الرحمة بالأطفال من المنظور الشرعي
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
الرحمة بالأطفال من المنظور الشرعي
عبد الله بن سعد الفالح
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الرحمة بالأطفال من المنظور الشرعي
الحمد لله الذي كتب على نفسه الرحمة، وأصلي وأسلم على من كان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا.
وبعد:
فإن الرحمة خلق عظيم وطبع نبيل لا يتصف بها إلا العظماء، ولا يتخلى عنها إلا الجبابرة الأذلاء؛ ولذا فقد اتصف الرب جل وعلا بها، وبها اتصف المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكانت سمة بارزة في دين الحنيفية السمحة، واتصف بها عباد الله المؤمنون الصادقون.
وإليك بيان ذلك في نقاط مختصرة:
1- الرحمة من صفات الله عز وجل:
قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[الأنعام: 54].
ويقول جل وعلا: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾[الأحزاب: 43] وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم سبي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟» قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جعل الله الرحمة في مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» رواه البخاري.
فهذه النصوص دليل على أن الله رحيم يتصف بالرحمة على الوجه اللائق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.
ولكن ينبغي التنبيه أنه لا ينبغي للمسلم أن يقع في المعاصي اتكالاً على رحمة الله، فإن من صفات الله كذلك أنه شديد العقاب.
قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾[الحجر: 49، 50].
فليحذر المسلم، وليكن خائفًا من عذاب الله وأليم عقابه راجيًا مغفرته ورحمته.
قال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[الأعراف: 56] وقال سبحانه: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه: 82].
2- رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
لقد وصف الله نبينا وحبيبنا وقدوتنا سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - بخلق الرحمة والرأفة والشفقة ولين الجانب، وهذا دليل على أن هذا الخلق لا يتصف به إلا العظماء، ولا يتخلى عنه إلا الأقزام النذلاء.
قال الله عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة: 128].
وقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[آل عمران: 159].
3- الإسلام دين الرحمة واليسر:
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107] وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[الحج: 78].
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس: 57، 58].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» رواه البخاري.
4- الرحمة من صفات المؤمنين:
وصف الله عباده المؤمنين بهذا الخلق النبيل؛ قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..﴾ [الفتح: 29].
وقال تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾[المائدة: 54].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» متفق عليه.
وهذا يدل على التواد والتراحم بين المؤمنين، أما على الكافرين فهو الشدة والعزة، وكلما كان الإيمان في قلب المؤمن كملت رحمته بعباد الله عز وجل، بل حتى بالحيوان فإن المؤمن يرحمه وله بذلك أجر كما في الحديث.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له» فقالوا يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرًا فقال: «في كل كبد رطبة أجر» متفق عليه.
فهذا هو دين الإسلام دين الرحمة والشفقة بالإنسان بل الحيوان، وقد سبق أصحاب جمعيات الرفق بالحيوان المزعومة، وقتلة الإنسان وتشريد الأطفال والنساء.
حاجة المربي إلى الرحمة:
لما كان الأنبياء عليهم من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم معلمين ومربين ودعاة إلى الله ومصلحين، رباهم الله وصنعهم على عينه، وجعلهم من أحسن الناس خلقًا وأكثرهم رحمة وشفقة، ولما لرعي الغنم من أثر في تهذيب النفس وترقيق الطبع بعكس ما عليه رعاة الإبل من الكبر وجفاء الطبع ألهم الله الأنبياء رعي الغنم، يقول- صلى الله عليه وسلم -: «ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم» فقال أصحابه وأنت؟ فقال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» رواه البخاري.
قال ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم من الحلم والشفقة ا.هـ.
ولقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الناس خلقًا وأنبلهم طبعًا وأكثرهم شفقة ورحمة - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾[آل عمران: 159].
فهذا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - المؤيد من ربه بالمعجزات لو كان فظًّا غليظ القلب لانفض الناس عنه وتركوه فكيف بغيره؟ فما أحوج المربي إلى الأخلاق الطيبة من الرحمة والشفقة والرفق والحلم والأناة وغيرها من كريم الأخلاق ولين الطباع.
وخاصة من يتعامل مع الأطفال فهم أحوج الناس إلى اللطف والشفقة والرفق والرحمة لأنهم من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.
ولذا أولاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عناية خاصة ورعاية حانية، يقول أنس رضي الله عنه: «ما رأيت أحدًا أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم واحدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لا يرحم لا يرحم» رواه مسلم وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا» صحيح الجامع الصغير.
عن عبدالله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنها قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فحملهما ووضعهما بين يديه وقال: «إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» رواه الترمذي.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من وَجْدِ أمه من بكائه» متفق عليه.
الله أكبر، الصلاة قرة عين النبي - صلى الله عليه وسلم - وراحته يتجوز فيها إذا سمع بكاء الصبي، إنها الرحمة التي أودعت قلبه العظيم - صلى الله عليه وسلم -.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمها ابنتاها، فشقت التمرة التي تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها من النار» رواه مسلم.
