×
خطبة جمعة بالمسجد النبوي، ألقاها فضيلة الدكتور عبد المحسن القاسم أثابه الله في يوم ١٣ شعبان ١٤٤٢هـ، يتحدث فيها الشيخ عبد المحسن القاسم فضل التسبيح وأن اللَّه متَّصف بالكمال في ذاته وأسمائه وصفاته، متنزه عن العيوب والنقائص وما لا يليق بجلاله وكماله، أثبت لنفسه الأسماء الحسنى، والصفات العلى وقرن ذلك بالتسبيح؛ {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، ومن أسمائه سبحانه: السُّبوح؛ أي: المنزَّه عن كل سوء، و«سبحان اللَّه» كلمة يُعظَّم بها الرَّب، وتعني أن اللَّه منزَّه عن كل عيب – من الصاحبة والوالد والولد وغير ذلك -، ومن كل نقص – من العجز والنوم والموت وغيرها -، وكلُّ ما ينافي أسماءه وصفاته فهو مسبَّح عنه.

التسبيح([1])

إنَّ الحمدَ للَّهِ، نحمَدُه ونَستعينُه ونَستغفرُه، ونعوذُ باللَّه من شُرورِ أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالِنا، من يهدِه اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُه ورسوله، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا اللَّه - عبادَ اللَّه - حقَّ التَّقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.

أيُّها المسلمون:

اللَّه متَّصف بالكمال في ذاته وأسمائه وصفاته، متنزه عن العيوب والنقائص وما لا يليق بجلاله وكماله، أثبت لنفسه الأسماء الحسنى، والصفات العلى وقرن ذلك بالتسبيح؛ ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، ومن أسمائه سبحانه: السُّبوح؛ أي: المنزَّه عن كل سوء، و«سبحان اللَّه» كلمة يُعظَّم بها الرَّب، وتعني أن اللَّه منزَّه عن كل عيب - من الصاحبة والوالد والولد وغير ذلك -، ومن كل نقص - من العجز والنوم والموت وغيرها -، وكلُّ ما ينافي أسماءه وصفاته فهو مسبَّح عنه.

واللَّه سبَّح نفسه في مواطن تعظيمه وإجلاله وتنزيهه، ونفى عن نفسه ما نسبه إليه المشركون من الشركاء واتخاذ الولد، فقال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾، وافتتح اللَّه به سبع سور من كتابه، وقرن تسبيحه بالتوكل عليه فقال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾.

وتسبيح اللَّه مع إثبات المحامد له أفضل الكلام، وهو ما اصطفاه اللَّه للمقربين إليه، سُئل النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «أَيُّ الكَلَامِ أَفْضَل؟ قَالَ: مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» (رواه مسلم).

وحملة العرش لا ينقطعون عن التسبيح، قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾، والملائكة مع ما وكل إليهم من الأعمال العظيمة دائبون على التسبيح من غير انقطاع ولا تعب؛ ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، وهم بتسبيح ربِّهم يشرفون؛ ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾، و«إذَا قَضَى اللَّهُ أَمْراً سَبَّحَ حَمَلَةُ العَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا» تعظيماً لأمر اللَّه (رواه مسلم).

والسموات والأرض ومن فيهن كلها تسبح للَّه مقرَّة بكماله خاضعة لسلطانه؛ ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

والرسل صفوة الخلق دعوا أقوامهم إلى التسبيح وتحلَّوا به، فموسى عليه السلام أرسله اللَّه إلى فرعون فسأل ربه وزيراً يشاركه في رسالته وكثرة التسبيح: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً﴾، وزكريا عليه السَّلام بشَّره ربه بيحيى وجعل له آية على وجود الولد، وهي عدم قدرته على كلام الناس إلا بالإشارة، وأمره اللَّه وهو على تلك الحال بملازمة التسبيح، فقال: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾، وخرج على قومه ولسانه محبوس عن كلامهم من غير آفة ولا سوء، وأمرهم بالإشارة بتسبيح اللَّه؛ ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِياً﴾.

