينك، وَكَلِّم أخاك (1). قال هذا له قبل أن يذكر ذاك القسمة، وقبل أَنْ يكلمه هذا. وكذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما - لما سُئِلَ عن امرأة أهدت ثوبها إِنْ لبسته. فقال: لتكفر عن يمينها، ولتلبس ثوبها (2). وكذلك ابن عمر وحفصة وزينب ومن ذُكِرَ معهم - رضي الله عنهم - قالوا لمن قالت: إِنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك فمالي هدي وما معه. قالوا: كَفِّري يمينك، وَخَلِّي بين الرجل وامرأته (3)، مع أنه لم يفت الفعلَ الأولَ وقتُ التفريق. وأما إجزاء الكفارة إذا وجد الفعل الأول، فلم يختلف فيه أَحَدٌ ممن قال بالكفارة في هذا النوع، سواء كان مذهبه جواز الكفارة قبل الحنث أو لم يكن، وسواء فَرَّقَ بين التكفير بالعبادات البدنية والمالية أو لم يُفَرِّق، بل جميع ما نقل عن الصحابة والتابعين في هذا الباب يتضمن إجزاء الكفارة إذا وجد الفعل الأول، وما علمت في ذلك نزاعًا بين العلماء. ولو كان الذي ذكره هذا أو قاله قائل لكان ضَعْفُهُ من جنس ضعف _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 225). (2) تقدم تخريجه في (ص 263 - 264). (3) تقدم تخريجه في (ص 201 - 209).

(2/942)


أمثاله، فإنَّ الأكثرين يُسَوِّغُونَ التكفير قبل الحنث مطلقًا، وهو مذهب مالكٍ وأحمدَ، والشافعيُّ يجوِّزُ التكفير بالمال كالعتق والصدقة دون الصيام؛ ومع هذا فهو يقول وأصحابه إنه إذا وجد الفعل الأول جاز التكفير بالصيام كما يجوز بالمال، ولم يقل أَحَدٌ منهم إنه إذا كَفَّرَ بالصيام لم يجز إلا إذا فات الفعل الثاني، فلو لم يكن حانثًا عندهم إلا بفوات الفعل الثاني لم يجز بالصيام عندهم إلا بفوات الفعل الثاني، وكذلك أبو حنيفة لا يجوز عنده التكفير قبل الحنث، وهو في إحدى الروايتين عنه التي اختارها محمد يقول بإجزاء [271/ ب] الكفارة في هذا كما قاله جمهور العلماء، ولم يقولوا إنه يجب تأخير الكفارة إلى أَنْ يفوت ما التزمه من حج وغيره، ولو قالوا هذا لم يجز التكفير حتى يتعذر عليه ما التزمه من حج وصدقة وغير ذلك. فتبيَّن أَنَّ ما ذكره هذا من أَنَّ التكفير قبل فوات الفعل الثاني تكفير (1) قبل الحنث، وأَنَّ التكفير قبل وجود الشرط تكفير قبل انعقاد اليمين= قولٌ لم يقله أحد قبله، بل هو خلاف الإجماع إِنْ كان في مثل هذا إجماع، ولكن هذا القول يقابل قول من يقول: تجب الكفارة عينًا ولو فعل ما التزمه. وشبهة القولين: أنهم ظنوا أَنَّ هذه يمين واحدة ليس فيها إلا حنثٌ واحد، ثم ظَنَّ ذلك أَنَّ الحنث فيها وجود الشرط فتتعين الكفارة، وَظَنَّ هذا أنه لا حنث فيها إلا بفوات الجزاء وأنه لا يمين فيها إلا إذا وجد الشرط؛ وكلاهما غلط، لكنْ غلطه هو لم يسبقه إليه أحد فيما علمته. ثم قوله هذا يناقض قوله في هذه غير مرة: إنَّ اليمين فيها لكونه منع نفسه من الفعل، وقد التزم بذلك للمجيب غير مرة، والمجيب يقول: إنما _________ (1) في الأصل: (يكفر)، والصواب ما أثبت.

(2/943)


يكون حالفًا إذا كان الجزاء مما يكره وقوعه عند الشرط. وفي الجملة؛ فهذا الموضع الذي غَلِطَ فيه هذا غَلِطَ فيه قبله خَلْقٌ كثير ظنوا ذلك يمينًا واحدة كسائر الأيمان، لكن غلطه بمنعه التكفير قبل وجود الشرط مما لم أعرف أحدًا سبقه إليه. فصلٌ قال: (ولو صَحَّ لي هذا المعنى كنتُ [أقول بالكفارة عينًا] (1)؛ على معنى أنها تجعل يمينًا محضًا، فإنَّ مقتضاها الالتزام الذي تخلصه الكفارة من غير إيجابٍ لما التزمه ولا تحريمٍ لما امتنع منه) (2). فيقال: لا نزاعَ بين القائلين بالتكفير في أَنَّ الكفارة تجب عينًا إذا وجد الشرط وَتَعَذَّرَ وجودُ الجزاء، فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أحج هذا العام أو أعتق هذا العبد، فلم يحج ومات العبد أنه تتعين الكفارة في مثل هذا. وقوله: إِنْ فعلت الحج (3)؛ هو التزامٌ تُخَلِّصُهُ الكفارةُ من غير إيجابٍ لما التزمه ولا تحريمٍ لما امتنع منه؛ فهذا يقول به جميع مَنْ قال بالكفارة في هذه اليمين، مع قولهم ــ أيضًا ــ بأنه: يجزئه التكفير إذا وجد الفعل الأول دون [272/ أ] الثاني خلاف الأصل الذي بنى عليه، فإنه ظَنَّ أَنَّ هذا إنما يلزم على هذا الأصل الفاسد؛ وليس الأمر كذلك، وإنما نزاعهم إذا وجد الجزاء هل عليه مع ذلك كفارة؟ فالذي عليه الجماهير أنه لا كفارة عليه في ذلك، _________ (1) في «التحقيق»: (أترك القول بالكفارة). (2) «التحقيق» (48/ أ). (3) كذا في الأصل، ولعلها اختصار من قوله: (إن فعلت كذا فعليَّ الحج).

(2/944)


وذكره أحمد إجماعًا، وخالف فيه بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي، وحُكِيَ قولًا له ورواية عن أحمد. فصل قال: (ولهذا ذهب بعض الأصحاب إلى أَنَّا وَإِنْ قلنا الواجب الكفارة، فله فعل ما التزم؛ [وهذا الوجه ضعيفٌ في المذهب]، وَنَسَبَهُ الإمام إلى الزلل، وأوجب له ذلك: الالتزام بأصله (1) الذي هو وجوب الكفارة عينًا بتفسيرهم) (2). فيقال: لعل هذا القائل لم يُفهم ــ والله أعلم ــ مراده؛ فإنه لا يقول عاقل إنه تجب الكفارة عينًا، وإنه مع ذلك له فعل ما التزم بلا كفارة؛ بل هذا جمعٌ بين النقيضين. بل قائل هذا قد يكون مراده أَنَّ له مع التكفير أَنْ يفعل هذه العبادات الملتزمة، ولا ريب أَنَّ هذا جائز بلا نزاع، أو أنه أَطْلَقَ القولَ بوجوب الكفارة عينًا وأَرادَ به وجوبها إذا لم يفعل ما التزمه؛ وهذا متفقٌ عليه عند القائلين بالتكفير؛ لم يُرِدْ أنها تجب عينًا عند الفعل الأول، وأنه مع ذلك له أَنْ يفعل؛ فلا تجب الكفارة. فإنْ لم يكن في كلامه تصريحٌ بما يوجب غلطه؛ فالمغلِّطُ له ــ والله أعلم ــ هو الغالط، وإنما أراد وجوبها إذا وُجِدَ الشرط ولم يوجد الجزاء وهو الحنث الثاني، ولهذا قال: (وله مع ذلك فعل ما التزم)، وهذا كلام صحيح. _________ (1) في الأصل: (بأصليه)، والمثبت من «التحقيق». (2) «التحقيق» (48/ أ)، وما بين معقوفين منه.

(2/945)


فصلٌ قال: (ولا شَكَّ أنه متى ثبت ذلك كان التفريع عليه زللًا (1)) (2) وهذا كما قال، فإنه مَنْ قال: إِنَّ الكفارةَ تجب عينًا إذا وجد الشرط، وقال مع ذلك: [له] (3) فعل ما التزم ولا كفارة عليه= كان كلامًا متناقضًا، لكن ما أحسب أحدًا قال هذا. فصلٌ قال: (ولكنَّ الشأن في ثبوته؛ [وكنت أترك القول] (4) بالتخيير على أنه ثبت الملتزم (5) في ذمته، فإنْ فعله وقع بصفة الوجوب، وإلا سقط بالكفارة) (6). فيقال: هذا ــ أيضًا ــ قولٌ باطلٌ، وهو أَنْ يقال: وجبَ المنذور في ذمته، وله إسقاطه بالكفارة، فإنَّ ما وجب في الذمة لم يسقط إلا بفعله، ولكن يقال: هو واجب وجوب [272/ ب] تخيير؛ فالواجب أَحَدُ أمرين: إما التكفير وإما فعل ما التزم، ولا يقال: إِنَّ فِعْلَ ما التزم هو الواجب عينًا وله إسقاطه بالتكفير، فإنَّ هذا قول متناقض؛ كيف يسقط ما وجب في الذمة بدون براءة الذمة منه مع القدرة على فعله وإبراء الذمة منه؟! _________ (1) في الأصل: (دليلًا)، والمثبت من «التحقيق». (2) «التحقيق» (48/ أ). (3) إضافة يقتضيها السياق. (4) زيادة من «التحقيق». (5) في الأصل: (الملزوم). (6) «التحقيق» (48/ أ).

(2/946)


فصلٌ قال: (والألفاظُ الواردةُ عن السلف في الكفارة كثيرٌ منها يمكن تأويله بأنها تجزئ لا أنها متحتمة (1)) (2). فيقال له: لا ريب أَنَّ السلف لم يقصدوا أَنَّ الكفارة تَلزم مع فعل ما التزم، وقد ذكر أحمد - رحمه الله - إجماعهم على أنه إذا فعل ما التزم لم يَبْقَ عليه شيء، ولكن أمروا بها لأنَّ ما التزمه لم يَقصد أَنْ يلزمه، فلم يلتزمه لله، فلم يكن له في فعله حسبة لله. وأيضًا؛ فقد علموا مِنْ قصد السائل أنه لا يختار أَنْ يفعل ما التزمه إلا أن يكون واجبًا عليه، فأما إذا لم يكن واجبًا عليه، فليس له غرض (3) في فعله على وجه التقرب به إلى الله ــ تعالى ــ، بل إنما يقصد فعله مع ثقله عليه براءة ذمته، فإذا كانت ذمته تبرأ بالكفارة فهو أحب إليه؛ فإنَّ الملتزمات تكون في العادة أكثر من الكفارة؛ وهذا مما ألزمه أبو يوسف - رحمه الله - لمن قال بالكفارة. فقال: كيف يكون الرجل مخيرًا بين أداء الكفارة وبين ما هو أكثر منها؟! وأجابوه بأنَّ جهة وجوب هذا غير جهة وجوب هذا؛ وحقيقةُ الأمر: أنه لا يجب عليه ما التزمه، لكن تجزئه الكفارة، فإنْ فعل ما التزمه فلا كفارة عليه؛ كما لو قال: والله لأعتقنَّ مائةَ عبد اليوم؛ فإنَّ له أَنْ يحنث ويعتق عبدًا واحدًا، ولا يجب عليه عتقٌ أكثر منه، وَإِنْ كان هذا قد تضمن التخيير بين أَنْ يحنث ويعتق عبدًا وبين أَنْ يَبَرَّ فيعتق مائة عبد= فهكذا إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا _________ (1) في الأصل: (محتمة)، والمثبت من «التحقيق». (2) «التحقيق» (48/ أ). (3) في الأصل: (عوض)، ولعل الصواب ما أثبت.

