التعامل الشرعي مع المرض المعدي
التصنيفات
الوصف المفصل
التعاملُ الشرعي مع الْمَرَضِ الْمُعْدِي
الحمدُ للهِ النافِعِ الضَّار، خَلَقَ الدَّاءَ والدَّوَاءَ والْمَنَافِعَ والْمَضَار، بيَدِهِ النَّفْعُ والضُّر، والخيرُ والشر، والنهي والأمر، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله الحكيمُ الواحدُ القهَّار، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسولهُ، وهو أشرفُ المرسلين، وأفضلُ المتوكِّلين، المستسلمُ للقضاء والأقدار، وعلى آله وأصحابه أُولي السَّمَاح والرَّبَاحِ والتَّيَقُظِ والاعتبار.
أما بعدُ: فيا أيها الناسُ اتقو الله تعالى، فإنَّ التقوى تُوقِّي ما يَضُرُّ في الدُّنيا والآخرة، فَمَنِ اتَّقى ما يَضُرُّه في دينه: فعليهِ أن يتَّقي ما يَضُرُّه في بدنه، ولا يَتِمُّ صلاحُ العبدِ في الدَّارينِ إلا باليقينِ والعافيةِ، فاليقينُ يَدفعُ عنه عُقوباتِ الآخرةِ، والعافيةُ تَدفعُ عنهُ أمراضَ الدُّنيا في قلبهِ وبَدَنهِ، قال ابنُ القيِّم: (ولَمَّا كانتِ الصِّحَّةُ والعافيةُ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ على عبدِهِ، وأجزلِ عَطَاياهُ، وأوْفَرِ مِنَحِهِ، بلِ العافيةُ الْمُطْلَقةُ أجَلُّ النِّعَمِ على الإطلاقِ، فحقيقٌ لِمَنْ رُزِقَ حَظَّاً من التوفيقِ مُراعاتُها وحِفْظُها وحِمايَتُها عمَّا يُضادُّهَا) انتهى، قال صلَّى الله عليه وسلم: (نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ) رواه البخاريُّ، و (عن العبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ عَلِّمْني شيئاً أسْأَلُهُ اللهَ عزَّ وجَلَّ، قالَ: «سَلِ اللهَ العافيةَ»، فمَكَثْتُ أَيَّاماً ثمَّ جِئْتُ فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ عَلِّمْني شيئاً أسْأَلُهُ اللهَ، فقالَ لي: «يا عبَّاسُ يا عَمَّ رسولِ اللهِ، سَلِ اللهَ العافيةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ») رواه الترمذيُّ وصحَّحهُ، وأتَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجُلٌ فقالَ: (يا رسولَ اللهِ أيُّ الدُّعاءِ أفْضَلُ؟ قالَ: سَلِ اللهَ العَفْوَ والعافِيَةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ، ثُمَّ أتَاهُ الْغَدَ فقالَ: يا نبيَّ اللهِ أيُّ الدُّعاءِ أفْضَلُ؟ قال: سَلِ اللهَ العَفْوَ والعافيَةَ في الدُّنيا والآخرَةِ، فإذا أُعْطِيتَ العافيةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ فقَدْ أَفْلَحْتَ) رواه البخاريُّ في الأدب المفرد وصحَّحه الألبانيُّ، وقد تكلمنا قبل جمعتين عن الوقاية الصحية في الإسلام.
