×
الطبعة الأخيرة من شرح مراقي السعود؛ للعلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - والذي شرح فيه منظومة: «مراقي السعود لمبتغي الرُقي والصعود»؛ وهي منظومة في أصول الفقه على مذهب الإمام مالك - رحمه الله - نظم فيها كتاب: «جمع الجوامع».

 شرح مراقي السعود المسمى «نثر الورود»

تأليف الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (1325 - 1393 هـ) (استملاه وجمعه تلميذه الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد الشنقيطي) تحقيق علي بن محمد العمران إشراف بكر بن عبد الله أبو زيد دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


مقدمة التحقيق الحمد للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألَّا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد؛ فهذا كتاب "شرح مراقي السعود" للشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه اللَّه- نخرجه اليوم ضمن هذه الموسوعة الشاملة لآثار الشيخ، وكان قد طبع سابقًا باسم "نثر الورود على مراقي السعود" وهي تسمية من محقق الكتاب وليست من مؤلفه -كما سيأتي شرحه-. وسيكون حديثنا عن الكتاب في عِدَّة مباحث: 1 - اسم الكتاب. 2 - تاريخ تأليفه. 3 - سبب تأليفه. 4 - موضوع الكتاب. 5 - النقص الواقع في الشرح. 6 - موارده. 7 - منهجه في الشرح. 8 - وصف النسخ الخطية. 9 - طبعات الكتاب.

(المقدمة/5)


10 - العمل في الكتاب. 11 - نماذج من النسخة الخطية. وأخيرًا ختمنا الكتاب بفهارس متنوعة نظرية وفهرس موضوعي مفصل لجميع مباحث الكتاب. وصلى اللَّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه علي بن محمد العمران 20/ 5/ 1426 هـ

(المقدمة/6)


* اسم الكتاب: هذا الكتاب لم يضع له مؤلفه -رحمه اللَّه- اسمًا خاصًّا، بل تركه غُفلًا من اسم عَلَمي، والسبب في ذلك: أن الشيخ -رحمه اللَّه- لم يقصد إلى تأليفه قصدًا، كما هو الحال في كتبه الأخرى التي كان يقصد إلى تأليفها ويكتب لها مقدمة ويضع لها أسماء مسجوعة، كما في "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" أو "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" و"منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز" = وإنما كان إملاءً أو تقييدًا لأحد أقارب الشيخ من طلبة العلم -كما سيأتي مشروحًا-. لذلك فقد وَضَع له تلميذُه المُمْلَى عليه أو المكتوب له هذا الشرح اسمًا عَلَميًّا مسجوعًا وهو: "ورد الخدود على مراقي السعود" (1)، وسمَّاه الدكتور محمد ولد سيدي ولد حبيب "نثر الورود على مراقي السعود" وطبعه بهذا الاسم. ولذلك رأينا في نشرتنا هذه ألا نطلق عليه اسمًا عَلَميًّا لأن المؤلف لم يسمه، واكتفينا بالاسم الدال على موضوع الكتاب مع الإشارة إلى الاسم الذي طُبع به الكتاب واشتهر به، فسميناه: "شرح مراقي السعود" وأضفنا إليه بخط أصغر: المطبوع باسم "نثر الورود". * تاريخ تأليفه: جاء في آخر المخطوط الأم أنه تم الفراغُ منه في الثاني والعشرين __________ (1) انظر "ترجمة الشيخ الأمين": (ص/ 133) للسديس.

(المقدمة/7)


من شهر اللَّه رجب سنة خمس وسبعين وثلاث مئة وألف (1). وعليه فيكون من أوائل ما ألَّفَ الشيخ بعد استقراره في المملكة إذ ألَّف قبله "دفع الإيهام" قبل عام 1375، و"المذكرة" أملاها عام 1374 ولم تطبع إلا بعد ذلك عام 1391. ثم "آداب البحث والمناظرة" عام 1388 و"أضواء البيان" بعد عام 1385 ومات -رحمه اللَّه- ولم يكمله. * سبب تأليفه: قال الشيخ عبد الرحمن السديس في "ترجمة الشيخ الأمين" (2) ما نصه: (لم يقصد الشيخ الأمين إلى تأليف هذا الشرح ابتداء، بل كان يشرح لبعض تلاميذه -وهو الشيخ أحمد بن محمد (3) الشنقيطي حفظه اللَّه ووفقه- "مراقي السعود"، فاشترط الشيخ أحمد على الشيخ الشارح أن يدوِّن عنه ما يشرح، فاعتذر الشيخ بضيق الوقت، فامتنع التلميذ عن أخذ الحصة اليومية، وبيَّن له أن سبب امتناعه كونه لم يأخذ إملاء على الحصة السابقة، فقال الشيخ: ألم أقل لك ليس عندي وقت! قال الشيخ أحمد: "فبيَّنْتُ إصراري على أخذ إملاء وإلا تركت الدرس وسافرت إلى البلاد. فقال لي: على من يكون ضرر تركك الدرس؛ عليَّ أم عليك؟ فقلتُ: عليك؛ لأني من بني عمومتك وابن أختك، أرسلت إليَّ لتعلمني (4)، فإن أنا سافرت دون حصول ذلك __________ (1) المصدر نفسه. (2) (ص/ 131). (3) في كتاب السديس: "أحمد" وهو خطأ وستأتي ترجمته. (4) في رسالة كتبها له الشيخ الأمين -بعد طلب منه-: أن توجَّه إليّ حالًا =

(المقدمة/8)


منك كان ضرر ذلك عليك" على سبيل المزاح. فاقتنع -على الرغم من ضيق وقته- فكان يشرح، ثم يُدَوِّن له ما شرح بخطه -رحمه اللَّه- وأحيانًا يمليه عليه وهو يكتب) اهـ. * موضوع الكتاب: الكتاب شرح لمنظومة "مراقي السُّعود لمبتغي الرُّقي والصعود" من تأليف الفقيه الأصولي سيدي عبد اللَّه بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي المتوفى نحو (1230 أو بعدها بقليل). - التعريف بالنظم: هي منظومة في علم أصول الفقه على مذهب الإمام مالك -رحمه اللَّه- نَظَم فيها كتاب "جمع الجوامع" لتاج الدين السبكي الشافعي (ت 771) في ألف بيت وبيت، قال في آخرها: ألفٌ وبيتٌ عدد المراقي ... ليس بسافلٍ ولا براقي اعتمد -بعد "الجمع"- في نظمها على عدد من الكتب ذكرها في آخرها، وقد طبع النظم مفردًا ومع شروحه، ولم يكن هذا النظم معروفًا ولا مشهورًا عند أهل العلم وطلابه في الشرق حتى شَهَره الشيخ محمد الأمين -رحمه اللَّه- بتدريسه له وكثرة الاستشهاد به في دروسه وكتبه، كما هو واضح في "المذكرة" و"الأضواء". __________ = فستجدني عند ظنك. انظر "مجالس مع الشيخ الأمين" ص/ 4 - 5.

(المقدمة/9)


- شروحه: له عدة شروح مطبوعة وهي: 1 - نشر البنود على مراقي السعود، لصاحب النظم، وقد طبع قديمًا وحديثًا، وهو شرح جليل، وعليه اعتماد غالب الشرَّاح للنظم بعده. 2 - مراقي السعود إلى مراقي السعود، للشيخ محمد الأمين بن أحمد المعروف بالمرابط (ت 1325)، وقد طبع شرحه قديمًا، وطبع بتحقيق الشيخ محمد المختار بن محمد الأمين في مجلد واحد. 3 - فتح الودود بسلم الصعود على مراقي السعود، للشيخ محمد يحيى الولاتي الشنقيطي (ت 1330)، وهو مطبوع. 4 - كتابنا هذا. وهناك شروح أخرى لم تطبع (1). - التعريف بالناظم (2) هو سيدي عبد اللَّه بن الحاج إبراهيم بن الإمام مَحَنْضْ أحمد العلوي نسبة إلى قبيلة العلويين (إدْ وعل) إحدى القبائل الموريتانية المشهورة بكثرة الشعراء والأدباء والعلماء. __________ (1) انظر "جامع الشروح والحواشي": (3/ 1655 - 1656). (2) ترجمته في "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط": (ص/ 38 - 41)، و"الأعلام": (4/ 65)، و"معجم المؤلفين": (6/ 18)، و"النبوغ المغربي": (1/ 324).

(المقدمة/10)


ولد -رحمه اللَّه- بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري، بقرية تججكة بمنطقة تكانت بموريتانيا، فاعتنى به والده من صغره حتى حفظ القرآن كعادة أهل تلك البلاد. ولما بلغ مبلغ الرجال تهيأ لطلب العلم وبدأ رحلته فيه بعلماء بلده، فأخذ عن الشيخ المختار بن بونا الجكني، والشيخ سيدي عبد اللَّه الفاضل اليعقوبي، والحاج أحمد خليفة العلوي، وغيرهم من جلة علماء قطره، وبعد تحصيله ما عند هؤلاء توجه إلى فاس ومراكش بالمغرب وأقام بهما تسع سنين يأخذ عن علمائهما ويأخذون عنه، ثم توجه إلى بيت اللَّه الحرام لأداء فريضة الحج، فمر بمصر واجتمع بعلماء القاهرة، واستفاد منهم واستفادوا منه. ثم توجه إلى مكة المكرمة ضمن الوفد الذي بعثه سلطان المغرب في ذلك الوقت سيدي محمد بن عبد اللَّه، فأتيحت له الفرصة بذلك للقاء أكابر العلماء بمكة والمدينة. ثم رجع إلى المغرب بعد أداء فريضة الحج، فأكرمه سلطانه وأهداه خزانة كتب نادرة رجع بها إلى وطنه ومسقط رأسه، وجلس برباطه يعلم الناس، ويؤلف الكتب حتى طار ذكره وذاع صيته واشتهر علمه في الآفاق. ومكث في طلب العلم أربعين سنة يأخذ عمن وجد عنده زيادة حتى انتهى إلى الغاية القصوى. وقد اتفق علماء بلده على أنه أعلم رجل في عصره، وعده بعضهم من المجتهدين، وقد أثنى عليه جلة العلماء الذين اتصلوا به وحلّوه بأرفع الألقاب، مثل الشيخ سيدي المختار الكنتي حيث يقول فيه: ما

(المقدمة/11)


تحت قبة السماء أعلم من هذا العلوي. ويقول فيه صاحب في "الوسيط": كان رحمه اللَّه أوحد زمانه في جميع العلوم. ويقول فيه الحافظ الشيخ محمد الخضر ابن مايابي الجكني: إنه فريد دهره، وعالم عصره، باديه ومصره، مآثره لا ترام بالحصر، لِمَا نشر اللَّه به من العلم في ذلك القطر. وقال فيه العلامة بابا بن أحمد بيب العلوي: قد كاد أن يوصف بالترجيح ... لفهمه ونقله الصحيح وكان في الحديث لا يُبَارَى ... كأنما نشأ في بخارى له عدد من المؤلفات وهذا بعضها: 1 - مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود، وهي ما نتحدث عنه الآن. طبع. 2 - نشر البنود على مراقي السعود. طبع. 3 - نيل النجاح في مصطلح الحديث، حققه محمد الكبير العلوي بالمغرب. 4 - فيض الفتاح على نور الأقاح، في علم البيان طبع بالمغرب عام 1329. 5 - طلعة الأنوار وشرحها هدى الأبرار في مصطلح الحديث، اختصر بها ألفية العراقي، طبع بشرح وتحقيق الشيخ حسن مشاط -رحمه اللَّه-. 6 - طرة الضوال والهمَل، ألفه في الرد على الأعراف المخالفة للشرع

(المقدمة/12)


وردًّا على فتاوى الفقهاء الشاذة. 7 - نوازله، وهي مجموعة فتاوى ورسائل ألفها في شتى الموضوعات، وقد اعتنى بها العلماء فجمعوها ورتبوها، ونظمها الشيخ محمد العاقب بن مايابي الجكني وطبعت بليبيا بتحقيق التواتي. توفي رحمه اللَّه في حدود 1230 برباطه العلمي الشهير القريب من تججكه. * النقص الواقع في الشرح: وقد بيّن سبب هذا النقص تلميذه المملى عليه هذا الشرح بالتفصيل والبيان، ففي كتاب "ترجمة الشيخ الأمين" (1) ما نصه: (ولكن الأمالي لم تستوعب جميع أبيات "المراقي"، بل ترك منها نحوًا من مئة وأربع وستين بيتًا وهي من قول صاحب "المراقي": وإِنْ يَجِي الدَّلِيلُ للخِلافِ ... فَقَدِّمَنَّهُ بِلا اخْتِلافِ من باب المجاز إلى قوله: خِطابُ واحدٍ لِغيْر الحَنْبَلي ... مِنْ غَيْرِ رَعْي النَّصِّ والقَيْس الجَلي وهو آخر بيت قبل مبحث التخصيص. وقد سألت الشيخ أحمد عن السبب في ذلك، فأجاب بما حاصله: أن الشيخ كان يشرح له الدرس بعد الفجر قبل أن يذهب إلى الكلية -أي: كلية الشريعة بالرياض-، ثم إذا رجع من الكلية ظُهرًا __________ (1) (ص/ 131 - 133).

(المقدمة/13)


يملي عليه ما شرحه بالصباح، وكان يهيئ له سبعة مراجع في الأصول للاقتباس منها عند الحاجة، وربما عاق عائق عن كتابته للحصة، فيتولى الشيخ كتابتها بنفسه. قال الشيخ أحمد: "وعند الوصول إلى هذا الموضع المذكور؛ اشتغلنا بتبييض "دفع إيهام الاضطراب" لتقديمه للمطبعة، فكانت الحصة اليومية في الشرح بعد صلاة الفجر مستمرة، أما الأمالي فقد توقفت للسبب المذكور، ثم لما انتهينا من تبييض "دفع الإيهام"؛ استأنفنا الكتابة من حيث وصلنا في الشرح لا من حيث وقفنا في الكتابة". وكذلك الدرس الأول من شرح "المراقي" لم يكتبه الشيخ ولم يمله للسبب الذي تقدم ذكره في قصة مراجعة التلميذ لشيخه في طلبه تدوين ما يشرحه له، ومقداره عشرون بيتًا، أولها قول صاحب "المراقي": يَقُولُ عبدُ اللَّهِ وهو ارْتَسَما ... سِمًى له والعلويُّ المُنْتَمَى حيث بدأ الكتاب بالدرس الثاني، وهو البيت الذي يلي هذا مباشرة، وهو قول صاحب "المراقي": كلام ربي إن تعلَّقَ بما ... يصحُّ فعلًا للمكلَّف اعْلَما) اهـ. * موارده: ذكر الشيخ أحمد المُمْلَى عليه هذا الشرح أن الشيخ لم يكن يشرع في الشرح إلا بعد أن يُحضر بين يديه سبعة كتب من أمهات كتب

(المقدمة/14)


الأصول، منها "النشر"، و"التنقيح" للقرافي وشرحه، وشرح ابن حلولو لـ "جمع الجوامع"، و"الآيات البينات". لكن بأدنى مقارنة يتضح أن المؤلف -رحمه اللَّه- اتكأ على شرح الناظم المسمّى "نشر البنود على مراقي السعود" في حكاية أقوال العلماء ونسبة المذاهب، وقد صرَّح باسمه في مرات كثيرة -انظر فهرس الكتب- ونقل عنه دون تصريح في غير موضع، وكنا نشير إلى بعض تلك الأماكن بالإحالة على "النشر"؛ لذلك صار من الصعوبة بمكان تمييز المراجع أو الأعلام الذين اعتمد عليهم المؤلف استقلالًا عن "نشر البنود" إلا فيما لا لَبْس فيه، كأن يكون متأخرًا عن طبقة صاحب "النشر"، أو كان المؤلف يُكثر النقلَ عنه عادة في كتبه كـ "الخلاصة" لابن مالك. أما ما عدا ذلك فيحتاج إلى تتبُّع الشرحين ومقارنة النقول. ومع ذلك لم يتابعه في الشرح من حيث التقرير والاختيارات، بل تميز بأشياء وخالفه في أشياء وفصَّل في أشياء كما سيأتي. * منهجه في الشرح: 1 - سار الشيخ في شرحه على طريقة الاختصار في عرض المسائل وحكاية الأقوال والخلاف والاستدلال. 2 - التزم الشيغ بذكر المسائل المذكورة في النظم، ولم يزد عليها إلا القليل مما تمس إليه الحاجة. 3 - اختار الشيخ العبارة السهلة الواضحة وابتعد عن كثير من

(المقدمة/15)


البحوث المنطقية والكلامية المنتشرة في كتب الأصول المتأخرة في الشروح والحواشي، وذلك لتقريب هذا الفن للمتلقي، إذا كان قريبه الذي طلب الشرح يطلب شرحًا على هذا النحو. 4 - بعد أن يسوق الشيخ البيت من "المراقي" أو أكثر أو أقل بحسب الوحدة الموضوعية التي يختارها يبدأ بذكر المعنى الإجمالي للبيت منه أو للقطعة على طريقة نثر البيت بقوله: "يعني: . . . " هذا في الأعم الأغلب، وقد يؤخر ذكر المعنى بعد ذكر معاني بعض المفردات أو شرح بعض المصطلحات. . ونحو ذلك. 5 - بعد المعنى الإجمالي يبدأ بشرح المفردات الغريبة أو المصطلحات أو إعراب بعض الكلمات ويصدِّر الجملة أو الكلمة المراد شرحها بـ "قوله. . . ". 6 - يعزو المذاهب إلى أصحابها، ويهتم بذكر مذهب مالك، وعلماء المالكية تبعًا للناظم في نظمه وشرحه. وكل ذلك باختصار يتناسب مع طبيعة الشرح. 7 - مع أن الشيخ اعتمد على شرح الناظم "نشر البنود" -كما سلف- إلا أنه لم يتابعه في اختياراته وترجيحاته بل خالفه في كثير من المسائل، وهذا سرد لأهم المسائل التي خالفه فيها: 1 - ص 33 في أقسام الشرط. 2 - ص 44 في ضابط العزيمة. 3 - ص 53 في انعقاد سبب الوجوب هل يسمى به الشيء واجبًا ولو

(المقدمة/16)


منع مانع من تأثير سبب الوجوب؟ 4 - ص 61 - 62 الرد على السبكي والناظم في قاعدة الأشاعرة: إن العَرَض لا يبقى زمانين. 5 - ص 77 الرد على الأصوليين في المجاز في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}. 6 - ص 132 في عدم جواز وقوع المجاز في القرآن. 7 - ص 137 في تقديم الإضمار على النقل. 8 - ص 140 في حصر اللفظ في الحقيقة والمجاز. 9 - ص 219 ترجيح كلام السبكي على الناظم في مسألة العمل بالعام المخصوص ولو كان المخصّص غير معين. 10 - ص 299 في مسألة النَّسخ إلى غير بدل. 11 - ص 381 في مرتبة قول الصحابي "أمرنا ونهانا" في القوة. 12 - ص 394 في مسألة أن العلم والقدرة. . . لا يمكن إثباتها بدليل نقلي. 13 - ص 411 في أن مذهب مالك تقديم القياس على خبر الواحد. 14 - ص 441 في أن التعبديات لا تخلو من حِكَم. 15 - ص 442 الإشارة لسهو أو تحريف في شرح الناظم "نشر البنود". 16 - ص 447 التحقيق في تعدد العلة المستنبطة. 17 - ص 479 في أن الخمر لم تكن مباحة في أول الإسلام إلا بأصل

(المقدمة/17)


البراءة. 18 - ص 482 الرد على قولهم: إذا كان الدليل مخالفًا للأصول. 19 - ص 495 سهو للناظم وتصحيحه. 20 - ص 512 متابعة الناظم للسبكي والبيضاوي في تكرار مبحث تنقيح المناط. 21 - ص 671 تعقب على الناظم في عَوْد ضمير في النظم. 22 - ص 686 الرد عليه في وجوب التزام مذهب معين. 23 - ص 687 الرد عليه في وجوب اتباع المذاهب الأربعة فقط. 24 - ص 688 مخالفته في امتناع وجود مجتهد قبل المهدي المنتظر.

(المقدمة/18)


* وصف النسخ الخطية: للكتاب ثلاث نسخ خطية: الأولى: النسخة الأم، وقد وصفها الشيخ عبد الرحمن السديس قائلًا: إن هذه النسخة (تم الفراغ من نسخها في الثاني والعشرين من شهر اللَّه رجب سنة خمس وسبعين وثلاث مئة وألف؛ كما هو محرَّر في آخر المخطوط، والنسخة الأصلية منه عند الشيخ أحمد بن محمد الشنقيطي (1) (حفظه اللَّه)، وهي تقع في سبعة دفاتر: 1 - الدفتر الأول يقع في ثلاث وستين صفحة، كلها بخط الشيخ -رحمه اللَّه-. 2 - الدفتر الثاني يقع في إحدى وأربعين صفحة، كلها بخط الشيخ -رحمه اللَّه-. 3 - الدفتر الثالث يقع في ثلاث وستين صفحة، ثمان وثلاثون صفحة منها بخط الشيخ -رحمه اللَّه- وخمس وعشرون بخط تلميذه الشيخ أحمد بن محمد الجكني الشنقيطي. __________ (1) ترجمة الناسخ، وهو المُمْلَى عليه الشرح: هو أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار المحضري الجكني، ولد بعد 1350، كان والده من رؤساء القبائل، تلقى العلم في بلده، ثم رحل عام 1375 إلى الحجاز ولازم الشيخ محمد الأمين، ثم رجع إلى بلده بعد الاستقلال ثم عاد مجددًا إلى المملكة وعين في عدة وظائف آخرها مدرسًا في الحرم المكي حتى عام 1408 حيث أحيل إلى التقاعد. مختصر من مقدمة "نثر الورود": (ص/ 23 - 24).

(المقدمة/19)


4 - الدفتر الرابع يقع في ثلاث وستين صفحة، وكلها بخط تلميذه الشيخ أحمد. 5 - الدفتر الخامس يقع في أربع وستين صفحة، منها نحو اثنتين وأربعين صفحة بخط تلميذه الشيخ أحمد، واثنتين وعشرين صفحة بخطه -رحمه اللَّه-. 6 - الدفتر السادس، ويقع في ست وستين صفحة، منها أربعون صفحة بخط الشيخ أحمد، وست وعشرون بخط الشيخ نفسه -رحمه اللَّه-. 7 - الدفتر السابع ويقع في خمس عشرة صفحة، منها صفحتان بخط الشيخ -رحمه اللَّه-، وثلاث عشرة صفحة بخط تلميذه الشيخ أحمد) اهـ (1). وعليه فهذه النسخة تقع في (378 صفحة)، منها (192 صفحة) بخط الشيخ الأمين و (186 صفحة) بخط تلميذه. وهذه النسخة لم نتمكن من الحصول عليها مع قربها منا! الثانية: نسخة بخط الشيخ محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي نقلها من النسخة الأم في عدة دفاتر إلا أنها آلت إلى الضياع قال ناسخها: "أما الدفاتر التي كانت عندي فتداولتها الأيدي حتى ضاعت" (2). __________ (1) "ترجمة الشيخ الأمين": (ص/ 133 - 134). (2) مقدمة طبعته للكتاب: (1/ 12).

(المقدمة/20)


الثالثة: نسخة بخط الشيخ الدكتور أحمد محمود عبد الوهاب -حفظه اللَّه- كتبها بتاريخ يوم الاثنين الثالث عشر من رجب عام تسعين وثلاثمائة وألف، كما جاء في خاتمتها. ولم يذكر من أي نسخة نسخها أمِنَ النسخة الأم أم من غيرها؟ وهذه النسخة تقع في ثلاثة دفاتر، الأول في (115) صفحة، والثاني (187) صفحة، والثالث (189) صفحة، مجموعها (491) صفحة. خطها نسخي واضح، وقد تغير خطها في الأوراق 48 - 50 من الدفتر الأول و 104 - 105 من الدفتر نفسه، والأوراق 134 - 135 من الدفتر الثالث. وهي جيدة نادرة الخطأ، وعلى حواشيها بعض التصحيحات والتعليقات. تبدأ بلا ورقة عنوان وإنما بالأبيات الأولى من المراقي، ثم شرع في شرح البيت رقم (22). وهذه النسخة هي التي اعتمدناها في تصحيح النص والمقابلة، ورمزنا لها بـ "الأصل". * المطبوعات: للكتاب طبعتان: الأولى: بتحقيق الدكتور محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي، وقد طبعت بتمويل محمد محمود محمد الخضر القاضي، توزيع دار المنارة للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1415 في مجلدين. وله الفضل في إخراج الكتاب أول مرة، وأهم الملاحظات عليها ما يلي:

(المقدمة/21)


الملاحظة الأولى: وقوع سقط في الكتاب في نحو خمسة عشر موضعًا، وأذكرها هنا للفائدة لمن أراد أن يكمل نسخته من تلك الطبعة: - ص 46 سطر 4 من أسفل سقط بعد قوله: (بالنقض [وفي المسألة أقوال أُخَر لم نذكرها معروفة] في كتب. .). - ص 50 سطر 8 سقط بعد قوله: (قوله: [فَعِ ذا خلاف الأوْلى" أي احفظه في حال كونه خلاف الأولى، وإذا كان مع الخصوص فهو الكراهة، وذلك هو معنى قوله: "وكراهة خذ لذاك. . "). - ص 64 سطر 5 سقط بعد قوله: (لتقدمه [لتقوية العامل على العمل فهي لتقوية التعدية]. .). - ص 85 سطر 9 سقط بعد قوله: (على أن [فائدة التكليف الابتلاء، أو لا يمكن أن يعلم أنه مكلف إلا بعد التمكن من إيقاع الفعل بناءً على أن]. .). - ص 98 سطر 10 سقط بعد قوله: (الايماء [هل هو داخل في المنطوق أو المفهوم؟ فعلى أنه داخل في المنطوق يكون قسمين، منطوق صريح وهو ما تقدم، ومنطوق غير صريح وهو ما دل عليه بالاقتضاء أو الإشارة أو الإيماء]. .). - ص 109 سطر 8 سقط بعد قوله: (يمنع [المسكوت عنه على المنطوق إذا كان بينهما جامع، أي علة يصح بها]. .). - ص 279 سطر 7 سقط بعد قوله: (مائل [والمجرور قبله متعلق به،

(المقدمة/22)


أي: رُبّ شيخ جانح، أي مائل]. .). - ص 347 سطر 4 سقط بعد قوله: (الآية [بتعيين الصوم المنصوص في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}]. .). - ص 399 سطر 8 سقط بعد قوله: (أي [قبلت روايتهم. وقوله: "وإن يكن تحملوا" فيه حذف أي]. . .). - ص 418 سطر 4 من الآخر سقط قوله: (بها [وعن الشافعي ونُظَّار أصحابه جواز الرواية بها، وقطع بعضُ محققي الشافعية بوجوب العمل بها]. .). - ص 437 سطر 2 من الآخر سقط قوله: (مسائل [الطهارة ويخطئ نصفها الآخر في مسألة من مسائل]. .). - ص 446 سطر 7 سقط بعد قوله: (مالك [فمثاله في الشرط: قياس استقصاء الأوصاف في بيع الغائب على الرؤية. ومثاله في المانع: قياس النسيان للماء في الرحل على المانع من استعماله حسًّا كالسَّبُع واللصّ] .. .). - ص 516 سطر 10 سقط قوله: (محتملًا [له فلا عبرة به، لأنه بمعزل عن القصد في هذا المسلك، وهو مراد المؤلف بقوله: "وإلا فعن القصد اعتزل" أي وإلا يكن مناسبًا أو محتملًا]. .). الملاحظة الثانية: أن الأبيات التي لم يكتب الشيخ شرحها أكملها المحقق ووضع شرحه في متن الكتاب، وهذا يوهم القارئ أنها من كلام الشيخ ما دامت في المتن، وإن أشار في مقدمة تحقيقه ص/ 13

(المقدمة/23)


أنه سيكملها، فكان الأولى أن توضع في الهامش لا في المتن. وهذا ما صنعناه كما سيأتي. الطبعة الثانية: طبعة المكتبة العصرية بيروت، عام 1425 في مجلد واحد، وهي مأخوذة عن سابقتها وإن لم يشيروا إلى ذلك، بدليل ما جاء في آخر طبعتهم (ص/ 445) وهو خاتمة التحقيق لطبعة دار المنارة. غير أنهم في الأبيات التي لم يشرحها الشيخ أخذوا شرحها من كتاب "نشر البنود" للناظم نفسه. * العمل في الكتاب: اعتمدنا في إثبات النص على النسخة الثالثة التي سبق الحديث عن (ص/ 21)، وسبق أن ذكرنا أنها نسخة جيدة قليلة الخطأ نادرة السقط. ولا غرابة في ذلك فهي بخط الشيخ أحمد محمود عبد الوهاب وهو من طلاب الشيخ الأمين، وأحد علماء الأصول. وقد استفدنا من طبعة دار المنارة في تصحيح بعض الأخطاء أو سقوط بعض الكلمات، ورمزنا لها بـ "طـ". أما الأبيات التي لم يكتب الشيخ شرحها وهي من (1 - 21) و (219 - 381) فأكملناها من شرح الولاتي "فتح الودود" في هامش الكتاب بخط أصغر تمييزًا بينها وبين شرح الشيخ. واخترنا هذا الشرح لقربه من منهج الشيخ، من حيث الاختصار ووضوح العبارة. بالإضافة إلى ما تستدعيه مهمة التحقيق مما شرحناه مرارًا. . ثم صنعنا للكتاب فهارس متنوعة.

(المقدمة/24)


والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. * نماذج من نسخة الكتاب:

(المقدمة/25)


الصفحة الأولى من المخطوط

(المقدمة/26)


الصفحة الثانية من المخطوط

(المقدمة/27)


الصفحة قبل الأخيرة من المخطوط

(المقدمة/28)


الصفحة الأخيرة من المخطوط

(المقدمة/29)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . _________ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 1 - يقول عبد اللَّه وهو ارتسما ... سمى له والعلويُّ المنْتمى (1) عبد اللَّه اسم الناظم و"ارتسم" بمعنى ثبت، و"السما" لغة في الاسم و"العَلَوي" نسبة إلى علي بن أبي طالب، و"المنتمى" المنتسَب مصدر ميمي من غير الثلاثي. 2 - الحمد للَّه الذي أفاضا ... من الجَدَى الذي دهورًا غاضا "أفاض" بمعنى أكثر و"الجَدَى" النفع والخير الذي جاء به -صلى اللَّه عليه وسلم-، و"غاض" بمعنى قل وعدم "دهورًا" أي: زمنًا طويلًا قبله -صلى اللَّه عليه وسلم-. 3 - وجعل الفروعَ والأصولا ... لمن يرومُ نيلَها محصولا النيل المراد به التعلم، و"محصولا" بمعنى حاصلة في الكتب والصدور، مفعول بمعنى فاعل. 4 - وشاد ذا الدين بمن ساد الورى ... فهو المجلِّي والورى إلى ورا شاد الحائط طلاه بالشيد، فهو هنا كناية عن تحسين الدين وتحصينه، و"المجلي" السابق في الحلبة، و"ورا" بمعنى خلف قُصِر للوزن. 5 - محمدٍ مُنَوِّر القلوب ... وكاشِفِ الكَرْب لدى الكروب تنويره القلوب بالإيمان ومحبته واتباعه والصلاة عليه، وكشفه للكرب __________ (1) من هنا إلى البيت رقم (21) ليس في شرح الشيخ، لذا وضعنا شرحها في الحاشية من شرح الولاتي للمراقي المسمَّى "فتح الودود": (ص/ 5 - 8). وانظر المقدمة.

(1/3)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . _________ لدى الكروب أي: يوم القيامة بشفاعته، والكرب الحزن 6 - صلى عليه ربُّنا وسلَّما ... وآله ومن لشرعِه انتما الشرع: السنة والدين، والانتماء إليه بالعمل به وتدوينه وتعلمه وتعليمه. 7 - (هذا) أي: الأمر هذا وهو فصل الخطاب (وحينَ قد رأيتُ المذهبا) أي: مذهب مالك (رُجحانه) على سائر المذاهب (له الكثير ذهبا) أي ذهب إليه الكثير من العلماء. 8 - (وما سواه) من المذاهب مفقود (مثل عَنْقا مُغْرِب * في كل قطرٍ) أي ناحية (من نواحي المغرب) والعنقا طائر يُذكر ولا يُرَى. 9 - (أردتُ أن أجمعَ من أصوله) أي مذهب مالك (ما فيه بغيةٌ) أي مطلب (لذي فصوله) أي فروعه، حال كونه. 10 - (منتبذًا عن مقصدي ما ذُكِرا * لدى الفنون غيرِه) أي تاركًا في هذا النظم ما ذُكِر في غيره من الفنون، كمعاني الحروف ذُكِرت في النحو، ومسائل الحقيقة والمجاز المذكورة في البيان، وأنواع الدلالة المذكورة في المنطق. وحال كونه أيضا (محرِّرًا) له أي النظم أي مسلمًا له من الحشو والتطويل بلا فائدة. 11 - سميتُه مراقيَ السُّعُود ... لمبتغي الرُّقيّ والصُّعُود أي سماه بـ "مراقي السعود لطالب الرقي والصعود" إلى سماء الفقه وموارد الشرع ومقاصده. 12 - أستوهب اللَّهَ الكريمَ المددا ... ونفعَه للقارئين أبدا المدد الزيادة في العلم والتأييد على إكمال هذا النظم.

(1/4)


.

  مقدمة في علم الأصول، وهي -بكسر الدال وفتحها- ما يتوقف عليه الشروع في الفن.

13 - أول من ألَّفَه في الكُتُب ... محمد بن شافِعِ المطَّلبي أي أول من ألَّف علم الأصول في الكتب الإمام محمد بن شافع المطلبي. 14 - (وغيره) من المجتهدين كالصحابة والتابعين (كان) أي علم الأصول (له سليقه) أي طبيعة مركوزة فيه (مثل الذي للعُرْب من خليقه) أي من طبيعة مركوزة فيهم من نحو وتصريف وبيان. 15 - الأحكام والأدلةُ الموضوعُ ... وكونه هذي فقط مسموع يعني أن موضوع علم الأصول الأحكام والأدلة الشرعية "وكونه" أي الموضوع "هذي" أي الأدلة الشرعية فقط مسموع عن بعض الأئمة؛ لأنه يبحث فيه عن عوارضها الذاتية، كقولهم: الأمر للوجوب. وموضوع كل فن ما يبحث في الفن عن عوارضه الذاتية. أصول الفقه الأصل لغةً: ما يُبنى عليه الشيء حسًّا كالجدار للسقف، ومعنى كالحقيقة للمجاز، وأصول الفقه لقب لهذا العلم. 16 - أصوله دلائلُ الإجمال ... . . . . . . . . .

(1/5)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . _________ يعني أن أصول الفقه أدلته الإجمالية التي لا تُعين مسألةً جزئية كقاعدة: مطلق الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، لا أدلته التفصيلية نحو: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} فإنها لا تسمى أصول الفقه اصطلاحًا؛ لأن كل واحد منها يُعَيِّن مسألة جزئية. والأصل في الاصطلاح الدليل والأمر الراجح. . . . . . . . . . ... وطرق الترجيح قَيْدٌ تالي يعني أن وجوه الترجيح للأدلة عند تعارضها قَيْد تابع للأدلة الإجمالية في الدخول في مسمى أصول الفقه. 17 - وما للاجتهادِ من شرطٍ وَضَح ... . . . . . . . . . أي والذي للاجتهاد من شرط وضح دخوله في مسمى الأصول، خلافًا لابن أبي شريف في أنها تتمات لأجزاء المسمَّى. . . . . . . . . . ... ويُطْلَق الأصل على ما قد رَجَح يعني أن الأصل يُطْلَق اصطلاحًا على الأمر الراجح نحو: الأصل براءة الذمة، والأصل عدم المجاز، والأصل بقاء ما كان على ما كان عليه. (فصل) 18 - والفرعُ حكمُ الشرع قد تعلَّقا ... بصفةِ الفِعْل كندب مطلقا يعني أن الفرعَ هو حكم الشرع المتعلق بصفة فعل المكلف مطلقًا، أي سواء كان قلبيًّا كالنية، أو بدنيًّا كالوضوء، وتلك الصفة ككونه ندبًا أو غيره من الأحكام الخمسة.

(1/6)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . _________ 19 - (والفقه) اصطلاحًا (هو العلم بالأحكام) أي النِّسَب التامة التي هي ثبوتُ أمرٍ لآخر إيجابًا أو سلبًا، احترازًا عن العلم بالذوات والصفات والأفعال عن النِّسَب التقييدية، والمراد جميع الأحكام التي: . . . . . . . . . ... للشرع والفعل نماها النامي أي التي نسبها الناسب للشرع، و"الفعل" أي الأحكام الشرعية العملية، فالشرعية المأخوذة من الشرع تصريحًا أو استنباطًا احترازًا عن الأحكام العقلية والحسية والعرفية والعملية المتعلقة بكيفية عملٍ قلبي كالعلم بوجوب النية في الوضوء أو بدني كالعلم بسنية الوتر، احترازًا عن الأحكام الشرعية الاعتقادية، كالعلم بأن اللَّه تعالى واحد. قوله: 20 - أدلة التفصيل منها مكتسب ... . . . . . . . . . يعني أن الفقه مكتسب من الأدلة التفصيلية، وبقيد الاكتساب يخرج علم اللَّه تعالى، وعلم كل نبي وملك، وبقيد التفصيلية يخرج علم المقلِّد لأنه مكتسَب من دليل إجمالي هو فتوى المجتهد؛ لأنها حكم اللَّه في حقه وحق مقلديه. . . . . . . . . . ... والعلم بالصلاح فيما قد ذَهَب يعني أن المراد بالعلم بجميع الأحكام في تعريف الفقه الصلاحية والتهيء لذلك بأن يكون له مَلَكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام،

(1/7)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . _________ وقد اشتهر عرفًا إطلاق العلم على هذه الملكة. وعلى هذا فلا يقدح قول: لا أدري. 21 - فالكل من أهل المناحي الأربعه ... . . . . . . . . . . . . أي المذاهب الأربعة. . . . . . . . . . ... يقول لا أدري فكُنْ مُتَّبِعه في ذلك القول فإنه يدل على الورع.

(1/8)


22 - كلام ربّي إن تعلق بما ... يَصحُّ فِعْلًا للمكلف اعلما 23 - من حيث إنه به مكلفُ ... فذاك بالحكم لديهم يعرفُ يعني أن الحكم الشرعي في الاصطلاح هو: كلام اللَّه المتعلق بما يصح أن يكون فعلًا للمكلف من حيث إنه مكلف به، فأشار بقوله: "كلام اللَّه" إلى أنه لا حكم ألبتَّة إلَّا للَّه، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام/ 57] والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مبلِّغ عن اللَّه، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل/ 44] وجميع ما في السّنَّة داخل في القرآن لقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر/ 7]، وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء/ 80]، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية [آل عمران/ 31]. واحترز بقوله: "المتعلق بما يصح فعلًا للمكلف" عن المتعلق بما لا يصح فعلًا له، ككلام اللَّه المتعلق بذاته وصفاته نحو: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام/ 102]، وككلامه المتعلق بذاوت المكلفين نحو قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف/ 11]، وقوله: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم/ 40]، وككلامه المتعلق بالجمادات نحو: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف/ 47] ونحو ذلك. وإنما عَدَل المؤلِّف عن عبارة الأصوليين بقولهم: "المتعلق بفعل المكلف" إلى قوله: "بما يصح أن يكون فعلًا للمكلف" لِيُدْخِلَ المعدومَ وقت كلام اللَّه بذلك الحكم. واحترز بقوله: "من حيث إنه به مكلف" عن كلامه المتعلق بما يصح فعلًا للمكلف من حيثية أخرى نحو قوله:

(1/9)


{وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} [المؤمنون] فإنه كلامه المتعلق بأفعال المكلفين، لكن لا من حيث إنهم مكلفون به، بل من حيث إنه إخبار عنهم بصدور تلك الأعمال منهم، والمرادُ بتعلق الخطاب بشيء بيان حاله من كونه مطلوب الفعل، أو الترك، أو مأذونًا فيه. و"المكلف": العاقل البالغ الذي ليس بمُكْره ولا مُلجإٍ ولا غافل، وصواب المؤلف لو حذف القيد بالمكلف لأن الصبي عنده تتعلق به أحكام الندب والكراهة والإباحة كما يأتي له. ويمكن أن يجاب عنه بأن الصبي يدخل في اسم المكلف عند المالكية بالنسبة إلى غير الواجب والحرام كما يأتي للمؤلف قريبًا. واعلم أن هذا التعريف يتناول خطاب التكليف دون خطاب الوضع، وسيأتي الكلام على خطاب الوضع إن شاء اللَّه. وقول المؤلف: "من حيث إنه" إلخ بكسر الهمزة على اللغة الفصحى، وهي: أن "حيث" لا تضاف إلَّا للجمل، ويجوز فتحها فتكون "حيث" مضافة إلى المصدر المنسبك من أنّ وصلتها، بناءً على جواز إضافة "حيث" للمفرد، وهو رأي الكسائي. قيل: ومنه قول الراجز: أما ترى حيث سُهَيْلٍ طالعًا ... نجمًا يُضيء كالشهاب لامعًا (1) وقول الشاعر: . . . . . . . . . . . . ... حيث ليِّ العمائم (2) __________ (1) هذا الشاهد أنشده الكسائي، ولم يعرف قائله، انظر "خزانة الأدب": (7/ 3 - 5). (2) بعض بيت لكثيِّر عزَّة "ديوانه": (ص/ 218). والبيت بتمامه: =

(1/10)


24 - قد كُلِّفَ الصبي على الذي اعتمي ... بغير ما وجب والمحرمِ يعني أن الصبيَّ عند المالكية مكلَّف بغير الواجب والحرام، وهو الندب والكراهة والإباحة، كما صححه ابن رشد في "البيان" (1)، و"المقدمات"، والقرافي في كتاب "اليواقيت في أحكام المواقيت" (2). ودليل المالكية على ذلك: حديث الخثعمية التي أخذت بضبعَيْ صبي وقالت: يا رسول اللَّه ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر" (3). وأما حديث: "مُروهم بالصلاةِ لسبعٍ واضربوهم لعشرٍ وفَرِّقوا بينهم في المضاجع" (4) فالاستدلال به مبني على قاعدة مختَلف فيها __________ = وَهاجِرَةٍ يا عَزَّ يَلتَفُّ حَرُّها ... بِرُكبانِها مِن حَيثُ لَيُّ العَمائِمِ (1) نحوه "البيان والتحصيل": (1/ 396) (16/ 143 - 146). (2) الكتاب لا يزال مخطوطًا، انظر نُسَخه في "الفهرس الشامل": (11/ 620). (3) أخرجه مسلم رقم (1336) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. تنبيه: قول المؤلف (حديث الخثعمية) سبق قلم، فليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأن هذه المرأة السائلة من خثعم، فلعله اشتبه عليه بحديث المرأة الخثعمية التي سألت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أبيها حيث أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير. .، والحديث مشهور في الصحاح وغيرها. (4) أخرجه أبو داود رقم (495)، والترمذي رقم (407)، وابن خزيمة رقم (1002)، والدارقطني: (3/ 230)، والحاكم: (1/ 258)، والبيهقي في "الكبرى": (2/ 14) من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وقال عبد الحق في "الوسطى": هذا الحديث أصح ما في الباب، وصححه ابن الملقن. لكن عبد الملك ضعفه ابن معين وابن حبان وغيرهما، ووثقه =

(1/11)


وهي: هل من أمر بالأمر آمِرٌ للثالث أو لا؟ وقد بين المؤلف ذلك في مبحث الأمر (1) بقوله: وليس مَنْ أمَرَ بالأمر أمَرْ ... لثالثٍ إلا كما في ابن عمر والأمر للصبيان ندبُه نُمِي ... لِما رَوَوْهُ من حديثِ خثعمِ وقوله: "اعتُمي" بمعنى اختير. وقال القرافي في "القواعد" (2) في الفرق (3) بين أنكحة الصبيان تنعقد ويخيَّر الولي وطلاقهم لا يلزم: إن عقد النكاح سبب إباحة الوطء وهم أهل للخطاب بالإباحة والندب والكراهة. والطلاقُ سَببُ تحريم الوطء وليسوا أهلًا للخطاب بالتحريم ولا الوجوب. والصبيُّ عند جماهير العلماء غيرُ مكلف بشيء مستدلِّين بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رُفع القلم عن ثلاث -وذكر منهم- الصبيَّ حتى يحتلم" (4). __________ = العجلي وأخرج له مسلم متابعةً. والحديث أخرجه أبو داود رقم (496)، والحاكم: (1/ 197) من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده. انظر "الإمام": (3/ 535) لابن دقيق العيد، و"البدر المنير": (3/ 238) لابن الملقن. (1) البيت رقم (255، 256). (2) يعني "الفروق": (3/ 167 - 168) بتصرف. (3) خ: الفروق. (4) أخرجه أحمد (41/ 224 رقم 24694)، وأبو داود رقم (3998)، والنسائي: (6/ 156)، وابن ماجه رقم (2041)، وابن حبان "الإحسان" رقم (142)، =

(1/12)


25 - وهو إلزامُ الذي يشقُّ ... أو طلب فاهَ بكلٍّ خَلْقُ 26 - لكنه ليس يفيد فرعا ... فلا تضق لفقد فَرْعٍ ذرْعا يعني أنه اختلف في حد التكليف فقيل: هو إلزام ما فيه مشقة وكُلْفة، وعلى هذا القول فلا يدخل في حدِّ التكليف إلا الواجب والحرام فقط، وهذا القول هو معناه اللغوي، ومنه قول علقمة (1): تكلِّفني ليلى وقد شطَّ وَلْيُها ... وعادت عوادٍ بَيننا وخطوبُ وقول الخنساء (2) في صخر: يُكلِّفُه القومُ ما نابَهم ... وإن كان أصغرَهم مولدا وقيل: هو طلب ما فيه مشقة وكُلْفة، وعليه يدخل في حدِّ التكليف الواجبُ والمندوبُ والحرام والمكروه، وأما الجائز فلا يدخل على كلا التعريفين، فإدخاله في الأحكام التكليفية لا يخلو من تسامح. وما أجاب به البعض من أنه مكلف به من حيث اعتقاد جوازه فلا ينهض؛ لأن غيره يجب اعتقاده أيضًا. __________ = والحاكم: (2/ 59)، وغيرهم من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه، ولم يتعقَّبه الذهبي، وصححه ابن حبان. وقال ابن الملقن: له طرق أقواها طريق عائشة. وللحديث شواهد من حديث علي وأبي قتادة. انظر "الإمام": (3/ 524)، و"البدر المنير": (3/ 225)، و"نصب الراية": (4/ 162)، و"التلخيص": (1/ 194)، و"الإرواء" رقم (297). (1) "ديوانه": (ص 23). (2) "الديوان": (ص/ 146 - مع شرح ثعلب) ولشطره الأول عدة روايات.

(1/13)


وقول المؤلف: "لكنه ليس يفيد فرعًا" إلخ، يعني أن الاختلاف في التكليف هل هو الإلزام أو الطلب لا يفيد فرعًا من الفروع لعدم بناء حكم عليه. قال أبو إسحاق الشاطبي (1) في هذه المسألة: ليس من أصول الفقه ولا عونًا عليه، وما كان كذلك لا ينبغي ذكره في الفن. وقوله: "ذرعًا" تمييز محوَّل عن الفاعل، أي لا يضق (2) صدرك لعدم وجود فرع، لأن هذه المسألة لا ينبني عليها حكم، وقوله: "فاه" فعل ماض بمعنى نَطَق. 27 - والحكم ما به يجيءُ الشرعُ ... وأصل كل ما يضرُّ المنعُ يعني أن الحكم التنجيزي الذي يترتب عليه الثواب والعقاب هو ما جاء به الشرع عن اللَّه على ألسنة الرسل، فلا حكم تنجيزيًّا يترتب عليه الثواب والعقاب قبل بعث الرُّسُل عليهم الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء] فقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} أي ولا مُثيبين. وقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165] ويبيِّن هذه الحجة المذكورة بقوله في سورة طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه/ 134] الآية. وخالفت المعتزلة فحكَّمَت العقل فجعلته __________ (1) انظر "الموافقات": (1/ 37 - 38). (2) خ: يضيق.

(1/14)


طريقًا إلى العلم بالحكم الشرعي، يمكن إدراكه به من غير سمع، فهو عندهم تابع للمصالح والمفاسد، فإن كان حسنًا عقلًا جوَّزه الشرع، وإن كان قبيحًا عقلًا منعه، وسيأتي ردُّ مذهبهم إن شاء اللَّه عند محله (1). وقول المؤلف: "وأصل كل ما يضرُّ المنع" يعني أن الأصلَ في الشيء الضارّ بالأبدان كالمَسْمُومات والمؤدِّيات للمرض، أو العقول كالمسكرات = المنعُ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ضَرَر ولا ضِرار" (2). وتحت مفهوم كلامه صُوَرٌ: إحداها: أن يكون فيه منفعة ولا ضرر فيه فالأصل فيه -على التحقيق- الإباحة؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة/ 29] ولا يمتنُّ إلا بجائز فلا يمنع إلا ما أخرجه دليل. وقيل: يُحْمَل على المنع لأن جميع الأشياء ملك للَّه تعالى، ولا __________ (1) عند البيت رقم (102). (2) أخرجه الدارقطني: (3/ 77)، والحاكم: (2/ 57)، والبيهقي: (6/ 69) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم. ولم يتعقبه الذهبي، وفيه نظر. وروي من حديث ابن عباس وعائشة وعبادة بن الصامت وأبي هريرة، وبمجموع طرقه حسَّنه ابن الصلاح والنووي في "الأربعين" رقم (32)، وابن رجب في "جامع العلوم والحكم": (2/ 210)، واستدل به الإمام أحمد، وذكر أبو داود أنه من الأحاديث التي يدور عليها الفقه. وذكر ابن عبد البر في "التمهيد": (20/ 158) أنه لا يستند من وجهٍ صحيح، إلا أنه صحيح من جهة المعنى. وللمزيد انظر التعليق على "تنبيه الرجل العاقل": (2/ 507).

(1/15)


يجوز التصرف في ملك المالك إلا بإذنه، ولأن اللَّه قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر/ 7] فيُفْهَم من دليل خطابه أن ما لم يأْتكم لا تأخذوه، استدلَّ بمفهوم هذه الآية على المنع جماعةٌ منهم الأبهري، والذي يظهر لي أن هذا المفهوم تُمكِنُ معارضته بمفهومِ قوله: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر/ 7] أي وما لم ينهكم عنه فلا تنتهوا، فهو نظير الاستدلال الأول. القول الثالث: الوقف لاحتمال هذا وهذا. ومن الصور المذكورة: أن تكون فيه مصلحة من جهة ومفسدة من جهة أخرى، وسيأتي في مسالك العلة وفي كتاب الاستدلال أنه ينظر في المصلحة والمفسدة فإن تساوتا أو كانت المفسدة أعظم مُنع، وإن كانت المصلحة أرجحَ جاز. ومن الصور المذكورة: ألا يكون فيه مصلحة ولا مفسدة ولا أعلم فيها نصًّا عن أحد. وسيأتي له إن شاء اللَّه زيادةُ إيضاح في مسلك المناسبة والإخالة والكلام على المصالح المرسلة. ويدخل في قول المؤلف: "وأصلُ كلِّ ما يضرّ المنع" شُرْب الدخان وأكل التراب ونحو ذلك. 28 - ذو فترة بالفرع لا يراعُ ... وفي الأصول بينهم نزاعُ يعني: أن أهل الفترة لا يروَّعون (1) أي يُعذبون بسبب تركهم للفروع كترك الواجبات وانتهاك المحرمات الفعلية، لعدم تكليفهم بها. وأهلُ الفترة: من كانوا بين رسولين لم يُرْسل الأول لهم ولا أدركوا __________ (1) خ: يراوعون.

(1/16)


الثاني، كما قاله العبَّادي في "الآيات البينات" (1) وأنه اختلف في تعذيبهم بترك الأصول يعني التوحيد. ومَبْنى هذا الخلاف هل يجب التوحيد بمجرد العقل، أو لابُدَّ من انضمام النقل؟ وتعذيبُ أهل الفترة بترك التوحيد اعتمده النوويُّ في "شرح مسلم" (2) لإخبار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الذين مضوا في الجاهلية في النار. وحكى القرافي في "شرح التنقيح" (3) الإجماعَ على تعذيب موتى الجاهلية في النار وعلى كفرهم، ولولا التكليف لما عُذِّبوا. وذهب الأشاعرةُ من أهل الأصول والكلام إلى أنهم لا يعذبون (4) وأجابوا عن جماعةٍ منهم صحَّ تعذيبهم بأجوبة، منها: أنه يحتمل أن يكون لأمرٍ مختصٍّ به يقتضي ذلك عَلِمَه اللَّه فأعْلَمَ به رسولَه -صلى اللَّه عليه وسلم-، نظير ما جاء في القرآن من كفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه. ومنها: أن ذلك خاص بمن بَدَّل وغيَّر بما لا يُعذر به كعبادة الأوثان. ومنها: أن الأحاديث التي صحَّت بذلك أخبار آحاد، والآياتُ التي تنفي ذلك قواطع فهي مُقَدَّمة. ويجاب عن هذا بأن الأحاديث أخصُّ ولا تَعارض بين عام وخاص. __________ (1) (1/ 103). (2) (3/ 79). (3) (ص/297) في باب فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (4) بعده في ط: "لدلالة القرآن على ذلك" وليست في "خ".

(1/17)


ويُجاب عن الجواب بأن الأحاديث التي نصَّت على تعذيب أشخاص بأعيانهم من أهل الفترة إذا قلنا بتخصيصها عمومَ الآيات فإنها تُبطل علة حكم الآيات؛ لأنَّ اللَّه تمدَّحَ بكمال إنصافه وعدله وأنه لا يعذِّب أحدًا حتى ينذره ويعذر إليه، فلو عذَّب واحدًا من أهل الفترة قبل الإنذار والإعذار لاختلَّت حكمة العدل التي تَمَدَّحَ بها، وإذا كان مُخَصِّصُ النص يقتضي بطلان علته فذلك هو المعروف عند الأصوليين بالنقض، وهو من القوادح في الدليل كما يأتي للمؤلف. وذهب الأكثرون إلى أن تخصيص العلة كتخصيص النصّ، وعليه فالنقض الذي هو وجود العلة مع فقد الحكم ليس بقادح، وعلى هذا يمكن تخصيص الآيات بالأحاديث المعروفة من غير قدح في دلالة الآيات على ما لم يخرجه المخصِّصُ، ولكنَّ التحقيق: أنَّ العلة إن كان منعُ تأثيرها في الحكم بسبب فَقْد شرط أو وجود مانع فهو تخصيص لا قدح، فكون الأبوَّة من موانع القصاص مثلًا لا يقدح في عِلِّيَّة القتل العمد العدوان للقصاص، لأن العلةَ إنما مَنَع من تأثيرها وجودُ المانع وهو الأبوة، وإن كانت لم تؤثر من غير فَقْد شرط ولا وجود مانع فهو القادح المعروف بالنقض، وفي المسألة أقوال أخر لم نذكرها معروفة في كتب الأصول، وسيأتي للمؤلف بسطها في القوادح (1). ورجَّح الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحشر (2) أن تخصيص العلة كتخصيص __________ (1) في الأبيات (762 - وما بعدها). (2) لم أجد في تفسير ابن كثير ما أشار إليه المؤلف.

(1/18)


النصِّ مطلقًا مستدلًا بقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} [الحشر/ 3 - 4]. فصرح بأن علةَ ما وقع لبني النضير هو مشاقتهم اللَّهَ والرسولَ، وقد فعل ذلك غيرُ بني النضير، فلم يقع لهم مثل ما وقع لهم، والله أعلم. قال مقيده عفا اللَّه عنه: الذي يظهر أن عدم الإنذار عُذْرٌ، وأن اللَّه يمتحنهم يوم القيامة، فمن أطاع اللَّه فهو الذي كان يُصَدِّق الرسلَ لو جاءته في دار الدنيا فيرحمه اللَّه، ومن عصى اللَّه فهو الذي كان يكذِّب الرسلَ لو جاءته في دار الدنيا فيعذبه اللَّه وهو أعلم، لأن هذا ورد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (1). والذي يقدح فيه يقول: الآخرة دار جزاء لا دار ابتلاء، والكتاب والسُّنَّة دلَّا على التكليف فيها في الجملة، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم] وكالرجل الذي يأخذ اللَّه عليه العهود والمواثيق ألا يسأله غير ما أعطاه شيئًا ثم سأله بعد ذلك (2)، والعلم عند اللَّه تعالى. 29 - ثم الخطابُ المقتضي للفعلِ ... جزمًا فإيجابٌ لدى ذي النّقل 30 - وغيره النَّدب وما التركَ طلَبْ ... جزمًا فتحريمٌ له الإثم انتسب __________ (1) انظر للمسألة والأحاديث الواردة فيها "تفسير ابن كثير": (5/ 2071 - 2078)، و"طريق الهجرتين": (ص/ 686 - 710)، و"مجموع الفتاوى": (4/ 321)، و"فتح الباري": (3/ 290 - 291). (2) يعني الرجل الذي يكون آخر أهل الجنة دخولًا، وقصته أخرجها البخاري رقم (806)، ومسلم رقم (182) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/19)


31 - أو لا مع الخصوص أو لا فَعِ ذا ... خلافَ الأولى وكراهةً خُذا 32 - لذاك والإباحَة الخطابُ ... فيه استوى الفعل والاجتنابُ قسَّم المؤلف في هذه الأبيات الأحكام الشرعية التكليفية إلى ستة أقسام: الأول: الوجوب، وهو في اللغة السقوط واللزوم، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج/ 36] الآية. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإذا وجَبَ فلا تبكيَنَّ باكية" (1). وقول قيس بن الخطيم (2): أطاعت بنو عوفٍ أميرًا نهاهُمُ ... عن السِّلم حتى كان أولَ واجب وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأن الإيجاب هو الخطاب المقتضي للفعل، أي إيجاده والإتيان به اقتضاءً جازمًا لا يجوز معه الترك نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة/ 43] وذلك هو المراد بقوله: "ثم الخطاب المقتضي للفعل جزمًا فإيجاب". الثاني: الندب، وهو في اللغة مصدر ندبه للأمر إذا دعاه إليه، __________ (1) أخرجه مالك رقم (629)، وأحمد (39/ 160 رقم 23751)، وأبو داود رقم (3111)، والنسائي رقم (1846)، وابن حبان "الإحسان" رقم (3189)، والحاكم: (1/ 351) من حديث جابر بن عتيك -رضي اللَّه عنه-. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. ولم يتعقبه الذهبي، وصححه ابن حبان، وابن الملقن في "البدر المنير": (5/ 359). (2) "ديوانه": (ص 43).

(1/20)


ومنه قوله: لا يسألونَ أخاهم حينَ يَنْدُبُهم ... في النائباتِ على ما قال بُرْهانا (1) وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأنه الخطاب المقتضي لإيجاد الفعل والإتيان به اقتضاءً غير جازم لجواز تركه وعدم الإثم به، وذلك هو معنى قوله: "وغيره الندب". الثالث: التحريم، وهو في اللغة المنع، ومنه قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة/ 26]، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء/ 95] الآية، وقول امرئ القيس (2): جالت لتصرَعَني فقلت لها اقْصِري ... إنِّي امرؤٌ صَرْعي عليكِ حرامِ وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأنه الخطابُ المقتضي لترك الفعل اقتضاءً جازمًا لا يجوز معه ارتكاب الفعل، وإن ارتكبه أَثِمَ، وذلك هو معنى قوله: "وما التركَ طلبْ جَزْمًا فتحريم له الإثم انتسبْ" ومثاله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء/ 32] وقوله: "الترك" مفعولٌ مقدَّم. الرابع والخامس: خلاف الأوْلَى والمكروه، والفرق بينهما -على القول به- أن خلاف الأَوْلى لم يَرِد فيه نصٌّ خاص بالنهي عنه، وإنما ورد الأمر بضده على سبيل الندب، والأمرُ بالشيء ندبًا نهيٌ عن ضده نَهْيَ خلافِ الأوْلَى، كالأمر بصلاة الضحى يلزمه النهي عن تركها وهو خلاف الأوْلَى، لأنه لم يُنْهَ عنه بنصٍّ خاص وإنما أُمِر بضده. __________ (1) البيت لقريط بن أُنيف من بلعنبر من أبيات كما في "الحماسة": (1/ 58). (2) "ديوانه": (2/ 481) وفي البيت إقواء.

(1/21)


وأما الكراهة -على هذا القول- فهي ما ورَدَ فيه نص مصرِّح بالنهي عنه نهيًا غير جازم كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا دَخَلَ أحدُكم المسجد فلا يجلس حتَّى يصلي ركعتين" (1)، فالجلوس قبل صلاتهما مكروه؛ لورود النهي صريحًا عنه بخصوصه. وأشار إلى القسمين المذكورَين بقوله: أو لا مع الخصوص أو لا فَعِ ذا ... خلاف الأولى وكراهةً خُذا لذاك. . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . فقوله: "أوْ لا" -الأول- معناه أو لا يكون طلب الترك حتمًا لجواز الفعل مع ذلك النهي. وقوله: "مع الخصوص أو لا"، يعني أن طلبَ الترك إذا كان غير جازم فله حالتان: الأولى: أن يكون بدليل صريح في النهي خاصٍّ به. والثانية: أن يكون للأمر بضده لا لدليل خاص، وذلك هو معنى قوله: "مع الخصوص أو لا"، فإذا لم يكن مع الخصوص فهو خلاف الأَوْلَى، وذلك هو معنى قوله: "فَع ذَا خلافَ الأوْلَى" أي احفَظْه في حال كونه خلاف الأولى، وإذا كان مَع الخصوص فهو الكراهة، وذلك هو معنى قوله: "وكراهةً خذا لذاك. . . ". السادس: الإباحة: وهي الإذن في الشيء فعلًا وتركًا، وذلك هو معنى قول المؤلف: ". . . . . والإباحة الخطابُ ... فيه استوى الفعلُ والاجْتِنابُ" __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1163)، ومسلم رقم (714) من حديث أبي قَتَادة الأنصاري -رضي اللَّه عنه-.

(1/22)


فإشارة القريب لخلاف الأولى، وإشارة البعيد للكراهة كما تقدم. والمراد بـ "ذي النقل" نَقْل علماء الأصول. 33 - وما من البراءة الأصلية ... قد أخذت فليست الشرعية يعني أنَّ الإباحة المأخوذة من البراءة الأصلية، وهي استصحاب عدم التكليف حتى يَرِدَ الدليل ليست إباحةً شرعية، وإنَّما هي إباحة عقلية، وتسمى البراءة الأصلية واستصحابَ العدم، ولذلك لم يكن رفعُها نسخًا، لأنها لم تكن حكمًا شرعيًّا حتى يكون رفعها نسخًا، فإباحة جَمْع الأختين قبل التحريم، وإباحة موطوءة الأب قبل التحريم، وإباحة الربا قبل التحريم = كلها براءة أصلية، ولذلك لم يكن المنع ناسخًا لها، لأن النسخَ: رفعُ حكم شرعي. . . إلخ. وسيأتي للمؤلف مثل هذا في مسالك العلة. 34 - وهِيَ والجواز قد ترادفا ... في مطلق الإذن لدى من سلفا يعني أن الإباحةَ والجوازَ ترادفا في مطلق الإذن الصادق بالوجوب والندب والكراهة والجواز، وعلى هذا القول فيدخل فيها كل ما سوى التحريم، ويجري على هذا القول قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أبغضُ الحلال. . " (1) __________ (1) أخرجه أَبو داود رقم (2170)، والبيهقي في "الكبرى": (7/ 322) عن محارب بنُ دثار عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. ورواه أَبو داود رقم (2171)، وابن ماجة رقم (2018)، والحاكم: (2/ 196) بمعناه من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. والحديث صححه الحاكم، ووافقه ابن الملقن، انظر: "البدر المنير": (8/ 67)، والصواب أن هذا الحديث مرسل كما رجحه الحفاظ، انظر "العلل" رقم (1297) =

(1/23)


الحديث، والأول أشهر. 35 - والعلم والوُسع على المعروفِ ... شرط يعم كُلَّ ذي تكليفِ يعني أن كلَّ خطاب تكليف يشترطُ في التكليف به العلمُ والوُسْعُ بمعنى الطاقة، أما اشتراط العلم فقد دل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة/ 115]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء]. وأما اشتراط الوُسْع فقد دلط عليه قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/ 286] أي طاقتها، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16] فغير العالم بالخطاب لا يكلَّف به. واخْتُلِف في الناسي والنائم والمكرَه وأمثالهم هل هم مكلَّفون؟ والتحقيقُ أنهم غيرُ مكلفين. ومفهوم قوله: "كل ذي تكليف" أن خطابَ الوضع لا يشترط فيه العلم ولا الوُسْعُ غالبًا. 36 - ثم خطابُ الوضعِ هو الواردُ ... بأنَّ هذا مانع أو فاسدُ 37 - أو ضده أو أنه قد أوجبا ... شرطًا يكون أو يكون سببا يعني أن خطاب الوضع هو الخطاب الوارد بأن هذا الشيء مانع من هذا، كالحيض المانع من الصلاة والصوم صحة وجوازًا، وبأنَّ هذا الشيء صحيح أو فاسد، أو بأنَّ هذا الشيء موجب لهذا لكونه شرطًا له __________ = لابن أبي حاتم، و"العلل": (4/ ق/ 51 ب) للدارقطني، و"مختصر أبي داود": (3/ 92) للمنذري. وضعفه ابن الجوزي في "العلل المتناهية": (2/ 638).

(1/24)


أو سببًا، فخطابُ الوضع على هذا منحصر في الأسباب، والشروط، والموانع، والصحة، والفساد. وسيأتي -إن شاء اللَّه- تعريف الكل في المتن. وإنَّما سُمِّي "خطاب الوضع" لأن اللَّه يقول -مثلًا-: إذا وقع هذا في الوجود فاعْلَموا أني حكمت بكذا، نحو: إذا زالت الشمس فقد حكمتُ بوجوب صلاة الظهر، فكونُ الخطاب بوجوبها عند الزوال خطاب وضع لأن الزوال شرط في الوجوب، والشروط من خطاب الوضع كما تقدم. 38 - وهو من ذاك أعمّ مطلقًا ... . . . . . . . . . . . يعني أن خطاب الوضع أعم من خطاب التكليف عمومًا مطلقًا؛ لأنه لم يوجد خطاب تكليف إلَّا مقترنًا بخطاب وضع، إذ لا يخلو التكليف من الشروط والموانع والأسباب، وقد يوجد خطاب الوضع فيما لا تكليف فيه، كتضمين الصبي والمخطئ قيمَ المتلفات، وأَرْشَ الجناية ونحو ذلك، فلا يشترط في خطاب الوضع العلم ولا القدرة غالبًا كما تقدم، وربما عرض له أمْرٌ خارج يوجب اشتراط ذلك فيه نادرًا، ككل سبب هو جناية بالنسبة إلى الإثم دون الغُرْم، وككل سبب في نقل الملك في الأعيان والمنافع فإنه يشترط فيه العلم والرضا. وقيل: النسبةُ بين الخطابَيْن العموم من وجه، واختاره بعضُ المتأخرين (1)، وليس بظاهر واللَّه أعلم. __________ (1) لعله عنى القرافي، انظر "الفروق": (1/ 365).

(1/25)


. . ... والفرض والواجب قد توافقا 39 - كالحتم واللازمِ مكتوبٍ. . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن الفرض والواجب والحتم واللازم والمكتوب أسماء مترادفة لما يُثاب على فعله ويُعاقب على تركه، وهو ما طلبه الشارع طلبًا جازمًا، وأَبو حنيفة يفرِّق بين الفرض والواجب، فالفرض عنده ما وجب بدليل قطعي، والواجبُ ما وجبَ بدليل ظنِّيّ، ومتأخروا المالكية والحنابلة ربما أطلقوا الواجبَ على المسنون المؤكَّدِ (1). . . . . . . . . . . . . . . . . وما ... فيه اشتباه للكراهة انتمى يعني أنَّ الأمور المشتبهة المشار إليها بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وبينهما أمور مشتبهات. . . " (2) الحديث. تطلق عليها الكراهة عند المالكية، قاله ابن رشد (3). 40 - وليس في الواجب من نوالِ ... عند انتفاء قصد الامتثال 41 - فيما له النية لا تشترطُ ... وغير ما ذكرتُه فغلطُ 42 - ومثله التَرك لما يُحرَّمُ ... من غير قصدِ ذا نعم مُسلَّمُ يعني أن الواجب باعتبار اشتراط النية في الاعتداد به قسمان: __________ (1) ومنه قول مالك في العقيقة والعمرة، وقول ابن أبي زيد في "الرسالة": (ص/ 144): "وصلاة العيد سنة واجبة". (2) أخرجه البخاري رقم (2051)، ومسلم رقم (1599) من حديث النعمان بنُ بشير -رضي اللَّه عنه-. (3) انظر "الفتاوى": (1/ 634).

(1/26)


قسم لا يُعتد به إلَّا بنية الامتثال كالصلاة والصوم. وقسم يُعْتد به دون نية الامتثال كقضاء الدين وردِّ الودائع والمغصوبات والإنفاق على الزوجات. فالذي يُشترط في الاعتداد به النيةُ أمره ظاهر، والذي لا تشترط فيه يصح دون نية ولكن لا ثواب له إلَّا بالنية، ومراده بالنوال الأجر والثواب، وكذلك كل ترك للحرام لا ثواب فيه إلَّا بنية الامتثال. وقوله: "من غير قصدِ ذا" بإضافة "قصد" إلى اسم الإشارة الواقع على الامتثال. وقوله: "نعم مُسلَّم" يعني أن تارك الحرام من غير قصد الامتثال مسلَّم من الإثم لأنه لم يرتكب حرامًا، ولكن لا أجر له لأنه لم يقصد وجهَ اللَّه بالترك للحرام. 43 - فضيلة والندب والذي اسْتحِبّ ... تَرَادَفَتْ. . . . . . . . . يعني أن الفضيلة والندب والمستحبَّ أسماء مترادفة لما يُثاب على فِعْله ولا يُعاقَب على تركه. والفضيلةُ في اللغة الزِّيادة، وسُمِّي الندبُ فضيلة لزيادته على الواجب. والمسْتَحبُّ اسم مفعول استحب بمعنى أحب، لأنه محبوب شرعًا يثاب على فعله. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . ثم التطوع انتُخِبْ يعني أن التطوع عند متأخري المالكية هو ما ينتخبه الإنسان أي يختاره من الأوراد الماثورة، وعند الجمهور يرادف الندب. 44 - رغيبةٌ ما فيه رغَّب النَّبي ... بذكر ما فيه من الأجر جُبي 45 - أو دامَ فعلُه بوصفِ النفلِ ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن الرغيبة في اصطلاح المالكية تطلق على أمرين، الأول:

(1/27)


ما رَغَّب فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذكر ما فيه من الثواب كقوله: من فعل كذا فله كذا. والثاني: ما داوم -صلى اللَّه عليه وسلم- على فعله بصفة النفل لا بصفة المسنون. وستأتي صفة المسنون. وقوله: "جُبي" بالجيم فعل ماض مبني للمجهول (1)، وأصل الجباية الجمع، والمراد به في البيت ذكر ما يُجبى للفاعل أي يُعطى له من الثواب. . . . . . . . . . . . . . . . . ... والنفلَ من تلك القيودِ أخْلِ 46 - والأمْرِ بلْ أَعلمَ بالثواب ... فيه نبيُّ الرشد والصوابِ يعني أن النفل هو ما خلا عن ما قُيَّدت به الرغيبة، فالرغيبةُ قُيدت بترغيب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها بذِكْر ما فيها من الثواب محدَّدًا أو مداومته عليها، والنفل خالٍ من تحديد الثواب ومن المواظبة عليه ومن الأمر به، بل هو ما ذكر -صلى اللَّه عليه وسلم- أن فاعله يثاب فقط، فقوله: "والنفلَ" مفعول قوله: "أخلِ" مقدم عليه، وقوله: "والأمْرِ" بالجر عطف على "القيود". 47 - وسُنَّة ما أحمد قد واظبا ... عليه والظهور فيه وجبا يعني أن السنة في اصطلاح المالكية هي: ما واظب عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمر به من غير إيجاب وأظهره في جماعة، فقول المؤلف: "والظهور [فيه] وجبا" معناه: أن التقييد بكونه أظهره في جماعة لا بُدَّ من ذكره في حدِّ السنة على هذا الاصطلاح. 48 - وبعضهم سمَّى الذي قدْ أُكِّدا ... منها بواجب فخذْ ما قُيِّدا __________ (1) ط: للمفعول.

(1/28)


يعني أن بعض المالكية يُسَمِّي السنةَ المؤكدة واجبة وهو اصطلاح صاحب "الرسالة" (1) حيث يقول: سنة واجبة. 49 - والنَّفْلُ ليس بالشروع يجبُ ... في غير ما نَظَمَهُ مُقرَّبُ يعني أن النفل لا يلزم بالشروع فيه إلا المسائل المستثناة المذكورة في نظم الحطّاب وهو مراد المؤلف بقوله: "مقرب" خلافًا لأبي حنيفة القائل بوجوبه مطلقًا بالشروع لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} [محمد]. وأُجيْب عنه من جهة الجمهور بأن معناه: لا تبطلوا أعمالكم بالكفر المُحْبِط للحسنات، والمراد بالنَّفْل هنا ما قابل الواجب. 50 - قف واستمع مسائلًا قد حكموا ... بأنها بالابتداء تلزمُ 51 - صلاتنا وصومنا وحجُّنا ... وعمرةٌ لنا كذا اعتكافنا 52 - طوافنا مع ائتمام المقتدِي ... فيلزمُ القضا بقطْعِ عامدِ وكلها مختَلَف في وجوب إتمامه بين العلماء إلَّا الحج والعمرة فبالإجماع لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة/ 196]. وقول المؤلف: "فيلزم القضا بقطع عامد" يُسْتَثنى منه عند المالكية المسألة الأخيرة المشار إليها بقوله: "ائتمام المقتدي" فإنه لا يلزم فيها القضاء للائتمام وإن لزم عندهم أصل قضاء الصلاة. 53 - ما من وجوده يجيء العدمُ ... ولا لزوم في انعدام يعلمُ 54 - بمانع يمنع للدوامِ ... والابتدا أو آخر الأقسام __________ (1) في عدة مسائل، انظر "الرسالة": (ص/ 144، 183، 259).

(1/29)


55 - أو أوّلٍ فقط على نزاعِ ... كالطَّوْل الاستبراءِ والرضاعِ اعلم أولًا أن كل حكم يتوقف على ثلاثة أشياء هي: وجود الشرط، والسبب، وانتفاء المانع، فاحتيج إلى تعريف كلٍّ منها، فعرَّف المؤلف المانع بأنه هو الذي يلزمُ من وجوده عدم الحكم، ولا يلزم من عدمِه وجود ولا عدمٌ لذاته. كالحيض يلزم من وجوده عدم الصوم والصلاة، ولا يلزم من عدمه وجودهما ولا عدمهما. ثم بيَّن أن المانع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: مانع الابتداء والدوام معًا، كالرضاع فإنه يمنع من ابتداء العقد كما يمنع من الدوام عليه إذا طرأ عليه، كأن يتزوّج رضيعة أجنبية ثم بعد العقد الصحيح عليها أرضعتها أمه فيمنع الدوام على العقد الذي كان صحيحًا. الثاني: مانع الابتداء فقط، وهو مراده بقوله: "أو آخر الأقسام". ومثل له بالاستبراء فإنه مانع من ابتداء النكاح، ولو تجدَّد موجب الاستبراء على الزوجة لم يمنع من الدوام على نكاحها. الثالث: مانع الدوام فقط، وهو مراده بقوله: "أو أول" ومثاله الطلاق فإنه مانع من الداوم على الاستمتاع بالعقد الأول، ولا يمنع من ابتداء الاستمتاع بعقد جديد، ومثَّل له المؤلف بالطَّوْل إذا طرأ على الدوام هل يمنعه، كأن يتزوج أمَةً وهو فقير، ثم يطرأ له اليسار فهل يمنع الدوام على العقد الأول أو لا؛ ونظيره من صاد صيدًا في الحِلِّ، ثم أحرم والصيد تحت يده. ووجود الماء بعد التيمم هل يبطله أم لا؟

(1/30)


56 - ولازم من انتفاء الشرطِ ... عَدَمُ مشروطٍ لدى ذي الضبطِ 57 - كسبب وذا الوجود لازمُ ... منه وما في ذاك شيء قائمُ يعني أن الشرط في الاصطلاح هو: ما يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدمٌ لذاته، كالطهارة للصلاة. والسبب هو: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. فقوله: "كسبب"، يعني أن السبب يلزم من عدمه العدم كالشرط، وقوله: "وذا الوجود لازم منه" يعني أن السبب يلزم من وجوده الوجود أيضًا، وقوله: "وما في ذاك شيء قائم" يعني أن الشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. والشَّرْطُ في اللغة العلامة (1) ومنه قوله تعالى: {. . . فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا. . .} [محمد/ 18]. وقول أبي الأسود الدؤلي (2): لئن كنتِ قد أزمعتِ بالصَّرْم بيننا ... فقد جعلَتْ أشراطُ أوله تبدو وسُمِّي الشرط في الاصطلاح لأن فقده علامة عدم الحكم ووجوده علامة إمكانه. والسببُ لغةً ما يوصَل به إلى الشيء كالحبل لنزع الماء من البئر، __________ (1) الشَّرَط -بالتحريك- العلامة، ويجمع على أشراط، ومنه الآية الكريمة التي ذكرها المصنِّف. والشَّرْط -بسكون الراء- هو العلامة في لغة، أشار إليها في "تاج العروس": (10/ 459). والشرط يجمع على شروط وشرائط، ومنه شرطة الحجَّام، لأنها تترك أثرًا وعلامه، انظر "مقاييس اللغة": (3/ 260)، و"إكمال الإعلام": (2/ 332) لابن مالك. (2) "ديوانه": (ص/ 85)، و"الأغاني": (12/ 328).

(1/31)


وسُمِّي السبب في الاصطلاح لأن وجوده يوصل لوجود الحكم. 58 - واجتمع الجميع في النكاحِ ... وما هو الجالب للنجاحِ قوله: "وما هو الجالب للنجاح" يعني به الإيمان، والمعنى: أن كلًّا من الشرط والسبب والمانع مجتمع في النكاح والإيمان، فالنكاحُ سبب في وجوب الصَّدَاق، شَرْط في ثبوت الطلاق، مانع من نكاح بنت المنكوحة، والإيمان سبب للثواب، شرط لصحة الطاعة، مانع من القصاص إذ قَتَل المؤمنُ كافرًا. 59 - والركن جزء الذات والشرط خرج ... وصيغة (1) دليلها في المنتهج يعني أن الفرق بين الركن والشرط: أن الركن جزء الماهية الداخل في حقيقتها كالركوع والسجود بالنسبة إلى الصلاة، والشرط هو ما خرج عن الماهية كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وربما أُطْلِق كلٌّ منهما على الآخر مجازًا علاقته المشابهة في توقف الحكم على كل منهما. 60 - ومع علة ترادف السبب ... والفرق بعضهم إليه قد ذهب يعني أن الجمهور على ترادف العلة الشرعية والسبب الشرعِيّ، وفرَّق بينهما السمعاني (2) تبعًا للنحاة واللغويين فقال: السبب هو: الموصل إلى الشيء مع جواز المفارقة بينهما، ولا أثر له فيه ولا في تَحْصيله كالحبل للماء. والعلة: ما يتأثر عنه الشيء دون واسطة كالإسكار. __________ (1) في الهامش تعليق في شرح "وصيغة" من "فتح الودود". (2) في "قواطع الأدلة": (4/ 523 - 525).

(1/32)


61 - شرط الوجوب ما به مكلّفُ ... وعدم الطلب فيه يعرفُ 62 - مثل دخول الوقت والنَّقاءِ ... وكبلوغِ بَعْث الأنبياءِ اعلم أولًا أن المؤلف -رحمه اللَّه- يرى أن الشرط ينقسم ثلاثة أقسام: شرط جوب، وشرط أداء، وشرط صحة، وعدُّه شرطَ الأداء تبع فيه القاضي بَرْدَلَة، والشيرازيَّ، وزكريا الأنصاري، وهو اختيار المؤلف (1). والأظهر عندي اندارج شرط الأداء في شرط الصحة وشرط الوجوب. وعرَّف شرط الوجوب بأنه ما يكون الإنسان مكلَّفًا به، كدخول الوقت، والنقاء من الحيض، وبلوغ دعوة الأنبياء، فالتكليف لا يقع دون الأشياء المذكورة مع أن المكلف لا يُطلب (2) بتحصيلها كانت في طوقه أم لا، وتقريبه للذهن أن شرط الوجوب هو ما يتوقف التكليف عليه ولم يُطلب من المكلف كان في طَوْقه أم لا؟ 63 - ومع تمكُّن من الفعل الأدا ... وعدمُ الغفلة والنوم بدا يعني أن شرط الأداء هو ما يكون به التمكن من الفعل مع حصول ما به يكون الإنسان من أهل التكليف لأداء العبادة أي فعلها، وعلى هذا فالنائم والغافل غيرُ مكلفين بأداء الصلاة لعدم تمكنهما من الفعل. مع وجوبها عليهما، فالتمكن شرط في الأداء فقط، ومن لا يعد شرط الأداء -كمَيَّارَة (3) - يجيب عن هذا بأن النائم مرفوع عنه القلم، فالصلاة وقت __________ (1) انظر "نشر البنود": (1/ 37). (2) ط: يطالب. (3) مَيَّارة هو: أَبو عبد اللَّه بنُ محمد بنُ أحمد الفاسي المالكي، الفقيه الأصولي، له =

(1/33)


النوم والغفلة غير واجبة لعدم الإثم بتركها، وتارك الواجب آثمٌ ضرورة، وقوله: "بدا" أي بدا كون عدم الغفلة والنوم شرطًا في الأداء للصلاة مثلًا. 64 - وشرط صحة به اعتدادُ ... بالفعل منه الطهْرُ يُسْتَفَادُ يعني أن شرط الصحة هو ما اعتبر للاعتداد بفعل الشيء طاعة كان أو غيرها كالطهارة للصلاة وعلم الثمن والمثمن للبيع. 65 - والشرط في الوجوب شرط في الأدا ... وعزوه للاتفاق وُجدا يعني أن كل ما هو شرط في الوجوب فهو شرط في الأداء. [وقوله]: "وعزوه للاتفاق" إلخ يشير به إلى ما نقله اللقاني (1) في حاشيته على المحلي عن السَّعْد من حكاية الاتفاق على ذلك، والذين لا يعدُّون شرط الأداء يقولون: كل ما هو شرط للوجوب فهو شرط للصحة. 66 - وصحة وفاق ذي الوجْهينِ ... للشرع مطلقًا بدون مَيْنِ يعني أن الصحة عند المتكلمين هي: موافقة الفعل ذي الوجهين لإذن الشرع، وقوله: "مطلقًا" أي سواء كان ذو الوجهين عبادة أو معاملة، ومعنى كونه ذا وجهين أنَّه يقع تارة موافقًا للشرع لجمعه للشروط وانتفاء الموانع، وتارة مخالفًا للشرع لانتفاء شرط أو وجود __________ = تصانيف (ت: 1072 هـ). ترجمته في "شجرة النور": (ص/ 309)، و"الفكر السامي": (2/ 279)، و"الأعلام": (6/ 11 - 12). (1) هو: ناصر الدين أَبو عبد اللَّه محمد بن الحسن اللقاني المالكي المتوفى سنة (954) انظر: "كشف الظنون": (1/ 595)، وحاشيته لها عدة نسخ خطية، انظر: "الفهرس الشامل": (3/ 468 - 470)، و"جامع الشروح والحواشي": (2/ 762).

(1/34)


مانع، وقوله: "ذي الوجهين" احترز به عمالا يقع إلَّا موافقًا للشرع، كرد الودائع، ومعرفة اللَّه تعالى، فإنها إن لم تكن موافقة كانت جهلًا لا معرفة. 67 - وفي العبادة لدى الجمهورِ ... أن يسقط القضا مدى الدهورِ يعني أن صحة العبادة عند جمهور الفقهاء هي: سقوط القضاء بأن لا يحتاج إلى فعلها مرة أخرى. 68 - يُبْنى على القضاء بالجديدِ ... أو أولِ الأمر لدى المُجيدِ يعني أن الخلاف في تعريف الصحة بين الفقهاء والمتكلمين مبني على الخلاف في القضاء هل هو بأمر جديد أو بالأمر الأول؛ فعلى كونه بأمر جديد بنى المتكلمون مذهبَهم في العبادة التي لم تُفعل حتى خرج وقتها من أنَّها موافقة للأمر فلا يوجبون القضاء لما لم يَرِد نص جديد بقضائه، وعلى أنَّها بالأمر بنى الفقهاء فلا يخرج من عهدة الأمر الأول إلَّا بفعل مستوْفٍ للشروط الشرعية، وستأتي هذه المسألة للمؤلف في الأمر (1)، وقوله: "المُجيد" هو بضم الميم اسم فاعل من أجاد يعني به الممعن للنظر في علم الأصول. 69 - وهي وفاقه لنفس الأمر ... أو ظنَّ مأمور لدى ذي خُبر قوله: "ذي خُبر" يعني به تقي الدين علي بنُ عبدِ الكافي السبكيَّ (2)، __________ (1) انظر البيت رقم (254) وهو من القسم الذي لم يشرحه المؤلف. (2) انظر "الإبهاج شرح المنهاج": (1/ 67) للسبكي، ونقل نصه من هنا صاحب "نشر البنود": (1/ 45).

(1/35)


يعني أن الصحة عنده هي موافقة ذي الوجهين لأمر الشرع، لكن عند الفقهاء لابد من الموافقة في نفس الأمر، وعند المتكلمين تكفي الموافقة في ظنّ المكلف. 70 - بصحة العقد يكون الأثرُ ... وفي الفساد عكس هذا يظهر يعني أن ترتُّب الآثار المقصودة من العقد على العقد كالتصرف والانتفاع بالمبيع والتمتع بالمنكوحة إذا وُجد فهو ناشئ عن الصحة لا عن غيرها، وليس المراد أنَّه كلما وجدت الصحة وجدت ثمرة العقد لأن بيعَ الخيار صحيح ولا ينشأ عنه قبل تمام عقدِه أثر. فإن قيل: الخلع والكتابة الفاسدان مثلًا يترتب عليهما أثرهما من البينونة في الأول والعتق في الثاني. فالجواب: أن ترتب أثرهما ليس للعقد بل للتعليق وهو صحيح لا خلل فيه. وقوله: "وفي الفساد عكس هذا" يعني أن فساد العقد عكس صحته في أنَّه لا يترتب عليه أثر العقد؛ لأن النهي يقتضي الفساد، لأن المنهيَّ عنه ليس من أمرنا، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من أحْدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ" (1) فالمنهيُّ عنه مردود بنصه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلافًا لأبي حنيفة. 71 - إن لم تكن حوالة أو تلفُ ... تعلق الحق ونقص يؤلف __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.

(1/36)


يعني أن المالكية خالفوا أصلهم في هذه المسألة وراعوا فيها الخلاف فقالوا: إن البيعَ الفاسدَ يفيد شبهة الملك فيما يقبل الملك، فإذا لحقه أحدُ أربعة أشياء تقرر الملك بالقيمة أو الثمن، وهي حوالة الأسواق، وتلف العين، ونقصانها، وتعلق حق الغير بها بنحو بيع أو رهن (1). 72 - كفاية العبادة الإِجزاء ... وهي أن يسقط الاقتضاء 73 - أو السقوط للقضاء. . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن الإجزاء هو "كفاية العبادة" أي كونها كافية في سقوط الطلب والخروج من عهدته. فقوله: "وهي أن يسقط الاقتضاء" أي: الطلب بالفعل شرعًا. وقوله: "أو السُّقُوط للقضا" يعني أن الإجزاء قيل فيه: إنه هو السقوط للقضاء وهو قول ابن الحاجب (2)، وعليه يكون هو عين الصحة. وعلى ما مشى عليه المؤلف من الفرق بينهما يكون الشيء مجزئًا ولا يسقط القضاء كالذي لم يجد ماءً ولا صعيدًا على القول بأنه يصلي ويعيد، وكالمتيمِّم إذا وجد الماء عند الشَّافعي، وعلى قولٍ ضعيف عند المالكية فإنه يتيمم ويجزئه تيممه وصلاته ويعيد. . . . . . . . . . . وَذَا أخصّ ... من صحة إذ بالعبادة يُخَصْ قوله: "ذا" إشارة إلى الإجزاء، والمعنى أن الإجزاء أخص مطلقًا __________ (1) هذا القول هو نص كلام القرافي في "شرح التنقيح": (ص/ 175)، ونقله صاحب "النشر": (1/ 41). لكن ليس فيه ذكر "الثمن". (2) حكاه عنه الأصفهاني في "بيان المختصر": (2/ 68).

(1/37)


من الصحة، وهي أعم منه مطلقًا، لأن الإجزاء يختص بالعبادات، والصحة تكون في العبادات والمعاملات، فتقول: عبادة صحيحة وعقد صحيح، ولا تقول: عقد مجزئ. 74 - والصحة القبول فيها يدخلُ ... وبعضهم للاستواء ينقلُ يعني أن القبول يندرج في الصحة، فمن الصحيح مقبول ومنه غير مقبول، كقول خليل (1): "وعَصى وصحَّت إن لبس حريرًا" إلخ، وبعضهم نقل استواء الصحة والقبول أي تَرادُفَهُما وهو غير ظاهر، واللام في قوله: "للاستواء" دخلت على المفعول لتقدُّمه لتقوية العامل على العمل فهي لتقوية التعدية كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)} [يوسف]. 75 - وخصِّص الإجزاء بالمطلوبِ ... وقيل بل يختصّ بالمكتوب يعني أن الأجزاء الذي قدمنا أنَّه يختص بالعبادات قيل: يدخل في المندوب والواجب معًا،، وقيل: لا يدخل إلَّا في الواجب فقط. حجةُ من قال يدخل في المندوب: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بردة في الأُضحية بالعناق: "اذبحها ولن تُجزئ عن أحدٍ بَعْدَك" (2). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أربع لا تُجزئ في الأضاحي. . . " (3). قالوا: فالأُضحية غير واجبة، والنبي __________ (1) في "المختصر": (ص/ 25). (2) أخرجه البخاري رقم (968)، ومسلم رقم (1961) من حديث البراء -رضي اللَّه عنه-. (3) أخرجه مالك رقم (1387)، وأحمد: (30/ 369 رقم 18510)، وأَبو داود رقم (2802)، والترمذي رقم (1497)، والنسائي: (7/ 244)، وابن ماجة رقم (3144)، وابن خزيمة رقم (2912)، وابن حبان "الإحسان" رقم (5922)، =

(1/38)


-صلى اللَّه عليه وسلم- عبر فيها بالإجزاء. وحجة أهل القول الآخر أن الأضحية واجبة ولم يَرِد الإجزاءُ في مندوب. 76 - وقابل الصحة بالبطلان ... وهو الفساد عند أهل الشأن يعني أن الصحة يقابلها البطلان، فالشيء إما صحيح وإما باطل، وعليه فالبطلان عند المتكلمين هو: مخالفة ذي الوجهين الأمر الشرعي، وعند الفقهاء في العبادات هوة ما لم يُجْزِئ ولم يُسقِطِ القضاء، وفي المعاملات: ما لم يترتَّب عليه أثره المقصود منه. وقوله: "وهو الفساد" يعني أن البطلان هو الفساد عند الجمهور. 77 - وخالفَ النعمان فالفساد ... ما نهيه للوصف يُستفاد "النعمان" هو ابن ثابت، وهو أَبو حنيفة رحمه اللَّه، والمعنى: أنَّه خالف الجمهور فجعل الفاسد غير الباطل، فالباطل عنده: ما مُنِعَ بأصله ووصفه، كبيع الخنزير بالدم، والفاسد: ما شُرِع بأصله ومُنِع بوصفه، __________ = والحاكم: (1/ 467 - 468)، وغيرهم. من حديث عبيد بن فيروز عن البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه-. قال الإمام أحمد: ما أحسنه من حديث. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلَّا من حديث عبيد بن فيروز عن البراء والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح ولم يخرجاه" ولم يتعقبه الذهبي، وصححه النووي في "شرح مسلم": (13/ 120)، وابن الملقن في "البدر المنير": (9/ 386).

(1/39)


كبيع درهم بدرهمين، فأصل بيع الدرهم بالدرهم جائز، وإنَّما مُنِع من أجل الوصف الذي هو زيادة الدرهم الرِّبويّ. فقوله: "ما نهيه للوصف" يعني أن الفسادَ ما نُهِي عنه لا لأصله بل لوصفه. 78 - فعل العبادة بوقت عيِّنا ... شرعًا لها باسم الأداءِ قُرِنا الأداء في اللغة: دفع الحق المطالَب به، وفي الاصطلاح هو: إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعًا لمصلحة اشتمل عليها الوقت. 79 - وكونه بفعلِ بعضٍ يَحْصُلُ ... لعاضِدِ النَّصِّ هو المُعوَّلُ يعني: أن الأداء يحصل بفعل البعض في الوقت ولو فُعِل البعضُ الآخر خارجَ الوقت، كمن أدرك ركعة من الصلاة فكلها أداء. وقوله: "لعاضد النص" أي للنصّ العاضد المقوِّي لهذا وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (1). وقيل: البعض قضاء والبعض أداء. وقيل: كلها قضاء، وهما مقابلان للصحيح. 80 - وقيل ما في وقتِهِ أداءُ ... وما يكون خارجًا قضاءُ تصوُّره ظاهر. 81 - والوقت ما قدَّرهُ مَنْ شرَعا ... من زمنٍ مضيِّقًا مُوَسَّعا يعني: أن وقت العبادة هو زمنها المقدَّر لها شرعًا سواء كان وقتًا مُوَسَّعًا أو مُضيَّقًا، وضابط الموسَّع هو: ما يسعُ أكثرَ من فعل العبادة __________ (1) أخرجه البخاري رقم (580)، ومسلم رقم (607) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/40)


كأوقات الصلاة، والمضيَّق هو: ما لا يزيد على قدر ما تُفْعَل فيه العبادة كرمضان. والتحقيق أن الوقت الموسَّع جائز عقلًا وواقع شرعًا. فإن قيل: وجوب الصلاة في أول الوقت لا يُعقل مع جواز تأخيرها لآخر الوقت، فما جاز تركه في وقت لا يعقل كونه واجبًا فيه. فالجواب: أنَّ الصلاة واجبة في حِصَّة من حِصَص الوقت غير معينة، كما أن الواجب في خصال الكفارة واحد من ثلاثة أشياء غير معين. 82 - وضدُّه القضا تداركًا لِما ... سَبْقُ الذي أوجبَه قد عُلِما "القضاء" لغةً: إتمام الشيء والفراغ منه ولو في وقته كقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء/ 103]، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة/ 200]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة/ 10]. وفي الاصطلاح هو: فعل العبادة كلّها خارج الوقت المقدَّر لها -على الصحيح الأداء- في حال كون ذلك الفعل تدارُكًا لشيءٍ عُلِمَ تقدُّمُ ما أوجب فعله في خصوص وقته، وتدارك الشيء الوصول إليه، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح. 83 - من الأداء واجبٌ وما مُنِعْ ... ومنه ما فيه الجواز قد سُمِعْ يعني أن الأداء له ثلاث حالات: الأولى: أن يكون واجبًا كأداء الصلاة في وقتها ممن لم يقم به مانع، وتدارك مثل هذا بعد الوقت لا إشكال في كونه قضاءً. الثانية: أن يكون ممنوعًا كصوم الحائض، وتسمية تداركه قضاء قيل: مجاز؛ لأنه لم يتقدم له وجوب، وقيل: قضاء حقيقةً بناءً على أن

(1/41)


القضاء يكفي فيه انعقاد سبب الوجوب وإن منع منه مانع كما يأتي إيضاحه إن شاء اللَّه. الثالثة: أن يكون جائزًا كأداء المسافر للصوم، فتسميةُ تدارك هذا قضاءً قيل: مجاز نظرًا إلى التخيير في وقت الوجوب، وقيل: قضاء أيضًا حقيقة نظرًا لانعقاد سبب الوجوب بدخول رمضان وإن منع منه مانع السفر في رمضان. 84 - واجتمع الأداء والقضاءُ ... وربَّما ينفردُ الأداء 85 - وانتفيا في النفل. . . . ... . . . . . . . . . . . يعني أن من العبادات ما يُوصَفُ بالأداء والقضاء معًا كالصلوات الخمس، ومنها ما يختص بالأداء ولا يُقْضَى كالجمعة فإنها لا تقضى إلَّا ظهرًا، ومنها ما لا يوصف بقضاء ولا أداء كمطلق النفل. . . . . . . . . . . . والعبادَه ... تكريرها لو خارجًا إعاده 86 - للعذر. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن فعل العبادة مرة أخرى هو الإعادة في الاصطلاح سواء أعيدت في الوقت أم لا، وسواء أعيدت لخلل أو لطلب فضل الجماعة. وقوله: "للعذر" يعني أن التكرار لابد أن يكون لعذر من خلل فيها أو تحصيل مندوب. والإعادة لغة هي: فعل الشيء ثانيًا، ومنه قول توبة (1): __________ (1) نُسِب البيت لغير واحد منهم كثيِّر والعوام بن عقبة، وهو بلا نسبة في "الكامل": =

(1/42)


من الخَفِرات البيض وَدَّ جليسُها ... إذا ما انقضت أُحدوثة لو تعيدها يعني تحدِّث بها مرة أخرى. 86 - . . . . . . والرُّخصَّةِ حكمٌ غُيِّرا ... إلى سهولة لعذر قُرِّرا 87 - مع بقاء (1) علَّةِ الأصليّ ... وغيرُها عزيمةُ النَّبيّ يعني أن الرخصة في الاصطلاح هي حكم غُيِّر من صعوبة إلى سهولة لعذرٍ مع قيام سبب الحكم الأصليّ، فخرج بقَيْد التغيير ما كان باقيًا على أصله كالصلوات الخمس وهي عزيمة. وخرج بقيد السهولة ما غُيِّر إلى أصعب أو إلى مساوٍ، وهما النسخ. فمثال ما غُيِّر إلى صعوبة: تغيير حكم التخيير بين صوم رمضان وبين الإطعام المنصوص عليه بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} الآية [البقرة/ 184]. فالتخيير الذي هو أسهل غُيِّر إلى ما هو أصعب منه، وهو تعيين الصوم المنصوص في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة/ 185]. ومثال ما غُيِّر إلى مساو: اسْتقبال بيت المقدس غُيِّر إلى اسْتقبال البيت الحرام، وهما في الصعوبة وعدمها سواء. وخرج بقيد "لِعُذْرٍ" ما تغير إلى سهولة لكن لا لعذر، كتغيير الوضوء لكل صلاة بما هو أسهل منه وهو أن يصلي بوضوئه ما شاء حتى ينتقض، لكنَّ هذا لا لعذرٍ طرأ بل حالة التغيير كحالة ما قبل التغيير فلا يُسمَّى رخصة. __________ = (2/ 804)، و"الأشباه والنظائر": (1/ 198) للخالديين، و"الأمالي": (1/ 84) للقالي. (1) كذا في الأصل وط: قيام.

(1/43)


وخرج بقيد قيام السبب الأصلي تغييرُ وجوب مصابرة الواحد من المسلمين عشرة من الكفار إلى مصابرته اثنين؛ لأن سبب الحكم الأول قلة المسلمين وقد زالت بعد ذلك بكثرتهم، وعذرها مشقة المصابرة (1) وهذا نسخ. وقوله: "وغيرها عزيمة النَّبِيِّ"، يعني أن ما سوى الرخصة فهو عزيمة ما لم يتغير أصلًا، أو تغيَّر إلى صعوبة، أو إلى سهولة لا لعذر أو لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي، هذا مراده، ولا يصح على إطلاقه لما علمتَ من أن التغيير إلى أصعب أو إلى مساو أو إلى أسهل مع [عدم] قيام سبب الأصلي كلها قد يكون نسخًا، فالتحقيق وجود الواسطة بين الرخصة والعزيمة. والرخصة لغة: من الرَّخْص، وهو الليِّن الناعم، والعزيمة لغة: القصد المصمِّم. 88 - وتلك في المأذون جزمًا توجدُ ... وغيره فيه لهم تردُّدُ يعني أن الرخصة تكون في المأذون بلا نزاع، ومراده بالمأذون ما لم يُنْهَ عنه مطلقًا، وذلك هو الواجب والمندوب والجائز، ومراد المؤلف أن فعل الرخصة يكون واجبًا، ومندوبًا، وجائزًا بلا نزاع، ومثال الرخصة الواجبة: أَكْلُ المضطر الميتة إذا خاف الهلاك، فهو واجب لوجوب حفظ النفس من الموت. ومثال المندوب: قَصْر الصلاة في السفر، فهي رخصة مسنونة، والإفطار في السفر عند من يرى الندبية. ومثال الجائزة: السَّلَم الذي هو بيعُ موصوفٍ في الذمة. __________ (1) ط: زيادة المذكورة.

(1/44)


وقوله: "وغيره فيه لهم تردُّدُ" يعني أن غير المأذون وهو المكروه بقسميه والحرام هل يكون متعلق الرخصة أم لا؟ ومن هنا اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يرخَّص له في قصر الصلاة وأكل الميتة وفي جواز التيمم في السفر المكروه؟ والصحيح عند المالكية هو ما رجَّحه سَنَدٌ (1) والقرطبي وابن عبدِ السلام وابن مرزوق من الجواز مطلقًا (2). 89 - وربما تجي لما أُخرج مِنْ ... أصلٍ بمطلقِ امتناعه قَمِنْ يعني أن الرخصة ربما أُطْلِقت على ما اسْتُثني من أصل كُلِّيّ يقتضي المنع، كضرب الدِّية على العاقلة، فإنه مُسْتَثنى من أصلٍ هو: {وَلَا تَزِرُ وَازِزُةٌ وزْرَ أُخرَى} [الأنعام/ 164] فهو أصل كُلِّيّ يقتضي منع تغريم العاقلة جناية غيرها، لكنه اسْتُثني من هذا الأصل، فمثله قد تطلق عليه الرخصة، وكبيع العرية ونحو ذلك. وقول المؤلف: "قمن" نعت لقوله: "أصل". وقوله: "بمطلق امتناعه" متعلِّق بـ "قمن" بمعنى جدير، وتقريره: ما أخرج من أصل جدير بامتناع ذلك المُخْرج لو لم يُخرجه الشرع، ومراده بالإطلاق سواء كان الإخراج لعذر شاق أم لا، فالعذر الشاق كخوف الموت إن لم يأكل الميتة، والعذر الغير الشاق كالسَّلَم وضرب الدية على العاقلة ونحو ذلك. __________ (1) هو سند بن عنان بن إبراهيم بن حريز بن الحسين بن خلف أَبو علي الأزدي من فقهاء المالكية، له شرح المدونة سماه الطراز (ت 541 هـ). انظر، "الديباج المذهب": (ص/ 126 - 127). (2) انظر "النشر": (1/ 52).

(1/45)


90 - وما به للخبر الوصولُ ... بنظرٍ صحَّ هو الدليلُ يعني أن الدليل في اصطلاح الأصوليين هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبريّ. فقولهم: يمكن، يُفْهم منه أنَّه يسمَّى دليلًا ولو لم يُنظر فيه فالعبرة بالإمكان لا بالإطلاق، والمراد بالخبريّ، ما يتضمَّن نسبة خبرية كجملة فعلية أو اسمية، واحتُرِز به من غير الخبريّ، فإن الموصل إلى غير الخبريّ هو المعروف بالمُعَرِّفات وهي الحدود والرسوم. والنظر يأتي له تعريفه. واحترز بقوله: "صحَّ" من الفاسد إذ لا يمكن التوصل به إلى المطلوب. والدليل في اللغة: فعيل بمعنى فاعل من الدلالة وهي الإرشاد، واصطلاحًا: فهم أمرٍ من أمرٍ، أو كون أمر بحيث يفهم منه أمرٌ فُهم أو لم يفهم، ولا يكون الدليل عند الأصوليين إلَّا مركبًا. 91 - والنَّظرُ الموصلُ من فكرٍ إلى ... ظنٍّ بحكمٍ أو لعلمٍ مُسْجلا يعني أن النظر في الاصطلاح (1) هو الفكر المؤدِّي إلى علم أو ظن، فإن كانت المقدمات يقينية أيد العلم، وإن كانت ظنية أفاد الظنّ. والفكر حركة النفس في المعقولات، أما حركتها في المحسوسات فتخييل، فَـ "مِنْ" من قوله: "مِنْ فكرٍ" بيانية بيَّنت الموصِل وهو الفكر، كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج/ 30] والأوثان هي الرجس. وقوله: "أو لعلم" أي أو الموصل لعلم. وقوله: __________ (1) ط: الأحكام.

(1/46)


"مُسْجَلًا" أي مطلقًا، ومراده بالإطلاق: سواء كان العلم بذات أو نسبة. 92 - الإدراك من غير قضًا تصَوُّرُ ... ومَعْه تصديقٌ وذا مُشتَهِرُ اعلم أولًا أن الإدراك في الاصطلاح هو: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فإن وصلت إليه لا بتمامه فهو الشعور، ومعنى كلام المؤلف أن النفس إذا وصلت إلى المعنى من غير قضاء عليه أي حكم عليه بإثبات شيء له أو نفيه عنه، كوصولها إلى معنى الحلاوة والمرارة والبياض والسواد، فهذا يمسى تصورًا، وهو تفعُّل من الصورة، لأن المدْرِك لحقائق الماهيات تنطبع صورها في مرآة ذهنه. وقوله: "ومعه تصديق" يعني أن الإدراك مع القضاء على الموضوع بالمحمول يُسمى تصديقًا، ومراده أن النفس إذا وصلت إلى إدراك المحكوم عليه والمحكوم به، والنسبة الحكمية التي هي مَوْرِدُ الإيجاب والسلب، وكونها واقعة بالفعل، أو غيرُ واقعة، فهذه الإدراكات الأربعة هي التصديق، وعليه فالتصديق مركب من أربعة تصورات، ومذهب الحكماء أن التصديق هو التصور الرابع والثلاثة قبله شروط فيه، وعليه فهو بسيط، فالكل متفق على أن التصديق لا يمكن إلَّا بعد أربعة تصورات وهي: تصور الموضوع والمحمول، والنسبة الحكمية من غير إثبات لها ولا نفي كما يقع من الشاكِّ، وتصور وقوعها، بالفعل أو عدم وقوعها، إلَّا أن من يقول: التصور مركب يقول: إن توقفه على التصورات الثلاثة الأُول من توقف الماهية على أركانها، ومن يقول: هو بسيط يقول: هو من توقف الماهية على شرطها.

(1/47)


واعلم أنهم اختلفوا في الحكم هل هو سلب النسبة أو إيجابها فيكون فعلًا، أو اعتقاد سلبها أو إيجابها فيكون انفعالًا، ولا طائل تحت هذا الخلاف. وقول المؤلف: "وذا مشتهر" يعني أن المشهور هو كون التصديق مركبًا من التصورات (1) الأربعة المتقدمة، ومذهب قدماء المناطقة خلافه، وإنما سُمِّي إثبات المحمول للموضوع أو نفيه عنه تصديقًا، لأنه خبر والخبر لذاته يحتمل التصديق والتكذيب فسمَّوه تصديقًا من التسمية بأشرف الاحتمالين. 93 - جازمُه دون تغيُّرٍ عُلِمْ ... علمًا وغيره اعتقادٌ ينقسم 94 - إلى صحيحٍ إن يكن يُطابقُه ... أو فاسدٍ إن هو لا يوافقه (2) الضمير في قوله: "جَازِمُهُ" للقضاء بمعنى الحكم، يعني أن الحكم بنسبة المحمول إلى الموضوع إذا كان جازمًا لا يمكن تغييره ولا التشكيك فيه بحال، كالحكم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكُلَّ أكبر من الجزء يسمى في الاصطلاح علمًا. وإن كان جازِمُه يحتمل التشكيك فهو اعتقاد مطابق إن طابق الحق، وفاسد إن خالف الحق، كاعتقاد الفلاسفة قدم العالم وإن كانوا لا يشكون فيه؛ لأنه في الواقع قابل للتشكيك. 95 - والوهْمُ والظنُّ وشكٌ ما احْتَملْ ... لراجحٍ أو ضدِّه أو ما اعتدلْ __________ (1) ط: التصديقات. (2) المطبوعات: يطابق، يوافق.

(1/48)


يعني أن الحكم إذا كان غير جازم بأن كان معه احتمالُ نقيض المحكوم به من وقوع النسبة أو عدمه ينقسم إلى وهْمٍ، وظنٍّ، وشكّ، فالوهم هو: الحكم بالشيء مع احتمال نقيضه احتمالًا راجحًا، كالحكم بكذب العدل في خبره؛ لأن الراجح من الاحتمالين صدق العدل لا كذبه. والظن ضد الوهم بأن احتمل النقيض احتمالًا مرجوحًا كالحكم بصدق العدل في خبره. والشك: ما احتمل النقيض مع تساوي الاحتمالات كالحكم بصدق مجهول الحال في خبره. وقيل في الوهم والشك: إنهما ليسا من التصديق إذ الوهم ملاحظة المرجوح، والشك التردد في الوقوع وعدمه، والتحقيق: أن الواهم حاكم بالطرف المرجوح حكمًا مرجوحًا، وأن الشاكَّ إن كان شكه لتعارض الأدلة فهو حاكم بالتردد، وإن كان لعدم النظر فهو غير حاكم، ومن هنا اختلف في الوقف هل يُعد قولًا أو لا؟ فإذا عرفتَ حدَّ الوهم والظن والشك فاعلم أن اتباع الوهم حرام، واتباع الظن في العقائد حرام أيضًا، واتباعه في الفروع العمليَّة جائز إن لم يمنع منه مانع شرعيّ، كالقضاء بشهادة عدل واحد، وإن غلب على الظنِّ صدقه فهو مما قدم فيه النادر على الغالب، والشك ساقط الاعتبار إلَّا في النادر كالنضح من الشكِّ في إصابة النجاسة. 96 - والعلم عند الأكثرين يختلف ... جزمًا. . . . . . . . . . . يعني أن عِلم المخلوقات يتفاوت في جزئياته، فالعلم مثلًا بأن الواحد نصف الاثنين أقوى من العلم الحاصل بالتواتر، وعلمه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا

(1/49)


يساوي علمنا، وحق اليقين أقوى من عين اليقين، وعين اليقين أقوى من علم اليقين (1). . . . . . . . . . . . . . . ... . . . .وبعضهم بنفْيهِ عُرِفْ 97 - وإنما له لدى المُحقِّقِ ... تفاوتٌ بحسب التعلُّق 98 - لما لَه من اتّحادٍ مُنْحتِمْ ... معَ تعدُّدٍ لمعلومٍ عُلِمْ يعني أن بعض المتكلمين نفى تفاوت العلم في جزئياته قائلًا: إن العلم الحادث انكشاف واحد فضرورِيُّه ونظرِيُّه بالنسبة إلى الجزم وعدم إمكان التشكيك سواء، وإنَّما يتفاوت عندهم بكثرة المتعلَّقات، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام علموا من صفات اللَّه ما لم يعلمه غيرُهم، لأن العلم عندهم (2) صفة واحدة متعلقاتها متعددة، وذلك هو معنى قوله: "لماله من اتحاد منحتم مع تعدد لمعلوم"، والتحقيق أن العلم يتفاوت في نفسه وهو مذهب أهل السنة والجماعة، ولا شك أن علم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمسألة يعلمها عوام المؤمنين أقوى من علم العوام في نفس القدر الذي علمه العوام وهو واضح. 99 - يُبنى عليه الزَّيْدُ والنقصانُ .... هل ينتمي إليهما الإيمانُ يعني أن الخلاف في العلم هل يتفاوت في نفسه بالقوة في الجزم يُبْنَى عليه الخلاف في نقص الإيمان -بمعنى التصديق- وزيادته. __________ (1) انظر "النشر": (1/ 57). (2) أي بعض المتكلمين.

(1/50)


والتحقيق أنَّه يزيد وينقص كما صرحت به الآيات القرآنية بالنظر إلى نفس التصديق، وبالنظر إلى زيادة الأعمال أيضًا ونقصانها. 100 - والجهلُ جافي المذهَب المحمود ... هو انتفاءُ العلمِ بالمقصود يعني أن الجهل -في المذهب الصحيح- هو انتفاء العلم بما شأنه أن يقصد ليعلم بأن لم يُدْرك أصلًا وهو الجهل البسيط، أو أُدْرِك على خلاف هيْئته في الواقع وهو الجهل المركب، كاعتقاد الفلاسفة قِدَم العالم. وخرج بقوله: "المقصودِ"، عدم العلم بما تحت الأرضين مثلًا فلا يسمى جهلًا اصطلاحًا. وقيل: الجهل إدراك المعلوم على خلاف هيْئته في الواقع، وهذا الحدُّ لا يتناول إلَّا المركب. 101 - زوالُ ما عُلِمَ قُل نِسيانُ ... والعلمُ في السَّهْوِ لَهُ اكتنانُ يعني أن النسيان هو: زوال المعلوم من القوة الحافظة والقوة المدركة، فيُسْتأْنف تحصيله لأنه غير حاصل لزواله. والسهو هو: اكتنان المعلوم أي غيبته عن القوة الحافظة مع أنَّه غير غائب عن القوة المدركة، فهو الذهول عن المعلوم الحاصل فينتبه له بأدنى تنبيه، وقيل: النسيان غفلة عن المذكور، والسهو غفلة عن المذكور وغيره، وقيل: هما مترادفان (1). 102 - ما رَبُّنا لم يَنْهَ عنه حسنُ ... وغيرُه القبيحُ والمُسْتهجَنُ يعني أن الحسن شرعًا ما لم ينه اللَّه عنه، فيدخل فيه الواجب __________ (1) انظر "النشر": (1/ 60).

(1/51)


والمندوب والجائز. والقبيحُ المُسْتهجَن هو: ما نهى اللَّه عنه من حرام أو مكروه أو خلاف الأولى، وقيل المكروه واسطة بين الحسن والقبيح فلا يسمى قبيحًا لأنه لا يذم عليه، ولا حسنًا لأنه لا يسوغ الثناء عليه وهو قول إمام الحرمين (1). والخلاف في أفعال غير المكلفين كالبهائم والنائم ونحو ذلك هل هو من الحسن أو لا، لا فائدةَ فيه ولا طائلَ تحته. والحسن عند المعتزلة ما حسَّنه العقل والقبيح ما قبَّحه. 103 - هل يجب الصومُ على ذي العُذْرِ ... كحائضٍ ومُمْرَضٍ وسَفْرِ يعني أنَّه اختلف في الحائض في رمضان والمريض والمسافر فيه ونحوهم هل يَصْدق عليهم أن الصوم واجب عليهم في وقت العذر أم لا؟ حجة من يقول: هو غير واجب عليهم ظاهرة، لأنه حرام على الحائض وحرمته تنافي وجوبه عليها، ولأنه جائز الترك للمريض والمسافر وجواز تركه ينافي وجوبه أيضًا. وحجَّة من يقول بصدق الوجوب عليهم أنَّه يجب عليهم القضاء بقدر ما فاتهم، فكأن الآتي به بدلًا من الفائت والبدل واجب، فدل (2) على أن الفائت واجب وإلَّا لم يكن بدلًا منه. ومما يوضح ذلك أنَّه لو صام قدر الأيام الفائتة من غير نيةِ تداركِ ما فات من رمضان فإنه لا __________ (1) نقله عنه في "النشر"، وهو بمعناه في "البرهان": (1/ 216)، وانظر "الإحكام": (1/ 72 - 73) للآمدي. (2) الأصل: يدل.

(1/52)


يُجزئ ذلك الصوم، فدل على أنَّه قضاءٌ واجبٌ. وتقريب هذا للذهن: أن العلماء اختلفوا في انعقاد سبب الوجوب هَلْ يسمَّى به الشيء واجبًا يجب قضاؤه تداركًا، لوجوبه بانعقاد سببه ولو منع من تأثير سبب الوجوب مانع الوجوب كالحيض أو تخلَّف شرطُ الوجوب (1) كالمرض والسفر لأن شرط وجوب الصوم بالفعل في رمضان الإقامة فيه وعدم المرض، وهذا القول هو الصواب وهو مذهب الجمهور، خلافًا لما درج عليه المؤلف تبعًا لابن رشد من الفرق بين الحيض وبين المرض والسفر، أو لا يُسمّى واجبًا إلَّا إذا صاحب انعقاد سبب وُجوبه انتفاءُ كل الموانع ووجودُ كل الشروط. وتظهر فائدة هذا الخلاف في نية صيام الأيام الفائتة من رمضان، فعلى صِدْقِ الوجوب عليه وقت العذر ينوي القضاء تداركًا لذلك الواجب الفائت وهذا قول الجمهور، وعلى عدم صِدْقِ الوجوب ينوي الأداء، لأن تدارك صيام ما فات واجب مؤتنف بدليل جديد كقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة/ 184] وأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- الحائض بصوم ما فاتها في الحيض (2) على هذا القول، وهذا هو معنى قول المؤلف: "وهو في وجوبِ قصدٍ" البيت. 104 - وجوبُه في غير الأوَّلِ رجَحْ ... وضعفُهُ فيه لديهمُ وضَحْ 105 - وهو في وجوبِ قصدٍ لِلأَدا ... أو ضدِّه لقائلٍ به بدا __________ (1) بعده في الأصل: لما، ولعله سبق قلم. (2) فيما أخرجه البخاري رقم (321)، ومسلم رقم (335) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.

(1/53)


مراد المؤلف بالبيت الأول هو ما قدمنا من الفرق بين المرض والسفر فلا يمنعان صِدْقَ الوجوب، وبين الحيض فإنه يمنع صِدْقَ الوجوب على ما قاله ابن رشد. ومراده بالبيت الثاني هو ما قدمنا من أنَّه على القول بالوجوب ينوي في البدل القضاء، وعلى ضده ينوي فيه الأداء، والضمير في قوله: "وهو" راجعٌ إلى الخلاف بمعنى ثمرته. 106 - ولا يكلِّفُ بغير الفعلِ ... باعثُ الأنْبِيَا ورَبُّ الفَضْلِ يعني أن اللَّه تعالى لا يكلِّف إلَّا بفعل؛ لأن غير الفعل غير مقدور للمكلف، واللَّه تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/ 286]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16]. وأما التكليف بإذعان النفس وانقيادها وتصديقها بالعقائد، والتكليف بالندم على الذنب فهو -في الحقيقة- تكليف بالأسباب المؤدية إلى ذلك لا بمجرد الانفعال من إذعان في الأول وندم في الثاني. والفعل في كلام المؤلف يشمل أربعة أشياء وهي: الفعل، والقول، والعزم المُصَمِّم لأنه فعل القلب، والترك. أما الفعل الظاهر كالسرقة والزنا مثلًا فلا إشكال في تسميته فعلًا. وأما القول فقد سماه اللَّه فعلًا لأنه فعل اللسان وذلك في قوله: {. . . زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام/ 112] الآية. وأما القصد المُصَمِّم فالدليل على كونه فعلًا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قالو: يا رسول اللَّه قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتل

(1/54)


صاحبه" (1) فبيَّن -صلى اللَّه عليه وسلم- أن عزمه المُصمِّمَ على قتل صاحبه فِعْل قبيح دخل بسببه النار، واحْتُرِز بالعزم المصمم عن الهَمِّ فلا يؤاخذ به لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كُتِبَت له حسنة كاملة. . . " (2)، وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران/ 122]. وأما الترك فالدليل على أنَّه فعلٌ قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة/ 63] فسمَّى تركهم للأمْرِ بالمعروف والنهي عن المنكر صنعًا، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده" (3) فسمَّى كفَّ الأذى إسلامًا، فدلَّ على أن الكفَّ فعلٌ. ويدُلُّ لأن الترك عَمَل قولُ الراجز: لئن قعدنا والنبيُّ يعملُ ... لَذاكَ مِنَّا العمل المضلَّلُ (4) وكون الترك فعلًا هو مراد المؤلف بقوله: 107 - فكفُّنا بالنَّهي مطلوبُ النَّبي ... والتَّركُ (5) فعلٌ في صحيح المذهب __________ (1) أخرجه البخاري رقم (31)، ومسلم رقم (2888) من حديث أبي بكرة -رضي اللَّه عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (6491)، ومسلم رقم (131) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (3) أخرجه البخاري رقم (10)، ومسلم رقم (40) من حديث عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما-. وأخرجاه أيضا من حديث أبي موسى -رضي اللَّه عنه-. (4) ذكر الحافظ في "فتح الباري": (7/ 291) أن الزبير بن بكار أخرجه. ولعله في "الموفقيات" ولم أجده في المطبوع منه. (5) في المطبوعات: والكف.

(1/55)


يعني أن الذي كلفنا به الشارع هو الكف بمعنى الترك والانتهاء، أي صَرْف النفس عن المنهي عنه، وذلك فعل يحصل بفعل الضد للمنهي عنه [فـ]ـالمقصود بالذات هو الانتهاء، وأما فعل الضد فقد يُقْصَد بالالتزام وقد لا يُقصد أصلًا إذا كان المتكلم غافلًا عنه، وذلك لا يتأتَّى في كلام اللَّه تعالى. 108 - له فروعٌ ذُكِرَتْ في المنْهَجِ ... وسرْدُها من بعدِ ذا البيت يجي 109 - من شُرْبٍ أو خيطٍ ذكاةٍ فضلِ ما ... وعَمَدٍ رَسْمٍ شهادةٍ ومَا 110 - عطَّلَ ناظرٌ وذو الرَّهْن كذا ... مُفرِّط في العلفِ فادْرِ المأخذا 111 - وكالتي رُدَّتْ بعيبٍ وعَدِمْ ... وليُّها وشبْهِها مِمَّا عُلِمْ فقوله: "من شرب" متعلق بالبيت قبله وهو قول صاحب "المنهج" (1): وهل كَمَن فعل تاركٌ كَمَن ... له بنفعٍ قدرةٌ لكن كَمَنْ أي له قدرة بنفع كامن من شرب، يعني أن من عنده فضل شراب فلم يعطه مضطرًّا حتى مات يضمن ديته؟ على أن الترك فعل وهو الحق، لا على مقابله فلا ضمان. وقوله: "أو خيط" يشير إلى مَنْ مَنَع خيطًا من ذي جائفة يخيطها به حتى مات يضمن ديته على أن الترك فعل أيضًا. __________ (1) (ص/ 69 - مع شرحه إعداد المهج)، والمنهج منظومةٌ في قواعد الفقه المالكي، اسمها "المنهج المنتخب في قواعد المذهب" لأبي الحسن الزقاق (ت 912 هـ) طبعت قديمًا. انظر "جامع الشروح والحواشي": (3/ 1501، 1947).

(1/56)


وقوله: "ذكاة"، يشير إلى من مرَّ بصَيْدٍ لم تنفذ مقاتله وأمكنته تذكيته فلم يفعل حتى مات هل يضمن بناءً عَلى أن الترك فعل أم لا؟ وقوله: "فضل ما"، يشير إلى من منع فضل مائِهِ عن زرع جاره حتى هلك، هل يضمنه بناء على أن الترك فعل أيضًا؟ وقوله: "وعمدٍ" يُشيرُ إلى من عنده عَمْد فطلبها منه صاحب جدار خائفٍ سقوطه فلم يفعل حتى سقط، فعلى أن الترك فعل يضمن لا على مقابله. وقوله: "رسمِ شهادةٍ" على إضافة الأول إلى الثاني معناه أن من أمْسَك رسم شهادة أي وثيقة حق حتى تلف الحق فإنه يضمنه على أن الترك فعل، وعلى عدم الإضافةِ وتنوينِ قوله: "رسمٍ" وعطفِ "شهادةٍ" بحذف العاطف، فهما مسألتان؛ قوله: "رسمٍ" يشير إلى وثيقة الحق المتقدمة، وقوله: "شهادةٍ" يعني أن من كتم الشهادة حتى ضاع الحق هَلْ يغرم لأن الترك فعل أو لا؟ وقوله: "وما عطَّل ناظر"، يشير إلى ما عطله الناظر على اليتيم ونحوه من عقاره، فلم يُكْرِهِ حتى فاتت غلته لعدم الكراء مع إمكانه، وترك الأرض حتى تبوَّرَت، هل يضمن لأن الترك فعل أم لا لأنه غير فعل؟ وقوله: "وذو الرهن" يعني صاحب الرهن الحائز للرهن وهو المُرتَهَنُ إذا عطله ولم يُكْرِه حتى فاتت غلَّته بعدم الكراء، هل يضمن بناء على أن الترك فعل أم لا؟ وقوله: "كذا مفرط في العلف" يشير إلى من دُفِعَت له دابة مع علفها وقيل له: اعلفها ثم لم يقدِّم لها العلف حتى ماتت، فهل يضمن

(1/57)


أوْ لا بناءً على الاختلاف في الترك هل هو فعل؟ وقوله: "وكالتي رُدَّت بعيب وعَدِمْ وليُّها" بالبناء للفاعل بمعنى أفلس، يشير إلى أن ذات العيب يُزوجها وَليُّها القريب فيفلس هل يرجع عليها الزوج بالصداق؟ لأن سكوتها فعل للغرور أم لا؟ لأن ترك الإخبار بالعيب ليس بفعل. وشِبْه هذه المسائل فيه الخلاف المذكور. 112 - والأمرُ قبلَ الوقتِ قد تعلَّقا ... بالفعل للإعلام قد تحقَّقا يعني أن الأمر وسائرَ أقسام التكليف يتعلق عند الجمهور بالفعل قبل دخول وقته إعلامًا به، ومعنى الإعلام: اعتقاد وجوب إيجاد الفعل الواجب مثلًا لا نفس الإيجاد، وقِسْ عليه باقي الأحكام. 113 - وبعدِ للإلزامِ يستمرُّ ... حال التَّلبُّسِ وقومٌ فَرُّوا يعني أن الفعل إذا دخل وقته تعلق به التكليف إلزامًا قبل المباشرة فهو مكلف وملزم بأن يباشره بالامتثال، وذلك هو معنى قوله: "وبعد للإلزام". وقوله: "يستمر" حال من الإلزام، أي: وبعد دخول الوقت يتعلق به التكليف للإلزام حال كون ذلك الإلزام مستمرًّا حال مباشرة الفعل والتلبس إلى الانتهاء منه، فمن أحرم في الصلاة مثلًا لم يزل التكليف بها مستمرًا عليه حتى يفرغ منها لانتفاء كلها بانتفاء جزءٍ منها، وهذا هو الحق. وقوله: "وقوم فروا" يعني أن قومًا من الأصوليين وهم إمام الحرمين والغزالي والمعتزلة فرّوا من استمرار الإلزام بعد المباشرة، وزعموا أنَّه ينقطع بابتداء المباشرة خوف تحصيل الحاصل، وهو عبثٌ لا فائدة فيه. وردُّ هذا المذهب ضاهر وهو ما ذكرنا آنفًا من أن العبادة المركبة من

(1/58)


أجزاء كالصلاة إذا ضاع جزء منها ضاعت كلها وهو ظاهر، وسيأتي (1) أن ثمرة الخلاف تظهر في فرض الكفاية إذا شرع فيه. 114 - فليس يُجري من له يُقدِّمُ ... ولا عليه دونَ حظرٍ يُقْدِمُ 115 - وذا التعبُّدُ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن التكليف لما كان لا يتعلق بالفعل قبل وقته إلزامًا وإنَّما يتعلق به على سبيل الإعلام به فقط = كانَ تقديمُه غيرَ مُجْزٍ ولا جائز، فكونه قبل وقته لا يلزم يدل على أن تقديمه لا يجوز ولا يُجزئ، وكونُه لا يُجزئ هو مراد المؤلف بقوله: "فليس يُجزئ"، وكونه لا يجوز هو مراده بقوله: "ولا عليه دون حظر يُقدم" أي لا يقدم عليه إقدامًا خاليًا من الحظر وهو المنع، وإنما لم يُجْزِ ولم يَجُزْ لأنه آتٍ بغير ما أمر به لأنه لم يؤمر به إلَّا في وقته، ومن أتى بغير ما أُمِر به فعدم براءة ذمته ظاهر، ولا يجوز الإقدام على العبادة إلَّا على وجهها الشرعي، لأن اللَّه يقول: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس]. وقول المؤلف: "وذا التعبد" يعني أن هذا الذي لا يُجزئ قبل وقته ولا يجوز الإقدام عليه هو ما تمحَّض للتعبد كالصلاة والصوم. وقوله: "يُقْدم" الأخير مضارع أقدم على الأمر إذا تقدم إليه، والأول مضارع قدَّم مضعّفًا أيْ فعل الفعل قبل وقته. . . . . . . . . . . . . وما تَمَحَّضا ... للفعل فالتقديمُ فيه مُرْتَضى __________ (1) انظر البيت رقم (119).

(1/59)


يعني أن الفعل إذا تمحَّض للفعل يعني المفعولية يرتضَى تقديمه قبل وقته لأنه جائز مُجْزٍ، وتقريبه للذهن: أن يكون المقصود من الفعل ثمرة ظاهرة معقولة تحصل بمجرد إيقاع الفعل كقضاء الدين، ورد الوديعة والمغصوب، فتقديمه قبل وقت اللزوم جائز مجزٍ ما لم يشتمل التقديم على أمر محرم نحو: "ضَعْ وتعجَّل" فيمنع لذلك العارض (1). 116 - وما إلى هذا وهذا ينتسبْ ... ففيه خُلْفٌ دون نصٍّ قد جُلِبْ يعني أن المنتسب "إلى هذا وهذا" أي ما فيه شائبة التعبد وشائبة المفعولية كالزكاة، فإنه يختلف في تقديمه هل يجوز ويجزئ أم لا؟ فالقول بالتقديم نظرًا لما فيه من شائبة المفعولية، والقول بعدمه نظرًا لما فيه من شائبة التعبد، فالزكاة مثلًا من حيث قصدُ سَدِّ خلّة الفقير كقضاء الدين ونحوه من حيث حصولُ (2) الثمرة بمجرد الفعل، ومن حيث التنصيص على القدر المخرَّج والقدر المُخْرَج منه فهي أمر تعبُّدِي غير معقول المعنى، وكيف يعقل الإنسان وحده أن زكاة مئة وعشرين من الغنم كزكاة الأربعين! وقوله: "دون نص قد جُلِب"، يعني أن محل الخلاف في المترَدِّد بين التعبد والمفعولية هل يقدم قبل وقته أم لا؟ فيما إذا لم يَرِد نصٌّ بجواز التقديم والإجاز بلا خلاف. ومثال ما ورد النصُّ بجواز تقديمه الوضوء فإن متردد بين التعبد والمفعولية، لأن خصوص هذه الأعضاء __________ (1) انظر "النشر": (1/ 67). (2) رسمها في الأصل: وصول.

(1/60)


دون غيرها ولزوم غسلها للمحْدِث ولو نظيفة أمرٌ تعبُّدي لا تظهر فيه حقيقة نتيجة الفعل كظهورها في غير التعبدي. وكون الوضوء ينظِّف هذه الأعضاء معقول المعنى؛ لأن التنظيف تحصل ثمرته بمجرَّد الفعل، ولذا كان أَبو حنيفة لا يشترط النية في طهارة الحدث قائلًا: إنها كطهارة الخبث، وأن المقصود بالكل النظافة، إلَّا أن الوضوء أجمع المسلمون على جواز تقديمه قبل دخول وقت الصلاة (1)، فهو خارج بالنص، وذلك هو معنى قول المؤلف: "دون نص". 117 - وقال إن الأمر لا يوجَّه ... إلَّا لدى تلَبُّس مُنْتَبِهُ يعني أن قومًا من الأصوليين لهم انتباه في الفنِّ زعموا أن الأمر لا يتوجَّه إلَّا عند مباشرة الفعل، وكذلك كل الأحكام التكليفية عندهم زاعمين أن القوة المستجمعة لشرائط التأثير لا توجد إلَّا عند المباشرة، لأن المؤثِّر التَّامَّ لا يتخلف عنه أثره، فدلَّ عدم وجودِ الفعل قبل المباشرة على عدم تمام المؤثِّر، والتكليف عندهم لا يتوجَّه إلَّا عند القدرة التامة على التأثير. وإذا قيل لهم: يلزم على هذا أن يترك الإنسان المباشرة فلا يتوجَّه إليه خطابٌ بتكليف أبدًا، أجابوا بأن اللوم المتوجه من عدم مباشرة الفعل قبل التلبس مرتب على التلبس بضده، وهو الكفّ عن الفعل، وهو معنى قول المؤلف: 118 - فاللوم قبله على التلبُّسِ ... بالكفِّ وهْيَ من أدقِّ الأسسُ __________ (1) انظر "الإجماع ": (ص/ 34) لابن المنذر، و"الإقناع": (1/ 196) لابن القطان.

(1/61)


وزعم ابن السبكي أن هذا هو التحقيق (1)، والذي يظهر أنَّه خلاف التحقيق، وأن الإنسان مكلف بالفعل قبل الشروع فيه، مأمورٌ بأن يباشره، وهذا مبنيٌّ على قاعدة قررها المتكلمون من الأشاعرة وغيرهم، وهي قاعدة باطلة بالعيان لا دليل عليها يجب الرجوع إليه من عقل ولا سمع، وهي قولهم: إن العرض لا يبقى زمانين لاستحالة ذلك، فالقدرةُ على الفعل عندهم عَرَض وبقاءُ العَرَض عندهم زمانين محال، فلو تقدمت على وجود الفعل لعدمت عند وجوده فلا يكون متعلقًا لها لانْعِدَامها. فليزم على هذا الأصل الباطل أن الأمر إنما يتعلق بالفعل تعلق إلزام حال حدوثه لا قبله. 119 - وهِيَ في فرضِ الكفايةِ فهلْ ... يسقطُ الاثم بشروعٍ قد حَصَلْ قوله: "وهي" يعني به ثمرة الخلاف في الأمر هل ينقطع بالمباشرة أو لا ينقطع إلَّا بتمام الفعل؟ والمعنى أنَّه على القول بانقطاعه بالمباشرة يسقط الإثم في فرض الكفاية عن الجميع بمباشرة البعض له، وعلى القول الآخر لا يسقط ذلك إلَّا بإتمام فرض الكفاية. 120 - للامتثال كلَّفَ الرَّقيبُ ... فموجِبٌ تمكُّنًا مصيبُ 121 - أو بينَهُ والابتلا تردَّدا ... شرطُ تمكِّنٍ عليه انفقدا يعني أنَّه اختلف في فائدة التكليف فقيل: هي الامتثال فقط، وقيل: هي تارة تكون الامتثال وتارة تكون الابتلاء أعني الاختبار، هل يعزم ويهتم بالفعل فيثاب، أو يعزم على الترك فيعاقب؟ فعلى الأول __________ (1) انظر: "جمع الجوامع - مع حاشية البناني": (1/ 217).

(1/62)


فالتمكن من إيقاع الفعل شرط في توجُّه التكليف، وعلى الثاني فالتمكن منه ليس بشرط، وضمير فاعل "تردّد" عائد إلى التكليف المفهوم من كلَّف بمعنى الحكمة والفائدة. 122 - عليه تكليفٌ يجوزُ ويقعْ ... مع عِلْمِ مَنْ أمِرَ بالذي امتنع 123 - في عِلْمِ مَنْ أمَرَ كالمأمور ... في المذهبِ المحقَّقِ المنصورِ يعني أنَّه ينبني على الخلاف في فائدة التكليف هل هي الامتثال فقط، أو هي تارة الامتثال وتارة الابتلاء؟ مسألتان: الأولى هي: هل يمكن أن يعلم المأمور أنَّه مكلف بالأمر قبل التمكن من إيقاع الفعل، بناءً على أن فائدة التكليف الابتلاء، أو لا يمكن أن يعلم أنَّه مكلف إلَّا بعد التمكن من إيقاع الفعل بناءً على أن فائدته الامتثال فقط، بأنه قبل ذلك لا يدري أيتمكن منه فيتوجَّه عليه الخطاب، أو لا يتمكن منه فلا يتوجَّه إليه الخطاب؟ وهذه المسألة هي مراد المؤلف بقوله: "مع علم من أُمر"، أي علم من أُمِر -بالبناء للمفعول- بأنه مكلف قبل التمكن، وإنَّما ربط هذه المسألة بالأخرى بلفظة "مع" لأن المقصود الأكبر هو المسألة الأخرى، فهذه كأنها تابعة لها. والحق في هذه المسألة أن الابتلاء من فوائد التكليف، وأنه لا يشترط في التكليف التمكن من الفعل بشهادة القرآن العظيم، فإنه في قصة أَمْرِ إبراهيم بذبح ولده علم أنَّه مكلَّف بذبحه قبل التمكن من ذلك، وحكمته اختباره وابتلاؤه هل يتهيّؤ لذبح ولده؟ ففعَلَ كما قال تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات] ثم إن اللَّه بين أن حِكْمة هذا التكليف الابتلاء

(1/63)


بقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات]. المسألة الثانية هي: هل يجوز ويقع التكليف بما عَلِمَ الآمرُ وحدَه أو الآمرُ والمأكورُ معًا أن المكلَّف لا يتمكَّن من فعله؟ والتحقيق الجواز، أما في علم الآمر وحده دون المأمور أنَّه لا يتمكن من فعله، فالتكليف به لحكمة الابتلاء واضح لا إشكال فيه، فاللَّه كلف إبراهيم بذبح ولده مع علمه أن إبراهيم لا يتمكن من ذبح ولده لحكمة الابتلاء، كما نصَّ عليه بقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)}. ومن فروع هذا الأصل المختلف فيه: من أفطرتْ عمدًا في نهار رمضان ثم حاضت في ذلك اليوم بعينه تلزمها الكفارة بناءً على التكليف بما عَلِم الآمرُ أن المكلف لا يتمكن من فعله لحكمة الابتلاء، ولا كفارة عليها على القول الآخر. وأما مع عِلْم الآمر والمأمور معًا أنَّه لا يتمكن من الفعل، كما لو فرضنا أن نبيًّا أخبر امرأة بأنها تحيض في اليوم الفلاني من رمضان، فهل عليها افتتاح صومه بناءً على جواز التكليف بما عَلِمَ الآمرُ والمأمورُ معًا أنَّه لا يتمكن من فعله، أوْ لا بناءً على القول الآخر؟ فإن قيل: إذا عَلِم المأمورُ انتفاء شرط الوقوع انتفت الفائدة التي هي العزم على الامتثال. فالجواب: أنَّها موجودة على تقدير وجود الشرط، ويدل لهذا الحديثُ الصحيح: "إنَّ بالمدينةِ أقوامًا ما قطعتم واديًا إلَّا وهم معكم. . . " (1)؛ __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2839) من حديث أنس، ومسلم رقم (1911) من حديث جابر -رضي اللَّه عنهما-.

(1/64)


لأن هؤلاء العاجزين عن الغزو وُجِد منهم العزم عليه على تقدير شرط الإمكان فحصل لهم بذلك ثواب الغازي. وقال الشاعر (1): يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد ... سِرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحا إنَّا أقمنا على عَجْز وعن قَدَرٍ ... ومن أقامَ على عجزٍ فقد راحا وقال الآمدي (2): لا يصح التكليف بما عَلِم المأمور أنَّه لا يتمكن من فعله. فقول المؤلف: "بالذي امتنع" يتعلق بقوله: "تكليف"، وقوله: "في علم من أمَر" يتعلق بقوله: "امتنع". و"أَمَر" الأخير بالبناء للفاعل، وتقرير المعنى عليه: يجوز ويقع التكليف بالذي امتنع في علم الآمر، وأما إذا علم المأمورُ بعدم التمكن أو جَهِل الأمر فلا خلاف في جواز التكليف، فيجوز للسيد أن يكلف عبده بخياطة ثوبٍ مثلًا في يوم الخميس، ولو فرض أن العبد عالم بأنه يموت قبل يوم الخميس بإخبار نبيٍّ مثلًا. * * * __________ (1) البيتان بنحوهم الابن العريف الصنهاجي (ت 536 هـ)، ذكرهما له ابن خلكان في "الوفيات": (1/ 169)، ونصهما: يا واصلين إلى المختار من مضرٍ ... زرتم جسومًا وزرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذرٍ وعن قدر ... ومن أقام على عذرٍ كمن راحا وهما أيضًا في ديوان محمد بن حمير الهمداني (ت 651 هـ). (2) لم أجده بنصه، وهو بمعناه في "الإحكام": (1/ 116). وقال في "النشر": (1/ 71) بعد ما رجّح جواز التكليف في المسألة: "وهو التحقيق، وهو الذي نصره السبكي وإن حكى الآمدي وغيره الاتفاق فيها على عدم صحة التكليف".

(1/65)


 كتاب القرآن ومَباحث الألفاظ

القرآن لغةً مصدر "قرأ" زيدت فيه الألف والنون كما زيدت في الغفران والرجحان، وهذا المصدر بمعنى اسم المفعول، فمعنى القرآن المقروء أي: المتلوّ أو المُظْهَر المُبْرَز، ومن الأخير: "ما قرأت الناقة سَلًا" أي: ما أبرزتْ وأظهرتْ جنينًا من بطنها، ومنه قول ابن كلثوم (1): ذراعَي عيطل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا وعلى القول بأن القرآن مشتق من قرأ بمعنى جمع؛ لأن العرب تقول: "قرأت الماء في الحوض" أي جمعته فيه = فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، فالقرآن بمعنى قارئ أي جامع ثمرات علوم الكتب السماوية التي أنزلت قبله مع زيادته عليها. واعلم أن التحقيق أن أصله مهموز، فما ذهب إليه الشافعيُّ وغيره من أنَّه غير مَهموز، وأن النون أصلية، وأنه مشتق من القرينة أو الاقتران، لأن آياته بعضها قرائن على صدق بعض أو بعضها مقترن ببعض = فهو خلاف التحقيق، والشافعيُّ -رحمه اللَّه- يقرأ بحرف ابن كثير وهو يقرأ القرآن في جميع المواضع بلا همز، والتحقيق أنَّه من تخفيف الهمزة بنقل حركتها إلى الساكن قبلها، نحوُ قوله: "سَلْهُم" لا أنَّه غير مهموز أصلًا، فوزن القرآن على التحقيق "فُعْلان" وعلى قول الشافعي فوزنه: __________ (1) في معلقته انظر "شرح ابن الأنباري" (ص/ 379).

(1/66)


"فُعَال". وهو عَلَمٌ لكتاب اللَّه تعالى، وما استشكله كثير من العلماء من اجتماع معرفين وهما: العَلَمِية والألف واللام فحلُّه واضح، وإليه الإشارة بقول ابن مالك في "الخلاصة": وبعض الاعلام عليه دخلا ... لِلَمْح ما قد كان عنه نُقلا كالفضل والحارث والنعمان ... فذِكرُ ذا وحذفه سيّان وقول المؤلف: "ومباحث الألفاظ" المباحث جمع مَبْحث وهو مكان البحث، والبحث في اللغة الفحص والتفتيش، وفي الاصطلاح: إثبات المحمول للموضوع أو نفيه عنه، والمقصود مباحث الألفاظ المشتمل هو عليها، كالأمر والنهي، والعام والخاص، والمقيد والمطلق، والمجمل والمبيّن، والناسخ والمنسوخ، والمفهوم والمنطوق، وغير ذلك، فإثبات المحمولات لهذه الموضوعات كإثبات الإطلاق والتقييد والنسخ مثلًا للفظ أو نفيها عنه هو المراد بالبحث في قول المؤلف: "ومباحث الألفاظ". 124 - لفظٌ منزَّلٌ على محمدِ ... لأجل الاعجاز وللتَّعبُّدِ يعني أن القرآن هو اللفظ المشتمل على المعاني الباهرة، المنزل على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لأجل إظهار عجز الخلائق عن الإتيان بسورة مثله، ولأجل التعبُّد بقراءته، وإنَّما اقتصر على هذا من حِكَمِهِ مع أن له حِكَمًا أخرى كالتدبر لآياته والعمل بها؛ لأن تمييزه عن غيره حاصل بالقيدين الأولين، فخرج بقوله: "منزلٌ" ما ليس بمنزل = الأحاديث النبوية لأن ألفاظها لم تنزل عليه. وخرج بقوله: "على محمد" غير القرآن من

(1/67)


الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل. وخرج بقوله: "لأجل الإعجاز" الأحاديث الربانية، كقوله جل [وعلا]: "أنا عند ظنِّ عَبْدي بي. . . " (1) الحديث، لأنه لم ينزل لإعجازٍ. وخرج بقوله: "للتعبُّد" الآيات المنسوخة تلاوتها كسورة الخَلْع والخنع (2)، وآية "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما" (3). والتحقيق هو ما مشى عليه المؤلف، وهو مذهب أهل السنة __________ (1) أخرجه البخاري رقم (7405)، ومسلم رقم (2675) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (2) كذا في الأصل هنا، وما سيأتي (ص/ 293، 310) والظاهر أنَّه اجتهاد في التسمية استنادًا إلى ما جاء في بعض روايات الدعاء بهاتين السورتين في القنوت في كتب المالكية، ففي "تهذيب المدونة": (1/ 272): (نؤمن بك، ونخنع لك. .) ومئله في "الاستذكار" و"بداية المجتهد"، إلَّا أن المؤلف في "أضواء البيان": (3/ 334) وفي "المذكرة": (ص/ 150) قد ذكرهما بالاسم المعروف: سورتي الخَلْع والحَفَد. ولفظهما: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق) وكانتا في مصحف أبي بن كعب، وكان عمر يقنت بهما في وتر رمضان. أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 95)، وعبد الرزاق: (3/ 110)، والبيهقي: (2/ 210). وانظر "المغني": (2/ 583 - 584)، و"الدر المنثور": (6/ 722 - 724)، و"الإتقان": (1/ 184 - 185). (3) أصل الحديث أخرجه البخاري رقم (6830)، ومسلم رقم (1691) من حديث عمر -رضي اللَّه عنه-. دون لفظ: الشيخ والشيخة. . .، وبهذا اللفظ أخرجه ابن ماجة رقم (2553) من طريق الزهري، وأخرجه مالك في "الموطأ" رقم (2383) من طريق ابن المسيب، وله شاهد من حديث أبي بن كعب. انظر "فتح الباري": (12/ 147)، و"البدر المنير": (8/ 583 - 585).

(1/68)


والجماعة لا ما يزعمه كثير من أهل الكلام: أن القرآن هو المعاني القائمة بالنفس دون الألفاظ، لأنه يلزم عليه أن تكون ألفاظ القرآن لغير اللَّه، وهو منكرٌ من القول. ووجه إعجازه أنَّه تحدى العرب وهم البلغاء الفصحاء بسورةٍ منه فعجزوا، فدل على أنَّه من اللَّه، إذ لو كان من مخلوق لقدر الخلقُ على الإتيان بمثله، والتحقيق أن إعجازه بالعجز لا بالصَّرْفة. 125 - وليس للقرآن تُعْزَى البسلمة ... وكونها منه الخلافي نقلَه 126 - وبعضُهم إلى القراءةِ نظرْ ... وذاك للوفاق رأيٌ مُعْتَبَرْ يعني أن العلماء اختلفوا في البسملة هل هي آية من الفاتحة أو من كل سورة أو ليست آية أصلًا؟ إلَّا التي في النمل فهي من القرآن إجماعًا، وأنَّ بعض العلماء جمع بين الأقوال فقال (1): من قرأ بالحرف الذي هي آية فيه [فهي آية] بالنسبة إليه، كالشافعي الذي يقرأ بحرف ابن كثير، وهي آية في حرف ابن كثير، ومن قرأ بالحرف الذي ليست آية فيه فليست آية بالنسبة إليه، وحاصل هذا أنَّها في بعض الحروف آية وفي بعضها غير آية. ونظير هذا: الواو من قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة/ 116] فإنها [غير] (2) ثابتة في حَرف ابن عامر والمصحف الشامي. وكالفاء من __________ (1) ورجَّحه في "المذكرة": (ص/ 103)، ونسبه في "نشر البنود": (1/ 76) إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني. (2) زيادة لازمة. انظر "المبسوط": (ص/ 121) لابن مهران.

(1/69)


قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى/ 30] فإنها حرف [عند] بعض القراء كعاصم، مع أن المصاحف التي بقيت في المدينة فيها: (بما كسبت أيديكم) بلا فاء، ونحو ذلك. 127 - وليس منه ما بالآحادِ رُوي ... فللقراءةِ بهِ نَفْيٌ قَوِي 128 - كالاحتجاج. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . يعني أن المروي بالآحاد على أنَّه قرآن لم يثبت كونه قرآنًا كلفظ (أيمانهما) في قراءة بعض الصحابة: (فاقطعوا أيمانهما)، وكلفظ (متتابعات) في قراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، وكقراءة أُبيّ وابن عباس: (النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو لهم أبٌ) فمثل هذا لا تجوز القراءة به على القول القويّ ولا يجوز الاحتجاج به، ولذا لم يقل مالك والشافعي بوجوب التتابع في صوم كفارة اليمين، وقيل: تجوز القراءة به والاحتجاج، وصحَّح ابنُ السبكي جواز الاحتجاج به دون القراءة (1). . . . . . . . . . غير ما تحصَّلا ... فيه ثلاثةٌ فَجَوِّز مُسْجَلا 129 - صِحَّةُ الاسناد ووجهٌ عَرَبي ... وَوَفْقُ خطِّ الأمِّ شرطٌ ما أُبي يعني أن الشاذ تجوز القراءة به بثلاثة شروط (2): __________ (1) في "جمع الجوامع": (1/ 231 - مع حاشية البناني). (2) توهم عبارة الناظم والشارح أن ما توفرت فيه الشروط الثلاثة فإنه من قبيل الشاذ، وتجوز القراءة به، وأن القراءة الصحيحة ما توفر فيها شرط التواتر، والصحيح أن الشروط الثلاثة كافية لإثبات القراءة الصحيحة دون اشتراط التواتر، وهذا هو =

(1/70)


الأول: صحة إسناده إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لاتصال سنده وثقة نقلته دون شذوذ ولا علة تقدح. الثاني: أن يوافق وجهًا جائزًا في العربية التي نزل القرآن بها. الثالث: موافقة خط المصحف العثماني ويحصل ذلك بموافقة واحدة من جملة نسخ المصحف العثماني. قال ابنُ الجزري (1): وكلُّ ما وافقَ وجهًا نحوي ... وكان للرَّسم احتمالًا يحوي وصحَّ إسنادًا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل شرط أثبتِ ... شذوذَه لو أنَّه في السبعةِ والأصوليون وكثير من الفقهاء يقولون بأن القرآن لا يثبت إلَّا __________ = اختيار المحققين، قال ابن الجزري في "النشر": (1/ 13): "وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلَّا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن. وهذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجب قبوله وقطع بكونه قرآنًا، سواء وافق الرسم أم خالفه. . . " اهـ الغرض منه. وهذا اختيار أبي شامة في "المرشد الوجيز" (ص/ 171 فما بعدها)، وابن تيمية كما في "جامع المسائل": (1/ 113 - 114)، وتقي الدين السبكي كما نقله عنه ابن الجزري في "منجد المقرئين - بتحقيقي": (ص/ 170)، والحافظ ابن حجر كما في فتوى مفردة (ملحقة في آخر منجد المقرئين) و"فتح الباري": (8/ 649). (1) "طيبة النشر": (ص/ 3).

(1/71)


بالتواتر، واعْتُرِض بإثبات قرآنية البسملة مع أنها لم تتواتر، وأجيب بأن هذا الاحتجاج إنما هو على من أثبت قرآنيتها. 130 - مثلُ الثلاثة ورجِّحِ النَّظرْ ... تواترًا لها لدى من قدْ غَبَرْ يعني أن مثال المستوفي للشروط الثلاثة المارة قراءة القراء الثلاثة: خَلَف، وأبو جعفر، ويعقوب. أما أبو جعفر يزيد بن القعقاع، وهو من شيوخ نافع ومن كبار قراء أهل المدينة. وأما يعقوب فقال فيه ابن عَرَفة: قراءته داخلة في السبعة لأنه أخذها عن أبي عمرو. وأما خَلَف فقال فيه السبكي: قراءةُ خَلَف ملَفَّقة من السبعة إذْ له في كل حرفٍ موافقٌ منهم (1). وقال أبو حيان: لا نعلم أحدًا من المسلمين منع القراءة بالثلاثة، بل قُرئ بها في سائر الأمصار (2). وقول المؤلف: "ورجِّح النظر تواترًا لها" يعني أن قراءة الثلاثة المذكورة رجَّح النظر عند بعض العلماء أنها متواترة، قال السبكي في "منع الموانع" (3): إن القول بعدم تواترها في غاية السقوط. 131 - تواتر السَّبعِ عليهِ أجمعوا ... . . . . . . . . . . __________ (1) في "منع الموانع": (ص/ 353). (2) نقله عنه ابن الجزري في "المنجد": (ص/ 109) من فتوى مطولة في القراءات. (3) (ص/ 350). وقد عقد ابن الجزري فصولًا في كتابه "المنجد": (ص/ 101 - فما بعدها) في الدفاع عن القراءات الثلاث، وأنها مشهورة لم ينكر أحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين القراءة بها، قال: ولا ينازع في ذلك إلا جاهل.