(2/947)


فلله عليَّ عِتْقُ مائةِ عَبْدٍ، فله أَنْ يحنث وَيُكَفِّر فيعتق عبدًا واحدًا، وَإِنْ أعتق مائةَ عبد لم يحنث فلا كفارة عليه. وسبب هذا: أَنَّ التخيير ليس من الشارع ابتداء، ولكن هو حَلَفَ يمينًا، والشارع لا يجعل اليمين توجبه ولا تحرمه، فللإنسان أَنْ [273/ أ] يفعل ما التزمه بيمينه وله أَنْ يُكَفِّر يمينه؛ فجاء التخيير من كونه مخيرًا في عقد اليمين بين أَنْ يحنث ويكفر وبين ألا يحنث، وإن كان ما يلزمه بالحنث أعظم مما يلزمه إذا حنث وكفر، وهذا موجودٌ [في] (1) كثيرٍ من الأيمان، وهذا من الحنيفية السمحة التي بعث الله بها محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل اليمين موجبة ولا محرمة بل إما أن تكفر [ ... ] (2). فصلٌ قال: (ومتى قلنا: إِنَّ قَصْدَ الحثِّ أو المنع مانعٌ من ثبوت الملتزم، وأنه ناقلٌ للكلام عن معنى نَذْرِ الإعتاق مثلًا إلى معنى الحلف على ذلك الفعل لا غير= يقال ذلك ــ أيضًا ــ في: إِنْ فَعَلْتُ فامرأتي طالق؛ إِنَّ قصد المنع ناقل له إلى (3) معنى الحلف على الفعل خاصة فتجب الكفارة؛ فَمَنْ سَلَّمَ ذلك يلزمه (4) أَنْ ينفصل عن هذا) (5). _________ (1) إضافة يقتضيها السياق. (2) بياض مقدار كلمتين أو ثلاث، ولعلها: (أو يَفعل ما التزمه). (3) في الأصل: (أَنَّ)، والمثبت من «التحقيق». (4) في «التحقيق» زيادة: (طريق الانفصال بأنَّ الطلاق حكمٌ وليس التزامًا، وهي بخلاف نذر اللجاج، وما ليس إلزامًا لا يكون كاليمين، فإنَّ اليمين إنما تكون في الإلزام أنْ ينفصل عن هذا). (5) «التحقيق» (48/ أ).

(2/948)


فيقال: هذا اعترافٌ منه بأنَّ لزومَ الكفارةِ في الحلف بالطلاق تلزم عامةَ العلماءِ الذين جعلوه إذا فعل حانثًا تلزمه الكفارة، وقد اعترف بأنَّ كلام عامة الأصحاب وغيرهم من القائلين بالتخيير تباين ما ذَكَرَهُ، فإنهم يجعلون الفعل الذي امتنع منه بمنزلة الحنث، وأنه يوجب إما الكفارة وإما الوفاء، وقد اعترف هنا أَنَّ من قال ذلك يلزمه أَنْ يقول مثل ذلك في قوله: إِنْ فعلتُ كذا فامرأتي طالق، وَأَنَّ هؤلاء جعلوا قصد الحث والمنع مانعًا (1) من ثبوت الملتزم، وأنه ناقلٌ للكلام عن معنى نذر الإعتاق ــ مثلًا ــ إلى معنى الحلف على ذلك الفعل لا غير. وهذا اعتراف منه بصحة نظر المجيب، واستقامة ما ذكره، وأنه موجب القياس على هذا الأصل الذي يسلمه الأصحاب وجمهور العلماء؛ وهذا هو المقصود، وقد بَيَّنَ المجيبُ ذلك في مواضع (2) غير هذا، وذكر كلام أئمة أصحاب الشافعي وأحمد ــ رحمهم الله ــ في هذه المسألة نقلًا وبحثًا، وأن ما ذكروه يقتضي إجزاء الكفارة في الحلف بالطلاق والعتاق بلا ريب، وأنه ليس بينهما فرقٌ مؤثر، وتكلم على ما ذكروه من الفرق وَبَيَّنَ ضعفه، كما اعترف هذا المعترض بلزوم ذلك لهم هنا [273/ ب]. وأما قوله: (إنه ناقلٌ للكلام عن معنى نذر الإعتاق إلى معنى الحلف على ذلك الفعل لا غير). فيقال له: لا تحتاج أَنْ تقول: لا غير؛ بل الكلام تضمن معنى يمينين: تضمن الحلف على ذلك الفعل، وتضمن ــ أيضًا ــ أنه إنما تتعين الكفارة عليه إذا وجد الأول دون الثاني، وأنه إذا وجد ما التزمه فلا كفارة عليه. _________ (1) في الأصل: (مانع)، والوجه ما أثبتُّ. (2) في الأصل: (المواضع)، والصواب ما أثبت.

(2/949)


ففي هذه التعليقات هذان المعنيان فلا بُدَّ من رعايتهما، وإنما يغلط هو بِرَعْي أحدهما دون الآخر كما يصيب المعترض؛ تارة يَرعى الأول فقط وتارة يَرعى الثاني فقط، وكلا النظرين نَظَرٌ ناقص. وكذلك مَنْ أوجب الكفارة عينًا لم يراع [إلا] (1) الحنث الأول فقط، ومن ألزمه بما التزمه لم يَرْعَ في ذلك معنى اليمين، بل جعله ناذرًا محضًا، وهو ــ أيضًا ــ غلط، ومن لم يُلْزِمْهُ كفارة أصلًا جعل يمينه من جنس الحلف بالمخلوقات، وهو ــ أيضًا ــ غالطٌ. ولكن كل قول من هذه الأقوال قاله طائفة من علماء المسلمين - رضي الله عنهم -، وكل مَنِ اجتهد واتقى الله ــ تعالى ــ ما استطاع= فهو مثاب مأجور، وَإِنْ خَفِيَ عليه ما بينه الله لغيره، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وأهل العلم والدين يَعرفون الحق ويرحمون الخلق، ويعذرون من خالفهم مع جزمهم بأنه أخطأ ولم يفهم، وأهل الأهواء والبدع يخطئون ويذمون من خالفهم، ويتكلمون فيه بالباطل؛ فتارة يكفرونه وتارة يفسقونه، كما يفعل الخوارج والروافض وغيرهم من أهل البدع. ولهذا لمَّا تَكَلَّمَ مَنْ تكلم بالحق الذي دَلَّ عليه الكتاب والسنة في هذه المسألة؛ صار الجاهلون الذين تكلموا فيها بلا علم من جنس أهل البدع الذين يُكَفِّرون أو يُفَسِّقُون من اتبع الكتاب والسنة، وَإِنْ كانوا لا يعتقدون أنه موافق للكتاب والسنة، ليس كلامهم من جنس كلام أهل العلم الذين تكلموا بالأدلة الشرعية، ويعتصمون بالكتاب والسنة مع العلم بذلك والعناية به. _________ (1) إضافة يقتضيها السياق.

(2/950)


وكذلك قوله: (إنه ناقل للكلام عن معنى نذر الإعتاق إلى معنى الحلف على ذلك الفعل) لا يُحتاجُ إليه، فإنَّ هذا إنما يقال لو كان مثل هذه المادة لم تضعه العرب إلا فيمن قَصَدَ النذر دون من قصد اليمين، وليس الأمر كذلك، بل صيغةُ التعليق [274/ أ] تستعملها العرب والعجم فيما يُقصد به وقوع الجزاء عند الشرط، وفيما يُقصد به اليمين لا يراد به وقوع الجزاء، وإن جعل لازمًا فإنما قَصَدَ بلزومه أَنْ يكون لزومه مانعًا من الشرط، لكن قد يقول كونه كارهًا للجزاء عند الشرط أَمْرٌ واردٌ على أصلِ التعليق، فإنَّ أَصْلَ التعليقِ إنما وُضِعَ لمن يقصد وقوع الجزاء؛ لكن هذا ممنوع، بل صيغةُ التعليقِ موضوعةٌ لمجرد الربط، وهو جَعْلُ الجزاء لازمًا للشرط. أما كون المعلِّق قاصدًا للزوم أو كارهًا له؛ فهذا لا يدل عليه جنس التعليق لا بنفي ولا إثبات، والعرب لم تضع جنس التعليق مجردًا عن المواد المعينة، بل تكلموا بصيغةِ تعليقٍ يرادُ بها هذا، وصيغةِ تعليقٍ أُخَر يراد بها هذا؛ أي: لا يجتمع قَصْدُ هذا وهذا في تعليق مُعَيَّن، كما في صيغة اليمين. فإنه لو قال: إِنْ فعلتِ فوالله لأطلقنَّك؛ فهذه الصيغة إنما تتضمن الحلف على أن يطلقها إذا وجد ذلك الفعل، أَمَّا كونه إذا وجد الفعل يريد أَنْ يطلقها أو لا يريد أَنْ يطلقها إذا فعلتْه، بل حلف معتقدًا أنها لا تفعل ولا تجعله حانثًا ليطلقها (1) = فهذا لا يدل عليه الوضع لا بنفي ولا إثبات، ولا يقال: إذا كان مراده أحدهما أَنَّ الكلام نُقِلَ عن معناه إلى معنى آخر. وكثيرًا ما يحلف الرجل: إِنْ فعلتَ كذا لأفعلنَّ بك كذا، ويظن أنه لا _________ (1) في الأصل: (حالفًا ليطلقنَّها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/951)


يفعله، فلا يكون حالفًا ليفعلنَّه (1)، ولو عَرَفَ أنه يفعل لم يحلف على عقوبته، فإذا فعله صار حالفًا على الفعل حلفًا لا يريد معه الفعل، لكن يختار أَنْ يكفر يمينه ولا يفعل، ولو علم ابتداءً أَنَّ ذلك يخالفه فيفعل ما نهاه عنه؛ لم يحلف على هذا التقدير. فصلٌ قوله: (ويمكن أَنْ يقال فيه: إنَّا إنما نَجعلُ قَصْدَ المنعِ صارفًا لما صورتُهُ صورةُ النذر، وتعليق الطلاق والعتاق ليس صورته صورة النذر) (2). فيقال: هذا ليس فيه إلا مجرد حكاية المذهب، فإنَّ المُفَرِّقِيْنَ بين التعليق على وجه اليمين بين الطلاق والعتاق وبين تعليق النذر هذا قولهم، لكن ليس في حكاية المذهب حجة (3). بل يقال: إذا كان قَصْدُ [المنع] (4) موجودًا في الموضعين؛ فإما أَنْ يكون مؤثرًا وإما ألا يكون مؤثرًا، وقد ثبت تأثيره بالكتاب والسنة؛ فيجب أَنْ يكون مانعًا من [274/ ب] اللزوم، وقد بسط الكلام على حجة النفاة وحجج المفرقين في غير هذا الموضع (5)، وإنما المقصود الكلام على ما ذكره هنا. _________ (1) كذا في الأصل، والكلام مستقيم بدونها. (2) «التحقيق» (48/ ب). (3) تنبيه الرجل العاقل (1/ 96)، جامع المسائل (4/ 402) (7/ 462 - 465). (4) إضافة يقتضيها السياق. (5) انظر ما تقدم في (ص 60 وما بعدها).

(2/952)


فصلٌ قال: (ولقد أجاد الماوردي (1) حيث لم يَحْكِ وجوبَ الكفارة عينًا عن أحدٍ عند حكايته مذاهب العلماء في المسألة، وجعل التخيير منسوبًا لعمر وغيره من الصحابة، وعطاء وغيره من التابعين) (2). فيقال: ليس هذا طريقة الماوردي وحده، بل طريقة عامة المتقدمين، وهذه طريقة الشيخ أبي حامد والقاضي، وكذلك طريقة القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وغيرهما، وقد ذكر الإمام أحمد الإجماع على أنه إذا فعل ما التزمه فلا كفارة عليه. فصلٌ قال: (وَيُحْكَى أَنَّ القَفَّالَ (3) كان ينكر كونَ تعيين الكفارة قولًا للشافعي حتى نقله له الإيلاقي (4) عن الحَليمي (5)، فكشف فوجده منصوصًا؛ فهذه _________ (1) في الحاوي (15/ 299 وما بعدها). (2) «التحقيق» (48/ ب). (3) هو: أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله القفَّال المروزي إمامُ طريقة الخراسانيين، وهو غير القفال الكبير، توفي سنة (417). انظر في ترجمته: طبقات الشافعية لابن الصلاح (1/ 496)، وفيات الأعيان (3/ 46)، سير أعلام النبلاء (17/ 405). (4) هو: أبو الربيع طاهر بن عبد الله الإيلاقي التركي، من كبار الشافعية في بلده، وله وجهٌ في المذهب، توفي سنة (465). انظر في ترجمته: تهذيب الأسماء واللغات (2/ 230)، سير أعلام النبلاء (18/ 326)، طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 415)، طبقات الشافعية الكبرى (5/ 50). (5) هو: أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد الحَليمي الجرجاني، من أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي، ولد سنة (338)، وتوفي سنة (403). انظر في ترجمته: تاريخ جرجان (ص 198)، سير أعلام النبلاء (17/ 231)، طبقات الشافعية الكبرى (4/ 333).