وشأن العلماء في الأمم تنزيه اللَّه عن العيوب والنقائص، قال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً﴾.

واللَّه أمر نبيَّنا صلى اللَّه عليه وسلم أن يسبحه أوَّل النهار وآخره: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾، وأوَّل الليل وآخره: ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾.

ولعظيم شأن التسبيح وحاجة الخلق إليه فإن من مقاصد الرسالة دعوة الخلق إليه، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾، وبذلك أمر اللَّه عباده: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾.

والمؤمنون إذا سمعوا كلام اللَّه: ﴿خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾، والمخلوقات على اختلافها تسبح للَّه، فالرَّعد يسبح للَّه؛ ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾، والطيور والجبال سبَّحت بتسبيح داود عليه السلام؛ ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾، حتى النمل يسبح للَّه، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيّاً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ» (رواه البخاري).

وما من شيء في الكون إلا وهو يسبِّح للَّه ويحمده مقراً بكماله، خاضعاً لسلطانه، قال سبحانه: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، وقد أَسْمع اللَّه بعض خلقه ما شاء من ذلك، قال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: «لَقَدْ رَأيْتُ المَاءَ يَنْبُعُ مِن بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعامِ وهُوَ يُؤْكَلُ» (رواه البخاري).

والخلق كلهم مأمورون بتنزيه اللَّه وإجلاله وعبادته، ومن استكبر منهم عن ذلك فالملائكة يسبحون اللَّه، واللَّه غني عن جميع خلقه؛ ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾.

واللَّه سبَّح نفسه المقدَّسة، وأرشد عباده إلى تسبيحه في المساء والصباح: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾، وهو من أفضل زاد الآخرة، قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ؛ مِئَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» (رواه مسلم).

والمساجد بيوت اللَّه، أذن برفعها لِيُذكر اللَّه فيها ويسبح: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾، والصَّلاة استفتاحها وركوعها وسجودها تسبيح، وبعد الفراغ منها تسبيح مع تحميد وتكبير.

وحياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم كلُّها تسبيح، إذا قرأ القرآن ومر بآية فيها تنزيه للَّه سبَّح، وإذا قام من الليل يطيل التسبيح في ركوعه وسجوده، وإذا سمع ما لا يليق بجناب الربوبية سبَّح اللَّه؛ بل ويكرر تسبيحه حتى يُعرف ذلك في وجوه أصحابه، وإذا ركب دابة في سفر سبَّح، وإذا نزل أو هبط وادياً سبَّح، وإذا رأى الأمر الذي يُتَعجب منه سبَّح، وإذا أوى إلى فراشه سبَّح ثلاثاً وثلاثين مع تحميدٍ وتكبير.

والتَّسبيح مفزَع الأنبياء عند الشدائد، يونس عليه السلام وهو في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت نادى ربه بالتَّوحيد والتَّسبيح: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ فنجَّاه اللَّه وقال: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ولمَّا تجلى اللَّه للجبل وجعله دكّاً خر موسى صعقا وكان أول قوله حين أفاق: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين﴾.

وحدث في الكون أمر عجيب بذهاب ضوء الشمس؛ فخرج النبي صلى اللَّه عليه وسلم من بيته فَزِعاً، فصلَّى وذكر اللَّه مع التسبيح حتى انكشف ما بهم.

وحين اشتد أذى المشركين بالنبي عليه الصلاة والسلام أمره اللَّه بالإكثار من التسبيح قال عزَّ وجلَّ: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾، ولمَّا أحاط به الهم وضاق به الصدر من الأذى أخبره اللَّه أن انشراح الصدر في التسبيح والصلاة: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾.

وتسبيح اللَّه وذكره قربة إلى اللَّه، فهو قوة في البدن؛ اشتكت فاطمة رضي اللَّه عنها إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم تعب الخدمة في بيت زوجها، فأمرها بالتسبيح والتكبير والتحميد (متفق عليه).

وخير ما يَخْتِم به العبد مجلسه ذكر مطلعه تسبيح، قاله النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ؛ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» (رواه الترمذي).

ولمَّا بلَّغ النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم الرِّسالة وأدَّى الأمانة أمره ربُّه بالإكثار من التَّسبيح ليستكمل ما تبقى له من مقامات العبودية: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «مَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» (متفق عليه).

ولا ينقطع التسبيح بانقضاء الدنيا، ففي يوم القيامة يتبرأ الملائكة مسبحين اللَّه ممن عبدهم من دون اللَّه، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون * قَالُواْ سُبْحَانَكَ﴾، وعيسى عليه السلام في المحشَر يتبرأ ممن غلا فيه مسبحاً للَّه ومنزِّهاً إياه من عبادتهم له: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾.

وإذا تجلى اللَّه للفصل - بكمال رحمته وعدله - بين الخلائق يوم القيامة لتمييز من يدخل الجنة ممن يدخل النار تسبح الملائكة بحمد اللَّه وهم حافون من حول العرش، قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ﴾.

وإذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ أوَّل دعائهم فيها التسبيح: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ وإذا سكنوها لا يفارقهم التسبيح، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ والتَّحْمِيدَ، كما تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» (رواه مسلم).

وبعدُ، أيُّها المسلمون:

فاللَّه سُبُّوح قدوس، حميد عظيم، يُحب من يعظمه ويحمده ويسبحه ويقدسه، جمع المحامد والمحاسن كلها، وهو أهل لها، وأَرَى خلقه آياته لينزهوه عن كل عيب ونقص ويحمدوه على الكمال، ومن تنزيهه الإكثار من تسبيحه، والبعد عما يغضبه أو يبغضه، ومن تعظيمه كثرة حمده، وفِعل الطاعات والثناء عليه في كل حين.

أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾

بارك اللَّه لي ولكم في القرآن العظيم ...


الخطبة الثانية

الحمد للَّهِ على إحسانه، والشُّكرُ له على توفيقِهِ وٱمتِنانِه، وأشهد ألَّا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريكَ له تَعْظِيماً لشَأْنِه، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسليماً مَزِيداً.

أيُّها المسلمون:

التَّسبيح حقٌّ للَّه وحده، وهو يحيي القلوب ويحقق التوحيد ويضاعف الأجور؛ فتسبيحة واحدة يكتب بها للعبد عشرُ حسنات ويحط عنه من الخطايا مثلها، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: يُسَبِّحُ مِئَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» (رواه مسلم).

واللَّه يحب التسبيح والحمد، والميزان يثقل بهما، قال النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ» (متفق عليه)، ووزنهما كبير ثقيل ترجُح بهما الصحف والموازين، قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ» (رواه مسلم)، وهما يَحُطان الخطايا وإن كثرت الذُّنوب قال النَّبي صلى اللَّه عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ؛ فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ» (متفق عليه)، والتَّسبيح يعدل الصدقة بالمال؛ «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً» (رواه مسلم).

ومن سبَّح اللَّه متدبراً ما يقول وقلبه يواطئ لسانَه عَدَلَ تسبيحه أعمال المجتهدين من العُبَّاد؛ «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ جُوَيْرِيَةَ حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: مَا زِلْتِ عَلَى الحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ اليَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» (رواه مسلم)، والسَّعيد من أكثر من تسبيح اللَّه، وأفرده بالعبودية.

ثُمَّ اعلمُوا أنَّ اللَّهَ أمرَكم بالصَّلاةِ والسَّلامِ عَلى نبيِّه، …


([1]) ألقاها الشيخ د. عَبْدُ المُحْسِنِ بْنِ مُحَمَّدٍ القَاسِمِ وَفَّقَهُ اللَّهُ، يوم الجمعة، الثالث عشَر من شهر شعبان، سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في مسجد الرسول ﷺ.