فينبغي للمربي أن يتخلق بالأخلاق الحسنة، وأن يكون رحيمًا رفيقًا شفيقًا حليمًا صبورًا سهلاً لينًا قريبًا من المتعلم حريصًا عليه ناصحًا له.
وبذا يقوم بتلك الأمانة العظيمة، ويؤديها خير أداء، وينفع الله بتعليمه وتربيته. وإليك طرقًا من أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في فضل حسن الخلق لعل ذلك يكون دافعًا لنا في مجاهدة النفس في التخلق بالأخلاق الحسنة، فإنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتصبر يصبره الله.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق..» رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» رواه أبو داود.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» رواه مسلم.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل» رواه الترمذي.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا» رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: لأشج عبدالقيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة» رواه مسلم.
وقديمًا قيل: الحلم سيد الأخلاق.
اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأطفال:
إن الملاحِظ لسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مع الأطفال، واهتمامه بهم ليخيل إليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا هم له ولا شأن له إلا الأطفال وهموهم، مع أنه يحمل هموم الأمة كلها في دعوتها إلى الله وتعليمها وتزكيتها فهو الذي أنزل عليه ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾وأنزل عليه : ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾وأنزل عليه ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾وأنزل عليه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾وغيرها من الآيات التي تحمله - صلى الله عليه وسلم - أعباءً وتكاليف جسامًا عظامًا ناءت بحملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها.
ومع ذلك فللطفل من قلبه العظيم نصيب، وله في قلبه الرحيم مكان؛ لأن طفل اليوم رجل الغد، فإذا اهتم بهذا الطفل منذ نعومة أظفاره وسلامة قلبه وفطرته، وربي التربية الصحيحة ونشأ النشأة السليمة - نفعه الله بتلك التربية واستقام على الصلاح والتقوى.
قال الشاعر:
قد ينفع الأدب الأولاد في صغرٍ | ||
وليس ينفعهم من بعده أدبُ | ||
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلتْ | ||
ولا يلينُ ولو لينته الخشبُ | ||
قال قتادة رحمه الله: (الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر) سير أعلام النبلاء (5/275).
ولذا نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - اهتم بالأطفال وبشؤونهم وهموهم مداعبة وتربية وتعليمًا في رحمة وشفقة ولطف ورفق ولين - صلى الله عليه وسلم -.
ومن العجب أن بعض الدعاة وطلاب العلم ممن اشتغل بالدعوة أو بالتعليم أو التأليف ونحو ذلك من أفعال الخير - وهم على خير ونحسبهم كذلك - قصَّروا في حق أهليهم وأسرهم وأطفالهم، فليس لطفله من اهتمامه إلا اليسير إن وجد؛ لأنه مشغول ووقته لا يسمح بذلك، ومن المعلوم أنه لا يمكن لأحد أن يكون أكثر اهتمامًا بالدعوة أو التعليم من محمد - صلى الله عليه وسلم - أخشى الناس لله وأتقاهم وأعلمهم بالله وأزكاهم - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك فللأطفال في قلبه مكان، ولأهله من اهتمامه نصيب.
وهو القائل: «خيركم خيرك لأهله وأنا خيركم لأهلي» رواه ابن ماجة وابن حبان.
فالواجب على المربين والمعلمين والدعاة والمصلحين أن يهتدوا بهديه ويقتدوا بسنته ويسيروا على نهجه - صلى الله عليه وسلم -.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب: 21].
فليأخذوا من معين التربية الصافي ممن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، من معلم البشرية - صلى الله عليه وسلم - والذي تخرج على يديه خير القرون وأفضلهم صحابته رضي الله عنهم، الذين ما عرف على وجه الأرض بعد الأنبياء أفضل منهم رضي الله عنهم وأرضاهم.. فلنأخذ أصول التربية والتعليم من محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام.
يقول الإمام مالك رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).
ولندع عنا أفكار ونظريات قوم لا خلاق لهم ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾[الفرقان: 44] يوصفون في الدنيا بأنهم أصحاب الفكر والعقل وفي الآخرة: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك: 10] فلنعد لسيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لنهتدي بهديه، ونسير على نهجه، ونستلهم منه طرق التربية وأصولها، فهو معلم البشرية أحسن الناس تعليمًا، وأنجحهم تربية وتأديبًا.
يقول معاوية بن الحكم عنه - صلى الله عليه وسلم -: «فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه..» رواه مسلم، ففي سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وسير أصحابه والسلف الصالح غنية عن أفكار أولئك وسفه أحلامهم.
صور من تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأطفال ورحمته بهم
1- السلام عليهم:
السلام اسم من أسماء الله عز وجل فيه البركة والخير والأمان من كل آفة وشر، نشره وإفشاؤه في المجتمع يؤدي إلى التحاب والتواد والألفة، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» رواه مسلم.
ولذا كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - السلام على الصبيان، عن أنس رضي الله عنه أنه مر بصبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. متفق عليه.
فكم سيكون للسلام على الصبي من أثر في نفسه إذا سلم عليه المعلم والمربي!! وكم سيورث من الحب لذلك المعلم والإصغاء لنصحه وتوجيهه!!
فينبغي على المعلم إذا دخل الفصل ولو في الصفوف الأولية أو ما قبل ذلك أن يسلم على طلابه الصغار، وإذا مر بهم فليسلم اقتداءً بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
2- لعب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصبيان ومداعبتهم:
إن للعب عند الأطفال شأنًا عظيمًا، وإن كنا نراه لعبًا ولهوًا، إلا أنه عندهم جد وحزم، وهو في غير مأثم فيه فوائد كثيرة للطفل، ففيه التسلية والمتعة والتدريب وتقوية الجسم والابتكار والإبداع واكتساب المهارات وتفتق الذهن والعقل.
فإياك أن تستهين به، فتصادم فطرهم وتصادر حرياتهم، ولهذا أثره على تنشئتهم، فاللعب جزء من حياة الطفل، وأصل من أصولها، والمربي الناجح من أب ومعلم هو الذي يعترف بلعب الأطفال ويحترمه، بل يشارك الأطفال لعبهم، ولكنه يوجهه إلى اللعب المفيد، ويبعدهم عن الألعاب الضارة في الدين أو الدنيا، فمن باب اللعب وأثناء اللعب يكون التوجيه والتربية، فالتربية للأطفال ليست محاضرة تقال ولا كلمة عابرة وينتهي الأمر عند ذلك، بل التربية ميدانها أوسع ومجالها أرحب، فاللعب من ميادينها، والرحلة والنزهة والمواقف والوقائع من أرحب ميادينها وأوسعها.
فلذا نجد معلم البشرية - صلى الله عليه وسلم - ومربيها اهتم بلعب الأطفال بل شاركهم في لعبهم - صلى الله عليه وسلم -.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدلع لسانه للحسن بن علي فيرى الصبي حمرة لسانه فيهش له سلسلة الأحاديث الصحيحة (70).
وعن عمر رضي الله عنه قال: رأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما على عاتقي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: نعم الفرس تحتكما، فقال عليه الصلاة والسلام. «ونعم الفارسان هما» رواه أبو يعلى.
وعن عبدالله بن الحارث رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصف عبدالله وعبيدالله وكثير بني العباس رضي الله عنهم، ثم يقول من سبق فله كذا وكذا، قال فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره، فيقبلهم ويلتزمهم. رواه أحمد.
وكانت عائشة رضي الله عنها «تلعب بالبنات وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسربهن إليها لتلعب معهن» متفق عليه.
وعن محمود بن الربيع قال: عقلت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجة مجها في وجهي من دلو بئر كانت في دارنا، وأنا ابن خمس سنين. رواه البخاري ومسلم.
ومر - صلى الله عليه وسلم - على نفر من أسلم ينتضلون بالسوق فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا، ارموا وأنا مع بني فلان، فأمسك أحد الفريقين عن الرمي، فقال :- صلى الله عليه وسلم - ما لكم لا ترمون؟ فقالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم» رواه البخاري.
فإلى أولئك الذين لا يعرفون من التعليم والتربية إلا ما في قاعة المحاضرات وداخل الفصول، وربما بعبارات جافة وكلمات نابية، وإلى أولئك الذين شغلوا بالدعوة والتعليم عن أهليهم وأسرهم واللعب مع أطفالهم - سقت هذه النصوص؛ ليعلموا أن ميدان التربية والتعليم أوسع وأرحب من الفصول وقاعات المحاضرات، فاللعب أسلوب من أساليب تعليم الطفل وتربيته، والجلسة مع الأهل والأسرة أسلوب من أساليب الدعوة والتوجيه والتربية.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..﴾ الأحزاب: 21].
ولقد اقتدى به أصحاب رضي الله عنهم فهذا الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي، فإذا التُمس ما عنده وُجد رجلاً» رواه ابن أبي الدنيا، أي يكون في الأنس وطلاقة الوجه والخلق الكريم والمداعبة لأولاده كالصبي، فإذا احتاج الأطفال للأدب فإذا هو رجل.
3- مراعاة الأطفال والاهتمام بشؤونهم وعدم احتقارهم:
كان - صلى الله عليه وسلم - لا يحتقر الأطفال ولا يقلل من شأنهم ولو في الأمور السهلة البسيطة فهي عند الكبار أمور تافهة لا يؤبه لها، لكن لها عند الصغير شأنًا عظيمًا؛ ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الطفل وعن اهتماماته.
فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير، وكان له نغر صغير يلعب به فمات، فدخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فرآه حزينًا، فقال ما شأنه؟ قالوا: مات نغره، فقال يا أبا عمير ما فعل النغير؟ رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام، وفي رواية: أصغر القوم، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟» فقال الغلام: والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا، فتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده.
الله أكبر، النبي يستأذن غلامًا صغيرًا، وقد ورد أنه ابن عباس رضي الله عنهما، ومع ذلك لا يؤثر بنصيبه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا، ويقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عند رغبة الغلام، كم لهذا من أثر في نفس هذا الغلام من إشعاره أنه رجل، وأنه يستأذن، وأن له قيمته وأهميته في المجتمع !!
ولذا أثرت هذه التربية في نفسية ابن عباس رضي الله عنهما، فخلف الأشياخ في العلم والتعليم والتربية، فكان رضي الله عنهما عالم الأمة وحبرها وبحرها الزاخر بالعلم، وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه.
ولما لم يجد كثير من شبابنا اليوم مثل هذا الاهتمام من المربي من أب ومعلم حاول أن يعبر عن قيمته وأهميته، وأنه أصبح رجلاً بالتدخين تارة والتفحيط أخرى، أو التمرد على الوالدين والمعلم، أو ضرب إخوانه الصغار والسيطرة عليهم، وغير ذلك من التصرفات ليشعر المجتمع والأسرة أنه رجل له قيمته وأهميته.
وما هكذا يا سعد تورد الإبل، ولكنها التربية الفاشلة في تحطيم الطفل وعدم الاهتمام به وباهتماماته، وإنما هو التحطيم والإهانة فهكذا نشأ، فينبغي للمربي والمعلم احترام الطفل واحترام اهتماماته وميوله ورغباته وتوجيهها الوجهة الصحيحة.
قال ذو الإصبع العدواني لابنه في وصية له: (وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم، يكرمك كبارهم، ويكبر على مودتك صغارهم) ا.هـ.
ومن هاب الرجال تهيبوه | ||
ومن حقر الرجال فلن يهاب | ||
ولعل هذا ينسحب على الأطفال، فمن احترمهم احترموه وأحبوه واستفادوا من تربيته وتعليمه، ومن حقرهم حقروه ولم يصغوا لنصحه وتوجيهه مهما كان أبًا أو معلمًا.
4- تعليم الطفل وتأديبه:
اهتم - صلى الله عليه وسلم - بتعليم الصغار وتأديبهم ما داموا مميزين، فهو القائل - صلى الله عليه وسلم -: «مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» حديث حسن رواه أبو داود.
ودعا - صلى الله عليه وسلم - عليًّا للإسلام وهو ابن عشر سنين، ويقول لابن عباس رضي الله عنهما يا غلام إني أعلمك كلمات: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك..» الحديث رواه الترمذي، وابن عباس رضي الله عنهما عمره إذ اك كان قبل البلوغ؛ لأن الغلام يطلق على الصبي من الفطام إلى البلوغ، ومع ذلك علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الكلمات العظيمة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كخ كخ أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة» البخاري.
وعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنها قال: كنت غلامًا في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك. قال: فما زالت تلك طعمتي» متفق عليه؟
وهكذا التعليم في رفق وشفقة، ما زجره وما نهره، بل بكل رفق (يا غلام سم الله) ولهذا استفاد من هذا الأدب: «فما زالت تلك طعمتي».
يقول أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقًا». متفق عليه.
ويقول: «ولقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا» متفق عليه.
وأنس رضي الله عنه بدأ في خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام عمره عشر سنين فهل يتصور أن غلامًا عمره عشر سنين لا يخطئ؟ ولكنه الخلق الكريم والصفح الجميل عما يمكن الصفح عنه.
يقول الحسن رحمه الله: «ما استقصي كريم قط» زاد المسير (8/309).
ويقول الشافعي رحمه الله: (اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل) أي يفطن للأخطاء ويتغافل عنها كأن لم تكن، وهذا في الأخطاء التي تقبل العفو والتسامح.
ويقول سفيان الثوري رحمه الله: «ما زال التغافل من شيم الكرام» صفوة التفاسير (18/80).
قال الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه | لكن سيد قومه المتغابي |
فإلى أولئك الذين يبحثون عن الزلات بالمناقيش، ويكيلون الصاع صاعين، ويردون السيئة بأقبح منها، ليرجعوا إلى هدي سيد الأنام، وهدي الكرام المتغافلين عن الزلات وأهل الصفح عن السيئات.
فإن تقصي الزلات عامة، وزلات الأطفال خاصة - وهم أهل زلل وخطأ - وتوبيخهم ومعاقبتهم على كل صغيرة وكبيرة، يجعلهم يألفون العتاب والعقاب فلا يتورعون بعد ذلك عن الخطأ والزلل، ولذا لا بد من التغافل عما يمكن التغافل عنه، والتنبيه بعد ذلك بطريق غير مباشر، فهذا أدعى للقبول بإذن الله.