(2/953)


مباحثُ انجرَّ الكلامُ إليها ولم يكن من شرط المباحثة مع المصنف) (1). فيقال: أما كونه منصوصًا للشافعي ــ رحمة الله عليه ــ نَصًّا بَيِّنًا ففيه نظر، فقد رأيتُ كلام الشافعي في هذه المسألة مبسوطًا في الأم (2) وغيرها، فما رأيتُ قولَهُ إلا قولَ مَنْ تقدمه من السلف؛ قولُ عائشة - رضي الله عنها - وعدة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وقول عطاء. وكذلك أحمد بن حنبل ــ أيضًا ــ قولُهُ فيها قولُ هؤلاء، وقد ذكر أحمد ــ رحمة الله عليه ــ الإجماعَ على أنه لا شيء عليه إذا فعل ما التزمه، ومع هذا حكى بعض المتأخرين روايةً عنه بلزوم الكفارة، وهذه الرواية قطعًا ليست منصوصة عن أحمد نَصًّا بَيِّنًا، لكن أَخَذَها مَنْ أخذها مِنْ أَمْرِهِ بالتكفير ونحو ذلك مما ظَنَّهُ يدل على ذلك. وكذلك ــ والله أعلم ــ أُخِذَ هذا القول من كلام الشافعي، وإلا فالشافعي أَجَلُّ قدرًا مِنْ أَنْ يقول مثل هذا، وكذلك أحمد أجل قدرًا من أن يقول قولًا يحكي الإجماع على خلافه. _________ (1) «التحقيق» (48/ ب). (2) (3/ 656).

(2/954)


فصلٌ (رجعنا إلى مقصودنا؛ وهو مَنْعُ أَنَّ نذر اللجاج والغضب يسمى يمينًا، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (1) فإنه غاير بينه وبين اليمين، وجعل موجبه موجبها، والجمهور حملوا ذلك على نذر اللجاج) (2). والجواب [275/ أ]: أنه قد تقدم ما يدل على أَنَّ هذا يمين، وَبَيَّنَّا ذلك بالأدلة المتعددة، وَبَيَّنَّا أَنَّ ذلك إجماع السلف والأئمة والعامة (3). وأما قوله: «كفارة النذر كفارة يمين» فإما أَنْ يراد به أَنَّ النذر نوعٌ من اليمين فكفارته كفارة اليمين؛ كما يقال: نبيذ التمر والزبيب إذا اشتد خَمْرٌ، وَحَدُّهُ حَدُّ الخَمْرِ. وكما يقال: زكاة البخاتي زكاةُ الإبل، وزكاةُ الجواميس زكاةُ البقر. وكما يقال: حُكْمُ السَّامِرَةِ حكمُ اليهود أو حكمُ أهل الكتاب. ويقال: ذبائحُ بني تغلب كذبائح النصارى ونحو ذلك. وإِمَّا أَنْ يراد به أَنَّ النذر مثل اليمين وَإِنْ لم يُسَمَّ يمينًا، وقد يراد في مثل ذلك أنه يُسمى يمينًا مع التقييد فيكون حكمه حكم ما يسمى يمينًا عند الإطلاق، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله وقد أحرم بعمرة وعليه جُبَّةٌ وهو متضمخٌ بخلوقٍ. فقال: «اغسل عنك أثر الخلوق، وانزع عنك الجبة، واصنع _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92). (2) «التحقيق» (48/ ب). (3) مجموع الفتاوى (33/ 54)، الفتاوى الكبرى (4/ 110، 120)، الصارم المسلول (2/ 41 وما بعدها)، القواعد الكلية (ص 445، 448 ــ 449). وانظر ما تقدم (ص 18 وما بعدها).

(2/955)


في عمرتك ما كنت صانعًا في حجك» (1) فجعل عَمَلَ العمرة مثل عمل الحج، مع قوله: إِنَّ العمرة هي الحج الأصغر (2)، وقد اختلف الناس هل دخلت في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] على قولين، والأظهر: أنها لا تدخل في الحج المطلق، فإنها إذا أريدت معه ذكرت باسمها الخاص، كما في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وقوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. وعلى هذا فالنذر مع اليمين كالعمرة مع الحج، له اسم خاص وهو يمينٌ مقيدة، وكفارته كفارة اليمين؛ وعلى هذا فلا حجة له في هذا الحديث، فإنَّ نذر اللجاج والغضب هو عند الجمهور من السلف والخلف من باب الأيمان المطلقة لا من باب النذور، ولهذا لم يوجبوا الوفاء به، ولو كان نذرًا لوجب الوفاء به. وأما قوله: (الجمهور حملوا ذلك على نذر اللجاج والغضب). _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 338). (2) أخرج أبو داود في المراسيل (ص 122)، وابن حبان في صحيحه (6559)، والحاكم في المستدرك (1/ 552 ــ 553) وغيرهم في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم - رضي الله عنه -، وفيه: «الحج الأصغر العمرة» ثم قال أبو داود: رُوِيَ هذا الحديث مسندًا ولا يصح. وفي البخاري (3177) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ أبا بكر بَعَثَهُ لِيُؤذن في الحجة التي سبقت حجة الوداع: ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحجِّ الأكبر يوم النحر. قال أبو هريرة: وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس: الحجُّ الأصغر.

(2/956)


فيقال له: ليس في الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين مَنْ حَمَلَ ذلك على نذر اللجاج والغضب، ولكن بعض الفقهاء المتأخرين حملوا ذلك عليه، مع أَنَّ محققيهم جعلوا الحديث متناولًا له لا مختصًّا به، وأما أصحاب أحمد فليس فيهم مَنْ يجعل الحديث [275/ ب] مختصًّا بنذر اللجاج والغضب، بل ولا أصحاب أبي حنيفة ولا مالك، وأما أصحاب الشافعي المحتجين بهذا الحديث فَأَجَلُّهُم أو مَنْ هو مِنْ أجلهم الشيخ أبو حامد، وجعل الحديث عامًّا فيه وفي غيره لا مختصًّا به (1). وقد تقدم أنه لا يجوز أَنْ يراد بذلك مجرد نذر اللجاج والغضب، لأنه قال: «كفارة النذر» فذكر النذر مُعَرَّفًا بالألف واللام وهذا عام مطلق، ونذر اللجاج والغضب إما ألا يكون نذرًا البتة بل هو يمين كما عليه جمهور السلف، وإما أَنْ يكونَ نوعًا من النذر؛ وعلى التقديرين فلا يجوز أَنْ يكون قوله: «كفارة النذر» مختصًّا به، أَمَّا على الأول فإنه ليس بنذر، وأما على الثاني فلأنه يَعُمُّهُ وغيره، وإنما خَصَّهُ بذلك بعض متأخري أصحاب الشافعي الذين يقولون: لا كفارة في شيءٍ من النذر إلا في هذا الذي يُسَمَّى نَذْرَ اللجاج والغضب. وهؤلاء وأمثالهم ممن يجعل النصوص النبوية تابعة لمذاهبهم (2)، وإذا تأمله وانتقده (3) لنفسه كان فاسدًا مردودًا؛ قال (4): (على أن هذا القول _________ (1) انظر: البيان للعمراني (4/ 476 ــ 477). (2) الفتاوى الكبرى (3/ 487)، الإيمان (ص 32). (3) كذا في الأصل. (4) أي: المعترض.

(2/957)


بالتحرير الذي يقوله المتأخرون، وهو أَنَّ الواجب الكفارة عينًا، بحيث لو أتى بالذي التزمه لا يكفي= لستُ أَعرفُ الآن دليلًا عليه لا من خبر ولا من نظر. أما الخبر: فهم يستدلون له بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (1). قال (2): وقد تأملتُ معنى هذا الحديث، والذي فهمته منه يبين كفارة النذر، كما بَيَّنَ الله كفارة اليمين في كتابه العزيز، وَلَمَّا لم يقتضِ ذلك إيجاب كفارة اليمين مطلقًا بل بشرط مخالفتها، والحنث كذلك؛ لا يقتضي هذا وجوب كفارة النذر مطلقًا، بل بشرط ألا يفي به، وَمَتى وَفَّى به فقد وَفَّى بمقتضى التزامه، فهو بمنزلة ما لو بَرَّ في يمينه فلا يحتاج إلى تكفير؛ فكيف يقال: إنه إذا أتى بالمنذور لا يكفي، ويقول: لم لا يأت به بل يكفر (3). قال: فَإِنْ قلتَ هذا عند القائلين بوجوب الكفارة عينًا ليس بنذر ولكنه يمين. قلتُ: فيبطل احتجاجهم عليه بقوله: «كفارة النذر كفارة يمين» فإنه جعل نذرًا). وأيضًا؛ فصاحب المذهب ــ الإمام الشافعي نفسه ــ قد جَعَلَ هذا من باب الأيمان لا من باب النذور، وهو لم يحتج على الكفارة فيه [276/ أ] بهذا الحديث. فقد تبين أَنَّ قوله: «كفارة النذر كفارة يمين» إما أَنْ يجعل النذر نوعًا من _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 92). (2) القائل هو السبكي. وينتهي النقل عنه بنهاية هذه الفقرة، وقد تقدم هذا النقل في (ص 897). انظر: «التحقيق» (47/ب). (3) في «التحقيق»: (ونقول له: الا [وضع الناسخ فوقها حرف (ظ)] تأت به، بل كَفِّر، والله ــ تعالى ــ قد مَدَحَ على الوفاء بالنذر).