(1/72)


يعني أن قراءة القراء السبعة مجمع على تواترها وهم: ابن عامر ونافع وعاصم وابن كثير وأبو عَمرو وحمزة والكسائي. فالقراءات عند القراء وبعض الفقهاء ثلاثة أقسام: متواترٌ وهو السبع، ومُخْتَلَفٌ فيه بين التواتر والصحة كالثلاث، وشاذٌّ وهو ما اختل (1) فيه شرط صحة. وعند الأصوليين وبعض الفقهاء: متواتر وهو السبع، وشاذٌّ وهو ما سوى ذلك، فلا تجوز عندهم القراءة بما زاد على السبع، والتحقيقُ جوازها بالثلاثة كما تقدم. . . . . . . . . . . . . . ... ولم يكُنْ في الوَحْي حَشْوٌ يَقَعُ يعني أنه لا يكون في الوحي شيء لا معنى له خلافًا للحشوية، وأما المتشابه فله معنى يعلمه الراسخون في العلم بناءً على أن الواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران/ 7] عاطفة، أو يعلمه اللَّه وحده بناءً على أنها استئنافية، والحكمة -على هذا الأخير- اختبار الخلق بالإيمان والإذعان مع عدم الفهم كما مدح تعالى الراسخين في العلم بذلك بقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران/ 7]. 132 - وما به يُعنى بلا دليلِ ... غيرُ الذي ظهَرَ للعقولِ لفظة "ما" عطف على قوله: "حشوٌ" يعني أنه لا يجوز عقلًا أن يقع في الوحي حشو ولا ما -أي لفظ- يُعنى به غير ظاهره المتبادر منه إلا بدليل يدلُّ على المحتمل المرجوح، كما يأتي إن شاء اللَّه تحريره في __________ (1) الأصل: خل!

(1/73)


مبحث التأويل، فقوله: "غيرُ" نائب فاعل "يُعْنى" بمعنى يُراد، أي ليس فيه ما يراد به غير ظاهره إلا بدليل على ذلك. 133 - والنقلُ بالمنضمِّ قد يُفيدُ ... للقطْعِ والعكسُ له بعيدٌ يعني أن النقل يفيد القطع بصحة الخبر، فالدليل القاطع يجوز أن يكون نقليًّا، وقيل: لا يمكن أن يكون نقليًّا، وحكاه الفخر الرازي في "المعالم" (1) واحتجَّ له بأن القطع بالخبر يتوقف على أمور لا سبيلَ إلى القطع بها وهي: عدم المجاز، والنقل، والتقديم، والتأخير، والتخصيص، والنسخ، والإضمار، والاشتراك، والمعارض العقلي (2). وأجاب الجمهور عن هذا بأن النقل قد يفيد اليقين بواسطة المنضمِّ إليه من تواتر لفظي أو معنوي أو من قرائن حالية، فلا شك في أن هيئات الصلوات مثلًا قطعية لِمَا انضم إلى الإخبار بها من التواتر ونحو ذلك مما عُلِم من الدين بالضرورة من النقليات، وهذا هو مراد المؤلف بقوله: "بالمنضم". وقول المؤلف: "والعكس له بعيدُ" يعني أن القول بأن الخبر لا يفيد اليقين مطلقًا بعيدٌ، وهو كذلك لبطلانه، واللام في قوله: "للقطع" زائدة داخلة على المفعول به، والأصل: قد يفيد القطع. __________ (1) (ص/ 24). وهو قانون كلي عند الرازي وغيره من المتكلمين كرره في كثير من كتبه، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه "درء تعارض العقل والنقل" في تفنيد (2) هذا القانون وبيان بطلانه عقلًا ونقلًا. انظر مقدمته (1/ 10 - 14). (2) الأصل: في العقلي.

(1/74)


المنطوق والمفهوم اعلم أن المفهوم يسمَّى منطوقًا إليه. 134 - معنًى له في القصدِ قُلْ تأصُّلُ ... وهُوَ الذي اللفظ به يُسْتعملُ يعني أن المنطوق هو المعنى الذي قصدَه المتكلم باللفظ أصالة أي بالذات من اللفظ، وإيضاح كونه مقصودًا بالأصالة من اللفظ أنه لا يتوقف فهمه من اللفظ إلَّا على مجرد النطق باللفظ، سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازًا، فالتحقيق أن المجاز من المنطوق؛ لأن نفس المعنى المجازي هو مقصود المتكلم باللفظ، وقرينة المجاز تبيِّنُ ذلك، وهذا الذي فسرنا به المنطوق هو معنى قولهم: المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق. 135 - نصٌّ إذا أفادَ ما لا يحتملْ ... غيرًا وظاهرٌ إِنِ الغيرُ احتُمِلْ يعني أن اللفظ الدال في محل النطق يسمى نصًّا إذا أفاد معنى لا يحتمل غيره كأسماء العدد كقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة/ 196]. ويُسَمَّى ظاهرًا إن احْتُمِل معنى آخر احتمالًا مرجوحًا كقولك: "رأيت الأسد" فهو ظاهر في الحيوان المفترس، ويحتمل الرجل الشجاع. وسيأتي أنه إن تساوى الاحتمالان أو الاحتمالات أن اللفظ يسمَّى مجملًا، فصارت القسمةُ رباعية: نص وظاهر، ومجمل ومحتمل. وقوله: "احْتُمِل" بالبناء للمفعول. وقوله: "الغيرُ" نائب فاعل "احتمل" محذوفة لأن الشرط لا يتولاه إلا الجمل الفعلية.

(1/75)


136 - والكلُّ من ذَيْن له تجلَّى ... ويُطلق النصُّ على ما دَلّا 137 - وفي كلام الوحي. . . . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن النص له أربعة اصطلاحات: أحدها: معناه المتقدم، الثاني: الظاهر، الثالث: اللفظ الدال على أي معنى كان، سواء كان كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو قياسًا. الرابع: الوحي من كتاب أو سنة. . . . . . . . والمنطوقُ هلْ ... ما ليسَ بالصريح فيه قد دَخَلْ يعني أنهم اختلفوا فيما دُلّ عليه بالاقتضاء أو الإشارة أو الإيماء هل هو داخل في المنطوق أو المفهوم؟ فعلى أنه داخل في المنطوق يكون قسمين: منطوق صريح وهو ما تقدم، ومنطوق غير صريح وهو ما دل عليه بالاقتضاء أو الإشارة أو الإيماء. وعلى أنه مفهوم فالمنطوق هو ما تقدم في قوله: "معنى له في القصد" إلخ فقط. 138 - وهْوَ دلالةُ اقتضاءٍ أن يَدُلْ ... لفظٌ على ما دونَه لا يستَقِلْ 139 - دَلاَلَةُ اللّزوم. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . يعني أن دلالة الاقتضاء هي أن يدل لفظ دلالة التزام على محذوف لا يستقل الكلام دونه؛ لتوقف صدقه عليه أو توقفه عليه عقلًا أو شرعًا، فمثال ما دلَّ عليه بالاقتضاء لتوقف الصدق عليه: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لذي اليدين لما قال له: أُقصرت الصلاة أم نسيت؟: "كلُّ ذلك لم يكن" (1) يعني في __________ (1) أخرجه البخاري رقم (714)، ومسلم رقم (553/ 99) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/76)


ظني، ولولا تقدير هذا المدلول عليه بالاقتضاء لكان الكلام كذبًا لأنه سلَّم من ركعتين، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- يستحيل في حقه الكذب. ومن أمثلته أيضًا حديث: "رُفِعَ عن أُمتي الخطأ والنسيان وما اسْتكرِهوا عليه" (1). فالمدلول عليه بالاقتضاء هو المؤاخذة لأنها هي المرفوعة، أما نفس الخطأ والنسيان والاستكراه فليس شيءٌ منها مرفوعًا لوقوعها كُلِّها في الأمة، فلولا تقدير المقتضي لكان الكلام كذبًا. ومثال التوقف عقلًا: سؤال القرية والعير في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف/ 82]، هكذا مَثَّل بهذا كثير من الأصوليين، والظاهر أن العقل لا يمنع ذلك، وإنما مَثَّلوا به جريًا على العادة. ومثال التوقف على المقتضي شرعًا: الأمر بالصلاة فإنه يدل بالاقتضاء على الأمر بالطهارة، لأنها لا تصح شرعًا دونها. وقوله: {حُرِّمَتْ __________ (1) الحديث بهذا اللفظ يكثر دورانه في كتب الفقهاء والأصوليين، وقد نفى جماعة من الحفاظ وجود هذا اللفظ، لكن ذكر ابن عبد الهادي وابن حجر أنهما وجداه بلفظه في "فوائد أبي القاسم التيمي". انظر "نصب الراية": (2/ 64)، و"التلخيص": (1/ 301 - 302). وقد جاء الحديث بألفاظ أخرى عن جماعة من الصحابة، أحسنها من حديث ابن عباس بلفظ: "إن اللَّه تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان. . ". أخرجه ابن حبان "الإحسان": (16/ 202)، والدارقطني: (4/ 170)، والبيهقي: (7/ 356) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان وحسَّنه النووي في "الروضة": (8/ 193). وانظر حاشية "تنبيه الرجل العاقل": (2/ 488 - 489).

(1/77)


عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء/ 23] لأن نفس الأمهات لا يتعلق بها التحريم شرعًا، لأن الأحكام الشرعية لا تتعلق إلا بالأفعال كما تقدم في قوله: "ولا يكلف بغير الفعل" إلخ فدلَّ الكلام بالاقتضاء على محذوفٍ تقديره: نكاح أمَّهاتكم. . . . . . . مثل ذاتِ ... إشارةٍ كذاكَ الايما آتِ قوله: "مثل" خبر مبتدأ تقديره: هي، أي دلالة الاقتضاء مثلُ ذات الإشارة، أي مثل دلالة الإشارة والإيماء في أن كلًّا منها دلالة التزام وأنها منطوق غير صريح، فقوله: "الإيما" بالقصر لضرورة الوزن مبتدأ خبره "آتِ"، وقوله: "آتِ" اسم فاعل أتى. وقوله: "كذاك" حال من الضمير المستتر في الخبر. وتقرير المعنى: والإيما آتٍ هو في حالِ كونِه كذاكَ المذكور الذي هو الاقتضاء في أن كلًّا منهما دلالة التزام ومن المنطوق الغير الصريح. 140 - فأولٌ إشارةُ اللفظِ لِما ... لم يَكُنِ القصدُ له قد عُلِما يعني أن الأول من القسمين المذكورين في البيت قبله -وهو دلالة الإشارة- هو إشارة اللفظ إلى معنى ليس مقصودًا منه بالأصالة بل بالتبع، مع أنه لم تَدْعُ إليه ضرورة لصحة الاقتصار على المذكور دون تقديره كدلالة قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة/ 187] على صحة صوم من أصبح جنبًا من الوطء، فإن الآية لم يُقصد بها بالأصل صحة صومِ من أصبح جنبًا من الوطء ولكن قُصد بها جواز الجماع في جميع أجزاء ليلة الصوم، وذلك يَصْدُق بآخر جزء من

(1/78)


الليل، بحيث لم يبق ما يسع الاغتسال قبل النهار، فدَلَّ بالإشارة على صحة صوم من أصبح جنبًا. ومن أمثلته: أَخْذ علي -رضي اللَّه عنه- أن أقل أمد الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف/ 15] مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان/ 14] لأن العامين إن أسقطتها من الثلاثين بقي منها ستة، فالآيتان لم تُسَقْ واحدةٌ منهما لقصد بيان أقل أمد الحمل، ولكن إحداهما لبيان أمد الحمل والفصال، والأخرى لبيان أمد الفصال، إلا أنهما دلتا بالإشارة على أقل أمد الحمل. وقوله: "فأول" مبتدأ خبره "إشارة اللفظ"، والظاهر أن مسوِّغ الابتداء به كونه في معرض التفصيل، كقول امرئ القيس (1): فلما دنوتُ تَسَدَّيْتُها ... فثوبًا نسيتُ وثوبًا أجُرْ وقوله: "عُلم" بالبناء للمفعول، وألِفُه للإطلاق. 141 - دلالةُ الإيماءِ والتنبيهِ ... في الفنِّ تُقْصَدُ لدى ذويهِ يعني أن الدلالة التي تسمى دلالة الإيماء والتنبيه مقصودة عند المتكلم بالأصالة لا بالتبع، و"الفن" فن الأصول، وقوله: "ذويه" بمعنى أصحابه، وجملة "تُقْصد" خبر المبتدأ الذي هو "دلالة" وأشار إلى تعريفها بقوله: 142 - أن يُقرَنَ الوصفُ بحكمٍ إن يكنْ ... لغيرِ علَّةٍ يَعِبْهُ من فَطِنْ __________ (1) "ديوانه": (2/ 623). ووقع في الأصل: فثوبٌ. . . وثوبٌ.

(1/79)


المصدر المنسبك من أنْ وصلتها خبر مبتدأ محذوف والتقدير هي -أي دلالة الإيماء والتَّنبيه- أن يقرن -أي اقتران- الوصف بحكم لو لم يكن الوصف علة لذلك الحكم لعابه الفَطِن بمقاصد الكلام لأنه لا يليق بالفصاحة، وكلام الشارع لا يكون فيه ما يُخل بالفصاحة، ومثاله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38]، لأنه لو لم يكن القطع لعلة السرقة لما كان في قول "السارق والسارقة" فائدة. ومن أمثلته: قصة الأعرابي الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: هلكتُ وأهلكتُ، واقَعْت أهلي في نهار رمضان، فقال له -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اعتق رقبة" (1)، فلو لم يكن عتق الرقبة لِعِلَّة المواقعة لكان الكلام بلا فائدة. وسيأتي للمؤلف الكلام على أنواع الإيماء في مسالك العلة لأنه هو المسلك الثالث منها. وعلى القول بأن المنطوق صريح فقط فلا إشكال، وعلى أن منه صريحًا وغير صريح، فإنه يشكل الفرق بين المنطوق الغير الصريح وبين المفهوم (2)، فيحتاج إلى الفرق بين المفهوم مع الاقتضاء والإشارة والإيماء، والفرق بين المفهوم ودلالة الإشارة مصاحبة القصد الأصليّ له دونها. والفرق بينه وبين دلالة الاقتضاء ظاهر، وهو توقف الصدق أو __________ (1) أخرجه البخاري رقم (6087)، ومسلم رقم (1111) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (2) قال المؤلف في "المذكرة": (ص/ 418) بعد ذكر الدلالات الثلاث: وكل هذه الثلاث من دلالة الالتزام، والحق أنها من المفهوم.

(1/80)


الصحة على إضمار فيها دونه، والفرق بينه مع دلالة الإيماء هو أدقها، وتقريبه للذهن أن تعلم أولًا أن المفهوم مقصود للمتكلم إلا أنه مقصود من النطق لا في محلِّ النطق كما تقدم، فقوله تعالى مثلًا: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا} [الطلاق/ 6] يقصد منه أيضًا أنهن إن كن غير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن، إلا أن هذا المقصود لم يتناوله اللفظ، فهو مقصود باللفظ ولم يتناوله اللفظ، وإنما فُهِم من تخصيصه الإنفاق بالحوامل أن المسكوت عنهن وهن غيرُ الحوامل لسْنَ كذلك، إذ لو كُنّ كذلك لما كان في تخصيص الحوامل بالذكر فائدة. ودلالة الإيماء مقصودة في محل النطق، فقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)} [المائدة/ 38] يُقصد من منطوقه أن القطع من أجل السرقة، فإذا عرفت هذا فالفرق بين المفهوم مع دلالة الإيماء كونها مفهومة في محّلٍّ تناوله اللفظ نُطقًا (1) دونه. فتحصَّل أن دلالةَ الإشارة لم تُقصد بالأصل ولكن دخلت بالتبع، وأن دلالة الاقتضاء مقصودة ولكن توقف الصدق أو الصحة على المضمر المقصود المدلول عليه بالاقتضاء، وأن دلالة الإيماء والتنبيه مقصودة في محلٍّ تناوله اللفظ نطقًا، وأن المفهوم مقصود في محل تناوله اللفظ غير نطق. 143 - وغيرُ منطوقٍ هو المفهومُ ... منهُ الموافقة قلْ معلومٌ يعني أن غير المنطوق هو المفهوم، فهو ما دل عليه اللفظ لا في __________ (1) الأصل: قطعًا.

(1/81)


محل النطق، وهو ينقسم إلى قسمين وهما: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة. وعَرَّف المؤلف مفهوم الموافقة بقوله: "إعطاء ما للّفظة المسكوتا" إلخ. وعَرَّف مفهوم المخالفة بقوله: "وغير ما مر هو المخالفة". وقوله: "الموافقة" مبتدأ خبره "معلوم". وقوله: "منه" يتعلَّق بـ "معلوم" وضميره للمفهوم، وجملة فعل الأمر الذي هو "قل" اعتراضية. 144 - يُسْمَى بتنبيه الخطاب وَوَرَدْ ... فحوى الخطابِ اسمًا له في المعتمد يعني أن مفهوم الموافقة يُسمى: تنبيه الخطاب، وفحوى الخطاب، ويقال له أيضًا: مفهوم الخطاب، ومقابل المعتمد عنده مذهب الحنفية فإنهم يسمونه دلالة النص. 145 - إعطاءُ ما للّفظة المَسْكُوتا ... من باب أولى نفيًا أو ثُبوتا يعني أن مفهوم الموافقة هو إعطاء ما ثبت للفظ من الحكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى والأحرى، سواء كان الحكم المنطوق به منفيًّا أو منهيًّا عنه أو موجبًا، فالمنفي نحو: {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء/ 40] يدلُّ بالأحرى أنه لا يظلم مثال جبل. والمنهي نحو: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23] فإنه يدلُّ بالأحرى على النهي عن الضَّرْب، وهَذَانِ القسمان يشملهما قول المؤلف: "نفيًا" لأن المنهي عنه مطلوب نفيه. وقولنا: أو موجبًا، نعني به المثبت، فالإيجاب اصطلاحًا هو الإثبات كما أن السلب اصطلاحًا هو النفي، ومثاله قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران/ 75] فإن ثبوت الأمانة في القنطار يدل بالأحرى على ثبوتها في الدرهم. وعلى هذا التعريف الذي

(1/82)


عَرَّف به المؤلف مفهومَ الموافقة فالمساوي لا يدخل في اسْمِه وإن كان مثله في الاحتجاج. وقول المؤلف: "إعطاء" خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو، أي مفهوم الموافقة، والمصدر الذي هو المبتدأ يعمل عمل فعله وفعلُه يطلب مفعولين، فأضيف المصدر إلى مفعوله الأول وهو "ما" ومفعوله الثاني: المسكوت عنه. وقوله: "المسكوت" يعني المسكوت عنه. وقوله: "من باب أولى" يتعلَّق بقوله: "إعطاء". وقوله: "نفيًا أو ثبوتًا" مصدران منكَّران حالان من "ما" أي إعطاء ما للفظ في حال كونه منفيًّا أو ثابتًا للمسكوت عنه، وإلى مثل هذا الإشارة بقول صاحب "الخلاصة": ومصدر مُنكَّرٌ حالًا يقعْ ... بكثرة كبغتةٍ زيدٌ طلعْ 146 - وقِيل ذَا فَحوى الخِطَاب والذي ... سَاوَى بِلَحْنِهِ دعاه المُحْتَذي يعني أن بعضهم جعل مفهوم الموافقة قسْمَين: أحدهما: فحوى الخطاب، وهو ما كان المسكوت عنه فيه أولى بالحكم من المنطوق به. والثاني: لحن الخطاب، وهو ما كان المسكوت عنه فيه مساويًا للمنطوق في الحكم، وهذا هو الحق. وكلُّ واحدٍ من القسمين يكون قطعيًّا وظنّيًّا، فتكون أقسام مفهوم الموافقة أربعة من ضرب اثنين في اثنين: الأول: مفهوم موافقة أَحْروي قطعي، كفهم المجازاة على مثقال الجبل من المجازاة على مثقال الذرة المنصوص في قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة/ 7] الآية. وكفهم الاكتفاء بأربعة عدول من

(1/83)


الاكتفاء باثنين المنصوص في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق/ 2]. الثاني: مفهوم موافقة أحْروي ظَنِّي، كفهم النهي عن التضحية بالعمياء من نهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن التضحية بالعوراء (1). ولم يكن هذا قطعيًّا، لأنَّ العوراء تُوْكَل في المرعى إلى (2) نفسها وهي ناقصة البصر فلا ترى كل المرعى، ونقصان بصرها مظنة لنقصان أكلها وذلك مظنة لهزالها، والعمياء يُقَدَّم لها الأكل فيختار لها مثلُ ما تختاره البصيرة لنفسها، فلم يكن عماها مظنة لهزالها كالعوراء، إلا أن هذا الاحتمال بعيد ولكن مَنَعَ القطعَ مع بُعْدِه. الثالث: مفهوم موافقةٍ مساوٍ قطعي، كفهم حُرمة إحراق مال اليتيم وإغراقه من النهي عن أكله المنصوص في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء/ 10] الآية. وكفهم النهي عن البول في إناءٍ وصَبِّه في الماء الراكد من نهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البول فيه (3). الرابع: مفهوم موافقة مساوٍ ظنيّ، كفهم سراية العتق في الأَمَة المُعْتَق بعضها من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أعتق شِرْكًا له في عبد. . . " (4) __________ (1) تقدم تخريجه (ص/ 38 - 39). (2) الأصل: على. (3) أخرجه البخاري رقم (239)، ومسلم رقم (282) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (4) أخرجه البخاري رقم (2503)، ومسلم رفم (1501) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-.

(1/84)


الحديث، ولم يكن هذا قطعيًا لاحتمال أن الشارع له في عِتْق الذكر غرض لم يكن في عتق الأنثى، ككونه يقف في صف القتال، ويولَّى القضاء والإمامة وغير ذلك من الولايات، إلا أن هذا الاحتمال بعيد؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يُناط بهما حُكْم وإن كانا غير طرديين في بعض الأحكام غير العتق كالميراث والشهادة. ولحنُ الخطاب مفهومُه، ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد/ 30]، وفحوى الخطاب ما يُفهم من (1) اللفظ أيضًا. 147 - دَلالة الوِفاقِ للقياسِ ... وهو الجلي تُعْزى لدى أُناسِ يعني أن جماعةً من الأصوليين منهم الإمام الشافعي جعلوا دلالة مفهوم الموافقة غير لفظية، بل هي عندهم قياس جلي، فالضرب -مثلًا- للوالدين ممنوع بالقياس على التأفيف قياسًا جليًّا. وقس على ذلك (2). وقول المؤلف: "دلالة" مبتدأ خبره جملة "تُعْزَى". وقوله: "وهو الجلي" جملة اعتراضية، والمراد بـ "الوفاق" مفهوم الموافقة. 148 - وقيل لِلّفظِ مع المَجازِ ... وعَزْوُها للنقل ذو جوازِ يعني أنه قيل: إن دلالة مفهوم الموافقة أي مدلوله تُعْزَى للّفظ والمجاز، فيقال فيها: لفظية مجازية، وعلى هذا فهي مجاز مرسل أطلق فيه الأخصر وأريد الأعم، فعلى هذا فالمراد بالنهي عن التأفيف النهي __________ (1) الأصل: منه. (2) انظر "الرسالة": (ص/ 513)، و"قواطع الأدلة": (2/ 8).

(1/85)


عن جميع الأذى، فالتأفيف خاص أُرِيْد به عام وهو جميع الأذى، وقِسْ على ذلك. وقوله: "وعَزْوُها للنقل ذو جواز" يعني أن عزوَ مدلول مفهوم الموافقة للنقل جائز، ومراده بالنقل أن العرفَ اللغويَّ نقل اللفظ من وضعه بثبوت الحكم للخاص إلى وضعه لثبوته للعام، كما نُقِل اسم الغائط عن المكان المنخفض إلى الخارج من الإنسان، وعلى هذا فلفظ التأفيف نقله العرفُ اللغوي إلى النهي عن كل أذى. 149 - وغيرُ ما مرَّ هو المخالفه ... ثُمَّتَ تنبيهُ الخطابِ خَالفَه 150 - كذا دليلٌ للخطاب انضافا ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن غير ما مر هو مفهوم المخالفة، وما مَرَّ هو مفهوم الموافقة فغيره هو مفهوم المخالفة، ومعنى مفهوم المخالفة: أن المسكوت عنه يخالف حكم المنطوق به، ويُسمى مفهوم المخالفة: تنبيه الخطاب ودليل الخطاب. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ودَعْ إذا الساكتُ عنه خافا 151 - أو جَهِلَ الحُكمَ أو النطقُ انجَلَبْ ... للسُّؤْلِ أو جَرْيٍ على الذي غَلَبْ 152 - أو امتنانٍ أو وفاقِ الواقِعِ ... والجهلِ والتأكيدِ عند السَّامعِ يعني أن لمفهوم المخالفة موانع تمنع اعتباره: الأول: الخوف كما لو قال قريبُ عهدٍ بالإسلام لعبده بحضور المسلمين: تصدَّق بهذا على المسلمين، فلا مفهوم لقوله: "على المسلمين" لأنه سكت عن غير المسلمين خوفًا من تهمة النفاق، وهذا

(1/86)


هو معنى قول المؤلف: "ودَعْ إذا السَّاكت" إلخ. الثاني: جهل المتكلم لحكم المسكوت عنه كما لو قال مفتٍ يجهل حكم زكاة المعلوفة: في السّائمة زكاة، فلا مفهوم له؛ لأنه إنما سكت عن المعلوفة لجهله حكمها، وهذا معنى قوله: "أو جَهِلَ الحكمَ"، وهو فعلٌ ماض. الثالث: كونه جوابًا لسؤال كما لو سئل أحد عن السائمة فقال: فيها زكاة، فلا مفهوم له، لأن تخصيص السائمة بالذكر إنما هو لأجل مطابقة السؤال، وهو معنى قوله: "أو النُّطِق انجلْب للسؤل". الرابع: كونه جاريًا مجرى الغالب، كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء/ 23] فلا يدل على أنها إن لم تكن في الحجر لا تحرم، لأنه خَرَجَ مخرجَ الغالب، لأن الغالب في الربيبة أن تكون في حجر زوج أمها، وعلى هذا جمهور العلماء، وهو معنى قوله: "أو جَرْيٍ على الذي غلب" بخفض "جَرْيٍ" عَطْفًا على "السؤْل" أي: والنطق انجلب لسؤالٍ أو جريٍ على الغالب. الخامس: الامتنان، كقوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل/ 14] فلا يدل على منع القديد، لأن تخصيص الطَّريّ بالذكر لأنه أنسب إلى الامتنان، وهذا معنى قوله: "أو امتنانِ" بالجر أيضًا عطف على قوله: "للسُّؤْلِ". السادس: موافقة الواقع، كقوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران/ 28] لأنه نزل في قوم والَوا اليهودَ دون

(1/87)


المؤمنين، فنزلت الآية ناهية عن نفس الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها، بل موالاة الكفار حرام مطلقًا، وهذا هو معنى قوله: "أو وفاق الواقع". السابع: جهل السامع للمنطوق دون المفهوم، كما لو قلت لإنسانٍ يعلم أن جمعَ الأختين بنكاح حرام، ويجهلُ حرمةَ جمعهما في الوطء بملك اليمين: جَمْعُ الأختين بملك اليمين حرام، فلا يُفْهم منه أن جمعهما بالنكاح غير حرام؛ لأن التخصيص بالذكر لجهل السامع حكم المنطوق دون المفهوم، وهذا معنى قوله: "والجهل" ويتعلق بقوله: "والجهل" قوله: "عند السامع" ولا تكرار بين هذا وبين قوله: "أو جهِلَ الحكم" لأن الجهل في الأول جهل المتكلم وفي الثاني جهل السامع. الثامن: التأكيد للسامع كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تحد على ميت. . . " (1) الحديث؛ لأن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تؤمن باللَّه واليوم الآخر" لتأكيد النهي والتغليظ فيه، فلا يُفْهم منه أن المرأة التي لا تؤمن باللَّه يحل لها ذلك، وقول المؤلف "عند السامع" راجع للجهل والتأكيد معًا كما تقدم. 153 - ومقتضى التخصيص ليس يَحظُلُ ... قَيْسًا وما عُرِضَ ليس يَشمُلُ مراده بـ "مقتضي التخصيص" الأمور الثمانية التي ذكرنا أنها تمنع اعتبار مفهوم المخالفة، فالخوف -مثلًا- اقتضى تخصيص المسلمين دون __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1280)، ومسلم رقم (1486) من حديث أم حبيبة -رضي اللَّه عنها-.

(1/88)


غيرهم، والجهل اقتضى تخصيص المتكلم ما يعلمه دون ما يجهله، والسؤال اقتضى تخصيص المسؤول عنه لمطابقة الجواب له، وقس على ذلك. فإذا عرفتَ ذلك فمعنى البيت: أن مقتضى التخصيص وإن مَنَع اعتبارَ مفهوم المخالفة فإنه لا يمنع المسكوت عنه على المنطوق إذا كان بينهما جامع، أي علة يصح بها القياس، فقوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر/ 12] مثلًا لما كان الطرِيّ أنسب للامتنان، واقتضى ذلك تخصيصه بالذكر، فلا يمنع من قياس القدِيد على الطري لعدم الفارق المؤثِّر بينهما. وهذا المثال مبنيٌّ على القول بأن الإلحاق بنَفْي الفارق قياس، ويسمى: القياس في معنى الأصل. وقوله -مثلًا-: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران/ 28] الآية كونها نزلت في واقعةٍ اقتضى تخصيصها بتلك الواقعة، فمنع اعتبار مفهوم المخالفة، ولكن لا يمنع قياس المسكوت عنه وهو موالاة الكفار والمؤمنين معًا على المنطوق وهو موالاة الكافرين من دون المؤمنين؛ لأن العلة في مَنْع الموالاة الكفر وهي موجودة في الفرع كوجودها في الأصل، وقس على ذلك. وقول المؤلف: "وما عُرِض" بالبناء للمفعول، ومراده به لفظ المنطوق، فعبَّر عن اللفظ بما عُرِض؛ لأنه معروض أي موصوف بالعوارض العارضة له، كالتقييد بصفة أو نحوها، ومعناه: أن لفظ المنطوق لا يشمل المسكوت عنه حتى يستغني بشموله له عن القياس، وهذا هو الحق. والقولُ بأنه يشمله بعيد، إذ لا يخفى أن الغنم السائمة لا تشمل

(1/89)


المعلوفة، والطري لا يشمل القديدَ، واتخاذ الكفار من دون المؤمنين لا يشمل اتخاذهم مع المؤمنين وهكذا. 154 - وهْوَ ظرفٌ عِلَّةٌ وَعَدَدُ ... ومنه شرطٌ غايةٌ تُعتمدُ يعني أن مفهوم المخالفة أقسام: الأول: مفهوم الظرف زمانيًّا أو مكانيًّا، فالزمانيُّ نحو قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة/ 197] فيفهم منه أنه لا حج في غيرها، والمكانيُّ نحو قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة/ 187] يُفهم منه أن الاعتكاف لا يصح في غير المساجد، وبه قال بعض العلماء. الثاني: مفهوم العلة نحو: "أَعْط السَّائل لحاجته" يفهم منه أن غير المحتاج لا يُعطى، ومفهوم العلة نوع من مفهوم الصفة، والصفة أعم لأنها قد تكون مكمِّلة للعلة لا علة مستقلة كالسَّوْم عند من يقول بأن لا زكاة في المعلوفة؛ لأن السَّوْم ليس عِلَّة الزكاة، ولو كان علة تامة لوجبت الزكاة في الوحوش لأنها سائمة، ولكن العلة نعمة الملك وهي مع السوم أتم. الثالث: مفهوم العدد، نحو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور/ 4] أي لا أكثر. الرابع: مفهوم الشرط، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق/ 6] يُفهم منه أنهنَّ إن كنَّ غير أولات حمل لا يجب الإنفاقُ عليهن. الخامس: مفهوم الغاية، كقوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة/ 230] يُفْهم منه أنها إن نكحت زوجًا غير الأول

(1/90)


حلَّت له أي الأول. وقول المؤلف: "تُعْتَمَد" بالبناء للمفعول، ونائبه ضمير الغاية أي يُعْتمد عليها في الاحتجاج، وجملةُ الفعل نعت لغاية. 155 - والحصرُ والصفةُ مثلُ ما عُلِمْ ... من غَنَمٍ سامَتْ وسائمِ الغنمْ يعني أن النوع السادس من أنواع مفهوم المخالفة: مفهوم الحصر، نحوُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة/ 5] فإن الحصر المدلول عليه بتقديم المعمول يُفهم منه عدم عبادة سواه جل وعلا. وأن السابع من أنواع مفهوم المخالفة: مفهوم الصفة، والمراد بها عند الأصوليين: لفظٌ مُقَيِّد لآخر ليس شرطًا ولا غاية ولا استثناء، ويدخل فيها الحال لأنها وَصْفٌ لصاحبِها قَيْدٌ لعامِلِها، نحو: "أحْسِن إلى العبد مطيعًا واضربه مُسيئًا" فإنه يُفهم من الأول عدمُ الإحسان إن لم يطع، ومن الثاني عدم الضرب إن لم يعص، وسواء تقدمت نحو: "في سائمة الغنم الزكاة" أو تأخرت نحوُ: "في الغنم السائمة زكاة" (1) وإليه الإشارةُ بقوله: "من غنمٍ سامَت وسائمِ الغنم". وقوله: "عُلِم" بالبناء للمفعول. فإن قيل: النعت لمجرد المدح أو الذم صفة لا مفهومَ لها. فالجواب: أن الاحتراز عنها وقع بأن المراد بالصفة لفظ مخصّصٌ. . . إلخ، وما كان لمجرد المدح أو الذم لا تخصيصَ فيه. 156 - معلوفةُ الغَنَمِ أو ما يُعلَفُ ... الخلْفُ في النَّفْي لأيٍّ يُصرَفُ __________ (1) جاء في كتاب أبي بكر لأنس لما وجَّهَه عاملًا على البحرين: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة. . " أخرجه البخاري رقم (1454).

(1/91)


يعني أنهم اختلفوا في المقيد بقيد، هل يرجع النفي والإثبات إليهما معًا -أعني القيد والمقيد- أو يرجعان للقيد فقط؟ فالغنم السائمة في قول المؤلف: "من غنم سامت وسائم الغنم" قُيِّدت بالسَّوْم، فعلى أن النفيَ والإثبات يرجعان لهما معًا فمفهوم قولك: "في الغنم السائمة زكاة" أن الغنم المعلوفة لا زكاة فيها لمراعاة القيد والمقيد معًا في المفهوم. وعلى أنهما راجعان للقيد فقط فمفهوم: "في الغنم السائمة زكاة" أن غير السائمة مطلقًا لا زكاة فيه، غنمًا كان أو إبلًا أو بقرًا لأن النظر على هذا القول إلى خصوص القيد الذي هو السَّوْم دون المقيَّد الذي هو الغنم في المثال. وقول المؤلف: "معلوفةُ الغنم" مبتدأ والموصول عطف عليه. وقوله: "يُعلَف" بالبناء للمفعول. وقوله: "الخُلْف" مبتدأ آخر والمجرور بعده خبره، والمبتدأ الآخر وخبره خبر الأول، والضمير الرابط في الجملة الخبرية بينها وبين المبتدأ محذوف لدلالة المقام عليه؛ لأن التنوين في قوله: "أيٍّ" عِوَض عنه، وتقرير المعنى: الخُلْف في النفي لأيهما يصرف؛ هل هو معلوفة خصوص الغنم نظرًا إلى القيد والمقيَّد، أو هو المعلوفة مطلقًا ولو كانت إبلًا وبقرًا نظرًا إلى القيد دون المقيَّد. 157 - أضعفها اللَّقَبُ وهو ما أُبي ... من دونِه نظمُ الكلامِ العربي يعني أن أضعف أنواع [مفهوم] المخالفة هو مفهوم اللَّقب، وضابط اللقب: هو الاسم الجامد كأسماء الأجناس، والعَلَم بأنواعه الثلاثة، وأسماء الجموع. وجمهور العلماء على أن اللقب لا مفهوم له، وهو الحق، وربَّما كان اعتباره كفرًا، فقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}

(1/92)


[الفتح/ 29] الآية -مثلًا- لو قال أحد فيه بمفهوم اللقب فقال: يُفهم منه أن غير رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن رسولًا، فإنه يكفر بالإجماع. وقيل باعتباره، وهو قول الصيرفي، والدقَّاق، وابن خويز منداد، وبعض الحنابلة (1). وقول المؤلف: "وهو ما أُبي من دونه" إلخ، كأنه يشير إلى جواب عن سؤال، وإيضاحُه أن يقال: لو لم يكن لِلَّقب مفهومًا (2) لما كان في تخصيصه بالذكر فائدة كما عللوا به مفهوم الصفة. والجواب: بأن اللقب ذُكِر ليسند إليه الحكم فقط إذ لا يمكن إسناد خبريّ بدون مسند إليه، وذلك هو معنى قوله: "وهو ما أُبي من دونه نظم الكلام العربي". واعلم أن التحقيق عدم اعتباره، وعدم الفرق بين العَلَمِ واسم الجنس خلافًا لمن قال باعتباره مطلقًا، ولمن قال باعتباره في اسم الجنس دون العَلَمِ. فإن قيل: جاء عن مالك -رحمه اللَّه تعالى- ما يدلُّ على اعتبار مفهوم اللقب، وذلك أنه قال باشتراط النهار في الأضحية وأنها لا تُجزئ إن ذُبِحت ليلًا، مستدلًّا بمفهوم قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} (3) [الحج/ 28] الآية، والأيام جمع يوم، __________ (1) انظر "جمع الجوامع": (1/ 254 - مع حاشية البناني). (2) كذا في الأصل، وصححت في الهامش بخط مغاير: مفهومٌ. (3) انظر "التهذيب في اختصار المدونة": (2/ 43)، و"بداية المجتهد": (1/ 509)، و"الجامع لأحكام القرآن": (12/ 30).

(1/93)


وهو اسم جنس لزمان النهار. فالجواب: أنه مفهوم ظرف لا مفهوم لقب، وقد قدمنا اعتبار مفهوم الظرف. 158 - أعلاه لا يُرشِد إلا العُلَما ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن أعلى -أي أقوى- مفاهيم المخالفة مفهوم الحصر بأداة النفي والإثبات نحوُ: "لا إله إلا اللَّه"، ومَثَّل له المؤلف بقوله: "لا يرشد إلا العلما" فمنطوقه عند الأصوليين نفي الإرشاد عن غير العلماء، ومفهومه إثبات الإرشاد لهم. ومذهب البيانيين عكس هذا، والتحقيق أن الكل منطوق، لأن النفيَ منطوقٌ صريح (1) والإثبات كذلك كما لا يخفى (2). . . . . . . . . . . . . ... ما لِمَنْطوقٍ بضَعْفٍ انتمى يعني أن المرتبة الثانية في القوة من مراتب مفهوم المخالفة هو ما قيل فيه: إنه منطوق بالإشارة قولًا ضعيفًا كمفهوم "إنما" ومفهوم الغاية، فإنهما يليان النفي والإئبات في القوة كقوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)} [التحريم] يُفْهَم منه أن الإنسان لا تُوزَن له حسنة لم يعملها ولا سيئة لم يعملها، وقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة/ 230] يُفهم منه حِلِّيتها له إن نكحت غيره، وممن قال بأن مفهومَ "إنما" والغاية منطوقٌ القاضي أبو بكر الباقلاني (3). وهذا القول بناءً على كون المنطوق منه غير صريح __________ (1) الأصل والمطبوعة: صريحًا. (2) انظر "نشر البنود": (1/ 98). (3) انظر "النشر": (1/ 98).

(1/94)


كما تقدم. 159 - فالشرط فالوصفُ الذي يناسبُ ... فمطلَقُ الوصف الذي (1) يقاربُ 160 - فعددٌ ثَمَّتَ تقديمٌ يلي ... وَهُوَ حجَّةٌ على النَّهْجِ الجَلي يعني أن المرتبة الثالثة في القوة من مراتب مفهوم المخالفة هي: مفهوم الشرط نحو: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} [الطلاق/ 6] كما تقدم، وإنما كان بعد مفهوم الغاية، و"إنما" لأن مفهوم الشرط لم يُنْقل أنه منطوق بخلافهما كما تقدم. وأن المرتبة الرابعة: مفهوم الوصف المناسب للحكم، وسيأتي للمؤلف تعريف المناسب بأنه ما تتضمَّن إناطةُ الحكم به مصلحة نحو: "في الغنم السائمة زكاة" (2). ووجه مناسبة الوصف بالسوم أن الموجب للزكاة نعمة الملك وهي مع السوم أتم، وإنما تأخر هذا عن مفهوم الشرط لأن بعض القائلين به -أي مفهوم الشرط- خالفَ في مفهوم الوصف المناسب (3). وأن المرتبة الخامسة: مفهوم الوصف الذي لم تظهر له مناسبة، كما لو قال: في الغنم العُفْر زكاة، فإناطة الحكم بوصف "العفر" لا تظهر مناسبته. قال مُقَيِّده عفا اللَّه عنه: مثل هذا المثال وصف طَرْدي لا تصلح __________ (1) في نسخة: ما. (2) تقدم تخريجه. (3) كما هو قول ابن سُرَيج وغيره، انظر "البحر المحيط": (4/ 14، 37).

(1/95)


إناطة الأحكام به في المعاملات، وأما التعبديَّات فلا يشترط فيها ظهور العلة، ولذلك مَثَّلوا به في الزكاة لأنها تعبدية (1)، فلو فُرِض أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "في الغنم العُفْر زكاة"، لقال العلماء بأن غير العفر لا زكاة فيها، وإن كانت مناسبة الوصف بالعفر غير ظاهرة. وأن المرتبة السادسة: مفهوم العدد نحو: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} [النور/ 4]، ووجوب الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعًا وإنما تأخر العدد عما قبله لأن قومًا من القائلين بمفهوم الوصف أنكروا مفهوم العدد. وأن المرتبة السابعة: مفهوم تقديم المعمول، فإنه يُفهم منه الحصر كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة/ 5] يُفهم منه عدم عبادة غيره. وفائدة التفاوت في القوة تقديم الأقوى عند التعارض. وقول المؤلف: "وهو حجة على النهج (2) الجلي" يعني أن مفهوم المخالفة حجة على القول المشهور، وهو مذهب الجمهور، وخالف الباقلانيُّ في مفهوم الشرط، وأبو حنيفة في جميع أنواع مفهوم المخالفة، وأنكره مطلقًا قومٌ في الخبر دون الإنشاء، وأنكره السبكيُّ (3) في غير الشرع، وإمام الحرمين الصفة التي لا تناسب (4)، وقومٌ العدد. * * * __________ (1) انظر ما تقدم عند البيت رقم (116). (2) الأصل: القول. (3) أي: تقي الدين، حكاه عنه ابنه في "الجمع": (1/ 255). (4) انظر "البرهان": (1/ 309 - 310).

(1/96)


فصل 161 - من لُطفِ ربِّنا بنا تعالى ... توسيعُهُ في نُطقِنا المجالا يعني أن من لُطْف اللَّه تعالى بالناس توسِيعُه المجالَ لهم في التكلم بسبب حدوث الموضوعات اللغوية ليعبر كل أحدٍ عمَّا في ضميره مما يحتاج إليه في دنياه وآخرته لغيره حتى يعاونه عليه، لعدم قدرته على الاستقلال باستجلاب مصالح نفسه دُنْيا ودينًا. 162 - وما من الألفاظِ للمَعْنَى وُضِعْ ... قلْ لُغَةٌ بالنَّقْلِ يَدْري مَنْ سَمِعْ اللغة أصلها "لُغَوَة" فُعَلة من "لغا" بمعنى تكلم، حُذِفَ لامها فهي من باب سَنَة، وفي الاصطلاح عرَّفها المؤلف بأنها الألفاظ الموضوعات للمعاني. وقوله: "بالنقل" يتعلق بقوله: "يدري" أي يدريها السامع بالنقل تواترًا وآحادًا عن العرب، فالمتواتر كلفظ السماء والأرض، والآحاد كالغضنفر للأسد والزخيخ للنار، وربما استنبطت بالعقل من النقل، كما لو قلت: كل مُعَرَّف بأل الاستغراقية يصح منه الاستثناء، وكل ما يصح منه فهو عام = ينتج كل ما يُعَرَّف بأل الاستغراقية فهو عام. وقول المؤلف: "وما" مبتدأ خبره "لغة". وقوله: "قل" اعتراض بين المبتدأ وخبره. و"المعنى" مَفْعَل من عَنيْت بمعنى قصدت، وهو أعم من المُسَمَّى؛ لأن المعنى هو ما يُقْصد باللفظ سواء كان هو مُسَمَّاه كالحقيقة أو غير مسماه كالمجاز.

(1/97)


163 - مدلولُها المعنى ولفظٌ مفردُ ... مُسْتعملًا ومُهْملًا قد يوجَدُ 164 - وذو تَرَكُّبٍ. . . . .. . . ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن المدلول عليه بالألفاظ التي هي اللغة إما أن يكون معنى كدلالة الألفاظ على معانيها، نحو دلالة الكرم والشجاعة على المعنيين المعروفين، وإما أن يكون لفظًا كدلالة لفظ "الكلمة" على اللفظ ودلالة القول عليه. وأشار المؤلف بقوله: "مستعملًا ومهملًا" وبقوله: "وذو تركُّب" إلى أن اللفظ المدلول عليه ببعض الألفاظ اللغوية أربعة أقسام؛ لأنه إما مفرد، وإما مركب، وكل منهما إما مستعمل، أو مهمل. فالمفرد المستعمل كالكلمة، والمفرد المهمل كالجيم أو اللام أو السين من لفظة "جلس"، والمركب المهمل كلفظ "الهذيان" (1) فإن لفظة "الهذيان" تدل على لفظ مركب مهمل، والمراد بالتركيب هنا ما فيه كلمتان فأكثر، كما قال العبَّادي في "الآيات" (2)، والمركب المستعمل كمدلول لفظ الخبر فإن لفظ "الخبر" يدل على مركب مستعمل كـ "جاء زيد" و"عمرو قائم". وقول المؤلف: "مدلولها المعنى" أي سواء كان جزئيًّا كمعنى العلم أو كليًّا كمعنى اسم الجنس، فتحصَّل أن مدلول الألفاظ اللغوية __________ (1) في "شرح المحلي على الجمع": (1/ 264)، و"نشر البنود": (1/ 101)، و"فتح الودود": (ص/ 37): كمدلول لفظ الهذيان: إذ لفظ الهذيان مفرد، لكن مدلول لفظه مركب. (2) (2/ 53).

(1/98)


المعاني مطلقًا والألفاظ مطلقًا. . . . . . . . . . . ووضعُ النكرَهْ ... لِمُطلق المَعْنَى فريقٌ نَصَرَه 165 - وهِيَ للذّهنِ لدى ابن الحاجبِ ... وكم إمامٍ للخلافِ ذاهبِ يعني أنهم اختلفوا فيما وُضِعت له أسماء الأجناس المنكَّرة كرجل وإنسان مثلًا على ثلاثة أقوال (1): الأول: أنها موضوعة لمطلق المعنى من غير تقييد بذهني ولا خارجي، وعليه فإطلاقه على كلٍّ منهما حقيقة، وهو قول الفهري من المالكية. وحجة هذا القول أن دعوى اختصاصه بأحدهما تحكُّم وترجيح بلا مرجِّح. الثاني: أنها موضوعة للمعنى الذهنّي فقط، وهو قول الفخر الرازي وابن الحاجب. وحجة هذا القول أن معنى النكرة قد تشترك فيه (2) أفراد كثيرة والخارج لا يوجد فيه إلا المتشخصات بحقائقها، فليس في الخارج شئ مشترك بين حقيقتين، فمعنى "الإنسان" الذهني -مثلًا- قدر مشترك بين جميع أفراد الإنسان، والموجود في الخارج كزيد -مثلًا- لا يشاركه أحدٌ في حقيقة ذاته، وإنما الاشتراك في المعنى الكليّ الذهنيّ وهذا واضح، ورجَّح هذا القول زكرياء. الثالث: أنها موضوعة للمعنى الخارجي. وحجة هذا القول أن الأحكام إنما وُضِعت للأمور الخارجية المتشخِّصة دون الحقائق __________ (1) انظر "شرح المحلي على الجمع": (1/ 266 - 267). (2) ط: قدر مشترك بين.

(1/99)


الذهنية، ورجَّح هذا القول القرافي وعزاه في "نشر البنود" (1) للجمهور، وأطال العبَّادي في "الآيات البينات" (2) في مبحث التخصيص باختيار هذا القول وأنه هو الحق، وأن الحقيقة الذهنية توجد في الخارج في ضمن أفرادها الشخصية، فـ "زيد" مثلًا مشتمل على القدر المشترك وهو الإنسانية إلا أنه تميَّز عن غيره بتشخُّصاته الذاتية. تنبيه: محل هذا الخلاف فيما له وجود ذهني وخارجي كما مَثَّلنا، أما ما له وجودٌ ذهني فقط، كبحر من زئبق، وجبل من ياقوت، فالموضوع له معناه الذهني فقط بلا خلاف. وأشار المؤلف إلى القول الأول بقوله: "ووضع النكرة لمطلق المعنى" إلخ. وإلى الثاني بقوله: "وهي للذهن" إلخ. وللثالث بقوله: "وكم إمام" إلخ. وقوله: "ووضعُ" مبتدأ، وقوله: "فريق" مبتدأ أيضًا سوَّغ الابتداء به كونه في معرض التفصيل، وجملة "نصره" خبر الأخير، والأخيرُ وخبرُه خبرُ الأول، وقوله: "إمامٍ" مجرور بإضافة كم الخبرية إليه على التحقيق. 166 - وليس للمعنى بلا احتياجِ ... لفظٌ كما لِشارحِ المنهاجِ يعني أن شارح "المنهاج" وهو تاج الدين السبكي قال في "جمع الجوامع" (3): إنه لا يلزم أن يكون لكل معنى لفظ مستقل يدل عليه بل __________ (1) (1/ 102). (2) (2/ 53). (3) (1/ 267 - مع حاشية البناني).

(1/100)


يجوز أن يكون بعض المعاني لم توضع له ألفاظ تدل على خصوصه، كأنواع الروائح المختلفة، فإنه ليس لكل رائحة لفظ يدل عليها بخصوصها وإنما تُعْرف بالتقييد كرائحة المسك مثلًا، وكذلك أنواع الطعوم واللذات. وقوله: "بلا احتياج" يُفهم منه أن المعنى المحتاج احتياجًا قويًّا إلى لفظٍ مستقل (1) لابد منه وهو كذلك. 167 - واللغةُ الربُّ لها قد وضعا ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن اللغات توقيفية وضعها اللَّه للخلق، وعلَّمَها أباهم آدم فتعلمتها منه ذريته، والدليل على هذا قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة/ 31]، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث الشفاعة حاكيًا عن أهل الموقف مقررًا له: "وعلمكَ أسماءَ كل شيء" (2). . . . . . . . . . . . . . ... وعزْوُها للاصطلاح سُمِعا 168 - فبالإشارةِ وبالتَّعَيُّنِ ... كالطِّفْل فهمُ ذي الخفا والبَيِّنِ يعني أن كَوْن اللغات اصطلاحيةً أي وضعها البشر [و] اصطلحوا عليها مسموع أيضًا، وهو قول أكثر المعتزلة وبعض أهل السنة، وعلى هذا القول فالمفاهمة حصلت بينهم أوَّلًا بالاعتماد على الإشارة والتعيين __________ (1) الأصل: مستعمل! (2) أخرجه البخاري رقم (4476)، ومسلم رقم (193) من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-. وهذه اللفظة ليست في مسلم.

(1/101)


كأنْ يشير إلى شيءٍ حاضر ويقول: "هذا كتاب" فيعرف السامع مراده بالكتاب، وكأن يقول: "هات الكتاب في البيت" فلا يجد في البيت غيره فيتعين عنده أنه هو لعدم وجود غيره، وذلك هو معنى قول المؤلف: "فبالإشارة وبالتعين فهم ذي الخفا" إلخ. وقوله: "كالطفل" اعتراض بين المبتدأ الذي هو "فهم" وخَبَرِه الذي هو "بالإشارة"، ومعنى قوله: "كالطفل" أي كما يفهم الطفل لغة أبويه بالإشارة والتعين والقرائن. 169 - يُبْنَى عليه القلبُ والطلاقُ ... بكاسْقني الشرابَ والعتاقُ يعني أن الخلاف في اللغات هل هي توقيفية أو اصطلاحية يُبْنى عليه قلب اللغة كتسمية الحجر إنسانًا، فعلى أنها توقيفية لا يجوز، وعلى أنها اصطلاحية يجوز، وينبني عليه أيضًا لزوم الطلاق والعتق بالكنايات الخفية نحو "اسقني الماء" إذا قصد به طلاقًا أو عتقًا، فعلى أن اللغة توقيفية لا يلزم بذلك طلاق ولا عتق، وعلى أنها اصطلاحية يلزمان، ولزومهما بالكناية الخفية هوالصحيح من مذهب مالك (1). ومحل الخلاف في قلب اللغة فيما لم يُتَعَبَّد بلفظه، أما هو فلا يجوز تغييره، كتكبيرة الإحرام والتشهد وتسليمة التحليل، قاله المازَرِي وغيره (2). وقال قوم: الخلاف في هذه المسألة طويل الذيل قليل النيل (3)، __________ (1) انظر "مختصر خليل": (ص/ 119). (2) انظر "إيضاح المحصول من برهان الأصول": (ص/ 147) للمازري. (3) انظر "البحر المحيط": (2/ 18).

(1/102)


وقال الأبياري من المالكية: لا فائدة تتعلق بهذا الخلاف، وقد رأيت ما ذكره له المؤلف من الفائدة. 170 - هل تثبُتُ اللغةُ بالقياس ... والثالثُ الفرقُ لدى أناس 171 - محلّه عندهمُ المشتقُّ ... وما عداه جاءَ فيه الوَفْقُ 172 - وفرعُة المبنيُّ خِفَّة الكُلَفْ ... فيما بجامعٍ يقيسُهُ السَّلَفْ يعني أنهم اختلفوا في اللغة هل تثبت بالقياس -وبه قال جَمْع من المالكية والشافعية- أوْ لا تثبت -وبه قال أيضًا جمع من المالكية والشافعية ويعزى للحنفية-؟ ورجَّح هذا القول ابنُ الحاجب وغيره بأن اللغةَ نقلٌ مَحْض فلا يدخلها قياس (1). وثالث الأقوال: الفرق بين الحقيقة والمجاز، فيجوز ذلك في الحقيقة دون المجاز، وهذا هو معنى قوله: "والثالث الفرق لدى أناس". وهذا الخلاف إنما هو في المشتق المشتمل على وصف كانت التسمية من أجله ووُجِد ذلك الوصف في معنًى آخر كالخمر المخمّر العقل أي مغطيه من ماء العنب، فإذا وُجِد هذا المعنى في غير ماء العنب سُمِّي خمرًا بناءً على إثبات القياس في اللغة، ويعكِّر على هذا المثال أنه ثبت في الصحيح (2) تسمية كل ما خمَّر العقلَ من المشروبات خمرًا كائنًا __________ (1) "مختصر ابن الحاجب": (1/ 255 - مع شرح الأصبهاني). (2) أخرج البخاري رقم (5588)، ومسلم رقم (2032) أن عمر بن الخطاب خطب على منبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل. . .

(1/103)


ما كان. وأجاب بعضهم بأن الخمر موضوع لما كان من خصوص العنب، فتسمية غيره خمرًا قياس لغوي واللَّه تعالى أعلم. وهذا الذي ذكرنا من التقييد بالمشتق هو معنى قوله: "محله عندهم المشتق". وقوله: "وما عداه" أي: ما عدا المشتق كالعَلَم فلا يجوز فيه القياس قولًا واحدًا. وينبني على الخلاف في اللغة هل تثبت بالقياس خفة الكلفة أي المشقة فيما يقيسه المجتهدون بجامع أي علة، فمن قال: تثبت اللغة بالقياس اكتفى بوجود الوصف في المقيس فيصدق عليه اسمه لغة فيثبت حكمه بالنص فلا يحتاج إلى القياس الأصوليّ للاكتفاء عنه بالقياس اللغويّ، فمن سمَّى النّبَّاشَ سارقًا واللّائط زانيًا بالقياس اللغويّ لأخذ النباش خفية، وإيلاج اللائط إيلاجًا محرمًا = قال: إن النصوص الواردة في السارق تتناول النّبَّاشَ، والواردة في الزاني تتناول اللائط فلا حاجة إلى القياس الأصوليّ، ومن منع ذلك احتاج إلى القياس الشرعي المتوقف على وجود شروطه وانتفاء موانعه، وهذا الذي ذكرنا هو معنى قوله: "وفرعه المبني" إلخ. * * *

(1/104)


 فصل في الاشتقاق

هو لغة الاقتِطَاع، والمراد به عند الإطلاق الصغير وهو المعقود له الفصل، أما الكبير والأكبر فإنما ذُكرا استطرادًا. واعلم أن العدل المانع للصرف مع العلمية والوصفية نوع من الاشتقاق كعمر من عامر. 173 - والاشتقاقُ ردُّكَ للفظَ إلى ... لفطٍ وأَطلِقْ في الذي تأصَّلا 174 - وفي المعاني والأصول اشْتَرطا ... تَناسُبًا بينهما مُنضبِطا يعني أن الاشتقاق في الاصطلاح هو: أن تردّ لفظًا إلى آخر لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية، بأن يكون المعنى الذي في المردود موجودًا في المردود إليه، وأن تكون الحروف الأصلية التي في المردود موجودة على ترتيبها في المردود إليه، كالضارب من الضرب. ومعنى ردُّ لفظٍ إلى آخر: أن تحكم بأن الأول مأخوذ من الثاني، أي فرع عنه. وقوله: "وأطلق في الذي تأصَّلا" يعني أن الأصل المشتق منه يصح الاشتقاق منه مطلقًا أي سواء كان حقيقة أو مجازًا، فالحقيقةُ كاشتقاقِ الناطقِ من النطقِ بمعنى التكلُّم، والمجاز كقولك: "الحال ناطقة بكذا" فإنه مشتق من نُطْق الحال بمعنى دلالتها مجازًا مفردًا على سبيل الاستعارة التبعية الصريحة التحقيقية. فما ذكره بعض الأصوليين من أن المجاز لا يشتق منه خلاف التحقيق كما حرره علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية (1). __________ (1) انظر "المطوّل": (ص/ 402 - 404) للتفتازاني.

(1/105)


وخرج بقيد التناسب في المعنى نحو "قَتْل ومَقْتل" مصدر ميمي لأن معناهما واحد، والشيء لا يناسب نفسه بل هو هي، ونحو "بان يبين" فليس مشتقًّا من "بَيْن" الظرفية لعدم تناسبهما في المعنى. وخرج بقيد المناسبة في الحروف ما لم تتناسب حروفه في الأصل أو الوضع، أما عدم المناسبة في الأصل كـ "الهالك" فإنه غير مشتق من الموت لعدم تناسب الحروف، وأما عدم المناسبة في الوضع -أعني الترتيب- فكـ "مِلْح ولَحْم وحِلْم" ولو كانت غير متناسبة في المعنى أيضًا. وخرج بقيد الأصلية الحروف المزيدة فلا يشترط التناسب فيها، ولا يشترط في الحروف الأصلية أن تكون موجودة بالفعل، إذ قد يُحْذف بعضها من الأصل وهو المصدر كـ "زِنَة وعِدَة وصِلَة" وقد يُحذف بعضها من الفرع أعني المشتق كـ "خُفْ وقُلْ وجْ وقلت وبعْت" ونحو ذلك. 175 - لابدَّ في المشتق من تغييرِ ... محقَّقٍ أو كان ذا تقديرِ يعني أنه لابد في تحقق الاشتقاق من تخالف بين لفظ المشتق والمشتق منه تحقيقًا كالضارب من الضرب، أو تقديرًا كطَلَبَ فِعْل ماض من الطَّلَب بمعنى المصدر، فتقدَّر فتحة اللام في الفعل في غيرها في المصدر. 176 - وإن يكنْ لمبهمٍ فقد عُهِدْ ... مطّرِدًا وغيرُه لا يَطَّرِدْ يعني أن الضميرَ في قوله: "يكن" عائد إلى الاشتقاق، والمبهم اسم مفعول من الإبهام وهو ضد التعيين، ومراده بالمبهم الذات التي سميت باسم مشتق لها من صفة، ومعنى إبهامها أنها صالحة لكل من

(1/106)


اتصف بتلك الصفة، فكلُّ من وَقَع منه الضرب صح أن يُقال له: ضارب، فضارب مبهم يصح إطلاقه على كل من صدر منه الضرب، وكلُّ ذات قام بها السواد -مثلًا- صحَّ أن يقال لِذَكَرها: أسود ولأنثاها: سوداء، فالأسود -مثلًا- مبهم أي غير معيَّن يصح إطلاقه على كلِّ من قام به السواد. وقوله: "وغيره لا يطَّرِد" يعني أن غير المبهم لا يطَّرِد فيه الاشتقاق، كالقارورة فإنها غير مبهمة بل مُعَينة، لكونها يُقْصَد بها ما كان من الزجاج خاصة دون غيره مما هو مقر للمائع، وكالدَّبَران لخصوص الأنجم المعروفة، وكالأبلق لما اجتمع فيه سواد وبياض من خصوص الخيل دون غيرها من الحيوانات. ومحل اطراد الاشتقاق فيما لم يمنع منه مانع، فإن اللَّه تعالى قال عن نفسه: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد]. ولا يصح الاشتقاق له من ذلك فلا يقال له: فاضل لأن أسماءه تعالى توقيفية. قال مقيده عفا اللَّه عنه: ضابط الاشتقاق المطرد بالقياس الصرفيَّ إذا أردت أن تعلمَه فاعلم أن المصدر الذي منه الاشتقاق له حالتان: الأولى: أن يكون حدثًا متجددًا باختيار الفاعل كالقيام والجلوس. الثانية: أن يكون صفةً قائمة بالذات من غير اختيارها كالسجايا والألوان ونحوِ ذلك، فالسجايا نحوُ: الكرم والشجاعة، والألوان كالسواد والبياض. والقسم الأول الذي هو الحدث المتجدد باختيار الفاعل له حالتان: الأولى: أن تكون نسبته واحدة وهو المعبَّر عنه باللزوم أي عدم التعدي إلى المفعول به كالقيام والجلوس.

(1/107)


الثانية (1): أن تكون له نسبتان: نسبةٌ إلى فاعله من حيث وقوعه منه، ونسبة إلى مفعوله من حيث وقوعه عليه، نحو الضرب فإنه لا تُعْقَل حقيقته إلا بضارب ومضروب، لأنه صفة إضافية وهي لا تُدْرَك حقيقتها إلا بإدراك المتضايِفيْن، وهذا هو المعبَّر عنه بالتعدي إلى المفعول. فإن كان المصدر الذي منه الاشتقاق صفة قائمة بالذات من غير اختيارها كالكرم والشجاعة فلا يشتق منها باطراد القياس الصرفي إلا ثلاثة أشياء: الأول: الفعل ككَرُمَ وشجُعَ. الثاني: الصفة المشبهة ككريم وشجاعٍ. الثالث: صيغة التفضيل بشروطها المعروفة، نحو "زيد أكرم من عَمرو، وأشجع منه". وإن كان المصدر الذي منه الاشتقاق حَدَثًا متجددًا باختيار الفاعل له نسبة واحدة أي غير متعدٍّ للمفعول فلا يُشتق منه بالقياس الصرفي إلا خمسة أشياء: الأول: الفعل نحو "قام ومشى". الثاني: اسم الفاعل نحو "قائم وماشي". الثالث: صيغة التفضيل بشروطها المعروفة نحو "زيد أمشى بالنميمة من بكر". الرابع: اسم المكان كـ "المجلس والمسجد" لمكان الجلوس والسجود. الخامس: اسم الزمان نحوُ "محِلّ الدَّيْن رمضان" أي زمان حلوله رمضان. وإن كان المصدر الذي منه الاشتقاق حدَثًا متجددًا باختيار الفاعل له نسبتان أيْ متعدٍّ إلى المفعول، فإنه يُشتق منه بالقياس الصرفي جميع المشتقات الثمان إلا الصفة المشبهة فقط فإنها لا تُصاغ إلا من صفة قائمة بالنفس لا من حَدَث متجدد. وبذلك تعلم أن المشتقات من المصدر __________ (1) الأصل: الثاني.

(1/108)


المذكور سبع وهي: الفعل نحو "ضربه"، واسم الفاعل كـ "ضارب"، واسم المفعول كـ "مضروب"، واسم الآلة كـ "مفتاح"، واسم الزمان والمكان كـ "المَضْرب" بمعنى مكان الضرب أو وقته، وصيغة التفضيل نحو "زيد أضرب من عَمرو". 177 - والجَبْذُ والجَذْبُ كبيرٌ ويَرى ... للأكبر الثَّلْمَ وثلبًا مَنْ دَرَى ذكر في هذا البيت الاشتقاق الكبير والاشتقاق الأكبر، فالاشتقاق الكبير في الاصطلاح هو: ما اجتمعت فيه الأصول دون الترتيب مع مناسبة معنوية، كاشتقاق "جبَذ وجابذ" من الجَذْب، فالمعنى واحد والحروف والأصول (1) متحدة إلا أن ترتيبها مختلف في المشتق والمشتق منه. والاشتقاق الأكبر في الاصطلاح هو: ما فيه المناسبة في المعنى وفي بعض الحروف، كاشتقاق "ثلمَ وثالم" من الثلب، فلم تتناسب الأصول في اللام وإنما تناسبت في الفاء والعين. قال أبو حيان (2): ولم يقل بالاشتقاق الأكبر من النحاة إلا أبو الفتح (3)، وكان ابن الباذش (4) يأنس به. __________ (1) ط: الحروف الأصول. (2) انظر "البحر المحيط": (2/ 75). (3) أي ابن جني في كتابه "الخصائص": (2/ 133 - وما بعدها). (4) هو: علي بن أحمد بن خلف أبو الحسن بن الباذش الأندلسي النحوي، له تصانيف (ت 528 هـ)، ترجمته في "معجم الصدفي": (ص/ 274)، و"بغية الوعاة": (2/ 142 - 143). =

(1/109)


وقول المؤلف "مَنْ" في قوله: "من درى" فاعل "يرى". 178 - والأعجميُّ فيه الاشتقاقُ ... كجبْرَئيلَ قاله الحُذَّاق يعني أن الأسماء الأعجمية قد تكون مشتقة قاله الأصفهانيُّ في "شرح المحصول"، والدليل عليه ما روي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لجبريل: "لم سُميت جبرئيل؟ " فقال: لأني آتٍ بالجبروت (1). 179 - كذا اشتقاقُ الجمع مما أُفْرِدَا ... ونفْيُ شرطِ مصدرٍ قد عُهِدا يعني أن الجمع والتثنية مشتقان من المفرد، فرجلان -مثلًا- ورجال مشتقان من رجل، والمراد بالاشتقاق في ذلك جَعْل أحدهما أصلًا والآخر فرعًا، والفرع مردود إلى الأصل. وقوله: "ونفي شرط" إلخ يعني أنه لا يشترط في الاشتقاق وجود المصدر بل يُشتق من مصدر مقدَّر لم تنطق به العرب، وعليه فالأفعال الجامدة كـ "عسى" مشتقة، ولا ينافي اشتقاقها جمودها إذ لا منافاة بين الجمود والاشتقاق، ألا ترى أن "تبارك" فعل جامد وهو مشتق من البركة. 180 - وعند فَقْد الوصفِ لا يُشتقُّ ... وأَعْوَزَ المُعْتزليُّ الحقَّ يعني أن الذات إذا لم تتصف بالمصدر فلا يجوز الاشتقاق لها __________ = وقد نسب هذا القول له العطار في حاشيته على شرح المحلي، وصاحب "النشر": (1/ 109)، لكن الزركشي في "البحر": (2/ 75) نسبه إلى أبي علي الفارسي نقلًا عن أبي حيان النحوي. فاللَّه أعلم. (1) لم أجده.

(1/110)


منه، فلا يصح اشتقاق "الضارب" لمن لم يقع منه ضرب أصلًا، ولا اشتقاق "الأسود" لمن لم يقم به سواد، خلافًا للمعتزلة القائلين بجواز ذلك مع عدم اتصاف الذات بالمصدر، حيث زعموا أنه تعالى قادر بذاته لا بقدرة قامت بذاته، عالم بذاته لا بعلم قام بذاته، وهكذا في كل صفات المعاني، فرارًا منهم من تعدد القديم. ومذهبهم ظاهر البطلان إذ لا يعقل كونه قادرًا من غير قدرة، عالمًا من غير علم. وأشار المؤلف إلى هذا بقوله: "وأعوز المعْتزليُّ الحق" وأعوزه الشيءُ احتاجَ إليه، يعني أن المعتزلة خالفوا منهج الصواب المحتاج إلى اتباعه (1). واحترز المؤلف بالوصف في قوله: "وعند فقد الوصفِ" من العين فإنها يُشتق منها مع عدم قيامها بالذات لاستحالة قيامها بها كاشتقاق "التامر" و"اللَّابن" من التمر واللبن، مع أنهما لم يقوما بذات صاحبهما كما في قول الشاعر: وغَرَرْتَني وزعمتَ أنّـ ... ــكَ لابنٌ في الحي تامِر (2) وكاشتقاق المكي والمدني من مكة والمدينة حرسهما اللَّه ونحو ذلك. 181 - وحيثُما ذو الاسم قَامَ قد وجَبْ ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن كل معنى وَضَعت له [العرب] اسمًا إذا قام بالذات وجب اشتقاق الوصف للذات منه، فكل ذات قام بها علم، أو قدرة، أو سواد، __________ (1) كذا في "النشر": (1/ 110)، و"مراقي السعود": (ص/ 122 - 123)، و"فتح الودود": (ص/ 41). (2) البيت للحُطَيئة "ديوانه": (ص/ 86) وفيه: لابن في الصيف.

(1/111)


أو بياض ونحو ذلك، وجب أن يشتق لها العالم، والقادر، والأسود، والأبيض -مثلًا- من تلك الصفات المذكورة القائمة بها. وقول المؤلف: "ذو الاسم" يعني المعنى الذي له اسم في العربية كالأمثلة المذكورة، واحترز به عن المعنى الذي ليس له اسم في العربية كأنواع الروائح، فلا يصح الاشتقاقُ منه لعدم وجود لفظ يعبر به عنه حتى يصح منه الاشتقاق. وضمير الفاعل في قوله: "وجب" للاشتقاق. . . . . . . . . . . . . . ... وفرعُه إلى الحقيقةِ انتسب 182 - لدى بقاء الأصلِ في المَحَلّ ... بحسبِ الإمكان عند الجُلِّ 183 - ثالثُها الإجماعُ حيثما طَرا ... على المحَلِّ ما مُناقضًا يُرى 184 - عليه يُبْنى مَنْ رَمَى المطلَّقَه ... فبعضُهُمْ نفى وبعضٌ حقَّقه الضمير في قوله: "فرعه" راجع إلى الوصف المشتق منه فهو الأصل وفرعه المشتق. وقوله: "إلى الحقيقة انتسب" أي يقال له: "حقيقي" ما دام الوصف المشتق منه قائمًا بالذات، فـ "القائم" مثلًا مشتقّ من القيام، إلا أن "القائم" لا يكون حقيقةً إلا في حالة الاتصاف بالقيام. وقول المؤلف: "لدى بقاء" يتعلق بقوله: "إلى الحقيقة انتسب" أي انتسب الفرع -الذي هو المشتق- إلى الحقيقة، فقيل فيه: "حقيقي" عند قيام الوصف بالمحل. وقوله "بحسب الإمكان" يُشير به إلى أن بعض المصَادر التي منها الاشتقاق يكون سيَّالًا أي يمضي تدريجًا شيئًا فشيئًا كـ "التكلُّم" فإن المشتق منه ينتسب للحقيقة عند قيام المصدر السيال بالذات بحسب الإمكان، لأنه لا يقوم بالذات جُمْلة لتفاوته تدريجًا،

(1/112)


فحسب (1) الإمكان فيه آخر جزء منه. وقوله: "عند الجُلّ" يشير به إلى أن بعض المعتزلة وابنَ سينا قالوا بإطلاق الحقيقة على الفرع الذي هو المشتق، ولو فارق الوصف الذي منه الاشتقاق المحلَّ، فيصح تسمية القاعد قائمًا باعتبار قيامٍ سَبَق له أمس. قوله: "ثالثها" إلخ، يعني أن أهل القول الثالث قالوا: أجمع المسلمون وأهل اللسان العربي على أنه لا يجوز الاشتقاق من الوصف بعد مفارقته حيثما طرأ على المحل وصف وجودي يناقض الوصف الأول الذي منه الاشتقاق، كتسمية القاعد قائمًا باعتبارِ قيامٍ سابق، وأنه يصح مجازًا من إطلاق أحد الضدَّين وإرادة الآخر. وقوله: "عليه يُبْنى من رمى" إلخ يعني أنه ينبني على الخلاف المذكور من رمى مطلقته طلاقًا بائنًا بالزنا، فعلى أنها لا تسمَّى زوجة بعد مفارقة وصف الزوجية لها فإنه يُحَدّ حدَّ القذف ولا يُمَكَّنُ من اللعان لأنه رمى من لا تسمَّى زوجة، وهذا هو معنى قوله: "فبعضهم نفى"، وعلى أنها تُسَمَّى زوجة بَعْدَ مفارقة وصف الزوجية لها فإنه يلاعنها، لأنها تسمى زوجة واللَّه يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور/ 6] الآية. وهو معنى قوله: "وبعضٌ حقَّقَه". وعلى القول الثالث: إذا كانت متزوجة بغيره لم يلاعن لطروِّ وصفٍ وجودي هو زوجية الثاني على المحل الذي هو الزوجة يناقض الأول الذي هو زوجية الأول، لاستحالة اشتراك الزوجة بين زوجين. __________ (1) الأصل: بحسب.

(1/113)


وإن كانت غير متزوجة بغيره لاعَنَ، ولم يذكر المؤلف هذا ولكنه ذكره في "الشرح" (1) عن ابن المَوَّاز (2). 185 - فما كسارقٍ لدى المُؤَسِّسِ ... حقيقةٌ في حالةِ التَّلَبُّسِ 186 - أو حالةِ النُّطقِ بما جا مُسندا ... وغيرُه العمومُ فيه قَد بَدا اعلم أولًا أن اسم الفاعل كـ "سارق" واسم المفعول كـ "مضروب" قد اخْتَلَف في حقيقة استعمالهما البلاغيُّون والنحويون، فهما عند البلاغيين ذاتٌ متصفة بالمصدر الذي منه الاشتقاق من غير اعتبار زمان ولا حدوث، فهو حقيقة فيمن قام به الوصف في الحال أو الماضي أو الاستقبال فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة/ 38] حقيقةٌ فيمن وقع منه هذا الفعل في الماضي أو الحال والاستقبال إلى يوم القيامة، ولذا لو شهد عند القاضي بأن فلانًا سارق في الزمن الماضي لحكم عليه بالقطع، ومن طرأت منه السَّرقة بعد نزول الآية كان داخلًا في معناها دخولًا حقيقيًّا، وهذا المعنى الذي عليه البيانيون هو الذي عليه السُّبْكيَّان: تاج الدين ووالده تقي الدين (3)، وهما مراد المؤلف بقوله: "لدى المؤسِّسِ" بصيغة اسم __________ (1) (1/ 111). (2) هو محمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندراني المعروف بابن الموَّاز، من كبار فقهاء المالكية (ت 269)، له كتابه المشهور بـ "الموَّازية" قال فيه عياض: هو أجلّ كتاب ألّفه قدماء المالكيين وأصحه مسائل وأبسطه كلامًا وأوعبه. انظر: "ترتيب المدارك": (4/ 167 - 170)، و"جمهرة تراجم المالكية": (2/ 981). (3) انظر "جمع الجوامع": (1/ 288 - 289).

(1/114)


الفاعل، ومعناه صاحب الأصول. فإن قيل: ذكرتم أن البيانيين يقولون: إن الوصفَ كاسم الفاعل أو اسم المفعول ذاتٌ متصفة بالمصدر من غير اعتبار زمان أو حدوث، وأن السُّبْكيَّيْنِ على قول البيانيِّيْن، كيف يجتمع ذلك مع أنهما يقولان: إن اسم الفاعل -مثلًا- لا يكون حقيقة إلا في حالة التلبس بالمصدر الذي منه الاشتقاق أو بآخر جزءٍ منه إن كان سيَّالًا؟ فالجواب: أن اعتبار الزمان غير اعتبار حالة التلبس؛ لأن الزمان باعتبار النطق، والتلبس باعتبار الفعل، فصح للسبكيين اعتبار حالة التلبس دون اعتبار الزمان. فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} -مثلًا- لم يُعتبر فيه زمان، فهو يشمل السارق الآن والسارق فيما مضى والسارق في المستقبل، ولكن تحقيق إطلاق اسم السرقة عليه بالفعل على سبيل الحقيقة إنما هو باعتبار حالة تلبُّسه بها، فظهر الفرق بين الأمرين. فإن قيل: يلزم على ما ذكرتم أن من كان يسرق ويزني قبل نزول آية السرقة وآية الزنا أنه يُحَدّ. فالجواب: أنه وقت سرقته أو زناه إن كان كافرا ثم أسلم فالإسلام يَجُبُّ ما قبله، وإن كان مسلمًا فالمانعُ من حَدِّه أن ذلك الفعل في وقته الماضي ليس حرامًا عليه واللَّه تعالى يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة/ 115]. فإن قيل: يلزم على قول السُّبكيين أن من قامت عليه بينة بالسرقة في الزمن الماضي أنه لا يُقْطع، لأنه عندهما لا يسمَّى سارقًا حقيقة إلا

(1/115)


حالةَ التلبس وهو الآن غيرُ متلبس بالفعل، فيلزمُ عليه أنه الآن غيرُ سارق فلا يقطع. فالجواب: أنه وقتَ تلبُّسه بالسرقة صار سارقًا حقيقة فوجب عليه الحد في ذلك الوقت، لأنه سارق في ذلك الوقت، لا لأنه سارق الآن. وقول المؤلف: "أو حالة النطق بما جا مسندا" إلخ "أو" فيه لتنويع الخلاف، يعني أن القرافي فرَّق في ذلك بين المسند والمسند إليه فقال في المسند إليه مثل قول السبكيين الذي قدمنا آنفًا، وذلك هو مراده بقوله (1): "وغيره العموم فيه قد بدا" وقال في المسند من اسم فاعل أو مفعول -مثلًا- إنه حقيقة في حالة النطق به خاصة، فقولك: "زيد ضارب" عنده حقيقة في وقوع الضرب وقت النطق لا فيما بعده ولا قبله إلا على سبيل المجاز، وحجته أنه يراد به الحَدَث الحاصل بالفعل ويلزمه حضور الزمان. وقول المؤلف: "أو حالة النطقِ" بالجر عطفًا على حالة التلبس. والوصف كاسم الفاعل عند النحويين يُرَاد به الحدوث في الزمن الحاضر وقت النطق، وإطلاقه على المتصف به قبل ذلك أو بعده مجاز على قولهم أعني النحويين. ومثال كون الوصف مسندًا: "زيد ضارب" ومثال كونه مسندًا إليه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور/ 2]. * * * __________ (1) هنا لحق لكنه مضطرب وغير واضح.

(1/116)


 فصل في التَّرادُف

وهو تعدد اللفظ واتحاد المعنى، كالأسد والليث. 187 - وذو الترادفِ له حصولُ ... وقيلَ لا ثالِثُها التفصيلُ يعني أنه اختلف في الترادف على ثلاثة أقوال: الأول: أنه واقع في الكلام، وهو الحق. ومن فوائده: أن أحد الرديفين يصلح لما لا يصلح له الآخر في السَّجع والشعر والجناس، وقد يكون أحد الرديفين أسهل على الألثغ الذي لا ينطق ببعض الحروف من الآخر، فالذي يتعذَّر عليه النطقُ بالراء يعدل عن لفظ البرِّ مثلًا إلى لفظ القمح. القول الثاني: وهو قول ثعلب، وابن فارس، والزجَّاج، وأبي هلال العسكري أن الترادف غير واقع في الكلام، وقالوا: كل ما يظن مترادفًا ليس بمترادف؛ إذ لابد أن يشتمل أحد اللفظين على معنى ليس في الآخر تحصل به المباينة في الصفات، فالإنسان -مثلًا- ليس مرادفًا للبشر لاشتمال الإنسان على معنى النسيان أو الأنس، واشتمال البشر على معنى ظهور البشرة، وقِسْ على ذلك. القول الثالث: هو التفصيل بين الألفاظ الشرعية وغيرها، فيمتنع الترادف في الألفاظ الشرعية ويجوز في غيرها. والتحقيقُ: الجواز والو قوع مطلقًا، فمثا له في كلام العرب: "الليث والأسد"، ومثاله في الاصطلاحات الشرعية: "الفرض والواجب" عند

(1/117)


غير أبي حنيفة، و"السنة والتطوع"، ومثاله في القرآن: "يحسبون ويظنون". 188 - وهل يُفيدُ التَّالي للتأييدِ ... كالنفي للمَجازِ بالتوكيدِ المراد بالتالي: التابع، وهو اللفظ المهمل الذي تذكره العرب بعد متبوعه على وزنه للتقوية، نحو قولهم: "حَسَن بَسنٌ"، و"حاذق باذق"، و"شيطان ليطان"، و"عطشان نطشان"، والمعنى: أنهم اختلفوا في التابع هل يفيد التأييد أي التوكيد للمتبوع أو لا؟ والحقُّ أنه يفيد توكيده، لأن العرب ما أرادت به إلا ذلك ولم تذكره عبثًا. وقوله: كـ "النفي. . " إلخ يعني أنهم اختلفوا أيضًا في التوكيد هل ينفي المجاز ويرْفعُه أو لا؟ فالذي عليه أهل المعاني وهو قول المازري أن التوكيد يدل على التقويةِ ورفع المجاز، فإذا قلت: "جاء زيدٌ نفسُه" امتنع إرادة غير زيد مجازًا، وإذا قلت: "جاءوا كلُّهم" امتنع إرادة بعضهم مجازًا، والذي اختاره القرافي (1) أن التوكيد لا يرفع المجاز، وعليه فيكون التوكيد كالتابع في إفادة التقوية فقط دون رفع المجاز. والفرق بين التابع والتوكيد: أن التوكيد يرفع المجاز على الراجح دون التابع، وأن التابع يشترط فيه أن يكون على زِنَة المتبوع دون التوكيد، وأن التوكيد له معنى في نفسه بخلاف التابع، فإنه لو أُطلق دون المتبوع كان مهملًا نحو: "بَسَنٌ، ونطشان". 189 - وللرَّديفَيْن تعاورٌ بدا ... إن لم يكن بواحدٍ تَعَبَّدا __________ (1) في "نفائس الأصول في شرح المحصول": (1/ 350، 352).

(1/118)


التعاور: التداول (1) والتعاقب، ومنه قوله عنترة في معلقته (2): إذ لا أزال على رِحالةِ سابحٍ ... نهْدٍ تعاوره الكماةُ مكلَّمِ أي تداولوه وتعاقبوا عليه بالرمي. ومعنى البيت: أن للرِّدْفَيْن تعاورًا أي تعاقُبًا، بمعنى أن كلًّا منهما يأتي مكان الآخر لاتحاد معناه (3)، وسيأتي للمؤلف قوله: "وبالمرادف يجوز قطعا". ومحل إتيان كل من الرِّدْفَين مكان الآخر إن لم يكن اللَّه تعبدنا بأحدهما، كتكبيرة الإحرام وتسليمة التحليل. وقوله: "تعبَّدا" بالبناء للفاعل، أي تعبدنا اللَّه [به]. 190 - وبعضهم نَفْيَ الوقوعِ أبَّدا ... وبعضُهم بلغتين قَيَّدا يعني أن بعض الأصوليين كالرازي (4) منع وقوع الرديف مكان رديفه لغة. وقوله: "أبَّدا" أي منعًا مؤبَّدًا، سواء كان منِ لغتين أومن لغة واحدة. وقوله: "وبعضهم" إلخ يعني أن بعضهم قيَّد منع تعاور الرديفين بما إذا كانا من لغتين قائلًا: إنه يجوز في اللغة الواحدة لأن ضمَّ لغة إلى أخرى كضمٍ مهمل إلى مستعمل. وما قدَّم من منع تعاور الرديفين إن كان أحدهما متعبَّدًا بلفظه فإنه ممنوع من جهة الشرع لا من جهة اللغة، خلافًا للحنفية القائلين بانعقاد الصلاة بمرادف تكبيرة الإحرام ولو من الفارسية. __________ (1) الأصل: والتداول، وهو خطأ. (2) انظر شرح ابن الأنباري: (ص/ 343). (3) ط: بمعنى الآخر لاتحاد معناهما. (4) في "المحصول": (1/ 95).

(1/119)


قال في "نشر البنود" (1): فإن قلت: كيف يتصور نفي وقوع كلٍّ من الرديفين مكان الآخر لأنه حينئذٍ يتعذر التكلم بمعنى له لفظان، فإنه إذا عبر بأحدهما فقد عبر بالرديف مكان رديفه؟ قلت -واللَّه تعالى أعلم-: إن ذلك يظهر في معنى لغتين: قيسية وتميمية -مثلًا- فالتميمي لا يتكلم بالقيسية كالعكس، لأن العربي لا ينطق بغير لغته، والتميمية والقيسية لغة واحدة بالنسبة للعجمية، وكذا الشامي -مثلًا- لا يأتي بلفظ مصري كعكسه. انتهى منه بلفظه. 191 - دخولُ مَنْ عَجَز في الإحرامِ ... بما به الدخولُ في الإسلام 192 - أو نيةٍ أو باللّسان يقتدي ... والخُلْف في التركيب لا في المُفْرَد قوله: "دخول" مبتدأ خبره جملة "يقتدي" [ي] يتبع هذه المسألة أي ينبني عليها، والمعنى: دخول من عجز. . . إلخ ينبني الخلاف فيه على الخلاف في هذه المسألة. وقوله: "أو نية" بالخفض عَطْفًا على الموصول المجرور بما، والمعنى: أن من عَجَز عن النطق بتكبيرة الإحرام لعجميته -إذا قلنا بعدم تعاور الرديفين- يدخل في الصلاة بالنية؛ لأن الرديف هنا لا يقوم مقام رديفه على هذا القول، وعلى القول بتعاور الرديفين يدخل في الصلاة بمرادف تكبيرة الإحرام بلغته، أو يدخل فيها باللفظ الذي يدخل به في الإسلام لأن يؤدي معنى "اللَّه أكبر". وقول المؤلف: "أو باللسان" يعني لسان العجمي. وقوله: __________ (1) (1/ 116).

(1/120)


"والخُلْف في التركيب" إلخ يعني أن الخُلْف في تعاور الرديفين في حالة التركيب فقط دون الإفراد قاله البيضاوي (1)، خلافًا (2) للفخر الرازي (3)، فعلى قول البيضاوي يجوز تعاور الرديفين في تعديد الأشياء من غير حكم عليها. 193 - إبدال قرآنٍ بالأعجميِّ ... جَوازُه ليسَ بمذْهَبيِّ يعني أن إبدال ألفاظ القرآن بمرادفها من العجمية في القراءة في الصلاة -مثلًا- لا يجوز في مذهب المؤلف يعني مذهب مالك، وعزا المؤلف في "الشرح" (4) جوازه لأبي حنيفة وقال: وخالفه صاحباه (5). * * * __________ (1) لم يصرح به في المنهاج لكن ذكرها الشراح. (2) الأصل: خلاف. (3) في "المحصول": (1/ 95). (4) (1/ 117). (5) انظر "بدائع الصنائع": (1/ 112)، و"رؤوس المسائل": (ص/ 157) للزمخشري.

(1/121)


المشْترك الاشتراك هو أن يتحد اللفظ ويتعدد معناه الحقيقي، كالعين للباصرة والجارية. 194 - في رأي الأكثرِ وقوعُ المشترَكْ ... وثالثٌ للمنعِ في الوَحْي سلَكْ يعني أن في وقوع المشترك ثلاثة أقوال: الأول -وهو رأي الأكثر وهو الحق-: جوازه ووقوعه مطلقًا في الوحي وغيره، كقوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة/ 228] لأن القرء مشترك بين الطهر والحيض، وحُجَّة هذا القول مشاهدة الوقوع. القول الثاني: منع وقوع المشترك مطلقًا في الوحي وغيره، وحجة القائل به أن الاشتراك يخل بفهم المراد من اللفظ لاحتماله لكل من معْنيَيْ المشترك. وأُجِيْب بأنه يتعين أحد معنيَيْه بقرينة، وإن لم توجد قرينة حمل على معنَيَيْهِ. القول الثالث: منعه في الوحي دون غيره، وحجة القائل به أنه لو وقع في الوحي لوقع إما مبينًا فيطول بلا فائدة، أو غير مبين فلا يفيد لعدم فهم المراد منه، والوحي ينزَّه عن ذلك. وأجيب بأمرين: الأول: أنّا لا نسلم لزوم الطول، فقولك -مثلًا-: "شربت من العين" لا طول فيه مع أنه قرينة تبين أن المقصود الجارية لا الباصرة.

(1/122)


الثاني: أنا لو سلمنا جدليًّا أنه يطول فلا نسلم كون الطول بلا فائدة؛ لأن التفصيل بعد الإجمال من مقاصد اللغة العربية، ففيه فائدة لم تكن في غيره لأنه أوقع في الذهن، لأن الإجمال يستدعي تشوّفًا (1) إلى التفصيل، فإذا جاء التفصيل صادف محله للتسوُّف إليه. 195 - إطلاقَة في مَعْنَيَيْه مثلا ... مجازًا أو ضدًّا أجازَ النُّبلا يعني أن النبلاء -أي الأذكياءَ- من الأصوليين أجازوا إطلاق المشترك على معنييه في وقت واحد من متكلم واحد. وقول المؤلف: "مثلا" يعني أو معانيه إذا كان مشتركًا بين أكثر من اثنين كقولك: "عندي عين" وتعني الباصرة والجارية والذهب. وقوله: "مجازًا أو ضدًّا" يعني أن المشترك إذا أُطلق على مَعْنييه أو معانيه قيل: إنه يكون مجازًا لأن اللفظ لم يوضع لمعنيين أو معان وإنما وضع لكل واحد بانفراده، وكونه مجازًا قول أكثر المالكية. وقيل: يُطلق على معنييه أو معانيه حقيقةً وهو قول الباقلاني والشافعيّ والمعتزلة، وهو مراد المؤلف بقوله: "أو ضدًّا"، يعني ضد المجاز وهو الحقيقة، ومحل القول بإطلاقه على معنييه أو معانيه إن أمكن ذلك بأن يكون لا منافاة بين المعنيين أو المعاني أو تكون بينهما منافاة ولكنها من غير الوجه الذي حصل فيه الإطلاق، فالأسود والأبيض -مثلًا- متنافيان في ذاتَيْهما، والجَون مشترك بينهما، فيجوز على هذا القول أن تقول: "ملبوسي الجَون" وتعني الأسود والأبيض؛ __________ (1) ط: تشوقًا بالقاف، وكذا ما بعدها.

(1/123)


لأنك لابس لكل منهما، ومن هذا الوجه لا منافاة لجواز جمعك بين لُبْس الأبيض والأسود. وتقول: "أقرأت المرأة" بمعنى حاضت وطهرت. وقوله: "إطلاقَه" مفعولٌ مقدَّم على فعله الذي هو "أجاز" و"النُّبَلا" مقصور للوزن. 196 - إن يخْلُ من قرينةٍ فمجمَلُ ... وبعضُهم على الجَميع يحمِلُ يعني أن المشترك إذا تجرد من القرائن الدالة على تعيين أحد معنييه أو معانيه أو على تعميمه لجميع معانيه يُحْكم عليه بأنه مجمل أي غير متضح المعنى كما يأتي للمؤلف، وبعض العلماء يحمله على معنييه أو معانيه كما هو مذهب الشافعي قائلًا بظهوره في ذلك عند التجريد من القرائن. 197 - وقيلَ لم يُجِزْه نهجُ العُرْبِ ... وقيل بالمنع لضدِّ السَّلْبِ يعني أن بعض العلماء قال بأن إطلاق المشترك على معنَيَيْه أو معانيه لا يجوز لغة لا حقيقة ولا مجازًا، ولكن يجوز عقلًا؛ لأن العرب لم تستعمله إلا في كلِّ واحد من معانيه بانفراده لا في مجموعها، وهذا قول الغزالي، وأبي الحسين البصري المعتزلي، والبيانيين وغيرهم. وقوله: "وقيل بالمنع" إلخ يعني أن بعضهم قال: لا يجوز إطلاق المشترك على معنييه في الإثبات وهو مراده بضد السلب، لأن السلب النفي وضده الإثبات، وهذا القول يقول صاحبه: إن ذلك يجوز في النفي ومثله النهي فتقول مثلًا: "لا قُرْأَ لهند الحامل تعتدّ به"، وتريد أنها لا تعتدّ بحيض ولا طهر لأنها تعتدُّ بوضع حملها، ومثله النهي فتقول: "لا تعتدِ على عينٍ لزيد" وتعني الباصرة والجارية والذهب، لأن النكرة

(1/124)


في سياق النفي تعم بخلاف الإثبات. ويدخل في الإثبات الأمر، وإذا كان المعنيان لا يمكن الجمع بينهما امتنع حمل المشترك عليهما قولًا واحدًا كحمل صيغة "افعل" على طلب الفعل والتهديد. وقوله: "لضد السلب" مقتضى كلامه أن الإثبات ضد النفي ومراده الضّدُّ اللغوي لا الاصطلاحي؛ لأن النفي والإثبات ليسا بضدَّيْن اصطلاحًا، وإنما هما في الاصطلاح نقيضان. 198 - وفي المجازَيْن أو المجازِ ... وضِدّه الإطلاقُ ذو جوازِ يعني أنه يجوز لغة إطلاق اللفظ على مجازَيْه أو على مجازه وحقيقته. فمثال إطلاقه على مجازَيْه قولك: "لا أشتري" وتريد لا أسوم، ولا يشتري لي وكيلي. ومثال إطلاقه على حقيقته ومجازه عندهم قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج/ 77] فإن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب مجاز في الندب، وهو مستعمل هنا فيهما لتناول الأمر للواجب والمندوب في قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ومحل جواز إطلاق اللفظ على مجازَيْه أن تقوم قرينة على إرادتهما، أو يكونا متساويين في الاستعمال ولا مرجح لأحدهما، فإن رجح أحدهما تعين، وأن لا يتنافيا كالتهديد والإباحة. ومحل جواز إطلاقه على حقيقته ومجازه فيما إذا ساوى المجازُ الحقيقةَ في الشهرة، فإن لم يساوها امتنع إرادته معها، وإن حمل على حقيقته ومجازه معًا يكون مجازًا، وقيل: حقيقة ومجازًا باعتبارين، وقول المؤلف: "أو المجاز وضده"، يعني المجاز والحقيقة، أي حمل اللفظ عليهما معًا.

(1/125)


فصل: الحقيقَة هي من حق الشيء يحُق بالكسر والضم إذا ثبت ووجب، فهي فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول من حقَّقته إذا أثبته. وهي في الاصطلاح: الكلمة الثابتة في مكانها الأصليّ على الأول أو المُثبتة فيه على الثاني، والتاء في الحقيقة للنقل من الوصفية إلى الاسمية، فهي علامة للفرعية كما أن المؤنث فرع المذكر، وقيل: للتأنيث وعليه صاحب "المفتاح" (1). 199 - منها التي للشرع عَزْوها عُقِلْ ... مرتَجَلٌ منها ومنها منتقِلْ يعني أن من أقسام الحقيقة، الحقيقةُ الشرعية، وباقي الأقسام هو الحقيقة العرفية، والحقيقة اللغوية. أما الحقيقة الشرعية: فتقريبها للذهن: أن يكون اللفظ موضوعًا وضعًا عامًّا شاملًا لجميع الأفراد الداخلة في (2) مُسَمّاهُ، فيسمِّي الشرع بعض تلك الأفراد بذلك الاسم العام، كالصوم فإنه وُضِع لكل إمساك، فمن أمسك عن الكلام فقد صام لغةً، كما قال تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم/ 26] أي إمساكًا عن الكلام، بدليل قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم/ 26]. ومن أمسك عن الجري فقد صام __________ (1) وهو: يوسف بن أبي بكر بن محمد السّكّاكي الخوارزمي (ت 626). وكتابه "مفتاح العلوم" من أشهر كتب العربية الجامعة لفنونها. (2) ط: تحت.

(1/126)


لغة، ومنه قول النابغة (1): خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة ... تحت العَجاج وأخرى تعْلُك اللُّجُما فقوله: "صيام" أي ممسكة عن الجري، وقيل: عن العلف. ومن الصوم بمعنى الإمساك عن المشي قول امرئ القيس (2): كأن الثريا عُلِّقت في مَصامِها ... بأمْراسِ كَتَّانٍ إلى صُمِّ جندل فقوله: "مَصامِها" يعني مكان صومها أي إمساكها عن المشي. وقد خص الشرعُ هذه الحقيقة ببعض أفرادها وهو: إمساك البطن والفرج عن شهوتيهما بنيَّةٍ من الفجر إلى الغروب، دون غير ذلك من الأفراد التي يصْدُق عليها الصوم لغة. وأما الحقيقة العرفية فهي أن يختصّ الاستعمال عرفًا ببعض ما دلَّ عليه اللفظ لغة، كالدابة فإنها في اللغة لكل ما دبَّ، وفي العرف تستعمل في بعض ما يدب دون بعض، فالنوع الذي تستعمل فيه من الدواب عُرْفًا هو حقيقتها العرفية. والحقيقة اللغوية هي التي لم ينقلها عن أصلها استعمالٌ شرعي ولا عرفي. وأما الحقيقة العقلية فلا ذِكْر لها في الأصول، وإنما تذكر في فنِّ البيان وهي: إسناد الفعل ونحوه لمن هو له في اعتقاد المتكلم، كقول الموحِّد: "أنبتَ اللَّهُ البقلَ"، وكقول الطبائعي: "أنبتَ الربيعُ البقلَ". __________ (1) "ديوانه": (ص/ 240). والبيت من رواية ابن السكيت للديوان. (2) "ديوانه": (1/ 243).

(1/127)


وقول المؤلِّف: "منها" أي من أنواع الحقيقة: الحقيقة التي عقل عزوها للشرع فقيل لها: حقيقة شرعية. وقول المؤلف: "مرتجل منها" إلخ، يعني أن الحقيقة الشرعية منها ما هو مرتجل، أي موضوع وضعًا مؤتنفًا من غير نقل من اللغة، ومنها ما هو منقول من اللغة، وقد قدمنا أن نقله من اللغة هو خصوصه شرعًا ببعض مدلوله اللغوي، وكون الشرعية منها مرتجل ذكره المؤلف هنا (1) تبعًا لحلولو ناقلًا عن الرَّهوني (2)، والظاهر أنه غير صحيح وأن الحقيقة الشرعية ليس فيها مرتجل ألبتة كما صرح به الشَّارِمْساحي (3) في "شرح ابن الجلاب" (4) وهو الحق خلافًا لما ذكره المؤلف، والاستقراء التام دليل على ذلك. 200 - والخُلْفُ في الجواز والوقوعِ ... لها من المأثُوْر والمَسْموعِ يعني أنهم اختلفوا في جواز وقوع الحقيقة الشرعية. والقائلون __________ (1) "النشر": (1/ 121). (2) ذكره الرهوني في "شرح مختصر ابن الحاجب": (1/ 353 - 355). (3) هو: عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن عمر المصري الشارِمْساحي الفقيه المالكي (ت 669)، له شرح على مختصر ابن الجلاب المسمى بـ "التفريع". انظر: "الديباج المذهب": (ص/ 142 - 143). وشارِمْساح بلدة بمصر. انظر "معجم البلدان": (3/ 308). (4) ابن الجلاب هو: عبيد اللَّه بن الحسين المالكي (ت 378)، وكتابه "التفريع" مشهور وهو من أوائل المختصرات في المذهب، وعليه شروح كثيرة، طبع عن دار الغرب 1417 هـ. انظر "ترتيب المدارك": (7/ 76)، و"الديباج": (ص/ 146).

(1/128)


بجوازها عقلًا اختلفوا أيضًا هل واقعة أم لا؟ فالذين قالوا لا تجوز عقلًا هم المعتزلة لا غيرهم، وحُجَّتهم في منع إمكان الشرعية: أن بين اللفظ والمعنى مناسبة مانعة من نقله إلى غيره، ويلزم على هذا منع العرفية أيضًا. والذين قالوا ليست الشرعية واقعة منهم: القاضي الباقلاني، وابن القشيري، وبعض الحنابلة والشافعية زاعمين أن اللفظ مستعمل في معناه اللغوي، والشرع زاد شروطًا زائدة على اللغوي، فلفظ الصلاة -مثلًا- على هذا القول مستعمل في الشرع في معناه اللغويّ وهو الدعاء بخير، لكن اشترط الشرع في الاعتداد به أمورًا زائدة كالركوع والسجود. وردَّ هذا القول إمام الحرمين في "البرهان" (1) بالإجماع على أن الركوع والسجود من الأركان التي هي من نفس (2) الصلاة لا أنها شروط؛ لأن الشرطَ خارج عن الماهية. وردَّه غيرُ إمام الحرمين بأن فيه جَعْل الأعظم شرطًا والأقل مشروطًا وهو خلاف القياس. وفي الشرعية قولٌ آخر لم يذكره الناظم في النظم وهو: أن الحقيقة الشرعية واقعة في الفروع العملية لا في أصول الدين، فتقع في الصوم والزكاة -مثلًا- ولا تقع في الكفر والإيمان على هذا القول، والظاهر وقوعها في الكل والعلم عند اللَّه تعالى. 201 - وما أفادَ لاسمِه النبيُّ ... لا الوضعُ مطلقًا هو الشرعِيُّ __________ (1) (1/ 134). (2) ط: تفسير!

(1/129)


يعني أن الحقيقة الشرعية هي: ما استُفِيْدت تسميتها من جهة الشرع لا من مطلق الوضع اللغوي، فالصوم -مثلًا- سُمِّي به إمساك البطن والفرج كما تقدم، وهذه التسميه غير مستفادة من مطلق الوضع، لأن الوضع لا يخص الصوم بذلك الإمساك دون غيره من سائر الإمساكات، وإنما اسْتُفيد خصوصه به وانصرافه إليه عند الإطلاق من جهة الشارع، وقد بينا معنى هذا فيما مضى. 202 - وربما أطلِقَ في المأذون ... كالشُّرْبِ والعِشاءِ والعيدينِ يعني أنه قد يطلق لفظ الشرعي على ما أَذِن فيه الشرع من واجب ومندوب ومباح، فالشرعي في البيت قبل هذا مراد به المعنى، وهذا مراد به اللفظ على سبيل الاستخدام، فالواجب كقولك: "صلاة العشاء مشروعة" أي واجبة، والمندوب كقولك: "من النوافل ما تشرع فيه الجماعة" أي تُنْدَب كالعيدين، والمباح كأنْ تقول في شُرْب الحائض والمسافر في رمضان: "هذا الشرب مشروع".

(1/130)


المجَاز هو في اللغة مكان الجواز، وفي الاصطلاح هو: اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له لعلاقة بينهما مع قرينة صارفة عن قصد المعنى الأصلي. وهذا تعريف المجاز المفرد لأنه هو المقصود عند الأصوليين، أما المجاز المركب، والمجاز العقلي فليس لهما ذِكر في الأصول، وإنما يُذكران في فنِّ البيان. 203 - ومنه جائزٌ وما قد مَنَعوا ... وكلُّ واحدٍ عليه أجمعوا يعني أن من المجاز ما هو جائز بالإجماع، ومنه ما هو ممنوع بالإجماع، وقد قدَّمنا قسمًا مُخْتَلَفًا فيه، وهو: الجمع بين حقيقتين أو مجازين، أو حقيقة ومجاز، فتحصَّل أنه باعتبار المنع والجواز ثلاثة أقسام: قسم جائز، وقسم ممنوع، وقسم مختَلَف فيه، وأشار إلى القسم الجائز بقوله: 204 - ماذا اتحادٍ فيه جاء المَحْمَلُ ... ولِلْعلاقةِ ظهورٌ أوّلُ قوله: "ما" مبتدأ، وخبره "أول"، يعنى أن أول القسمين المذكورين وهو: الجائز اتفاقًا هو: ما كان له محمل واحد وكانت علاقته ظاهرة بينة، كقولك: "رأيت أسدًا يرمي"، فمحمل هذا الكلام واحد إذ لا يحتمل غير الرجل الشجاع، والعلاقة بين الأسد والرجل ظاهرة وهي الشجاعة. وقول المؤلف: "ذا" حال من المحمل، أي ما جاء فيه المحمل حال كونه "ذا اتحاد" أي متحدًا، واحترز باتحاد المحمل من

(1/131)


الحقيقة والمجاز والحقيقتين والمجازَيْن، لأن المحمل متعدد في كلها، وقوله: "المَحْمَل" بفتح الميمين وهو المعنى الذي يُحمل عليه اللفظ. وظاهر المؤلف أن مثل هذا المجاز مُجمع عليه، وليس كذلك، لأن قومًا منهم الفارسي، وأبو إسحاق الإسفراييني أنكروا المجاز في اللغة من أصله، وقالوا: إن ما يسميه القائلون بالمجاز مجازًا ليس بمجاز، وإنما هو أسلوب من أساليب اللغة العربية، ونفاه قوم في خصوص القرآن، منهم ابن خُويز منداد من المالكية، وابن القاصّ من الشافعية، ومَنَعه الظاهرية في الكتاب والسنة معًا (1). قال مقيده عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي عدم جواز إطلاقه في القرآن، لأن المجاز يجوز نفيه، كما يأتي للمؤلف أن من علامات الحقيقة عدم جواز النفي، فيلزم على القول بالمجاز في القرآن أن في القرآن ما يجوز نفيه وكل ما يلزم المحظور فهو محظور، والعلم عند اللَّه تعالى (2). 205 - ثانيهما ما ليسَ بالمفيدِ .. لِمَنْع الانتقال بالتعقيدِ يعني أن ثاني القسمين وهو القسم الممنوع اتفاقًا هو ما كان غير مفيد للمقصود لما فيه من التعقيد المعنوي المانع من فهم المراد، كما لو قلت: "رأيتُ أسدًا يرمي" تريد رجلًا أبخر، فإن الأسد وإن كان أبخر، فاستعارته للرجل الأبخر بعلاقة البَخَر غيرُ متعارفة في اللِّسان العربيّ، __________ (1) انظر "جمع الجوامع": (1/ 308). (2) للشيخ رسالة مفردة سماها "منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز" وهي مطبوعة، وانظر "المذكرة": (ص/ 106 - 113).

(1/132)


وعدم تعارفها يمنع من فهم المراد، فهذا التعقيد المعنوي يمنع المجاز. وقوله: "لمنع الانتقال" أي الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المجازي بحيث يستعمل اللفظ الموضوع للحقيقي في المجازي، وذلك المنع بسبب التعقيد المعنوي وهو عدم ظهور المعنى. 206 - وحيثُما استحال الأصل يُنتقلْ ... إلى المجاز أو لأقرب حَصَلْ يعني أنه إذا تعذَّرَت الحقيقة يجب عند المالكية الانتقال إلى المجاز إذا كان واحدًا، أو إلى أقرب المجازَيْن إن تعدَّد، ومثلوا لهذا بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة/ 6] قالوا: حقيقةُ المأمور بمسحه جلدة الرأس ولهذه الحقيقة مجازان؛ أحدهما: أبعد وهو العمامة، والثاني: أقرب للحقيقة وهو شعر الرأس، فيجب الأقرب، فيمسح على الشعر لا على العمامة، وما ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- من مسحه على العمامة (1) حملوه على ما إذا خيف بنزعها ضرر كما قال خليل: "وعمامة خيف بنزعها ضررٌ" (2). 207 - وليس بالغالبِ في اللُّغاتِ ... والخلْفُ فيهِ لابن جنِّي آتِ يعني أن المجاز ليس بغالب في اللغات، أي المفردات والمركبات، خلافًا لابن جنِّي -بالجيم وسكون الياء، معرَّب كِنِّي بين الكاف والجيم- في قوله: إنهَ غالب في كل لغة على الحقيقة، زاعمًا أنه ما من لفظ إلا __________ (1) أخرجه مسلم رقم (274) من حديث المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه-. (2) "مختصره": (ص/ 20).

(1/133)


واستعماله مجازًا مقرونًا بالقرينة أكثرُ من استعماله حقيقة بالاستقراء قائلًا: أكثر كلام البلغاء تَشْبيهات واستعارات، وإسناد الأفعال إلى من لا يصح أن يكون فاعلًا كالحيوانات والدهر والأطلال ونحو ذلك، وأن عُرْف التخاطب كذلك كقولهم: سافرت إلى البلاد، ورأيت العباد، ولبست الثياب، وملكت العبيد، مع أنه لم يسافر إلى كل البلاد، ولم يَرَ كُلَّ العباد. . . إلخ (1). ولا يخفى سقوط قول ابن جِنِّي بأن الغالب في اللغات المجاز، وأنَّ ما سماه مجازًا حقائق الغوية. 208 - وبعدَ تخصيصٍ مجازٌ فَيَلي ... الإضمارُ فالنقلُ على المعوَّل 209 - فالاشتراك بعدَه النسخُ جرى ... لكونِه يُحتاط فيه أكثرا يعني أن التخصيص، والمجاز، والإضمار، والنقل، والاشتراك، والنسخ، إذا تعارضت فالمقدَّم التخصحص، ثم المجاز، ثم الإضمار، ثم النقل، ثم الاشتراك، ثم النسخ على خلافٍ في بعضها سنذكره إن شاء اللَّه. أما التخصيص فسيأتي تعريفه في قول المؤلف: "قصر الذي عم" (2) إلخ. وأما المجاز فقد تقدم الكلام عليه. وأما الإضمار فهو دلالة الاقتضاء المتقدمة في قوله: "وهو دلالة اقتضاء أن يدل" (3) إلخ. وأما النقل فهو نقل الكلمة إلى معنى آخر، والظاهر أنه نوعٌ من المجاز إذ لا يكاد يُعقل الفرق بشهما. وأما الاشتراك فقد تقدم الكلام عليه في __________ (1) انظر "الخصائص": (2/ 447 - فما بعدها) لابن جني. (2) البيت رقم (382). (3) البيت رقم (138).

(1/134)


قوله: "في رأي الأكثر وقوع المشترك" (1). وأما النسخ فسيأتي في قوله: "رفع لحكم أو بيان الزمن" (2) إلخ. ومثال تقديم التخصيص على المجاز -كما رجحه المؤلف وغيره- قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام/ 121] فهو مخصوص عند الجمهور بغير النَّاسِي للتسمية فتؤكل ذبيحته، وحَمَله الشافعي على المجاز وأن المراد به ما أُهِل به لغير اللَّه أو ما مات من غير تذكية، فيقدَّم التخصيص على المجاز على الراجح، ورجحانه من وجهين: الأول: أن اللفظ يبقى في بعض الحقيقة كلفظ المشركين في: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} هو خرج أهل الذمة وبقي الحربيون وهم بعض المشركين، فعلى أنه تخصيص فهو أَقرب للحقيقة. الثاني: إذا خرج بعضٌ بالتخصيص بقي اللفظ مستصحبًا في الباقي من غير احتياج إلى القرينة، قال القرافي (3): وهذان الوجهان لا يوجدان في غير التخصيص. قال مُقيده عفا اللَّه عنه: هذا الوجه الأخير يدل على أن العام المخصوص حقيقة في الباقي بعد التخصيص، كما يأتي تحقيقه عند قول المؤلف: "وذاك للأصل وفرع يُنْمى" (4). __________ (1) البيت رقم (194). (2) البيت رقم (466). (3) في "شرح التنقيح": (ص/ 122). (4) البيت رقم (389).

(1/135)


ومثال تقديم المجاز على الإضمار: قول السيد لعبده الذي هو أكبر منه سنًّا: أنت أبي، فإنه يحتمل المجاز من باب إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، أي أنت عتيق، لأن الأبُوَّة يلزمها العتق شرعًا، واللازمية والملزومية كلتاهما من علاقات المجاز المرسل كما هو مقرر في محله، ويحتمل الإضمار أي أنت مثل أبي في الشفقة والتعظيم، فيكون من التشبيه البليغ. فعلى الأول يُعتق وهو الذي رجَّحَه المؤلف، وعلى الثاني لا يعتق، ورجح بعضهم الثاني. حُجَّة من رجح المجاز على الإضمار أن المجاز أكثر، قال القرافي (1): "والكثرة تدل على الرجحان". وحجة من رجح الإضمار على المجاز أن قرينة الإضمار متصلة به لما قدمنا من أن قرينة الاقتضاء -الذي هو الإضمار- هي توقُّف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه، وذلك غاية الاتصال، بخلاف قرينة المجاز فإنها منفصلة خارجة عنه. وقال بعض العلماء: هما سيَّان لاحتياج كل منهما إلى قرينة، وهو وجيه، لأن قرينة المجاز قد تكون استحالة الحقيقة، والاستحالة لا تقصر عن قرينة الاقتضاء كما هو ظاهر. ومثال تقديم الإضمار على النقل: قول الحنفي: إن درهم الربا إذا أسقط صح العقد لأن قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة/ 275] يحتمل الإضمار أي: آخْذ الربا كما حمله عليه أبو حنيفة، فلو حذف __________ (1) في "شرح التنقيح": (ص/ 122).

(1/136)


درهم الربا صح العقد، ويحتمل النقل، أي نقل "الربا" -الذي هو لغةً الزيادة- إلى العقد شرعًا فيكون المعنى تحريم العقد وفساده مطلقًا ولو حُذِف الدرهم الزائد المؤدي إلى التحريم. حجة من قال بتقديم الإضمار على النقل هي سلامة الإضمار من نسخ المعنى الأول، بخلاف النقل فإنه ينسخ المعنى الأصليَّ. قال مقيِّدهُ عفا اللَّه عنه: ذَكَرَ هذه الحجة لتقديم الإضمار على النقل المؤلِّفُ في "الشرح" (1) تَبَعًا لغيره، ولا يخفى أن هذه الحجة تقتضي تقديم الإضمار على المجاز؛ لأن المجاز فيه نسخ المعنى الأصلي أيضًا، ولما قدمنا من أن النقل مجاز فانظره، لأن تقديم المجاز على الإضمار وتأخير النقل عنه مع أن النقل مجاز لا يخلو من إشكال. ومثال تقديم النقل على الاشتراك: لفظ "الزكاة" إذا أريد به الجزء المخرجُ من المال، فإنه يحتمل النقل عن المعنى الأصلي الذي هو النماء، ويحتمل الاشتراك بينه وبين الجزء المخرَج فيُحْمَل على النقل لأن الاشتراك يخل بالفهم اليقينيّ. وقول المؤلف: "بعده النسخ" إلخ، يعني أن الاشتراك مقدَّم على آخر المراتب الذي هو النسخ، لأن النسخ يُحتاط فيه أكثر لتصييره اللفظ باطلًا فتكون مقدماته أكثر. قاله في "التنقيح" (2). ولم أر من مَثَّل لتعارض الاشتراك والنسخ، والذي يظهر لي أنه لا __________ (1) (1/ 127). (2) (ص/ 78 - مع الذخيرة).

(1/137)


يتأتَّى إلّا في المشتركيْن المتضادَّيْن كقوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} لأن القُرْءَ مُشْترك بين الطُّهر والحيض وهما ضدَّان، كما أن الناسخ والمنسوخ ضدان، فيُحْمَل الضدان على الاشتراك ولا يحملان على النسخ إلا بدليل على النسخ، كما يأتي للمؤلف من أن النسخ لا بد له من دليل خاص في قوله: "الإجماع والنص على النسخ" (1) إلخ. تنبيه: هذا الذي ذكره المؤلف من تقديم التخصيص، ثم المجاز، ثم الإضمار. . . إلخ لا ينافي ترجيح المتأخر المرجوح في بعض الصور بِمُدْرَكٍ يخصُّه، كترجيح النقل على الإضمار في آية: {وَحَرَّمَ اَلرِّبَا} ونحو ذلك. وقول المؤلف: "فيلي الإضمارُ" هو بالرفع فاعل "يلي" والمفعول محذوف أي يلي الإضمارُ المجازَ. وجَمَع بعضُهم هذه المسائل في بيتين فقال: يُقدَّم تخصيصٌ مجازٌ ومضمَرٌ ... ونَقْلٌ يليه واشتراكٌ على النسخ وكلٌّ على ما بعدَه متقدِّمٌ ... وقدَّم أضْدَادَ الجميع ذوو الرسخ قال مقيّده عفا اللَّه عنه: قول ناظم البيتيْن: "وقدم أَضدَادَ الجميع" وجيهٌ في غير التخصيص، أما التخصيص فلا يقدَّم عليه ضده الذي هو العموم بل يقدَّم هو على العموم كما سيأتي. 210 - وحيثما قصدُ المَجاز قد غَلَبْ ... تعيينُه لدى القرافي مُنْتَخَبْ 211 - ومذهبُ النعمانِ عكسُ ما مضى ... والقوْلُ بالإجمال فيه مُرْتضى __________ (1) البيت رقم (485).

(1/138)


يعني أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح بكثرة الاستعمال، كلفظ "الدابة" الذي هو حقيقة مرجوحة في كلِّ ما دب، مجاز راجح في ذوات الحافر في أكثر البلاد، وفي بعضها للحمار وفي بعضها للحيَّة، فإن في ذلك ثلاثة مذاهب: الأول: تعيين حمل اللفظ على المجاز لرجحانه بكثرة الاستعمال، وعزاه المؤلف في "الشرح" (1) لأبي يوسف، واختاره القرافي (2)، وهو معنى قول المؤلف: "تعيينه لدى القرافي منتخب" أي مختار، ولا يُحمل على الحقيقة إلا بنيته (3) أو قرينة. الثاني: حمله على الحقيقة لرجحانها بالأصالة، ولا يُحمل على المجاز إلا بنيته أو قرينة، وهو قول أبي حنيفة، وهو مراد المؤلف بقوله: "ومذهب النعمان عكس ما مضى". الثالث: وهو قول الإمام (4)، واختاره السبكي في "جمع الجوامع" (5) أن اللفظ يكون مجملًا فلا يُحمل على المجاز لرجحان الحقيقة بالأصالة، ولا على الحقيقة لرجحان المجاز بكثرة الاستعمال، فيتساوى الاحتمالان؛ لأن لكل منهما مرجِّحًا فيكون اللفظ مجملًا، __________ (1) (1/ 128). (2) في "التنقيح": (ص/ 77). (3) كذا، وط: بنية، ولعلها ببينة. (4) أي الفخر الرازي، كما هو اصطلاح ابن السبكي في "الجمع". (5) (1/ 331).

(1/139)


وهو مراد المؤلف بقوله: "والقول بالإجمال فيه مرتضى". 212 - أجْمَعَ إنْ حقيقةٌ تُماتُ ... على التقدُّمِ له الأثباتُ يعني أن الأثبات -أي العلماء- أجمعوا على تقديم المجاز على الحقيقة إن أُميتت الحقيقة أي هُجِرت بالكلية، فمن حلف: لا يأكل من هذه النخلة، حَنَث بثمرها دون خشبها الذي هو الحقيقة لأنها مُمَاتة مهجورة. وقوله: "الأثبات" بفتح الهمزة جمع ثَبَت فاعل "أجمعَ"، و"إن" شرطية، و"حقيقة" نائب فاعل "تُمات" محذوفة دل عليها "تمات" المذكورة، لِمَا تقرَّر من أن أدوات الشرط لا تتولاها إلا الجمل الفعلية، وهو الصحيح عند النحويين خلافًا لبعضهم زاعمًا أن الشرط ربما ولي جملة اسمية، وجعل بعضُهم منه قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ} [الإسراء/ 100] الآية. 213 - وهو حقيقةٌ أو المَجازُ ... وباعتبارَيْن يجي الجوازُ يعني أن اللفظ المستعمل في معنى لا يخلو إما أن يكون حقيقة فقط، أو مجازًا فقط، كالأسد للحيوان المفترس أو للرجل الشجاع، ويجوز أن يكون حقيقة ومجازًا معًا باعتبارين كالصوم -مثلًا- فإنه حقيقة لغوية مجاز شرعيّ في كل إمساك، وحقيقة شرعية مجاز لغوي في خصوص إمساك البطن والفرج. وكالدَّابة فإنها حقيقة لغوية مجاز عرفيّ في كل ما دَبّ، حقيقة عرفية مجاز لغويّ في ذوات الحافر مثلًا، وهذا مراده بقوله: "وباعتبارين يجي الجواز". قال مُقَيّدهُ عفا اللَّه عنه: حَصْر المؤلف اللفظ في الحقيقة والمجاز

(1/140)


لا يستقيم إلا على القول بأن الكناية حقيقة أو أنها مجاز، وأما على القول بأنها لا حقيقة ولا مجاز، فهي واسطة يختلُّ بها الحَصْر الذي ذكره المؤلف هنا، والعلم عند اللَّه تعالى. 214 - واللفظُ محمولٌ على الشرعيّ ... إن لم يكن فمطلَقُ العرفيّ 215 - فاللغوي على الجَلي. . . . ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن اللفظ يُحمل على معناه الشرعيّ إن كان من الشارع، فالصوم في كلام الشارع -مثلًا- يجب حمله على خصوص إمساك البطن والفرج، دون غيره من الإمساكات، وهذا معنى قوله: "واللفظ محمول على الشرعيّ". فإن لم يكن في اللفظ استعمال شرعي خاص وجب حملُه على معناه العرفيّ كما قدمنا عن أبي يوسف والقرافِيّ، كالدابة -مثلًا- فمن أوصى بدابة حُمِل على المتعارف في الدابة عند الناس، وهذا هو مراده بقوله: "إن لم يكن فمطلق العرفي" ومراده بالإطلاق في العرف يعني سواءٌ كان عرفًا عامًّا أو خاصًّا بأهل بلد، وسواءٌ كان عرفًا قوليًّا أو فعليًّا خلافًا لخليل (1) القائل بعدم اعتبار العرف الفعلي تَبَعًا للقرافي (2). ومثال العُرْف الفعليّ: أن يكون أهل بلد لم يأكلوا قط إلا خبز البر، فَحَلَف أحدهم لا يأكل خبزًا، فأكل خبزَ شعير، فإنه يحنث عند القرافي وخليل لعدم اعتبارهما العرف الفعلي. أما العُرْف القولي فواضح. __________ (1) كما يفهم من عبارته في "المختصر": (ص/ 84). (2) في "شرح التنقيح": (ص/ 212).

(1/141)


وقوله: "فاللغوي"، يعني أنه إن لم يوجد في اللفظ اصطلاح شرعي ولا عرفيّ فإنه يجب حمله على معناه اللغويّ. وقوله: "على الجلي" أي على القول الظاهر، خلافًا لمن قدَّم اللغويّ كما تقدم عن أبي حنيفة، وخلافًا لمن يجعله مجملًا كما تقدم عن الإمام والسبكي، وخلافًا لمن لا يعتبر العرف الفِعْلِيَّ كالقرافي وخليل، وخلافًا لمن أخر الشرعي كخليل وانتصر له الرَّهوني. وتسكين "ياء" اللغوي والجلي لضرورة الوزن. . . . . . . ولم يَجِبْ ... بحثٌ عن المجازِ في الذي انتُخِبْ يعني أنه يجوز حمل اللفظ على معناه الحقيقي قبل البحث عنه هل هو مستعمل في معناه المجازي؛ لأن الأصل عدم المجاز بلا قرينة كما يدل عليه كلام الفِهْرِيّ. وقوله: "انتُخِب" بالبناء للمفعول بمعنى اختير، ومقابله قول القرافي: إنه لا يصح التمسُّك بالحقيقة إلا بعد الفَحْص عن المجاز. وهذا الخلاف يجري في العام مع الخاص؛ هل يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصِّص أو لا؟ والحق جوازه لأن الأصل لا ينتقل عنه إلا بموجب. 216 - كذاك ما قابل ذا اعتلالِ ... من التأصُّلِ والاستقلالِ 217 - ومِنْ تأسُّسٍ عمومٍ وبقا ... الإفرادُ والإطلاق مما يُنْتقَى 218 - كذاك ترتيبٌ لإيجاب العمل ... بما له الرجحانُ مما يُحْتَمَل يعني أن هذه الأمور الثمانية المذكورة في هذه الأبيات الثلاثة تُقَدَّم على مقابلاتها، كما قدم الشرعي ثم العرفي. الأول: التأصُّل، فإنه يقدم على مقابله الذي هو الزيادة، ومثاله

(1/142)


قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد] قيل: "لا" زائدة وقيل: نافية. الثاني: الاستقلال، يقدَّم على مقابله الذي هو الإضمار، ومثاله قوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة/ 33] الآية، قال الشافعيُّ وغيرُه: يُقتلون إن قتلوا وتُقْطع أيديهم إن سرقوا، والمالكية يقولون: الأصل عدم الإضمار أي الحذف فيخير الإمام بين الأمور المذكورة، فيجوز القتل وإن لم يَقْتلوا والقَطْع وإن لم يسرقوا. الثالث: التأسيس، يقدَّم على مقابله الذي هو التوكيد كقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} في سورة الرحمن. وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)} في المرسلات، فيحمل على تنوُّع الآلاء في الأول، والمكَذَّب به في الثاني فلا يتكرر. الرابع: العموم، فإنه يقدم على مقابله الذي هو التخصيص، وقيدَّه المؤلف في "الشرح" (1) بكونه قبل البحث عن المخصص، ولا معنى له عندي، لأنه قبل العثور على المخصِّص لم يكن هناك مقابل للعموم موجودًا وبعد العثور على المخصِّص فهو مقدَّم على العامّ فاتضح أن ذكر العموم هنا فيه نظر، وكذلك ذكر الإطلاق الآتي قريبًا. الخامس: البقاء، يقدم على مقابله الذي هو النسخ، ومثَّل له المالكية بذي الناب من السباع، وذي المخلب من الطير، دلّ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام/ 145] الآية على إباحته، وثبت __________ (1) (1/ 131).

(1/143)


عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- النهي عنه (1)، فاختلف فيه هل النهي ناسخ للآية أم لا؟ فيكون المصدر مضافًا إلى فاعله، فيكون الحديث مثل قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة/ 3]. قال مقيّدهُ عفا اللَّه عنه: جَعْل النسخ والبقاء متقابِلَيْن فيه عندي نظر، لأن النسخ أيضًا قبل ثبوته لم يكن مقابلًا للبقاء، وبعد ثبوته فهو مقدَّم على البقاء، كما هو ظاهر (2). * * * __________ (1) فيما أخرجه البخاري رقم (5530)، ومسلم رقم (1932) من حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي اللَّه عنه-. (2) هنا انقطع الشرح، وبقي من الأمور الثمانية ثلاثة، وننقل شرحها من "نشر البنود": (1/ 131 - 132): السادس: يقدم الإفراد على ضده الذي هو الاشتراك، فجعل النكاح مثلًا لمعنى واحد وهو الوطء، أرجح من كونه مشتركًا بينه وبين سببه الذي هو العقد. السابع: يقدم الإطلاق على التقييد كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} فعند المالكية أن مطلق الشرك محبط، وقيده الشافعي بالموت على الكفر. وأجيب بأن الأصل عدم التقييد. الثامن: ويقدم الترتيب على التقديم والتأخير كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} الآية، ظاهرها أن الكفارة لا تجب إلا بالظهار والعود معًا. وقيل: فيها تقديم وتأخير تقديره: والذين يظهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما قالوا قبل الظِّهار سالمين من الإثم بسبب الكفارة، وعلى هذا لا يكون العود شرطًا في كفارة الظهار وإنما قدم ما ذُكر لأجل إيجاب العمل بالراجح من محتملات اللفظ، وكون ما ذكر هو الراجح، لأنه الأصل" اهـ.

(1/144)


219 - وإن يجي الدليل للخلافِ ... فقدِّمَتَه بلا خلاف (1) يعني أن محل ترجيح المذكورات على مقابلاتها المرجوحة حيث لا دليل لخلاف الأصل يعضده "فقدِّمَنَّه" أي خلاف الأصل على الأصل "بلا خلاف". 220 - وبالتبادر يُرَى الأصيلُ ... إن لم يكُ الدليلُ لا الدخيلُ يعني أن المعنى الأصيل وهو الحقيقة "يُرى" أي يُعرف بالتبادر إلى الفهم "إن لم يكُ الدليل" أي حيث فُقِدت القرينة فالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن من اللفظ عند عدم القرينة هو المعنى الحقيقي له. قوله: "لا الدخيل" يعني أن المعنى الدخيل وهو المجاز لا يتبادر إلى الذهن إلا بالقرينة. 221 - وعدم النفي والاطّراد ... إن وُسِم اللفظُ بالانفراد يعني أن الأصل يُعرف بعدم صحة نفيه في نفس الأمر لا لفظًا ولا لغة، وبه احترز عن قوله: ما أنت بإنسان لصحته لغة. قاله العضد. ويُعرف أيضًا بوجوب الاطراد فيما يدل عليه "إن وسم اللفظ بالانفراد" أي عُرف بعدم الترادف وإلا فلا يجب الاطراد لجواز التعبير بكل من المترادفين مكان الآخر، مع أن كلًّا منهما حقيقة فما لا يطرد أصلًا مجاز. قال المحلِّي: كما في {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهلها ولا يقال: واسأل البساط أي صاحبه. 222 - والضدُّ بالوقف في الاستعمال ... وكون الاطلاق على المحال __________ (1) من هنا إلى البيت رقم (381) ليس في شرح الشيخ، واستدركناه في الحاشية من شرح الولاتي: (52 - 84).

(1/145)


يعني أن ضد الحقيقة وهو المجاز يُعرف "بالوقف" أي توقف اللفظ في إطلاقه عليه واستعماله فيه على المسمى الآخر الحقيقي، وهذا هو المسمى عند أهل البديع بالمشاكلة نحو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} فقوله: {وَمَكَرُوا} حقيقة وقوله: {وَمَكَرَ اللَّهُ} مجاز (1). وعلامة كونه مجازًا توقف صحة إطلاقه على اللَّه على تقدم {مَكَرُوا} عليه لأن إطلاق اللفظ على معناه الحقيقي لا يتوقف على شيء. ويُعرف أيضًا المعنى المجازي بكون إطلاق اللفظ على المعنى الحقيقي إطلاقًا على المستحيل عليه ذلك الإطلاق نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أطلق سؤال القرية على معنى هو استفهامها وهو مستحيل واستحالته يعرف بها أن المراد سؤال أهلها. 223 - وواجبِ القيدِ وما قد جُمعا ... فخالفَ الأصل مجازًا سُمِعا يعني أن المعنى المجازي يُعرف بوجوب تقييد اللفظ الدال عليه كـ "جناح الذل" و"نار الحرب" الأول بمعنى لين الجانب، والثاني بمعنى شدة الحرب، فإنه التزم تقييد كل من الجناح والنار بما أضيف إليه وتلك الإضافة قرينة المجاز، والتزامها علامة تمييز المجاز عن الحقيقة. قوله: "وما قد جُمعا" إلخ يعني أن اللفظ الذي يجمع على خلاف جمع __________ (1) بل صفة حقيقية وردت في القرآن مقيدة، فتستعمل في موردها، ولا يصح استعمالها مطلقة. انظر: "مختصر الصواعق": (2/ 737 - 747).

(1/146)


الحقيقة سُمِع حالَ كونه مجازًا؛ لأنَّ جمعَه على خلاف جمع الحقيقة علامة كونه مجازًا كالأمر بمعنى الفعل مجازًا يجمع على أمور بخلافه بمعنى القول حقيقة فإنه يُجمع على أوامر، وهذا مقيَّد بما عُلِم له معنى حقيقي وتُردِّد في معناه الآخر فيستدل على أنه مجاز باختلاف الجمع دفعًا للاشتراك. المُعَرَّب بفتح الراء المشددة أي هذا مبحثه. 224 - ما استعملت فيما له جا العرَبُ ... في غير ما لغتهم مُعَرَّب يعني أن المعرَّب هو اللفظ الذي استعملته العرب في معنى وضع له في غير لغتهم، فخرج الحقيقة والمجاز العربيتان؛ إذ كل منهما استعمل فيه اللفظ فيما وضع له في لغتهم. 225 - ما كان منه مثلُ إسماعيلِ ... ويوسفٍ قد جاء في التنزيلِ 226 - إن كان منه. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن ما كان منه أي المعرَّب علَمًا مثل إسماعيل ويوسف وإبراهيم وإسحاق ويعقوب قد جاء في التنزيل أي القرآن. "إن كان منه" أي إن كان نحو هذا من المعرَّب بناءً على أن الأعلام من المعرب. . . . . . . واعتقاد الأكثرِ ... والشافعيِّ النفيُ للمنكر

(1/147)


يعني أن "اعتقاد الأكثر" من العلماء أي رأيهم ورأي الشافعي هو نفي وقوع المعرَّب المنكَّر في القرآن؛ إذ لو كان فيه لاشتمل على غير عربي فلا يكون كله عربيًّا وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف/ 2]. وقيل: إنه فيه كـ "استبرق" فارسية للديباج الغليظ، و"قسطاس" رومية للميزان، "ومشكاة" هندية للكُوَّة التي لا تنفذ. 227 - وذاك لا يُبنى عليه فرعُ ... متى أبى رجوعَ دَرٍّ ضَرْعُ يعني أن ذكر المعرَّب في الأصول [لا يُبْنى عليه فرع] ما دام اللبن يأبى الرجوع إلى الضرع بعد الخروج منه.

(1/148)


 الكناية والتعريض

أي هذا مبحثهما. 228 - مستعملٌ في لازم لما وُضِع ... له وليس قصده بممتنع يعني أن الكناية لفظ مستعمل في لازم معناه الموضوع هو له مع جواز إرادة ذلك المعنى الحقيقي. 229 - فاسم الحقيقة وضدٍّ ينسلب ... . . . . . . . . . . . . أي فعلى تفسير الكناية بما ذَكَر "ينسلب" أي ينتفي عنها اسم الحقيقة وضدها الذي هو المجاز، فلا تكون حقيقة لاستعمالها في غير ما وضعت له، ولا مجازًا لجواز إرادة المعنى الذي وضعت له. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقيل بل حقيقة لما يجب 230 - من كونه فيما به مُسْتعملا ... . . . . . . . . . . . . يعني أن بعضهم قال: إن الكناية حقيقة إذ اللفظ مستعمل فيما وُضِع له مرادًا به الدلالة على لازمه. . . . . . . . . . . . . ... والقول بالمجاز فيه انتقلا 231 - لأجلِ الاستعمالِ في كليهما ... . . . . . . . يعني أن القول "بالمجاز فيه" أي لفظ الكناية منتقل أي منقول عن بعض الأصوليين "لأجل استعمال اللفظ في كليهما" أي كلا المعنيين: المعنى

(1/149)


الحقيقي والمعنى اللازم له. . . . . . . . . . . . . ... والتاجُ للفرع والأصل قَسَّما 232 - مستعمل في أصله يرادُ ... لازمُه منه ويُستفاد 233 - حقيقةٌ. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . يعني أن تاج الدين السبكي قسم الكناية إلى الفرع أي المجاز والأصل أي الحقيقة، فاللفظ المستعمل منها "في أصله" أي في معناه الأصلي حال كونه يراد به منه لازمه حقيقة نحو: "فلان طويل النِّجاد" وهو حمائل السيف استُعْمِل في طول حمائل السيف مقصودًا به طول القامة، لكن قصد المعنى الحقيقي هنا لا ليتعلق به النفي والإثبات ويرجع إليه الصدق والكذب بل لينتقل منه إلى لازمه فيكون مناط الإثبات والنفي ومرجع الصدق والكذب، فيصح الكلام وإن لم يكن له نجادٌ قط، بل وإن استحال المعنى الحقيقي. . . . . وحيثُ الأصلُ ما قُصِد ... بل لازمٌ فذاك أوَّلًا وُجِد أي وحيث لم يقصد المعنى الأصلي بل قصد المعنى اللازم فقط "فذاك" أي اللفظ المكنى به وُجِد من القسم الأول والذي هو المجاز. 234 - وسمِّ بالتعريض ما اسْتُعْمِل في ... أصلٍ أو الفرع لتلويح يفي 235 - للغير من معونةِ السياق ... وهو مركَّب لدى السُّبَّاق أي سم بالتعريض اللفظ المستعمل في معناه الأصلي أي الحقيقي أو معناه الفرعي أي المجازي للتلويح به أي للإشارة به إلى معنى غير معناه المستعمل فيه، لا من جهة الوضع الحقيقي ولا من جهة المجازي، بل "من

(1/150)


معونة السياق" والقرائن وهذا المعنى المعرض به هو المقصود الأصلي على نحو قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة كأنه غضب أن تُعبد الصغار معه تلويحًا للعابدين لها بأنها لا يصح أن تُعبد لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم من عجز الكبير عن كسر الصغار فضلًا عن غيره، والإله لا يعجز عن شيء. قوله: "وهو مركب" يعني أن لفظ التعريض لابد أن يكون مركبًا تركيبًا إسناديًّا لدى العلماء السُّبَّاق، أي الحائزين قصب السبق في الفن كابن الأثير.

(1/151)


الأمر أي هذا مبحثه، والمرادُ به في هذه الترجمة أعم من النفسي واللفظي. 236 - هو اقتضاء فعل غير كَفِّ ... دُلَّ عليه لا بنحو كُفِّي يعني أن الأمر النفسي (1) "هو اقتضاء" أي طلب تحصيل "فعل غير كف" مدلول عليه بغير كُف ودع وذَرْ وخَلِّ واترك. فتناول الاقتضاء ما ليس بكف نحو قم، وما هو كف مدلول عليه بنحو كف بخلاف الكف المدلول عليه بصيغة "لا تفعل" فليس بأمر، ولا فرق في الاقتضاء بين الجازم وغيره. والمراد بالفعل في قوله "اقتضاء فعل" الأمر والشأن فيشمل فعل اللسان كالقول وفعل القلب كالقصد وفعل الجوارح كالضرب. وجملة "عليه" المبني للمفعول في محل نعت لكف المجرور بغير. 237 - هذا الذي حدَّ به النفسيُّ ... وما عليه دَلَّ قل لفظيُّ يعني أن هذا التعريف الذي ذُكِر في البيت قبل هذا هو الذي حُدّ به الأمر النفسي، واللفظ الدال عليه أي على الأمر النفسي هو الأمر اللفظي فاللفظي لفظ دال على اقتضاء فعل إلخ. __________ (1) هذا مذهب بعض المتكلمين، أما أهل السنة فالأمر عندهم في كلام اللَّه صفة ثابتة في الكتاب والسنة، وأن اللَّه متكلم كلامًا حقيقيًا متى شاء وكيف شاء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشبه كلام خلقه.

(1/152)


238 - وليس عند جُل الأذكياء ... شرطُ عُلو فيه واستعلاءِ يعني أن الأمر لا يشترط في حده نفسيًّا كان أو لفظيًّا وجود علو ولا استعلاء، بل يصح المساوِي والأدْوَن على غير وجه الاستعلاء [من] كون الطلب بغلظة وقهر. اهـ. 239 - وخالف الباجي بشرطِ التالي ... . . . . . . . . . . . . يعني أن الباجي خالف الجمهور باشتراطه في حد الأمر القيد التالي وهو الاستعلاء. . . . . . . . . . . . . ... وشرطُ ذاك رأيُ ذي اعتزال يعني أن اشتراط العلو في حد الأمر هو مذهب المعتزلة، فإن كان من المساوي سُمِّي التماسًا، ومن الأدْوَن سُمِّي دعاءً وسؤالًا عندهم. 240 - واعْتبِرا معًا على توهينِ ... لدى القشيري وذي التلقين يعني أن العلو والاستعلاء "اعتبرا معًا" أي اشتُرِطا جميعًا في حدِّ الأمر لدى القشيري وصاحب "التلقين" وهو القاضي عبد الوهاب. "على توهين" أي مع ضعف لقولهما. فالحاصل أربعة مذاهب في اعتبار العلو والاستعلاء في حد الأمر أصحها أنه لا يعتبر واحد منهما. 241 - الأمر في الفعل مجاز ... ... . . . . . . . . . . . . يعني أن الأمر إذا استعمل في الفعل فهو مجاز نحو: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي الفعل الذي تُقْدِم عليه، وحقيقة في القول لتبادر القول دون الفعل من لفظ

(1/153)


الأمر إلى الذهن والتبادر علامة الحقيقة. . . . . . . . . . . . . واعتمى ... تشريكَ ذَيْن فيه بعضُ العلما يعني أن بعض العلماء اختار "تشريك ذين" أي الاقتضاء المعرف بما ذكر والفعل في الأمر فيطلق عليهما حقيقة. 242 - وافعَل لدى الأكثر للوجوب ... . . . . . . . . . . . . يعني أن صيغة "افعل" حقيقة في الوجوب عند الأكثر من المالكية وغيرهم فيُحمل عليه حتى يصرف عنه صارف. . . . . . . . . . . . . ... وقيل للندبِ أو المطلوب أي وقيل: إن الأمر حقيقة في التدب لأنه المتيقَّن، وقيل إنه حقيقة في المطلوب أي مطلق الطلب وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب. وبه قال الماتريدي. تنيبه: حجة من قال إن الأمر حقيقة في الوجوب قوله تعالى لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ذمه على ترك السجود المأمور به في قوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} والذم لا يكون إلا في ترك واجب أو فعل محرم. وحجة الندب أن الأمر تارةً يرد للوجوب كما في الصلوات الخمس، وتارةً للندب كما في صلاة الضحى، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل فجُعِل حقيقة في رُجحان الفعل وجواز الترك الذي هو الندب لأنه الأصل من جهة براءة الذمة. وهذا بعينه هو حجة من قال: إن الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو مطلق الطلب. قاله في شرح التنقيح.

(1/154)


243 - وقيل للوجوب أمرُ الرَّب ... وأمرُ من أرسلَه للندبِ أي وقيل: إن أمر اللَّه تعالى حقيقة في الوجوب، وأمر من أرسله اللَّه تعالى حقيقة في الندب إذا كان مُبتدأ من جهته، بخلاف الموافق لأمر اللَّه تعالى في القرآن أو المبيِّن لمجمل القرآن فهو حقيقة في الوجوب. والمبتدأ من جهته ما كان باجتهاده وإن كان بمنزلة الوحي إذ لا يقع منه خطأ أو لا يُقر عليه. قاله في "الآيات البينات". 244 - ومُفْهِمُ الوجوب يُدْرِي الشرعُ ... أو الحجا أو المفيدُ الوضعُ يعني أنهم اختلفوا في الذي يُفهم منه دلالة الأمر على الوجوب: هل هو الشرع أو العقل أو الوضع أي اللغة؟ أقوال. حجة الأول قوله تعالى لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}. ومن السنة قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". وحجة الثاني: أن ما تفيده اللغة من الطلب يتعين أن يكون للوجوب لأن حمله على الندب يصيِّر المعنى افعل إن شئت، وهذا التقييد ليس مذكورًا. وحُجة الثالث: أن أهل اللغة يحكمون باستحقاق عبد مخالف لأمر سيده العقاب. 245 - وكونه للفور أصل المذهب ... وهو لدى القيد بتأخيرٍ أُبي يعني أن كون "افعل" للفور هو أصل مذهب مالك رحمه اللَّه تعالى دل على الوجوب أو الندب على الصحيح، قال القاضي: لكن بعد سماع الخطاب وفهمه.

(1/155)


وأما اقتضاؤه الفور على القول بأنه يقتضي التكرار فحكى القاضي عبد الوهاب الاتفاق عليه كما سيأتي قوله: وهو لدى القيد إلخ. يعني أن دلالة فعل الأمر على الفور إذا قُيِّد بالتأخير نحو: "صم غدًا" ممنوعة فهذا محل وفاق، وكذا لا خلاف إذا قُيِّدت بفور نحو: "قم الآن". 246 - وهل لدى الترك وجوبُ البدلِ ... بالنصِّ أو ذاكَ بنفسِ الأولِ أي وعلى القول بأن فعل الأمر للفور فهل إذا ترك المأمور وفعل ما أمر به بأن أخره يكون وجوب الإتيان ببدله عليه بنفس الأمر الأول وعليه الأكثر؟ أو لا يجب إلا بنص آخر غير نفس الأمر الأول؟ والبدل هو العزم على أداء الفعل في الوقت ليفارق المندوب، فهو بدل من التقديم، وقيل: بدل من نفس الفعل، وقيل: ليس ببدل وإنما شرط في جواز التأخير. 247 - وقال بالتأخير أهل المغربِ ... وفي التبادُرِ حصولُ الأرَبِ يعني أن أهل المغرب من المالكية قالوا: إن فعل الأمر للتأخير فقيل: مطلقًا وقيل: بشرط السلامة فإن مات قبل الفعل أَثِم وقيل: لا يأثم إلا إن يظن موته. قوله: "وفي التبادر" إلخ يعني أن التبادر إلى فعل المأمور به يحصل به الأرب أي المقصود وهو امتثال أمر اللَّه تعالى ولو على القول بأنه للتأخير. وقيل: لا يحصل به وهو خلاف الإجماع. 248 - والأرجح القدر الذي يُشْتَرَكُ ... فيه وقيل إنه مشتركُ يعني أن الأرجح في الموضوع له فعل الأمر أنه القدر المشترك فيه الفور والتراخي حذرًا من الاشتراك والمجاز، والقدر المشترك هو طلب الماهية من

(1/156)


غير تعرض لوقت من فور أو تراخ. قوله: "وقيل" إلخ يعني أنه قيل إن فعل الأمر مشترك بين الفور والتراخي أي حقيقة في كل منهما. 249 - وقيل للفور أو العزم وإنْ ... تَقُل بتكرارٍ فوفقٌ قد زُكِن يعني أنه قيل: إنه لواحد من الفور أو العزم، قال حلولو: فالعزم بدل من التقديم، وعلى القول بأنه يفيد التكرار فالاتفاق على أنه للفور "قد زُكِن" أي قد عُلِم عند الأصوليين. 250 - وهل لمرةٍ أو اطلاق جلا ... أو التكرار (1) اختلافُ من خلا يعني أن "من خلا" أي من مضى من العلماء اختلفوا في فعل الأمر هل هو موضوع للدلالة على المرَّة الواحدة وبه قال كثير من الحنفية والشافعية وهو مذهب مالك لأن المرة هي المتيقن. وقال بعضهم: إنه لمطلق الماهية لا لتكرار ولا لمرة وعليه المحققون واختاره ابن الحاجب. وقال بعضهم: إنه للتكرار واستقرأه ابن القصار من كلام مالك. حجة التكرار أنه لو لم يكن له لامتنع ورود النسخ له بعد الفعل قاله القرافي. 251 - أو التكرُّر إذا ما عُلِّقا ... بالشرط أو بصفةٍ تحققا أي وقال بعض العلماء وهو مالك وجمهور أصحابه والشافعية أن الأمر يكون للتكرار إذا عُلِّق بشرطٍ أو صفة خلافًا للحنفية وبعض المالكية، نحو قوله __________ (1) في ط: التكرُّر.

(1/157)


تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} فتتكرر الطهارة والقطع والجَلد بتكرر الجنابة والسرقة والزنى. ولا فرق على ظاهر كلامهم بين كون الشرط والصفة علة كالأمثلة المذكورة أم لا. ومما ينبني على مسألة الخلاف في الأمر هل يفيد التكرر تعدُّدُ السبب مع اتحاد المسبب هل يتعدد بتعدد السبب أو لا كحكاية الأذان فيمن يقول بالتكرُّر مطلقًا وإن عُلِّق بشرطٍ أو صفة تعددت عنده ومن لا فلا. 252 - والأمر لا يستلزمُ القضاءَ ... بل هو بالأمر الجديدِ جاءَ يعني أن الأمر بشيء مؤقت لا يستلزم عند الجمهور القضاء له إذا لم يُفعل في وقته بل القضاء بأمر جديد. وخرج بالمؤقت المطلق وذو السبب فلا قضاء فيهما اتفاقًا. وأشار إلى تعليل ذلك بقوله: 253 - لأنه في زمن مُعينِ ... يجي لما عليه من نفعٍ بُني أي لأن الأمر بفعل في وقت معين إنما يجيء لأجل مصلحة اشتمل عليها ذلك الوقت تختص به، والقضاء بعد ذلك الوقت إنما يكون بأمر جديد يدل على مساواة الزمن الثاني للأول في المصلحة. مثال الأمر الجديد حديث "الصحيحين": "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها" وتقضى المتروكة عمدًا قياسًا على المنسية بالأولى. قاله في "الآيات البينات". 254 - وخالف الرازي إذا المركب ... لكل جزء حكمه ينسحب يعني أن أبا بكر الرازي من الحنفية خالف الجمهور في أن القضاء بأمر جديد فقال: إنه بالأمر الأول نظرًا إلى أصل آخر وهو أن الأمر بالمركب

(1/158)


ينسحب حكمه على كل جزء من أجزائه، فالأمر بفعل في وقت معين إذا لم يفعل في وقته يستلزم عند جمهور الحنفية القضاء في وقت آخر؛ لأن المأمور به مركب من الفعل وكونه في الوقت، ولما تعذر أحد الجزئين وهو خصوص الوقت تعين الجزء الثاني وهو فعل المأمور به نحو: صُم يوم الخميس، مقتضاه إلزام الصوم وكونه في يوم الخميس، فإذا عجز عن الثاني لفواته بقي اقتضاء الصوم. 255 - وليس من أمر بالأمر أمر ... لثالث إلا كما في ابن عمر يعني أن من أمر شخصًا أن يأمر شخصًا ثالثًا بشيء لا يسمّى أمرًا لذلك الشخص الثالث كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر" فإنه ليس أمْرًا للصبيان إلا أن ينص الآمِر على ذلك، أو تقوم قرينة على أن الثاني مبلِّغ عن الآمر الأول، فالثالث مأمور إجماعًا كما في حديث ابن عمر الثابت في "الصحيحين" أنه طلق زوجته وهي حائض فذكره عمر للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "مُرْه فليراجعها". والقرينة الدالة على أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- آمر لابن عمر دخول لام الأمر في قوله: "فليراجعها" ومجيء الحديث أيضا بلفظ: "فأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يراجعها". 256 - والأمر للصبيان نَدْبه نُمِي ... لما رووه من حديث خَثْعَم يعني أن الأمر للصبيان بالمندوبات منسوب للحديث المروي في شأن امرأة من خثعم قالت: يا رسول اللَّه ألهذا حج تشير إلى صبي في حجرها؟ قال: "نعم، ولك أجر" وليس منسوبًا لحديث: "مروهم بالصلاة لسبع".

(1/159)


257 - تعلُّق الأمر (1) بالاختيار ... جوازه رويَ باستظهار يعني أن تعليق الأمر باختيار المأمور به نحو: افعل كذا إن شئت، فيه اختلاف بين العلماء لكن "جوازه رُوي" مع استظهار، والمستظهر له المحلِّي قال: والظاهر الجواز والتخيير قرينة على أن الطلب غير جازم، وقد روى البخاري أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "صلوا قبل المغرب لمن شاء" أي ركعتين، وقيل: لا يجوز لما بين الطلب والتخيير من التنافي. 258 - وآمِرٌ ولفظُه يعمُّ (2) هل ... دَخَل قصدًا أو عن القصد اعتزل يعني أن الآمر بكسر الميم بلفظ يعمه وغيره اختلفوا فيه هل يدخل في قصده لتناول الصيغة له -وصُحِّح ونُسِب للأكثر-؟ أو لا يدخل في قصده لبُعْد أن يريد الآمِر نفسَه -وصُحِّح أيضا ونسب للأكثرين-؟ كقول السيد لعبده: أكرم من أحسنَ إليك، وقد أحسن هو إليه، إلا أن تقوم قرينة على عدم دخوله كقوله لعبده: تصدَّق على من دخل داري، وقد دخلها هو. قال زكرياء: والقرينة على عدم دخوله أن التصدُّق تمليك وهو لا يتصور إذ المالك لا يملِّك نفسَه. 259 - أنِبْ إذا ما سِرُّ حكمٍ قد جرى ... بها كسدِّ خَلَّةٍ للفقرا يعني أن النيابة تجوز وتصح إذا حصل بها أي بالنيابة سر الحكم أي مصلحته التي شُرِع لها، سواء كان الحكم ماليًا كالزكاة فتجوز النيابة فيها __________ (1) ط: تعليق أمرنا. . . (2) ط: بلفظة تعتمّ. . .

(1/160)


لحصول سر الحكم الذي شُرِعت له وهو سد خلة الفقراء، أو بدنيًّا كالحج، إلا لمانع من سر الحكم بأن كان لا يحصل بالنيابة كالصلاة، لأن السر في مشروعيتها الخضوع والتذلل للَّه وذلك لا يحصل بالنيابة. 260 - والأمر ذو النفس بما تعيَّنا ... ووقته مضيَّق تضمّنا 261 - نهيًا عن الموجود من أضداد ... . . . . . . . . . . . يعني أن الأمر النفسي بشيء معين ووقته مضيَّق يتضمن أي يستلزم عقلًا النهي عن الموجود من أضداده، وإليه ذهب أكثر أصحاب مالك، واحدًا كان الضدُّ كضد السكون أي التحرك، أو أكثر كضد القيام أي القعود وغيره. . . . . . . . . . . . . ... أو هو نفسُ النهي عن أندادِ يعني أن الأمر النفسي بشيءٍ مُعين ووقته مضيق قيل: إنه هو نفس النهي عن أنداد أي أضداد ذلك الشيء، وهو قول الأشعري والقاضي وجمهور المتكلمين وفحول النظار. و"أو" لتنويع الخلاف، فالمعنى أن ما يَصْدق عليه أنه أمر نفسي هل يصدق عليه أنه نهي عن ضده أو مستلزم له سواء كان إيجابًا أو ندبًا؟ فالنهي عن الضد في الواجب يكون على وجه التحريم وفي الندب على وجه الكراهة. وبيانُ ذلك أن الطلب واحد هو بالنسبة إلى المأمور به أمر وإلى ضده نهي، وقولنا: "بشيءٍ معين" احترازًا عن المخير فيه بين أشياء فليس الأمر فيه بالنظر إلى مصدقه نهيًا عن ضده منها ولا مستلزمًا له اتفاقًا. واحترز بقوله: "ووقته مضيق" عن الموسّع فيه فلا يُنهى عن ضده.