قال الغزالي رحمه الله: «ولا تكثر عليه العتاب في كل حين، فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظًا هيبة الكلام معه لا يوبخه إلا أحيانًا» أقوال في تربية الأولاد، جمع محمد المسند (18).
5- المحافظة على فطرة الطفل وأخلاقه:
يقول - صلى الله عليه وسلم - : «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» متفق عليه.
عن عبدالله بن عامر قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتنا وأنا صبي، فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبدالله تعال أعطك. قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما أردت أن تعطيه» قالت: تمرًا. قال: «إما إنك لو لم تعطيه شيئًا كتبت عليك كذبة» رواه أبو داود.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «ما نحل والد ولدًا أفضل من أدب حسن» رواه أبو داود.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم» رواه ابن ماجه.
ويقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نعلمهم السورة من القرآن) فهذه النصوص دليل على أن المولود يولد على الفطرة، وتوجب على وليه من أب ومربٍّ المحافظة على تلك الفطرة بالأدب الحسن، والبعد عن الأخلاق الرذيلة، وعدم اتصاف المربي بذلك؛ لأنه قدوة يقتدي به الطفل، وبعض الآباء والمربين لا يتورع عن الكذب على الطفل أو إخلاف الوعد معه، وهذا أشد من الكذب على الكبير وإخلاف الوعد معه؛ لأن الكبير قد يقدر الظروف، وإن لم يقدر فلا أقل أن يعرف أنها زلة وخطأ، فلا يقتدي بصاحبها.
أما الصغير فيرى والده ووالدته ومعلمه ومربيه قدوة في كل ما يقول ويفعل حسنًا كان أو سيئًا، ولذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الأم من الكذب على ابنها، وأنها لو لم تعطه كتبت عليها كذبة.
6- الإهداء للأطفال وتشجيعهم:
الأطفال من أشد الناس تأثرًا بالهدية والتشجيع والكلمة الحانية الطيبة، فكم تؤثر في نفوسهم أشد مما تؤثر السياط في جلودهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتي بأول الثمر، فيقول: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي مُدنا وفي صاعنا، بركة على بركة، ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان» رواه مسلم.
وذكر الخطيب في شرف أصحاب الحديث قال: (روى النضر قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بني اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثًا وحفظته فلك درهم، فطلبت الحديث على ذلك.
فينبغي للمربي أن يستعمل الهدية ولو قلت فلها أثرها، والكلمة الطيبة فهي صدقة، والألفاظ المحببة نحو: يا بني يا أخي يا غلام، إني أحبك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «يا معاذ والله إني أحبك، ثم أوصيك، يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول؛ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» رواه أبو داود والنسائي.
ويقول له: إني لك ناصح، كما قال الله عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾الأعراف: 68، أو ص يمسك بيده أو يمسح على رأسه كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن» رواه البخاري.
فمثل هذه الكلمات الطيبة واللمسات الحانية لها أثرها على المتعلم عمومًا وعلى الطفل خصوصًا، وعلى المربي والمعلم أن يبعد عن الألفاظ السيئة التي لا تليق أن تخرج من فيه كمعلم ومربٍّ، ولا تليق أن يوصف بها المتعلم، وعليه أن يتغافل عن الزلات أحيانًا ويعرِّض بذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
يقول الغزالي رحمه الله: (إن من آداب المعلم أن يزجر المتعلم عن سيئ الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ).
ضرب الأطفال من الوجهة الشرعية:
الضرب علاج لبعض النفوس، وجزاء لبعض المخالفات وقد أقره الإسلام في بعض الحدود كالزنا، والقذف، وفي كثير من التعزيرات قال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾[النور: 2] وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾[النور: 4] فلذا لا يجوز إنكاره لأنه حكمٌ عُلِمَ من دين الإسلام بالضرورة.
أما في مجال التربية والتعليم فليس هو السمة البارزة ولا الوسيلة الدارجة، فالأصل في التعليم والتربية الوعظ والإرشاد والتوجيه والتشجيع وتعزيز السلوك، والتنفير من السلوك السيئ، ولا يُلْجَأُ إليه إلا في حدود ضيقة وبشروط معينة، وآخر ما يُفَكَّرُ فيه فهو دواء مر، والدواء المر آخر العلاج كما قيل: (آخر الدواء الكي).
قال تعالى: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾[النساء: 34].
ففي هذه الآية الكريمة يبين الله جل وعلا أن آخر ما يلجأ إليه الزوج في تأديب زوجته الضرب، بعد الوعظ والإرشاد، ثم الهجر، فإذا لم يُجْدِ شيئًا، فله بعد ذلك الضرب غير المبرح.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «مرو أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» رواه أبو داود بإسناد حسن.