(2/958)


اليمين أو يشبهها باليمين؛ فإنْ كان الأول فالنذور كلها أيمان، وَإِنْ كان الثاني لم يُسَلَّم أَنَّ نذر اللجاج دخل في قوله: «كفارة النذر كفارة يمين»، بل إنما دخل ما هو نذر حقيقة إذا لم يَفِ به، وَأَمَّا هذا فإنما هو داخل في نصوص الأيمان لا في نصوص النذور. وليس مع المعترض حجة أَنَّ التعليق القَسَمِي الذي هو يمين مكفَّرة عند الجمهور ــ ويُسميه بعض الناس نذر اللجاج والغضب ــ داخلٌ في مسمى النذر؛ كيف والصحابة والتابعون قد سموه يمينًا؟ بل وأَثبتَ له جمهورهم حكم اليمين، ولم يُعْرَفْ عن أَحَدٍ منهم أنه قال: ليس هو بيمين. وَمَنْ جَعَلَهُ لازمًا يقول هو نذر ويمين، لم يقل أحد إنه نذر ليس يمين، بل أكثرهم يقولون هو يمين وليس بنذر، وآخرون يسمونه نذرًا ويمينًا. وبكل حال؛ فمنعه أَنْ يُسَمَّى يمينًا مَنْعٌ لِمَا ثَبَتَ خلافُهُ، بل لما انعقد إجماع السلف على خلافِهِ، مع أَنَّ مثل هذا لا يُحتاج فيه إلى إجماع، فإنه ليس حكمًا شرعيًّا إنما هو إثبات لغة، وذلك يكفي فيه استعمال أهل اللغة، فكيف وقد تواتر به استعمال الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين والعلماء والعامة وجميع الأمم؟! * * * *

(2/959)


فصلٌ قال: (وأما التعليق المتنازع [فيه]: وهو ما يكون المشروط فيه وقوع طلاق أو عتق لا التزامهما فأبعدُ عَنِ الشَّبَهِ، لأنه لا التزام فيه كما تقدم، فإذا سُمِّيَ يمينًا إنما يكون ذلك على وجه المجاز، وقد يشتهر المجاز فيصير حقيقة عرفية، ولا يجب حمل كلام الشرع عليه؛ فمن ادعى أَنَّ إِطلاقَ اسمِ اليمين حقيقة لغوية أو شرعية فعليه إقامة الدليل على ذلك) (1). والجواب: أنه قد تقدم تقرير هذا من غير وجه (2)، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم سَمَّوا هذا التعليق يمينًا ــ تعليق العتق المحلوف به ــ، ولم يقل أَحَدٌ منهم إنَّ هذا ليس بيمين، وكذلك سمى من ذكر تعليق الطلاق المحلوف به ولم يقل أَحَدٌ إنه ليس بيمين، كما سموا تعليق النذر المحلوف به يمينًا ولم يقل أَحَدٌ إنه ليس بيمين، وأنهم إنما تنازعوا في الحكم لا في الاسم، وأكثرهم [276/ ب] جعلوه يمينًا داخلة في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وهم أول من خوطب بالقرآن وبلغتهم نزل، والتابعون بعدهم كذلك، وأَنَّ العلماء قاطبة والعامة يسمون ذلك يمينًا، والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغيرها، والأصل في الإطلاق هو الحقيقة دون المجاز (3). وَبَيَّنَّا أَنَّ هذا يمين في لغات جميع الأمم، وَأَنَّ معنى اليمين هو كمعنى _________ (1) «التحقيق» (48/ ب)، وما بين المعقوفتين من «التحقيق». (2) انظر ما تقدم (ص 135 وما بعدها). (3) انظر ما تقدم (ص 310).

(2/960)


الأمر والنهي؛ أَمْرٌ عقليٌ لا يختلف باختلاف اللغات، وأنه لم يقل أَحَدٌ من العلماء إن اليمين المذكورة حكمها في كتاب الله ــ تعالى ــ أو الكلام الذي تسميه العرب يمينًا، أو المعنى المعقول دون لفظ اليمين من شرطه أن يكون بالحروف التي يسميها النحاة حروف القَسَم، كما أنه ليس من شرط ما يسمى استغاثة وندبًا أَنْ يكون بالصيغة التي تسميها النحاة استغاثة وندبًا (1). وليس مِنْ شَرْطِ ما يكون أمرًا أن يكون بالصيغة التي يسميها النحاة صيغة الأمر، بل لو قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] كان هذا أمرًا باتفاق المسلمين (2). والنحاة يجعلون صيغة الأمر قوله: افعل ولتفعل فقط، بل قد يستعملون اللفظ في غير موضوعه في اللغة؛ كلفظ الكلمة هي في اصطلاحهم اللفظ المفرد، مثل الاسم والفعل والحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، ولفظ الكلمة في لغة العرب لا يُعْرَف إلا للجملة التامة كالمبتدأ والخبر وكالفعل والفاعل، لا يسمى المفرد كلمة (3). وقوله: (فمن ادعى أَنَّ إطلاق اسم اليمين حقيقة لغوية أو شرعية فعليه إقامة الدليل على ذلك). فيقال له: لو لم يُعرف الإطلاق إلا من كلام العلماء، ولم يعرف أنهم غيروا اللغة لكان الأصل بقاء اللغة، ولوجب أَنْ يجعل ذلك حقيقة لغوية ما لم يقم دليل بخلاف ذلك، ولكان مُدَّعِي المجاز هو الذي عليه الدليل، _________ (1) انظر ما تقدم (ص 884). (2) حيث إنَّ الأمر مجموع اللفظ والمعنى. انظر: المسوَّدة (1/ 92). (3) الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات ابن تيمية (ص 411)، واختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراته في النحو والصرف (ص 63).

(2/961)


فكيف إذا ثبت الاستعمال في كلام الصحابة والتابعين؟! بل وثبت أنهم جعلوها يمينًا مكفَّرة، وقالوا: هي يمين يكفرها ما يكفر اليمين، وقد تقدم أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سَمَّى التعليق الذي يُقصد به اليمين يمينًا في قوله: «مَنْ حَلَفَ بملةٍ سوى الإسلام كاذبًا فهو كما قال» (1). فصلٌ وأما قوله: (وقد صَرَّحَ في مبسوط الحنفية (2) أَنَّ أهل اللغة لا يعرفون [277/ أ] ذلك) (3) فقد قدمنا أَنَّ أصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد يقولون: إذا قال: (إِنْ حلفتُ يمينًا بالطلاق فعليَّ كذا)؛ فإنَّ هذا يتناول عندهم كُلَّ تعليقٍ للطلاق، سواء قصد به الحض والمنع، أو كان تعليقًا محضًا أو توقيتًا كقوله: إذا طلعتِ الشمسُ فأنتِ طالق. ولكنْ أبو حنيفة وبعض أصحاب أحمد استثنوا من ذلك ما له اسم خاص كطلاق السنة والبدعة، فلما جعل هؤلاء كل تعليق يمينًا قالوا: إِنَّ أهل اللغة لا يَعرفون ذلك، وهو كما قالوا، فإنَّ أهل اللغة لا يسمون كل تعليق يمينًا، بل ولا كل تعليق قصد به الحض والمنع، بل إنما يسمون يمينًا ما كان لزوم الجزاء فيه غير مقصود وَإِنْ وُجِدَ الشرط؛ فهذا هو الذي سماه الصحابة والتابعون لهم بإحسان يمينًا، وهو الذي جعلوه يمينًا مكفَّرة، وهو الذي يوجد فيه معنى اليمين المعقول الذي يَعقل جميع الناس أنه يمين. _________ (1) تقدم تخريجه في (ص 42). (2) (8/ 126). (3) «التحقيق» (48/ ب).

(2/962)


واليمين لا تقبل النيابة، فلا يُوَكِّلُ الرجل غيره في اليمين، ولا يحلف الولي عن موليه، بخلاف الطلاق والعتاق فإنه يقبل النيابة، فإذا عُلِّقَ تعليقًا يقصد به اليمين لم يقبل النيابة، وإذا لم يقصد به اليمين قبل النيابة؛ فتبين أَنَّ هذا يمين وهذا ليس بيمين. والطلاق المعلَّق بالصفة إذا قصد إيقاعه عند الصفة يقبل النيابة، وتعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين لا يقبل النيابة؛ فَدَلَّ على أَنَّ هذا يمين لا نيابة فيه، وذاك طلاق يقبل النيابة (1). * * * * _________ (1) انظر ما تقدم (ص 879).

(2/963)


فصلٌ قال المعترض: (ولهذا البحث الذي حررناه (1)، وهو أَنَّ [اسم] اليمين لا تشمل اليمين بغير الله ــ تعالى ــ قال جماعة من العلماء: إِنَّ الإيلاء لا يكون إلا بالله (2)، ولم يجعلوا التعليق بالطلاق وغيره (3) داخلًا في قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] كما هو أحد قولي الشافعي؛ فمقتضى قول هؤلاء أَنَّ التعليق لا يسمى يمينًا لأنَّ الإيلاء هو اليمين، فما دخل في مسماها دخل في مسماه) (4). والجواب من وجهين: أحدهما: أَنَّ هذا القول هو القول القديم للشافعي، وهو إحدى الروايات عن أحمد، اختارها الخرقي والقاضي وغيرهما، وأما جمهور العلماء فعلى أَنَّ الإيلاء ينعقد إما بكل يمين مكفَّرة كالرواية الثانية [277/ ب] عن أحمد، وذكر أبو بكر عبد العزيز أَنَّ هذا مذهب أحمد أنها بكل يمين من أيمان المسلمين كالرواية الثالثة عن أحمد، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي في الجديد، وذكر بعضهم هذا إجماعًا قال ابن المنذر: [وأجمعوا على أنَّ كل يمين مَنَعَتْ جِماعًا أنها إيلاء] (5). _________ (1) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (حركناه). (2) الحاوي (10/ 337)، والبيان للعمراني (10/ 277). (3) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (ونحوه). (4) «التحقيق» (48/ ب)، وما بين المعقوفتين منه. (5) بياض مقدار سطر وكلمتين، والمثبت من الإجماع لابن المنذر (ص 118).

(2/964)


ولو كان جمهور العلماء يقولون: إنَّ هذا ليس بإيلاء، لم يكن قولهم حجة؛ فكيف والجمهور يقولون إنه إيلاء؟! وحينئذٍ؛ فمن قال: إنه ليس بإيلاء، فليس قوله حجة لازمة باتفاق المسلمين. الثاني: أَنَّ هذا القول لو كان حقًّا فمأخذ أصحابه أَنَّ الحلف بغير الله ــ تعالى ــ منهيٌ عنه وإن كان يمينًا، فهم يُسَلِّمُونَ أنه يمين، ولكن يقولون: هي يمين منهيٌ عنها، كما يقول طائفة من السلف والخلف في الحلف بالنذر أنه يمين، ولكن هي يمين منهي عنها فلا كفارة فيها عندهم، وهذا مذهب ابن جرير وداود وأصحابه وطردوا ذلك في الحلف بالطلاق وغيره، فهم لم ينازعوا في أنها يمين، بل صَرَّحُوا بأنها أيمان، لكن قالوا هي منهيٌ عنها فلا ينعقد بها الإيلاء، فَيُخَرَّجُ (1) منه مثل قول هؤلاء، أنها أيمان منهيٌ عنها فلا كفارة فيها. وقد ناظر القائلون بأنها أيمان منعقدة مشروعة مَنْ قال بثبوت الإيلاء بها، كما ذكر ذلك مَنْ ذَكَرَهُ من أصحاب الشافعي وغيره؛ فقالوا ــ وهذا لفظ أبي الطيب الطبري (2) ــ: (وأما احتجاجه بكلام الشافعي ــ رحمة الله عليه ــ على أَنَّ هذا ليس بإيلاء، فهو في معنى الإيلاء. فيقال له: الشافعي قد صَرَّحَ بأنَّ هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين يمين لا نذر، فقال: ولو قال: مالي في سبيل الله أو صدقةٌ على معاني الأيمان؛ فمذهب عائشة - رضي الله عنها - وَعِدَّةٌ _________ (1) في الأصل: (يُخَرَّجُ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. (2) لم أجد هذا النقل عنه فيما بين يدي من المصادر.

(2/965)


من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعطاء، والقياس أَنَّ عليه كفارة يمين. قال: ومن حنث في المشي إلى بيت الله؛ ففيه قولان: أحدهما: قول عطاء: عليه كفارة يمين؛ ومذهبه أَنَّ أعمال البر لا تكون إلا بما فرض الله عليه، أو تبررًا يراد به الله. قال الشافعي: التبرر أَنْ يقول: لله عليَّ إِنْ شفاني أَنْ أَحُجَّ له نذرًا، فأما إِنْ لم أقضكَ حقك [278/ أ] فعليَّ المشي إلى بيت الله؛ فهذا من معاني الأيمان لا من معاني النذور). فهذا تصريح الشافعي - رضي الله عنه - بأنَّ هذا التعليق الذي هو نذر اللجاج والغضب من معاني الأيمان لا من معاني النذور. وأما قول الشافعي في الإيلاء: (ومن أوجب على نفسه شيئًا يجب عليه إذا أوجبه، فأوجبه على نفسه إِنْ [جامع امرأته] (1) فهو في معنى المولي، لأنه [لا يَعْدُو أَنْ يكون] (2) ممنوعًا من الجماع إلا بشيءٍ يلزمه) (3). فهذا لا يدخل فيه نذر اللجاج والغضب على أصله المنصوص المشهور في مذهبه، فإنه لا يجب عليه ما التزمه فيه بل تجزئه كفارة يمين، وقد تقدم كلامه بأنَّ هذا من معاني الأيمان لا معاني النذور، وأَنَّ القياس أَنَّ عليه كفارة يمين، كما قاله عائشة - رضي الله عنها - وعدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعطاء. فإذا كان الشافعي يجعل هذا من معاني الأيمان لا من معاني النذور ويجعل فيه كفارة يمين= لم يكن هذا داخلًا (4) في قوله: (إنه أوجب على _________ (1) في الأصل: (أوجبه)، والمثبت من الأم. (2) في الأصل: (لا يُعْذَر إِنْ كان)، والمثبت من الأم. (3) الأم (6/ 670). (4) في الأصل: (داخل).