(1/161)


262 - وبتضمن الوجوب فرَّقا ... بعضٌ وقيل لا يدلُّ مطلقا يعني أن بعض الأصوليين فرق بين أمر الوجوب وأمر الندب فقال: يتضمن الأول النهي عن ضده بخلاف الثاني فإنه لا عَيَّنه ولا يتضمنه لأن الضد فيه لا يخرج به عن أصله من الجواز بخلاف الضد في أمر الوجوب لاقتضائه الذم على الترك. "وقيل لا يدل مطلقًا" أي وقال الأبياري مِنَّا وإمام الحرمين والغزالي من الشافعية: إن الأمر المذكور لا يدل مطلقا على النهي عن ضده. أي: ليس هو عينه ولا يتضمنه أمر وجوب كان أو ندب ومنعوا دليل القولين الأولين. 263 - ففاعلٌ في كالصلاةِ ضدَّا ... كسِرْقَةٍ على الخلافِ يُبْدى يعني أن الخلاف في من فعل في العبادة كالصلاة ضدَّها كالسرقة هل يفسدها أم لا يبدى أي يظهر، ويُبنى على الخلاف في الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا؟ فعلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده تبطل الصلاة بالسرقة فيها، وعلى أنه ليس نهيًا عن ضده ولا يدل عليه لا تبطل الصلاة. وأَدْخَلت الكافُ مَنْ صلى بحرير أو ذهب أو نظر إلى عورةِ إمامِه فيها. ومحل الخلاف إذا لم يدل دليل على الفساد بفعل الضد كالكلام في الصلاة عمدًا، وإلى ذلك أشار بقوله: 264 - إلا إذا النصُّ الفسادَ أبدا ... مثلُ الكلامِ في الصلاةِ عَمْدا أي فإن ورد النص على الفساد للصلاة بفعل ذلك الضد كالكلام في الصلاة عمدًا بطلت الصلاة. قوله: "الفسادَ" بالنصب مفعول مقدَّم لقوله: "أبدا".

(1/162)


265 - والنهي فيه غابرُ الخلاف ... أو أنه أمرٌ على ائتلاف يعني أن النهي النفسي عن شيء معين تحريمًا أو كراهة فيه من الخلاف مثل ما في الأمر النفسي أي هل هو أمر بالضد أو يتضمنه أو لا عَيَّنه ولا يتضمنه، أو نَهْي التحريم يتضمنه دون نهي الكراهة؟ قوله: "أو أنه أمر على ائتلاف" يعني أن النهي يزيد على الأمر قولين: أحدهما: هو أنه أمر بالضد اتفاقًا، وهي طريقة القاضي بناءً على أن المطلوب في النهي فعل الضد، وإنما جرى القطع في جانب النهي دون جانب الأمر لأن النهي أهم لأنه من قبيل درء المفسدة بخلاف الأمر فإنه من قبيل جلب المصلحة ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح لأنه أهم منه. وإلى القول الثاني أشار بقوله: 266 - وقيل لا قطعًا كما في المختصرْ ... وهو لدى السبكيِّ رأيٌ ما انتصرْ أي وقيل: إن النهي عن الشيء ليس أمرًا بالضد لا على وجه المطابقة ولا التضمن اتفاقًا بناءً على أن المطلوب فيه انتفاء الفعل حكى القول ابنُ الحاجب في "مختصره" لكنه عند تاج الدين السبكيّ رأيٌ غير منصور ولا مقبول ولذلك لم يذكره في "جمع الجوامع". 267 - الأمْران غير المتماثلَيْن ... عدَّا كصُمْ نَمْ مُتغايرَيْن يعني أن الأمر إذا تكرر والثاني غير مماثل للأول عُدَّا متغايرين تعاقبا أم لا فيُعْمَل بهما دون عطف كصُمْ نَمْ، أو به وهما غير ضدَّيْن نحو: اركعوا واسجدوا، أم تضادَّا وكانا في وقتين نحو: أكرم زيدًا وأهِنْه، فإن اتحد الزمن

(1/163)


حُمِل الكلام على التخيير ولا يحمل على النسخ. 268 - وإن تماثلا وعطفٌ قد نُفي ... بلا تعاقبٍ فتأسيسٌ قُفي يعني إذا تكرر الأمران وتماثلا من غير عطف ومن غير تعاقب بل تراخى الثاني عن الأول فكون الثاني تأسيسًا أمرٌ مَقْفوٌّ أي مُتَّبع لأنه هو الذي ذهب إليه أهل الأصول وهو الصحيح. 269 - وإن تعاقبا فذا هو الأصحْ ... والضعفُ للتأكيد والوقفِ وضَحْ أي وإن كُرِّر الأمران وتماثلا وتعاقبا نحو: صلِّ ركعتين صل ركعتين "فذا" أي التأسيس هو الأصح ويُعمل بهما كان الأمر للوجوب أو للندب، وعزاه وليُّ الدين للأكثر، لأن الأصل التأسيس لا التأكيد، وضَعْف القول بأنه للتأكيد والقول بالوقف واضح. ومحلُّ كون التأسيس هو الراجح: 270 - ما لم يكن تأسُّسٌ ذا منع ... من عادةٍ ومن حِجا وشرع أي فإن منع من التأسيس مانع عادي نحو: اسقني الماء اسقني الماء، فإن العادة باندفاع الحاجة بمرةٍ واحدة في الأول ترجح التأكيد. أو عقلي نحو: اقتل زيدًا اقتل زيدًا، لكنَّ التأكيد هنا متعين قطعًا. أو شرعي كتكرير العتق في عبد واحد = ترجَّح التأكيد في الأولى وتعين في الأخيرتين. ومن موانع التأسيس كون الأمر الأول مستغرقًا للجنس والثاني يتناول بعض أفراده نحو: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ومنها العهد نحو: صل الركعتين صل الركعتين، وكذا إذا دلَّت قرينة حال على التأكيد.

(1/164)


271 - وإن يكن عطف فتأسيسٌ بلا ... منعٍ يُرى لديهمُ معوَّلا يعني أن الأمر إذا كُرِّر مع العطف فالتأسيس عند عدم المانع منه يُرى عند الأصوليين معوَّلًا عليه ومعتمدًا عليه لأن العطف يقتضي المغايرة، واختاره القاضي. وقال القاضي عبد الوهاب: وهو الذي يجري على قول أصحابنا، وقيل: للتأكيد لأن الأصل براءة الذمة. 272 - والأمر للوجوب بعدَ الحظل ... أو بعد سؤْلٍ قد أتى للأصل يعني أن الأمر اللفظي حقيقة في الوجوب إذا ورد بعد الحظل لمتعلقه عند قدماء أصحاب مالك والباجي [من المتأخرين] وأصحاب الشافعي خلافًا لبعض أصحابنا وأصحاب الشافعي في أنه للإباحة، فمن استعماله في الوجوب قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. ومن استعماله في الإباحة: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}. قوله: "أو بعد سُؤْل قد أتى للأصل" يعني أن الأمر اللفظي إذا ورد بعد سؤال فهو حقيقة في الوجوب كما يقال لمن قال: أأفعل كذا؟ افعله. ومنه في غير الوجوب حديث مسلم: أأصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم" فإنه بمعنى صلِّ فيها. وقوله: "للأصل" تعليل لإتيانه للوجوب أي إنما أتى فيها ذكر للوجوب بناءً على أن الوجوب هو مسمَّى الأمر حقيقة. 273 - أو يقتضي إباحةً للأغلب ... إذا تعلَّقَ بمثل السبب يعني أن الأمر الوارد بعد الحظر يقتضي عند القاضي عبد الوهاب الإباحة "للأغلب" أي لأن الغالب في عرف الشرع استعماله فيها إذا تعلق الحظر السابق

(1/165)


عليه "بمثل السبب" أي بعلة أو شرط أو غاية وورد الأمر بعد ما زال ما عُلِّق عليه، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} فإنَّ حظر الاصطياد أي تحريمه مُعلق على علة هي الإحرام، وقد ورد الأمر بالاصطياد بعد ما زالت تلك العلة. 274 - إلا فذي المذهبُ والكثيرُ ... له إلى إيجابه مصيرُ أي وإلا يكن الحظر السابق على الأمر مُعلقًا على سبب أو شرط أو مانع بأن كان غير معلق على شيء مما ذُكِر "فذي" أي إلإباحة هي مذهب مالك وأصحابه أي هي مدلوله عندهم، والكثير من أهل الأصول لهم مصير إلى إيجابه أي إلى كونه للوجوب، فتحصل في ورود الأمر بعد الحظر ثلاثة أقوال قولان مطلقان وقول مفصل. 275 - بعد الوجوب النهيُ لامتناع ... للجلِّ والبعضُ للاتِّساع يعني أن النهي اللفظي إذا ورد بعد الوجوب فهو لامتناع أي تحريم ذلك الواجب عند جل أهل الأصول، فتقدم الوجوب ليس قرينة صارفة له عن أصل وضعه الذي هو التحريم. وقال بعض الأصوليين: إن النهي بعد الوجوب للاتساع أي الإباحة لأن النهي عن الشيء بعد وجوبه يرفع طلبه فيثبت التخيير فيه. 276 - وللكراهةِ برأيٍ بانا ... وقيل للإبْقا على ما كانا يعني أن النهي الوارد بعد الوجوب بانَ أي ظهر كونه للكراهة في رأي بعضهم، و"قيل للإبقا" أي وقال بعضهم: إن النهي بعد الوجوب للإبقاء على ما كان عليه الفعل المنهي عنه قبله من تحريم لكون الفعل مضرة أو إباحة لكونه

(1/166)


منفعة وإنما هو لإساقط الوجوب فقط ويرجع الفعل إلى ما كان عليه. وأما النهي بعد السؤال فيُحمل على ما يُفهم من السؤال من إيجاب أو ندب أو إرشاد أو إباحة، فصما ورد منه للتحريم خبر مسلم والبخاري عن المقداد قال: أرأيتَ إن لقيتُ رجلًا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم قطعها ثم لاذَ مِنِّي بشجرة فقال: أسلمت، للَّه، أفأقتله يِا رسول اللَّه بعد أن قالها؟ قال: "لا". ومما ورد منه للكراهة حديث مسلم: أصَلِّي في مبارك الإبل؟ قال: "لا". وحديث أنس قال رجل: يا رسول اللَّه الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: "لا". وحديث سعد في الوصية بجميع ماله فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا". حَمَلَه على التحريم مَن فَهِم أن السؤال عن إباحة، ويحتمل أن يكون السؤال عن الندب. 277 - كالنسخ للوجوب عند القاضي ... وجلُّنا بذاك غيرُ راض يعني أن القاضي عبد الوهاب قال: إنه إذا نسخ وجوب الشيء يبقى على ما كان عليه قبل الوجوب من تحريم أو إباحة وصار الواجب بالنسخ كأن لم يكن، وجلنا معاشر المالكية غير راضٍ بذاك أي بما قال القاضي وفاقًا لغير المالكية. 278 - بل هو في القوي رفعُ الحرج ... . . . . . . . . . . . . "بل هو" أي نسخ الوجوب في القول القوي وهو قول الجمهور رفع الحرج عن الفاعل في الفعل والترك من الإباحة والندب عند القرافي والكراهة عند المحلي. وبيانه على ما قال في "شرح التنقيح" إن الأمر دل على جواز الإقدام والنسخ على جواز الإحجام فيحصل مجموع الجوازين من الأمر وناسخه لا من الأمر فقط ولا يرد أن نسخ استقبال بيت المقدس لم يبق معه

(1/167)


الجواز لأن اقتفاء الجواز من دليل آخر لا من مجرد النسخ. . . . . . . . . . . . . ... وللإباحة لدى بعضٍ يجي يعني أن النسخ للوجوب يجي لدى بعض الأصوليين للإباحة بمعنى استواء الطرفين، وإنما حملوه على الإباحة لأنه بارتفاع الوجوب ينتفي الطلب فيثبت التخيير. 279 - وقيل للندب كما في مبطل ... أوجبَ الانتقالَ للتنفل وقال بعض الأصوليين: إن النسخ للوجوب للندب أي إذا نسخ الوجوب بقي الندب إذ المحقق بارتفاع الوجوب انتفاء الطلب الجازم فيثبت الطلب غير الجازم، كما في طُرُوِّ مُبطل الصلاة أوجب الانتقال من الفرض للتنفل أي السلام عن نافلة أي شفع، ووجهه أن الواجب مندوب وزيادة فإذا طرأ ما يبطله بقي المندوب فلا يبطله بالكلية. 280 - وجُوِّز التكليفُ بالمحالِ ... في الكل من ثلاثةِ الأحوالِ يعني أنه يجوز عقلًا أن يكلف اللَّه تعالى عبادَه بفعل مُحال في كل الأحوال الثلاثة أي سواء كان محالًا عادةً وعقلًا كالجمع بين السواد والبياض وهو المحال لذاته أم لغيره وهو الممتنع عادة فقط كالطيران من الإنسان أو عقلًا كالإيمان ممن علم اللَّه أنه لا يؤمن. 281 - وقيل بالمنع لما قد امتنع ... لغير علم اللَّه أن ليس يقع أي وقال بعض المعتزلة وبعض أهل السنة: إن التكليف بالمحال الذي

(1/168)


امتنع لغير تعلق علم اللَّه بعدم وقوعه ممنوع؛ لأنه لظهور امتناعه للمكلفين لا فائدة في طلبه منهم. وأُجيب بأنَّ فائدته اختبارهم هل يأخذون في المقدمات فيترتب الثواب أوْلا فيترتَّب العقاب. وأما الممتنع لتعلُّق عِلْم اللَّه بعدم وقوعه فالتكليف به جائز وواقع إجماعًا وذلك كإيمان أبي جهل. 282 - وليس واقعًا إذا استحالا ... لغيرِ عِلْم ربنا تعالى يعني أن التكليف بالمحال غير واقع في الشريعة إذا كانت استحالته لغير تعلُّق علم اللَّه تعالى بعدم وقوعه بشهادة الاستقراء وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وأما وقوع التكليف بالثاني فلأن اللَّه تعالى كلف الثقلين بالإيمان وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} فامتنع إيمان أكثرهم لعلمه تعالى بعدم وقوعه. 283 - وما وجودُ واجبٍ قد أطلقا ... به وجوبُه به تحقَّقا يعني أن الشيء الذي وجود الواجب المطلق منوط به وجوبه أي ذلك الشيء به أي بسبب وجوب الواجب المطلق قد تحقق عندنا معاشر المالكية وجمهور العلماء سببًا كان ذلك الشيء أو شرطًا إذ لو لم يجب لجاز ترك الواجب المنوط به. فاحترز بالمطلق عن الواجب المقيد وجوبه بسبب أو شرط فأسباب الوجوب وشروطه لا يجب إجماعًا تحصيلها بسبب وجوب ما توقف عليها من فعل كالنصاب يتوقف عليه وجوب الزكاة ولا يجب تحصيله. 284 - والطوقُ شرطٌ للوجوب يُعرف ... إن كان بالمحال لا يُكَلَّف يعني أن الطوق أي قدرة المكلف شرطٌ في وجوب الشيء المتوقف عليه

(1/169)


وجود الواجب المطلق بناءً على مذهب الجمهور من أن اللَّه تعالى لا يكلِّف عباده بالمحال، فإذا كان الشيء المتوقف عليه وجود الواجب المطلق غير مقدور للمكلف فإنه لا يجب بوجوبه، كتوقف فعل العبد بعد وجوبه على تعلق علم اللَّه وإرادته وقدرته بإيجاده فهذا القسم لا يوصف بالوجوب إلا على مذهب من يجوز التكليف بالمحال فلا يقيده بالقدرة. قاله حلولو. ثم مثل للشيء المقدور للمكلف المتوقف عليه وجود الواجب المطلق فقال: 285 - كعلمنا الوضوء شرطًا في أدا ... فرضٍ فأمرُنا به بعدُ بَدا يعني إذا علمنا من الشارع أن الوضوء شرط في أداء فرض الصلاة فأمرنا به أي بالوضوء أي وجوبه علينا بعد أمرنا بالصلاة أي وجوبها علينا بدا أي ظهر لأن الوضوء مقدور لنا. ولا فرق في الوجوب بين كون الشرط شرعيًّا كالوضوء أو عقليًّا كترك ضد الواجب أو عاديًّا كغسل جزء من الرأس لتحقق غسل الوجه فلا يمكن عادة غسل الوجه بدون غسل جزء من الرأس. ومنه إمْساك جزء من الليل للصائم وفيه خلاف عندنا، وهل دلالة دليل الواجب المطلق على وجوب سببه أو شرطه بالتضمن أو الالتزام أو من دليل خارجي؟ أقوال. 286 - وبعض ذي الخُلْف نفاه مطلقا ... . . . . . . . . . . . . يعني أن بعض المخالفين لمذهب مالك نفى وجوب المقدور للمكلف الذي لا يوجد الواجب المطلق إيجابه إلا به بوجوب ذلك الواجب. "مطلقًا" أي سواء كان سببًا أو شرطًا؛ لأن الدال على ذلك الواجب ساكت عنه فالأمر عندهم لا يقتضي إلا تحصيل المقصود لا الوسيلة ولم يعطوا الوسيلة حكم مقصدها.

(1/170)


. ... والبعضُ ذو رأيين قد تفرَّقا يعني أن بعض المخالفين لنا غير المطلقين ذهبوا إلى رأيين مختلفين فبعضهم قال: إنه يجب بوجوبه إن كان سببًا كإمساس النار لمحل يجب إحراقه فإنه سبب لإحراقه عادة، بخلاف الشرط كالوضوء للصلاة، والفرقُ أن السبب لاستناد المسبب إليه أشد ارتباطًا من الشرط بالمشروط لأنه يلزم من وجوده وجود المسبب بخلاف الشرط مع المشروط. وقال إمام الحرمين: يجب إن كان شرطًا شرعيًّا كالوضوء للصلاة لا عقليًّا كترك ضد الواجب أو عاديًّا كغسل جزء الرأس لغسل الوجه فلا يجب بوجوب مشروطه. 287 - وما وجوبُه به لم يَجِبِ ... في رأي مالكٍ وكل مذهب يعني أن الواجب الذي وجوبه مقيد به، أي بالشرط أو السبب، أي بوجوده كالزكاة وجوبها متوقف على ملك النصاب لم يجب بوجوب ذلك الواجب المقيد به "في رأي مالك وكل مذهب" أي فهو أمر مُجمع عليه. 288 - فما به تركُ المحرَّم يرى ... وجوبَ تركه جميعُ من دَرَى يعني أن الشيء الذي تَرْك المحرم منوط بتركه أي متوقّف عليه يَرَى "جميعُ من درى" من العلماء وجوب تركه لتوقف ترك المحرم الذي هو واجب عليه. 289 - وسوِّيَنَّ بين جهلٍ لَحِقا ... بعد التعيُّن وما قد سَبقا يعني أن الجهلَ اللاحقَ بعد التعيين كما لو طَلَّق معينةَ من زوجاته ثم نسيها، والجهلَ السابقَ على التعيين كما لو اختلطت منكوحة بأجنبية أو ميتة

(1/171)


بمذكى = سواء في وجوب ترك الجائز الذي لم يميز عن المحرم فيحرم عليه جميع زوجاته في الأولى، والمنكوحة والمذكى في الثانية لاختلاط الزوجة بالأجنبية والمذكى بالميتة وعدم تمييزهما منهما. ومثل الواجب المطلق المندوب المطلق الذي لا يوجد إلا بعد وجود مقدور للمكلف فإن ذلك المقدور يندب لندب ذلك المطلق. 290 - هل يجبُ التنجيزُ في التمكُّن ... أو مطلق التمكين ذو تعيُّن يعني أنهم اختلفوا في التمكُّن المشترط في التكليف هل يجب فيه التنجيز؟ أي أن يكون ناجزًا بناءً على أن الأمر لا يتوجه إلا عند المباشرة أو يكفي مطلق التمكن؟ أي التمكن في الجملة بناءً على أن الأمر يتوجه قبل المباشرة، وهذا هو الحق. 291 - عليه في التكليف بالشيء عُدِم ... موجِبُه شرعًا خلافٌ قد عُلِم أي ينبني على الخلاف في وجوب التنجيز في التمكن وعدم وجوبه الخلافُ في جواز التكليف عقلًا بالشيء من مشروط أو مسبب المعدوم "موجبه شرعًا" من شرط أو سبب. فمن أوجب التنجيز في التمكن منع التكليف بما ذُكِر ومن لم يوجبه فيه واكتفى بمطلق التمكن جَوَّز التكليف به. وينبني على هذا الخلاف أيضًا الخلاف في وجوب الشرط أو السبب بوجوب الواجب المطلق، فمن أوجب التنجيز في التمكن لم يوجب الشرط أو السبب بوجوب الواجب المطلق، ومن لم يوجبه فيه أوجبه بوجوبه. 292 - فالخلْف في الصحةِ والوقوع ... لأمرِ من كَفَر بالفروع

(1/172)


أي ويُبنى على الخلاف المذكور الخلاف في صحة خطاب الكفار بفروع الشريعة ووقوعه، والقولان موجودان في المذهب من غير ترجيح، ومن شيوخ المذهب من يرجح عدم وقوع خطابهم بها، والقول الأول وهو أنهم مخاطبون بها هو الذي صححه السبكي وعزاه ابن الحاجب للمحققين وحجته قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، وقوله تعالى: {يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الإسلام يجب ما قبله" لأن الجبّ هو القطع وإنما يُقْطَع ما هو متصل فلولا القطع لاستمر التكليف. 293 - ثالثها الوقوعُ في النهي يُرَد ... بما افتقاره إلى القصد انْفَقَد يعني أن ثالث الأقوال هو القول بوقوع تكليف الكافر بالنواهي دون الأوامر لإمكان امتثالها مع الكفر لأن متعلقاتها ترك ولا تتوقف على نية التقرب المتوقفة على الإيمان، لكن هذا القول "يُرَد" عند ابن رشد والفهري والأبياري بالمأمورات التي "انفقد" أي عُدِم افتقارها إلى القصد أي النية كأداء الديون ورد الودائع وكل ما لا يفتقر إلى النية ويصح مع عدم الإيمان. 294 - وقيل في المرتد. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . أي وقال بعضهم: إن تكليف الكفار بالفروع واقع في المرتدين عملًا باستمرار تكليف الإسلام دون الكافر الأصلي وهذا هو رابع الأقوال. . . . . . . . . . . . . . فالتعذيبُ ... عليه والتيسيرُ والترغيبُ

(1/173)


أي ويُبنى على الخلاف في خطاب الكفار بالفروع الخلاف في تعذيبهم عليها وعلى الإيمان معًا في الآخرة. ويُبنى عليه أيضا تيسير الإسلام على الكافر بسبب كثرة فعله للحسنات فييسر له الإسلام. ويُبنى عليه أيضًا ترغيبهم في الإسلام إذا سمعوا أنه يهدم ما قبله من الآثام. 295 - وعلَّلَ المانعُ بالتعذُّرِ ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن المانع من تكليف الكفار بالفروع علَّلَ ذلك بتعذر الإيمان منهم لأنهم لا يطيقونه في الحال لاشتغالهم بالضلال. (وهو) أي التعليل بالتعذر (مُشكلٌ لدى المحرِّر) أي المحقِّق وهو القرافي. 296 - في كافر آمن مطلقًا. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . أي بظاهره وباطنه لكنه كفر بعدم التزام الفروع كأبي طالب فإنه كان يقول: ألم تعلما أنا وجدنا محمدًا نبيًّا ... كموسى خط في أول الكتب (و) استشكله أيضًا . . . . . . . . . . في ... من كُفْره فِعلٌ كإلقا المصحف أي في الكافر الذي كفره فعل كإلقاء المصحف في القَذَر، وإنما استشكل القرافي التعليل المذكور في هذا القسم والذي قبله لأن الإيمان

(1/174)


أو بباطنه فقط كعبد اللَّه بن أُبيّ لعنهما اللَّه. 297 - والرأيُ عندي أن يكون المُدْرَك ... نفيَ قبولها فذا مُشْترك يعني أن الرأي الأصوب عند الناظم أي يكون المدرك أي العلة في عدم خطاب الكفار بالفروع عدم قبولها منهم لكفرهم، لأن الطاعة لا تنفع مع الكفر فلا يكلفون بما لا ينفعهم، وهذا التعليل مشترك بين جميع أقسام الكفر الأربعة. 298 - تكليفُ من أحدَث بالصلاة ... عليه مُجْمعٌ لدى الثقاتِ يعني أن تكليف المحدِث بالصلاة مع تعذُّرها منه في حالة حَدَثه مُجمع عليه عند الثقات أي المجتهدين لكنه مكلف بالطهارة قبلها وهذا الإجماع حجة من لا يشترط التنجيز في التمكن ويصح عنده التكليف بالمشروط حال عدم الشرط. 299 - وربطه بالموجِبِ العقليّ ... حتمٌ بِوَفْق قد أتى جلي يعني أن ربط التكليف لكل أحد بالموجب العقلي كالحياة للعلم وكفهم الخطاب للتكليف بالعمل واجب باتفاق [جلي أي] واضح لا نزاع فيه، وكالشرط العقلي الشرط اللغوي نحو: إن دخلت المسجد فصل ركعتين. وأما الشرط العادي كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه فليس بشرط في صحة التكليف اتفاقًا وإنما الخلاف في الشرط الشرعي كما رأيت. 300 - دخولُ ذي كراهة فيما أُمِر ... به بلا قيدٍ وفصلٍ قد حُظِر يعني أن دخول المكروه الخالي من الفصل في المأمور به إذا كان بعض

(1/175)


جزئياته والأمر غير مقيد بغير المكروه محظور أي ممنوع، والمكروه الخالي من الفصل ما كانت له جهة واحدة أو جهتان بينهما لزوم. هذا هو مذهب الجمهور خلافًا للحنفية في قولهم: إنه يتناوله. أما إن قُيد بغير المكروه فلا يدخل اتفاقًا. 301 - فنفي صحةٍ ونفي الأجر ... في وقت كُرْهٍ للصلاة يجري يعني أنه يجري على عدم دخول المكروه الخالي من الفصل في المأمور به غير المقيد بغير المكروه نفي صحة الصلاة النافلة ونفي ثبوت الأجر فيها إذا وقعت في وقت كره أي وقت تكره فيه الصلاة أي لا تصح ولا يثاب عليها. 302 - وإن يكُ الأمرُ عن النهي انفصل ... فالفِعل بالصحة لا الأجرِ اتَّصل يعني أن الأمر إذا انفصلت جهته من جهة النهي بأن تعددت جهتهما "فالفعل متصل بالصحة لا الأجر" أي موصوف بالصحة ولكن لا أجر فيه، ومعنى كونه صحيحًا أنه لا يطلب من المكلف فعله ثانيًا، كالصلاة في الدار المغصوبة إذ الصلاة والغصب يوجد كل منهما بدون الآخر، وتعدُّد الجهات كتعدد الذوات، فهي مأمور بها من جهة أنها صلاة ومنهيٌّ عنها من جهة الغصب وكل من الجهتين منفكة عن الأخرى، فلذلك ثبتت لها الصحة دون الثواب عقابًا لفاعلها. 303 - وذا إلى الجمهور ذو انتساب ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن هذا الذي ذكر من صحة الصلاة المذكورة وعدم الثواب فيها منسوب إلى الجمهور من المالكية وغيرهم. . . . . . . . . . . . . . ... وقيل بالأجر مع العقاب

(1/176)


أي وقال بعضهم بثبوت الأجر في الصلاة في المكان المغصوب من جهة أنها صلاه مأمور بها مع ثبوت العقاب لفاعلها من جهة الغصب، قال القرافي: ينبغي أن يقابل بين الثواب والإثم فإن تكافئا أو زاد الإثم بطل الثواب، وإن زاد الثواب بقي الزائد منه للمصلي. قلت: وهذا القول هو الأحسن والأظهر عندي. 304 - وقد رُوي البطلانُ والقضاءُ ... . . . . . . . . . . . . . أي وقد روى ابن العربي عن مالك رحمه اللَّه تعالى أنها أي الصلاة في المكان المغصوب باطلة يجب قضاؤها، وهذا هو مذهب الإمام أحمد وأكثر المتكلمين. . . . . . . . . . . . . . ... وقيل ذا فقط له انتفاءُ أي وقال بعضهم وهو القاضي والرازي: إن ذا الأخير وهو القضاء له انتفاء أي منتف عن الصلاة في المكان المغصوب، أي قالا إنها باطلة لكن لا يلزم قضاؤها. قلت: ويمكن أن يقال أيضًا في هذه الصلاة المذكورة أي الصلاة في المكان المغصوب: إنها صحيحة مُثَاب عليها ولا عقاب معها من جهة الغصب لأن الغصب سيئة والصلاة حسنة والأصل في الشريعة محو السيئة بالحسنة لا العكس لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، وليس من شروط صحة الصلاة ولا من أركانها صحة ملك المكان الواقعة فيه، وهذا القول لم أر من صرح به من الأصوليين وأظنني لم أُسْبَق إليه وإنما استنبطته من قوله تعالى:

(1/177)


{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وذلك لأن الصلاة حسنة وشغل ملك الغير بتلك الحسنة سيئة وقد اجتمعا، وقد نصَّ اللَّه تعالى في الآية على أن الحسنة تمحو السيئة وظاهر الآية أنها تمحوها مطلقًا أي سواء اجتمعتا فى وقت واحد كما هنا أو ترتبتا بأن سبقت السيئة الحسنة في الزمن. ثم شرع الناظم يمثل للمأمور به الذي انفردت فيه جهة النهي عن جهة الأمر فقال: 305 - مثلُ الصلاة بالحرير والذهب ... . . . . . . . . . . . . . أي فإنها مأمور بها من جهة أنها صلاة أيضًا ومنهي عنها من جهة الحرير والذهب. . . . . . . . . . . . . . ... أو في مكان الغَصْب. . . . . أي فإنها مأمور بها من جهة أنها صلاة أيضًا ومنهي عنها من جهة الغصب. . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . والوضو انقلب أي وكالوضوء المقلوب أي المنكس فإنه مأمور به جهة كونه وضوءًا منهي عنه من جهة التنكيس. 306 - ومَعْطنٍ ومنهجٍ ومقبره ... كنيسةٍ وذي حميمٍ مجزره أي وكالصلاة في معاطن الإبل، والمنهج أي الطريق، والمقبرة، والكنيسة، وذي الحميم وهو الحمام، والمجزرة أي مكان الجزر، والمزبلة أي مكان طرح الزبل فإن الصلاة في هذه المواضع مأمور بها من جهة أنها صلاة

(1/178)


ومنهي عنها من جهة حيض الناقة وإمناء الجمل في الأول، وخوف النجاسة والتشويش بمرور الناس في الثاني، وخوف النجاسة فقط في الثالث والرابع والسادس والسابع، ووسوسة الشيطان في الخامس. 307 - من تاب بعد أن تعاطى السَّبَبا ... فقد أتى بما عليه وجبا يعني أن من تاب بعد تعاطيه لسبب المعصية على كماله، كالخارج من المكان المغصوب تائبًا أي نادمًا على الدخول فيه عازمًا على عدم العود إليه فقد أتى بالواجب عليه لأن فيه تقليل الضرر، بشرط الخروج بسرعة وسلوك أقرب الطرق وأقلها ضررًا، وبشرط قصد ترك الغصب سواء كانت توبته قبل وجوده مفسدة المعصية أو بعد وجودها وارتفعت بل: 308 - وإن بقي فسادُهُ كمن رجع ... عن بثِّ بدعةٍ عليها يُتبع 309 - أو تاب خارجًا مكان الغصب ... أو تاب بعدَ الرَّمي قبل الضرب يعني أن التائب من المعصية بعد أن تعاطى سببها آب بالواجب عليه وإن بقي فساده، كمن تاب من بدعة بعدما بثها في الناس وقبل أخذهم بها أو بعده وقبل رجوعهم عنها، وكمن تاب من الغصب حال كونه خارجًا من مكان الغصب، وكذا من تاب بعد الرمي للقوس وقبل الضرب أي الإصابة فالتائب في هذه المسائل الثلاثة آتٍ بالواجب عليه خلافًا لأبي هاشم المعتزلي وأبيه أبي علي الجبائي في أنه آتٍ بحرام. 310 - وقال ذو البرهان إنه ارتبك ... مع انقطاعِ النهي للذي سلك أي وقال صاحب البرهان وهو إمام الحرمين: إنه أي التائب بعدما

(1/179)


تعاطى السبب على كماله كالأمثلة المذكورة مرتبك أي مشتبك في المعصية مع انقطاع تكليف النهي الذي هو إلزام الكف عن الشغل وإنما انقطع للذي سلك أي لأخذه في قطع المسافة للخروج تائبًا المأمور به. فاعتبر إمام الحرمين في الخروج جهة معصية وهي الإثم بحصول الضرر بالشغل لملك الغير بالخروج، وجهة طاعة وهي امتثال الأمر بقطع المسافة بالخروج وإن لزمت الأولى من الثانية إذ لا ينفك امتثال الأمر بالخروج عن الشغل بخروجه تائبًا. 311 - وارتكبِ الأخفَّ من ضُرَّيْن ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن ارتكاب أخفّ الضررين عند تقابلهما من أصول مذهب مالك، ومن ثَم جبر المحتكر على البيع للطعام عند احتياج الناس إليه، وجار المسجد إذا ضاق، وجار الطريق والساقية إذا أفسدهما السيل. . . . . . . . . . . . . . ... وخَيِّرن لدى استوا هذين يعني أن المكلف مخير عند استواء الضرين المتقابلين في ارتكاب أيهما شاء وذلك: 312 - كمن على الجريح في الجرحي سقط ... وضَعَّف المُكْثَ عليه من ضَبَط أي كمن سقط على جريحٍ بين جرحى بحيث يقتله إذا بقيَ عليه، وإن انتقل عنه انتقل إلى كُفؤ مماثل له في صفات القصاص فَقَتله لعدم موضع يعتمد عليه إلا بَدَن كُفؤ، فهو مخير عند بعضهم لاستواء المقام والانتقال. وقال قوم:

(1/180)


يمكث وجوبًا لأن الضرر لا يُزال بالضرر مع أن الانتقال فعل مبتدأ بخلاف اللبث. وضَعَّف القولَ بالمكث عليه أي على الجريح المسقوط عليه أولًا من ضَبَط المسألة أي حقَّقها بأن مكثه الاختياري كانتقاله. وقال إمام الحرمين: لا حكمَ في هذه المسألة من إذن أو منع. 313 - والأخذُ بالأول لا بالآخر ... مُرَجَّح في مقتضى الأوامر يعني أن الأخذ بالمعنى الأول أي الأقل والأخف لا بالمعنى الآخر أي الأكثر والأثقل "مرجَّح في مقتضى" أي مدلول الأوامر المعلقة على معنى كلي له جزئيات متباينة في الكثرة، والمرجِّح له القاضي عبد الوهاب وما زاد على المعنى الأول ساقط أو مندوب عنده، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله: 314 - وما سواه ساقط أو مستحب ... لذاك الاطمئنانُ والدَّلْكُ انْجَلَب يعني أن ما سوى المعنى الأول أي الزائد عليه من مقتضى الأمر إما أن يكون ساقطًا وإما أن يكون مستحبًا. قوله: "لذاك" إلخ، يعني أن ذاك الخلاف في الأخذ بمقتضى الأمر هل بأوله أو بآخره انجلب له أي انبنى عليه الاطمئنان والدَّلْك؟ فعلى ما رجَّحَه عبد الوهاب يكون الواجب أقل ما يطلق عليه اسم الطمأنينة والزائد عليه مستحب، ويكون الواجب في الدلك أقل ما يُطلق عليه اسم الدلك والزائد عليه ساقط. وعلى القول الثاني يكون الواجب فيهما أكثر ما يطلق عليه اسم الطمأنينة والدلك احتياطًا. حجة القول المرجَّح الجمع بين دلالة الأمر على الوجوب وكون الأصل

(1/181)


براءة الذمة، وحُجة الثاني الاحتياط. وليست القاعدة خاصة بالأمر بل هي عامة في كل لفظ له معنى كُلِّي له جزئيات متباينة في الكثرة، فتدخل فيها أيْمان الطلاق وسائر الألفاظ المحتملة، كمن حلف بالحرام وحنث هل تُحمل يمينه على أدنى ما تحتمله وهو طلقة بائنة أو على أعلاه وهو الثلاث؟ ورُجِّح القول بحَمْلِه على طلقةٍ بائنة حيث لا نية له سوى مطلق التحريم إذا لم يجر عرف باستعمال الحرام في ثلاث طلقات، وهو الذي أحْكُم به وأُفتي. 315 - وذاك في الحكم على الكُلِّيِّ ... مع حُصول كثرةِ الجُزْئي يعني أن الخلاف في الأخذ بالأخف أو الأثقل المذكور في البيتين قبل محله في الحكم على الكلي الذي له جزئيات أكثر من واحد وتلك الجزئيات متفاوتة بالشدة والخفة كما رأيت. 316 - وربما اجتماع أشياء انحظل ... مما أتى الأمرُ به على البدل 317 - أو الترتُّبِ. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . أي وربما انحظل أي امتنع اجتماع شيئين أو أشياء مما أتى من المأمورات الأمر به على البدل والترتب. الأول: كتزويج المرأة من كُفئين فإنه مأمور به على سبيل البدل بأن تزوج لأحدهما مكان الآخر ويحرم الجمع بينهما. والثاني: كأكل المذكى والميتة فإنه مأمور به لكن على الترتيب فلا يجوز أكل الميتة إلا عند عدم المذكى في حال الضرورة ويحرم الجمع بينهما.

(1/182)


… … … … وقد يُسَنُّ ... وفيه قُل إباحةٌ تعنُّ أي وقد يُسن الجمع بين الشيئين أو الأشياء. و"تعنّ" أي تعرض فيه الإباحة أيضًا فيباح الجمع بينهما. فالأول: كستر المحرم عورته بثوبين يكفيه واحد منهما، لكن يُنْدَب له الجمع بينهما بأن يجعل أحدهما رداء والآخر أزرة. والثاني: كالجمع بين التيمم والوضوء لمن حُكْمه التيمم وتحمَّل المشقة وتوضأ بعد أن تيمم.

(1/183)


 الواجب الموسع

أي هذا مبحثه. 318 - ما وقته يسعُ منه أكثرا ... وهو محدودًا وغيرَه جرى يعني أن الواجب الموسَّع هو: "ما" أي الفعل الواجب الذي يسع وقته المقدر له شرعًا أكثر منه، "وهو" أي الوقت المقدَّر له شرعًا جرى حال كونه محدودًا كأوقات الصلوات الخمس وغير محدود بل مُغَيَّى بالعمر كوقت الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والحج وقضاء الفوائت على القول بالتراخي. 319 - فجوَّزوا الأدا بلا اضطرار ... في كل حصَّةٍ من المختار أي فعلى القول بالواجب الموسع يجوز أداء الفعل الواجب المؤقت في كل حصة أي جزء من الوقت المختار المقدر له شرعًا "بلا اضطرار" دون اشتراط ضرورة إذا كانت تلك الحصة آخره ولا يشترط في جواز التأخير العزم على الفعل. 320 - وقائلٍ منا يقولُ العزمُ ... على وقوع الفَرْض فيه حَتْم يعني أن قائلًا منا معاشر المالكية وهو القاضيان عبد الوهاب والباقلاني يقولان: إن العزم على إيقاع الفعل الواجب فيه أي الوقت المختار المقدر له شرعًا حَتْم أي واجب بدلًا من التقديم مع أنه قائل أيضًا بالواجب الموسَّع، ومن المالكية من يقول بجواز التأخير لآخر المختار من غير عزم على إيقاعه فيه وهو الباجي.

(1/184)


321 - أو هو ما مكلَّفٌ يُعَيِّن ... . . . . . . . . . . . . . أي وقيل: إن وقت الأداء هو ما يُعينه المكلَّف للأداء لا تَعْيينَ له غير ذلك، نقله الباجي عن بعض المالكية. . . . . . . . . . . . . . ... وخلفُ ذي الخلافِ فيه بَيِّن يعني أن الخلاف بين المخالفين لنا في الواجب الموسع بَيِّن أي ظاهر، وأشار إلى تفصيل ذلك: 322 - فقيل الآخر. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . أي فقال بعضهم: وقت أداء الواجب الموسَّع الآخر أي آخر الوقت لانتفاء وجوب الفعل قبله، وهو بعض الحنفية. . . . . . . . . . . وقيل الأول ... . . . . . . . . . . . . . أي وقال بعضهم: إن وقت أدائه أول الوقت لوجوب الفعل أو الوقت فإن أُخر عنه فقضاء وإن فُعِل في الوقت فيأثم بالتأخير عن أوله، وهذا القول لبعض الشافعية. وعلى القول بأن وقت أدائه آخر الوقت فمن عَجَّله أوله فتعجيل للواجب مُسقط له، وقيل: نَفْل ناب مناب فرض. . . . . . . . . . . . . . ... وقيل ما به الأدا يتصل أي وقال بعضهم أيضًا: إن وقت أداء الواجب الموسع هو "ما" أي الجزء الذي يتصل به الأداء أي وقع فيه، فإن لم يقع الفعل في الوقت فوقت أدائه الجزء الآخر من الوقت لتعيينه للفعل فيه حيث لم يقع فيما قبله.

(1/185)


323 - والأمر بالواحدِ من أشياء ... يوجب واحدًا على استواءِ يعني أن الأمر بالواحد المبهم من أشياء مختلفة مُعينة يوجبُ واحدًا منها "على استواء" أي غير معين بل تلك الأشياء مستوية فيه، وذلك هو القَدْر المشترك بينها في ضمن أيِّ مُعَيَّن منها لأنه المأمور به، ولا فرق في ذلك الواحد المبهم بين المتواطئ كـ "اعتق هذا العبد وهذا العبد" والمشكَّك كما في آية كفارة اليمين فإن الواجب فيها واحد لا بعينه الإطعام والكسوة والعتق.

(1/186)


 [فصل ذو الكفاية]

324 - ما طلب الشارع أن يُحَصَّلا ... دون اعتبارِ ذاتِ من قد فعلا يعني أن فرض الكفاية هو: "ما" أي الفعل الذي طلب الشارع تحصيله من غير اعتبار ذات فاعله، أي من غير نظر إلى فاعله إلَّا بالتَّبَع للفعل ضرورة أنه لا يحصل دون فاعل فيشمل ما هو ديني كصلاة الجنازة وما هو دنيوي كالحرف المهمة. وخرج بقوله: "دون اعتبار ذات" فاعله ذو العين لطلب حصوله من كل عين. 325 - وهو مفضَّلٌ على ذي العين ... في زعمِ الاستاذ مع الجويني يعني أن المطلوب على وجه الكفاية مفضل على المطلوب ذي العين في زعم الأستاذ أبي إسحاق وأبي محمد الجويني وابنه إمام الحرمين أي فهو أكثر ثوابًا عندهم من العيني لأنه يُصان بقيام البعض به جميعُ المكلفين عن الإثم المرتَّب على تركهم له، والعيني إنما يُصان بالقيام به عن الإثم البعض القائم به خاصة، وعبر الناظم بالزعم تنبيهًا على ضعف هذا القول تابعًا في ذلك السبكي. 326 - مِزْه من العين بأن قد حُظِلا ... تكرير مصلحته إن فُعِلا يعني أن المطلوب على الكفاية يميز عن المطلوب من كل عين بأن الأول قد حُظِل أي مُنِع تكريرُ مصلحته إن فعل ثانيًا كإنقاذ الغريق. فإذا شيل من البحر فالنازل فيه بعد ذلك لا يحصل مصلحة بخلاف الثاني. فإنه تتكرر مصلحته بتكرره كالصلوات الخمس فلذلك شرع على الأعيان تكثيرًا للمصلحة.

(1/187)


327 - وهو على الجميع عند الأكثر ... لإثمهم بالتَّرْك والتعذُّر يعني أن ذا الكفاية فرضًا كان أو ندبًا مشروع على جميع المكلفين عند الجمهور، والحجة في ذلك إثم الجميع بتركه وتعذر خطاب المجهول، ولقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}. وأما قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ} إلخ، وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية، فإن القرافي استدل بالآيتين على أن الوجوب متعلق بالقدر المشترك لأن المطلوب فعل إحدى الطوائف ومفهوم إحداها قدر مشترك بينها لصدقه على كل طائفة منها. 328 - وفعلُ ما به يقومُ مُسْقِط ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن فعل القائم به مسقط لطلبه من الباقين على مذهب الجمهور. (وقيلَ) أي وقال بعض المخالفين للجمهور ومنهم الإمام الرازي: إن المطلوب على الكفاية (بالبعض فقط يرتَبِطُ) أي يتعلق بالبعض فقط لا بالجميع حال كون ذلك البعض: 329 - معينًا. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . عند اللَّه، مبهمًا عندنا يَسْقط الطلب بفعله وفعل غيره كما يسقط الدين عن الشخص بأداء غيره. . . . . . . . . . أو مبهمًا أو فاعِلًا ... . . . . . . . . . . . . . أي غير معين إذ لا دليل على تعيينه واختاره الأبياري، فمن قام به سقط

(1/188)


الطلب بفعله. . . . . . . . . . . . . . ... خلْفٌ عن المخالفين نُقِلا يعني أن ما ذُكِر خُلْف منقول عن المخالفين للجمهور. ونقل الرهوني أن البعض المطلوب منه ذو الكفاية القوم الذين شهدوا ذلك الشيء والشهود أعم من القياس به. 330 - ما كان بالجزئي ندبُه عُلِم ... فهو بالكلي كعيدٍ مُنْحتم يعني أن ما كان مندوبًا بالنظر إلى جزئياته فهو بالنظر إلى كُلِّيه أي مُطلقه منحتم أي واجب، كصلاة العيدين وصلاة الجماعة والأذان في المساجد، فهذه الثلاثة واجبة كفاية على الجملة لأنها لو تركها أهلُ بلدٍ قوتلوا، مندوبة على الكفاية أيضًا من كل شخص في خاصَّة نفسه. 331 - وهل يعيّن شروع الفاعل ... في ذي الكفاية خلافٌ منجلي يعني أنهم اختلفوا في المطلوب على الكفاية هل يتعين بشروع فاعله فيه فيصير فرض الكفاية فرض عين ومندوب الكفاية مندوب عين أوْ لا يتعين به؟ "خلاف منجلي" أي مُتَّضِح. [قال] حلولو: والأقرب أنه لا يتعين بالشروع أي إن كان ثَمَّ من يقوم به إلا فيما قام الدليلُ على تَعَيُّنه به كصلاة الجنازة بخلاف تكفين الميت ودفنه. 332 - والخلفُ في الأجرة للتحمُّل ... فرعٌ على ذاك الخلافِ قد بُلي يعني أن الخلاف في أخذ الأجرة على التحمل للشهادة بعد الشروع فيه

(1/189)


فرع "قد بُلي" أي عُلِم بناؤه على ذاك الخلاف في تعين ذي الكفاية بالشروع، فمن قال: يتعين به منع لأن المعين لا تؤخذ عليه الأجرة، ومن قال: لا يتعين أجاز أخذَها. 333 - وغالب الظن في الإسقاط كفى ... وفي التوجُّه لدى من عُرِفا يعني أن غلبة الظن بأن المطلوب على الكفاية فُعِل أي قامَ به أحد تكفي في إسقاط الخطاب به عمن لم يفعله، وغلبةُ الظن أنه لم يقم به أحدٌ تكفي في توجُّه الخطاب عليه "لدى من عُرِفا" أي لدى أهل المعرفة بهذا الفن كالإمام الرازي والقرافي خلافًا للفهري. ثم شرع الناظم في تعداد فروض الكفاية فحصرها بالعد بعدما حصرها مع مندوباتها بالحد فقال: 334 - فروضه القضا. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . أي هو أولها وهو الإخبار بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام، وحِكْمته دفع التخاصم المفضي إلى الفساد بين المسلمين. . . . . . . . . . . . كنهيٍ أمرِ ... . . . . . . . . . . . . . أي ثانيها وثالثها النهي عن المنكر والأمر بالمعروف حيث لم يُنَصَّب أحد لهما وإلا تعين عليه. (ردِّ السلام) على البادي به وهذا رابعها. (و) خامسها (جهاد الكفر) في كل سنة في أهم جهة على السلطان والناس معه.

(1/190)


335 - (فتوى) أي سادسها الفتوى أي القيام بها وهي الإخبار بالحكم الشرعي لا على سبيل الإلزام. (و) سابعها (حفظ ما سوى المثاني) أي حفظ القرآن سوى الفاتحة فإنها فرض عين وسورة معها فإنها سنة عين. وثامنها (زيارة الحرام ذي الأركان) أي البيت الحرام كل سنة إلا لعذر لا يستطاع معه الوصول إليه. 336 - (إمامة منه) أي من فرض الكفاية وهي نصب السلطان الأعظم ويأثم بتركها أهل الحل والعقد والصالح للقيام بها، وهذا هو تاسعها. [وعاشرها (دفع الضرر) عن الأنفس والأموال التي لا تستحقه شرعًا كفداء الأسرى ودفع الصائل عن المصول إليه، وإطعام الجائع، وستر العورة] (1). (و) حادي عشرتها (الاحتراف) المهم كالحراثة والتجارة فإنه معدود من فروض الكفاية. (مع سد الثغر) عن المسلمين وهو ما يلي دار الحرب وموضع المخافة من فروج البلدان، وهذا هو الفرض الثاني عشر. 337 - والثالث عشر (حضانة) اللقيط وكذا التقاطه. والرابع عشر (تَوَثُّق) أي كتب الوثائق. (شهادة) أي تحملها لئلا تضيع الحقوق وهو الخامس عشر. والسادس عشر (تجهيز ميت) أي القيام بمؤنته كدفنه وكفنه وغسله. __________ (1) سقط من الكتاب واستدركناه من "النشر": (1/ 192).

(1/191)


(وكذا العيادة) أي عيادة المرضى وكذا تمريضهم وهذا هو السابع عشر. 338 - والثامن عشر (ضيافة) الواردين لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة وضيافته ثلاثة وما كان بعد ذلك صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يُحرجه". قال مالك: الضيافة إنما تتأكد على أهل القرى والبوادي ولا ضيافة في الحضر لوجود الفنادق وغيرها لأن القرى يقل الوارد إليها فلا مشقة بخلاف الحضر. قلت: فظاهر الحديث وكلام مالك أن الضيافة واجبة على أهل قصورنا هذه كـ "ولات" و"تشيت" لأن الحديث يعم البدوي وغيره ولأن مالكًا سوَّى بين القرى والبادية في وجوب الضيافة وقصورنا هذه قرى لا مدن. وعلَّل أيضًا مالك عدم وجوب الضيافة على أهل الحضر بوجود الفنادق أي الأسواق فيها فيتيسر شراء الطعام للوارد عليها ولا فنادق في قصورنا هذه ولا طعام يباع فيها سوى كسر المؤن والفوج وهذان لا يباعان إلا بالزرع وأكثر الواردين لا زرع عنده وهذان أيضًا لا يوجدان غالبًا إلا في وقت الضحى وأكثر الواردين لا يأتي إلا ليلًا أو آخر النهار. والتاسع عشر (حضور من في النزع) أي من احتضره الموت. (و) العشرين (حفظ سائر علوم الشرع) من تفسير وحديث وفقه لقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية. وكذا ما كان وسيلة لعلوم الشرع كالنحو والبيان واللغة والأصول. تنبيه: من فروض الكفاية أكل اللحم وتشميت العاطس أي ومحل كون هذه الفروض على الكفاية إذا تعدد من يقوم به فإن انفرد كان فرض عين عليه

(1/192)


وكذلك في المندوبات. 339 - وغيره المسنون كالإمامه ... والبدء بالسلام والإقامه يعني أن غير المفروض على الكفاية المسنون على الكفاية والمراد به ما يشمل المندوب كالإمامة للصلاة والإقامة لها أيضًا، والبدء بالسلام، وكالأذان وما يفعل بالأموات من المندوبات.

(1/193)


النهي أي هذا مبحث النهي النفسي. 340 - وهو اقتضاء الكفِّ عن الفعل ودع ... وما يضاهيه كذَرْ قد امتنع يعني أن النهي النفسي هو اقتضاء أي طلب الكف أي الترك طلبًا جازمًا عن الفعل أي الأمر فعلًا كان أو قولًا أو نية "ودع وما يضاهيه" أي وما يشابهه كذر واترك وخل قد امتنع دخوله في مدلول النهي فلا يسمى نهيًا. 341 - (وهو) أي النهي النفسي (للدوام) أي يدل عليه دلالة الالتزام للزوم الدوام لامتثال النهي (والفور) أي يدل عليه إجماعًا أو على المشهور وذلك (متى عدم تقييدٍ بضدٍّ ثَبتَا) أي ما لم يقيد بالمرة أو التراخي فإن قُيد بالمرة كانت مدلوله وضعًا، وإن قُيد بالتراخي حُمِل عليه. 342 - واللفظ للتحريم شرعًا وافترق ... للكُرْه والشِّرْكة والقَدْر الفِرَق يعني أن صيغة النهي حقيقة في التحريم شرعًا، وقيل: لغة، وقيل: عقلًا عند المالكية، وافترق الفرق المخالفة لهم، فمنهم من قال بها للكراهة حقيقة، ومنهم من قال بالشِّرْكة إنها مشتركة بين التحريم والكراهة، ومنهم من قال للقَدْر المشترك بين التحريم والكراهة وهو مطلق طلب الترك جازمًا أم لا. 343 - وهو عن فرد وعما عُدِّدا ... جمعًا وفرقًا وجميعًا وُجِدا يعني أن وُجِد عن فرد أي عن معنى واحد نحو: لا تزن، وعن جمع

(1/194)


المتعدد نحو: لا تتزوج هندًا وأختها فعليه ترك أحدهما فقط، وعن فرق المتعدد كالنهي عن التفريق بين النعلين بلبس أو نزع الثابت في "الصحيحين". وقد يوجد عن جميع المتعدد أي عن كل فرد منه كقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} فإن "أو" بمعنى الواو أي لا تطع واحدًا منهما. قوله: "جمعًا وفرقًا وجميعًا" تمييزات محولات عن المضاف. 344 - وجاء في الصحيح للفساد ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن النهي لفظيًّا كان أو نفسيًّا، تحريمًا كان أو تنزيهًا في العبادات والمعاملات مستلزم للفساد أي فساد المنهي عنه، والمراد بالفساد هنا لازمه وهو عدم الاعتداد بالمنهي عنه إذا وقع. والمراد النهي المطلق أي غير المقيد بما يدل على الصحة، فإن قُيد بذلك فهو للصحة، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله: . . . . . . . . . . . . . ... إن لم يجي الدليل للسداد أي إن لم يدل دليل على السداد أي الصحة، فإن دل دليل على الصحة فهو لها كالطلاق في الحيض يترتب عليه أثره الذي هو وقوع الطلاق، وإنما كان النهي يدل على الفساد. 345 - لعدم النفع وزَيْد الخلل ... . . . . . . . . . . . . . لعدم المصلحة في النهي عنه ولزيادة الخلل أي الفساد فيه على المصلحة. والقائل بأن النهي للصحة مطلقًا هو أبو حنيفة، ومذهب مالك أنه يدل على الفساد إذا كان لأمر داخل في الذات أو خارج لازم لها مع إفادته شبهة الصحة.

(1/195)


قوله: . . . . . . . . . . . . .... ومُلْك ما بيعَ عليه ينجلي 346 - إذا تغيَّر بسوقٍ أو بدن ... أو حقُّ غيره به قد اقترن أي ينبني على كون النهي يفيد الفساد وشبهة الصحة صحة ملك المشتري لما بيْع بيعًا حرامًا إذا تغير المبيع لتغير سوقه أو تغير بدنه بهلاك أو غيره أو اقترن به تَعلق حق غير المشتري كما إذا وهبه أو باعه أو أعتقه أو آجره فيملكه المشتري حينئذٍ بالقيمة. 347 - وبثَّ للصحة في المدارس ... معلِّلًا بالنهي حِبْر فارس يعني أن حِبْر فارس وهو أبو حنيفة بث في مجالس درسه أن النهي يقتضي الصحة، وعلَّل ذلك بالنهي أي بأن النهي عن الشيء يقتضي إمكان وجوده شرعًا وإلا امتنع النهي عنه. فعلى مذهب أبي حنيفة يترتب الملك وسائر الآثار من جواز التصرف ووطء الأمة على مجرد وقوع البيع من غير احتياج إلى موقت؟ 348 - والخُلْف فيما ينتمي للشرع ... وليس فيما ينتمي للطبع يعني أن الخلاف بين القائل بأن النهي يقتضي الفساد والقائل بأنه يقتضي الصحة إنما هو في الصحة الشرعية وليس الخلاف في الصحة الطبعية أي العادية. قال القرافي: اتفق الناس على أنه ليس في الشريعة منهي عنه ولا مأمور به ولا مشروع على الإطلاق إلا وفيه الصحة العادية. 349 - الإجزاء والقبول حين نُفيا ... لصحةٍ وضدها قد رُوِيا

(1/196)


أي روي عن الأصوليين قولان في نفي الإجزاء والقبول هل نفيهما يدل للصحة أو يدل لضدها الذي هو الفساد؟ حجة الأول: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أتى عرَّافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا". وقوله: "إذا أبَقَ العبد من مواليه لم تقبل له صلاة حتى يرجع إليهم" رواهما مسلم. ومعلوم أن صلاة سائل العراف والعبد الآبق صحيحة لعدم طلب فعلها منهما ثانيًا لكنها غير مقبولة أي لا ثواب فيها، وهذا بناءً على أن الإجزاء إسقاط القضاء وأنَّ نفي القبول ظاهر في عدم الثواب دون عدم الاعتداد. وحجة القول الثاني: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن". وقوله: "لا يقبل اللَّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". وهذا بناءً على أن الإجزاء الكفاية أي سقوط الطلب وأن نفي القبول ظاهر في عدم الاعتداد.

(1/197)


العام أي هذا مبحثه. 350 - ما استغرق الصالح دَفْعةً بلا ... حصر من اللفظ كعشرٍ مثلا يعني أن العام هو اللفظ الذي يستغرق جميع المعاني الصالحة له أو الصالح هو للدلالة عليها دفعة من غير حصر. قوله: "من اللفظ" بيان لـ "ما"، والمراد بـ "الصالح" جميع الأفراد باعتبار الوضع الذي استعمل اللفظ باعتباره حقيقة كان أو مجازًا. وقوله: "بلا حصر" أي في اللفظ ودلالة العبارة فخرج ما فيه حصر كاسم العدد من جهة الآحاد فإنه يستغرقها بحصر كألف وعشر، ومثله النكرة المثناة من حيث الآحاد كرجلين. وخرج بقوله: "دَفْعة" النكرة في الإثبات فإنها تستغرق ما تصلح له لكن لا دفعة بل على سبيل البدل. 351 - وهو من عوارض المباني ... وقيل للألفاظ والمعاني يعني أن الصحيح عند السبكي أن العموم من عوارض المباني أي الألفاظ، يعني أنها توصف به فيقال: لفظ عام. وقال ابن الحاجب والعضد وغيرهما: إن العموم يكون عَرَضًا أي وصفًا للألفاظ والمعاني معًا، فكما يصدُق "لفظ عام" يصدُق "معنى عام" حقيقة ذهنيًّا كان كمعنى الإنسان أو خارجيًّا كمعنى المطر والخصب. 352 - هل نادرٌ في ذي العمومِ يدخل ... ومطلقٍ أو لا خلافٌ يُنْقَل

(1/198)


يعني أنهم اختلفوا في دخول الصورة النادرة في حكم العام والمطلق، والخلاف منقول عن أهل المذهب، والنادر هو الذي لا يخطر ببال المتكلم لندرة وقوعه. 353 - فما لغير لذَّةٍ والفيلُ ... ومشبِهٌ فيه تَنافى القيلُ يعني أن القيل أي القول تنافى أي اختلف في المنيّ الخارج لغير لذة أو للذة غير معتادة، هل يلزم منه غسل أم لا؟ وفي الفيل هل تجوز المسابقة عليه أم لا؟ وفي ما يشبه ذلك، فعلى القول بدخول الصورة النادرة في حكم العام والمطلق يلزم الغسل من المنيّ ألخارج بغير لذة أو بلذة غير معتادة، وتجوز المسابقة في الفيل، لدخول الأول في عموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الماء من الماء"، ودخول الثاني في إطلاق قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا سَبق إلا في خُف أو حافر" لأن الفيل من ذوات الخف. وعلى القول بعدم دخول الصورة النادرة في العام والمطلق لا يلزم الغسل من المنيّ المذكور، ولا يجوز السَّبق في الفيل بناءً على عدم دخولهما في عموم الحديثين المذكورين. وعدم لزوم الغسل من المني المذكور هو المشهور. 354 - وما من القصد خلا فيه اخْتُلِف ... . . . . . . . . . . . . . أي وقع الخلاف بين الأصوليين في غير المقصود هل يدخل في حكم العام والمطلق أم لا؟ حكى ذلك الخلاف القاضي عبد الوهاب. مثال غير المقصود: ما لو وكَّلَه على شراء عبيد فلان وفيهم من يعتق عليه، هل يصح شراؤه أم لا؟ والاختلاف في اعتبار غير المقصود مبني على الخلاف في

(1/199)


تعارض اللفظ والقَصْد هل يعتبر اللفظ أو القصد؟ . . . . . . . . . . . . . ... وقد يجيءُ بالمجاز مُتَّصف يعني أن العام قد يجيء متصفًا بالمجاز نحو: جاءني الأُسُود الرماة إلا زيدًا، خلافًا لبعض الحنفية القائل: إن المجاز لا يكون عامًّا. 355 - مدلوله كُلِّية إنْ حَكَما ... عليه في التركيب من تكلَّما يعني أن مدلول العام في التركيب أي في حال التركيب إذا حكم عليه المتكلم أي من جهة الحكم عليه "كُلية" أي الحكم على كل فرد مما يتناوله اللفظ مطابقة إثباتًا أو نفيًّا، والإثبات الخبر والأمر، والنفي يدخل فيه النهي نحو: جاء عبيدي وما خالفوا فأكرمهم ولا تهنهم، لأن الأول جمع معَرَّف بالإضافة والضمائر الباقية عائدة إليه، والعائد على العام عام، فقد اشتمل الكلام على الخبر والأمر والنفي والنهي، وحكم عاى العام بكل واحد منها في قوة قضايا بعدد أفراده، أي: جاء فلان وفلان إلخ وما خالفَ فلان وما خالف فلان إلخ، وأكرم فلانًا وأكرم فلانًا إلخ، ولا تُهِن فلانًا ولا تهن فلانًا إلى آخر الأفراد. فاحترز بقوله: "في التركيب" عن العام قبل التركيب إذ لا يتصور كونه كلية. وقوله: "إن حَكَما عليه في التركيب من تكلما" يريدا وحكم به نحو: الساكن في الدار عبيدي، والمراد بالحكم ما يشمل التعلق. 356 - وهو على فردٍ يدلُّ حتما ... وفهمُ الاستغراقِ ليس جزما يعني أن العام يدل على فرد واحد دلالة "حتمًا" أي دلالة قطعية، والمراد بالفرد الواحد ما ليس جمعًا ولا تثنية، والاثنان في التثنية والثلاثة في الجمع.

(1/200)


"وفهم الاستغراق" منه لجميع أفراده "ليس جزمًا" أي ليست دلالته على كل فرد من أفراده دلالة قطعية بل هو أمر راجح أي مظنون، لأن الألفاظ ظواهر فلا تدل على القطع إلا بالقرائن كما أنها لا تسقط دلالتها إلا بالقرائن، وهذا هو المختار عند المالكية. وهذا هو معنى قوله: 357 - بل هو عند الجُلِّ. . . . ... . . . . . . . . . . . . . أي الجمهور من المالكية وغيرهم (بالرجحان) أي الظن القوي. . . . . . . . . . . . . . ... والقطعُ فيه مذهب النعمان يعني أن إفادة القطع أي اليقين "فيه" أي العام، أي أنه يدل على ثبوت الحكم لكل فرد مما يتناوله اللفظ دلالة قطعية، هو مذهب أبي حنيفة النعمان. 358 - ويلزمُ العمومُ في الزمان ... والحالِ للأفرادِ والمكان يعني أن العموم في الأزمان والأحوال أي الصفات والأمكنة يلزم من عموم العام لأفراده إذ لا غنى للأفراد عن هذه الثلاثة، فقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الآية، أي كلُّ زانٍ على أي حال كان من طول وقصر وبياض وسواد وغير ذلك، وفي أي زمان كان، وفي أي مكان كان. هذا هو مذهب السبكي ووالده والسمعاني. 359 - إطلاقه في تلك للقرافي ... وعمَّمَ التقيْ إذا يُنافي يعني أن القرافي والآمدي والأصبهاني قالوا: إن العام في الأفراد مطلق في الأزمان والأمكنة والأحوال لانتفاء صيغة العموم فيها، فما خُص به العام

(1/201)


مبين للمراد بما أُطلق فيه. قوله: "وعمم التقي" إلخ، يعني أن تقي الدين ابن دقيق العيد قال بعموم الأفراد في المتعلقات: "إذا ينافي" الإطلاق أي ما يلزم عليه من الاكتفاء بالعمل بالمطلق مرة واحدة صيغة العموم، فإذا كان الإطلاق أي ما يلزم عليه منافيًا لصيغة العموم كان العام في الأفراد عامًّا في الأزمان والأمكنة والأحوال محافظةً على مقتضى صيغة العموم، لا من حيث أن المطلق يعم، فإذا قال: من دخل داري فأعطه درهمًا، فدخل قوم في أول النهار وأعطاهم لم يَجُز حرمان غيرهم ممن دخل آخر النهار لكونه مطلقًا فيما ذكر لما يلزم عليه من إخراج بعض الأشخاص بغير مخصِّص. 360 - صِيَغهُ كلُّ أو الجميعُ ... وقد تلا الذي التي الفروعُ هذا شروع منه في تعداد أدوات العموم وهي نحو عشرين، فمنها "كل" وهي أقوى صيغ العموم ولذلك قدمها. و"الجميع" ولابد من إضافة كل منهما للفظ حتى يحصل العموم فيه. ومن صِيَغه أيضًا "الذي والتي" وفروعهما نحو: أكرم الذي يأتيك والتي تأتيك، أي كل آتٍ وآتيةٍ لك، حيث لم تكن الصلة معهودة بين المتكلم والسامع وإلا فلا عموم. 361 - أينَ وحيثُما ومَن أيٌّ وما ... شَرْطًا ووصْلًا وسؤالًا أفهما يعني أن من صِيَغ العموم "أين وحيثما" المكانييم الشرطيين، نحو: أين أو حيثما كنت آتك، وتزيد أين بالاستفهام نحو: أين كنت؟ ومنها أيضًا: "من وأي وما" سواءٌ أَفْهَم كلٌّ من الثلاثة شرطًا أو موصولية أو استفهامًا. واستشكل جعل الموصول من صيغ العموم مع أنه لابد من العهد في

(1/202)


صلته، وأجيب بأن العهد في الصلة لا يسقط عموم الموصول لأنه عام وضعًا بل يخصصه. 362 - متى وقيل لا وبعضٌ قَيَّدا ... . . . . . . . . . . . . . أي ومن صيغ العموم "متى" شرطية كانت أو استفهامية، نحو: متى تجيء، ومتى تجئني أُكْرمك، لكن العموم في "متى وأين وحيثما" إنما هو في الظرف، وأما المعلَّق عليها وهو المظروف فمطلق، فإذا قال: متى أو حيثما دخلتِ الدار فأنتِ طالق، فهو مُلتزمٌ مطلقَ الطلاق في جميع الأزمنة أو البقاع، فاذا لزمه طلقة واحدة فقد وقع ما التزمه من مطلق الطلاق، فلا تلزمه طلقة أخرى بل ينحل اليمين. وقيل: إن "متى" ليست للعموم بل بمعنى أن وإذا، وبعض الأصوليين قيد كونها للعموم بأن تكون معها "ما". . . . . . . . . . . . . . ... وما معرَّفًا بأل قد وُجدا 363 - أو بإضافةٍ إلى المعرَّف ... إذا تحقق الخصوصِ قد نُفِي أي من صيغ العموم المعرَّف بأل أو الإضافة إلى المعرَّف إذا انتفى تحقق الخصوص أي العهد فيهما كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} و {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ} سواء كان كل منهما مفردًا أو تثنية أو جمعًا مكسَّرًا أو سالمًا. 364 - وفي سياق النفي منها يُذْكَر ... إذا بُني أو زِيْد مِن مُنَكَّر يعني أن المنكَّر في سياق النفي يذكر كونه من صيغ العموم إذا بُني المنكَّر مع "لا" التي لنفي الجنس، أو زِيْد من قبله نحو: لا رجل في الدار، وما في

(1/203)


الدار من رجل. 365 - أو كان صيغةً لها النفيُ لَزِمْ ... وغيرُ ذا لدى القرافي لا يَعُمْ يعني أن من صيغ العموم النكرة التي النفي صيغة ملازمة له كـ "أحد" بمعنى إنسان و"ديار وعريب" ونحوه. و"غير ذا" أي غير النكرة التي في سياق النفي والملازمة له لا يعم أي لا يفيد العموم، والقيد هو النكرة في سياق النفي غير المبنية ولا زائدة قبلها من نحو: لا رجلُ في الدار بالرفع. 366 - وقيل للظهور في العُموم ... وهو مُفاد الوضعِ لا اللُّزوم أي وقال السبكي فيما قال القرافي إنه لا يفيد العموم وهو النكرة الواقعة في سياق النفي غير المبنية ولا زائدة قبلها من أنها للظهور في العموم، ويحتمل الوحدة احتمالًا مرجوحًا، وهو أي عمومها مفاد منها بالوضع أي المطابقة بمعنى أن اللفظ وُضِع لسلب كل فرد من الأفراد. قوله: "لا اللزوم" أي ليس العموم مستفادًا من النكرة المذكورة باللزوم أي بالالتزام خلافًا للحنفية القائلين بأنه مستفاد باللزوم منها نظرًا إلى أن النفي أولًا للماهية ويلزم منه في كل فرد ضرورة. 367 - بالقصد خُصِّص التزامًا قد أبى ... تخصيصَه إيَّاه بعض النُّجَبا يعني أنه يجوز التخصيص بالقصد أي بالنية لما دلَّ عليه اللفظ بالالتزام أو بالتضمن فأحرى بالمطابقة باتفاق المالكية والشافعية، وقد أبى بعض النجباء التخصيص بالنية لما دل عليه اللفظ بالالتزام أو التضمن وهم الحنفية، والتقييد كالتخصيص في الصحة والمنع، ورُدَّ على الحنفية بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإنما لكل امرئ ما نوى" وهذا قد نوى شيئًا فيكون له.

(1/204)


368 - ونحو لا شربتُ أو إن شَرِبا ... واتفقوا إن مصدَرٌ قد جُلِبا أي ومن صيغ العموم نحو: واللَّه لا شربت أو إن شرب زيد فزوجي طالق، فيعمان جميع المشروبات، وكذا كل فعل مطلق وقع في سياق النفي لأن الفعل يدل بالتضمن على نكرة واقعة في سياق النفي. وكذا: إن أكلت فزوجي طالق فهو للمنع من جميع المأكولات عند ابن الحاجب والأبياري لأن الفعل في سياق الشرط يعم عندهما ولا فرق بين المتعدي والقاصر. قوله: "واتفقوا" إلخ يعني أن العلماء اتفقوا على عموم الفعل المذكور إذا جلب المصدر نحو: واللَّه لا أكلت أكلًا فيخصص بالنية. 369 - ونزِّلَنَّ تركَ الاستفصال ... منزلةَ العُمومِ في المقال يعني أن ترك الشارع الاستفصال أي طلب التفصيل في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال يُنَزَّل منزلةَ العموم في المقال أي الأقوال، والمراد بالأحوال حال الشخص، والمراد بالحكاية التلفظ سواء كان الحاكي لها صاحبها أو غيره، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لغيلان بن سلمة وقد أسلم على عشرة نسوة: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن"، لم يستفصِلْه عليه الصلاة والسلام هل تزوجهن معًا أو مرتبات، فلولا أن الحكم يعم الحالين لما أطلق الجواب لامتناع الإطلاق في مكان التفصيل المحتاج إليه. 370 - قيامُ الاحتمال في الأفعال ... قُلْ مجمِلٌ مُسْقِطُ الاستدلال يعني أن قيام الاحتمال المساوي في الأفعال أي في أفعال الشارع مجمل بكسر الميم أي يورث الإجمال فيها ومسقط للاستدلال بها على أحد الاحتمالات

(1/205)


المتساوية. مثال ذلك حديث: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جمع بالمدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر"، فإنه يحتمل أن يكون لمرض وأن يكون جمعًا صوريًّا ولا مرجح لأحد الاحتمالين فلذلك كان مجملًا لا يستدل به. 371 - وما أتي للمدحِ أو للذَّمِّ ... يعمُّ عند خلِّ أهل العلم يعني أن العام الذي سيق للمدح أو للذم أو لغرض آخر كالامتنان لا يخرجه ذلك عن عمومه عند الأكثر بل يعم عند جل أهل العلم، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}. وقيل: لا يعم لأنه سيق لقصد المبالغة في الحث أو الزجر ولهذا منع التمسك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، في وجوب الزكاة في الحلي. 372 - وما به قد خُوطب النبيُّ ... تعميمُه في المذهب السَّنِيُّ يعني أن الخطاب الخاص بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تعميمه بأن يتناول الأمة من جهة الحكم لا من جهة اللفظ هو السَّنِيّ أي المشهور من مذهب مالك إلا ما ثبتت فيه الخاصية كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} فإنه يعم الأمة من جهة الحكم، ولذلك احتج مالك في "المدونة" على أن ردة الزوجة مزيلة للعصمة بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}. وقد أنكرت عائشة رضي اللَّه عنها على من ذهب إلى أن نفس التخيير طلاق بقولها: خَيَّر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نساءَه فاخترته فلم يعد ذلك طِلاقًا، مع أنه ورد فيه خطاب خاص به -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ} الآيتين. 373 - وما يعمّ يشملُ الرَّسولا ... وقيلَ لا ولْنَذْكر التفصيلا

(1/206)


يعني أن اللفظ العام الوارد على لسان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المتناول له لغةً نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} يشمل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من جهة الحكم المستفاد منه التركيب كما شمله من جهة اللغة، وقيل: لا يشمله من جهة الحكم مطلقًا لأنه ورد على لسانه للتبليغ لغيره، وقيل: إن اقترن بنحو بَلِّغ أو قل فلا يشمله وإلا فيشمله، وأما ما لا يتناوله لغة فلا يشمله حكمًا بلا خلاف نحو: يا أيها الأمة. 374 - والعبدُ والموجودُ والذي كَفَر ... مشمولةٌ له لدى ذوي النظر يعني أن العبيد والموجودين زمن الوحي دون من بعدهم والكفار "مشمولة له" أي للفظ العام من جهة الحكم إذا كان يتناولها لغة لدى العلماء أهل النظر نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} لأن العبد والكافر من الناس لغةً والأصل عدم النقل وإنما خُص بالموجودين زمن الوحي لأن الخطاب موضوع لغة للمشافهة فلا يتناول من يحدّث بعده إلا بدليل ليس من اللغة بل هو للعلم من الدين بالضرورة أن الشريعة عامة قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} والإجماع على تكليفهم بما كُلِّف به الموجودون. 375 - وما شمولُ مَنْ للأنثى جَنَفُ ... وفي شبيه المسلمين اختلفوا يعني أن شمول "من" شرطية كانت أو استفهامية للأنثى ليس جَنَفًا بل هو الصواب والأصح عند الأكثرين، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} إذ لولا تناولها للأنثى وضعًا لما صح أن تبين بالقسمين، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من جرَّ ثوبَه خيلاء لم ينظر اللَّه إليه" فقالت أم سملة: كيف تصنعُ النساء بذيولهن؟ ففهمت أم سلمة دخولهن في عموم "من"

(1/207)


وأقرَّها -صلى اللَّه عليه وسلم-. قوله: "وفي شبيه" إلخ، يعني أنم اختلفوا في شبيه "مسلمين" وهو جمع المذكر السالم هل يدخل فيه النساء ظاهرًا؟ قال في "التنقيح": والصحيح عندنا اندارج النساء في خطاب التذكير قاله القاضي عبد الوهاب؛ لأن النساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما دل دليل على تخصيصه. 376 - وعمِّم المجموع من أنواع ... إذا بمن جُرَّ بلا نِزاع يعني أن المجموع من أنواع إذا كان معرفًا بأل أو الإضافة يعمم جميع تلك الأنواع إذا جُرَّ بمن التبعيضية نظرًا لمدلول العام أنه كلية، نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فإنه يقتضي الأخذ من كل نوع من مال كل واحد، وقيل: يقتضي الأخذ من نوع واحد من مال كل واحد، واختاره ابن الحاجب والقرافي؛ لأن صيغة التبعيض تبطل صيغة العموم في ذلك الحكم المتبعِّض لأن "من" للتبعيض وهو يَصْدق ببعض مدخولها وهو نوع واحد، وأجيب بأن التبعيض في العام أن يكون باعتبار كل جزء من جزئياته. وينبني على الخلاف ما لو شَرَط على المدرِّس أن يلقي كل يوم ثلاثة علوم من الفقه والتفسير والأصول هل يجب عليه أن يلقي كل يوم من كل واحد منها أو يكفيه أن يلقي من واحد منها؟ وإلى ذلك أشار بقوله: 377 - كمِنْ علومٍ ألْقِ بالتفصيل ... للفقه والتفسير والأصول أي ألق من علوم الفقه والتفسير والأصول بتفصيل العلوم بأن ينص على كل واحد منها.

(1/208)


378 - والمقتضِي أعمَّ جلُّ السَّلَف ... كذاك مفهومٌ بلا مختلفِ يعني أن المقتضِي بكسر الضاد أي الكلام المتوقف صدقه أو صحته على تقدير أحد أمور يعم تلك الأمور حذرًا من الإجمال عند "جُل السلف" خلافًا لابن الحاجب والغزالي في أنه لا يعمها لاندفاع الضرورة بواحد منها ويكون مجملًا بينها يتعين بالقرينة، وكذاك المفهوم موافقةً كان أو مخالفة فإنه يعم "بلا مختلف" أي بلا خلاف، كقوله تعال: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فإنه يدل على تحريم جميع أنواع الإيذاءات. وكقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَطْل الغني ظلم" أي بخلاف غيره.

(1/209)


ما عَدَمُ العمومِ أصحُّ فيه أي من العموم. 379 - منه منكَّرُ الجموع عُرِفا ... وكان والذي عليه انْعَطَفا يعني أن المُنكَّر المجموع في الإثبات نحو: جاءَ عبيد لزيد "عُرِف" مما عَدَم العموم أصح فيه، أي ليس بعام على الأصح عند الجمهور فيُحْمَل على أقل الجمع ثلاثة أو اثنين، والأصح في "كان" أيضًا أنها ليست صيغة عموم إذا كانت في الإثبات إلا أن تكون مصوغة للامتنان فإنها تعم. قوله: "والذي عليه انعطفا" يعني أن المعطوف على العام الأصح فيه أنه ليس بعام، نحو قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فهذا الضمير لا يلزم أن يكون عامًّا في جملة ما تقدم فإن العطف معناه التشريك في الحكم الذي سيق الكلام لأجله. قاله في "التنقيح". قال في "الشرح": الضمير خاص بالرجعيات لأن وصف الأحقية بالأزواج إنما هو فيهن لانعقاد الإجماع على استواء الزوج والأجنبي في البائن. 380 - وسائرٌ حكاية الفِعْل بما ... منه العمومُ ظاهرًا قد عُلِما يعني أن لفظ "سائر" الأصح فيه أنه ليس للعموم فإن معناه باقي الشيء لا جملته، هذا هو مذهب الجمهور. قوله: "حكاية الفعل" إلخ، يعني أن حكاية الصحابي لفعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "بما" أي بلفظ عُلِم منه العموم ظاهرًا نحو قوله: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الغرر"، و"قضى بالشفعة للجار"، و"حكم بالشاهد

(1/210)


واليمين". فلا يعم عند الأكثر كل غَرَر وكلَّ جارٍ وكلَّ شاهد؛ لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية. وقيل: يعم وهو الذي اختاره الأبهري وابن الحاجب، لأن الحاكي عَدْل عارف باللغة والمعنى فلا ينقل العموم إلا بعد ظهوره عنده أو قَطْعِه به وهو صادق، وصِدْق الراوي يوجب اتباعَه اتفاقًا. 381 - خطابُ واحدٍ لغير الحَنْبلي ... من غيرِ رَعْي النصِّ والقَيْس الجَلي يعني أن خطاب الواحد أو الاثنين أو الجماعة الأصح أنه لا يعم غير المخاطب فلا يتناول الأمة "من غير رَعْي" نصٍّ أو قياس جلي يدل على عمومه عند الجمهور للقطعٍ بأن خطاب الواحد أو الاثنين أو الجماعة لا يتناول غير المخاطب لغة خلافا لأحمد بن حنبل القائل بعمومه محتجًّا بأن العادة جارية بخطاب الواحد وإرادة الجميع فيما يتشاركون فيه، وبقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في مبايعة النساء: "أنا لا أصافح النساء وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة"، وما روي عنه أيضًا أنه قال: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة".

(1/211)


التخصِيص هو مصدر خصّصَ بمعنى خصَّ. 382 - قصرُ الذي عمَّ مع اعتمادِ ... غيرٍ على بعضٍ من الافرادِ يعني أن التخصيص في الاصطلاح هو: قَصْر العام على بعض أفراده لدليل، والدليل المخصَّص هو مراده بقوله: "مع اعتماد غير"، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة/ 228] الآية، فإنه مقصور على بعض أفراد الملطقات دون بعض، لخروج الحوامل منه بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق/ 4] الآية، وخروج المطلقات قبل الدخول بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب/ 49] الآية. وسواء كان العموم لفظيًّا أو عرفيًّا أو عقليًّا، فالعمومُ اللفظي كما مثلنا، والعمومُ العرفيّ كعموم مفهوم الموافقة، والعموم العقليّ كعموم مفهوم المخالفة، كما تقدم في قوله: "كذاك مفهوم بلا مختلف" (1). 383 - جوازُه لواحدٍ في الجمعِ ... أَتَتْ به أدلةٌ في الشرعِ الضمير في قوله: "جوازه" عائدٌ إلى التخصيص، يعني أن الأدلة الشرعية جاءت بجواز التخصيص حتى لا يبقى من العام إلَّا فَرْدٌ واحد كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران/ 173] الآية، يعني نُعَيم بن مسعود، ويدل لذلك إفراد اسم الإشارة في قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ __________ (1) البيت رقم (378).

(1/212)


يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران /175] الآية. وكقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء/ 54] على القول بأن المراد بالناس نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكقوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} [آل عمران/ 42] يعني جبريل. وسواءٌ كان العام كـ "من وما" ونحوهما من أسماء الشروط (1) والاستفهام أو لا على الصحيح، وسواءٌ كان جمعًا أو مفردًا على الصحيح أيضًا. 384 - وموجِبٌ أقلَّهُ القفَّالُ ... والمنعُ مطلقًا له اعتِلالُ يعني أن القفَّال الشاشي يقول: إن لفظ العام إذا كان جمعًا كـ "المسلمين" يجب فيه أن يبقى بعد التخصيص أقل الجمع وهو ثلاثة أو اثنان -كما يأتي قريبًا- بناءً منه على أن أفراد العام الذي هو جمع جماعات لا آحاد، والتحقيق أنها آحاد، وأن التخصيص يجوز فيها إلى أن لا يبقى إلَّا واحد كما تقدم. وقوله: "والمنع مطلقًا له اعتلال" يعني أن القول بمنع التخصيص إلى الواحد مطلقًا سواء كان لفظ العام جمعًا أو مفردًا "له اعتلال" أي ضعيف، وهو قول أبي الحسين المعتزلي، والقائل بالمنع يوجب بقاء أقل الجمع، وقيل إلى بقاء غير محصور من أفراد العام. 385 - أقلُّ معنى الجمع في المُشتهِر ... الاثنانِ في رأي الإمام الحِمْيري 386 - ذا كثرةٍ أم لا وإن مُنكَّرا ... والفرقُ في انتهاءِ ما قد نُكِّرا يعني أن أقل الجمع الحقيقي وما في معناه كـ "ناس وجيل ورهط" __________ (1) كذا في الأصل.

(1/213)


ونحو ذلك من أسماء الجموع -في رأي الإمام مالك بن أنس- اثنان، كما نقله عنه القاضي أبو بكر وعبد الملك بن الماجشون، واستدل لهذا بقوله: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه/ 130] أي طرفيه، وقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم/ 4]، وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء/ 11] أي: أخوان فصاعدًا، وفي الحديث: "الاثنان فما فوقهما جماعة" (1). وقال الجمهور: أقل الجمع وما في معناه ثلاثة، لتفريق العرب بين الجمع والتثنية ووضعها لكل منهما لفظًا يختص به، وجعلوا إطلاق الاثنين وإرادة الثلاثة من المجاز. وقوله: "ذا كثرة أم لا. . " إلخ، يشير إلى أن التحقيق هو ما حرَّره بعضُ المحققين من أن جمع القلة وجمع الكثرة إذا كانا مُعرَّفَيْن لا فرق بينهما، لأن "أل" الاستغراقية تعمّم كل واحد منهما فيستويان في المبدأ والمنتهى، أي مبدؤهما ثلاثة أو اثنان ولا منتهى لأكثرهما، وأما إذا كانا مُنكَّرَين فلا فرق بينهما أيضًا في المبدأ، لأن أقل كل منهما الاثنان أو الثلاثة، وإنما يفترقان في الانتهاء فقط في التنكير، فأكثر جمع القلة __________ (1) أخرجه ابن ماجه رقم (972)، والحاكم: (4/ 334)، والبيهقي في "الكبرى": (3/ 69)، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-. وأخرجه البيهقي في "الكبرى": (3/ 69) من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-. والدارقطني: (1/ 281) من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وله طرق أخرى لكن جميع طرقه ضعيفة. انظر "البدر المنير": (7/ 204 - 206)، و"فتح الباري": (2/ 166)، و"التلخيص الحبير": (3/ 94)، و"نصب الراية": (2/ 198).

(1/214)


عشرة، وجمع الكثرة لا منتهى له، وبهذا التحرير لا تحتاج أن تقول في محلٍّ من المحال: هذا مما استُعِيْرَ فيه جمع الكثرة لجمع القلة، فهذا هو التحقيق ولا تلتفت إلى كلام كثير من النحويين يزعمون أن أقل جمع الكثرة ما زاد على العشرة. 387 - وذو الخصوص هو ما يُسْتعملُ ... في كلِّ الافرادِ لدى من يعقِلُ يعني أن العام المخصوص هو ما يُقصد فيه جميع الأفراد استعمالًا لا حكمًا نحو: "له عليَّ عشرة إلَّا ثلاثة" فجميع العشرة يتناوله اللفظ استعمالًا إلَّا أن الحُكم لا يتناول مما دل عليه اللفظ إلَّا سبعة، لخروج ثلاثة بالمخصِّص الذي هو الاستثناء. 388 - وما به الخصوصُ قد يُرادُ ... جعَلَه في بعضِها النقَّادُ يعني أن العامَّ المرادَ به الخصوص لم يُقصد فيه إلَّا بعض الأفراد وبعضها لم يُقصد لا تناولًا ولا حُكمًا، بل المراد فيه البعض فقط في الاستعمال والحكم معًا كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران/ 173] أي: نُعَيم، {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} [آل عمران/ 39] أي: جبريل، فالأول أريدت فيه الأفراد كُلًّا استعمالًا لا حكمًا، والثاني لم يُرَد فيه إلَّا البعض استعمالًا وحكمًا. 389 - والثانيَ اعْزُ للمَجَازِ جزما ... وذاك للأصلِ وفرعٍ يُنْمَى يعني أن الثاني من القسمين وهو العام المراد به الخصوص مجاز جزمًا، يعني بلا خلاف، لأنه من إطلاق الكل وإرادة البعض، وعلاقة الكلية والجزئية من علاقات المجاز المرسل كما هو معروف عند البيانيين،

(1/215)


فالعام المراد به الخصوص على هذا مجاز مرسل. وقوله: "وذاك للأصل وفرع يُنْمَى" يعني أن العام المخصوص يُنمى للأصل في قول، وللفرع في قول، ومراده بالأصل الحقيقة، وبالفرع المجاز. والمعنى: أن العام المخصوص قيل: إنه حقيقة في الباقي بعد التخصيص، وقيل: مجاز فيه، وممن قال بالأول السُّبْكي والفخر الرازي والحنابلة وكثير من الحنفية وأكثر الشافعية وبعض المالكية. وممن قال بالثاني ابن الحاجب والبيضاوي والصَّفِيُّ الهندي والكمال ابن الهمام (1). وحجة من قال إنه حقيقة في الباقي بعد التخصيص: أن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله له بلا تخصيص، وذلك التناول حقيقي فليكن هذا التناول حقيقيًّا. وأجاب القائلون بأنه مجاز في الباقي بأنه كان يتناوله مع غيره والآن يتناوله وحده وهما متغايران؛ لأن الشيء مع غيرِه غيرُه لا مع غيره. وحجتهم لكونه مجازًا: أن اللفظ عام والحكم قاصر على البعض فعُرِف أن اللفظ أطلق على غير مدلوله اللغوي فهو مجاز. وأجيب: بأن اللفظ أطلق على مدلوله اللغوي ولكنَّ المخصِّص أخرج بعض ما دلَّ عليه العموم، كما تقدم من أن كل الأفراد مقصودٌ تناولًا لا حكمًا في العام المخصوص. 390 - ثمَّ المُحاشاةُ وقصرُ القصدِ ... من آخرِ القِسْمَين دون جَحْدِ __________ (1) انظر "شرح المحلي على الجمع": (2/ 5)، و"شرح الكوكب": (3/ 160 - 163 وحاشيته).

(1/216)


يعني أن المحاشاة وقَصْرَ القصد -أي التخصيص- بالنية كلاهما من القسم الأخير وهو العام المراد به الخصوص، والمحاشاة هي: إخراج الحالف شيئًا يتناوله لفظه بالنية فقط دون اللفظ، وظاهر كلام المؤلف أن المحاشاة غير التخصيص بالنية، والواقع في الحقيقة أن المحاشاة تخصيص بالنية أيضًا، ولذا قال القرافي: المحاشاةُ هي التخصيص بعينه من غير زيادة ولا نقص (1). فإن قيل: أهل مذهب مالك يفرقون بينهما، فإن التخصيص بالنية إذا خالفت ظاهر اللفظ لا يقبل عندهم مع المرافعة، والمحاشاة تُقبل عندهم في المرافعة، فمن قامت عليه بينة عندهم أنه قال: الحلال عليَّ حرام، وادعى محاشاة الزوجة بالنية، صدق في المرافعة، وهذا يقتضي الفرق عندهم بين المحاشاة والتخصيص بالنية. فالجواب: أن المحاشاة تخصص بمسألة الحلال عليه حرامٌ كما قال خليل، وهي المحاشاة وعليه فلا إشكال. وعلى القول بأن المحاشاة أعم من مسألة "الحلال عليَّ حرام" كما صوَّبه البنَّانيّ مستدلًا بكلام الباجيّ. فالجواب: أن المحاشاة في خصوص المحلوف به، والتخصيص في المحلوف به والمحلوف عليه، فهي أخص وهو أعم. وعلى قول ابن محرز ومن تبعه: أن المحاشاة قاعدة مطَّرِدة في __________ (1) "الفروق": (3/ 92).

(1/217)


المحلوف به والمحلوف عليه فيتعين ما قاله القرافي من اتحادهما، أو يُجاب بأن ابن محرز ومن تبعه يرون أن اليمين على نية الحالف باللَّه أو غيره مطلقًا حلف على وثيقة حق أم لا، وعليه فهما متحدان أيضًا، فظهر أن الفرق لا يمكن إلَّا على القول الأول والثاني، واللَّه تعالى أعلم (1). 391 - وشبه الاسْتِثنا للأوَّلِ سَما ... واتَّحدَ القسمان عندَ القُدَما يعني أن كل ما يشابه الاستثناء من كل مخصص متصل فرينته لفظية "سما" أي ظهر عندهم "للأول" أي من القسم الأول الذي هو العام المخصوص، و"القسمان" اللذان هما العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص متحدان "عند القدما" أي الأقدمين من الأصوليين، ولذا لم يتعرضوا للفرق بينهما فكلاهما عند الأقدمين عام مخصوص ومراد به الخصوص، وإنما فرَّق بينهما المتأخرون كالسُّبكيَّيْن. 392 - وهو حجةٌ لدى الأكثرِ إنْ ... مُخصَّصٌ له معَيَّنًا يَبِنْ يعني أن العام الذي دخله تخصيص حجة في الباقي بعد التخصيص لدى أكثر العلماء وهو الحق، ولكن يشترط أن يكون المخصِّص -بصيغة اسم الفاعل- معيَّنًا بصيغة اسم المفعول نحو: "اقتلوا المشركين إلَّا أهل الذمة" فإن كان غير معين نحو: "اقتلوا المشركين إلَّا بعضهم" لم يصح الاحتجاج به في الباقي؛ لأنه ما من فرد إلَّا يحتمل أنه من البعض المستثنى __________ (1) انظر "النشر": (1/ 233).

(1/218)


فلا يجوز قتل فرد. وخالف السبكي (1) قائلًا: إن مذهب الأكثر الاحتجاج به ولو كان المخصِّص غير معين، وقال القرافي (2): إن هذا المذهب لم يقل به أحد ولا يمكن العمل به مع كون البعض حرامًا والبعض حلالًا من غير تمييز. قال مُقيِّده عفا اللَّه عنه: يظهر من بعض مسائل فروع المالكية جواز ما ذكره السبكي عن الأكثر، مِن جواز العمل مع عدم تعيين المخصص وذلك في قولهم: إن كون مضيّ البيع المختلَف فيه عند الفوات بالثمن، ومضي المتفق عليه بالقيمة، كلتاهما قاعدة أغلبية يخرج منها بعض الأفراد ولم يُعَيِّنُوه مع تجويزهم العمل بكلتا القاعدتين، كما هو معروف في فروع مالك. 393 - وقِسْ على الخارج للمصالحِ ... ورُبَّ شيخٍ لامتناع جانحِ يعني أنه اختلف في الفرد الخارج من العموم بمخصص هل يجوز أن يكون أصلًا يقاس عليه أو لا؟ وإيضاحه: أن العامَّ إذا أخرج من حكمه بعض الأفراد بمُخصِّصٍ لحِكْمة تخص ذلك الفرد المخرجَ من العموم، ثم وُجِدت تلك الحكمة في شيء آخر، هل يجوز قياسه على ذلك الفرد المخرَج من العموم لتكثير المصلحة، أو لا يجوز ذلك خوفًا من كثرة مخالفة الأصل؟ __________ (1) "جمع الجوامع": (2/ 6). (2) في "نفائس الأصول": (2/ 572).

(1/219)


مثال ذلك: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة/ 275] خرج من عمومه بيع البرّ متفاضلًا يدًّا بيد، فهل يجوز أن نقيس الأرز -مثلًا- على البر الخارج من العموم بجامع الطعم والكيل، أو الاقتيات والادِّخار، أو لا يجوز ذلك خوفًا من كثرة مخالفة الأصل؟ وقوله: "ورب شيخ" للتكثير، يشير إلى كثرة القائلين بعدم القياس علي ما أخرجه المخصِّصُ. وقوله: "جانح" أي مائل، والمجرور قبله متعلَّق به، أي: رُبّ شيخ جانح، أي مائل إلى امتناع ذلك. * * *

(1/220)


المخصِّصُ المتصل المخصِّص عرفًا: الدليل المفيد للتخصيص. والتخصيص قسمان: متصل ومنفصل، أما المنفصل فسيأتي الكلام عليه في قول المؤلف: "وسمِّ مُسْتقلهُ منفصلًا" (1) إلخ. وأما المتصل وهو المذكور هنا فهو: ما لا يستقل بنفسه دون العام بل لابد من مقارنته للعام، وهو خمسة أشياء: الاستثناء، والشرط، والصفة، والغاية، وبدل البعض من الكل، وسيأتي إن شاء اللَّه جميعها للمؤلف. 394 - حروفُ الاستثناءِ والمضارعُ ... من فِعْل الاستثنا وما يُضارعُ يعني أن من أنواع المخصِّص المتصل حروف الاستثناء، أي أدواته كـ "إلَّا، وسوى" إلخ. وقوله: "والمضارع من فعل الاستثناء" أي الفعل المضارع من مادة الاستثناء نحو: "جاء القومُ واستثني زيدًا". وقوله: "وما يضارع" أي ما يشابه المضارع من صِيَغ الماضي الدالةِ على الاستثناء نحو: "جاء القوم خلا زيدًا" و"عدا عَمْرًا" بالنصب فيهما. وقيل: يشترط في المستثنَى والمستثنى منه أن يكونا من متكلِّم واحد، وقيل: لا يشترط ذلك. وإذا كان العام من كلام اللَّه والاستثناء من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل: يكون مخصِّصًا منفصلًا، وقيل: يكون متصلًا، لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مبلِّغ في __________ (1) البيت رقم (423).

(1/221)


الكل ولا يقول على اللَّه إلَّا بوحي لقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم/ 3 - 4] بل قال العبَّادي في "الآيات البينات" (1): الأمر كذلك ولو على القول بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ربما اجتهد لأن اجتهاده أيضًا حق ولا يُقَرُّ على باطل. 395 - والحكم بالنقيض للحكم حَصَلْ ... لِما عليه الحُكْم قبل مُتَّصِلْ 396 - وغيرُه منقطعٌ ورُجِّحا ... جوازُه وهو مجازًا وَضَحا تعرَّض المؤلف هنا لحقيقة الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع. وقوله: "والحكم بالنقيض" إلخ يعني أن الاستثناء المتصل هو الحكم بنقيض الحكم على جنس ما حكمت عليه أولًا، وأن غيره هو المنقطع، وهو صادق بأمرين: الأول: أن يكون المحكوم عليه بنقيض الحكم ليس من جنس الأول نحو: "جاء القوم إلَّا حمارًا". والثاني: أن يكون المحكوم عليه في الثاني من جنس الأول إلَّا أن الحكم على الثاني ليس بنقيض الحكم الأول كقوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان/ 56]، فإنه استثناء منقطع على التحقيق، مع أن المحكوم عليه في الثاني هو عين المحكوم عليه في الأول، إلَّا أن الحكم على الثاني ليس نقيضًا للحكم على الأول، لأن الحكم [على] الأول عدم ذوق الموت في الآخرة، والحكم على __________ (1) (3/ 26).

(1/222)


الثاني ذوقه في الدنيا، وذوقه في الدنيا ليس نقيضًا لذوقه في الآخرة. وقوله: "ورُجِّحا جوازه" يعني أن المرجَّح عند علماء الأصول جواز وقوع الاستثناء المنقطع، خلافًا لأحمد وأصحابه القائلين بعدم جوازه في اللغة، لأن الاستثناء إخراجٌ لما دخل، وما لم يدخل لا يمكن إخراجه. وحجة الجمهور: كثرة وقوعه في القرآن وفي كلام العرب، فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنّ} [النساء/ 157]. ومعلوم أن اتباع الظن ليس من جنس العلم، وقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم/ 62]، وقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِ} [الواقعة/ 25 - 26]، وقوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} [الليل/ 19 - 20] الآية. ومن أمثلته في كلام العرب قول نابغة ذبيان (1): وقفت فيها أُصَيْلالًا أُسائلها ... عيَّت جوابًا وما بالرَّبع من أحد إلَّا الأواريَّ لأْيًا. . . . ... . . . . . . . . . . . . . "الأواريُّ" ليس من جنس "الأحد" وهي مرابط الخيل. وقول بعض شعراء بني تميم (2): وبنتِ كريمٍ قد نكحنا ولم يكن ... لها خاطب إلَّا السنانُ وعاملُه وقول الراجز (3): __________ (1) "ديوانه": (ص/ 14 - 15). (2) البيت للفرزدق انظر: "شرح النقائض": (3/ 758). وسقط من "الديوان" مع بيت قبله. (3) روي هذا الرجز بألفاظ مختلفة ذكرها البغدادي في "الخزانة": (10/ 15 - 18) =

(1/223)


ياليتني وأنت يالميسُ ... ببلدةٍ ليس بها أنيسُ إلَّا اليعافيرُ وإلَّا العيسُ وقوله: "وهو مجازًا وَضَحا"، يعني أن الاستثناء المنقطع وَضَحَ حال كونه مجازًا، وسيأتي بقية الأقوال فيه من كونه مشتركًا أو متواطئًا بين المتصل والمنقطع. 397 - فلْتُنْمِ ثوبًا بعد ألفِ درهمِ ... للحذفِ والمجازِ أو للندمِ 398 - وقيلَ بالحذفِ لدى الإقرارِ ... والعقدُ معنى الواوِ فيه جارِ قوله: "فَلْتُنْم" يعني فلْتَنْسُبْ وهو مجزوم بلام الأمر. وقوله: "ثوبًا بعد ألف درهم" يعني أنه لو قال: "له عليَّ ألف دينار إلَّا ثوبًا" أنه ينسب قوله: "إلَّا ثوبًا" للحذف على قول، وللمجاز على قول، وللندم على قول. أما نسبته للحذف فالمراد به حذف المضاف المدلول عليه بالاقتضاء، وتقديره: إلَّا قيمة ثوب. وأما نسبته للمجاز فالمراد أن الثوب أُطْلق وأُريدت قيمته مجازًا علاقته البدلية وهي: أن القيمة بدل عن الثوب عادة، وقد تقرر عندهم أن البدلية والمبدلية من علاقات المجاز المرسل، وقد تقدم للمؤلف أن المجاز قبل الإضمار في قوله: "وبعد تخصيصِ مجازٍ فيلي الإضمارُ" (1) إلخ، وعليه فالأولى جعله مجازًا دون تقدير المحذوف، ومعنى القولين واحد؛ لأن المعنى على كليهما أنه استثنى __________ = وذكر أنه وجدها بهذا اللفظ في كتاب "أبيات المعاني" للأشنانداني. (1) البيت رقم (208).

(1/224)


قيمة الثوب، سواءٌ عبرنا عن ذلك بالمجاز أو الحذف. وأما نسبته للندم فمعناه أن الألف تلزمه كفَها ويعدُّ قوله: "إلَّا ثوبًا" ندمًا. والظاهر أن هذا القول مبنيٌّ على عدم صحة الاستثناء المنقطع كما هو قول أحمد ومن وافقه المشار إليه بقول المؤلف: "ورجحا جوازه". وقوله: "وقيل بالحذف لدى الإقرار" يعني أن في المسألة قولًا رابعًا، وهو: التفريق بين الإقرار والعقود، فلو قال في الإقرار: "له على ألف دينار إلَّا ثوبًا" كان للحذف أي: إلَّا قيمة ثوب، ولو قال في البيع: "بعتك هذه السلعة بألف دينار إلَّا ثوبًا" فإنه يكون معناه وثوبًا، فيكون الثوب مبيعًا مع السلعة، قال مالك: إذا قلت: "بعْتُك هذه السلعة بدينار إلَّا قفيز حنطة"، كان القفيز مبيعًا مع السلعة؛ لأنه لو استثنى من الدينار قيمة القفيز لفسد البيع للجهل بالثمن، نص عليه مالك في كتاب الصرف من "المدونة" (1). 399 - بِشِرْكَةٍ وبالتَّواطِي قالا ... بعضٌ. . . . . . . . . . . . . يعني أن بعض الأصوليين وهو أبو الحسن الأبياري المالكي اختار أن الاستثناء المنقطع حقيقة، وهو الظاهر من كلام أهل العربية، وعليه فقيل: اسم الاستثناء مشترك بين المتصل والمنقطع كاشتراك العين بين الباصرة والجارية، وقيل: هو متواطى فيهما كتواطى الرجل في زيد وعمرو. __________ (1) انظر "تهذيب المدونة": (3/ 106) للبراذعي.

(1/225)


.. . . . . وأوْجِب فيه الاتصالا 400 - وفي البواقي دونَ ما اضطرار ... وأبْطِلَنْ بالصمت للتَّذكارِ يعني أنه يجب في الاستثناء اتصاله بالمستثنى منه خلافًا لمن قال بجواز تأخير الاستثناء إلى شهر، وقيل: إلى شهرين، وقيل: إلى سنة، وقيل: إلى سنتين، وقيل: أبدًا، كما روي عن ابن عباس (1)، وعن عطاء والحسن جواز انفصاله في المجلس، وأومأ إليه أحمد في إحدى الروايتين في اليمين، وعن مجاهد إلى سنتين، وقيل: ما لم يأخذ في كلام آخر، وقيل: يجوز ذلك في كلام اللَّه لأنه لا يغيب عنه شيء فهو مرادٌ أولًا بخلافِ غيره (2). وحجة من قال بجواز تأخير الاستثناء حديث: "من حَلَف واستثنى عاد كمن لم يحلف" (3) أي قال: إن شاء اللَّه ولم يذكر لزوم اتّصاله به، قالوا: وقوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء/ 95] نزل بعد المستثنى منه __________ (1) ولفظه: "إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني ولو إلى سنة" أخرجه ابن جرير في تفسيره: (15/ 225)، والحاكم: (4/ 353)، والبيهقي: (10/ 48). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وانظر "البدر المنير": (8/ 124). (2) انظر "العدة": (2/ 660 - 664)، و"شرح الكوكب": (3/ 297)، و"إرشاد الفحول": (2/ 646 - 652). (3) لم أجده بلفظه، لكن أخرجه ابن ماجه رقم (2105) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- بلفظ: "من حلف واستثنى فلن يحنث".

(1/226)


في المجلس (1) واستدل ابن عباس بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (2) [الكهف/ 24] لأن معناه لما أمره بقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأمره بالاستنناء بالمشيئة صرَّح له بأنه إن نسي الاستثناء به وتذكَّره بعد ذلك قال: إن شاء اللَّه. وحجة الجمهور قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من حلفَ على شيء ثم رأى غيرَه خيرًا منه فليكفِّر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير" (3)، فلو جاز الانفصال لقال: فليَسْتثن ولا داعي إلى التكفير حالة إمكان الاستثناء. قال ابن العربي المالكي (4): سمعت فتاةً ببغداد تقول لجارتها: لو كان مذهب ابن عباس صحيحًا ما قال اللَّه تعالى لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص/ 44] بل يقول له: استثن (5). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2832) عن زيد بن ثابت أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أملى عليه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي فقال: يا رسول اللَّه لو أستطيع الجهاد لجاهدت. . . فأنزل اللَّه تبارك وتعالى على رسوله. . {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}. (2) انظر "الدر المنثور": (4/ 394). (3) أخرجه مسلم رقم (1650) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (4) "أحكام القرآن": (2/ 647). ونقلها عنه القرطبي في تفسيره. (5) كذا أورد المؤلف هذه القصة نقلًا عن "نشر البنود": (1/ 240) والظاهر أن قوله: "فتاة" محرفة عن "فاميّ" لأنه الوارد في سياق القصة و"الفامي" هو البقَّال. وإليك القصة كما في كتاب ابن العربي قال: "كان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام، فكانت الكتب تأتي إليه من بلده فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدًا، مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه أو يقطع به عن طلبه، فلما كان بعد خمسة أعوام، =

(1/227)


ولو جاز انفصال الاستثناء لما ثبت إقرارٌ ولا طلاقٌ ولا عتق، لعدم الجزم بثبوت شيء منها لجواز الاستثناء المنفصل، ولم يُعلم صِدْق خبر ولا كذبه أصلًا، لجواز استثناءٍ يَرِدُ عليه يصرفه إلى ما يغيره (1) صادقًا وبالعكس. وأجيب من قبل الجمهور عن احتجاج ابن عباس بالآية بأمرين: الأول: أن الاستثناء بالمشيئة له فائدتان: الأولى: رد الأمور إلى مشيئة من هي بيده وهو اللَّه تعالى. والثانية: عدم انعقاد اليمين. والاستثناء يُفيد مع الانفصال في الخروج من عُهدة اللوم المتوجه من عدم رد الأشياء إلى مشيئة من هي بيده، وهو مراد ابن عباس بجواز انفصال الاستثناء. أما __________ = وقضى غرضًا من الطلب، وعزم على الرحيل = شد رحله وأبرز كتبه، وأخرج تلك الرسائل وقرأ منها ما لو أن واحدة منها قرأها في وقت وصولها ما تمكن بعدها من تحصيل حرف من العلم، فحمد اللَّه تعالى، ورحَّل على دابته قماشه، وخرج على باب الحلبة طريق خراسان، وتقدمه الكريُّ بالدابة، وأقام هو على فاميٍّ يبتاع منه سفرته، فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفاميِّ آخر: أي فُلُ! أما سمعت العالم يقول -يعني الواعظ-: إن ابن عباس يجوِّز الاستثناء ولو بعد سنة، لقد اشتغل بالي بذلك منذ سمعته يقوله، وظللت فيه متفكرًا، ولو كان ذلك صحيحًا لما قال اللَّه تعالى لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وما الذي كان يمنعه من أن يقول حينئذٍ: قل إن شاء اللَّه؟ فلما سمعته يقول ذلك قلت: بلدٌ يكون فيه الفاميون به من العلم في هذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة؟ لا أفعله أبدًا، واقتفى أثر الكريّ، وحلله من الكِراء، وصرف رحله، وأقام بها حتى مات -رحمه اللَّه- اهـ. (1) ط: يصيره.

(1/228)


الثانية التي هي عدم انعقاد اليمين، فلا يفيد فيها الاستثناء مع الانفصال كما هو مذهب الجمهور ولم يقصده ابن عباس وجزم بهذا ابنُ جرير (1)، وهو وجيه جدًّا. الثاني: أن يُحمل الانفصال المذكور على ما إذا قصد الاستثناء ونواه وقتَ اليمين وأَخَّرَ النُّطق به، كما ذكره ابن رشد عن بعض العلماء وقال: يُحمل عليه كلام ابن عباس (2). وقوله: "وفي البواقي" يعني أن البواقي من المخصِّصات المتصلة كالشرط والغاية والبدل يجب فيها الاتصال أيضًا، وحكى بعضٌ الاتفاقَ على ذلك في الكل، وحكى بعضهم عليه الاتفاق في غير الشرط. فالحاصل أنه في الكل إما اتفاقًا وإما على الصحيح الذي هو مذهب الجمهور في بعض المخصِّصات كالشرط. وقوله: "دون ما اضطرار" يعني أن وجوب عدم الفصل ما لم يضطر إليه فالفصل بما اضطر إليه كلا فصل، كالفصل بِنَفَس أو سعال، أو عطف الجُمَل بعضها على بعض ثم يستثني. وقوله: "وأبطلن بالصَّمْت للتذكار" يعني أن سكتة التذكار فاصل مانع من إفادة الاستثناء، وهي أن يسكت المتكلم ليتذكر شيئًا من الكلام الذي هو بصدده هو في الحال ناسٍ له. و"ما" في قوله: "دون ما" زائدة، والأصل: دون اضطرار. __________ (1) انظر "تفسيره": (15/ 227). (2) انظر "البيان والتحصيل": (2/ 182).

(1/229)


401 - وعَددٌ مع كَإلَّا قد وجَبْ ... له الخصوص عند جُلِّ من ذَهَبْ 402 - وقال بعضٌ بانتفا الخُصوصِ ... والظاهرُ الإبقا من النُّصوصِ اعلم أنه لمَّا كان في التخصيص بالمخصِّص المتصل شِبْه تناقض؛ لأن البعض الخارج بالمخصِّص اجتمع فيه أنه داخلٌ في العموم وخارجٌ بالمخصِّصِ، وكون الشيء الواحد داخلًا في شيء وغير داخل فيه في وقت واحد يظهر أنه تناقض = اضطروا إلى تقدير دلالة على وجهٍ يرفع ذلك التناقض، واختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب، أشار لها المؤلف في مسألة الاستثناء من العدد؛ لأن التناقض المذكور أظهرُ فيها من غيرها؛ لأن في قولك: "عشرة إلَّا ثلاثة" ما يدل على دخول الثلاثة في العشرة مع أن فيه التصريح بعدم دخولها فيها. الأول: وعزاه المؤلف إلى جل من ذهب أن العددَ مع إلَّا كقوله: "له عليَّ عشرة إلَّا ثلاثة" عامٌّ مرادٌ به الخصوص، فالمراد بالعشرة سبعة، وقوله: "إلَّا ثلاثة" قرينة على ذلك وليس فيه إخراج أصلًا فلا تناقض، وهذا مراده بقوله: "وعدد مع كإلَّا. . " البيت، هكذا قرره المؤلف وغير واحد. ولا يخفى أن جعلهم له من العام المراد به الخصوص ينافي قول المؤلف المارِّ: "وشبه الاستثنا لأولٍ سما" فلا يصح قولهم على (1) هذا إلَّا على قول الأقدمين الذين لم يفرقوا بين العام المخصوص والمراد به الخصوص كما ترى، وجَعْله العدد من العموم ينافي أيضًا قوله: "بلا __________ (1) ليست في الأصل.

(1/230)


حصر من اللفظ كعشر مثلًا". الثاني: وهو قول الباقلاني أنه لا خصوص فيه أصلًا، وإيضاحُه أن لفظ "السبعة" له اسمان: اسم مفرد وهو سبعة، واسم مركَّب وهو عشرة إلَّا ثلاثة، وعليه أيضًا فلا إخراج ولا تناقض، وإليه الإشارة بقول المؤلف: "وقال بعضٌ بانتفا الخصوص". الثالث: وهو اختيار ابن الحاجب (1) والتاج السُّبْكي (2) أن المراد بالعشرة في المثال المذكور العشرة باعتبار الأفراد ثم أُخْرجت الثلاثة بقوله: "إلَّا ثلاثة" فأُسْنِد لفظًا إلى العشرة ومَعْنًى إلى السبعة، فكأنه قال: "له عليَّ الباقي من عشرة أُخْرِج منها ثلاثة" وليس في ذلك إلَّا إثبات ولا نَفْيَ أصلًا فلا تناقض، فتحصَّل أنه على قول الجُلّ فيه تخصيص وإليه الإشارة بقوله: "وعددٌ مَعَ كإِلَّا" البيت. وعلى قول الباقلاني لا تخصيص فيه، وإليه الإشارة بقوله: "وقال بعضٌ بانتفا الخصوص". وعلى ما اختاره ابنُ الحاجب والسبكيُّ فهو يحتمل التخصيص نظرًا إلى الحكم؛ لأنه للعام في الظاهر والمراد الخصوص، ويحتمل كونه ليس تخصيصًا، إذ المفرد الذي هو "العشرة" لم يرد به إلَّا العموم لجميع أفراده كحالته منفردًا لم يغير بتخصيص، لأن العشرة في قولك: ما بقي من العشرة بعد إخراج الثلاثة، لم تطلق العشرةُ فيه إلَّا على معناها الأصلي وإن كان المعنى يؤول إلى سبعة. __________ (1) انظر "المختصر - مع شرحه": (2/ 257) للأصفهاني. (2) في "الجمع": (2/ 13).

(1/231)


وقوله: "والظاهر الإبقا من النصوص" يعني أن الذي يظهر للمؤلف من النصوص أي المذاهب الثلاثة المذكورة في الاستثناء أن المستثنى مُبَقّى على الملك لا مشترى لأن عشرة إلَّا ثلاثة عند الجُل عامّ مراد به الخصوص، فالثلاثة باقية على الملك، وعند الباقلاني بمعنى سبعة فالثلاثة باقية أيضًا، وعلى المختار عند ابن الحاجب والسبكي فالعشرة وإن أريد بها جميع الأفراد فالعموم مُرادٌ تناولًا لا حكمًا فبقيت الثلاثة أيضًا ولم تدخل في الحكم. 403 - والمِثْل عند الأكثرين مُبطلُ ... ولجوازه يدُلّ المَدْخَلُ يعني أن استثناء المِثْلِ مبطل للاستثناء، ويدل لجوازه على أحد القولين كلام ابن طلحة (1) الأندلسي في "المدخل" (2)، وروي عن اللخمي أيضًا ما يفيد جوازه إن نواه قبل الانعقاد في الفتوى، وفي القضاء خلاف. 404 - وجوِّز الأكثر عند الجُلِّ ... . . . . . . . . . . . . . يعني أنه يجوز استثناء الأكثر عند الأكثر والقاضي عبد الوهاب، نحو: "له عليَّ عشرة إلَّا تسعة" واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر/ 42]، ومعلوم أن الغاوين أكثر. __________ (1) من أول هذه الفقرة إلى هنا لحق في الحاشية لكنه لم يظهر، وأثبتناه من (ط). (2) ابن طلحة هو: عبد اللَّه بن طلحة بن محمد اليابري المالكي (ت 518) له مختصر "الرسالة"، ويسمى بـ "المدخل". انظر "بغية الوعاة": (2/ 46)، و"نفح الطيب": (2/ 648).

(1/232)


فإن قيل: المراد بالعباد في قوله: {عِبَادِي} ما يشمل الملائكة مع صالح الثّقلين فإذًا يلزم كونهم أكثر من الغاوين فينتفي الدليل من الآية. فالجواب: أنا لو سلمنا أن الصالحين أكثر من الغاوين بهذا الاعتبار فإنه يلزم على ذلك أيضًا جواز استثناء الأكثر في قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [ص/ 82 - 83]، وادعاء دخول الملائكة في الأول وخروجهم من الثاني تحكُّم لا دليل عليه. واستدل له أيضًا بقوله: أدّوا التي نقصت تسعين عن مئة ... ثم ابعثوا حكمًا بالعدل قوَّالا (1) وتكلم بعضُهم في هذا البيت بأنه مصنوع. . . . . . . . . . . . . . ... ومالًا أوجبَ للأقلِّ يعني أن الإمام مالكًا -رحمه اللَّه- أوجب كون المستثنى أقلَّ من المستثنى منه، فلو استثنى النصف كقوله: "عليَّ عشرة إلَّا خمسة" بَطَل الاستثناءُ ولزمته العشرة. وأحرى إذا كان المستثنى أكثر نحو: "له عليَّ عشرة إلَّا ستة". وإلى هذا القول ذهب القاضي وغيره، وأكثر النحويين، وهو مذهب الإمام أحمد إلَّا أن استثناء النصف فيه عند الحنابلة خلاف، أما استثناء الأكثر فلا يجوز عندهم، ومشهور المذهب المالكي موافقة الجمهور في استثناء الأكثر كما قال خليل في "مختصره" (2) الذي قال مبينًا __________ (1) البيت أنشده ثعلب من أبيات، فيما نقله عنه تلميذه أبو بكر ابن الأنباري في كتابه "الأضداد": (ص/ 127). والرواية فيه: أَدُّوا الَّتي نَقَصَتْ سَبْعين من مئة ... ثمَّ ابْعَثوا حَكمًا بالعَدْلِ حَكَّاما (2) (ص/ 120).

(1/233)


لما به الفتوى: "وصح استثناء بإلَّا إن اتّصَل ولم يستغرق" فالمضر الاستغراق فقط لا الأكثرية وأحرى المساواة. وحجة القول بوجوب كون المستثنى أقل: أنه هو المعروف من لغة العرب فإنهم يقولون: "مائة إلَّا عشرة" ولم يقولوا: "مائة إلَّا تسعين" وقس على ذلك. 405 - ومُنِعَ الأكثرُ من نَصِّ العَدَد ... والعقدُ منه عندَ بعضٍ انْفَقَد يعني أن اللخميّ قال بمنع استثناء الأكثر من خصوص ما هو نصٌّ في العدد كـ "له عليَّ عشرة إلَّا سبعة" بخلاف ما ليس نصًّا في العدد فإنه يجوز فيه عنده استثناء الأكثر نحوُ: "عبيدي أحرار إلَّا الصقالبة" وهم أكثر. وقوله: "والعقد منه عند بعضٍ انفَقَدْ" يعني بالبعض عبد الملك بن الماجشون، ومراده أنه ينفقد أي يمتنع عنده استثناء العقد الصحيح من العدد ويجوز غيره، فالعقد الصحيح الذي يمتنع عنده استثناؤه من العدد كالعشرة من المائة والمائة من الألف، فلا يجوز عنده: "له عليَّ مائة إلَّا عشرة" ولا "ألف إلَّا مائة". وخَرَج بالعقد ما ليس بعقد كالانثي عشر، وبالصحيح الكسر كنصف. وحاصل هذا القول: أن الآحاد عقود العشرات، والعشرات عقود المئين، والمئون عقود الألوف، فلا يجوز على هذا القول استثناء عقدٍ صحيح من العدد نحو "عشرة إلَّا واحدًا" و"مائة إلَّا عشرة" أو "ألف إلَّا مائة". ويجوز: "له عليَّ عشرة إلَّا نصفًا" أي نِصْف واحد أو نحوه ولو مع غيره كـ "واحد ونصف" و"مائة إلَّا تسعة" أو نحوها ولو مع غيرها من

(1/234)


العشرات، و"ألف إلَّا تسعين" ونحوها ولو مع المئين. وحجة هذا القول: أنه لم يقع في الكتاب والسنة إلَّا هو كقوله تعالى: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت/ 14] وخمسون بعض عقدٍ من ألف، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن للَّه تسعة وتسعين اسمًا مائة إلَّا واحدًا" (1) والواحد بعض عقد المئة، فتحصَّل أن في المسألة خمسة أقوال: الأول: قول ابن طلحة بجواز المِثْل. الثاني: قول الجمهور بجواز الأكثر دون الكل. الثالث: قول مالك بمنع النصف وأحرى الأكثر. الرابع: قول اللخمي بمنع الأكثر من نص العدد. الخامس: قول ابن الماجشون بمنع استثناء العقد الصحيح من العدد دون غيره. 406 - وذا تعدُّدٍ بعطفٍ حصِّلِ ... بالاتفاقِ مُسْجَلًا للأوَّلِ يعني أن الاستثناءات المتعددة إذا كان بعضها معطوفًا على بعض ترجع كلها للأول الذي هو المستثنى منه، لا الأول من الاستثناءات. وقوله: "مُسْجَلًا" يعني مطلقًا، سواء كان الاستثناء مستغرقًا أم لا، إلَّا أنه يبطل في المستغرق ويصح في غيره. مثال غير المستغرق: "له عليَّ عشرة إلَّا واحدًا وإلَّا اثنين وإلَّا ثلاثة" فتسقط الستة من العشرة فتبقى أربعة هي اللازمة له، ومثال المستغرق: "له عليَّ عشرة إلَّا خمسة وإلّا أربعة وإلَّا واحدًا" فالمجموع عشرة، فعلى القول بجمع مُفرق الاستثناء يبطل __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2736)، ومسلم رقم (2677) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/235)


جميع الاستثناءات لأنها بمثابة: "له عليَّ عشرة إلَّا عشرة". وأما على القول بأنه لا يُجمع مُفرقه فلا يبطل إلَّا الذي حصل به الاستغراق مع ما بعده إن كان بعده شيء، والباطل الذي حصل به الاستغراق في هذا المثال الأخير هو الواحد لأنه آخر مذكور حصل به الاستغراق فتسقط تسعة ويلزم واحد لبطلان الاستثناء فيه. وقوله: "ذا تعدد" مفعول به مقدَّم لقوله: "حَصِّلِ". 407 - إلَّا فكلٌّ للذي به اتَّصلْ ... . . . . . . . . . . . . . قوله: "إلَّا" يعني وإلَّا تكن الاستثناءات المتعددة متعاطفة بل كانت متعددة من غير تعاطفِ فكلٌّ منها عائد إلى ما قبله يليه ما لم يستغرقه، فإن استغرقه فسيأتي للمؤلف. ومثالُ رجوع كلٍّ لما قبله يليه مع عدم الاستغراق قوله: "عليَّ عشرة إلَّا خمسة إلَّا أربعة إلَّا ثلاثة" فيلزمه ستة لأن الثلاثة تخرج من الأربعة فيبقى واحد يخرج من الخمسة فتبقى أربعة تخرج من العشرة تبقى ستة. وهذا الذي مشى عليه المؤلف هو الحق، خلافًا لقول ابن مالك في "الخلاصة" برجوعها كلها للأول، حيث قال: * وحكمها في القصد حكم الأول * فإن استغرق كل ما يليه بطل الجميع نحو: "له عليَّ عشرة إلَّا عشرة إلَّا عشرة إلَّا عشرة" فتلزمه العشرة لبطلان الاستثناءات كلها، وإلى هذا أشار بقوله: . . . . . . . . . . . . . ... وكلُّها عند (1) التساوي قد بَطَل __________ (1) الأصل: مع.

(1/236)


أي ويدل له قوله المتقدم: "والمثل عند الأكثرين مبطل" (1). 408 - إن كان غيرُ الأول المستَغْرِقا ... فالكل للمُخْرَجِ منه حُقِّقا يعني أن الاستثناء إذا تعدد واستغرق غير الأول عاد الكل إلى المُخْرَجِ منه الذي هو المستثنى منه نحو: "له عليَّ عشرة إلَّا اثنين إلَّا ثلاثة إلَّا أربعة" فيخرج الكل من العشرة يبقى واحد فقط هو اللازم. 409 - وحيثُما استغرقَ الأولُ فقطْ ... فأَلْغِ واعتبر بخَلْفٍ في النَّمَطْ يعني أنه إذا تعدَّد الاستثناء ولم يستغرق منه إلَّا الأول فقط نحو: "له عليَّ عشرة إلَّا عشرة إلَّا أربعة" فقيل: يُلغى ما يعد المستغرق تبعًا له وهو الأربعة في المثال المذكور فتلزم العشرة، وهذا هو معنى قوله: "فألْغِ". وقيل: يعتبر ما بعده، وعليه فقد اخْتُلِف في نمط أي طريق اعتباره فقيل: يُستثنى الثاني من الاستثناء الأول، فتلزم أربعة لأن العشرة المستثناة من العشرة منفية لأن الاستثناء من الإثبات نفي، والأربعة المستثناة منها منفية لأن الاستثناء من النفي إثبات. وقيل: يعتبر الاستثناء الثاني ويبطل الأول، فيكون الثاني الذي هو استثناء الأربعة في المثال المذكور من العشرة الأولى وهي مثبتة، وهو من الإثبات نفيٌ فتبقى ستة هي اللازمة. 410 - وكلُّ ما يكونُ فيه العطفُ ... من قبلِ الاستثنا فكُلًّا يقفو 411 - دونَ دليلِ العقلِ أو ذي السَّمعِ ... والحقُّ الافتراقُ دون الجَمْعِ يعني أن الاستثناء الوارد بعد متعاطفات سواءٌ كانت مفردات أو __________ (1) البيت رقم (403).

(1/237)


جملًا فإنه يرجع لكلها حيث صلح له، لأنه الظاهر عند الإطلاق إلَّا لدليل يُعَيِّن ما يرجع إليه الاستثناء من المتعاطفات، فإن وُجِد دليل يُعين الرجوع إلى بعضها اتُّبع. مثاله في المفردات قولك: "تصدَّق على المساكين وأبناء السبيل وبني تميم إلَّا الفاسق منهم" فإنه يخرج فاسق الكل، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يجلسَنَّ أحدُكم على تَكْرِمة أخيه ولا يؤمُّه في بيته إلَّا بإذنه" (1) فإنه راجع لهما. ومثاله في الجُمَل قولك: "عبيدي أحرار ونسائي طوالق إلَّا المسلم منهم" فإنه يخرج مسلم الكل، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان/ 68 - 69] الآية، فإنه راجع إلى الكل. وخالف أبو حنيفةَ الجمهورَ قائلًا: إن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، ولأجل ذلك لم يقبل شهادةَ القاذف ولو تابَ وأصلحَ لأن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} يرجع عنده لخصوص جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أي فقد زال فسقهم بالتوبة، ولا يَقْبل رجوع الاستثثاء إلى قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور/ 4 - 5] فاقبلوا شهادتهم، بل يقول: لا تقبلوها لهم مطلقًا، والاستثناء لم يرجع إليها لاختصاصه بالأخيرة. __________ (1) أخرجه مسلم رقم (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي اللَّه عنه- ضمن حديث، ولفظه: "ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه".

(1/238)


ولم يخالف أبو حنيفة قاعدَتَه هذه في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ} فإنه موافق للجماعة في رجوعه لجميع الجمل قبله، ووجه عدم مخالفته فيه لأصله: أنه عنده راجع إلى الأخيرة فقط وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} إلَّا أن الإشارة في قوله: {ذَلِكَ} راجعة إلى جميع الجمل المتقدمة، وبرجوعه لها صار الاستثناء راجعًا للكل فظهر أن أبا حنيفة لم يخالف فيها أصلَه. قال مُقيِّده عفا اللَّه عنه: هذه القاعدة التي ذكرها المؤلف وذكرناها عن الجمهور، منهم المالكية والشافعية والحنابلة، مِن رجوع الاستثناء لجميع المتعاطفات قبله تقتضي صحة احتجاج داود الظاهريِّ على إباحة جمع الأختين في الوطء بملك اليمين؛ لأنه يقول: إن قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} راجع أيضًا لقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] أي: إلَّا ما ملكت أيمانكم من الأخوات فلا يحرم فيه الجمع. والجواب عن هذا: أن التحقيق في هذه المسألة هو ما حقَّقه بعضُ المتأخرين كابن الحاجب (1) من المالكية، والغزالي (2) من الشافعية والآمدي (3) من الحنابلة (4) = مِن أَنَّ حُكم الاستثناء بعد الجمل المتعاطفات __________ (1) انظر "المختصر - مع شرحه": (2/ 281) للأصفهاني. (2) انظر "المستصفى": (2/ 177). (3) انظر "الإحكام في أصول الأحكام": (2/ 506). (4) كان حنبليًّا في أول أمره، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، انظر: "البداية والنهاية": (17/ 214)، و"طبقات الشافعية الكبرى": (8/ 306 - 307).

(1/239)


هو الوَقْف لاحتمال رجوعه للكل أو البعض أخيرًا أو أوَّلًا. ووَجْه كون هذا القول هو التحقيق: أن القرآن يشهد له في آيات كثيرة كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ} إلى قَوْله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور/ 4 - 5] فإنه لا يرجع إلى الجملة الأولى التي هي {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لأن القاذف لا يسقط عنه حدّ القذف بالتوبة. وكقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء/ 92] فإنه لا يرجع للأولى لأن تَصَدُّق مستحق الدية بها لا يُسقط كفارةَ القتل خطأً. وكقوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ} [النساء/ 89 - 90] الآية، فإنه لا يرجع للأخيرة التي هي: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} لأن اتخاذهم أولياء حرامٌ مطلقًا دون استثناء، ولكنه راجع للأولين أعني قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} أي خذوهم بالأسْرِ واقتلوهم، إلَّا الذين يَصِلُون إلى قومٍ بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أسْرُهم ولا قَتْلُهم لأن لهم من الميثاق ما لمن وصلوا إليهم، لاشتراطهم ذلك في عقد الصلح الذي عقده -صلى اللَّه عليه وسلم- مع هلال بن عُوَيمر، وسراقة بن مالك. وإذا كان الاستثناء ربما لا يرجع للأخيرة التي هو يليها فكيف يكون نصًّا في الرجوع إلى غيرها؟ ! فتبين أنه لا حجة لداود الظاهري في الاستثناء بقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} على التحقيق. وفرَّق بعضُ العلماء بين المفردات والجملِ فقال: يرجع للكل في المفردات بلا خلاف، وفي الجُمَل فيه خلاف، وفرَّق بعضهم بين العطف

(1/240)


بالواو وبين العطف بغيرها قائلًا برجوعه للكل في الواو دون غيرها. وقوله: "والحق الافتراق دون الجمع" يعني أنه على القول برجوع الاستثناء لجميع المتعاطفات قبله فالحق أنه يعود إلى الجميع مفرَّقًا ولا يعود إليه مجموعًا، وتظهر ثمرةُ ذلك فيما لو قال: "أنتِ طالق ثلاثًا وثلاثًا إلَّا أربعًا" فعلى التفريق تلزمه الثلاث لأن قوله: "إلَّا أربعًا" راجع لكل من الثلاث بانفراده، والأربعة مستغرقة للثلاث فيبطل الاستثناء في كل منهما لاستغراقه، وعلى الجمع تجمع الثلاث والثلاث فيكون مجموعها ستة فيكون كمن قال: "ستًّا إلَّا أربعًا" فتلزمه طلقتان. 412 - أمَّا قِرانُ اللفظ في المشهورِ ... فلا يُساوي في سِوى المذكُورِ يعني أن القِران بين جملتين مثلًا، أو مفردَيْن مثلًا، أي الإتيان باللفظين الدالَّين عليهما مقترنين لا يوجب التسوية بينهما في غير ذلك الحكم المذكور، كقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة/ 196] عند من يقول بعدم وجوب العمرة فإنه تعالى قَرَن بينهما في حكم، هو وجوب الإتمام بعد الشروع، فلا يلزم من ذلك مساواتهما في الحكم ابتداءً، ومن قال بالوجوب يقول: معنى الإتمام ابتداء فعلهما والإتيان بهما تامَّين. وما ذكره المؤلف من أن القِران في اللفظ لا يدل على المساواة في غير ذلك الحكم هو مذهب الجمهور خلافًا لبعض المالكية، والمُزَنيِّ من الشافعية، وأبي يوسف من الحنفية، وعليه تكون العمرة واجبة كالحج ولو على أن المراد بالإتمام الإتمام بعد الشروع. 413 - ومنه ما كان مِنَ الشرطِ أَعِدْ ... للكلِّ عند الجلِّ أو وَفْقًا تُفِدْ

(1/241)


اعلم أولًا أن الشرط من حيث هو أربعة: شرط عقليّ كالحياة للعلم، وشرعيّ كالطهارة للصلاة، وعاديّ كالسُّلَّم لصعود السطح، ولغويّ وهو المقصود هنا. وقوله: "ومنه" أي ومن المخصِّص المتصل "ما كان" أي ما شابه إنْ الشرطية من أدوات الشروط كـ "مهما ومتى" ونحوِهما من جوازم فعلين، وكـ "إذا ولو"، والمراد بالشرط الأداة وفعل الشرط لأنهما هما الدالَّان على التخصيص كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور/ 33]، يُفْهم منه تخصيص الأمر بالكتابة بالذين عُلِم منهم خيرٌ دون غيرهم، أي فإن لم تعلموا فيهم خيرًا فلا تكاتبوهم، وحقيقةُ الشرط المخصص هو تعليق حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملةٍ أخرى. وقوله: "أعدْ للكل عند الجل أو وَفْقًا" يعني أن الشرط يعود لكل الجمل المتقدمة عند الجمهور وقيل: اتفاقًا. ووَجْه ذلك أن الشرط له صدر الكلام فهو مقدم على مشروطه تقديرًا. ورُدَّ هذا بأنه مقدَّم على خصوص ما هو راجع إليه فلا يلزم من ذلك رجوعه للكل، فإن رجع للأخيرة قُدِّم عليها فقط، وعلى هذا فلا يظهر بينه وبين الاستثناء فَرْق. 414 - أخرجْ به وإن على النِّصْفِ سما ... كالقومَ أكرِمْ إن يكونوا كُرَما يعني أنه يجوز الإخراج بالشرط وإن كان المخرَج به أكثر من المخرَج منه نحو: "أكرِم القومَ إن كانوا كرماءَ" فيصح ولو كان المخرَج بالشرط أكثر وهم اللؤماء، وقوله: "وإن على النصفِ سما" أي زاد على النصف.

(1/242)


415 - وإن ترتَّبَ على شرطينِ ... شيءٌ فبالحصولِ للشرطَيْن يعني أنه إن اشْتُرط شرطان أو أكثر في شيء فإنه لا يحصل إلا بحصول الجميع، فلو قال لزوجته: "إن دخلتِ الدارَ وكلمتِ زيدًا فأنتِ طالق" لم تَطْلُق إلا بالشرطين معًا وهكذا. 416 - وإن على البدلِ قد تعلَّقا ... فبحصولِ واحدٍ تُحُقِّقا يعني أنه إن عُلِّق شيءٌ على أحدِ شرطين على سبيل البدل نحو: "إن دخلتِ الدارَ أو كلمتِ زيدًا فأنتِ طالق" فإنه يحصل بحصول أيِّ واحد منهما. وقوله: "تُحُقِّقا" بالبناء للمفعول. 417 - ومنه في الإخراج والعَوْدِ يُرى ... كالشرط قُل وصفٌ وإن قبلُ جَرى قوله: "ومنه" أي من المخصِّص المتصل، يعني أن من المخصِّص المتصل الوصف، نحو: "أكرِمْ بني تميم العلماءَ" فالعلماء وصف مُخْرِجٌ لغير العلماء منهم. وقوله: "في الإخراج والعَودِ يُرى كالشرط" يعني أن الوصف كالشرط في أنه يعود للكل، وأنه يجوز به إخراج أكثر من النصف، فمثال رجوعه للكل: "هذه الدار حَبْس على أولادي وأولادهم المحتاجين" فإنه يخرج غير المحتاج من الأولاد وأولادهم. وقوله: "وإن قبلُ جَرى" يعني أن التخصيص المذكور بالوصف واقع وإن جاء الوصف قبل الموصوف نحو: "هذه الدار حَبْس على محتاجي أولادي وأولادهم" فإنه يخرج غير المحتاجِ من الجميع. 418 - وحيثُما مُخَصِّصٌ توسَّطا ... خصَّصَه بما يلي من ضَبَطا

(1/243)


يعني أن المخصِّص المتصل من صفةٍ، أو استثناءٍ، أو شرطٍ، أو غايةٍ، إذا توسَّط بين المتعاطفات كان مخصِّصًا لما قبله من المتعاطفات دون ما بعده، وهو مراده بقوله: "خصَّصَهُ بما يلي"، وقوله: "من ضَبَطا" يعني به السبكيَّ، ولم يقل السبكيُّ ذلك إلَّا في الصفة فقط مع قوله: "إنه لا يعلم فيها نقلًا" (1). وذكر ابن قاسم في "الآيات البينات" (2) أنه لا فرق بين الصفة وغيرها في تخصيص الكل لما قبله دون ما بعده، وإياه تبعَ المؤلِّف في قوله "وحيثما مخصص" إلخ حيث عمَّم في المخصص المتصل. ومثاله في الصفة قولك: "أكرم بني هاشم وبني زهرة العلماء وبني تميم" فإن التخصيص بوصف العِلم يكون فيما قبله لا فيما بعده، وقس على ذلك باقى المخصصات. وروى عن الإمام الشافعي -رحمه اللَّه- ما يدل على أن الصفة المتوسطة بين المتعاطفات تخصِّص ما بعدها كتخصيصها لما قبلها، ولذا قال في طعام جزاء الصيد: إنه يُعطَى لخصوص مساكين الحرم؛ لأنه تعالى قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة/ 95] الآية، فالأول الذي هو الهَدْي خُصِّص ببلوغ الحرم، فجعل الشافعيُّ التخصيص بذلك فيما بعد الصفة وهو الإطعام فجعله لمساكين الحرم (3). 419 - ومنه غايةُ عمومٍ يَشْمُلُ ... لو كان تصريحٌ بها لا يحصُلُ __________ (1) انظر "شرح المحلي على الجمع": (2/ 23). (2) (3/ 53). (3) انظر "الأم": (3/ 471).

(1/244)


قوله: "ومنه" أي من المخصص المتصل "غايةُ عمومٍ" بإضافة "غاية" إلى "عموم" أي غاية صحبها عموم يشملها من جهة الحكم لو كانت لم تذكر معه كقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة/ 29] فإنَّ الأمرَ بالقتال عام تناولًا لمعطي الجزية كتناوله لغيره، فلو لم تُذْكر الغاية بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} لَعَمَّ الحكمُ إعطاء الجزية وغيره بوجوب القتال في كل ذلك، وهذا هو مراده بقوله: "غايةُ عموم يشملُ لو كان تصريح بها لا يحصل". واعلم أن الغاية تخصِّص سواء تقدمت أو تأخرت، فتقدُّمُها كقولك: "إلى أن يفسق أولادُ فلان وقفتُ عليهم داري" فإذا فسقوا نُزِعَ منهم الوقف، لتخصيص العموم بالغاية ولو تقدمت. ومثال تأخرها ما ذكرنا من الآيات، وقولك: "وقفتُ داري عليهم إلى أن يفسقوا". وأصلُ الغايةِ منتهى الشيء. 420 - وما لتحقيق العُمومِ فَدعِ ... نحو سلامٌ هيَ حَتَّى مَطلَعِ يعني أن الغاية التي جيء بها لتحقيق العموم فيما قبلها ليست للتخصيص، أي دع التخصيص بالغاية المذكورة لتحقيق العموم كقوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر/ 5] لأنها قد تكون غير مشمولة لما قبلها كهذه الآية، لأن مَطْلع الفجر لا تشمله الليلة لأنه من النهار. 421 - وهي لما قبلُ خلا تعودُ ... وكونُها لما تلي بعيدُ يعني أن الغاية كغيرها من المخصِّصات المتصلة تعود لجميع ما

(1/245)


قبلها من المتعاطفات، نحو: "وقف على أولاده (1) وأولادهم إلى أن يفسقوا" وقوله: "وكونها" إلخ، يعني أن القول القائل برجوعها لخصوص ما قبلها -وهو الأخير من المتعاطفات- بعيد، أي ضعيف. 422 - وبدلُ البعضِ من الكلِّ يفي ... مُخصِّصًا لدى أُناس فاعرفِ يعني أن بدل البعض من الكل من المخصِّصات المتصلة كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران/ 97] فقوله: {عَلَى النَّاسِ} عام، وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل بعضٍ منه مخصص له بالمستطيع دون غيره. وقوله: "لدى أناس" أي منهم الشافعي وابن الحاجب (2). ويُخَصِّص أيضًا ببدل الاشتمال؛ لأنه راجع في الحقيقة لبدل البعض من الكل، كقولك: "أعجبني القومُ حديثُهم" والأكثرون لم يعدّوا بدلَ البعض من الكل من المخصِّصات، لأن المبدَل مثه في نية الطرح والمقصود بالحكم البدل، فكأن المبدَل منه لم يُذكر لعدم قَصْده بالحكم (3). * * * __________ (1) ط: وقفت على أولادي. (2) انظر "المختصر - مع شرحه": (2/ 248)، و"حاشية البناني": (2/ 24). (3) انظر "المصدر السابق"، و"البحر المحيط": (3/ 350).

(1/246)


المخصِّص المنفصل 423 - وسمِّ مُسْتَقِلَّهُ منفصِلا ... للحِسِّ والعقل نماة الفُضَلا هذا هو القسم الثاني من أقسام المخصص وهو المنفصل، وعرَّفه المؤلِّف بأنه المستقلّ بنفسه عن العام، أي لا يحتاج إلى ذكره مقترنًا بالعام، وهو قسمان: لفظيّ وغير لفظيّ. وبدأ المؤلف بغير اللَّفظي لقلته، وهو التخصيص بالحس والعقل. وقوله: "للحس والعقل نماه الفضلا" أي نسب الفضلاءُ المخصِّصَ المنفصل إلى الحسّ فقالوا: مُخصِّصٌ منفصل واقع بالحسِّ، ويمثلون له بقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف/ 25]، فقوله: {كُلَّ شَيْءٍ} يعم الأرض والجبال والسماء، والحسُّ بالعين يشاهدها غير مُدَمَّرة، فدلَّ على خصوص التدمير بغيرها. وبعضهم قال: إن هذا التخصيص باللفظ في قوله: {بِأَمْرِ رَبِّهَا} وهذا لم يأمرها ربُّها بتدميره. وله مخصِّص آخر لفظي، وهو تخصيص التدمير بما أتت عليه دون غيره المشار إليه بقوله: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات/ 42]. ومخصِّص منفصل واقع بالعقل كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر/ 62] الآية دلَّ العقل على عدم دخول اللَّه جل وعلا فى هذا العموم، مع أن لفظ "الشيء" يطلق عليه كما في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص/ 88]، وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ

(1/247)


اللَّهُ} [الأنعام/ 19] الآية. وقوله: "الفضلا" مقصور لضرورة الوزن، والمراد به الأصوليون. 424 - وخَصِّصِ الكتابَ والحديثَ بهْ ... أو بالحديث مطلقًا فَلْتَنْتَبِهْ يعني أنه يخصَّصُ الكتابُ والحديثُ بالكتاب والحديثِ، فصُوَرُ التخصيص بالنص المنفصل أربع؛ لأن المُخَصِّصَ باسم الفاعل، والمُخَصَّص باسم المفعول، كل منهما يكون كتابًا ويكون سنة، فتضرب حالتي المُخَصِّص بالكسر في حالتي المخصَّص بالفتح بأربع: الأولى: تخصيص الكتاب بالكتاب كتخصيص قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة/ 228] الآية بغير الحوامل بقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق/ 4]. وكتخصيصه أيضًا بغير المدخول بهنَّ بقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب/ 49] الآية. الثانية: تخصيص الكتاب بالسنة كتخصيص قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء/ 24] بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تُنكح المرأة على عَمَّتها أو خالتها" (1)، وكتخصيص قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء/ 11] بحديث: "لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ" (2)، __________ (1) أخرجه البخاري رقم (5109)، ومسلم رقم (1408) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (6764)، ومسلم رقم (1614) من حديث أسامة بن زيد -رضي اللَّه عنه-.

(1/248)


وكقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا نُوْرَث ما تركناه صدقة" (1). الثالثة: تخصيص السُّنَّة بالسُّنَة كتخصيص قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فيما سقت السماء العشر" (2) بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمسةِ أوْسُق صدقة" (3). الرابعة: تخصيص السّنّة بالكتاب، كتخصيص قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أُبِيْن من البهيمة وهي حية فهو ميت" (4) الشامل عمومه للوَبَر والصوف والشَعر __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3092)، ومسلم رقم (1758) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (2) أخرجه البخاري رقم (1483) من حديث ابن عمر، وأخرجه مسلم رقم (981) من حديث جابر -رضي اللَّه عنهما-. (3) أخرجه البخاري رقم (1405)، ومسلم رقم (979) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (4) أخرجه أحمد: (36/ 233 رقم 21903)، وأبو داود رقم (2852)، والترمذي رقم (1480)، والدارمي رقم (2016 - ط أسد)، والدارقطني: (4/ 292)، والحاكم: (4/ 239) وغيرهم من حديث أبي واقد الليثي -رضي اللَّه عنه-. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم اهـ. وقال ابن القطان: وإنما لم يصححه الترمذي لأنه من رواية عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار وهو يضعَّف وإن كان البخاري قد أخرج له اهـ. انظر "بيان الوهم والإيهام": (3/ 583). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وقد حكم أبو زرعة الرازي على هذه الرواية بالوهم وأن الصواب من حديث زيد بن أسلم عن ابن عمر مرسلًا. انظر "العلل" رقم (1479) لابن أبي حاتم. وهذه الرواية أخرجها ابن ماجه رقم (3216). وللحديث شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الحاكم: (4/ 124) وصححه على شرط الشيخين، وأعله الدارقطني بالإرسال "العلل": (11/ 259). وله شاهد آخر من حديث تميم الداري أخرجه ابن ماجه رقم (3217)، والطبراني في =

(1/249)


بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} [النحل/ 80] الآية، وكتخصيص قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمِرْت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا اللَّه" (1) الشامل لأهلِ الكتاب بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة/ 29] الآية. واعلم أن التحقيق هو تخصيص العام بالخاص سواء تقدم العام أو الخاص أو جُهل الحال، خلافًا لأبي حنيفة القائل بأن العام المتأخِّر ناسخ للخاصِّ، وأنه إن جُهل التاريخ تساقطا (2)، وهو رواية عن أحمد (3). واعلم أيضًا أَنه يجوز تخصيصُ الكتاب والسّنّة المتواترة بأخبار الآحاد؛ لأن التخصيص بيان، والقطعيُّ يُبَيَّنُ المقصودُ منه بالآحاد على التحقيق، كما يأتي للمؤلف في قوله: "وبين القاصر من حيث السند" (4) إلخ. 425 - واعتبرَ الإجماعَ جلُّ الناسِ ... وقِسْمَي المفهومِ كالقياسِ يعني أن الإِجماع اعتبره جلُّ الأصوليين مخصِّصًا للعموم، والتحقيقُ أن التخصيص في نفس الأمر بالنص الذي هو مستند الإِجماع، __________ = "الكبير" رقم (1276) وسنده ضعيف. انظر "البدر المنير": (1/ 460 - 467)، و"الهداية" رقم (172) للغماري. (1) أخرجه البخاري رقم (25)، ومسلم رقم (22) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (2) انظر "ميزان الأصول": (ص/ 323 - وما بعدها). (3) انظر "العدة": (2/ 615 - وما بعدها)، و"التمهيد": (2/ 155) لأبي الخطاب، و"المسودة": (ص/ 145 - 146). (4) البيت رقم (456).

(1/250)


ويوضِّح ذلك أنهم يمثلون للتخصيص بالإِجماع بتخصيص قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج/ 30] بغير الأخت من الرضاع، وبغير موطوءة الأب للإجماع على عدم إباحتهما بملك اليمين، والمخصص حقيقة في الأولى هو قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء/ 23]، وفي الثاني قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء/ 22] وهكذا. وقوله: "وقسْمَي المفهوم" أي واعتَبَرَ جلُّ الناس أيضا قسْمَي المفهوم مخصِّصَيْن للعام وهما: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة اللذان تقدم الكلام عليهما، وظاهر كلامه وجود الخلاف في كلٍّ من المفهومَين وهو كذلك في مفهوم المخالفة. أما مفهوم الموافقة فقد حَكَى الاتفاقَ على التخصيص به الآمديُّ (1) والسبكيُّ في "شرح المختصر" (2). ومثاله تخصيص قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عقوبته وعرضه" (3) ومعنى "لَيُّ الواجد" ظُلْم الغني، ومعنى "يُحل" بقوله: "مَطَلني"، __________ (1) "الإحكام في أصول الأحكام": (2/ 529). (2) المسمى "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب": (3/ 336). (3) أخرجه أحمد: (29/ 465 رقم 19746)، وأبو داود رقم (3628)، والنسائي: (7/ 316)، وابن ماجه رقم (2427)، وابن حبان "الإحسان": (11/ 486)، والحاكم: (4/ 102) وغيرهم من حديث الشريد بن سويد -رضي اللَّه عنه-. والحديث صححه ابن حبان والحاكم وابن الملقن في "البدر المنير": (6/ 656)، وحسنه الحافظ في "الفتح": (5/ 76).

(1/251)


و"عقوبته" (1) أي بالحبس. وظاهر هذا الحديث العموم ولو كان الواجد الذي حصل منه اللّيُّ أبًا في دين ابنه، ولكنَّ مفهوم الموافقة في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23] يدلُّ على تحريم الأذى بالحبس الذي هو أشد من التأْفيف، فيخصَّص عمومُ الحديث بمفهوم الموافقة في هذه الآية، فيمتنع حبس الوالد في دَيْن ولده كما نص عليه مالك (2). وأما مفهوم المخالفة فقد اخْتُلف في جواز التخصيص به كما أشار له المؤلف، وحكى الباجي (3) مَنعْ التخصيص به عن أكثر المالكية، والجمهور على التخصيص كما أشار له المؤلف. وحجة من قال بالتخصيص به: أن إِعمالَ الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وهو الحجة في التخصيص بمفهوم الموافقة أيضًا. وحجة من قال بعدم التخصيص بمفهوم المخالفة: أن ما دل عليه العام دل عليه بالمنطوق، والمخالفة مفهوم، والمنطوق مقدّم على المفهوم. وأجيب عن هذا بأن تقديم المنطوق على المفهوم في غير المنطوق الذي هو بعض أفراد العام. أما المنطوق الذي هو بعض أفراد العام فيقدَّم عليه المفهوم؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. ومثال التخصيص بمفهوم المخالفة: تخصيص عموم "في أربعين __________ (1) ط: يحل -بقوله: مطلني- عقوبته. وما في خ أصح. (2) انظر "تهذيب المدونة": (3/ 620). (3) ذكره عنه في "النشر": (1/ 251).

(1/252)


شاةً شاةٌ" (1) بمفهوم قوله: "في الغنم السَّائمة زكاة" (2) يفهم منه أنه لا زكاة في المعلوفة فيُخَصَّص به عموم: "في أربعين شاةً شاةٌ" أي إن كانت سائمة لا معلوفة عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة، وهم أكثر. وقوله: "كالقياس" يعني أن الأكثر يخصِّصون النص بالقياس، ومثال ذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور/ 2] فإنه يعم بظاهِرِهِ كل زانيةٍ وكل زانٍ، ثم إن عموم الزانية خصصه النص بالحُرَّة في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء/ 25]. وخصَّص العلماءُ عمومَ الزاني الذَّكَرِ بالقياس على الزانية بالعلة الجامعة التي هي الرق فقالوا: لا فرقَ بين الأَمَة والحُرة إلَّا الرِّق فتشطَّر جَلْد الأمة لعلة الرق، فيُشَطَّر جلد العبد لاتصافه بعلة التشطير التي هي الرق، فصار عموم الزانية مخصصًا بالنص، وعموم الزاني مخصَّصا بالقياس على النصِّ. 426 - والعُرفَ حيث قارنَ الخطابا ... . . . . . . . . . . . قوله: "والعرفَ" عَطْف على الإِجماع في قوله: "واعتبر الإجماع" __________ (1) أخرجه أحمد: (33/ 220 رقم 20016)، وأبو داود رقم (1575)، والنسائي: (5/ 25) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وسنده حسن. (2) أخرجه البخاري رقم (1454) بلفظ: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة. . . ". قال ابن الصلاح في "شرح مشكل الوسيط" (2/ 435 - بهامش الوسيط ط: دار السلام): "إن قول الفقهاء والأصوليين: "في سائمة الغنم زكاة" اختصار منهم للمفصل في لفظ الحديث من مقادير الزكاة المختلفة باختلاف النصب". ونقله ابن الملقن في "البدر المنير": (5/ 459).

(1/253)


إلخ، يعني أن العرف من مخصِّصات العام، وهو مخصِّص منفصل كما تقدم في قول المؤلف: "إن لم يكن فمطلق العرفيّ فاللغويّ" إلخ. وقوله: "حيث قارنَ الخطابا" يعني أن العوائد لا تخصِّص نصوص الشريعة إلَّا إذا كانت مقارنة لها في الوجود عند النطق بها، أما الطارئة بعدها فلا تخصِّصْها. ومثالُ العرف المقارن للخطاب: ما أخرجه مسلم والإمام أحمد من حديث مَعْمر بن عبد اللَّه العدوي رضي اللَّه عنه قال: كنتُ أسمع النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الطعامُ بالطعام مِثْلًا بمثلٍ وكان طعامُنا يومئذٍ الشعير" (1) فلفظ الطعام يعمّ كل أجناسه إلَّا أن العُرْف المقارن للخطاب خصَّصه بالشعير كما قال هذا الصحابي الجليل، فيخصِّص العرفُ المقترنُ بالخطاب الطعَامَ بالمتعارف عندهم باسم الطعام وهو الشعير، ولولا أن هذا العُرْفُ خصَّص الطعامَ بذلك لكان الربا منصوصًا في جميع أنواع المطعومات، ولم يحتجْ فيها إلى قياسٍ أصلًا كما ذهب إليه الشافعي. والعرف والغالب والعادة مترادفات، وعرَّفه ابن عاصم في أصوله بقوله: والعرف ما (2) يغلبُ عند الناس ... ومثله العادةُ دونَ باس . . . . . . . . . . . ... وَدَعْ ضميرَ البعضِ والأسبابا 427 - وذِكْرَ ما وَافَقَه من مفرَدِ ... ومذهبَ الرَّاوي على المُعْتَمَد هذه أربع مسائل اختُلِف في التخصيص بها، والمعتمد عدم التخصيص __________ (1) أخرجه مسلم رقم (1592)، وأحمد: (45/ 223 رقم 27250). (2) الأصل: وما.

(1/254)


بها، ولذا قال فيها المؤلف: "دَعْ" أي دعِ التخصيصَ بها على المعتمد. الأولى: ضمير البعض، وقيل: يخصِّص العامَّ، وهو مروي عن الشافعي وأكثر الحنفية. ومثاله قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنّ} [البقرة/ 228] فإنه راجع إلى بعض المطلقات وهي الرجعيات خاصة، ورجوع ضمير بعض المطلقات للمطلقات لا يجعله خاصًّا بالرجعيات بل جميع الرجعيات والبوائن كلهنَّ يتربصن بأنفسهنَّ ثلاثةَ قروء، فالعمومُ باقٍ وإن رجع إليه ضمير البعض. وعلى القول الآخر فالتربص المذكور في خصوص الرجعيات، أما تربص البوائن فبدليل آخر كالقياس على الرجعيات أو نصّ منفصل. الثانية: سببُ النزول لا يخصِّص العامَّ النازل فيه، وتحريرُ هذا المقام: أن العام الوارد على سبب خاص له ثلاث حالات: الأولى: أن يقترن بما يدل على التعميم. الثانية: أن يقترن بما يدل على التخصيص. الثالثة: ألا يقترن بما يدل على عموم ولا خصوص. فإن اقترن بما يدل على التعميم فهو عام بلا نزاع كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38] فإنها نزلت في المخزومية التي سرقت وقطع -صلى اللَّه عليه وسلم- يدها. وقال بعضُ العلماء: نزلت في الرجل الذي سرق رداءَ صفوان بن أمية في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (1)، فعلى أنها نزلت في المرأة فالإتيان بلفظ "السارق" الذَّكَر دليل على التعميم، وعلى __________ (1) انظر "تفسير ابن كثير": (3/ 1171 - 1172).

(1/255)


أنها نزلت في الرجل فالإتيان بلفظ "السارقة" الأنثى يدل على التعميم. وإن اقترن بما يدل على الخصوص فهو خاص بلا نزاع، ومثاله قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب/ 50] الآية فهذا خاصٌّ بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والخاصُّ به عام على التحقيق كما تقدم في قول المؤلف: "وما به قد خوطب النبي" (1) إلخ، فإذا عرفتَ عمومه فاعلم أنه مقترن بما يدل على التخصيص وهو قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. وإن لم يقترن بما يدل على عموم ولا خصوص فهو مراد المؤلف بقوله: "والأسبابا" أي دعَ تخصيص العام بسب نزوله لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ومثاله: آية الظهار النازلة في امرأة أوس ابن الصامت، وآية اللعان النازلة في هلال بن أمية (2) وعُوَيمر العجلاني (3)، وآية: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} النازلة في تميم الدَّاري وعدي بن بداء، وآية: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال/ 70] النازلة في العباس بن عبد المطلب. وآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة/ 196] النازلة في كعب بن عُجْرة، وآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء/ 65] النازلة [في] خَصْم الزبير بن العوام، وآية: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة/ 195] النازلة في الأنصار. فكل هذه الآيات يعم من نزلت فيه الآية وغيره، __________ (1) البيت رقم (372). (2) الأصل: مرة! (3) فيما أخرجه البخاري رقم (4745)، ومسلم رقم (1492) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-.

(1/256)


فآية الظهار تعم كلَّ مُظاهر، وآية اللعان تعم كل ملاعن، وهكذا. . وإن نزلت في أسبابٍ خاصة. والدليل على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: قصةُ الأنصاري الذي نال بعض ما لا يجوز من امرأة أجنبية فلما سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنزل اللَّه فيه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود/ 114] فسأل ذلك الأنصاريُّ: هل ذلك خاص به؟ فبيَّن له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه عامٌّ بقوله: "بل لأمتي كلهم" (1) فكان فيه الدليل الصريح على أن العبرة بعموم {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ. . .} الآية لا بخصوص الأنصاري الذي هو سبب النزول. الثالثة: ذِكْر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصِّصه على التحقيق، وهو مذهب الجمهور ولم يخالف فيه إلَّا أبو ثور، زاعمًا أنه لا فائدة لذكره إلَّا التخصيص. وأُجيب من جهة الجمهور بأنه مفهوم لقب وهو ليس بحجة، وبأن فائدة ذكَر البعض نفي احتمال إخراجه من العام. وسواء ذُكِرا في نص واحد أو ذُكِر كل منهما على حِدَته، فمثال ذكرهما في نص واحد قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة/ 238] فذِكْر الصلاة الوسطى لا يقتضي تخصيصَ الأمر بالمحافظة بها بل هو عام في جميع الصلوات. ومثال ذكر كل منهما على حدة: حديث الترمذي (2) وغيره: "أيُّما إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر". مع حديث __________ (1) أخرجه البخاري رقم (4687)، ومسلم رقم (2763) من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. (2) رقم (1728)، وأخرجه مسلم رقم (366) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه =

(1/257)


مسلم أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرَّ بشاةٍ ميتة فقال: "هَلَّا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" الحديث (1)، فإنَّ ذِكْر إهاب الشاة لا يدلُّ على تخصيص ذلك بجلد الشاة الميتة فقط بل يعم جلود الميتة لعموم: "أيما إهابٍ دُبغ فقد طَهُر". المسألة الرابعة: مذهب الراوي لا يُخَصِّص مَرْوِيَّه لأن العبرة بمَرْوِيِّه لا بمذهبه؛ لجواز أن يكون قوله عن اجتهادٍ. وقيل: يخصِّصه لأنه لا يخالف مرويَّه إلَّا عن دليل. وقيل: يفرَّق بين الصحابي وغيره فيُقْبل من الصحابي دون غيره، لأنه إذا خالف مرويَّه دلَّ ذلك على أنه اطلع منه -صلى اللَّه عليه وسلم- على قرينة تدل على تخصيص ذلك العام، وأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أراد به الخصوص، والتابعيُّ لا يتأتَّى له ذلك لعدم اجتماعه به -صلى اللَّه عليه وسلم-. وما راءٍ كمن سَمِعا. ومثاله: حديث البخاري (2) من رواية ابن عباس: "من بَدَّل دينَه فاقتلوه". وهو شامل للمرأة إذا ارتدت، مع ما يُرْوى عن ابن عباس من أنه يقول بعدم قتل المرتدة، إلَّا أنه لم يصح عنه، ولكن سيأتي للمؤلف (3): والشأن لا يُعْتَرض المثالُ ... إذ قد كَفَى الفرضُ والاحتمالُ 428 - واجزِمْ بإدخال ذواتِ السَّبَبِ ... واروِ عنِ الإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ يعني أن صورة السبب الذي ورد عليه العام قطعيةَ الدخول في العام فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد، فالمرأة التي نزلت فيها آية الظهار داخلةٌ في __________ = عنهما- بلفظ: (إذا دبغ. . .). (1) أخرجه مسلم رقم (363) من حديثه أيضًا. (2) رقم (6922). (3) البيت رقم (809).

(1/258)


حكمها قطعًا، والرجل الذي نزلت فيه آية اللعان داخل في حكمها قطعًا؛ لأن ورودَ العام على تلك الصورة قرينة قطعية على شموله لها. وقوله: "وارْوِ عن الإمام ظنًّا تُصِب" فِعْل أمر من الرواية، والإمام هو مالك، يعني أنَّ القرافيَّ روى عن مالك أن دخول صورة السبب في العام ظنِّي، فارْوِهِ عن مالك تُصِب، أي توافق الصواب. وحجة هذا القول: أنها من إفراد العام وليست دلالته قطعية إلَّا على واحد منها غير معيَّن كما تقدم في قوله: "وهو على فردٍ يدلُّ حتمًا" (1) إلخ. وما ألزمه المحلِّي (2) للإمامِ أبي حنيفة من القول بأنه أخرج صورة السبب في قوله بأن الأَمَةَ التي لم يُقر سيدُها باستلحاق ولدٍ (3) منها لا يلحقه ولو كان متسرِّيًا بها، إذ لابد عنده من الإقرار قائلًا -أعني المحلّي-: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في خصومةِ عَبْد بن زَمْعة وسعد بن أبي وقاص: "الولد للفراشِ. . . " (4) فالأمةُ صورة السبب وأبو حنيفة أخرجها = لا يلزمُ أبا (5) حنيفة لأنه لم يسلِّم أن مجرَّد التَّسَرِّي تكون به الأمة فراشًا بل لا تكون عنده فراشًا إلَّا بالإقرار باستلحاق ولدٍ منها، وأمةُ زمعة عنده استلحق منها ولدًا قبل التنازع فيه بدليل قولِ عَبْد بن زمعة: "وليدة أبي" فهي فعيلة بمعنى فاعلة __________ (1) البيت رقم (356). (2) في "شرح الجمع": (2/ 40). (3) ط: باستلحاقه ولدًا. (4) أخرجه البخاري رقم (2053)، ومسلم رقم (1457) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (5) الأصل: أبو.

(1/259)


أي والدٌ لأبي، ولو ثبت أنها ولدت منه قبل ذلك وضحَ كونها فراشًا فإنه لا يخرجها من العام لأنها صورة السبب حينئذٍ حقًّا. 429 - وجاء في تخصيصِ ما قد جاورا ... في الرَّسْم ما يعمُّ خُلْفُ النُّظَرا قوله: "خُلْفُ" فاعِل "جاء". وقوله: "تخصيص ما" مصدر مضاف إلى فاعِلِه، ومفعولُه: "ما يُعَم" فـ "ما" الأولى فاعل المصدر أضيف إليه، وما الثانية مفعوله. وقوله: "في الرسم" يتعلق بـ"جاور". وتقرير المعنى: وجاءَ خُلْفُ النُّظراء -أي المتناظرين- في تخصيص الخاصِّ المجاور للعام في الرسم له، أي إذا ذُكِر خاصٌّ ثم ذُكِر بعده عام مجاور له في الرسم هل يُحمل ذلك العام على خصوص ذلك الخاص أو لا؟ مثاله: قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء/ 25]، فقوله: {تَكُونُوا صَالِحِينَ} خاص بالمخاطبين، وقوله: {لِلْأَوَّابِينَ} عامٌّ لكل أوَّاب من المخاطَبِين وغيرهم [من عامة الناس، فهل يُحمل قوله: {لِلْأَوَّابِينَ} على خصوص المخاطبين أو] (1) يبقى على عمومه وشموله لكل أوَّاب كائنًا ما كان؟ وأمثال هذا في القرآن كثيرة، كقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران/ 32]. __________ (1) ما بين المعقوفين من ط.

(1/260)


430 - وإن أتى ما خَصَّ بعدَ العملِ ... نَسَخَ وَالغَيرُ مُخصِّصًا (1) جلي يعني أنه إذا تعارض دليلان أحدهما عام والآخر خاص، وتأخَّر الخاص عن وقت العمل بالعام، فإن الخاص يكون ناسخًا للعام بالنسبة إلى ما تعارضا فيه. ومثاله: آيات المواريث مع آية الوصية للوالدين والأقربين عند من يقول بأنها مخصصة، لأن تخصيصها بآيات المواريث يُخرج من عمومها الوالدين الوارثين والأقارب الوارثين دون غيرهم، كالوالدين الرقيقين والأقارب الذين لا يرثون، فمن يقول بهذا التخصيص فهو تخصيص بعد العمل بالعام (2)، فهو نسخ، وأما على قول الأكثر بأن آيات المواريث ناسخة لآية الوصية من أصلها، وأن حديث: "لا وصيةَ لوارثٍ" (3) بيانٌ للناسخ فلا تصلح الآية مثالًا. ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما ذكره جماعة من علماء التفسير من أن آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة/ 5] ناسخة لقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام/ 121]؛ لأن عموم {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يتناول ما ذبحه كتابيٌّ لم يسمِّ اللَّه ولا غيره، ثم أخرج الكتابيَّ من عموم هذه الآية بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ} الآية، وهو __________ (1) في بعض النسخ: مخصص. (2) ط: بالعمل بعد العام. (3) سيأتي تخريجه (ص/ 297).

(1/261)


تخصيص بعد العمل، لأن آية: {وَلَا تَأْكُلُوا} من سورة الأنعام وهي مكية بالإجماع، وآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} من سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولًا بالإجماع بالمدينة، فهذا التخصيص بعد العمل نسخ، ودليل ذلك أن التخصيص بيان، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه كما يأتي للمؤلف (1). 431 - وإن يكُ العمومُ من وجهٍ ظَهَرْ ... فالحكمُ بالترجيحِ حتمًا مُعْتَبرْ يعني أن الدليلين إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها، فيجب الترجيح بينهما، ويجب العمل بالراجح إجماعًا، وخلافُ الباقلاني في وجوب العمل بالراجح مردود عليه بالإجماع كما يأتي للمؤلف في آخر الكتاب (2). ومثال ذلك: قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] مع قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6] فإن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، تنفرد آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} في الأختين بنكاح، وتنفرد آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في ملك اليمين غير الأختين، ويجتمعان في الأختين بملك اليمين، فتدل آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} على التحريم، وآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} على الإباحة كما قال عثمان رضي اللَّه عنه: أحلتهما آية وحرمتهما أخرى (3)، __________ (1) البيت رقم (461). (2) البيتان (865، 866). (3) أخرجه مالك في "الموطأ" رقم (1543)، وعبد الرزاق: (7/ 189).

(1/262)


فيرجَّح عمومُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} من خمسة أوجه: الأول: أنه في محل تحريم النساء وتحليلهن، وآية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في معرض مدح المتقين، فذكر من صفاتهم حِفْظ الفرج فاستطرد أنه لا يلزم عن الزوجة والسُّرِّية، وأَخْذ الأحكامِ من مظانّها أولى من أخذها لا من مظانها. الثاني: أن عمومَ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أجمعَ العلماءُ على تخصيصه، للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصِّصه عمومُ {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وعموم: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء/ 22] الآية، فالأخت من الرضاع وموطوءة الأب لا تحلّان بملك اليمين إجماعًا بخلاف عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} فلم يدخله التخصيص، والعامُّ الباقي على عمومه مقدَّم على العام المخصوص كما يأتي للمؤلف أيضًا، ولم يخالف في ذلك إلَّا السبكي وصفي الدين الهندي (1). الثالث: أن عموم: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وارد في معرض مدح المتقين، والعامُّ الواردُ في معرض مدح أو ذم قيل بعدم اعتبار عمومه كما تقدم في قوله: "وما أتى للمدح أو للذم" إلخ، وعموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} لم يَرِد في معرض ذم ولا مدح، وما لم يقترن بمانع الاعتبار مقدَّم على ما قال بعدمِ اعتبارِه بعضُ العلماء كما هو ظاهر. الرابع: أن الأصل في الفروج التحريم ما لم يدل دليل سالم من __________ (1) انظر "الجمع": (2/ 367)، و"نهاية الوصول في دراية الأصول": (8/ 3704 و 3714) للهندي.

(1/263)


المعارض على الإباحة. الخامس: أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يتضمن إباحةً، وعموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} يتضمن تحريمًا، والتحريم مقدَّم على الإباحة؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فتركُ مباحٍ أهون من ارتكاب حرام كما سيأتي للمؤلف. * * *

(1/264)


المقيّد وَالمطلق 432 - فما على معناه زِيدَ مُسْجَلا ... مَعنى لغيرهِ اعتقِدْهُ الأوَّلا يعني أن الأولى الذي هو المقيد هو: ما زِيْد معنًى على معناه لغير معناه نحو: "رقبة مؤمنة" فالإيمان معنى زيد على معنى الرقبة، فالرقبة مقيدة بالإيمان. وقوله: "مُسْجلا" معناه مطلقًا أي سواءٌ ذُكِر القيد أو كان مقدَّرًا، فمثال ذكره قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء/ 92]. ومثال تقديره قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)} [الكهف/ 79] فالسفينة هنا مقيدة بالصفة المقدرة أي كل سفينة صالحة صحيحة، وكذلك كان يقرؤها ابن عباس (1). وقول عَبيد بن الأبرص (2): مَنْ قوله قولٌ ومَن فعله ... فعلٌ ومَن نائلُه نائلُ أي: قوله قولٌ فَصْل، وفعله فعل جميل، ونائله نائل جَزْل. وقول الآخر (3): وَرُبَّ أسيلةِ الخدَّين بكر ... مهفهفةٍ لها فرعٌ وجيد أي: فرع فاحم وجِيد طويل. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3401)، ومسلم رقم (2385)، وابن جرير: (15/ 354). (2) "ديوانه": (ص/ 94). (3) البيت للمرقش الأكبر، انظر "المفضليات": (ص/ 224)، و"الأغاني": (6/ 126). وفيها: منعَّمة لها.

(1/265)


433 - وما على الذات بلا قيدٍ يدُلْ ... فمطلقٌ وباسمِ جنسٍ قد عُقِلْ يعني أن المطلق الذي هو اسم الجنس هو: اللفظ الدال على الماهية بلا قيد أي من غير تقييد بوحدة أو تعيين خارجي أو ذهني، لأنه إن قُيد بوحدة صار النكرة، وإن قُيد بتعيين خارجي صار المعرفة، كالمُعَرَّف بأل العهدية، وإن قُيد بتعيين ذهني صار علمَ الجنس، وعلى هذا التعريف فعَلَم الجنس لا يدخل في اسم الجنس، لأنه مقيّد بالوحدة الذهنية بخلاف اسم الجنس فإنه غير مقيد بشيء، ولكنَّ هذا يشكل عليه أن من فرَّق بين النكرة واسم الجنس كالسبكي جعل موضوع القضية الطبيعية هو اسم الجنس، ومعلوم أن موضوع القضية الطبيعية لابد فيه من مراعاة الوحدة الذهنية للماهية، إذ احتمال دخول الفرد في ضمنها لا يصح في الطبيعية وإن صح في اسم الجنس؛ لأن الماهيَّة في اسم الجنس لا تتحقق في الخارج إلا في ضمن بعض أفرادها، والطبيعية لا يمكن (1) وجودُ فردٍ من أفرادها الخارجية لأنها لم يقصد فيها إلا الماهية من حيث هي هي، فهي المحكوم عليه دون أفرادها الخارجية، فلو قلت: إنسانٌ كلِّي، لا يمكن الحكم بكونه كليًّا على فرد من أفراد الإنسان؛ لأن كل فرد من أفراده جزئي، صمانما الكلِّيُّ الصادق عليه الحكم: ماهيته. وجعل العبادي في "الآيات البينات" (2) عَلَم الجنس في حكم اسم الجنس. واعلم أن المراد بالجنس هنا ما يشمل الجنس والنوع والصنف عند __________ (1) الأصل: يكمن. (2) (3/ 83).

(1/266)


المنطقيين، كالحيوان فإنه جنس، والإنسان فإنه نوع، والعربيّ فإنه صنف. وحاصل الفرق بينهما (1): أن كل حقيقية اعتبرت من حيث هي هي فهي المطلق، وإن اعتبرت بإضافة شيء آخر إليها فهي المقيد. 434 - وما على الواحدِ شاع النَّكِرَه ... . . . . . . . . . . . يعني أن اللفظ الدالَّ على واحد شائع في جنسه، أي يصح إطلاقه على كل فرد من أفراد الجنس إطلاقًا بدليًّا هو النكرة نحو: "رجلٌ، ورقبةٌ" وكذلك "رجلان" فإنه يدل على اثنين شائعين في جنسهما، و"رجالٌ" فإنه يدل على ثلاثة شائعة من جنسها، فلفظ المطلق والنكرة واحد، وإنما الفرق بينهما اعتباري، لأن المطلق يعتبر فيه مطلق الماهية من غير قيد بشيء، والنكرة يعتبر فيها الواحد الشائع في جنسه. فإن قيل: إذا كان المعتبر في اسم الجنس مطلق الماهية وهي ذهنية، فأيُّ حاجة للأصول في الحقائق الذهنية؟ قلنا: إن الحقائق الذهنية المطلقة قد توجد في الخارج في ضمن أفرادها، فالأفراد إذًا تدخل في المطلق لضرورة عدم وجوده في الخارج إلا في ضمنها. . . . . . . . . . . . ... والاتحادُ بعضُهم قد نصرَه يعني أن اتحاد النكرة واسمِ الجنس، وأن كل واحد منهما هو ما دل على واحد شائع في جنسه، نَصرَه بعضُ الأصوليين وهو مذهب ابن __________ (1) أي: المطلق والمقيد.

(1/267)


الحاجب والآمدي (1)، وعليه عامة النحويين، لأن الموجود في الخارج هو الفرد، والماهية الذهنية لا وجود لها في الخارج، وقد قدمنا وجودها فيه ضمن أفرادها. وثمرة الخلاف في هل دلالة المطلق على الفرد بالمطابقة أو الالتزام؟ فعلى الاتحاد مع النكرة فهي مطابقة، وإلا فهي التزام، والمراد بالنكرة المتحدة بالمطلق عند هذا البعض هي النكرة في سياق الإثبات التي لم تقترن بأداة استغراق نحو: "رجلٌ، ورقبة" أما التي في سياق النفي كـ "لا رجلَ" والتي في سياق الإثبات مع الاستغراق نحو: "كلُّ رجلٍ" فهي للعموم، ولم تتحد باسم الجنس. 435 - عليه طالقٌ إذا كان ذكَرْ ... فولَدَت لاثنين عندَ ذي النظَرْ يعني أنه ينبني على الفرق بين النكرة واسم الجنس خلافُ الفقهاء فيمن قال لزوجته: "إن ولدت ذكرًا فأنت طالق" فولدت ذكرين هل تطلق أم لا؟ فعلى إرادة المطلق تطلق لأن التعليق على مطلق الماهية وقد وُجِدت في ضمن كل من الولدين، وعلى إرادة النكرة لم تَطْلق لأنها جاءت بغير المعلق عليه، لأن الوحدة الشائعة التي هي مدلول النكرة في معنى: إن ولدت ذكرًا واحدًا، وقد جاءت بذكرين، وكونهما اثنين مخالف للوحدة الشائعة التي هي معنى النكرة. 436 - بما يخصِّصُ العمومَ قَيِّدِ ... ودَعْ لِما كان سواه تقتدي __________ (1) انظر "المختصر - مع شرحه": (2/ 349)، و"الإحكام": (3/ 5) للآمدي.

(1/268)


يعني أن المطلق يقيد بما يخصَّص به العامُّ من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس. مثاله في الكتاب: تقييد الآيات التي أطلق فيها الدّمُ عن قيد المسفوحية في البقرة والنحل والمائدة بقيد المسفوحية في قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام/ 145]. ومثال التقييد بالسنة: تقييد إطلاق المسروق في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة/ 38] الآية بالسنة التي بينت أن القطع مُقيد بكون المسروق ربع دينار (1) -مثلًا-. ومثال التقييد بالإجماع: تقييد قوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} [الكهف/ 79] بالإجماع على أن المراد بها خصوص الصحيحة الصالحة، وقد تقدم أن التخصيص في الحقيقة بمستند الإجماع فكذلك التقييد. ومثال التقييد بالقياس: تقييد قوله تعالى في كفارة الظهار واليمين: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة/ 89] و [المجادلة/ 3] بالقياس (2) على كفارة القتل المقيَّدة بالإيمان في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء/ 92] بناءً على القول القائل بأن حَمْل المطلق على المقيد بالقياس ورجَّحه بعض الأصوليين. أما المخصِّصات المتصلة فالظاهر أن التقييد لا يكون بها إلَّا في __________ (1) أخرجه البخاري رقم (6789)، ومسلم رقم (1684) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (2) ط: بالإيمان بالقياس.

(1/269)


الصفة كقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، وقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف/ 110] لأن المطلق إما مطلق الماهية أو الواحد الشائع كما تقدم، والواحد لا تعدُّد في ذاته حتى يخرج بعضها بالاستثناء أو بالشرط أو بالغاية أو ببدل البعض، والمطلق على كونه مطلق الماهية لم يقصد به متعدد حتى يخرج بعضُ أفراده أيضًا. 437 - وحملُ مطلقٍ على ذاك وجبْ ... إن فيهما اتحدَ حكمٌ والسَّبَبْ يعني أنه إذا ورد في الوحي نصٌّ فيه إطلاق وآخر فيه تقييد وكان سببُهما واحدًا وحكمهما أيضًا واحدًا فإن المطلق يُحمل على المقيد كتقييد الدم في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة/ 3] بقيد المسفوحية المذكور في قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام/ 145]؛ لأن السبب واحد والحكم واحد. وكتقييد قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا نكاح إلَّا بوليّ" (1) بقوله في بعض الروايات: __________ (1) هذا الحديث روي عن نحو ثلاثين من الصحابة، وأحسن رواياته رواية أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- أخرجه أحمد: (32/ 280 رقم 19518)، وأبو داود رقم (2085)، والترمذي رقم (1101)، وابن ماجه رقم (1881)، وابن خزيمة -ذكره ابن الملقن-، وابن حبان "الإحسان" رقم (4077)، والحاكم: (2/ 169 - 172). قال الترمذي: هذا حديث حسن. . وحديث أبي موسى حديثٌ فيه اختلاف. ثم رجح الطريق الموصولة. وصححه عبد الرحمن بن مهدي وعلي ابن المديني وابن حبان والحاكم والبيهقي وابن الملقن وغيرهم. انظر: "السنن الكبرى": (7/ 107 - 112)، و"إرشاد الفقيه": (2/ 145 - 146)، و"نصب الراية": (3/ 187 - 190)، و"البدر المنير": (7/ 543 - 550).

(1/270)


"إلا بولي مُرْشد وشاهِدَي عدل" (1). 438 - وإن يكنْ تأخَّرَ المقيَّد ... عن عَمَلٍ فالنسخُ فيه يُعهَدُ يعني أن القيد إذا تأخر وروده عن أول وقت العمل بالمطلق كان القيد ناسخًا لما أخرجه من المطلق، وإنما انتقل من التقييد إلى النسخ لأن التقييد بيان والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل كما يأتي للمؤلف، وكما تقدم نظيرُه في التخصيص. والحاصل أنه إنْ عُلِم تقدمُ المقيد على وقت العمل، أو كان المطلق هو الأخير ورودًا أو تقارنا، أو جُهِل التاريخ = حُمِل المطلق على المقيد. وإن تأخر التقييدُ عن وقت العمل كان ناسخًا (2). وكل هذه الصور يدخل في كلام المؤلف. أما إذا عُلِم الأول منهما ونُسِيَ فالظاهر أيضًا أنه كذلك يُحمل فيه المطلق على المقيد ولا يُحْكَم بكونه نسخًا لاحتياج النسخ إلى دليل خاص يثبته كما يأتي للمؤلف، فلو فرضنا أن الشارع قال للمكفر: "اعتق رقبة" ثم قال بعد الفعل: "اعتق رقبة مؤمنة" كان القيد بالإيمان بعد العمل بعتق مطلق الرقبة نسخًا لعتق الكافرة لا تقييدًا، لمنع تأخر البيان عن وقت العمل. 439 - وإن يكن أمرٌ ونهي قُيِّدا ... فمطلقٌ بضدِّ ما قد وُجِدا __________ (1) أخرجه الشافعي في "الأم" رقم (2217)، والطبراني في الأوسط رقم (525)، والبيهقي في "الكبرى": (7/ 112) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. والحديث حسنه الحافظ في "الفتح": (9/ 98)، ونقل ابن الملقن في "البدر": (7/ 551) عن الدمياطي أنه قال: إسناده لا بأس به. (2) ط: نسخًا.

(1/271)


يعني أنه إذا كان الإطلاق والتقييد في أمر ونهي بأن كان الأمر والنهي أحدهما مطلق والثاني مُقيد، فإن المطلق منهما يُقيد بضدِّ القيد الذي قُيِّد به المقيّد لما بين الأمر والنهي من المضادة والمنافاة. مثال تقييد النهي وإطلاق الأمر: "لا تُعْتِقْ رقبةً كافرةً أعتق رقبةً" فإن الرقبة المطلقة المأمور بعتقها تقيد بضدِّ القيد الذي قيدت به الرقبة المنهي عن عتقها وهو الكفر فضدّه الإيمان، فتقيد به الرقبة المطلقة المأمور بعتقها فيكون المعنى: "أعْتِق رقبة مؤمنة". ومثال إطلاق النهي وتقييد الأمر ما لو قلت: "لا تُعْتِقْ رقبة أعتق رقبة مؤمنة" فإن الرقبة المُطْلقة المنهي عن عتقها تُقيد بضد القيد الذي قُيدت به الرقبة المأمور بها، وقَيْدها هو الإيمان وضده الكفر، فتقيد الرقبة المطلقة المنهي عنه عتقها بالكفر، فيكون المعنى لا تُعتِق رقبةً كافرة. 440 - وحيثُما اتَّحَد واحدٌ فلا ... يحمِلُهُ عليه جُلُّ العُقلا اعلم أولًا أن أحوال المطلق والمقيد أربعة: الأول: أن يَتَّحدا في الحكم والسبب معًا، وقد تقدم هذا قريبًا للمؤلف. الثاني: أن يختلفا في الحكم والسبب معًا، وهذا لا حَمْل فيه لأحدهما على الآخر إجماعًا، ولذا لم يتعرض له المؤلف. الثالث والرابع هما: إذا ما اتحد الحكم واختلف السبب أو اتحد السبب واختلف الحكم، وهما مراد المؤلف بهذا البيت. وظاهرُ كلامه أن أكثر العقلاء لا يحمل أحدهما على الآخر وأنهما

(1/272)


سواء في ذلك، وليس كذلك؛ لأن حَمْل المطلق على المقيد فيما إذا اتحد الحكم واختلف السبب قال به جُلُّ الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية. ومثاله: إطلاق كفارة الظهار واليمين عن قيد الإيمان، وتقييد كفارة القتل خطأ به، فيُحْمَل المطلق على المقيد، فيشترط الإيمان في رقبة الظهار وكفارة اليمين، ويدلُّ لذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لمعاوية بن الحكم السلمي: "اعتقها فإنها مؤمنة" (1) ولم يستفصله، وتَرْكُ الاستفصال كالعموم في الأقوال، كما تقدم للمؤلف. واخْتُلِف في دليل حَمْل المطلق على المقيَّد فقيل: هو اللغة لأن العرب يثبتون ويحذفون اتكالًا على المثبت، كقول قيس بن الخطيم (2): نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ وقول ضابئ بن الحارث البُرْجُمي (3): فمنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ. . . ... . . . . . . . . . . البيت وقول عمرو بن أحمر الباهلي (4): رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريئًا ومن أجل الطَّوِيِّ رماني فحذف من الأول "راضون" لدلالة "راض" عليه، وحذف من الثاني __________ (1) أخرجه مسلم رقم (537). (2) "ديوانه": (ص/ 173) وقد نُسِبَ في مصادر أخرى إلى عَمْرو بن امرئ القيس. (3) البيت في "الأصمعيات" (ص/ 184)، وانظر: "الخزانة": (10/ 312). وتمامه: فمَن يَكُ أَمسى بالمدينَهِ رَحلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِها لغَريبُ (4) البيت في "إصلاح المنطق": (ص/ 88)، و"شرح الحماسة": (2/ 936) للمرزوقي.

(1/273)


"غريب" لدلالة لفظ "غريب" المذكور عليه، وحذف من الثالث "بريئًا" لدلالة المذكور عليه أيضًا. وقيل: حَمْل المطلق على المقيد بالقياس كما تقدمت الإشارة إليه، وقيل: بالعقل وهو أضعفها. وأما الحالة الثانية التي هي: اختلاف الحكم واتحاد السبب، فليس الحكم فيها كالأولى لأن الحنابلة يقولون بحَمْل المطلق على المقيد في الأولى دونها، وقال بعض المالكية والشافعية بحَمْل المطلق على المقيد فيها أيضًا. ومَثَّلَ القائلون بعدم الحمل بقوله تعالى في صوم الظهار: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. . .} [المجادلة/ 4] فإنه قَيَّده بالتتابع وأطلق إطعام الظهار عن قيد التتابع فلا يُحْمل المطلق على المقيد، فلا يشترط التتابع في إطعام الظهار مع أن السبب واحد وهو الظهار والحكم غير واحد لأن هذا إطعام وهذا صوم. ومَثَّلَ القائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة بقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} في عِتْق الظهار وصومه مع أنه أطلق إطعام الظهار عن القيد بكونه قبل المسيس فيُحْمَل المطلق على المقيد، فيجب كون إطعام الظهار من قبل أن يتماسَّا. ومَثَّلَ له اللخمي بقوله تعالى في كفارة اليمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة/ 89]، وأطلق الكسوة عن القيد في قوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فيُحْمَل المطلق على المقيد، فتكون الكسوة من

(1/274)


أوسط ما تكسون أهليكم، وهذا كله فيما إذا كان المقيد واحدًا، وأما إن ورد مطلق ومقيدان بقيدين مختلفين فإنه لا يمكن حمله عليهما لتنافي قيديهما، فإن كان أحدهما أقرب إليه من الآخر حُمِل عليه، وإن لم يكن أحدهما أقرب من الآخر بقي على إطلاقه ولم يُقَيَّد بقيدِ واحدٍ منهما لاستحالة الترجيح بلا مرجِّح. مثال كونه أقرب لأحدهما: صوم كفارة اليمين فإنه لم يقيد بتتابع ولا تفريق، مع أن صوم الظهار مقيَّد بتتابع، وصوم التمتع مُقيد بالتفريق، وكفارة اليمين أقرب إلى الظهار منها إلى التمتع، فتقيد بقيده وجوبًا عند بعضٍ وندبًا عند بعض. وقراءةُ ابنِ مسعود: (ثلاثة أيام متتابعات) لم يثبت بها كون (متتابعات) من القرآن؛ لإجماع الصحابة على عدم كَتْبِها في شيء من المصاحف العثمانية. ومثال كونه ليس أقرب لأحدهما من الآخر: صوم قضاء رمضان فإن اللَّه قال فيه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة/ 185] ولم يُقَيِّده بتفريقٍ ولا تتابع، مع أن صوم الظهار مُقيد بالتتابع، وصوم التمتع مُقيد بالتفريق، وليس صومُ قضاء رمضان أقرب إلى أحدهما من الآخر، فيبقى على إطلاقه من شاء فَرَّقه ومن شاء تابعه. ويجاب عن المؤلف بأنه أراد بِجُلِّ العقلاء خصوصَ المالكية، فتكون "ألْ" عهدية، لأن التأليف في أصولهم. * * *

(1/275)


التأويل، والمُحكم، والمُجْمَل التأويل في اللغة: ما تؤول إليه حقيقة الشيء، وذلك هو معناه في القرآن حيث جاء، وبعض العلماء كابن جرير الطبري يُطلق التأويل يعنى به التفسير. وفي اصطلاح الأصوليين هو ما عرَّفه المؤلف. والمُحْكم في اللغة: اسم مفعول أَحْكَمه بمعنى أتقنه، وفي الاصطلاح سيأتي. والمجمل: اسم مفعول أَجْمَله إذا خَلَطه بغيره ولم يميزه عنه، وفي الاصطلاح سيأتي أيضًا. 441 - حَملٌ لظاهرٍ على المرجوحِ ... . . . . . . . . . . . . يعني أن التأويل في اصطلاح الأصوليين هو: صَرْف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح، وحَمْله على ذلك المحتمل المرجوح لدليلٍ اقتضى ذلك، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجار أحق بصقبه" (1)، فإنَّ حَمْل الجار على خصوص الشريك غير (2) المقاسم حَمْلٌ له على محتمل مرجوح، إلا أن ذلك الحَمْل (3) دلَّ عليه الدليل وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا ضُرِبت الحدود وصُرِفت الطرق فلا شُفعة" (4). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2258) من حديث أبي رافع -رضي اللَّه عنه-. (2) ليست في ط، وهي مضافة في الأصل بخط أصغر. (3) ط: المحتمل. (4) أخرجه البخاري رقم (2257)، ومسلم رقم (1608) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-.

(1/276)


... واقسِمْه للفاسدِ والصحيح 442 - صحيحُه وهو القريبُ ما حُمِلْ ... معْ قوَّةِ الدليلِ عند المُسْتَدِلْ 443 - وغيرُه الفاسدُ والبعيدُ ... وما خلا فلَعِبًا يفيدُ يعني أن التأويل المذكور ينقسم إلى تأويل صحيح وتأويل فاسد، والصحيح هو "القريب" والفاسد هو "البعيد". أما التأويل القريب فهو الذي يكون فيه الدليل الذي دلَّ على صرف اللفظ عن المعنى الراجح الظاهر إلى المعنى الخفي المرجوح قويًّا في نفس الأمر، لا في ظن المؤوّل كما يوهمه قول المؤلف: "عند المستدل". وليس مراده أن قوَّته عند المستدل تكفي ولو كان ضعيفًا في نفس الأمر، بل مقصوده مع قوة الدليل الكائن (1) عند المستدل. وأما التأويل البعيد فهو كون الدليل الذي اسْتُدِل به على صرف اللفظ عن الظاهر الراجح إلى الخفي المرجوح ليس قويًا في نفس الأمر وإن كان المؤوِّل يظنه قويًّا. وذلك هو معنى قوله: "وغيره الفاسد والبعيد". وقوله: "وما خلا" إلخ يعني أن صرف اللفظ عن ظاهره إذا كان لغير دليل أصلًا فهو لَعِب ولا يسمَّى تأويلًا، وكذا إن صرفه عن ظاهره معتقدًا أن ذلك الصرف لا دليل عليه، ولو كان لذلك الصرف دليلٌ في نفس الأمر. ومثال اللّعب: حَمْل أهل الأهواء كثيرًا من الآيات والأحاديث على معانٍ بعيدة من المقصود، كقول بعض غلاة الشيعة في قوله تعالى: {مَرَجَ __________ (1) الأصل: الكامن.

(1/277)


الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن/ 19] أنهما عليّ وفاطمة رضي اللَّه عنهما، وأن قولَه: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} [الرحمن/ 20] يعني الحسن والحسين. وقوله: "لعبًا" مفعول مقدم لقوله: "يُفيد" والمعنى أنه متلاعب بكتاب اللَّه أو سنة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-. 444 - والخُلْفَ في فهمِ الكتاب صَيِّرِ ... إيَّاه تأويلًا لَدى المختَصَر يعنى أن خليلَ بن إسحاق المالكيَّ في "مختصره" (1) جعل لنفسه اصطلاحًا خاصًّا في التأويل وهو أنه اختلاف شارحي "المدَوَّنة" في فهمها، ومراد المؤلف بـ "الكتاب": "المدَوَّنة"، وقوله: "إياه" ضمير منفصل مع تأتِّي الاتصال، وارتكبه للضرورة، كما أشار له في "الخلاصة" بقوله: وفي اختيار لا يجيء المنفصلُ ... إذا تأتَّى أن يجيء المتَّصلُ ونظير ما ارتكبه المؤلف من الفصل في محلِّ الوصل للضرورة قول الشاعر: بالباعثِ الوارثِ الأموات قد ضَمِنتْ ... إيّاهمُ الأرضَ في دهرِ الدَّهاريرِ (2) 445 - فجعل مسكينٍ بمعنى المُدِّ ... عليه لائحٌ سِمَات البُعْدِ 446 - كحملِ مرأةٍ على الصغيرَه ... وما ينافي الحرَّة الكبيرَه 447 - وحملِ ما رُوِيَ في الصيامِ ... على القضاءِ معَ الالتزامِ ذكر في هذه الأبيات ثلاثَ مسائل من مسائل التأويل البعيدة: __________ (1) انظر: مقدمته (ص/ 9). (2) البيت للفرزدق "ديوانه": (1/ 214).

(1/278)


الأولى: تأويل الحنفية المسكين في قوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة/ 4] بالمُدّ حيث جوَّزوا إعطاء ستين مدًّا لمسكين واحد في ستين يومًا، حيث جعلوا الذي لم يُذْكر -وهو المد- هو المقصود، والذي ذُكِر -وهو المسكين- غير مقصود، مع أن قَصْد العدد فيه من الفائدة ما لم يكن في الواحد، لأن إعطاء المكَفِّر ستين رجلًا يستدعي تظافر الكل على الدعاء له، وكثرة الداعين مظنة الإجابة، ومظنة صلاح البعض إن لم يكن الكل صالحًا، وهذا لا يوجد في الواحد. وهذا هو مراد المؤلف بالبيت الأول، فقوله: "جَعْلُ" مبتدأ وهو مصدر مضاف إلى مفعوله، ومفعوله الثاني الجار والمجرور الذي هو "بمعنى"، وقوله: "لائح" خبر المبتدأ، وقوله: "سِمات البُعْد" فاعل الخبر والمسوِّغَ لعمله مع أنه اسم فاعل منكر اعتماده على المبتدأ. والسمات: جمع سِمَة وهي العلامة. و"لائح" معناه ظاهر أي ظاهر عليه علامات البعد. المسألة الثانية: حَمْل المرأة أيضًا في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" (1) على خصوص المكاتبة؛ __________ (1) أخرجه أحمد: (40/ 243 رقم 24205)، وأبو داود رقم (2076)، والترمذي رقم (1102)، وابن ماجه رقم (1879)، وابن حبان "الإحسان" رقم (4074)، والحاكم: (2/ 168) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه ابن حبان وعبد الحق وابن الجوزي وابن الملقن. انظر: "البدر": (7/ 553 - 562).

(1/279)


لأنهم لما أرادوا حمله (1) على الصغيرة فقيل لهم: الصغيرة لا تسمى امرأة عرفًا فأرادوا حمله على الأَمَة، فقيل لهم: آخر الحديث يمنع ذلك فإن في بعض رواياته: "فإن أصابَ منها فلها مهر مثلها"، ومهر الأَمَة لسيدها لا لها. ووجه بُعْد هذا: أن لفظ "أيّ" صيغة عموم كما تقدم للمؤلف، وأُكِّدَ هذا العموم بـ "ما" المزيدة للتأكيد، وزيد التأكيد بتكرير قوله: "باطل باطل باطل" فقَصْر هذا العموم على صورة نادرة بعيد، وهذا هو مراده بالبيت الثاني. المسألة الثالثة: حَمَل الحنفية أيضًا الصيام في حديث: "لا صيام لمن لم يُبَيِّتِ الصيامَ من الليل" (2) على خصوص النذر والقضاء دون الصوم الذي هو أحد دعائم الإسلام وهو صوم رمضان؛ لأن الصوم إذا أطلق ينصرف إليه فإخراجه من صيغة عامة هي نكرة مبنية على الفتح في سياق النفي بعيد، وقد تقدم أن النكرة إذا كانت كذلك فهي نصٌّ صريحٌ في العموم، ومراده بالالتزام النذر، وبالقضاء قضاء رمضان. 448 - وذو وضوحٌ محكمٌ والمجمَلُ ... هو الذي المرادُ منه يُجْهَلُ يعني أن المحكم في الاصطلاح هو: واضح المعنى نحو: {وَأَقِيمُوا __________ (1) ط: حمله حملوه. (2) أخرجه أحمد: (44/ 53 رقم 26457)، وأبو داود رقم (2446)، والترمذي رقم (375)، والنسائي: (4/ 509 - 510) وغيرهم من حديث حفصة -رضي اللَّه عنها-. وقد روي الحديث مرفوعًا وموقوفًا والموقوف أرجح وهو الذي رجَّحه الحفاظ: أبو حاتم وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم. انظر: "البدر المنير" (5/ 650 - 655).

(1/280)


الصَّلَاةَ} {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ويُطلق المُحكم أيضًا مرادًا به غير المنسوخ، ويُطلق أيضًا مرادًا به المتقن كقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود/ 1]. وقوله: "والمجمل" إلخ، يعني أن المجمل في الاصطلاح هو: الذي لم يتضح المقصودُ منه لتردُّده بين معنيين متساويين في الاحتمال أو بين معان كذلك، فإن كان المجمل مشتركًا ففي حمله على معنييه أو معانيه ما تقدم من الخلاف. 449 - وما به استأثرَ علمُ الخالقِ ... فذا تشابُهٍ عليه أطْلِقِ يعني أن المتشابه في الاصطلاح هو: ما استأثر به أي اختص به علم اللَّه دون الخلق، وهذا التعريف للمتشابه مبني على قول الأكثر أن الكلام تمَّ عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران/ 7] وأن "الواو" في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} استئنافية. {وَالرَّاسِخُونَ} مبتدأ خبره جملة {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران/ 7]. وعلى تفسير الآية بهذا فالقسمة ثلاثية: محكم، ومجمل، ومتشابه. وأما على أن الواو عاطفة فالقسمة ثنائية: محكم ومتشابه، والمجملُ على هذا يدخل في المتشابه. وقوله: "ذا تشابه" مفعول مقدَّم لقوله: "أطْلِق". 450 - وإن يكن عِلمٌ به مِنْ عَبْدِ ... فذاك ليسَ من طريقِ العهدِ يعني أنه لو أطْلَعَ اللَّهُ بعضَ أوليائه على علم شيء من المتشابه، فإنَّ تلك الطريقة إلى علم ذلك المتشابه ليست من الطرق المعهودة لإفادة العلم، وإذًا فلا ينافي ذلك حد المتشابه بأنه ما استأثر اللَّه بعلمه لأن النادرَ لا حكمَ له.

(1/281)


451 - وقد يجي الإجمالُ من وجهٍ ومِنْ ... وجهٍ يَراه ذا بيانٍ من فَطِنْ يعني أن النَّصَّ الواحد يكون مبيَّنًا من جهةٍ مجملًا من جهةٍ أخرى، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام/ 141]، فإنه مبيَّن في أصل الحق مُجمل في القَدْر المطلوب منه. 452 - والنفيُ للصلاةِ والنكاحِ ... والشَّبْهِ مُحكمٌ لدى الصِّحاح يعني أن نَفْيَ الصلاة -مثلًا- في حديث: "لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمِّ الكتاب" (1)، وحديث: "لا صلاةَ إلَّا بطَهُور" (2) ونحو ذلك، ونفي النكاح في حديث: "لا نكاح إلَّا بوليّ" (3) ليس من المُجمل خلافًا للباقلاني ومن وافقه. ووَجْه عدم إجماله: أن الحقيقة لا تُراد بالنفي لوجود صورتها في محل النفي، فيجب ارتكاب أقرب المجازاتِ [لنفي] الحقيقة (4)، وأقرب المجازات لنفي الحقيقة نفي الصحة، فيصير المعنى: لا صلاة صحيحة إلَّا بطهور، ولا نكاح صحيحًا إلَّا بولي. وحجّة القائل بالإجمال: أن نفي أصل الذات غير مقصود فيتوجه النفي إلى الصحة والكمال، فيصير مجملًا لاحتمال هذا [وهذا]. 453 - والعكسُ في جداره ويَعْفو ... والقَرْءِ في منع اجتماعٍ فاقْفوا __________ (1) أخرجه البخاري رقم (756)، ومسلم رقم (394) من حديث عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه-. (2) أخرجه مسلم رقم (224) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (3) تقدم تخريجه (ص/ 27). (4) الأصل: المجازات للحقيقة، والمثبت من ط، ويدل عليه ما بعده.

(1/282)


قوله: "فاقفوا" أمرٌ من الاقتفاء وهو الاتباع، والمراد بـ "العَكْس" عكس الإحكام وهو عند المؤلف الإجْمال، والمعنى: اتبع العكس في الحديث والآيتين أي فكلها من المجمل؛ أما الحديث فهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضعَ خشبته في جداره" (1) لاحتمال رجوع الضمير إلى الأحد وإلى الجار، والتحقيقُ أن الحديث ظاهر في منع الإنسان من وضع خشبة الجار على جداره أي على جدار الإنسان المالك. وأما الآيتان فالأولى منهما قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة/ 237] فإنه يحتمل الوليَّ كما قاله مالك، والزوج كما قاله الشافعي. والثانية منهما قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة/ 228] لأن القُرْءَ يُطلق على الطُّهْر وعلى الحيض، وعلى الطهرِ حمل الآيةَ مالكٌ والشافعيُّ، وقال أبو حنيفة وأحمد: المرادُ بالقُرْءِ الحيض. وقوله: "في منع اجتماع" يعني أن المشترك بين معنيين متنافيين لا يمكن اجتماعهما كالقُرْء المذكور من المجمل، إذ لا يمكن قصد الكل فيتعين أن المقصود واحد، وكلٌّ منهما يحتمل أن يكون هو المراد. * * * __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2463)، ومسلم رقم (1609) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. واللفظ الذي ساقه المؤلف (خشبته) عند الدارقطني: (4/ 228)، والبيهقي: (6/ 68).

(1/283)


البَيَان يعني به التبيين كالسلام بمعنى التسليم. 454 - تصييرُ مُشكلٍ من الجليِّ ... . . . . . . . . . . . . يعني أن البيان هو تصيير المشكل جليًّا أي إخراجه من حال الخفاء إلى حال الظهور والاتضاح، وعلى هذا التعريف فبين المجمل والمبيَّن واسطة هي ما لا إشكال فيه أصلًا نحو: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء/ 32] فليس بمجمل ولا مبيَّن لأنه لم يدخل الإشكال حتى يخرج إلى حال الظهور. . . . . . . . . . . . . ... وهو واجبٌ على النبيِّ 455 - إذا أُريدَ فهمُه. . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن البيان بمعنى التبيين يجب على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا طُلِبَ منه تبيين ما فيه خفاء لأجل العمل به أو الإفتاء، كسؤال الرجل عن الحيض ليفتي به من لا يستطيع التعلُّم من النساء واللَّه يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل/ 44]. . . . . . . . . . . . وَهُوَ بما ... من الدَّليل مطلقًا يجلو العَمَى يعني أن البيان يكون بكلِّ ما يجلو العمى أي يزيل الجهلَ ويُبَيِّنُ المقصود من نصٍّ أو قرينة أو عقل أو حسٍّ، والمبيِّنُ تارةً يكون مقترنًا بالمبيَّن كقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة/ 187]، وتارةً يكون مستقلًّا عن كتبيين: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة/ 1]

(1/284)


بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة/ 3] الآية. 456 - وبيَّنَ القاصرُ من حيثُ السَّنَدْ ... أو الدلالة على ما يُعْتَمد يعني أن المُبيِّن -باسم الفاعل- لا يشترط أن يكون مساويًا للمبيَّن -باسم المفعول- في القوة بل يجوز تبيين الأقوى في السند أو الدلالة بما هو أضعف منه سندًا أو دلالة. مثال تبيين الأقوى سندًا بما هو دونه في قوة السند؛ تبيين آيات الصلاة والزكاة بأخبار الآحاد، كتبيين: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام/ 141] بحديث: "ليسَ فيما دونَ خمسةِ أَوسُقٍ صدقة" (1). ومثال تبيين الأقوى دلالة بما هو دونه في قوة الدلالة: تبيين المنطوق بالمفهوم، كتبيين أن المراد في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "في أربعين شاةً شاةٌ" خصوص السائمة بمفهوم قوله: "في الغنم السائمة زكاة" (2) عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة، فقوله: "القاصر" يعني الأضعف مرتبة (3)، لكونه آحادًا أو مفهومًا. وأضافَ "حيث" إلى المفرد بناءً على جوازه بِقِلَّةٍ، كقول الراجز: أما ترى حيثُ سهيلٍ طالعا ... نجمًا يُضيء كالشهاب لامعا (4) __________ (1) متفق عليه، وقد تقدم. (2) تقدم تخريجهما. (3) تحتمل في الأصل: قرينة. (4) تقدم تخريجه.

(1/285)


وقوله: "على ما يُعتمد" يشيرُ إلى خلافٍ في المسألة. فإن قيل: لِمَ جاز البيان بالقاصر سندًا أو دلالة وامتنع النسخ بذلك؟ فالجواب: أن النسخ رفعٌ للحكم من أصله، والأقوى لا يرفعه ما هو أضعف منه، والبيانُ إرشادٌ للمقصود بالنص لا رفعٌ له فظهر الفرق (1). 457 - وأوجِبَنَّ عندَ بعضٍ عِلْمًا ... إذا وجوبُ ذي الخفاءِ عمَّا يعني أن بعض الأصوليين أوجبوا كون الدليل الحاصل به البيان يفيد العلم، أي اليقين، إذا كان المبيَّن -باسم المفعول- يجب على كلِّ أحد، أما إذا كان لا يجب على كلِّ أحد فلا يُشترط فيه عند أهل هذا القول حصول اليقين في البيان. وهذا القول للعراقيين محتجِّين بأن عموم وجوبه تتوفر به الدواعي إلى نقله تواترًا، وما كان كذلك لا يُقبل آحادًا، وعلى هذا القول لا يصح بيان القطعيات كالصلاة والزكاة بأخبار الآحاد بل بالمتواتر فقط، والتحقيق الأول. 458 - والقولُ والفعلُ إذا توافَقا ... فانمِ البيانَ للذي قد سَبَقا يعني أن إذا ورد نصٌّ يحتاج إلى بيان، ثم ورد بعده قول وفعل كلاهما صالح للبيان وليس في أحدهما زيادة على الآخر، فإن الأول منهما هو المبيِّن، فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية يحتمل أن قَطْع اليد من الكوع ويحتمل المرفق والمنكب؛ لأن اليد تطلق على الجميع، فإذا قال __________ (1) في الهامش تعليق نصه: "يرد على ما فرق به هنا ما ذكره -رحمه اللَّه- في كتابه "مذكرة أصول الفقه" (ص/ 86 - 87) من وقوع نسخ المتواتر بالآحاد".

(1/286)


النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن القطع من الكوع، وقَطَع المخزومية التي سرقت من الكوع، فالسابق من الأمرين هو المبيِّن: 459 - وإن يزدْ فعلٌ فللقولِ انتسِبْ ... والفعل يقتضي بلا قيدٍ طلَبْ يعني أنه إذا ورد نصٌّ يحتاج إلى بيان، وجاء بعده قول وفعل كلاهما صالح للبيان، وفي الفعل زيادة ليست في القول = فالبيان بالقول، والزيادةُ الحاصلةُ في الفعل تقتضي طلبًا متوجهًا إلى خصوص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقوله: "بلا قيد" يعني أن الطلب المذكور المتوجه لخصوصه -صلى اللَّه عليه وسلم- المفهوم من الزيادة الفعلية غير مُقيد بإيجاب ولا ندب بل هو محتمل للكل، فالنصوص الواردة في الصوم -مثلًا- تحتمل جوازَ الوصال وعدمه، وقد نهى -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوصال بالقول مع أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَه، فيكون البيان بالقول، ووصالُه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدل على أنه مطلوب بذلك دون أمته، ولكن لا يدل إلا على مطلق الطلب من غير قيدٍ بإيجاب أو غيره، وقوله: "طلبْ" وقف على بالسكون على لغة ربيعة. 460 - والقولُ في العَكْس هو المبيِّنُ ... وفعلُهُ التخفيفُ فيه بيِّنُ مراده بالعكس عكس ما قبله الذي هو زياة الفعل على القول، فعكسه المراد هنا زيادة القول على الفعل، يعني أنه إذا جاء فعل وقول كلاهما صالح للبيان، والحالُ أن في القول زيادة على الفعل، فإن البيان يكون بالقول، والفعل يدل على تخفيفٍ خاصٍّ بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في القدر الذي نقص به الفعل عن القول، فلو فرضنا -مثلًا- أنه أمَرَ بطوافين وطاف هو طوافًا واحدًا فالمبيِّن هو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، واقتصاره على واحد يدل على عدم

(1/287)


وجوب الثاني عليه. 461 - تأخّر البيانِ عن وقتِ العملْ ... وقوعْه عند المجيزِ ما حَصَلْ يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يؤخِّر بيانًا عن وقت الحاجة إليه، سواء كان المبيَّن -بالفتح- ظاهرًا في غير المراد أو مجملًا، حتى على قول من قال بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، والحقُّ أنه لم يَجُز ولم يقع. فإن قيل: قد وقع في صبح ليلة الإسراء فإنَّ جبريل لم يبيِّن للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كيفية الصلاة وأوقاتها إلا من وقت الظهر. فالجواب: أن الصبح لم تجب لأن أول الواجب بعد فرضها الظهر، أما صلاة صبح ليلة الإسراء فلم تجب، لأنها لو وجبت لوجب قضاؤها، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يصلها أداءً ولا قضاءً، وعدم وجوبها يحتمل أن يكون أصل الوجوب معلقًا على البيان، والواجب المعلق لا يجب حتى يوجد المعلق عليه، أو أنه أُوحي (1) إليه أن أول واجب الظهر. 462 - تأخيره للاحتياج واقِعُ ... وبعضُنا هُوَ لذاك مانِعُ 463 - وقيل بالمنع بما كالمطلقِ ... ثم بعكسِه لدى البعضِ انْطِقِ مراده بالبيتين أن تأخير البيان إلى وقت العمل به فيه أربعة مذاهب: الأول: جوازه مطلقًا لأنه لا يلزم فيه محذور كتأخير بيان المناسك إلى وقت الحج، وكتأخير بيان الصفات الكاشفة لبقرة بني إسرائيل. واعْتُرِض هذا الأخير بأنه ما كان يحتاج إلى بيان، إذ لو ذبحوا __________ (1) تحتمل: أومأ.

(1/288)


بقرةً (1) لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدَّدَ اللَّه عليهم، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء اللَّه في مبحث النسخ قبل التمكن من الفعل. الثاني: منع تأخير البيان المذكور مطلقًا، وهو قول بعض المالكية وفاقًا للحنفية والمعتزلة وبعض الشافعية، ووَجْه هذا القول: أن تأخير البيان يخل بفهم المراد وقت الخطاب، لأنه في المجمل لا يُفْهم المقصود منه، وفي الظاهر يتبادر منه غيرُ المقصود. الثالث: منع تأخير البيان (2) في ماله ظاهر يوهم غير المراد دون ما لا ظاهر له كالمجمل، وهذا قول أبي الحسين المعتزلي، وهو مبنيٌّ على التحسين والتقبيح العقليين، لأن ما لا ظاهر له كالمجمل لا يوقع في غير المراد بل ينشأ منه الجهل البسيط، والجهلُ البسيط لا يخلو عنه البشر، بخلاف ما له ظاهر غير مراد فإنه يوقع في الجهل المركب من جَهْلِه بالمرادِ وجَهْلِه بأنه جاهل به، لاغتراره بالظاهر الغير المقصود. الرابع: عكس هذا القول، وهو يجوز تأخير البيان إلى وقت الفعل في ما له ظاهر دون ما لا ظاهر له. ووَجه هذا القول: أن ما له ظاهر له فائدة في الجملة دون غيره. وأشار المؤلَف إلى المذهب الأول بالشطر الأول، وإلى الثاني بالشطر الثاني، وإلى الثالث بالشطر الثالث، وإلى الرابع بالشطر الرابع. مثال ما لا ظاهر له قوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة/ 1]. ومثال ما له __________ (1) ط: أي بقرة. (2) بعده في ط: إلى وقت الفعل.

(1/289)


ظاهر غير مراد قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجار أحق بصقبه" (1) فإن ظاهره وجوب الشُّفعة للجار والمراد به خصوص الشريك المقاسم كما تقدم. 464 - وجائزٌ تأخير تبليغ له ... . . . . . . . . . . . . يعني أنه يجوز تأخير التبليغ إلى وقت الحاجة، فاللام في قوله: "له" للغاية بمعنى إلى، والضمير المجرور بها عائد إلى وقت العمل. فإن قيل: ما الفرق بين تأخير التبليغ إلى وقت الحاجة مع تأخير البيان إليه؟ فالجواب: أن تأخير التبليغ لا يلزمه المحذور الذي يلزم تأخير البيان؛ لأن تأخير البيان يُخِل بفهم المراد، وتأخير التبليغ من أصله ليس كذلك. وَجَزم بعضهم بأن القرآن يجب تبليغه فورًا لأنه متعبَّد بتلاوته، وهو الظاهر. وقال بعض العلماء: يجب التبليغ فورًا مطلقًا لأن اللَّه قال لنبيه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة/ 67] والأمر للفور، وفيه الخلاف المتقدِّم. . . . . . . . . . . . . ... ودَرْءُ ما يُخْشى أَبى تعجيلَه يعني أن تعجيل التبليغ قد يمتنع ويجب تأخيره إلى وقت الحاجة إذا كان في تعجيله مفسدة يدرؤها تأخير التبليغ، فلو أُمِر -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتال أهل مكة قرب زمن (2) الهجرة، وجبَ تأخير التبليغ لئلا يستعد العدو إذا علم فيعظم __________ (1) تقدم تخريجه. (2) ط: زمن قرب.

(1/290)


الفساد، ولذا لما أراد -صلى اللَّه عليه وسلم- قتالهم قطع الأخبارَ عنهم حتى دَهَمهم، وكان ذلك أيْسر لأخذهم. 465 - ونسبةُ الجهل لذي وجودِ ... بما يُخصصِّ من الموجودِ يعني أنه على القول بمنع تأخير البيان إلى وقت الحاجة يجوز أن يكون المكلفُ الموجود وقت الخطاب قد سمع العام مع جهله بمخصِّصِه، ودليلُه الوقوعُ؛ لأن فاطمة بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رضي اللَّه عنها سمعت عمومَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء/ 11] ولم تعلم بتخصيصه يقول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا نورث ما تركناه صدقة" (1)، ولذا طلبت إرْثها منه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أبي بكر الصديق. وقيل: لا يجوز وقوعُ جهلِ الموجودِ وقت الخطاب بالمخصِّص لِمَا فيه من تأخير الإعلام بالبيان. وأجيب بأن المحذور تأخير البيان وهو منتفٍ هنا، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يبلِّغ كلَّ أحد بعينه بل بلَّغ البعض وقال: "ليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ" (2). وقوله: "نسبة" مبتدأ خبره "من الموجود" أي من الواقع. وقوله: "لذي وجوب" متعلق بـ "نسبة" وقوله: "بما" متعلق بـ "الجهل". وقوله: "يخصِّصُ" بالبناء للفاعل. * * * __________ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه البخاري رقم (67)، ومسلم رقم (1679) من حديث أبي بكرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/291)


النسخ هو لغة الإزالة (1)، ومنه نَسَخت الشمسُ الظّلَّ، والريحُ الأثرَ، وهذا هو أصل معناه الاصطلاحي، ويُطلق النسخ لغة أيضًا على النقل والتحويل، ومنه: تناسخ المواريث، وتناسخ الأرواح، واصطلاحًا هو ما أشار له المؤلف بقوله: 466 - رفعٌ لحكم أو بيانُ الزَّمَنِ ... بمُحْكم القرآن أو بالسُّنَن يعني أن النسخ اختلف في حدِّه، قيل: هو رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متراخٍ (2) عنه. كرفع الحكم بالاعتداد بحولٍ بالاعتداد بأربعة أشهر وعشر، فخرج بقوله: "رفعُ حُكْمٍ شرعيّ" رفعُ البراءةِ الأصلية، وبقوله: "بخطابٍ شرعي" رَفْع الحكم بارتفاع محله أو بانتهاء غايته إذا كان مغيًّا ونحو ذلك، وخرج بقوله: "متراخٍ عنه" ما يرفعه المخصِّص المتَّصل كالاستثناء من الأفراد المشمولة للحكم لولا الاستثناء (3). فإن قيل: ذلك رفْعٌ للبعض والنسخ رفع للكل؟ فالجواب: أن النسخ يكون رفعًا للبعض أيضًا كما ثبت في "صحيح مسلم" (4) عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: __________ (1) ط: الرفع والإزالة. (2) الأصل: متأخر، ولعله سبق قلم بدليل ما بعده. (3) بعده في ط: مثلًا. (4) رقم (1452).

(1/292)


"عشر رضعات معلومات يحَرِّمن" فنُسِخْن بخمسٍ معلومات. فإن قيل: هذا الحد يشمل نوعين من أنواع النسخ الثلاثة وهما: نسخُ التلاوة والحكم معًا كآية "عشر رضعات"، وكسورة الخلع والخنع (1). ونسخُ الحكم فقط دون التلاوة كآيتي العدة المتقدمة، ولكن لا يشمل الثالث الذي هو رفع التلاوة دون الحكم كنسخ تلاوة آية: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم" (2) دون حكمها، لأن حكمها لم يُرْفع، والنسخ رَفْع الحكم فلم يدخل في النسخ؟ فالجواب: أن فيها نسخ حكم وهو عدم حرمة قراءتها على الجُنُب، ومسِّها على المحْدِث، وقراءتها في الصلاة، وهذه أحكام رُفِعت فيصدق عليها التعريف إذًا. فإن قيل: هذا ينافي قولكم: إن هذا النوع منسوخ تلاوة لا حكمًا؟ فالجواب: أنه لا منافاة لأن المراد بالحكم المنفي حُكم خاص وهو مدلول اللفظ لا مطلقًا. والقول الثاني في النسخ: أنه بيان لانقضاء زمن الحكم الأول. وعلى هذا يكون النسخ تخصيصًا في الزمن لأن ظاهر النص الأوّل تأبيد الحكم، والثاني بيَّن اختصاصَه بالزمن الذي قبل ورود الناسخ. __________ (1) تقدم التعليق (ص/ 68) على هاتين السورتين، والتنبيه إلى ما في قوله: "الخنع" من الغرابة وأن المعروف هو "الحفد". (2) تقدم تخريجه.

(1/293)


وقوله: "بمحكم القرآن أو بالسنن" يشير إلى أقسام النسخ بالنظر إلى الناسخ والمنسوخ أربعة، لأن الناسخ إما كتاب أو سنة والمنسوخ كذلك، فالصور أربع من ضرب حالتي الناسخ في حالتي المنسوخ وستأتي أمثلتها. 467 - فلم يكن بالعقلِ أو مجرِّدِ ... الإجماعِ بل يُنْمَى إلى المستَنَدِ صرَّح في هذا البيت بمفهوم قوله: "بمحكم القرآن" إلخ، فبيَّن أن غير النص لا يصح النسخ به كالعقل. وقوله: "أو مجرد الإجماع" يعني أن الإجماعَ بمجرَّده لا يصح النسخُ به، لأنه لا ينعقد إلا بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- كما يأتي للمؤلف، وبعد وفاته لا يمكن النسخُ لأنه تشريع. وقوله: "بل يُنْمى" إلخ، يعني أنك إذا وجدت في كلام العلماء: النصُّ الفلاني منسوخ بالإجماع، فإنهم يعنون بذلك مستند الإجماع؛ لأن الإجماع لا يصلح ناسخًا كما عرفت. 468 - ومنعُ نسخِ النصِّ بالقياسِ ... هو الذي ارتضاه جلُّ الناسِ يعني أن القياس لا يصح النسخ به عند الجمهور، وهو الحق؛ لأن النص مقدَّم على القياس، ولا يصار إلى القياس إلا عند عدم النص. وقدَّم المؤلف أن النسخ بالقرآن أو السنة كما قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل/ 101]، وقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة/ 106]، وقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس/ 15]. وقيل: يجوز النسخ بالقياس، ووجهه عند من يقول به أن الحكم الأول إنما نُسِخَ بما دل عليه النص الأخير.

(1/294)


469 - ونسخُ بعضِ الذِّكر مطلقًا وَرَدْ ... والنسخُ بالنصِّ لنصٍّ (1) مُعتمد يعني أن نسخ بعض القرآن وقع بالفعل، ومفهوم بعضِه أن كله لا يجوز نسخه، وما زعمه اليهود من استحالة النسخ لما يلزم عليه من البداء -الذي هو الرأي المتجدد- باطل لأن اللَّه يعلم أنه سينسخه ويبدله بغيره عندما تنقضي مصلحته وتكون المصلحة في غيره، كما لا يلزم البداء في إماتة الحيّ وإيجاد المعدوم وإمراض الصحيح ونحو ذلك. وقوله: "مطلقًا" يعني سواء نُسِخت تلاوته وحكمه معًا، أو تلاوته فقط، أو حكمه فقط، وقد تقدمت أمثلة الكل. وقوله: "والنسخ بالنص" إلخ يعني أن نسخ النص بالنَّص معتمَدٌ أي قويّ مشهور للجواز والوقوع، وهو أربعة أقسام: الأول: نسخ الكتاب بالكتاب، كنسخ آية الاعتداد بحول بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر. الثاني: نسخ السُّنَّة بالسُّنَة، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كنتُ نَهْيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي فادخروا منها ما شئتم" (2). الثالث: نسخ السُّنَّة بالكتاب، كنسخ استقبال بيت المقدس الثابت __________ (1) ط: للنص بنص. (2) أخرجه مسلم رقم (977) من حديث بريدة -رضي اللَّه عنه-.

(1/295)


بالسنة بقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) [البقرة/ 149] الآية. الرابع: يأتي في البيت الآتي. واعلم أن الشافعي يمنع نسخَ الكتاب بالسنة كالعكس، فلا يجيز نسخ الكتاب إلا بكتاب ولا سنة إلا بسنة. وما ذكرنا من نسخ السُّنَّة بالسنة إن كانتا متواترتين، أو كل منهما آحادًا، أو الناسخ متواتر والمنسوخ آحاد، فلا إشكال. أما نسخ السنة المتواترة بالآحاد فالظاهر عدم جوازه (2)، وعلى القول بجوازه لم يقع __________ (1) انظر قصة تحويل القبلة في البخاري رقم (40، 399)، ومسلم رقم (525) من حديث البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه-. (2) هذا اختيار الشيخ أول الأمر ثم رجع عنه ورجّح جواز نسخ المتواتر بالآحاد بل وقوعه، وقد بيَّن ذلك في مواضع من كتبه كـ "الأضواء" في غير موضع، والمذكرة (ص/ 152 - 154) قال في "الأضواء": (3/ 334 - 335): "وقد قدمنا. . أن الذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما؛ لأن المتواتر حق، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئًا جديدًا لم يكن موجودًا قبل، فلا معارضة بينهما ألبتة لاختلاف زمنهما فقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية؛ لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية في ذلك. فإذا صرح النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح "بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة" فلا معارضة ألبتة بين ذلك الحديث الصحيح وبين تلك الآية النازلة قبله بسنين؛ لأن الحديث دل على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل كما هو واضح. =

(1/296)


على الصحيح، لأن المتواتر قطعيّ والآحاد ليس كذلك، ولا يصح رفع الأقوى بما هو دونه مرتبة، كما أشار له بقوله: 470 - والنسخُ بالآحادِ للكتابِ ... ليسَ بواقعٍ على الصواب يعني أن نسخ القرآن بأخبار الآحاد ليس بواقع على الصواب أي على القول الصحيح ولو قلنا بجوازه، ووَجْه هذا القول: أن القرآن قطعيٌّ وخبر الآحاد دونه في القوة، والأقوى لا يُرْفع بما هو دونه. وقيل: هو واقعٌ كنسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بحديث: "لا وصيةَ لوارث" (1). واحتجَّ القائلون بهذا أن خبر الآحاد يجب العمل به قطعًا، وإذًا فهو قطعي إذ لا يضرنا التردد في أصله مع القطع بوجوب العمل به، وقالوا أيضًا: لا نسلِّم أن المقطوع لا يُرْفع بالمظنون، فبراءةُ __________ = فالتحقيق -إن شاء اللَّه- هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين، ودرج على خلافه وفاقًا للجمهور صاحب "المراقي" بقوله: والنسخ بالآحاد للكتاب ... ليس بواقع على الصواب" اهـ. (1) هذا الحديث روي من طريق جماعة من الصحابة، منها حديث أبي أمامة الباهلي -رضي اللَّه عنه- أخرجه أحمد: (36/ 628 رقم 22294)، وأبو داود رقم (2862)، والترمذي رقم (2120)، وابن ماجه رقم (2713): "إن اللَّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. . . ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح (وفي التحفة والبدر: حسن فقط). قال ابن الملقن: وهو كما قال؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم، وهو حمصي من أهل الشام. انظر: "البدر المنير": (7/ 264 - 269).

(1/297)


الذِّمة من التكليف مقطوع بها، مع أنه يجب التكليف بالأَدلة الظنية. واحتجُّوا أيضًا بأنه (1) وإن كان قطعي المتن فليس قطعي الدلالة بل دلالته ظنية. فإن قيل: نسخُ التلاوة بالآحاد يُبْطل قرانية الآية، وقرانيتها قطعية. فإنهم يجيبون أن قرآنيتها وإن كانت قطعية فدوامُها ليس بقطعيٍّ، والنسخُ بالآحاد إنما أبطلَ دوامَ القرآنية المظنون لا أصلها القطعي. وممن قال بالنسخ به من المالكية: الباجيُّ والقرافيُّ (2). والتحقيق: أن آية الوصية منسوخة بآية المواريث، والحديث بيانٌ للناسخ، وبيان المتواتر بالآحاد جائز كما تقدم في قوله: "وبين القاصر" إلخ. 471 - ويُنسَخُ الخِفُّ بما له ثِقَلْ ... . . . . . . . . . . . . يعني أنه يجوز نسخ الحكم الخفيف بحكم أثقل منه كنسخ التخيير بين الصوم والفدية في رمضان المنصوص في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة/ 184] الآية. بتعيين الصوم المنصوص في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وكنسخ حَبْس الزواني في البيوت المنصوص في قوله: {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء/ 15] الآية، __________ (1) أي المتواتر. (2) الذي اختاره القرافي -كما في "التنقيح": (ص/ 111) - جوازه عقلًا لا سمعًا، والشيخ هنا تابع صاحب "نشر البنود": (1/ 285) في الحكاية عن القرافي. أما الباجي فانظر كتابه "إحكام الفصول": (1/ 432).

(1/298)


بالجلد والرجم المنصوص أولهما بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور/ 2] الآية، وثانيهما بالآية المتقدمة المنسوخةِ التلاوةِ دون الحكم (1). ونسخه الأخف بالأثقل لمصلحة كثرة الثواب، ونسخ الأثقل بالأخف لمصلحة التخفيف والتسهيل صيانة عن الوقوع في الإثم. . . . . . . . . . . . . ... وقدْ يَجيء عاريًا من البدل يعني أن النسخ يجوز بلا بدل أصلًا، وهذا قول جمهور الأصوليين، والذي يظهر أن هذا القول باطل لأن اللَّه نصَّ على بطلانه بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة/ 106]. وما احتجُّوا به من وقوعه باطل أيضًا، وذلك أنهم زعموا أن قوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة/ 12] الآية نسخٌ بلا بدل، والتحقيق أنه نسخ ببدل وهو ندبيَّةُ الصدقة. 472 - والنسخ مِن قَبْل وقوعِ الفِعْلِ ... جاء وُقوعًا في صحيح النقلِ يعني أن النسخ قبل وقوع الفعل جائز وواقع في النقل الصحيح، كنسخ ذبح ولد إبراهيم قبل أن يذبحه، كما أشار له تعالى بقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات]، وكنسخ خمسٍ وأربعين صلاة بعد فرضها ليلة الإسراء حتى لم يبق من الخمسين إلا خمس. والحكمةُ في النسخ قبل الفعل الاختبار والابتلاء، كما بينه تعالى بقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} إلى قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات] أي __________ (1) يعني: "والشيخ والشيخة إذا زنيا. . . " وقد تقدم تخريجه.

(1/299)


الاختبار الظاهر هل يصمِّمُ على ذبح ولده أو لا؟ وهذه المسألة منهم من يعبِّر عنها بنسخ الفعل قبل التمكُّن منه، ومنهم من يعبر بالنسخ قبل الفعل، ومنهم من يقول: وقت الفعل أو قبل مجيء وقته، وبعض الحنابلة يجعلها مسألتين: النسخ قبل التمكُّن من الفعل، والنسخ بعد التمكُّن من الفعل قبل الفعل، وكلاهما فيه الخلاف. والظاهر الجواز مطلقًا لحكمة الابتلاء المتقدمة. 473 - وجازَ بالفحوى ونسْخه بلا ... أصلٍ وعَكْسُه جوازُه انجلى يعني أن نسخ النص بالفحوى جائز، والمراد بالفحوى مفهوم الموافقة بقسميه، وهذا على القول بأنه منصوص، أما على القول بأنه قياس فلا يجوز النسخ به لقول المؤلف: "ومنع نسخ النص بالقياس" (1) إلخ. فلو فرضنا -مثلًا- أن آية: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23] نزلت بعد العمل بحديث: "لَيُّ الواجِدِ. . . " (2) الحديث = لكان مفهومها الذي هو الفحوى ناسخًا لحبس الأب في دَيْن الولد لأن التخصيص بعد العمل نسخ كما تقدم. وقوله: "ونسخه بلا أصل" إلخ. يعني أنه يجوز نسخ مفهوم الموافقة دون المنطوق ويجوز نسخ منطوقه دونه، فالمنطوق -مثلًا- تحريم التأْفيف، والمفهوم تحريم الضرب، فعلى هذا القول يجوز نسخ __________ (1) البيت رقم (468). (2) تقدم تخريجه.

(1/300)


التأفيف مع بقاء تحريم الضرب، ويجوز نسخ تحريم الضرب مع بقاء تحريم التأفيف؛ بناءً على عدم الارتباط بينهما وعدم لزوم واحد منهما للآخر، والظاهر خلاف ذلك كما ذهب إليه الأكثر، وأشار له المؤلف بقوله: 474 - ورأي الأكثرين الاستلزامُ ... . . . . . . . . . . . . يعني أن رأي أكثر العلماء استلزام نسخ كل من المنطوق وفحواه للآخر، وعليه فلا يمكن نسخ أحدهما دون الآخر؛ لأن الفحوى لازم لأصله [وتابع له] ورفع اللازم يستلزم رفع الملزوم كما أن رفع المتبوع يستلزم رفع التابع، وأما رفعهما معًا فلا مانع منه، فيجوز نسخهما بلا خلاف. . . . . . . . . . . . . ... وبالمُخالَفَةِ لا يُرَام يعني أن النسخ لا يُقصد بمفهوم المخالفة لضعفه عن مقاومة النصِّ وهو ظاهر. 475 - وهي عن الأصل لها تجرُّدُ ... في النسخ وانعِكَاسُه مُسْتَبْعَدُ الضمير في قوله: "لها" عائد إلى المخالفة بمعنى الحكم المدلول عليه بها، يعني أن الحكم المدلول عليه بمفهوم المخالفة يصحُّ تجرُّده عن أصله الذي هو المنطوق، فيجوز نسخ حكمِ مفهوم المخالفة مع بقاء المنطوق. ومثاله: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الماءُ من الماءِ" (1) فإنه دلَّ بمنطوقه على وجوب الغسل من نزول المنيِّ، ودل بمفهومه مفهوم المخالفة الذي __________ (1) أخرجه مسلم رقم (343) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-.

(1/301)


هو مفهوم الحصر هنا (1) على عدم وجوب الغسل من الجماع بلا إنزال، فنسخُ المفهومِ بأحاديث وجوب الغسل بالتقاء الختانين، مع بقاء المنطوق الذي هو وجوب الغسل من خروج المنيّ غير منسوخ. وقوله: "وانعكاسه مُسْتبعد" يعني أن عكس ما ذكر مستبعد، وهذا المستبعد الذي هو عكس المذكور وهو نسخ المنطوق وبقاء مفهوم المخالفة، واستبعادهم له يؤيد رأي الأكثرين في استلزام المنطوق لمفهوم الموافقة كما تقدم. 476 - ويجبُ الرفعُ لحكمِ الفرعِ ... إنْ حُكْمُ أصلِه يُرى ذا رَفْعِ يعني أنه إذا رُفِع حكم [الأصل] (2) المقيس عليه بأن نُسِخَ، فإن حكم الفرع يجب رفعه تبعًا لحكم أصله، فلو قال أحدٌ أيام تحليل الخمر: النبيذُ مباحٌ قياسًا على الخمر، ثم نُسِخ حكم الخمر لزمَ ارتفاعُ الحِلّيَّةِ عن النبيذ تبعًا لارتفاعها عن الخمر. وخالف في ذلك بعض الحنفية زاعمين جواز بقاء حكم الفرع مع ارتفاع حكم الأصل. ومَثَّلوا لذلك بجواز شهادِة أهلِ الذمة بعضهم على بعض قياسًا على جواز شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر المنصوص بقوله: هو {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة/ 106] بجامع ضرورة عدم وجود المسلمين، قالوا: فنُسِخ الأصل بآيات اشتراط العدالة وبقي الفرعُ __________ (1) أي بأداة "إنما" في الحديث. (2) من ط.

(1/302)


مُحْكمًا، فمنعوا شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر نظرًا لنسخ حكمها وأثبتوا شهادةَ أهل الذمة بعضهم على بعض، إبقاءً لحكم الفرع المقيس مع رفع حكم أصله المقيس عليه، والآيُة مختَلَف في نسخها، وشهادة أهل الذمة المذكورة مختَلَف فيها. 477 - ويُنْسخ الإنشا ولو مؤبَّدا ... والقيدُ في الفعل أو الحُكْم بدا 478 - وفي الأخير منَعَ ابنُ الحاجِبِ ... كمستمِرٍّ بعدَ صومٍ واجب يعني أن النسخَ إنما يكون في الإنشاء دون الخبر، ويجوز نسخ الإنشاء ولو اقترن بقيد التأْبيد، سواء كان القيد بالتأبيد في الفعل أو في الحكم. فمثاله في الفعل: ما لو قال الشارع قبل نَسْخ صوم عاشوراء: صوموا عاشوراء أبدًا، فقوله: "أبدًا" متعلق بالفعل الذي هو الصوم. ومثاله في الحكم: ما لو قال منشئًا لا مخبرًا: صوم عاشوراء مستمرٌّ عليكم أبدًا، أو وجب عليكم أبدًا، فإن كل هذا لا ينافي النسخَ عند الأكثر لأن المقصود الإنشاء، والتأبيد هو ظاهر التشريع، واختار ابنُ الحاجب منع النسخ في الأخير الذي هو كون القيد بالتأبيد واقعًا في الحكم لظهور منافاته للنسخ (1). وأوْضح فرقٍ بين الإنشاء والخبر: أنَّ مدلولَ الخبر أمر خارجي أُخْبِرَ عنه، ومدلول الإنشاء لا وجود له في الخارج، وإنما يوجد بحصول صيغة الإنشاء، فقولك: "جاء زيد" -مثلًا- إخبار عن أمر واقع في __________ (1) انظر: "المختصر - مع الشرح": (2/ 518).

(1/303)


الخارج. وقولك: "بعتك سلعتي بكذا" ليس فيه إخبار عن أمر كان واقعًا في الخارج، لأن السلعة لم تكن مبيعة فيما قبل، وإنما أُنشأ بيعها بالصيغة، أما صيغ الإنشاء الطلبية فلا التباس بينها وبين الخبر أصلًا. 479 - ونسخُ الاخبار بإيجاب خبَرْ ... بناقِضٍ يجوز لا نسخُ الخبَرْ في الكلام مضاف محذوف تقديره: "إيجاب" أي ونسخُ إيجاب الإخبار، وقوله: "بناقض" يعني بنقيض الخبر الأول. وتقرير المعنى: أنه لو وجب خبر بشيء فإن ذلك الإيجاب يجوز نسخُه بإيجاب الإخبار بنقيض الخبر الأول، فيجوز أن يوجب عليك الإخبار بأنَّ زيدًا قائم -مثلًا- ثم يُنسخ ذلك الإيجاب بنقيضه بأن يوجب عليك أن تخبر بأن زيدًا غير قائم. فإن قيل: يلزم على هذا إيجاب الإخبار بكذب؛ لأن لا يصح صدق الأول والثاني، بل لابدَّ من كذب أحدهما. فالجواب: أنه لا منافاةَ بين إيجاب الإخبار وبين كون المخبَر به غير واقع [في نفس الأمر] (1) ألا ترى أنك لو سألك ظالمٌ عن رجل تعرف محلَّه وأنت موقنٌ أن الظالم يريد قتلَه ظلمًا ولا يمكن أن تتخلَّصَ من الظالم إلا بالجواب = أنه يجبُ عليكَ الإخبارُ بغير الواقع بأن تقول: لا أدري، وأنت تدري؟ وقوله: "لا نسخ الخبر" يعني أن الخبر لا يجوز نسخه لأن نسخه تكذيب له والوحي يستحيل فيه الكذب. __________ (1) من ط.

(1/304)


480 - وكلُّ حكمٍ قابلٌ له وفي ... نفي الوقوعِ الاتفاقُ قد قُفِي يعني أن كل حكم تكليفيّ بالنظر إليه بمفرده قابل للنسخ عقلًا وشرعًا، أما نسخ كلِّ أحكام الشريعة فهو مُجْمَع على أنه لم يقع، وذلك هو معنى قوله: "وفي نفي الوقوع الاتفاق قد قُفِي". وقوله: "قُفي" بمعنى اتُّبع أي اتُّبع اتفاقُ العلماء على عدم وقوع نسخ كل أحكام الشريعة. 481 - هل يستقلّ الحكم بالورودِ ... أو ببلوغه إلى الموجودِ 482 - فالعزلُ بالموت أو العزلِ عَرَضْ ... كذا قضاءُ جاهلٍ للمفترَضْ يعني أنهم اختلفوا هل يستقلّ -أي يثبت- الحكم في حق المكلَّفين -بمعنى استقراره في ذِمَمهم- بمجرَّد الورود أي تبليغ جبريل إياه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْ لا يَسْتقل (1) إلا بعد أن يبلِّغه لهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ وللمسألة أربعة أحوال: الأول: ألا يبلغ الحكمُ جبريلَ ولا النبيَّ فهذا لا يثبت في حق المكلفين إجماعًا. الثاني: أن يبلغ جبريلَ قبل أن يبلغ النبي. وهذا كالأول على التحقيق. والثالث: أن يبلِّغه جبريلُ إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يبلّغه الأمة، فهذا هو مقصود المؤلف. وينبني على الخلاف فيه نسخ خمس وأربعين صلاة من الخمسين ليلة الإسراء بعد بلوغ الأمر للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقبل بلوغه للأمة هل يكون نسخًا في حقهم بناءً على ثبوت الحكم بمطلق الورود، أو لا يكون نسخًا في حقهم __________ (1) تحتمل: يشتغل.

(1/305)


بناءً على أن الحكم لا يثبت إلا بالبلوغ، ولَمَّا لم يبلُغْهم لم يثبت في حقهم أصلًا حتى ينسخ؟ واختار هذا الأخير ابنُ الحاجب والسبكي (1) وعليه الأكثر. الرابع: أن يبلِّغ الأمة ولا إشكال فيها. وقوله: "فالعزل بالموت" إلخ يعني أن الخلاف المذكور ينبني عليه الخلاف في تصرف الوكيل بعد موت موكِّله أو عَزْله إياه وقبل العلم بالموت أو العزل، فعلى القول بأن الحكم يستقل بمطلق الورود ينعزل الوكيل بمجرَّد موت موكله أو عزله إياه ولو لم يعلم بذلك. وعلى أن الحكم لا يستقل إلا ببلوغه فلا ينعزل إلا بعد العلم بالموت أو العزل. وقوله: "كذا قضاء" إلخ يَعْني أنه ينبني على الخلاف أيضًا الخلاف في الذي لم تبلغه الدعوة، كالذي نشأ على شاهق جبل أو في دار كفر إذا وجد من يعلِّمه هل يقضي ما فاته من الفرائض بناءً على ثبوت الحكم بمطلق الورود أو لا يقضيه بناءً على أنه لا يثبت إلا بالبلوغ؟ أما القادر على تعلُّم الشرائع فالقضاء واجب عليه وإن لم يَعْلمها لأنه مُفرِّط. 483 - وليسَ نسخًا كلُّ ما أفادا ... فيما رسا بالنَّصِّ الازدِيادا قوله: "الازدياد" مفعول "أفادَ"، و"نسخًا" خبر "ليس" و"كلُّ" أسمها. يعني: أنه ما كل شيء أفاد الزيادة على ما "رَسَا بالنص" أيْ ثبت به يكون نسخًا، بل قد يكون نسخًا (2) وقد لا، وقيل: لا يكون نسخًا مطلقًا. __________ (1) انظر: "المختصر - مع الشرح": (2/ 563)، و"جمع الجوامع": (2/ 90). (2) الأصل: ناسخًا.

(1/306)


وخالف في ذلك الحنفية فقالوا: الزيادة على النص نسخ سواءٌ كانت زيادة جزء أو شرط. مثال زيادة الجزء: زيادة تغريب الزاني البكر بالسنة الثابت في "الصحيح" (1) على جلد مائة الثابت في الآية (2)، فالتغريب المزيد في الحديث جزءٌ من عقوبة الزاني البكر. وكزيادة الحكم بالشاهد واليمين الثابت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأموال (3) على الشاهدين، والشاهد والمرأتين المنصوص في قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة/ 282] لأن الشاهد واليمين صورة زائدة من الصور التي يُقضى بها في الأموال. ومثال زيادة الشرط: زيادة شرط الإيمان في رقبة الظهار واليمين المفهوم من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اعتقها فإنها مؤمنة" (4) على مطلق الرقبة المنصوص في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فكل هذه الزيادات لا تقتضي النسخ لأنها لم ترفع حكمًا شرعيًّا، وإنما رفعت جوازَ تركِها الأول وهو من الإباحة العقلية، وهي ليست من الأحكام -كما تقدم للمؤلف- حتى يكون رفعها نسخًا. وخلافُ الحنفية في ذلك مبنيٌّ على أن الزيادة لابدَّ أن ترفع حكمًا __________ (1) عن زيد بن خالد -رضي اللَّه عنه- عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام. أخرجه البخاري رقم (2649)، ومسلم رقم (1697). (2) يعني في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي. . .} [النور/ 2]. (3) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد. أخرجه مسلم رقم (1712). (4) تقدم تخريجه.

(1/307)


شرعيًّا لأن الاقتصار على الأول كان جائزًا، والزيادة رفعت ذلك الجواز، والتحقيقُ الأول؛ لأن جواز ترك الزائد قبل فرضه مأخوذ من البراءة الأصلية. وقول المصنف: وليس كل ما أفاد الزيادة نسخًا، يُفهم منه أن بعض الزيادات نسخ، وهو يقصد ذلك (1)، والزيادةُ التي تكون نسخًا كما لو زيدت في صلاة الصبح ركعة -مثلًا- لأنه قبل الزيادة كان الاقتصار على الاثنتين واجبًا، والصلاة تبطل بزيادة الثالثة عمدًا، وبطُروِّ الزيادة انعكس الأمر فصارت تبطل بتركها، وإنما لم تكن الزيادة نسخًا لأن الناسخ لابدَّ من منافاته للمنسوخ، والزيادةُ قد لا تنافي، ومن هنا لم يقل مالكٌ بتحريم ذي النَّاب من السباع وذي المِخْلَب من الطير، مع أن الأحاديث صحَّت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنهي عنها المقتضي للتحريم، وفي بعضها التصريح بالتحريم، ولكنَّ مالكًا يقول: هذه الزيادة منافية للآيات، والزائد المنافي لابد أن يكون ناسخًا، والقرآن لا يُنسخ بأخبار الآحاد (2)، ووجه منافاة هذه الزيادة للآيات: أن اللَّه تعالى صرَّح بحصر الطعام الحرام في أشياء لم يكن منها ذو الناب من السباع ولا ذو المِخْلب من الطير، فتحريمُها ينقض ذلك الحصر، ونقضُه لا يكون إلَّا بنسخ، وحَصْرُ التحريم في شيء وبيانُ تحريم شيء بينهما فرق ظاهر، فحَصْر الطعام الحرام في أشياء فيه النَّصُّ على أن غيرها ليس بحرامٍ، فتحريمُه رفع للتحليل المفهوم من النص الأول. وما كالتغريب -مثلًا- فليس فيه منافاة؛ لأن الآية ذُكِر فيها الجلد __________ (1) انظر: "نشر البنود": (1/ 295). (2) تقدم في التعليق (ص/ 296) أن المؤلف قد رجع عن هذا القول.

(1/308)


من غير تعرُّض لنفي غيره. فإذا عرفتَ ذلك فاعلم أن اللَّه تعالى قال في سورة الأنعام -وهي مكية-: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام/ 145] الآية، وهذا الحصر يدل على عدم تحريم ذي الناب من السباع وذي المِخْلب من الطير، فالزيادة المحرم لهما تُناقض هذا الحصر القرآنيَّ. وقال تعالى في سورة النحل -وهي مكية أيضًا-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [النحل/ 115] و {إِنَّمَا} أداة حصر أيضًا عند جمهور الأصوليين والبيانيين وهو الحق، والنحلُ نزلت بعد الأنعام بدليل قوله في النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [النحل/ 118] وقد قصَّ عليه في سورة الأنعام بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام/ 146] الآية، ثم قال في سورة البقرة -وهي مدنية بالإجماع-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة/ 173] الآية، فلم يقبل مالك رفع هذا الحصر المتكرر في مكة والمدينة بأخبار الآحاد وإن كانت صحيحة، ولذا لم يقل بحُرمة ذي الناب من السباع بل قال بكراهته؛ جمعًا بين الأدلة قائلًا: إن الروايات المصرحة بالتحريم فَهِم أصحابُها التحريم من النهي فصرَّحوا بالتحريم ظنًّا منهم أنه معنى النَّهي، مع أن مالكًا يقبل الزيادة على النص ولا يقول بأنها نسخ إلَّا إذا نافت كما عرفت. 484 - والنقصُ للجزءِ أو الشرطِ انْتُقي ... نسخُه للسَّاقِط لا لِلَّذْ بقي يعني أن نقص الجزء أو الشرط "انتقي" أي اختير كونه نسخًا للساقط دون الباقي، وقيل: إنه نسخ للكل، والأول أصح. مثالُ نسخ الجزء: ما

(1/309)


ثبت في "صحيح مسلم" (1) عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: "كان في ما أنزل من القرآن: "عشر رضعات معلومات يُحَرِّمن" فنُسِخْن بخمس". ومثالُ نسخ الشرط: نسخ ما كان في أول الإسلام من اشتراط الوضوء لكل صلاة (2). وقوله: "للذْ بقي" بتسكين الذال فيه لغة. 485 - الإجماع والنَّص على النسخِ ولوْ ... تَضَمّنًا كلا فعَرفًا رأوْ 486 - كذاك يُعرَف لدى المُحَرِّرِ ... بالمَنْع للجَمع مع التأخُّرِ 487 - كقول راوٍ سابقٌ والمَحْكِي ... بما يُضاهي المَدَني والمَكَي 488 - وقولِه الناسخُ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . ذكر في هذد الأبيات [الأدلة] (3) التي يُعرف بها النسخ أي أن هذا ناسخ وهذا منسوخ: الأول: الإجماع، كإجماع المسلمين على نسخ سورة الخَلْع والخُنْع (4)، وهو مرادُ المؤلف بقوله: "الإجماع". الثاني: النص على النسخ، كما لو قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: النص الفلاني منسوخ ولو كان النَّصُّ على النسخ بالتضمُّن والالتزام من غير تصريح بالنسخ، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها. . . " الحديث، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كنتُ نهيتكم عن ادِّخار لحومِ الأضاحي. . . " (5) الحديث، __________ (1) رقم (1452). (2) عن أنس قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، يتوضأ عند كل صلاة. أخرجه البخاري رقم (214). (3) من ط. (4) انظر ما تقدم (ص/ 68). (5) هما حديث واحد تقدم تخريجه.

(1/310)


وهذا هو مراده بقوله: "والنص على النسخ ولو تضمنا". الثالث: معرفة المتأخر من النصين مع عدم إمكان الجمع، فالمتأخر إن لم يمكن الجمع ناسخ، وهو مراده بقوله: "كذاكَ يُعرفُ. . " البيت. وقوله: "كقول راوٍ سابقٌ" يعني أن معرفة المتأخر الناسخ للسابق تُعرف بأدلة منها قول الراوي: هذا سابق وهذا متأخر. ومنها أن يقول: هذا مدني وهذا مكّي، للعلم بأن المدني متأخر عن المكِّي. وأصح التعريفات للمدني والمكي: أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو نزل في مكة أو عرفات، والمكي ما نزل قبل الهجرة. والصحيحُ فيما نزل في سَفَر الهجرة بين مكة والمدينة كآية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص/ 85] التي نزلت بالجُحْفة من طريق الهجرة أنه مدني، والأمران المذكوران هما مراد المؤلف بقوله: "وقول راو سابق" البيت. وقوله: "وقولِه الناسخُ" يعني أن من الأدلة المثبتة للنسخ قول الراوي: هذا النص هو الناسخ -بالتعريف- لا إن قال: هذا ناسخٌ -بالتنكير- فلا يثبت به النسخ عند جمهور الشافعية والمالكية خلافًا للحنابلة. ووجه الفرق عند القائل به: أن قوله: هذا هو الناسخ -بالتعريف- يدل على أن النسخ ثابت عند غيره وهو إنما عَيَّن الناسخ، وتعيينُ الناسخ دليل على معرفة خاصة، بخلافِ ما لو قال: هذا ناسخ، فلا يدل على ثبوت النسخ عند غيره (1)، وقد يظهر له ذلك باجتهاد منه لا يتابعه عليه غيره. __________ (1) انظر: "الجمع": (2/ 94).

(1/311)


. . . . . . والتأثيرَ دَعْ ... بوَفْقِ واحد للأصلِ يُتَّبعْ 489 - وكون راويه الصحابي يقْتَفي ... ومِثْلُه تأخُّرٌ في المُصْحَف قوله: "التأثيرَ" مفعول مقدم لقوله: "دع" يعني اترك التأثير في معرفة المتأخر بموافقة واحد من النصين للأصل الذي هو البراءة الأصلية، فالموافق من النصين لبراءة الذمة الأصلية لا يدل ذلك على كونه متأخرًا حتى ينسخ الآخر، خلافًا لمن زعم ذلك نظرًا إلى أن الأصل مخالفة الشرع لها وهو مردود بجواز ورود الموافق لها أولًا، إذ لا مانع من ذلك، ودع التأثير أيضًا بكون الصحابي الراوي لأحد الحديثين يقتفي راوٍ آخر في الإسلام. وإيضاحُه: أن راوِيَيْ الحديثين المختلفين إذا كان أحدهما متأخر الإسلام كأبي هريرة الذي أسلم عام خيبر، مع أحد السابقين كعمَّار فلا يقتضي تأخُّر إسلامه تأخُّر حديثه، لجواز أن تكون رواية الأسْبَق إسلامًا بعد رواية الأحْدَث إسلامًا، خلافًا لمن زعم ذلك نظرًا لأن تأخر الإسلام من مظنة تأخر الرواية. وقوله: "ومثله تأخر في المصحف" يعني أنه يترك التَّأْثير أيضًا بتأخر الآية في المصحف لجواز أن تكون المتأخرة في المصحف سابقة في النزول، ألا ترى أن أول ما نزل صدر سورة اقرأ وهو في آخر المصحف، ولذا جاز أن تكون الأولى في المصحف ناسخةً للأخيرة فيه لتأخرها في النزول وإن تقدمت في ترتيب المصحف. وكآية {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب/ 50]، فإنها ناسخة لقوله: {لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الأحزاب/ 52] على أصح القولين مع أنها قبلها في المصحف، والعلم عند اللَّه تعالى.

(1/312)


كتاب السنَّة السنة في اللّغَة الطريقة، ومنه قول لبيد (1): من معشَرٍ سنَّت لهم آباؤهم ... ولكل قومٍ سنَّةٌ وإمامُها واصطلاحًا عرَّفها المؤلف بقوله: 490 - وهيَ ما انضافَ إلى الرَّسول ... من صفةٍ كَلَيْس بالطَّويل 491 - والقولِ والفعلِ وفي الفعلِ انحَصَرْ ... تقريرُه كذي الحديثُ والخبَرْ يعني أن السنة اصطلاحًا هي ما انتسب إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الصفات ككونه ليس بالطويل ولا بالقصير، ومن الأقوال والأفعال، ويدخل في الأفعال تقريره -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه لا يقر أحدًا على باطل كما يأتي، وأشار إلى أن التقرير فِعْل ضِمْني بقوله: "وفي الفعل انحصر تقريره" ولا سيما إذا سُرَّ بالفعل الذي قُرِّر عليه كسرُوْره من قول مُجزِّزٍ في أسامة وزيد: هذه الأقدام بعضُها من بعض (2). ومن ثمَّ أخذ بعض العلماء ثبوت النسب بالقافة. ويدخل في الفعل الإشارة والهمُّ، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يهم بباطل، ومثال الإشارة: إشارته لكعب بن مالك أن يضع شَطْر دينه على ابن أبي حَدْرَد (3). __________ (1) "ديوانه": (ص/ 179) ضمن معلقته. (2) أخرج البخاري رقم (6770)، ومسلم رقم (1459) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (3) أخرجه البخاري رقم (457)، ومسلم رقم (1558) من حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه-.

(1/313)


ومثال الهم: همه بتنكيس الرِّداء في الاستسقاء، ولذلك قال الشافعي بسُنِّيته (1). وقوله: "كذي الحديث" إلخ، يعني أن الحديث والخبر والسنة ألفاظ مترادفة، ولما بيَّن أن أفعال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة بيَّن أنه معصوم هو وجميع الأنبياء من الوقوع في المنهي عنه بقوله: 492 - والأنبياء عُصِموا مما نُهوا ... عنه. . . . . . . . . . . . العِصْمة -بالكسر- تخصيص القدرة بالطاعة فلا تقع منهم معصية، وأجاز البعض عليهم خصوص صغيرة غير الخسة مع عدم إقرارهم عليها. فإن قيل: قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه/ 121]، وقال في يوسف: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف/ 24]، وذكر عن إخوة يوسف في سورة يوسف ما دل على قطع الرحم والعقوق والكذب. فالجواب عن قصة آدم: أنه نسيَ العهد فأكل الشجرة ناسيًا، وسبب نسيانه غرور الشيطان له وحلفه باللَّه، لأن آدم لا يخطر في عقله أن أحدًا يحلف باللَّه على الكذب، وذكر اللَّه أنه ناس مغرور قال: {ولَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه/ 115]، وقال: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف/ 22]. ويُجاب عن هم يوسف بأنّها خَطْرة قَلْب لم يُصَمِّمْ عليها، وما كان من الهمِّ كذلك لا مؤاخذة به. وأَجَابَ البعضُ بأن الهمَّ لم يقع منه أصلًا __________ (1) انظر "الأم": (2/ 549 - 550)، وحديث قلب الرداء أخرجه البخاري رقم (1005)، ومسلم رقم (894) من حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-.

(1/314)


لتعليقه على الشرط بقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف/ 24]. وعن إخوة يوسف بأن التحقيق أنهم ليسوا أنبياءَ (1). فإن قيل: في القرآن ما يدل على نبوتهم وهو قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ -إلى قوله: - وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة/ 136]، ففي ذلك دليل على نزول الوحي إلى الأسباط، والأسباطُ أولاد يعقوب. فالجواب: أن المراد بالأسباط قبائل بني إسرائيل الاثني عشرة وفيهم أنبياء كثيرون يوحَى إليهم، ويدلُّ لهذا قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف/ 160]. وما أضيف إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الذنب في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح/ 2]، والوزر في قوله: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح/ 2]. فيجاب عنه بأن اللَّه يعدُّ على الأنبياء خلف الأَوْلى كأنه ذنب، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقال بعضهم (2): فصغائرُ الرجلِ الكبيرِ كبائرٌ ... وكبائرُ الرجلِ الصغير صغائرُ أو أن المراد بالذنب والوزر ما كان من التقصير في العمل قبل النبوة، ولكن قوله: {وَمَا تَأَخَّرَ} لا يساعد هذا القول. ومما يدل على الجواب الأول قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة/ 43] __________ (1) ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في ترجيح ذلك انظرها في "جامع المسائل": (3/ 295). (2) لم أجده.

(1/315)


فالعفو يستلزم ذنبًا وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يفعل إلا ما أذن اللَّه له فيه كما قال: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور/ 62]. والحاصل عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، ومن الكذب فيما بلَّغوا عمدًا إجماعًا، ونسيانًا أو سهوًا عند الجمهور، وعصمتهم من الكبائر عمدًا عند الجمهور وهو الحق خلافًا للحشوية، وكذا سهوًا أو نسيانًا على ما اختاره بعض المحققين. وأما الصغائر فأجاز وقوعها منهم كثير إن كانت غير صغائر خسَّة، وأكثر المجوزين يقولون: لم تقع منهم بالفعل. . . . . . . . . . . . . ... . . . . . ولم يكنْ لهم تفكُّهُ 493 - بجائزٍ بل ذاك للتَّشْرِيعِ ... أو نيَّةِ الزُّلفى من الرَّفيعِ يعني أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يفعلون الجائز للتفكُّهِ أي التلذذ والرغبة في الدنيا، وإنما يفعلون ذلك تشريعًا لأممهم "أو نية الزُّلْفى" أي القربى "من الرفيع" وهو اللَّه تعالى (1)، كالأكل والشرب بنيَّة التقَوِّي على العبادة. 494 - فالصَّمتُ للنبيِّ عن فعلٍ عَلِمْ ... به جوازُ الفعل منه قد فُهِمْ __________ (1) جاء اسم "الرفيع" على أنه من أسماء اللَّه في بعض روايات حديث أبي هريرة المعروف في سرد الأسماء الحسنى، أخرجه ابن أبي الدنيا في الدعاء والطبراني وأبو الشيخ والحاكم: (1/ 63)، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي -كما في الدر المنثور: 3/ 270 - . ولا يصح. وجاء هذا الاسم عن بعض السلف، كما في رسالة المزني في السنة التي ساقها ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية": (ص/ 121).

(1/316)


يعني أنه يعلم من عصمة الأنبياء أن سيدنا محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُقرُّ أحدًا على باطل، فكل فعلٍ عَلِمَ به وسَكَت عليه فهو جائز إلا إذا عُرِف لسكوته عليه موجب، كما لو أقرّ على ترك الصلاة ذِميًّا كافرًا مؤدِّيًا للجزية. 495 - ورُبَّما يفعلُ للمكروهِ ... مُبَيِّنًا أنَّهُ للتنزيهِ 496 - فصارَ في جانبهِ منَ القُرَبْ ... كالنهي أن يُشْرَبَ من فَمِ القِرَبْ يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ربما فعل بعض المكروهات ليبيِّن أن كراهته تنزيهية وأنه غير حرام فيصير قربة في حقه لأنه حينئذٍ تبليغٌ، ومن أمثلة ذلك ما ذكره المؤلف من أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن الشُّرْب من فَمِ القِرْبَةِ (1)، ثم شرب من فَمِ القربة (2) ليبيِّن عدم المنع. 497 - وفعلُه المركوزُ في الجِبِلَّه ... كالأكل والشُّربِ فليس مِلَّه يعني أن أفعال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الجِبِلّية أي التي تقتضيها الجِبِلّة البشرية، كالأكل والشرب والقيام والقعود = لا تدخل في حدِّ السنة اصطلاحًا، وذلك هو المراد بقوله: "فليس مِلَّه" وأصل المِلة الشريعة والطريقة، لأن الأفعال الجبلية لم تُفْعَل لأجل التشريع والاستنان بل لأن الطبع البشري __________ (1) أخرجه البخاري رقم (5627)، ومسلم رقم (609) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. وأخرجه البخاري رقم (5629) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (2) أخرجه أحمد: (45/ 416 رقم 27428) من حديث أم سليم -رضي اللَّه عنها- وفيه ضعف. والترمذي رقم (1892)، وابن ماجه رقم (3423) من حديث عبد الرحمن ابن أبي عمرة عن جدته كبشة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

(1/317)


يقتضيها، والحقُّ أنها تفيد جواز ذلك الفعل. 498 - من غيرِ لَمْح الوصفِ. . . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن حلَّ كون الأفعال الجِبِلّيَة لا تدخل في السنة اصطلاحًا ما لم تُرَاع صفاتها التي وقعت عليها، أمَا مع "لَمح" أي مراعاة صفاتها فإنها من السنة، كمراعاة صفة الأكل من كونه يأكل بيمينه ويأكل مما يليه، ومراعاة صفةِ الشُّرب ككونه يأخذُ الإناءَ بيمينه ولا يتنفس في الإناء، وأمثال ذلك، فإن ذلك كلَّه من السنة وإن كان أصل الأكل والشرب -مثلًا- لَيْسا منها اصطلاحًا. . . . . . . . . . والذي احتَمَلْ ... شرْعًا ففيه قُلْ ترَدُّدٌ حَصَلْ اعلم أولًا أن أفعال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتبار التشريع والجبلَّة ثلاثة أقسام: قسم متمحِّض للتشريع، وقد تقدم في قول المؤلف: "والقولِ والفعلِ" إلخ. وقِسم متمحِّض للجبلة، وقد تقدم في قوله: "وفعله المركوز" إلخ. وقسم محتمل لكليهما لكونه وقع مقترنًا بعبادةٍ مع أن الجبلة تقتضيه، وقد تردَّد فيه العلماء، أي اختلفوا فيه من أجل احتماله للأمرين، وذلك هو معنى قول المؤلف: "والذي احتَمَل شرعًا ففيه قل تردُّد". ومثَّل له المؤلف بمثالين: الأول: ركوبه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حجة الوداع، فبعضهم يقول: ركوبه في الحج فِعل جبلَّي لأنه كان يركب في غير الحج، فالركوب في الحج ليس بسنة والمشي فيه أفضل منه، وبعضهم يقول: هو سنة لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعله

(1/318)


وقال: "خذوا عني مناسككم" (1)، وهذا هو مراد المؤلف بقوله: 499 - فالحجّ راكبًا عليه يجري ... . . . . . . . . . . . . المثال الثاني: الضِّجْعة التي كان يضجعها (2) -صلى اللَّه عليه وسلم- على جنبه الأيمن قبل صلاة الصبح، فالأكثرون يقولون: لا تُسن لأنها فعل جبلِّي لأنه استراحة من تعب القيام بالليل، وبعضهم يقول: سُنة لكثرة فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- لها قبل صلاة الصبح، وهذا هو مراد المؤلف بقوله: . . . . . . . . . . . . ... كضِجْعَةٍ بعدَ صلاةِ الفَجْرِ وشذ بعضُ الظاهرية فجعلها شرطًا في صحة الصلاة (3). ومن أمثلة الفعل المتردد بين الجبلة والتشريع: الدخول من كَداء والخروج من كُدى، والنزول بالمُحَصِّب والخروج إلى المصلى من طريق والنزول من طريق آخر يوم العيد. 500 - وغيرُه وحكمُه جليُّ ... فالاستوا فيه هو القويُّ 501 - من غيرِ تخصيصٍ. . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي ليس بجبلِّيٍّ وهو التشريعي إذا كان معروف الحُكْم بالنسبة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أي عُرِف أنه فَعَله لأنه واجب -مثلًا- أو مندوب أو مباح، فاستواءُ الأمة معه في حكم ذلك الفعل هو القوي أي __________ (1) أخرجه مسلم رقم (1297) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-. (2) كذا وفي ط: يضطجعها. (3) وهو قول ابن حزم كما في "المحلى": (3/ 196).

(1/319)


هو الصحيح، إلا إذا دلَّ دليل منفصل على خصوصه به كالوصال وتزويج أكثر من أربع. وحاصُل هذا القول أن الأصل في أفعاله -صلى اللَّه عليه وسلم- العمومُ لا الخصوصُ به إلا لدليل، وقيل: يختصُّ حكمُ الفعل به إلا لدليلٍ على استواء الأمة معه، وهذا الكلام في الفعل المعروف حكمه بالنسبة إليه، أما المجهول فسيأتي في قوله: "وكل ما الصفة فيه تُجْهَل". . . . . . . . وبالنصِّ يُرى ... وبالبيانِ وامتثالٍ ظهرا لما قدَّمَ أن فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- التشريعي المعروفُ حكمُه تستوي فيه معه الأمة على الصحيح، بيَّن في هذا البيت الطرق التي يُعرف بها حكمه فقال: "وبالنص يرى" يعني أن معرفة حكم الفعل بالنسبة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تُعْلَم بالنص على ذلك، كما لو قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: هذا الفعل واجب أو مندوب أو جائز. وقوله: "وبالبيان" أي ويُعرف حكم الفعل بكونه بيانًا لنص من القرآن فيه إجمال، لأن البيان له حكم المبيّن، وقطعه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدَ السارق من الكوع لبيان محل القطع المذكور في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38] يدلُّ على أن القطع من الكوع واجب لأنه بيان لواجب. وقوله: "وامتثال" يعني أن وقوع الفعل منه -صلى اللَّه عليه وسلم- على سبيل الامتثال لأمر يعرف منه وجوبه، كما لو قال على سبيل الوجوب: تصدَّقْ بدرهم، فَفَعَل -صلى اللَّه عليه وسلم- امتثالًا للأمر، فيُعْلمُ أن هذا الفعل واجب؛ لأنه فُعِل لامتثال أمرٍ واجب. فإن قيل: وجوبُه يُعلم من الأمر فأي حاجة للامتثال؟ فالجواب: أن معرفة وجوبه من الامتثال لها فائدتان؛ الأولى:

(1/320)


توكيد ثبوت الحكم حيث استفيد من طريقين وهما: الأمر والامتثال. والثانية: دَفْع توهم توقف إجزاء المأمور به على بعض الوجوه. 502 - وللوجوب عَلَمُ النِّداءِ ... كذاك قد وُسِمَ بالقضاءِ يعني أن من علامات وجوب الصلاة الأذان، فمراده "بالعَلَم" العلامة وبـ "النداء" الأذان، أي من الطرق التي يُعرف بها حكم الفعل الأذان، فإنه يدل على وجوب الصلاة المؤذَّن لها، لأن الاستقراء دل على اختصاص الأذان بالواجبة. وقوله: "كذاك قد وُسِم بالقضاء" يعني أن من علامات وجوب الفعل عند المالكية وجوب قضائه إلا ركعتي الفجر كما أشار له في "المختصر" (1) بقوله: "ولا يُقضى غيرُ فرضٍ إلا هي فللزوال" أما على قول من يقول بقضاء غير الفرض كالعيدين وذوات الأسباب كالشافعي فالقضاء عنده لا يدل على الوجوب (2). 503 - والتَّرك إن جَلَبَ للتعزير ... وَسْمٌ للاستقرا مِنَ البصيرِ يعني أن من علامات وجوب (3) الفعل تعزيرُ تاركه، لأن الاستقراء من أهل البصر والعلم أثبت أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُعزِّر إلا على ارتكاب حرام فلا يُعزر على ترك إلا إذا كان الترك حرامًا لوجوب الفعل، ولا يعزِّر على فعل إلا إذا كان حرامًا قال في "المختصر" (4): "وعزَّرَ الإمامُ لمعصية اللَّه تعالى" __________ (1) يعني مختصر خليل (ص/ 34). (2) انظر "نشر البنود": (2/ 10 - 11). (3) تكررت في الأصل. (4) (ص/ 265).

(1/321)


والمعصية منحصرة في فعل حرام أو ترك واجب. 504 - وما تمحَّضَ لِقَصْد القُرْب ... عن قَيْدِ الإيجابِ فسِيْمى النَّدْب يعني أنَّ تمحُّض الفعل لقصد التقرب به إلى اللَّه علامة لندبتيه إذا تجرَّد عن قيد الوجوب. فإن قيل: قصد القربة أمر باطن لا اطلاع عليه. فالجواب: أنه يُعرف بدلالة القرينة على قصد القربة بذلك الفعل مجرَّدًا عن قيد الوجوب بأن ينتفي دليل الوجوب وقرينته، والمتمحِّض لقصد القربة يكون صلاة أو صومًا أو ذكرًا أو غير ذلك. 505 - وكل ما الصفةُ فيه تُجْهَل ... فللوجوبِ في الأصحِّ يُجْعَلُ يعني أن فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا كان مجهول الصفة أي مجهول الحكم بالنسبة إليه، فإنه يُحْمَل على الوجوب عليه وعلى الأمة لأنه أحوط إذ لا يتيقن الخروج من العهدة إلا به، ولأن اللَّه قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر/ 7] وفعله مما آتانا، ولأن اللَّه قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب/ 21]، ولأن الصحابة خلعوا نعالهم لما خلع النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نعله في الصلاة، فقد تابعوه طى فعله مع جهلهم حكمَه وقرَّرَهم على ذلك حيث أخبرهم أنه خلعها لأن جبريل أخبره أن في باطنها أذى (1). __________ (1) أخرجه أحمد: (17/ 243 رقم 11153)، وأبو داود رقم (650)، والدارمي في "مسنده" رقم (1418)، وابن خزيمة رقم (1017)، وابن حبان "الإحسان" رقم (2185)، والحاكم: (1/ 260) وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم -على شرط مسلم-، ورجح أبو حاتم في "العلل" رقم (330) اتصاله.

(1/322)


وقيل: يُحْمَل على الندب، إذ فِعْله -صلى اللَّه عليه وسلم- دل على أرجحية الفعل على الترك ولم يدل على الوجوب، لأن الإثم بتركه يحتاج إلى دليل منفصل. وقالوا: إن قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية أن ذلك فيما عُلِم حُكمه بالنسبة إليه لا فيما لم يُعلم حكمه كهذه المسألة، إذ لو كان فعله المجهول الحكم في نفس الأمر مندوبًا في حقه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفعلناه على سبيل الوجوب معللين بأنه الأحوط = لم نكن متبعين له في نفس الأمر. وأجابوا عن كونه أحوط بأن الاحتياط لا يُشرع إلا إذا تقدم وجوب، أو ثبوت الوجوب هو الأصل. مثال الأول: صلاة الخمس إن جُهِل عين المنسية، ومثال الثاني: صوم الثلاثين من رمضان إذا لم يُرَ الهلال لغيم أو نحوه. أما إذا لم يتقدم وجوب ولم يكن ثبوته الأصل، فلا يلزم الاحتياط، كصوم يوم الشك في هلال رمضان، وهذه المسألة لم يتقدم فيها وجوب، ولم يكن الثبوت فيها هو الأصل عند أهل هذا القول. وأجابوا عن خلعهم نعالهم بأن موجبه ليس مجرد المتابعة في الفعل المجهول الحكم بل موجبه المتابعة في هيئات الصلاة وذلك بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصَلِّي" (1). وقيل: يُحمل على الجواز، وقيل بالوقف، وسيأتي للمؤلف. وذكر غيرُ واحد -كالمؤلف- أن أصح هذه الأقوال الحمل على __________ (1) أخرجه البخاري رقم (631)، وأصله في مسلم رقم (674) من حديث مالك بن الحويرث -رضي اللَّه عنه-.

(1/323)


الوجوب، وهو مذهب مالك والأبهري وابن القصَّار وبعض الشافعية وبعض الحنفية وكثير من الحنابلة. 506 - وقيل مع قَصْد التقرب وإنْ ... فُقِدَ فَهْو بالإباحة قَمِنْ هذا القول للباجيّ (1)، يعني أن الباجيَّ قال: إنَّ فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي جُهِل حكمه يُحمل على الوجوب إن ظهر قصد القربة، وإلَّا فعلى الإباحة، وقال بعض المالكية أيضًا: إن ظهر قصد القربة فللندب وإلا فللإباحة. فإن قيل: قول الباجيّ هذا أنه إن ظهر قصد القربة حُمِل على الوجوب ينافي ما تقدَّم من أن التمحُّض للقربة علامة الندب -كما تقدم- إذا تجرد عن قيد الوجوب. فقد أجاب بعضهم عن هذا بأن المراد بقصد القربة عند الباجيّ قصد التقرب ببيان الفعل للأمة، وقصد القربة الذي هو سيمى الندب هو قصد التقرب بنفس الفعل، واللَّه تعالى أعلم. وقوله: "قَمَن" بكسر الميم وفتحها بمعنى حقيق وجدير. 507 - وقد رُوِي عن مالكِ الأخيرُ ... والوقفُ للقاضي نَمَى البصيرُ يعني أنه روي عن مالك القول الأخير وهو الإباحة، رواه عنه إمام الحرمين (2) والآمدي (3). وقوله: "والوقف للقاضي" إلخ يعني أن البصيرَ __________ (1) انظر "إحكام الفصول": (1/ 316). (2) ليس في "البرهان": (1/ 157 - 161) عزو لمالك في هذه المسألة. وقد حكاه عنه في "النشر": (2/ 13). (3) انظر "الإحكام": (1/ 149).

(1/324)


بعلم الأصول نسب القول بالوقف للقاضي أبي بكر الباقلاني (1)، ووجه القول بالوقف احتمال الفعل للوجوب والندب والإباحة. 508 - والناسخُ الأخيرُ إن تقابلا ... فِعْلٌ وقولٌ متكَرِّرًا جلا يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صدر منه قول يقتضي التكرار متضمِّنًا حكمًا، وصدر منه فعل يناقض ذلك القول، كما لو قال: صوم يوم عاشوراء واجب عليَّ، ولم يصُمْه، فإن المتأخِّر من القول أو الفعل ناسخ للأول إذا عُرِف المتأخر، فإن جُهِل فهو قوله: 509 - والرَّأي عندَ جهلِه ذو خُلْفِ ... بينَ مرجّحٍ ورأي الوَقْفِ يعني أنه إن جُهِل المتأخر من القول والفعل المتعارِضَيْن فرأي العلماء مختلف في ذلك، فمنهم من رجح القول، ومنهم من رجح الفعل، ومنهم من قال بالوقف. 510 - والقولُ إنْ خَصَّ بنا تعارَضا ... فينا فقطْ والناسخ الذي مَضَى 511 - إن بالتأسِّي أذِنَ الدليلُ ... والجهلُ فيهِ ذلكَ التفصيلُ يعني أن القول المعارض للفعل إذا كان مختصًّا بالأمة دونه -صلى اللَّه عليه وسلم-، تعارض القول والفعل في خصوص الأمة ولم يتعارضا في حقه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لأن القولَ لم يتناوَلْه أصلًا حتى يعارض الفعل، ومحل تعارضهما في الأمة إذا دل الدليل على استواء الأمة معه في الفعل. كما لو قال: صوم عاشوراء واجب عليكم، وتَركَ صومَه تشريعًا لأمته، فالقول والفعل إذًا متعارضان __________ (1) عزاه له الجويني في "البرهان".

(1/325)


في حق الأمة والمتأخر منهما ناسخ، وإن جُهِل؛ فقيل يُرَجَّح الفعل، وقيل يُرَجَّح القول، وقيل بالوقف على نحو ما تقدم، وذلك هو معنى قوله: "والناسخ الذي مضى" وقوله: "والجهل في ذلك التفصيل". وقوله: "إن بالتأسِيّ أذِنَ الدليل" يعني أن محل تعارضهما في الأمة فيما إذا أذن الدليل بالتَأسِيّ أي دل الدليل على الاقتداء به في الفعل، و"أذن" هنا بمعنى الإعلام أي أكْلَمَ الدليلُ بالتأسِيّ وهو الاقتداء، أما إن لم يدل الدليل على التأسِّي في الفعل، فلا معارضة بينهما في حق الأمة أيضًا. والتعارض في الاصطلاح هو: التقابل بين شيئَيْن على وجهٍ يمنع كلٌّ منهما مقتضى الآخر أو بعض مقتضاه. 512 - وإن يعمَّ غيرَه والاقْتِدا ... به له نصٌّ فما قبلُ بدا يعني أن القول إذا كان يشمل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مع الأمة والحال أن النص دَلَّ على أن الأمة مثله في الفعل المعارض للقول، فحكم المسألة حكم ما مضى قبل، وهو أن المتأخر ناسخ في حقِّه وحقِّ الأمة إن عُلِم، وإن جُهِل المتأخر فالخلاف المتقدِّم بين ترجيح القول أو الفعل أو الوقف. ومفهوم قوله: "والاقتدا به له نص" أن الفعلَ إذا كان خاصًّا به كان التعارض في حقه فقط دون الأمة. 513 - في حقِّه القولُ بفعلٍ خُصَّا ... إن يكُ فيه القولُ ليس نَصّا يعني أنه إذا جاء نص بحكم عام وكان عمومُه يشممل النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولكن لا يشمله إلا بظاهر العموم وعارضَه فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن فعل النبي يدلُّ على أنه غير داخل في العموم وأن الفعل يختص به دون الأمة، كنهيه عن

(1/326)


الوصال، فإنَّ ظاهره شمول كراهة الوصال له -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا أنه لمَّا فَعَلَه دل على اختصاص النهي عن الوصال بغيره، وكتزويجه أكثر من أربع مع دلالة ظاهر القرآن على المنع. 514 - ولَمْ يكن تعارُضُ الأفعالِ ... في كلِّ حالةٍ من الأحْوالِ يعني أن الأفعال لا تتعارض إن تجرَّدت عن القول، لأن الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيًّا، ولا عموم له حتى يقع التعارض بين الأفعال كما قال ابن الحاجب (1) والرهونيُّ وغيرُهما (2). 515 - وإن يكُ لقولُ بحكمٍ لامعا ... فآخِرُ الفعلين كان رافعا يعني أن ما تقدم من عدم تعارض الأفعال محلُّه إذا لم يقترن بالفعلين قولٌ يدل على ثبوت الحكم، فإن اقترن بهما كان آخرُهما ناسخًا للأول، ومثاله عند القائل به: كيفيات صلاة الخوف، لأن القول ورد ببيان الحكم فيها بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلوا كلما رأيتموني أُصَلِّي" (3)، فتكون الكيفية الأخيرة ناسخة لما قبلها؛ لأن الحكم مثبت بقول. وقوله: "بحكم لامعًا" أي وإن يكن القول لامعًا بالحكم أي واردًا بثبوته. 516 - والكُلُّ عند بعضِهم صحيحُ ... ومالكٌ عنه رُوِي الترجيحُ يعني أن بعضَ العلماء يقول بأن كيفيات الفعل كلها صحيحة، فأية __________ (1) انظر "المختصر - مع الشرح": (1/ 506). (2) انظر "البحر المحيط": (4/ 192)، و"النشر": (2/ 15 - 16). (3) تقدم تخريجه.

(1/327)


كيفيةِ صلاةٍ من صلاة الخوف فَعَلَها فهي صحيحة بناء على عدم تعارض الأفعال ولو اقترنت بقولٍ مثبت للحكم، ورُوي عن مالك بن أنس -رحمه اللَّه- الترجيح بين كيفيات الفعل فتتعين التي هي أقرب للخشوع، أو التي هي أقل أفعالًا، ونحو ذلك من المرجحات. 517 - وحيثُ ما قد عُدِمَ المصيرُ ... إليه فالأوْلى هو التخييرُ يعني أنه على القول بالترجيح إذا لم يوجد مرجِّح لأحد الفعلين على الآخر فالأولى تخيير المكلَّف في أن يفعل أيَّ الأفعال شاء، فقوله: "عُدِم المصيِرُ إليه" أيْ بعدم وجود مُرَجِّحٍ. 518 - وَلَم يكنْ مكلَّفًا بشرعِ ... صلى عليه اللَّهُ قبلَ الوضعِ يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن مكلَّفًا بشرع أحدٍ من الأنبياء قبل الوضع أي قبل نزول الوحي عليه، وأما بعد نزول الوحي عليه فقد أشار إليه بقوله: 519 - وهو والأمةُ بعدُ كُلِّفا ... إلا إذا التكليفُ بالنصِّ انتفَى 520 - وقيلَ لا والخُلْفُ فيما شُرِعا ... ولم يكنْ داعٍ إليه سُمِعا يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته بعد نزول الوحي مكلَّفون بشرع من قبلهم خلافًا للشافعي، ومحلُّ هذا الخلاف فيما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا ولم يثبت في شرعنا أنه شرعٌ لنا، وهذان القيدان هما مراد المؤلف بقوله: "والخُلْفُ فيما شُرِعا. . . " البيت. وهذه المسألة هي مسألة: هل شَرْع من قبلنا شرعٌ لنا؟ وتحقيق المقام فيها أن لها ثلاث حالات: الأولى: أن يكونَ شرعُ من قبلنا فيها شرعًا لنا بلا خلاف، وهي ما إذا ثبت في شرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ثم نُصَّ لنا في شرعنا أنه شرع

(1/328)


لنا كالقصاص، لأن اللَّه بيَّن أنه كان شرعًا لمن قبلنا بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة/ 45] الآية، ونصَّ على أنه شرعٌ لنا أيضًا في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة/ 178] الآية. الثانية: ليس شرعًا لنا فيها بلا خلاف، وهي في صورتين؛ إحداهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلًا ولو زعموا أنه من شرعهم. والأخرى: ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لهم ونُصَّ لنا على أنه ليس شرعًا لنا، كالآصار والأثقال التي شُرِعت على من قبلنا، كإيجابه على بني إسرائيل أن يَقتُلوا أنفسهم توبةً من عبادةِ العِجْلِ المنصوص في قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة/ 54] فإن هذه الآصار رُفعت عنا كما قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف/ 157]. وثبت في "صحيح مسلم" (1) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما قرأ: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال اللَّه: قد فعلت". الثالثة: هي محل الخلاف، وهي ما إذا ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا ولم ينص في شرعنا على أنه مشروع لنا ولا غير مشروع، والجمهور على أنه شرع لنا خلافًا للشافعي، وحُجَّة الجمهور: أنه ما ذُكِرَ لنا في شرعنا إلَّا للاعتبار كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف/ 111]، وثمرة الاعتبار العمل، وقد حضَّ تعالى في آيات كثيرة على الاعتبار بأحوال الأمم الماضية. __________ (1) رقم (126) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-.

(1/329)


ومما استدلَّ به الجمهور: أن اللَّه لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام/ 90]، وقد تقدَّم أن الأصح أن الأمر للوجوب، وأن الأمة تدخل تحت الخطاب الخاص به -صلى اللَّه عليه وسلم-. واستدلُّوا أيضًا بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى/ 13] الآية، وبقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء/ 26]. واحتجَّ الإمام الشافعي (1) على أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة/ 48] وقال: إن الهدى فى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} والدين في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} المراد به العقائد دون الفروع العملية بدليل الآية المذكورة. والحق أنه لا يختص بذلك لما ثبت في "صحيح البخاري" (2) عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في (ص)؟ فقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فسجدها داودُ فسجدها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فهذا نصٌّ صريحٌ مرفوعٌ إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثابت في "صحيح البخاري" على أن سجود التلاوة داخل في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وهو ليس من العقائد بالإجماع، فظهر عدم الاختصاص بالعقائد. وأجاب الجمهورُ عن احتجاج الشافعي بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا __________ (1) انظر "قواطع الأدلة": (2/ 211). (2) رقم (4807).

(1/330)


مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} بأن المراد بها نسخُ بعض ما كان مشروعًا أو زيادة ما لم يكن مشروعًا وكلاهما ليس من محلِّ النزاع، ولم يزل العلماء يستدلون على الأحكام بالقَصَص الماضية، كاستدلال المالكية وغيرهم على أن القرينة الجازمة ربما تكفي في البيِّنَة بجَعْل شاهدِ يوسفَ قرينةَ شقِّ القميصِ من دُبُرِ مقتضيةً صِدْق يوسفَ وكَذِبَ امرأةِ العزيز المنصوص في قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} إلى قوله: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} [يوسف/ 26 - 28] الآية، ولذا صارت القرينة تكفي عن البينة في أمور كثيرة، كقول مالك: إن من اسْتُنكه فشُّمَّ من نكهته رائحة الخمر أنه يُجلد جلد الشارب (1). وكمسيس الزوجة التي تزوجها ولم يرها وزُفت إليه مع نساء لا تُثْبِت شهادتُهن عينَ الزوجة اعتمادًا على القرينة. وكالضيف يأتيه الصبي أَو الوليدة بالطعام فيُبَاح أكلُه من غير بينة اعتمادًا على القرينة. وكأخْذِ المالكية وغيرهم أيضًا أن القرينة تُبطلها قرينة أقوى منها من قصة يعقوب وأولاده، حيث جعلوا دم السَّخلة على قميص يوسف ليكون الدم قرينة لهم على صدقهم في أن يوسف أكله الذئب، فأبطلها يعقوبُ بقرينة أقوى منها وهي عدم شق القميص فقال: سبحان اللَّه! متى كان الذئب حليمًا كَيَّسًا يقتل يوسف ولا يشق قميصه؟! كما ذكره اللَّه عنهم في قوله: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف/ 18] الآية. __________ (1) انظر "تهذيب المدونة": (4/ 499).

(1/331)


وكأَخْذ المالكية وغيرهم جواز ضمان الغرمِ مِنْ قوله تعالى في قصة يوسف وإخوته: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}. وكأخذ بعض الشافعية ضمان الوجه المعروف عندهم بالكفالة من قصة يعقوب وأولاده المنصوص في قوله: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف/ 66] الآية. وكأخذ الحنابلة جواز طول مدة الإجارة من قوله في قصة موسى وشعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} إلى قوله: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص/ 27]. وكأخذ المالكية وجوب الإعذار للخصم بـ: أبَقِيَتْ لك حجة؟ من قوله في قصة سليمان والهدهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)} [النمل/ 21]. وكأخذهم أيضًا أن التلوُّم للخصم بعد انقضاء الآجال ثلاثة أيام من قوله تعالى في قصة صالح وقومه: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود/ 65] الآية. وأشار لهذا ابن عاصم في "التحفة" بقوله: * ثلاثة وأصله تمتّعوا * وكأخذ العلماء جواز وقِع كرامات الأولياء من قوله تعالى في قصة مريم: {قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران/ 37] الآية، وأمثال هذا كثيرة جدًّا. 521 - ومُفْهِمُ الباطلِ من كلِّ خبَرْ ... في الوضع أو نقصٍ من الراوي انحَصَرْ يعني أن كلَّ خبر رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعُرِف أنه غير مطابق للحق

(1/332)


بطريق من طرق اليقين فإنه لا يخلو من أحد أمرَيْن؛ إما أن يكون موضوعًا أي مكذوبًا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَثَّل له المؤلف في "الشرح" (1) بما رُوِي: أن اللَّه تعالى خلق نفسه (2). ومن أمثلته ما رواه مسلم (3) وغيره عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أن اللَّه خلق التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبثَّ الدواب يوم الخميس، وخَلَق آدمَ بعد العصر يوم الجمعة" فإن هذا الحديث يظهر عدم صحته من مخالفة نص القرآن في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان/ 59]. ولذا قال البخاري (4) وعلي بن المديني (5) وغير واحد من الحفاظ: إنه من كلام كَعْب الأحبار فغلط بعض الرواة فرفعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (6). __________ (1) (2/ 18). (2) يعني حديث: (إن اللَّه خلق الفرس فأجراها فعرقت فخلق نفسه منها. . .) أخرجه ابن عدي في "الكامل": (6/ 291)، وابن الجوزي في "الموضوعات" رقم (231). وهو حديث مكذوب باتفاق العلماء. (3) رقم (2789). وأخرجه النسائي في "الكبرى" رقم (10943)، وابن خزيمة رقم (1731). (4) في "التاريخ الكبير": (1/ 413). (5) حكاه عنه البيهقي في "الأسماء والصفات": (ص/487). لكنه أعله بأن أحد رواته أسقط من إسناده أحد الكذابين. (6) وقد انتصر للقول بضعفه شيخُ الإسلام ابن تيمية وابنُ القيم، انظر "مجموع الفتاوى": (18/ 18 - 19)، والجواب الصحيح: (2/ 443 - 445)، و"قاعدة جليلة: (ص/ 186 - 188) كلها لابن تيمية، و"المنار المنيف": (ص/ 4 - 86) =

(1/333)


وإما أن يكون الراوي نقصَ منه ما يُزيل الباطل، ومثاله: ما رواه الشيخان (1) عن ابن عمر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أرأيتَكُم ليلَتَكُم هذه فإنَّ على رأس مئة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض اليومَ أحدٌ" قال ابنُ عمر: فوهَل الناس في مقالته أي غلطوا حيثُ لم يسمعوا لفظة "اليوم" فظنوا انقراض جميع الناس على رأس مئة سنة. 522 - والوضعُ للنسيانِ والترهيبِ ... والغلَطِ التنفِيْرِ والترغيبِ يعني أن أسباب الوضع -أي الكذب على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منها: النسيان من الراوي لما رواه فيذكر غيرَه ظنًّا منه أنه هو. ومنها: قصد الترهيب عن المعصية، وقصد الترغيب في الطاعة، وقد وضعت الكرَّامية في ذلك أحاديث كثيرة. ومنها: الغلط بأن يسبق لسان الراوي إلى غير ما رواه. ومنها التنفير كوضع الزنادقة أحاديث لا تقبلها العقول لتنفير الناس عن الشريعة. وقوله: "التنفير"، معطوف بحذف العاطف. 523 - وبعدَ أن بُعِثَ خيرُ العربِ ... دعوى النبوَّة انْمِها للكَذِبِ هذا شروع من المؤلف -رحمه اللَّه- في تقسيم الخبر إلى ما قُطِعَ بكذبه، وما قُطع بصدقه، وما لم يُقْطَع فيه بواحد منهما، وبدأ بالمقطوع بكذبه. ومعنى البيت: أن من ادَّعى النبوة بعد مبعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقْطَع بكذبه __________ = لابن القيم. وممن انتصر لصحة الحديث الشيخان المعلمي في "الأنوار الكاشفة": (ص/ 188 - 193)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (1883). (1) أخرجه البخاري رقم (116)، ومسلم رقم (2537).

(1/334)


من غير أن يُطالب بدليل، للأدلة القاطعة كإجماع المسلمين على ذلك، ونص قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب/ 40]. 524 - وما انتفَى وجودُه من نصِّ ... عند ذوي الحديثِ بعدَ الفَحْصِ قوله: "ما" عطفٌ على الضمير المنصوب في قوله: "انْمِها" أي انْمِها للكذب، وانْمِ للكذب أيضًا كُلَّ حديثٍ نُسِب إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يوجد بعد البحث والتفتيش التامِّ، لقضاءِ العادةِ بكذب ناقله. وقيل: لا يُقْطَع بكذبه لتجويز العقل صدق ناقله، وهذا بعد تدوين الأحاديث، أما قبل ذلك كعصر الصحابة فلا مانع من أن يروي أحدهم ما ليس عند غيره. 525 - وبعضَ ما يُنْسب للنبيِّ ... . . . . . . . . . . . . قوله: "وبعضَ" بالنصب أيضًا عطفًا على مفعول "انمِ" أي: انم للكذب بمعنى انسب له قطعًا بعض الأحاديث المروية عن النبي، يعني أنه يُقطع بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قيل عليه ما لم يَقُلْهُ، ووجه القطع بذلك أنه رُوِي عنه أنه قال: "سَيُكْذَب علَيَّ" (1) ولا يخلو الأمر من أحد أمرين: إما أن يكون قال هذا الحديث، وإما أن يكون مكذوبًا عليه، فإن كان قاله حَصَل القطعُ بوقوع الكذب عليه، وإن كان لم يقله فقد كُذِبَ به عليه (2). وهذا الحديث لا يُعْرف له إسناد. __________ (1) قال ابن الملقن في "تخريج أحاديث البيضاوي" (ص/ 48): "هذا الحديث لم أره كذلك، نعم في أوائل مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون". وانظر "المعتبر": (ص/ 141) وحاشيته. (2) انظر "منهاج السنة": (7/ 61)، و"الإبهاج شرح المنهاج": (2/ 298) للسبكي.

(1/335)


.. وخبرَ الآحاد في السّنيّ 526 - حيثُ دواعي نقْلِه تواتُرا ... نَرَى لها لو قاله تقَرُّرا قوله: "وخبرَ الآحاد" بالنصب أيضًا عطفًا على الضمير مفعول "انْمِ" أي: وانْمِ خبرَ الآحاد للكذب أيضًا إذا كانت الدواعي متوفِّرة إلى نقله تواترًا؛ لأن توفر الدواعي إلى نقله تواترًا قادح في نقله آحادًا، إذ لو وقع لنُقِلَ تواترًا لتوفُّر الدواعي إلى ذلك، كما لو سقط الخطيبُ عن المنبر يوم الجمعة ولم يُخْبر به إلَّا واحد فإنه يُقْطَع بكذبه لمخالفته للعادة، وقيل: لا يُقْطَع بكذبه لتجويز العقل صدقه. وقوله: "دواعي" مبتدأ وجملة "نرى لها" خبره. 527 - واقطعْ بصدقِ خبرِ التواتُرِ ... وسَوِّ بينَ مسلمٍ وكافِرِ 528 - واللفظِ والمعنى. . . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن من الأخبار قِسمًا يُقطع بصدقه كالخبر المتواتر. والتواتر لغةً تَتابع الشيء، ومنه قول لبيد (1): يعلو طريقةَ مَتْنِها متواترٌ ... في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها (2) يعني بقوله: "متواتر" مطرًا متتابعًا أو غبارًا متتابعًا. واصطلاحًا سيأتي تعريفه قريبًا. وقوله: "وسوِّ بين مسلمٍ وكافر" يعني أن المتواتر يُقْطَع بصدقه سواء __________ (1) "ديوانه": (ص/ 172). (2) في بعض المصادر: ظلامها.

(1/336)


كان المخبرون مسلمين أو كفارًا أو فاسقين؛ لأن القطع بصدقه من جهة استحالة تواطئهم على الكذب لا عدالتُهم. والعلمُ الذي يفيده التواتر ضروري عند الجمهور لا نظري خلافًا لإمام الحرمين (1) والغزالي (2)، ومعنى كونه نظريًّا عندهما أنهما يقولان -مثلًا-: هذا الشيء أخْبَرَ به جَمْعٌ يستحيلُ تواطؤهم على الكذب عادةً، وكل ما أخبرَ به جمعٌ كذلك فهو قطعي الصدق، ينتج من الشكل الأول: هذا الشيء قطي الصدق. وقيل: يشترط الإسلام، وقيل: تشترط العدالة، وكلاهما ضعيف. وقوله: "واللفظ والمعنى" يعني أنه لا فرق بين التواتر اللفظي والتواتر المعنوي، فالتواتر اللفظي ظاهرٌ، والتواتر المعنوي هو أن تختلف عبارات الألفاظ ويتضَمَّن كلٌّ منها معنى كليًّا يُسْتفاد من جميع الألفاظ المختلفة كما لو أخبر واحد عن حاتم أنه أعطى دنانير، وآخر (3) أنه أعطى خيلًا، وآخر أنه أعطى إبلًا، وهكذا فقد اتفقوا على معنى كِلِّيٍّ هو الإعطاء. __________ (1) في "البرهان": (1/ 375 - 376). (2) حكاه عنه الفخر الرازي -كما في "البحر الميحط": (4/ 240) - قال الزركشي: (والذي في "المستصفى": (1/ 132 - 133) أنه ضروري، بمعنى أنه لا يحتاج إلى حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن، وليس ضروريًّا بمعنى أنه حاصل من غير واسطة، كقولنا: القديم لا يكون محدثًا. . . فإنه لابد فيه من حصول مقدمتين في النفس: عدم اجتماع هذا الجمع على الكذب، واتفاقهم على الإخبار عن هذه الواقعة) اهـ. ثم خرّج كلام إمام الحرمين عليه وكذا الكعبي، قال: فلم يبق خلاف. (3) الأصل: وأخبر.

(1/337)


وذاك خبَرُ ... مَنْ عادةً كذِبُهمْ منحَظِرُ 529 - عن غيرِ معقولٍ. . . . . . ... . . . . . . . . . هذا تعريف المتواتر وهو المشار إليه بقوله: "وذاك" يعني أن المتواتر في الاصطلاح هو خبرُ جَمْعٍ يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذب، أي توافقهم عليه إذا كان خبرهم عن محسوس بإحدى الحواس الخمس. وهو المراد بقوله: "عن غير معقول". ويدخل في المحسوس الوُجداني وهو ما كان مُدْرَكًا بالحس الباطن كاللذة والألم. وقوله: "عن غير معقول" الذي هو المحسوس احترز به عن المعقول فلا يفيد التواتر فيه القطع، لأن آلاف العقول تتواطأ على الخطأ في المعقول كتواطئ الفلاسفة على قِدَم العالم. . . . . . . . . . وأوجبِ العَدَدْ ... من غيرِ تحديدٍ على ما يُعْتَمَد يعني أن المتواتر لابدَّ فيه من تعدُّدِ رواته في جميع طبقات السند من غير تحديد بعدد معين، بل المعتبر ما حصل به العلم على المعتمد وهو مذهب الجمهور. فإن قيل: كيف علمتم أن المتواتر يحصل به العلم مع جهل تعيين العدد المحصِّل للعلم؟ قلنا: كما علمتم أن الخُبز يشبع والماء يُرْوي مع جهلكم لتحديد ما يحصل به الشبع والرِّيُّ. 530 - وقيل بالعشرينَ أو بأكثَرا ... أو بثلاثين أوِ اثْنَيْ عشَرا يعني أنه قيل: إن أقل عدد التواتر عشرون، ويُرْوَى عن ابن القاسم. وقيل: أقله ما زاد على العشرين، ويُروى عن سحنون. وقيل:

(1/338)


أقله ثلاثون، ويروى عن ابن أبي زيد. وقيل: أقله اثنا عشر، وقيل: غير ذلك. 531 - إلغاءُ الأربعَةِ فيه راجحُ ... وما عليها زادَ فهوَ صالحُ يعني أن إلغاء الأربعة في عدد التواتر والحكم بأنها لا تكفي فيه راجح، ووَجْه رجحانه: أنهم لو شهدوا بزنى لاحتاجُوا إلى التزكية وما يحصل به التواتر لا يحتاج إلى تزكية قطعًا، وقد تقدم للمؤلف أن المسلم والكافر فيه سواء، وممن ذكر عدم صلاحية الأربعة الباقلانيُّ والسبكيُّ. 532 - وأوجبَنْ في طبقاتِ السَّنَدِ ... تواترًا وَفْقًا لدى التعَدُّدِ يعني أن طبقات السند إن كانت متعددة يجب التواتر في كل طبقة منها بأن يرويه في كل طبقة جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإن بقيت طبقة لم يتواتر فيها كان خبر آحاد، ومثال ما تواتر فيه في كل الطبقات حديث: "من كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوأ مَقْعَدَه من النار" (1). ومثال ما تواتر في بعض طبقات السند دون بعض حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (2)، فإنه لم يَرْوه عن عمر بن الخطاب إلَّا علقمة بن وقاص، ولم يروه عن علقمة إلَّا محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلَّا يحيى بن سعيد الأنصاري، وقد تواتر عن __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1291)، ومسلم رقم (4) من حديث المغيرة -رضي اللَّه عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (1)، ومسلم رقم (1907).

(1/339)


يحيى بن سعيد وعمن روى عنه (1). وقوله: "وفقًا" يعني اتفاقًا. وقوله: "لدى التعدد" يحترز به مما لو كان رواة المنقول بالتواتر طبقة واحدة فإنه لا إشكال فيه. 533 - ولا يفيدُ القطعَ ما يُوافِقُ ... الإجماعَ والبعضُ بقطعٍ ينطقُ 534 - وبعضُهم يفيدُ حيث عوَّلا ... عليهِ. . . . . . . . . . . . يعني أن خبر الآحاد إذا انعقد الإجماع موافقًا له اختلف فيه هل يصير بذلك قطعيًّا أو لا؟ على ثلاثة أقوال: الأول: وهو أصحها عند الأصوليين أن موافقة الإجماع لخبر الآحاد لا تفيد القطع بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ذلك الخبر المروي آحادًا مطلقًا، لجواز أن يكون مستندهم غيره، أو يكونوا ظنوا الحكم فوجب عليهم العمل بما غلب على ظنهم وإن لم يكن مطابقًا في نفس الأمر عند من يجيز ذلك في حقهم. الثاني: أنه يفيد القطع لاعتضاده بالقطعي الذي هو الإجماع. الثالث: التفصيل، فإن صرح المجمعون بأن ذلك الخبر هو مستندهم أفاد القطع وإلَّا فلا، ومن يقول في هذا بأنه لا يفيد القطع ولو صرحوا بأنه مستندهم يرى أن الأمة يجوز في حقها أن تُجْمعَ مستندة إلى ظن ليس مطابقًا للواقع في نفس الأمر، وهي حينئذٍ لم تكن مُجْمعة على ضلالة لأنها عملت بما غلب على ظنها أنه صواب، وذلك ليس بضلال ولو لم يطابق ما في نفس الأمر. __________ (1) انظر "فتح الباري": (1/ 17).

(1/340)


. . . . . وانْفِهِ إذا ما قد خلا 535 - معَ دَواعي ردِّه من مُبْطِلِ ... كما يَدُلُّ لخلافةِ عَلي الضمير في قوله: "انفه" عائد إلى القطع بصدق الخبر المذكور في قوله: "واقطع بصدق خبر التواتر" يعني أنه لا يفيد القطع بصدق الخبر عدم إبطاله مع توفر الدواعي الباعثة على إبطاله، كالأحاديث الدالة على أن عليًّا أحق بالخلافة من معاوية كحديث: "أنت منِّي بمنزلةِ هارون من موسى" (1)، وكحديث: "من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه" (2) فإن داوعي بني أمية متوفرة إلى إبطال ذلك، فإذا لم يبطلوه لم يوجب ذلك القطع بصدقه. وقوله: "من مبطل" يتعلق بقوله: "خلا" أي خلا الخبر من مبطل "مع دواعي ردِّه" أي إبطاله. 536 - كالافتراقِ بَيْن ذي تأوُّلِ ... وعامِلٍ به على المُعَوَّل يعني أن افتراق العلماء في حديث إلى مؤوِّلٍ له ومحتجٍّ به لا يوجب القطعَ بصدقه على القول المعول عليه وهو مذهب الجمهور، وقيل: __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3707)، ومسلم رقم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه-. (2) هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة، وهو المعروف بحديث غدير خم، وكل رواياته فيها مقال، وله ألفاظ شتى، ومن أحسن أسانيده ما أخرجه الترمذي رقم (3713)، والنسائي في "الكبرى" رقم (8424)، وابن حبان "الإحسان" رقم (6931)، والحاكم (3/ 533). من حديث أبي الطفيل عن زيد بن أرقم -وبعض الرواة لم يذكر زيدًا-. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. انظر: "تخريج أحاديث الكشاف": (2/ 234 - 244) للزيلعي.

(1/341)


يوجب له القطع. وحجة القائل به: إجماعُ الكل على قبوله لأن تأويله يستلزم القبول ولولا ذلك لم يحتج إلى تأويله، واستلزام العمل بظاهره للقبول واضح فصاروا مجمعين على قبوله. ومحلُّ هذا القول الضعيف ما لم يعلق التأويل على تقدير الصحة، كما لو قال: ولو فرضنا أنه صحيح فمعناه كذا، ومثاله: حديث أبي رافع عند البخاري: "الجارُ أحق بِصَقَبهِ" (1)، فإنَّ أكثر العلماء أوَّل الجار على أن المراد به الشريك المقاسم، لَحديث جابر المتفق عليه: "فإذا ضُرِبَت الحدودُ وصرفت الطرق فلا شُفعة" (2)، وبعضٌ حمَلَه على ظاهره فأوجبَ الشُّفعة للجار. 537 - ومذهبُ الجمهور صِدق مخبرِ ... مع صَمْت جمعٍ لم يَخَفْهُ حاضرِ يعني أن مذهب الجمهور -واختاره ابن الحاجب (3) - أن من أخبر عن أمر محسوس بحضرة جَمْع يحصل بعددهم التواتر، وذلك الأمر مما لا يخفى عليهم عادة، ولم يكونوا خائفين من ذلك المُخْبِر، وسكتوا ولم يكذِّبوه وهم سامعون لما يقول = فإن ذلك يفيد القطع بصدقه، لاستحالة تواطئهم على السكوت على الكذب عادة، وقيل: يفيد ذلك الظن فقط لإمكان أن يسكتوا لا لشيء. وقوله: "حاضر" نعت لقوله: "جمع" وفاعل "يخف" ضمير عائد إلى الجمع، والضمير المنصوب به عائد إلى "المخبِر". __________ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) "المختصر - مع الشرح": (1/ 662).

(1/342)


538 - ومودَعٌ من النبيِّ سَمْعا ... يفيدُ ظنًّا أو يفيدُ قَطْعا 539 - وليسَ حاملٌ على الإقرار ... ثَمَّ مع الصمتِ عن الإنكار يعني أن المخبر إذا كان بمكان يسمع النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه خبره وسكت عن الإنكار عليه، ولا حامل للنبيِّ على الصمت ولا للمخبر على الكذب، فإن ذلك يفيد الظن بصدق خبره لا اليقين كما اختاره ابن الحاجب (1)، وقيل: يفيد القطع وهو قول المتأخرين، وسواء كان عندهم ذلك الأمر دينيًّا أو دنيويًّا (2). أما إذا لم يكن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سمعه فلا إشكال، وإذا سمعه وكان للنبي حاملٌ على الصمت ككون المخبر كافرًا ذا لَجاج وقد أنكر عليه قبل ذلك مرارًا ولم يُفِد، فلا يكون صمته عنه دليلًا على صدقه، وكذا إذا كان للمخبر حامل على الكذب ككونه يدفع به عن نفس معصوم أو مال فلا يفيد ذلك أيضًا صدقه. والحقُّ في هذه المسألة ما قاله العبَّادي (3) من أنها لا فائدة لها، إذ لا يتصور حصول العلم بالصدق لأحد لتوقفه على العلم بانتفاء كلِّ شيء يحمل على التقرير ولا يمكن العلم بذلك؛ لأن الحوامل لا تنحصر وقد يخفى الحامل ويشتبه بغيره فيظن ما ليس بحامل حاملًا كالعكس. 540 - وخبرُ الآحاد مظنونٌ عَرَى ... عن القيودِ في الذي تواترا __________ (1) المصدر نفسه: (1/ 661). (2) انظر "نشر البنود": (2/ 28). (3) في "الآيات البينات": (2/ 212).

(1/343)


يعني أن أخبار الآحاد تفيد الظن لا اليقين، وستأتي للمؤلف بقية الأقوال، وقد عرَّفه بقوله: "عرى" إلخ أي هو خبر عار عن قيود المتواتر التي هي: كونه خبر جمع يستحيل. . . إلخ، فخبر الآحاد إذًا هو خبر واحد، أو اثنين، أو جمعٍ لا يستحيل تواطؤهم على الكذب، أو خبر جمع يستحيل تواطؤهم عليه عن معقول. 541 - والمستفيضُ منه وهو أربعَه ... أقلُّهُ وبعضُهُم قد رَفَعَه 542 - عن واحدٍ وبعضُهُم عما يلي ... وجَعْلُه واسطةً قولٌ جَلِي يعني أن المستفيض من خبر الآحاد، وعليه فالقسمة ثنائية متواتر وآحاد، والآحاد هو المنقسم إلى مستفيض وغيره. وقيل: إن القسمة ثلاثية: آحاد ومستفيض ومتواتر، وأشار لهذا بقوله: "وجَعْله واسطة" إلخ. وعند ابن عبد الحكم وابن عَرَفة والموَّاق وغيرهم أن المستفيض هو المتواتر. والمستفيضُ ذَكَر المؤلف في أقله ثلاثة أقوال: الأول: أن أقله أربعة. الثاني: أن أقله اثنان، وهو مراده بقوله: "وبعضهم قد رَفَعَه عن واحد". الثالث: أن أقله ثلاثة، وهو مراده بقوله: "وبعضهم عما يلي". وجَعْل المستفيض واسطة هو الذي عليه "شرح عمليات فاس" (1). __________ (1) (عمليات فاس) هي منظومة في الفقه المالكي لأبي زيد عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي (ت: 1096 هـ) في (43) بيتًا، ولها عدة شروح. انظر: "جامع الشروح والحواشي": (2/ 1234).

(1/344)


543 - ولا يفيدُ العلمَ بالإطلاق ... عند الجماهيرِ من الحُذَّاقِ 544 - وبعضهم يفيدُ إن عدلٌ روى ... واختير ذا إنِ القرينةَ احْتَوى يعني أن خبر الآحاد لا يفيد العلم يعني اليقين عند جماهير الحذَّاق يعني الأصوليين. وقوله: "بالإطلاق" يعني سواء احتفَّت به قرائن الصدق أم لا. وحُجَّة هذا القول: أن الرواة غيرُ معصومين وادعاء القطع بخبرهم مع إمكان الكذب في حقهم كأنه تناقض. وقوله: "وبعضهم يفيد إن عدلٌ رَوى" يعني أن بعض الأصوليين منهم ابن خُويز منداد من المالكية وهو رواية عن أحمد، وكثير من أهل الحديث يقولون: إن خبر الواحد يفيد القطع إذا كان راويه عدلًا ضابطًا (1). وحجَّتهم أن وجوب العمل به يقتضي إفادته العلم، لأن اللَّه ذم متبعَ الظن وبيَّن أن الظنَّ لا يغني من الحق شيئًا كما قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، وقال تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} [النجم]، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إياكم والظنَّ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث" (2). وأجيب من جهة الجمهور بأن الفروع العملية لا يُطْلَب فيها القطع بما في نفس الأمر، والعمل يكون قطعيًّا وهو مبني على ظن (3) في نفس __________ (1) انظر في ترجيح هذا القول: "مجموع الفتاوى": (18/ 41 - 51)، و"مختصر الصواعق": (ص/ 464)، و"النكت على ابن الصلاح": (1/ 376). (2) أخرجه البخاري رقم (5143)، ومسلم رقم (2563) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (3) ط: ظني.

(1/345)


الأمر، ألا ترى أن القتل يجب بشهادة عدلين على موجبه وجوبًا قطعيًّا مع أنه لا يُقْطع بصدقهما في نفس الأمر؟ وقوله: "واختير ذا" إلخ يعني أن ابن الحاجب اختار إفادة خبر الآحاد اليقين إذا احتوى على قرينة منفصلة زائدة على العدالة (1)، كما لو أُخْبِر عن رجل بأنه قَتَل آخر مع مشاهدة المقتول يتشحَّط في دمه والقاتل هاربًا فزعًا وبيده السِّكين وعليها الدم، فإن هذه القرينة -مثلًا- يتقوَّى بها الخبر فيفيد القطع. ومن المحتفِّ بقرينة الصدق: ما أخرجه الشيخان أو أحدهما لما احتف به من قرائن الصدق لشدة معرفتهما بالصحيح من غيره وتلقِّي الناس (2) لكتابَيْهما بالقبول. وقوله: "القرينة" مفعول فعل محذوف يفسره ما بعده، لأنَّ "إنْ" لا تدخل على الجمل الاسمية، واحتوى الشيءَ وعليه بمعنى جَمَعه. 545 - وفي الشهادةِ وفي الفتوى العَمَلْ ... به وجوبُه اتفاقًا قد حصَلْ 546 - كذاك جاءَ في اتخاذِ الأدْوِيَه ... ونحوها كسَفَرٍ والأغذيه يعني أن الأمة اجتمعت على وجوب العمل بحكم الحاكم وفتوى المفتي وبشهادة الشاهد وإن لم يبلغوا حدَّ التواتر، فوجوب العمل بخبر الآحاد فيها مُجْمَع عليه، وكذلك أجمعوا على العمل به في الدنيويات كاتخاذ الأدوية، فيُعْتمد فيها على قولِ عدلٍ أنها داوءٌ مأمون من العطب، __________ (1) "المختصر - مع الشرح": (1/ 656). (2) ط: العلماء.

(1/346)


وكارتكاب سفر أو غيره مما فيه غررٌ إذا أخبرَ عدلٌ أنه مأمون، وكاتخاذ الغذاء [إذا أخبر عدلٌ] (1) بأنه لا يضر سواء كان مأكولًا أو مشروبًا، ومحل هذا إذا كان المخبر عدلًا عارفًا، ولا يجوز الاعتماد على جاهلٍ في ذلك، وإن نشأ عَطَب ضَمِنَ كما أشار له في "المختصر" (2) بقوله: "كطبيب جهل". 547 - ومالكٌ بما سِوى ذاكَ نَخَعْ ... . . . . . . . . . . . . يعني أن مالكًا رحمه اللَّه "نخع" أي نطق وقال بوجوب العمل بخبر الواحد في جميع الأمور الدينية، وكذلك قال أبو حنيفة والشافعي وأحمدُ وعامة الأصوليين والفقهاء والمحدثين. وقد دَلّ على العمل به العقلُ والنقلُ، أما دلالة العقل فهي أنه لو لم يُعْمَل به لتعطل جُلُّ الأحكام لأن غالبها ثابت بالآحاد، والتالي باطل فالمتقدم مثله. وأما دلالة النقل فإنه دل عليه الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، والمخالف فيه من المعتزلة محجوج بانعقاد الإجماع قبله. أما دلالة القرآن عليه ففي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات/ 6] يُفْهَم من دليل خطابه أن الجائي بنبأ لو كان غير فاسق لما لزم التبيُّن وذلك يفيد العمل بخبره. وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة/ 122] الآية، فإن هذه الطائفة النافرة المنذرة قومَها آحاد، والآية تدلُّ على قبول __________ (1) من ط. (2) (ص/ 265).

(1/347)


خبرها، ولم يقل أحد إنها لابد أن تكون يحصل بها التواتر المفيد للقطع. وأما دلالة السنة فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يرسل الرسول الواحد والرسولين في مُهِمَّات الدين، ولو لم يكن ذلك حجة لما أَرْسَل إلى الناس من ليس في خبره حجة. وأما الإجماع فقد اشتهر بين الصحابة الرجوع إلى أخبار الآحاد من غير نكير، ومن تتبع وقائعهم في ذلك حصل له العلم بأنه لا مخالف منهم في ذلك، فمن ذلك رجوع عمر بن الخطاب إلى خَبَر عبد الرحمن بن عوف أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذ الجِزْية من مجوس هَجَر (1)، وكرجوع أبي بكر رضي اللَّه عنه لخبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة بعد أن قال لها: مالكِ في كتاب اللَّه شيء ولا علمتُ لكِ في سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا (2). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3157) من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه-. (2) أخرجه مالك في "الموطأ" رقم (1461)، وأبو داود رقم (2894)، والترمذي رقم (2100)، وابن ماجه رقم (2724)، والنسائي في "الكبرى" رقم (6346)، وابن حبان "الإحسان" رقم (6031)، والحاكم (4/ 338) كلهم من طريق قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر. . . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وصححه ابن حبان، وابن الملقن. لكن قبيصة لم يسمع من أبي بكر فهو مرسل، قال ابن عبد البر في "التمهيد": (11/ 91 - 92): "وهو حديث مرسل عند بعض أهل العلم بالحديث لأنه لم يذكر فيه سماع لقبيصة من أبي بكر ولا شهود لتلك القصة، وقال آخرون هو متصل لأن قبيصة بن ذؤيب أدرك أبا بكر وله سن لا ينكر معها سماعه من أبي بكر رضي اللَّه عنه" اهـ، وضعفه ابن حزم وعبد الحق وابن القطان. انظر "البدر المنير": (7/ 206 - 209).

(1/348)


ورجوع عمر إلى قولهما في دية الجنين أنَّها غرة (1). وكرجوع الصحابة لخبر عائشة في وجوب الغسل من التقاء الختانين (2). فإن قيل: لم يقبل أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى شَهِد معه محمد بن مَسْلمة، ولم يقبل عمر بن الخطاب حديث أبي موسى في الاستِئْذان حتى شَهِد معه أبو سعيد الخدري (3)، ولم تقبل عائشة خبرَ ابن عمر أن الميت يُعَذَّب ببكاء أهله (4)، ولم يقبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خبر ذي اليدين في السهو في الصلاة حتى شهد معه أبو بكر وعمر (5). فالجواب: أن أبا بكر لم يردَّ خبرَ المغيرة في ميراث الجدة وإنما طلبَ غيرَه معه تثبتًا وزيادةً للتأكيد وذلك لا يقتضي رد الخبر، كما جاء في القرآن نظيره عن إبراهيم -عليه السلام- في قوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة/ 260] مع أنه حجة أيضًا على قبول أبي بكر خبر الآحاد؛ لأن الاثنين آحاد بالإجماع. وأن عمر بن الخطاب صرَّح في [بعض] روايات الحديث بأنه لم يتهم أبا موسى، وإنما فعل ذلك سدًّا __________ (1) أخرجه البخاري رقم (6905)، ومسلم رقم (1683) من حديث المغيرة -رضي اللَّه عنه-. (2) أخرجه مسلم رقم (349) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (3) أخرجه البخاري رقم (6245)، ومسلم رقم (2153) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (4) أخرجه البخاري رقم (1288)، ومسلم رقم (929) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (5) أخرجه البخاري رقم (714)، ومسلم رقم (553/ 99) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/349)


للذريعة لئلا يتجرَّأ الناسُ على التقوُّل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أيضًا حجة على قبول عمر خبر الآحاد مع أنه ثبت في الصحيح رجوعه لخبر عبد الرحمن ابن عوف وحْدَه في أَخْذ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجزيةَ من مجوس هجر (1)، وأن عائشة رضي اللَّه عنها لم تقل برد خبر ابن عمر وإنما ظنَّت أنه غالط في خصوص هذا الحديث لظنها أن الآية تكذِّبه وهي قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ويدل لذلك ما ثبت في "صحيح مسلم" (2) من رواية القاسم بن محمد أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت في حديث ابن عمر المذكور: "إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكنَّ السمعَ يخطئ". وهو صريح فيما ذكرنا. وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما لم يقبل خبرَ ذي اليدين لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يظن أنه صَلّى أربعًا وأنَّ ذا اليدين هو الغالط كما دل عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلُّ ذلكَ لم يكن" أي في ظني. . . . . . . . . . . ... وما ينافي نَقْلَ طَيْبَة مَنَعْ 548 - إذَّ ذاك قطْعِيٌّ وإن رأيًا ففِي ... تقديم ذَا أو ذَاكَ خُلْفٌ قد قُفي يعني أن خبر الواحد إذا تعارض مع ما نقله جميع مجتهدي المدينة من الصحابة والتابعين فقط فإن مالكًا يمنع العمل بخبر الواحد فيقدِّم عليه نقل أهل المدينة؛ لأن نَقْل أهل المدينة قطعيٌّ لتواتره والمخالف له آحاد، وهذا من قبيل تقديم المتواتر على الآحاد. وقوله: "وما ينافي نقلَ طيبة" يعني أن الذي يقدمه مالك على خبر __________ (1) تقدم قريبًا. (2) رقم (929).

(1/350)


الآحاد هو ما نقله أهلُ المدينة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن صرحوا بنقله عنه أو كان له حُكم الرفع بأن كان لا مجال للرأي فيه. وقوله: "إذا ذاك قطعي" أي لتواتره. وقوله: "وإن رأيًا ففي تقديم ذا" إلخ يعني أن عمل أهل المدينة المخالف لخبر الآحاد إذا كان عن اجتهاد منهم لا نقلٍ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فإن المالكية اختلفوا أيهما يقدم، فأكثر البغداديين على أنه ليس بحجة، لأنهم بعض الأمة فيقدَّم عليهم خبرُ الآحاد المروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قلت: وهو الحق وعليه المحققون من المالكية، وسيصرِّح المؤلف في القوادح (1) بأن فساد الاعتبار قادح في كل اجتهاد، وهو مخالفة النص، فكلُّ اجتهاد خالفَ نصًّا فهو باطل بالقادح المُسَمَّى بفساد الاعتبار، وذلك في قوله في باب القوادح الذي سيأتي: والخُلْفَ للنصّ أو اجماعٍ دعا ... فسادَ الاعتبار كلُّ من وعى وقال آخرون: إجماعهم حجة فيقدَّم على خبر الواحد، والتحقيق خلافه كما يأتي للمؤلف في كتاب الإجماع (2). أما إذا لم يعلم أهل المدينة بالخبر فهو مقدَّم على قولهم بالاتفاق، وقال المالكية: إذا علموه وتركوا العمل به دل ذلك على نسخة فيقدَّم عملُهم عليه. 549 - كذاك فيما عارضَ القياسَا ... رِوَايتا من أحْكَم الأسَاسَا يعني أنه جاء عن مالك روايتان في عمل أهل المدينة إذا خالف __________ (1) البيت رقم (799). (2) البيت رقم (615).

(1/351)


القياس أيهما يقدم؟ وينبني على الخلاف جَرَيان القصاص في الأطراف بين الحر والعبد، فعمل أهلِ المدينة بأن لا قصاص فيها، ومقتضى القياس القصاص فيها، فقدَّمَ مالكٌ هنا عملَ أهل المدينة، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح في أول كتاب القياس (1). وقوله: "من أحكم الأساسا" يعني من أتقن الأصول، ومراده به مالك. 550 - وقد كفى من غيرِ ما اعتضادِ ... خبرُ واحدٍ منَ الآحادِ يعني أن خبر الآحاد يجوز العمل به ولا يحتاج إلى عاضد يعضده من نص أو قياس وعمل، فلفظةُ "ما" زائدة والمعنى: من غير اعتضادٍ أي تقوٍّ بشيءٍ مما ذُكِر. 551 - والجزمُ من فرعٍ وشكَّ الأصل ... ودَعْ بجَزْمِه لذاك النَّقْلِ قوله: "الجزمُ" بالرفع عطف على فاعل "كفى". وقوله: "وشكَّ" بالنَّصب مفعول معه، يعني أنه يكفي في قبول الخبر جزم الفرع الذي هو الراوي مع شك الأصل الذي هو المروي عنه، فشكّ الأصل في رواية الراوي عنه لا يبطلها على قول الجمهور، لأن الرواة قد ينسون بعضَ ما حفظوا وروي عنهم، وإنما قُبِل مع شك الأصل لأن الراوي عَدْل جازم، ولم يأت من المروي عنه ما يُعارضه، وقد روى سُهيل بن أبي صالح [عن أبيه] عن أبي هريرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بالشاهد واليمين ثم نسيه سهيل فكان يقول: حدثني ربيعةُ عنِّي ولم ينكر عليه أحد (2). __________ (1) (ص/ 412). (2) أخرجه أبو داود رقم (3610) وغيره.

(1/352)


وقوله: "ودع بجزمه لذاك النقل" يعني أن الأصل إذا جَزَم (1) بأن الفرع لم يرو عنه هذا الحديث ولم يَشك في ذلك فلا تُقْبَل روايته عنه. وقوله: "لذاك" مفعول "دع" بمعنى اترك، واللّام زائدة لتأكيد التعدية، والباء في "بجزمه" سببية، وتقرير المعنى: ودع ذلك النقلَ بسبب جزم الأصل أن الفرع لم يرو عنه. 552 - وقال بالقبول إنْ لم ينتفِ ... أصْلٌ من الحديث شيخٌ مقتفي يعني أن الباجيَ قال (2): إنَّ جزم الأصل بعدم رواية الفرع عنه إذا اعترف بأن هذا الحديث من مروياته بأن قال: هذا من روايتي ولكنَّ هذا الراويَ لم يروه عني = لم يمنع جزمُه بذلك قبولَ رواية الفرع عنه؛ لأنه يمكن أن يحدِّثه وينسى أنه حدثه، وأما إن انتفى من الحديث أصلًا بأن قال: لم أرْوِ هذا الحديث أصلًا فلا تُقْبَل رواية الفرع عنه اتفاقًا. وقوله: "شيخ مقتفي" أي متَّبع يعني الباجيَّ. 553 - وليس ذا يقدحُ في العداله ... كشاهدٍ للجزمِ بالمقالَه يعني أن مخالفةَ الأصل والفرع لا تقدَحُ في عدالة واحدٍ منهما، فلا تقول: لابدَّ أن يكون أحدهما كاذبًا والكذبُ من مسقطات الثقة بالخبر؛ لأن كلًّا منهما بالنظر إليه بمفرده يدَّعي أنه جازم وأنه صادق، كما لو قال رجل رأى طائرًا: إن كان هذا غرابًا فزوجتي طالق، وقال الآخر: إن لم __________ (1) ط: صرح. (2) في "إحكام الفصول": (1/ 352).

(1/353)


يكن غرابًا فزوجتي طالق، وطار ولم يُعرف وادَّعى كلٌّ منهما اليقين فلا تطلق زوجةُ واحدٍ منهما. وقوله: "كشاهد" أي كما لا تسقط شهادة الشهود بشهادة بعضِهم بنقيضِ ما شَهِدَ به الآخرون (1) ولو لم يمكن الجمع بل يرجَّح بين البَيِّنَتَيْن ولا يقدح ذلك التكاذبُ في عدالة أحدٍ منهم لأن الكل عَدْل جازم. قلت: ويُسْتأْنس لهذه المسائل بمسألة اللعان حيث جاء القرآنُ بقبول أَيْمان الزوجين وسقوط الحدِّ عنهما، مع أنَّا نقطع بأن أحدهما كاذب، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّه يعلمُ بأنَّ أحدكما لكاذب" (2)، والكاذبُ منهما يلزم على كذبه حدٌّ من حدود اللَّه، لأنَ كذب المرأة يُلزمها حدَّ الزنا، وكذب الرجل يُلزمه حدَّ القذف. 554 - والرفعُ والوصل وزَيْدُ اللَّفظِ ... مقبولةٌ عندَ إمامِ الحفظِ 555 - إن أمكن الذهولُ عنها عاده ... إلّا فلا قبولَ للزِّياده يعني أن الرفع إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مقدَّم على الوقف على الصحابي، والوصل مقدَّم على الإرسال، وإيضاحُه: أن الحديث لو رواه بعضُ الرواة مرفوعًا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورواه بعضُهم موقوفًا على الصحابي ولم يرفَعْه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكلا الإسنادين صحيح، فإنَّ الرفعَ مقدَّم على الوقف؛ لأن الرفعَ زيادة وزيادة العدل مقبولة. __________ (1) الأصل: الآخر. (2) أخرجه البخاري رقم (5311)، ومسلم رقم (1493) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-.

(1/354)


وكذلك لو روى الحديث بعضُهم متصلًا -أي لم تسقط طبقة من طبقات السند- ورواه بعضُهم مرسلًا، كأن يقول: عن فلان التابعي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ رواية الواصلِ الذي لم يَحْذف واحدًا من رجال السند مقدَّمة على من أرسلَه -أي حَذفَ بعض رجال السند- لأن الوصل زيادة على الإرسال، وزياداتُ العدول مقبولة (1). فمثال ما اخْتُلِف فيه بالرفع والوقف حديث: "الطوافُ بالبيت صلاة إلا أن اللَّه أحل فيه الكلام" (2)، فقد اخْتُلِف في رفعه ووقفه على ابن عباس. وحديث: "أفضلُ صلاة المرءِ في بيته إلا المكتوبة" (3) اخْتُلِف في __________ (1) هذه طريقة الفقهاء والأصوليين، أما طريقة المحدثين فتعتمد على القرائن في ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، ولا تلزم طريقة واحدة في الترجيح. (2) أخرجه الترمذي رقم (962)، والدارمي رقم (1889)، وابن حبان "الإحسان" رقم (3638)، والحاكم: (1/ 459)، والبيهقي في "الكبرى": (5/ 85) وغيرهم مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": (1/ 138 - 139): "صححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان، وقال الترمذي: روي مرفوعًا وموقوفًا ولا نعرفه إلا مرفوعًا من حديث عطاء ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس واختلف في رفعه ووقفه. ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي "شرح مسلم": (8/ 220) وزاد: إن رواية الرفع ضعيفة، وفي إطلاق ذلك نظر. . " اهـ. ومال إلى ترجيح المرفوع، ورجحه أيضًا ابن الملقن في "البدر المنير": (2/ 487 - 498). (3) أخرجه البخاري رقم (731)، ومسلم رقم (781) من حديث زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه-.

(1/355)


رفعه ووقفه (1)، ذكر هذين المثالين هكذا المؤلفُ في "الشرح" (2). ومثال ما اخْتُلِف فيه بالوصل والإرسال -ورواةُ الوصل أعلى درجة من رواة الإرسال- حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: سمعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "من أدركَ مالَه بعينه عندَ رجلٍ قد أفلس فهو أحقُّ به" رواه البخاري ومسلم عن أبي بكر بن عبد الرحمن متصلًا (3). ورواه أبو داود ومالك (4) عن أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلًا أي لم يذكر فيه أبو هريرة. ومثاله -ورواةُ الإرسالِ أعلى درجة- حديث: "لا نكاحَ إلَّا بِوَلي" (5) فإنه رواه إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق السبيعيّ، عن أبي بُرْدة، عن أبيه أبي (6) موسى الأشعري، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورواه شبعةُ وسفيانُ الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، وقد قضى البخاريُّ لمن وصله مع كون شبعة وسفيان كالجبلين في الحفظ والإتقان (7). __________ (1) قال الترمذي بعد أن أخرجه رقم (450): "حديث زيد بن ثابت حديث حسن، وقد اختلف الناس في رواية هذا الحديث فروى موسى بن عقبة وإبراهيم بن أبي النضر عن أبي النضر مرفوعًا، ورواه مالك بن أنس عن أبي النضر ولم يرفعه وأوقفه بعضهم والحديث المرفوع أصح" اهـ. (2) (2/ 36 - 37). (3) البخاري رقم (2402)، ومسلم رقم (1559). (4) مالك رقم (1979)، وأبو داود رقم (3520). (5) تقدم تخريجه. (6) الأصل وط: "عن أبيه عن أبي موسى" وهو خطأ. (7) نقله المؤلف من "النشر": (2/ 37).

(1/356)


وبما قرَّرْنا من أن الرفع والوصل زيادة وهي مقبولة من العدول يُعْلَم أنه يجري فيها التفصيل الآتي في زيادة اللفظ. وقوله: "وزيد اللفظ" يعني أنه إذا روي الحديث وكان في بعض طرقه زيادة لم تكن في الأخرى، سواءٌ كانت زيادةَ لفظ فقط أو زيادةً تُبيِّن إجمالًا أو زيادةَ معنى. مثالُ زيادة اللفظ فقط: رواية: "ربنا ولك الحمد" (1) بزيادة "الواو". ومثالُ الزيادة المُبيِّنة للإجمال: زيادة مسلم (2) من رواية سعد بن طارق -أبي مالكٍ الأشجعيِّ- لفظ "التُّرْبة" في حديث: "وجُعِلَت لي الأرض تُرْبتُها مسجدًا وطهورًا" عند من يوجب التراب كالشافعي وأحمد، وأما عند مالك وأبي حنيفة فلفظ "التربة" لا يفيد معنًى زائدًا على الصعيد لأمرين: الأول: هو ما تقدم من أن ذِكْر بعض أفراد العام لا يخصِّصه، الثاني: هو ما تقدم من أن مفهوم اللقب لا اعتبار به. ومثال زيادة المعنى: الحديث المتفق عليه (3): "قوموا إلى سيدكم" فإن الإمام أحمد أخرج فيه (4) بسندٍ حسن عن عائشة من طريق علقمة بن وقاص زيادة: "فأنزلوه" وهي تغير المعنى، لأنها تُصيِّر المعنى أن قيامهم __________ (1) أخرجه البخاري رقم (795) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (2) رقم (522). (3) البخاري رقم (3043)، ومسلم رقم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (4) "المسند": (42/ 26 رقم 25097) وانظر الكلام على إسناده هناك.

(1/357)


له لإنزاله عن الدابة لأنه جريح لا للإجْلال. وقوله: "إن أمكن الذهول عنها عادة" يعني أن محل قبول الزيادة ما إذا أمكن غفلة الذين لم يذكروها عنها، أما إذا لم تمكن عادة غفلتهم عنها لكثرتهم وأهميتها (1) لم تُقبل لقضاء العادة بكذبها. 556 - وقيلَ لا إنِ اتحادٌ قد عُلِمْ ... والوَفْقُ في غيرِ الذي مَرَّ رُسِمْ يعني أن بعض أهل الأصول منع قبول الزيادة مطلقًا أمكن الذهول عنها أم لا بشرط أن يُعلم اتحادُ المجلس، أي أنه لم يُحَدِّثْ به إلا مرَّةً واحدة، أما إذا عُلِم تعدُّد المجالس فهي مقبولة، ويُحمل على أنه حدَّث بالزيادة في بعض المجالس، وبدونها في غيره، وكذلك إذا لم يُعْلم اتحادهما ولا تعددها فإنها تُحْمل على التعدد، ولا تُرَدُّ رواية العدل للزيادة بمحتمل، والصحيحُ عند المحدثين أن الزيادة إن كانت مخالفة لما رواه العدل لم تقبل، وإن لم تكن مخالفة وكان الراوي عدلًا ضابطًا قبلت (2). 557 - وللتعارُض نُمِي المُغيِّرُ ... وحذفُ بعضٍ قد رآهُ الأكثرُ 558 - دونَ ارتباطٍ وهو في التأليفِ ... يسُوغُ بالوفْقِ بلا تَعْنيفِ يعني أن الزيادة إذا غيرت الإعراب كانت معارضة للرواية الخالية عن الزيادة فيُطْلَب الترجيحُ بينهما من خارج، كما لو جاءت رواية في __________ (1) الأصل: واهتمامها. (2) أئمة الحديث لا يحكمون على كل زيادة بحكم مطرد لا يحيدون عنه، بل كل زيادة لها حكم خاص بحسب القرائن التي تحتف بها.

(1/358)


قوله: "في أربعين شاة شاة" (1) بنصف شاة. وقيل: تُقبل ولو غيرت الإعراب، والأول مذهب الجمهور. وقوله: "وحذف بعض" إلخ، يعني أن حذف بعض الحديث جائز في رأي الأكثر بشرط ألا يكون المحذوف بينه وبين المذكور ارتباط، ككون المحذوف شرطًا أو غاية للمذكور أو استثناءً منه. مثال الحذف الجائز لعدم الارتباط: حديث البحر "هو الطهور ماؤه الحِلُّ ميتته" (2)، فيجوز أن نقتصر على كلٍّ من الجملتين دون غيرها. ومثال ما لم يجز فيه الحذف للارتباط: حديث أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- "نهى عن بيعِ الثمرةِ حتى تَزْهو" (3) فلا يجوز حذف "حتى تزهو" للارتباط بما قبله، وحديث: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الوَرِق بالوَرِق إلا وزنًا بوزن مِثْلًا __________ (1) تقدم تخريجه. (2) هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة أحسنها ما أخرجه أبو داود رقم (83)، والترمذي رقم (69)، والنسائي: (1/ 50)، وابن ماجه رقم (386)، وابن خزيمة رقم (111)، وابن حبان "الإحسان" رقم (1243)، والحاكم: (1/ 140) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال: سألت البخاري عنه فقال: هو حديث صحيح. وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر والبيهقي وابن منده وغيرهم. وتكلم فيه ابن عبد البر في "التمهيد": (16/ 218) من جهة إسناده، إلا أنه صححه لتلقي العلماء له بالقبول والعمل به. انظر "البدر المنير": (1/ 348 - 381) فقد أطال وأجاد. (3) أخرجه البخاري رقم (2195)، ومسلم رقم (1555) من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-.

(1/359)


بمثل سواء بسواء" (1) فلا يجوز حذف: "إلا وِزنًا بوزن" إلخ. ومفهوم قوله: "قد رآه الأكثر" أن بعضهم منع حذف البعض مطلقًا ولو لم يكن بينهم ارتباط لاحتمال أن يكون لذكر الكل فائدة تفوت بالتفريق. وقوله: "وهو في التأليف" إلخ، يعني أن حذف البعض من الحديث جائز في التأليف اتفاقًا، وهو عادة المؤلفين من السلف كمالك وأحمد والبخاري والنسائي وأبي داود وغيرهم، ورُوي عن أحمد أنه لا ينبغي، وقال ابن الصلاح (2): "لا يخلو عن كراهة". و"التعنيف" اللوم والتشديد. 559 - بغالبِ الظنِّ يدورُ المعتَبَرْ ... فاعتبرَ الإسلامَ كلُّ من غبَرْ "المعتبر" هنا مصدر ميميٌّ بمعنى الاعتبار، والباء في قوله: "بغالب" بمعنى على وهي متعلقة بـ "يدور"، وتقرير المعنى: الاعتبار لصدق الخبر يدور على غلبة ظنِّ صدقه، فكل ما يُخل بغلبة الظنِّ يَمْنع من القبول ككفر المُخْبر وفسقه. وقوله: "فاعتبر الإسلام" إلخ يعني أنه يتَسبَّبُ عن دوران الاعتبار على غلبة الظن اشتراط الإسلام في الراوي لعدم الثقة بخبر الكافر. واعلم أن الكافر الصريح أجمعَ العلماءُ على عدم قبول روايته، والكافر المتأوِّل كالمبتدع بما يكفِّره إذا كان متدينًا يُحْرِّمُ الكذب فهو كذلك أيضًا عند الجمهور، وهو الحق، وفي بعض الروايات عن أحمد قبوله. وقوله: __________ (1) أخرجه مسلم رقم (1584) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. وأصله في البخاري بدون قوله: "إلا وزنًا بوزن. . . ". (2) في "علوم الحديث": (ص/ 217).

(1/360)


"غَبَرْ" بمعنى مضى، ومادته من الأضداد تُستعمل في الباقي والماضي. 560 - وفاسقٌ وذو ابتداعٍ إن دَعَا ... أو مُطْلَقًا ردٌّ لكلٍّ سُمِعا يعني أنه يلزم على دوران الاعتبار على غلبة الظن أيضًا رَدٌّ رواية الفاسق والمبتدع، والمشهور عند المحدِّثين أن البدعِى المُتأوِّلَ إذا كان داعية لبدعته، أو كان يجيز الكذب لترويجها كالخطَّابية (1) فإنه لا تقبل روايته، وأما إذا كان غير داعية ولم يُجزِ الكذبَ لترويج بدعته فإنه تقبل روايته، وفي رجال "الصحيحين" جَماعة من أهل الأهواء والبدع لا يدعون لبدعتهم ولا يَسْتبيحون الكذب. وقيل: تُرد رواية البدعي مطلقًا، وإليه الإشارة بقول المؤلف: "أو مطلقًا" وهو مذهب مالك، وهذا في غير البدعة المكفِّرة كما تقدم. 561 - كذا الصَّبي وإن يكن تحملوا ... ثم أَدًا بنفي منعٍ قُبِلُوا يعني أن الصبيَّ لا تُقْبَل روايته ولو كان مميزًا صدوقًا، لعلمه بعدم مؤاخذته، فلا ثقة بخبره، وأحرى إذا كان غير مميز أو معروفًا بالكذب. وقوله: "وإن يكن تحملوا" إلخ يعني: أن الكافرَ -المفهوم من اشتراط الإسلام- والفاسق والمبتدعَ والصبيَّ إذا تحملوا حال اتِّصافهم بصفة المنع ثم كانوا وقت الأداء غير متصفين بما يمنع قبول روايتهم كما لو سمع الحديث من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو الشيخ وهو كافر أو فاسق أو مبتدع، أو __________ (1) إحدى فرق الرافضة. انظر: "الفَرْق بين الفِرَق": (ص/ 247). وفيهم قال الشافعي "تُقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم". انظر: "الكفاية": (1/ 367).

(1/361)


صبي، ثم أدَّاه في حالة الإسلام أو البلوغ أو زوال الفسق والابتداع فإنه يُقْبَل على مذهب الجمهور وهو الحق؛ لأن العبرة بوقت الأداء، وقد أجمعَ الصحابة على رواية صغار الصحابة الذين سمعوا من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في زمن صباهم وأدَّوا بعد البلوغ، كابن عباس والحسن والحسين والنعمان بن بشير وابن الزبير وأضرابهم، وقد قبلوا حديثَ جُبير بن مُطعم في صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بسورة الطور، وقد سمعه وهو كافر من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأدَّاه بعد الإسلام (1). و"الواو" في قوله: "قُبِلوا" نائب الفاعل وضميره عائد إلى الكافر والفاسق والمبتدع والصبي، والكلام على حذف مضاف، أي قُبلت روايتهم. وقوله: "إن يكن تحملوا" فيه حذف، أي وإن يكن التحمل مقترنًا بصفة المنع كالكفر والفسق مثلًا. وقوله: "ثم أَدًا بنفي منع" إلخ يعني ثم كان الأداء بعد ذلك مقترنًا بنفي المنع لوقوعه بعد زوال الكفر والفسق إلخ. 562 - من ليسَ ذا فِقهٍ أباه الجيلُ ... وعكسُه أثبته الدليل يعني أن الراوي إذا كان غير فقيه فإن الجيل يردون روايته، وأصلُ الجيل: الصنف من الناس، والمراد به عند المؤلف أهل مذهب مالك قائلين: إن رد رواية غير الفقيه هو المنقول عن مالك (2)؛ لأن غير الفقيه لا __________ (1) أخرجه البخاري رقم (4854)، ومسلم رقم (463). (2) هذا نصَّ عليه مالك كما في "ترتيب المدارك": (1/ 125)، لكن ليس المقصود بالفقيه معناه الاصطلاحي عند المتأخرين، بل المراد به الفاهم العارف المدرك لما يرويه، وقد نُقِل عنه ما يدلّ على ذلك. انظره مفصَّلًا في "أصول فقه مالك": (2/ 627 - 630 و 638 - 639) للشعلان.

(1/362)


يؤمن أن يَفهم الكلام على غير وجهه فيعبِّر عن المروي بحسب ما فهم فيقع الخلل في الرواية. وقوله: "وعكسه" أي عكس ما قالوا، وهو قبول رواية غير الفقيه "أثبته الدليل" أي الأحاديث المصرِّحة بقبوله كقوله: "رُبَّ حاملِ فقهٍ ليْس بفقيه" (1). وقوله: "يَحْمل هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدُولُه. . . " (2) الحديث ولم يشترط فيهم الفقه. 563 - وِمَنْ له في غيره تساهُلُ ... . . . . . . . . . . قوله: "من" مبتدأ خبره "يقبل" محذوف دل عليه ما بعده، يعني أن الراوي إذا كان يتساهل في غير الحديث مع تحرزه في الحديث وعدم __________ (1) أخرجه أحمد: (35/ 467 رقم 21590)، وأبو داود رقم (3660)، والترمذي رقم (2656)، وابن ماجه رقم (230)، وابن حبان "الإحسان" رقم (680)، وغيرهم كلهم من حديث زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه-. قال الترمذي: حديث حسن. وصححه ابن حبان. وله شاهد من حديث أنس أخرجه أحمد: (21/ 60 رقم 13350)، وابن ماجه رقم (236). (2) أخرجه ابن عدي في "الكامل": (1/ 147)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى": (10/ 209) عن إبراهيم العذري عن الثقة من أشياخه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأخرجه العقيلي: (4/ 256)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": (2/ 17)، وابن عدي: (1/ 146) عن إبراهيم العذري عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. والحديث له شواهد عن عدد من الصحابة، وكل طرق الحديث لا تخلو من مقال.

(1/363)


تساهله فيه يقبل؛ لأن المقصودَ ضبطُ الشريعة وأمْنُ الخلل فيها ولو تساهل في غيرها. وقيل: تردُّ رواية المتساهل مطلقًا، والتساهل كالتحمل حال النعاس أو نعاس الشيخ ونحو ذلك. . . . . . . . . . . ... ذو عجمةٍ أو جهلِ مَنْمًى يُقْبَلُ يعني أن عجميَّ اللِّسان ومن لا يحسن العربية تُقبل روايتهما لأن العدالة تمنعهما أن يرويا إلَّا كما سمعا، وكذلك يُقبل مجهول المَنْمى أي النسب إذ المدار على عدالته لا على معرفة نسبه. 564 - كخلْفِهِ لأكثر الرواةِ ... وخُلْفِه للمتواترات يعني أن خُلْف الراوي لأكثر الرواة لا يبطل روايته، وخُلْفه للمتواتر لا يُبطل روايته أيضًا، ولكن يُصار إلى الترجيح فيرجح الأكثر والمتواتر على الأقل والآحاد. 565 - وكثرةٍ وإن لُقِيٌّ يَنْدُرُ ... فيما به تَحْصِيلُه لا يُحْظَرُ يعني أنه يُقبل إكثار الرواية من الحديث وإن ندرت مخالطة الراوي للمحدِّثين إن كان يمكن تحصيل ذلك القدر الذي رواه من الحديث في ذلك الزمن الذي خالط فيه المحدثين، ومفهومه أنه إن لم يمكن تحصيله في ذلك الزمن لا يُقبل شيء مما رواد لظهور الكذب في بعض منه لم تُعْلَم عينُه فوجب طرحُ الجميع. هذا حُكم الإكثار من الحديث، وأما حكم الإقلال منه فالتحقيق أنه لا يقدح في روايته، وربما أنكر بعضُ المحدثين روايةَ المُقل من الحديث، لأن إقلاله يدل على عدم اهتمامه بالدين وذلك قادح فيه.

(1/364)


566 - عدْلُ الروايةِ الذي قد أوجَبوا ... هو الذي مِن هذا يُجْلَبُ 567 - والعدلُ من يجتنبُ الكبائرا ... ويتَّقي في الأغلبِ الصَّغائرا 568 - وما أُبيح وهو في العيانِ .... يقدحُ في مُروءةِ الإنسانِ هذا تعريف من المؤلف لعَدْلِ الرواية، لأن خبر الآحاد تُشترط فيه عدالة الرواة فاحتيج إلى تعريف العدل، وعرَّفه المؤلف باستجلابه بَيْتَي ابنِ عاصم في تعريفه عدل الشهادة؛ لأن عَدْل الشهادة هو عدلُ الرواية إلَّا في المسائلِ التي ذكرها في قوله: "وذو أنوثة" إلخ وذلك هو قوله: "من بعد هذا يُجْلب". وعرَّف العدل بأنه من يجتنب الكبائر مطلقًا والصغائر في الأغلب، ونادِرُها لا يقدح في العدالة لعُسْر التحرز منه، لكن بشرط أن تكون غير صغائر الخِسَّة، أما ارتكاب صغيرة الخِسَّة فهو قادح لدلالته على دناءة الهمة وسقوط المروءة، كسرقة لقمة وتطفيف حبة. ويشترط للعدالة سلامة المروءة من القوادح، فارتكاب ما يُخل بالمروءة يُخل بالعدالة، كالبول في الطريق والأكل في السوق لغير سوقيّ، ومخالطة الأنذال ونحو ذلك، وذلك هو مراده بقوله: "وما أُبيح" البيت. وحاصل تحقيق المقام في العدالة أنها لغةً: التوسط، واصطلاحًا: سلامةُ الدينِ من الفسق والمروءةِ من القوادح، والعقلِ من البَلَه والتغفيل. واختلف العلماءُ في حدِّ الكبيرة اختلافًا كثيرًا فقيل: هي ما تُوُعِّدَ فاعلُه بغضبٍ أو عذابٍ أو نحو ذلك، وقيل: ما يترتب عليه حَدٌّ، واختار بعضهم أن ضَابطها: أنها كل ذنب يدل على استخفاف مرتكبه بالدين،

(1/365)


وقال ابن عباس: هي إلى السبعمئة أقرب منها إلى السبع (1). 569 - وذو أُنُوثةٍ وعبْدٌ والعِدا ... وذو قرابةٍ خلافُ الشُّهدا يعني أن الإنسان المتصف بالعدالة تُقبل روايته ولو كان امرأةً أو عبدًا أو عدوًّا أو قريبًا، فرواية هؤلاء تُقبل دون شهادتهم، فالمرأة تُقبل روايتها في كل شيء ولا تُقْبل شهادتها إلَّا في الأموال وفيما لا يظهر للرجال، والعبد تُقبل روايته إن كان عدلًا ولا تقبل شهادته عند الأكثر، والعدوُّ لا تقبل شهادته على عدوه وتقبل روايته عليه إذا روى حديثًا يقتضي الحكم عليه، وكذلك القريب، وقبول رواية هؤلاء دون شهاداتهم هو مراده بقوله: "خلاف الشهدا" الذي هو خبر المبتدأ وهو "ذو قرابة" وما عُطِف عليه. 570 - ولا صغيرةَ مع الإصْرَارِ ... المُبْطِلِ الثقةِ بالأخبار يعني أن الإصرار على الصغيرة يُصَيِّرها كبيرة فيقدح في العدالة، والإصرارُ عرَّفه بعضهم بأنه المواظبة والمداومة، ومعناه لغةً: العزيمة والتصميم على التمادِي في الفعل، وقوله: "المبطل الثقة" يعني به أن المُصِرَّ على الصغائر لا تقبل روايته إذ لا ثقةَ بخبره، وسواء كانت الصغائر من جنس واحد أم لا، فالآتي بواحدة من كل نوع مُصِرٌّ. 571 - فدَعْ لمنْ جُهِلَ مطلقًا ومَنْ ... في عَيْنه يُجْهَلُ أو فيما بَطَنْ يعني أنه يترتب على اشتراط العدالة ترك شهادة المجهول، والمجهول ثلاثة أقسام: __________ (1) أخرجه ابن جرير في تفسيره: (6/ 651).

(1/366)


الأول: مجهول الظاهر والباطن وهو مراده بقوله: "فدع لمن جُهِل مطلقًا" أي اترك من جُهِلَ ظاهره وباطنه، فاللام زائدة لتقوية التعدية داخلة على المفعول، والكلامُ على حذف مضاف إذ المراد بتركه ترك روايته. الثاني: مجهول العين، وهو عند جمهور المحدثين من لم يرو عنه إلَّا واحد ولو كان معروف العين والنسب، والجلُّ على عدم قبول روايته إن كان غير صحابي، أما الصحابي فهو مقبول ولو لم يرو عنه إلَّا واحد، كالمسيّب بن حَزْن فإنه لم يرو عنه غير ابنه سعيدٍ أخرج الشيخان حديثه في وفاة أبي طالب (1). وكعَمْرو بن تغلب النَّمَري (2) أو العبدي أخرج البخاري (3) حديثه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أثنى عليه -أي عَمْرو المذكور- في إسلامه ولم يرو عنه إلَّا الحسن البصري، وأشار العراقيُّ إلى هذا في "ألفيته" (4) بقوله: ففي الصحيح أخرجا المسيبا ... وأخرج الجعفيُّ لابن تَغْلبا مع أنه قال قوم: إن عَمْرو بن تغلب روى عنه غير الحسن البصري وهو الحكم بن الأعرج كما ذكره ابن أبي حاتم (5) وابن عبد البر (6)، وهذا مراد المؤلف بقوله: "ومن في عينه يُجْهَلُ". __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1360)، ومسلم رقم (24). (2) الأصل: النميري، وهو خطأ. (3) رقم (923). (4) البيت رقم (857). (5) في "الجرح والتعديل": (6/ 222). (6) في "الاستيعاب": (3/ 1166 البجاوي).

(1/367)


الثالث: هو من ظهرت منه العدالة بحسب الظاهر مع جهل باطنه، والأكثر على عدم قبوله، وهو مراد المؤلف بقوله: "أو فيما بطن". وقوله: "جُهِل" "يُجهَل" بالبناء للمفعول. 572 - ومثبتُ العدالةِ اختبارُ ... كذاك تعديلٌ والانتشارُ يعني أن الأمور التي تثبت بها العدالة ثلاثة: الأول: الاختبار بالمعاملة والمخالطة التي تُطْلِعُ على خبايا النفوس وخفاياها. الثاني: التعديل بتزكية العدل له. الثالث: انتشار السماع المتواتر أو المستفيض بعدالته، وهو في الحقيقة نوع من التعديل. 573 - وفي قضا القاضي وأخذِ الراوي ... وعملِ العالِمِ أيضًا ثاوي 574 - وشرطُ كُلٍّ أن يُرَى مُلْتَزَما ... رَدًّا لِمَنْ لَيْس بعدلٍ عُلِما لما بين أن التعديل من مثبتات العدالة بيَّنَ هنا أن التعديل يكون بالالتزام ولو لم يُصرح بالتعديل، والتعديلُ الالتزامي ذكره في ثلاث مسائل: الأولى: قضاءُ القاضي بشهادة الشاهد أي حكمه بمقتضاها. الثانية: رواية الراوي الذي لا يروي إلَّا عن عدل عن شيخ. الثالثة: عمله بروايته. إلَّا أن كون قبول القاضي شهادته ورواية الراوي عنه وعمل العامل بمرويه تعديلًا ضمنيًّا له مشروطٌ بأن يكون كُلٌّ منهم لا يقبل غير العدل، بأن يُعْلَم ذلك منه بصريح أو بعادةٍ مُطَّردة كالشيخين في صحيحيهما، وقيل: إن لم يصرح بأنه يَشْتَرِط ذلك لم يكن تعديلًا له لجواز أن يَعْمل به احتياطًا أو يخالف عادته. وقوله: "ثاوي" يعني أن التعديل الضمني كائن

(1/368)


ثابت بقضاء القاضي إلخ. 575 - والجَرْحَ قدِّم باتفاقٍ أبدا ... إن كان من جَرحَ أعْلَى عَدَدَا 576 - وغيرُه كَهْوَ بغير مَيْنِ ... وقيل بالترجيح في القِسْمين يعني أنه إذا عدَّل الراوي جماعةٌ وجرَّحه آخرون فلذلك ثلاث حالات: الأولى: أن يكون المُجَرِّح أكثر عدَدًا. الثانية: أن يكون المعدِّل أكثر عددًا. الثالثة: أن يستويا. فإن كان المُجَرِّح أكثر عددًا قُدِّم بلا خلاف، وهو مراده بقوله: "والجرح قدم" البيت. وإن كان المعدِّل أكثر أو استويا قُدِّم المجرِّح أيضًا على الراجح؛ لأن المجرِّح اطلع على ما لم يطلع عليه المعدِّل وهو مراد المؤلف بقوله: "وغيره وهو". وقيل: يصار إلى الترجيح في هذين القسمين الداخلين تحت قوله: "وغيره وهو" وهما إذا كثر المعدِّل أو تساويا. والمَيْن: الكذب، ودخول الكاف على ضمير الرفع شاذ. 577 - كلاهما يُثْبِتُه المُنْفَرِدُ ... ومالكٌ عنه رُوِي التَّعَدُّد الضمير في قوله: "كلاهما" راجع إلى الجرح والتعديل، يعني أنه يثبت كل واحد منهما بعدل واحد، ورُوِي عن مالك اشتراط التعدد في الشاهد (1)، كما قال ابن عاصم في "التحفة": __________ (1) ذكر الأبياري في "شرح البرهان" أنه لم يعثر لمالك على نص في اشتراط التعدد بخصوص الرواية، وإن كان قياس مذهبه اشتراطها كما في الشهادة. انظر: "أصول فقه مالك": (2/ 658 - 659).

(1/369)


وشاهدٌ تعديله باثنيْن ... كذاك تجريح مبَرِّزَيْن ويُقاس عليه الراوي، وأشار إلى بقية الأقوال بقوله: 578 - وقال بالعددِ ذو دِرايه ... في جهةِ الشاهدِ لا الرِّوَايه يعني أن بعض أهل الدراية لم يقبل التزكية ولا التجريح من واحد في خصوص الشاهد، نظرًا إلى طلب التعدُّد في أصل الشهادة دون الرواية، فيقبل عدلًا واحدًا في تعديل الراوي وتجريحه، نظرًا إلى أن أصل الرواية لا يطلب فيه التعدد، وعزا بعضُهم هذا التفصيل للأكثر. 579 - شهادةٌ الاخبارُ عما خَصَّ إنْ ... فيه ترافُعٌ إلى القاضي زُكِنْ 580 - وغيرُه روايةٌ. . . . ... . . . . . . . . . . تعرَّض المؤلف هنا للفرق بين الشهادة والرواية ففرَّق بَيْنهما بأن (1) الشهادة هي الإخبار عن خاصٍّ من شأنه أن يُترافع فيه إلى حُكَّام الشريعة، كالإخبار عن زيد بأن عليه مئة لعَمْرو أو أنه طلَّق زوجته أو أعتق عَبْده ونحو ذلك. وقوله: "وغيره رواية" يعني أن الرواية هي الإخبار عن عام كخبر: "إنما الأعمال بالنيات" (2)، أو الإخبار عن خاصٍّ لا يمكن الترافع فيه كخبر "يخرب الكعبة ذو السُّوَيقتين من الحبَشة" (3). __________ (1) الأصل: لأن! (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه البخاري رقم (1591)، ومسلم رقم (2909) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/370)


واعتُرِض على التعريفين، أما تعريف الشهادة بما ذكر فقد اعترض عليه بأنه غيرُ مانع لشموله للدعوى والإقرار، لأن كلًّا منهما إخبار عن خاصٍّ يمكن الترافع فيه وليسا برواية. وأجيب بأن المراد تمييز الشهادة عن الرواية خاصة، والتمييز بينهما حاصل بما ذكر. واعْتُرِض تعريف الرواية أيضًا بأنه غير مانع لأن الإخبار عن عام تارة يكون شهادة كالبينة القائمة على وقف على عامة المسلمين. ولم أر من أجاب عنه بمقنع. وقوله: "زُكِن" بمعنى عُلِم. وقوله: "الإخبار" مبتدأ مؤخَّر نُقِلت حركة همزته إلى اللام وما بعده متعلق به، و"شهادة" خبر مقدم. . . . . . . . . . . والصَحْبُ ... تْعديلُهم كُلٌّ إليه يَصْبُو يعني أن أصحابَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كلَّهم عدولٌ فلا تضر جهالة الصحابي ولا يلزم البحث عن عدالته. وقوله: "يصبو" أي يميل يعني أن كل السلف يميلون إلى عدالة كل الصحابة لما جاء من تزكيتهم والثناء عليهم في الكتاب والسنة. 581 - واختارَ في الملازمينَ دون مَنْ ... رآه مرَّةً إمامٌ مؤتمنْ مراده بالإمام المؤتمن القرافي، يعني أن القرافيّ اختار أن ثبوت العدالة للصحابة إنما هو لخصوص الملازمين له -صلى اللَّه عليه وسلم- المهتدين بهداه، أما من رآه مرَّة ورجع إلى بلاده كمالك بن الحويرث، وضمامة بن ثعلبة،

(1/371)


وأمثالهم = فلا تستلزم تلك الصحبة عدالتهم (1)، والتحقيقُ الأول، وهو قول الجمهور. واعلم أن أصحَّ حدود الصحابي (2): أنه من اجتمع بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مسلمًا ومات على ذلك ولو تخلَّلت إسلامه ردةٌ كالأشعث بن قيس. 582 - إذا ادَّعى المعاصرُ العدلُ الشَّرَفْ ... بصحبةٍ يقبلُه جُلُّ السَّلَفْ يعني أن الإنسان إذا ادَّعَى صحبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لنفسه بأن قال: أنا اجتمعتُ بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فإنَّ قوله يقبل وتثبت به صحبته بشرطين: الأول: أن يكون عدلًا. الثاني: أن يكون وجوده في عصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- معلومًا، وأشار المؤلف إلى الشرطين المذكورين بقوله: "إذا ادَّعى المعاصِرُ العدلُ". وإنما قُبِل قولُه لأن عدالته تمنعه من الكذب. ومفهوم قوله: "جُلُّ السلف" أن من العلماء من لا يقبل قوله في ادِّعاء الصحبة لأنه يدعي الفضل والعدالة لنفسه بالصحبة كما أن الإنسان إذا قال: أنا عدل لم تُقْبل تزكيته لنفسه (3). 583 - ومرسلٌ قَوْلَةُ غيْرِ مَنْ صحِبْ ... قال إمامُ الأعْجمينَ والعربْ 584 - عند المحدثينَ قولُ التابعي ... أوِ الكبيرِ قال خيرُ شافِعِ تعرَّض المؤلفُ هنا لبيان المرسل فذكر أن المرسل في اصطلاح الفقهاء والأصوليين هو: أن يقول غيرُ الصحابي: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، __________ (1) انظر "شرح التنقيح": (ص/ 360). (2) انظر "الإصابة": (1/ 7). (3) نصر هذا القول الحافظ ابن القطان الفاسي في "بيان الوهم والإيهام": (5/ 68، 132، 337، 393).

(1/372)


سواء كان تابعيًّا صغيرًا أو كبيرًا أو غير تابعيٍّ مطلقًا، وعليه فالمرسل بالاصطلاح الأصولي يشمل المنقطع والمعضل في اصطلاح أهل الحديث، فكل من يحتج بالمرسل يحتج بالمنقطع والمعضل. وإلى تعريف المرسل عند الأصوليين أشار بالبيت الأول. وأما المرسل عند المحدثين فهو: أن يقول التابعي -صغيرًا كان أو كبيرًا عند بعض- أو التابعي الكبير خاصة: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. والمشهور عند المحدثين الأول، والتابعيُّ الكبير كعبيد اللَّه بن عدي بن الخِيَار، وقيس بن أبي حازم، والصغير كالزهري. 585 - وهو حجةٌ ولكنْ رُجِّحا ... عليه مُسْندٌ وعكْسٌ صُحِّحا اعلم أن في المرسل ثلاثة أقوال: الأول: أنه غير حجة، وهو مذهب الشافعي (1) وجمهور المحدثين، لأن الساقط مجهول والمجهول لا اعتبار بروايته، وهذا القول لم يتعرض له المؤلف، وإنما ذكر القولين الأخيرين. الأول منهما وهو الثاني من الأقوال الثلاثة التي ذكرنا: أنه حجة، ولكنّ المتصل يُقدَّم عليه عند التعارض. والآخر وهو الثالث: أنه حجة ويقدَّم على المتَّصل عند التعارض. وحجة القول بالاحتجاج بالمرسل: أن العدل لا يسقط الواسطة مع الجزم برفع الخبر إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلَّا لجزمه بثقة الواسطة التي لم تُذْكر وإلَّا __________ (1) انظر "الرسالة": (ص/ 461 - 465).

(1/373)


كان مدلِّسًا تدليسًا قادحًا في عدالته، والفَرْض أنه عدل. وحجة تقديم المتصل عليه واضحة لأرجحية الاتصال على الإرسال. وحجة تقديم المرسل على المتصل -عند القائل به- أنَّ من وصلَ السند أحالك على البحث عن عدالة الرواة، ومن حذفَ الواسطة مع الجزم بالرواية فقد تكفَّل لك بعدالة الواسطة، ومشهور مذهب مالك (1) وأبي حنيفة (2) وأصح الروايتين عن أحمد (3): أن المرسل حجة ولكن يُقَدَّم عليه المتِّصل عند التعارض. ومراده بالمسند في البيت المتصل. فإن قيل: تقدم أن مجهول العين لا يقبل في قوله: "ومن في عينه يجهل" وإذًا فما الفرق بين الواسطة الساقطة -إذا لم يحقق أنها صحابي- وبين مجهول العين المتقدم أنه لا يقبل؟ فالجواب أن المجهول الذي لا يقبل فيما تقدم يُعنى به أمران وكلاهما مغاير للواسطة الساقطة في المرسل: الأول: هو من روى عنه راوٍ واحدٌ ولو كان معروف العين والنسب إن (4) كان غير صحابي كما تقدم. والثاني: أن يكون في الإسناد مبهم كقوله: عن شيخ أو عن رجل ونحو ذلك، فإن هذا مجهول العين ولا يُقْبل، والفرقُ بين هذا وبين __________ (1) انظر "إحكام الفصول": (1/ 355) للقرافي. (2) انظر "الفصول في الأصول": (2/ 30) للجصاص. (3) انظر "العدة": (3/ 906 - 909) لأبي يعلى. (4) الأصل: وإن!

(1/374)


المرسل ظاهر، فإن الراوي إذا حَدَّث عن شيخ أو عن رجل لم يقتض ذلك أنه عَدْل عنده بخلاف ما لو حذف الواسطة وجزم بالرواية فإنه يدل على عدالة الواسطة المحذوفة عنده. والذين لا يحتجون بالمرسل لا يقبلونه (1) دون معرفة عين الراوي لاحتمال أنه لو بيَّنه لكان غيره يعلم فيه جرحًا، والمجرِّح مقدَّم على المعدِّل كما تقدم. 586 - والنقل للحديث بالمعنى مُنِعْ ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن نقل الحديث بالمعنى مَنَعه مالك فيما نقله عنه المازري (2) وذكر ابن الحاجب (3) عن مالك أنه كان يشدِّدُ النكير في إبدال التاء بالباء كعكسه من تاللَّه وباللَّه وهو محمول على المبالغة. ومَنْعُ نقله بالمعنى مرويٌّ عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، وحجَّة المنع قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَضَّرَ اللَّهُ امرأً سمعَ مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها" (4)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للبراء بن عازب لما أبدلَ لفظةَ النبي بالرسول فقال: وبرسولك الذي أرسلت، قال له -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قل وبنبيك الذي أرسلت" (5)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يقل أحدُكم خَبُثت نفسي وليقل لَقِسَتْ" (6). __________ (1) ط: يقبلون تعديله. (2) في كتابه "إيضاح المحصول من برهان الأصول": (ص/ 511 - 512) نقلًا عن ابن خويز منداد، ونقل عن القاضي عبد الوهاب: أنه مكروه، وخَرَّجه على كراهة التحريم. (3) "المختصر - مع الشرح": (1/ 732). (4) تقدم تخريجه. (5) أخرجه البخاري رقم (247)، ومسلم رقم (2710). (6) أخرجه البخاري رقم (6179)، ومسلم رقم (2250) من حديث عائشة، وأخرجه البخاري رقم (6180)، ومسلم رقم (2251) من حديث سهل -رضي اللَّه عنهم-.

(1/375)


مع أن مَعْنى لَقِست وخَبُثت واحد، وكان بعضُ علماء الحديث يمنع إبدال حدثنا بأخبرنا (1)، وهذا القول أحوط في حفظِ الحديث وبعدِه من تطرُّق الخلل. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومالكٌ عنه الجوازُ قد سُمِعْ 587 - لعارفٍ يفهَنم معناه جَزَم ... وغالبُ الظنِّ لدى البعضِ انحتمْ 588 - والاستواء في الخفاءِ والجَلا ... لدى المُجوِّزِين حتْمًا حصلا يعني أن مالكًا وأبا حنيفة والشافعي وأحمدَ وجمهورَ العلماء والمحدثين على جوز نقل الحديث بالمعنى بالشروط الآتية، لأن الحديث لم يُتعبد بلفظه والمقصود منه المعنى، فإذا حقَّق أو غلبَ على الظن حصول المعنى فلا حاجةَ إلى اللفظ، ولحديث عبد اللَّه بن سليمان بن أُكيمة (2) الليثي عند الطبراني (3) قال قلت: يا رسول اللَّه إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك يزيدُ حرفًا وينقصُ حرفا فقال: "إذا لم تُحِلوا حرامًا ولم تُحَرِّموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس" (4) وذُكِرَ ذلك للحسن فقال: __________ (1) انظر رسالة الطحاوي "الفرق بين حدثنا وأخبرنا". (2) الأصل: أكمة! والتصحيح من مصادر الترجة، انظر "الإصابة": (3/ 166)، وأبوه سليمان ويقال: سليم. (3) في "الكبير": (رقم 6491). (4) وأخرجه ابن قانع في "معجم الصحابة": (3/ 18)، والخطيب في "الكفاية" رقم (614)، والجورقاني في "الأباطيل" رقم (90). وابن الجوزي في "الموضوعات" -عزاه له الحافظ في "الإصابة": (3/ 166) ولم أجده في المطبوع-. قال الجوزقاني: "هذا حديث باطل وفي إسناده اضطراب" اهـ وانظر "فتح المغيث": (3/ 145).

(1/376)


لولا هذا ما حدثنا (1). فإن قيل: هذا الحديث صاحبه عاجز عن تأْديته بلفظه كما يدل عليه قوله: لا أستطيع أن أؤديه، وإذًا فلا يصلح دليلًا في القادر على أدائه بلفظه. فالجواب: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لاسيما وقد صرح -صلى اللَّه عليه وسلم- بما يدل على التَّعميم وهو صِيَغ الجمع في قوله: "تحلوا، وتحرموا، وأصبتم". وذَكَر المؤلِّف شروط جواز النقل بالمعنى -على القول به- فبين أن من شَرْطه أن يكون الناقل عارفًا بمدلولات الألفاظ فَطِنًا بمواقعها لا تتمشى عليه التغييرات التي تغير المعاني، وهذا هو مراده بقوله: "لعارف". الشرط الثاني: أن يكون الناقل بالمعنى فاهمًا للحديث متيقِّنًا أن معناه هو ما فهم، وقيل: تكفيه غلبةُ الظنِّ، وهذا هو مراده بقوله: "يفهم معناه جزم" إلخ. الثالث: استواء اللفظ الذي جاء به مع لفظ الحديث في الخفاء والظهور بأن لا يكون أخفى منه ولا أظهر، ومَنعْ كونه أخفى منه واضح، لأنه ينقلُ النص من الوضوح إلى الخفاء، ومَنعْ كونه أظهر منه خوف أن يعارض حديثًا آخر فيرجَّح عليه بالظهور، والظهور من المرجحات، فيؤدِّي إلى ترجيح الحديث بتصرف الراوي، وذلك لا يجوز لأنه يوهم أرْجَحِية غير الراجح. 589 - وبعضُهم مَنَع في القِصارِ ... دون التي تطُولُ لاضطرارِ __________ (1) انظر "تدريب الراوي": (1/ 534).

(1/377)


يعني أن بعضَ الأصوليين ومراده به القاضي عبد الوهاب من المالكية مَنَع النقل بالمعنى في الأحاديث القصار دون الطوال، لأنه قد يضطر إليه في الطوال دون القصار (1). 590 - وبالمُرادفِ يجوزُ قطعا ... وبعضُهم يحكُونَ فيه المَنْعا يعني أن بعضهم والمراد به الأبياري شيخ ابن الحاجب من المالكية جعل إبدال اللفظ بمرادفه لا خلاف في جوازه (2)، وقال بعضهم: يختلف فيه لأنه من جملة النقل بالمعنى. والفرق بين المرادف والنقل بالمعنى: أن المرادف لا يتغير فيه وضع الكلام، وإنما يبدل لفظ بمرادفه والتركيب هو التركيب، كما لو روى بعضُهم في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد: فأراقَ عليه دلوًا من ماء، وروى الثاني: فأراق عليه ذَنوبًا من ماء، فالتركيب هو الأول بعينه لأن (3) الدلو أبدلت بمرادفها وهو الذَّنوب. ويُستثنى من مسألة نقل اللفظ بالمعنى: ما كان متعبَّدًا بلفظه كتكبيرة الإحرام وتسليمة التحليل ونحو ذلك. واستثنى بعضهم منه أيضًا جوامع الكلم نحوُ: "إنما الأعمال بالنيات" (4) و"لا ضرر ولا ضرار" (5) __________ (1) نقله عنه المازري في "إيضاح المحصول": (ص/ 511). (2) انظر "النشر": (2/ 61). (3) ط: إلا أن. (4) تقدم. (5) تقدم تخريجه.

(1/378)


"والآن حَمِي الوطيس" (1) ونحو ذلك. 591 - وجوِّزَنْ وَفْقًا بلفظٍ عَجَمي ... ونحوِهِ الإبدالُ للمتَرْجِم يعني أن الأصوليين أجازوا اتفاقًا الترجمة عن الحديث بالفارسية، وهي مراده بقوله: "بلفظٍ عَجَمي" ونحوها من لغات العجم لضرورة التبليغ إذا كان الإبدال للإفتاء والتعليم لا للرواية. وقوله: "الإبدالَ" مفعول قوله: "جوِّزن" و"وَفْقًا" معناه: اتفاقًا، وقوله: "للمترجم" يتعلق بـ "جوِّزن". فإن قيل (2): ما الفرق بين مسألة نقل الحديث بالمعنى وبين مسألة تعاور الرديفين المتقدمة؟ فالجواب: أن مسألة الرديفين في أمر لغوي وهو أعم من أن يقع في كلامِ راوٍ للحديث أو غيره، فالمانع فيها يقول: اللغة تمنع ذلك مطلقًا ولا يتعرض للشرع هل يمنعه أو لا. ومسألة نقل الحديث بالمعنى في أمرٍ شرعيٍّ خاص بحديثه -صلى اللَّه عليه وسلم- والمانع فيه يمنعه احتياطًا منعَتْه اللغة أم لا. * * * __________ (1) أخرجه مسلم رقم (1775) من حديث العباس بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه-. (2) السؤال وجوابه في "النشر": (2/ 59).

(1/379)


كيفية رواية الصَّحابيِّ 592 - أرفعُها الصريحُ في السماعِ ... من الرسولِ المُجْتبى المُطاع 593 - منه سمعتُ منه ذا أو أخبرا ... شافَهني حدَّثَنيهِ صيَّرا يعني أن أرفع كيفيات رواية الصحابي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو ما كان صريحًا في السماع منه لعدم احتمال الواسطة التي يُتوقع منها الخلل، ومن الصريح بالسماع الصِّيَغ التي ذكرها المؤلف وهي: سمعت منه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، أو أخبرني به، أو شافهني، أو حدثنيه. وقوله: "سمعت" مفعول به لـ "صيَّر" على قصد الحكاية، وما بعده معطوف عليه. و"شافهني وحدثني" معطوفان بحذف العاطف، وهذه هي المرتبة الأولى، وأشار إلى المرتبة الثانية بقوله: 594 - فقال عن. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن المرتبة التي تلي ما هو صريح في السماع مرتبة "قال" أيْ إذا قال الصحابي: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنه ظاهر في سماعه منه -صلى اللَّه عليه وسلم- دون واسطة، وظاهر المؤلف أن "عن" كقول الصحابي: عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مرتبة "قال" لعدم عطفه (1) بفاء أو بثُم لظهوره في السماع منه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعليه كثير من المحدثين والأصوليين. وقيل: إن "عن" أنزل درجة من __________ (1) الأصل: عطف.

(1/380)


"قال" وعليه فهي مرتبة ثالثة، وإليه مال المؤلف في "الشرح" (1). . . . . . . . . . ثم نُهِي أو أُمِرا ... إن لم يكن خيرُ الورى قد ذُكِرا يعني أن المرتبة الثالثة بناءً على اتحاد مرتبة "قال وعن"، أو الرابعة بناءً على أن مرتبة "عن" بعد مرتبة "قال" هي: قول الصحابي: نُهِينا أو أُمرنا، أو نُهِي عن كذا أو أُمِر. وإنما كان هذا في حكمِ المرفوع لأن الظاهر أن الآمر أو الناهي هو -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما كان دون ما قبله لأن احتمال الواسطة الذي فيما قبله فيه هو أيضًا، ويزيد باحتمال أن يكون الناهي والآمر غيرَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الخلفاء الراشدين وغيرهم. ومفهوم قوله: "إن لم يكن خيرُ الورى قد ذُكِرا" أن الصحابي إذا قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كذا أو أَمَرَ = أنه لا يكون من هذه المرتبة. وقال المؤلف في "الشرح" (2): إنه لا تحتمل فيه الواسطة اتفاقًا إلَّا أنه يحتمل كون الطلب جازمًا أو غير جازم، وهل النهي أو الأمر للكل أو البعض؟ وهل هو دائم أو غير دائم؟ كما أن هذه الاحتمالات كلَّها عنده أيضًا في منطوق المؤلف، وجَعَل مسألة المؤلف هذه صاحب "جمع الجوامع" (3) مرتبةً رابعة، والصحيحُ عند المالكية والشافعية قبولهما معًا. قلت: إن مسألة قول الصحابي: أَمَرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو نهانا أظهر ما يقال فيها أن تكون في مرتبة "قال"، وما ادعاه المؤلف في "الشرح" __________ (1) (2/ 63). (2) (2/ 64). (3) (2/ 173 - مع حاشية البناني).

(1/381)


من الاتفاق على عدم احتمال الواسطة غيرُ صحيح، بل الواسطة محتملة في قول الصحابي أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كاحتمالها في قوله: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما ادعوه من الاحتمالات في الأمر هل للكل أو البعض أو دائم أو غير دائم يظهر ضعفه لأن الصحابي عدل عارفٌ فيبعد أن يروي إلَّا كما سمع. 595 - كذا من السنة يُرْوى والتحقْ ... كُنَّا بِه إذا بعهدِه التصَقْ يعني أن قول الصحابي: "من السنة"، يحتج به وهو في مرتبة ما قبله لظهوره في سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: لا يُحتج به لأن السنة قد تطلق على سنة الخلفاء الراشدين وغيرهم، وعلى ما قابل الفرض، وغير ذلك. ومثاله: قول علي -رضي اللَّه عنه-: من السنة ألَّا يقتل حر بعبد (1). وقوله: "والتحق كنا به" إلخ ظاهر المؤلف أن هذه المرتبة تساوي ما قبلها للعطف بالواو لكنه ذكر في "الشرح" (2) أنها بعدها، ومعنى كلامه أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، يكون له حكم الرفع، لأنه محمول على أنه اطلع عليه فقرَّرهم عليه كقول جابر: كنَّا نعْزِل والوَحْي ينزل (3). وقيل: ليس له حكم الرفع، لأن الحجة في عِلْم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- به وتقريره عليه، وهنا لم يثبت أنه سمعه، أما إذا قال الصحابي: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سَمِعه وأقر عليه كقول ابن عمر: كنا نقول أفضل الأمة بعد نبيها __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 409)، والبيهقي: (8/ 34). (2) (2/ 65). (3) أخرجه البخاري رقم (5208)، ومسلم رقم (1440).

(1/382)


أبو بكر وعمر، والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يسمعُ فلا ينكر (1). فهو مرفوعٌ بلا خلاف. وأما إذا قال الصحابيُّ: كنَّا نفعل ولم يذكر أن ذلك في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقيل: له حكمُ الرفع لظهوره في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: لا لاحْتِمال كونه بعد زمنه. ومثاله: قول عائشة -رضي اللَّه عنها-: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه (2). * * * __________ (1) أخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (13132). ووقع في الأصل: نبينا. (2) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 477)، والبيهقي في "الكبرى": (8/ 255)، وابن حزم في "المحلى": (11/ 352) وصححه.

(1/383)


كيفيّة رواية غيره عَن شيْخه قوله: "غيره" أي غير الصحابي، وهو التابعي فمن دونه: 596 - للعَرْضِ والسَّماع والإذنِ اسْتِوَا ... متى على النَّوال ذا الإذْنُ احتوى يعني أنه عند الإمام مالك تستوي كيفيات رواية الراوي عن غير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الثلاث وهي: السماع والعرض والإجازة، بشرط أن تشتمل الإجازة على المناولة. و"العرض" هو: القراءة على الشيخ، فيقول: نعم أو يسكت خلافًا لمن قال: إن سكت لا تجوز الرواية عنه. و"السماع" يعني به: السماع من لفظ الشيخ. و"الإذن" يعني به: الإجازة. و"النوال" يعني به: المناولة، بأن يناوله كتابًا ويقول له: أجزتُ لكَ أن تروي هذا عَنِّي، ومساواةُ الإجازة مع المناولة للعرض والسماع ذهب إليها مالك وخالفه جمهور العلماء. فإن سَمع الراوي وحدَه من الشيخ قال: حدثني أو أخبرني، وإن سمع مع غيره قال: حدثنا أو أخبرنا، فإن روى عنه بالعرض قال: أخبرنا قراءةً عليه، فإن كان القارئ غيره قال: أخْبَرَنا قراءةً عليه وأنا أسمع، فإن كان الرواية بالإجازة قال: أنبأنا، وهي تنصرف في الاصطلاح للإجازة، أو: أخبرنا إجازة. 597 - واعملْ بما عنِ الإجازةِ رُوي ... إن صحَّ سمعُه بظنٍّ قد قَوي يعني أن الإجازة تجوز الرواية بها والعمل إن غلب على ظن المُجاز

(1/384)


أن هذا الشيء المُجاز فيه هو سماع المُجيز بأن يثبت ذلك عنده بطريقٍ تفيدُ العلم أو غلبة الظن. وقال قوم من أهل الحديث: لا يجوز العمل ولا الرواية بالإجازة، قال شعبة: لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة في طلب العلم (1). 598 - لِشبْهِها الوقْفَ تجي لمن عُدِمْ ... وعدَمُ التفصيل فيه مُنْحَتِمْ يعني أنه تجوز الإجازة للمعدوم، نحو: أجزتُ لمن سيولد لفلان رواية هذا الكتاب عنِّي، لمشابهتها للوقف. وقوله: "وعدم التفصيل" يعني أن الإجازة للمعدوم تجوز مطلقًا من غير تفصيل خلافًا لمن قال: لا تجوز مطلقًا، ولِمَن فصَّل في ذلك قائلًا: إن كان المعدوم تَبَعًا لموجود جازت نحو: أجزت لك ولمن سيولد لك، وإن لم يكن المعدومُ تبعًا لموجود نحو: أجزتُ لمن سيولد لك، لم تَجُز. 599 - والكَتْبِ دونَ الإذنِ بالذي سُمع ... إن عُرِفَ الخَطُّ وإلا يمتنع قوله: "والكَتْبِ" بالخفض عطفًا على قوله: "الإجازة" يعني أنه يجوز العمل بالكتب دون الإذن بالرواية بأن يكتب راوٍ لغيره بأن هذا سماعه، ولم يقل له: أجزتُ لكَ روايته عَنِّي، فإنَّ العملَ به يجوز دون الرواية، ومحلّ جوازِهِ إذا كان يعرفُ الخطَّ الذي كتب به إليه الراوي، أو شَهِدَت عليه بينة، فإن لم يعرفه ولم تقم عليه بينة لم يَجُز العملُ به وذلك هو مراده بقوله: "إن عرف الخط وإلا يمتنع"، ومفهوم قوله: "دون الإذن" أنه لو أذن له مع الكتب لكان إجازة. __________ (1) أخرجه الخطيب في "الكفاية": (1020).

(1/385)


600 - والخُلْفُ في إعلامه المُجَرَّدِ ... واعْمِلَن منه صحيحَ السَّنَدِ يعني أنهم اختلفوا في إعلام الشيخ المجرَّد عن الإجازة، كما إذا قال لك الشيخ: هذا الحديث أو هذا الكتاب من سماعي عن فلان، مقتصرًا على ذلك هل تجوز الرواية [عنه] بهذا أم لا؟ والقول بالجواز ذهب إليه كثير من الأصوليين والفقهاء والمحدثين، وممن ذهب إليه من المالكية ابن حبيب وصححه عياض (1). والقول بالمنع قال به أيضًا جماعة من الأصوليين وكثير من المحدثين، وممن جزم به الغزالي (2). وحجة المنع القياس على الشاهد إذا ذكر شهادته في غير مجلس الحكم، فإنه لا يجوز تحمُّلها إلا بإذنه، وقالوا أيضًا: قد يحدِّث الإنسان بشيء ولا يُجَوِّز روايته عنه لكونه يعلم فيه خَلَلًا مانعًا من القبول. أما العمل بإعلامه المجرَّد فهو جائز إذا كان صحيح السند والمتن أو حسن السند والمتن، فالمدارُ على صحة المتن أو حُسنه صحَّ الإسناد أو حَسُن أم لا، والمتن والإسناد كل منهما يصح ويحسن دون الآخر، فالإسنادُ قد يكون صحيحًا مع أن المتن غيرُ صحيح لعلةٍ أو شذوذ، كما أن المتن يكون صحيحًا مع أن الإسناد غير صحيح كما في الصحيح لغيره، لأن كثرة الطرق وإن كانت ضعيفة قد يشدُّ بعضُها بعضًا فيصح المتن بمجموعها مع أن كل واحد منها بانفراده ضعيفٌ. لا تخاصم بواحدٍ أهلَ بيتٍ ... فضعيفان يغلبان قويًّا __________ (1) في "الإلماع": (ص / 107 - 108). (2) انظر "المستصفى": (1/ 165).

(1/386)


وقس على ذلك الحَسَن. 601 - والأخذُ عن وِجادةٍ مما انحْظَل ... وَفْقًا وجُلُّ الناس يمنَعُ العَمَلْ الوِجَادة -بكسر الواو- مصدر وَجَد وهو غير مسموع عن العرب وإنما هو موَلَّد يستعمله المؤلفون، ومرادُهم بالوجادة هو: ما وُجِد من حديث ونحوه مكتوبًا في صحيفة بخط شيخٍ معروفٍ من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة. يعني أن الرواية بالوجادة ممنوعة اتفاقًا والعملُ بها ممنوع عند الجُلِّ، هذا مراده، وكثير من محققي النُّظَّار على جواز العمل بها وعن الشافعي ونُظَّار أصحابه جواز الرواية بها، وقطع بعضُ محققي الشافعية بوجوب العمل بها عند حصول الثقة (1). 602 - وما به يُذْكَرُ لفظُ الخبرِ ... فذاك مسطورٌ بعلمِ الأثرِ يعني أن كيفيات أداء رواية الحديث مسطورة في مصطلح الحديث، ولذا تركها هنا عملًا بما قال في أول الكتاب: "منتبذًا عن مقصدي ما ذكرا" إلخ. * * * __________ (1) بنحوه في "علوم الحديث": (ص/ 180) لابن الصلاح.

(1/387)


كتابُ الإجماع الإجماع من الأدلة الشرعية، وهو يكون شرعيًّا كالإجماع على حِلّيَّةِ البيع والنكاح، وعقليًّا كإجماع من يُعتد بهم على حدوث العالم، ولغويًّا ككون الفاء للتعقيب، ودنيويًّا كتدبير الجيوش. والإجماع في اللغة: مصدر أجمع، وهو مشترك لغةً بين أمرين؛ أحدهما: العزم والتصميم، والثاني: الاتفاق، وهو المناسب للإجماع الذي هو أحد الأدلَّة، واصطلاحًا عرَّفه المؤلف بقوله: 603 - وهو الاتفاقُ من مجتهدي ... الأمةِ من بعدِ وفاةِ أحمدِ 604 - وأطلِقَنْ في العصر والمتَّفَقِ ... عليه. . . . . . . . . . . . يعني أن الإجماع في اصطلاح الأصوليين هو: اتفاق المجتهدين في أي عصر على أيِّ شيء، وذلك هو مراده بقوله: "وأطلِقَن في العصر والمتفَقِ عليه" بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنه ما دام حيًّا -صلاةُ اللَّه عليه وسلامه- فالعبرة بقوله وفعله وتقريره، ولا حجة في الإجماع في حياته -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفُهِم من قوله: "وأطلِقَن في العصر" أن الإجماعَ لا يختص بالصحابة والتابعين خلافًا لمن زعم ذلك، ومن قوله: "والمتفق عليه" أن الإجماع يكون شرعيًّا وغير شرعيٍّ. . . . . . . . . . . . . ... فالإِلْغا لمن عَمَّ انْتُقي يعني أنه يترتب على كون الإجماع اتفاقُ خصوصِ المجتهدين إلغاء العوام وعدم اعتبارهم في الإجماع إذْ لا علمَ عندهم حتى يُعتبر وِفاقُهم،

(1/388)


فمراده بقوله: "من عَمَّ" العوامُّ، وقوله: "انتقي" يعني اخْتِير. 605 - وقيل لا. . . . . . . .... . . . . . . . . . . . . يعني أن بعضهم قال: إنه يشترط في الإجماع موافقة العوام لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (1) وحينئذٍ فالحجة باتفاق جميع الأمة، والعوام من الأمة فلابد من وِفاقِهم. . . . . . . . . وقيل في الجليّ ... مثلُ الزِّنا والحجِّ لا الخفيِّ معناه أن بعضَ العلماء فصَّل في المسألة فقال: يشترط في الإجماع موافقة العوام في الجلي الواضح الذي لا يخفى على أحد، كوجوب الحج وحرمة الزنا، دون الخفي الذي لا يعلمه كل الناس، كالإجماع على أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب، وأن الأخ لا يحجب الجدَّ. واعلم أن الإجماعَ يُعتبر فيه في كل فن أهله، فيُعتبر في الشرع المجتهدون، وفي اللغة العلماء باللغة، وهكذا. __________ (1) هذا الحديث روي من طريق جماعة من الصحابة، قال الحافظ في "موافقة الخُبْر الخَبَر": (1/ 105): "هو حديث مشهور المتن، له أسانيد كثيرة من رواية جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة. . . ". منها: ما أخرجه الترمذي رقم (2167)، والحاكم (1/ 115 - 116)، وأبو نعيم في "الحلية": (3/ 37) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. قال الترمذي وأبو نعيم: حديث غريب من هذا الوجه. وضعفه الدارقطني، والنووي في "شرح مسلم": (13/ 67). وانظر "المعتبر": (ص/ 57 - 62)، و"موافقة الخُبْر الخَبَر": (1/ 105 - 107).

(1/389)


606 - وقيل لا في كلِّ ما التكليفُ ... بعلمِه قد عمَّمَ اللطيفُ يعني أن بعضَ العلماء قال: لا يُلْغَى العوامُّ في الإجماع فيما يعمُّ التكليف بعلمه كالطهارة والصلاة دون ما لا يعم التكليف بعلمه فإنهم يلغون فيه، كالبيع والإجارة، وينعقد الإجماع فيه دونهم. و"اللطيفُ" من أسمائه جلَّ وعلا. 607 - وذا للاحتجاجِ أو أن يُطلَقا ... عليه الاجماعُ وكلٌّ يُنْتَقى الإشارة في قوله: "ذا" راجعة إلى القول باعتبار العوام في الأبيات الماضية، يعني أنه اختلف فيما يشترط له وفاق العوام هل هو الاحتجاج بالإجماع، وعلى هذا القول إن لم يوافق العوام لم يكن إجماعُ من سواهم حجةً، وحجةُ هذا القول: أن الذي دلَّ الدليل على عصمته هو كل الأمة لحديث: "أمتي لا تجتمع على ضلالة" (1)، وآية: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء/ 115]. وعلى هذا القول فالخلاف حقيقي وهو صِدْق إطلاق إجماع الأمة، وعليه فتكون فائدة وفاق العوام أن يَصْدُقَ قولُك: أجمعت الأمةُ على كذا، وأهلُ هذا القول يقولون: حجة الإجماع تامة باتفاق المجتهدين، وعليه فالخلاف لفظي. وقوله: "وكل يُنتقى" يعني أن كل واحد من القولين اختاره بعض العلماء. وقوله: "يُطْلَقا"، و"يُنتقى" مبنيان للمفعول. 608 - وكلُّ مَنْ بِبِدْعةٍ يُكفَّرُ ... من أهل الأهواءِ فلا يُعْتَبرُ __________ (1) تقدم قريبًا.

(1/390)


يعني أن كل مبتدع ببدعة يكَفَّر مرتِكبُها كجهم بن صفوان فإنه لا يُعتبر في الإجماع، فلا تقدح مخالفته في انعقاد الإجماع إذِ العبرةُ بالمسلمين دون غيرهم، فالمراد بالأمة فيما مضى أمة الإجابة فقط لا أمة الدعوة (1). 609 - والكلُّ واجبٌ وقيل لا يضرّ ... الاثنانِ دونَ من عليهما كَثُرْ يعني أن جميع مجتهدي العصر يجب -لانعقاد الإجماع- اتفاقهم كلهم، فلو خالفَ واحدٌ لم ينعقد الإجماع، وهو مراده بقوله: "والكلُ واجب"، ومحققوا الأصوليين يعتبرون موافقةَ داود مطلقًا خلافًا لمن قال: لا يعتبر مطلقًا، ولمن قال: لا يعتبر في المسائل التي مبناها القياس دون غيرها (2). وقوله: "وقيل لا يَضُرّ" يعني أن بعض العلماء قال: لا يضر مخالفةَ الواحد أو الاثنين وإنما يضر ما زاد على ذلك، وممن قال بهذا القول ابن خويز منداد وابن جرير الطبري، ولذا ذكر ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام/ 121] أنَّ جوازَ أكل ذبيحة الناسي للتسمية مُجمع عليها مع أنه روى كراهةَ أكله عن الشعبي وابن سيرين (3)، والكراهةُ عند السلف كثيرًا ما تطلق على المنع، فخلاف الشعبيِّ وابنِ سيرين عنده لم يقدح في الإجماع. __________ (1) انظر "النشر": (2/ 78 - 79). (2) انظر ما سيأتي في كتاب الاجتهاد (ص/ 664). (3) "تفسير الطبري": (9/ 528 - 529) وليس فيه حكاية القول عن الشعبي، مع أن ابن كثير في "التفسير": (3/ 1355) نقل عن ابن جرير ما نقله المؤلف.

(1/391)


وحجةُ اعتبار الكل: أنَّ الحجة في قول الأمة كلها، وحجَّةُ عدم اعتبار مخالفة الواحد أو الاثنين إلغاء النادر واعتبار السَّواد الأعظم، وإنما جزم المؤلف بالأول، وحكى الثاني بقيلَ لأن السواد الأعظم إنما يفيد الظن والمطلوب في الإجماع إفادة القطع. 610 - واعتبرَنْ مع الصحابي مَنْ تَبِعْ ... إن كان موجودًا وإلا فامتنِعْ يعني أن [أهل] العصر المجمعين إذا كان فيهم صحابة وتابعون فإن التابعين يعتبرون مع الصحابة، فلا ينعقد إجماعُ الصحابة دونهم إن كان التابعون وقتَ انعقاد الإجماع موجودين متصفين بصفات الاعتبار؛ من بلوغ مرتبة الاجتهاد، دون إن كان التابعون وقت انعقاد الإجماع غير موجودين أو موجودين غير علماء، فإنهم لا يُعتبرون، وذلك هو مراده بقوله: "إن كان موجودًا وإلا فامتنع"، وقوله: "من تبع" يعني به التابعي وهو مفعول "اعتبرن". 611 - ثمَّ انقراضُ العَصْر والتواترُ ... لغوٌ على ما ينتحيْهِ الأكثرُ ذكر في هذا البيت مسألتين اختلف العلماء في اشتراطهما في الإجماع، ورجح عدم الاشتراط فيهما الأكثر. الأولى منهما: هل يُشترط في انعقاد الإجماع انقراض المُجْمعين بناءً على وجوب الكل، أو معظمهم بناء على عدم اعتبار مخالفة الواحد أو الاثنين؟ والمراد بالمجمعين خصوص المجتهدين على القول بإلغاء العوام، أو كل الأمة على القول بعدم إلغائهم. ويُروى اشتراط انقراض العصر في الإجماع عن الإمام أحمد وابن فورك وسُلَيْم الرازي من

(1/392)


الشافعية. وحجَّة هذا القول أنهم ما داموا أحياءً يحتمل رجوعهم. ورُدَّ من قبل الجمهور بأن الإجماع إذا انعقد لحظةً تمت به الحجة ولا يُقبل رجوعُ بعض المجمعين لأنه خَرْق للإجماع. والثانية: هل يُشترط في المُجْمعين أن يبلغ عددهم قدرًا يحصل به التواتر أو لا؟ فعلى اشتراط بلوغهم عدد التواتر لو لم يكن في الدنيا إلا مجتهدان أو ثلاثة أو أربعة لا يكون إجماعهم حجة، أما على المشهور من عدم اشتراط عدد (1) التواتر فإن إجماع المذكورين يكون حجة لدخوله في حدِّ الإجماع، أما لو لم يبق إلا مجتهد واحد فلا يكون قوله إجماعًا ولا يدخل في حد الإجماع لقول المؤلف: "وهو الاتفاق" إلخ، والواحد لا يطلق عليه الاتفاق. 612 - وهو حجةٌ ولكن يُحْظَلُ ... فيما به كالعلم دَوْرٌ يَحصُلُ يعني أن الإجماع حجة ولم يخالف في ذلك إلا من لا يُعتد به كالشيعة والنظَّام. وقوله: "ولكن يُحْظَل" يعني أنَّ الإجماعَ يمنع الاحتجاج به "فيما كالعلم" والقدرة والإرادة من صفات اللَّه تعالى، لأن الاحتجاج به على ذلك يلزمه الدور، وإيضاحه: أن الإجماع تتوقف حجيته على معرفةِ صحة الدليل الدال عليها من كتاب أو سنة، ومعرفةُ صحةِ الدليل المذكور تتوقف على معرفة علم اللَّه وقدرته إذ لا يمكن إرساله النبي إلا مع العلم __________ (1) الأصل: عدم.

(1/393)


مثلًا فلو احتججنا على علمه مثلًا بالإجماع لكانت معرفة علمه متوقفة على الإجماع الذي استدل عليها به، مع أن الإجماع متوقف على معرفة علم اللَّه كما تقدم فيتوقف كلٌّ من الأمرين على الآخر وهو مراده بالدور. هذا مراد المؤلف، وهو مذهب المتكلمين القائلين بأن العلم والإرادة والحياة والقدرة لا يمكن إثباتها بدليل نقلي زاعمين أن ثبوتها به يلزمه الدور المذكور. والتحقيقُ أنه لا يلزمه الدور، وأن صِدْق النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يتوقف الجزم به على النظر العقلي، بل كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يذكر العقائد والأحكام لجَهَلَة الأعراب الذين لا يعرفون النظر فيصدقونه في ذلك تصديقًا جازمًا لا تخالطهم فيه شكوك ولا أوهام، ومن ذلك الآية والأحاديث الدالة على أن الأمةَ لا تجتمع على ضلالة (1). وقوله: "فيما كالعلم" يشير به إلى أن ما لا يلزمه الدور المزعوم ككون اللَّه يراه المؤمنون يوم القيامة ونحو ذلك يثبت بالإجماع لأن ثبوته به لا يلزمه الدور. 613 - وما إلى الكوفةِ منه ينتمي ... والخلفاء الراشدينَ فاعْلَمِ يعني أن إجماعَ أهل الكوفة ليس بحجة على الصحيح، وكذلك إجماع أهل الكوفة والبصرة لأنهم بعض الأمة، خلافًا لمن زعم أن إجماع أهل الكوفة والبصرة معًا أو أهل الكوفة فقط حجة نظرًا لكثرة من سكنها من أهل العلم من الصحابة. __________ (1) تقدم تخريجه.

(1/394)


وقوله: "والخلفاء الراشدين" يعني أن إجماع الخلفاء الأربعة ليس بإجماع لأنهم بعض الأمة، وقيل: هو إجماع، وقيل: هو حجة لا إجماع، ويُرْوى عن أحمد (1) محتجًّا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. . " (2). وذكر ابن قاسم في "الآيات البينات" (3) أن إجماعهم لا يتصور علمه إلا في خلافةِ علي وهو ظاهر. وأجابَ المانعون عن الحديث بأنه محمول على اتباع السنة والكتاب لا على اتفاق من ذكر لأنه اتفاق بعض الأمة. وقوله: "وما إلى الكوفة" عطف على نائب فاعل "يُحْظل" أي يُحظل فيما كالعلم ويحظل إجماع أهل الكوفة إلخ. 614 - وأوجبَنْ حجيَّةً للمدني ... فيما على التوقيف أمرُهُ بُنَي 615 - وقيل مُطلقًا. . . . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن إجماع أهل المدينة حجة عند مالك فيما لا مجال للرأي فيه، وذلك هو مراده بقوله: "فيما على التوقيف أمره بُني" أي فيما بُني على توقيف من الشرع بحيث لا يتطرق إليه الاجتهاد، ونظير هذا قوله __________ (1) انظر "العدة": (4/ 1206 - 1207)، و"الواضح": (5/ 220). (2) أخرجه أحمد: (28/ 367 رقم 17142)، وأبو داود رقم (4607)، والترمذي رقم (2676)، وابن ماجه رقم (42)، وابن حبان "الإحسان" رقم (45)، والحاكم: (1/ 95 - 96)، وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان والحاكم والبزار وغيرهم. (3) (3/ 293).

(1/395)


المتقدم: "وما ينافي نَقْل طيبة مُنِع إذ ذاك قطعيٌّ". وقوله: "وقيل مطلقًا" يعني أن بعضَ المالكية قال: إن إجماع أهل المدينة حجة ولو كان فيما للاجتهاد فيه مجال. وجمهور العلماء لا يحتجون بإجماع أهل المدينة، وحجة الجمهور: أنهم بعض الأمة يجوز في حقهم الخطأ. وحجة مالك أن نقلَهم فيما لا مجال للرأي فيه يدلُّ على أن ذلك بتوقيف من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإذًا فهو نقل متواتر عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما تقدم في قوله: "إذ ذاك قطعيٌّ". وحجة من قال بأن إجماعهم (1) حجة مطلقًا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المدينة كالكير تنفي خَبثَها كما ينفي الكير خبث الحديد" (2)، قالوا: والخطأ خُبْثٌ فوجب نفيه عنهم. وهذا الاستدلال ضعيف لأن الحديث لا يدل على أن أهل المدينة لا يخطئون، وما ذكره القرافي (3) من أن منطوقَ هذا الحديث مقدَّم على مفهوم حديث: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (4) لا تنهض به حجة أيضًا؛ لأن حديث: "المدينة كالكير" لا دلالة فيه على أن قول أهلها حجة. __________ (1) الأصل: الإجماع. (2) أخرجه البخاري رقم (1871)، ومسلم رقم (1382) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (3) في "شرح التنقيح": (ص/ 1334). (4) تقدم تخريجه.

(1/396)


واعلم أن المراد بأهل المدينة: الصحابة والتابعون فقط، وإنما جعل مالك اتفاقهم حجة فيما لا مجال فيه للرأي لأنهم أعرف بالوحي وبالمراد منه لمسكنهم محل الوحي. . . . . . وما قدْ أجمعا ... عليه أهلُ البيتِ مما مُنِعا يعني أن إجماع أهل البيت ليس بحجة عند مالك والجمهور خلافًا للشيعة، محتجِّين بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب/ 33] الآية. قالوا: والخطأ رجس، فوجب نفيه عنهم. وأجيبَ بأن الخطأ ليس برجسٍ، والرجس قيل: العذاب، وقيل: الإثم، وقيل: كل مُستقذر. ومراده بأهل البيت: علي وفاطمة والحسن والحسين رضي اللَّه عنهم وأرضاهم، والشيعة يقولون بأن قول عليٍّ وحده حجة! 616 - وما عَرا مِنْه على السَّنِيّ ... من الأمارة أو القطعيّ قوله: "وما" في محل رفع معطوف على نائب فاعل "مُنعَ" على حدِّ قوله: قُلتُ إذ أَقبلتْ وزهرٌ تهادى ... كنعاج الملا تَعسَّفْنَ رملا (1) يعني أن الإجماع لا يُقبل إلَّا إذا كان مستندًا إلى دليل قطعي أو ظني، والأمارة -بفتح الهمزة- في عُرف الأُصُوليين: الدليل الظنّيُّ، أي ومُنِع من الإجماع ما عَرِي أي تجرَّدَ عن الأمارة أي الدليل الظني أو __________ (1) البيت لعمر بن أبي ربيعة نسبه له المبرد في "الكامل": (1/ 418) وانظر حاشيته.

(1/397)


القطعيّ. وقوله: "على السنّي" أي على المذهب الراجح. هذا مراد المؤلف، وحُجَّتُه أن حد الإجماع يقتضي هذا لأن قوله في الحد: "وهو الاتفاق من مجتهدي" يدلُّ على أنه لابد من الاجتهاد والفَحْص عن شيء هو مستند الإجماع، والجمهورُ على جواز كون مستند الإجماع ظنيًّا ولو قياسًا، فإنكار الظاهرية إمكان كون القياس مستند الإجماع غير صحيح. ومن الإجماع الذي مستندُه قياسٌ: الإجماعُ على تحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه، وإجماع الصحابة على إمامة أبي بكر قياسًا على إمامته في الصلاة. ومفهومُ قوله: "على السَّنيّ" أن من العلماء من قال: يصحُّ الإجماع من غير مستند بأن يُلْهَموا الاتفاق على الصواب. قلتُ: ما ذكر المؤلف في هذا البيت -تَبَعًا لغيره- من أن الإجماع يُرَدُّ إذا لم يستند إلى دليلٍ قطعيٍّ أو ظنيٍّ ظاهر عندي، لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صرَّح بأن أمته لا تجتمع على ضلالة فكيف يسوغ لأحدٍ ردُّ إجماعها زاعمًا أنه ليس له مستند قطعي أو ظني؟ وأيُّ مستند أقوى من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (1)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" (2) الحديث، فالحجَّة القاطعة في إجماعهم لا في مستندهم، والأَوْلى ما ذكره بعض الأصوليين من أن صورة الخلاف هي: هل يمكن __________ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه البخاري رقم (3640)، ومسلم رقم (1921) من حديث المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه-.

(1/398)


أن ينعقد الإجماع دون مستند من كتاب أو سنة بأن يُلْهَمُوا الصواب فيتفقوا عليه، أو لا يمكن انعقاده إلَّا بمستند من كتاب أو سنة؟ أما بعد فرض انعقاده فلا يمكن رَدُّه كما تقدم. 617 - وخرقُه فامنعْ لقولٍ زائدِ ... إِذْ لم يكن ذاك سِوى مُعَانِدِ 618 - وقيل إن خرَقَ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . قوله: "وخرقُه" بالرفع معطوف على نائب فاعل "مُنع" أيضًا أي ومُنِعَ خرق الإجماع أي مخالفته، فلا يجوز إحداث قول ثالث في مسألة اختلف فيها أهلُ عصرٍ على قولَين. قال بعض العلماء: إحداث القول الثالث مثلًا لابد أن يكون خارقًا للإجماع على كل حال؛ لأن كلَّ جماعة تنفي ما عدا قولها فحصل اتفاقهم على نفي غير القولين، وذلك هو مراد المؤلف بقوله: "إذ لم يكن ذاك سوى معاند". وقال بعضهم: لا يلزم من إحداث قول ثالث خرق الإجماع بل قد يكون خارقًا له وقد يكون غير خارق، فمثال الخارق: ما حكاه ابن حزم (1) من حَجْب الأخ للجد، فإن الصحابة اختلفوا في مسألة الأخوة والجد فمِنْ قائل يقول: الجدّ أبٌ يحجب الإخوة، ومن قائل: هم سواء لأنهم يُدْلون بذات واحدة وهي أبو الميت فقد اتفق الكل على أن الجدَّ غير محجوب، فالقول الزائد بحجبه خَرْقٌ للإجماع. __________ (1) في "المحلى": (9/ 282).

(1/399)


ومثال القول الذي لم يخرق: قول بعض العلماء بالردِّ بعيوب الزوجين كلها مع قول آخر أنه لا يرد بشيء منها، فإذا أحدث الثالث برد بعض منها دون بعض لم يكن خارقًا لأنه يوافق كلًّا من القولين في بعض، وقد يقول أهل القول الأول كذلك خالف كلًّا من القولين في بعض. . . . . . . . والتفصِيلُ ... إحْداثُه مَنَعَه الدليلُ يعني أن إحداث التفصيل بين مسألتين لم يفصل بينهما أهل عصر ممنوع لأنه خرق للإجماع، ومراده بالدليل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء/ 115] ونحوها، وعلى هذا القول فالتفصيل لابد أن يكون خارقًا، وقيل: قد يكون خارقًا وقد لا، وهو الحق، فإن خَرَق مُنِع وإلَّا فلا، ولزوم الخرق محقق في صورتين: الأولى: أن يُصرِّح أهل العصر بعدم الفرق بينهما. الثانية: أن تتحد علة حكمهما لاقتضاء اتحاد العلة عدم الفرق كتوريث العمة والخالة، فمن العلماء من لا يورثهما، ومنهم من يورثهما فلو فصَّل مفصل فورَّث العمة دون الخالة أو العكس كان خارقًا للإجماع على عدم الفرق بينهما، سواء قيل بتوريثهما أم لا؛ لاتحاد العلة فيهما وهي كونهما من ذوي الأرحام. ومثال ما لم يخرق فيه التفصيلُ الإجماعَ فلا يمنع: قولُ مالك والشافعي بوجوب الزكاة في مال الصبي دون الحُلِيِّ المباح مع أنه قيل بوجوبها فيهما، وقيل بعدمه فيهما. والفرق بين التفصيل وإحداث قول هو أن متعلق الأقوال في مسألة

(1/400)


إحداث القول واحد، ومتعلق التفصيل متعدد، وهذا هو المشهور (1)، خلافًا لمن زعم أنه لا فرق بينهما كولي الدين وابن الحاجب (2). 619 - ورِدَّةَ الأمَّةِ لا الجهلَ لِما ... عدمُ تكليفٍ به قدْ عُلِما "وردَّةَ" بالنصب أي ومنع الدليل أيضًا ردة الأمة كلها للأحاديث المتقدمة نحوُ: "لا تزال طائفة" الحديث، و"لا تجتمع أمتي" الحديث (3). وقوله: "لا الجهل لما (4) " إلخ يعني أنه لا يمتنع أن يجهل جميع الأمة شيئًا لم يُكَلَّفوا بعلمه كالتفضيل بين حذيفة وعمار. ومفهوم قوله: "لما عدمُ تكليفٍ" إلخ أن ما كلفت الأمة بعلمه يستحيل اتفاقها على جهله لما تقدم، ومن زعم جواز ردة الأمة كُلًّا قائلًا: إنها إذا ارتدت زال عنها اسم الأمة لأن المراد أمة الإجابة = فقوله ضعيف، كما يدل على ضعفه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض روايات الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر اللَّه" (5). 620 - ولا يُعارضُ له دليلُ ... ويُظْهَرُ الدليلُ والتأويلُ يعني أن الإجماع لا يعارضه دليل؛ لأن الإجماع قطعي والدليل المفروض معارضته إما أن يكون قطعيًّا أو ظنيًّا، فإن كان قطعيًّا استحالت __________ (1) انظر "النشر": (2/ 88 - 89). (2) انظر "المختصر - مع الشرح": (1/ 589 - 594). (3) تقدم تخريجهما. (4) الأصل: بما. (5) تقدم.

(1/401)


المعارضة إذ لا معارضةَ بين قطعيين، وإن كان ظنيًّا فلا معارضة إذ الظني لا يُقاوِم القطعيَّ. وقوله: "ويظهر الدليل والتأْويل" يشير به إلى أن الممنوع إنما هو خَرْق (1) الإجماعِ، أما الزيادة في حكمه بإظهار دليلٍ لم يطلع عليه المجمعون، أو استنباط علة للحكم المُجمع عليه لم يطلع عليها المجمعون، أو تأويل حكم يخالف ظاهرُه الإجماع ليكون بذلك التأويل موافقًا للإجماع، كل ذلك لا مانع منه لأنه ليس خرقًا للإجماع وإنما هو ذِكْر شيءٍ لم يتعرَّض له المجمعون. مثال إظهار الدليل والتأويل: أن المجتهدين المجمعين على منع وطء الأخت من الرضاع بملك اليمين لم يتعرضوا أصلًا للنصِّ الذي هو مستند الإجماع، ولم يتعرضوا لتأويل النصِّ المقتضي بظاهره مخالفة هذا الإجماع، فلِمَن بعدهم أن يُظهر دليلَ الإجماع بأن يقول: دليل هذا الإجماع قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء/ 23]. وله أيضًا أن يؤوِّل النصَّ المخالف بظاهره لهذا الإجماع وهو قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6] المقتضي للإباحة الشامل عمومه الأخت من الرضاع بأن يقول: هذا العموم مؤوَّل أي محمول على غير ما لم يخرجه دليل، أما ما أخرجه الدليل كالأخت من الرضاع وموطوءة الأب فليس بمراد، وقِسْ على ذلك. وهذا مفهوم من أن __________ (1) ط: طروّ.

(1/402)


الممنوع خرق الإجماع لأنه يقتضي أن ما لم يخرقه لم يُمْنَع إلَّا لدليل منفصل. وقوله: "يُظْهَرُ" بالبناء للمفعول. 621 - وَقَدِّمَنَّهُ على ما خالفا ... إن كان بالقطع يُرى متصفا 622 - وهو المشاهَدُ أو المنقولُ ... بعدَدِ التواترِ المقولُ يعني أن الإجماع القطعيّ يجب تقديمه على ما خالفه ولو نصًّا قاطعًا ككتاب أو سنة، لأنه يدل على النسخ بخلاف الإجماعات الظنية كالسكوتيّ والمنقول آحادًا، فالنصقُ من كتاب أو سنة مقدَّم عليهما. فحاصلُ البيتين أن الإجماعَ مقدَّم على غيره من الأدلة إن كان قطعيًّا خاصَّةً، وأن القطعيَّ يكون في صورتين: الأولى: أن تشاهده بأن لا يكون بينك وبينه واسطة، كما لو فُرِض أن جميع المجتهدين في عصر من الأعصار اجتمعوا وأنت حاضر وشاهدتهم اتفقوا كلهم على أمر. الثانية: هو الإجماع المَقُول أي النطقي خاصة دون السكوتي المنقول بعدد التواتر في جميع طبقات السند، فقوله: "المقول" يعني النطقيَّ وهو نعت للمنقول. 623 - وفي انقِسامِها لقسمين وكُلْ ... في قولِهِ مُخْطٍ تردُّدٌ نُقِلْ يعني أنهم اختلفوا هل يمكن اختلاف الأمة في مسألتين متشابهتين ويخطئ في كل واحدة من المسألتين بعضهم؟ قيل: يمنع هذا، وعليه الأكثر نظرًا إلى خطأ جميع الأمة في مجموع المسألتين، وقيل: لا يُمنع، نظرًا إلى كل مسألة على حِدَة، ولم يُخطى في مسألة على حدة إلَّا بعض الأمة.

(1/403)


وتحريرُ هذه المسألة أن لها ثلاث حالات: [حالة] تمتنع اتفاقًا، وهي اتفاق جميعهم على الخطأ في مسألة واحدة من وجه واحد. وحالة لا تمتنع اتفاقًا، وهي اختلافهم في مسألتين متباينتين ويخطئ في كل منهما بعض الأمة، كأنْ يخطئ نصفُ الأمة مثلًا في مسألة من مسائل الطهارة ويخطئ نصفها الآخر في مسألة من مسائل الجنايات. وحالة هي محل الخلاف، وهي مراد المؤلف بالبيت, ومثالها ما لو قال بعضهم: إن العبد يرث، والقاتل عمدًا لا يرث، وقال البعض الآخر: القاتل عمدًا يرث والعبد لا يرث. ومثار الخلاف: هل أخطأت الأمةُ كلُّها نظرًا إلى المجموع لأنه بالنظر إلى المجموع يكون جميعُ الأمة قال بإرث من لا يرث، وهو خطأ؟ أو لم تخطئ نظرًا إلى كل مسألة بمفردها لأنه لم يخطئ في مسألة بمفردها إلَّا البعض؟ وقوله: "تردُّدٌ" مبتدأ مؤخر خبره الجار والمجرور المتقدم الذي هو "في انقسامها". وقوله: "وَكُلْ" مبتدأ خبره "مُخْطٍ" وجملة: "وكل في قوله" إلخ حالية، والضمير في "انقسامها" لأُمة الإجابة، وجملة "نُقل" نعت للمبتدأ الذي هو "تردُّدُ". 624 - وجعلُ من سكتَ مثلَ من أقَرّ ... فيه خلافٌ بينهم قد اشتهَرْ 625 - فالاحتجاج بالسُّكوتيِّ نما ... تفريعَه عليه من تقدَّما 626 - وهو بفقدِ السُّخطِ والضدِّ حري ... معَ مُضيِّ مهلةٍ للنظرِ يعني أن العلماء اختلفوا في السكوت هل هو رضا وإقرار أم لا؟

(1/404)


ويجري على الخلاف في ذلك الاختلاف في الاحتجاج بالإجماع السكوتي، وهو أن يقول بعض المجتهدين حكمًا ويسكت جميع الباقي منهم ولم ينكروا عليه، فعلى أن السكوت رضًا وإقرار؛ فالسكوتيُّ إجماع لدلالة السكوت على موافقة الساكتين. وعلى أن السكوت ليس برضا ولا إقرار؛ فالسكوتيُّ ليس بإجماع وهو قول الشافعي (1)، واختيار الباقلاني ممت المالكية (2). قال الشافعيُّ: لا يصح أن يُنْسَب للساكت قول (3). والاختلاف في الإجماع السكوتي مُقيَّد بثلاثة شروط: الأول: هو ألَّا يقوم دليل على أن الساكتين أو بعضهم ساخطون لذلك الحكم غير راضين به، فإن قام على ذلك دليل فليس بإجماع اتفاقًا. الثاني: ألَّا يقوم دليل على أن الساكتين كلَّهم راضون بذلك الحكم موافقون عليه، فإن قام دليل على ذلك فهو إجماع اتفاقًا. وهذان الشرطان هما مراد المؤلف بقوله: "وهو بفقد السخط والضد حري" فالسُّخط -بضم السين- يعني به كراهية الساكتين للحكم الذي نطق به البعض، والألف واللام في قوله: "الضد" عِوَض عن المضاف إليه، أي ضِدِّ السخط وهو الرضا. وقوله: "حري" معناه حقيق وجدير، والضمير في قوله: "وهو" عائد إلى السكوت الذي فيه الخلاف المذكور. __________ (1) انظر "قواطع الأدلة": (3/ 273 - 274). (2) انظر "البرهان": (1/ 447). (3) قال الشافعي في "اختلاف الحديث - مع مختصر المزني": (ص/ 507): "ولا يُنْسَبُ إلى ساكت قول قائل ولا عمل عامل".

(1/405)


الثالث: هو أن تمضي بعد سماع السَّاكتين مهلة أي مدة تكفي عادةً لنظرهم في ذلك القول، أما قُبيل مُضِي تلك المدة فليس بإجماع قولًا واحدًا، وهذا مراد المؤلف بقوله: "مع مُضِيّ مهلة للنظر". وفي المسألة أقوال أخر. 627 - ولا يُكفَّر الذي قد اتبَعْ ... إنكارَ الاجماعِ وبئسَ ما ابتدَعْ يعني أن من أنكر حجية الإجماع لا يُحكم عليه بالتكفير لكن ذلك القول بدعة يحق لها أن تُذَم، ولذلك ذمها المؤلف بالفعل الدال على إنشاء الذم الذي هو "بئس"، وإنما لم يكفر منكر حجية الإجماع لأنه لم يُكَذِّب الأدلة الشرعية بل يدَّعي أنها لم يثبت منها ما يدل على حجيته، والذين أنكروا الإجماع الشيعةُ والخوارجُ والنظَّامُ. 628 - والكافرُ الجاحدُ ما قد أُجمِعا ... عليه مما علمُهُ قد وقَعا 629 - عن الضروري من الدّينيِّ ... . . . . . . . . . . . . يعني أن الذي يوجب الكفر هو إنكار ما عُلِم من الدين بالضرورة، ومعنى بالضرورة: أنه يعلمه كل أحد من غير قبول للتشكيك فيه بحال كوجوب الصلاة وحُرْمة الزنا. وقوله: "عن الضروريّ" سيأتي مفهومه. وقوله: "من الدينيّ" يُحترز به عن إنكار ما عُلِم بالضرورة من غير الدينيّ كإنكار وجود بغداد أو الكوفة، وإنما حُكِم بتكفير منكر ما عُلِم من إلدين بالضرورة لأنه مكذب لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: . . . . . . . . . . . . ... ومثلُهُ المشهور في القويِّ

(1/406)


630 - إن كان منصوصًا ... . . . . . . . . . . . . يعني أن المجمعَ عليه المشهورَ علمه بين الناس يَكْفُر جاحدُه أيضًا على القول القوي نظرًا إلى شهرته، وقيل: لا يكفر جاحده لاحتمال أن يخفى عليه، وقوَّاه بعضهم، ومثَّل له المحلِّيّ (1) بجواز البيع، وذكر المؤلف في "الشرح" (2) تبعًا لصاحب "الضياء اللامع" أن البيع من القسم الأول الضروري وهو الظاهر. . . . . . وفي الغيرِ اختَلَفْ ... إن قَدُمَ العهدُ بالاسلام السَّلَفْ مراده بالغير المشهور الغير المنصوص، يعني أن المشهور الغير المنصوص المُجْمع عليه اختُلِف في تكفير جاحده، والظاهر أن من أمثلته إباحة القراض فإنها مجمع عليها مشهورة، ولم تثبت بنص صحيح إذ لم يرد فيها مرفوعًا إلَّا حديث صهيب عند ابن ماجه (3)، وهو ضعيف لأن في إسناده نصرَ بن القاسم عن عبد الرحيم بن داود وهما مجهولان. ومحل هذا الخلاف في غير حديث العهد بالإسلام، أما حديث العهد به فلا يكفر بذلك اتفاقًا، لأنه معذور بحدوث إسلامه، فإنه قد __________ (1) في "شرحه على الجمع": (2/ 202). (2) (2/ 97)، و"الضياء اللامع": (2/ 289). (3) رقم (2289). ونص الحديث: "ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وأخلاط الشعير للبيت لا للبيع". قال البوصيري في "مصباح الزجاجة": (2/ 24 - 25): "هذا إسناد ضعيف صالح بن صهيب مجهول، وعبد الرحمن بن داود حديثه غير محفوظ قاله العقيلي، ونصر بن قاسم قال البخاري: حديثه موضوع. . . " اهـ.

(1/407)


يجهل المشهور عند المسلمين، أما الخفي فلا يكفر جاحده اتفاقًا، كالإجماع على أن الجماع قبل وقوف عرفة يفسد الحج به (1)، ولو كان منصوصًا كالإجماع على أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب، فإنه ثابت في "صحيح البخاري" (2) من طريق هُزيل من حديث عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا. وقوله: "السلف" فاعل "اختلف"، و"قَدُمَ" بضم الدال بمعنى تقادم. * * * __________ (1) ط: (بل). ولكل وجه. (2) رقم (6736).

(1/408)


كتابُ القِيَاس القياس في اللغة: التقدير، يقال: قاس الجرح بالميل إذا قدَّر عمقه، ومنه قول الشاعر يَصف طعنة. إذا قاسها الآسِيْ النِّطاسِيُّ أدبرَتْ ... غَثِيْثَتُها أَوْ زاد وهْيًا هُزُومُهَا (1) واصطلاحًا عرَّفه المؤلف بقوله: 631 - بحملِ معلومٍ على ما قد عُلِم ... للاستوا في عِلَّة الحُكْم وُسِم يعني أن القياس في الاصطلاح وُسِمَ، أي مُيّز وعُرِف بأنه: حَمْل معلوم على معلوم -أي إلحاقه به- في حكمه لمساواته له في علته بأن توجد العلة بتمامها في الفرع المحمول، كتحريم النبيذ إلحاقًا بالخمر للعلة الجامعة التي هي الإسكار، وإنما عبَّر المؤلفُ بالمعلوم في قوله: "بحمل معلوم" إلخ دون "الشيء" ليتناول التعريفُ المعدومَ لأن المعدوم قد يُقاس على المعدوم بعلة، والمعدوم ليس بشيء، وبهذا يندفع ما يقال: إذا كان الفرع المحمول معلومًا فلا حاجة إلى القياس، وإيضاحُه: أن المراد بالمعلوم ما يتعلق به العلم من موجود ومعدوم، وفي حدِّ المؤلف مناقشات وأجْوِبَةٌ إن شئت الوقوف عليها فانظرها في شروح __________ (1) البيت للبُعيث بن بشر، انظر "الجمهرة": (ص/ 838) لابن دريد وحاشيته، ط البعلبكي، ونسبه له الجاحظ في "الحيوان": (6/ 414). وروايته فيها بعض الاختلاف. وهو بلا نسبة في "تهذيب اللغة": (9/ 225) للأزهري.

(2/409)


"الجمع"، وانظر طرفًا منها في "نشر البنود" (1). 632 - وإن تُرِد شمولَه لما فَسَدْ ... فَزِدْ لدى الحامِل والزيدُ أسَدّ يعني أن الحدَّ المتقدمَ للقياس يشمل الصحيح فقط لانصراف المساواة المطلقة إلى المساواة في نفس الأمر دون المساواة في ظن المجتهد، وإن أردت الحدَّ الشامِلَ للفاسد مع الصحيح فزد على الحد المتقدم لفظتَيْ: (لدى الحامل) بأن تقول: هو حمل معلوم على معلوم لمساواته له في العلة عند الحامل، فيشمل إذًا المساواة في نفس الأمر والمساواة في ظن المجتهد، وبذلك يشمل الصحيح والفاسد معًا. وقوله: "أَسَدّ" أي أوفق للسَّدَاد وهو الصواب، وإنما ذكر المؤلف أن زيادة (لدى الحامل) أصوبُ لأن الحدَّ تعريف الماهية من حيثُ هي الشامل لصحيحها وفاسدها. 633 - والحامل المُطْلق والمقيَّدُ ... وهو قبلَ ما رواه الواحِدُ يعني أن الحامل الذي هو المستدلُّ بالقياس هو المجتهد المطلق أو المجتهد المقيد، إلَّا أن المطلق يقيس في جميع الشريعة، والمقيد يقيس في أصول مذهبه، والمقيد هو مجتهد المذهب، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب الاجتهاد (2). وقوله: "وهو قبلَ ما رواه الواحد" يعني أن القياس مقدمٌ عند مالك __________ (1) (2/ 98 - 100). (2) ص/ 645 وما بعدها).

(2/410)


على خبر الواحد، وقال القرافي في "التنقيح" (1): إن هذا مذهب مالك، ووجَّهَه بأن الخبر إنما ورد لتحصيل الحكم، والقياس متضَمِّن للحكَمة فيُقَدَّم على الخبر (2). قلت: التحقيق خلاف ما ذهب إليه المؤلف والقرافيُّ، والرواية الصحيحة عن مالك رواية المدنيين أن خبر الواحد مقدَّم على القياس. وقال القاضي عياض: مشهور مذهبه أن الخبر مقدَّم، قاله المقَّري وهو رواية المدنيين. اهـ. ومسائل مذهبه تدل على ذلك كمسألة المُصَرَّاة، ومسألة النضح، ومسألة غسل اليدين لمن أحدث في أثناء الوضوء. وما زَعمه بعضهم من أنه قدَّم القياسَ على النص في مسألة وُلوغ الكلب غير صحيح؛ لأنه لم يترك فيها الخبرَ للقياس، وإنما حمل الأمر على الندب للجمع بين الأدلة، لأن اللَّه تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة/ 4] ولم يأمر بغسل ما مسَّه لعاب الكلب، فدلَّ على أنه غير نجس، واعتضد ذلك بقاعدة هي: أن الحياة علة الطهارة (3). 634 - وقبلَه القطعيُّ من نصٍّ ومِنْ ... إجماعِهم عندَ جميعِ من فَطِنْ __________ (1) (ص/ 126). (2) ولهم تعليلات أخرى. (3) انظر كتاب "أصول فقه الإمام مالك": (2/ 799 - 840) للشعلان، فقد حقق فيه أن ما نقله ابن القاسم في "المدونة" يخالف ما حكاه عنه المالكية من تقديم القياس، وأن صنيعه في المسائل الفروعية يدل على تقديمه لخبر الواحد على القياس الاصطلاحي، أما القياس المراد به "القواعد والأصول" فقد جاء عنه تقديم الخبر حينًا وتقديم "القواعد والأصول" حينًا آخر بحسب القرائن.

(2/411)


يعني أن القياس الظنّي يقدَّم عليه القطعيّ من كتاب وسنة، والقياس القطعي لا تُمكن معارضته للنّصِّ القطعيّ إذ لا تعارض بين قطعيين، وسيأتي القطعي من القياس والظنيّ، وقوله: "فطن" مثلَّث الطاء، والأَوْلَى في البيت الكسر لمناسبته (1) للبيت قبله. 635 - وما رُويَ من ذَمِّهِ فقد عُني ... به الذي على الفساد قد بُني يعني أن ما روي عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- من ذم القياس والرأي، محمول على القياس الفاسد المخالف للنصوص ولا يريدون القياس الصحيح. وقوله: "رُوي" و"عُنِي" و"بُني" أفعال ماضية مبنية للمفعول. 636 - والحدُّ والكفَّارةُ التقديرُ ... جوازُه فيها هو المشهورُ يعني أن مشهور مذهب مالك -كما نقله القرافي عن الباجيّ وابن القصَّار- جواز دخول القياس في الحدود والكفارات والتقادير (2). مثاله في الحدود: قياس اللَّائط على الزاني بجامع إيلاج فرجٍ في فرج مُشْتَهى طبعًا محرم شرعًا. وقياس النبَّاش على السارق في القطع بجامع أخذ مال الغير من حرز مِثْلِه خِفْية. ومثال دخوله في الكفارات: اشتراط الإيمان في رقبة كفارة الظهار واليمين قياسًا على رقبة كفارة القتل خطأ. ومثاله في التقديرات: تقدير أقل الصداق بربع دينار قياسًا على __________ (1) ط: لمجانسته. (2) انظر "شرح التنقيح": (ص/ 415).

(2/412)


إباحة قطع اليد في السرقة بجامع أن كلًّا منهما فيه استباحة عضو (1). وحجة المانعين: أن هذه الأشياء لا يُدْرَك فيها المعنى، وأجيب بأنه يُدْرَك في بعضها فيجري فيه القياس. وقوله: "التقدير" إلخ معطوف بحذف العاطف. 637 - ورخصةٌ بعكسِها والسببُ ... وغيرُها للاتفاقِ يُنْسَبُ يعني أن الرخصة والسبب عكس المسائل المتقدمة فيمتنع فيها القياس على مشهور مذهب مالك. مثالُ منعه في الرخصة: منع قياس غير التمر على التمر في بيع العرِيَّة، وكالمسح على خفٍّ فوقَ خفٍّ قياسًا على المسح على الخف الواحد. ومثاله في السبب: قياس التسبمب إلى القتل بالإكراه على التسبب إليه بالشهادة. وحجة منعه في الرخص: أن الرخصة لا تتعدى محلَّها لأنها مخالفة للنص، وتعديتها محلها تؤدي إلى كثرة مخالفة الدليل. وأجاب القائلون بجواز القياس في الرخص بأن صاحب الشرع لم يخالف الدليل في الرخصة إلَّا لكون الرخصة أكثر مصلحة، فإذا وُجدَت تلك المصلحة في فرع ألحقناه بالأصل لتكثير (2) المصلحة. وحجة المنع في السبب: أن جواز القياس عليه يقتضي نفي سَبَبِيَّتِهِ، وإيضاحه: أن يتسبب أمر عن أمر مثلًا فيلحق بذلك الأمر آخرُ في كونه __________ (1) كل هذه الأمثلة ذكرها في "نشر البنود": (2/ 105). (2) ط: لتكثر.

(2/413)


سببًا لذلك الأمر أيضًا، فيؤل الأمر إلى أن السَّببَ أحدُ الأمرين، ويظهر بالقياس أن النصَّ على سَبَبِيَّته الأول أنه يصدق عليه اسم السبب لكونه فردًا من أفراده لوجود السبب الثاني بالقياس، فظهر أن القياس على السبب يلزمه أن يخرجه عن كونه سببًا مستقلًّا فامتنع لتضمُّن إثباته رفعه. ومثل هذا بعينه في الشرط والمانع، فالقياس فيهما ممنوع أيضًا لهذه العلة في مشهور مذهب مالك. فمثاله في الشرط: قياس استقصاء الأوصاف في بيع الغائب على الرؤية. ومثاله في المانع: قياس النسيان للماء في الرحل على المانع من استعماله حسًّا كالسبع واللص. وقوله: "وغيرها للاتفاق يُنسب" يعني أن غير المسائل المذكورة (1) يجوز فيه القياس باتفاق المالكية، وهو قول جمهور العلماء خلافًا للظاهرية. 638 - وإن نُمِي للعُرفِ ما كالطُّهْرِ ... أو المحيض فهو فيه يَجْري يعني أن القياس يجوز في الأمور العادية إذا كانت منضبطة لا تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والبقاع، كأكثر الحيض وأقله وأقل الطهر، فهذه يجوز القياس عليها لانضباطها، فيجوز قياس النفاس على الحيض في أن أقله قطرة عند المالكية أو يوم وليلة عند الشافعية، وإذا لم ينضبط لا يجوز القياس عليه، وهو مراد القرافي بقوله في "التنقيح" (2): __________ (1) قال في "النشر": (2/ 106 - 107): "ونعني بالغير الأمور الدنيوية والأحكام الشرعية". (2) (ص/ 133).

(2/414)


لا يدخل القياس فيما طريقه الخِلْقَةُ والعادةُ كالحيض، وبيَّنه في "شرح التنقيح" (1) بقوله: لا يمكن أن تقول: فلانة تحيض عشرة أيام وينقطع دمها فوجب أن تكون الأخرى كذلك قياسًا عليها، لأن هذه الأمور تتبع الطباع والأمزجة والعوائد في الأقاليم. * * * __________ (1) (ص/ 416).

(2/415)


أركانه 639 - الأصل حكمُهُ وما قد شُبِّها ... وعلةٌ رابعُها فانتَبِها أركان الشيء أجزاؤه الداخلة فيه التي تتركب منها حقيقته، وأركان القياس أربعة، أشار لها بقوله: "الأصل. . . " البيت، يعني أن أركانه الأربعة هي: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم. وسيأتي الكلام على كلها، وبدأ بالكلام على الأصل فقال: 640 - والحكمُ أو محلُّه أو ما يدلْ ... تأصيلُ كلِّ واحدٍ مما نُقِلْ يعني أن الأصل اخْتُلِف فيه على ثلاثة أقوال، قيل: إنه الحكم، وقيل: محل الحكم، وقيل: دليل الحكم. فالحكم -مثلًا- التحريم في الخمر، ومحله الخمر لأنها الشيء المحكوم بتحريمه، ودليله آية: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة/ 90]. إذا عرفتَ ذلك فالتحقيق أن الأصل هو محل الحكم وهو الخمر -مثلًا- والفرع النبيذ -مثلًا-، والعلة الإسكار، والحكم التحريم، والدليل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} الآية. 641 - وقِسْ عليه دون شرطِ نصِّ ... يجيزُة بالنَّوعِ أو بالشَّخْص يعني أن القياس على الأصل الذي يُقاس عليه يجوز ولا يشترط فيه وجودُ نصٍّ أي دليل على جواز القياس على ذلك الأصل [لا] باعتبار شخصه ولا باعتبار نوعه، فإذا أراد مثلًا أن يقيس على أصل من مسائل البيوع (1) فلا يشترط وجود دليل على جواز القياس في تلك المسألة بعينها، ولا __________ (1) الأصل: كالبيوع!

(2/416)


وجود دليل على جواز القياس في نوع البيع. والمخالف في هذه المسألة هو عثمان البتيُّ القائل: يشترط أحد الأمرين. ومثاله باعتبار الشخص: قياس: "أنتِ حرام" على "أنتِ طالق" فإنه قد ثبتَ عن مالك ومن وافقه (1). فيصح قياس "أنتِ خليَّةٌ، أو بريَّةٌ" على "أنت طالق" في لزوم الطلاق. 642 - وعلّةٌ وجودُها الوفاقُ ... عليه يأبى شَرْطَهُ الحُذَّاقُ يعني أنه لا يشترط عند الحذاق أي المحققين من أهل الأصول الإجماع على وجود العلة في الأصل، فيصح القياس عندهم على أصلٍ اختلف في وجود علته أصلًا أو وجودها فيه، والمخالف في هذا بشر المريسي القائل: لابد من الإجماع على أن حكم الأصل معلل، وعلى أن العلة موجودة فيه، ويقوم مقام ذلك النصّ على عَيْن العلة في الأصل. 643 - وحكمُ الأصل قد يكون مُلْحقا ... لِما مِنَ اعْتِبارِ الأدنى حُقِّقا هذا شروع من المؤلف -رحمه اللَّه- في الكلام على الركن الثاني من أركان القياس وهو حكم الأصل، يعني أنه يجوز كون الأصل المقيس عليلا فرعًا مقيسًا على أصل آخر، كما قال ابن رشد في "المقدمات" (2) إنه مذهب مالك وأصحابه. فإن قيل: لِمَ لا يمنع القياس على الفرع المقيس اكتفاء عنه بالقياس على الأصل الذي قيس هو عليه كما ذهب إليه الشافعية وغيرهم؟ __________ (1) انظر: "تهذيب المدونة": (2/ 305). (2) (1/ 38 - 39).

(2/417)


فالجواب: أن الفرع الأول الذي هو الأصل الثاني أقرب إلى الفرع الثاني من الأصل الأول، وهذا هو مراد المؤلف بقوله: "لِما من اعتبار الأدنى حُقِّقا". ومثاله: قياس الغسل من الجنابة على الصلاة في وجوب النية بجامع أن كلًّا قربة، فإذا تقرَّرَ وجوبُ النية في الغسل بهذا القياس كان لنا أن نقيس الوضوء على الغسل في وجوب النية لأن الغسل أقرب إلى الوضوء من الأصل (1) الذي هو الصلاة. 644 - مُسْتلحق الشرع هو الشرعيُّ ... وغيرُه لغيره مَرْعِيُّ يعني أن الفرع المقيس إذا كان شرعيًّا لابد أن يكون مُسْتَلْحِقه -بكسر الحاء- أي أصله الملحق به شرعيًّا أيضًا، فلا يمكن أن يُلحق فرع شرعي إلا بأصل شرعي، وهذا مراده بقوله: "مستلحِق الشرع هو الشرعيُّ". وأما إذا كان القياس في حكم لغوي على الخلاف المتقدم (2)، أو عقلي بناءً على جواز القياس في العقليات، فلابد أن يكون الأصل في اللغوي لغويًّا وفي العقلي عقليًّا، وهذا معنى قوله: "وغيره لغيره مرعيُّ". ومثاله في اللغويّ قد تقدم، ومثاله في العقْلِيّ عند القائل به: الحكم بحدوث جميع أنواع العالَم إلحاقًا لما لم يشاهَدْ حدوثه بما شوهد حُدوثه بجامع افتقار الكل إلى الفاعل المختار. 645 - وما بقطْعٍ فيه قد تَعبَّدا ... ربّي فملحقٌ كذاك عُهِدَا __________ (1) ط: الأصل الأول. (2) في مباحث الألفاظ، البيت (170).

(2/418)


يعني أن ما كان الناس متعبَّدِين فيه بالقطع أي مكلفين فيه بالعلم اليقينيّ كالعقائد لا يُقاس عليه إلا ما يُطْلَب فيه القطع بأن يتيقنَ حكمُ الأصل ويتيقن وجودُ العلة فيه ويتيقنَ وجودها في الفرع. وحاصلُ مراد المؤلف أن ما يُطلب فيه اليقين يجوز فيه القياس اليقينيُّ خاصة دون الظنِّيّ، وخالف في ذلك الغزاليُّ (1) قائلًا: إن ما تُعبّد فيه بالعلم اليقينيّ لا يجوز إثباته بالقياس كإثبات حجية خبر الواحد بالقياس على قبول شهادة الشاهدين، ووَجْهُه عنده أن القياس التمثيليَّ الذي هو قياس الأصول لا يفيد إلا الظن عند الجمهور، كما قال الأخضري (2): ولا يفيد القطعَ بالدّليل ... قياسُ الاستقراء والتمثيل وما لا يفيد إلا الظن لا يمكن أن يثبتَ به ما يُطلب فيه اليقين، ولكن ما درجَ عليه المؤلف مشروط بحصول اليقين بالقياس وذلك هو مراده بقوله: "فملحق كذاك" أي فالفرع الملحق بالقياس لابد أن يكون إلحاقه كذاك أي يقينيًا أيضًا. 646 - وليس حكمُ الأصلِ بالأساس ... متى يَحِدْ عن سَنَنِ القياس 647 - لكونه معناه ليس يُعقلُ ... أو التعديّ فيه ليس يحصُلُ يعني أنه يشترط في حكم الأصل أن لا يعدل عن سَنَنِ القياس، فإن عَدَل عن سَنَن القياس لم يَجُز القياسُ عليه، وسَنَن القياس -بفتح السِّين- __________ (1) "المستصفى": (2/ 331). (2) في "السلم - مع الإيضاح": (ص/ 17).

(2/419)


بمعنى طريقه ومنهاجه، ومراد المؤلف بسنن القياس أمران: الأول: أن يكون معقول المعنى أي معروف العلة. الثاني: أن تكون علته متعدية إلى غيره كتحريم الخمر فإن علته معلومة وهي الإسكار، متعدية (1) إلى غير الخمر كالنبيذ. إذا عرفتَ هذا فالحائد عن سَنَن القياس أمران: الأول: أن يكون غير معقول المعنى أي غير معروف العلة كأعداد الركعات، ومقادير النصب والكفارات، ونحوِ ذلك. الثاني: أن يكون معروف العلة ولكن علته لم تتعدَّ إلى غيره كحمل العاقلة دية الخطأ، وكمسألة اللّعان، والشُّفْعة في العقار على قول الجمهور، وكشهادة خزيمة إذ التحقيق أنها من هذا القبيل، وسيأتي إيضاح هذا في قول المؤلف: "وعللوا بما خلت من تعديه" إلخ. والأمران المذكوران سابقًا هما مراد المؤلف بقوله: "لكونه معناه ليس يُعقل" إلخ. 648 - وحيثُما يندَرِجُ الحُكْمانِ ... في النصِّ فالأمران قُل سِيّان الاندارج في اللغة الدخول، ومراده بالبيت: أن من شروط (2) القياس أن لا يكون الفرع داخلًا في نص حكم الأصل من كتاب أو سنة سواء كان نصًّا أو ظاهرًا، لأن النصَّ إن شملهما معًا فليس أحدهما أولى بالأصالة من الآخر حتى يكون [هو] أصلًا والآخر فرعًا. ومَثَّل له بعضهم __________ (1) ط: ومتعدية. (2) ط: شرط.

(2/420)


بما لو استدل مستدل على ربوية البر بحديث مسلم (1): "الطعام بالطعام مِثْلًا بمِثْل" فيمتنع قياس الذرة عليه بجامع الطَّعم، لأن لفظ الطعام الذي هو لفظ النص يشمل الذرة مع البر. 649 - والوَفْقُ في الحُكم لدى الخصْمَينِ ... شرطُ جوازِ القَيْس دونَ مَيْنِ "الوفق" الاتفاق، و"القيس" القياس، يعني أنه يشترط في حكم الأصل أن يكون متفقًا عليه بين الخصمين لأن البحث بينهما، ولو خالف الخصم في الحكم احتاج المستدل إلى إثباته فينتقل إلى مسألة أخرى وينتشر الكلام فيفوت المقصود. أما إذا حصل الاتفاق بينهما على حكم الأصل تحقق انتفاء الانتشار، فلو ذكر المستدل الحكم مقترنًا بدليله من نص أو إجماعٍ ابتداء لم يشترط موافقة الخصم لأن منع الحكم المؤدي إلى الانتشار لا يمكن مع دلالة النص الصريح عليه. وما مشى عليه المؤلف من اشتراط اتفاق الخصمين فقط هو مذهب الجمهور، خلافًا لمن زعم أنه لابد من إجماع الأمة على الحكم (2). 650 - وإن يكن لعلتينِ اختلفا ... تركَّبَ الأصل لدى من سَلَفا الضمير المرفوع المحذوف (3) الذي هو اسم "يكن" عائد إلى اتفاق الخصمين على حكم الأصل، يعني أنه إذا كان اتفاقهما عليه ثابتًا لعلتين مختلفتين بأن اتفقا على الحكم وادّعَى كلٌّ أنه ثابت بعلة غير العلة التي __________ (1) رقم (1592) من حديث معمر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. (2) المخالف هو بشر المريسي والشريف المرتضى، انظر "البحر المحيط": (5/ 77). (3) كذا في الأصل و (ط)، ولعله: المستتر.

(2/421)


يدعي الآخر، فإنَّ هذا النوع من القياس يسمَّى مركب الأصل لتركيب الحكم فيه أي بنائه على العلتين بالنظر إلى الخصمين فهو من التركيب بمعنى البناء، أي ترتيب ما شيء على آخر لا من التركيب الذي هو ضدُّ الإفراد. ومن أمثلته: قياس حُليّ البالغة على حُلِيّ الصبية فإن حُكم الأصل متفق عليه بين المالكية والحنفية إلا أن الحنفية يقولون: إن العلة أنه مال لغير بالغةٍ فلا يمكن قياس حلي الكبيرة عليه لبلوغها، والمالكية يقولون: العلة كونه حُليًّا مباحًا وهي موجودة في حُلِيّ الكبيرة. وقوله: "اختلفا" يعني العلتين، وإنما ذكَّر الضميرَ بتضمين العلة معنى الوصف. 651 - مركبُ الوصفِ إذا الخصمُ منعْ ... وُجودَ ذا الوصفِ في الأصلِ المُتَّبعْ يعني أن القياس المسمَّى "مركب الوصف" هو الذي كان حكم الأصلِ فيه متفقًا عليه بين الخصمين، إلا أن العلة التي يدَّعي المستدل أنه ثابت بها يدَّعي الخصم نفيها من أصلها عن الأصل، وسُمِّيَ "مركب الوصف" لتركيب الحكم فيه أي بنائه على الوصف الذي مَنع الخصمُ وجودَه في الأصل، ولا مشاحَّة في الاصطلاح. ومثال مركب الوصف: قياس "إن تزوجْتُ فلانة فهي طالق" على "فلانة التي أتزوجها طالق" في عدم وجود الطلاق بعد التزوج، فإنَّ عدمه في الأصل متفق عليه بين الشافعية والمالكية، والشافعيةُ يقولون: العلة في الأصل تعليق الطلاق قبل ملكِ محله، والمالكية يقولون: هذه العلة من أصلها ليست موجودة في الأصل، لأن الأصل الذي هو "فلانة التي أتزوجها طالق" لا تعليقَ فيه أصلًا، وإنما هو تنجيز طلاق أجنبية وهي لا

(2/422)


ينجز عليها الطلاق. واعلم أن "مركب الوصف" له صورتان: الأولى: أن يمنع الخصمُ وجودَ العلة في الأصل، مع أنه ينفي عليتها أيضًا لو فُرض ثبوتها، كهذا المثال المتقدم قريبًا، فإنَّ ادعاءَ الشافعية أن علة الأصل فيه هي تعليق طلاق أجنبية، فالمالكية ينفون التعليق كما تقدم، مع أنهم لو فرضوا وجودَ التعليق لما كان التعليق عندهم علة لعدم الطلاق؛ لأن تعليق طلاق الأجنبية لازم عندهم. الثانية: أن ينتفي وجودُ العلة مع اعترافه بأنها علة الحكم لو فرض ثبوتها. 652 - وردُّه انتُقي وقيل يُقبلُ ... وفي التقدُّمِ خلافٌ يُنْقَلُ الضمير في قوله: "ردُّه" عائد إلى القياس المركب بنوعَيه، أعني مركب الأصل ومركب الوصف. وقوله: "انتُقي" بمعنى اختير، يعني أن رَدَّ القياس المركب بنوعيه، أي عدم نهوض الاحتجاج به على الخصم هو المختار عند الأصوليين، ووجه ردِّه عندهم: أن الخصم يمنع وجودَ العلة في الفرع في مركب الأصل، ووجودَها في الأصل في مركب الوصف كما هو واضح مما تقدم، وخالف الجدليون فقالوا بقبوله (1). وعلى القول بقبوله فقيل: يُقدَّم على غير المركب، وقيل: يقدم __________ (1) قال شيخ الإسلام في "تنبيه الرجل العاقل": (1/ 330): (والقياس المركب قد اختلف في جواز استعماله في الجدل، والمحققون لا يرضونه. وأما بناء الأحكام عليه فتوى وحكمًا للناظر المجتهد، فقد حكوا الاتفاقَ على المنع من ذلك) اهـ.

(2/423)


عليه غيرُ المركب، وقيل: هما سواء. وهذا هو مراده بقوله: "وفي التقدم خلافٌ يُنقل". أما بالنظر إلى نفس المجتهد ومقلديه فلا خلاف في الاحتجاج بمركب الأصل ومركب الوصف. وقوله: "انتقي" و"يُقبل" و"يُنقل" كلها بالبناء للمفعول. * * *

(2/424)


الفرع 653 - الحكمُ في رأي وما تُشُبِّها ... من المحلِّ عندَ جُلِّ النُّبَها يعني أن الفرع الذي هو ركن من أركان القياس اخْتُلِف فيه على قولين، قيل: إنه حكم الفرع المقيس، وقيل: إنه محلُّ حكيم الفرع المقيس، وهو الحق. فعلى أنه حكم الفرع فمثاله: تحريم النبيذ، وعلى أنه محل حكم الفرع فهو النبيذُ بعينه مثلًا في إلحاقه بالخمر. 654 - وجودُ جامعٍ به متمَّمَا ... شرطٌ وفي القَطْع إلى القَطْع انتمى المراد بالجامع العلة، ومعنى البيت: أنه يُشترط في الفرع المقيس وجودُ علة الأصل بتمامها لا بعضها، فلو حصل قتل بمثقَّل خطأ لا يمكن القول فيه بالقصاص قياسًا على القتل بالسيف، وعلة القصاص هي القَتْل عمدًا عدوانًا وهي غيْرُ موجودة بتمامها في الفرع، لأن الفرع ليس فيه منها إلا مجردُ القتل. وقوله: "وفي القطع إلى القطع انتمى" يعني أن القياس قد يكون قطعيًّا وإذا كان قطعيًّا فلابد من القطع بأن الوصف علة حكيم الأصل، والقطع بأن العلة موجودة في الفرع، كقياس ضرب الوالدين على التأفيف في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23] للقطع بأن علة المنع الإيذاء، وأنه موجود في التأفيف وموجود في الضرب أيضًا، والتمثيل بهذا بناءً على القول بأنه قياس، المتقدم في قوله: "دلالة الوفاق للقياس. . . " إلخ. 655 - وإن تكنْ ظنيةً فالأَدْوَنُ ... لِذا القياسِ علَمٌ مُدَوَّنُ

(2/425)


يعني أن الوصف المعلَّلَ به إذا كانت عليته ظنية فهو المسمى عند الأصوليين بالقياس الأَدْوَن، مثاله: قياس الشافعية التفاح على البر في الربا بجامع "الطَّعم" الذي هو علة الربا عندهم، مع احتمال كون العلة هي "الاقتيات والادِّخار" كما عند المالكية أو "الكيل" كما عند الحنفية والحنابلة، فثبوتُ الحكمِ فيه -أي التفاح الذي ليس فيه من الأوصاف إلا الطعم- أدْوَنُ من ثبوته في البر المشتمل على الأوصاف الثلاثة. ووجه هذه الأدْوَنية: احتمال أن تكون العلة غير ما ظُنَّ أنه العلة من الأوصاف الموجودة في الأصل دون الفرع. واعلم أن القياس الأدْوَن الذي هو الظنيُّ على هذا يمكن أن يكون الحكم فيه في الفرع أولى منه في الأصل أو مساويًا له، لكون العلة أظهر في الفرع أو مساويةً. مثال كونها أظهر في الفرع: قياس العمياء على العوراء في منع التضحية، فالعمياء أولى بالحكم من العوارء، وإنما كان هذا القياس ظنيًّا لاحتمال عدم وجود العلة في الفرع، إذ يحتمل أن تكون العلة في العوراء مظنة الهزال لأنها تُوْكَل إلى نفسها في الرعي وهي ناقصة البصر، بخلاف العمياء فإنها تُعْلَف. ومثاله في المساواة: قياس الأَمَة على العبد في سراية العتق في حديث: "من أعتق شِرْكًا له في عبد" (1) الحديث، مع احتمال أن العلة في __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2522)، ومسلم رقم (1501) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-.

(2/426)


سراية العتق في العبد لا توجد في الأمَة، لأن عتق العبد يترتب عليه من الأمور ما لا يترتب على عتق الأمة كالجهاد والإمامة وغير ذلك. 656 - والفرعُ للأصل بباعِثٍ وفي ... الحكمِ نوعًا أو بجنسٍ يَقْتفي يعني أن الفرع لابد أن يكون تابعًا للأصل فيما يقصد من نوع العلة أو جنسها، وتابعًا للأصل أيضًا فيما يقصد من نوع الحكم أو جنسه. مثال المساواة في نوع العلة: قياس النَّبيذ على الخمر بجامع الشدة المُطْربة فإنها موجودة في النبيذ بعينها النوعية لا الشخصية لأن العلة عرض لا يتشخص إلا بتشخيص محله الذي قام به، وهو في مثالنا خصوص الخمر، وهو مفقود في النبيذ، فظهر أن الوحدة نوعية لا شخصية. ومثال المساواة في جنس العلة: قياس الطرف على النَّفْس في وجوب القصاص بجامع الجناية فإنها جنس لإتلافِهما، فعلَّة (1) الحكم في الأصل والفرع جنس الجناية لا إتلاف النَّفْس وإتلاف الطرف، إذ لو كانت العلة في الأصل إتلاف النَّفْس لم يتصور القياس لعدم وجود العلة في الفرع. ومثال المساواة في نوع الحكم: قياس القتل بمثَقَّل على القتل بمحدَّدٍ في وجوب القصاص فإنه فيهما واحد والجامع كون القتل عمدًا عدوانًا. ومثال المساواة في جنس الحكم: قياس بضع الصغيرة على مالها في ثبوت الولاية عليه للأب بجامع الصغر، فإن الولاية جنس لولايتي النكاح والمال، والفرق بين الجنس والنوع أن أفراد الجنس مختلفة __________ (1) الأصل: بعلة.

(2/427)


حقائقها كأفراد الحيوان، وأفراد النوع متفقة حقائقها كأفراد الإنسان. إذا عرفت ذلك فحقيقة القتل تنافي حقيقة قطع الطرف، والولاية على المال تنافي الولاية على البضع، ولذا قيل في كل منهما: إنه جنس دون غيرهما من باقي الأمثلة، فإن الحقيقة فيه واحدة ولذا كان نوع، فقول المؤلف: "والفرع" مبتدأ وجملة "يقتفي" خبره، واللام في "للأصل" زائدة، و"الأصل" مفعول به مقدم لقوله: "يقتفي" والباء في "بباعث" ظرفية بمعنى في، وقوله: "في الحكم" عَطْف عليه. وتقرير المعنى: الفرع يقتفي الأصل -أي يتبعه- في الباعث -أي العلة- وفي الحكم، وذلك الاتِّباع في كليهما إما في النوع أو الجنس، وتقدمت أمثلة الكل. 657 - ومقتضي الضدِّ أو النقيضِ ... للحكم في الفرع كوَقْعِ البِيْضِ يعني أن معارضة حكم الفرع بما يقتضي ضده أو نقيضه كائنة كوقع البِيْض، أيْ كهدم السيوف للأجسام، بمعنى أنها مبطلة لإلحاق ذلك الفرع بذلك الأصل، والفرق بين الضدين والنقيضين: أن مقابلة النقيضين هي المقابلة بين السّلب والإيجاب أي النفي والإثبات، والمقابلة بين ضدين هي المقابلة بين أمرين وجوديين متنافيين في ذاتَيْهما ولا يمكن اجتماعهما في ذات أخرى كالسواد والبياض. ومثال الدليل المقتضي لنقيض الحكم في الفرع: قياس القائل بتثليث مسح الرأس له على الوجه في الوضوء بجامع أن الكلَّ ركن في الوضوء، فيقول المعترض: هو مسح في الوضوء فلا يُسَنُّ تثليثه قياسًا على الخف، فقوله: فلا يُسَن تثليثه نقيض لقول المستدل: يُسَن تثليثه؛

(2/428)


لأن أحدهما نفي والثاني إثبات. ومثاله في الضد: قول الحنفي: الوتر واجب قياسًا على التشهد بجامع مواظبته -صلى اللَّه عليه وسلم- عليهما فيُعارَض بأنه مستحب قياسًا على ركعتي الفجر بجامع أن كلًّا منهما يُفعل في وقت من أوقات الصلوات الخمس ولم يُعْهَد من الشارع وضع صلاتي فرضٍ في وقتٍ واحد. وما ذكره المؤلف من أن معارضة حكم الفرع بما يقتضي ضده أو نقيضه مبطلة له هو الراجح، وقيل: لا تُقبل المعارضة لأنها إن قُبِلت انقلب منصب المناظرة إذ يصير المعترضُ مستدلًّا والمستدلُ معترضًا وذلك خروج عما قَصَد في معرفة صحة نظر المستدلّ. وأُجيب بأن قصد المعترض هدم (1) دليل المستدل، وإنما ينقلب منصب المناظرة لو كان قصد المعترض إثبات متقضى المعارضة وليس كذلك، وإنّما قصده عدم دليل المستدل. 658 - بعكس ما خلافَ حكمٍ يقتضي ... وادفع بترجيحٍ لذا المعترض يعني أن المعارضة بمقتضى خلاف الحكم عكس المعارضة بمقتضى النقيض أو الضد، فإنها لا تقدح في قياس المستدل اتفاقًا لعدم منافاتها له، كما لو قيل: اليمين الغموس قول يأثم قائله، فلا يوجب الكفارة قياسًا على شهادة الزور. فيقول المعارض: هي قول مؤكِّد للباطل تُظن به حقيقته فيوجب التعزير قياسًا على شهادة الزور، فعدم التكفير في __________ (1) ط: عدم.

(2/429)


قياس الأول ووجوب التعزير في قياس الثاني خلافان لا نقيضان ولا ضدَّان، وضابط الخلافين أنهما متنافيان في حد ذاتيهما لا يستحيل اجتماعهما في ذات ثالثة كالسواد والحلاوة والبياض والبرودة. وقوله: "وادفع بترجيح لذا المعترض" يعني أن المعارض بنقيض الحكم في الفرع أو ضده تدفع معارضته بكون وصف المستدل أرجح من وصفه، ككونه قطعيًّا ووصف المعارض ظنيًّا، أو كون مسلكه أقوى وغير ذلك من مرجِّحات القياس، وقوله: "لذا المعترض" مفعول "ادفع" واللام زائدة، والكلام على حذف مضاف أي ادفع اعتراض (1). . . إلخ. 659 - وعدم النصِّ والاجماع على ... وفاقه أوجبَهُ من أصَّلا 660 - منعَ الدليلين. . . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن من أصَّلَ منع الدليلين على مدلول واحد أي جعله أصلًا مطَّرِدًا يشترط في القياس أن لا يوجد نصٌّ ولا إجماع على حكم الفرع؛ لأنه إذا قام عليه دليل استغنى به عن القياس، والكلام في نص يختص بالفرع، أما النص الذي يشمله مع الأصل فقد تقدم في قوله: "وحيثما يندرج الحكمان" البيت، أما عند من لم يمنع دلالة دليلين على شيء واحد فلا يشترط في القياس عدم دليل موافق له لأن القياس دليل ثان عليه، وهو مذهب الأكثر، وحجة المانعين أنه لا حاجة إلى القياس مع وجود النص وقد عرفت أنه لا مانع من ترادف الأدلة. __________ (1) ط: اعتراض المعترض.

(2/430)


وحكمُ الفرعِ ... ظهورُه قَبلُ يُرى ذا مَنْعِ يعني أنه يُشترط في حكم الفرع أن لا يكون ظهوره للمكلفين قبل ظهور حكم الأصل، فإن ذلك ممنوع كقياس الوضوء على التيمم في وجوب النية، فإن الوضوء كان معروفًا حكمه قبل نزول رخصة التيمم، لأن الوضوء تُعُبِّد به عند مبدأ الوحي بالتكليف بالصلاة، ورخصة التيمم لم تنزل إلا في غزوة بني المصطلق (1) أو بعدها. * * * __________ (1) أخرجه البخاري رقم (334)، ومسلم رقم (367) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.

(2/431)


العِلَّة وهي الركن الرابع من أركان القياس، وأصل العلة في اللغة: العَرَض المؤثر كعلة المريض، وربما تطلق على الداعي للأمر كقولك: عِلَّة محبتي لفلان علمه وتُقاه، وربما أُطلقت على ما يعوق دون الشيء كقول حِماس بن قيس (1): إن يُقبلوا اليوم فما لي عِلّه ... هذا سلاحٌ كاملٌ وألَّه وفي الاصطلاح عرفها المؤلف بقوله: 661 - معرّفُ الحكم بِوضعِ الشارعِ ... والحكمُ ثابتٌ بها فاتَّبِعِ يعني أن العلة في الاصطلاح هي الوصف المعرِّف للحكم بوضع الشارع، كالإسكار فإنه كان موجودًا في الخمر ولم يدل وجوده على تحريمها حتى جعله صاحبُ الشرع علة في تحريمها. وقوله: "والحكم ثابت بها" إلخ يعني أن حكم الأصل ثابت بالعلة لا بالنصِّ على ما صححه بعضُ المالكية والشافعية، خلافًا للحنفية القائلين: إن ثبوت الحكم بالنصّ لأنه المفيد له. وأجاب القائلون بأنه العلة بأن النصَّ لم يُفِد الحكم بقيد كون محله أصلًا يقاس عليه، والكلام في خصوص ذلك والمفيد له العلة إذ هي منشأ التعْدِية المحقِّقة للقياس. __________ (1) الرجز في "السيرة النبوية": (4/ 407) لابن هشام، و"إصلاح المنطق": (ص/ 265)، و"الكامل": (2/ 766)، وتمامه: وذو غرارين سريع السَّلَّه.

(2/432)


وإيضاحه: أن العلة تعرف كون الحكم منوطًا بها حتى إذا وُجدت في محل آخر ثبت الحكم فيه أيضًا، والنص يعرّف الحكم دون نظرَ إلى ذلك فلَيْسا معرّفين لشيء واحد من جهة واحدة، وقال بعضهم: معناه أنه إذا لوحظ النصّ عُرف الحكم، ثم إذا لوحظت العلة حصل التفات جديد للحكم، ومعرفة كون محله أصلًا يقاس عليه، فمجموع ذلك مستفاد من العلة وهو مرادهم بأنها تفيد حكم الأصل بقيد كون محله أصلًا يقاس عليه. 662 - ووَصْفها بالبعثِ ما استُبينا ... منه سوى بعثِ المُكَلَّفينا يعني أن وصف الأصوليين للعلة بالبعث أي تسميتهم لها باعثًا لم يظهر منه إلا أن معنى ذلك البعث أنها مشتملة على حِكمة تبعث المكلف على الامتثال، ولم يَسْتجيزوا أن يقال: إنها باعثة للشارع على تشريع الحكم؛ لأن أفعاله تعالى لا تُعَلَّل بالأغراض، وقائل هذا القول يرى أن كون أفعاله معللة يتضمن نقصًا؛ لأن الغرض كأنه تكميل لصاحب الغرض. والذي يظهر -واللَّه تعالى أعلم- أن أفعال اللَّه وتشريعه لم يخلُ شيءٌ منها عن حكمة بالغة لكن الحِكَم المشتملة عليها عللُ الشرع مصالُحها كلها راجعة إلى الخلق، واللَّه تعالى غنيٌّ بذاته الغنى المطلق عن كل شيء محتاج إليه كل شيء (1). 663 - للدَّفع والرَّفْع أو الأَمرَيْنِ ... واجبةُ الظهورِ دونَ مَيْنِ __________ (1) ذكر المؤلف في "المذكرة": (ص/ 474 - 475) هذا القول -تعليل الأحكام الشرعية بالأغراض- ونسبه للمتكلمين ورد عليه.

(2/433)


يعني أن الوصف المعلّلَ به قد يكون مانعًا لحكم آخر، وحينئذٍ فهو ثلاثة أقسام: دافع ورافع وهو مانع الدوام والابتداء. ودافع فقط وهو مانع الابتداء. ورافع فقط وهو مانع الدوام، وتقدمت أمثلتها عند قول المؤلف (1): "بمانع يمنع للدّوام" إلخ. وقوله: "واجبة الظهور" يعني أن العلة يجب أن تكون ظاهرة كالإسكار والطَّعم، ولا يجوز كونها خفية كالرضى والغضب ونحو ذلك لأن الخفي لا يعرّف الخفي. 664 - ومن شروطِ الوصفِ الانضباطُ ... إلّا فحكمةٌ بها يُناطُ يعني أنه يشترط في الوصف المعلَّل به سواء كان حقيقيًّا أو لغويًّا أو شرعيًّا أو عرفيًّا أن يكون منضبطًا بأن لا يتخلّف بالنِّسَب والإضافات والكثرة والقلة لأن العلة تفيد الحكم كما تقدم في قوله: "والحكم ثابت بها"، وغير المنضبط لا يفيد القدر الذي علق به الحكم. مثال غير المنضبط: المشقة في السفر والرضا في البيع عند من يقول: إنه لا ينعقد إلا بالصِّيَغ القولية. وقوله: "إلا فحكمة" إلخ يعني أن الوصف إذا لم يكن منضبطًا جاز التعليل بالحكمة. هذا مراد المؤلف. قلت: الظاهر أن التعليل بالحكمة إنما يتأتَّى على القول المرجوح من الخلاف المشار إليه بقول المؤلف (2): __________ (1) البيت رقم (54). (2) البيت رقم (671).

(2/434)


وفي ثُبوتِ الحكم عند الانتفا ... للظنّ والنّفي خلافٌ عُرِفا وقوله (1): بالطرفين في الأصحِّ علَّلوا ... فقصرُ مُترفٍ عليه يُنقل وإيضاحه: أن المشقة التي مَثَّلوا بها لغير المنضبط لمَّا لم تصلح للتعليل لم يعلل بالحكمة التي هي رفع المشقة إلا على القول المرجوح كما ذكرنا، لأن المسافر يقصر ولو لم تحصل له مشقة على المشهور، والمشهورُ في مثل هذا التعليلُ بالمظنة (2). 665 - وهي التي من أجلِها الوصفُ جرى ... عِلّةَ حُكْمٍ عند كلِّ من دَرَى يعني أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول هي التي من أجلها صار الوصف علة، فهي إذًا عبارة عن جلب المصلحة أو تكميلها، أو دفع المفسدة أو تقليلها، فعِلَّةُ منع الخمر مثلًا الإسكار، والحكمة التي صار الإسكار من أجلها علة هي صيَانة العقل عن الذهاب، وقس على ذلك. 666 - وهو للُّغةِ والحقيقه ... والشرعِ والعرفِ نَمَى الخليقَه الضمير في قوله: "هو" عائد إلى الوصف المعلّل به، يعني أن الوصف المعلل به أربعة أقسام: لغوي، وحقيقي، وشرعي، وعرفي، وهذا مراده بقوله: "نمى الخليقة" أي نسب الناس المعلّلَ به إلى هذه الأقسام كما ذكرنا، أما الوصف اللغوي فقد تقدم الكلام عليه في قوله: __________ (1) البيت رقم (710). (2) انظر "المذكرة": (ص/ 476).

(2/435)


"هل تثبت اللغة بالقياس" (1) إلخ. والحقيقي في الاصطلاح هو: ما يتعقل في نفسه من غير توقف على عرف أو شرع أو لغة. ومثاله الإسكار، والطعم، والقتل عمدًا عدوانًا، ونحو ذلك. والشرعي كتعليل جواز رهن المشاع بجواز بيعه، وتعليل حياة الشَّعَر بحرمته بالطلاق وحليته بالنكاح. والعرفي كتعليل الكفاءة في الحسب بالشرف وعدمها فيه بالدناءة (2). 667 - وقد يُعلَّل بما تركَّبا ... وامنعْ لعلَّةٍ بما قد أذْهَبا يعني أنه يجوز التعليل بالعلة المركبة عند أكثر الأصوليين كما قاله القرافي في "التنقيح" (3)، ومثاله: القتل عمدًا عدوانًا لمكافئ غير والد (4)، فإن مجموع هذه الأوصاف المذكورة علة للقصاص، وكالاقتيات والادِّخار وغلبة العيش فإن مجموعها علة لربا الفضل عند المالكية على خلافٍ في اعتبار غلبة العيش. وقيل: لا يجوز التعليل بالعلة المركبة، وزعم قائل ذلك أنه يؤدي إلى المُحال، وإيضاحه عنده: أنه إذا انتفى جزءٌ من أجزاء المركبة انتفت عِلِّيَّتها، فلو انتفى جزء آخر لزم تحصيل الحاصل وهو محال، ومعناه عنده: أن انتفاء الجزء علة لعدم العلية. وأُجِيب من قبل الجمهور بأن انتفاء الجزء ليس علة لعدم العلية بل __________ (1) البيت رقم (170). (2) انظر "النشر": (2/ 127 - 128). (3) (ص/ 132). (4) الأصل: ولد، والتصحيح من ط.

(2/436)


هو من قبيل انتفاء الشرط، فعدم العلية لانتفاء شرط وجودها لا لوجود علة عدمها. وقوله: "وامنع لعلة" إلخ يعني أن مانع العلة يُشترط في كونه مانعًا لها أن يُذْهِب حِكْمَتها أي يبطلها، وقد عرفتَ مما سبق أن المانع لابد أن يكون وصفًا وجوديًّا. مثال المانع المبطل لحكمة العلة: الدَّيْن، على القول بأنه مانع من وجوب الزكاة، فإن الحكمة في السبب المعبَّر عنه بالعلة -أعني الغنى بملك النصاب- مواساة الفقراء من فضل مال الأغنياء وليس مع الدَّيْن فضل يواسي به. وقوله: "أذْهَب" مفعوله محذوف أيْ أَذْهَبَ حِكْمَتَها. 668 - والخُلْفُ في التعليل بالذي عُدِم ... لما ثبوتيًّا كنسبيٍّ عُلِم يعني أنه اخْتُلف في تعليل الحكم الثبوتي -أي الوجودي- بالوصف العَدَمي أو الوصف الإضافي، فاللَّام في قوله: "لما" متعلقة بالتعليل، و"ما" موصولة وصلتها جملة "عُلِم". و"ثبوتيًّا" مفعول "عُلِم" الثاني مقدَّمٌ عليه، ومفعوله الأول الضمير المستتر النائب عن الفاعل. وتقرير المعنى: والخلف في التعليل بالذي عُدِم -أي بالوصف المعدوم- للذي عُلم ثبوتيًّا. وحاصلُ تقرير (1) هذا المقام: أن الأحوال أربعة؛ لأن الوصف المعلَّلَ به إما وجوديّ أو عدميّ، والحكم المعلل كذلك، فنضرب حالتَي العلة في حالتَي الحكم بأربع: __________ (1) ط: تحرير.

(2/437)


الأولى: تعليل وجوديّ بوجوديّ، كتعليل حرمة الخمر بالإسكار. الثانية: تعليل عدميّ بعدميّ، كتعليل عدم نفوذ التصرف بعدم البلوغ أو الرشد. الثالثة: تعليل عدميِّ بوجوديِّ، كتعليل عدم قبول الشهادة بالفسق. وهذه الثلاث لا خلاف فيها ولا يقصدها المؤلف. الرابعة: -هي محل الخلاف، وهي مراد المؤلف بالبيت- وهي تعليل الوجودي بالعدمّي، فالأكثرون على الجواز. واستدلوا بصحة قولك: "ضربتُ العبد لعدم امتثاله". وأجاب المانعون بأن التعليل في ذلك بالكف عن الامتثال، والكفّ أمر وجوديّ كما تقدم في قوله: "والكفُّ فِعْل في صحيح المذهب" (1). واعلم أن العدميَّ عند الفقهاء هو ما كان العدم داخلًا في مفهومه كعدم كذا أو انتفاء كذا أو سلب كذا، والوجوديّ عندهم ما ليس العدم داخلًا في مفهومه، والتحقيق جواز تعليل الوجوديّ بالعدميّ إذ لا مانع من كون عدم أمرٍ علةٌ لوجود أمر آخر (2). وما احتجَّ به المانعون من أن العدميّ أخفى [من الثبوتي] (3) وشَرْط العلة الظهور -كما تقدم- لا دليل فيه، لأن العدميَّ يكون ظاهرا ظهورًا لا __________ (1) البيت رقم (107). (2) هذا قول الجمهور، انظر "إرشاد الفحول": (2/ 873). وذهب جماعة إلى منعه، منهم ابن الحاجب في "المختصر": (3/ 72). (3) من "النشر": (2/ 129).

(2/438)


خفاء معه، ويدل على ذلك الإجماع على تعليل العدميّ بالعدميّ، فلو كان العدمي غير ظاهر لما جاز التعليل به أصلًا. وقول المؤلف: "كنسبيٍّ" يعني بالنسبي الصفة الإضافية، ومعنى الصفة الإضافية: هي الصفة التي لا تُعْقَل حقيقتها إلا بإضافة أمر لآخر ينافيه منافاة تامة بحيث يستحيل اجتماع الوصفين في شيء واحد في وقت واحد، كما أنه يستحيل إدراك أحدهما إلا بإضافة الآخر إليه: كالأبوة والبنوة، والقَبْلِ والبَعْدِ، والفَوق والتَّحْت، ونحو ذلك، فالذات الواحدة مثلًا يستحيل أن تكون أبًا لشخص وابنًا لذلك الشخص بعينه، كما يستحيل اجتماع البياض والسواد، مع أن الأبوة والبنوة لم يُدْرَك معنى أحدهما إلا بإضافة الأخرى إليها وقس على ذلك. والكاف في قول المؤلف: "كنسبيٍّ" أداة تشبيه له بالعدميّ، فظاهر المؤلف أن الصفات الإضافية عدمية، وكونها عدمية هو مذهب المتكلمين، أما الفقهاء والمناطقة (1) فهي وجودية عندهم، وقال بعض [المحققين] (2): أما باعتبار الوجود الذهنيّ فهي وجودية، وباعتبار الوجود الخارجي فهي عدمية. إذا عرفتَ الخلافَ فيها فاعلم أنها على القول بوجودها يجوز التعليل بها مطلقًا، وعلى القول بعدمها يجوز تعليل العدم بها بلا خلاف، كتعليل عدم القصاص بالأبوة. وفي تعليل الوجودي بها على هذا القول الخلاف في تعليل الوجودي بالعدمي المذكور في البيت. __________ (1) في "النشر": (2/ 130) عزاه للفقهاء والفلاسفة. (2) من ط، ويفهم من "النشر" أن المقصود به القرافي.

(2/439)


تنبيهان (1) الأول: إذا كان للمعنى [الواحد] عبارتان إحداهما نفي والأخرى إثبات، فإذا عبر بالإثبات جاز تعليل الثبوتي به، وإذا عبر بالنفي جَرَى على الخلاف، كالكفر -مثلًا- فإنه يُعَبَّر عنه بالكفر وبعدم الإسلام، فإذا عللتَ به جوازَ القتل -مثلًا- قلت: يقتل الكافر لكفره أو لعدم إسلامه، وكقولك: يُحجر على المجنون لجنونه أو لعدم عقله. الثاني: إذا كانت العلة مركبة من جزأين أحدهما وجودي والآخر عدمي، كتعليل [الشافعية] وجوب الدية المغلَّظة في شِبْه العمد بأنه قتلٌ بفعل مقصود لا يَقْتُل غالبًا فإنها تجري على الخلاف نظرًا إلى الجزء العدمي. 669 - لم تُلْفَ في المعلَّلات عِلَّه ... خاليةٌ من حكمةٍ في الجُمْله 670 - ورُبَّما يُعْوِزُنا اطِّلاعُ ... لكنَّه ليسَ به امتناعُ يعني أن الأحكام الشرعية المعلّلة لا تخلو علةٌ من عللها ولو غير متعدية عن حِكْمة في الجملة ولا يضرُّ تخلُّفها في بعض الجزئيات في المعلّلات بالمظان، كقصر المسافر الذي لم تُصبه مشقة في سفره. وقوله: "في المعلّلات" يُحترز به عن التَّعبديات، فيجوز عنده أن تتجرد عن حِكَم المصالح ودرء المفاسد بناءً على أن مصلحة الثواب ودرء مفسدة العصيان كافية في الحكمة في إناطة الأحكام بها. __________ (1) انظرهما في "النشر": (2/ 130).

(2/440)


قلت: والظاهر عندي أن التعبديات -أيضًا- لا تخلو من حِكَم تحصل بالامتثال زائدة على ما ذكر من تحصيل الثواب ودرء مفسدة العقاب، ومما يدلُّ على ذلك أن أشد التعبديات توغُّلا في التعبد الصلاة، وقد نصَّ تعالى على أن لها حكَمًا غير الثواب عليها في الآخرة كقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت/ 45]، وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة/ 45]. وقول المؤلف: "وربما يعوزنا" إلخ، يعني أن كون العلة لا تخلو عن حكمة في الجملة لا يلزم منه اطلاعنا على كل حكمة، لكنَّ عدم اطلاعنا لا يلزم منه منع التعليل بتلك العلة التي لم تظهر حكمتها، كتعليل المالكية منع ربا الفضل بالاقتيات والادِّخار، وتعليل الشافعية له بالطَّعم، والحنفية والحنابلة بالكيل، فكل هذه العلل لم نعرف حِكْمَتها، وعدم معرفة حكمتها ليس مانعًا من التعليل بها، وهو مراده بقوله: "لكنه ليس به امتناع"، ومعنى قول: "يُعْوِزُنا اطلاع" أي لم نطلع عليها، من عازه الأمر إذا لم يقدر على تحصيله. 671 - وفي ثبوت الحكمِ عند الانتفا ... للظنِّ والنفي خِلافٌ عُرِفًا يعني أنهم اختلفوا إذا قُطِع بانتفاء الحكمة في صورة هل يثبت الحكم فيها مع تخلف الحكمة إناطةً للحكم بمظنة الحكمة أو لا يثبت الحكم؟ إذ لا عبرة بالمظنة مع تحقق انتفاء الحكمة، والفروعُ المبنية على هذه القاعدة يرجّح فيها ثبوت الحِكَم نظرًا للمظنة، كقَصْر المسافر الذي لم تصبه مشقة، وكاسْتِبراء [الصغيرة] التي لا يحمل مثلها عادة؛ لأن

(2/441)


حِكْمة الاستبراء الدلالة على براءة الرحم، وذلك متحقق في الصغيرة بدون استبراء، وكشرع الاستنجاء من حصاة، والغُسْل من وضع الولد جافًا وغير ذلك. وفي "الشرح" (1) للمؤلف هنا سهو أو تحريف مطبعي، وقول المؤلف: "خلاف" مبتدأ خبره "في ثبوت"، و"النفي" بالخفض عطف على "ثبوت". وقوله: "للظن" أي ثبوت الحكم لمظنة الحِكْمة في الجملة وإن قُطِع بنفيها في مسألة معينة. 672 - وعلَّلوا بما خَلَتْ من تَعْدِيه ... ليُعلمَ امتناعُه والتقويَه يعني أن الأصوليين من مالكية وشافعية وحنابلة جَوَّزوا التعليل بالعلة التي لا تتعدَّى محل النص، وهي المعروفة بالقاصرة، ومنعَ التعليل بها أكثرُ فقهاء العراق كما نقله عنهم القاضي عبد الوهاب، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى منع المستنبطة منها دون المنصوصة والمجمع عليها، فظهر أن التعدية ليست شرطًا في صحة التَّعليل عند الجمهور، وإنما هي شرط في صحة القياس كما تقدم في قوله: "أو التعدِّي فيه ليس يحصلُ" (2). وستأتي أمثلة العلة القاصرة في البيت بعد هذا، والمانعون للقاصرة احتجُّوا بعدم فائدتها لأن فائدة التعليل التعدية للفرع، فبيَّنَ المؤلف __________ (1) (2/ 132) ولم يتبين لي ما أشار إليه المؤلف، ولا أدري أي طبعة كانت لدى الشيخ، أما طبعتنا فكثيرة الخطأ. (2) انظر "البحر الميحط": (5/ 157 - 159)، و"إرشاد الفحول": (2/ 875).

(2/442)


فائدتين من فوائدها (1): الأولى: علم امتناع القياس على محل معلولها حيث يشتمل على وصف آخر متعدٍّ، وهذا مراده بقوله: "ليعلم امتناعه". وإيضاحُه: أن الوصفَ المتعدِّي في معلولها يعارض بها فيتوقف عن القياس لأجل تلك المعارضة، إذ يجوز أن تكون العلة مركبة من كلا الوصفين وحينئذ فلا تعدية؛ لأن المركبَ من متعدٍّ وغيرِ متعدٍّ غيرُ متعدٍّ، إذ لا يوجد في الفرع إلا بعض العلة الذي هو جزؤها المتعدِّي والعلة يُشترط وجودها في الفرع بتمامها، كما تقدم في قوله: "وجود جامع به متمَّمًا شرطٌ" (2). فإن قلت: يجوز أن يكون الوصف القاصر والمتعدي كل واحد منهما علة مستقلة. قلنا: تسقط العلية بالاحتمال. فإن قيل: التعدية كافية في ترجيح استقلال المتعدي على كونه جزءًا. قلنا: هو هنا معارَض بمرجح آخر لكونه جزءًا، وذلك المرجِّح هو أن اجتماع علتين خلاف الغالب، وموافقة الغالب من المرجِّحات، فيعارض الترجيح بالترجيح فيلزم التوقف عن القياس كما قال المؤلف. ومثال ما ذكرنا: تعليل طهورية الماء بالرِّقة واللطافة ولا يوجد ما يماثل الماء فيها حتى يتعدَّى ذلك الوصف إليه، فهذه علة قاصرة على الماء. فلو عللها مستدلٌّ آخرُ بالإزالة لكل ما يُستقذر، وهذا الوصف متعدٍّ __________ (1) انظرهما في "النشر": (2/ 133 - 134). وذكر غيرها من الفوائد. (2) البيت رقم (654).

(2/443)


لغير الماء من المائعات، فإنه لا يجوز الإلحاق بهذا الوصف المتعدِّي لاحتمال عدم استقلاله بالعلية، إذ يحتمل أن تكون العلة مركبة منه ومن الوصف القاصر كما تقدم. والفائدة الثانية: هي تقوية النصِّ الدّالِّ على معلولها لأن التعليل كنصٍّ آخر كما تقدم في قوله: "والحكم ثابت بها"، فإذا كان النصُّ ظاهرًا قابلًا للتأويل تقوَّى بالعلة وامتنع تأويله، وإذا كان نصًّا قطعيًّا تقوَّى أيضًا بها لما تقدم من أن اليقين يتفاوت على التحقيق، وهذا مراده بقوله: "والتقوية". 673 - مِنها محلُّ الحكم أو جزءٌ وزِدْ ... وصفًا إذا كل لزوميًّا يرِدْ ذكر في هذا البيت ثلاثَ صور من صور العلة القاصرة: الأولى: أن تكون العلة القاصرة محلَّ الحكم، كتعليل الربا في الذهب والفضة بالذهبية أو الفضية، وهذا معنى قوله: "منها محل الحكم". الثانية: أن تكون جزءَ محلِّ الحكم الخاصِّ به دون غيره، كتعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج منهما، فالخروج جزء معنى الخارج إذ معناه ذات متصفة بالخروج كما تقدم إيضاحه في شرحنا لقول المؤلف: "وإن يكن لمبهم فقد عُهِدْ" (1) إلخ. الثالثة: وصف محل الحكم الخاص به أيضًا، كتعليل الربا في الذهب والفضة بكونهما أثمانَ الألثمياء، لأن ذلك وصف لازم لهما في غالب أقطار الدنيا. __________ (1) البيت رقم (176).

(2/444)


وهاتان الصُّورتان هما مراد المؤلف بقوله: أو جزء وزد وصفًا" إلخ. ومفهوم قوله: "إذا كلٌّ لزوميًّا يرد" أن جزء محل الحكم إذا كان غير خاصٍّ به لا يكون من صور القاصرة إذ لا يلزم نفي تعدِّيْه، كتعليل الحنفية نقض الوضوء في الخارج من السَّبيلين بخروج النجس من البدن المتعدِّي إلى نحو الفَصْد وغيره، فالخروج من البدن جزء معنى الخارج لكنه غير خاص بالخارج من السبيلين لِصْدقه على غير الخارج منهما كالدم الخارج من أجل الفَصْد، وكذلك وصف محل الحكم إذا كان غير خاصٍّ به فإنه ليس من صور القاصرة، كالإسكار الذي هو وصف الخمر، وهي محل الحكم الذي هو التحريم لكنه غيرُ خاصٍّ به. وقول المؤلف: "إذا كُلٌّ" فاعل فِعل محذوف يفسره ما بعده، أي إذا يردُ كُلٌّ من الجزء والوصف حال كونه لزوميًّا أي مختصًّا بمحلِّ الحكم فيهما، وإنما وجب تقدير الفعل لأن "إذا" لا تُضاف إلا إلى الجمل الفعلية. 674 - وجاز بالمشْتَقِّ دون اللَّقبِ ... وإن يكنْ من صفةٍ فقد أُبِي ضمير الفاعل في قوله: "جاز" عائد إلى التعليل الذي الكلام فيه، يعني أنه يجوز التعليل بالمشتق، ومراده بالمشتق خصوص المشتق من الفعل اللغوي، أعني المصدر الذي هو حَدَث متجددٌ باختيار الفاعل خاصة، كالضارب المشتق من الضرب، والقاتل المشتق من القتل، والسارق المشتق من السرقة، كقولك: "اقطعه لأنه سارق" و"اضربه لأنه ضارب" وهكذا. وقوله: "دون اللقب" أي فلا يجوز التعليل به وهو العَلَم بأقسامه،

(2/445)


واسم الجنس الجامد، واسم الجمع كـ "قوم ورهط". فإن قيل: تقدم في قول المؤلف: "منها محل الحكم" جواز تعليل الربا في الذهب بكونه ذهبًا، والذهب اسم جنس جامد فهو لقب. فالجواب: أن اللّقب يُنْظر إليه باعتبارين، فإن اعْتُبِر اشتماله على معنًى مناسب جاز التعليل به، كتعليل الربا في الذهب بكونه ذهبًا، لأن هذا اللّقب يشتمل على معنى مناسب هو كون النقد أثمان الأشياء في أقطار الدنيا. وإن اعْتُبر في اللقب مجرد التسمية دون مناسبة فهو اللَّقب الذي لا يصحُّ التعليل به كما لو عُلِّلَ تحريم الخمر بمجرد تسمية العرب له خمرًا من غير ملاحظة معنى الإسكار؛ لأن مجرد الأسماء طَرْدية لا تُناط بها الأحكام، وهذا معنى قول المؤلف: "دون اللَّقب". وقوله: "وإن يكن من صفةٍ" أي: وإن كان الوصفُ مشتقًّا "من صفةٍ فقد أُبي" أي مُنِع التعليل به، ومراده بالصفة المصدر القائم بالذات من غير اختيارها كالبياض والسواد، فالأوصاف القائمة بالذات (1) لا يصلح المشتق منها للتعليل بناءً على منع قياس الشبه، وسيأتي تحقيق الكلام على ذلك في المسلك السادس (2) إن شاء اللَّه تعالى. وقوله: "أُبي" فعل ماض مبني للمجهول. 675 - وعلّةٌ منصوصةٌ تعَدَّدُ ... في ذاتِ الاستنباطِ خلْفٌ يُعْهدُ يعني أنه يجوز أن يكون لحكم واحد علتان فأكثر عند الجمهور وهو __________ (1) ط: بالذوات القائمة من غير اختيارها. (2) عند البيت رقم (738).

(2/446)


الحق، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة متعاقبة أو على المعية وهذا مذهب مالك (1). ودليل جوازِه وقوعُه كوجوب الوضوء فإن له عِلَلًا كثيرة كالبول والغائط والمذي، وكوجوب الغُسل يُعَلل بالجماع والإنزال وانقطاع دم الحيض، وكالصوم والإحرام والاستبراء والحيض فإنها علل لمنع الوطء. وقول المؤلف: "في ذات الاستنباط خُلْفٌ" هل يجوز تعددها أو لا؟ كما أن في المنصوصة خلافًا أيضًا، وممَّن منعه فيها إمامُ الحرمين (2) والسبكيُّ في "جمع الجوامع" (3). والتحقيقُ الجواز، وما استدل به ابنُ السُّبكي للمنع من أنه يؤدي لجمع النقيضين = لا يتجه إلا في العلل العقلية، أما في الشرعية فلا يلزم من تعليل الحكم بعلتين أيُّ محذور؛ لأن إناطة الأحكام بها بوضع الشرع كما تقدم في قول المؤلف: "معرف الحكم بوضع الشارع" (4)، ولا محذور في تعدُّده كما هو مشاهد في الأمثلة المتقدمة، وستأتي أمثلة المنصوصة في مسلك النصِّ إن شاء اللَّه تعالى، وأمثلة المستنبطة في المسالك الأُخرِ. 676 - وذاكَ في الحُكم الكثيرُ أطْلَقَه ... كالقَطْع مع غُرْمِ نِصابِ السَّرقه __________ (1) انظر "إحكام الفصول": (2/ 640)، والذي ذكره القرافي في "التنقيح": (ص/ 131) ترجيح جوازه في المنصوصة ومنعه في المستنبطة. (2) "البرهان": (2/ 544). (3) (2/ 246). (4) البيت رقم (661).

(2/447)


"ذاك" إشارة إلى التعدد يعني أن تعدد الحكم لعلة واحدة أطلق جوازَهُ الكثيرُ منهم بل الأكثر، ومثَّل له المؤلف في الوجوديّ بقوله: "كالقطع مع غُرْم نصاب السَّرقه" فالسرقة علة واحدة ثبت بها حكمان، هما: قطع اليد، وغُرم المسروق. ومثاله في الحكم العَدَميِّ: الحيض، فإنه علة واحدة يثبت بها عدم وجوب الصوم والصلاة. 677 - وقد تخَصِّصُ وقد تُعَمَّمُ ... لأصلِها لكنَّها لا تخْرِمُ اللَّام في قوله: "لأصلها" زائدة داخلة على المفعول المتنازع فيه الفعلان قبله، يعني أن العلة يجوز أن تخصِّصَ أصلَها الذي استُنْبطت منه وتُعمِّمه على الظاهر من مذهب مالك. مثال تخصيصها لأصلها: تخصيص عموم {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء/ 43] بما توجد فيه اللذة عادة، ولذا لم ينقض عند مالك مَسُّ المَحْرَمِ؛ لأن علة نقض الوضوء من اللَّمْس الالتذاذُ، وهو لا يكون من المحارم غالبًا فخصَّصَت العلة أصلَها الذي اسْتُنبطت منه. ومثال تعميمها لأصلها قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث أبي بَكْرَةَ: "لا يقضينَّ حَكَم بين اثنين وهو غضبان" (1) فالعلة هنا هي ما اشتمل عليه الغضب من تشويش الفكر، فيلزم منع القضاء بكل مشوِّش كالحقن والحقب، والحزن والسرور المُفْرِطَيْن، فعمَّمتِ العلةُ أصلها، وأشار إلى هذا في __________ (1) أخرجه البخاري رقم (7158)، ومسلم رقم (1717) من حديث أبي بكرة -رضي اللَّه عنه-.

(2/448)


"المختصر" (1) بقوله: "ولا يحكم مع ما يُدْهشُ عن الفكر". وقوله: "لكنها لا تخرم" يعني أنه يشترط في صحة الإلحاق بالعلة أن لا تخرم أي تبطل أصلها الذي استنبطت منه، لأنها إن أبطلته بطلت هي لكونه أصلها. ومثاله: "تعليل الحنفية وجوب الشاة في الزكاة بدفع حاجة الفقير"، فأجازوا إخراج قيمة الشاة لأن إجزاء القيمة مُفْضٍ إلى عدم وجوب الشاة، وإذا ارتفع وجوب الشاة ارتفع أصلُ العلة الذي اسْتُنبطت منه وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أربعين شاةً شاةٌ" (2). والمقصود المثال، لأن الحنفية أجابوا عن هذا بأنه ليس إبطالًا لأنهم لم يقولوا برفع الوجوب بل هو توسيع للوجوب وتعميم له. 678 - وشرطُها التعيينُ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . يعني أن العلة يُشترط فيها أن تكون متعينة، فلا يصح الإلحاق بوصف غير معين كما هو مذهب الجمهور، لأن العلة منشأ التعدية المحققة للقياس الذي هو الدليل، والدليل لابد أن يكون معينًا فكذا منشأ المحقق له، وقيل: لا يشترط التعيين اكتفاءً بعلية وصف مبهم بين أمرين أو أكثر مشترك بين المقيس والمقيس عليه، كما لو قلت: الطعام الربويُّ يشتمل على أوصافٍ كالطَّعم، والكيل، والاقتيات، والادِّخار مثلًا، فالعلة لابد أن تكون أحد هذه الأوصاف وإن لم نُعينه، فإذا وُجِدت هذه الأوصاف في شيء آخر __________ (1) (ص/ 234) وسقط منه قوله (ولا). (2) تقدم تخريجه.

(2/449)


علمنا وجود تلك العلة المبهمة فيه فيصح الإلحاق كما عليه الشافعية، لكن بشرط أن تثبت عِلِّيَّةُ كل واحد منها بانفراده، كقولهم: مَن مسَّ من الخنثى أحدَ فرجيه انتقض وضوءه، لأنه بتقدير أنه ذَكَر فهو ماسٌّ فرجَ آدميّ وذلك ناقض عندهم، وبتقدير أنه أنثى فهو لامس أنثى غير مَحْرَمٍ وذلك ناقض أيضًا عندهم. . . . . . . . . . والتقدير ... لها جوازُه هو التحريرُ يعني أن جواز كون العلة وصفًا مقدرًا هو التحرير أي التحقيق كما حققه القرافي وغيره. مثاله: قولهم: "الملك معنى شرعي مقدَّر في المحل" هو علة في إطلاق التصرف في الشيء المملوك، خلافًا للفخر الرازي (1) المانع من ذلك القائل بأنه لا يتصور في الشرع، والتحقيقُ تصوره ووقوعه كما رأيت، بل قال القرافي (2): لا يخلو منه باب من أبواب الفقه، وهو كذلك. 679 - ومقتضي الحكم وجودُه وجَبْ ... متى يكُنْ وجودُ مانعٍ سببْ 680 - إذا انتفاءَ شرطٍ كانا ... وفخرُهُم خلافُ ذا أبانا يعني أنه إذا كان وجودُ المانع وانتفاء الشرط سببًا، أي علة لانتفاء الحكم، لابد عند الجمهور من ثبوت المقتضي أعني العلة، إذ لو كانت العلة منتفية لكان انتفاء الحكم لانتفائها لا لانتفاء الشرط أو وجود المانع، __________ (1) "المحصول": (2/ 407). (2) "شرح التنقيح": (ص/ 411). مع أن القرافي في "التنقيح" لم يحك إلا قول الرازي.

(2/450)


فلا يمكن عند الجمهور أن تقول: الأجنبيُّ لا يرث لأنه عبد، والرق مانع من الميراث لعدم وجود علة الميراث. ولا يجوز أن تقول: الدَّيْن مانع وجوب الزكاة على الفقير؛ لأن علة وجوب الزكاة لم توجد. ومثاله في الشرط: أنه لا يجوز أن تقول: لا زكاة على الفقير لأن الشرط الذي هو تمام الحول منتفٍ، ولا رَجْم على من لم يزن لأف غيرُ محْصَن. وقوله: "وفخرهم" إلخ، يعني أن الفخر الرازي "أبان" أي أظهر خلافَ ذلك بأن قال: لا يلزم وجودُ المقتضي في ذلك (1)، واختاره ابن الحاجب (2)، وأجاب (3) بأنه يجوز أن يكون انتفاء الحكم لانتفاء الشرط مثلًا وانتفاءِ العلة بناءً على جواز دليلين على مدلول واحد. والأظهر مذهب الجمهور، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: "لا يبصرُ الأعمى زيدًا لأن بينهما جدارًا" لأنه لا يبصره ولو كان بجنبه، والألف في "كانا" و"أبانا" للإطلاق. * * * __________ (1) انظر "المحصول": (2/ 410). (2) "المختصر - مع الشرح": (3/ 81). (3) ط و"النشر": وأجابا.

(2/451)


مَسَالك العِلَّة المسالك جمع مَسْلك، وهو في اللغة مكان السُّلوك أي المرور، وفي الاصطلاح عرفه المؤلف بقوله: 681 - ومسلكُ العِلّةِ ما دلَّ على ... عِلِّيَّة الشيء متى ما حَصَلا يعني أن مسلك العلة في الاصطلاح هو: ما دلَّ على كون هذا الشيء علة لهذا الحكم حيثما كان هذا الشيء بناءً على اشتراط الاطراد في العلة، وسيأتي تحقيقه إن شاء اللَّه في أول القوادح في الكلام على النقض، قال المؤلف في "الشرح" (1): "ويصح أن يكن قوله: "متى ما حصلا" قيدًا في المسلك، والمعنى أن مسلك العلة حيثما كان هو ما يدل على كون الشيء علة لا ما لا يدل". 682 - الاجماعُ فالنصُّ الصريحُ مِثْلُ ... لعلَّةٍ فسببٍ فَيَتْلو 683 - من أجلِ ذا فنحو كَي إذًا. . . ... . . . . . . . . . . هذا شروع من المصنف في بيان المسالك، فقوله: "الإجماع" يعني أن من مسالك العلة الإجماعَ على أن الوصفَ الفلانيَّ هو العلة كالإجماع على أن العلة في حديث "الصحيحين": "لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان" (2) تشويش الغضب للفكر لأنه يؤدي إلى الميل عن الحق، ولما كان مدارُ النهي على تشويش الفكر علمنا أن الغضب اليسير __________ (1) (2/ 148). (2) تقدم تخريجه قريبًا.

(2/452)


الذي لا يشوش لا يمنع من القضاء، وأن التشويش بغير الغضب مانع من القضاء أيضًا كما تقدَّم في شرح قوله: "وقد تُخصِّصُ وقد تُعمِّمُ" (1). وقوله: "فالنصُّ الصريح" يعني أن المسلك الثاني هو النَّصُّ، وظاهر كلامه أن النصَّ بعد الإجماع، لأن العطف بالفاء أو بثُمَّ فيه إشارة إلى أن ما بعده دون ما قبله في القوة فيقدم عليه عند التعارضِ. ثم مثَّل للنصّ الصريح في العلة بقوله: "مثل لعلة فسببٍ" فأقوى صُوَره: "افعل كذا لعلة كذا" فيلي ذلك: "افعله لسبب كذا"، وأسقط بعضُ الأصوليين هذين المثالين إذ لا يكادان يُوجدَانِ في الكتاب والسنة. فيلي ما ذكر: "مِن أجل ذا" كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة/ 32]. وفي مرتبته: "لأجل ذا" كحديث: "إنما جُعِل الاستئذان لأجل البصر" (2)، وهذا ماده بقوله: "فيتلو من أجل ذا". فيلي ما ذكر نحو: "كيْ" و"إذًا" وهما في مرتبة واحدة، كقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر/ 7]، وقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء/ 75]. فإن قيل: كيف عدّ المؤلف "كيْ" من الصريح في التعليل مع أنها تكون مصدرية، والمحتمل لغير التعليل ليس صريحًا في التعليل به. __________ (1) البيت رقم (677). (2) أخرجه البخاري رقم (6241)، ومسلم رقم (2156) من حديث سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه-. بلفظ: (. . . من أجل. . .). ولفظ: (لأجل البصر) لم أجده وإن ذكره الغزالي وابن أمير حاج وعزاه الأخير لابن أبي شيبة ولم أجده.

(2/453)


قلنا: أجاب بعضهم عن هذا بأن "كيْ" المصدرية تلزمها لام التعليل ظاهرة أَو مقدرة فهي مؤكدة للام التعليل، فلم تخرج عن كونها للتعليل با لأصالة أو بالتوكيد، وفي الحقيقة مدخول "كي" الذي هو الفعل باعتبار ما تضمنته من المصدرية منتفيًا أو مثبتًا هو العلة. قلت: الظاهر عندي ما قاله زكريا الأنصاري (1) من أن محل كونها للتعليل إذا لم تكن مصدرية، وعليه فعدها من الصريح فيه ما فيه. . . . . . . . . . . . . فما ... ظهرَ لامٌ ثمَّتَ البا عُلِمَا 684 - فالفاءُ للشارع فالفقيهِ ... فغيرِه يُتْبعُ بالشبيهِ يعني أن النصَّ غير الصريح وهو النصُّ الظاهر يلي النصَّ الصريح، فقوله: "فما ظهر" يعني فيلي النصَّ الصريح ما ظهر، أي النصُّ الظاهر، ثم ذكر صِيَغَه بقوله: "لامٌ" "فما" الموصولة مبتدأ "وظهر" صلتها، و"لام" خبر المبتدأ، يعني أن النصَّ الظاهر أي غير الصريح أقوى مراتبه "اللّامُ" كقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم/ 1]. واللّام المقدرة كالمذكورة نحوُ: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)} [القلم] أي لأن كان، ويطَّرِد جواز حدفِ لام التعليل قبل أنْ وأنّ المصدريتين كما أشار له في "الخلاصة" بقوله: نقلًا وفي أنَّ وأنْ يطَّرِدُ ... معْ أمْنِ لبسٍ كعجبتُ أن يَدُوا ثم يلي "اللّامَ" في الظهور "الباءُ" كقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا __________ (1) في "غاية الوصول": (ص/ 119).

(2/454)


حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء/ 160] وهو مراده بقوله: "ثمّت البا"، ثم تلي "الباءَ" "الفاءُ"، وتُقدَّم في كلام الشارع من كتاب أو سنة سواء كان في الحكم كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38]، أو في الوصف المعلّلِ به كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في المحرم الذي وقَصَتْهُ دابته فمات: "لا تُمِسُّوه طيبًا ولا تخمِّروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا" (1). فيلي ما ذكر "الفاء" في كلام الراوي الفقيه كقول عمران بن حصين رضي اللَّه عنه: "سهى -صلى اللَّه عليه وسلم- فسجد" (2). فيليه "الفاء" في كلام الراوي غير الفقيه. وقوله: "يتبع بالشبيه" يعني أنه يتبع ذلك المذكور بكل ما يشابهه في كونه ظاهرًا في العلة نحوُ: "إنْ"، و"إذْ" ونحوِ ذلك، كقوله: {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ} [نوح/ 26 - 27]، وكقولك: "اضرب العبدَ إذْ أساء"، وقوله: "يُتبع" مبني للمفعول، وقوله: "فالفاءُ" بالرفع __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1268)، ومسلم رقم (1206) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (2) أصله في مسلم رقم (574)، وابن ماجه رقم (1215) بغير هذا اللفظ، وأخرجه بلفظه أبو داود رقم (1039)، والترمذي رقم (365)، والنسائي: (3/ 26)، وغيرهم، وفيه زيادة: (فتشهد فسلم). قال الترمذي: حسن غريب صحيح. وصححه الحاكم. قال الحافظ في "فتح الباري": (3/ 98): (وقال ابن حبان ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث انتهى، وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحافظ عن ابن سيرين فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد. . .) اهـ.

(2/455)


عطفًا على الضمير المرفوع في قوله: "عُلِم" من غير فاصل على حدِّ قوله: قلت إذا أقبلت وزهرٌ تهادى ... كنعاج الغلا تعسَّفْن رمْلًا (1) 685 - والثالثُ الإيما اقْتِرانُ الوصفِ ... بالحُكم ملفوظيْن دونَ خلْفِ 686 - وذلكَ الوصفُ أو النظيرُ ... قِرانُه لغيرها يَضيرُ يعني أن المسلك الثالث من مسالك العلة هو الإيماء، وعرَّف الإيماءَ بأنه اقتران الوصف أو نظيرِه بالحكم أو نظيره على وجهٍ لو لم يكن الوصف أو نظيره فيه علة للحكم أو نظيره لكان ذلك مُخِلًّا بالفصاحة، وإخلالُه بالفصاحة هو مراده بقوله: "قرانه لغيرها يضير". وأمثلة اقتران الوصف بالحكم ستأتي في الأبيات التي بعد هذا. ومثال اقتران نظير الحكم بنظير الوصف: حديث ابن عباس عند البخاري (2) والنسائي (3) أن امرأة قالت: يا رسول اللَّه إن أمِّي ماتت وعليها نذر حج أفأحج عنها؟ قال: "أرأيتِ لو كان على أُمِّك دينٌ أكنت قاضيته"؟ قالت: نعم، قال: "فحُجِّي عن أمك فاللَّه أحق بالقضاء". فالمرأةُ سألت عن دَين اللَّه على الميت فذكر لها رسول اللَّه نظيرَ الحكم المسؤول عنه مقترنًا بنظير علة المسؤول عنه، فلو لم يكن جواز القضاء فيهما لكون الدَّين علة له لكان بعيدًا. فالنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الحديث نَبَّه على كون نظير الوصف علة لنظير __________ (1) تقدم تخريجه. (2) رقم (7315). (3) (6/ 119) بنحوه.

(2/456)


الحكم، كما نبه على أركان القياس الأربعة؛ فالأصلُ دَين العباد، والفرعُ دَين اللَّه تعالى، والحُكْم جواز القضاء، والعلة في الأصل والفرع كون كلٍّ منهما دينًا. وقول المؤلف: "دون خُلْف" يعني أن الوصف والحكم إذا كان مصرَّحًا بهما على الوجه الذي ذكرنا فإنه إيماء بلا خلاف، ومفهومه أنهما إن كانا غير ملفوظَيْن -أي كانا مستنبطَيْن- فليس من صور الإيماء، وإن كان أحدهما ملفوظًا والثاني مستنبطًا ففيهما ثلاثة أقوال؛ قيل: هو إيماء، وقيل: لا، وقيل: إن كان الملفوظ الوصف فهو إيماءٌ وإن كان الحكم فلا. مثال ذكر اللفظ واستنباط الحكم: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة/ 275] فإن حِلِّية البيع وصف ملفوظ يُستنبط منه حكم هو صحة البيع. ومثال ذكر الحكم دون الوصف: التنصيص على تحريم الربا في البُرِّ مثلًا فإنه حكم منصوص يستنبط منه الوصف وهو: الاقتيات والادِّخار على أحد الأقوال الماضية. 687 - كما إذا سمع وصفًا فحَكَمْ ... وذِكْرُهُ في الحُكْمِ وصفًا قد أَلَمْ 688 - إن لم يكن عِلَّتَه لم يُفِدِ ... ومنعه مما يُفيتُ. . . . . . . . . ذكر في هذه الأبيات أمثلة من أمثلة الإيماء: الأول: حكمه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد سماع وصفٍ، كما في حديث الأعرابيّ الذي قال: واقعت أهلي في نهار رمضان فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اعتق رقبة" (1). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (6087)، ومسلم رقم (1111) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(2/457)


فأَمْرُه بالعتق بعد ذِكر الوِقاع دليل على أن الوقاع علة العتق وإلا خلا السؤال عن الجواب وذلك بعيد. وهذا مراده بقوله: "كما إذا سمع وصفًا فحكم". الثاني: ذكره -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحكم وصفًا لم يصرِّح بأنه علة، لكن لو لم يكن ذلك الوصف علة لذلك الحكم لم يكن لذكره فائدة، مثاله: حديث: "لا يقضينَّ حَكَم بين اثنين وهو غضبان" (1)، فإنَّ الغضبَ المشوِّش للفكر المذكور في الحكم لو لم يكن علة المنع من القضاء لَمَا كان لذكره فائدة، وهذا هو مراده بقوله: "وذكره في الحكم. . " البيت. الثالث: منع الشارع المكلَّفَ من فعل يحصل به تفويت فعل آخر مطلوب منه كقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة/ 9]. فإنه يُفهم منه أن منع البيع وقتَ نداءِ الجمعة إنما هو أن البيع يفوِّت حضور الجمعة، فلو لم يكن لمظنة تفويتها لكان المنع بعيدًا، وهذا مراد المؤلف بقوله: "ومنعه مما يفيت". . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . استفد 689 - ترتيبه الحكمَ عليه. . . ... . . . . . . . . . أي استفد كون ترتيب الشارع الحكمَ على الوصف إيماءً نحو {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة/ 9] فترتيبه الحكم بالقتل على وصف الشرك لو لم يكن لأنه علته لكان بعيدًا. . . . . . . . واتَّضَحْ ... تفريقُ حُكْمينِ بوصفِ المُصْطلح 690 - أو غايةٍ شرطٍ أو استثناءِ. . . ... . . . . . . . . __________ (1) تقدم تخريجه.

(2/458)


يعني أن من أمثلة الإيماء تفريق الشارع بين حكمين بواحد من أربعة أمور: الأول: الوصف في اصطلاح أهل الأصول، وهو لفظ مُقَيِّد لآخر ليس بشرط ولا غاية ولا استثناء ولا استدراك، وسواء ذكر الوصف المفرق به مع كلا الحكمين أو أحدهما. مثال الأول: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَل للرَّجُل سَهمًا وللفرس سهمين (1). فتفريقه بين هذين الحكمين بهذين الوصفين لو لم يكن لعلية كلٍّ منهما لكان بعيدا، والمراد بالوصفين في هذا المثال مفهوم الفرس والرجل لا اسماهما، إذ لا مدخل للتسمية بمجرَّدها في التعليل كما تقدم. ومثال الثاني: حديث: "القاتل لا يرث" (2). أي بخلاف غيره المعلوم إرثه، فالتفريق بين عدم الإرث المذكور وبين الإرث المعلوم بصفة القتل لو لم يكن لِعِلّيته لعدم الإرث لكان بعيدًا. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (2863)، ومسلم رقم (1762) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (2) أخرجه الترمذي رقم (2109)، وابن ماجه رقم (2645)، والدارقطني: (4/ 96)، والبيهقي: (6/ 220) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. قال الترمذي: "هذا حديث لا يصح. لا يعرف إلا من هذا الوجه وإسحاق بن عبد اللَّه بن أبي فروة قد تركه بعض أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل. . . " اهـ. وله شاهد من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أخرجه الدارقطني: (4/ 96)، والبيهقي: (6/ 220). لكن فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وأبو رحمة لا يعرف. انظر: "البدر المنير": (7/ 227 - 229).

(2/459)


الثاني: الغاية، وقد تقدم تعريفها في قوله: "ومنه غاية عموم" إلخ أي فمن الإيماء تفريق الشارع بين حكمين بغايةٍ كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة/ 222] فتفريقه بين المنع من قُرْبانهن في الحيض وبين جوازه في الطهر لو لم يكن لأنَّ الطُّهر علة الجواز والحيض علة المنع لكان بعيدًا. الثالث: الشرط، وقد تقدم الكلام عليه في قول المؤلف: "ولازم من انعدام الشرط" إلخ، وقوله: "ومنه ما كان من الشرط" إلخ أي ومن الإيماء تفريق الشارع بين حُكمين بالشرط. ومثاله حديث: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثْلًا بمثْلٍ، سواء بسواء، يدًا بيدًا، فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (1) فتفريقه بين منع البيع في هذه الأشياء متفاضلًا، وبين جوازه بشرط اختلاف الجنس لو لم يكن لعلية الاختلاف لجواز البيع لكان بعيدًا. الرابع: الاستثناء، وقد تقدم الكلام عليه في قوله: "حروف الاستثناء" (2) إلخ أي: ومن الإيماء تفريق الشارع بين حكمين بالاستثناء. ومثاله قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة/ 237] أي الزوجات عن ذلك النصف فلا شيء لهن، فتفريقه بين ثبوت النصف لهن وبين انتفائه إذا عفون عنه لو لم يكن لأن العفو علة الانتفاء لكان بعيدًا. __________ (1) تقدم. (2) البيت رقم (394).

(2/460)


ولم يذكر المؤلف في البيت الاستدارك، وهو كالمذكورات. ومثاله: قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة/ 89]. فتفريقه بين عدم المؤاخذة بالأيمان وبين المؤاخذة بها حالةَ تعقيدها لو لم يكن لعلية التعقيد للمؤاخذة لكان بعيدًا، ومعنى التعقيد عقد نيتها بالقلب. واعلم أن صُوَر الإيماء لا تنحصر في هذه الأمثلة فقِسْ عليها ما شابهها من كل ما يشمله حد الإيماء المتقدم. . . . . . . . . . . . . ... تناسُبُ الوصفِ على البِنَاءِ يعني أن اشتراط المناسبة في الوصف المُوْمَى إليه مبنية على الخلاف المتقدم في العلة هل هي الباعث أو المعرِّف؟ فمق قال: هي الباعثة على تشريع الحكم اشترط المناسبة، ومن قال: هي المعرِّف للحكم لم يشترطها، هذا مراد المؤلف. وحجة عدم اشتراط المناسبة: أن المناسبة طريق مستقل، وهي المسلك الخامس الآتي، والإيماء مَسْلك مستقل فلا يتوقف أحدهما على الآخر. وحجة القول باشتراط المناسبة: أن الغالب من تصرفات الشرع أن يكون على وَفْق الحكمة فما لا مناسبة له لا يُعَلَّل به، واعترض عدم اشتراط المناسبة بما سبق من أن شروط الإلحاق بها اشتمالها على حكمةٍ تبعث المكلف على الامتثال، وتصلح شاهد الإناطة الحكم بها، وبما (1) سبق أيضًا من أن الوصف يستلزم الحكم. __________ (1) الأصل: ولما.

(2/461)


وأُجِيب بأن ما تقدم يُراد به اشتمالها على الحكمة المذكورة ولو احتمالًا أو مظنة، وإن كان قد لا يطلع على حكمته إذ لا تخلو علة من حكمة في الجملة كما تقدم، وبأن المراد هنا أنه [لا] يشترط مناسبة بحسب الظاهر وإلا فالمناسبة معتبرة في نفس الأمر قطعًا للاتفاق على امتناع خلو الأحكام عن الحكمة، وهذا هو الحق، خلافًا للعَضُد والمحلِّي (1) القائلَين بأن المناسبة في نفس الأمر لا تُشترط إلَّا على القول بأن العلة باعث لا مُعَرِّف، وإيَّاهما تَبعَ المؤلفُ كما بيَّنَه في "الشرح" (2). 691 - والسَّبْرِ والتقسيم قسمٌ رابعُ ... أن يَحصُرَ الأوصافَ فيه جامعُ 692 - ويُبْطلَ الذي لها لا يَصْلُحُ ... فما بقي تعيينُه مُتَّضِحُ يعني أن المسلك الرابع من مسالك العلة هو السَّبْر والتقسيم، والسَّبْر -بالفتح- لغةً: الاختبار، والتقسيم لغة: الافتراق. والمراد بالسَّبْر هنا: اختبار الصالحِ للعلة من الأوصاف وغيرِ الصالح لها، والتقسيم هنا: حصر جميع الأوصاف ليُسْبَر الصالحُ منها وغير الصالح. والأصلُ تقديم التقسيم لأنه قبل السبر ضرورة، وأخَّروه عنه في التسمية لأن السَّبر أهم، والعادةُ تقديم الأهم. أو لأن الكلَّ اسم لمَسْلَك واحد وهو مفرد فلا نَظَر فيه إلى ترتيب. ثم بيَّنَ المرادَ بهذا المسلك وأنه متركِّب من أمرين: الأول: حصر أوصاف المحل أي الأصل المقيس عليه بأن يجمعها كلها. __________ (1) في "شرح الجمع": (2/ 270). (2) (2/ 158).

(2/462)


الثاني: إبطال ما لا يصلح للتعليل. وحصرُ الأوصاف تارةً يكون عقليًّا كالحصر في الشيء ونقيضه إذ لا واسطة بين النقيضين، وتارة يكون بالاستقراء كما أشار له بقوله: "بحثتُ ثم بعد بحثي لم أجد"، وسيأتي قريبًا. وإبطال غير الصالح له طرق ذكرها المؤلف في قوله الآتي: "أبطل لما طردًا يُرَى". ومثا له: أن يقول المستدل: علةُ الربا إما أن تكون الاقتيات والادِّخار، أو الطَّعم، أو الكيل، أو المالية، فيبيّن بطلان علية غير الوصف الذي يدَّعي أنه العلة، فإذا أبطلَ غيرَه تعيَّن هو للعلة، وهو معنى قوله: "فما بقي تعيينه متضح". وحاصلُ التعليل بهذا المسلك: أن الحكمَ إذا أمكن أن يكون معلَّلًا لا يُجعل تعبدًا، وإذا أمكن إضافته للمناسب فلا يُضاف لغيره، وإذا لم يوجد مناسب إلا ما بقي بعد السبر فيجب كونه علة بهذه القواعد. وسُمِّي هذا المسلك بالسبر وحدَه وبالتقسيم وحدَه وبهما معًا وهو الأكثر. ويسميه الجدليون: الترديد والتقسيم، والمنطقيون: الشَّرْطي المنفصل، وهذا المسلك قسم من أقسامه فقط. 693 - مُعْتَرضُ الحصر في دَفْعِه يَرِدْ ... بحثْتُ ثم بعدَ بحثي لم أجدْ 694 - أو انْفِقادُ ما سواها الأصْلُ ... . . . . . . . . . . . . يعني أن المستدل إذا حصر أوصاف الأصل فاعتُرِضَ عليه الحصرُ بأن قال المعترِض: لِمَ تحصرُ أوصافَ الأصل فيما ذكرتَ؟ فإن معترض الحصر يدفعه المستدلُّ بأحدِ أمرين:

(2/463)


الأول: أن يقول: بحثتُ فلم أجد غير هذا، ولكن يُشترط في هذا أن يكون عدل الرواية لأن هذا إخبارٌ محض فيقبل من العدل دون غيره، وهذا مراده بقوله: "مُعْترض الحصر" البيت. الثاني: أن يقول: هذا ما وجدناه من الأوصاف في الأصل، والأصلُ "انفقاد" أيْ عَدَمُ ما سواه، وهو مراد المؤلف بقوله: "أو انفقاد" إلخ. وجملة "بحثت" فاعل "يَرِد" بفتح الياء على سبيل الحكاية. . . . . . . . . . . . . ... وليسَ في الحصر لظنٍّ حَظْلُ يعني أنه لا يمتنع أن يكون حصر الأوصاف ظنيًّا أي بأن يظن المجتهد حصرها فلا يلزم تيقن الحصر، هذا بالنسبة إلى المجتهد ومقلديه، وسيأتي حكم ذلك بالنسبة إلى المناظر في قوله: "حجية الظني" إلخ. 695 - وهو قطعيٌّ إذا ما نُمِيا ... للقطعِ والظَّنّي سِواهُ وُعِيا الضمير في قوله: "هو" عائد إلى مسلك السَّبْر، والألِف في قوله: "نُمِيا" ألف تثنية عائدة إلى الحصر والإبطال، والألف في قوله: "وُعِيا" ألف الإطلاق، وجملة "وُعِي" خبر المبتدأ، و"سواه" حالٌ مقدَّم من ضمير النائب في "وُعِي". ومعنى البيت: أن السَّبْر والتقسيم يكون قطعيًّا بشرطين: الأول: أن يكون حصر أوصاف الأصل قطعيًّا. الثاني: أن يكون إبطالُ غير الوصف المستبقى للتعليل قطعيًّا. زاد بعضُهم شرطًا ثالثًا وهو القطعُ بأن الأصل معلَّل لا تعبديٌّ، وحيث اختلَّ أحدُ الشرْطَين بأن كان الحصر والإبطال ظنِّيَيْن أو أحدهما ظنيًّا فالسبر والتقسيم ظنيٌّ، وهو مراده بقوله: "والظنيِّ

(2/464)


سواه" أيْ والظنّي وُعي أي حُفِظ وعُرِف حال كونه سوى القطعيِّ. 696 - حجيَّة الظنِّيِّ رأيُ الأكثرِ ... في حقِّ ناظرٍ وفي المُناظِر يعني أن الاحتجاج بالسبر والتقسيم الظني هو مذهب الأكثر واختاره من المالكية الباقلَّانِيُّ والفهريُّ (1). وحجته أن الحكم لا يخلو عن علة ظاهرة غالبًا، والغالب أنها لا تعدو أوصاف محلِّه، وإذا ظهر بطلان ما سوى المستَبْقى غلب على الظن أنه العلة، ومقابل قول المؤلف: "رأي الأكثر" تحته ثلاثة أقوال (2): الأول: أنه ليس بحجة مطلقًا لجواز إبطال الباقي لأنه غيرُ قطعي. الثاني: وبه قال إمام الحرمين (3) أنه حجة بشرط انعقاد الإجماع على أن حكم الأصل معلَّلٌ لا تعبدي. الثالث: أنه حجة للناظر لنفسه ومقلديه دون المناظر غيره لأن ظنَّه لا تقوم به الحجة على غيره. فإن قيل: ما جواب الأكثر عن هذا الأخير؟ فالجواب: هو ما ذكره ابن قاسم في "الآيات البينات" (4) من أن هذا من باب إقامة الدليل على الغير وإن لم يُفد إلا مجرَّد الظن لوجوب العمل بالدليل الظنِّيّ، ولا فرق في كون الظنِّيّ حجة بين الناظر لنفسه والمناظر لغيره. __________ (1) انظر "النشر": (2/ 161). (2) انظر "البحر المحيط": (5/ 225). (3) "البرهان": (2/ 536). (4) (4/ 84).

(2/465)


قلت: لا يتضح هذا الجواب كل الاتضاح إلا إذا كان السبر المذكور محتمًّا به من القرائن على صحة ما ذكره المستدل ما يغلب على ظنِّ المناظر المنصف صدقه بسببه، لأن ظنه المجرد من ذلك ليس فيه حجة على غيره ألبتة. 697 - إن يُبْدِ وَصْفًا زائدًا معترضٌ ... وفَى بِه دونَ البيان الغرَضُ يعني أن المعترض إذا أبدى -أي أظهر- وصفًا زائدًا على حصر المستدل وَفَى -أيْ حصل بإبدائه- غرضُ المعترض وهو ثبوت الاعتراض على المستدل، ولا يكلّف المعترض حينئذٍ أن يبين أنَّ الوصفَ الذي أبداه صالح للتعليل، لأن بطلان الحصر بإبدائه كافٍ في الاعتراض، ولكن على المستدل أن يدفعه بأن يبين أنه غيرُ صالح للتعليل ولا ينقطع بإبدائه إلا إذا عَجَز عن إبطال التعليل به، وذلك مراده بقوله: "دون البيان" أي وأما مع بيان إبطاله فلا يفي غرض المعترض به لبطلان التعليل به. 698 - وقطعُ ذي السَّبْر إذًا مُنْحَتِمُ ... والأمرُ في إِبطاله مُنْبَهِمُ الواو في قوله: "والأمر" للحال يعني أن قَطْع صاحب السبر، أي بطلان استدلاله مُنحتم إذا أبدى المعترضُ وصفًا زائدًا، والحال أن الأمر مُنبهم في صلاحيته للعلة أيْ لم تتبيَّن صلاحيته لها ولا عدمُها، وإيضاحه: أن الوصف الزائد على حصر المستدل الذي أبداه المعترض له ثلاث حالات: الأولى: أن يبيِّن مع إبداء الوصف صلاحيته للتعليل فينقطع المستدل أي يبطل دليله. الثانية: أن يبين المستدل عدم صلاحية وصف المعترض فيبقى دليلُهُ سالمًا كما تقدم في قوله: "دون البيان".

(2/466)


الثالثة: أن ينبهم الأمر فلا يبين المعترض صلاحيته ولا المستدل عدمها، فالسَّبر منتقض بذلك الوصف المنبهم لأن السبر مبني على أصلَيْن؛ وهما الحصر والإبطال، وزيا دة الوصف المذكور تهدم أحدهما وهو الحصر، وهذا مراد المؤلف بالبيت. 699 - أبطِلْ لِمَا طَرْدًا يُرَى. . . . ... . . . . . . . . . . . . تقدم في قول المؤلف: "ويبطل الذي لها لا يصلح" وبيّن هنا طرق الإبطال المذكور هناك فذكر أن منها كون الوصف طردًا (1) ويقال له: الطرديُّ أيضًا، والمراد به ما عُلِم من الشارع إلغاؤه وعدم إناطة الأحكام به، ويُعْلَم ذلك باستقراء موارد الشرع. واعلم أن الوصف الطردي قسمان: الأول: ما هو طردي في جميع الأحكام كالطول والقِصَر فلا يعلل بهما شيء من أحكام الشرع. الثاني: أن يكون طرديًّا في بعض الأحكام مع كونه معتبرًا في بعض آخر كالذكورة والأنوثة، فإنهما وصفان طرديَّان بالنسبة إلى العتق فلا يُعلل شيء من أحكام العتق بذكورة ولا أنوثة مع أنهما معتبران في بعض الأحكام كالميراث والشهادة ونحوِ ذلك، وقوله: "طردًا" مفعول ثان لـ "يُرَى" ومفعوله الأول هو الضمير النائب عن الفاعل. . . . . . . . . . ويبطُلُ ... غيرَ مناسبٍ له المُنْخَزِلُ __________ (1) الأصل: طرديًّا، والمثبت من "النشر"، وهو الأنسب بدليل ما بعده.

(2/467)


يعني أن من طُرق الإبطال أيضًا -بعد ثبوت حصر الأوصاف- عدم ظهور مناسبة الوصف المنخزل أي المحذوف، وهو الوصف الذي يريد المستدل إسقاطه ليتعين غيره للعلة، والمراد بمناسبة الوصف مناسبته للحكم بأن يشتمل على حِكْمةٍ كما تقدم، وإنما كان عدمُ المناسبة من طرق الإبطال لانتفاء مثبت (1) العلية. فإن قيل: تقدم في الإيماء أنه لا يُشترط فيه ظهور المناسبة عند الأكثر فما وجه اشتراطها في السبر دونه؟ فالجواب: أن السبر تعدَّدت فيه الأوصاف فاحتيج إلى بيان صلاحية بعضها للعلية بظهور المناسبة [فيه] فاشتراطه هنا لعارض (2). 700 - كذاكَ بالإلغا وإن قَدْ ناسَبا ... وبتعَدّي وصفِهِ الذي اجتَبَى ذكر في هذا البيت طريقين من طرق الإبطال أيضًا بعد ثبوت الحصر: الأولى: هي أن يكون الوصفُ مُلغًى وإن كان مناسبًا للحكم المتنازع فيه، ويتحقق الإلغاء بأن يستقل بالحكم الوصفُ المستبقَى دون غيره في صورة مجمعٍ عليها كما قاله الفهري. ومثاله: استقلالُ الطَّعم بالحكم الذي هو حرمة ربا الفضل في مِلء كف من القمح دون الكيل والاقتيات مثلًا، فإنّ مِلء الكفِّ لا يكال وليس فيه اقتيات في الغالب، ولكنه فيه الطعمية فاستقلت الطعمية بالحكم في مِلءِ الكف وأُلغي غيرها __________ (1) الأصل: مثبته. (2) انظر "النشر": (2/ 163).

(2/468)


كالكيل والاقتيات. الثاني: تعدي وصف المستدل الذي اختاره للتعليل وكون غيره من أوصاف المحل غيرُ معتدٍّ، لأن تعدية الحكم محله أكثر فائدة من قَصْره عليه فالمتعدِّي أرجحُ من القاصر. 701 - ثمَّ المناسبة والإخَاله ... من المسالكِ بلا استحاله 702 - ثم بتخريج المناطِ يشتهرْ ... تخريجُها وبعضهم لا يَعتبِرْ يعني أن المسلك الخامس من مسالك العلة هو المسمى بالمناسبة والإخالة، فالمناسبة في اللغة: الملاءمة والمقاربة، وسيأتي قريبًا تعريفها اصطلاحًا للمؤلف. وسُمِّي هذا المسلك مناسبةً لمناسبة الوصف المعلَّل به فيه للحكم كما يأتي، وسُمِّيت (1) إخالة لأن الناظر فيه يَخال -أي يظن- عِلِّيَّة الوصف. وهذا المسلك الذي هو المناسبة سمَّاه بعضُهم: تخريج المناط، والمناطُ العلةُ أي تخريج العلة واستنباطها، ولا مخالفة لأن المناسبة هي دليل العلة، واستخراجُها هو إقامة الدليل، وإضافةُ الحكمِ إِلى كلٍّ من الدليل وإقامته لا بأس فيها، وظاهر المؤلِّف أن المسمَّى بتخريج المناط هو تخريج المناسبة بما يأْتي، وقد عرفتَ أنه لا مانع من تسمية هذا المسلك بالمناسبة وبتخريج المناط. وقوله: "وبعضهم لا يعتبر" يعني به الظاهرية فإنهم أنكروا ثبوتَ __________ (1) يعني: مناسبة الوصف.

(2/469)


العلة بمسلك المناسبة. وقوله: "تخريجها" فاعل "يَشْتهِر" وقوله: "يَعْتبر" مبني للفاعل. 703 - وهو أن يُعَيِّنَ المجتهدُ ... لعلَّةِ بذكر ما سَيَرِدُ 704 - من التناسبِ الذي معْهُ اتضحْ ... تقارُنٌ والأمْر (1) ممّا قد قدَحْ يعني أن هذا المسلك الخامس الذي عبَّرَ عنه السبكي (2) بالمناسبة والإخالة، وعبر عنه ابن الحاجب بتخريج المناط (3)، هو تعيينُ المجتهد للعلة بالاستناد إلى ثلاثة أمور: الأول: إبداء المناسبة بين العلة المعينة والحكم. الثاني: الاقتران بين العلة والحكم في دليل الحكم، أعني ذكرهما فيه مُقْترنين. الثالث: سلامة الوصف المعين من قوادح العلية، الآتية في القوادح من هذا الكتاب إن شاء اللَّه. مثال المستوفي للشروط: الإسكار في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل مسكر حرام" (4) فإن الشارع لم يصرِّح بعلة هذا الحكم، والمجتهد يستخرج العلة بالمناسبة، لأن الإسكار وصفٌ مناسب للتحريم لأنه يزيل العقل، ودرء __________ (1) في بعض المطبوعات: والأمن. (2) في "الجمع": (2/ 273) وذكر أيضًا فيه أن استخراج المناسبة يسمى: تخريج المناط. (3) "المختصر": (3/ 110). (4) أخرجه البخاري رقم (4343)، ومسلم رقم (1733) من حديث أبي موسى -رضي اللَّه عنه-.

(2/470)


المفسدة متمَحِّض في منع ما يزيل العقل المطلوب حفظه، مع أن الإسكار الذي هو الوصف جاء في الحديث مقترنًا بالحكم الذي هو كونه حرامًا، وتعليل الحرمة بالإسكار سالم من جميع القوادح، فتمت فيه الأمور الثلاثة التي يُستخرج بها مسلك المناسبة. فإن قيل: سلامة الوصف من القوادح في العلية (1) شرطٌ في كل مسلك فما وجه ذكرها في خصوص هذا المسلك؟ فالجواب: أن السلامة من القوادح قَيْد في تسمية هذا المسلك بتخريج المناط أو المناسبة فهي جزء من تعريف هذا المسلك بحسب الواقع. وإيضاحه: أن السلامة من القوادح جزء من مسمى هذا المسلك، وهي بالنسبة إلى غيره من المسالك شرط خارج عن المسمى. واعلم أن الاقتران المذكورَ بين الوصف والحكم معتبر في كون الوصف المناسب علة لا في كونه مناسبًا، وقولنا فيما سبق بإبداء المناسبة للاحتراز من تعيين العلة بالطَّرْد أو الشَّبَه أو الدوران كما قاله ابن حلولو (2) في نظيره. فإن قيل: الحديث الذي مثَّلْتم به للمناسبة من أمثلة الإيماء، لأن الحكم فيه بالتحريم مرتَّب على وصف الإسكار، وقد قال المؤلف في صُوَرِ الإيماء: "ترتيبه الحكم عليه" إلخ. فالجواب: أن في الحديث المناسبة من الجهة التي ذكرنا، وفيه __________ (1) ط: العلة. (2) في "الضياء اللامع": (2/ 355).

(2/471)


أيضًا الإيماءُ من جهة ترتيب الحكم على الوصف، ويظهر الفرق بأنا لو فرضنا أنه لم تظهر فيه مناسبة لقيل فيه: مسلك الإيماء، لأن المناسبة فيه لا تُشترط عند الأكثر ولم يُقَلْ (1) فيه: مسلك المناسبة لعدم مناسبة الوصف للحكم. 705 - وواجبٌ تحقيقُ الاستقلالِ ... بنَفْي غيرِه من الأحوالِ يعني أنه لابد في مسلك المناسبة أن يحقق استقلال الوصف المناسب بالعلية، وتحقق ذلك إنما يكون بنفي غيره من الأحوال أي الأوصاف، وطريقة ذلك هي السَّبر بأن لا يوجد مثلُه ولا ما هو أولى منه، ولا يكفي هنا: "بحثتُ فلم أجد" أو "انفقاد ما سواه هو الأصل" بخلاف السبر كما تقدم؛ لأن المقصود في مسلك المناسبة هو إثبات الوصف الصَّالح للعلية، وفي السبر نفي ما لا يصلح للعلية من الأوصاف فظهر الفرق. قلت: يعْسُر جدًّا حقيقة الفرق بين الوصف الذي تعين للعلية بمسلك المناسبة وبين الوصف المستبقَى بالسبر لاسيما وقد قدَّمنا أن من طرق الإبطال عدم ظهور المناسبة كما في قول المؤلف: "ويبطل غير مناسب له المنخزل"، وفرَّق بينهما الأصفهاني شارح "المختصر" (2) لابن الحاجب، والزركشيُّ (3)، وزكريا الأنصاريُّ (4) بأن الوصفَ المستبقَى في السبر لا __________ (1) غير محررة في الأصل. (2) "بيان المختصر": (3/ 112). (3) "البحر المحيط": (5/ 207). (4) لعله في حاشيته على شرح المحلي.

(2/472)


يُدْرِك العقلُ من ترتيب الحكم عليه المصلحةَ الباعثةَ، بخلاف المناسبة، فإن العقلَ يُدْرِك فيها ذلك. قالوا: وعدم إدراك العقل لذلك لا يلزم منه خلوُّ تلك الأوصاف عن حكمة. وبحَثَ في هذا الجواب صاحب "الآيات البينات" (1)، ولا يظهر عندي هذا الجواب كلَّ الظهور لِمَا تقدم من أن عدم ظهور المناسبة من طرق الإبطال في السَّبْر. 706 - ثم المناسبُ الذي تَضَمَّنا ... تَرتُّبُ الحكم عليه ما اعْتَنى 707 - به الذي شَرَعَ من إبعادِ ... مفسدةٍ او جَلْبِ ذي سَدادِ يعني أن المناسب هو "الذي تضمن" أي استلزم ترتب الحكم عليه ما اعتنى به الشارع في شرع الأحكام من جلب المصلحة ودفع المفسدة، فمثال جلب المصلحة: وجوب الزكاة فإن علته سدُّ خلة الفقير، وهو جلب مصلحة. ومثال درء المفسدة: الإسكار فإنه علة لتحريم الخمر، والمنع منها يدرء مفسدةَ فساد العقل. والمصلحة هي المنافع واللذَّات ووسائلها، والمفسدة هي المضار والمشقَّات ووسائلها. وقول المؤلف: "ترتُّبُ" بالرفع فاعل "تضمَّن" ومفعول "تضمَّن" هو "ما" الموصولة في قوله: "ما اعتنى" و"الذي شَرَع" يعني به الشارع، والمراد "جلب ذي سداد" جلب المصلحة، وفي المناسبة أقوال أُخر غير هذا ذكرها صاحب "جمع الجوامع" (2). __________ (1) (4/ 127 - ط. دار الكتب). (2) (2/ 276 - 274).

(2/473)


708 - ويحصل القصدُ بشَرْع الحكمِ ... شكًّا وظنًّا وكذا بالجزمِ 709 - وقد يكونُ النفيُ فيه أرْجَحا ... كآيسٍ لقصدِ نسلٍ نَكَحا مرداه بـ "القصد" المقصود أي الحكمة التي هي المقصود من شرع الحكم، يعني أن الحكمة التي اشتملت عليها العلة بالنظر إلى حصولها بالفعل وعدم حصولها لها أربع حالات: الأولى: أن يجزم بحصولها كالملك لجواز التصرف. الثانية: أن يُظنَّ حصولها كالقصاص فإنه يحصل به غلبة الظن على وجود حكمته التي هي الانزجار عن القتل، إذ يغلب على الظن أن من عَرَف بأنه إذا قَتَل قُتِل لا يُقْدِم على القتل خوفًا من الموت. الثالثة: أن يكون حصول الحكمة مشكوكًا فيه كحد الخمر، فإنه يحتمل أن يحصل به الانزجار عنها خوفًا من الضرب والإقدام عليها، وهذا أمر تقريبيُّ لأن الإقدام عليها والإحجام عنها كلاهما يقع من غير ضبط لأكثرية أحدهما. الرابعة: أن يكون انتفاء الحكمة أرجح وأغلب على الظن، وهذا الأخير مَثَّل له المؤلف بقوله: "كآيسٍ لقصد نسلٍ نكحا" والمعنى أن من حصل له اليأس عادة من الولد جاز أن يتزوج بقصد حصول الولد مع أن عدم وجوده أرجح. وقوله: "كآيس" فيه القَلْب الصرفيُّ فصار الفاء مكان العين والعين مكان الفاء. وقوله: "النفي" يعني الانتفاءَ فهو مصدر نفى اللَّازمة بمعنى انتفى. 710 - بالطرفيْنِ في الأصَحِّ علَّلُوا ... فقصرُ مترفٍ عليه يُنْقَلُ

(2/474)


مراده بالطرفين: الأول من الأقسام الأربعة في النظم، والأخير والأول منها هو الشك المذكور في قوله: "شكًّا" والآخر منهما هو الوهم المذكور في قوله: "وقد يكون النفي فيه أرجحا" إلخ يعني أن الأصح عند أهل الأصول جواز التعليل بالوصف المناسب المشتمل على حكمة حاصلة من ترتيب الحكم عليه شكًّا أو وهمًا، وأما التعليل بالمظنون حصولها فيه والمجزوم به فجائز اتفاقًا. فإن قيل: إذا جاز التعليل بالأمور الأربعة المذكورة لم يبق شيء ألبتة، لأن كل وصف لابد أن تكون حكمته مجزومًا بها أو مظنونة أو مشكوكًا فيها أو موهومة. فالجواب: أن هذه الأربعة أقسامُ المناسب أي ما ظهرت مناسبته والعلةُ لا تنحصر فيه، وقد تكون فيما لم تظهر مناسبته كما تقدم في الإيماء وفيما لم يُطلع على حكمته. وقوله: "فقصر مترف" إلخ يعني أن قصر المترفِّه بسفره ينبني جوازه الذي هو المشهور على جواز التعليل بالطرفين، فعلى الأصح يجوز له القصر مع أن انتفاء الحكمة مظنون ووجودها مَوْهُوم، لأن الحكمة رفع المشقة وسَفَر الترفُّه لا مشقَّة فيه غالبًا، وقد تكون فيه احتمالًا، وإن قطع بنفي المشقة فقد تقدم في قوله: "وفي ثبوت الحكم عند الانتفا" إلخ. ومقابل الأصح هو القول بأنه لا يجوز التعليل بالأول لأن المقصود فيه الذي هو الحكمة مشكوك فيها، ولا بالرابع لرجحان عدمها فيه، وعليه فلا يجوز قَصْر المُتَرَفِّه بسفره.

(2/475)


711 - ثمَّ المناسِبُ عنيتُ الحكمه ... منه ضرُورِيٌّ وجا تتمَّه 712 - بينهما ما ينتمي للحاجي ... وقدِّم القويَّ في الرَّواج يعني أن المناسب بمعنى الحكمة ثلاثة أقسام، وإن شئت قلت: الوصف المناسب باعتبار الحكمة ثلاثة أقسام وهي: الضروري، والحاجيُّ، والتتميميُّ ويُسَمَّى التحسينيَّ وستأتي أمثلتها. قوله: "وجا" مقصور للوزن، وقوله: "تتمة" يعني تتميمًا. والضروري: ما كان حفظه سببًا للسَّلامة من هلاك بَدَن أو دين. والحاجيُّ هو: ما يحتاج إليه ولم يصل إلى حد الضروري. والتتميميُّ الذي هو التحسينيُّ هو: الجَرْي على مكارم الأخلاق واتباعُ أحسن المناهج في العادات. وقوله: "ما ينتمي" مبتدأ خبره "بينهما"، والمعنى أن الحاجيَّ مرتبة بين الضروري والتتميميّ، و"الرواج" الاعتبار. وقوله: "وقدِّم القويَّ" أي عند تعارض الأقيسة قدِّم القوي في الاعتبار من هذه الثلاثة فيقدَّم المناسب الضروري ثم المناسب الحاجيّ ثم المناسب التتميميُّ. 713 - دِينٌ فَنفْسٌ ثم عَقْلٌ نَسَبُ ... مالٌ إلى ضرورةٍ تنتسبُ 714 - ورتِّبَنْ ولتعطفَنْ مُساويًا ... عِرْضًا على المالِ تكُنْ موافيًا 715 - فحفظها حتمٌ على الإنسانِ ... في كلِّ شِرْعةٍ من الأديانِ يعني أن من الضروريات التي هي أصول المصالح: حِفْظ الدين، وهو الحكمة المقصودة من قتل المرتد والزنديق والكافر. وحفظ النفس، وهو الحكمة المقصودة من شَرْع القصاص. وحفظ العقل، وهو الحكمة

(2/476)


المقصودة من شَرْع حدِّ الخمر. وحفظ النَّسَب، وهو الحكمة المقصودة من شَرْع حدِّ الزنا. وحفظ المال، وهو الحكمة المقصودة من شرع حد السَّرقة. وحفظ العِرْض، وهو الحكمة المقصودة من شرع حدِّ القذف. وقوله: "ورتِّبن" يعني أنه عند التعارض يُقَدَّم حفظ الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسب، و"لتعطفن مساويًا" إلخ يعني أن حفظ المال وحفظ العرض في مرتبة واحدة هي آخر المراتب المذكورة، هذا مراد المؤلف. وفصَّل بعضُ العلماء فقال: أما الوقوع في العرض بما يؤدِّي إلى الشك في النسب فهو مقدَّم على المال، لأنه في مرتبة حفظ النسب، كقذفه له بأنه ابن زنى ونحو ذلك، والوقوعُ في العرض بغير ذلك دون المال. وقوله: "فحفظها حَتْم على الإنسان" إلخ يعني أن حفظ الضروريات المذكورة واجب على كلِّ إنسان مكلف في جميع الملَلِ السابقة، قال الجزائريّ: قد أجمعَ الأنبيا والرُّسْلُ قاطبةً ... على الديانة بالتوحيد في الملل وحفظِ نفسٍ ومالٍ مَعْهما نسبٌ ... وحفظِ عقلٍ وعِرضٍ غيرِ مبتذل والعِرض -بالكسر- النفس وجانب الرجل الذي يصونه ويدافع عنه من نفسِه وحسَبِه أن يُنْتَقص أو يُعاب سواءٌ كان في نفسه أو سلفه، وقيل: العِرض موضعَ المدح والذمِّ، وقيل: ما يفتخر به من حَسَب وشرفٍ، وقد يراد به الآباءُ والأجداد والخلائق المحمودة وغير ذلك. و"الحتمُ": اللازم، ومنه قوله تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا} [مريم/ 71]. 716 - ألحِقْ به ما كان ذا تكميلِ ... كالحدِّ فيما يُسكر القليلِ

(2/477)


الضمير في قوله: "به" عائد إلى الضروري. وقوله: "القليل" نعت لـ"ما" المجرورة بـ "في"، يعني أن الضروري يلحق به مكمِّله في مرتبته، ومَثَّل لمكمِّل الضروريّ بوجوب الحدِّ في شرب القليل الذي لا يسكر لقلته من جنس ما هو مسكر كالخمر، فالوصفُ المناسبُ في هذا المثال كون القليل يدعو إلى الكثير. والحكمُ الحدُّ المرتَّب على القليل، والمقصود الحفظ مما يدعو إلى ذلك الكثير، وهذا الحفظ مكمِّل لحفظ العقل أي مؤكِّد له ومبالغ فيه. 717 - وهو حلالٌ في شرائع الرسلْ ... غير الذي نسخ شرعَه السُّبُلْ الضمير في قوله: "هو" راجع إلى القليل مما يُسكر جنسه، يعني أن القليل من المسكر الذي لا يسكر لقلته كان مباحًا في جميع الشرائع، فنُسِخ جوازُه في شريعة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- مبالغةً في حفظ العقول، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلُّ ما أسْكَرَ كثيرُه فقليلُه حرام" (1). __________ (1) أخرجه أحمد: (11/ 256 رقم 6674)، والنسائي: (8/ 300)، وابن ماجه رقم (3394) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظه. وأخرجه أحمد (23/ 51 رقم 14703)، أبو داود رقم (3673)، والترمذي رقم (1865)، وابن ماجه رقم (3393) وغيرهم من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما- بلفظ: "ما أسكر كثيره فالفرق منه حرام". قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث جابر". وله شواهد من حديث ابن عمر وعائشة وسعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنهم-. انظر "البدر المنير": (8/ 701 - 705)، و"نصب الراية": (4/ 301).

(2/478)


718 - أباحَها في أوَّلِ الإسلام ... براءةٌ ليست من الأحكام الضمير في قوله: "أباحها" للخمر، والبيتُ جوابٌ عن اعتراض النووي على الأصوليين في قولهم: إن الضروريات محرمة في جميع شرائع الرسل، ووَجْه اعتراض النووي: أن الخمرَ كانت مباحة في أول الإسلام. ووَجْه جواب المؤلف عن هذا الاعتراض: أن إباحتها الأولى إباحة عقلية، والإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخًا كما تقدم في قول المؤلف: "وما من الإباحة العقليه" (1) إلخ. هكذا ذكر المؤلف (2) هذا الجواب تبعًا لأبي إسحاق الشاطبي (3) وغيره، ويظهر لي أن هذا الجواب غيرُ سديد لأن الخمر دلَّ النصُّ القرآنيُّ على إباحتها في أول الإسلام، وما دلَّ عليه القرآن لا يمكن أن يكون إباحة عقلية، والآية التي دلت على إباحتها قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل/ 67] الآية اللهم إلا على القول بأن السَّكَر الطُّعْم كما اختاره ابن جرير، أو الخلَّ كما قاله أبو عبيدة (4) = فيتجه ما قاله المؤلف، وقوله: "براءةٌ" فاعل "أباحها" ولحَذْف التاء من الفعل __________ (1) البيت رقم (33). والبيت: الأصلية، بدلًا من: العقلية. (2) في "النشر": (2/ 175). (3) انظر "الموافقات": (1/ 275). (4) كذا وقع عند المؤلف في نسبة القولين! ولعله سبق قلم، فما نسبه لابن جرير هو قول أبي عبيدة، وما نسبه لأبي عبيدة هو قول ابن جرير. انظر "جامع البيان": (14/ 284)، و"مجاز القرآن": (1/ 363).

(2/479)


مسوغان: الفَصْل، وأن التأنيث غير حقيقيٍّ. 719 - والبيعُ فالإجارةُ الحاجِيُّ ... خيارُ بيعٍ لاحقٌ جليُّ يعني أن الحاجِيَّ كالحكمة المقصودة من شَرْع البيع والإجارة وهي الملك للذات في البيع، والمنفعة في الإجارة، والحُكْم هو جوازهما، والعلة الاحتياج إلى المعارضة، وقد يكون البيع والإجارة ضروريين، فالبيع الضروري كالذي يتوقف عليه سلامة البدن من الهلاك، والإجارة الضرورية كالإجارة لتربية الطفل. واختلف المالكية في النكاح هل هو ضروري بناءً على أنه قوت أو حاجيّ بناءً على أنه تفكُّهٌ. وقوله: "خيار بيع" إلخ يعني أنه يلحق أيضًا بالحاجيّ مكمِّله فيكون في رتبته، فالحاجيُّ مثلًا البيع ومكمِّله اللّاحق به في رتبته خيار التروِّي لأنه يكمل به الملك لدفعه الغبن، ومن مُكَمِّل الحاجيّ اعتبار الكفاءة في النكاح، ومهر المثل في الصغيرة فإنهما داعيان إلى دوام النكاح، ومنه اغتفار الغَرَر اليسير للحاجة. وقول المؤلف: "الحاجيّ" مبتدأ خبره "البيع" و"الإجارة" معطوف عليه، وقوله: "خيار" مبتدأ و"لاحق" خبره، و"جلي" نعت الخبر. 720 - وما يُتمِّمُ لدَى الحُذَّاقِ ... حَتٌّ على مكارمِ الأخلاقِ يعني أن الحكمة المسمَّاة بالتحسينيّ والتَّتْمِيميّ هي ما كان فيه حث على مكارم الأخلاق واتباع أحسن المناهج، وسُميت تتمة لأنها مُتَمِّمة للمصالح. 721 - منهُ موافقٌ أصولَ المَذْهَب ... كسَلْبِ الأَعْبُدِ شريفَ المنْصِب

(2/480)


يعني أن التتميمىَّ قسمان: قسم موافق أصول المذهب أي قواعده وقسم مخالف لها. الأول: "كسلب الأعْبُد" أي العبيد، "شريفَ المنصب" أي المناصب الشريفة كأهلية الشهادة والقضاء والإمامة وولاية النكاح لنقصهم بالرق فان ذلك يحصل به المقصود الذي هو الجَرْي على محاسن العادات، والمراد بالمنْصِب الرتبة وهو كمَجْلِس، وأصله حديدٌ ينصب عليه القدر. 722 - وحُرْمَةِ القذر والإنفاقِ ... عَلَى الأقاربِ ذوي الإمْلاقِ "حرمةِ" بالجر عطفًا على قوله: "كسلب"، و"الإنفاق" عطف على "حرمة" يعني أن من التتمِيميِّ الموافق لقواعد المذهب تحريم بيع النجاسات لعدم طهارتها، والمقصودُ الجَرْي على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات لأن بيع ذلك يستلزم ملامسته بالكيل والوزن ونحو ذلك وذلك غيرُ لائق. ومنه أيضًا: وجوب الإنفاق على الأقارب الفقراء لأجل قرابتهم، فيحصل الجَرْي على ما ذكر من مكارم الأخلاق. ومن التحسينيّ: العتق بغير عِوَض. وقوله: "ذوي" بمعنى أصحاب، و"الإملاق" الفقر. 723 - وما يُعارضُ كتابةٌ سَلَمْ ... ونَحْوُهُ وأكْلُ ما صيدَ يُؤمْ قوله: "وما يعارض" عَطْف على قوله: "منه موافق" يعني أن التتميميَّ منه موافق أصول المذهب -كما تقدم- ومنه ما يعارض أصولَ المذهب أيْ لا يوافقها، ومَثَّل له المؤلف بالكتابة والسَّلَم ونحوه وأكل الصيد. أمَّا وجه مخالفة الكتابة للأصول فهو امتناع بيع الشخص بعضَ ماله ببعضٍ؛ لأن العبد ومالَه كليهما للسيد بناءً على أن العبد لا يملك، مع أن

(2/481)


الصحيحَ في مذهب مالك أن ما يؤديه المكاتب من جنس الغَلَّة لا البيع. وأما وجه مخالفة السَّلَم للقواعد فلأنه بيع ما ليس عند الإنسان. وقول المؤلف: "نحوه" يشير إلى أن ما فيه غَرَر من العقود المباحة شرعًا كالمساقاة والقِراض والمغارسة والجَعالة وبيع الغائب من التتميميات المخالفة للقواعد. ووجه مخالفة أكل الصيد هو: عدم تسهيل الموت على الحيوانات وبقاء الفضلات فيه إذا قتله الجارح ككلب أو باز. ووجه كون هذه الأمور من التتميميات: أن الكتابة فيها الجَرْي على مكارم الأخلاق من تكريم بني آدم برفع (1) الرقِّ. وفي السَّلَم وأكل الصيد: أن بعض الناس ربما احتاج إلى ذلك في معاشه فجُعِل ذلك شرعًا عامًّا لعدم الانضباط في مقادير الحاجات، قاله القرافي في "شرح التنقيح" (2). قلت: هكذا قالوا، والظاهر أنه لا ينبغي أن يُقال في شيء نزل به القرآن وجاءت به السنة الصحيحة أنه مخالف للأصول إذ لا أصل أكبر من الكتاب والسنة (3). 724 - من المُناسِبِ مؤثِّرٌ ذُكِرْ ... بالنَّصِّ والإجماعِ نوعُه اعتبِرْ 725 - في النوعِ للحُكْم. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . __________ (1) ط: وبرفع. (2) (ص/ 392 - 393). (3) وهذا ما نصره جمع من المحققين، انظر "قاعدة في الاستحسان - جامع المسائل": (2/ 206 - فما بعدها) لابن تيمية.

(2/482)


هذا تقسيم آخر للمناسب قسَّمه المؤلف فيه إلى أربعة أقسام مؤثِّر، وملائم، وغريب، ومرسل، وبدأ بالمؤثِّر -وهو بكسر الثاء بصيغة اسم الفاعل- وفسَّرَه المؤلف بقوله: "بالنصِّ والإجماع نوعه اعتُبِر في النوع للحكم" يعني أن الوصفَ المناسب المؤثِّر هو ما اعتبر الشرع فيه عينَ الوصف أي نوعه، في عين الحكم أي نوعه، وكان اعتباره فيه بنص أو إجماع. مثال اعتباره فيه بالنصِّ: تعليل نقض الوضوء بمسِّ الذَّكر فإنه مستفاد من الربط بين الشرط والجزاء في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من مسَّ ذكره فليتوضأ" (1) عند القائل بنقض الوضوء بمسِّ الذكر. ومثال اعتباره فيه بالإجماع [تعليل] ولاية المال على الصغير بالصِّغَر فإنه مُجْمع عليه، وإنما سُمِّي هذا المناسب مؤثِّرًا لظهور تأثيره بما اعتبره الشرع به من نصٍّ أو إجماعٍ. قوله: "مؤثِّر" خبره "من المناسب"، وقوله: "نوعه" مبتدأ خبره جملة "اعْتُبِر" بالبناء للمفعول. __________ (1) أخرجه مالك في "الموطأ" رقم (100)، وأحمد: (45/ 265 رقم 27293)، وأبو داود: رقم (181)، والترمذي رقم (82)، والنسائي: (1/ 100)، وابن ماجه رقم (479)، وابن خزيمة رقم (33)، وابن حبان "الإحسان" رقم (1112)، والحاكم: (1/ 137) وغيرهم من حديث بسرة بنت صفوان -رضي اللَّه عنها-. قال البخاري: "إنه أصح شيء في الباب"، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "حديث صحيح ثابت على شرط البخاري ومسلم". وصححه أحمد والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وعبد الحق وابن الجوزي وغيرهم. انظر "نصب الراية": (1/ 54 - 56)، و"البدر المنير": (2/ 451 - 465).

(2/483)


وإن لم يُعْتَبرْ ... بِذَينِ بل ترتُّبُ الحكم ظهرْ 726 - على وِفاقِه فذا المُلائم ... . . . . . . . . . . . . . يعني أنه إن لم يعتبر الشرع نوعَ الوصف في نوع الحكم بنص ولا إجماع بل اعتبر عين الوصف في عين الحكم أي نوعه في نوعه بأمر آخر غير النصِّ والإجماع، ذلك الأمر هو ترتب الحكم على وَفْق الوصف، وإيضاحه: أن المراد بترتُّب الحكم على وَفْق الوصف ثبوت الوصف مع الحكم في محل النصِّ بأن كانا مقترنين في نص الحكم، وهذا مراد المؤلف بقوله: "بل ترتب الحكم ظهر على وفاقه" فهذا الوصف المذكور هو الملائم، وسمِّيَ ملائمًا لملاءمته للحكم، ثم بين المؤلف أقسامه الثلاثة وترتيبها بقوله: . . . . . . . . . . . . . . . ... أقواه ما ذَكَر قبلُ القاسمُ 727 - من اعتبار النوع في الجنس ومِنْ ... عكسٍ ومن جنسٍ بآخرٍ زُكِنْ يعني أن أقسام الملائم ثلاثة، أقواها ما يذكره القاسم أي الأصولي الذي يريد تقسيم الملائم. وقوله: "قبلُ" أيْ أولًا، فالقسم الأول أقوى من الثاني، والثاني أقوى من الثالث. وأشار المؤلف لأولها بقوله: "من اعتبار النوع في الجنس" أي نوع الوصف في جنس الحكم. مثاله: تعليل ولاية النكاح على الصغيرة التي هي الحكم بالصغر الذي هو الوصف، وقيل: علةُ الولايةِ البكارةُ، وقد اعْتُبِر عين الصغر في جنس الولاية حيث اعْتُبِر في ولاية المال بالإجماعِ لأن الإجماعَ على اعتباره في ولاية المال إجماعٌ على اعتباره في جنس الولايةَ الصادق بولاية النكاح والمال، فهذا

(2/484)


المثال اعْتُبِر فيه عينُ الوصف بسبب ترتيب الحكم على وَفْق الوصف بلا نصٍّ ولا إجماع على اعتبار العين في العين، وإنما كان الإجماع على اعتبار الصغر في ولاية المال إجماعًا على اعتباره في جنس الولاية، لأنهم نظروا إلى مجرد تعليل الولاية بالصغر مع قطع النظر عن المال، إذ لو كان خصوص المال ملحوظًا في المعلول لم ينهض هذا حجة على اعتبار الصغر في ولاية النكاح قاله شهابُ الدين عميرة (1). وأشارَ المؤلفُ للثاني منها بقوله: "ومن عَكَس" أي عَكَس القسم الأول والمراد بذلك العكس هو اعتبار العين في العين بترتيب الحكم على وَفْق الوصف حيث ثبت معه، والحالُ أن الشارع اعتبر جنس الوصف في عين الحكم. مثاله: تعليل جواز الجمع في الحَضَر ليلة المطر بالحَرَج الحاصل من المطر، وقد اعْتُبِر جنس الحرج في عين جواز الجمع في السَّفَر بالنصِّ. وأشار للثالث منها بقوله: "ومن جنس" إلخ والمراد به اعتبار العين في العين بترتيب الحكم على وَفْق الوصف حيث ثبت معه، والحالُ أن الشارع قد اعتبر جنسَ الوصف في جنس الحكم. ومثاله: اعتبار جنس الوصف الذي هو الجناية في جنس الحكم الذي هو مطلق القصاص في __________ (1) لعله في حاشيته على "شرح المحلي"، ونقله الناظم في "النشر": (2/ 179). وشهاب الدين عميرة هو: أحمد البُرُلُّسي المصري الشافعي (ت: 957 هـ)، ترجمته في "الكواكب السائرة": (2/ 120)، و"الشذرات": (8/ 316)، و"الأعلام": (1/ 103).

(2/485)


قياس القتل بالمثقَّل على القتل بالمحدَّدِ، وإنما كانت الجناية جنسًا لصدقها على الجناية على الأنفس وعلى الأطراف، وإنما كان القصاص جنسًا لصدقه على ذلك أيضًا وقوله: "زُكِن" بمعنى عُلِم. 728 - أخصُّ حكمٍ منعُ مثلِ الخَمْرِ ... أو الوجوبُ لمضاهي العَصْر 729 - فمطلَقُ الحُكْمينِ بعدَه الطلَبْ ... وهُوَ بالتَخيير في الوضعِ اصطَحَبْ 730 - فكونُهُ حُكْمًا. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . يعني أن الحكم له أجناس منها عالٍ ومنها متوسط ومنها سافل، وأخَصُّ أجناسه أي أقربها كونه مثلًا تحريم الخمر أو إيجاب صلاة العصر مثلًا، وإنما كان هذا أخَصَّها لتعيينه وتعيين متعلقه، وهذا مراد المؤلف بقوله "أخصُّ حكمٍ" البيت. ثم يليه كونه مطلق إيجاب أو تحريم -مثلًا- كقول السّبكي (1): "فإن اقتضى الخطابُ الفعلَ اقتضاءً جازمًا فإيجاب إلخ. . ". وهو مراد المؤلف بقوله: "فمطلق الحكمين". ثم يلي هذا كونه طلبًا أو تخييرًا لأن الطلب شامل لطلب الفعل والكف، فيدخل فيه الواجب والمندوب والمكروه والحرام، والتخيير في مرتبته، وذلك مراده بقوله: "بعده الطلب وهو بالتخيير" إلخ. وآخر الأجناس وأعلاها: المرتبة التي بعد الطلب والتخيير، وهي كونه حكمًا كما تقدم في قول المؤلف: "خطاب ربي إن تعلق. . " إلى قوله: __________ (1) في "الجمع - مع حاشية البناني": (1/ 79 - 80).

(2/486)


"فذاك بالحكم" (1) إلخ. وقوله: "لمضاهي" أي مشابه العصر من الواجبات. . . . . . . . كما في الوصفِ ... مناسبٌ خصَّصه ذو العُرْف 731 - مصلحةٌ وضِدُّها بعد فما ... كَوْنُ محلِّها من الَّذْ عُلِما يعني أن أعمَّ أجناس الوصف وأبعدَها كونه وصفًا تُناط به الأحكام كما أن أبعد أجناس الحكم كونه حكمًا كما ذكره بقوله: "فكونه حكمًا"، وقوله: "مناسبٌ خَصَّصَه ذو العرف" يعني أن صاحبَ العرف الأصولِيّ حَكَم بأن الوصف المناسب أخصُّ من مطلق الوصف لصدق مُطْلَقه بغير المناسب، وقوله: "مصلحة وضدُّها بعدُ" يعني أن كون الوصف مصلحة أو ضدَّ مصلحة ككونه مفسدة أو مشقة "بعدُ" بالضم أي بعد المناسب، فكون الوصف مصلحة أو ضدّهَا أخصُّ من مطلق المناسب. وقوله: "فما كون محلها من الّذْ علما" يعني أنه يلي مرتبة المصلحة وضدَّها تعيين المصلحة بكونها حاجية أو تتميمية أو المفسدة بكونها ضرورية كالنفس والدين، وهذا معنى قوله: "فما كون ملحها من الَّذْ علما" وتسكين الذال لغة في الذي. 732 - فقدِّم الأخصَّ. . . . ... . . . . . . . . . . . . . قوله: "قدم" أمر يعني أنه يجب تقديم الأخصِّ من الأوصاف والأحكام، أعني الأقرب منها على الأعم الذي هو الأبعد. ومثاله: تقديم البنُوَّة على الأخوَّة، والأخُوَّة على العمومة في الميراث. ومن هنا قدَّم __________ (1) الأبيات (22، 23) ولفظها: "كلام ربي"، بدلًا من: خطاب. . .

(2/487)


المالكية ترك الصلاة بالثوب النجس على الصلاة بالحرير إن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا أو حريرًا؛ لأن النجس أخصُّ بالصلاة من الحرير؛ لأن الحرير ممنوع في غيرها، والنجس لا يُمْنَع إلا فيها، ولهذا قدَّموا أيضًا أكل الميتة على أكل الصيد للمُحْرِم لأن منعَ الصيد أخصُّ بالمحرم من منع الميتة. ومن فروع هذه القاعدة: ما تقدم من تقديم المؤثِّر على الملائم لأنه أخصُّ منه، وكذلك تقديم بعض أقسام الملائم على بعض لأن أخصها اعتبار نوع الوصف في جنس الحكم، ثم اعتبار (1) جنس الوصف في نوع الحكم. ثم اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم، وإنما قدم اعتبار الجنس في النوع كما تقدم لأن الإبهام في الوصف الذي هو العلة أكثر محذورًا منه في الحكم، لأن العلة تُعرِّفُ الحكم، فكلما كانت أخصَّ وأقرب كان الحكم أحرى بالظهور، وكلما كانت أبعدَ وأعمَّ بَعُدَ معلولها من الظهور بحسب بُعْدِها. . . . . . . . . والغريبُ ... ألغى اعتبارَهُ العَلي الرقيبُ يعني أن الوصفَ المناسب إذا دلَّ الدليل على إلغائه وعدم اعتباره فهو المسمَّى بالغريب، ومثاله: ما لو جامع المَلِكُ في نهار رمضان، فالوصف المناسب أن يُلْزَم بخصوص الصوم في الكفارة، لأن ألَمَ الجوع والعطش هو الذي يرْدَعُه عن انتهاك حرمة رمضان لسهولة بذل المال في العتق والإطعام على المَلِك في شهوة فرجه، لكنَّ الشارعَ أهدرَ هذا فجعل __________ (1) في ط زيادة: النوع في الجنس على اعتبار.

(2/488)


الناس سواءً في العتق والإطعام والصوم لا فرق في ذلك بين مَلِك وغيره. وربما قيل للغريب: طَرْدٌ وطَرْديٌّ، وعليه فالطردي قسمان. وإنما قيل للغريب: مناسب لأنه ملائم لأفعال العُقلاءِ عادة، وقد تُنفى عنه المناسبة بالنظر إلى أن الشارع ألغاها. 733 - والوصفُ حيثُ الاعتبارُ يُجْهَلُ ... فهو الاستصلاحُ قلْ والمرْسَلُ يعني أن الوصف المناسب إذا لم يدل دليل على اعتباره ولا على عدم اعتباره فهو المعروف بالاستصلاح والمرسل، ويسمَّى بالمصلحة المرسلة والمصالح المرسلة، فتحَصَّل أن الوصفَ المناسب له ثلاث حالات: الأولى: أن يدلَّ الدليلُ على اعتباره، وذلك هو المنقسم إلى مؤثِّر وملائم وقد تقدم. الثانية: أن يدلَّ على عدم اعتباره، وهو الغريب. الثالثة: أن لا يدل على اعتباره ولا على عدم اعتباره، وهو المرسل، وهو مراد المؤلف بالبيت. وسُمِّي [استصلاحًا] (1) ومصلحة لما فيه من المصلحة التي اشتمل عليها الوصف المناسب، وسُمِّيَ مرسلًا لإرساله أي إهماله عن دليل الاعتبار ودليل الإلغاء. والعمل بالمصالح المرسلة أصل من أصول الإمام مالك محتجًّا بإجماع الصحابة في مسائل كثيرة من المصالح المرسلة، وذكر بعض المحققين من المالكية أن كثيرًا من أتباع الأئمة شنعوا على مالك -كإمام __________ (1) الأصل: استصحابًا، والتصحيح من ط.

(2/489)


الحرمين (1) - في الأخذ بالمصالح المرسلة، مع أن كلَّهم يأخذ بها أكثر من المالكية وينكرون على المالكية (2). وأشار المؤلف إلى أن المالكية يعملون بالمصالح المرسلة بقوله: 734 - نقبلُه لعملِ الصحابه ... كالنَّقْطِ للمصحف والكتابَه 735 - توليةِ الصدِّيق للفاروقِ ... وهدمِ جار مسجدٍ للضيقِ 736 - وعملِ السِّكَّةِ تجديدِ النِّدا ... والسِّجن تدْوينُ الدّواوِينِ بدا قوله: "نقبله" يعني أن المالكية يجوِّزون العمل بالمرسل رعايةً للمصالح، ومن ذلك تجويز مالك لضرب المتهم بالسَّرقة لِيُقرَّ (3)، كما قال ابن عاصم في "التحفة": وإن تكن دعوى على من يُتَّهم ... فمالك بالسِجن والضربِ حَكَم وفي بعض روايات الإفك (4): أن عليًّا رضي اللَّه عنه ضرب بريرة لتصْدُق __________ (1) "البرهان": (2/ 721). (2) قال الزركشي في "البحر المحيط": (5/ 215): "والمشهور اختصاص المالكية بها -أي بالقول بالمصالح- وليس كذلك، فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك" اهـ. وهو قول القرافي والطوفي وغيرهما، انظر: "شرح مختصر الروضة": (3/ 210 - 213). (3) وذلك في من كان متهمًا معروفًا بذلك، ففي "تهذيب المدونة": (4/ 456): "ومن ادعى على رجل أنه سرقه لم أحلِّفه إلا أن يكون متهمًا يوصف بذلك، فإنه يحلِّف ويُهدَّد ويُسجن وإلا لم يُعرض له" اهـ. (4) قال الحافظ في "فتح الباري": (8/ 335): "في رواية هشام بن عروة: فانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي رواية أبي أويس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- =

(2/490)


في الخبر عن عائشة والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حاضر فلم ينكر، وهو دليل لمثل ذلك (1). وذكر المؤلف (2) أن مالكًا عمل بذلك لعمل الصحابة رضي اللَّه عنهم به من غير مخالف ولا نكير في ذلك، وذكر لذلك ثمانية أمثلة. الأول: نَقْط المصحف لأجل حفظه من التصحيف. الثاني: كتابته لأجل حفظه من الذهاب والنسيان. الثالث: تولية أبي بكر -رضي اللَّه عنه- لعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- رعايةً لمصلحة المسلمين لأنه أحق بها من غيره. والرابع: هدم ما جاور المسجد من الدُّور لتوسيع المسجد كما فعله عثمان وعمر. الخامس: عمل سكة يتعامل بها المسلمون لتسْهُل على الناس المعاملة كما فعله عمر. السادس: تجديد الأذان يوم الجمعة كما فعله عثمان -رضي اللَّه عنه- لكثرة الناس. السابع: اتخاذُ السِّجن -بالكسر- للمعاقبة بالسَّجن -بالفتح- فعله __________ = قال لعلي: شأنك بالجارية فسألها علي وتوعَّدها فلم تخبره إلا بخير، ثم ضربها وسألها فقالت: واللَّه ما علمت على عائشة سوءًا، وفي رواية ابن إسحاق: فقام إليها علي فضربها ضربًا شديدًا يقول: اصدقي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ووقع في رواية هشام: حتى أسقطوا لها به، يقال: أسقط الرجل في القول إذا أتى بكلام ساقط" اهـ. (1) انظر "الطرق الحكمية": (ص/ 13 - فما بعدها)، و"بدائع الفوائد": (3/ 1037، 1089 - 1091 - ط: عالم الفوائد). (2) في "النشر": (2/ 183).

(2/491)


عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فإنه اشترى من صفوان بن أمية دارًا في مكة واتخذها سجنًا، وسَجَن عمر -رضي اللَّه عنه- الحُطَيئة في الهجو، وسَجَن صَبيغًا لسؤاله عن المتشابه، وسَجَن عثمانُ -رضي اللَّه عنه- ضابئَ بنَ الحارث البُرْجُمِيَّ وهو من لصوص تميم حتى مات في السجن، وسَجَن عليٌّ بعضَ المجرمين بالكوفة. الثامن: تدوين الدواوين أي كتابة أسماء الجُند في ديوان. فإن هذه المسائل كلَّها لم يفعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منها شيئًا ولم يَرِد بها نصٌّ خاص من كتاب ولا سنة، وإنما فعلها الصحابة من غير مُنْكِر ولا مخالف، لأجل رعاية المصالح المرسلة فقط لأن المصالح المرسلة تشهد لها أصول الشرع من اعتباره لجلب المصالح ودرء المفاسد كما يأتي في كتاب الاستدلال، وأمثال هذا كثيرة، وقد ذكرنا الأمثلة الثمانية على حسب ترتيب النظم، وبذكرها يظهر معنى الأبيات، وكلها متعاطفة بالخفض إلا قوله: "تدوينُ الدواوين" فهو مبتدأ خبره جملة الفعل بعده أي بدا وظَهَر كونه من المصالح المرسلة. 737 - اخرِمْ مُناسبًا بمُفْسِد لَزِم ... للحُكم وهو غيرَ مرجوحٍ عُلِمْ يعني أن مناسبة الوصف تنخرم أي تبطل بمفسدةٍ ملازمة للحكم إذا كانت المفسدة غير مرجوحة، بل لابُدَّ في انخرام المناسَبَة بالمفسدة من كون المفسدة إما راجحة على مصلحة الحكم وإما مساوية لها، وإذا كانت كذلك امتنع التعليل بذلك الوصف المناسب، إذ لا مصلحة مع المفسدة الراجحة أو المساوية خلافًا للرازي في قوله ببقاء المناسبة، ولكنه موافق

(2/492)


على انتفاء الحكم بالمفسدة المذكورة، فهو عنده كوجود المانع من تأثير العلة (1)، وعلى الأول فالعلة منفية من أصلها بسبب المفسدة اللازمة لترتُّب الحكم عليها. ومن فروع هذه المسألة: فداء الأسارى المسلمين من أيدي الكفار بالسلاح حيث لم يرض الكفار في فدائهم غير السلاح، فإذا غَلَب على الظن أن السلاح إذا أُعْطِيَ في فدائهم للكفار تمكنوا به من أن يقتلوا من المؤمنين قدر الأسارى أو أكثر منهم فإن مصلحة الفداء تنخرم بمفسدة قوة شوكة الكفار التي هي سبب لمفسدة مساوية أو أرجح من المصلحة المذكورة. وقوله: "غيرَ" حال من الضمير النائب عن فاعل "عُلِم" المستتر أي علم هو أي المفسد حال كونه غير مرجوح. تنبيه: ومما يجب التنبيه (2) له في هذه المسألة: النظر في مآلات الأمور وعواقبها فلا يُحْكَم بإعمال المصالح المرسلة إلا بعد النظر التام في عواقب ما تؤولُ إليه تلك الأحكام؛ لأنه ربما ظهرت في الفعل مصلحة وهي تنطوي على مفاسد كامنة ستظهر بعد ذلك. * * * __________ (1) انظر: "النشر": (2/ 186). (2) ط: التنبه.

(2/493)


السّادس الشبه المراد بالشبه هنا هو الوصف المشتمل عليه المسلك لا نفس المسلك، فبذلك تعرف تعريف الشبه بأنه المسلك المشتمل على الوصف المعرَّف هنا المشار إليه بقوله: 738 - والشبَهُ المستلزَم المُناسِبا ... مِثْلُ الوضو يستلزمُ التقَرُّبا اعلم أولًا أن عبارات الأصوليين اختلفت في تعريف الشَّبَه، فعرَّفه البعضُ بأنه منزلة بين المناسب والطَّرْد، وبه صدَّر صاحب "جمع الجوامع" (1). وعرَّفه الباقلانيُّ بأنه هو المناسب بالتبع، وإياه تَبِعَ المؤلفُ. ومعنى البيت: أن الشبه المرادَ به الوصف: هو الوصف المستلزم للوصف المناسب للحكم بالذات لأنه إن لم يناسب بذاته ولم يستلزم المناسب فهو المسمَّى بالطرد المُلْغى إجماعًا، وإن كان مناسبًا بالذات فهو المناسب المتقدم، فظهر أن الشبه فوق الطَّرْد ودون المناسب، فهو يُشْبه الطردَ من جهة عدم المناسبة بالذات، ويُشبه المناسب من جهة استلزامه للمناسب بالذات. ومَثَّل له المؤلف بقوله: "مثل الوضو يستلزم التقربا"، ووجه المثال للمناسب (2) بالتبع بهذا: أنك لو قست الوضوء مثلًا على التيمُّمِ في __________ (1) (2/ 286). (2) ط: المناسب.

(2/494)


وجوب النية بجامع كونه طهارة، فإن الطهارة من حيث هي ليست مناسبة لاشتراط النية لعدم اشتراطها في طهارة الخبث، لكن الطهارة تستلزم وصفًا مناسبًا لاشتراط النية وهو كونها عبادة وقربة، والعبادة مناسبة لاشتراط النية بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة/ 5]. فإن قيل: إذا كان المناسب لاشتراط النية جهة العبادة فلِمَ لا تُشترط في طهارة الخبث لتحقق كونها عبادة أيضًا، إذ لا تكون إلا واجبة أو مندوبة، وكلا الواجب والمندوب عبادة؟ فالجواب: أن طهارة الخَبَث من حيث هي لا تتمحَّض للتَّعبد فقد تكون غير واجبة ولا مندوبة كإزالتك النجس عن أرضك دفعًا للاستقذار، بخلاف الوضوء مثلًا فإنه لا يكون إلا عبادة، ولا ينافي ذلك أن الإنسان قد يغسل أعضاءه لمجرد التنظيف، لأن غَسْلَها على الوجه الخاصِّ والترتيب الخاصِّ لا يكون إلا للتعبد. وقول المؤلف: "مثل الوضو" الظاهر أنه سهو منه رحمه اللَّه وأن الذي ينبغي أن يقال: "مثل التيمُّمِ" لأن الوضوء في مثاله هو الفرع المقيس. فإن قلت: قياس الوضوء على التيمم ممنوع لظهور حكم الوضوء قبل التيمّمِ كما تقدم في قوله (1): . . . . . . . وحكم الفرع ... ظهوره قبلُ يُرى ذا منع فالجواب: أن المؤلف ذكر هنا في المتن و"الشرح" نقيض ما ذكر __________ (1) البيت رقم (660).

(2/495)


هناك في المتن و"الشرح" (1)، والذي يظهر لي أن المثالَ المذكور هنا أولى من المثال المذكور هناك؛ لأن الحكم في هذا المثال هو اشتراط النية، ولم يكن معروفًا في الوضوء إذ لم يرد فيه نصٌّ، والنصُّ الوارد في الوضوء لا يتعرض لوجوب النية ولا لعدمه، فظهر أن حكمَ الفرع هنا لم يكن معروفًا قبل حكم الأصل؛ لأن المعروف قَبْلُ حكم الوضوء لا حكم اشتراط النية فيه. وقوله: "والشبه" مبتدأ و"المستلزم" خبره و"المناسب" -بالكسر- مفعول المستلزم. 739 - مع اعتبارِ جنسِه القريبِ ... في مثله للحكمِ لا الغريبِ يعني أن الشبه الذي عرَّفناه بأنه لا يناسب لذاته ولكن يستلزم المناسب لذاته يُزَادُ في تعريفه أنه لابد أن يشهد الشرع بتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب. ولا يُكتفى بالجنس البعيد في ذلك. ومثال التأثير المذكور: ما تقدم، فإن جنس العبادة القريب مؤثِّر في جنس اشتراط النية القريب في المثال المتقدم. ومن أمثلته أيضًا قولنا: الخل مائع لا تنبني القنطرة على جِنْسه فلا تُزال به النجاسة قياسًا على الدهن. فإن قولنا: لا تنبني القنطرة عليه يؤذن بأنه قليل، والقلة وصف مناسب لعدم مشروعية التطهير به، لأن الشرع العامّ يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود، أما التكليف للكل بما لا يجده إلا البعض فبعيد عن القواعد، فظهر أن قولنا: لا تنبني القنطرة على جنسه، ليس بمناسب وهو مستلزم للمناسب، وقد __________ (1) (2/ 123).

(2/496)


شهد الشرع بتأثير جنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، لأن الماء إذا قل أو اشتدت إليه الحاجة فإن الأمر به يسقط ويكون الحكم التيمّم. 740 - صلاحُهُ لم يُدْرَ دون الشرْعِ ... ولم يُنَط مناسِبٌ بالسَّمْعِ تعرض المؤلف في هذا البيت للفرق بين المناسب والشبه تبعًا للفِهْري، ومعنى الفرق الذي تضمنه البيت أن صلاحية الشبه لما يترتب عليه من الأحكام لا يدركها العقل لو قُدِّر عدم ورود الشرع، فاشتراط النية في الطهارة مثلًا لو لم يَرِد الشرعُ باشتراطها في التيمم ما أدرك العقل اشتراطها فيها، وهذا مراده بقوله: "صلاحه لم يدر دون الشرع" بخلاف الوصف المناسب فإن صلاحيته لما يترتَّب عليه من الأحكام يدركها العقل لو لم يرد الشرع باعتبارها، فالعقل قَبْل تحريم الخمر مثلًا يدرك أن تحريمَها مناسبٌ لصيانة العقول، وقد قال قيس بن عاصم التميميُّ في جاهليته (1): فلا واللَّه أشربُها صحيحا ... ولا أُشفي بها أبدًا سقيما ولا أعْطي بها ثمنًا حياتي ... ولا أدعو لها أبدًا نديما لأن الخمرَ تفضحُ شاربيها ... وتجنيهم بها الأمرَ العظيما __________ (1) الأبيات في "الأغاني": (14/ 79). ورواية الأبيات فيه: وجدت الخمر جامحةً وفيها ... خصالٌ تفضح الرجل الكريما فلا واللَّه أشربها حياتي ... ولا أدعو لها أبدًا نديما ولا أعطي بها ثمنًا حياتي ... ولا أشفي بها أبدًا سقيما فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجشمهم بها أمرًا عظيما إذا دارت حمياها تعلت ... طوالع تسفه الرجل الحليما

(2/497)


وقبل الأبيات: رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها ... خصال تفسدُ الرجلَ الحليما وهذا مراده بقوله: "ولم يُنط مناسب بالسمع" وقوله: "يُنط" مبنيٌّ للمفعول من الإناطة "ومناسب" نائبه. 741 - وحيثما أمكنَ قيْسُ العلَّةِ ... فتركَه بالاتفاقِ أثبِتِ مراد المؤلف بـ "قيس العلة" هنا ما قابل الشَّبَه وهو الوصف المناسب بالذات، بخلاف مراده به في آخر القياس فإنه يعني به الجمع بنفس العلة كانت مناسبةً بذاتها أو بالتبع، فلا تلتبس عليك الطرق، كما أنهم يُطلقون قياس الدلالة الآتي في قوله: "جامع ذي الدلالة الذي لزم" إلخ على قياس الشَّبَه هذا أيضًا. ومعنى البيت: أنه إذا أمكن القياس بالوصف المناسب بالذات وجب ترك القياس بالمناسب بالتبع إذ لا حاجة إلى الشبه مع وجود المناسب. وقوله: "قيس العلة" أي قياسها وتقدم معناه، وقوله: "أثبت" فعل أمر و"تركه" مفعوله قُدِّم عليه. 742 - إلّا ففي قبوله تردُّدُ ... . . . . . . . . . . . . . . . يعني وإلا يمكن قيس العلة فهل يُقبل قياس الشَّبه أو لا يُقبل في ذلك؟ تردَّدَ الباقلانيُّ فمرة قَبِله كالشافعي نظرًا إلى استلزامه للمناسب، ثم استقرَّ على منعه وفاقًا لبعضَ الشافعية نظرًا إلى عدم مناسبة الوصف بالذات (1). __________ (1) انظر "البرهان": (2/ 568 - فما بعدها).

(2/498)


والظاهرُ قبوله إن لم يوجد غيره كما قال به الأكثر في غلبة الأشباه، ومراد المؤلف بالتردُّدِ تردُّدُ الباقلانِيّ من المالكية المذكور، وقوله: "إلَّا" فيه إن الشرطية مدغمة في لا النافية وفعل الشرط محذوف على حد قول الشاعر (1): * وإلَّا يَعْلُ مَفْرِقك الحسام * . . . . . . . . . . . . . . . ... غلبةُ الأشباه هُوَّ الأجْوَدُ يعني أن قياس غلبة الأشباه هو أجود أي أقوى القياسات المبنية على الشبه بمعنى الوصف، وقياس غلبة الأشباه هو: إلحاق فرعٍ متردِّدٍ بين أصلين بأحدهما الذي هو أكثر به شبهًا في الحكم والصفة ثم الحكم ثم الصفة كما يأتي. ومثاله: إلحاق العبد بالمال في إيجاب قيمته إذا قُتِل ولو زادت على الدية، لأن شَبَهَه بالمال في الحكم والصفة أكثر من شبهه بالحُرِّ فيهما، لكونه يُبَاعُ ويورث ويُعَارُ، هذا من جهة الحكم. وأما في الوصف فتتفاوت (2) قيمته بتفاوت أوصافه جودةً ورداءةً مع أنه يشبه الحرَّ في كونه آدميًّا يُثاب ويُعاقب. ومن أوجب في قتله الدية زعم أن شَبَهَه بالحُرِّ أكثر لمشابهته له في الأوصاف البدنية والأوصاف النفسية والتكاليف. فإن قيل: كيف يدخل قياس غلبة الأشباه في قياس الشبه المعرَّف بأنه المستلزم المناسب لما درج عليه المؤلف؟ __________ (1) هو الأحوص الأنصاري، انظر "شعر الأحوص": (ص/ 238): وصدره: * فطلقها فلست لها بأهل * (2) ط: فلتفاوت.

(2/499)


والجواب: أن قياس غلبة الأشباه لا يتبادر دخوله في الحدّ الذي حدَّ به المؤلفُ والباقلانيُّ الشبَهَ، ولكن يدخل فيه على التعريف الذي صدَّر به صاحب "جمع الجوامع" (1)، لأن بالنظر إلى كل من الشبيهين يناسب إلحاقه به، وإلحاقه بهذا يمنع إلحاقه بذلك لتنافي حكمَيْهما، فصار بالنظر إلى كل واحد منهما بانفراده يشبه المناسب من حيث مشابهته له، ويُشبه الطردي بالنسبة إليه من حيث مشابهته للآخر المنافي له، فالعبد المقتول مثلًا من حيث إنه يشبه المال ويلحق به طرديُّ بالنسبة إلى الحر، ومن حيث إنه يشبه الحر يشبه الطردي بالنسبة إلى المال. وقد يدخل قياسُ غلبةِ الأشباه في تعريف المؤلف بتكُّلف كأن تقول: شبه العبد بالمال مثلًا ليس مناسبًا لإلحاقه به في وجوب قيمته بالقتل، لأن هذه المناسبة معارضة بشبهه للحر المقتضي للزوم الدية، إلا أن مشابهته للمال استلزمت المناسب وهو الأغلبية في الشبه في الحكم والوصف. 743 - في الحُكمِ والصفةِ ثم الحُكْم ... فصفةٍ فقط لدى ذي العِلْم يعني أن قياس غلبة الأشباه ثلاثة أنواع: نوع يكون في الصفة والحكم معًا، وقد تقدم مثاله في قياس العبد على المال. ونوع يكون في الحكم فقط، وهو دون ما قبله فيقدَّم عليه عند التعارض، ولم أرَ من مَثَّلَ له ولم يحضرنا له مثال. وقوله: "ثم الحكم فصفة" يعني أن غلبة الأشباه في الصفة والحكم معًا، يليها غلبتها في الحكم، ثم يلي ذلك غلبتها في الوصف فقط، __________ (1) (2/ 286).

(2/500)


ومَثَّل له المؤلف في "الشرح" (1) بإلحاق الأقوات بالبر والشعير في الربا. 744 - وابنُ عُلَية يرى للصُّوري ... كالقَيْس للخَيْلِ على الحَمير يعني أن إسماعيل بن عُلَية يرى جواز العمل بقياس الشبه الصوري لأجل الشبه في الصورة التي يُظن كونها علة الحكم، وضابط الصُّوري: ما كن الشبه فيه بأصل الخِلْقةِ -بالكسر- كقياس الخيل على الحمير في عدم الزكاة؛ وحرمة الأكل للمشابهة في الصورة، وكقياس المنيِّ على البيض لمشابهتهما في أن كلًّا منهما يستحيل إلى حيوان طاهر، وكإلحاق الهرة الوحشية بالإنسية في التحريم على الأصح كما قاله بعض الشافعية (2). والأصلُ في قياس الشبه عند القائل به قوله تعالى في جزاء الصيد: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة/ 95]، وما ثبت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَسْلف بَكْرًا ورد رباعيًا (3). واعلم أن العلماء اختلفوا في قياس الشبه: فمنهم من اعتبره مطلقًا، ومنهم من اشترط في اعتباره الضرورة إلى الحكم في واقعةٍ لا يوجد فيها إلا الوصف الشبهيُّ، ومنهم من أجاز غلبة الأشباه فقط، وفيه أقوال غير هذا (4). * * * __________ (1) (2/ 192). (2) انظر "البحر": (5/ 237). (3) أخرجه مسلم رقم (1600) من حديث أبي رافع -رضي اللَّه عنه-. (4) انظر "البحر": (5/ 234 - 241).

(2/501)


السّابع الدورَان الوجوديُّ والعَدميُّ ويسمّى بالدوران فقط، وبالطرد والعكس وهو المسلك السابع من مسالك العلّة، وسيأتي الكلام على الدوران الوجودي بعد هذا، وعرَّفَ المؤلف هذا المسلك السابع الذي هو الدوران بقوله: 745 - أن يوجدَ الحكمُ لدى وجودِ ... وصفٍ وِينتفي لدى الفُقُودِ 746 - والوصفُ ذو تناسبٍ أو احتملْ ... له وإلَّا فعَنِ القصدِ اعتزلْ يعني أن الدوران الوجودي والعدمي هو أن يكون الحكم يوجد عند وجود الوصف وينتفي عند انتفائه، والحال أن الوصف الدائر معه الحكم ظاهر التناسب أو محتمل له، فإن لم يكن ظاهر التَّناسب ولا محتملًا له فلا عبرة به، لأنه بمعزل عن القصد في هذا المسلك، وهو مراد المؤلف بقوله: "وإلا فعن القصد اعتزل" أي وإلا يكن مناسبًا أو محتملًا للمناسبة فهو بمعزل عن القصد. ومثال المستوفي للشروط في هذا المسلك: دوران التحريم مع الإسكار وجودًا وعدمًا، فإنَّ عصيرَ العنب تعدم فيه الحرمة لعدم الإسكار، فإن تَخمَّرَ وُجِدَت الحرمة لوجود الإسكار، فإن تخلَّلَ عُدِمت الحرمة لعدم الإسكار. فإن قيل: المناسبة المذكورة في هذا المسلك تكفي وحدها دون

(2/502)


الدوران كما تقدم في مسلك المناسبة. فالجواب: ما ذكره صاحب "الآيات البينات" (1) من أن غاية ما في الباب اجتماع جهتين كل منهما تفيد العلية ولا محذور في ذلك، فكون الإسكار علة التحريم يستدل عليه بثلاثة من مسالك العِلّة: الأول: مسلك الإيماء من جهة ترتُّب الحكم الذي هو المنع على الوصف الذي هو الإسكار في حديث: "كل مسكر حرام" (2). الثاني: مسلك المناسبة لمناسبة الإسكار للتحريم واقترانه معه في دليل الحكم مع السلامة من القوادح كما تقدم في المناسبة (3). الثالث: الدوران الوجوديُّ والعدمُّي كما مثَّلْنا به هنا. و"الفُقُود" مصدر فقد. 747 - وهو عند الأكثرينَ سَنَدُ ... في صورةٍ أو صورتين يوجَدُ يعني أن الدوران المعرَّف في هذا المسلك "سَنَد" أي حجة عند الأكثرين من المالكية وغيرهم وهو دليل ظنيٌّ على التحقيق وهو مذهب الأكثر. ووجه دلالة هذا المسلك على العلية: أن اقتران الوجود بالوجود والعدم بالعدم مع ظهور المناسبة أو احتمالها يُفيدُ غلبة ظن العلية، وزعم بعضهم أنه قطعي، ومفهوم قول المؤلف: "عند الأكثرين" أن الأقل يقولون: إن الدوران لا يفيد العلية لا قطعًا ولا ظنًّا، وهو اختيار ابن __________ (1) (4/ 114). (2) تقدم تخريجه. (3) (ص/ 469 وما بعدها).

(2/503)


الحاجب (1) تبعًا للرازي (2) والغزالي (3) وغيرهما، محتجين بجواز ملازمة الوصف للعلة من غير أن يكون هو العلة نفسها كملازمة رائحة الخمر المخصوصة للإسكار وجودًا وعدمًا، فهي دائرة مع التحريم وجودًا وعدمًا وليست علته لكنها ملازمة لعلته التي هي الإسكار. وقوله: "في صورة أو صورتين" يعني أن الدوران يوجد في صورة واحدة ويوجد أيضًا في صورتين، فمثال وجوده في صورة واحدة: هو ما قدمنا من دوران التحريم مع الإسكار وجودًا وعدمًا، والدوران في صورة واحدة أقوى من الدوران في صورتين. ومثاله في صورتين: الحلي المباح عند من يقول بوجوب الزكاة فيه، لأن الحكم الذي هو وجوب الزكاة يدور مع الوصف الذي هو النقدية في صورتينِ، فوجود النقدية في النقدين -أعني الذهب والفضة- في غير صورة النزاع التي هي الحليُّ المباح يوجد معه وجوب الزكاة، وعدم النقدية في الثياب وغيرها من العروض مثلًا يعدم معه الحكم الذي هو وجوب الزكاة، فصار الدوران في صورتين لأنه في الوجود في النقد وفي العدم في غير النقد. 748 - أصلٌ كبيرٌ في أمور الآخره ... والنَّافِعات عاجِلًا والضائِرَه قوله: "أصل" خبر مبتدأ محذوف تقديره هو، أي الدوران أصل كبير في أمور الآخرة وفي الأمور النافعة والضارة في الدنيا. مثاله في أمور __________ (1) "المختصر - مع الشرح": (3/ 134). (2) "المحصول": (2/ 347 - 352). (3) "المستصفى": (2/ 307 - 308).

(2/504)


الآخرة: الأمر الفلاني يوجد عند وجوده الثواب ويعدم عند عدمه. وفي أمور الدنيا: كالمنافع والمضار في الأغذية والأدوية ونحو ذلك، فيوجد الأثر مثلًا عند استعمال بعض العقاقير ويعدم عند عدمه وهكذا. و"الضائرة" اسم فاعل ضاره يضيره بمعنى ضرَّه، وأفردَها والمقصود الجمع لأن الجمع المؤنث مطلقًا والمكسَّر المذكّر يجوز إجراؤهما مُجرى المؤنثة (1) المجازية التأنيث. * * * __________ (1) ط: المؤنثة الواحدة.

(2/505)


الدورَان الوجوديُّ وهو الطَّرْد المراد بالطَّرْد في هذا المسلك والذي قبله: الاطراد وهو الملازمة في الثبوت، كما أن العكس في المسلك قبل هذا هو الملازمة في الانتفاء كما يأتي تحقيقه في القوادح. 749 - وجودُ حكمٍ حيثما الوصفُ حصلْ ... والاقترانُ في انتفا الوصفِ انحظَلْ 750 - ولم يكن تَناسُبٌ بالذاتِ ... أو تبعٍ فيه لدى الثّقاتِ يعني أن المسلك الثامن المسمَّى بالطرد وبالدوران الوجودي هو: مقارنة الحكم للوصف في الوجود فقط دون النفي بأن يكونَ الحُكْم يوجد عند وجود الوصف ولا ينعدم بانعدامه، وكونه يوجد بوجوده هو مراده بقوله: "وجود حكم حيثما الوصف حصل"، وكونه لا ينتفي بانتفائه هو مراده بقوله: "والاقتران في انتفا الوصف انحظل" أي الاقتران بين الحكم والوصف في حالة انتفاء الوصف مُنْحَظِلٌ أي ممتنع. ويشترط في الدوران الوجوديّ ألّا يكون الوصف مناسبًا بالذات ولا بالتبع، إذ لو كان مناسبًا بالذات لكان قياس علة، ولو كان مناسبًا بالتبع لكان قياس شبه، هذا مراد المؤلف بقوله: "ولم يكن تناسب. . . " البيت. ومَثَّل له المؤلف (1) بتعليل ربا الفضل بمجموع الاقتيات والادِّخار، ومَثَّل له المحلِّي (2) بعدم بناء القنطرة على المائع. __________ (1) "النشر": (2/ 197). (2) "شرح جمع الجوامع": (2/ 291 - 292).

(2/506)


ومثالُه به مُعْتَرض من جهتين؛ الأولى: ما قدمنا في مسلك الشبه من استلزامه المناسب بالذات فهو مناسب بالتبع. الثاني: أن الحكم ينتفي بانتفائه، وذلك يُخْرجه عن الطرد لأن الحكم فيه لا ينتفي بانتفاء الوصف، ونفي المناسبة في الطرد يخرج بقية المسالك حتى الدوران الوجودي والعدمي. إذا عرفتَ حدَّ المسلك التامن الذي هو الطرد فاعلم أن المؤلف ذكر حكمَه بقوله: 751 - وردَّه النقلُ عن الصحابَه ... ومن رأى بالأصلِ قد أجابَه يعني أن النقل عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ردَّ التعليل بالوصف المستدلّ على عليته بالطرد، لأن المنقولَ عنهم هو العمل بالمناسب فقط دون غيره، كما تقدمت أمثلته في الكلام على المصالح المرسلة (1). ورُدَّ أيضًا بأن ما لا يشتمل على مصلحة ولا درء مفسدة يجب ألَّا يُعتبر، وعدم الاحتجاج بالطَّرْد هو مذهب أكثر الأصوليين، واحتجَّ به بعضُهم، وأشار لذلك المؤَلف بقوله: "ومن رأى. . " إلخ، ومفعول "رأى" محذوف، أي ومن رأى جواز الاحتجاج على العلية بمسلك الطرد قد أجاب المانع لذلك بالأصل أي بأن الأصل في هذه المقارنة كون الوصف المقارن علة نفيًا للتعبد. والحاصل: أن من قال من العلماء بعدم حجية الدوران قال بعدم حجية الطرد من باب أولى، والقائلون بحجية الدوران اختلفوا في حجية __________ (1) (ص/ 489 وما بعدها).

(2/507)


الطرد، والأقل القائلون بحجية الطرد اختلفوا أيضًا فقال بعضُهم: لابد من المقارنة في جميع الصور غير صورة النزاع، وقال بعضُهم: تكفي المقارنة في صورة واحدة. 752 - والعكسُ وهو الدوراق العَدَمي ... ليسَ بمسلكٍ لِتِلكَ فاعلمِ 753 - أن ينتفي الحُكم متى الوصفُ انتفى ... وما لدى الوجود إثره اقتفا يعني أن عكس الطرد هو الدوران العدمي، وهو ليس من مسالك العلة، وعرَّفه المؤلف بأنه هو انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف مع أنه لا يلزم من وجوده وجوده. ومَثَّل له المؤلف في "الشرح" (1) بما لو علَّل المالكيُّ ربا الفضل في الطعام بالطَّعم فإن الحكم الذي هو الربا منتفٍ عند المالكية في التفاح مثلًا مع وجود ذلك الوصف الذي هو الطَّعم. واعلم أن النسبة بين أنواع الدوران الثلاثة -أعني: الدوران، والطرد، والعكس- التباينُ على التحقيق. وقوله: "لتلك" إشارة إلى العلة. * * * __________ (1) (2/ 198).

(2/508)


تنقِيح المنَاط التنقيح التصفية والتهذيب، وكلام مُنَقَّح لا حشو فيه، ومن هذا المعنى تنقيح المُنخُلِ وهو إزالة ما لا يُحتاج إليه وإبقاء ما يُحتاج إليه، و"المناط" مكان النَّوْط الذي هو التعليق والإلصاق, والمراد به العلة لأنها مناط الحكم الذي يعلق عليه، فتنقيح المناط إذًا هو تصفية العلة بإزالة ما لا يصلح لها وتعيين ما يصلح لها، وأشار المؤلف إلى تعريفه بقوله: 754 - وهو أن يجِي على التعليل ... بالوَصْف ظاهرٌ من التنزيل 755 - أو الحديثِ فالخصوصَ يَطْرُدُ ... عن اعتبار الشارع المجتهدُ يعني أن تنقيح المناط هو أن يدل ظاهر نصٍّ من كتاب أو سنة على التعليل بوصف فيطْرُد المجتهدُ أي يَحْذِف خصوصَ ذلك الوصف عن اعتبار الشارع، وإيضاحه: أن المجتهد يقول: لا يعتبر الشارع خصوص هذا الوصف الذي دل ظاهر النص على أنه العلة وينيط الحكم بما هو أعم من ذلك الوصف. فإن قيل: من أين للمجتهد العدول عن خصوص الوصف المدلول عليه بالظاهر؟ فالجواب: أنه يَطْردُ الخصوصَ المذكور بأحد الأمرين الآتيين في قوله: "فمنه ما كان بإِلغا الفارق" البيت. ومثال تنقيح المناط في القرآن: قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء/ 25] فقد ألغوا خصوصَ الوصف

(2/509)


الذي هو الأنوثة في تشطير الحدِّ وأناطوه بالرق تنقيحًا للمناط. ومثاله في الحديث: ما قدمناه في حديث: "لا يقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان" (1) فقد ألْغَوا خصوص الغضب وأناطوا الحكم بأعمَّ منه وهو التشويش المانع من استيفاء النظر والفكر (2). ومنه تنقيح مالك وأبي حنيفة المناط في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للأعرابي الذي قال: واقعت أهلي في نهار رمضان: "اعتق رقبة" (3)، فألغيا خصوص الوقاع في رمضان، وأناطا الحكمَ بأعمَّ منه وهو انتهاك حُرْمة رمضان، فأوجبا الكفارةَ بالأكل والشرب فيه عمدًا. وقوله: "ظاهر" فاعل "يجي" وهو فعل مضارع مقصور للوزن. وقوله: "المجتهدُ" فاعل "يَطْرُدُ" ومفعوله "الخصوصَ" مقدَّم عليه. 756 - فمنه ما كان بإلغا الفارقِ ... وما بغيرٍ من دليلٍ رائقِ يعني أن من تنقيح المناط قسمًا يقال له: إلغاء الفارق، فيسمى تنقيح المناط، وإلغاء الفارق، خلافًا لمن جعل إلغاء الفارق مسلكًا عاشرًا كالسبكي (4). وإلغاءُ الفارق هو: تبيين أنه لا فرق بين ما ذكره الشارع وما سكت عنه إلَّا فرقًا لا أثر له في الحكم فيثبت الحكم لما اشتركا فيه، لأنه __________ (1) تقدم تخريجه. (2) انظر ما تقدم في مبحث تعميم العلة لمعلولها: بيت رقم 677: وقد تخصص وقد تعمِّمُ ... لأصلها لكنها لا تخْرِمُ (3) تقدم تخريجه. (4) في "الجمع": (2/ 293).

(2/510)


إذا لم يفارق المسكوت عنه المنطوق به إلَّا فيما لا يؤثر فإنه ينبغي اشتراكهما في المؤثر، فيلزم من ثبوت الحكم في المنطوق به ثبوته في المسكوت عنه. تنبيه: هذا القسم من تنقيح المناط يُعَبَّر عنه بأسماء مُختلفة؛ يُسمَّى مفهوم الموافقة، ولَحْنَ الخطاب، وفحوى الخطاب كما تقدم، ويسمى تنقيح المناط، وإلغاء الفارق كما ذكر هنا، ويُسمَّى القياس في معنى الأصل كما يأتي في قول المؤلف: "قياس معنى الأصل عنهم حقق. . " البيت (1). وإلغاء الفارق أربعة أقسام تقدم تقسيمها وأمثلتها (2): الأول: كإلغاء الفرق بين الضرب والتأفيف في المنع. الثاني: كإلغاء الفرق بين العمياء والعوراء في منع التضحية. الثالث: كإلغاء الفرق بَيْنَ إحراق مال اليتيم وأكله في المنع. الرابع: كإلغاء الفرق بين الأَمَة والعبد في سِراية العتق. وقول المؤلف: "وما بغير من دليل. . " إلخ، يعني أن من تنقيح المناط ما هو بغير إلغاء الفارق من دليل آخر كما تقدم في حديث: "لا يقضينّ حكمٌ بين اثنين وهو غضبان" (3)، فالغضب مثلًا يفارق حقيقة الحقن والحقب مثلًا إلَّا أن الأدلة دلت على أن الغضب وحده ليس هو المقصودُ بإناطة الحكم، وإنما المقصود التشويش الناشيء عنه. وقوله: "رائقٍ" أي مُعْجبٍ. 757 - من المنَاطِ أن تجي أوصافُ ... فبعضها يأتي له انحِذافُ __________ (1) رقم (818). (2) انظر (ص/ 426 - 427). (3) تقدم تخريجه.

(2/511)


758 - عن اعتباره وما قد بقيا ... ترتُّب الحكم عليه اقْتُفِيا هذا النوع الثاني من تنقيح المناط هو بعينه السَّبر والتقسيم، وقد عرفت حدَّه وأمثلته فيما مضى (1)، وذكره المؤلف تكرارًا مع ما مضى تبعًا للسبكي في "جمع الجوامع" (2) والبيضاوي في "المنهاج" (3). 759 - تحقيق عِلَّة عليها ائتُلِفا ... في الفرع تحقيق مناط أُلِفا يعني أن تحقيق المناط أي العلة هو إثبات العلة المتفق عليها في الفرع، كتحقيق مالك والشافعي وأحمد مناط القطع الذي هو السرقة في النباش الذي ينبش القبور ويأخذ الأكفان = بأنه آخذُ مالٍ خِفْية من حِرْز مثله فيُقْطَع، خلافًا لأبي حنيفة القائل: لم يتحقق فيه المناط الذي هو السرقة، لأنه آخذ شيء في الخلاء لا حارس له كالملتقط. وتحقيقُ المناط ليس من مسالك العلة لكنه دليل تثبيتُ به الأحكام، فلا خلاف في وجوب العمل به، وهو مضطر إليه في كل شريعة، ولابد من الاجتهاد فيه في كل زمن إذ لا يمكن التكليف إلَّا به (4)، وإنما يذكر الأصوليون تحقيق المناط مع أنه ليس من مسالك العلة تبعًا للجدليين الذين يذكرون تنقيح المناط وتخريج المناط وتحقيق المناط في محل واحد، ولم يذكر __________ (1) عند البيت رقم (691). (2) (2/ 270، 292). (3) (ص/ 484). (4) هذه عبارة الشاطبي في "الموافقات": (5/ 17 - 18). ونقلها صاحب "النشر": (2/ 201)

(2/512)


المؤلف هنا تخريج المناط لأنه قدمه في مسلك المناسبة (1). 760 - والعجزُ عن إبطال وصفٍ لم يُفِدْ ... عليةً له على الذي اعتُمِدْ 761 - كذا إذا ما أمكنَ القياسُ ... بهِ على الذي ارتضاه الناسُ ذكر في هذين البيتين مسلكين ضعيفين (2)، الجمهورُ على أنهما ليسا بمسلكين، وقيل بمسلكيتهما: الأول منهما: عجز الخصم عن إبطال علية وصف فإنه لا يفيد عليته على المعتمد وهو مذهب الجمهور. وقال الشيخ أبو إسحاق (3): إنَّ عَجْزَ الخصمِ عن إبطال عِلِّية الوصف دليلٌ على عِلِّيته، كالمعجزة فإنها دلَّت على صدق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- للعجز عن معارضتها. وأجيب عن هذا من جهة الجمهور: بأن العجز في المعجزة من جميع الخلق والعجز هنا من خصوص الخصم وبينهما بون عظيم، وهذا مراده بالبيت الأول. الثاني منهما: إمكان القياس على تقدير كون الوصف علة لا يفيد عليته على ما ذهب إليه الجمهور، وقيل: يفيدها بناءً على أن القياس مأمور به في قوله: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر] وعلى تقدير عِلِّية الوصف يخرج بقياسه من عُهدة الأمر فيكون الوصف علة. __________ (1) (ص/ 469). (2) ذكرهما السبكي في "الجمع": (2/ 293) وضعفهما. (3) لعله يعني الشاطبي، وقد ذكره في "النشر": (2/ 202)، وانظر"شرح المحلي على الجمع": (2/ 294).

(2/513)


وأجيب من جهة الجمهور بأمرين: الأول: أنه إنما تتعين عليته إذ (1) لو لم يخرج من عُهدة الأمر إلَّا بالقياس المستند إلى ذلك الوصف، وليس كذلك. الثاني: أنَّ تأتِّي القياس به متوقف على كونه علة، فإذا توقَّف كونه علة على تأتِّي القياس به لزم الدور السَّبْقي وهو مُحال عقلًا. * * * __________ (1) ط: أن.

(2/514)


القَوادح جمع قادح والمراد به ما يقدح في الدليل سواء كان علة أو غيرها. 762 - منها وجودُ الوصفِ دون الحكمِ ... سمَّاه بالنقْضِ وُعاةُ العلمِ يعني أن من القوادح في العلة تخلُّف الحكم عن الوصف، والمراد بالوصف العلة، فوجود العلة مع عدم الحكم على هذا القول قادح فيها، وهو المسمَّى بالنقض في الاصطلاح، ووجه القدح بالنقض في العلة عند القائل به: أن العلة تستلزم الحكم فلابد أن يثبت معها في كل صورة، فإذا وُجِد الوصف وحدَه دون الحكم علمنا أنه ليس علة له. والقدحُ بالنقض هو مذهب الشافعي وجُلِّ أصحابه وكثير من المتكلمين (1)، ورجَّح بعضُ أصحابه بأنه يقدح في العلة بالنقض، فعِلَلُ مذهبه إذًا سالمة من النقض، وحاصل القدح بالنقض أنه القدح بعدم الاطراد الذي هو الملازمة في الثبوت، أعني ملازمة الحكم للوصف حال وجود الوصف. وقوله: "وُعاة العلم" جمع واعٍ بمعنى حافظ. والضمير في قوله: "منها" عائد إلى القوادح المذكورة في الترجمة. 763 - والأكثرون عندَهم لا يقدَحُ ... بل هو تخصيصٌ وذا مُصحَّحُ يعني أن أكثر أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد لا يقدح عندهم __________ (1) انظر تحقيق المذاهب في "البحر": (5/ 262 - فما بعدها).

(2/515)


عدم اطراد العلة الذي هو تخلُّف الحكم عنها، وإذا كان غير قادح فيها عندهم فهو عندهم تخصيص للعلة، أي إخراج بعض أفراد معلولها، كتخصيص العام فإنه إذا أخرج بعض أفراده بقي حجة فيما سواه كما تقدم في قول المؤلف (1): "وهو حجة لدى الأكثر إن. . " إلخ، لأن تناول المناسبة لجميع الصور كتناول دلالة العام لغة لجميع أفراده. مثال تخلف الحكم عن الوصف في العلة المنصوصة: تخلف القصاص الذي هو الحكم عن الوصف أي العلة التي هي القتل عمدًا عدوانًا لمكافئ في حالة قتل الأبِ ابنَه، فإن كون ذلك القَتْل علة منصوص عليه بالربط بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء/ 33]. واستشكل بعضُ العلماء القدحَ في المنصوصة بأن القدح فيها ردٌّ للنصِّ الذي دل عليها. وأجيب عن ذلك بما وجَّه [به] الغزاليُّ (2) القدحَ في المنصوصة بالنقض وهو أنا نستبين بعد وروده -يعني النقض- أن ما ذكر -يعني العلة المنصوصة- لم يكن تمام العلة بل جزء منها كقولنا: "خارج فينقض الطهر" أخذًا من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الوضوء مما خرج" (3)، ثم إنه لم يتوضأ من __________ (1) البيت رقم (392). (2) في "المستصفى": (2/ 337). (3) أخرجه الدارقطني: (1/ 151)، والبيهقي: (1/ 116) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. وهو حديث ضعيف في سنده الفضل بن المختار أحاديثه =

(2/516)


الحجامة، فعُلِم أن العلة هي الخروج من المخرَج المعتاد لا مطلق الخروج. قلت: الذي يظهر لي أن المنصوصة بقاطعٍ لا يمكن القدحُ فيها بالنقض كما بينه زكريا الأنصاري، وابن الهمام، وابن أبي شريف، قال زكريا (1): "وأنت خبير بأن هذا وهم لأن العلة إذا ثبتت بشيء من ذلك فلا نقض لاستحالة التخلف في القاطع. . " إلخ كلامه. والقائلون بالتخصيص -وهم الأكثر- لا فرق عندهم بين المنصوصة والمستنبطة، ولا بين التخلف لوجود مانع أو فقد شرط أو غير ذلك. وقوله: "وذا مصحَّح" بصيغة اسم المفعول يعني أن هذا القول صحَّحه القرافي (2). 764 - وقد رُوي عن مالك تخصيصُ ... إن يكُ الاستنباطُ لا التنصيصُ يعني أن القرافي (3) نقل عن الآمدي (4) أنه حكى عن مالك -أي وأحمد وأكثر الحنفية- جواز تخصيص المستنبطة دون المنصوصة وإن لم يوجد في صورة النقض مانع ولم يعدم شرط، وعلى هذا القول فتخلُّف القصاص المذكور عن قتل الوالد ولده قادح في التعليل بالقتل المذكور، __________ = منكرة ويحدث بالأباطيل، وصفه بذلك أبو حاتم وابن عدي. وفيه شعبة مولى ابن عباس متكلم فيه. قال البيهقي: هذا حديث لا يثبت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورجح بعض الحفاظ وقفه. انظر "البدر المنير": (2/ 421 - 425). (1) في حاشيته على شرح المحلي على "الجمع". (2) في "شرح التنقيح": (ص/400). (3) في "نفائس الأصول": (4/ 263). (4) "الإحكام": (3/ 194). وفيه: "أن هؤلاء القائلين بالجواز اختلفوا في جواز تخصيص المستنبطة إذا لم يوجد في محل النقض مانع ولا فوات شرط.

(2/517)


ولا يخفى بطلان هذا وبعده؛ لأن اللَّه نصَّ على أن القتل ظلمًا موجب للقصاص كما تقدم، فكيف يُنقض؟! وهذا القول عندي أبعد الأقوال. وقوله: "إن يك الاستنباط" حُذِف فيه خبر كان أي إن يك الاستنباط هو المثبت للعلة. 765 - وعكس هذا قد رآه البعض ... . . . . . . . . . . . . . . . يعني أن بعض أهل الأصول وهو الأكثر كما ذكر إمام الحرمين في "البرهان" (1) على أن النقض قادح في المستنبطة دون المنصوصة عكس القول المذكور في البيت قبله. ووجهه: أن الشارع له أن يُطلق العام ويريد بعضَه مؤخِّرًا بيانه إلى وقت الحاجة بخلاف غيره إذا علل بشيء ونُقِض عليه، فليس له أن يقول: أردت غير ذلك لسدِّ ذلك بابَ إبطال العلة؛ لأن الشارع يجب الانقياد لنصِّهِ لكونه أعلم بالمصالح، فلا عبرة بصورة التخلف؛ لأن النصَّ مقدَّم عليها. وإذا لم يوجد نصٌّ على العلية تعيَّن بالنقض أن الوصف ليس بعلة إذ لو كان علة لثبت الحكم معه في جميع صُوَره، وهذا عندي أوجه مما قبله. ودخول الألف واللام على "بعض" و"كل" أجازه بعض النحويين. . . . . . . . . . . . . . . . ... ومنتقى ذي الاختصار النقْضُ 766 - إن لم تكن منصوصةً بظاهر ... . . . . . . . . . . . . مراده بذي الاختصار بظاهر "المختصر الأصولي" وهو ابن الحاجب، __________ (1) (2/ 647 - 648).

(2/518)


ومنتقاه: مختاره، يعني أن مختار ابن الحاجب نقض العلة بتخلف الحكم إذا كانت العلة ثابتة بنص قطعي، بخلاف الثابتة بظاهر عام لقبوله التخصيص، وبخلاف المستنبطة إذا كان التخلف لفقد شرط أو وجود مانع كما أشار له المؤلف بقوله: . . . . . . . . . . . . . . . ... وليس فيما اسْتُنْبِطت بضائر 767 - إن جا لفقدِ الشرطِ أو لما منَعْ ... . . . . . . . . . . يعني أن العلة المستنبطة لا يُقْدَح فيها بالنقض بل يكون تخصيصًا لها بشرط أن يكون التخلُّف لوجود مانع أو فقد شرط، فتحصَّل أن اختيار ابن الحاجب (1) أن النقض في أمرين؛ الأول: في المنصوصة بقطعي. الثاني: في المنصوصة بظاهر إذا كان التخلف لا لوجود مانع أو انتفاء شرط. وأن التخصيص في أمرين؛ الأول: في المنصوصة بظاهر عام. الثاني: في المستنبطة إذا كان التخلف لوجود مانع أو فَقْد شرط. وقد قدمنا أن التحقيق عدم النقض في المنصوصة بقاطع. وقوله: "إن جا" مقصور للوزن، واسم "ليس" وفاعل "جاء" ضمير التخلف. . . . . . . . . . . . . ... والوَفْقُ في مثل العرايا قد وَقَعْ مراده بالوَفْق الاتفاق أي الإجماع، يعني أن العلماء أجمعوا على أن تخلف الحكم عن الوصف ليس بقادح في العلة إذا كان واردًا على جميع __________ (1) "المختصر - مع الشرح": (3/ 37).

(2/519)


المذاهب كمسألة العرايا التي هي بيع الرطب بتمر، لأن جواز البيع فيها وارد على كل قول قيل به في العلة كالطعم والاقتيات والادِّخار والكيل والمالية، وإنما أجمعوا على هذا لأن الإجماع على وجود العلة في مثل العرية أقوى من دلالة تخلف الحكم على نقض العلة. قلت: وهذا التعليل يلزمه عدم النقض في المنصوصة بقاطع مطلقًا، وهو الحق كما تقدم عن زكريا وغيره. 768 - جوابُه منعُ وجودِ الوصف أو ... منعُ انتفاءِ الحُكم فيما قد رَوَوْا يعني أن النقض الذي هو تخلف الحكم عن الوصف على القول بأنه قادح مطلقًا أو يقيَّد حسبما تقدم = "جوابه" أي الجواب الذي يُرَدُّ به النقض هو مَنعْ وجود الوصف بأن يقول: العلة ليست موجودة، ولو وُجِدت لوُجد الحكم. أو مَنعْ انتفاء الحكم بأن يقول: ليس الحُكم متخلِّفًا عن العلة بل هو ثابت بثبوتها. مثال منع وجود الوصف: ما إذا رمى الوالد ولده بحديدة فمات الولد فلا يُقتص من الوالد، فتخلُّف القصاص عن القتل في هذه الصورة لو نقض به الخصم عِلِّية القتل عمدًا عدوانًا لمكافئ للقصاص، فإنه يُجاب بمنع الوصف الذي هو العلة فيقال له: هو ما قتلَه عمدًا عدوانًا لاحتمال أنه أراد تأديبه فمات. ومثال نفي الحكم: ما لو ذَبَح الوالد ولده أو شقَّ بطنه أو فعل به نحو ذلك مما لا يحتمل التأديب، فقال خَصْمُ المالكي مثلًا: تخلُّفُ القصاص عن هذا القتل عمدًا عدوانًا نقض في العلة. فيجيب المالكي بمنع انتفاء

(2/520)


الحكم الذي هو نفي القصاص ويقول: الأبُ في هذه الصورة التي لا احتمال للتأديب فيها يقتص منه لولده كما هو مذهب المالكية، ومحل الجواب بانتفاء الحكم فيما إذا كان انتفاؤه مذهب المستدل، أما إذا كان غير مذهبه فلا يُقْبَل منه الجواب به كما لو أرادَ شافعيٌّ أو حنبلىٌّ أن يجيب بجواب المالكي الذي قدمنا آنفًا فإنه لا يُقبل منه لأن مذهبه عدم القصاص من الوالد مطلقًا. 769 - والكسرُ قادح ومِنْه ذَكرا ... تخلُّف الحكمةِ عنه مَنْ دَرى يعني أن الثاني من القوادح: الكسر، وعرَّفه في "جمع الجوامع" (1) بأنه إسقاط وصف يعني من أوصاف العلة المركبة أي: بيان أنه ملغى لا أثر له في التعليل. وعلى هذا التعريف أكثر الأصوليين والجدليين، وقول المؤلف: "ومنه ذكرا تخلف الحكمة" إلخ يعني أن بعض أهل المعرفة والدراية ذكر أن تخلف الحكمة عن العلة من أقسام الكسر، وقد قدمنا في شرح قول المؤلف: "وفي ثبوت الحكم عند الانتفا" أن التحقيق أن تخلف الحكمة لا يقدح في التعليل بمظنتها على الصحيح، وعليه فالقدح بتخلُّف الحكمةَ ضعيف، وقد رجَّح الآمدي (2) وابن الحاجب (3) عدم القدح به ولم يذكره القرافي في "التنقيح" من القوادح، وقال الفهريُّ: إنه قادح. وقوله: "ذَكرا" بالبناء للفاعل وفاعله "مَن" ومفعولُه "تخلُّفَ". __________ (1) (2/ 303 - 304). (2) "الإحكام": (3/ 203). (3) "المختصر": (3/ 47 - 48).

(2/521)


770 - ومِنْهُ إبطالٌ لجُزْء والحِيَلْ ... ضاقَتْ عليه في المجيء بالبَدَلْ يعني أن هذا قسم من الكسر وهو إبطال المعترض جزءَ العلة المركبة أيْ ونقضه ما بقي من أجزائها بتخلُّف الحكم عنه، ومحلّ كون إبطال الجزء المذكور قادحًا في العلة فيما إذا لم يأت المستدل ببدل من الجزء الذي أبطله المعترض، فإن جاء ببدل صالح للعلية ألغيَ الكسرُ واستقامَ الدليل، ولهذا النوع من الكسر صورتان: الأولى: أن يأتي المستدلُّ ببدل الجزء الذي أبطله المعترض فيُبْطِل المعترض البدلَ أيضًا فيستقيم القدح بالكسر ويبطل التعليل. ومثاله: أن يقال في وجوب أداء صلاة الخوف: هي صلاة يجب قضاؤها لو لم تُفْعَل، فيجب أداؤها قياسًا على صلاة الأمن، فالعلة هنا وجوب قضاء الصلاة والحكم وجوب الأداء. فيقول المعترض: إن خصوص الصلاة مُلْغى لأن الحجَّ مثلًا واجب الأداء والقضاء. فيأتي المستدل ببدلٍ من الصلاة التي أبطل اعتبارها، وذلك البدل وصف عام وهو العبادة فيقول: هي عبادة يجب قضاؤها. . . إلخ. فيُبْطِل المعترضُ البدلَ أيضًا بقوله: صوم الحائض عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها بل يحرم. الثاني: أن لا يبدل المستدل الوصف الذي أبطله المعترض فلا يبقى للمستدل علة في المثال المتقدم مثلًا إلَّا قوله: يجب قضاؤهاء فيقول المعترض: ليس كل ما يجب قضاؤه يجب أداؤه بدليل صوم الحائض

(2/522)


الذي ذكرنا آنفًا. وقول المؤلف: "والحيل ضاقت" إلخ يعني أن الكسر بإبطال جزء العلة إنما يقدح في حالة ضيق الحيل أي عدم وجود طريق إلى الإتيان ببدل صالح للتعليل كما قدمنا، وجملة: "والحيل" إلخ حال من قوله: "إبطال" أي إبطال الجزء في حالة العجز عن الإتيان ببدل منه. 771 - وعدمُ العَكْس مع اتحادِ ... يقدحُ دونَ النصِّ بالتَّمادي اعلم أن العكس في اصطلاح الأصوليين هو الملازمة في النفي بحيث ينتفي المعلول بانتفاء علته، والاطراد عندهم هو الملازمة في الثبوت. ومعنى البيت: أن عدم العكس أي عدم انتفاء الحكم عند انتفاء العلة قادح فيها بشرطين: الأول: القول بامتناع تعدد العلة، وهو مراد المؤلف بقوله: "مع اتحادِ" أي: عدم العكس يقدح مع اتحاد أي مع القول بوجوب اتحاد العلة أي كونها واحدة، على الخلاف المتقدم في قوله: "وعلة منصوصة تعدد" إلخ. الشرط الثاني: أن لا يَرِد نصٌّ باستمرار الحكم مع انتفاء العلة كما قاله الأبياريُّ، وهو مراد المؤلف بقوله: "دون النصِّ بالتمادي" أي تمادي الحكم يعني استمراره مع انتفاء العلة. أما على القول بجواز تعدد العلة فعدم العكس ليس بقادح، وهو ظاهر إذ لا يخفى أن عدم البول مثلًا لا يلزم منه عدم نقض الوضوء لجواز نقض الوضوء بعلة أخرى غير البول كالغائط والنوم. وكذا لو ورَدَ النصُّ باستمرار الحكم فلا يقدح فيه عدم العكس، لأن

(2/523)


الاستمرار المدلُولَ عليه بالنصِّ أقوى من النفي المدلول عليه بعدم العكس. والحاصل أن المعلول إن لازم العلة في النفي والإثبات فهي العلة المطردة المنعكسة ولا نزاع في التعليل بها، وإن اختلفت الملازمة بينهما في الثبوت فهي غيرُ المطردة، وعدم الاطراد هو النقض بعينه وقد عرفتَ ما فيه من الأقوال، وإن اختلت (1) الملازمة في الانتفاء فهو عدم العكس وهو المذكور هنا. 772 - والوصفُ إن يُعدَمْ له تأثيرُ ... فذاك لانتقاضِه يصيرُ هذا هو الثالث من القوادح ويُسمى عدم التأثير، ومعنى البيت: أن الوصف المعلل به إذا كان لا تأثير له في الحكم انتقض أي ذلك الوصف فلا يصح التعليل به. واعلم أن المراد بعدم التأثير هنا عدم مناسبة الوصف للحكم، فالتأثير هنا أعم من التأثير المتقدم في قوله (2): "من المناسب مؤثر" إلخ. وصورة الاعتراض بعدم التأثير هنا أيْ عدم المناسبة هي أن يقول المعترض: هذا الوصف المعلل به غير مناسب للحكم. 773 - خصَّ بذي العلةِ بائتلافِ ... وذاتِ الاستنباط والخلاف ضمير نائب الفاعل في قوله: "خُصَّ" راجع إلى القدح بعدم التأثير، يعني أن القدح بعدم التأثير له شروط: الأول: أن يكون القياس المقدوح فيه به قياس علة، ومراده به قياس المعنى المشتمل على المناسب، وإيضاحه: أن المراد به هو ما __________ (1) ط: اختلفت. (2) البيت رقم (724).

(2/524)


ثبتت فيه عِلِّية المشترك بين الفرع والأصل بالمناسبة التي هي المسلك الخامس، فلا يكون قادحًا إلَّا في ذلك لاشتماله على المناسب. أما قياس الشبه والطرد فإنه لا يقدح في واحد منهما لعدم المناسبة. الثاني: أن تكون العلة مستنبطة. الثالث: أن تكون مختلفًا فيها لأن العلة المنصوصة والمستنبطة المجمع عليها كلتاهما لا تُشترط فيها المناسبة، وإذًا فلا قَدْح بعدمها. وأشار إلى الشرط الأول بقوله: "بذي العلة" وإلى الثاني بقوله: "وذات الاستنباط"، وإلى الثالث بقوله: "والخلاف" وقوله: "بائتلاف" يعني باتفاق. 774 - يجيء في الطرديِّ حيثُ عُلِّلا ... به. . . . . . . . . . يعني أن القدح بعدم التأثير ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون في الوصف الطردي إذا عُلَّل به، والطرديُّ هو ما لا مناسبةَ فيه ولا شَبَه. ومثاله: قول الحنفي في صلاة الصبح: هي صلاة لا تُقْصر فلا يُقَدَّم أذانُها على الوقت قياسًا على المغرب، فعدم القصر طردي في عدم تقديم الأذان إذ لا مناسبة له فيه ولا شبه لأن عدم التقديم موجود فيما يقصر. وحاصل هذا القسم إنكار عِلِّية الوصف لكونه طرديًّا كما تقدم في قول المؤلف (1): "أبطل لما طردًا يُرَى". . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . وقد يجيءُ فيما أصِّلا __________ (1) البيت رقم (699).

(2/525)


775 - وذا بإبدا عِلَّةٍ للحكم ... ممَّن يَرى تعدُّدًا ذا سُقم هذا هو القسم الثاني من أقسام عدم التأثير، ومعنى البيت: أنه قد يجيء القدح بعدم تأثير العلة "فيما أصَّلَ" أي في الأصل، وذلك يكون بإبداء المعترض علةً لحكم الأصل غير علة المستدل بشرط أن يكون المعترض يَرَى تعدُّد العلة "ذا سقم" أي ضعيفًا ممتنعًا. وإيضاح هذا القسم: أنه معارضة في الأصل بإبداء علةٍ أخرى غير علة المستدل بناءً على منع التعليل بعلتين فأكثر، وأما على القول بجواز تعدّد العلل فلا قَدْح لصحة التعليل بكلتا العلتين، علة المستدل، وعلة المعترض. ومثال هذا القسم: قول من يمنع بيع الغائب: هو مبيع غير مرئي فلا يصح بيعه قياسًا على الطير في الهواء. فيقول المعترض: لا تأثير لكونه غير مرئيٍّ في الأصل، فإن العجز عن التسليم فيه كافٍ في عدم الصحة وعدمها موجود في الرؤية. وقوله: "أُصِّلا" بضم الهمزة وكسر الصاد مشددة مبنيًّا للمفعول، والمراد به الأصل، وقوله: "تعدُّدًا" يعني تعدُّدَ العلة، وقوله: "ذا سقم" أي سقيمًا يعني ضعيفًا ممتنعًا. 776 - وقد يجي في الحُكم وهو أضْرُبُ ... فمنه ما لَيْس لِفَيْدٍ يُجْلَبُ هذا هو القسم الثالث عند المؤلف من أقسام القدح بعدم التأثير، والتحقيق أنه راجع إلى القسم الأول، ووجه عدِّه قسمًا مستقلًّا أن بينه وبين الأول فرقًا في الجملة؛ لأن الأول المشارَ إليه بقوله: "يجيءُ في

(2/526)


الطردي حيث عُلّلاَ به. . . " إلخ = وَجْه (1) القدح فيه: هو أن الوصف من أصله لا أثر له لأنه طرديٌّ. وهذا القسم الثالث المذكور في هذا البيت إنما يكون الوصف الطردي فيه وصفًا آخر غير الوصف المعلَّل به مضمومًا إليه فيقدح بزيادة ذلك الوصف الذي لا أثر له في الحكم، فتنبَّه لهذا الفرق الدقيق. وهذا هو المسمَّى بعدم التأثير في الحكم، وهو ثلاثة أقسام كما أشار لذلك المؤلف بقوله: "وهو أضربُ" جمع ضرب بمعنى النوع. الأول منها: أن يكون ذلك الوصف المذكور مع العلة لا يُجْلب لفائدة أي لا فائدة في ذكره، وهو مراد المؤلف بقوله: "فمنه ما ليس لِفَيْدٍ يُجلبُ". ومثاله: قول الحنفي: مشركون أتْلفوا مالًا في دار الحرب فلا ضمان عليهم قياسًا على الحربيِّ، فإنَّ الوصف بالشرك هو في الحقيقة العلة، والوصف المضموم له في هذا المثال الذي هو كونهم في دار الحرب عند الحنفية طرديٌّ، لأن القائل منهم بعدم الضمان سواء عنده دار الحرب وغيرها، وكذلك القائلون منهم بالضمان، فإذًا لا فائدة لذكر دار الحرب، وإنما توجه القدح بعدم التأثير إلى المستدل لأنه ذكر وصفًا لا أثر له في الحكم مع العلة، وقوله: "لِفَيْد" متعلق بـ "يُجْلب" ومراده بالفَيْدِ الفائدة. 777 - وما لِفَيدٍ عن ضرورةٍ ذُكِرْ ... أَوْ لَا وفي العَفْو خلافٌ قد سُطِرْ أشار المؤلِّف في هذا البيت للقسم الثاني والثالث من القدح بعدم __________ (1) الأصل: ووجه، والصواب ما أثبت.

(2/527)


التأثير في الحكم، فأشار إلى الثاني بقوله: "وما لفيد عن ضرورة ذكر" يعني أن القسم الثاني من أقسام القدح بعدم التأثير في الحكم هو أن يُذْكر مع العلة وصف لا أثر له في الحكم إلا أن ذلك الوصف محتاج إليه حاجةً ضرورية للاحتراز به عن أمر ينقض العلة على المستدل. ومثاله: قول مُعتبر العَدَد في أحجار الاستجمار مثلًا: هي عبادة متعلقة بالأحجار لم تتقدمها معصية فاعْتُبِر فيها العدد قياسًا على أحجار رمي الجمار، فقوله: "لم تتقدمها معصية"، وَصْفٌ مذكورٌ مع العلة التي هي كونها عبادة متعلقة بأحجار، وهذا الوصف المضموم للعلة لا أثر له في الحكم إلا أنه ذُكِر لفائدة ضرورية، وهي أنه لو لم يذكره لانتقضت العلة بأحجار الرجم لأنها متعلقةٌ بها عبادة هي الرجم، ولم يعتبر فيها العدد فاضطر إلى إخراج هذا بقيد (لم تتقدمها معصية). ووَجْه القدح بهذا: أن عدم تقدّم المعصية لا أثر له في اعتبار العدد في الأحجار فلم يُقبل في معرض التعليل ولو كان المعلل له في نفس الأمر غيره. وأشار إلى الثالث بقوله: "أوْ لا" يعني أن القسم الثالث من أقسام القدح بعدم التأثير في الحكم هو أن يُذكر مع العلة وصفٌ مضموم إِليها لا أثر له في الحكم، إلا أنه مذكور لأجل فائدة غير ضرورية أي لو حُذِفَت لما ضرَّ حذفها لأنها لم يُحْتَرَز بها عن أمر ينقض العلة كالأول. ومثال هذا القسم ما لو قيل: الجمعةُ صلاةٌ مفروضة فلم تفتقر في إقامتها إلى إذن الإمام الأعظم قياسًا على الظهر، فقوله: مفروضة، وصف مضموم للعلة التي هي كونها صلاة، وله فائدة هي أن ذكر الفرض

(2/528)


يفيد تقريب الفرع من الأصل؛ لأن الفرض أقرب إلى الفرض من مطلق صلاة (1)، وإنما كانت هذه الفائدة غير ضرورية لأن لفظة "مفروضة" لو حُذِفت ما ضر ذلك، لأن الباقي لم ينتقض بشيء. ووجه القدح بهذا ما تقدم فيما قبله، ومن قَدَح بالأول قَدَح بالثاني من باب أولَى، والذين قالوا لا يقدح بالأول لأجل الضرورة لذكره اختلفوا في الثاني، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "وفي العفو خلاف قد سُطِر" يعني أن القدحَ بعدم التأثير في الحكم المتوجِّه من عدم تأثير تلك الزيادة التي لا أثر لها في الحكم مع أن لذكرها فائدة اخْتُلِف فيه هل يُعْفَى عنه وتكون زيادتها غير قادحة نظرًا إلى أن أصل التعليل بغيرها وإنما ذُكِرَت لحاجة، أو لا يُعْفَى عنها بل يُقْدَح بها؟ لأن ذِكْر ما لا أثر له في التعليل في معرض التعليل غيرُ مقبول، ومن مَنَعه فيما فيه ضرورة مَنَعه في غيره، ومن أباحه فيما فيه ضرورة اختلفوا في جوازه فيما لا ضرورة فيه كما تقدم قريبًا. وقوله: "قد سُطِر" أي كُتِب في الفن. 778 - والقلبُ إثباتُ الذي الحكمَ نقضْ ... بالوصفِ والقدحُ به لا يُعْتَرَض هذا هو الرابع من القوادح في الدليل، ولم يذكر المؤلف إلَّا قلب القياس خاصةً تبعًا للقرافي (2)، وعرَّفه في "جمع الجوامع" (3) بمعناه الأعم الشامل للقياس وغيره من الأدلة حيث قال: "وهو دعوى أن ما استدلَّ به __________ (1) ط: الصلاة. (2) في "التنقيح": (ص/ 130). (3) (2/ 311).

(2/529)


في المسألة على ذلك الوجه عليه لا له إن صح". ومعنى البيت: أن قلب القياس هو إثبات المعترض نقيض الحكم بعين العلة التي عَلَّلَ بها المستدلُّ. وقوله: "والقدح به لا يُعْتَرض" يعني أن القلب مبطل للقياس بإبطاله العلة من جهة أنه معارضة، لأن المعترض إذا قَلَب فأثبتَ بالعلةِ بعينها نقيضَ الحكم في عين صورة النزاع بطلت العلة وإلَّا لزمَ اجتماع النقيضين وهو محال. وقوله: "الحكم" مفعول قوله: "نقض" مقدَّم عليه. وقوله: "بالوصف" يعني العلة وهو متعلق بقوله: "إثبات" والذي نقض يعني به نقيض الحكم أي والقلب إثبات نقيض الحكم بالوصف أي العلة، ثم شرع في بيان أقسامه بقوله: 779 - فمنه ما صحَّح رأيَ المعترِض ... مع أنَّ رأيَ الخصمِ فيه منْتَقِضْ يعني أن قلب القياس قسمان: الأول منهما: هو المشار إليه في هذا البيت، وهو ما صحح فيه المعترض القالِبُ للقياس مذهبَه، وذلك التصحيح فيه إبطال مذهب الخصم أي المستدل، وسواء كان مذهب المستدل مصرَّحًا به في دليله أو لا. مثالُ ما كان مصرَّحًا به فيه: قول الشافعي في بطلان بيع الفضوليّ: عقدٌ في حقِّ الغير بلا ولاية عليه فلا يصح، قياسًا على شراء الفضولي فلا يصح لمن سماه. فيقول المالكي أو الحنفيُّ: عقد فيصح كشراء الفضولي فإنه يصح لمن سماه إن رضي ذلك المسمَّى له وإلَّا لزمَ الفضوليَّ. ومثال غير المصرح به فيه: قول المالكي والحنفي -المشترطين للصوم في الاعتكاف-: هو -أي الاعتكاف-: لُبث فلا يكون بنفسه

(2/530)


قُربة، قياسًا على وقوف عرفة، فإنه إنما يكون قربة بضميمة الإحرام إليه، فكذلك الاعتكاف لا يكون قربة إلَّا بضميمة عبادة أخرى إليه وهي الصوم الذي هو المتنازَع فيه، فمذهبهما الذي هو اشتراط الصوم في الاعتكاف غير مصرَّح به في دليلهما. فيقول الشافعي -مثلا قالِبًا للدليل-: الاعتكاف لُبْثٌ فلا يشترط فيه الصوم قياسًا على وقوف عرفة. والضمير في قوله: "منه" و"فيه" عائدٌ إلى القلب. والمراد بـ "الخصم" المستدل كما تقدم، وقوله: "رأي" مفعول. 780 - ومنه ما يُبطل بالتزام ... أو الطباق رأْيَ ذي الخِصام هذا هو الثاني من قسمي القلب وهو ما يتعرض فيه المعترض لإبطال مذهب الخصم فقط من غير تعرُّض لتصحيحه مذهب نفسه، سواء كان إبطاله لمذهب المستدل مدلولًا عليه بدلالة المطابقة أو بدلالة الالتزام. مثال الإبطال المصرح به بدلالة المطابقة: قول الحنفي في مسح الرأس في الوضوء: هو عضو وضوء فلا يكفي فيه أقل ما يطلق عليه اسم المسح، قياسًا على الوجه، فإنه لا يكفي في غَسْلِه أقل ما يُطْلَق عليه اسم الغسل. فيقول الشافعي: عضو وضوء فلا يتقدَّر بالربع قياسًا على الوجه في ذلك، فالشافعي يقول للحنفي: كونه عضو وضوء -الذي هو علة قياسك- يقتضي نقيضَ مذهبك من جواز الاقتصار على الربع في مسح الرأس. وليس في قَلْب الشافعيِّ هذا الدليلَ على إثبات مذهبه الذي هو الاكتفاء بأقل ما يُطلق عَليه اسم المسح. ومثال ما كان إبطال مذهب المستدل فيه بدلالة الالتزام: قول

(2/531)


الحنفي في بيع الغائب: هو عقدُ معاوضةٍ فيجوز مع الجهل بالعِوَض قياسًا على النكاح فإنه يجوز مع الجهل بالزوجة أي عدم رؤيتها، فيقول المعترض كالمالكي والشافعي: فلا يثبت به خيار الرؤية قياسًا على النكاح فقد أبطلا مذهبه بالالتزام، لأن ثبوت خيار الرؤية لازم شرعًا عنده لصحة بيع الغائب، وإذا انتفى اللَّازم انتفى الملزوم. وقوله: "رأي ذي الخصام" مفعول "يُبطل" بضم الياء، والمراد بذي الخصام صاحب المخاصمة الذي هو المستدل إذ هو خصم المعترض. ومراده بـ "الطباق" دلالة المطابقة التي هي دلالة اللفظ على تمام المعنى الموضوع له. 781 - ومنه ما إلى المُساواة نسِبْ ... ثبوت حُكْمَين للأصْلِ ينسلبْ 782 - حكمٌ عن الفرع بالائتلافِ ... وواحدٌ من ذين ذو اختِلافِ (1) 783 - فيلحَق الفرعُ بالأصل فَيَرِدْ ... كونُ التَّساوي واجبًا من مُنْتَقِدْ يعني أن من القلب لإبطال مذهب الخصم بالالتزام النوعَ المعروفَ بقلب المساواة، وسمي "قلب المساواة" لقول المعترض به: أنه يجب المساواة بين الحُكْمين في الفرع كما أنهما متساويان في الأصل. وعرَّفه المؤلف بقوله: "ثبوت حكمين" إلخ يعني أن قلب المساواة هو أن يَثبت للأصل المقيس عليه حكمان، واحدٌ منهما منتفٍ عن الفرع بالائتلاف أي بالاتفاق، والحكم الآخر هو الذي وقع الخلاف في ثبوته للفرع فيُلْحق __________ (1) في بعض المطبوعات: ذو خلاف.

(2/532)


المستدلُّ الفرعَ المختلَفَ فيه بالأصل المقيس عليه. فَيَرِد من جهة المنتقد الذي هو المعترض اعتراضٌ هو كون التساوي بين الحُكْمين واجبًا في الفرع كاستوائهما في الأصل. ومثاله: قول الحنفيّ: طهارة الوضوء وغسل الجنابة طهارة بمائع فلا تُشترط فيها النية قياسًا على طهارة الخَبَث بخلاف غير المائع كطهارة التيمم فتجب فيه النية، فيقول المعترض كالشافعيّ والمالكيّ: الأصلُ المقيس عليه الذي هو طهارة الخبث يستوي مائعُه وجامدُه إذ لا فرقَ بين خَبَث جامد وبين خَبَث مائع فتلزم المساواة بين مائع الفرع وجامده، والفرعُ هو طهارة الحدث، فيمنع الفرق في الفرع الذي هو طهارة الحدث بين الجامد الذي هو التيمُّمُ والمائع الذي هو الوضوء والغسل لعدم الفرق في الأصل الذي هو طهارة الخبث بين مائع وجامد، فقوله: "ثبوت حكمين للأصل" في هذا المثال هما: عدم اشتراط النية في الخبث الجامد والخبث المائع. وقوله: "ينسلب حكمٌ عن الفرع بالائتلاف" في هذا المثال هو سلب عدم اشتراط النية في طهارة الفرع الجامدة، أعني بالفرع طهارة الحدث، وبالجامدة التيمُّم. وقوله: "وواحد من ذين ذو اختلاف" في هذا المثال هو اشتراط النية في الوضوء والغسل. وقوله: "فيلحق الفرع بالأصل" أي يقول الحنفي: لا يشترط فيهما النية قياسًا على غسل النجاسة. وقوله: "فيَرِد كون التساوي واجبًا" أي يقول المالكي والشافعيُّ مثلًا: الأصل المقيس عليه الذي هو طهارة الخبث لا فرقَ بين مائعه وجامده، فيلزم أن

(2/533)


يكون الفرع المقيس كذلك لا فرق بين جامده ومائعه. 784 - قبوله فيه خِلافًا يَحْكِي ... بعضُ شروح الجمع لابن السُّبكي يعني أن بعض شروح "جمع الجوامع" حَكَى الخلاف في قبول قلب المساواة ورده، وصرَّح في "جمع الجوامع" (1) بأنَّ ممن ردَّه الباقلانيُّ (2). واحتج من رده بأن وجه استدلال المعترض الغالبُ فيه غيرُ وجه استدلال المستدل، وبيَّنه ابنُ قاسم في "الآيات البينات" (3) بأن المراد بوجه استدلال المستدل في المثال المذكور كون الجامع الطهارة بالماء المعبَّر عنه بالمائع، ووجه استدلال المعترض كونه مطلق الطهارة. وقوله: "قبوله" مبتدأ خبره جملة "يحكي"، وقوله: "خلافًا" مفعول "يحكي" مقدَّم عليه، وقوله: "بعض" فاعل "يحكي" و"الجمع" يعني به "جمع الجوامع" و"ابن السبكي" يعني به تاجَ الدين وأبوه تقي الدين السُّبكي. 785 - والقول بالموجَب قدحه جلا ... وهو تسليمُ الدليل مُسْجَلا 786 - مِن مانعٍ أن الدليلَ استلزما ... لِما من الصوَرِ فيه اختصما يعني أن القول بالموجَب -بفتح الجيم- من القوادح في الدليل، وعرَّفه بالاصطلاح الأصوليّ بأنه تسليم الدليل من مانع أن الدليل مستلزم لمحل النزاع (4). وإيضاحه أنه يقول: صدقت فيما استدللت به إلَّا أنه لا __________ (1) (2/ 315). (2) انظر "البرهان": (2/ 676 - 679) للجويني. (3) (4/ 143). (4) قال في "النشر": (2/ 219): "يعني أن القول بالموجبَ: "هو تسليم" دليل المستدل، =

(2/534)


ينفعك لأنه ليس في محل النزاع. وقوله: "مسجلًا" يعني مطلقًا أي سواء كان الدليل المقدوح فيه بالقول بالموجَب قياسًا أو غيره فهو يكون في العلل وفي غيرها من الأدلة. ومثاله: قوله تعالى عن المنافقين: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون/ 8] الآية، فإنَّ اللَّه سلَّمَ لهم أن الأعزَّ قادر على إخراج الأذلِّ ولكن صرح بأن ذلك لا ينفعهم لأنهم الأذلُّ. أما القول بالموجَب في اصطلاح البيانيين فهو نوعان محروفان عند أهل البلاغة، وهو عندهم من البديع المعنوي (1). وقوله: "من مانع" يتعلق بـ "تَسْليم"، وقوله: "لما" زِيْدَت فيه اللام على المفعول لتوكيد التعدية، والأصل: استلزم ما اختصما فيه من الصُّوَرِ. 787 - يجيءُ في النفي وفي الثبوتِ ... ولشُمولِ اللفظِ والسكوتِ 788 - عَمَّا من المقدّمات قد خلا ... من شهرةٍ لخوفِهِ أن تُحْظَلا يعني أن القول بالموجَب يقع على أربعة أوجه (2): الأول: النفي، والمرادُ به أن يستنتج المستدل من الدليل نفي أمر يتوهم أنه مبنى مذهب الخصم في المسألة، والخصمُ يمنع كونه مبنى __________ = أي ما يقتضيه دليله، حال كون "الدليل مسجلًا" أي مطلقًا، نصًّا كان أو علة أو غيرهما من الأدلة، حال كون ذلك التسليم كائنًا من معترض "مانع" استلزم ذلك الدليل لما "اختصم" أي تنازع هو والمستدل فيه من الصور" اهـ وهو أوضح من عبارة المصنف. (1) انظر "المطوَّل": (ص/ 444) للتفتازاني. (2) انظرها في "الضياء اللامع": (2/ 408 - 409).

(2/535)


مذهبه فيقول: صدقت في نفيه لكنه ليس مبنى مذهبي فلا ينتفي مذهبي بنفيه. ومثاله: قول المالكي وغيره ممن يرى القصاص في القتل بالمُثَقَّل: التفاوتُ في الوسيلة من آلات القتل لا يمنع القصاص، قياسًا على المتوسَّل إليه فإنه لا يمتنع فيه القصاص بالتفاوت، فيقع القصاص في القتل وفيما هو دونه كالقطع، فلا فرق بين القتل بقطع عنق أو قطع عضو آخر، وكذلك لا فرق في قطع العضو بين حَزِّه من جهة واحدة أو جهتين أو غير ذلك. فيقول الحنفيُّ: إنَّا نقول بموجب دليلك ونسلِّم أن التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص، ولكن كونه لا يمنع القصاص ليس مستندي في عدم القصاص، ولكنَّ مستندي غيره وهو أن القتل بالمثقَّل شِبْه عمد لا قَتْل عمد، لأن العمد من أفعال القلوب فلا يتحقق كون القتل عمدًا إلَّا بآلته المعهودة له كالسلاح المحدَّد، فهذا القول بالموجَب وقع على نفي وهو قول المالكي مثلًا: لا يمنع القصاص في المثال المذكور، وغالب القول بالموجب من هذا، وهذا هو مراده بقوله: "يجيءُ في النَّفْي". الثاني: الثبوت، وضابطه أن يستنتج المستدل من الدليل أَمرًا يتوهم أنه محلُّ النزاع أو ملازمه، فيقول له الخصم: هذا الأمر الذي استنتجت ليس محل النزاع ولا ملازمًا له. ومثاله: قول المالكي أو الشافعيّ: القتل بالمثقل قتلٌ بما يَقْتل غالبًا فلا ينافي القصاصَ فيجب فيه القصاص قياسًا على الإحراق بالنار. فيقول الحنفيُّ: قلنا بموجبه وسلَّمنا أنه لا ينافي القصاص ولكن كونه لا ينافي القصاص ليس هو محلَّ النزاع، بل محل النزاع وجوب

(2/536)


القصاص بالفعل، وعدم منافاته للقصاص أعم من وجوب القصاص، والدليلُ على الأعمِّ ليس دليلًا على الأخصِّ؛ لأن كون الشيء لا ينافي الشيء لا يدل على استلزامه له، ألا ترى أن القعودَ لا ينافي الكلامَ، والحلاوةَ لا تنافي السواد، والبرودةَ لا تنافي البياض، وليس واحدٌ منها مستلزمًا للآخر، فهذا القول بالموجَب وقع على قول المستدل: فيجب القصاص وهو ثبوت، وهذا مراده بقوله: "وفي الثبوت". والحاصل أن المقصود من هذا النوع الأخير استنتاج ما يتوهَّم أنه محل النزاع أو لازمه فيقول الخصم: ليس محل النزاع ولا لازمه. والمقصود من النوع الأول استنتاج إبطال ما يتوهم أنه مَبْنَى دليل الخصم، فيقول الخصم: ليس مَبْنَى دليلي كما تقدم. الثالث: أن يَرِد القول بالموجَب لشمول لفظ المستدل صورةً متفقًا عليها بين المستدل والمعترض فيحمل المعترض كلامَ المستدل على تلك الصورة المتفق عليها. ومثاله: قول الحنفي في وجوب زكاة الخيل: هي حيوان يُسابَق عليه فتجب فيه الزكاة قياسًا على الإبل. فيقول المعترض كالمالكي: هو كذلك إذا كانت الخيل للتجارة خاصة. قال الفهري: هذا هو أضعف أنواع القول بالموجَب لأنه يندفع بأدنى شيء، كما لو قال المستدل: عنيتُ الخيلَ من حيث هي خيل لا من

(2/537)


حيث كونها للتجارة. وهذا مراد المؤلف بقوله: "ولِشُمُولِ اللَّفظِ". الرابع: هو إتيان القول بالموجَب لأجل سكوت المستدل عن مقدمةٍ غير مشهورة مَخَافَةَ منع الخصم لها لو صرَّح بها. ومثاله: قول مُشترط النية في الوضوء وغسل الجنابة: كل قُرْبة تُشترط فيها النية، ويَحْذِفُ صغرى القياس التي هي: الوضوء والغسل قُرْبة. فيقول الحنفيُّ بموجبِ الكبرى المنطوقِ بها لأجل حذفِ الصغرى. وإيضاحه أنه يقول: صدقت في أن كل قُرْبة تشترط فيها النية ولكن لا يلزم من ذلك اشتراطها في الوضوء، لأن المقدمة الواحدة لم تنتج، وهذا القول بالموجَب إنما ورد للسكوت عن الصغرى، فلو صرح المستدل بالصغرى فقال: الوضوء والغسل قربة وكل قربة تشترط فيها النية، فإن الحنفي يمنع الصغرى فلم يقل بموجبها وانتقل إلى المعارضة؛ لأنه يقول: الوضوء والغسل تنظيف للدخول في القربة لا قربة. وهذا مراد المؤلف بقوله: "والسكوت عما من المقدمات. . " إلخ. وقوله: "خلا من شهرةٍ" أي لأن المشهور كالمذكور، والمذكور لا يدخله هنا القول بالموجَب كما عرفت، وعَكَس بعضهم فقال: يجب القيد بالشهرة لأن الشهرة هي التي تسوِّغ حذف الصغرى إذ لو كانت غير مشهورة لما جاز حذفها، واختاره العَضُد (1). __________ (1) يشير إلى ما ذكره الناظم في "شرحه": (2/ 222) بقوله: "وتبعت في التعبير بـ "غير مشهورة" ما في أكثر نسخ المختصر، وعلى ذلك شرحه السبكي وتبعه في جمع الجوامع. ووقع في بعض نسخ المختصر "عن صغرى مشهورة" وعلى هذا شرحه =

(2/538)


789 - والفرق بينَ الفرع والأصل قدَحْ ... إبداءً مختصٍّ بالأصلِ قدْ صَلَحْ 790 - أو مانعٍ في الفرع والجمع يرى ... إلَّا فلا فرقَ أناسٌ كُبَرا يعني أن من القوادح الفرق بين الفرع والأصل، وعرَّفَه المؤلف بأنه أحد أمرين، وقيل: هما معًا. الأول منهما: إبداء المعترض وصفًا صالحًا للتعليل مختصًّا بالأصل دون الفرع، كقول الشافعي: التفاح ربوي قياسًا على البُرِّ بجامع الطَّعم. فيقول المالكي: إن في البرّ وصفًا صالحًا للتَّعليل وهو الاقتيات والادِّخار موجودًا في الأصل الذي هو البر دون الفرع الذي هو التفاح، فيحصل الفرق بين الأصل والفرع بناءً على وجوب اتحاد العلة. الثاني: وجود مانع يقتضي نقيض الحكم موجود في الفرع دون الأصل، كما لو قال من يشترط في الهبة عدم الغرر: إنها تبطل بالغرر قياسًا على البيع فيقول المعترض: إن في الفرع الذي هو الهبة مانعًا من البطلان هو عدم المعاوضة من أصلها فلو لم تحصل الهبة ذاتُ الغرر لما نقص على الموهوب شيء، وهذا المانع في خصوص الفرع دون الأصل لأنه معاوضة تبطل بالغرر. وكما لو قال الحنفى: قَتْل المعاهَد يوجبُ القصاص قياسًا على المسلم بجامع عِصْمة الدم. فيقول المالكي مثلًا: إن في الفرع الذي هو المعاهد مانعًا من الحكم الذي هو القصاص مختصًّا به دون الأصل وذلك __________ = العضد. . . " اهـ.

(2/539)


المانع هو الكفر. وقيل: إن القدح بالفرق بين الفرع والأصل إنما يكون بالأمرين معًا لا بواحدٍ منهما، وعليه فحصول واحد منهما دون الآخر لا يقدح، وإليه الإشارة بقول المؤلف: "والجمعَ يرى" أي والجمع بين الأمرين في القدح المذكورين يراه أناسٌ كبراءُ من الأصوليين. وقوله: "إلَّا فلا فرق" أي وإن لم يجتمعا معًا فلا فرق، أي فلا فرق بين الأصل والفرع قادحًا إلَّا بهما معًا. وقوله: "أناسٌ" فاعل يرى و"الجمع" مفعوله مقدَّم عليه، وهذا القدح المذكور بالفرق بين الفرع والأصل مبني على منع تعدُّد العلل كما أشرنا إليه. ووجه القدح بهذا القادح: أنه يؤثر في كون العلة جامعًا بين الفرع والأصل، وذلك هو المقصود من القياس فالمؤثر فيه قادح. والجواب عن هذا القادح بمنع كون الوصف المبدَى في الأصل علة أو جزءَها، وبمنع كون ما في الفرع مانعًا من الحكم، وأنكَرَ قومٌ هذا القادح زاعمين أنه لا أثر له، وقيل فيه غير هذا. 791 - تعدُّدُ الأصلِ لفرعٍ مُعتمدْ ... إذ يوجبُ القوَّةَ تكثيرُ السندْ يعني أن تعدد الأصل لفرع واحد، أي تعدُّد أمور يصلحُ كلُّ واحد منها بانفراده للقياس عليه معتمد عليه أي عند ابن الحاجب (1)، وتبعه __________ (1) لم أر هذا البحث في مختصر ابن الحاجب، وقد عزاه إليه الناظم في "الشرح": (2/ 224).

(2/540)


المؤلف. ووجهه عند القائل به: أن كثرة الأدلة توجب قوة الظن بالمدلول. ومثاله: قول الحنفي: بضع المرأة كسلعة من سلعها تبيعها لمن شاءت بجامع أخذ المال عوضًا عن الكل، مع أنه قاس هذا الفرع بعينه على أصل آخر كقوله: المالكةُ أمرَ نفسِها تزوِّج نفسها دون ولي قياسًا على الرجل بجامع أن كلًّا منهما له حاجة في التلذذ والنسل، وهذا الفرع الذي هو تزويج الثيب نفسها أُلْحِقَ بأصلين أحدهما المال والثاني الرجل. وصحح السبكي (1) منع تعدد الأصل لفرع واحد معلِّلًا ذلك بأنه يؤدي إلى انتشار البحث، والتحقيق أن الانتشار لا يلزم من تعدد الأصل. وقوله: "تكثيرُ" فاعل "يوجب" و"القوة" مفعوله، ومراده بالسند الدليل. 792 - فالفرقُ بينَه وأصلٍ قد كفى ... وقال لا يكفيه بعضُ العُرَفا يعني أنه على القول المعتمد بجواز تعدد الأصل لفرع واحد إذا اعترض على المستدل معترضٌ بالقادح المعروف بالفرق بين الفرع والأصل، فقيل: يكفي الفرق بين الفرع وبين أصلٍ واحد من تلك الأصول، وقيل: لا يكفي بل لابد من الفرق بين الفرع وبين كل أصل من تلك الأصول، والقول بأنه لابد من الفرق في الجميع واضح. وأما القول بالاكتفاء بالفرق بين الفرع وبين أصل واحد فإنه على الإلحاق بالمجموع واضح أيضًا، وأما على أن الإلحاق بكل واحد بانفراده كما دل عليه قوله: "إذ يوجب القوة تكثير السند" فمُشْكِل جدًا، وما وجَّهَه به ابن قاسم في "الآيات __________ (1) "الجمع": (2/ 320).

(2/541)


البينات" (1) وشهاب الدين ابن عميرة (2) = لا يتَّجِه عند التأمل الصادق فيما يظهر لنا واللَّه تعالى أعلم. فعلى أنه لابد من الفرق بين الفرع وكل أصل لو اعترض على الحنفيّ أحد قياسَيْه المتقدِّمَيْن كما لو قال المعترض: إن في الفرع الذي هو تزويج المرأة نفسها مانعًا لم يكن في الأصل، وهو أن عَرْضها نفسَها على الرجال كما تُعْرَض السلعة ومعاملتها لهم على بُضْعها كمعاملتها على سلعتها منافٍ للحياء والصيانة اللذَيْن تقضي بهما المروءة، بخلاف السلعة فلا مانع فيها من ذلك، فإنَّ هذا الفرق لا يكفي حتى يورَدَ فرقًا على الأصل الآخر، كأنْ يقول: إن في الفرع مانعًا ليس في الأصل وهو أن المرأة لو تُرِكَت ونفسَها لزوَّجَت نفسَها من غير كُفء وتلحق أولياءَها المعرَّةُ بسبب ذلك بخلاف الذَّكَر. وعلى القول بالاكتفاء بواحد فلا حاجة إلى الفرق في الآخر. وقول المؤلف: "وأصل" معطوف على الضمير المخفوض من [غير] إعادة العاطف وهو مرجوح، وأجازَه قوم منهم ابن مالك (3) مستدلين بنحو قوله: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء/ 1] على قراءة الخفض (4)، __________ (1) (4/ 149). (2) لعله في حاشيته على المحلي، وانظر "النشر": (2/ 226). (3) قال في الخلاصة: وعَودُ خَافِضٍ لَدَى عطفِ عَلَى ... ضَمِيرٍ خَفضٍ لَازِمًا قَدْ جُعِلا وَلَيس عِندِي لَازِمَا إذ قَد أَتى ... فِي النَّظمِ وَالنّثرِ الصَّحِيحِ مُثبَتَا (4) وهي قراءة حمزة الزيات، انظر "المبسوط": (ص/ 153) لابن مهران.

(2/542)


وقول الشاعر: . . . . . . . . . . . . ... فاذهب فما بكَ والأيامِ من عجبٍ (1) و"العرفاء" جمع عريف، وهو رئيس القوم، ومراد المؤلف بهم علماء الأصول. 793 - وقيل إن أُلْحِقَ بالمجموعِ ... فواحدٌ يكفيه لا الجميعِ يعني أن بعض أهل الأصول فصَّل في الخلاف المذكور فقال: إن قَصَد المستدل إلحاقَ الفرع بمجموع الأدلة من حيث هي مجموعة، فإنَّ القدحَ في واحدٍ منها بالفرق قدح في الكل؛ لأن كل واحد منها بعض من الدليل الذي هو مجموعها أي [و] هي مجتمعة. وإن قصد الإلحاق بكلٍّ منها على انفراده، فلابد من القدح بالفرق في كل واحد منها؛ لأن كل واحد منها دليل مستقل لا ارتباط له بالآخر. وإذا جُهِل قصدُه حُمِل على الإلحاق بكل واحد، فاحتيج إلى الفرق في كل واحد. والمراد بالإلحاق بالمجموع هنا: الإلحاق بأمور يصلح كلٌّ منها بانفراده للقياس (2) عليه مع ملاحظته (3) في الإلحاق. 794 - وهل إذا اشتغَل بالتِّبيانِ ... يكفي جوابُ واحدٍ قولانِ يعني أن المستدل الذي اعترض عليه إذا اشتغل بالتبيان -أي تبيين __________ (1) صدره: فاليومَ قرَّبتَ تهجونا وتَشتُمُنا. والبيت بلا نسبة في "الكامل": (2/ 931)، و"الخزانة": (5/ 123). (2) الأصل: بالقياس. (3) ط: ملاحظة المجموع.

(2/543)


بطلان الاعتراض عليه- هل يكفيه بطلان الاعتراض بالفرق في أصل واحد، أو لابد من تبيينه في كل واحد؟ فلو أبطل الحنفيُّ مثلًا اعتراض المعترض في أحد قياسَيْه المتقدمَيْن، فقيل: يكفيه ذلك، وهو مُفَرَّع على أنه لابد من القدح بالفرق في جميع الأصول، فإذا أبطلَ القدحَ في واحد منها استقام وكفى في الدليل. وقيل: لابد من تبيينه بطلان القدح بالفرق في كل واحد منها، وهو مُفَرَّع على أنه يكفي القدح بالفرق في واحد؛ لأنه ما دام واحد باقيًا لم يبطل الاعتراض عليه فهو كافٍ في الاعتراض وإبطال الدليل؛ لأنها حينئذٍ كأنها أجزاءُ دليل واحد يبطل مجموعها ببطلان البعض، فلابد في الاحتجاج بها إذًا من تبيين إبطال الاعتراض على كل واحد منها. وقوله: "جواب" مضاف إلى قوله: "واحد" أي جواب واحد من تلك الاعتراضات بالقدح بالفرق على تلك الأصول المتعدِّدة. 795 - من القوادح فسادُ الوضعِ أنْ ... يجي الدليلُ حائدًا عن السَّنَنْ 796 - كالأخذِ للتوسيع والتسْهيلِ ... والنفي والإثبات من عديلِ يعني أن من القوادح فسادَ الوضع، وعرَّفه المؤلف بأنه هو "أن يجيء الدليلُ حائدًا عن السنن" أي الطريق الصالحة لاعتبار الدليل في ترتيب الحكم عليه، وذلك كأن (1) يكون صالحًا لضدِّ ذلك الحكم أو نقيضه (2)، ومَثَّل المؤلف لذلك بأربعة أمثلة: __________ (1) ط: بأن. (2) ط: تقليله.

(2/544)


الأول: أَخْذُ التوسيع من التضييق، ومثاله: قول الحنفية: الزكاة واجبة على وجه الإرفاق لدفع حاجة المسكين، فهي على التراخي كالدية على العاقلة، ففي هذا الدليل أخذ التراخي الذي هو توسيع من موجب التضييق، وهو دفع حاجة المسكين لأن دفع حاجته يقتضي تعجيل إخراج الزكاة لا تأخيره. الثاني: أخذ التخفيف من التغليظ، ومثاله: قول الحنفية: القَتْل عَمْدًا جناية عظيمة فلا تجب فيه كفارة كالردة، ففي هذا الدليل أَخْذ التخفيف الذي هو سقوط الكفارة من موجب التغليظ الذي هو عظم الجناية. الثالث: أخذ النفي من الإثبات، ومثاله: قول الشافعي في عدم انعقاد بيع المحقَّرات بالمعاطاة: هو بيعٌ لم يوجد فيه سوى الرضا فلا ينعقد قياسًا على غير المحقرات، ففي هذا الدليل أخذ النفي الذي هو نفي انعقاد البيع من موجب الإثبات وهو الرضا، لأن الرضا مَنَاطُ انعقاد البيع لا عدم انعقاده. الرابع: أخذ الإثبات من النفي، ومثاله: قول المالكية بانعقاد البيع مطلقًا بالمعاطاة: هو بيع لم توجد فيه الصيغة فينعقد، ففي هذا الدليل أخذ الإثبات الذي هو انعقاد البيع من موجب النفي الذي هو عدم الصيغة لأن عدم الصيغة مناسب لعدم الانعقاد لا للانعقاد. ومراد المؤلف بـ "العديل" المقابل المنافي أي: كأخذ التوسيع من عديله أي مقابله المنافي له وهو التضييق وهكذا، وقد عرفتَ أن عديل التخفيف التغليظ، وعديل النفي الإثبات كالعكس، و"السَّنن" بفتح السين الطريق.

(2/545)


واعلم أن هذا القادح والذي بعده يَرِدان على العلل وغيرها فهما قادحان في الدليل مطلقًا قياسًا كان أو غيره، ولذا عَبَّر المؤلف بالدليل. 797 - منه اعتبار الوصفِ بالإجماعِ ... والذِّكرِ أو حديثِه المطاع 798 - بناقِضِ الحكمِ بذا القياس ... . . . . . . . . . . . . يعني أن من فساد الوضع كون الوصف الجامع ثبت اعتباره بإجماع أو نصٍّ كتاب أو سنة في نقيض الحكم أو ضده، في قياس المستدل أو غيره من الأدلة. مثال اعتباره بالنصِّ في ذلك: قول الحنفية: الهرُّ سَبُع ذو ناب فيكون سؤره نجسًا كالكلب. فيقال: السبعية اعتبرها الشارع علة للطهارة حيث دُعي إلى دار فيها كلب فامتنع، وإلى أخرى فيها سِنَّوْرٌ أي هِرٌّ فأجاب، فسئل عن ذلك فقال: "السِّنَّور سبع" (1). فإن قيل: يحتمل أن يكون امتناعُه من دخول دارٍ فيها كلب لعدم دخول الملائكة لا لنجاسته. فالجواب: هو ما يأتي للمؤلف في آخر كتاب القياس (2) من أن __________ (1) أخرجه أحمد: (14/ 85 رقم 8343)، والدارقطني: (1/ 63)، والحاكم: (1/ 183)، والبيهقي: (1/ 249) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. قال الدارقطني: "تفرد به عيسى بن المسيب عن أبي زرعة وهو صالح الحديث". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح ولم يخرجاه وعيسى بن المسيب تفرد عن أبي زرعة إلا أنه صدوق ولم يجرح قط". وصححه ابن دقيق العيد وابن الملقن. لكن ضعفه أبو زرعة كما في "العلل" رقم (98)، والعقيلي في "الضعفاء": (3/ 378) وغيرهم. انظر "البدر المنير": (1/ 445 - 447). (2) البيت رقم (809).

(2/546)


المثال يكفي فيه الاحتمال حيث يقول: والشأنُ لا يُعترض المثالُ ... إذ قد كفى الفرضُ والاحتمالُ واعتباره بالإجماع مَثَّل له المؤلف في "الشرح" (1) بقول الشافعي في تثليث مسح الرأس في الوضوء: هو مسح فيثلَّث كأحجار الاستجمار (2). فيقال: المسح اعتبره الشارع بالإجماع علة لعدم التثليث في المسح على الخف فإنه لا يُثَلَّث إجماعًا؛ إلَّا أنه حَكَى هذا الإجماعَ بقوله: "فيما قيل" (3). والظاهر أنه لم يُجْمَع على عدم تثليثه. ومراده بـ "الذِّكر" القرآن، والمراد "بناقض الحكم" ما ينقضه من ضد أو نقيض، والباء في قوله: "بذا" ظرفية. . . . . . . . . . . . . ... جوابه بصحَّة الأساسِ يعني أن جواب القدح بفساد الوضع هو أن يجيب المستدلُّ المعترضَ بأنَّ أساسه أي دليله صحيح، وذلك بأن يبيّنَ أن لدليله جهتين، إحداهما تصلح لنقيض حكمه ولم تكن هي دليله، وإنما استدلاله بالأخرى التي لا يلحقها فساد الوضع. ومثال رد القدح به في الأمثلة المتقدمة: هو أن يقول الحنفيُّ مثلًا: إن قولي بالتراخي في إخراج الزكاة لم آخذه من سدِّ حاجة الفقير، وإنما أخذته من الرفق بالمالك، وقد دلَّ الشرعُ على الرفق به كعدم أخذ خِيار مالِه، وكعدم تكليفه الإخراج من عين المال. وكأنْ يقول الحنفيُّ أيضًا: قولي بعدم الكفارة في القتل عمدًا لم __________ (1) (2/ 229). (2) ط: الاستنجاء، ومثله في "النشر". (3) المصدر السابق.

(2/547)


آخذه من عِظَم الجناية في القتل وإنما أخذته من أن القتل له عقوبة أخرى أعظم من الكفارة وهي القصاص. وكأنْ يقول الشافعي مثلًا: قولي بأن البيع في المحقَّرات لا ينعقد بالمعاطاة لم آخذه من وجود الرضا، وإنما أخذته من عدم وجود الصيغة. وكأن يقول المالكيُّ: قولي بانعقاد البيع بالمعاطاة مطلقًا لم آخذه من عدم الصيغة، وإنما أخذته من وجود الرضا الذي هو مناط انعقاد البيع كما يشير إليه قوله تعالى {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء/ 29]. 799 - والخُلْفَ للنصِّ أو إجماعٍ دعا ... فسادَ الاعتبار كُلُّ من وَعى يعني أن من القوادح نوعًا يسمَّى فسادَ الاعتبار، وهو مخالفة الدليل لنصٍّ من كتاب أو سنة، فكل دليل خالفَ النصَّ فهو مقدوح فيه بالقادح المُسمَّى فسادَ الاعتبار. ومثاله: قول من يمنع القرض في الحيوانات: لا يجوز لعدم انضباطه قياسًا على المختلطات. فيقول من يرى جوازه: هذا معترَضٌ بما ثبت في "صحيح مسلم" (1): من أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- استسلف بَكْرًا وردَّ رَباعيًّا، وقال: "إن خيار الناس أحسنهم قضاءً". ومن أمثلته: قول من يرى منع غسل الزوج لزوجته بعد الموت: لا يجوز لحُرْمة النظر إليها قياسًا على الأجنبية، فيُعْتَرض بأنه مخالف للإجماع السكوتي في غَسْل عليٍّ فاطمةَ رضي اللَّه عنهما، فإنَّ هذا الإجماع السكوتي يقدح في ذلك الدليل. وقوله: "دعا" معناه سُمّي، وقوله: "كلُّ" فاعل "دعا"، ومُرَادُهُ بـ "منْ وَعى" من حَفِظ علمَ الأصول. __________ (1) رقم (1600) وقد تقدم.

(2/548)


800 - وذاك من هذا أخصُّ مُطلقا ... وكونه ذَا الوجهِ مما يُنتقى يعني أنه اختلف في النسبة بين فساد الوضع وفساد الاعتبار على قولين: الأول: أن فساد الاعتبار أعمُّ مطلقًا، وفساد الوضع أخصُّ مطلقًا، فالنسبة بينهما العموم المطلق، وهذا قول الآمدي (1)، وهو ظاهر كلام السبكي في "جمع الجوامع" (2) وعليه فكل فاسد (3) الوضع فاسد الاعتبار وليس كل فاسد الاعتبار فاسد الوضع؛ لأن الدليل قد يكون صحيح الوضع وإن كان فاسد الاعتبار بالنظر إلى أمر خارج هو النصُّ المخالف له كما تقدم (4). وهذا مراد المؤلف بالشطر الأول، وإشارةُ البعيد فيه لفساد الوضع، وإشارةُ القريب لفساد الاعتبار كما بينَّا. الثاني: أن النِّسْبة بينهما العموم والخصوص من وجه؛ واختاره زكريا الأنصاري (5)، وشهاب الدين عميرة، وهو اختيار المؤلف في "الشرح" (6). وإيضاحه: أنهما يجتمعان فيما إذا كان الدليل على غير الهيئة الصالحة لترتيب الحكم عليه مع أنه خالف نصًّا أو إجماعًا، وينفرد فساد الاعتبار فيما إذا كان الدليل على الهيئة الصالحة لترتيب الحكم عليه __________ (1) "الإحكام": (4/ 327). (2) (2/ 324). (3) الأصل: فساد. (4) بعده في ط: من المثالين. (5) انظر "غاية الوصول": (ص/ 133). (6) (2/ 232 - 233).

(2/549)


لكنه خالف نصًّ أو إجماعًا. وينفرد فساد الوضع فقط فيما إذا كان الدليل على غير الهيئة الصالحة، مع أنه لم يخالف نصًّا ولا إجماعًا. وقوله: "مما يُنتقَى" أي يُختار، والضمير في "كونه" عائد إلى العموم والخصوص المفهوم من قوله: "وذاك من هذا أخصُّ" أي كون العموم والخصوص بينهما "ذا الوجه" أي صاحبه. يعني العموم والخصوص من وجه مما يختار. 801 - وجمعُهُ بالمنع لا يضيرُ ... كان له التقديمُ والتَّأخيرُ يعني أن المعترض بفساد الاعتبار له أن يجمع معه منعَ مقدمة فأكثر من الدليل، كأن يقول المالكيُّ مثلًا: قولك إن المقوَّمات لا تنضبط ممنوع، بل هيَ تنضبط بالأوصاف الكاشفة المستوعبة لما تختلف فيه الأغراض، مع أن ذلك الذي قلت مخالف أيضًا لما ثبت في "صحيح مسلم" كما تقدم، فالجمع بين المنع وفساد الاعتبار إبطال للدليل بالنقل والعقل معًا. وقوله: "كان له التقديم والتأخير" يعني أنه سواء في ذلك قدَّم الاعتراض بالمنع على الاعتراض بفساد الاعتبار أو عَكَس الأمر. والتحقيقُ أن الذي ينبغي تقديمُ الاعتراض بالمنع لأن فيه الترقِّي من الأدْنَى إلى الأعلى، وهو من محَسِّنات الكلام للفائدة في ذكر الأقوى بعد الأضعف؛ لأن الأضعف قد يكون غير كاف أو غير تامِّ الكفاية، أما لو قدَّم الأقوى؛ فذِكْرُ الأضعف بعده قليل الجدوى، وإلى هذا الذي ذكرنا أشار المؤلف في "الشرح" (1). __________ (1) (2/ 233 - 234).

(2/550)


وجواب الاعتراض بفساد الاعتبار يكون بأمور؛ منها الطعن في سند النصِّ بما يُضَعِّفه كالإرسال والوقف والانقطاع ونحو ذلك، ومنها الطعن في الإجماع المخالف له إذا كان ظنيًّا بتضعيف سند الناقلين له، ومنها المعارضة للنصِّ بنصٍّ آخر مماثل له في القوة أو أقوى منه، ومنها غير ذلك. 802 - مِنَ القوادح كما في النقل ... منعُ وجودِ علَّةٍ للأصلِ يعني أن من القوادح في الدليل المنقولة عن أهل الأصول: منع وجود علة الأصل المقيس عليه في الفرع، كقول أبي حنيفة: علةُ القطع التي هي السرقة لم توجد في الفرع المقيس الذي هو نبَّاش القبور لأنه غيرُ سارق. واللَّام في "للأصل" داخلة بين المضاف والمضاف إليه أي علة الأصل، وفي الكلام حذف دل المقامُ عليه تقديره: في الفرع. وتقرير المعنى: من القوادح المنقولة منع وجود علة الأصل في الفرع. 803 - ومنع عِلِّيَّةِ ما يعَلَّلُ ... به وقدحُه هو المعَوَّلُ يعني أن من القوادح أيضًا على "المعول" أي المعول عليه، يعني المعتمدَ الأصحَّ: مَنعْ المعترض عِلِّية الوصف الذي علّل به المستدل، ويسمَّى هذا القادح أيضًا: المطالبة بتصحيح العلة. ومثاله: أن يقول الحنفيُّ أو الحنبلي مثلًا: علة طعام الربا الكيل. فيقول المالكي أو الشافعي مثلًا: لا نسلِّم أن الكيل هو علة الربا لوجود الربا فيما لا كيل فيه كالحفنة. ووجه الاعتراض بهذا القادح: هو الخوف من أن يتمسَّك المستدل بما شاء من الأوصاف لو عَرَف أنه لا يُعْتَرض عليه بعدم العِلِّية.

(2/551)


804 - ويقدح التقسيم أن يحتَمِلا ... لفظٌ لأمرينِ ولكِنْ حُظِلا 805 - وجودُ علة بأمرٍ واحدِ ... وليسَ عند بعضِهم بالواردِ يعني أن من القوادح في العلة نوعًا يسمَّى التقسيم وهو أن يحتمل لفظ مُوْرَدٌ في الدليل معنيين أو أكثر بحيث يكون متردِّدًا بين تلك المعاني أو المعنيين على السواء، لكنَّ المعترض يمنع وجودَ عِلِّة الحُكم في واحدٍ من تلك المحتملات. ومثاله: ما لو قيل: الطهارة قُرْبة فتجب فيها النية. فيقول المعترض: لفظ الطهاوة يحتمل النظافة والأفعالَ المخصوصة التي هي الوضوء الشرعيُّ، والنظافة ليست قُرْبة فانتفت العلة التي هي الكون قُربة عن أحد المحتملين في الطهارة وهو النظافة. ومن أمثلة هذا القادح ما لو استُدِل على ثبوت المِلْك للمشتري في زمن الخيار بوجود سببه الذي هو البيع الصادر من أهله. فيقول المعترض: السبب المذكور يحتمل أمرين؛ أحدهما: مطلق البيع ولو بخيار، والثاني: البيع الذي لا شرط فيه. والأول منهما تنتفي عنه سببية الملك التي هي علته. ومن أمثلته: ما لو قيل في الحاضر الصحيح الفاقد للماء: وُجِد فيه سبب التيمّمِ، وهو تعذُّر الماء فيجب التيمُّمُ. فيقول المعترض: تعذُّر الماء محتمِلٌ لأمور منها السفر والمرض، ومنها مطلق تعذره، والعلة التي أباحت التيمُّمَ مفقودة في مُطْلق التعذر. واعلم أن المحلِّيَّ صرّح بأن الممنوع ليس هو المرادَ عند المستدلِّ

(2/552)


والمراد عند المستدل غيرُ ممنوع (1). وخالفه العَضُد فجوَّز كون الممنوع هو المراد (2). وقال القرافي (3): ليس من شروط التقسيم أن يكون أحدهما ممنوعًا والآخر مسلَّمًا، بل يجوز أن يكونا مسلَّمَيْن، لكن الذي يَرِد على أحدهما غير ما يَرِد على الآخر وإلَّا لم يكن للتقسيم معنى. ولا خلاف أنه لا يجوز أن يكونا ممنوعين. وقوله: "وليس عند بعضهم بالوارد" يعني أن التقسيم ليس بوارد أي مقبول عند بعض الأصوليين، واختار السبكي (4) قبوله إذا بيَّن المعترض المحتملات التي تردَّدَ اللانظ بينها، ومحل القدح به في تساوي الاحتمالات كما تقدم لأن الاحتمال المرجوحَ ملغى كما تقدم عند الكلام على النصِّ والظاهر (5). 806 - جوابُه بالوضع في المرادِ ... أو الظُّهورِ فيه باسْتِشهادِ يعني أنه على القول بالقدح بالتقسيم فجوابه أن يبيّن المستدل أن اللفظ موضوع في المعنى الذي أراد به المستدل وحدده دون غيره من الاحتمالات وضعًا شرعيًّا، أو عرفيًّا، أو لغويًّا، أو أنه أظهر فيه من غيره __________ (1) في شرحه على الجمع: (2/ 333). (2) ذكره في "النشر": (2/ 235). (3) في "نفائس الأصول": (4/ 306). (4) في "الجمع": (2/ 333). (5) (ص/ 277).

(2/553)


من اسْتشهاده أي استَدْلاله على وضعه له أو ظهوره فيه. فظهر من هذا أن المراد بالاستواء المشترط في هذا القادح الاستواء في نفس الأمر، أو بحسب الظاهر، أو عند المعترض؛ وإذًا فلا ينافي الاستواء تبيين الظهور. 807 - وللمعارضةِ والمنعِ معا ... أو الأخيرِ الاعتراضُ رَجَعا يعني أن الاعتراض بجميع القوادح المتقدمة راجع عند ابن الحاجب إلى أمرين هما: المنع أو المعارضة (1)، فالمراد بالمنع منعُ مقدمة فأكثر من الدليل، والمراد بالمعارضة معارضة الدليل بدليل يقاومه. فمثال المنع قول المالكيّ مثلًا للحنبليّ أو الحنفيّ: كون الكيل علة الربا ممنوع. ومثال المعارضة قول المستدل بجواز نكاح المُحْرِم لما ثبت في "الصحيحين" (2) من حديث ابن عباس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو محرم. فيقول المعترض: هو معارَض بما ثبت عن ميمونة وأبي رافع من أنه تزوجها وهو حلال (3). وميمونة صاحبة القصة، وأبو رافع سفيرهما فيها، فهما أعلم بها من ابن عباس. وعند السبكي (4) راجع إلى المنع وهو __________ (1) انظر "المختصر - مع شرحه": (3/ 178). (2) أخرجه البخاري رقم (1837)، ومسلم رقم (1410). (3) أخرجه الترمذي رقم (841) وقال: حديث حسن. وفي مسلم رقم (1411) (عن يزيد بن الأصم حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوجها وهو حلال. قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس". وهو شاهد قوي لحديث أبي رافع. (4) "الجمع": (2/ 334 - 335).

(2/554)


مراده بقوله: "أو الأخير" و"أو" في قول ابن الحاجب (1) مانِعَةُ خُلُوٍّ تُجَوِّزُ الجَمْعَ، فصُوَر الاعتراض إذًا ثلاث وهي: المنع وحده، والمعارضة وحدها، وهما معًا. 808 - والاعتراضُ يلحقُ الدليلا ... دونَ الحكايةِ فلا سبيلا يعني أن الاعتراض منعًا كان أو معارضة إنما يلحق دليل المستدل لا حكايته الأقوال في المسألة، لأن حكاية الأقوال لا تستلزم أن الذي حكاها يقول بصحتها. نعم يتوجَّه الاعتراضُ على الحكاية من حيث إنها مكذوبة على من حُكِيت عنه. وقوله: "فلا سبيلا" أي إلى اعتراض الحكاية. 809 - والشأنُ لا يعترضُ المثال ... إذ قد كفى الفرضُ والاحتمالُ يعني أن المثال لا يُعترض عليه للاكتفاء فيه بمجرد الفرض على تقدير الصحة وبمطلق الاحتمال؛ لأن المراد من المثال إيضاح القاعدة بخلاف الشاهد فإنه يُعْتَرض إذا لم يكن صحيحًا لأنه لتصحيح القاعدة. * * * __________ (1) يعني قوله: "الاعتراضات راجعة إلى منع أو معارضة وإلا لم تسمع".

(2/555)


خاتِمَة أي: لكتاب القياس. 810 - وهو مفروضٌ إذا لم يكنِ ... للحكم من نَصٍّ عليه ينبني يعني أن حكم القياس في المسألة التي لم يوجد فيها نصٌّ أنه فرض كفاية عند تعدد المجتهدين، وفرض عين إن لم يوجد إلَّا واحد، واستدل الأصوليون على فرضيته بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر] لأن فيه معنى اعتبار النظير بنظيره. 811 - لا ينتمي للغوثِ والجليلِ ... إلّا على ضربٍ من التأويلِ مراده بالغوث: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (1)، وبالجليل: اللَّه تعالى. ومعنى البيت: أن الحكم الثابت بالقياس لا يُنسب إلى اللَّه ولا إلى الرسول، فلا يجوز أن تقول: إن اللَّه قاله أو قاله رسوله؛ لأنه مستنبط لا منصوص، إلَّا إذا كانت نسبته لهما على "ضرب" أي نوع من التأويل بأن يَقْصد ذلك القائل أن نصَّ الكتاب أو السنة دل على حكم الفرع المقيس بحكم الأصل المقيس عليه __________ (1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "جامع المسائل": (1/ 77): "ولفظ الغوث والقطب في حق البشر لم ينطق به كتاب ولا سنة، ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذا المعنى، بل غياث المستغيثين على الإطلاق هو اللَّه تعالى، كما قال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال/ 9] " اهـ، وانظر "جامع المسائل": (2/ 64 - فما بعدها)، و"مجموع الفتاوى": (11/ 437، و 27/ 96).

(2/556)


812 - وهو معدودٌ من الأصول ... وشِرْعةِ الإله والرَّسول يعني أن القياس معدود من الأصول، أي أصول الفقه كما تقدم في تعريف أصول الفقه في قول المؤلف (1): "أصوله دلائل الإجمال. . " إلخ، أي والقياس دليل إجمالي فهو منها، خلافًا لإمام الحرمين (2). وقوله: "شِرْعةِ الإله" هو بالجرِّ عطفًا على الأصول، ومعناه أن القياس معدود أيضًا من شرع اللَّه وشرع الرسول، يعني أنه من الدين، بمعنى أنه متعبَّد به، وإنما قال الأصوليون: إنه من الدين لأنه مأمور به في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر]. وما ذكره في "الآيات البينات" (3) من أن في دليل الصغرى بحثًا لجواز أن يكون المراد بالاعتبار في الآية الاتعاظ فلا تدل على القياس وكما جزم بذلك الظاهرية (4)؛ فقد ردَّه بعضُ المحققين بأن الآية وإن أريد بها الاتعاظ بما وقع لبني النضير، فإنها قطعًا تدل على النهي عن مثل فعلهم حَذَرًا من مثل عقوبتهم، وذلك بعينه إلحاق النظير بنظيره بجامع. 813 - ما فيه نفي فارقٍ ولو بظَن ... جلي وبالخفيّ عكسَه استَبِن هذا شروع من المؤلف في أقوال العلماء في تعريف الجلي والخفيّ من القياس. ومعنى البيت: أن القياس الجليَّ هو ما كان نفيُ الفارق __________ (1) البيت رقم (16). (2) في "البرهان": (1/ 78) إذ لم يعده من أدلة الفقه الإجمالية. (3) (4/ 169). (4) انظر: "إرشاد الفحول": (2/ 848 - 851).

(2/557)


المؤثر بين الفرع والأصل مقطوعًا به فيه أو مظنونًا ظنًّا قويًّا. فمثال المقطوع به: إلحاق البول في إناء وصبه في الماء الراكد بالبول فيه في الكراهية. ومثال المظنون: إلحاق العمياء بالعوراء في مَنعْ التَّضحية كما تقدم (1). وقوله المؤلف: "وبالخفيّ عكسه استبن" يعني أن القياس الخفي على هذا القول هو ما كان الفارق فيه محتملًا احتمالًا قويًّا كإلحاق القتل بالمثقل كالعصا بالقتل بالمحدَّد في وجوب القصاص؛ لأن الفرق باحتمال المثقَّل للتأديب محتمل احتمالًا غير شديد الضعف. وقوله: "اسْتَبِن" فعل أمر من استبانَ الأمرَ إذا عَلِمه. 814 - كونُ الخفي بالشَّبْهِ دأْبًا يستوي ... وبينَ ذَينِ واضحٌ مما رُوي هذا قول ثان في تعريف القياس الجليّ والخفيّ، وعلى هذا القول فالقسمة ثلاثية وهي: قياس جليٌّ، وقياس واضح، وقياس خفيٌّ. فإذا عرفتَ ذلك فمعنى البيت: أن القياس الجلي هو ما تقدم في البيت قبل هذا في قوله: "ما فيه نفي فارق. . " إلخ، والقياس الخفيُّ هو: قياس الشَّبَه المتقدم، والقياس الواضح هو: ما بينهما كقياس القتل بالمثقَّل على القتل بالمحدَّد في وجوب القصاص. وقوله: "كون" مبتدأ خبره الجار والمجرور الذي هو "مما رُوي". 815 - قيل الجلي وواضحٌ وذو الخفا ... أولى مُساوٍ أدْوَنٌ قد عُرِفا __________ (1) عند البيت رقم (145).

(2/558)


هذا قول ثالث في تعريف القياس الجلي، والواضح، والخفيّ، ومعنى البيت: أن بعض العلماء قال: إن القياس الجليَّ هو: قياس الأوْلَى كإلحاق الضرب بالتأفيف في التحريم في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23]. وأن القياس الواضح هو: قياس المساوي كإلحاق إحراق مال اليتيم بأكله في التحريم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء/ 10] الآية. وأن القياس الخفي هو: القياس الأَدْوَن المتقدم في قوله: "وإن تكن ظنية فالأدون" إلخ كقياس التفاح على البر في حُرمة الربا بجامع الطَّعْم. وقوله: "الجلي وواضح وذو الخفا" مبتدآتٌ متعاطفة. وقوله: "أولى مساوٍ أدون" أخبارٌ متعاطفة على سبيل الَّلف والنشر المرتب؛ فالأول خبر الأول، والثاني خبر الثاني، والثالث خبر الثالث. وقوله: "مساوٍ" معطوف بحذف العاطف. وتنوين "أدون" لضرورة الوزن. كقول امرئ القيس (1): "خِدْرَ عُنَيْزةٍ". 816 - وما بذاتِ عِلَّةٍ قد جُمعا ... فيه فَقَيْسَ عِلَّة قد سُمِعا هذا تقسيم آخرُ للقياس باعتبار علته، وهو أن الجامع بين الفرع والأصل إن كان نفس العلة فهو قياس العلة سواء كان مناسبًا بالذات أو بالتبع، فقياس العلة في هذا التقسيم يتناول الشبه، لأن الجمع فيه بالعلة __________ (1) في معلقته. والبيت: ويوم دخلت الخِدْر خِدْر عنيزةٍ ... فقالت لك الويلات إنك مُرْجلي

(2/559)


وإن كانت مناسبتها بالتبع فقياس العلة هنا أعم من قياس العلة المذكور في قوله: "وحيثما أمكن قيس العلة. . " (1) إلخ. ومثال قياس العلة: النبيذ حرام قياسًا على الخمر بجامع العلة التي هي الإسكار، وأما إن كان الجامع بغير العلة بل بلازمها أو أثرها أو حكمها فهو قياس الدلالة وإليه الإشارة بقوله: 817 - جامعُ ذي الدلالة الذي لزِمْ ... فأثَرٌ فحكمُها كما رُسِمْ يعني أن قياس الدلالة هو ما كان الجامع فيه هو لازم العلة فأثرها فحكمها. فمثال الجمع بلازمها: النبيذ حرام كالخمر بجامع الشدَّة المُطْرِبة لأنها لازمة للإسكار. ومثال الجمع بأثرها: القتل بالمُثَقَّل يُوجب القصاص كالقتل بمحدَّد بجامع الإثم، وهو أثر العلة التي هي القتل عمدًا عدوانًا. ومثال الجمع بحكمها: تُقْطَع الجماعةُ بالواحد قياسًا على قتلهم به بجامع وجوب الدية عليهم في ذلك حيث كان غير عَمْد وهو حكم العلة التي هي القطع منهم في الصورة الأولى، والقتل منهم في الثانية. ومن أمثلته أيضًا: الحكم بصحة ظهار من صح طلاقه قياسًا للظهار على الطلاق، مع أن الطلاق حكم العلة التي هي الأهلية للطلاق لا نفس العلة. وقوله: "الذي لزم" يعني لازم العلة، والعطف بالفاء يقتضي الترتيب بين المذكورات. __________ (1) البيت رقم (741).

(2/560)


818 - قياسَ معنى الأصلِ عنهم حقِّقِ ... لِما دُعِي الجمعَ بنفي الفارقِ يعني أن الإلحاق بنفي الفارق الذي تقدم إيضاحه في تنقيح المناط وفي مفهوم الموافقة (1) هو المعروف في الاصطلاح بالقياس في معنى الأصل، فالإضافة في قوله: "قياسَ معنى الأصل" بمعنى في. وقوله: "قياسَ" مفعول مقدم لفعل الأمر الذي هو "حقق"، واللَّام في قوله: "لما" تتعلق بـ "حقق" و"الجمعَ" هو المفعول الثاني للفعل المبنِيّ للمفعول الذي هو: "دُعِي". وقوله: "بنفي الفارق" يتعلق بـ "الجمعَ"، ومثاله: إلحاق البول في إناء وصبه في الماء الراكد بالبول فيه في الكراهة بنفي الفارق المؤثر بينهما، وقد قدمنا أمثلة أنواعه الأربعة. * * * __________ (1) انظر (ص/ 82، 426).

(2/561)


كتابُ الاسْتِدلَال الاستدلال لغة طلب الدليل، ويطلق في عُرْف الأصوليين على أمرين: أحدهما: إقامة الدليل مطلقًا من نصٍّ أو إجماعٍ أو غيرهما. والثاني: نوع خاصٌّ من الدليل غير الكتاب والسنة والإجماع والقياس وهو المراد هنا. 819 - ما ليس بالنصِّ من الدليلِ ... وليسَ بالإجماع والتمثيلِ يعني أن الاستدلال المذكور هنا هو الدليل الذي ليس بسنة ولا كتاب ولا إجماع ولا قياس، ومراده بالتمثيل القياس الأصولي المعروف بقياس الفقهاء المتقدم تعريفه في قوله: "بحمل معلوم" (1) إلخ. والاستدلال المذكور كالقياس المنطقِيّ، ومذاهب الصحابة، والمصالح المرسلة، والاستصحاب، والاستقراء، والعوائد، وسَدّ الذرائع، وغير ذلك. 820 - منه قياسُ المنطقي والعكس ... . . . . . . . . . . . . يعني أن الاستدلال يدخل فيه قياس المنطقي وهو قسمان: قياس اقترانِيٌّ، وقياس استثنائي. وضابط الاقتراني: أن تكون النتيجة فيه مذكورة بالقوة أي بمادتها دون صورتها، وهو يكون في الحمليات والشرطيات المتصلة. ومثاله في الحمليات: الوضوء قُربة وكل قُربة تُشترط فيها النية، ينتج من الشكل __________ (1) البيت رقم (631).

(2/562)


الأول: الوضوء تشترط فيه النية. وهذه النتيجة مذكورة بمادتها في القياس لأن موضوعها موضوعُ المقدمة الصغرى، أعني قولنا: الوضوء، ومحمولها محمول الكبرى أعني: تُشترط فيها النية. ومثاله في الشرطيات المتصلة: كلما كانت الطهارةُ وضوءًا كانت قُربة، وكلما كانت قربة اشترطت فيها النية، ينتج من الشكل الأول أيضًا: كلما كانت الطهارة وضوءًا اشترطت فيها النية. وضابط القياس الاستثنائي: أن تكون النتيجة فيه مذكورة في القياس بمادتها وصورتها هي أو نقيضها وهو قسمان: شَرْطي متصل وشَرْطي منفصل. فالشَّرْطي المتصل أعني المركب من شَرْطية متصلة لزومية ومن استثنائية ضرورية: أربعة ينتج منها اثنان ويعقم اثنان، فالمنتجان هما: استثناء نقيض التالي فإنه ينتج نقيض المقدم، لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم، واستثناء عين المقدم فإنه ينتج عين التالي، لأن وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم. وضرْباهُ العقيمان هما: استثناء عين التالي فإنه لا ينتج عين المقدم لأن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم، واستثناء نقيض المقدم فإنه لا ينتج نقيض التَّالِي، لأن نفي الملزوم لا يقتضي نفي اللازم. ومثال الاستثنائي المذكور قولك: لو كان هذا إنسانًا لكان حيوانًا، فلو استثنيت نقيض التالي فقلت: لكنه غير حيوان، أنتجَ: فهو غير إنسان. وكذا لو استثنيت عين المقدم فقلت: لكنه إنسان، أنتج: فهو حيوان. أمَّا لو استثنيت عين التَّالي فقلت: لكنه حيوان، لم ينتج كونه إنسانًا؛ لأن

(2/563)


وجود الأعم لا يقتضي وجود الأخصِّ. وكذا لو اسْتَثنيت المقدم فقلت: لكن غير إنسان، لم ينتج شيئًا؛ لأن نفي الأخص لا يقتضي نفي الأعم. أما الشَّرْطي المنفصل فهو ثلاثة أقسام: الأول: هو المركب من الشَّرْطية المنفصلة الحقيقية المعروفة بمانعة الجَمْع والخُلُو، وهي المركبة من النقيضين أو مساويهما، وهي ما كان العناد والتنافر بين طرفيها في الوجود والعدم معًا، فاستثناء عين كل من طرفيها ينتج نقيض الآخر، واستثناء نقيض كل منهما ينتج عين الآخر، كقولك: العدد إما زوج وإما فرد، فلو قلت: لكنه زوج، أنتج: هو غير فرد، ولو قلت: لكنه فرد، أنتج: هو غير زوج. ولو قلت: لكن غير زوج، أنتج: هو فرد، ولو قلت: لكنه غير فرد، أنتج: هو زوج. القسم الثاني: هو ما كان فيه التنافر بين طرفَي القضية في الوجود فقط دون العدم، وهو المركَّب من مانعة الجمع المجوِّزة للخلو وهي تتركَّب من قضية وأخصُّ من نقيضها، وضروبها أربعة ينتج منها اثنان ويعقم اثنان، أما المنتجان فهما: استثناء عين المقدم فإنه ينتج نقيض التالي، واستثناء عين التالي فإنه ينتج نقيض المقدم. والعقيمان هما: استثناء نقيضهما فإنهما لا ينتجان لأنها مجوزة لِلْخُلُوِّ. مثاله: ما لو قلت: اللون إما أبيض وإما أسود، فلو قلت: لكنه أبيض، أنتج: غير أسود، ولو قلت: لكنه أسود، أنتج: غير أبيض. بخلاف ما لو قلت: لكن غير أبيض أو غير أسود فإنه لم ينتج. والثالث: هو ما كان التنافر فيه بين طرفي القضية في العدم فقط دون

(2/564)


الوجود، وهي مانعة الخلو المجوِّزة للجمع، وضروبها أربعة ينتج منها اثنان وهما العقيمان فيما قبله، ويعقم منها اثنان وهما المنتجان فيما قبله. وضابطُ مانعة الخلو المجوِّزة للجمع أنها تتركب من قضية وأعم من نقيضها. ومثال قياسها قولك: الجرم إما غير أبيض وإما غير أسود، فلو استثنيتَ نقيض "غير أبيض" الذي هو أبيض، أنتج: عين "غير أسود"، وكذلك لو استثنيت نقيض "غير أسود" الذي هو عين أسود، أنتج: "غير أبيض". أما لو استثنيت عين واحد من الطرفين فإنه لا ينتج، كما لو قلت: لكنه "غير أسود"، لم ينتج: "غير أبيض"، وكذا لو قلت: لكنه "غير أبيض" لم ينتجْ "غير أسود". وقول المؤلف: "والعكس" يعني أن من الاستدلال قياس العكس، وهو: إثبات عكس الحكم لمعاكس لمحله لتعاكسهما في العلة، ومثاله: حديث مسلم: أيأتي أحدُنا شهوتَه وله فيها أجر؟ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أرأيتم لو وَضَعها في حرام أكان عليه وزر؟ " (1). فالحكم المذكور هنا هو ثبوت الوزر وعكسه ثبوت الأجر، ومحلُّ ثبوت الأجر الذي هو الوضع (2) في حلال معاكس لمحل ثبوت الوزر الذي هو الوضع في حرام. وإيضاح تعاكسهما في العلة: أن علة الوزر الوضع في حرام وعلة الأجر الوضع في حلال. ومنه قول المالكية: إن كثير القيء لا ينقض الوضوء كقليله بقياس العكس على البول لما نقض كثيره نقض قليله، ومنعَ قومٌ الاستدلالَ __________ (1) أخرجه مسلم رقم (1006) من حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه-. (2) ط: لو وضعها، وكذا ما بعدها.

(2/565)


بقياس العكس (1). وقول المؤلف: "ومنه فقد الشرط دون لبس" يعني أن من الاستدلال عدم الشرط فإنه يدل على عدم الحكم المشروط كما تقدم في قوله: "ولازم من انعدام الشرط" إلخ. 821 - ثمَّ انتفا المُدْرَك مما يُرتَضى ... كذا وجود مانعٍ أو ما اقتضى يعني أن من أنواع الاستدلال: انتفاء مُدْرَك الحكم أي دليلُه الذي يُدرك به بأن بحث عنه المجتهد البحث التام فلم يجده، فعدم وجود الدليل على الحكم يفيد ظنًّا بانتفاء الحكم، هذا مراد المؤلف وخالف فيه الأكثرون قائلين: لا يلزم من عدم وجدان الدليل انتفاء الحكم. وقوله: "كذا وجود مانع أو ما اقتضى" يعني أن وجود المانع من أنواع الاستدلال لأنه يدل على عدم الحكم كالأبوة في القصاص، فوجود المانع دليل على انتفاء الحكم، ومراده بـ "ما اقتضى" المقتضِي -بالكسر- وهو السبب، يعني أن وجود السبب للحكم دليل على وجود الحكم لما تقدم من أن وجود السبب يقتضي وجود المسبَّب، وخالف الأكثر قائلين: ليس شيء من ذلك دليلًا بل دعوى دليل ولا يكون دليلًا إلَّا إذا عُيِّن المقتضي أي السبب والمانع وبُيِّن وجودهما، وكذلك الشرط إلا أنه لا يلزمه بيان فقده. فإن قيل: المانع والسبب مثلًا إنما عُرِف الاستدلالُ بهما من جهة الشرع فكيف يُعَد ذلك من أنواع الاستدلال الذى حُدَّ بأنه غير نص أو __________ (1) انظر "النشر": (2/ 250).

(2/566)


إجماع أو قياس؟ فالجواب أنه على القول بأن ذلك يشترط في كونه استدلالًا ثبوت وجود المقتضي والمانع أو فقد الشرط بغير النصِّ والإجماع والقياس فلا إشكال، وأما على القول بأنه استدلال ولو ثبت ذلك بنص أو إجماع أو قياس فوجهه: أن وجود المانع إلخ غير نصِّ ولا إجماع ولا قياس. 822 - ومنه الاستقراء بالجزئِيِّ ... على ثبوتِ الحكمِ للكُلِّيِّ يعني أن من أنواع الاستدلال: الاستقراء وهو لغة التتبُّع من قولك: استقريت البلد أي تتبعته قرية قرية. وهو في الاصطلاح: تتبع الأفراد الجزئية فيستدل بتتبعها على أن ذلك الحكم الحاصل لكل واحد منها شامل لكل فرد فيلزم من ذلك ثبوته للصورة المخصوصة التي فيها النزاع. ومثاله: تتبع أفراد خبر الآحاد في مذهب مالك فإنه باستقراء الجزئيات التي عمل فيها مالك بأخبار الآحاد يُستدل على قاعدة كلية هي: كل خبر آحاد ثبت فإن مالكًا يعمل به فيلزم من ذلك عمله به في كل صورة حتى لو وقع النزاع في صورة معينة لكانت تلك الكلية حجة فيها. وحاصل الاستقراء: استدلال بجزئيات على كلية. وعكسه وهو الاستدلال بالكليات على الجزئي هو القياس المنطقي، والاستدلال بالجزئي الإضافيِّ على الجزئيِّ الإضافي هو قياس التمثيل المعروف بقياس الفقهاء والقياس الأصوليّ، وإلى هذا التقسيم أشار في "السُّلَّم" (1) بقوله: __________ (1) (ص/ 17 - مع الإيضاح).

(2/567)


وإن بجزئِي على كلِّي استُدِلْ ... فذا بالاستقراء عندهم عُقل (1) وعكسُه يُدْعَى القياسُ المنطقي ... وهو الذي قدَّمته فحقِّق وحيث جزئيٌّ على جزءٍ حُمِل ... لجامعٍ فذاك تمثيلًا جُعِل 823 - فإن يَعُمَّ غيرَ ذي الشقاقِ ... فهو حجة بالاتفاقِ 824 - وهو في البعض إلى الظن انتسبْ ... يُسْمَى لُحوقَ الفردِ بالذي غَلَبْ يعني أن الاستقراء ينقسم إلى تام وغير تام، فالتامُّ هو: أن يعم الاستقراء غير صورة الشقاق -أي النزاع- بأن يكون ثبوت الحكم لذلك الكُلِيّ بواسطة ثابتةٍ بالتتبع في جميع جزئياته غير صورة النزاع عند الأكثر، ولا خلاف في حجيته فيها كرفع الفاعل ونصب المفعول في لغة العرب. والمنطقيون يقولون: هو غيرُ قطْعِيٍّ لاحتمال أن تكون الصورة التي لم تستقرأ مخالفةً لعامة الأفراد التي استقرئت. ومَثَّلوا لذلك بأنهم تتبعوا أفراد الحيوان فوجدوا كلَّ فردٍ منه يُحَرِّك فكَّه الأسفل في المضغ، فأثبتوا بهذا الاستقراء قضيَّة كلية هي: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ، مع أنه وُجِد فردٌ خارج عن الكلية لأنه لم يستقرأ وهو التمساح، فإنه يحرِّك فكَّه الأعلى، وإلى هذا الإشارة بقول صاحب "السُّلَّم" (2): ولا يفيد القطع بالدليل ... قياس الاستقراء والتمثيل وهذا الاستقراء التام هو مراده بالبيت الأول. __________ (1) الأصل: نقل. والمثبت من "السلم" وط. (2) (ص/ 17).

(2/568)


والنوع الثاني -الذي هو غير التام من الاستقراء-: هو أن يكون ثبوت الحكم في الكلِيّ بواسطة إثباته بالتتبع في بعض الجزئيات الخالي عن صورة النّزاع، ولكن يشترط فيه أن يكون ثبوت الحكم للبعض يفيد ظن عموم الحكم، ولو كان البعض المستقرأ أقلَّ على التحقيق. ومثاله: ما ذكره الشافعي (1) وغيره من أن أقل سِنين الحيض تسع سنِين، وأن أقلَّه يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر ونحو ذلك، فقد صرح علماء الشافعية بأنَّ مستند الشافِعيّ في جميع ذلك هو الاستقراء، ومعلوم أن الشافعي لم يستقرئ من حال نساء العالم إلَّا النَّزْرَ القليل بالنسبة لما لم يستقرئ، وقوله: "يُسمَى لحوق الفرد" يعني أن الاستقراء الناقص يسميه الفقهاءُ: إلحاقَ الفرد بالأغلب، وما مشى عليه المؤلِّف في تعريف الاستقراء هو اصطلاح المنطقيين، وهو عند الأصوليين: الاستدلال بحال ما عدا صورة النزاع من الجزئيات المعلوم بالتتبع على صورة النزاع. وقوله: "إلى الظن انتسب" يعني أن الاستقراء الناقصَ دليل ظنِّيٌّ. 825 - ورجّحَنَّ كونَ الاستِصْحاب ... للعدمِ الأصليِّ من ذا الباب 826 - بعدَ قُصارى البحثِ عن نصٍّ فلَمْ ... يُلْفَ وهذا البحثُ وَفْقا منحَتِمْ يعني أن الراجح عند المالكية كون استصحاب العدم الأصلِيّ من ذا الباب، يعني باب الاستدلال فهو حجة. والمراد بالعدم الأصلِيّ: انتفاءُ الأحكام الشرعية في حق الأمة قبل بعث الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لقوله تعالى: {وَمَا __________ (1) في "الأم": (2/ 141).

(2/569)


وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء]. واسْتِصحابُ العدم هذا هو الإباحة العقلية المتقدمة، ولا يُحتج به إلَّا "بعد قُصارى البحث" -أي غايته- عن دليلٍ فلم يوجد. والمراد بالبحث: استفراغ الجهد في طلب الدليل ولم يوجد، فلو وُجد دليل لوجب العمل به. فصوم جمادى مثلًا ساقط لأن الأصل براءة الذمة منه. ومفهوم قوله: "رجحنَّ" أن فيه من يقول بخلاف ذلك، والمخالفون منهم من يقول: الأصلُ في الأشياء التي لم يَرِد عليها دليلٌ المنع، واستدلوا بأمرين: أحدهما: أن اللَّه قال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة/ 4]، وقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة/ 1]. وقوله: {أُحِلَّ} و {أُحِلَّتْ} يُفهم منه أن المنع هو الأصل والإحلال مُخرَّج عنه. والأمر الثاني: أن كل الأشياء ملك للَّه تعالى ولا يجوز التصرف بملك الغير بغير إذنه، ومنهم من يقول: إن الأصل الإباحة لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة/ 29]. وعليه فالإباحة المفهومة من الآية شرعية فليست استصحابًا ولا إباحة عقلية. وقوله: "وهذا البحث" إلخ يعني أن البحث عن الدليل قبل الاستناد إلى الاستصحاب واجب اتفاقًا. وقوله: "لم يُلْفَ" معناه لم يوجد. 827 - وإن يعارض غالبًا ذا الأصلُ ... ففي المقدَّم تنافى النقلُ يعني أن محل استصحاب العدم الأصليّ ما لم يعارض الغالبُ ذلك الأصل الذي هو العدم، فإن عارضه فقيل: يُقَدَّم الغالب، وقيل: يقدم الأصل، وهذا الخلاف هو مراده بقوله: "ففي المقدم تنافى النقل".

(2/570)


واعلم أن فروع هذا الأصل منها ما اخْتُلِف فيه بناءً على الاختلاف في هذا الأصل، كاختلاف الزوجين في دفع النفقة فالغالب دفعها والأصل عدمه. ومنها ما اتفق على تغليب الأصل فيه على الغالب كدعاوي أهل الدِّين والورع على غيرهم، فالغالب صدقُهم والأصلُ براءةُ الذمة، وهو مقدَّم هنا على الغالب بلا خلاف. ومنها ما اتفق فيه على تقديم الغالب كشهادة البينة على عمارة الذمة فالأصل براءة الذمة والغالب صدق البينة، وقد اتفق على تقديم هذا الغالب على الأصل. 828 - وما على ثبوتِهِ للسبَبِ ... شرعٌ يدلُّ مثلَ ذاك استَصْحِبِ يعني أن استصحاب ما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه نوعٌ من أنواع الاستدلال وهو حجة كما لو قال: كانت له في ذِمَّتي مئة وقضيته، فإن الشرع يثبت المئة في ذمته بالسبب الذي هو الإقرار، فيلزم استصحاب بقائها في الذمة حتى تقوم بينة على القضاء، وهكذا. وقوله: "مثل ذاك" يعني استصْحِب ما دَلَّ الشرعُ على ثبوته مثل استصحاب ذاك العدم الأصلي المتقدم. وقول المؤلف: "استصحب" فعل أمر مفعوله "ما" مقدَّم عليه. وقوله: "على ثبوته" متعلِّق بـ "يدل". وقوله: "للسبب" متعلق بـ "ثبوته". أما استصحاب العموم والنصّ إلى أن يوجد مخصِّصٌ أو ناسخ فليسا من الاستصحاب لأن الحكم مستند إلى نفس الدليل. قال الرازي (1): وأن سماه أحد استصحابًا لم يناقش (2). __________ (1) لم أجده في "المحصول". وقد قالها قبله الجويني في "البرهان": (2/ 736). (2) انظر "النشر": (2/ 254).

(2/571)


829 - وما بماضٍ مثبتٌ للحالِ ... فهو مقلوبٌ وعكسُ الخالي 830 - كجري ما جُهِل فيه المَصرِفُ ... على الذي الآن لذاك يُعْرَفُ هذا نوع من أنواع الاستدلال يسمَّى: مقلوب الاستصحاب وهو: إثبات أمر في الزمن الماضي لثبوته في الحال أي الزمن الحاضر، فالباء في قوله "بماض" بمعنى في، و"مثبت" اسم المفعول، و"اللام" في "للحال" للتعليل أي: المثبت في الماضي لأجل ثبوته في الحال هو المسمَّى مقلوبَ الاستصحاب، ويقال له أيضًا: معكوس الاستصحاب. ومَثَّل له المؤلف بما ذكره بعضُ القرويين والأندلسيين من المالكية من أن الحُبُسَ إذا جُهِل مَصْرفُه وَوُجِد على حالة فإنه يلزم إجْراؤه عليها، ورأوا أن إجراءَه عليها دليل على أنه كان كذلك في الأصل. ومن أمثلته: أن يقال في المكيال الموجود الآن: كان على عهده -صلى اللَّه عليه وسلم- استصحابًا بالحال (1) في الماضي، وكثيرٌ من العلماء لم يعتبره حجة وهو الظاهر لاحتمال طروّ الحالة الراهنة. 831 - والأخذ بالذي له رُجحانُ ... من الأدلةِ هو استِحْسان 832 - أو هو تخصيصٌ بعرفٍ ما يَعُمْ ... ورعْيَ الاستصلاح بَعْضُهُمْ يؤمْ 833 - وَرَدُّ كونِهِ دليلًا ينقدِحْ ... ويقْصُر التعبير عنه مُتَّضِح يعني أن في معنى الاستحسان المعمول به عند المالكية أربعة أقوال: الأول: أنه الأخذ بأقوى الدليلين، كتخصيص العرايا من عموم منع __________ (1) ط: للحال.

(2/572)


بيع الرطب بالتمر لأن دليله أخصُّ. وكتصديق مُدَّعي الأشبه من زوجين في الصداق ومن متبايعين في الثمن. وكشهادة الرهن في قَدْر الدين، وهذا القول نقله الباجي (1) عن ابن خويز منداد، ورُوِي مثلُه عن أحمد. وهو مراد المؤلف بالبيت الأول. القول الثاني: أن الاسْتحْسَان هو تخصيص الدليل العام بالعادة لمصلحة، كاسْتِحْسان جواز دخول الحمام من غير تعيين زمن المكث فيه وقدر الماء، فإن العادة جرت بذلك على خلاف الدليل لأن المشاحَّة في تعيين ذلك قبيحة في العادة، وفي الحديث: "بعثتُ لأتمِّمَ مكارم الأخلاق" (2) وفيه: "إن اللَّه يحب معالي الأمور ويكره سفسافها" (3). فإن جَرَت العادة المذكورة في زمنه -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير إنكار أو بعد زمنه من غير مخالف من الأئمة عُمِل بها إجماعًا لدلالة السُّنَّة في الأول والإجماع في الثاني، وإن قام دليل على إنكارها من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو بعض المجتهدين __________ (1) في "إحكام الفصول": (2/ 693). (2) أخرجه أحمد: (14/ 513 رقم 8952)، والحاكم: (2/ 670)، والبيهقي: (10/ 191) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وصححه ابن عبد البر في "التمهيد": (24/ 333)، و"الاستذكار": (8/ 280). بلفظ: ". . . صالح الأخلاق"، وبسياق المصنف أخرجه البزار كما ذكر الحافظ في "الفتح". (3) أخرجه الحاكم: (1/ 111). والبيهقي: (10/ 191)، والطبراني في "الأوسط" رقم (2940)، و"الكبير" رقم (5928) وغيرهم من حديث سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه-. قال الحاكم: حديث صحيح ولم يخرجاه ووقع في الأصل: "سفاسفها".

(2/573)


رُدَّت، وهذا القول الثاني في الاسْتِحسان هو قول أشهب، وهو مراد المؤلف بقوله: "أو هو تخصيصٌ بعرفٍ ما يعُمْ". القول الثالث في الاستحسان: أنه استعمال مصلحة جزئية، كما إذا اختار بعض ورثة المشتري بالخيار الردَّ وبعضُهم الإمضاءَ، فالقياسُ ردُّ الجميع إن ردَّ بعضهم، لأن من ورثوا عنه الخيار لو رَدَّ البعضُ تعيَّن ردّ الجميع لما في التَّبعيض من إدخال الضرر على البائع، والاسْتِحسانُ أخذ المجيز الجميع ارتكابًا لأخف الضررين، فالاستحسانُ على هذا القول أخذٌ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كليّ، ويُستشهد له بالرخص في الشريعة فإنها أخذ بمصالح جزئية في مقابلة أدلة كلية. وهذا القول الثالث قول الأبياري، وإليه الإشارة بقول المؤلف: "ورعيَ الاستصلاح بعضهم يؤُمْ" أي بعضهم يؤم أي يقصد في تفسير الاسْتحْسَان رَعْيَ الاستصلاح، أي مراعاة المصلحة الخاصة في مقابلة الدليل الكلِّيّ. القول الرابع: ما قاله بعضهم من أن الاستحسان دليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عبارته عنه، وهذا القول الرابع بين المؤلف ردَّه تبعًا لابن الحاجب (1) وغيره، بقوله: "وردُّ كونه دليلًا" إلخ، فقوله: "ورَدُّ" مبتدأ خبره قوله: "متضح" أي رد كونه دليلًا. . . إلخ متضح. ووجه رَدِّه: أن الاستحسان لا يكون إلَّا من مجتهد والمجتهد يُشترط فيه أن يكون قادرًا على التعبير عما في نفسه، وأصل الاستحسان ما حسن في الشرع ولم __________ (1) انظر "المختصر": (3/ 281).

(2/574)


ينافه، ودليله قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن" (1). وفي هذا الاستدلال عندي نظر. 834 - رأي الصَّحابيِّ على الأصحاب لا ... يكونُ حجةً بوَفْق مَنْ خلا 835 - في غيره ثالثُها إن انتشَرْ ... وما مخالفٌ له قطُّ ظَهَرْ يعني أن مذهب الصحابي سواء كان قولًا أو فعلًا حاكمًا كان أو مفتيًا ليس حجة على صحابي آخر مجتهد، وهذا لا خلاف فيه، وهو مراد المؤلف بالبيت الأول. وأما مذهب الصحابي بالنسبة للمجتهدين من التابعين فمَن بعدهم ففي كونه حجة عليهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حجة عليهم مطلقًا، وحجته أنهم باشروا النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فاطَّلعوا على ما لم يطلع عليه غيرُهم، فهم أعلم بالسنة من غيرهم، وما راءٍ كمن سمع، والاحتجاجُ لهذا القول بحديث: "أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم" (2) لا ينهض لأن الحديث ضعيف. __________ (1) أخرجه مرفوعًا الخطيب في "تاريخ بغداد": (4/ 165) عن أنس. وفيه سليمان بن عَمْرو النخعي اتهمه أحمد بوضع الحديث. وورد موقوفًا على ابن مسعود -وهو أصح- أخرج الطيالسي في "مسنده" رقم (243)، وأحمد: (6/ 84 رقم 3600)، والطبراني رقم (8582)، والحاكم: (3/ 78) في أثر طويل بألفاظ متقاربة. وصححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي، وقواه ابن القيم في "الفروسية": (ص/ 298). (2) هذا الحديث جاء عن جماعة من الصحابة، منها حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أخرجه الخطيب في "الكفاية": (ص/ 48)، والبيهقي في "المدخل" رقم (152). وطرق الحديث كلها ضعيفة، ضعفها أهل الحديث كما قال شيخ الإسلام =

(2/575)


الثاني: أنه ليس بحجة مطلقًا لأنه قول مُجْتهد من الأمة فلا يكون حجة على مجتهد آخر وكلا القولين مرويٌّ عن مالك. الثالث: أنه إن اشتهر ولم يظهر له مخالف كان حجةً وهو مروي عن مالك أيضًا، وإن خُوْلِف فليس بحجة لأن القول الآخر يناقضه، وكون حجة إن انتشر (1) ليس إجماعًا سكوتيًّا؛ لأن اشتراط الانتشار لا يلزمه بلوغ الكل، ومضيّ مهلة النظر، وتجرّد السكوت عن أمارة الرضا أو السخط كما تقدم اشتراط الكل في السكوتيِّ. وهذه الأقوال الثلاثة في حجية مذهب الصحابي على المجتهد من غير الصحابة هي مراد المؤلف بالبيت الأخير، وفي المسألة أقوال أُخَرُ غير ما ذكره المؤلف ذكرها صاحب "جمع الجوامع" (2) واقتصر المؤلف على الأقوال المذهبية منها. 836 - ويَقْتَدي من عمَّ بالمجتهِدِ ... منهم لدى تحقُّقِ المُعْتَمَدِ يعني أن العامي -ومراده به غيرُ المجتهد- يجوز له العمل بمذهب الصحابي إذا تحقق أن ذلك مذهبه، وهو مراده بالمعتمد، وإنما اشترط هذا الشرط لأن مذاهب الصحابة لم تثبت حقَّ الثبوت لأنها نُقِلت فتاوي مجرَّدة فلعل لها مقيِّدًا أو مخصِّصًا أو مكمِّلًا لو انضبط كلام قائله لظهر، __________ = في "المنهاج": (8/ 336). وانظر "تخريج أحاديث الكشاف": (2/ 231) و"المعتبر": (ص / 81 - 83). والتعليق على "تنبيه الرجل العاقل": (2/ 595). (1) ط: اشتهر. (2) (2/ 354).

(2/576)


بخلاف مذاهب الأئمة فإنها دُوِّنت وحُقِّقت كل التحقيق (1). 837 - والتابعي في الرأي لا يُقلِّدُ ... له من أهل الاجتهادِ أحدُ يعني أن التابعي المجتهد فمَن دونه لا يجوز لمجتهد آخر تقليده؛ إذ لا يجوز للمجتهد تقليد غيره إلا إذا كان ذلك الغير صحابيًّا، ففيه الأقوال الثلاثة المارة، والّلامُ في قوله: "له" زائدة داخلة على المفعول. 838 - من لم يكن مجتهدًا فالعَمَلُ ... منه بمعنى النصِّ مِمّا يُحْظَل يعني أن غير المجتهد لا يجوز له العمل بمعنى الكتاب والسنة لاحتمال أن يكون له نَاسِخٌ (2) أو مقيد أو مُخصِّصٌ أو معارض لم يطلع عليه، أو أن ما حمله عليه ليس هو المراد به، وهذا التعليل يدل على أن المتبصِّر الذي له اطلاع بالكتاب والسنة، العالم بالناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، العارف بالرجال والأسانيد والعلل، قد يجوز له أن يعمل بالكتاب والسنة إذا تحقق سلامته من تلك الأشياء المانعة من العمل به، فمَنْع العمل به مطلقًا باطل، وتجويز العمل به مطلقًا حتى للجاهل الذي لا يعرف خاصًّا من عام ولا مطلقًا من مقيد ولا ناسخًا من منسوخ ونحو ذلك باطل أيضًا (3). __________ (1) هذا القول اختاره جماعة منهم الجويني في "البرهان": (2/ 744) وحكى إجماع المحققين عليه، ولهم مذاهب في تعليل هذا القول. وخالف في ذلك جماعة. انظر: "البحر المحيط": (6/ 288 - 289). (2) الأصل: ناسخًا، وعلق في الهامش: لعله ناسخٌ. وهو الصواب. (3) هذا قول الشيخ هنا، لكنه تراجع عنه ورد عليه في (أضواء البيان)، ولاشك أن =

(2/577)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = (الأضواء) خاصة الأجزاء الأخيرة منه متأخرة في التأليف على كتابنا هذا. قال في "أضواء البيان": (7/ 460 وما بعدها): "اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين: إن تدبر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة، وأن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس جلي، ولا أثر عن الصحابة، قول لا مستند له من دليل شرعي أصلًا. بل الحق الذي لا شك فيه، أن كل من له قدرة من المسلمين، على التعلم والتفهم، وإدراك معاني الكتاب والسنة، يجب عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما. أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعًا. وأما ما علمه منهما علمًا صحيحًا ناشئًا عن تعلم صحيح. فله أن يعمل به، ولو آية واحدة أو حديثًا واحدًا. ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من لم يتدبر كتاب اللَّه عام لجميع الناس. ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار، ليس أحد منهم مستكملًا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول، بل ليس عندهم شيء منها أصلًا. فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به، والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالاصطلاح الأصولي لما وبخ اللَّه الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين، كما ترى. ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سب النزول قطعية الدخول، وإذًا فدخول الكفار والمنافقين، في الآيات المذكورة قطعي، ولو كان لا يصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر اللَّه على الكفار عدم تدبرهم كتاب اللَّه، وعدم عملهم به. وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعًا، ولا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إلا فيما فيه مجال للاجتهاد، والأمور المنصوصة في =

(2/578)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = نصوص صحيحة، من الكتاب والسنة، لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد، بل ليس فيها إلا الاتباع، وبذلك تعلم أنما ذكره صاحب مراقي السعود تبعًا للقرافي من قوله: من لم يكن مجتهدًا فالعمل ... منه بمعنى النص مما يحظل لا يصح على إطلاقه بحال لمعارضته لآيات وأحاديث كثيرة من غير استناد إلى دليل. ومن المعلوم أنه لا يصح تخصيص عمومات الكتاب والسنة إلا بدليل يجب الرجوع إليه. ومن المعلوم أيضًا، أن عمومات الآيات والأحاديث، الدالة على حث جميع الناس، على العمل بكتاب اللَّه، وسنة رسوله، أكثر من أن تحصى، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب اللَّه وسنتي" وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم بسنتي" الحديث. ونحو ذلك مما لا يحصى. فتخصيص جميع تلك النصوص، بخصوص المجتهدين وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم، تحريمًا باتًا يحتاج إلى دليل من كتاب اللَّه أو سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين. ومعلوم أن المقلد الصرف، لا يجوز عده من العلماء ولا من ورثة الأنبياء، كما سترى إيضاحه إن شاء اللَّه. وقال صاحب مراقي السعود، في نشر البنود، في شرحه لبيته المذكور آنفًا ما نصه: (يعني أن غير المجتهد، يحظل له. أي يمنع أن يعمل بمعنى نص من كتاب أو سنة وإن صح سندها لاحتمال عوارضه، من نسخ وتقييد، وتخصيص وغير ذلك من العوارض التي لا يضبطها إلا المجتهد، فلا يخلصه من اللَّه إلا تقليد مجتهد. قاله القرافي). اهـ محل الغرض منه بلفظه. وبه تعلم أنه لا مستند له، ولا للقرافي الذي تبعه، في منع جميع المسلمين، غير المجتهدين من العمل بكتاب اللَّه، وسنة رسوله، إلا مطلق احتمال العوارض =

(2/579)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = التي تعرض لنصوص الكتاب والسنة، من نسخ أو تخصيص أو تقييد ونحو ذلك، وهو مردود من وجهين: الأول: أن الأصل السلامة من النسخ حيث يثبت ورود الناسخ والعام ظاهر في العموم حتى يثبت ورود المخصص، والمطلق ظاهر في الإطلاق، حتى يثبت ورود المقيد والنص يجب العمل به، حتى يثبت النسخ بدليل شرعي، والظاهر يجب العمل به عمومًا كان أو إطلاقًا أو غيرهما، حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح. كما هو معروف في محله. وأول من زعم أنه لا يجوز العمل بالعام، حتى يبحث عن المخصص فلا يوجد ونحو ذلك، أبو العباس بن سريج وتبعه جماعات من المتأخرين، حتى حكوا على ذلك الإجماع حكاية لا أساس لها. وقد أوضح ابن القاسم العبادي في الآيات البينات غلطهم في ذلك، في كلامه على شرح المحلي لقول ابن السبكي في جمع الجوامع: ويتمسك بالعام في حياة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قبل البحث عن المخصص، وكذا بعد الوفاة، خلافًا لابن سريج اهـ. وعلى كل حال فظواهر النصوص، من عموم وإطلاق، ونحو ذلك، لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه، من مخصص أو مقيد، لا لمجرد مطلق الاحتمال، كما هو معلوم في محله. فادعاء كثير من المتأخرين، أنه يجب ترك العمل به، حتى يبحث عن المخصص، والمقيد مثلًا خلاف التحقيق. الوجه الثاني: أن غير المجتهد إذا تعلم بعض آيات القرآن، أو بعض أحاديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليعمل بها، تعلم ذلك النص العام، أو المطلق، وتعلم معه، مخصصه ومقيده إن كان مخصصًا أو مقيدًا، وتعلم ناسخه إن كان منسوخًا وتعلم ذلك سهل جدًا، بسؤال العلماء العارفين به، ومراجعة كتب التفسير والحديث المعتد بها في ذلك، والصحابة كانوا في العصر الأول يتعلم أحدهم آية فيعمل بها، وحديثًا

(2/580)


839 - سَدُّ الذارئع إلى المُحَرَّم ... حتمٌ كفتحِها إلي المُنْحَتِم 840 - وبالكراهةِ وندبٍ وَرَدًا ... . . . . . . . . . . . . . الذريعةُ إلى الشيء الوسيلةُ المؤدِّية إليه؛ بمعنى (1) أن الذرائع إلى الحرام يجب سَدُّها، والذرائع إلى الواجب يجب فتحها، والذرائع إلى المندوب يندب فتحها ويكره سدُّها، والذرائع إلى المكروه يُندب سدُّها ويكره فتحها. والذرائع ثلاثة أقسام: قسم يجب سدُّه إجماعًا كسبِّ الأصنام المؤدِّي إلى سب اللَّه تعالى، وحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السموم في أطعمتهم ونحو ذلك. وقسم لا يجب سدُّه إجماعًا، وسيأتي في قول المؤلف: "وألغ إن يك الفسادُ. . " إلخ. وقسم مُخْتَلَف (2) فيه كبيوع الآجال المعروفة بهذا الاسم عند المالكية، ويسميها غيرهم العِيْنة، كأن يبيع سلعة إلى أجل، ثم يشتريها بعينها بأقل من الثمن الأول نقدًا أو لأجل أقرب من الأول، أو بأكثر لأبعد __________ = فيعمل به، ولا يمتنع من العمل بذلك حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق، وربما عمل الإنسان بما علم فعلمه ما لم يكن يعلم، كما يشير له قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} على القول بأن الفرقان هو العلم النافع الذي يفرق به بين الحق والباطل. . . " اهـ بتصرف يسير. (1) ط: يعني. (2) ط: اختلف.

(2/581)


من الأجل الأول، فكل من البيعتين بالنظر إلى ذاتها جائزة لكنَّ ذلك قد يكون ذريعةً إلى الربا نظرًا إلى أن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة، فيؤول الأمر إلى دَفْع عينٍ وأَخْذ أكثر منها نسيئة، وهو عين ربا النسيئة، فمثل هذا يمنعه مالك وأحمد في بعض الصور خلافًا للشافعي. . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْغِ إن يكُ الفسادُ أبعدا 841 - أو رجَحَ الإصلاحُ كالأُسارى ... تُفْدَى بما ينفعُ للنصارى 842 - وانظر تدّلِّيَ دوالي العِنَب ... في كلِّ مشرقٍ وكل مغربِ هذا هو القسم الذي يجب فيه إلغاء الذريعة إجماعًا وهو نوعان: الأول: ما كان الفساد فيه بعيدًا والمصحلة أقرب منه، وهو مراد المؤلف بقوله: "وألغ إن يك الفساد أبعدا" واستدل له بالإجماع بقوله: "وانظر تدلِّيَ. . " البيت، أي وانظر إجماع أهل مشارق الدنيا ومغاربها على غرس شجر العنب مع أنه ذريعة لشرب الخمر التي تُعْصَر منه لأن مصلحة العنب والزَّبيب العامة أقرب من مفسدة شرب الخمر منها. النوع الثاني: من هذا القسم هو ما كانت المصلحة فيه أرجحَ من المفسدة ومَثَّل له المؤلف بفداء الأسارى من أيدي الكفار بشيء ينفعهم كمالٍ أو طعام أو سلاح لا تقوَى به شوكتهم حتى يقدروا على أن يقتلوا من المسلمين به قدر الأُسارى أو أكثر. وقوله: "ألغ" فعل أمر من الإلغاء، ومفعوله محذوف أي: ألغِ الذريعةَ ولا تعتبر سدَّها إن كان الفسادُ أبعدَ أو كانت المصحلة أرجحَ. 843 - ويُنْبَذُ الإلهامُ بالعراءِ ... أعني به إلهامَ الأولياء

(2/582)


يعني أن الإلهام ليس بحجة لعدم الثقة بإلهامِ من ليس معصومًا فلا تُؤْمَن دسيسة الشيطان فيه، والنبذ: الطرح والإلغاء، و"العراء" الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر، و"الإلهام" إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال، يخص اللَّه تعالى به من شاء، والحقُّ فيه ما ذكره المؤلف من أنه يُنبذ بالعراء أي يُلْغى ويُطْرح بالفضاء إذْ لا يثبت الشرع إلا بدليل. ومِثْل الإلهام: ما لو رأَى النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمره أو ينهاه في النوم لأن النائم لا يضبط. 844 - وقد رآه بعضُ من تَصَوَّفا ... وعصمة النبيّ تُوجِبُ اقْتِفا يعني أن بعض المتصوِّفة رأى الاحتجاج بالإلهام في حق الملهَمِ نفسه دون غيره، وبعض الجبرية رآه حجة في حق الملهَم وغيره بمنزلة الوحي المسموع، واستدلوا بحجج لا تجديهم، منها: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام/ 125]. ومنها: خبر: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه" (1). وقوله: "وعصمة النبيّ" __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (3127)، والعقيلي في "الضعفاء": (2/ 129) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. قال الترمذي عقبه: غريب. وأخرجه الطبراني في "الكبير" رقم (7497)، وأبو نعيم في "الحلية": (6/ 118)، وابن عدي: (4/ 207)، والخطيب في "تاريخه": (5/ 99) من حديث أبي أمامة -رضي اللَّه عنه-. وروي من حديث غيرهما. قال السخاوي في "المقاصد": (ص/ 19): (وكلها ضعيفة). وضعفه ابن الجوزي في "الموضوعات": (3/ 388)، والمعلمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة": (ص/ 244 - 245)، والألباني في "الضعيفة" رقم (1821).

(2/583)


إلخ يعني أن كون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- معصومًا يوجب اقتفاءه أي الاقتداء به في خواطره لأن إلهامه ورؤياه كل ذلك وحي. 845 - لا يَحْكُم الولي بلا دليل ... من النصوصِ أو من التأويل هذا البيت بيَّن فيه المؤلف نبْذَ إلهام الأولياء بالعراء وبيَّنَ أن معناه أنهم لا يحكمون أي لا يثبتون حكمًا من أحكام اللَّه تعالى إلا بدليل من الأدلة الشرعية من نصٍّ صريح أو مؤول أو غير ذلك، لانعقاد الإجماع على أن الأحكام الشرعية لا تُعْرَف إلا بأدلتها، وقد كان -صلى اللَّه عليه وسلم- ينتظر الوحي فيما لم يَرِد عليه فيه نصّ. 846 - في غيره الظنُّ وفيه القطْعُ ... لأجل كشفٍ ما عليه نَقْعُ الضمير في "غيره" عائد إلى حكم اللَّه المفهوم من قوله: "لا يحكم" يعني أن غير حكم اللَّه تعالى من إلهامات الصالحين منه ما يكون ظنيًّا، ومنه ما يكون قطعيًّا لما يقع لهم فيه من الكشف، فمن أخبرَه وليٌّ بشيءٍ فقد يحصل له به اليقين لموجبٍ يقتضي ذلك، ككونه رآه لا يخبر بشيءٍ إلا وقع، وقد يحصل له الظن لما يعلم من صدق القائل وصلاحه. و"النقع" الغبار، و"الكَشْفُ" هو أن يكشف اللَّه لبعض عباده عن غائب أو مستقبل، فمثاله في الغائب: قول عمر: "يا سارية الجبل" (1) ومثاله في المستقبل: قول أبي بكر: "أُرى ما في بطنِ بنت خارجة أنثى" (2). __________ (1) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة": (1/ 269 - 270)، واللالكائي في "أصول الاعتقاد": (7/ 1331). وحسنه ابن حجر في "الإصابة": (3/ 6). (2) أخرجه مالك في "الموطأ" رقم (2189)، والبيهقي: (6/ 169).

(2/584)


847 - والظنُّ يختصُّ بخَمْس الغَيْبِ ... لنفي علمها بدونِ ريْبِ يعني أن مفاتيح الغيب الخمس إذا وقع فيها كشف لبعض الأولياء فإنه إنما يكون ظنيًّا لأن اللَّه نفى علمها عن غيره في قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام/ 59]. وقد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن مفاتح الغيب هي الخمس المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (1) [لقمان/ 34] الآية. وقال بعض العلماء: إن نفي العلم بها قبل تكلم الملائكة أما بعده فلا مانع من علمها. وقال القرافي (2): إن علمها المنفي هو علمها بلا سبب، أما بسبب كالمنام والكشف فلا مانع. ولا يخفى أن ظاهر الآية مقدَّم على هذه الأقوال إذ لا دليل عليها من كتاب ولا سنة. أما قول أبي بكر: "أنه يرى ما في بطن ابنة خارجة أنثى" فهو ليس بعلم، بدليل أنه عبَّر "بأُرى" بضم الهمزة بمعنى أظن، ونَفْي العلم لا يستلزم نفي الظن لأن الظن ليس بعلم (3). 848 - قد أُسِّسَ الفقه على رفع الضَّرَرْ ... وأن ما يشُقُّ يجلب الوِطَرْ 849 - ونفي رفعِ القطعِ بالشكِّ وأنْ ... يُحكَّمَ العرفُ وزادَ من فطَن 850 - كونَ الأمور تبعَ المقاصدِ ... معَ تكلُّفٍ ببعض واردِ __________ (1) أخرجه البخاري رقم (1039) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (2) نقله في "النشر": (2/ 263). (3) انظر "أضواء البيان": (2/ 174 - 178) عند تفسير قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}.

(2/585)


يعني أن بعض الأصوليين قال: إن الفقه مؤسَّسٌ على هذه القواعد الأربعة (1) المذكورة في البيتين الأولين، وهذا القائل هو القاضي حسين من الشافعية (2). الأولى: الضررُ يُزال، ومن فروعها: الحدود، وردّ المغصوب، والتعليق (3) بالإضرار، والإِعْسَارِ، ومنعِ الجار من إحداث ما يضر بجاره. ودليلها حديث: "لا ضرر ولا ضرار" (4). الثانية: المشقة تجلب التيسير، وهو المراد بالوَطَر في البيت. ومن فروعها: جميع الرخص، كجواز القصر والجمع، والفطر في السفر، وأكل الميتة للمضطر، ودليلها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج/ 78]. ولا ينافي هذه القاعدة وجوب تحمل بعض المشاق كمشقة الصوم في الصيف، والطهارة في الشتاء، والمخاطرة بالنفس في الجهاد ونحو ذلك، لأن هذه المشاق منها ما شُرِعت العبادة معه كالتغرير بالنفس بالجهاد، ومنها ما هي خفيفة كما قال ناظم نوازل المؤلف (5): وأُلغيت خفيفة كبرد ... ماء الطهارة أوان البرد __________ (1) كذا في الأصل والأصح: الأربع. (2) انظر "الأشباه والنظائر": (1/ 61) للسيوطي. (3) ط: والتطليق. (4) تقدم تخريجه. (5) انظر "مرجع المشكلات شرح النوازل": (ص/ 25) للشيخ محمد العاقب بن مايابا. استفدته من تعليق الدكتور محمد ولد سيدي.

(2/586)


الثالثة: اليقين لا يرتفع بشك، وإيضاحه: وجوب استصحاب حكم الأمر المتيقن إذا طرأ الشك في حصول ضده المضاد حكمه لحكمه، ومن فروعها: من يشك هل صلى أربعًا أو ثلاثًا فإنه يبني على اليقين. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شاهداك أو يمينه" (1) لأن براءةَ الذمة مقطوع بها أصلًا وعمارتها مشكوك فيها. وما ذهب إليه مالك من نقض الوضوء بالشك في الحَدَث في أحد قوليه، فوجهه عنده: أنه شكٌّ في الشرط الذي هو الطهارة والأصل عدم الشرط، فالحَدَث عنده متيقن أوَّلًا فلا يخرج عن تيقنه إلا بتيقّن الطهارة ابتداءً ودوامًا، وغيره من العلماء يقولون: الطهارة متيَقَّنةٌ فلا يرفع ذلك اليقين بالحدث المشكوك فيه، وهو أحد القولين عن مالك وعليه ابن عرفة. قلت: ويظهر لي أنه أصوب من وجهين؛ الأول: أن الطهارة حصلت يقينًا ولا وجه لرفع اليقين بالشك. الثاني: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صرح بعدم نقض الوضوء بالشك في الحَدَث حيث قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فلا يخرج حتى يسمع صوتًا أو يشمَّ ريحًا" (2). وهذا النصُّ هو دليل العلماء على هذه القاعدة. الرابعة: العادة مُحَكَّمة، كاتباع العوائد في معاملات الناس وأَيْمانهم وطلاقهم ونحو ذلك. واستدلوا بقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف/ 199]، ولا يخلو هذا الاستدلال عندي من بُعْدٍ. __________ (1) أخرجه مسلم رقم (138) من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (137)، ومسلم رقم (361) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(2/587)


وقوله: "وزاد من فَطِن" إلخ يعني أن بعض الأصوليين زاد أصلًا خامسًا على الأصول الأربعة التي ذكرنا عن القاضي حسين، وذلك الأصل الخامس هو: الأمور بمقاصدها، أي الوسائل تُعْطَى حكم المقصود بها، ومن فروعه: وجوب النية في الوضوء والغسل، ودليله: "إنما الأعمال بالنيات" (1) الحديث. وقوله: "مع تكلف ببعض وارد" يعني أن الفروع لا ترجع كلها إلى الأصول المذكورة إلا بواسطة وتكلف؛ فلو أريد الرجوع بوضوح الدلالة لزادت تلك الأصول على المئين. وقول المؤلف: "وأن ما يشق" المصدر المنسبك فيه من أنَّ وصلتها في محل خفض عطفًا على المجرور الذي هو: "رفع الضرر"، وكذلك قوله: "ونفي" بالخفض عطفًا عليه أيضًا، وكذلك المصدر المنسبك من أنْ وصلتها في قوله: "وأن يُحَكَّم العرف" في محل خفض أيضًا. و"يُحَكَّم" بالبناء للمفعول. * * * __________ (1) تقدم تخريجه.

(2/588)


كتاب التعَادل والتَّراجِيح التعادل: التكافؤ والتساوي، والترجيح يأتي تعريفه للمؤلف في قوله: "تقوية الشق هي الترجيح". وأفرد "التعادل" لأنه نوع واحد، وجَمَع "الترجيح" لأنه أنواع. 851 - ولا يجي تعارضٌ إلَّا لِما ... من الدّليليْن إلى الظنِّ انتمى يعني أنه لا يجوز عقلًا تعارض بين دليلَيْن إلا إذا كانا ظنيَيْن، أما إذا كانا قطعيين فلا يمكن عقلًا تعارضهما، سواء كانا نقليَيْن أو عقْلِيَيْن أو أحدهما نقليًّا والثاني عقليًّا، وكذلك لا يتعارض قطعيٌّ وظنيٌّ لوجوب إلغاء الظني في مقابلة القطعي، والظنُّ يتطرَّق الدليلَ من جهتَيْن: من جهة السند ولو كانت الدلالة قطعية، ومن جهة الدلالة وإن كان السند قطعيًّا فيعرف من ذلك أن القطعي المذكور لابد أن يكون قطعي المتن والدلالة. 852 - والاعتدالُ جائزٌ في الواقعِ ... كما يجوز عند ذِهْنِ السامعِ يعني أن تعادل الدليلين الظنيَيْن في الواقع أي في نفس الأمر جائز عند الأكثر إذ لا محذور في ذلك، ومنع ذلك الإمام أحمد والكرخي حَذَرًا من التعارض في كلام الشارع (1). قلت: التحقيق أن الكتاب والسنة ليس فيهما تعارض في نفس الأمر، وإنما التعارض بحسب ما يظهر للناظر، وكون التعارض أي __________ (1) انظر "البحر المحيط": (6/ 118).

(2/589)


التعادل بين الدليلين الظنِّيَيْن يحصل بحسب ما يظهر للمجتهد = هو مراد المؤلف بقوله: "كما يجوز. . " إلخ، وهذا جائز وواقع بلا خلاف. وقوله: "عند ذهن السامع" أي السامع للدليلين الظنِّيَيْن وهو المجتهد. 853 - وقولُ من عنه رُوي قولانِ ... مُؤخَّرٌ إذ يتعاقبانِ 854 - إلا فما صاحَبَهُ مؤيِّدُ ... وغيرُه فيه له تردُّدُ يعني أن المجتهد إذا رُوي عنه قولان في مسألة واحدة فإن لذلك ثلاث حالات: الأولى: أن يكون أحد القولين قبل الآخر فالأخير منهما هو قول ذلك المجتهد والأول مرجوع عنه، وهذا مراده بالبيت الأول. الثانية: أن يكون المجتهد قال القولين في وقت واحد مع أنه ذكر ما يقوِّي أحدَهما كأن يقول: هذا هو الأحسن أو الأرجح أو الأشبه، وفي هذه الحالة فالقول المقترن بما يقويه هو قول ذلك المجتهد في تلك المسألة، وهذا مراد المؤلف بقوله: "إلا فما صاحبه مؤيد" أي إلا يكن القولان متعاقبين فالذي صاحبَه منهما المؤيد -أي المقوَّى- هو قوله. الثالثة: هي أن يكونا غَيْر متعاقبين ولم يصاحب أحدهما مقوٍّ فإن المجتهد متردِّدٌ بينهما، وذلك هو مراده بقوله: "وغيره فيه له تردُّد". وقوله: "صاحبَه" فعل ماض و"مؤيد" اسم الفاعل فاعله. 855 - وذِكْرُ ما ضُعِّفَ ليس للعَمَلْ ... إذ ذَّاك عن وِفاقِهِم قد انْحَظَلْ يعني أن ذكر الأقوال الضعيفة في كتب الفقه ليس للعمل بها، لأن العمل بالضعيف ممنوع، وذكر المؤلف أنه ممنوع بالاتفاق وفيه خلاف

(2/590)


إلا أنه ضعيف، ومعنى "انحظل" امتنع. ثم شَرَع المؤلف في بيان فوائد ذِكْر الضعيف فقال: 856 - بل للترَقِّي لمدارج السَّنا ... ويَحْفَظَ المُدرَكَ من له اعتنا يعني أن من فوائد ذكر الأقوال الضعيفة: الترقِّي لمدارج السَّنا -بفتح السين- أي القرب من رتبة الاجتهاد حيث يُعْلَم أن هذا القول قد صار إليه مجتهد، ولذا قال بالأقوال التي رجع عنها مالكٌ كثيرٌ من أصحابه ومن بعدهم. ومن فوائده أيضًا: أن يحفظ المُدْرك -أي الدليل- من له اعتناء بحفظه وهو المتبصر، والتبصُّر أخْذ القول بدليله الخاص به من غير استبداد بالنظر ولا إهمال للقائل به، وهذه رتبة مشايخ المذاهب وأجاويد طلبة العلم، والترقي في اللغة: الصعود، والمدارج: جمع مَدرج، وهو ما يدرج أي يصعد عليه، و"السَّنا" بالقصر: النور، وقوله: "ويحفظَ" بالنصب عطفًا على الاسم الخالص (1) الذي هو "الترَقِّي" على القاعدة المشار إليها بقوله في "الخلاصة": وإن على اسمٍ خالصٍ فعلٌ عُطِفْ ... تنصِبه إنْ ثابتًا أو منحذف 857 - ولمراعاة الخلافِ المُشتَهِرْ ... أو الْمُراعاة لكل ما سُطِرْ يعني أن من فوائد ذكر الأقوال الضعيفة أيضًا: أنها تُذْكَر لتراعَى مراعاة الخلاف التي هي أصل من أصول مالك، فيُذْكَر القول الضعيف __________ (1) أي الخالص من شائبة الفعلية، وهو هنا (الترقي) وهو مصدر.

(2/591)


مثلًا بأن النكاح صحيح ليراعَى في الفسخ، فيكون طلاقًا (1) كما أشار له خليل في "المختصر" (2) بقوله: "وهو طلاق إن اختلف فيه". وقول المؤلف: "لمراعاة الخلاف المشتهر. . " إلخ، يشير به إلى أن المالكية اختلفوا فقال بعضهم: لا يُرَاعى إلا الخلاف المشهور، وقال بعضهم: يراعَى كلُّ ما سُطِر أي كُتِب من الأقوال ولو ضعيفًا، وأشار إلى هذين القولين مَيَّارة في "التكميل" (3) بقوله: وهل يراعَى كلُّ خُلْف قد وُجد ... أو المراعَى هو مشهور عُهِدْ 858 - وكونِه يُلْجي إليه الضرَرُ ... إن كان لم يشتدّ فيه الخَوَرُ 859 - وثَبَتَ العزوُ وقد تحقَّقا ... ضُرًّا مَنِ الضُّرُّ به تعَلَّقا يعني أن من فوائد ذكر الضعيف أيضًا: كونه قد تلجئ الضرورة إلى العمل به فيجوز العمل به حينئذٍ بشروط: الأول: أن يكون غير شديد الضعفِ، والضعفُ هو مراده بالخور، وشديد الضعف الذي لا يجوز العمل به مطلقًا هو: ما لو حكمَ به المجتهد لَنُقِضَ حكمه، وسيأتي في قول المؤلف: "وعدم التقليد فيما لو حكم". __________ (1) الأصل: بطلاق. (2) (ص/ 99). (3) مَيَّارة تقدمت ترجمته ص 33. و (التكميل) هو كتاب: (بستان فكر المهج في تكميل المنهج) منظومة كمل بها المنهج المنتخب للزقاق في قواعد المذهب، لها عدة نسخ خطية، وله شروح كثيرة، انظر (جامع الشروح والحواشي): (3/ 1948).

(2/592)


الشرط الثاني: أن يثبت عزوه إلى قائله (1). الشرط الثالث: أن يتحقق تلك الضرورة من نفسه فلا يجوز له أن يفتي غيره بالضعيف لأنه لا يتحقق الضرورة من غيره كما يتحققها من نفسه، فممنوعٌ (2) الفتوى بغير المشهور سدًّا للذريعة وحَسْمًا للباب. هذه فوائد ذِكْر الضعيف، وللاقتصار على ذكر (3) المشهور فائدة وهي أنه أقرب للضبط. وقوله: "وكونِه" بالخفض معطوفًا على المجرور وهو قوله: "للترقِّي". 860 - فقول من قَلَّدَ عالمًا لَقِي ... اللَّهَ سالمًا فغيرُ مطلَق يعني أنه إذا تقرر منعُ الفَتْوى والعمل بغير المشهور عُلِمَ أن قول بعضهم: من قلَّد عالمًا لقيَ اللَّه سالمًا، "غيرُ مطلق" يعني غير باقٍ على عمومه هذا بل لا يسلَّم إلا إذا كان القول راجحًا، أو مرجوحًا توفَّرت فيه الشروط المذكورة آنفًا، أو كان العاملُ به مجتهدَ ترجيحٍ. واعلم أن المقرَّر في فروع المالكية أن حكم المقلِّد بغير المشهور مردودٌ كما أشار له في "المختصر" (4) بقوله: "فحكم بقول مقلَّده"، وقال __________ (1) خوف أن يكون مما لا يتقدى به، لضعفه في العلم أو الدين أو الورع. قاله في "نشر البنود": (2/ 270). (2) ط: فمنعوا. (3) ط: ذلك. (4) (ص/ 233).

(2/593)


ناظم "العمل" (1): حكم قضاة العصر بالشُذوذ ... يُنقض لا يتم بالنفوذ وقال صاحب "التلخيص" (2): حكم قضاة عصرنا لا يستقر ... منه سوى ما وافق الذي اشْتُهِر (3) 861 - إن لم يكن لنحو مالكٍ أُلِفْ ... قولٌ بذي وفي نظيرها عُرِف 862 - فذاك قولُه بها المخرَّجُ ... وقيل عزوه إليه حَرَجُ يعني أنه إذا لم يوجد للمجتهد كمالك قول في هذه المسألة المعينة لكنه يُعرف له قولٌ في نظيرها فقوله المنصوص في نظيرها هو قوله المخرَّج فيها، أي خرَّجه أصحاب ذلك المجتهد فيها إلحاقًا لها بنظيرتها التي نص عليها المجتهد، وإنما سُمِّي قوله بناءً على أن لازم المذهب يُعَدُّ مذهبًا، والأصل عدمُ الفارق كأن يقال: نصَّ مالك على الشُّفْعة في شِقص الدار، فالشفعة في شقص الحانوت قوله المخرج على ذلك المنصوص. وقوله: "وقيل عزوه" إلخ يعني أنه قال بعضهم: إن عزو القول المخرَّج إلى المجتهد "حَرَج" أي ذو حرج أي منع، لاحتمال أن يكون عند المجتهد فرق بينهما، وهذا القول مبني على أن لازم المذهب ليس بمذهب. 863 - وفي انتسابه إليه مُطلقًا ... خُلْفٌ مضى إليه من قد سَبَقا __________ (1) هو المعروف بـ (عمليات فاس) تقدم التعريف به (ص/ 344). (2) لم أتبينه. (3) ط: شُهِر.

(2/594)


يعني أن الأصوليين اختلفوا في نسبة القول المخرَّج إلى المجتهد نسبةً مطلقة أي غير مقيدة بأنه مخرَّج بناءً على جواز عزوه إليه، وقيل: لا يجوز إلا بقيد كونه مخرَّجًا، وقد قدمنا أنه قيل بالمنع مطلقًا، فتحصَّل أن الأقوال فيه ثلاثة: قول بالمنع مطلقًا، وقول بالجواز مطلقًا، وقول بالجواز إن قُيِّد بالتخريج والمنع إن أُطْلِق. وقوله: "وفي انتسابه" يعني نسبته. 864 - وتنشأ الطُّرُق من نصَّيْنِ ... تعارضًا في مُتشابِهَيْنِ يعني أن الطرق أي أقوال أصحاب المجتهد كمالك مثلًا منشؤها أي منشأ الاختلاف المؤدي إليها وجودُ نَصَّين للمجتهد متعارِضَين أي متخالفين في مسألتين متشابهتين مع خفاء الفرق بينهما، فمن أهل المذهب من يقرر النصين في محلهما ويفرق بينهما، ومنهمِ من يخرِّج نصَّ كلِّ واحد في الأخرى فيحكي في كل واحدة منهما قولين أحدهما منصوص والآخر مخرَّج، فتارة يرجح في كلٍّ نصَّها ويفرق بينهما، وتارةً يرجِّح في إحداهما نصَّها وفي الأخرى المخرَّج. وقوله: "الطرق" جمع طريق. 865 - تقوية الشِّق هِيَ الترجيحُ ... وأوجبَ الأخذَ به الصحيحُ يعني أن الترجيح هو تقوية أحد الشقَّيْن -أي الدليلين- المتعارضَيْن بمرجِّح من المرجِّحات الآتية، وإذا رجح أحدهما وجبَ العملُ به عند عامة العلماء، ولم يخالف إلا الباقلانيُّ في المرجح الظنِّيّ، وتقدم أنه لا تعارض إلا في ظنِّيَّين. 866 - وعملٌ به أباهُ القاضي ... إذا به الظن يكونُ القاضي

(2/595)


يعني أن القاضي أبا بكر الباقلانيّ من المالكية يقول: إذا كان الرجحان قطعيًّا وجبَ العمل به، وإذا كان ظنيًّا لم يُعمل به إذ لا تجريح عنده بظن، ووافقه أبو عبد اللَّه البصري من المعتزلة، و"القاضي" الأول: الباقلاني، والثاني: اسم فاعل قضى أي إذا يكون الظن هو القاضي أي الحاكم بالترجيح دون القطع. 867 - والجمعُ واجبٌ متى ما أمكَنا ... إلا فللأخير نسخٌ بُيِّنا يعني أن الجمعَ بين الدليلين المتقابلين من كتاب أو سنة أو منهما، وكذا النصَّان من المجتهد [واجب] (1). وأوجه الجمع كثيرة منها: تخصيص العام بالخاص، وتقييد المطلق بالمقيد وتقدمت أمثلتهما. ومنها: حَمْل كل من النصّين على حالة غير حالة الثاني كما في حديث: "خير الشهداء من يشهد قبل أن يُسْتشهد" (2) مع أنه ذكر في شر الشهداء "من شهد قبل أن يستشهد" (3) فيُحْمَل الأول على حقوق اللَّه، أو على أن المشهود له غيرُ عالم بأن الشاهد يعرف حقه. ويُحمل الثاني على حقوق الآدمي أو العالم. والقول بأن الجمع لا يجب بل يصار إلى الترجيح ضعيف، وإن لم يمكن الجمعُ بين الدليلين المتعارضين وعُرِف المتأخر منهما فهو ناسخ __________ (1) إضافة لازمة. (2) أخرجه مسلم بنحوه رقم (1719) من حديث زيد بن خالد -رضي اللَّه عنه-. (3) أخرجه البخاري رقم (2651)، ومسلم رقم (2535) من حديث عمران بن حصين -رضي اللَّه عنه-.

(2/596)


للمتقدم منهما إذا كان قابلًا للنسخ كالإنشاء سواء كانا قطعيَّيْن أو ظنيين، وهذا هو معنى قوله: "إلا فللأخير نسخ" أي: وإلا يمكن الجمع بينهما فالأخير ناسخ للأول. وقوله: "بُيِّنا" بالبناء للمفعول. 868 - ووجبَ الإسقاطُ بالجهل وإنْ ... تقارَنا ففيه تخييرٌ زُكِنْ يعني أنه إن لم يُعْلَم المتأخر من المتقدم، وكانا غير متقارنين في الورود من الشارع، وكان النسخ ممكنًا، فإنه يجب إسقاط كلٍّ منهما بالآخر وطلب الدليل من غيرهما؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أنه ناسخ ومنسوخ، وهذا القول هو مراده بقوله: "ووجب الإسقاط بالجهل" أي جهل المتقدم والمتأخر. وقوله: "وإن تقارنا" إلخ أي وإن تقارن الدليلان المتعارضان في الورود من الشارع، أي وردا منه في وقتٍ واحد من غير سبق أحدهما للآخر، ففيه تخيير للمجتهد بينهما يعمل بأيهما شاء لكن بشرط ألا يمكن الجمع ولا يوجد مرجِّح، فإن أمكن الجمعُ والترجيحُ معًا قُدِّم الجمع؛ لأن العمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما. والضمير في قوله: "فيه" عائد إلى التقارن المفهوم من "تقارنا" و"زُكِن" معناه عُلِم. 869 - وحيثُما ظُنَّ الدليلانِ معا ... ففيه تخييرٌ لقومٍ سُمِعا 870 - أو يجبُ الوقفُ أو التساقطُ ... وفيه تفصيلٌ حكاه الضابِطُ يعني أن المجتهد إذا ظن تعادل الدليلين في نفس الأمر أو جزم به بناءً على جوازه ففي ذلك أربعة أقوال: الأول: أنه يتخيَّر في العمل بأيهما شاء، وهو قول القاضي الباقلاني

(2/597)


بناءً على أن الواقعة لا تخلو عن الحكمين. القول الثاني: الوقف عن العمل بواحد منهما بناءً على أن كل مجتهد مصيب، والإصابة مترتبة على حصول غلبة الظن، والظن هنا مفقود في كل واحد منهما لمعارضته بالآخر. الثالث: التساقط أي سقوط كل منهما بالآخر فيرجع لغيرهما كالبراءة الأصلية. الرابع: التفصيل فيكون التخيير بين الواجبات؛ لأنها قد يُخَيَّر فيها كما في خصال كفارة اليمين، ويكون التساقط في غير الواجبات. واعلم أن القول بجواز وقوع تعادل الدليلين في نفس الأمر لا يمكن معه ترجيحٌ فيما عُلِم فيه التعادل في نفس الأمر؛ لأن المتعادلين في نفس الأمر لا يمكن ترجيح أحدهما، وعليه ففي تعارضهما الأقوال الأربعة المتقدمة (1)، وذلك فيما إذا لم يكن (2) بين الدليلين تقدُّم وتأخُّر في نفس الأمر؛ إذ لا خلافَ في جواز التعارض حينئذٍ ووقوعه، والأخير ناسخ للأول. أما التعارض في ذهن المجتهد فلا ينافي الترجيح كما هو ظاهر، ومراد المؤلف بـ "الضابط" السبكي في "جمع الجوامع" (3). 871 - وإن يُقَدَّم مشعرٌ بالظنِّ ... فانسخْ بآخرٍ لدى ذي الفَنِّ يعني أنه إذا تقابل دليلان نقليان أحدهما قطعي والآخر ظنّيٌّ __________ (1) ط: المذكورة. (2) ط: يمكن. (3) (2/ 361 - 363).

(2/598)


والقطعيّ (1) هو المتأخر فإنه يُنسخ به الظنيُّ المتقدم، وهو مفهوم مما تقدم، وذكره (2) المؤلف ليدل بمفهومه على أن القطعي لو كان هو المتقدم لم ينسخه الظنيّ؛ لأن الأقوى لا يُرْفع بما هو أضعف منه (3). أما القطعي العقليّ فلا يعارضه الظنيّ لانتفاء الظن ضرورة عند القطع بنقيضه. وقوله: "يُقدَّم" بالبناء للمفعول، و"مشعرٌ" بصيغة اسم الفاعل وهو نائب فاعل "يقدم". 872 - ذو القطعِ في الجهل لديْهِم مُعْتبر ... وإن يَعُمَّ واحدٌ فقد غَبَرْ يعني أنه إذا تقابل قطعي وظنيٌّ وجُهِل المتقدِّم منهما فالمعتبر القطعي، وقوله: "وإن يعم واحد" يعني أن كل ما تقدم إنما هو فيما إذا تساوى الدليلان في العمومِ والخصوص، فإن كان أحدهما أعمَّ من الآخر مطلقًا أو من وجه فقد "غَبَر" أي تقدم حكمه في مبحث الخاص حيث قال في العموم المطلق: إنه يُقْصَر على بعض الأفراد، وما أخرجه الدليل الخاصُّ منها فهو خارج كما قال (4): "قَصْر الذي عم. . " إلخ، وقال (5): "وهو حجة لدى الأكثر إن. . " إلخ. وقال (6) في العموم من وجه: "وإن يك العموم من وجه ظهر. . " إلخ. __________ (1) الأصل: فالقطعي! (2) الأصل: وذكر! (3) تقدم في النسخ (ص/ 296 حاشية 2) أنه لا مانع من أن ينسخ الأضعف -إن ثبت- الأقوى. (4) البيت رقم (382). (5) البيت رقم (392). (6) البيت رقم (431).

(2/599)


التَّرْجيح باعتبار حَال الرَّاوي هذا شروعٌ من المؤلف في تَعْداد وجوه الترجيح، وقوله: "باعتبار حال الراوي" يعني باعتبار السَّنَد. واعلم أن المؤلف لم يتعرض للترجيح بين المرجِّحات إذا اجتمع منها اثنان فأكثر، ولم يذكر ذلك أحد من الأصوليين بل ذكروا أن التنصيص على جميعها مما يمتنع، لأنه يؤدي إلى التطويل جدًّا، والمدار فيها على ما يغلب على ظن المجتهد ترجيحه. 873 - قد جاءَ في المرجِّحات بالسنَدْ ... علُوُّه والزَّيْدُ في الحفظِ يُعَدْ يعني أن العلوَّ في السند مرجح على مقابله، والعلو فيه هو: قلة الوسائط بين من رواه المجتهد عنه وبين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن قلة الوسائط يقل معها احتمال النسيان والاشتباه والزيادة والنقصان. وقوله: "والزَّيْد. . " إلخ، يعني أن الراوي الأحفظ تُقَدَّم روايته على رواية الحافظ. وقوله: "بالسند" أي باعتبار السند (1)، وسَنَد الحديث طريقه الموصلة إلى المتن، والمراد بالطريق الرواة، والإسناد ذِكْر تلك الطريق، وقد يُطلق كل من السند والإسناد على الآخر. وقوله: "يعد" أي يعد الزَّيْد في الحِفْظ من المرجحات. 874 - والفقهُ واللُّغةُ والنحوُ وَرَعْ ... وضبطُه وفطنةٌ فَقْدُ البِدَعْ هذه المتعاطفات بالرفع عطفًا على "علوه"، يعني أن رواية الفقيه __________ (1) الأصل: المسند!

(2/600)


وكذا الأفقه أرجح من مقابلها. ورواية العالم باللغة العربية -أي بالكلمات المفردة- وكذا الأعلم بها مرجَّحَة على مقابلها. ورواية العالم بالنحو والأعلم به، وكذا العالم بعلم البيان مقدَّمة على مقابلها. ورواية المتصف بالورع وكذا الأورع مقدمة على مقابلها. وكذا تُقَدَّم رواية الضابط والأضبط على مقابلها. أما رواية كثير الخطأ فهي ضعيفة، وقد عرَّف المؤلفُ الضابطَ في "طلعة الأنوار" (1) بقوله: بالضابطين اعتبرن فإن غلب ... وَفْق فضابطٌ وإلا يُجْتَنَب وكذا تُقَدَّم رواية ذي الفطنة وهي الحِذق على مقابلها. وقوله: "فَقْد البدع" معطوف بمحذوف، ومراده بعدم البدع كون الراوي حسن الاعتقاد، وإنما رجح جميع ما ذكر لأن الوثوق به أكثر من الوثوق بغيره. 875 - عدالةٌ بقيدِ الاشتهار ... وكونُه زُكِّي باختبار 876 - صريحُها. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . قوله: "عدالة" و"صريحها" معطوفان بحذف العاطف (2)، والمتعاطفات كلها مرفوعات عطفًا على ما قبلها، يعني أن مشهورَ العدالة ترجَّح روايته على رواية المحتاج إلى التزكية، وكذا ترجَّح رواية من كانت تزكيته باختبار من المجتهد على من زُكِّي عنده بالإخبار عن عدالته، لأن من رأى ليس كمن سمع، وكذا ترجَّح رواية من زُكِّي تزكيةً صريحة على من __________ (1) منظومة في مصطلح الحديث، اختصرها من ألفيه العراقي، وشرحها في (هدى الأبرار) وهو مطبوع. (2) الأصل: المتعاطف.

(2/601)


زُكِّي تزكية ضمنية، وقد تقدمت التزكية الصريحة في قول المؤلف (1): "ومثبت العدالة اختبار. . " البيت. وتقدمت الضمنية في قوله (2): "وفي قضا القاضي. . " البيتين. . . . . . . . وأن يزكِّي الأكثرُ ... وفَقْدُ تدليسٍ كما قد ذكروا يعني أن الراوي الذي زكاه من العدول أكثر يُقَدَّم على الذي زكَّاه أقلُّ من ذلك؛ لأن زيادة عدد المزكِّين تزيد الوثوق بعدالته. وأن الراوي العدل غير المدلِّس ترجَّح روايته على رواية المدلِّس المقبول. وحاصله: أن عدم التدليس من المرجِّحات. والمدلِّسُ المقبول هو المدلِّس في الإسناد عادةً المصرِّح بالسماع في عين الحديث المروي. أما تدليس الشيوخ فالظاهر أن صاحبه غير مقبول (3)، وتدليس التسوية يُسْقِط أصلَ العدالة كما هو مقرر في المصطلح. 877 - حُرِّيةٌ والحفظُ علمُ النسبِ ... وكونُه أقربَ أصحابِ النبي ذكر في هذا البيت أربعة مرجحات: الأول: الحرية، فيرجّح مرويّ الحر على مروي العبد، لأن الحر __________ (1) البيت رقم (572). (2) البيت رقم (573). (3) تدليس الشيوخ: هو أن يسمي شيخًا سمع منه بغير اسمه المعروف أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لم يشتهر به كيلا يعرف. قال ابن الصلاح: (وهذا أخف من الأول -يعني تدليس الإسناد- وتختلف الحال في كراهيته بحسب اختلاف القصد الحامل عليه) (علوم الحديث: 76). فليس كما قال المصنف إنه غير مقبول.

(2/602)


لشرف منصبه يتحرَّز عما لا يتحرَّز عنه العبد، وضعَّف صاحب "الغيث الهامع" (1) الترجيح بالحرية. الثاني: الحفظ، ويدخل تحته أربعة أمور؛ الأول: أن الحافظ هو الذي يسرد الحديث من غير تلعثم، وغير الحافظ من يتخيل اللفظ ثم يتذكره ويؤديه بعد تفكر وتكلف. الثاني: الحافظ من يَقْدِر على التأدية، وغير الحافظ من لا يَقْدِر عل التأدية أصلًا لكن إذا سمع اللفظ علم أنه مرويَّه عن فلان، كقول أبي محذورة رضي اللَّه عنه: "لقَّنني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأذانَ تسعَ عشرةَ كلمة" (2) مع رواية عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة الأذانَ لا ترجيعَ فيه وهو لا يحكيه لفظًا عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-. الثالث: أن الحافظ من يحفظ لفظ الحديث، وغير الحافظ من يعتمد على المكتوب. الرابع: أن الحافظ من عُلِم أن شأنه التعويل على الحفظ من حين التحمُّل إلى حين الأداء لما يرويه، وغير الحافظ من شأنه التعويل على الكتابة حين التحمل أو الأداء لما يرويه، وإن لم نطلع على الحال في هذا المروي المعين بخصوصه وأن أحدهما رواه عن حفظ والآخر عن كتابة. الثالث -من مسائل البيت-: علم النسب، فترجَّح رواية معلوم النسب على غير معروف النسب لشدة الوثوق به. __________ (1) (3/ 844)، وهو منقول من أصله "تشنيف المسامع": (3/ 506) للزركشي. (2) أخرجه مسلم رقم (379) من حديث أبي محذورة -رضي اللَّه عنه-. وليس فيه (تسعة عشر).