ففي هذا الحديث الشريف أمرنا - صلى الله عليه وسلم - بأمر الأولاد بالصلاة، وهم أبناء سبع سنين وهذا الأمر فيه الوعظ والإرشاد والتوجيه، وبيان فضائل الصلاة والتحذير من تركها والتهاون بها، وبيان عقوبة من فعل ذلك، هذا كله خلال ثلاث سنين، وبعدها سوف يحب الطفل الصلاة ويحافظ عليها، ولكن بعض النفوس قد لا تستجيب لذلك، فهنا لا بد من التأديب ولو بالضرب، ولكن بعد أن يبلغ عشر سنين، فهذا يدل على أنه لا يُضرب على شيء من الأوامر وهو أقل من عشر سنين؛ لأن الصلاة هي آكد الأوامر الشرعية، ومع ذلك لا يضرب عليها إلا وهو ابن عشر سنين.
سئل أبو عبدالله الإمام أحمد رحمه الله عن ضرب المعلم للصبيان فقال: «على قدر ذنوبهم، ويتوقى بجهده الضرب، وإن كان صغيرًا لا يعقل فلا يضربه» الآداب الشرعية لابن مفلح.
ومن هديه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم والتربية عدم الضرب، بل التعليم والتأديب بالحسنى والكلام الطيب، كما مر معنا سابقًا في قصة عمر ابن أبي سلمة والحسن عندما أكل التمرة من الصدقة وغير ذلك، وأكثر ما وصل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - شد الأذن.
يقول عبدالله بن بسر: «بعثتني أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطف من عنب فأكلت منه قبل أن أبلغه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جئت أخذ بأذني وقال: يا غدر» كتاب ابن السني.
تقول عائشة رضي الله عنها: «ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادمًا ولا امرأة» الشمائل المحمدية للترمذي.
ضوابط الضرب:
الضرب علاج لا يُلجأ إليه إلا في حدود ضيقة، وضوابط وشروط معينة، فإن طبقت تلك الضوابط نفع الله به، وإلا كان ضرره أكبر من نفعه، فهو كالدواء تمامًا إذا لم تتبع فيه إرشادات الطبيب كان ضرره أكبر من نفعه، وربما قتل.
والضرب بدون ضوابط قد يقتل، ولا أقول يقتل الجسم - وإن كان هذا متوقعًا - ولكنه يقتل الشخصية، ويقتل المواهب، وإذا تعود عليه الطفل استهان به وأصبح لا يتأثر به ولا يأبه له، وجنح به ذلك إلى العدوانية وكراهية المربي له والدًا أو معلمًا، ثم يعمم ذلك على كل مرب، بل ويعممه على المجتمع أجمع.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» رواه مسلم.
فهذا الحديث يدل على عموم الإحسان في كل شيء حتى من يقتل ومن يذبح يجب أن يحسن ذلك، إذًا الضرب يدخل في هذا العموم فيجب فيه الإحسان، وإذا كان الضرب بضوابطه الشرعية كان فيه إحسان إلى المضروب بل ورحمة به، لأنه ينتفع به كما ينتفع بالدواء إذا أحسن استعماله.
قسا ليزدجروا ومن يك حازمًا | ||
فليقس أحيانًا على من يرحم | ||
وإليك بعض هذه الضوابط:
1- أن يكون الضرب للتأديب لا للتعذيب والانتقام.
2- أن يكون الطفل يعقل ويدري فيما ضرب يقول - صلى الله عليه وسلم -: «مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» الحديث، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر بالضرب على هذه الفريضة العظيمة إلا بعد العشر. وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن ضرب المعلم للصبيان فقال: (.. وإن كان صغيرًا لا يعقل فلا يضربه)؛ الآداب الشرعية.
3- أن يكون بعد الوعظ والإرشاد وقد تقدم بيان ذلك.
4- أن لا يكون وقت الغضب لأنه بذلك لا يكون للتأديب وإنما يكون للانتقام وشفاء الغليل، ولأن الغضبان قد يسترسل في الضرب فيضر المضروب.
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من شدة الغضب قال: فلما دنا مني، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود» فألقيت السوط من يدي، وفي رواية: فسقط السوط من يدي من هيبته، فقال: «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام» فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا، وفي رواية قلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله فقال: «أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار» مسلم.
ومع أن ضرب المملوك للتأديب جائز، ولكنه لما اشتد غضبه رضي الله عنه اشتد ضربه فقال له النبي ما قال.
وهم عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بضرب إنسان ثم تركه فقال: «وجدت في نفسي عليه غضبًا، فكرهت أن أضربه وأنا غضبان».
5- أن لا يزيد فوق عشر جلدات، لما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله» متفق عليه.
وفي المسألة خلاف بين أهل العلم، والراجح عدم الزيادة قال صاحب المغني (.. بل المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات اتباعًا للأثر) واستثنى بعض، وليس هذا موضع بحث هذه المسألة.