(2/966)


نفسه شيئًا يجب عليه إذا أوجبه)؛ فإنَّ هذا لا يجب عليه إذا أوجبه، ولكن قد قال هذا على قول مَنْ لا يجعله يمينًا مكفرة بل يجعله نذرًا لازمًا، فهؤلاء يجعلونه في معنى المولي مع أَنَّ هذا هو قول مالك - رضي الله عنه - وأصحابه وهم يُسَمُّونه يمينًا. * * * *

(2/967)


فصلٌ قال: (ومنهم مَنْ يجعله مندرجًا في الآية، وهو مطالب بالدليل ــ أيضًا ــ فالمباحث لا تقليد فيها) (1). فالجواب عنه من وجوه: أحدها: أَنَّا نتكلم أولًا مع من يسلم لنا أَنَّ هذا إيلاء داخل في الآية، كما نتكلم ــ أولًا ــ مع من يسلم لنا أَنَّ نذر اللجاج والغضب داخل في الآية؛ فهؤلاء لا ينازعونا أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمين، فيلزمهم دخول تعليق الطلاق والعتاق الذي يقصد به اليمين في الآية، ولا يمكنهم أَنْ يقولوا: إِنَّ التعليق الذي يُقصد به اليمين ليس بيمين، بعد تسليمهم أنه يمين وإيلاء يتناوله لفظ الإيلاء واليمين في القرآن. الثاني: أنه (2) تبين أن هذا يمين بما قدمناه من الأدلة الكثيرة. الثالث: أَنْ نقول: هَبْ أنه لا يتناوله لفظ اليمين والإيلاء؛ [278/ ب] فأنتم تُسَلِّمُون أَنَّ حكمه حكم اليمين والإيلاء بالقياس لما فيه من معنى اليمين والإيلاء؛ فكذلك ثبت حكم تعليق الطلاق والعتاق الذي يقصد به اليمين بالقياس، ونقول: كما قستموه على اليمين في الإيلاء، وقستم نذر اللجاج والغضب على اليمين في الكفارة، وقستموه على اليمين في الاستثناء= فقيسوه على اليمين في الكفارة قياسًا في معنى الأصل؛ وهذه ثلاث أقيسة، كل قياس يقول به أكثر العلماء، فالجمهور جعلوه إيلاءً أو _________ (1) «التحقيق» (49/ أ). (2) في الأصل: (إن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2/968)


كالإيلاء، والجمهور جعلوه يمينًا مكفرة أو كاليمين المكفرة، والجمهور جعلوه يمينًا يَنفع فيها الاستثناء لا سيما مَنْ قال مع ذلك لا ينفع الاستثناء في الطلاق والعتاق وينفع في الحلف بهما كما هو قول كثيرٍ من السلف والخلف. إلى هنا انتهى كلام المصنف المجيب رحمة الله تعالى عليه وبه كَمَلَ المجلد الثاني كتبه وما قبله لنفسه، العبد المعترف بتقصيره في يومه وأمسه: محمد بن أبي بكر بن أحمد بن هارون بن أسعد السلمي الساوجي غفر الله له ولوالديه بكرمه، ووافق الفراغ منه يوم السبت الثالث من ذي الحجة سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وصلى الله على سيد الأولين والآخرين، محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، الحمد لله رب العالمين. * * * *

(2/969)


فهرس المراجع - إبطال الحيل، لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري، سليمان بن عبد الله العمير، دار عالم الفوائد، الطبعة الثانية عام 1428. - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، لأحمد بن أبي بكر البوصيري، دار المشكاة للبحث العلمي ودار الوطن، الطبعة الأولى عام 1420. - إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مجموعة من الباحثين، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. - الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق مركز الدراسات القرآنية بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الأولى عام 1426. - آثار البلاد وأخبار العباد، لزكريا بن محمد بن محمود القزويني، دار صادر ببيروت، دون سنة نشر. - أثر تخصيص العلة في الفروع الفقهية، تأليف: عبد الملك بن صالح آل فريان، دار كنوز إشبيليا، الطبعة الأولى عام 1433. - الآحاد والمثاني، لأبي بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك المعروف بابن أبي عاصم، باسم فيصل الجوابرة، دار الراية، الطبعة الأولى عام 1411. - الأحاديث المختارة، لأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي المشهور بالضياء المقدسي، ت. عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، الطبعة الأولى عام 1410. - الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين ابن الخطيب، محمد بن عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، الطبعة الأولى عام 1395. - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، عام 1414.

(2/1063)


- أحكام الجنائز وبدعها، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى عام 1412. - أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، علي بن محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. - أحكام القرآن، لأحمد بن علي الجصاص، محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي، عام 1405. - أحكام أهل الذمة، لابن قيم الجوزية، يوسف بن أحمد البكري وأحمد بن توفيق العاروري، دار رمادي للنشر، الطبعة الأولى عام 1418. - الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد علي بن أحمد ابن حزم، دار الحديث، الطبعة الأولى عام 1404. - الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية، لأبي الحسن علي بن محمد البعلي، أحمد بن محمد الخليل، دار العاصمة، الطبعة الأولى عام 1418. - أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، لأبي عبد الله محمد بن إسحاق الفاكهي المكي، عبد الملك بن عبد الله دهيش، دار خضر، الطبعة الثانية عام 1414. - أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، لأبي الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي، عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة الأسدي، الطبعة الأولى عام 1424. - اختلاف الفقهاء، لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، محمد طاهر حكيم، دار أضواء السلف، الطبعة الأولى عام 1420. - الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمد الموصلي، شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة العالمية، الطبعة الأولى عام 1430. - اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، لأبي عبد الله محمد بن أحمد ابن عبد الهادي، سامي بن محمد بن جاد الله، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1424. - اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراته في النحو والصرف، ناصر بن حمد الفهد، دار أضواء السلف، الطبعة الأولى عام 1423.

(2/1064)


- آداب الشافعي ومناقبه، لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1424. - الآداب الشرعية والمِنَح المرعيَّة، لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي، شعيب الأرنؤوط وعمر القيَّام، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة عام 1419. - أدب الكاتب، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بدون تأريخ طباعة. - الأدب المفرد، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية، عام 1375. - الإرشاد إلى سبيل لرشاد، للشريف محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي، عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار عالم الكتب، عام 1432. - الإرشاد في معرفة علماء الحديث، لأبي يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني، محمد سعيد عمر إدريس، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى 1409. - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، عام 1405. - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، لأبي عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البر، عبد المعطي أمين قلعجي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى عام 1414. - الاستقامة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الطبعة الأولى عام 1403. - الأشباه والنظائر، لتاج الدين عبد الوهاب السبكي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411. - الإشراف على مذاهب العلماء، لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر، صغير بن أحمد الأنصاري، مكتبة مكة الثقافية، الطبعة الأولى عام 1425. - أصل صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى عام 1427.

(2/1065)


- أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، أبو الوفاء الأفغاني، تصوير دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1414. - الأعلام، لخير الدين بن محمود بن محمد الزركلي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، عام 2002 م. - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى عام 1423. - إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان، لابن قيم الجوزية، عبد الرحمن بن حسن قايد، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1425. - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن قيم الجوزية، محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1432. - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ناصر بن عبد الكريم العقل، دار العاصمة، الطبعة السادسة عام 1419. - إكمال تهذيب الكمال، لعلاء الدين مغلطاي بن قليج، أبو عبد الرحمن عادل بن محمد وأبو محمد أسامة بن إبراهيم، دار الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى عام 1422. - الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، السيد أحمد صقر، دار التراث والمكتبة العتيقة، الطبعة الأولى عام 1389. - الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، رفعت فوزي عبد المطلب، دار الوفاء، الطبعة الأولى عام 1422. - الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة، لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي الهمداني، حمد بن محمد الجاسر، دار اليمامة للبحث والترجمة، عام 1415.

(2/1066)


- الأموال، لحميد بن مخلد بن قتيبة الشهير بزنجويه، شاكر ذيب فياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. - الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء مالك والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم، لأبي عمر ابن عبد البر النمري القرطبي، دار الكتب العلمية. - الأنساب، لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني، عبد الله بن عمر البارودي، دار الجنان، الطبعة الأولى عام 1408. - أنساب الأشراف، لأحمد بن يحيى البلاذري، سهيل زكار ورياض زركلي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى عام 1417. - الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري، جودة بن مبروك بن محمد مبروك، مكتبة الخانجي، الطبعة الأولى. - أهل الملل والردة والزندقة من كتاب الجامع للخلال، لأبي بكر أحمد بن محمد البغدادي، إبراهيم بن حمد السلطان، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى عام 1416. - الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، لأبي بكر ابن المنذر، تحقيق لجنة في دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق والتراث، الطبعة الأولى عام 1430. - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، لجمال الدين عبد الله الأنصاري، محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، طبع عام 1423. - الإيمان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة عام 1416. - بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم، ليوسف بن حسن بن عبد الهادي المعروف بابن المبرد، وصي الله بن محمد عباس، دار الإمام أحمد، الطبعة الأولى عام 1427. - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لزين الدين بن إبراهيم المعروف بابن نجيم، زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1418.

(2/1067)


- البحر الزخار أو مسند البزار، لأبي بكر أحمد بن عمرو البزار، محفوظ الرحمن زين الله وعادل بن سعد، مكتبة العلوم والحكم. - البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، عبد القادر بن عبد الله العاني وآخرين، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، الطبعة الأولى عام 1413. - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد محمد بن أحمد ابن رشد الحفيد، دار المعرفة، الطبعة السادسة عام 1402. - البداية والنهاية، لعماد الدين إسماعيل بن عمر ابن كثير، عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، الطبعة الأولى عام 1419. - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر علاء الدين ابن مسعود الكاساني، تصوير دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية عام 1406. - بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، عام 1425. - البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، لعمر بن علي المعروف بابن الملقِّن، مصطفى أبو الغيط وعبد الله بن سليمان وياسر بن كمال، دار الهجرة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى عام 1425. - البرهان في أصول الفقه، لأبي المعالي الجويني، ت , عبد العظيم بن محمود الديب، دار الوفاء، الطبعة الرابعة 1418. - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، لأحمد بن يحيى الضبي، دار الكتاب العربي، عام 1967 م. - بيان الدليل على بطلان التحليل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد بن محمد الخليل، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى عام 1425.

(2/1068)


- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، مجموعة من الباحثين (رسائل جامعية)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الأولى عام 1426. - البيان في القراءات السبع، لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني، مجموعة رسائل جامعية، جامعة الشارقة بالإمارات، الطبعة الأولى عام 1428. - البيان في مذهب الإمام الشافعي، لأبي الحسين يحيى بن أبي الخير العمراني، قاسم محمد النوري، دار المنهاج بجدة، الطبعة الأولى 1421. - البيان والتبيُّن، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق وشرح: عبد السلام بن محمد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة السابعة عام 1418. - البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، محمد حجي وآخرون، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية عام 1408. - تاج التراجم، لأبي الفداء زين الدين قاسم بن قطلوبغا، محمد خير رمضان، دار القلم، الطبعة الأولى عام 1413. - تاريخ ابن معين برواية الدوري، أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، الطبعة الأولى 1399. - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، بشار عواد معروف، دار الغرب، الطبعة الأولى عام 1424. - تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جعفر الطبري، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية بدون تأريخ. - التاريخ الكبير، لأبي بكر أحمد بن أبي خيثمة، صلاح فتحي هلل، دار الفاروق، الطبعة الأولى عام 1424. - التاريخ الكبير، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تصوير دار الكتب العلمية.