أيها المسلمون: لقد كان أهلُ الجاهلية يعتقدون بأن الأمراض تُعدي بنفسها لا بقدر الله، فنفى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: (لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ ولا هَامَةَ ولا صَفَرَ) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، وأثبتَ صلى الله عليه وسلم أن العدوى قد تنتقل إذا قدَّر الله ذلك، فعَنْ (أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «لا عَدْوَى ولا صَفَرَ، ولا هَامَةَ»، فقالَ أعرابيٌّ: يا رسولَ اللهِ، فَمَا بالُ الإبلِ تكُونُ في الرَّمْلِ كأَنَّها الظِّبَاءُ، فيُخَالِطُها البعيرُ الأجْرَبُ فيُجْرِبُها؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ») رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا عَدْوَى، ولا طِيَرَةَ، ولا هَامَةَ، ولا صَفَرَ، وفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ) رواه البخاري، ولقد أثبتت البحوث والدراسات الطبية أن دخول الميكروب إلى البدن لا يلزم منه العدوى، لكن مخالطة المصاب من الأسباب وليست كل الأسباب، ولا زال الطبُّ حائراً في مسألة العدوى لم تصيب بعض الأفراد ولا تصيب الباقين وهم في منزل واحد، ومأكلهم واحد، ومشربهم واحد.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الذهاب للبلد الذي فيه الوباء، ونهى عن الخروج من البلد الذي وقع فيه الوباء، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ على طائفةٍ مِن بَني إسرائيلَ، أوْ على مَنْ كانَ قبْلَكُمْ، فإذا سَمِعْتُمْ بهِ بأرْضٍ، فلا تَقْدَمُوا عليهِ، وإذا وَقَعَ بأرْضٍ، وأنتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا فِرَاراً منهُ») رواه البخاري ومسلم، وهذا الحديث أصلٌ في الحجر الصحي الذي لم يعرفه العالم إلا على أبواب القرن العشرين، فقد أثبتت الدراسات أن البلد المصاب بالمرض الوبائي إذا خرج منه الإنسان فإنه يَنشر المرض وإن لم يُصب به، فأصبح أول قرار تتخذه الدول التي تُصاب بالوباء، بأن تحجُر على المنطقة الموبوءة.
عباد الله: إن من أهم وسائل مكافحة الأمراض: النظافة، فنهى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن الاستنجاء باليمين، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (إذا شَرِبَ أحدُكُم فلا يَتَنَفَّسْ في الإناءِ، وإذا أَتَى الخلاءَ فلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بيمينِهِ، ولا يَتَمَسَّحْ بيمينهِ») رواه البخاري ومسلم، قال ابنُ مُفلح: (ويُكرهُ لكُلِّ أحَدٍ أنْ يَنْتَثِرَ ويُنَقِّي أنفَهُ ووَسَخَهُ ودَرَنَهُ ويَخلَعَ نَعلَهُ ونحوَ ذلكَ بيمينهِ مع القُدْرةِ على ذلكَ بيَسَارِهِ مُطْلَقاً) انتهى، ونهى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن البول في الماء الراكد أو الاغتسال فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَبُولَنَّ أحدكُم في الماءِ الدَّائمِ الذي لا يَجْري، ثُمَّ يَغتسِلُ فيهِ) رواه البخاري ومسلم، ونهى صلى الله عليه وسلم عن إفساد البيئة وموارد الناس أو ظلهم بالبول أو التغوُّط فيها، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: («اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قالُوا: وما اللَّعَّانانِ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: «الذي يَتَخَلَّى في طريقِ الناسِ أوْ في ظِلِّهِمْ) رواه مسلم، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم وضع اليد أو نحوها على الأنف وقت العطاس، (عن أبي هريرةَ: «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ إذا عَطَسَ غَطَّى وجْهَهُ بيدهِ أوْ بثَوْبهِ وغَضَّ بها صَوْتَهُ») رواه الترمذي وقال: (حَسَنٌ صَحيحٌ)، وغيرها كثير، وقد مرَّ بعضها في خطبة الوقاية الصحية في الإسلام.
عباد الله: لقد أمرت شريعتنا بالمحافظة على النفس، والنسل، والمال، والعقل، فنهت عن مخالطة المصاب بالمرض الْمُعدي، وأمرت بالفرار منه، وأمرت بالمحافظة على النسل بتحريم إجهاض الجنين، أو الزواج من المصاب بالمرض المعدي، أو رضاع الطفل من المصابة بالمرض المعدي، أو حضانته له، كما أمرت بالأخذ بالأسباب، مع التوكل واليقين بالله، والناس متفاوتون في التوكل واليقين، كما نهت عن الدخول للبلد المصاب، وغير ذلك مما سبق ذكره.