بل يرى بعض العلماء أن لا يزاد على ثلاثة أسواط لتأديب المتعلم، قال ابن أبي زيد في كتابه حكم المعلمين والمتعلمين: (لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط).
ويرى القاضي شريح رحمه الله: (ألا يضرب الصبي على القرآن إلا ثلاثًا) الروض الأنف للسهيلي (1/272).
6- أداة الضرب: قال ابن قدامة رحمه الله: (المسألة الثالثة أن الضرب بالسوط لا نعلم خلافًا في هذا..) المغني (12/508) ثم ذكر رحمه الله صفة هذا السوط، فقال: (.. إذا ثبت هذا فإن السوط يكون وسطًا، لا جديدًا فيجرح، ولا خلقًا فيقل ألمه، لما روي أن رجلاً اعترف عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالزنا، فدعا له رسول الله بسوط، فأتى بسوط مكسور، فقال: فوق هذا، فأتى بسوط جديد لم تكسر ثمرته، فقال: «بين هذين» رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلاً، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه مسندًا؛ المغني: (12/510).
7- كيفية الضرب: أن يكون الضرب غير مبرح قال - صلى الله عليه وسلم -: «.. واضربوهن ضربًا غير مبرح» رواه مسلم. قال الحسن رحمه الله: (غير مؤثر) تفسير ابن كثير (2/295).
وكان عمر رضي الله عنه يقول: (لا ترفع إبطك).
قال ابن قدامة رحمه الله: (ولا يرفع باعه كل الرفع، ولا يحطه، فلا يؤلم. قال أحمد: لا يبدي إبطه في شيء من الحدود يعني لا يبالغ في رفع يديه، فإن المقصود أدبه لا قتله؛ المغني (12/510).
ويجب عليه تجنب الرأس والوجه والأعضاء الحساسة قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه» رواه أبو داود. ولأن الضرب في هذه الأعضاء قد يضر، والمقصود الأدب لا الضرر، ولا يجوز مده ولا ربطه ولا تجريده.
قال ابن قدامة رحمه الله: (المسألة الثانية: أنه لا يمد ولا يربط، ولا نعلم عنهم في هذا خلافًا، قال ابن مسعود: ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد ) المغني: (12/508).
فمما سبق يتبين لنا أنه لا يجوز الربط والمد، وهو ما يعرف في بعض المدارس قديمًا باسم (الفلكة) وكذا لا يجوز الركل بالأرجل واللكم بالأيدي من أي موضع طاشت الرجل أو اليد، أو الضرب بالنعال فإن فيه إهانة.
ومما ذكر من النصوص سابقًا في الضرب في الحدود، فكيف بالضرب فيما دون ذلك من الأخطاء التي تعرض للمتعلمين غالبًا خاصة الأطفال منهم.
8- أن يتجنب الألفاظ البذيئة: يجب على المربي أن يتجنب الألفاظ البذيئة والسب والشتم، ولو حال التأديب والضرب، فليكرم نفسه عما لا يليق بمثله كمرب ومعلم، ويكرم المتعلم عن وصفه بتلك الأوصاف، فإنه يقصد بضربه التأديب لا التحقير والإهانة والإذلال للمتعلم، فهو كالطبيب الذي يعالج المريض بما قد يؤلمه وهو مشفق عليه راحم له؛ لأنه يريد شفاءه بإذن الله.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبدالله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأتى به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» رواه البخاري.
والمعنى أنه يحب الله ورسوله وقد تكلم ابن حجر رحمه الله عن (ما) بكلام طويل في الفتح (12/95) ليس هذا موضعًا لبسط الحديث عنها.
ويهمنا في هذا الحديث أن هذا الرجل على كثرة شربه للخمر وإقامة الحد عليه نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لعنه، وبين أنه يحب الله ورسوله.
وفي حديث آخر رواه البخاري قال - صلى الله عليه وسلم -: لما قال رجل له: أخزاه الله فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم».
فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لعن شارب الخمر، وقد تكرر منه، وعن الدعاء عليه بأن يخزيه الله، فالطالب الذي ما وصل خطؤه إلى هذا ولا قريبًا منه من باب أولى.
ومن المحاذير التي تقع كثيرًا ويحرج أمامها المعلم عندما يرد الطالب على أستاذه بنفس اللفظ الذي تلفظ به عليه، فقد يقول المعلم يا كذا.. فيقول الطالب وأنت كذا.. فما موقف المعلم من هذا؟
أليس إحراجًا له أمام طلابه، وقد يكون أمام زملائه أيضًا؟ فهو في غنى عن هذا، فينبغي للمعلم أن يكرم لسانه عن مثل هذا، وكما قيل كل إناء بما فيه ينضح، فالمعلم المربي ينضح بالعلم والكلام الطيب الحسن.