(2/1069)


- تأريخ المدينة، لأبي زيد عمر ابن شبَّة النميري البصري، فهيم محمد شلتوت، بدون دار طباعة ولا تاريخ. - تاريخ بغداد (تاريخ مدينة السلام وأخبار محدثيها وذكر قطانها العلماء من غير أهلها ووارديها)، لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، بشار عواد معروف، دار الغرب، الطبعة الأولى عام 1422. - تاريخ جرجان، لأبي القاسم حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، محمد عبد المعيد، عالم الكتب، الطبعة الرابعة عام 1407. - تاريخ علماء الأندلس، عبد الله بن محمد الأزدي المشهور بابن الفرضي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، عام 1966 م. - تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلَّها من الماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها، لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، عمر غرامة العمروي، دار الفكر، عام 1415. - التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي، محمد حسن هيتو، ار الفكر، الطبعة الأولى عام 1403. - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، مصورة الطبعة الأميرية (بولاق)، الطبعة الأولى عام 1313. - التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، لعلاء الدين أبي الحسن المرداوي، ت: عبد الرحمن الجبرين، وعوض القرني، وأحمد السراح، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى عام 1421. - التحجيل في تخريج ما لم يُخرَّج من الأحاديث والآثار في إرواء الغليل، تأليف: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى عام 1422. - تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج، لأبي حفص عمر بن علي المعروف بابن الملقن، عبد الله بن سعاف اللحياني، دار حراء، الطبعة الأولى عام 1406.

(2/1070)


- تحقيق القول في سنة الجمعة، لبرهان الدين ابن قيم الجوزية، عبد الله بن محمد المديفر، دار النوادر، الطبعة الأولى عام 1433. - تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الكشاف للزمخشري، لأبي محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي، سلطان بن فهد الطبيشي، دار عالم الكتب (توزيع وزارة الشئون الإسلامية)، الطبعة الأولى عام 1424. - التخريج عند الفقهاء والأصوليين دراسة نظرية تطبيقية تأصيلية، تأليف: يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، مكتبة الرشد، الطبعة الثانية عام 1425. - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، نظر محمد الفاريابي، مكتبة الكوثر، الطبعة الثانية عام 1415. - التدمرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد بن عودة السعوي، مكتبة العبيكان، الطبعة السادسة عام 1421. - تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج، لسراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المشهور بابن الملقن، حمدي عبد المجيد السلفي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى عام 1994 م. - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، مجموعة باحثين، طباعة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب. - التعديل والتجريح لمن خرَّج عنه البخاري في الجامع الصحيح، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، أحمد البزار. - تعظيم الفتيا، لأبي الفرج عبد الرحمن بن محمد ابن الجوزي، مشهور حسن آل سلمان، مكتبة التوحيد، الطبعة الأولى عام 1423. - تعظيم قدر الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي، عبد الرحمن بن عبد الجبار الفيروائي، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى عام 1406.

(2/1071)


- تعليقة على علل ابن أبي حاتم، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، سامي بن محمد بن جاد الله، دار أضواء السلف، الطبعة الأولى عام 1423. - تغيّر الاجتهاد دراسة تأصيلية تطبيقية، تأليف: أسامة بن محمد الشيبان، دار كنوز إشبيليا، الطبعة الأولى عام 1433. - تفسير ابن المنذر، لأبي بكر محمد ابن المنذر، سعد بن محمد السعد، دار المآثر، الطبعة الأولى 1423. - تفسير الإمام الشافعي، جمع وتحقيق ودراسة أحمد بن مصطفى الفران، دار التدمرية، الطبعة الأولى عام 1427. - تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير، سامي السلامة، دار طيبة، الطبعة الأولى عام 1418. - تفسير القرآن العظيم مسندًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، للإمام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، أسعد محمد الطيب، مكتبة الباز، الطبعة الأولى عام 1417. - تفسير سفيان الثوري، لأبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري الكوفي، برواية أبي جعفر عن أبي حذيفة النهدي عنه، لجنة من العلماء، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عان 1403. - تقريب التهذيب، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، أبو الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني، دار العاصمة، الطبعة الأولى عام 1416. - التكملة لكتاب الصلة، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي، عبد السلام الهراس، دار الفكر للطباعة، عام 1415. - تلبيس إبليس، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ت: أحمد بن عثمان المزيد، دار الوطن للنشر، بدون تأريخ نشر.

(2/1072)


- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، اعتنى به: السيد عبد الله هاشم اليماني، عام 1384. - التمذهب دراسة نظرية تطبيقية، تأليف: خالد بن مساعد الرويتع، دار التدمرية، الطبعة الأولى عام 1434. - التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني، مفيد محمد أبو عمشة، جامعة أم القرى، الطبعة الأولى عام 1406. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البر، مصطفى العلوي ومحمد البكري، مؤسسة قرطبة. - تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، علي العمران ومحمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1425. - تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النظر في كتب الأماجد، لأبي إسحاق الحويني، دار المحجة، الطبعة الأولى عام 1424. - تنزيه الشريعة المرفوعة، لأبي الحسن علي بن محمد العراق، عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله بن محمد بن الصديق الغماري، تصوير دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1401. - تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، لشمس الدين محمد بن أحمد ابن عبد الهادي، سامي بن محمد بن جاد الله وعبد العزيز بن ناصر الخباني، أضواء السلف، الطبعة الأولى عام 1428. - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، محمد ناصر الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الثانية عام 1406. - تهذيب الأجوبة، لأبي عبد الله الحسن بن حامد البغدادي، عبد العزيز بن محمد القايدي، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية عام 1429.

(2/1073)


- تهذيب الأسماء واللغات، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي، إدارة الطباعة المنيرية، تصوير دار الكتب العلمية. - تهذيب السنن، لابن قيم الجوزية، إسماعيل بن غازي مرحبا، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى عام 1428. - تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لأبي الحجاج المزي، بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى عام 1400. - تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى عام 2001 م. - التهذيب في فقه الإمام الشافعي، لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، عادل عبد الموجود وعلي محمد معوَّض، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1418. - توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس، لأبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1406. - الثقات، لأبي حاتم محمد بن حبان التميمي البستي، دائرة المعارف العثمانية، طبعة عام 1399 تصوير مؤسسة الكتبة الثقافية. - الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب، لمحمد ناصر الدين الألباني، دار غراس للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى. - جامع البيان في تفسير آي القرآن، لمحمد بن جرير الطبري، عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع دار هجر، الطبعة الأولى عام 1422. - جامع الرسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد رشاد سالم، دار العطاء، الطبعة الأولى عام 1422. - الجامع الكبير، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، بشار عواد معروف، دار الغرب، الطبعة الأولى عام 1996 م. - جامع المسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى، المجموعة الرابعة عام 1422، والمجموعة الخامسة عام 1424.

(2/1074)


- جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف ابن عبد البر، أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى عام 1414. - الجامع في أحاديث وآثار الفرائض، تأليف: زايد بن حسن الوصابي، دار الآثار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى عام 1428. - الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، جمع وفهرسة محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، الطبعة الثاينة عام 1422. - الجامع لشعب الإيمان، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، مختار أحمد الندوي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى عام 1423. - جامع معمر بن راشد، ملحق بآخر المصنف لعبد الرزاق. - الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث، أحمد بن عبد الكريم الغزي العامري، ت. فواز أحمد زمرلي، دار ابن حزم. - الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، دائرة المعارف العثمانية، عام 1271، تصوير دار الكتاب الإسلامي. - جزء فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها»، لأبي عمرو أحمد بن محمد المديني الأصبهاني المديني، بدر بن عبد الله البدر، دار ابن حزم، الطبعة الأولى عام 1415. - الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم، لمحمد بن فتوح الحميدي، علي حسين البواب، دار ابن حزم، الطبعة الثانية عام 1423. - جمهرة الأمثال، لأبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري، أحمد بن عبد السلام وأبو هاجر محمد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1408. - جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1429. - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية، علي بن حسن بن ناصر وآخرون، دار العاصمة، الطبعة الثانية، عام 1419.

(2/1075)


- الجواهر المضية في طبقات الحنفية، لأبي محمد عبد القادر بن محمد ابن أبي الوفاء القرشي، عبد الفتاح بن محمد الحلو، دار هجر للطباعة والنشر، الطبعة الثانية عام 1413. - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن قيم الجوزية، زائد بن أحمد النشيري، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1428. - حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح، لأحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي، محمد بن عبد العزيز الخالدي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1418. - حاشية العدوي شرح كفاية الطالب الرباني، لعلي بن أحمد الصعيدي العدوي، أحمد حمدي إمام، مطبعة المدني ومكتبة الخانجي، الطبعة الأولى عام 1407. - حاشية العطار على جمع الجوامع، للشيخ حسن العطار، مصورة دار الكتب العلمية. - حاشية عميرة، مصوَّرة عن طبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثالثة عام 1375. - الحاوي الكبير، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1414. - حديث محمد بن عبد الله الأنصاري، للأنصاري نفسه، مسعد عبد الحميد محمد السعدني، أضواء السلف، عام 1418. - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1409. - الخطب والمواعظ، لأبي عبيد القاسم بن سلام، رمضان عبد التواب، مكتبة الثقافة الدينية. - درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الثانية عام 1411. - الدراية في تخريج أحاديث الهداية، لأحمد بن علي بن محمد ابن حجر العسقلاني، السيد عبد الله هاشم يماني، دار المعرفة.

(2/1076)


- دلالات الألفاظ عند شيخ الإسلام ابن تيمية جمعًا وتوثيقًا ودراسة، تأليف: عبد الله بن سعد آل مغيرة، دار كنوز إشبيليا، الطبعة الأولى عام 1431. - دلائل النبوة، لأحمد بن الحسين بن علي البيهقي، عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1408. - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لإبراهيم بن نور الدين الشهير بابن فرحون، مأمون بن محيي الدين الجنان، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1417. - ديوان امرئ القيس، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، الطبعة الخامسة، بدون تأريخ طباعة. - ديوان جميل بثينة، دار صادر، بدون تأريخ طباعة. - ديوان عنترة بن شداد، محمد سعيد مولوي، المكتب الإسلامي، بدون تأريخ طباعة. - ذيل طبقات الحنابلة، لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد ابن رجب، عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى عام 1425. - رجال صحيح مسلم، لأبي بكر أحمد بن علي بن منجويه الأصبهاني، عبد الله الليثي، دار المعرفة، 1407. - الرد على الإخنائي أو الإخنائية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد بن يونس العنزي، دار الخراز، الطبعة الأولى عام 1420. - الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق، لشيخ الإسلام ابن تيمية، علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1429. - الرد على المنطقيين أو نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، عبد الصمد شرف الدين الكتبي، وراجعه: محمد طلحة بلال مينار، مؤسسة الريان، الطبعة الأولى عام 1426. - رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية، الرئاسة العامة للإفتاء، عام 1413.

(2/1077)


- رفع اليدين في الصلاة، لابن قيم الجوزية، علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1431. - الروايتين والوجهين (المسائل الفقهية)، للقاضي أبي يعلى، عبد الكريم بن محمد اللاحم، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى عام 1405. - الروايتين والوجهين (المسائل الأصولية)، للقاضي أبي يعلى الحنبلي، عبد الكريم بن محمد اللاحم، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى عام 1405. - الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، لعبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى عام 1387. - زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة عام 1407. - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ومكتبة المنار الإسلامية، الطبعة السابعة والعشرون عام 1414. - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، تأليف محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، طبعة جديدة منقحة عام 1415. - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى الجديدة عام 1412. - السنة، لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، عطية الزهراني، دار الراية، الطبعة الأولى عام 1410. - السنة، لعمرو بن أبي عاصم، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى عام 1400. - السنن، لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني، شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى عام 1424. - السنن، لأبي داود سليمان بن لأشعث السجستاني، المكتبة العصرية، بدون تأريخ طباعة.

(2/1078)


- السنن، لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني الشهير بابن ماجه، بشار عواد معروف، دار الجيل، الطبعة الأولى عام 1418. - السنن الصغير، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، عبد المعطي أمين قلعجي، جامعة الدراسات الإسلامية بكراتشي، الطبعة الأولى عام 1410. - السنن الكبرى، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى عام 1421. - السنن الكبير، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، عبد الله بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع دار هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، الطبعة الأولى، 1432. - سنن النسائي (المجتبى)، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، مشهور حسن آل سلمان، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى. - سنن سعيد بن منصور (التفسير)، سعد بن عبد الله الحميِّد، دار الصميعي، طبع مفرقًا في عدة سنوات. - السنن لسعيد بن منصور بن شعبة المكي، حبيب الرحمن الأعظمي، الدار السلفية، الطبعة الأولى عام 1403. - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى 1429. - سير أعلام النبلاء، لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيبد الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية عام 1402. - السيرة النبوية، لأبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري، مصطفى السقا وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بدون تأريخ. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن أحمد العكري، عبد القادر الأرنؤوط ومحمود الأرنؤوط، دار بن كثير، الطبعة 1406.

(2/1079)


- شرح أدب الكاتب، لأبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، طيبة حمد بودي، مطبوعات جامعة الكويت، الطبعة الأولى عام 1415. - شرح الأصبهانية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد بن عودة السعوي، مكتبة دار المنهاج ودار جودة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى عام 1430. - شرح الزركشي على مختصر الخرقي، لشمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي، عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى عام 1413. - شرح السنة، للحسين بن مسعود البغوي، شعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1403. - شرح الكوكب المنير، لابن النجار الفتوحي، محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، الطبعة الثانية 1418. - شرح حديث النزول، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار العاصمة، الطبعة الأولى عام 1414. - شرح علل الترمذي، لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد ابن رجب، نور الدين عتر، دار العطاء، الطبعة الرابعة عام 1421. - شرح عمدة الفقه (كتاب الطهارة والصلاة والمناسك)، لشيخ الإسلام ابن تيمية، صالح بن محمد الحسن وآخر، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى. عام 1413. - شرح مختصر الروضة، لنجم الدين سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي، عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى عام 1407. - شرح معاني الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، محمد زهري النجار ومحمد سيد جاد الحق، عالم الكتب، الطبعة الأولى عام 1414. - الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد بن عبد الحلواني ومحمد كبير شودري، دار رمادي للنشر، الطبعة الأولى عام 1417. - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي، عز الدين ضلي وآخرين، مؤسسة الرسالة ناشرون، الطبعة الأولى عام 1429.

(2/1080)


- صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، نظر محمد الفاريابي، دار قرطبة، الطبعة الثانية عام 1430. - صحيح وضعيف أبي داود (الأم)، لمحمد ناصر الدين الألباني، دار غراس للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى عام 1423. - الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية، لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي، محمد بن خالد الفاضل، مطبوعات وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة الأولى عام 1434. - الصفدية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية عام 1406. - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة، لابن قيم الجوزية، علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الطبعة الثالثة 1418. - الضعفاء، لأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي، حمدي بن عبد المجيد السلفي، دار الصميعي، الطبعة الأولى عام 1420. - طبقات الحنابلة، للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى، عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، دارة الملك عبد العزيز، الطبعة الأولى عام 1419. - طبقات الشافعية، لعماد الدين إسماعيل بن عمر ابن كثير، عبد الحفيظ منصور، دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى. - طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي، محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1413. - طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، إحسان عباس، دار الرائد العربي، بدون تأريخ. - طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي، إحسان عباس، دار الرائد العربي، بدون دار طباعة ولا تأريخ.

(2/1081)


- طبقات الفقهاء الشافعية، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح، محيي الدين علي نجيب، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى عام 1413. - الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد الزهري، علي محمد عمير، مكتبة الخانجي، الطبعة الأولى عام 1421. - طبقات المعتزلة، لأحمد بن يحيى بن المرتضى، سوسنة ديلقد، بيروت، عام 1380. - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية، نايف بن أحمد الحمد، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1428. - العبر في خبر من غبر، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية. - العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى الفراء، ت. أحمد بن علي بن سير المباركي، بدون ناشر، الطبعة الثانية 1410. - العقود الدرية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن عبد الهادي المقدسي، علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، الطبعة الأولى عام 1432. - العلل، لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، فريق من الباحثين، الطبعة الأولى، عام 1427 هـ. - علل الترمذي الكبير، بترتيب أبي طالب القاضي، السيد صبحي السامرائي وآخرين، عالم الكتب ومكتبة النهضة العربية، الطبعة الأولى عام 1409. - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، إرشاد الحق الأثري، إدارة ترجمان السنة، بدون تأريخ طباعة. - العلل الواردة في الأحاديث النبوية، لأبي الحسن الدارقطني، محفوظ الرحمن زين الله، دار طيبة، الطبعة الأولى عام 1405، وأكمل التحقيق: محمد صالح الدباس، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى عام 1427.

(2/1082)


- العلو للعلي الغفار، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، أشرف عبد المقصود، مكتبة أضواء السلف، الطبعة الأولى. - غرائب حديث الإمام مالك بن أنس، لأبي الحسين محمد بن المظفر البزاز، رضا بن خالد الجزائري، دار السلف، الطبعة الأولى عام 1418. - الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل أبي حنيفة، لأبي حفص عمر الغزنوي، مكتبة الإمام أبي حنيفة. - غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، محمد عبد المعيد خان، مصورة دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الأولى عام 1384. - غريب الحديث، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، عبد الله الجبوري، مطبعة الداني، الطبعة الأولى عام 1397. - الغريب المصنف، لأبي عبيد القاسم بن سلام، محمد المختار العبيدي، طبع المجمع التونسي للعلوم والآداب ودار سحنون، الطبعة الثانية عام 1416. - الفتاوى العراقية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، عبد الله بن عبد الصمد المفتي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى عام 1425. - الفتاوى الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد ومصطفى ابنا عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1408. - فتح الباب في الكنى والألقاب، لأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني، نظر محمد الفاريابي، مكتبة الكوثر، 1417. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، تصوير دار المعرفة. - فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لأبي الفرج ابن رجب، محمود شعبان عبد المقصود وآخرين، مكتبة الغرباء الأثرية، الطبعة الأولى عام 1417.

(2/1083)


- فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي، لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، علي حسين علي، مكتبة السنة، الطبعة الأولى. - الفروع، لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي، عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة ودار المؤيد، الطبعة الأولى عام 1424. - الفروق، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس الشهير بالقرافي، عمر بن حسن القيام، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى عام 1424. - الفصول في الأصول، لأحمد بن علي الرازي الجصاص، عجيل جاسم النشمي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية دولة الكويت، الطبعة الأولى. - الفقيه والمتفقه، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي، عادل بن يوسف العزازي، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى عام 1417. - الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، لأحمد بن غنيم النفراوي، رضا فرحات، مكتبة الثقافة الدينية. - فوائد أبي محمد الفاكهي، لأبي محمد عبد الله بن محمد بن إسحاق الفاكهي، محمد بن عبد الله الغياثي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى عام 1419. - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن علي الشوكاني، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، المكتبة الفيصلية، بدون تأريخ. - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ربيع بن هادي المدخلي، مكتبة الفرقان، الطبعة الأولى عام 1422. - قاعدة في المحبة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، فواز أحمد الزمرلي، المكتب الإسلامي ودار ابن حزم، الطبعة الأولى عام 1420. - القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تصوير دار الجيل. - القواطع في أصول الفقه، لأبي المظفر منصور بن محمد السمعاني، صالح سهيل حمودة، در الفاروق، الطبعة الأولى عام 1432. - القواعد الكلية المسماة بالقواعد النورانية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محيسن بن عبد الرحمن المحيسن، مكتبة التوبة، الطبعة الأولى عام 1423.

(2/1084)


- الكافي، للشيخ محمد بن يعقوب الكليني، منشورات الفجر، الطبعة الأولى عام 1428. - الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، سهيل زكار ويحيى غزاوي، دار الفكر، الطبعة الثالثة عام 1409. - كتاب التوحيد، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، مكتبة الرشد، الطبعة الخامسة عام 1414. - كتاب المحن، لأبي العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي، يحيى وهيب الجبوري، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثالثة عام 1427. - كتاب رفع اليدين في الصلاة، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، بديع الدين الراشدي، دار ابن حزم، الطبعة الأولى عام 1416. - كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري، عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1418. - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني، أحمد القلاش، مؤسسة الرسالة، الطبعة السابعة عام 1418. - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لمصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة، دار إحياء التراث العربي، دون تأريخ. - الكلام على مسألة السماع، لابن قيم الجوزية، راشد بن عبد العزيز الحمد، دار العاصمة، الطبعة الأولى عام 1409. - اللباب في الجمع بين السنة والكتاب، لأبي محمد علي بن زكريا المنبجي، محمد فضل المراد، دار القلم، الطبعة الثانية عام 1414. - اللباب في علل البناء والإعراب، لأبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري، غازي مختار طليمات، دار الفكر، الطبعة الأولى عام 1995 م.

(2/1085)


- لسان العرب، لمحمد بن مكرم ابن منظور، دار صادر، الطبعة الأولى. - لسان الميزان، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الاسلامية، الطبعة الأولى عام 1423 - اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، محيي الدين مستو ويوسف بن علي بديوي، دار الكلم الطيب ودار ابن كثير، الطبعة الأولى عام 1416. - ما رواه الأكابر عن مالك بن أنس، لمحمد بن مخلد العطار، عواد الخلف، مؤسسة الريان، الطبعة الأولى عام 1416. - المبسوط، لشمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي، دار المعرفة، عام 1414. - المجروحين من المحدثين، لأبي حاتم محمد بن حبان البستي التميمي، حمدي عبد المجيد السلفي، دار الصميعي، الطبعة الأولى عام 1420. - مجلة الجامعة الإسلامية، العدد (81 - 82)، موقع الجامعة الإسلامية على الشبكة المعلوماتية. - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الرحمن بن محمد بن سليمان المشهور بشيخي زاده، ت. خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية، عام 1419. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي، بدون تأريخ. - مجمل اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية عام 1406. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وساعده ابنُهُ محمد، طبع في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، عام 1416. - مجموعة الرسائل والمسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد رشيد رضا، لجنة التراث العربي.

(2/1086)


- المحرر في الفقه، لمجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله ابن تيمية، مكتبة المعارف، الطبعة الثانية عام 1404. - المحلى في شرح المجلى بالحجج والآثار، لأبي محمد علي بن أحمد ابن حزم، اعتنى به: حسن عبد المنان، بيت الأفكار الدولية، بدون تأريخ. - المخارج في الحيل، لمحمد بن الحسن، مكتبة الثقافة الدينية، عام 1419. - مختصر اختلاف العلماء، لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص، عبد الله نذير أحمد، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى عام 1416. - مختصر الخرقي في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي القاسم عمر بن الحسين الخرقي، محمد بن عبد الرحمن آل إسماعيل، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى عام 1408. - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة لابن قيم الجوزية، اختصار محمد الموصلي، الحسن بن عبد الرحم العلوي، مكتبة أضواء السلف، الطبعة الأولى عام 1425. - مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، اختصار لأبي عبد الله محمد بن علي البعلي، عبد المجيد سليم، تصوير دار الكتب العلمية، بدون تأريخ. - مختصر المزني في فروع الشافعية، لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وضع حواشيه: محمد عبد القادر شاهين، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1419. - المختصر النصيح في تهذيب الكتاب الجامع الصحيح، للمهلب ابن أبي صفرة، أحمد بن فارس السلوم، دار التوحيد ودار أهل السنة، الطبعة الأولى عام 1430. - المخصص، لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي المعروف بابن سيده، خليل إبراهيم جفال، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى عام 1417. - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية، محمد المعتصم البغدادي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة عام 1416.

(2/1087)


- المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب، لبكر بن عبد الله أبو زيد، دار العاصمة، الطبعة الأولى عام 1417. - المدخل إلى السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، محمد ضياء الرحمن الأعظمي، دار أضواء السلف، الطبعة الثانية عام 1420. - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لعبد القادر بن أحمد بن مصطفى المشهور بابن بدران، ت عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية عام 1401. - المدونة، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1415. - مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات، لابن حزم الظاهري، بعناية: حسن أحمد إسبر، دار ابن حزم، الطبعة الأولى عام 1419. - مرويات الإمام الزهري في المغازي، تأليف: محمد بن محمد العواجي، الطبعة الأولى عام 1425. - مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أشرف بن عبد المقصود، أضواء السلف، الطبعة الأولى عام 1422. - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، برواية ابنه أبي الفضل صالح، فضل الرحمن دين محمد، الدار العلمية، الطبعة الأولى عام 1408. - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، برواية ابنه عبد الله، زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى عام 1401. - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، برواية أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، طارق عوض الله، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الأولى عام 1420. - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، برواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ، زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى عام 1400.

(2/1088)


- مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، برواية إسحاق بن منصور الكوسج، عدة باحثين (رسائل جامعية)، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة، الطبعة الأولى عام 1425. - مسائل الإمام أحمد لحرب الكرماني (من أول كتاب النكاح إلى آخر الكتاب)، فايز بن أحمد حابس، جامعة أم القرى، رسالة علمية. - المسائل الفقهية التي توقف فيها الإمام أحمد، جمع ودراسة أبي العباس الضميري رياض دياب، مكتبة دار المنهاج بالرياض، الطبعة الأولى عام 1433. - المسائل الفقهية التي حُكِيَ فيها رجوع الصحابة - رضي الله عنهم -، للدكتور خالد الصُّمِّي بابطين، دار ابن القيم ودار ابن عفان، الطبعة الأولى عام 1433. - المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله الحاكم، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، عام 1411. - المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع محمد بن عبد الرحمن ابن قاسم، الطبعة الأولى، عام 1418. - المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، حمزة بن زهير حافظ، بدون تأريخ طباعة. - مسند ابن الجعد، لعلي بن الجعد البغدادي، عبد المهدي بن عبد القادر بن عبد الهادي، مكتبة الفلاح، الطبعة الأولى عام 1415. - مسند أبي عوانة، ليعقوب بن إسحاق الإسفراييني، أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، الطبعة الأولى عام 1419. - مسند أبي يعلى، لأحمد بن علي بن المثنى الموصلي، حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى عام 1404. - مسند الإمام أحمد بن حنبل، جماعة من المحققين بإشراف شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، عام 1420.

(2/1089)


- مسند الإمام الشافعي، ترتيب الأمير أبي سعيد سنجر بن عبد الله الناصري الجاولي، ماهر ياسين الفحل، دار غراس، الطبعة الأولى عام 1425. - مسند الدارمي، لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، حسين سليم أسد، دار المغني، الطبعة الأولى عام - مسند الشاشي، لأبي سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الأولى عام 1414. - مسند الشاميين، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى عام 1405. - مسند الطيالسي، لأبي داود سليمان بن داود الطيالسي، محمد بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع دار هجر، الطبعة الأولى عام 1419. - مسند الفاروق وأقواله على أبواب العلم، لحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير، إمام بن علي بن إمام، دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، الطبعة الأولى عام 1430. - المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، محمد حسن الشافعي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1417. - المسوَّدة في أصول الفقه، لآل تيمية، أحمد بن إبراهيم الذروي، دار الفضيلة، الطبعة الأولى عام 1422. - مشكل الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة المعروف بالطحاوي، شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1415. - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، لأحمد بن أبي بكر البوصيري، موسى محمد علي وعزت علي عطية، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الأولى عام 1405. - المصباح المضي في كُتَّاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي، لأبي عبد الله ابن حديدة الأنصاري، محمد عظيم الدين، دار عالم الكتب، طبع عام 1405.

(2/1090)


- المصنف، لأبي بكر عبد الله بن محمد ابن أبي شيبة، محمد عوامة، شركة دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن، الطبعة الأولى عام 1427. - المصنف، لعبد الرزاق بن همام الصنعاني، حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، عام 1403. - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لأحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، مجموعة رسائل علمية قدمت لجامعة الإمام محمد بن سعود، تنسيق: د. سعد بن ناصر الشثري دار العاصمة ودار الغيث، الطبعة الأولى عام 1419. - المطلع على أبواب المقنع، لمحمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي، محمد بشير الأدلبي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة 1421. - المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، خليل الميس، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1403. - معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)، لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى عام 1414. - معجم البلدان، لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، تصوير دار صادر، عام 1397. - المعجم الكبير، لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حمدي بن عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية عام 1406. - معجم المؤلفين (تراجم مصنفي الكتب العربية)، لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى عام 1414. - معجم شيوخ الطبري الذين روى عنهم في كتبه المسندة المطبوعة، أكرم بن محمد الفالوجي الأثري، الدار الأثرية ودار ابن عفان، الطبعة الأولى عام 1426. - معرفة السنن والآثار، لأحمد بن الحسين البيهقي، عبد المعطي أمين قلعجي، جامعة الدراسات الإسلامية ودار الوعي، الطبعة الأولى عام 1415.

(2/1091)


- معرفة الصحابة، لأبي نعيم الأصبهاني، عادل بن يوسف العزازي، دار الوطن للنشر، الطبعة الأولى عام 1419. - معرفة أنواع علم الحديث، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح، عبد اللطيف الهميم وماهر الفحل، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1423. - المعرفة والتاريخ، لأبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي، أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية عام 1401. - معطية الأمان من حنث الأيمان، لعبد الحي بن أحمد ابن العماد الحنبلي، عبد الكريم بن صنيتان العمري، المكتبة العصرية الذهبية، الطبعة الأولى عام 1416. - المغازي، لمحمد بن عمر بن واقد، مارسدن جونس، عالم الكتب، الطبعة الثالثة عام 1404. - المغني، لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة المقدسي، عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، دار عالم الكتب، الطبعة الثالثة عام 1417. - المفصَّل في صنعة الإعراب، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، علي بوملحم، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى عام 1993 م. - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، صححه وعلَّق عليه: عبد الله بن محمد الصديق الغماري، تصوير دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1399. - مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، عبد السلام هارون، دار الجيل، الطبعة الأولى، عام 1411. - المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات، لأبي الوليد محمد بن أحمد ابن رشد، محمد حجي، دار الغرب، الطبعة الأولى عام 1408.

(2/1092)


- المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، لبرهان الدين إبراهيم بن محمد ابن مفلح، عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى عام 1410. - المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة المقدسي، محمود الأرنؤوط وياسين الخطيب، مكتبة السوادي للتوزيع، الطبعة الأولى عام 1421. - مناقب الإمام الشافعي، لأبي الحسن محمد بن الحسين الآبري، جمال عزون، الدار الأثرية، الطبعة الأولى عام 1430. - مناقب الإمام الشافعي، لفخر الدين محمد بن عمر الرازي، أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، الطبعة الأولى عام 1406. - مناقب الشافعي، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث، الطبعة الأولى عام 1390. - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، محمد ومصطفى ابنا عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1412. - المنتقى شرح موطأ إمام دار الهجرة، لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد الباجي، تصوير دار الكتاب الإسلامي (طبعة دار السعادة)، الطبعة الأولى عام 1332. - المنتقى لابن الجارود، لأبي محمد عبد الله بن علي ابن الجارود، أبي إسحاق الحويني، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى عام 1408. - المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال، لأبي عبد الله محمد بن عثمان الذهبي، محب الدين الخطيب، وزارة الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد، عام 1418. - منح الجليل شرح مختصر خليل، لمحمد بن أحمد بن محمد عليش، دار الفكر، عام 1409.

(2/1093)


- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، محمد رشاد سالم، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الثانية، عام 1411. - منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح، تأليف: أبو بكر كافي، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1422. - المهذب في اختصار السنن الكبير، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، دار المشكاة للبحث العلمي بإشراف أبي تميم ياسر بن إبراهيم، دار الوطن، الطبعة الأولى عام 1422. - الموافقات، لإبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشهير بالشاطبي، مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى عام 1417. - موافقة الخُبر الخَبر في تخريج أحاديث المختصر، للحافظ علي بن أحمد بن حجر العسقلاني، حمدي السلفي وصبحي السامرائي، مكتبة الرشد، الطبعة الثالثة عام 1419. - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمد بن محمد المعروف بالحطاب الرعيني، زكريا عميرات، دار عالم الكتب، بدون تأريخ طباعة. - موسوعة أقوال الإمام أحمد في رجال الحديث وعلله، جمع وترتيب: أبو المعاطي النوري وآخرين، عالم الكتب، الطبعة الأولى عام 1417. - موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (مسائل الإجماع في أبواب النكاح)، إعداد: ظافر بن حسن العمري، دار الهدي النبوي ودار الفضيلة، الطبعة الأولى عام 1433. - موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، سعدي أبو جيب، دار الفكر، الطبعة الرابعة عام 1432. - الموضوعات من الأحاديث المرفوعات، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، نور الدين بن شكري بن علي بوياجيلار، أضواء السلف ومكتبة التدمرية، الطبعة الأولى عام 1418.

(2/1094)


- الموطأ لإمام دار الهجرة مالك بن أنس، برواية يحيى بن يحيى الليثي، بشار عواد معروف، دار الغرب، الطبعة الثانية عام 1417. - الموطأ لمالك بن أنس، برواية يحيى بن يحيى الليثي، بشار عواد معروف، دار الغرب، الطبعة الثانية عام 1417. - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، علي محمد البجاوي، دار المعرفة. - الناسخ والمنسوخ من الحديث، لأبي حفص عمر بن أحمد المعروف بابن شاهين، علي محمد معوض وعادل بن أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1412. - النبوات، لشيخ الإسلام ابن تيمية، عبد العزيز بن صالح الطويان، أضواء السلف، الطبعة الأولى عام 1420. - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لجمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي، محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى عام 1413. - النشر في القراءات العشر، لشمس الدين محمد بن محمد ابن الجزري، علي محمد الضباع، تصوير دار الكتب العلمية، بدون تأريخ. - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، لأبي محمد الزيلعي، ومعه: حاشية بغية الألمعي في تخريج الزيلعي، عناية: محمد عوامة، مؤسسة الريان للطباعة والنشر ودار القبلة للثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى عام 1418. - نصرة القولين للإمام الشافعي، لأبي العباس أحمد بن أبي أحمد المعروف بابن القاص، مازن بن سعد الزبيي، الطبعة الأولى عام 1430. - نقد مراتب الإجماع، لشيخ الإسلام ابن تيمية، حسن أحمد إسبر، دار ابن حزم، الطبعة الأولى عام 1419.

(2/1095)


- نهاية السول شرح منهاج الوصول، لجمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، مطبعة محمد علي صبيح، بدون تأريخ طباعة. - نهاية المطلب في دراية المذهب، لأبي المعالي الجويني، عبد العظيم الديب، دار المنهاج، الطبعة الثالثة عام 1432. - نوادر الأصول في معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأبي عبد الله محمد بن علي الشهير بالحكيم الترمذي، توفيق محمود تكلة، دار النوادر، الطبعة الأولى عام 1431. - الهداية على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، عبد اللطيف هميم وماهر بن ياسين الفحل، دار غراس، الطبعة الأولى عام 1425. - الواسطة بين الحق والخلق، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تقديم محمد جميل زينو وتمهيد محمود مهدي استانبولي، بدون دار نشر ولا تأريخ. - الوفيات، لأبي العباس أحمد بن حسن بن الخطيب الشهير بابن قنفذ، عادل نويهض، دار الأفاق الجديدة، الطبعة الرابعة عام 1403. - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، إحسان عباس، دار صادر، طبع مفرقًا. * * * *

(2/1096)