(2/603)


الرابع: كونه أقرب أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي معنى أقربيته له -صلى اللَّه عليه وسلم- قولان: الأول: أن المراد به من كان مجلسه من الصحابة عادة أقرب إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهم رؤساء الصحابة وأكابرهم. الثاني: أن المراد به من كان أقرب إليه في المسافة وقتَ تحمُّل الحديث منه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ووَجْه الأول: أن أكابر الصحابة أشد ثقة من غيرهم، ووجه الثاني: أن القريب في المسافة أشد تمكُّنًا من حفظ اللفظ وعدم الخطأ في سماعه. 878 - ذُكورةٌ إن حالُه قد جُهِلا ... وقيلَ لا وبعضُهم قد فَضَّلا يعني أن رواية الذَّكَر تُرَجَّح على رواية الأنثى إذا جُهِل كونها أضبط، فالأحوال ثلاثة: أن يعلم كونه أضبط منها فتقديمه عليها واضح. أن يعلم كونها أضبط منه فتقدَّم عليه وهو الذي احترز عنه المؤلف بقوله: "إن حاله قد جُهلا" أن يجهل أيهما أضبط وهو مراد المؤلف، وذكر فيه ثلاثة أقوال؛ الأول: أنه يقدَّم عليها للعادة بأن الرجل أشدّ ثقةً من الأنثى في الغالب. الثاني: لا يرجَّح بالذكورة عند جهل الأضبطية وهو قول الاسفرايينيّ. الثالث: التفصيل فيرجح الذكر على الأنثى في غير أحكام النساء كالحيض والعِدَّة، وترجَّح الأنثى في أحكام النساء لأنها أضبط فيها، هذا هو مراد المؤلف. 879 - ما كان أظهرَ روايةً وما ... وجهُ التَّحَمُّل به قد عُلِما يعني أن أظهر الروايتين وأوضحهما في المعنى المروي تُقَدَّم على الأخرى التي فيها خفاء وإجمال، كما تقدم في هذا الشرح عند قول

(2/604)


المؤلف: "والاستواء في الخفاء والجلا. . " (1) إلخ. وأن رواية من عُلِمت جهةُ تحمُّلِه من سماع من لفظ الشيخ، أو قراءة عليه أو غير ذلك، مقدَّمَة على رواية من لم تُعلم جهةُ تحمُّله كالراوي بـ "قال" و"عن" ونحوهما. 880 - تأخُّرُ الإسلام والبعضُ اعتَمى ... ترجيحَ مَنْ إسلامُه تَقَدَّما يعني أنه اختُلِف في خبرِ متأخِّرِ الإسلام ومتقدِّمِه أيهما يرجَّح؟ فقال بعضهم: يرجَّح حديث متأخر الإسلام لظَهور تأخُّر خبرِه، وهذا هو الأظهر. وقال بعضهم: يُرجَّح خبر متقدم الإسلام لأنه أتقى (2) وأشد تحرزًا لقدم إسلامه (3). و"اعتمى" بمعنى اختار. وقوله: "تأخُّرُ" بالرفع معطوفًا بمحذوف على ما قبله. 881 - وكونُه مباشرًا أو كُلِّفا ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن المباشر لما رَوَى تُقَدَّم روايته على رواية غيره لأنه أدرى به من غيره كما قدمنا (4) من تقديم حديث أبي رافع لأنه السفير على حديث __________ (1) البيت رقم (588). (2) الأصل: أتقن، والمثبت من ط. (3) قال في "النشر": (2/ 282): "فالترجيح لمتأخر الإسلام ليس هو من جهة كونه وصفًا للراوي لأنه ليس صفة شرف له بالنسبة إلى متقدم الإسلام فلا يرجح به بهذا الاعتبار بل باعتبار كونه قرينة خارجة لتأخر مرويه عن معارضه، والترجيح لمتقدم الإسلام من حيث كونه صفة شرف للراوي يقتضي ترجيح روايته لاطلاعه على أمور الإسلام على ما لم يطلع عليه متأخر الإسلام" اهـ. (4) (ص/554).

(2/605)


ابن عباس في تزويج ميمونة والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حلال (1). وقوله: "أو كُلِّفا" يعني أنه تُقَدَّم رواية من تحمَّل الحديث وهو مكلَّف على رواية من تحمله صبيًّا ثم أدّاهُ بعد البلوغ، للاختلاف في رواية المتحمِّل في صباه، ولأن المتحمِّل بعد البلوغ أضبط لما روى. . . . . . . . . . . . . . ... أو غيرَ ذي اسميْنِ للامْنِ مِنْ خَفا يعني أنه يقدَّم خبر من له اسم واحد على من له اسمان، لأن تطرُّق الخلل إلى صاحب الاسمين أكثر لاحتمال أن يشاركه ضعيف في واحد منهما، وإن قُطِع بعدم المشاركة في ذي الاسمين فالظاهر أنه لا ترجيح حينئذٍ باتحاد الاسم كما قاله في "الآيات البينات" (2) وهو واضح. 882 - أو راويًا باللفظِ أو ذا الواقعِ ... وكونُ مَنْ رَوَّاهُ غَيرَ مانِع ذكر في هذا البيت ثلاثة مرجحات: الأول: كون الراوي باللفظ يقدَّم على الراوي بالمعنى. الثاني: كون أحد الراويين صاحب الواقعة وهو مراده بقوله: "ذا الواقع" كرواية ميمونة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوجها وهو حلال، ولأنها صاحبة الواقعة قُدِّمت على رواية ابن عباس أنه تزوجها وهو محرم (3). الثالث: كون الشيخ الذي روى عنه الراوي غير مانع الرواية أي غير __________ (1) تقدم تخريجه. (2) (4/ 219). (3) تقدم تخريج الحديثين.

(2/606)


مكذِّب الفرع كما تقدم في قوله: "والجزم من فرع" إلخ فإنْ جَزَم الفرعُ تُقبل معه روايته ولو أنكرها الأصل كما تقدم على الخلاف المذكور، ولكنه على القول بالقبول يقدم عليه من لم يكذبه أصله، وهو مراده بقوله: "وكون من رواه غير مانع". و"روَّاه" بتشديد الواو. وقوله: "أو راويًا" بالنصب معطوفًا على قوله: "مباشرًا" وقوله: "وكونُ" بالرفع معطوف على المتعاطفات المرفوعة قبله. 883 - وكونُه أُودِعَ في الصحيح ... لمسلمٍ والشيخِ ذي الترجيحِ يعني أن من المرجِّحات باعتبار السند ما أخرجه الشيخان في صحِيحَيْهما وهو ثلاث مراتب؛ الأولى: ما اتفقا عليه. الثانية: ما انفرد به البخاري لأنه أخصُّ شرطًا من مسلم. الثالثة: ما انفرد به مسلم. ومراده "بالشيخ ذي الترجيح" محمد بن إسماعيل البخاري تغمده اللَّه ومسلمًا برحمته، وقد ذُكِرَ في فنِّ المصطلح أنه يلي ما أخرجه مسلم ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم شرط مسلم، ثم شرط غيرهما. وقوله: "وكونه" بالرفع أيضًا. "وأُودِعَ" بالبناء للمفعول، ومعنى "أُودِعَ" أُخْرِجَ في الصحيح إلخ.

(2/607)


التّرجيح باعتبار حَال المرويّ 884 - وكثرةُ الدَّليل والرِّوايه ... مُرَجِّح لدى ذوي الدِّرايه يعني أن كثرة الأدلة على أحد المتعارضين مرجِّحة له على الآخر، وكذلك كثرة رواته. ولا يخفى أن الترجيح بكثرة الرواة من ترجيح السند، فجَعْله من الترجيح باعتبار حال المروي لا يخفى ما فيه، فإن كان أحد المتعارضين أكثر رواةً والثاني أكثر أدلةً فالظاهر الترجيح بكثرة الأدلة، وقال في "الآيات البينات" (1): إنه لا يبعد. وقوله: "ذوي الدرايه" أي أصحاب المعرفة بفن الأصول. 885 - وقولُه فالفعلُ فالتقريرُ ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن الخبر الناقل لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَدَّم على الخبر الناقل لفعله، والخبر الناقل لفعله يقدَّم على الناقل لتقريره، وإنما كان القول أقوى من الفعل لاحتمال الفعل الاختصاص به -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتقديم الفعل على التقرير لأن التقرير فعل ضِمْنيٌّ كما تقدم في قوله: "وفي الفعل انحصر تقريره" (2) والصريح أقوى من الضِّمْنيّ. واعلم أن تقديم القول على الفعل أغلبي، وربما قُدِّم الفعل، ومثال تقديمه: ما ذكره الفقهاء من المالكية وغيرهم من أن الإحرام بالعمرة من __________ (1) (4/ 296 - ط. دار الكتب). (2) البيت رقم (491).

(2/608)


الجعرانة الذي فعله النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أفضل منه من التنعيم الذي أمر به عائشة تقديمًا للفعل على القول. . . . . . . . . . . . . . ... فصاحةٌ وألغيَ الكثيرُ يعني أن الحبر الفصيح يقدَّم على معارضه غير الفصيح للعلم بأن غير الفصيح مروي بالمعنى؛ لأنه لو كان بلفظ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لكان فصيحًا سواء أريد بالفصاحة معناها الاصطلاحي أو أريد بها البلاغة. وقوله: "وألغي الكثير" يعني أن زيادة الفصاحة تُلغى فلا يرجَّح الخبر الأفصح على الخبر الفصيح، وقيل: يرجَّح بذلك لأنه أقرب إلى كون اللفظ له -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنه أفصح العرب. 886 - زيادةٌ ولغةُ القبيلِ ... ورُجِّح المُجِلُّ للرسولِ ذكر في هذا البيت ثلاثة مرجحات: الأول: الزيادة، يعني أن الخبر المشتمل على زيادة يقدَّم على الخبر الخالي عنها؛ لما فيه من زيادة العلم، كترجيح خبر التكبير في العيد سبعًا على خبر التكبير فيه أربعًا (1)، وأَخْذ الحنفية بخبر الأربع من الأَخْذِ بالأقل. __________ (1) حديث التكبير سبعًا أخرجه الترمذي رقم (536)، وابن ماجه رقم (1279)، والدارقطني: (2/ 48) من حديث عمرو بن عوف -رضي اللَّه عنه-. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو أحسن شيء في هذا الباب. ونقل عن البخاري أنه قال ذلك، كما نقله البيهقي في "سننه": (3/ 286) من "العلل الكبير" -وليس في المطبوع منه-. لكن قد تكلم فيه غير واحد، ففي إسناده كثير بن عبد اللَّه المزني أكثر النقاد على توهينه، وأنكروا على الترمذي تحسينه له. انظر "البدر المنير": (5/ 76 - 80). وله شاهد من حديث عائشة وابن عمرو. =

(2/609)


الثاني: الخبر الوارد بلغة قريش يقدَّم على معارِضِه الوارد بلغة غيرهم، لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم، وقَبِيل الرجل قومُه الذي هو منهم، ومنه قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف/ 27]. الثالث: الخبر المُجِل للرسول أي المشعر بلعوِّ شأنه وعظمة أمره، فإنه يقدَّم على ما ليس كذَلك، لأن علو شأنه كان يتجدَّد شيئًا فشيئًا، فما أشْعَر بعلو شأنه فهو المتأخر، وكذا يُقدم المُشْعر بعلوِّ شأن الصحابة. 887 - وشهرةُ القصةِ ذِكْرُ السَّببِ ... وسمعُه إيَّاه دونَ حُجُبِ ذكر في هذا البيت أيضًا ثلاثة من المرجحات: الأول: شهرة القصة، يعني أن الخبر ذا القصة المشهورة مقدَّم على الخبر ذي القصة الخفية؛ لأن القصة المشهورة يبعد الكذب فيها كما قاله القرافي (1). الثاني: ذِكْر السبب يعني أن الخبر المذكور فيه السبب مقدَّم على الخبر الذي لم يذكر فيه السبب، لاهتمام ذاكر السبب بمرويِّه الدّالِّ على ضبطه، ولأنَّ عِلْم السبب يفيد العلم بالمعنى المرادِ، ولذا اعتنى المفسِّرون بذكر أسباب النزول. __________ = وحديث التكبير أربعًا أخرجه أحمد: (32/ 510 رقم 19734)، وأبو داود رقم (1153)، والبيهقي: (3/ 289 - 290) من حديث أبي موسى -رضي اللَّه عنه-. وفي إسناده رجل مجهول، وأعله البيهقي بالوقف وأن صوابه عن ابن مسعود موقوفًا عليه. انظر "نصب الراية": (2/ 214 - 215)، و"الجوهر النقي - بهامش البيهقي". وله شاهد عند الطحاوي عن بعض أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وحسَّنه. (1) في "شرح التنقيح": (ص/ 433).

(2/610)


الثالث: كون أحد الراويين سمع من الشيخ من دون حجاب، والآخر سمع منه من وراء حجاب، كخبر القاسم بن محمد عن عائشة: أن بريرة عَتَقت وزوجها عبدٌ (1)، مع خبر الأسود بن يزيد: أنها عَتَقت وهو حرٌّ (2)، لأن القاسم ابن أخيها يروي عنها من غير حجاب بخلاف الأسود. __________ (1) أخرجه مسلم رقم (1504) وغيره، عن سِماك عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم به. (2) أخرجه البخاري رقم (6754) وأصحاب السنن. وقال البخاري عقبه: (قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس: رأيته حرًّا أصح) اهـ. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": (9/ 318) ضمن كلامه على رواية الأسود عن عائشة: (حديث الأسود بن يزيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرًّا. . . اختلف فيه على راويه هل هو من قول الأسود أو رواه عن عائشة أو هو قول غيره -كما سأبينه-؟ قال إبراهيم بن أبي طالب -أحد حفاظ الحديث وهو من أقران مسلم فيما أخرجه البيهقي عنه-: خالف الأسود الناسَ في زوج بريرة. وقال الإمام أحمد: إنما يصح أنه كان حرًّا عن الأسود وحده وما جاء عن غيره فليس بذاك، وصح عن ابن عباس وغيره أنه كان عبدًا ورواه علماء المدينة وإذا روى علماء المدينة شيئًا وعملوا به فهو أصح شيء. . .) اهـ الغرض منه. وقال أيضًا (الفتح: 9/ 322) بعد الكلام على جميع الروايات الواردة في كونه حرًّا أو عبدًا: (فدلت الروايات المفصلة التي قدمتها آنفًا على أنه مدرج -أي قوله كان حرًّا- من قول الأسود أو من دونه فيكون من أمثلة ما أدرج في أول الخبر وهو نادر. . . وعلى تقدير أن يكون موصولًا فترجح رواية من قال: كان عبدًا بالكثرة. وأيضًا فآل المرء أعرف بحديثه فإن القاسم ابن أخي عائشة وعروة ابن أختها وتابعهما غيرهما فروايتهما أولى من رواية الأسود فإنهما أقْعَد بعائشة وأعلم بحديثها واللَّه أعلم) اهـ الغرض منه. وانظر "نصب الراية": (3/ 205 - 208). وهذا المثال ذكره بحروفه الآمدي في "الإحكام": (4/ 468 - 469).

(2/611)


وقال البخاري: إن القائل بأنه حرٌّ الحَكَم لا عائشة. وقوله: "دون حُجُب" بضمتين جمع حجاب. 888 - والمدني والخبرُ الذي جَمَع ... حُكْمًا وعلةً كقتل من رَجَع ذكر في هذا البيت مرجِّحَين: الأول: الخبر المدني مرجَّح على المكي لأنه بعده، والتحقيق أن المكي هو ما كان قبل الهجرة أو في سفرها، والمدني ما كان بعد نزول المدينة، وما ذكره المؤلف في "الشرح" (1) من أن ما كان في سفر الهجرة مدني فإنه خلاف التحقيق. الثاني: الخبر الذي جمع العلة والحكم معًا مقدَّم على ما أفاد الحكم دون العلة، ومَثَّل له المؤلف بحديث: "من بَدَّلَ دينَه فاقتلوه" (2) المقتضي بعمومه قتل المرتدات مع خبر نهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتل النساء (3) المقتضي بعمومه ولو كنَّ مرتدَّات، فإن حديث: "من بَدَّلَ دينَه" يُرَجَّح لأنه جَمَع بين الحكم الذي هو القتل وعلته التي هي تبديل الدين دون الآخر الذي لم تُبَيَّن فيه العلة، وقد تقدم في شرح قول المؤلف (4): "وإن يك العموم من وجه" إلخ أن الأعمَّيْن من وجه يتعارضان في الصورة التي يجتمعان فيها فيصار __________ (1) (2/ 287). (2) أخرجه البخاري رقم (3017) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (3) أخرجه البخاري رقم (3014)، ومسلم رقم (1744) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (4) البيت رقم (431).

(2/612)


إلى الترجيح. وقوله: "كقتل من رجع" أي عن دينه بالردة. 889 - وما به لعلةٍ تقدُّمُ ... ما بتوكيدٍ وخوفٍ يُعْلَمُ ذكر في هذا البيت ثلاثة مرجحات: الأول: الخبر الذي قُدِّم فيه ذكر العلة على الحكم فإنه يقدَّم على الذي قُدِّم فيه ذكر الحكم على العلة؛ لأن تقديم العلة أدل على ارتباط الحكم بها قاله الرازي في "المحصول" (1). وعَكَس النقشواني ذلك معترضًا له بما ردَّه عليه صاحب "الآيات البينات" (2) فانظره فيه إن شئت. الثاني: التوكيد، فالخبر الذي فيه توكيد مقدَّم على الخالي من التوكيد كحديث: "أيُّما امرأةٍ نكحَتْ بغير إذن وَليِّها فنكاحها باطل، باطل، باطل" (3) فإنه مُقَدَّم على حديث: "الأَيِّمُ أحق بنفسها" (4) لو سُلِّمت دلالته على أنها تزوج نفسها كما ذهب إليه الحنفية، لخلوِّه من التوكيد الموجود في معارضه، مع أنه على التحقيق لا يفيد تزويجها لنفسها، ومعنى أنها أحقُّ بنفسها أنها لا تزَوَّج بدون إذنها ولا من كُفْءٍ لم ترضه. الثالث: التخويف، فالخبر المشتمل على تخويف وتهديد يقدَّم __________ (1) (5/ 147). وأشار الزركشي في "تشنيف المسامع": (3/ 517) إلى أن السبكي أول من أشار إلى ذلك في هذا الباب. (2) (4/ 221). وانظر "البحر المحيط": (6/ 168)، و"النشر": (2/ 288). (3) تقدم تخريجه (ص/ 279). (4) أخرجه مسلم رقم (1421) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنه-. وجاء بمعناه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- في الصحيحين.

(2/613)


على الخبر الخالي من ذلك، ومَثَّل له البرماوي والزركشي (1) بما في البخاري (2): أن عمارًا رضي اللَّه عنه قال: من صامَ يومَ الشكِّ فقد عصى أبا القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم- (3). فإنه في حُكْم المرفوع وأنه يقدَّم على ما استدل به القائل بوجوب صوم يوم الشكِ -كما يُرْوى عن أحمد (4) - لخُلُوِّه من التهديد الموجود في معارضه. 890 - وما يعمُّ مطلقًا إلا السَّبَب ... فقدِّمَنْه تَقْضِ حُكْمًا قد وجبْ يعني أن العامَّ المطلق أي الذي لم يَرِد على سبب خاصٍّ مقدَّمٌ على العام الوارد على سبب خاصٍّ إلا صورة السبب فإنها قطعية الدخول عند الأكثر كما تقدم في قوله: "واجزم بإدخال ذوات السبب" (5) فتحصَّل أن صورة السبب مقدَّمة على العام الذي لم يَرِد على سبب خاصٍّ، وأن العامَّ __________ (1) انظر "البحر المحيط": (6/ 168). (2) معلقًا، في كتاب الصوم، باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" قبل حديث رقم (1906). (3) أخرجه أبو داود رقم (2327)، والترمذي رقم (686)، والنسائي: (4/ 462)، وابن ماجه رقم (1645)، وابن حبان "الإحسان" رقم (3585)، والحاكم: (1/ 423 - 424)، والدارقطني: (2/ 157) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وقال الدارقطني: إسناده حسن صحيح ورجاله كلهم ثقات. وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وصححه ابن الملقن في "البدر": (5/ 691). (4) إذا كانت السماء مغيمة، انظر "مسائل إسحاق الكوسج" رقم (700). (5) البيت رقم (428).

(2/614)


الذي لم يرد على سبب خاصٍّ مقدَّم على غير صورة السبب من أفراد العام الوارد على سبب خاصٍّ، وإنما قُدِّمت صورةُ السبب لأنها قطعية الدخول عند الأكثر، وقُدِّم العام الذي لم يرد على سبب على العام الوارد عليه؛ لأن العام الوارد على سبب قيل باختصاصه بصورة السبب، ولذا كان أضعف من المطلق. 891 - ما منه للشرطِ على المنكَّرِ ... وهو على كلِّ الذي له دُرِي يعني أن العام الذي هو أداة شرط كـ "من" و"ما" الشرطيتين مقدَّم على العام الذي هو نكرة في سياق النفي، وهذا مراده بقوله: "ما منه للشرط على المنكَّر". وقوله: "وهو على كل الذي له دُرِي" يعني أن العام الذي هو نكرة في سياق النفي مقدَّم على غيره من أدوات العام، ويُستثنى من ذلك الصريح في العموم نحو: كل، وجميع. وخالفَ البعضُ فيما تقدم من تقديم العام الذي هو شرط على العام الذي هو نكرة في سياق النفي. وما ذكره المؤلف من تقديم الشرط لأنه غالبًا يفيد العلة مع الحكم. 892 - معرّف الجمعِ على ما استُفْهِما ... به منَ اللفظين أعني مَنْ وما يعني أن العام الذي هو جَمْعٌ معرَّف (بألْ) أو (الإضافة) نحو: الرجال، وعباد اللَّه، مقدَّم على العام الذي هو: (مَن) و (ما) الاستفهاميتان. وإنما كان الجمع المعرَّف أقوى منهما لأنه لا يجوز تخصيصه لواحد على الخلاف المتقدم في قوله: "وموجب أقله القفال. . " (1) إلخ، بخلاف __________ (1) البيت رقم (384).

(2/615)


(من) و (ما) الاستفهاميتين فتخصيصهما إلى واحد جائز كما تقدم في قوله: "جوازه لواحد في الجمع. . " (1) إلخ. 893 - وذي الثلاثَةُ على المعرَّفِ ... ذي الجِنْس لاحتمال عهدٍ قد يفي يعني أن هذه الثلاثة التي هي الجمع المعرَّف، و (من) و (ما) في الاستفهام كلها مقدَّمة على اسم الجنس المفرد المعرَّف بألْ، أو الإضافة نحوُ: الإنسان، وغلامُ زيدٍ؛ لاحتمال العهد فيه (2) بخلاف (من) و (ما) فلا يحتملان العهد، والجمع المعرف يبعد فيه العهد. 894 - تقديم ما خُصَّ على ما لم يُخصّ ... وعكسُه كُلٌّ أتى عليهِ نصّ يعني أنهم اختلفوا في العام الذي لم يدخله التخصيص والعام الذي دخله التخصيص أيهما يقدَّم؟ فجمهور الأصوليين على ترجيح الذي لم يدخله التخصيص، ولم يذهب إلى القول الآخر إلا صفي الدين الهندي، والسبكي (3) ومثاله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ} [المؤمنون/ 6] فإنه يدل بعمومه على شمول الأختين بملك اليمين مع أن {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] يشمل بعمومه وطئهما بملك اليمين، وعموم: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6] دخله التخصيص لأنه مخصَّصٌ بعموم: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء/ 23] فلا تحل الأخت من الرضاعة بملك __________ (1) البيت رقم (383). (2) ط: العهدية. (3) "الجمع": (2/ 367)، و"نهاية الوصول": (8/ 3704)، وما سبق (ص/ 263).

(2/616)


اليمين، وبعموم: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء/ 22] فلا تحل موطوءة الأب بملك اليمين بخلاف عموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] فلم يدخله تخصيص غير محل النزاع. وقوله: "كلٌّ أتى عليه نصّ" يعني أن كلًّا جاء بدليل لقوله، فالجمهور احتجُّوا بأن العام الذي لم يدخله التخصيص مجْمَع على اعتبار عمومه، والعام الذي دخله التخصيص مختلف في اعتبار عمومه كما تقدم في قول المؤلف: "وهو حجة لدى الأكثر. . " (1) إلخ. واحتجّوا أيضًا بأن العام الذي دخله التخصيص مجازٌ على أحد القولَيْن في المخصوص، واتفقا في المراد به الخصوص -كما تقدم في قول المؤلف: "والثاني اعزُ للمجاز جزما. . " (2) إلخ- والذي لم يدخله التخصيص حقيقة، وهي أولى من المجاز. واحتجَّ صفي الدين والسبكي بأن ما خُصَّ من العام هو الغالب، والغالب أولى من غيره. واحتجَّا أيضًا بأنَّ ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى بخلاف الباقي على عمومه. ويجري الخلاف المذكور في الأقل تخصيصًا مع الأكثر تخصيصًا فيقدَّم الأقل تخصيصًا عند الجمهور، ومثاله: معارضة {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام/ 121] مع {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة/ 5] فيما ذبحه الكتابي ولم يُسم اللَّه عليه، فيرجح عمومُ {وَطَعَامُ __________ (1) البيت رقم (392). (2) البيت رقم (389).

(2/617)


الَّذِينَ} عند الجمهور لأنه أقل تخصيصًا؛ لأن عموم: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} مخصَّص مرتين: خصصه الجمهور بغير الناسي فأباحوا ذبيحة الناسي للتسمية، وخصَّصه الشافعي وقومٌ بما ذبحه الوثني الذي يهل به لغير اللَّه، بخلاف عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ. . .} الآية، فإنه لم يخصَّص إلا مرة واحدة، لأن الجمهور خصَّصوه بما لم يُذكر عليه اسم غير اللَّه، وبعضهم أباحه مطلقًا ولو ذكر عليه اسم غير اللَّه. 895 - إشارةٌ وذاتُ الإيما يُرتَضى ... كونهما من بعد ذات الاقْتِضا يعني أن الدال بالاقتضاء مقدم على الدال بالإشارة وعلى الدال بالإيماء؛ لأن المدلول عليه بالاقتضاء مقصود يتوقف عليه الصدق أو الصحة، والظاهر تقديم المقتضي الذي يتوقف عليه الصدق على المقتضي الذي تتوقف عليه الصحة كما قاله حلولو (1). والظاهر أيضًا أن الإيماء مقدم على الإشارة، لأن مدلوله مقصود للمتكلم. 896 - هما على المفهوم. . . . ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن ما دل بالإيماء أو بالإشارة مقدم على ما دل بالمفهوم، موافقةً كان أو مخالفة؛ لما تقدم من القول بأن الإيماء والإشارة منطوق غير صريح في قول المؤلف: "والمنطوق هل ما ليس بالصريح. . " (2) إلخ، والمنطوق مقدم على المفهوم. __________ (1) انظر شرحه "الضياء اللامع": (2/ 482). (2) البيت رقم (137).

(2/618)


… … … … والموافقه ... ومالكٌ غيرُ الشذوذِ وافَقَه يعني أن مفهوم الموافقة مقدَّم على مفهوم المخالفة، وهو مذهب مالك والأكثر فمُخالِفُه شاذٌّ، وهو مراد المؤلف بقوله: "ومالك. . " إلخ، وإنما قدم مفهوم الموافقة لضعف مفهوم المخالفة بالخلاف في الاحتجاج به كما تقدم في شرح قوله: "وهو حجة على النهج الجلي" (1). ومفهوم قوله: "غيرُ الشذوذ" أن بعضهم قال بتقديم مفهوم المخالفة محتجًّا بأن مفهوم المخالفة يفيد حكمًا مخالفًا لما دل عليه المنطوق بخلاف مفهوم الموافقة. * * * __________ (1) البيت رقم (160).

(2/619)


الترجيح باعتبار المدْلُول أي مدلول الراجح من الخبرين. 897 - وناقلٌ ومثبتُ. . . . ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن الخبر الناقل عن الأصل الذي هو البراءة الأصلية مقدَّم على الخبر المقرِّر له عند الجمهور، لأن الناقل فيه زيادة على الأصل هي إثبات حكمٍ شرعي ليس موجودًا في الأصل، بخلاف غير الناقل فمضمونه مستفاد من البراءة الأصلية. ومثاله: حديث: "من مسَّ ذكره فليتوضأ" (1) مع حديث: "إنما هو بضعة منك" (2) يعني الذَّكَر أي ليس في مَسِّه وضوء، فالحديث الموجب للوضوء منه ناقل عن الأصل الذي هو عدم الوجوب فيقدَّم عليه. وقال __________ (1) تقدم تخريجه (ص/ 483). (2) أخرجه أحمد: (26/ 214 رقم 16286)، وأبو داود رقم (184، 185)، والترمذي رقم (85)، والنسائي: (1/ 101)، وابن ماجه رقم (483)، وابن حبان "الإحسان" رقم (1119)، والدارقطني: (1/ 149)، والبيهقي: (1/ 128) وغيرهم من حديث قيس بن طَلْق عن أبيه. قال الترمذي: وهذا أحسن شيء روي في هذا الباب. وقال ابن المديني والفلّاس: إنه أحسن من حديث بسرة، وصححه الطحاوي وابن حبان والطبراني وابن حزم. وضعفه آخرون منهم الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي. انظر: "البدر المنير": (2/ 465 - 469)، و"التلخيص الحبير": (1/ 134).

(2/620)


بعضهم بتقديم المقرِّر للأصل، والجمهور على خلافه. وقوله: "ومثبت" يعني أن الخبر المثبت لخبر شرعي مقدم على الخبر النافي له لاشتمال المثبت على زيادة علم، وقيل: بتقديم النافي لاعتضاده بالأصل، وقيل: يتساويان لأن لكل منهما مرجِّحًا، وقيل: بتقديم المثبت في غير الطلاق والعتق. ومثاله: حديث بلال: "أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى في الكعبة حين دخلها ركعتين" (1) مع حديث أسامة: أنه دعا في نواحي البيت حين دخله ولم يصل (2)، فيقدَّم خبر بلال المثبت. ومن أمثلته حديث أنس: كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يقنت بعد الفجر حتى فارق الدنيا (3)، مع حديث ابن مسعود: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما قنت شهرًا يدعو على حيٍّ من أحياء بني سليم ثم لم يقنت بعد (4). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (397)، ومسلم رقم (1329) من حديث ابن عمر أنه سأل بلالًا. (2) أخرجه مسلم رقم (1330) من حديث ابن عباس أن أسامة أخبره. (3) أخرجه أحمد: (20/ 95 رقم 12657)، وعبد الرزاق رقم (4964)، والدارقطني: (2/ 39)، والبيهقي: (2/ 201) وغيرهم. وفيه أبو جعفر الرازي ضعيف وقد خالف الثقات من أصحاب أنس، إذ رووا عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قنت شهرًا يدعو على أحياء من أحياء العرب. . . أخرجه البخاري رقم (1003)، ومسلم رقم (677). (4) أخرجه البزار رقم (1569)، والبيهقي: (2/ 213)، وابن أبي شيبة: (2/ 103)، وأبو يعلى والحاكم -كما في "إتحاف الخيرة": (2/ 200) - قال الهيثمي في "المجمع": (2/ 137): وفيه أبو حمزة الأعور القصاب وهو ضعيف.

(2/621)


وحاصل الفرق بين مسألة الناقل ومسألة المثبت: أن مسألة الناقل وافق فيها حكم أحد الخبرين الأصلَ وخالفه الآخر، ومسألة المثبت نَسَب فيها أحد الخبرين حصولَ شيء إلي الشارع ونفاه الآخر، والفرق بين هذا ظاهر. وجعل بعضهم مسألة المثبت مستثناة من مسألة الناقل. . . . . . . . . . . . . . والآمرُ ... بعدَ النواهي ثمَّ هذا الآخِرُ 898 - على الإباحة. . . . ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن الخبر الدال على نهي التحريم مقدَّم على الخبر الدال على الأمر المرادِ به الوجوب؛ لأن نهي التحريم لدفع المفسدة، وأمر الوجوب لجلب المصلحة، والأول مقدم على الثاني. وقوله: "ثم هذا" إلخ يعني أن الآخِر -بكسر الخاء- الذي هو الأمر مقدم على الإباحة للاحتياط في الخروج من عُهدة الطلب، فتحصَّل أن المقدم النهي، فالأمر، فالإباحة. وقوله: "الآمر" بصيغة اسم الفاعل يعني الخبر الدال على أمر. . . . . . . . . . وهكذا الخَبَرْ ... على النَّواهِي وعلى الذي أمَرْ يعني أن الخبر المتضمِّنَ للتكليف مقدَّم على النهي وعلى الأمر، لأن الطلب بالصيغة الخبرية فيه من الدلالة على تأكد الامتثال ما ليس في غيره، والتحقيق أن الخبر المتضمِّنَ للتكليف إنما يُرَاد به في نفس الأمر الإنشاء ولم يُرَد به فائدة الخبر ولا لازمها كما تقرر في فنِّ المعاني نحوُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة/ 233]، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة/ 228] {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ} [الصف/ 10 - 11]. فما

(2/622)


أشار إليه المؤلف في "الشرح" (1) من أنه لم يُرِد به (2) الإنشاء غير ظاهر، وبما ذُكر (3) هنا تعلم أن محلَّ ما سبق من تقديم النهي على الأمر ما لم يكن الأمر في ضمن صيغة خبرية كما هنا وإلَّا قُدِّم على النهي والأمر الذي لم يكن (4) صيغة خبرية. 899 - في خَبَريْ إباحةٍ وحظرِ ... ثالثُها هذا كذاك يَجْري يعني أن في تعارض خبر الحَظْر أي المنع وخَبَر الإباحة ثلاثة أقوال: الأول: تقديم الحظر، وقد قدمنا أن النهي المقتضي للمنع مقدَّم على الأمر، والأمر مقدم على الإباحة. ووجهه ظاهر لأن ترك مباح أهون من الوقوع في حرام. الثاني: تقديم الإباحة على الحظر لاعتضادها بالأصل الذي هو نفي الحرج. الثالث: هما سواء لأن لكلٍّ منهما مرجِّحًا يساوي مرجح الآخر، وصححه الباجي (5) في تعارض العلتين (6). وقوله: "هذا" يعني الحظر، __________ (1) (2/ 295). (2) بعده في ط: في نفس الأمر. (3) ط: ذكرنا. (4) ط: يضمن. (5) انظر "إحكام الفصول": (2/ 761). (6) هذا اختصار لكلام صاحب "النشر": (2/ 296) إذ قال: (وصححه الباجي إلا أنه فرضه في العلتين إذا اقتضت إحداهما الحظر والأخرى الإباحة) اهـ. أقول: وليس في كلام الباجي أي إشارة إلي فرضه في العلتين.

(2/623)


وقوله: "ذاك" يعني الإباحة لأنها مصدر بمعني الجواز. 900 - والجزمُ قبل النَّدبِ. . . . ... . . . . . . . . . . . . . يعني أن الخبر الدَّال على الوجوب مقدَّم على الخبر الدال على الندب احتياطًا لبراءة الذمة. . . . . . . . . . والذي نفى ... حدَّا على ما الحدُّ فيه أُلِفا يعني أن الخبر الدالَّ على نفي الحدِّ مقدَّم على الدال على الحد، لأن الحد يُدْرأ بالشبهات وكذلك التعزير كما ذكره المؤلف في "الشرح" (1). وخالف المتكلِّمون فقالوا: يقدم ما فيه الحد على ما فيه نفيه. 901 - ما كان مدلولٌ له معقولا ... . . . . . . . . . . . . . يعني [أن] الخبر المعقول المعنى أي المعلوم العلة مقدَّم على التعبُّدِي الذي لم تُعرف علته؛ لأن معقول المعنى أغلب وأدعى للانقياد لمعرفة حكمته، قال حلولو (2): ويقيد هذا على أصل مالك بما إذا كان في غير باب التعبديات؛ لأن الغالب فيها عدم المعقولية. . . . . . . . . . . . . . ... وما على الوضعِ أتى دليلا يعني أن الخبر الدَّال على خطاب الوضع مقدَّم على الدَّال على خطاب التكليف، كأنْ يدل أحدُ الخبرين على كون الشيء شرطًا ويدل __________ (1) (2/ 296). (2) انظر "الضياء اللامع": (2/ 485).

(2/624)


الآخر على النهي عن فعله في كل حال. وجه تقديم الدال على خطاب الوضع: أنه لا يتوقف على أهلية الخطاب وفهمه والتمكّن من الفعل بخلاف الدَّال على التكليف، وقيل: يقدَّم الدالُّ على التكليف لما فيه من ترتب الثواب عليه. * * *

(2/625)


ترجيح الإجماعات يعني ترجيح الإجماع على النصِّ وترجيح بعض الإجماعات على بعض. 902 - رجِّحْ على النصِّ الذي قد أُجْمِعا ... عليه. . . . . . . . . . . . . يعني أن الإجماعَ يرجَّح على النصِّ لأن الإجماع يؤمن فيه النسخ بخلاف النّص، وقد تقدم للمؤلف قوله في الإجماع: "وقدِّمَنَّه على ما خالفا. . " (1) إلخ. واعلم أن الإجماع السُّكوتي يقدم عليه النصُّ لجواز مخالفته لدليل أرجح منه. . . . . . . . . . . . ... . . . . والصَّحْبِ على من تَبِعا يعني أنه يقدَّم إجماع الصحابة على إجماع التابعين، وأحرى من بعدهم؛ لأن الصحابة أفضل من غيرهم وأعلم بأحوال التشريع، لمباشرتهم له -صلى اللَّه عليه وسلم- ولأن إجماعهم متفق على الاحتجاج به وإجماع غيرهم مخْتَلَف فيه. 903 - كذاك ما انقرضَ عصرُه وما ... فيه العموم وافقوا من عَلِما ذكر في هذا البيت مرجِّحَيْن من مرجحات الإجماع: الأول: انقراض العصر، فيقدَّم الإجماع الذي انقرض عصره على الذي لم ينقرض للاختلاف في الاحتجاج بالذي لم ينقرض عصره، كما __________ (1) البيت رقم (621).

(2/626)


تقدم ذكر الخلاف فيه في قول المؤلف: "ثم انقراض العصر. . " (1) إلخ. الثاني: موافقة العوام للمجتهدين، فيقدَّم الإجماع الذي وافق فيه العوامُّ العلماءَ على الذي لم يوافقوهم فيه، فقول المؤلف: "العمومُ" يعني العوامَّ، وقوله: "من عَلِما" بالبناء للفاعل يعني العلماءَ أيْ فيه العوامُّ وافقوا العلماءَ، وإنما رُجِّح بموافقة العوام لأنهم قيل باشتراط موافقتهم في الإجماع، كما تقدم ذكر الخلاف في ذلك في قول المؤلف: "فالإلغا لمن عمَّ انُتقي وقيل لا. . . " (2) إلخ. قال بعضهم: إن كان الذي وافق فيه العوامُّ سكوتيًا والذي لم يوافقوا فيه غيرُ سكوتي فلا يبعد تقديم الذي لم يوافقوا فيه، لأن تصريح المجتهدين فيه أقوي من موافقة العوام (3) في السكوتي، وهذا هو الظاهر. * * * __________ (1) البيت رقم (611). (2) البيتان رقم (604، 605). (3) الأصل: العام!

(2/627)


ترجيح الأَقْيسَة والحدُود اعلم أن الترجيح فيما سبق بين المنقول من التصديقات -أعني القضايا الخبرية- والكلام في هذا المبحث في التراجيح بين نوع من المعقولات وهو القياس، وبين التصورات -أعني معرفة المفردات- من غير حكم عليها نقلية كانت أم لا، وترجيح القياس يكون بما يرجع إلي الأصل، أو الفرع، أو العلة، أو المدلول، أو الخاصِّ. 904 - بقوةِ المثبتِ ذا الأساسِ ... أي حكمَه الترجيحُ للقياسِ يعني أن القياس يرجَّح بقوة الدليل المثبت حكم الأساس أي الأصل المقيس عليه بأن يكون حكم الأصل في أحد القياسَيْن أقوى دليلًا، فقوله: "الترجيح" مبتدأ خبره "بقوة" وهو مصدر مضاف إلي فاعله الذي هو "المثْبِت" باسم الفاعل، و"ذا" بمعنى صاحب مفعول "المثبت". وصاحب الأساس هو حكم الأصل. فالصاحب الحكم والأساس الأصل المقيس عليه، وقوله: "للقياس" يتعلّق بالترجيح، وقوله: "حكمَه" بالنصب تفسير لـ "ذا" فهو عطف بيان عليه. 905 - وكونه موافق السنن. . . . ... . . . . . . . . . . . يعني أن القياس يرجَّح بكونه على سَنَن القياس، والمراد بسنن القياس هنا كون فرعه من جنس أصله لا ما تقدم في قوله: "وليس حكم الأصل" (1) إلخ، وإنما رجِّح هنا بكون الفرع من جنس الأصل لأن فرد __________ (1) البيت رقم (646). ووقع في الأصل: (حكم الفرع. . .) وهو سبق قلم، وانظر =

(2/628)


الجنس أشبه بفرد الجنس من غيره (1)، وقد تقدم قول المؤلف: "والفرع للأصل بباعث. . " (2) إلخ، ومثاله: قياس التيمُّم على الوضوء في بلوغ المرفقين فإنه أولى من قياسه على السرقة في الاقتصار على الكوع؛ لأن التيمم من جنس الوضوء وليس من جنس السَّرقِة، ومن أمثلته: قتل البهيمة الصائلة فإنها لا ضمان في قتلها قياسًا على الآدمي الصائل بجامع أن الكلَّ صائل، فإنه أولى من قول الحنفية: إنه يضمنها لأنه أبيح له إتلاف مال غيره دون إذنه لرفع الضرر عنه فيجب عليه الضمان قياسًا على ما لو اضطر إلى أكله من الجوع، لأن الأول قياسُ صائل على صائل، فالفرع من جنس الأصل، بخلاف الثاني فإنه قياس صائل على مأكول لضرورة الجوع وليس من جنسه. . . . . . . . . . عنْ (3) ... بالقطعِ بالعلَّةِ أو غالِبِ ظنْ يعني أنه يرجح أحد القياسين بكون وجود العلة في الأصل مقطوعًا به، والآخر ليس كذلك، وكذا يرجَّح بكون بوجودها مظنونًا في أحدهما ظنًّا أغلب من الظن في الآخر. وظاهر المؤلف أنها إن قُطِع بوجودها فيهما فلا ترجيح فيه، وذلك مبنيٌّ على الخلاف المتقدم في تفاوت اليقين (4). __________ = "النشر": (2/ 302). (1) الأصل: بغيره. (2) البيت رقم (656). (3) قال في "النشر": (عن) بمعنى عرض وظهر. (4) انظر (ص/ 49 - 50).

(2/629)


قلت: يظهر لي الترجيح بالقطع بوجودها في الفرع أو ظن ذلك ظنًّا أغلب على نحو ما ذكر في الأصل وهو ظاهر. واعلم أن امتناع تعارض القطعيات إنما هو في نفس الأمر لا بحسب ما يظهر للمجتهد. 906 - وقوةِ المسلكِ ولْتقدِّما ... ما أصلُها تتركه مُعَمَّما ذكر في هذا البيت مرجِّحَيْن من مرجحات القياس: الأول: قوة المسلك، يعني أن يرجح أحد القياسَيْن على الآخر بكون مسلك علته أقوى من مسلك علة الآخر، وقد تقدم في مسالك العلة ترتيبها في القوة، وقد قدمنا هناك (1) أن فائدته التقديم عند التعارض. الثاني: عموم العلة لجميع الأفراد، فإنه من المرجِّحات لها فتقدم العلة التي لم تُخَصِّص أصلَها على العلة المخصِّصة له المشار إليها بقوله: "وقد تُخصِّصُ وقد تعمِّم. . " (2) إلخ. وإنما رُجِّحَت عليها لأنها أكثر منها فائدة، ولأن المخصصة لأصلها اختلف في التعليل بها فكانت أضعف بسبب الاختلاف فيها. ومثاله: تعليل الشافعية لتحريم الربا في البر بالطعم، مع تعليل الحنفية والحنابلة له بالكيل؛ فإن تعليله بالكيل يؤدي إلى تخصيص العلة لأصلها، لأن مثل الحَفْنة لا يُكال فلا يكون ربويًّا فيُخَصَّص منع الربا في البر بما زاد على الحفنة مثلًا، بخلاف تعليل الشافعية (3) فلا تُخصِّصُ فيه __________ (1) (ص/ 487 وما بعدها). (2) البيت رقم (677). (3) الأصل: الشافعي.

(2/630)


العلة أصلَها لأن الطَّعم موجود في الحفنة فالعلة عامة في جميع أفراد الحكم. وقوله: "وقوة المسلك" بالجر عطفًا على "قوة" في قوله: "بقوة المثبت" إلخ. وقوله: "ما" مفعول "تُقَدِّم". 907 - وذاتَ الانعكاس واطِّرادِ ... فذاتَ الآخِرِ بلا عِنادِ يعني أنه يقدَّم القياس الذي علته مطَّردة منعكسة على الذي علته مطردة فقط أو منعكسة فقط، ويقدَّم الذي علته مطَّرِدة فقط على الذي علته منعكسة فقط، فتحَصَّل أن المراتب ثلاث؛ الأول: مطر العلة منعكسها. الثاني: مطردها. الثالث: منعكسها. وقد تقدم (1) أن الاطراد: الملازمة في الثبوت، وعدمُه يُسَمَّى بالنقض، وأن الانعكاس: الملازمة في الانتفاء، وعدمُه يسمَّى بعدم العكس. أما على القول بأن النقض قادح كما تقدم في قوله: "منها وجود الوصف. . " (2) إلخ، وأنَّ عدمَ العكس قادح كما تقدم في قوله: "وعدم العكس مع اتحاد. . " (3) إلخ فلا ترجيح لبطلان القياس ببطلان العلة بالقادح الذي هو النقض وعدم العكس. وقوله: "وذاتَ" بالنصب عطفًا على "ما"، و"الآخِر" بكسر الخاء وهو الاطراد، والعناد: الخلاف. 908 - وعلَّةَ النصِّ وما أصلانِ ... لها كما قد مرَّ يجريانِ __________ (1) (ص/ 515, 520, 523). (2) البيت رقم (762). (3) البيت رقم (771).

(2/631)


ذكر في هذا البيت مرجِّحَيْن من مرجِّحات القياس: الأول: العلة المنصوصة مرجَّحَة على المستنبطة. قلت: وهذا تكرار مع قولهِ بقوةِ المسلك إلا أن يُحْمَل المسلك على خصوص الاستنباط، وتقديم النصِّ على الاستنباط واضح، فالمرجَّح هو النص على العلة. الثاني: كثرة الأصول، فيقدَّم القياس الذي علته مأخوذة من أصلين على القياس الذي علته مأخوذة من أصل واحد وهكذا فيقدَّم الذي أُخِذَت علته من ثلاثة على الذي أُخِذَت علته من اثنين إلخ. ومعنى أخذ العلة من أصلين: دلالة دليلين على العلية وهو راجع إلى الترجيح بكثرة الأدلة، وقد تقدم في قوله: "وكثرة الدليل" (1) إلخ. ومثاله: قياس الوضوء على التيمُّم في وجوب النية مع قياسه الآخر على غسل النجاسة في عدم وجوب النية لأن العلة في قياسه على التيمم كونه عبادة، وهذه العلة تشهد لها أصول كثيرة، كاشتراط النية في الصلاة والصوم والحج وغيرها من العبادات، بجامع أن الكلَّ عبادة، بخلاف طهارة الخَبَث فلم تشهد لها أصول كهذه. وقول المؤلف: و"علّة" مبتدأ و"ما" موصول معطوف عليه، وصلته جملة "أصلان لها" والخبر جملة "يجريان" وثَنَّى الخبر عن المفرد نظرًا إلى المعطوف عليه، وقوله: "كما" متعلق بـ "يجريان" أي يجريان __________ (1) البيت رقم (884).

(2/632)


كما مر من المسائل (1) المرجحة على مقابلها، والجار والمجرور حال من ألف الاثنين في قوله: "يجريان". 909 - في كثرة الفروع خُلْفٌ قد ألَمْ ... . . . . . . . . . . . يعني أنهم اختلفوا في العلتين المتعديتين إذا كانت إحداهما أكثر فروعًا كما تقدم في قوله: "وذاك في الحكم الكثير أطلقه" (2) إلخ هل تُقَدَّم على الأخرى التي هي أقل فروعًا -وهو الراجح- أوْ لا تقدم عليها؟ وهذا الخلاف مبنيٌّ على الاختلاف في المتعدية هل تقدم على القاصرة أم لا؟ فمن قال: تقدم عليها -وهم الأكثر- قال: يرجَّح بكثرة الفروع، ومن لم يقدِّمها عليها لم يرجِّح بكثرة الفروع. . . . . . . . . . . . ... وما تُقلَّلَ تَطرَّقَ العَدَم يعني أن العلة التي يقلُّ فيها احتمال العدم مقدَّمة على التي يكثر فيها احتماله، والتي يقل فيها العدم هي التي تقل فيها الأوصاف، بأن تكون العلة وصفًا واحدًا فتقدَّم على العلة المركَّبة من وصفين، وتقدَّم المركبة من وصفين على المركبة من ثلاثة وهكذا؛ لأن الأوصاف كلما كانت أقلَّ كان تطرُّق احتمال العدم أقلَّ، والعكس بالعكس. وقيل: تقدَّم التي هي أكثر أوصافًا لأن اشتراك الفروع والأصل في أوصاف كثيرة دليل على قوة الشبه بينهما. __________ (1) الأصل: والمسائل. والمثبت من ط، و"النشر": (2/ 304). (2) البيت رقم (676).

(2/633)


910 - ذاتيةً قَدِّمْ وذاتَ تعديَه ... وما احتياطا عُلِمَتْ مقتضيَه ذكر في هذا البيت ثلاثة مرجِّحات من مرجحات القياس: الأول: كون العلة ذاتية، فالقياس الذي علته ذاتية مقدم على الذي علته حكمية، والذاتية هي ما كانت صفة للمحل، أي وصفًا قائمًا بالذات كالطَّعم والإسكار، والحكمية هي الوصف الذي ثبت تعلُّقه بالمحل شرعًا، كالحِل والحُرمة والنجاسة ونحو ذلك، وهذا مراده بقوله: "ذاتية قدِّم". الثاني: التعدية، أي تعدية العلة من الأصل إلى الفرع، فالمتعدية مقدَّمة على القاصرة على مذهب الجمهور، ورجح الإسفراييني القاصرة محتجًّا بأن الخطأ فيها أقل، وسوَّى بينهما الباقلاني (1). ومثال تعارضهما: تعليل المالكي تحريم الخمر بالشدة المطربة، مع تعليل الحنفي له بكونه خمرًا، مع أن الخمر عندهم هو المعصور من خصوص العنب، فالشدَّة المطربة تتعدى إلى غير المتخذ من العنب بخلاف الخمر عندهم (2). الثالث: الاحتياط، فتُقَدَّم العلة التي تقتضي الاحتياط على التي لم تقتضه، لأن الأحوط أرجح من غيره، كتعليل الشافعي نقض الوضوء بمطلق مسِّ النساء، فإنه أحوط من تعليل المالكية والحنابلة له بقصد الشهوة أو وجودها من المرأة. وكتعليل الشافعية تحريم الربا في البر بالطَّعم فإنه أحوط لتحريم الحفنة فيه دون التعليل بالكيل. قلت: مَثَلوا له بهذين المثالين، ويظهر لي أنهما راجعان لترجيح __________ (1) انظر "المستصفى": (2/ 404)، و"البحر المحيط": (6/ 182). (2) انظر "نشر البنود": (2/ 305).

(2/634)


العلة التي لم تُخَصِّص أصلَها على التي تخصصه، كما تقدم في قوله: "ولتقدما ما أصلها تتركه مُعَمَّما" (1). وقول المؤلف؛ "ذاتية" مفعول "قدِّم" الذي هو فعل أمر مقدم عليه، وقوله: "وذاتَ" بالنصب معطوفًا عليه، و"ما" منصوب أيضًا بالعطف عليه، و"احتياطًا" مفعول مقدم لـ "مقتضيه". 911 - وقَدِّمَنْ ما حكمُ أصلِها جَري ... مُعلَّلًا وَفقًا لدى من غَبَرا يعني أن العلة المتفق على أن حكم أصلها معلَّلٌ مقدَّمة على العلة التي اختلف في تعليل حكم أصلها لأنها أضعف للاختلاف فيها كما ذكره المؤلف سابقًا بقوله: "وعلة وجودها الوفاق. . " (2) إلخ. والمراد بالأصل هنا الحكم المعلَّل بها كما جزم به شهاب الدين عميرة (3)، وقال صاحب "الآيات البينات" (4) على سبيل الظن أن المراد بالأصل دليل الحكم، وهو أقرب لمعني البيت. وقوله: "معلَّلًا" بصيغة اسم المفعول، و"وفقًا" يعني اتفاقًا، و"من غَبَر" أي من مضى من الأصوليين، وقوله: "لدى" متعلق بقوله: "وَفْقًا". 912 - بعد الحقيقيِّ أتى العُرْفيُّ ... وبعدَ هذينِ أتى الشَّرْعيُّ تقدم في قول المؤلف: "وهو للّغة والحقيقة" (5) إلخ أن الوصف __________ (1) البيت رقم (906). (2) البيت رقم (642). (3) لعله في حاشيته على شرح المحلي، وانظر "النشر": (2/ 306). (4) (4/ 222 - 223). (5) البيت رقم (666).

(2/635)


المعلَّل به قد يكون حقيقيًّا وقد يكون عرفيًّا وقد يكون شرعيًّا، وتقدم بيانها هناك، وذكر في هذا البيت أن الحقيقيَّ مقدَّم على العرفي، والعرفي مقدَّم على الشرعي، ولم يتعرض لِلُّغَوِيّ هنا لأن الإلحاق به من قياس اللغة. 913 - وفي الحدودِ الأشهَرُ المقدَّمُ ... وما صريحًا أو أعَمَّ يُعْلَمُ هذا شروع من المؤلف في ترجيح الحدود، أعني الحدود الشرعية كحدود الأحكام الشرعية وليس المراد حدود الماهية العقلية؛ لأنها لا يتعلق بها هنا غرض، وقد ذكر في البيت ثلاثة من مرجحات: الحد الأول: الشهرة والوضوح، فيقدم الحدُّ الأوضح على الواضح، وهذا معنى قوله: "الأشهر المقدَّم". الثاني: الصراحة، فإن الحد الصريح يُقدَّم على غير الصريح، كالحد الذي فيه تجوُّز أو اشتراك عند وجود القرينة المعيِّنة للمقصود، لأنه إن لم توجد قرينة كذلك يمنع (1) الحد. ووجه تقديم الصريح على غير الصريح المقترن بالقرينة الواضحة: أن القرينة -وإن اتضحت- ربما تطرقها الخفاء والاشتباه بخلاف الصريح، وهذا معنى قوله: "وما صريحًا". الثالث: عموم النفع، فيقدَّم الحدُّ الأعم نفعًا على حدٍ أخصَّ منه لكونه يتناول ما يتناوله الأخصُّ ويزيد عليه، وهو مراده بقوله؛ "أو أعمَّ". 914 - وما يوافق لنقلٍ مطلقا ... . . . . . . . . . . . يعني أن الحد الموافق للنقل يُقدَّم على غير الموافق له سواء كان __________ (1) ط: يمتنع.

(2/636)


النقل شرعيًّا أو لغويًّا، فالحد الموافق للمعنى الشرعي يُقدَّم على مقابله، والحدُّ الموافق للمعنى اللغوي بحسب الوضع يقدَّم على ما خالف الوضع اللغوي. قال في "الآيات البينات" (1): "صورة هذه المسألة: أن يكون تعريف واحد يدور الأمر فيه بين حَمْله على المعنى الشرعي أو اللغوي وحمله على غيرهما، فيرجَّح حمله على الموافق للشرعي أو اللغوي على حمله على غيرهما. قال: وتُصَوَّر أيضًا بأن يكون هناك تعريفان محتملان، أحدهما باعتبار المعنى الموافق لأحدهما، والآخر باعتبار المعنى المخالف له". والموافق لنقل الشرع مقدَّم على الموافق لنقل اللغة، ومقدَّم أيضًا على الموافق للعرف، كما تقدم في قوله: "واللفظ محمول على الشرعيّ. . " (2) إلخ. فإن قيل: ما وجه الجمع بين هذا وبين تقديم الوصف العرفي والوصف الحقيقي، كما تقدم في قوله: "بعد الحقيقي أتى العرفي" (3)؟ فالجواب: أن تقديم الشرعي المذكور هنا إنما هو عند الاحتمال أو التردُّدِ، وما تقدم من تقديم الحقيقي، ثم العرفي، ثم الشرعي إنما هو عند تحقق الحال من كونه شرعيًّا أو غيره. . . . . . . . . . . . ... والحدُّ سائرَ الرسومِ سَبَقا يعني أن الحدَّ مقدَّم على الرسم؛ لأن التعريف في الحد بالذاتيات وفي الرسم بالعَرَضيات، والتعريف بالذاتي أقوى من التعريف بالعَرَضي، __________ (1) (4/ 240). (2) البيت رقم (214). (3) البيت رقم (912).

(2/637)


وسواء كان الحدُّ تامًّا أو ناقصًا فيقدَّم على الرسم تامًّا أو ناقصًا. 915 - وقد خَلَتْ مرجِّحاتٌ فاعتبرْ ... . . . . . . . . . . . يعني أنه تقدَّم ذكرُ مرجِّحات كثيرة متفرقة في هذا النظم فاعتبرها، فقد تركها المؤلف هنا حذرًا من التكرار والتطويل. مثال ما تقدم من ترجيح بعض مفاهيم المخالفة على بعض في قوله: "أقواه لا يرشد إلا العلماء" (1) إلخ، وتقديم الشرعي على العرفيّ إلخ في قوله: "واللفظ محمول على الشرعي" (2) البيت، وتقديم المجاز على الاشتراك في قوله: "وبعد تخصيص مجاز" (3) إلخ، ونحو ذلك. . . . . . . . . . . . ... واعلم بأنَّ كلَّها لا ينحَصِرْ 916 - قُطْبُ رحاها قوَّة المَظِنَّه ... فهي لدى تعارضٍ مَئِنَّه يعني أن المرجِّحات لا تنحصر فيما ذُكِرَ في هذا الباب ولا فيما ذُكِر في غيره من أبواب هذا النظم، وقُطب رحا المرجِّحات الذي تدور عليه غالبًا هو: قوة المَظِنَّة -بكسر الظاء- فما كان الظن أقوى فيه فهو أرجح. وقوله: "مَئِنَّه" أي علامة على الترجيح. ونظيره قول ابن مسعود رضي اللَّه عنه: "تقصير الخطبة وتطويل الصلاة مئنة فقه الرجل" (4). وأصل المَئنة مَفْعِلة __________ (1) البيت رقم (158). وفيه: أعلاه. . . (2) البيت رقم (214). (3) البيت رقم (208). (4) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 450)، والبيهقي: (3/ 208)، والطبراني في "الكبير" رقم (9493) موقوفًا عليه بأسانيد صحاح. وأولى منه ما أخرجه مسلم رقم (869) =

(2/638)


-بفتح الميم وكسر العين- من أن المشددة التي هي حرف توكيد، فالمئنَّةُ إذًا هي المكان الذي يقال فيه إنه كذا، وكون قوة الظن مَئنَّة الترجيح أمر أغلبيٌّ؛ لأن المرجِّح قد يكون قطعيًّا، وقد يكون الترجيحِ بمجرد الظن دون غلبة، كما إذا حصل الظنُّ بوجود مرجِّح لأحد المتعارِضيْن فيُعْتَمد عليه. * * * __________ = عن عمار بن ياسر -رضي اللَّه عنهما- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه. . . ".

(2/639)


كتابُ الاجتهَاد في الفُروع 917 - بذلُ الفقيه الوُسْعَ أن يُحصِّلا ... ظنًّا بأن ذاك حَتْمٌ مَثَلا يعني أن الاجتهاد في اصطلاح أهل الأصول هو: بَذْل الفقيه وُسْعَه أي طاقته في النظر في الأدلة لأجل أن يحصل عنده الظن أو القطع بأن حكم اللَّه في المسألة هو كذا. وقوله: "مَثَلًا" بالتحريك يعني ظنًّا أو قطعًا، و"الوُسْع" بضم الواو. 918 - وذاك مَعْ مجتهدٍ رديفُ ... . . . . . . . . . . . الإشارة في قوله: "ذاك" إلى الفقيه، يعني أن الفقيه والمجتهد مترادفان في عرف أهل الأصول. . . . . . . . . . . . ... وما لَه يحقِّقُ التكليفُ هذا ابتداء في شروط المجتهد المشار لها بقوله: "وما للاجتهاد من قيد (1) وضح" يعني أن المجتهد لابد أن يكون مكلَّفًا لأن غير المكلف كالصبي والمجنون لم يكمل عقله. وقوله: "ما" موصول مبتدأ خبره "التكليف"، والضمير في "له" للمجتهد، و"يحقِّق" بالبناء للفاعل. 919 - وهو شديد الفهم طبعًا ... . . . . . . . . . . . يعني أن المجتهد لابد أن يكون شديد الفهم لمقاصد الشارع __________ (1) ط: شرط، وهو الموافق لما مضي، انظر البيت رقم (17).

(2/640)


"طبعًا" أي سَجِيَّة؛ لأن من لم يكن كذلك لا يصلح للاستنباط المقصود بالاجتهاد. . . . . . . . . . . . واختُلِفْ ... في من بإنكارِ القياس قد عُرِفْ يعني أن من عُرِف بإنكار القياس كالظاهرية اخْتُلِف فيه، هل يُعَدّ من أهل الاجتهاد؛ لأن إنكاره للقياس لا يُخرجه عن كونه مجتهدًا وهو اختيار السبكي (1) والقاضي عياض (2). أوْ لا يُعَدُّ من أهل الاجتهاد؛ بناءً على أن إنكاره للقياس يدل على عدم أهليته للاجتهاد. وفي المسألة قول ثالث: وهو أنه إن أنكر القياس الجَليّ لم يُعَدّ من أهل الاجتهاد لظهور جموده، بخلاف غير الجليّ (3). 920 - قد عَرَفَ التكليفَ بالدليلِ ... ذي العقلِ قبلَ صارِفِ النقول مراده بالدليل ذي العقل: البراءةَ الأصليةَ التي هي الإباحة العقلية واستصحاب العدم الأصليّ، يعني أن من شروط المجتهد أن يكون عارفًا بأنه مكلَّف بالتمسُّك بالدليل العقلي المذكور إلى أن يصرف عنه صارف __________ (1) "الجمع": (2/ 382). (2) كذا في الأصل ولعله سبق قلم، وإنما نقله في "النشر": (2/ 310) عن القاضي عبد الوهاب، وكذا نقله عنه الزركشي في "البحر": (4/ 472) من كتابه "الملخص" ونقل عبارته. (3) تقدم للمؤلف اختيار القول الأول وهو الاعتداد بهم مطلقًا، ونَسَبَه للمحققين. انظر: (ص/ 401)، وانظر أقوال العلماء في الاعتداد بخلاف الظاهرية في "البحر المحيط": (4/ 471 - 474).

(2/641)


من النقل أي الشرع، فإن صرف عنه عَمِل بذلك الصارف سواء كان نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا وهو المراد بـ "النقول" جمع نقل. 921 - والنحوَ والميزانَ واللُّغَةَ معْ ... علِمِ الأصول وبلاغةً جمع يعني أنه يشترط في المجتهد أن يكون عارفًا بالنحو الشامل للتصريف، وعارفًا بالميزان الذي هو علم المنطق أي عالمًا بالمحتاج إليه منه، كشرائط الحدود والرسوم وشرائط البراهين، وعارفًا باللغة عربيةً كانت أو شرعيةً أو عُرفيةً، وعارفًا بعلم الأصول، وعلم البلاغة من معانٍ وبين. فإن قيل: كيف تُشترط معرفة علم الأصول مع أن جمهور المجتهدين كانوا متبحِّرين في الاجتهاد في وقتٍ لم يُدوَّن فيه علم الأصول أصلًا؟ فالجواب: أن قواعد علم الأصول كانت مركوزة في جِبِلّاتهم معلومة عندهم وإن لم تدون كعلم النحو والتصريف. كما عن التّصريف والإعراب ... تُغني الطباعُ ألسُن الأَعْراب 922 - وموضِعَ الأحكام دُون شرطِ ... حِفْظِ المتونِ عند أهلِ الضَّبْطِ يعني أنه يُشترط في المجتهد أن يكون عارفًا بمواضع الأحكام من المُصْحَف والأحاديث، ولا يُشترط حفظ المتون أي ألفاظ تلك الآيات والأحاديث عند أهل الضبط أي الإتقان وهم أهل الفن، وإن كان حفْظُها أحسن وأكمل، وما زَعَمه البعض من أن آيات الأحكام محصورة في خمسمائة غير صحيح (1). __________ (1) انظر "شرح التنقيح": (ص/ 437)، و"البحر المحيط": (6/ 199 - 200)، =

(2/642)


923 - ذو رتبةٍ وُسْطي في كلِّ ما غَبَرْ ... . . . . . . . . . . . يعني أنه يشترط في المجتهد أن يبلغ الرتبة الوسطى في كل ما غَبَر أي مضى ذكره من العلوم، فلا يكفيه مطلق المشاركة ولا يحتاج إلى التبحر فيها، وقيل: يشترط التبحر فيما يختلف بسببه المعنى ويكفي التوسط فيما سواه، ويجب في معرفة اللغة الزيادة على التوسط حتى لا يخفى عليه المستعمل في الكلام في غالب الأوقات، فلا تشترط معرفة الغريب الوحشي. . . . . . . . . . . . ... وعلمُ الإجماعاتِ مما يُعتَبَرُ يعني أن معرفة مواضع الإجماع شَرْط في إيقاع الاجتهاد كي لا يخرقه، وليست شرطًا في بلوغ المجتهد رتبة الاجتهاد، وكذا يُشترط في إيقاع الاجتهاد معرفة مواضع الخلاف خوفَ إحداث قولٍ ثالث أو تفصيلٍ كما تقدم في الإجماع (1). 924 - كشرطِ الآحادِ وما تواتَرا ... . . . . . . . . . . . يعني أنه يشترط في إيقاع الاجتهاد أيضًا كونه عارفًا بشروط الخبر المتواتر وخبر الآحاد المتقدمة في كتاب السنة، وإنما اشترط ذلك ليقدم المتواتر على خبر الآحاد عند التعارض، وإذا لم يكن عارفًا لذلك فقد يعكس الأمر. . . . . . . . . . . . ... وما صحيحًا أو ضعيفًا قد جَرى __________ = و"إرشاد الفحول": (2/ 1028). (1) (ص/ 399).

(2/643)


يعني أنه يشترط في إيقاع الاجتهاد أيضًا كونه عارفًا بالشروط التي يكون بها الحديث صحيحًا أو ضعيفًا، والحسن داخل في الصحيح هنا كما هي عادة الأقدمين، وإنما اشْتُرِط هنا ليقدِّم الصحيح على الضعيف، لأنه إن لم يعلم ذلك قد يعكس الأمْرَ، ولأن العمل بالضعيف قد لا يجوز. وقوله: "ما" موصول، وجملة "قد جرى" صلته، و"صحيحًا" حال من فاعل "جرى"، و"ضعيفًا" معطوف عليه. 925 - وما عليه أو بهِ النَّسخ وقَعْ ... . . . . . . . . . . . مراده بما وقع عليه النسخ: المنسوخ، وبما وقع به النسخ: الناسخ، يعني أنه يُشترط في إيقاع الاجتهاد أيضًا معرفة المنسوخ من الناسخ ليقدِّم الناسخ على المنسوخ، لأنه إن لم يعلم (1) ذلك قد يعكس الأمر، والمراد أن يعرف أن هذا بعينه ناسخ وهذا بعينه منسوخ لا معرفة حقيقة الناسخ والمنسوخ، لأن ذلك من علم الأصول المتقدم أنه شرط أيضًا. . . . . . . . . . . . ... وسَبَبُ النُّزُولِ شَرْطٌ مَتَّبعْ يعني أن معرفة أسباب النزول في الآيات والأحاديث شَرْط في إيقاع الاجتهاد أيضًا، لأن معرفة ذلك ترشد إلى فهم المراد. وقوله: "متَّبَع" بصيغة اسم المفعول. 926 - كحالة الرُّواة والأصحابِ ... . . . . . . . . . . . يعني أنه يُشترط في إيقاع الاجتهاد أيضًا معرفة أحوال رواة الحديث __________ (1) ط: يفعل.

(2/644)


ومعرفة أحوال الصحابة، فمعرفة أحوال الرواة أي من رَدٍّ وقبولٍ وزيادةٍ في الثقة أو العلم أو الورع، فيعمل برواية المقبول دون غيره، ويُقَدَّم الزائد على غيره، ويكون ردُّ حديثه لكذبٍ أو تهمةٍ به أو فُحْشِ غلطٍ إلخ. ومعرفة أحوال الصحابة أي من فتاوى وأحكام، وزيادة في الفقه والورع، ومن الأكبر والأصغر، فتقدَّم الفتوي لعمومها لأن الحكم قد يُخصُّ، ويقدم الزائد على غيره، وكذا موافق الأعلم (1) منهم يُقَدَّم على موافق غيره ونحو ذلك. . . . . . . . . . . . ... وقلِّدَنْ في ذا على الصواب يعني أن من معرفة الإجماعات إلى معرفة أحوال الصحابة يُكتفى فيه بالتقليد للأئمة في ذلك، فإن لم يوجدوا فالكتب المصنفة في ذلك. ومقابل قوله: "على الصواب" قول الأبياري: لا يكفي التقليد في ذلك لأنه إذا قلَّدَ في شيءٍ مما ذكر كان مقلِّدًا فيما يُبْنى عليه (2). 927 - وليس الاجتهاد ممن قد جَهِل ... عِلْمَ القروعِ والكلامِ يَنْحَظِل يعني أنه يجوز أن يكون المجتهد غير عالم بالفروع، وغير عالم بعلم الكلام، أي لا يشترط في المجتهد معرفة ذلك، لأن الفروع يستنبطها المجتهدون بعد أن فازوا بمنصب الاجتهاد. واشترط الإسفرايينيُّ في المجتهد معرفة الفروع، وصحَّح بعضهم كونها شرطًا في إيقاع الاجتهاد لا شرطا في المجتهد. وقوله: "ينحظل" بمعنى يمتنع خبر "ليس"، وعلم __________ (1) ط: قول الأعلم. (2) انظر "النشر": (2/ 314).

(2/645)


الكلام هو البحث عن العقائد بالأدلة العقلية. 928 - كالعبدِ والأنثى كذا لا يَجِبُ ... عدالةٌ على الذي ينتخَبُ ذَكَر في هذا البيت ثلاث مسائل لا تشترط في المجتهد: الأولى: الحرية، فيجوز أن يكون المجتهد عبدًا، وهو مراده بقوله: "كالعبد". الثانية (1): الذكورة، فيجوز بلوغ الأنثى مرتبة الاجتهاد كما وقع في عائشة رضي اللَّه عنها، وهو مراده بقوله: "والأنثى". الثالثة: العدالة، فيجوز أن يكون المجتهد غير عدل لإمكان بلوغ الفاسق مرتبة الاجتهاد فيعمل هو باجتهاد نفسه ولا يجوز لغيره العمل بفتواه، كما يأتي للمؤلف في قوله: "وليس في فتواه مفت" (2) إلخ. والتشبيه في قوله: "كالعبد" على قوله: "ليس الاجتهاد. . . ينحظِل" في البيت قبله، أي لا ينحظل الاجتهاد من الجاهل بعلم الفروع والكلام كما لا ينحظل من العبد والأنثى، و"ينتخب" أي يختار. 929 - هذا هو المطلقُ والمقيَّدُ ... مُنْسَفِلَ الرُّتبةِ عنه يُوجَد يعني أن هذا المجتهد الذي تقدم ذكر شروطه هو المجتهد المطلق، وهو الناظر في أدلة الشرع من غير التزام مذهبِ أحدٍ كالأئمة الأربعة وأمثالهم. وقوله: "والمقيد. . . " إلخ، يعني أن المجتهد المُقَيَّد مُنْسَفِل __________ (1) الأصل: الثاني، وكذا ما بعدها: الثالث. (2) البيت رقم (959).

(2/646)


الرتبة عن المطلق لأن المطلق إمامُه وقدوتُه. والمجتهد المُقَيَّد قسمان: مجتهد المذهب، ومجتهد الفتيا، وهو المعروف بمجتهد الترجيح، وعرَّف المؤلف المجتهد المقيد من حيث هو بقوله: 930 - ملتزمٌ أصولَ ذاك المطلقِ ... فليسَ يعدوها على المُحَقَّقِ يعني أن المجتهد المقيد هو الملتزم لأصول مذهب معيَّن، فنَظَرُه في نصوصِ إمامِه كنظر المطلق في نصوص الشرع، فالمقيَّد لا يتعدَّى نصوصَ إمامِه إلى غيرها على المشهور، وعاب بعضُ المالكية على اللخْمِيِّ (1) تخريجه على أصول غير إمامه مالك حتى قال فيه ابن غازي: لقد مزَّقت قلبي سهامُ جفونها ... كما مزَّقَ اللَخْمِيُّ مذهب مالك وبدأ المؤلف بتعريف مجتهد المذهب لأنه أعلى رتبة من مجتهد الفتيا بقوله: 931 - مجتهدُ المذهبِ مَنْ أصولُهُ ... منصوصةً أوْ لا حوى معقولُهُ 932 - وشرطُه التخريجُ للأحكامِ ... على نصوصِ ذلك الإمامِ يعني أن مجتهد المذهب هو من حوى عقله -أي حفظه وضبطه- أصولَ إمامه منصوصةً كانت أو مستنبطة، وشرطه المحقق له أن يكون له قُدرة على تخريج الأحكام على نصوص إمامه الملتزم لمذهبه، بأن يقيس __________ (1) اللخمي هو: أبو الحسن على بن محمد الربعي المالكي (ت: 478 هـ)، له تعليق على "المدونة" يسمى "التبصرة"، ذكر القاضي عياض ما أُخِذ عليه، إلا أنه صار أحد الأئمة المعتمدة ترجيحاتهم في "مختصر خليل". انظر "المدارك": (8/ 109)، و"الفكر السامي": (2/ 250 - 251).

(2/647)


ما سَكَت عنه على ما نصَّ عليه، والأحكام التي تُخَرَّج هي المعروفة في الاصطلاح بالوجوه، فقولهم: فلان من أصحاب الوجوه، يعنون أنه مجتهد مذهب، وقوله: "معقوله" أي عقله، ومفعول "حوى" محذوف أي حواها، و"أصوله" مبتدأ خبره جملة "حوى" والجملة صلة "من". 933 - مجتهدُ الفُتْيا الذي يُرَجِّح ... قولًا على قولٍ وذاك أرجحُ هذا تعريف من المؤلِّف لمجتهد الفُتيا بضم الفاء، يعني أن مجتهد الفتيا هو المتبحر في مذهب إمامه المتمكِّن من ترجيح قولٍ على آخر أطلقهما إمامه، أي لم ينص على ترجيح أحدهما، وقوله: "وذاك أرجح" يعني أن مجتهد المذهب أعلى رتبة من مجتهد الفُتيا. 934 - لجاهلِ الأصولِ أن يُفتي بما ... نَقَلَ مستوفًى فقط وأمِّما تكلم في هذا البيت على مرتبة رابعة أجنبية من الاجتهاد، فذكر أن الجاهل بالأصول يجوز له أن يفتي بما نُقِل عن العلماء المجتهدين من أهل المذهب إذا كان نقله مستوفى؛ بأن حَفِظ ما فيه من الروايات والأقوال، وعَلِم عامَّها وخاصَّها ومطلقَها ومقيَّدَها ونحو ذلك. وقوله: "فقط" يعني أنه يقتصر على النقل وما في حكمه، كالمندرج تحت قاعدة من قواعد ذلك المذهب أو الذي لا فرق بينه وبين المنصوص في المذهب، وقوله: "وأمِّما" فعل أمر أي اقتدِ به فيما نقله مستوفًى، وقوله: "أن يفتي" المصدر المنسبك من أنْ وصلتها في محل مبتدأ، ونصبَ الفعل بفتحة مقدَّرة على حدِّ قوله:

(2/648)


ما أقْدَرَ اللَّهَ أن يُدني على شَحَطٍ ... من داره الحَزْنُ مِمَّن داره صُول (1) وقوله: "مستوفًى" بصيغة اسم المفعول. 935 - يجوزُ الاجتهادُ في فنٍّ فقطْ ... أو في قضيةٍ وبَعضٌ قد رَبَطْ يعني أن الصحيحَ الذي عليه الأكثر جوازُ تجزُّؤ الاجتهاد بأنواعه الثلاثة في فنٍّ دون غيره من الفنون كالبيع دون النكاح أو عكسه، وكذا في مسألةٍ بأن يبلغ رتبةَ الاجتهاد في قضية معينة دون غيرها، وقد يتجزَّأ الاجتهادُ لصاحب المرتبة الرابعة المذكور في قوله: "لجاهل الأصول" إلخ، فلا مانع من بلوغ مرتبة الاجتهاد في بعض الأبواب أو بعض المسائل، وقيل: لا يجوز ذلك لأن العلوم والمسائل بعضها مرتبط ببعض، فيحتمل أن يكون فيما لم يبلغ رتبة الاجتهاد فيه معارض لما بلغها فيه، وهذا مراده بقوله: "وبعضٌ قد ربط". 936 - والخُلْفَ في جواز الاجتهاد أوْ ... وقوعِهِ من النبيِّ قد رَوَوْا يعني أن متأخِّري (2) الأصوليين نقلوا عن مقدَّميهم الخلافَ في جواز اجتهاد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما لا نصَّ فيه، وفي وقوعه، على القول بجوازه؛ فأكثر الأصوليين على جوازه. ومنَعَه بعضُ الشافعية والجُبَّائيُّ، وعللوا المنعَ بقدرته على اليقين بالتلقِّي من الوحي، بأنْ ينتظره، والقادر على اليقين لا يجوز له الاجتهاد، ورُدَّ تعليلُهم هذا بأن إنزال الوحي ليس في __________ (1) البيت في "الحماسة": (2/ 420) لأبي تمام، ونسبه لحندج بن حندج المري. (2) الأصل: متأخر.

(2/649)


قدرته، وبأنَّ الصواب أن اجتهادَه لا يُخطئ فهو كاليقين. وأجاز بعضُهم اجتهاده في الآراء والحروب دون غيرها جمعًا بين الأدلة. وعلى القول بجواز اجتهاده -صلى اللَّه عليه وسلم- ففي وقوعه مذاهب: الأول: وقوعه، وهو مُختار (1) الآمدي (2) وابن الحاجب (3) والسبكي (4)، واستدلُّوا بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران/ 159]، وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة/ 43]. وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال/ 67]، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إلا الإذْخِر" (5) لمَّا قالها العباس. وقوله لمَّا جاءَه شِعْرُ قُتَيْلة بنت الحارث في مقتل النضر: "لو بلغني شعرُها قبل أن أقتله لعفوتُ عنه" (6). __________ (1) ط: اختيار. (2) "الأحكام": (4/ 398). (3) "المختصر- مع شرحه": (3/ 293). (4) "الجمع": (2/ 386). (5) أخرجه البخاري رقم (1833)، ومسلم رقم (1353) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (6) أخرجه الزبير بن بكار -كما في "الإصابة": (8/ 80 - ط البجاوي) - وابن عبد البر في "الاستيعاب": (4/ 390 - بهامش الإصابة - ط دار الفكر) والأبيات نحو عشرة منها: يا راكبًا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ به ميتًا فإن تحية ... ما إن تزال بها النجائب تخفق هل يسمعنَّ النضر إن ناديته ... بل كيف يسمع ميِّت لا ينطق =

(2/650)


وقال قوم: لم يقع منه اجتهاد، مستدلين بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم]، وقال بعضهم بالوقف وصححه الغزالي (1)، كما أنهم قالوا بالوقف (2) في أصل الجواز وعزاه المؤلف في "الشرح" (3) لأكثر المحققين. وقوله: "والخُلْف" مفعول مقدم، وواو الفاعل في "رووا" عائد لأهل الأصول. 937 - وواجبُ العصمةِ يمنع الجَنَفْ ... وصَحَّحَ الوقوعَ عصرَة السلف يعني أن كون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تجب له العصمة يمنع اجتهاده من "الجَنَف" يعني الميل، فعلى القول بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجتهد فاجتهاده لا يخطئ لمكان عصمته، ونقل الآمديُّ (4) جوازَ خطأ اجتهاده عن قومٍ إلا أنهم قالوا: لا يُقَرُّ على ذلك بل ينبَّه سريعًا، والتحقيق قوله الجمهور. وقوله: "وصحَّح الوقوعَ. . " إلخ، يعني أن السلف من الأصوليين قالوا: إن الصحيح جواز اجتهاد غير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووقوع الاجتهاد منه في __________ = أمحمد ولدتك خير نجيبةٍ ... في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننْتَ وربما ... منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق فالنضر أقرب إن تركت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق وقال الزبير: سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات ويقول: إنها مصنوعة. (1) في "المستصفى": (2/ 356). (2) كذا العبارة في الأصل، وكذا في الأصل الذي اعتمد عليه ط، ثم أصلحها إلى: كما أنهم قال بعضهم بالوقف. (3) (2/ 319). (4) "الأحكام": (4/ 440) واختاره هو، واستدل له بالمنقول والمعقول.

(2/651)


عصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: لا يجوز الاجتهاد لأحد في عصر النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنه عصر الوحي، وقيل: لا يجوز للحاضر في قُطْر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخلاف غيره. ودليلُ وقوع الاجتهاد من غيره -صلى اللَّه عليه وسلم- في عصره -صلى اللَّه عليه وسلم-: حكمُ سعد بن معاذ في بني قريظة بأن تُقْتَل مقاتِلَتُهم وتُسْبَي ذَرارِيْهِم، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد حكمتَ فيهم بما حَكَم تعالى به" (1). وقول أبي بكر يوم حُنين: "لاها اللَّه إذا. . . " الحديث، مع قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صدق" (2). وأمثال هذا كثيرة جدًّا يفيد مجموعها التواتر المعنوي. وقوله: "عصره" منصوب على الظرفية. 938 - ووحِّد المُصيب في العقلِيِّ ... ومالِكٌ رآه في الفَرْعِيّ يعني أن المصيب من المختلفين في العقليات واحد، والمراد عنده بالعقليات: ما لا يتوقف على السمع كوجود اللَّه وصفاته التي يتوقف عليها وجود الخلق (3)، وكحدوث العالم، وذلك الواحد المصيب هو من __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3043)، ومسلم رقم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (4321)، ومسلم رقم (1751) من حديث أبي قتادة -رضي اللَّه عنه-. (3) هذه طريقة متأخري المتكلمين كالرازي ومن تبعه في إثبات الصفات العقلية أو المعنوية، وهي: العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة. فهم يثبتونها بالعقل فقط. وهي طريقة باطلة مخالفة لطريقة السلف والأئمة الذين يثبتونها بالعقل كما ثبتت بالسمع. انظر "شرح الأصبهانية": (ص/ 18 - 24 - ت السعوي)، و"مجموع الفتاوى": (12/ 32) كلاهما لابن تيمية، و"موقف ابن تيمية من الأشاعرة": (3/ 1049 - 1053) للمحمود، و"منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة": (2/ 502 - وما بعدها) لخالد نور.

(2/652)


صادف الحق، ومعنى كونه واحدًا: أنهم لا يصيبون جميعًا بل إما أن يخطئوا كلهم أو يصيب منهم واحد فقط، فمن أداه اجتهاده مثلًا إلى أن العالم قديمٌ لا أول لوجوده كالفلاسفة فهو غيرُ مصيب. وقوله: "ومالك" إلخ يعني أن الإمام مالكًا رحمه اللَّه ذهب إلى أن المصيب من المجتهدين المختلفين في الفرعيات واحد أيضًا، والمراد بالفرعيات: مسائل الفقه التي لا قاطع فيها، وكون المصيب فيها واحدًا هو الأصح من مذهب مالك هو مذهب الجمهور محتجِّين بأنه تعالى شرَعَ الشرائع لجلب المصالح ودرء المفاسد، ووجود المصلحة أو درء المفسدة في النقيضين محال؛ فيتعيَّن اتحاد الحكم فيكون المصيب واحدًا. وقوله: "ووحِّدِ" فعل أمر مفعولُه المصيب. 939 - فالحُكْم في مَذْهَبِه معيَّنُ ... له على الصحيح ما يبيِّنُ يعني أن حكم اللَّه تعالى في الواقعة في مذهب مالك مُعَينٌ قبل حصول الاجتهاد فيها لكنه غيرُ معلوم لنا، فمن أصاب ذلك الحكم المعيَّن فهو المصيب ومن أخطأه فهو المخطئ. ولابد -على الصحيح- أن يكون لذلك الحكم المعيَّن ما يبينه -أي يُظهره- للمجتهد من دليل ظنِّيٍّ أو قطعيٍّ، فإن أخطأ (1) المجتهد لم يأثم، ولم يقل بأنه يأثم إلا بشر المَرِيسي من المعتزلة. ومفهوم قوله: "على الصحيح" أن بعضهم قال: لا دليل على ذلك __________ (1) ط: أخطأه.

(2/653)


الحكم المعيَّن قطعيًّا ولا ظنيًّا، أي ليس بينه وبين شيء ارتباط حتى يدل عليه بل هو كدَفِيْنٍ يُعْثَر عليه، والنصوص أسباب عادية للمصادفة كالمشي إلى محل الدفين، ولا يخفى سقوط هذا القول. والضمير في "مذهبه" عائد إلى "مالك"، و"معيَّن" بصيغة اسم المفعول، و"يبيِّن" بالبناء للفاعل. 940 - مخطِئه وإن عليه انحَتَما ... إصابةٌ له الثواب ارْتَسَما يعني أن المجتهد إذا أخطأ ذلك الحكم المعيَّن يثبت له الثواب الذي هو الأجر لبذله الوُسْع في طلبه، وقد نصَّ على هذا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: "إذا اجتهد الحاكمُ فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد" (1). وقوله: "وإن عليه انحتما إصابة" يعني أن الأجرَ ثابتٌ للمجتهد المخطئ ولو على القول القائل بأنه تجب عليه إصابة الحكم المعيَّن لإمكانها بالدليل المشار إليه بقوله: "له على الصحيح ما يبيِّن"، وأحرى في ثبوت الأجر له إذا مشينا على القول بأن المجتهد لا تجب عليه إصابة الحكم لغموضه. فإن قيل: لِمَ كان المجتهد المخطئ في الفروع لا يأثم والمجتهد المخطئ في العقليات يأثم (2)؟ __________ (1) أخرجه البخاري رقم (7352)، ومسلم رقم (1716) من حديث عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه-. (2) إن قصد بالأمور العقلية مسائل الأصول -المقابلة للفروع- فالصحيح أنه لا فرق بينها إذا استفرغ المجتهد وسعه في إصابة الحق. انظر "مجموع الفتاوى": (21/ 33 - 36, 12/ 492 - 493).

(2/654)


فالجواب: ما ذكره القرافي من أن المخطئ في الفروع لم يُضِفْ إلى اللَّه شيئًا مستحيلًا في حقه بخلاف المخطئ في العقليات. وقول المؤلف: "مخطئه" مبتدأ والضمير عائد إلى "الحكم" وخبر المبتدأ جملة: "له الثواب ارتسما"، و"إصابة" فاعل "انحتم" وضمير "عليه" للمجتهد، و"ارتسم" بالبناء للفاعل بمعنى ثَبَت. 941 - ومن رأى كلًّا مُصيبًا يعتقدْ ... لأنَه يَتْبعُ ظنَّ المجتهدْ 942 - أو ثَمَّ ما لو عُيَّن الحُكْمُ حَكَمْ ... به لدَرْءٍ أوْ لجلبٍ قد أَلمْ 943 - لذا يُصَوِّبون في ابتداءِ ... والاجتهادِ دونَ الانتهاءَ 944 - والحكم. . . . . ... . . . . . . . . . . . لما ذكر في الأبيات المتقدمة قول المخطِّئة -بتشديد الطاء بصيغة اسم الفاعل- وهم الذين يقولون: المصيب واحد، ذكر في هذه الأبيات قول المصوِّبة -بصيغة اسم الفاعل أيضًا- وهم الذين يقولون: كل مجتهد مصيب. ومعنى الأبيات: أن الأشعري والباقلاني من المصوبة قالوا: إن كل مجتهد في المسألة التي لا قاطع فيها مصيب ولم يزيدوا على ذلك، وهذا مراده بالبيت الأول. وقال من المصوبة أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وابن سُرَيج من الشافعية زيادة على ما قاله الأولان: إن في المسألة شيئًا لو حكم اللَّه فيها على التعيين لحكم به، لأن فيه من جَلْب المصلحة أو درء المفسدة ما ليس في غيره، لكنَّ اللَّه لمَّا لم يحكم فيها بمعين كان حكمه فيها ما يظنه المجتهد، وإيضاح قولهم: أنه ما من مسألة إلا ولها مناسبة خاصة ببعض

(2/655)


الأحكام بعينه، بحيث لو حكم اللَّه فيها على التعيين لكان حكمه بذلك البعض بعينه لكونه راجحًا في درء المفسدة أو جلب المصلحة، وهذا القول حكمٌ بالفرض والتقدير لا بالتحقيق. ونظيره ما جاء أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لعمر: "لو كان بعدي نبيٌّ لكنتَ" (1). فحاصل هذه المسألة أن الأشعري والباقلاني قالا بمجرَّد تبعية الحكم لظن المجتهد من غير أن يكون هناك ما لو حكم اللَّه لكان به، وصاحبا أبي حنيفة وابن سريج زادوا على التبعية لظن المجتهد أن هناك ما لو حكم اللَّه لكان به، وهذا مراده بقوله: "أو ثمَّ ما لو عين الحكم حكم". والقائلون بهذه الزيادة يقولون: إنْ لم يصادف ذلك الشيء الذي لو حكم اللَّه بالتعيين لحكم به أصاب ابتداءً لا انتهاءً، وبعبارة أخرى: أصاب اجتهادًا لا حكمًا، فهو مخطئ حكمًا وانتهاءً، وإنما أصاب عندهم اجتهادًا لأن اللّازم في الاجتهاد بذل الوُسع لأنه غاية المقدور، وقد فعله، وإنما خطؤه في الحكم لأنه لم يصادف الشيءَ الذي لو حكم اللَّه لكان. ومعنى قولهم: أصاب ابتداءً، أنه بذل وُسْعه على الوجه المعتبر عنده. وقالوا: أخطأ انتهاءً، لأن اجتهاده لم يؤدِّه إلى ما لو حكم اللَّه لكان به. واعلم أن الخطأ في الحكم عند هؤلاء الثلاثة غيرُ الخطأ فيه عند الجمهور، لأن الخطأ عند الثلاثة عدم مصادفة ما لو حكم اللَّه لكان به وإن __________ (1) أخرجه أحمد: (28/ 624 رقم 17405)، والترمذي رقم (3686)، والحاكم: (3/ 85)، والطبراني: (17/ 298) وغيرهم من حديث عقبة بن عامر -رضي اللَّه عنه-. قال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(2/656)


لم يحكم به، فجُعِل مخطئًا لعدم مصادفة ماله المناسبة الخاصة وإن لم يحكم به. ومعنى الخطأ عند الجمهور: عدم مصادفة ما لو حَكَم اللَّه به بعينه في نفس الأمر. فالحاصل أن عند الجمهور حكمًا معينًا قبل الاجتهاد، وعند الثلاثة ما لو حكم اللَّه لكان به ولا حكم معينًا قبل الاجتهاد. وواو الفاعل في قوله: "يصوِّبون" عائدة إلى الثلاثة المذكورين، والتصويب في الابتداء، والاجتهاد والتخطئة في الانتهاء والحكم عبارتان معناهما واحد كما تبيَّن. . . . . . . . وهو واحدٌ متى عُقِلْ ... في الفرعِ قاطعٌ ولكنْ قد جُهِلْ يعني أن المصيب واحد في المسألة الفرعية التي لها دليل قاطع من نصٍّ أو إجماع واخْتَلَفَ فيها المجتهدون لعدم علمهم بذلك القاطع، والمصيب في ذلك هو من وافق ذلك القاطع، وقيل: تُبْني (1) المسألة على الخلاف المتقدم، هل كل مجتهد مصيب أو (2) المصيب واحدٌ لا بعينه؟ والدليل لا يكون قاطعًا إلَّا إذا كان قطعي المتن والدِّلالة بأن يكون صريحًا متواترًا. وقوله: "عُقِل" و"جُهِل" بالبناء للمفعول، ومعنى جُهِل: أن المجتهدين المختلفين جهلوا ذلك الدليل القاطع في المسألة، وضمير "وهو" عائد إلى "المصيب". 945 - وهو آثمٌ متى ما قَصَّرا ... في نظرٍ وَفْقًا لدى منْ قد دَرَى __________ (1) ط: تبقى. (2) الأصل: و، والتصحيح من ط.

(2/657)


يعني أن المجتهد متى قصَّر في نظره في مسألة أَثِمَ "وفقًا" أي اتفاقًا بتركه الواجب من بذل الوُسْع، وعبَّر المؤلف بقوله: "في نظر" بدل تعبير غيره بقوله: "في اجتهاد" لأن النظر المقصِّر فيه ليْسَ اجتهادًا؛ لأن الاجتهاد استفراغ الوُسع، ولا استفراغ مع التقصير، ومراده بمن دَرَى علماء الأصول. 946 - والحكمُ من مجتهدٍ كيفَ وَقَعْ ... دون شذوذٍ نقضُه قَدِ امتنَعْ يعني أن حكمَ المجتهد لا يُنْقَض لأنه يرفع الخلاف، سواء كان مجتهدًا مطلقًا أو مجتهدَ مذهب أو فُتيا، وذلك هو مراده بقوله: "كيف وقع" أي كيف كان المجتهد من الأقسام الثلاثة. ولو ظهر أن غيره أصوب فلا ينقض حَسْمًا لمادة التَّسَلْسُلِ في النقض، وذكر خليل في "المختصر" (1) أن القاضي ينقض حكم نفسه إن ظهر أن غيره أصوب. ومحلُّ عدم نقضه في المستثنيات الآتية في قوله: "إلَّا إذا النصَّ. . " إلخ، فإن لم يظهر أن غيره أصوب لم ينقض إجماعًا، ومفهوم قوله: "مجتهد" سيأتي في قوله: "أو بغير المعتلي"، ومفهوم قوله: "دون شذوذ" أنه إذا حكم بشاذٍّ جدًّا وصار إليه من غير ترجيح يجوز نقض حكمه. 947 - إلَّا إذا النصَّ أو الإجماعَ أوْ ... قاعدةً خالفَ فيما قد رأَوْا يعني أن محلَّ ما ذكر في البيت قبل هذا من منع نقض حكم المجتهد محلُّه ما لم يخالف نصًّا أو إجماعًا أو قاعدة، فإن خالف واحدًا منها نُقض __________ (1) (ص/ 236).

(2/658)


فينقضه هو وغيرُه. مثال مخالفة الكتاب: ما لو حَكَم بأن بعض الورثة المذكورين في القرآن لا يرث. ومثال مخالفة السنة: ما لو حَكَم بفساد السَّلَم في الحيوانات (1). ومثال مخالفة الإجماع: ما لو حكم بأن الأخ يحجب الجدَّ في الميراث (2). ومثال مخالفة القاعدة: (3) ما لو حَكَم بتقرير النكاح في المسألة المعروفة بالسُّرَيْجيَّة -منسوبة إلى ابن سُريج من الشافعيَّة القائل بها- وهي: أن من قال لزوجته: إن طلقتكِ فأنتِ طالق قبلَه ثلاثًا ثم طلقها، لا يلزم؛ لأن الثلاث المعلقة على الطلاق يقدر مجيئها، فتكون الطلقة المعلَّق عليها رابعة فتَرْتَفِع الثلاث قبلها لعدم وجود ما عُلِّقت عليه. ووجه مخالفة هذا للقواعد أنه يؤدي إلى وجود المشروط في وقت ينعدم فيه الشرط، والقاعدة: أن المشروط لا يوجد إلَّا عند وجود الشرط فيوجدان في وقت واحد ضرورة. وقول المؤلف: "النصَّ" مفعول "خالفَ" مقدَّم عليه وما بعده معطوف عليه، وتقريره: إلَّا إذا خالف النصَّ أو الإجماع أو القواعد، __________ (1) ثبت في "صحيح مسلم" رقم (1600) عن أبي رافع أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- استسلف من رجل بكرًا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبا رافع فقال: لم أجد بها إلا خيارًا رباعيًا فقال: "أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء". (2) تقدم في الإجماع (ص/ 399) أن السلف اختلفوا في توريث الجد مع الإخوة، فمنهم من قال الجد يحجب الإخوة، ومنهم من قال يشتركون. فلا يجوز إحداث قول ثالث كحجب الإخوة للجد. (3) ط: القواعد.

(2/659)


وضمير "رأوا" لأهل الأصول. 948 - أو اجتهادَه أو القَيْسَ الجلي ... على الأصح. . . . . يعني أن حكم المجتهد يُنْقَض أيضًا إذا ظهر أنه خرج فيه عن رأيه وما يؤدِّي إليه اجتهاده بأنه قلَّدَ غيره وترك اجتهادَ نفسِه، سواء كان تقليده للغير بالتزامٍ أو بدونه، فقوله: "أو اجتهاده" معطوف على ما قبله أي أو خالف اجتهاده فإن حكمه يُنْقَض، ولكن في هذه المسألة ينقضه هو فقط لا غيره. وقوله: "أو القيس الجليّ" يعني أن حكمَ المجتهد يُنْقَض مطلقًا إذا خالف القياس الجليّ، وهو الذي لا شك في صحته، ومثاله: ما لو حكم بشهادة الكافر، فإن اللَّه تعالى قال في الفاسق: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور/ 4]، فيقضي القياسُ الجليُّ ردَّ شهادة الكافر قياسًا أحْرَويًّا على الفاسق. وقوله: "على الأصح" راجع لجميع المسائل التي ذكر أنه ينقض فيها حكم المجتهد في قوله: "إلَّا إذا النصَّ" إلخ، ومقابل الأصح قول ابن عبد الحكم: أنه لا يُنقض ولو خالف نَصًّا أو إجماعًا (1) إلخ. . . . . . . . . . . . ... . . . . أو بغير المُعْتلي 949 - حَكَمَ في مذهبه وإن وَصَلْ ... لرتبةِ الترجيحِ فالنقضُ انحظَلْ يعني أن حكمَ المقلِّدِ باسم الفاعل "بغير المعتلي" أي المشهور من مذهبه يُنقض لأنه لا يعدل عن المشهور إلَّا لغرض فاسد، ومحلُّ هذا فيما __________ (1) انظر "النشر": (2/ 326).

(2/660)


إذا لم يبلغ رتبة مجتهد الترجيح، فإن بَلَغها فلا يُنقض حكمُه بغير المشهور لأنه هو يرجِّحه باجتهاده. وقال الطرطوشي: لا يلزم المقلِّدُ لمذهب تقليد ذلك المذهب في الحكم والفتوى، وهو قريب من قول اللَّخميّ بالتخريج على غير أصول إمامه كما تقدم (1). 950 - وقدِّم الضعيفَ إن جرى عَمَلْ ... به لأجلِ سَبَب قد اتَّصَلْ يعني أن الضعيف إذا جرى به العمل يُقَدَّم على المشهور ولكنَّ لذلك شروط، منها: أن يكون السبب الذي عُدِل عن المشهور من أجله متصلًا بنا أي موجودًا، وبشرط (2) أن يكون العمل موافقًا لقولٍ، وأن يثبت العمل بالبينة، وأن يكون مُجْريه الأولُ أهلًا للترجيح، ذَكَر هذه الشروط صاحبُ "نور البصر" (3). فالمتأخرون من أهل المذهب لهم تصحيحات وترجيحات لبعض الروايات والأقوال عدلوا فيها عن المشهور لجلب المصلحة أو دَرْءِ المفسدة وجرى بها عمل الحكَّام والمفتين، ومن ذلك أن علماءَ فاس لما رأوا كثرة كذب النساء في دعوى انقضاء العدة صاروا لا يقبلون من المرأة دعوى انقضائها في أقلِّ من ثلاثة أشهر، مع أن القول بعدم تصديقها __________ (1) (ص/ 647). (2) ط: ويشترط. (3) لعله يقصد كتاب "نور البصر شرح المختصر" المعروف باسم "إتحاف المقتنع بالقليل في شرح مختصر خليل" لأبي العباس سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي (ت: 1175) وهو مطبوع بفاس عام 1292.

(2/661)


ضعيفٌ جدًّا (1). 951 - وهل يقيسُ ذو الأصول إن عُدِمْ ... نصُّ إمامِه الذي له لزِمْ 952 - مع التزامِ ما لَهُ أو مطلقا ... وبعضهم بنصِّه تعلَّقا يعني أن المقلِّد العارف بعلم الأصول إذا عدم نصَّ إمامه في مسألة، اختَلَف فيه المالكية على ثلاثة أقوال: الأول: أنه يجوز له القياس مع التزام ما لإمامه من الأصول فلا يقيس المالكي على أصول الشافعي مثلًا إذا خالفت أصول مالك، وهذا قول ابن رشد والمازري والتونُسي (2) وأكثر المالكية. الثاني: يجوز القياسُ مطلقًا ولو على غير أصول مذهبه مع وجود أصول مذهبه، وهذا قول اللّخميّ وفعله كما تقدم (3). الثالث: أنه يلزمه التعلق بنصوص إمامه فلا يفتي ولا يحكم إلَّا بشيءٍ سمعه منه، وهو نصُّ ابن العربيّ، وظاهرُ كلام الباجيّ، فإن لم يجد نصًّا ولا أصلًا في مذهبه وجبَ عليه اتباع نصِّ غيرِ إمامه، ثم أصل غير إمامه، إذ لا يجوز له الخروج على الأدلة. فتحصَّل أن الأول نصّ إمامه، ثم أصل إمامه، ثم نصّ غير إمامه، ثم أصل غير إمامه. __________ (1) انظر "نشر البنود": (2/ 327). (2) ط: التونسيين! والتونسي هو: إبراهيم بن حسن بن يحيي أبو إسحاق المعافري (ت: 434 هـ) قال عياض: له شروح حسنة وتعاليق مستعملة متنافس فيها على كتاب ابن الموَّاز والمدونة. انظر "جمهرة تراجم المالكية - وحاشيته": (1/ 154 - 155). (3) (ص/ 647).

(2/662)


واختلف المالكية في المالكي الذي لم يجد نصًّا في مذهبه في المسألة ووجدها منصوصة للشافعيّ وأبي حنيفة معًا أيهما يقدَّم؟ فقيل: الشافعي لأنه تلميذ مالك، وقيل: أبو حنيفة لأنه أقل خلافًا مع مالك (1). 953 - ولم يُضَمَّن ذو اجْتهادٍ ضَيَّعا ... إن يكُ لا لِقاطعٍ قد رَجَعا يعني أن المجتهد إذا أتلف شيئًا بفتواه أوْ حكمه ثم رجع عن ذلك، لا ضمان عليه لأنه بذل وُسْعه الواجب عليه، إلَّا إذا كان رجوعه لدليل قاطع في المسألة من نصَّ قرآن، أو سنة متواترة، أو إجماع فإنه يضمن، لأن حكمه أو فتواه بخلاف القاطع دليل على تقصيره في النظر. ذكر هذه المسألة الحطاب (2) عند قول خليل: "مبينًا لِمَا به الفتوى" (3). __________ (1) انظر "النشر": (2/ 328). (2) في "مواهب الجليل": (1/ 33) ونصه: (فرع: من أفتي رجلًا فأتلف بفتواه مالًا، فإن كان مجتهدًا فلا شيء عليه، وإلا فقال المازري: يضمن ما تلف ويجب على الحاكم التغليظ عليه، وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال بالعلم فيسقط عنه الأدب ويُنهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلًا. ونقل البرزلي عن ابن رشد في أوائل النكاح أنه لا ضمان عليه لأنه غرور بالقول إلا أن يتولى فعل ما أفتى به فيضمن. وذكر في أوائل كتابه عن الشعبي أنه يضمن قال: وهذا عندي في المفتي الذي يجب تقليده المنتصب لذلك وأما غيره فكالغرور بالقول ويجري على أحكامه. فتحصَّل أن المفتي المنتصب لذلك يضمن، ولعل ابن رشد لا يخالف فيه؛ لأن هذا يُحْكَم بفتواه فهو كالشاهد يرجع عن الشهادة، وأما غير المنتصب ففيه قولان لابن رشد والمازري واللَّه أعلم) اهـ. (3) (ص/ 9).

(2/663)


954 - إلَّا فهَلْ يضمَنُ أو لا يضمَنُ ... إن لم يَكُن منه تَولٍ بَيِّنُ يعني أن المتلِف شيئًا بفتواه أو حكمه إن لم يكن مجتهدًا بأن كان مقلِّدًا ولم يتولَّ التنفيذَ بنفسه اختلف في ضمانه، فقيل: يضمنه، وهو قول المازري لأنه أتلفه بغير حق، وإن لم يتقدم له اشتغالٌ بالعلم أُدِّبَ أيضًا، وقيل: لا يضمن لأنه غرور بالقول وهو قول ابن رشد، فإن تولى التنفيذ بنفسه ضمن بلا خلاف، فقول المؤلف: "إلَّا" أي إلَّا يكن الحاكم المتلف مجتهدًا، وهذا في غير المنتصب لدليل قوله: 955 - وإن يكنْ منتصِبًا فالنظَرُ ... ذاك وِفاقا عِنْدَ من يُحَرِّرُ يعني أن غير المجتهد إذا كان منتصبًا للقضاء أو الفتوى وأتلف شيئًا بواحد منهما ثم رجع، فالذي يقتضيه النظر ذاك -يعني التضمين- "وفاقًا عند من يحرِّرُ" أي يحقق المسائل، يعني به الحطاب شارحِ خليل (1) فإنه نصَّ على ذلك عند قول خليل: "مبينًا لما به الفتوى" وإنما ضمِن المنتصب لأنه يَحكم بفتواه ويُنفذ حكمه فهو كالشاهد يرجع عن (2) شهادته. __________ (1) تقدم نقل كلامه بحروفه. (2) ط: يرجح عند!

(2/664)


فصل التقليد في الفُروع لما فرغ المؤلف من الكلام على الاجتهاد أتبعه بالكلام على التقليد لأنه مقابله، والتقليد لغةً: جَعْل القلادة في العنق، فكأنَّ المجتهد جعل الفتوى في عنق السَّائل، أو أن السَّائل جعل الأمرَ في عنقِ المسؤول، وهذا الأخير معروف في كلام العرب، ومنه قول لقيط الأيادي (1): وقلِّدوا أمرَكم للَّه درُّكم ... رحبَ الذراع بأمرِ الحربِ مطَّلِعا 956 - هو التزام مذهب الغير بلا ... علمِ دليله الذي تأصَّلا يعني أن التقليد في عُرف الأصوليين هو التزام الأخذ بمذهب الغير من غير معرفة دليله الخاصِّ، وهو مراده بـ "الذي تأصَّلا" أي صار أصلًا ومستندًا سواء عمل بمذهب ذلك الغير الذي التزم مذهبه أو لم يعمل به لفسقه أو غير ذلك، وسواء كان المذهب قولًا أو فعلًا. أما الأخذ بالنصوص وشهادة البينة فليس شيء من ذلك تقليدًا. 957 - يلزمُ غيرَ ذي اجتهادٍ مطلقِ ... وإن مقيَّدًا إذا لم يُطِقِ يعني أن التقليد يلزم من ليس مجتهدًا مطلقًا وإن كان مجتهدَ مذهبٍ __________ (1) البيت من قصيدته المشهورة التي مطلعها: يا دارَ عَمْرَةَ من مُحتَلِّها الجَرَعا ... هاجَت ليَ الهَمَّ والأَحزانَ والوَجَعا والبيت في "الكامل": (2/ 682)، و"الشعر والشعراء": (1/ 201).

(2/665)


أو فُتيا، إذا عَجَز المجتهد المقيَّد عن الاجتهاد في تلك المسألة، بناءً على الراجح من جواز تَجزُّؤ الاجتهاد، فيقَلَّد في المسائل التي لم يبلغ فيها رتبة الاجتهاد، ويجتهد فيما بلغها فيها، وقيل: لا يقلِّد العالمُ وإن لم يكن مجتهدًا؛ لأن له صلاحية أخذ الحكم من الدليل بخلاف العامِّيّ. وفاعل "يلزم" ضمير التقليد، و"مطلق" باسم المفعول نعت لـ "ذي اجتهاد" و"مقيدًا" باسم المفعول، ومفعول "يُطِقِ" محذوف أي لم يُطق استخراج المسألة بالاجتهاد. 958 - وهو للمجتهدين مُمْتَنِعْ ... لنظرٍ قد رُزِقوه مُتَّسِعْ يعني أن التقليد لا يجوز في الفروع لمن بلغَ رتبةَ الاجتهاد؛ لأجل ما رزقه اللَّه من النظر المتسع لمعرفة الأحكام بالصلاحية، فإن حَصَل للمجتهد ظن الحكم باجتهاده بالفعل حَرُمَ عليه التقليد إجماعًا قاله المؤلف في "الشرح" (1). وأما إن لم يحصل له ظن بالفعل مع صلاحيته لذلك لاتصافه بصفات المجتهد = حَرُمَ عليه التقليدُ أيضًا عند مالك والأكثر، لتمكنه من الاجتهاد الذي هو أصل التقليد. وقيل: يجوز تقليد المجتهد غيره فيما لم يعلمه بالفعل، وهو مرويٌّ عن أحمد (2). وقيل: يجوز للقاضي لحاجته إلى فصل الخصوم __________ (1) (2/ 331). (2) المنصوص عنه هو القول الأول، وهذه الرواية حكاها عنه الشيرازي، وهو أيضًا قول الثوري وابن راهويه، انظر "البحر المحيط": (6/ 285 - 286).

(2/666)


المطلوب تعجيله بخلاف غير القاضي، وقيل: يجوز للمجتهد أن يقلِّد من هو أعلم منه دون المساوي والأَدْوَن، ويُرْوَى عن محمد بن الحسن. وقيل: يجوز له التقليد في خاصية نفسه دون ما يفتي به غيرَه. وقيل: يجوز عند ضيق الوقت لما يسأل عنه كالصلاة بخلاف ما لا ضيق في وقته، وهو مروي عن ابن سُريج. وقال صاحب "الضياء اللَّامع" (1): إن تقليده عند ضيق الوقت لا ينبغي أن يُخْتَلف في جوازه (2). وقوله: "مُتَّسِع" بكسر السين. 959 - وليسَ في فتواه مُفتٍ يُتَّبَعْ ... إن لم يُضِف للدِّين والعِلم الورَعْ يعني أن المفتي يحرم العمل بفتواه إذا لم تجتمع فيه ثلاث خصال وهي: الدين، والعلم، والورع. إذ لا ثقةَ بمن عدمت فيه واحدة منها، ويعرف حصولها بالإخبار عَنْه بذلك من الثقات، وبانتصابه واشتهاره في الفتوى والناس راضون بذلك. ومعنى اتصافه بالعلم: كونه مجتهدًا مطلقًا أو مقيدًا، أما غيرُ المجتهد فقد تقدم أن فتواه نَقلٌ، وقد قدَّمْنا شروطَها عند قول المؤلف: "لجاهل الأصول. . " (3) إلخ. ومعنى اتصافه بالدين: امتثاله للأوامر واجتنابه للنواهي. ومعنى اتصافه بالورع: تركه الشبهات وبعض المباحات خوفًا من الوقوع فيما لا ينبغي، ومن الورع الخروج من الخلاف فيما اختلَفَ فيه العلماء، ونَظَم ذلك من قال: وأن الأَوْرعَ الذي يخرج من ... خلافهم ولو ضعيفًا فاستَبِنْ __________ (1) (2/ 524). (2) ذكر في "البحر" أحد عشر مذهبًا في المسألة. (3) البيت رقم (9341).

(2/667)


وتُشترط في المفتي العدالة وتقدَّم تعريفها في شرح قوله: "عدل الرواية" (1) إلخ. 960 - من لم يكُنْ بالعلم والعدلِ اشتَهرْ ... أو حَصَل القطعُ فالاستفتا انحَظَرْ يعني أن من لم يشتهر بالعلم والدين الورع ولم يحصل لمن أراد أن يستفتيه قطعٌ بذلك، أي أو ظنٌّ، فإنه لا يجوز له أن يستفتيه، ولو استفتاه ما جاز له العمل بفتواه كما تقدم في البيت قبل هذا. وقال بعضُ العلماء: لا يَكتفي بمجرَّد الاشتهار بل لابد من البحث عن علمه ودينه وورعه. وقال المؤلف في "الشرح" (2): إنه الأصح، والأصحُّ أيضًا الاكتفاء بظاهر العدالة. وقيل: لابد من البحث عنها، كما أن الأصح هو الاكتفاء بخبر الواحد العدل عن علمه وعدالته. وقيل: لابد من الاثنين، فإن عُلِم علمه وجُهِلت عدالته ففي جواز استفتائه احتمالان وهما وجهان للشافعية، وعلى القول بالجواز فوَجْه الفرق بين العدالة والعلم: أن الناس كلَّهم عوام إلَّا القليل، والعلماء كلهم عدول إلَّا القليل. وهل يجوز الإفتاء في الخصومات التي شأنها الرفع إلى القاضي؟ قيل: لا يجوز وهو الذي مشى عليه خليل في "المختصر" (3) حيث قال: "ولم يُفْتِ في خصومة". وابن عاصم في "التحفة" حيث قال: ومُنِع الإفتاءُ للحكَّام ... في كلِّ ما يَرْجِعُ للخِصامِ __________ (1) البيت رقم (566). (2) (2/ 332 - 333). (3) (ص/ 234).

(2/668)


والمنع على القول به مقَيَّد بأمور مذكورة في بعض شروح المختصر (1) ورُوي عن ابن عبد الحكم جوازه وبه جَرَى عمل فاس، قال ناظم "العمل" (2): وشاع إفتاء القضاة في خصامْ ... مما يُعَدُّ حكمهم له قوامْ 961 - وواجبٌ تجديدُ ذي الرأي النَّظَرْ ... إذا مماثِلٌ عَرا وما ذَكَرْ 962 - للنَّصِّ مِثْل ما إذا تجدَّدا ... مغيَّرٌ إلَّا فَلَن يُجَدِّدا يعني أن "ذا الرأي" الذي هو المجتهد -مطلقًا كان أو مقيدًا- إذا أفتى في حادثة، ثم سُئل بعد ذلك عن تلك الحادثة لوقوعها مرة أخرى يجب عليه تجديد النظر فيها، بشرط أن يكون ناسيًا للدليل الذي اعتمد عليه في الفتوى الأولى، أو يكون غير ناس له ولكنه طرأ عليه ما يغيِّرُ اجتهادَه الأول. وأشار المؤلف للشرط الأول بقوله: "وما ذكر للنصِّ"، وللثاني بقوله: "مثلَ ما إذا تجدَّدَا مغيَّرٌ". وقوله: "إلَّا فلن يجدّدَا" أي إلَّا يكن ناسيًا للديل الأول ولم يتجدد له مغيّرٌ فلن يجدِّد أي لم يلزمه تجديد النظر مرة أخرى، وإنما لزمه التجديد عند نسيان الدليل في الأولى لاحتمال أن يظهر له خطأ في الأول، وأما عند تجدُّد المغيّر فواضح، وإنما لم يلزمه التجديد في حالة عدم نسيان الأول وعدم طُرُوِّ مُغيِّر لعدم وجود ما يقتضي الرجوع لأن حاله الآن __________ (1) انظر"شرح الخرشي": (5/ 150 - 151)، و"مواهب الجليل": (8/ 110 - 111). (2) تقدم التعريف به.

(2/669)


كحاله وقت إفتائه الأول. وقوله: "عرا" بمعنى طرأ، واللَّامُ في "للنصِّ" زائدة، وما ذكر النصَّ. وقوله: "مِثل" بكسر المِيم وهو منصوب على الحال. 963 - وهل يكرِّرُ سؤالَ المجتهدْ ... مَنْ عَمَّ إن مُمَاثِلُ الفتْوى يَعُدْ يعني أن العامِّي إذا سأل مجتهدًا، أي وكذا لو سأل مقلِّدًا فأفتاه، ثم تجدد له مثل الحادثة الأولى، فهل عليه أن يكرِّر سؤال المجتهد مرةً أخرى أو له أن يكتفي بالجواب الأول؟ تردَّدَ في ذلك ابنُ القصَّار (1) من المالكية، وحكى ابنُ الصلاح (2) فيه خلافًا ثم قال: "الأصح لا يلزمه" وجعل إمام الحرمين (3) الخلافَ فيما إذا كان المُقلَّد -بالفتح- حيًّا، أما لو كانت الفتوى الأولى بتقليد ميت بناءً على جوازه فلا تلزم إعادة السؤال لتيقُّن عدم رجوع (4) الميت، فإن كانت الفتوى الأولى مستندة لنص أو إجماع فلا تجب إعادة السؤال إجماعًا. واسم الموصول في قوله: "من عمَّ" فاعل "يكرر" ومفعوله "سؤالَ"، و"يَعُدْ" بضم العين من عاد يعود بمعنى رجع. 964 - وثانيًا ذا النقْلِ صِرفًا أهْمِلِ ... وخَيِّرنْ لدى استواء السُّبُلِ يعني أن المفتي الذي أجاب أولًا إذا كان صاحب نقلٍ صِرْفٍ أي __________ (1) انظر "المقدمة في الأصول": (ص/ 32 - 33) لابن القصار. (2) في "أدب المفتي والمستفتي": (ص/ 167). (3) في كتابه "الشامل" كما نقله صاحب "النشر": (2/ 334). أما في "البرهان": (2/ 878) فليس فيه لمسألة تقليد الميت. (4) الأصل: روج، ثم كتب فوقها علامة (X).

(2/670)


خالص من الاجتهاد فلا تجب إعادة سؤاله لعدم احتمال تغيُّر ما عنده، وبهذا تعرف أن قولنا في شرح البيت قبله: "أي وكذا لو سأل مقلِّدًا" نعني به المقلد الذي هو مجتهد مقيَّد المشار إليه بقوله: "وإن مقيدًا إذا لم يُطِق". وقوله: "وخَيِّرن. . " إلخ، يعني أن العالم إذا استفتاه العامِّيُّ وكان في المسألة أقوال مستوية، فإنه يخيِّرُ العامّيَّ في العمل بأي تلك الأقوال شاء، هذا إذا لم يكن فيها تفاوت، وإذا كان فيها تفاوت من جهة فسيأتي في البيت الذي بعد هذا. وقوله: "ذا النقل" مفعول "أهمِل" وهو أمرٌ من الإهمال والترك. و"صرفًا" حال، والظاهر أنه حال من "النقل" لا من "ذا" كما ظنه المؤلف (1)؛ لأن المضاف هنا كجزء من المضاف إليه، أي أَهْمِلْ صاحبَ النقل فلا تسْأله ثانيًا، أي مرة أخرى. 965 - وزائدًا في العلم بعضٌ قَدَّما ... وقَدَّمَ الأوْرَعَ كلُّ القُدَما يعني أنه إذا وقع التفاوت في العلم مع الاستواء في الدين والورع، فإنَّ بعض العلماء يوجب الأخذ بقول الأعلمِ؛ ولذا قُدِّم في إمامة الصلاة زائد الفقه، قاله الرازي (2)، لأنه ينبغي أن يُقدَّم في كل موطن من مواطن الشرع من هو أقوم بمصالح ذلك الموطن. وقال بعض العلماء: يخير بين الأخذ بقول الأعلم وقول العالم؛ لأن كلَّ مذهب طريقٌ إلى الجنة، فعلى القول الأول يُقدَّم ابن رشد على اللخمي لأنه أعلم منه، وعلى الثاني يُخَيَّر __________ (1) كما قال في "الشرح": (2/ 334). (2) في "المحصول": (2/ 533).

(2/671)


بينهما (1). وقوله: "وقَدَّم الأورعَ" إلخ يعني أنهما إذا استويا في العلم وكان أحدهما أورع من الآخر قَدَّم الأورع، لأن فتياه أبعد من الخطأ لشدة تحفظه، فإن كان أحدهما أرجح في دينه والثاني أرجح في علمه فقيل: يقدم الأدْيَن، وقيل: يقدَّم الأعلم، ورجَّحه القرافيُّ (2). واعلم أن مراد المؤلف بقوله: "وخَيِّرَنْ لدى استواء السبل"، وقوله: "وزائدًا في العلم. . . " البيت، إنما هو حالة أخذ العاميّ بأحد أقوال مذهبه في مسألة اختلف فيها أصحاب مالك ومن بعدهم مثلًا. ومن قوله: "وجائز تقليد ذي اجتهاد. . " إلى قوله: "وموجب تقليد الأرجح" إنما هو في تقليد غير المجتهد المطلق له، قاله المؤلف في "الشرح" (3)، وقوله: "زائدًا" مفعول "قدَّم" مُقدَّم عليه. 966 - وجائزٌ تقليدُ ذي اجتهادِ ... وهو مفضولٌ بلا استبعادِ يعني أنه يجوز للعامِّي أن يقلِّد المجتهد المفضول في الدين أو العلم مع وجود الفاضل فيهما، وهذا مذهب الجمهور، وصححه الفهري من المالكية ورجحه ابن الحاجب (4) -منهم أيضًا- لوقوعه في زمن الصحابة وغيرهم منتشرًا من غير نكير. وقيل: لا يجوز تقليد المفضول __________ (1) ذكره في "النشر": (2/ 335). (2) "التنقيح": (ص/ 148). (3) (2/ 335). (4) "المختصر - مع شرحه": (3/ 367).

(2/672)


مع وجود الفاضل لأنه تقصير في تحرِّي الصواب، وعلة مذهب الجمهور أشار لها المؤلف بقوله: 967 - فكلُّ مَذْهب وسيلةَ إلى ... دارِ الحبُور والقصور جُعِلا يعني أن كل "مذهب" من مذاهب المجتهدين "وسيلة" أي طريق يتوصل بها إلى الجنة التي هي "دار الحبور" وهو النعيم، "والقصور" العالية جمع قصر؛ لأن الكل على هدى من ربهم وإن تفاوتوا في العلم والورع. قلت: ومما يدل على أن المجتهدين على هدًى وإن إختلفوا تقريرُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كلًّا من (1) الطائفتين المختلفتين في صلاة العصر في قصة بني قريظة، فقوم صلوها وقوم لم يصلوها إلى الشفق، فقرَّر النبي الجميعَ، وصوَّب ما فعله كلٌّ مع أنهم مختلفون (2)، ومما يدل على ذلك أيضًا أن داود وسليمان من أنبياء سورة الأنعام الذين قال اللَّه لنبينا بعد ذكرهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام/ 90] وثبت في "صحيح البخاري" (3) أن مجاهدًا سأل ابن عباس: من أين أخذتَ السجدة في ص فقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} فسجدها داود فسجدها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فإذا عرفتَ ذلك فاعلم أن داود وسليمان اختلفا في حكم الغنم النافشة __________ (1) الأصل: كلام. (2) أخرجه البخاري رقم (946)، ومسلم رقم (1770) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (3) رقم (4807).

(2/673)


في حَرْث القوم وهما مجتهدان قطعًا، إذ لو كان هناك وحي لما اختلفا، وقد صرَّح تعالى بأن سليمان أصاب الصواب بقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء/ 79] فعلم أن داود اجتهد فيها ولم يُصِب بدليل قوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء/ 78]، ومع هذا قال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء/ 79]. وقوله: "وسيلة" بالنصب مفعول ثان لـ "جُعِل" مقدَّم عليه ومفعوله الأول ضمير المذهب، وهو نائب الفاعل المستتر. 968 - وموجِبُ تقليدَ الأَرْجَح وَجَبْ ... لدَيْه بحثٌ عن إمامٍ منتخَبْ يعني أن الذين لا يجيزون تقليد المفضول مع وجود الفاضل قالوا: يجب على العامِّيّ البحث عن إمامٍ أي مجتهدٍ منتَخَب -بفتح الخاء- أي راجح في العلم والدين، وعليه فيجب على العامي أو غيره من المقلدين تقديم أروع العالِمَيْن وأعلم الوَرِعَيْن، والأصح تقديم الأعلم على الأورع كما تقدم، وأهل هذا القول منهم: الإمام أحمد، وابن القصَّار من المالكية، والغزالي، وابن سُريج من الشافعية. فإن قيل: من أين للعامي أن يميز الفاضل من المفضول؟ فالجواب: أنه يميزه بسؤال الناس وبقرائن الأحوال، كرجوع العلماء إلى قوله دون غيره، وكثرة المستفتين له دون غيره. ووجه منع تقليد المفضول مع وجود الفاضل: أن أقوال المجتهدين في حق المقلد كالأدلة في حق المجتهد؛ فكما يجب على المجتهد الأخذ بالأرجح من الأدلة = فكذلك يجب على المقلد تقليد الأرجح من العلماء.

(2/674)


والحاصل أن في تقليد المفضول مع وجود الفاضل ثلاثة أقوال: الجواز والمنع وقد عرفت وجْهَ كلٍّ منهما. الثالث -واختاره السبكي (1) -: وهو جوازه إن اعتقد العاميُّ أنه هو الفاضل أو المساوي. والفرق بينه وبين ما قبله أنه على هذا القول يكتفي بمجرد اعتقاده أرجحيته أو مساواته ولا يجب عليه البحث عن ذلك على الأرجح، بخلاف ما قبله فلابد من البحث على الأرجح ولو كان معتقدًا أفضليته، قاله في "الآيات البينات" (2). 969 - إذا سمعتَ فالإمامُ مالكُ ... صحَّ له الشأوُ الذي لا يُدْركُ 970 - للأثر الصحيح مع حُسْن النظَرْ ... في كلِ فَنٍّ كالكتابِ الأثرْ أي إذا سمعتَ يا طالب العلم هذا القول بوجوب تقليد الأرجح من المجتهدين = فاعلم أن مالكًا رحمه اللَّه ثبت له "الشأو" أي الغاية التي لا يدركها غيره من المجتهدين من التابعين فمن بعدهم من السَّبق في العلم، وقوله: "للأثر الصحيح" يعني للحديث المرفوع الصحيح الذي: هو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يوشك أن يضربَ الناسُ أكبادَ الإبلِ في طلبِ العلمِ ولا يجدون عالمًا أعلمَ من عالمِ المدينة" (3). مع ما ثبت له رحمه اللَّه من حُسن النظر __________ (1) "الجمع": (2/ 395). (2) (4/ 268). (3) أخرجه أحمد: (13/ 358 رقم 7980)، والترمذي رقم (2680)، وابن حبان "الإحسان" رقم (3736)، والحاكم: (1/ 90)، والبيهقي: (1/ 386) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط =

(2/675)


في كلِّ فنٍّ من الفنون ككتاب اللَّه وأحاديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي مراد المؤلف "بالأثر" كالعربية والأصول والمعرفة بأقوال الصحابة ومسائل الاتفاق والاختلاف. ومما يدل على أن المراد بالحديث الإمام مالك أنه إذا أُطْلِق "عالم المدينة" أو "إمام دار الهجرة" عُلِم أن المراد مالكٌ دون غيره من علماء المدينة (1). __________ = مسلم ولم يخرجاه. ولم يتعقبه الذهبي، وصححه ابن حبان. وضعفه ابن حزم في "الإحكام": (6/ 135). بعنعنة أبي الزبير. والحديث تردد ابن عيينة في رفعه ووقفه فيما رواه عنه الأمام أحمد، كما في "منتخب العلل": (ص/ 136) لابن قدامة. (1) كل أصحاب مذهب يذكرون من مناقب إمامهم ومزايا مذهبهم ما يقتضي ترجيحه على غيره، بل الإلزام باتباعه والطعن في المذاهب الأخرى، كما وقع لغير واحد ممن صنف في الأصول والفقه، والشأن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه قال في "مجموع الفتاوى": (20/ 291 - 293): (أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض، مثل من يرجح إمامه الذي تفقه على مذهبه أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره. . . فهذا الباب أكثر الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس، فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة والمشايخ ولا يقصدون اتباع الحق المطلق، بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح متبوعه فيرجحه بظن يظنه وإن لم يكن معه برهان على ذلك وقد يفضي ذلك إلى تحاجهم وقتالهم وتفرقهم وهذا مما حرم اللَّه ورسوله. . . قال: فما دخل في هذا الباب مما نهى اللَّه عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم فإنه يجب النهي عنه، فليس لأحد أن يدخل فيما نهى اللَّه عنه ورسوله، وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده (وذكر بعض المسائل الفروعية) ثم قال: فمن ترجَّح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم =

(2/676)


971 - والخُلْفُ في تقليد من ماتَ وفي ... بيْع طُرُوس الفقه الآن قد نُفِي يعني أنَّ الخلافَ الذي كان واقعًا في تقليد المجتهد الميت وفي بيع كتب الفقه = منفيٌّ الآن أي في هذه الأزمان الأخيرة، لانعقاد الإجماع من جميع المسلمين على ذلك. أما فى تقليد الميت فلعدم وجود المجتهدين (1)، فلو لم يُقَلَّد الميت لتعطَّلَ كثير من الأحكام، وأما في كتب الفقه فلأنها لو لم يوصَل إلى اكتسابها بالبيع لتعطلت الأحكام أيضًا، وانعقاد الإجماع على ما ذكر ظاهر. و"الطروس" جمع طِرْس -بالكسر- وهو الكتاب. 972 - ولكَ أن تسأل للتثبُّتِ ... عن مأْخَذِ المسؤول لا التعَنُّتِ __________ = ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك. ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام: أن فلانًا أفضل من فلان، فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجِّح متوعها فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه، كما أن من يرجح قولًا أو عملًا لا يقبل قول من يفتى بخلاف ذلك. لكن إن كان الرجل مقلدًا فليكن مقلدًا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق، فإن كان مجتهدًا اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق ولا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها) اهـ بتصرف. (1) انظر ما سبق نقله عن الشيخ في تفسير {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (ص/577 وما بعدها) ففيه الرد على من زعم تعذر الاجتهاد في الأعصار المتأخرة، وأن العصر يمكن خلوه من المجتهدين، ورجح أنه لابد من قائم للَّه بحجة في كل عصر، وانظر أيضًا كتاب الجلال السيوطي "الرد على من أخلد إلى الأرض وجَهِل أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض": (ص/ 97 - 116)، و"الروض الباسم": (1/ 71)، و"البحر المحيط": (6/ 207)، و"إرشاد الفحول": (2/ 1035 - 1042).

(2/677)


973 - ثُمَّ عليه غايةُ البيان ... إن لم يكن عذرٌ بالاكتنان يعني أنه يجوز لك أيها المستفتي سؤالَ العالم عن بيان مأْخَذه أي دليله فيما أفتاك به، بشرط أن يكون السؤال "للتثبت" أي زيادة الثبوت حتى تذعن نفسُه للقبول بسبب إيضاح الدليل، لا إن كان السؤال "للتعنت" أي قصد إظهار عجزه أو خطئه. ثم إنه يجب على العالم المسؤول بيان الدليل للسَّائل لإرشاده، "إن لم يكن" له "عذر بالاكتنان" أي خفاء الدليل على السائل، بأن كان فهمه يَقْصُر عن إداركه عادة فلا يلزمه البيان صونًا لنفسه عن التعب فيما لا فائدة فيه، ويتعذَّرُ له بخفاء المُدْرك، ومحلُّ وجوبِ البيان ما لم يشق مشقة لا يتحمل مثلها عادة. 974 - يُنْدَبُ للمفتي اطِّراحُه النظَرْ ... إلى الحطام جاعِلَ الرِّضا الوَطَرْ 975 - متصفًا بحليةِ الوقارِ ... محاشيًا مجالسَ الأشرارِ يعني أنه يستحب للمفتي أن يطَّرِح النظر إلى الدنيا فيكتفي بما في يده عما في أيدي الناس، ويجعل وطره أي حاجته بفتياه رضا اللَّه تعالى بهداية الجاهلين، لا حُطامًا يأخذه منهم، ويستحب أن يكون متَّصفًا بالسكينة والوقار، متباعدًا عن مجالس الأشرار أي السفهاء، فإن ألجأته الضرورة إلى مجالستهم فلا بأس مع كفهم عما لا يليق بحضرته. وقوله: "اطراحه" افتعال من الطرح بمعنى الإلغاء والترك وهو مصدر مضاف إلى فاعله، ومفعوله "النظر". و"جاعل" حال من الضمير المضاف إليه الاطراح. و"الوطر" مفعول "جاعل" الثاني، ومفعوله الأول

(2/678)


أضيف له اسم الفاعل، و"متصفًا" و"محاشيًا" حالان من صاحب الحال الأولى بناءً على جواز ترادف الحال، أما على القول بمنعه كما ذهب إليه أبو الحسن بن عصفور ومن وافقه فالأحوال متداخلة، فقوله: "متصفًا" حال من الضمير المستكنّ في "جاعل" و"محاشيًا" حال من الضمير المستكن في قوله: "متصفًا". و"الحطام" أصله ما تحطَّم وتكسَّر من النبات، والمراد به هنا الدنيا. 976 - والأرضُ لا عنْ قائمٍ مُجْتهدِ ... تخلو إلى تَزَلْزلِ القواعدِ 977 - وهو جائز بحكمِ العقلِ ... مع احتمال كونِهِ بالنقل يعني أنه لم يقع في الأرض خُلُوُّ الزمان عن مجتهد مطلق أو مقيد يقوم للَّه بالحجة على الخلق وينصرُ السنة بأن يُعَلِّمَها ويأمرَ باتباعها ويُنكر البدعة ويحذِّر (1) منها، وممن قال بهذا ولي الدين مستدلًا بحديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. . . " (2) الحديث، وهذا ما لم تتزلزل القواعد أي أركان الدنيا أي يَخْتلَّ انتظامها بطلوع الشمس من مغربها. ويُحتمل أن يراد بالقواعد قواعُد الدين وأحكام الشرع، وبتزلزلها: تعطلها والإعراض عنها، والأول هو الظاهر، فإن تزلزلت القواعد أي أركان الدنيا أو الدين كما تقدم فإن الزمان يخلو من المجتهد المذكور لحديث: "إن اللَّه لا يقبضُ هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد __________ (1) تحرفت في الأصل. (2) أخرجه البخاري رقم (3640)، ومسلم رقم (1920) من حديث المغيرة -رضي اللَّه عنه-.

(2/679)


ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. . . " (1) الحديث، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ بين يدي الساعة أيامًا يُرْفَع فيها العلم وينزل فيها الجهل. . " (2). وقوله: "قائم" يعني قائم أي بحجة اللَّه على الخلق. وقوله: "وهو جائز" إلخ يعني أن خلو الزمان عن مجتهد قبل تزلزل القواعد جائز عقلًا إذ لا مانع عقلًا منه، ويحتمل أن يكون الجواز شرعيًّا كما عزاه المؤلف لسعد الدين التفتازاني (3)، ولكن احتمال الجواز الشرعي لا يثبت به حكم شرعي. والذي يظهر وقوعُ الخلو عن المجتهد المذكور في هذه الأزمان الأخيرة (4). ولا ينافي عدم المجتهد بقاء طائفة ظاهرين على الحق؛ لأن الشريعة دُوِّنت، وبُينت أحكام الكتاب والسنة ومعانيهما، فلا خفاء في الدين ولو على غير المجتهدين من المتعلمين. 978 - وإن بقولِ ذي اجتهادٍ قد عَمِلْ ... منْ عمَّ فالرجوعُ عنه مُنْحَظِل يعني أن العاميَّ إذا عمل بقول مجتهد في مسألة لا يجوز له الرجوع عنه إلى قول غيره في مثلها، وحكى المؤلف عليه الاتفاق في "الشرح" (5). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (100)، ومسلم رقم (2673) من حديث ابن عمرو -رضي اللَّه عنه-. (2) أخرجه البخاري رقم (7062)، ومسلم رقم (2672) من حديث ابن مسعود وأبي موسى -رضي اللَّه عنهما-. (3) "النشر": (2/ 341). (4) سبق التعلبق على هذا القول قريبًا. (5) (2/ 341).

(2/680)


ووجْهُه: أنه قد التزم ذلك القول بالفراغ من العمل به. ومراده بالعاميِّ المعبَّر عنه بـ "من عمَّ" العامي الذي لم يلتزم مذهبًا معيَّنًا، أما ملتزمه فسيأتي. وإذا قلنا بوجوب تكرار سؤال المجتهد إذا عاد مثل الفتوى فتغيَّرَ اجتهادُ المفتي الأول لم يجب عليه العمل بقوله الثاني، لأنه لم يعمل به حتى يكون ملتزمًا له بل يجوز له العمل بقول غيره. قلت: الذي يظهر أن العامِّي لا يمنع له تقليد من وُثِقَ بعلمه ودينه مطلقًا ولا دليل على المنع. 979 - إلا فَهل يلزمُ أو لا يلزَمُ ... إلّا الذي شرَعَ أو يَلْتَزِمُ هذا مفهوم قوله: "قد عمل. . " في البيت قبله، أي وإذا لم يعمل العامي بفتوى المجتهد فهل يلزمه العمل بمجرد الإفتاء، أو يلزمه (1) إن شرع، أو يلزمه إِن التزمه، أو لا يلزمه مطلقًا؟ أربعة أقوال، وقد قدمنا أن الظاهر عدم اللزوم مطلقًا، وأنه لم ينعقد في ذلك إجماع ولو بعد العمل، ولو قيل بانعقاد الإجماع على أنه لا يلزم لكان أقرب للصواب. 980 - رجوعُه لغيره في آخَرِ ... يجوز للإجماعِ عند الأكثر يعني أن العامي إذا قلد مجتهدًا في مسألة، يجوز له أن يقلِّدَ غيره في مسألة أخرى عند أكثر العلماء. وقوله: "للإجماع" يعني إجماع الصحابة رضي اللَّه عنهم على أنه يسوغ للعامي أن يسأل من شاء من العلماء، فقد أجمعوا على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة __________ (1) الأصل: لا يلزمه. وهو خطأ.

(2/681)


ومعاذَ بن جبل وغيرهما من غير نكير. ومفهوم قوله: "عند الأكثر" أن بعضهم قال: "إن عمله بفتوى المجتهد الأول التزامٌ لمذهبه، ولا يخفى أن هذا القول بعيد، وفرَّق إمامُ الحرمين (1) بين عصر الصحابة والتابعين وبين الأعصار التي استقرَّت فيها المذاهب، فأجاز الرجوع للعامي في الأول دون الثاني. 981 - وذو التزام مذهب هل ينتقِلْ ... أو لا وتفصيلٌ أصحُّ ما نُقِلْ يعني أنه على القول بوجوب التزام مذهب معيَّن إذا التزمه مقلِّد، فهل يجوز له أن يقلِّد غيرَه في بعض المسائل مع بقائه على التزام ذلك المذهب؟ قيل: لا يجوز له ذلك، وهو قول المازري والغزالي، ووجهه: أنه لما التزم ذلك المذهب لزمه. وقيل: يجوز له ذلك مطلقًا لأنّ المذاهب كلها طرق إلى الجنة كما تقدم، فذلك المذهب بعينه ليس عليه التزامه، والتزام ما لا يلزم لا يلزم. ثالثها -وذكر المؤلف أنه الأصح كما ذكره غيره-: هو التفصيل، فيجوز الانتقال فيما لم يَعْمَل به ويمتنع فيما عَمِل به. 982 - ومن أجازَ للخروج قَيَّدا ... بأنه لابدَّ أن يَعْتقدا 983 - فضلًا له وأنه لم يبتَدِعْ ... بخُلْفِ الاجماعِ وإلَّا يمتنِعْ يعني أن من أجاز خروجَ مقلِّد مذهب إلى مذهب آخر في بعض __________ (1) انظر "البرهان": (2/ 744 و 885).

(2/682)


المسائل قد قيَّد ذلك الجواز بثلاثة شروط: الأول: أن يعتقد فضل المذهب الذي انتقل إليه. الثاني: أن لا يكون المنتقل -بالكسر- مبتدِعًا بما يخالف الإجماع كالتلفيق بين المذاهب. وإيضاحه: أن من العلماء مثلًا من لا يشترط الولي في النكاح كأبي حنيفة، ومنهم من لا يشترط الشهود في صلب العقد كمالك، ومنهم من لا يشترط الصَّدَاق، فلا يجوز أن يتزوج رجلٌ بغير وليٍّ ولا شهود ولا صَداق ملفِّقًا بين المذاهب، فإنَّ هذه الصورة الملفَّقة لم يقل بجوازها أحد. الثالث: أن لا يكون ما قلَّد فيه ينقضُ حكمَ المجتهد لو حكم به، وهو أربعة مجموعة في قوله: إذا قضى حاكم يومًا بأربعة. . . إلخ البيتين (1) وهذا الشرط الثالث هو مراده بقوله: 984 - وعدمِ التقليد فيما لو حَكَمْ ... قاضٍ به بالنقضِ حُكْمُه يُؤمّ تقدم بيانه، و"يُؤَمْ" مَبْني للمفعول بمعنى يُقْصد، وجر "عدم" بالعطف على المجرور المصدري في قوله: "بأنه"، و"حكمه" مبتدأ خبره "يؤم" و"بالنقض" متعلق بـ "يؤم". 985 - أما التمذهُبُ بغيرِ الأولِ ... فصنعُ غير واحد مبجِّلِ __________ (1) والبيتان هما كما في "النشر": (2/ 343): إذا قضى حاكم يومًا بأربعةٍ ... فالحكم منتقضٌ من بعد إبرام خلاف نصٍّ وإجماعِ وقاعدةٍ ... كذا قياسٍ جليٍّ دون إيهام

(2/683)


986 - كحجَّة الإسلام والطَّحاوي ... وابنِ دقيق العيد ذي الفتاوي 987 - إن ينتقل لغرضٍ صحيحِ ... ككونِه سَهلًا أو الترجيحِ يعني أن التمذهب أي التزام مذهب غير المذهب الأول، كالانتقال من مذهب الشافعي إلى مذهب مالك مثلًا، أو العكس = جائز لأنه فعَلَه كثير من العلماء المُبَجَّلين أي المُعَظَّمين عند الناس؛ لأن كل المذاهب على صواب. وقوله: "كحجة الإسلام" يعني أبا حامد الغزالي انتقل في آخر عمره من مذهب الشافعي إلى مذهب مالك (1) لأنه رآه أكثرَ احتياطًا، وكذا أبو جعفر الطحاوي انتقل من مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة لأنه صَعُبَ عليه مذهب الشافعي (2)، وانتقل تقيُّ الدين ابن دقيق العيد من مذهب مالك إلى مذهب الشافعي، وكان يفتي بالمذهبين (3)، وهو مراد المؤلف بقوله: "ذي الفتاوي" وأمثال هذا كثير. وقد انتقل ابن مالك النحويُّ من مذهب داود إلى مذهب الشافعي (4). وقوله: "إن ينتقل لغرض. . " إلخ يعني أنه يُشْترط في جواز __________ (1) لم أر من نص على أن الغزالي انتقل إلى مذهب مالك في آخر عمره. (2) في سبب تحوله عدة أقوال، وما ذكره المؤلف انظره عند ابن حجر في "اللسان": (1/ 620 - 621)، و"اختلاف المذهب" للسيوطي. (3) ط: في المذهبين. (4) انظر رسالة السيوطي "اختلاف المذهب"، ورسالة شيخنا بكر أبو زيد "التحول المذهبي" ضمن "النظائر".

(2/684)


الانتقال من مذهبه الذي التزمه إلى مذهبٍ آخر لغرض صحيح يُجيزه الشرع، ككون المذهب المنتقَل إليه أسهلَ من المنتقَل عنه أو أرجح لوضوح أدلته وقوتها. وهل هذا الانتقال واجب أم لا؟ له احتمالان. وقوله: "الترجيحِ" بالخفض عطفًا على الكون. 988 - وذُمَّ من نوى الدّنا بالقَيْسِ ... على مهاجم لأمِّ قيسِ هذا البيت مفهوم قوله: "إن ينتقل لغرض صحيح. . " إلخ أي وإن انتقل لقصد الدنيا وهو غير مضطر، ككون المذهب المنتقَل إليه له أوقاف تصرف على أهله، فإنه مذموم قياسًا على مهاجر أم قيس، وقصته مشهورة (1). وقوله: "ذُم" أمرٌ من الذم وميمه مثلثة. و"القَيْس" معناه: القياس. 989 - وإن عنِ القَصْدَيْن قد تجرَّدا ... من عمَّ فلتُبِحْ له ما قَصَدا مراده بـ "من عمّ" العامي، ومراده بـ "القصدين" القصد الحسن __________ (1) قال الحافظ في "فتح الباري": (1/ 16): (وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد بن منصور قال أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد اللَّه -هو ابن مسعود- قال: من هاجر يبتغي شيئًا فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس. ورواه الطبراني رقم (8540) من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين) اهـ وصححَ إسنادَ الطبراني المزيُّ في "تهذيب الكمال": (4/ 285)، والذهبيُّ في "السير": (10/ 590).

(2/685)


المذكور في قول المؤلف: "إن ينتقل لغرض صحيح. . " إلخ، والقصد السَّيء المذكور في قوله: "وذُمَّ من نوى الدنا. . " إلخ. ومعنى البيت: أن العامِّي المنتقل من مذهب إلى مذهب إذا تجرَّد انتقاله عن القصْدَين بأن كان انتقاله لا لمقصدٍ حَسَن ولا لمقصدٍ قبيح بحيث لم يقصد دينًا ولا دنيا = فإن ذلك يجوز له. ومفهوم قوله: "من عمَّ" الذي هو العامي أن الفقيه يُكْره له ذلك أو يمنع؛ لأنه قد حصَّل فقه المذهب الأول فيحتاج إلى زمن طويل لتحصيل المذهب الجديد، قاله السيوطي (1). وقوله: "تُبِح" بضم التاء وكسر الباء مبني للفاعل مجزوم بلام الأمر، وقوله: "قصدَ" بالبناء للفاعل. 990 - ثمَّ التزامُ مذهبٍ قد ذُكِرا ... صحةُ فرضِه على من قَصُرا يعني أن بعضَ العلماء ذكر صحة وجوب التزام مذهبٍ معين على من قَصُرَ باعُه عن بلوغ رتبة الاجتهاد المطلق، ومفهوم قوله: "ذُكِر" أن من العلماء من ينفي وجوبه. قلت: الظاهر لي أنه لا يجب لانقضاء عصر الصحابة والتابعين والكلُّ متفق على أنه لا يلزمُ أحدًا أن يقلِّد فلانًا المعيّنَ إلى (2) قول غيره، ولأنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، والأصل عدم الوجوب حتى يثبت بدليل محقَّق، وقوله: "قَصُر" بالتخفيف وضم الصاد مبنيًّا للفاعل، وقوله: "صحة" -بكسر الصاد- نائب فاعل "ذكر". __________ (1) في رسالته المشار إليها. (2) كذا في الأصل، ولعل صوابها: دون. . .

(2/686)


991 - والمُجْمَعُ اليومَ عليه الأربعه ... وقَفْوُ غيرِها الجميعُ مَنَعه يعني أنه وقع الإجماع على وجوب تقليد المذاهب الأربعة المعروفة، وأن الإجماع انعقد على منع اتباع مذهب مجتهد غيرهم من القرن الثامن الذي انقرض فيه مذهب داود إلى الآن وهلُمّ جرًّا، سواء كان اتباع التزام أو مجردَ تقليد في بعض المسائل؛ لأن المذاهب الأربعة انتشرت حتى ظهر تقييد مطلقها، وتخصيص عامها وشروط فروعها، فإذا أطلقوا حكمًا في موضع وُجد مكمَّلًا في موضع آخر، وأما غيرهم فتُنْقَل عنهم الفتاوى مجرَّدة، فلعَلَّ لها مكمِّلًا أو مقيِّدًا أو مخصِّصًا لو انضبط كلام قائله لظهر، فيصير في تقليده على غيره ثقة (1). هذا مراد المؤلف. والذي يظهر -واللَّه تعالى أعلم- أن هذه الاحتمالات التي عللوا بها تقليد غير الأربعة لا تصلح دليلًا على المنع مطلقًا؛ لجواز أن يحقق بعض الفتاوى تحقيقًا ظاهرًا لا لبس فيه، كما ذكر المؤلف نظيرَه في اتباع مذاهب الصحابة في قوله (2): ويقتدي من عمّ بالمجتهدِ ... منهم لدى تحقُّق المعتمدِ قال المؤلف في "الشرح" (3): الظاهر أن مذهبَ مالك يتعين على جُلِّ أهل المغرب، إذ لا يكاد يوجد فيهم من يعرف فقه غيره من __________ (1) انظر رسالة الحافظ ابن رجب الحنبلي (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة). (2) البيت رقم (836). (3) (2/ 346) وما علل به المؤلف من عدم معرفة مذهب غير مالك، وانعدام كتب غيره -مع كونه غير مسلم- إلا أنه قد زال في أوقاتنا هذه.

(2/687)


المذاهب، وكذا أبي حنيفة في بلاد الروم. 992 - حتى يجيءَ الفاطمي المُجَدِّدُ ... دينَ الهدى لأنه مجتهِدُ مراده بـ "الفاطمي" المهدي المنتظر لأنه من ذرية فاطمة رضي اللَّه عنها وأخباره وسيرته وصفاته معروفة في الأحاديث النبوية (1)، ومعنى البيت: أن اتباع خصوص الأربعة دون غيرهم مستمر إلى مجيء المهدي المنتظر، فإذا جاء فلمن أدركه أن يترك مذاهبهم وينتقل إلى مذهبه لأنه مجتهد مجدِّد. هذا مراد المؤلف. والذي يتبادر -واللَّه تعالى أعلم- أنه لا دليل من نقلٍ ولا عقل على امتناع وجود مجتهد قبل المهدي، لأن شروط الاجتهاد التي ذكرها المؤلف وغيره ليست مستحيلةَ التحصيل حتى يجزم بعدم حصولها بالفعل لاسيما وقد قال المؤلف: والأرض لا عن قائمٍ مجتهد ... تخلو إلى تزلزل القواعد 993 - أنَهْيتُ ما جمَّعَه اجتهادي ... وضَرْبي الأغوار مع الأنجد 994 - مما أفادنيه درسُ البَرَرَه ... مما انطوت عليه كُتْبُ المهَرَه 995 - كالشرح للتنقيح والتنقيح ... والجمعِ والآيات والتّلويح 996 - مطالعًا لابن حُلُولُ الَّلامعا ... مع حواشٍ تُعجبُ المُطالعا "الأغوار" جمع غور وهو ما انخفض من الأرض، و"الأنجاد" __________ (1) وقد جمع الأحاديث الواردة في "المهدي" مع بيان صحيحها من ضعيفها غير واحد، أوسعها: "موسوعة أحاديث المهدي" لعبد العليم البستوي، و"المهدي المنتظر" لعداب الحمش.

(2/688)


جمع نجد وهو ما ارتفع من الأرض، و"البَرَرَة" و"المَهَرَة" كلاهما بثلاث فَتَحات جمع بارٍّ وماهرٍ، و"التنقيح" و"شرحه" للقرافي، و"الجمع" يعني به "جمع الجوامع" لابن السبكي، و"الآيات" يعني البينات حاشية ابن قاسم العبَّادي على شرح المحلي لجمع الجوامع، و"التلويح" لسعد الدين التفتازاني شرح "التنقيح" لصدرالشريعة الحنفيّ، و"اللامع" هو "الضياء الّلامع" شرح "جمع الجوامع" لابن حلولو. ومراده بالحواشي التي تعجب المطالع حاشية ابن [أبي] شريف، وحاشية زكريا الأنصاري، وحاشية ناصر الدين الّلقاني، وحاشية شهاب الدين عُمَيرة على المحَلِّي. 997 - فالحمد للَّه العليّ المُجْزِل ... المانح الفضل لنا المُكَمِّلِ 998 - لنعمٍ عنها يكِلِّ العَدُّ ... لو كان ما في الأرض لي يَمُدُّ 999 - ثمَّ صلاة اللَّه والسلامُ ... على الذي انجلى به الظلامُ 1000 - محمدِ الّذي سما فوق السَّما ... وأهلِه من بعد ما الأرضَ سما 1001 - أسأله الحُسْنى وزَيْدًا والرِّضا ... واللطفَ بي فى كلِّ أمرٍ قد قَضَى "المجزل" المكثر، و"المانح" المعطي، و"يكلّ" معناه يضعف ويعجز، و"يمُدّ" معناه يعين ويزيد، وقوله: "وزَيْدًا" يعني النظر إلى وجه اللَّه الكريم. و"الحسنى" يعني الجنة (1). __________ (1) جاء في خاتمة الأصل الذي اعتمدت عليه ما نصه: "تم بحمد اللَّه وحسن عونه كتابة ما أملاه العلامة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني شرحًا لمراقي السعود للعلامة سيد عبد اللَّه بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي على يد كابته لنفسه أحمد محمود عبد الوهاب ضحى يوم الاثنين الثالث عشر من رجب عام تسعين وثلاثمئة وألف هجرية، وصلى اللَّه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه".

(2/689)