9- أخذ العذر قبل الضرب وقبوله إن كان وجيهًا والتحقق، فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما أرسل كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم فيه بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم لفتح مكة، وهذه خيانة عظيمة وإفشاء لسر المسلمين لعدوهم المشركين، ومع ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: «ما حملك على ما فعلت؟ قال: والله ما بي إلا أن أكون مؤمنًا بالله ورسوله، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هنالك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله» فقال - صلى الله عليه وسلم -: «صدق لا تقولوا إلا خيرًا» فقال عمر رضي الله عنه إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال: «أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم، أو قد غفرت لكم» متفق عليه.
فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
ففي هذه القصة أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - العذر من حاطب رضي الله عنه قبل أن يعاقبه، ثم قبله منه على عظم الجرم لما رأى من صدقه وقوة الدافع له على ذلك، ثم شفع له سابقته إلى الإسلام وشهوده بدرًا.
فعلى المعلم والمربي أن يسأل تلميذه عن سبب الخطأ، فإن رآه وجيهًا قبله منه، وكذلك إن كان له حسنات فلتشفع له عنده، وإن كان قليل الخطأ معروفًا بالأدب والأخلاق الطيبة، فليصفح عنه كما جاء في الحديث الصحيح «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» صحيح الجامع الصغير.
قال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد | ||
جاءت محاسنه بألف شفيع | ||
10- إذا صدق في عذره وطلب العفو أو ذكر الله، فينبغي أن يعفى عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ضرب أحدكم خادمه فذكر الله فارفعوا أيديكم» رواه الترمذي. لما في ذلك من تعظيم الله عز وجل وإجلاله، فإن الطالب إذا استجار بالله أو ذكرك بالله العفو والصفح فعفوت عنه، كان في ذلك تربية لك ووقوفًا عند حدود الله، وتربية للطالب في تعظيم شعائر الله، ويذكره ذلك باللجوء إلى الله في كل نائبة تنوبه، وكل مشكلة تعرض له.
وفي صحيح البخاري قصة عينية بن حصن لما قال لعمر رضي الله عنه: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه، وهم أن يوقع به، فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، قال الله لنبيه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله عز وجل، والقصة بطولها في صحيح البخاري (4642).
وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المربي من الحلم والرفق والصفح وقبول الأعذار، بل إن إخلاف الوعيد من شيم الكرام.
قال الشاعر مادحًا نفسه في التزامه بتنفيذ الوعد وإخلاف الوعيد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته | ||
لمنجز ميعادي ومخلف موعدي | ||
ومما يجب كذلك قبل العقاب التحقق من الذنب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[الحجرات: 6] ومعنى تبينوا أي تثبتوا.
وعند الاشتباه وعدم التحقيق فالأولى العفو، فإن الخطأ في العفو أخف بكثير من الخطأ في العقوبة، ولتتصور طفلاً عوقب ولو عقوبة يسيرة بذنب لم يفعله، كم سيؤثر على نفسيته بل على تصرفه بعد ذلك وعدم تثبته من أي أمر؛ لأنه رأى معلمه ومربيه وقدوته كذلك.
الخاتمة
إن الإنسان كلما كان ضعيفًا كان أحوج إلى الرحمة أكثر، وإن الطفل من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فما أحوجه إلى الرحمة وما أحوجه إلى الرعاية الشاملة وإلى القلب الرحيم وإلى اليد الحانية والحكمة الطيبة الهادئة، وإلى من يتفهم نفسيته ويقدر اهتماماته الصغيرة في لعبه ولهوه، فلها عنده شأن كبير، وإلى من يؤانسه ويضاحكه ويشاركه في لعبه ويتصابى معه، ولا يصادم فطرته ولا يعاكس جبلته، ولكن يوجهها ويهذبها، يعطيه قيمته، ويشعره بأهميته، يعفو عن أخطائه، ويتغافل عن زلاته العفوية التي تحصل لمن كان في سنه من واقع طفولته وبراءته، وإن كان لا بد من عقاب على خطأ لا يمكن التسامح عنه ولا التغافل عنه، فعقاب الرحيم الرفيق بضوابطه الشرعية، قسوة في رحمة ولين في حزم، بذا يتخرج هذا الطفل بتوفيق الله رجلا سويًّا خاليًا من الأمراض العصبية والعقد النفسية، محبًّا لأسرته ومجتمعه ومعلمه ومربيه، بعيدًا عن الغل والحسد والعنف والعدوانية وحب الانتقام.
وهكذا خرج الرجال الذين تربوا في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمثال الحسن والحسين وأنس بن مالك وعمر بن أبي سلمة وابن عباس وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
فإلى سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - نستلهم منها معين التربية الصافي في السلوك والآداب والأخلاق، لتكون خير أمة أخرجت للناس: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب: 21].
وصلي الله وسلم على نبي الرحمة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.