×
الرفق وفضله: إن الرفق من الأخلاق العظيمة التي عمِلَ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وحثَّ عليها ورغَّب فيها. وقد اشتملت هذه الخطبة على بيان هذا الخُلُق العظيم وفضله وفضل المُتخلِّقين به.

    الخطبة الأولى

    إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، وسَلّم تسليماً كثيراً، أَمّا بعد:

    عباد الله! اتقوا الله تعالى كما أمركم بذلك، فقال سبحانه: â يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ á.

    عباد الله! اعلموا أن الرفق من الأخلاق العظيمة، التي عَمِلَ بها النبي ﷺ‬ وحَثَّ عليها ورَغّب فيها.

    * فعن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي ﷺ‬ قال لها: «إنه من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار»([1]).

    فقد عظّم النبي ﷺ‬ شأن الرفق في الأمور كلها، وبيّن ذلك بفعله وقوله بياناً شافياً كافياً؛ لكي تعمل أمّتهُ بالرفق في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى الله – عز وجل -؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرفاتهم، وأحوالهم. وهذا الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي ستأتي تُبيّن فضل الرفق، والحث على التخلق به، وبغيره من الأخلاق الحسنة، وذم العنف وذم من تخلق به.

    فالرفق سبب لكل خير؛ لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب، ومن الثواب ما لا يحصل بغيره، وما لا يأتي من ضده([2]).

    * وقد حذر النبي ﷺ‬ من العنف، وعن التشديد على أمته ﷺ‬ ، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به»([3])، وكان ﷺ‬ إذا أرسل أحداً من أصحابه في بعض أموره أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير، فعن أبي موسى – t – قال: كان رسول الله ﷺ‬ إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أموره قال: «بشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا، ويسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا»([4]).

    وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ‬ : «إذا أراد الله -عز وجل- بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق»([5]).

    وقال ﷺ‬ لأبي موسى الأشعري ومعاذ – رضي الله عنهما – حينما بعثهما إلى اليمن: «يسَّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوَعَا ولا تختلِفَا»([6]).

    وعن أنس بن مالك – t – قال: قال رسول الله ﷺ‬ : «يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبشِّرُوا ولا تنفِّرُوا»([7]).

    في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبي ﷺ‬ في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقت والتعسير في وقت، ويُبشّر في وقت ويُنفّر في وقت آخر فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسَّر مرة أو مرات، وعسَّر في معظم الحالات، فإذا قال ولا تُعسِّرُوا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه وهذا هو المطلوب. وكذا يقال في يسّرا ولا تُعسرا، وبشّرا ولا تُنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، والنبي ﷺ‬ قد حث في هذه الأحاديث وفي غيرها على التبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وهذا فيه تأليف لمن قَرُبَ إسلامه وتَرْكُ التّشديد عليه، وكذلك من قَارَبَ البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويُتلطّف بهم في أنواع الطاعات قليلاً قليلاً، وقد كانت أمور الإسلام في التّكليف على التّدريج فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة، أو المُريد للدخول فيها سَهُلَتْ عليه وكانت عاقبته غالباً الازدياد منها، ومتى عُسِّرت عليه أوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا يستحليها([8]). وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ ولهذا كان النبي ﷺ‬ يتخوّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم([9]).

    فصلوات الله وسلامه عليه فقد دل أمته على كل خير وحذرهم من كل شر، ودعا على من شق على أمته، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة وهذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم([10]).

    * وكان ﷺ‬ رفيقاً يحب الرِّفق ويعمل به. ومن الأمثلة العظيمة التي تُبيّن فضل الرفق وعُلوّ منزلته ما ثبت عن أبي أمامة t قال: إن فتىً شاباً أتى النبيَّ ﷺ‬ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا لـه: مه مه! فقال لـه: «ادنه»، فدنا منه قريباً، قال: «أتحبه لأمك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم». قال: «أفتحبه لابنتك؟» قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم». قال: «أفتحبه لأختك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم». قال: «أفتحبه لعمتك؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم». قال: «أفتحبه لخالتك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم». قال: فوضع يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء([11]).

    وهذا الموقف العظيم مما يؤكد على الدعاة إلى الله – عز وجل – أن يعتنوا بالرفق والإحسان إلى الناس، ولاسيما من يُرغَبُ في استئلافهم ليدخلوا في الإسلام، أو ليزيد إيمانهم ويثبتوا على إسلامهم.

    وكما يبين لنا الرسول ﷺ‬ الرّفق بفعله بينه لنا بقوله وأمرنا بالرفق في الأمر كله.

    * ومما يدل على عظم الرفق وعلوّ منزلته ما ثبت عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله ﷺ‬ فقالوا: السّامُ عليكم. قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السّامُ واللعنة. قالت: فقال رسول الله ﷺ‬ : «مهلاً يا عائشة إن الله يُحبّ الرفق في الأمر كله»، فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله ﷺ‬ : «قد قلت وعليكم»([12]).

    وقال ﷺ‬ : «يا عائشة إن الله رفيق يُحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يُعطي على ما سواه»([13]).

    وقال ﷺ‬ : «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزع من شيء إلا شانه»([14]).

    وبين ﷺ‬ أن من حُرِمَ الرفق فقد حُرِمَ الخير، قال ﷺ‬ : «من يُحرم الرفق يُحرم الخير»([15]).

    وعن أبي الدرداء – t – عن النبي ﷺ‬ قال: «من أُعطيَ حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِمَ حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير»([16])، وعنه – t – يبلغ به قال: «من أُعطي حظّه من الرفق أُعطي حظّه من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخُلُق الحسن»([17]).

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى للنبي ﷺ‬ : â وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ á بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

    الخطبة الثانية

    عباد الله! اتقوا الله تعالى، واعلموا أن من أعطي حظه من الرفق واللين فقد أعطي حظه من خيري الدنيا والآخرة، ومن حُرِمَ الرفق فقد حُرم حظه من الخير، نعوذ بالله تعالى من ذلك، ويجب على العبد المسلم أن يقتدي بالنبي ﷺ‬ في رفقه ولينه، لقول الله تعالى: â لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ á.

    هذا وصلوا على خير خلق الله نبينا محمد بن عبد الله كما أمركم الله تعالى بذلك فقال: â إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا á([18]) ، وقال النبي ﷺ‬ : «مَن صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً»([19]) ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وارضَ اللهم عن أصحابه: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعَنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا، وجميع ولاة أمر المسلمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لأمواتنا وأموات المسلمين، وأعذهم من عذاب القبر وعذاب النار، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقى، والعفاف والغنى، اللهم اهدنا وسددنا، â رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ á([20]) ،
    عباد الله! â إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
    لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ á([21])، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، â وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ á([22]).

    ([1]) أخرجه أحمد 6/159، وإسناده صحيح؛ انظر الأحاديث الصحيحة للألباني برقم 519.

    ([2]) انظر: شرح النووي على مسلم 16/145، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/449، وتحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 6/154.

    ([3]) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم 3/1458، برقم 1828.

    ([4]) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/1358، برقم 1732 .

    ([5]) أخرجه أحمد في المسند 6/71، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث صحيح من رواية عائشة رضي الله عنها 3/219 برقم 1219.

    ([6]) البخاري مع الفتح في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع 8/62، برقم 4344، و2345، ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/1359، واللفظ له، برقم 1733.

    ([7]) البخاري مع الفتح في كتاب العلم، باب ما كان النبي ﷺ‬ يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا 1/163، برقم 69، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/1359، برقم 1732 .

    ([8]) انظر: شرح النووي على مسلم 12/41، وفتح الباري 1/163.

    ([9]) انظر: فتح الباري 1/162، 163.

    ([10]) انظر: شرح النووي على مسلم 12/213.

    ([11]) أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي أمامة t 5/256، 257، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح 1/129، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 370 ج1.

    ([12]) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله 10/449، برقم 6024 .

    ([13]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، عن عائشة رضي الله عنها 4/2004، برقم 2593 .

    ([14]) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقاً 4/2004، عن عائشة رضي الله عنها أيضاً، برقم 2594 .

    ([15]) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقاً عن جرير بن عبد الله t 4/2003، برقم 2592 .

    ([16]) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الرفق 4/367، برقم 2013، وقال حديث حسن صحيح، وانظر: صحيح الترمذي 2/195.

    ([17]) أخرجه أحمد في المسند 6/451، انظر: الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 876، فقد ذكر لـه شواهد كثيرة.

    ([18]) سورة الأحزاب، الآية: 56 .

    ([19]) مسلم، برقم 384 .

    ([20]) سورة البقرة، الآية : 202 .

    ([21]) سورة النحل : الآية : 90 .

    ([22]) سورة العنكبوت: الآية : 45.