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عبدُهُ ورسولُهُ.
أمَّا بعدُ: (فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و (لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).
أمَّا بعدُ: لقد أخبر الصادق المصدوق عن حدوث الأوبئة العامة، فعن (عوف بن مالكٍ قالَ: أتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ وهوَ في قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فقالَ: اعْدُدْ سِتَّاً بينَ يَدَيِ الساعةِ: مَوْتِي، ثمَّ فَتْحُ بيتِ المقدِسِ، ثمَّ مُوْتانٌ يَأْخُذُ فيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ، ثمَّ استفاضةُ الْمَالِ حتى يُعْطَى الرَّجُلُ مائةَ دينارٍ فيَظَلُّ ساخطاً، ثمَّ فتنةٌ لا يَبْقَى بيتٌ من العَرَبِ إلاَّ دخَلَتْهُ، ثمَّ هُدْنَةٌ تكُونُ بينكُمْ وبينَ بني الأصْفَرِ، فيَغْدِرُونَ فيأتُونكُمْ تحتَ ثمانينَ غايةً، تحتَ كلِّ غايةٍ اثنا عَشَرَ أَلْفاً) رواه البخاري.
والْمُوتان: هو الموتُ الكثيرُ الوُقوع، والْعِقَاصُ داءٌ يَأْخُذُ في الصَّدْرِ كأنهُ يَكْسِرُ العُنُقَ.
وأخبرَ صلى الله عليه وسلم عن أسبابها، فالمسلم يكون الطاعون له شهادة، قال صلى الله عليه وسلم: (الطَّاعُونُ شَهادَةٌ لكُلِّ مُسْلِمٍ) رواه البخاري، وقد يكون بسبب المجاهرة بالمعاصي، فعنْ (عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ قالَ: أَقْبَلَ علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: يا مَعْشَرَ الْمُهاجرِينَ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ بِاللهِ أنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قَوْمٍ قَطُّ، حتى يُعلِنُوا بها، إلا فَشَا فيهِمُ الطاعُونُ، والأوجاعُ التي لم تكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِمُ الذينَ مَضَوْا) الحديث رواه ابن ماجه وحسَّنه الألباني.
فظهرت الأمراض كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وقد كانت الطواعين المشهورة العظام في تاريخ الإسلام ستة أولها طاعون شيرويه بالمدائن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة 6هـ، والثاني طاعون عمواس سنة 18هـ في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه و كان بالشام ومات فيه 25 ألفا، أما الوباء الثالث فهو طاعون كان بالكوفة سنة 50هـ وفيه مات المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، والرابع في زمن خلافة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه سنة 69هـ ومات بالطاعون في ثلاثة أيام كل يوم سبعون ألفاً ومات فيه لأنس بن مالك 83 ولداً ومات فيه لعبد الرحمن بن عوف أربعون ولداً، والخامس طاعون الفتيات في شوال سنة 87هـ وسمّى طاعون الفتيات لأنه بدأ في العذارى بالبصرة وواسط والشام والكوفة ويقال له أيضاً طاعون الأشراف لما مات فيه من الأشراف، والسادس طاعون في سنة 131هـ، وفي بلادنا النجدية في عام 1310 تعرَّض حُجاج نجد في مكة لوباء شديد مات بسببه خلق كثير، وفي عام 1320 وقع في بلدان نجد وباء مات فيه خلائق عظيمة، وفي عام 1325 وقع في أشيقر والفرعة وباء مات فيه خلق، وفي عام 1337 حصل وباء عظيم وعمَّ جميع بلدان نجد.
ألا فاحذروا شؤم المعاصي فإنها تُخرِّبُ الدِّيار العامرة، وتسلبُ النعمَ الباطنة والظاهرة، قال ابن القيم: (وهل في الدُّنيا والآخرةِ شَرٌّ وداءٌ إلا سَبَبُهُ الذُّنوبُ والمعاصِي) انتهى، ﮋ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﮊ.