×
كتاب لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد وهو عبارة عن قراءة موجزة لكتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبدالرازق وذلك من خلال ما يلي: - بداية ظهور العلمانية في بلاد الإسلام. - ظهور كتاب (الإسلام وأصول الحكم). - آثار كتاب (الإسلام وأصول الحكم). - تطابقه مع كتاب: (الإسلام وسلطة الأمة). - المعارضة لكتاب (الإسلام وأصول الحكم). - محاكمة علي عبدالرازق في الأزهر. - إشكالات في نسبة الكتاب لمؤلفه، وقناعته به. - إشكالات منهجية في كتاب (الإسلام وأصول الحكم).

 قراءة في كتاب (الإسلام وأصول الحكم)

 مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد

فإن كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبدالرازق من الكتب التي وقع حولها جدل كبير منذ أن صَدر عام 1343هـ إلى يومنا هذا.

وفيما يلي قراءة موجزة للكتاب المذكور، وذلك من خلال ما يلي:

_ بداية ظهور العلمانية في بلاد الإسلام.

_ ظهور كتاب (الإسلام وأصول الحكم).

_ آثار كتاب (الإسلام وأصول الحكم).

_ تطابقه مع كتاب: (الإسلام وسلطة الأمة).

_ المعارضة لكتاب (الإسلام وأصول الحكم).

_ محاكمة علي عبدالرازق في الأزهر.

_ إشكالات في نسبة الكتاب لمؤلفه، وقناعته به.

_ إشكالات منهجية في كتاب (الإسلام وأصول الحكم).

فإلى بيان ذلك، والله المستعان، وعليه التكلان.

محمد بن إبراهيم الحمد

[email protected]

          @M__ALHAMAD       

_

 بداية ظهور العلمانية في بلاد الإسلام

لا تكاد تعثر في الأزمنة الماضية على مسلم يشن الحرب على الإسلام، ويتنكر له خصوصاً في مجال النظام السياسي.

بل إن زمن هذه الحرب حديث جداً لا يزيد على قرنين من الزمان؛ فقد بدأ مع بداية انتشار الفكر العلماني الذي دعت إليه الثورة الفرنسية عام 1789م.

ومن ذلك الحين، وبفعل مجموعة من الأسباب( ) _ بدأ ذلك الفكر يسري إلى بلاد المسلمين، وبدأ التوجه العلماني اللاديني في بعض الدوائر يؤتي ثماره، وينتج نتائجه في العديد من مجالات الحياة، ويمهد لقيام العلمانية.

ولقد كانت تظهر بعض المقولات، أو الفقرات في كتابات بعض الناس؛ لتعلن عن الفكرة العلمانية، غير أنها كانت فقرات قصيرة متداخلة مع كلام كثير قد لا يفطن لها الكثيرون؛ بحيث يمرون عليها دون أن يلقوا لها بالاً.

بل ربما عدوها من سقطات الكُتَّاب دون أن يتبين لهم ما وراءها( ).

وظل الحال على هذا المنوال حيناً من الدهر حتى أفصحت العلمانية _في المجال السياسي_ عن نفسها إفصاحاً كاملاً، وذلك على المستويين العملي، والنظري.

أما المستوى العملي فكان على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة الإسلامية في تركيا، وفصل تركيا عن باقي أجزاء الدولة العثمانية، فحطم بذلك الدولة الإسلامية العظيمة، وأعلن العلمانية الإلحادية، وأشاع أن الدين علاقة قلبية بين العبد وربه.

وتبعاً لذلك ألغى الأوقاف، والمحاكم الشرعية، وفرض القوانين الوضعية المدنية السويسرية، وألغى استعمال التاريخ الهجري، واستبدل به التاريخ الميلادي إلى غير ذلك مما تولى به كبره، وطمس من خلاله هُوية الأمة( ).

أما المستوى النظري العلمي فيتمثل فيما قامت به العلمانية من تقديم فكرتها، أو نظريتها السياسية في عزل الدين عن الدولة، وذلك في أول كتابة من نوعها في ديار المسلمين على يدِ قاضٍ شرعي، وشيخ أزهري وهو علي عبدالرازق( ).

عقب إلغاء مصطفى كمال للخلافة سنة 1343هـ، وفيما كان الرأي العام في العالم الإسلامي مأخوذاً بهول الصدمة _ ظهر الشيخ علي عبدالرازق بهذه الفكرة الغريبة المريبة التي كان لها الأثر في تخفيف وطأة ما فعله أتاتورك على مشاعر المسلمين، وذلك في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ( ).

ذلك الكتاب الذي ألفه وهو قاضٍ في محكمة الاستئناف بالمنصورة، وذلك عام 1343، وجاء في طبعته الأولى في مائة وثلاث صفحات، واشتمل على ثلاثة كتب، وتسعة أبواب، ودار حول موضوع الخلافة في الإسلام، وعلاقة الدين بأسلوب الحكم في العالم الإسلامي، وما ينبغي أن يكون عليه في العصر الحديث.

وقد جمع الشيخ علي في كتابه المذكور بين أسلوب المستشرقين في تحوير الفكرة، واقتطاع النصوص، وتلفيق الواهيات، وبين طريقة الباطنية في التأويل البعيد.

 ظهور كتاب الإسلام وأصول الحكم

وعَمَد إلى مغالطات عجيبة، ومجازفات غريبة؛ ليدلل على أن الإسلام كالمسيحية المحرفة علاقة روحية بين العبد والرب، ولا صلة لها بواقع الحياة، وأن نظام الخلافة لا يمت إلى الإسلام بصلة، وأن القرآن الكريم والسنة النبوية لم ينصا على ذلك، وأن نظام الخلافة في هذا العهد غير ضروري لقيام حكومات إسلامية( ).

ولقد كان لهذا الكتاب ما كان من الآثار البعيدة؛ فقد ترجم إلى اللغات الأجنبية، وأصبح مرجعاً معتمداً للدراسات الإسلامية هناك، وقام بتقريظه والثناء عليه جُلُّ المهتمين بهذه الدراسات في الغرب، وظهرت آثاره في كتاباتهم، وهلل له سماسرة الاستعمار من الكتاب والصحفيين، وعدوا مؤلِّفه عالماً متحرراً متنوراً، ووضعه بعضهم على رأس مرحلة فكرية عصرية.

بل إن بعض الأحزاب السياسية وجدت فيه ضالتها المنشودة؛ فلم تعد تتحرج من إعلان انتمائها للاتجاهات السياسية اللادينية شرقيها وغربيها، وبراءتها من الدين والمتدينين( ).

وقد قابلت الدوائر الاستعمارية والمراكز التبشيرية المسيحية كتاب علي عبدالرازق بالترحيب والتصفيق _كما مرت الإشارة_ وذلك لخشيتها من كل فكرة ترمي إلى تكتل العالم الإسلامي، وارتياحها إلى نشر مثل هذه الآراء التي ضمنها علي عبدالرازق كتابه، تلك الآراء التي تخدم أهداف الاستعمار، وتحقق آماله في السيطرة على الشعوب الإسلامية، وإذلالها إلى الأبد.

وقد تُرجم الكتاب إلى الإنجليزية، وعُدَّ أحدَ المراجع الأساسية لعلم الاجتماع الإسلامي في دراسة الجامعات الأمريكية على الخصوص للإسلام وتعاليمه( ).

وقد كشف المؤلف عن خبيئة نفسه في حديثه مع مراسل صحيفة (البورص إجبسيان) حينما سأله هذا المراسل:

_ هل يمكن أن نعتبرك زعيماً للمدرسة؟

فأجاب: =لست أعرف ماذا تعني بالمدرسة؟ فإن كنت تريد بهذا أن لي أنصاراً؛ يسرني أن أصرح لك أن الكثيرين يرون رأيي، لا في مصر وحدها، بل في العالم الإسلامي بأسره.

وقد وصلتني رسائل التأييد من جميع أقطار العالم التي نفذ إليها الإسلام.

ولا ريب أني _رغم الحكم_( ) لا أزال مستمراً في آرائي وفي نشرها؛ لأن الحكم لا يُعَدِّل طريقة تفكيري.

وسأسعى إلى ذلك بكل الوسائل الممكنة كتأليف كتب جديدة، ومقالات في الصحف، ومحاضرات، وأحاديث+.

وبرغم ما في هجمة أتاتورك وجنايته على الإسلام من الضراوة والقسوة والشراسة _ فإن جناية علي عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) أشدُّ وأخطر؛ ذلك أن صنيع أتاتورك رِدَّةٌ صريحة، وخروج على الإسلام بقوة السلطان؛ فلا يكون لها أثر إلا بقدر بقاء القوة.

أما صنيع علي عبدالرازق فقد كان محاولة للتغيير في أصول الإسلام، ومسلماته.

وهذا _بلا ريب_ يفعل فعله، ويمتد أثره؛ ليصبح هو التفسير لعلاقة الإسلام بالسياسة والحكم.

وحينئذ توصد الأبواب _لو قُدِّر لهذه المحاولة أن تنجح_ في وجه الإسلام، ويُحال بينه وبين القيادة والتوجيه لحياة الأمة المسلمة.

لقد كان كتاب (الإسلام وأصول الحكم) أول كتاب يقدمه _بهذه الصورة_ رجل ينتمي إلى الإسلام، بل إلى العلم والقضاء معلناً عن نفسه بلا مواربة، مقدِّماً فيه الفكر العلماني في جرأة لا تعرف الحياء، ولا الخجل.

ولم تكن كتابته مجرد فقرة قصيرة أو طويلة، بل ولم تكن مجرد مقال طويل يُنشر في إحدى الصحف.

وإنما كان كتاباً كاملاً يعرض منهجاً كلياً في معرفة الإسلام، وعلاقته بالحكم( ).

مما يحسن التنبيه عليه أن الحكومة الكمالية حين ألغت الخلافة العثمانية سنة 1924م _ أصدر المجلس الوطني التركي رسالة شرح فيها وجهة نظره في إلغاء الخلافة.

إلا أن الرأي العام في العالم الإسلامي لم يقابل هذا العمل بالارتياح، بل أخذ بعض مفكري وعلماء الإسلام يتطارحون الرأي في إقامة الخلافة الإسلامية.

أما الرسالة التي أصدرها المجلس التركي فقد كانت بعنوان (الإسلام وسلطة الأمة) أو (الخلافة وسلطة الأمة).

وقد تُرجمت إلى العربية، وطُبعت بمطبعة المقتطف بمصر سنة 1924م( ).

وبعد صدور هذا الكتاب سنة 1925م أصدر علي عبدالرازق كتابه المذكور، وكان حينئذ قاضياً بمحكمة المنصورة الشرعية الابتدائية.

ويُلاحظ أن بين اسمي الكتاب ومضمونهما تشابهاً، إلا أن الكتاب الأول لم يبلغ ما بلغه كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من القدح في علاقة الإسلام بالسياسة.

بل إن علي عبدالرازق نَفْسَهُ أفصح عن إعجابه بتلك الرسالة في كتابه المذكور، وذلك في الباب الأول الذي دار حول الخلافة وطبيعتها؛ حيث قال في معرض حديث له عن استمداد الخليفة ولايته: أهي من الله؟ أم من الأمة؟ قال منوهاً بكتاب (الخلافة وسلطة الأمة): =ومِنْ أَوْفى ما وجدنا في بيان هذا المذهب( )، والانتصار له _ رسالة (الخلافة وسلطة الأمة) التي نشرتها حكومة المجلس الكبير الوطني بأنقرة، ونقلها من التركية إلى العربية عبدالغني سنى بك، وطبعها بمطبعة الهلال بمصر سنة 1342هـ _ 1924م( ).

 تطابقه مع كتاب: (الإسلام وسلطة الأمة)

ومما يوضح الشبه بين الكتابين أنه قد جاء في كتاب (الإسلام وسلطة الأمة) ما نصه: =إن هذه المسألة _الخلافة_ مسألة دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية، وإنها من مصلحة الأمة نفسها مباشرة، ولم يرد بيان صريح في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبوية في كيفية نصب الخليفة وتعيينه، وشروط الخلافة ما هي...+ ( ).

وقال علي عبدالرازق ما نصه: =إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين [مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ] الأنعام: 38 ثم لا تجد فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة، أو الخلافة.

إن في ذلك لمجالاً للمقال! ليس القرآن وحده الذي أهمل تلك الخلافة، ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن _أيضاً_ وقد تَرَكَتْهَا، ولم تتعرض لها+( ).

وجاء في رسالة المجلس الوطني التركي ما نصه: =إن الفرقة المسماة بالخارجية تنكر وجوب الخلافة، وتقول إن أمر نصب الخليفة وتعيينه ليس واجباً على الأمة الإسلامية، بل هو جائز، ووجوده وعدم وجوده سيان+( ).

ويقول علي عبدالرازق ما نصه: =فكيف وقد قالت الخوارج: لا يجب نصب الإمام أصلاً، وكذلك قال الأصم من المعتزلة، وقال غيرهم _أيضاً_ كما سبقت الإشارة إليه؟.

وحسبنا في هذا المقام نقضاً لدعوى الإجماع أن يثبت عندنا خلاف الأصم والخوارج وغيرهم، وإن قال ابن خلدون: إنهم شواذ+( ).

وهكذا ردد علي عبدالرازق في كتابه ما جاء في رسالة المجلس الوطني التركي، وزاد عليها شيئاً من فساد الفهم، وبعد التأويل، وكثرة المغالطات، وسوء الأدب في حق النبي " وحق كبار الصحابة، ونحو ذلك مما سيرد بيانه لاحقاً.

والغريب في الأمر أنه لم يكن من بين هذه الآراءِ حضٌّ على مكافحة الاستعمار، والجهاد في سبيل الاستقلال والحرية.

سواء كان الكتاب المنسوب لعلي عبدالرازق من تأليفه هو _كما هو مدون على غلاف الكتاب_ أو كان من تأليف بعض المستشرقين كما يذهب إلى ذلك آخرون( ) _ فإن الذي يعني هنا أن يقال: إن العلمانية أعلنت الحرب بغير مواربة على النظام السياسي الإسلامي، وبدأت جولتها معه، التي ربما خُيِّل لأتباعها أنها الجولة الأولى والأخيرة.

 المعارضة لكتاب: (الإسلام وأصول الحكم)

لقد كان صدور ذلك الكتاب الذي يعني عند مؤلفه ومن يشايعه إسقاط الحكم بما أنزل الله _ عام 1925م، أي بعد عام واحد من إسقاط الخلافة والقضاء عليها واقعياً من قِبَلِ أتاتورك وأتباعه.

يقول الأستاذ الدكتور السيد تقي الدين في تقديمه لكتاب (رد هيئة كبار العلماء على كتاب: الإسلام وأصول الحكم): =ولم يكد يظهر الكتاب في أول إبريل سنة 1925م، ويطلع عليه بعض العلماء والقراء حتى لقي معارضة عنيفة؛ لِتَعارُضِهِ الصارخ مع الثوابت الإسلامية من جانب، وتطابقه كل المطابقة مع أهداف الإنجليزِ، والسياسةِ الاستعمارية في العالم الإسلامي من جانب آخر؛ فالإنجليز كانوا يريدون هدم الخلافة والقضاء على كل فكرة من أجل التجمع من جديد حول الوحدة الإسلامية+( ).

ويضيف الأستاذ الدكتور السيد تقي الدين مشيراً إلى جانب من دوافع تأليف ذلك الكتاب، فيقول: =وهذا هو الغرض الأساسي من الكتاب كله؛ بدليل الدفاع المستميت لحزب الأحرار الدستوريين الذي ينتمي إليه الشيخ علي عبدالرازق وأسرته، وهو الحزب الذي انبثق عن حزب الأمة ربيب الاستعمار الإنجليزي، وذلك في مواجهة موجة الرفض العارمة التي شهدتها البلاد ضد الشيخ علي عبدالرازق وكتابه؛ حيث رمته الصحف الوطنية بالطيش في الرأي، والإلحاد في العقيدة، واندلعت المظاهرات منطلقة من الأزهر تعلن الاحتجاج، وتطالب بوقفة حاسمة؛ للدفاع عن الإسلام، والرد على هذه الدعوات الهدامة التي تعد خروجاً على الدين+( ).

وبصدور ذلك الكتاب بدأت وقائع الجولة الأولى لتلك المعركة، وظهرت الردود تلو الردود.

فقام بالرد عليه السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، وكذلك الشيخ محمد شاكر( ) وكيل الأزهر سابقاً، وكذلك الأستاذ أمين الرافعي.

وقد أفتى بعض كبار العلماء من أمثال الشيخ محمد شاكر، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ محمد بخيت، والسيد محمد رشيد رضا بِرِدَّةِ علي عبدالرازق مؤلف الكتاب المذكور.

كما ألف كبار العلماء كتباً في الرد عليه: فألَّف الشيخ محمد الخضر حسين (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) ( ) وألَّف الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية في وقته (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) كما ألَّف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كتاب (نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم).

عُقدت لعلي عبدالرازق محاكمة في الأزهر من قبل هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر، وعضوية أربعة وعشرين عالماً من كبار العلماء، وبحضور علي عبدالرازق نفسه، وقد تمت مواجهته بما هو منسوب إليه في كتابه، واستمعت المحكمة لدفاعه عن نفسه، ثم خلصت الهيئة إلى القرار التالي: =حكمنا _نحن شيخ الجامع الأزهر_ بإجماع أربعة وعشرين عالماً معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبدالرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من زمرة العلماء.

كما حكم مجلس تأديب القضاة الشرعيين بوزارة الحقانية _العدل_ بالإجماع بفصله من القضاء الشرعي+( ).

 محاكمة علي عبدالرازق في الأزهر

وفيما يلي شيء من التفصيل عن تلك المحاكمة التي جرت؛ فقد انعقدت هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبي الفضل الجيزاوي، شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت، صباح الأربعاء 22 المحرم سنة 1344هـ (12 أغسطس سنة 1925م) وكان عدد أعضائها أربعة وعشرين عالماً( )، وبعد مناقشة طويلة أصدرت الهيئة حكمها بإدانة المتهم، وإخراجه من زمرة العلماء.

ويترتب على الحكم المذكور: محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية، دينية كانت أو غير دينية.

أما حيثيات الحكم، فيمكن إيجازها فيما يلي:

1_ أن الشيخ علياً جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة, لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.

وقد ردت الهيئة على هذا الزعم الباطل بأن الدين الإسلامي هو إجماع المسلمين على ما جاء به النبي " من عقائد, وعبادات, ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة, وأن كتاب الله تعالى وسنة رسوله ", كلاهما مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا, وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.

وقالت الهيئة: وواضح من كلامه _المؤلف_ أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة, جاءت لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه فقط, وأن ما بين الناس من المعاملات الدنيوية وتدبير الشئون العامة فلا شأن للشريعة به, وليس من مقاصدها.

وهل في استطاعة الشيخ أن يَشْطُرَ الدين الإسلامي شطرين, ويلغي منه شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا, ويضرب بآيات الكتاب العزيز, وسنة رسول الله" عرض الحائط؟!( )

2_ ومن حيث إنه زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي " كان في سبيل الملك, لا في سبيل الدين, ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.

فقد قال: =... وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين, ولا يحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله+.

ثم قال: =... وإذا كان " قد لجأ إلى القوة والرهبة, فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين, وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك+.

على أنه لا يقف عند هذا الحد, بل كما جَوّّز أن يكون الجهاد في سبيل الملك, ومن الشئون الملكية _ جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم, ونحو ذلك في سبيل الملك _أيضاً_.

وجعل كل ذلك على هذا خارجاً عن حدود رسالة النبي" لم ينزل به وحي, ولم يأمر به الله _تعالى_.

والشيخ علي لا يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز, فضلاً عن صريح الأحاديث المعروفة, ولا يمنع أنه ينكر معلوماً من الدين بالضرورة.

وذكرت الهيئة الآيات الواردة في الجهاد في سبيل الله, والآيات الخاصة بالزكاة, وتنظيم الصدقات, وتقسيم الغنائم, وهي كثيرة( ).

3_ ومن حيث إنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي"كان موضع غموض, أو إبهام, أو اضطراب, أو نقص, وموجباً للحيرة.

وقد رضي لنفسه بعد ذلك مذهباً هو قوله: =إنما كانت ولاية محمد "على المؤمنين ولاية رسالة غير مشوبة بشيء من الحكم+.

وهذه هي الطريقة الخطيرة التي خرج إليها, وهي أنه جرد النبي"من الحكم.

وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم, فقد قال الله _تعالى_: [إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ] النساء: 105، ثم أوردت الهيئة آيات كثيرة تتضمن معنى الآية السابقة, وتنحو نحوها( ).

4_ ومن حيث إنه زعم أن مهمة النبي" كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ.

ولو صح هذا لكان رفضاً لجميع آيات الأحكام الكثيرة الواردة في القرآن الكريم، ومخالفاً _أيضاً_ لصريح السنة.

ثم أوردت الهيئة كثيراً من الأحاديث التي تهدم مزاعم المؤلف, وختمت ذلك بقولها: =فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد" إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان وإنه لم يكلف أن يأخذ الناس بما جاءهم به, ولا أن يحملهم عليه؟!+( ).

5_ ومن حيث إنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام, وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.

وقال: إنه يقف في ذلك في صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة, يعني بعض الخوارج والأصم؛ وهو دفاع لا يبرئه من أنه خرج على الإجماع المتواتر عند المسلمين، وحسبه في بدعته أنه في صف الخوارج, لا في صف جماهير المسلمين( ).

6_ ومن حيث إنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية, وقال: إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعاً عن الخلافة, فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.

وكلامه غير صحيح؛ فالقضاء ثابت بالدين على كل تقدير؛ تمسكاً بالأدلة الشرعية التي لا يستطاع نقضها( ).

7_ ومن حيث إنه زعم أن حكومة أبي بكر, والخلفاء الراشدين من بعده _رضي الله عنهم_ كانت لا دينية.

ودفاعُ الشيخ علي بأن الذي يقصده من أن زعامة أبي بكر لا دينية أنها لا تستند على وحي, ولا إلى رسالة _ مضحكٌ موقعٌ في الأسف؛ فإن أحداً لا يتوهم أن أبا بكر÷ كان نبياً يوحى إليه حتى يُعنى الشيخ علي بدفع هذا التوهم.

لقد بايع أبا بكر ÷ جماهير الصحابة من أنصار ومهاجرين على أنه القائم بأمر الدين في هذه الأمة بعد نبيها محمد".

وإن ما وصم به الشيخ علي أبا بكر÷ من أن حكومته لا دينية لم يُقْدِمْ على مثله أحد من المسلمين؛ فالله حسبه, ولكن الذي يطعن في مقام النبوة يسهل عليه كثيراً أن يطعن في مقام أبي بكر وإخوانه الخلفاء الراشدين _رضي الله عنهم أجمعين_( ).

هذه خلاصة الحيثيات التي بنت عليها هيئة كبار العلماء حكمها السالف الذكر( ).

وعلى كل حال فإن الكتاب لقي وما زال يلقي السخط والرد من أهل العلم والفضل.

بل إن علي عبدالرازق نفسه عندما عرض عليه قبل وفاته عام 1966م إعادة طبع الكتاب مرة أخرى _ رفض( )، كما أنه لم يحاول الرد على منتقديه وخصومه.

 إشكالات في نسبة الكتاب لمؤلفه، وقناعته به

مرت إشارات إلى التشكيك في نسبة كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبدالرازق، وفيما يلي مزيد بسط وإيضاح لنسبة الكتاب إليه، ومدى قناعته وتمسكه بالآراء التي أوردها فيه، خصوصاً في مسألة كون الإسلام كالمسيحية من جهة أنه علاقة روحية بين العبد وربه فحسب.

وسيتبين ذلك من خلال المواقف الثلاثة التالية، والفقرة التي تليهن:

الموقف الأول: هو ما أورده الدكتور مجاهد توفيق الجندي مؤرخ الأزهر، وعضو الجمعية العربية التاريخية العربية الإسلامية من أن كتاب (الإسلام وأصول الحكم) ليس من تأليف علي عبدالرازق، وإنما هو من تأليف طه حسين.

حيث ذكر ذلك الدكتور مجاهد عن الشيخ أحمد إدريس وكيل لجنة القبول بالأزهر، وذلك في المحاضرة التي ألقاها الدكتور مجاهد في (ملتقى الإمام محمد الخضر حسين) في مدينة (بسكرة) بالجزائر في ديسمبر 2007م.

وإليك نصَّ كلام الدكتور مجاهد بِطُوْلِهِ؛ حيث يقول في فقرة من فقرات محاضرته المذكورة _وعنوان تلك الفقرة: (معارك الشيخ محمد الخضر حسين الأدبية والفكرية)_ ما نصه: =ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الإسلامية سنة 1322هـ.

وقد أثار هذا القرار ضجة كبرى في العالم الإسـلامي؛ فعقدت المؤتمرات، وكتبت المقالات المعارضـة للتشـهير بهذا الإلغاء الذي يتعارض مع أهـل السـنّة والجماعة.

وقد كان الملك فؤاد × ملكُ مصر من أكبر المعارضين لهذا القرار؛ لأنه كان يسعى لتولِّي خلافة المسلمين؛ لما في ذلك من مكاسب مادية وأدبية وسياسية.

وقام أنصار الملك فؤاد بترويج هذه الفكرة بوسائل عديدة، وفي خضم هذا الخلاف الشديد بين المناوئين للملك فؤاد، والموافقين له، والمدافعين عن هذه الفكرة _ أصـدر الشـيخ علي عبد الرازق أحـدُ علماء الأزهر كتابـة (الإسلام وأصول الحكم) سنة 1925م.

في الحقيقة: أن الشيخ علي عبد الرازق ×، وهو من بيت علم قديم في قرية أبو جرج التابعة لمحافظة المنيا في مصر، وهذا الرجل قد وهبه أبوه مع ثلاثة من إخوته للأزهر الشريف، وهو من بيت أثرياء، بيتهم مفتوح لعابري السبيل، ولا يذهب أي قاصد لصدقة أو لطلبة فيرجع خائباً+( ).

ويردف الدكتور توفيق قائلاً: في حديث لي مع المرحوم الشيخ أحمد إدريس وكيلِ لجنة الفتوى بالأزهر، عندما قلت له: عندنا ندوة غداً، أو بعد غد في المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة مرور سبعين سنة على كتاب (في الشعر الجاهلي) ( ) وتحدثنا بشأن كتاب (الإسلام وأصول الحكم) قال: يا بني! هذا الكتاب ليس للشيخ علي عبد الرازق، ولكنه لطه حسين، أضافه إليه؛ ليأخذ به شهرة.

وكان بينه وبين طه حسين علاقةٌ ما من النسب أو القرابة؛ فخجل الرجل، كان رجلاً طيباً جداً، لم يشأ أن يُحرج طه حسين، برغم أن هيئة كبار العلماء اجتمعت، ومحت اسمه من سجلات الأزهر، وأخرجته من زمرتها.

قلت للشـيخ أحمد إدريـس: ما الذي عَرَّفك؟ قال: كنت واعظاً لهذا المركز في محافظة المنيا _مركز يتبع بني مزار_ وبني مزار بلدة بها العديد من الصحابة، صحابة رسول الله الذين استشهدوا بالمعارك، الذين صاحبوا عمرو بن العاص في الفتوحات الإسلامية.

بلدة أبو جرج هذه بلدة علي عبد الرازق، وآلُ عبد الرازق بيت كريم، الشيخ أحمد إدريس ذهب إلى هذا البيت، وكان واعظاً للمركز، ذهب ليتغذى هناك، وليبيت.

وعندما انتصف الليل وأراد الرجل أن يذهب إلى الحمام، وجد الشيخ علي عبدالرازق يبكي، والدموع تُبلل لحيته في جوف الليل، يُصلّي في جوف الليل والناسُ نيام، والدموع تبلل لحيته، قال له: يا مولانا! ولماذا كتبت هذا الكتاب؟ قال: يا ابني! هذا الكتاب _ والله _ ليـس لي، ولكنه لطه حسـين، أضافه إليَّ؛ لشيء من القرابة، أو شيء من المصاهرة، لآخذ به شهرة، وهذا الكتاب ليس لي.

قال: لماذا لم تتبرأ من هذا الكتاب؟ قال: ما أردت أن أُحرج طه حسين، وتحمَّل الرجلُ ما حدث له، وأنا اليوم سـعيد.

هذا ما أؤكد عليه بخصوص كتاب (الإسلام وأصول الحكم)+ ( ).

ويواصل الدكتور مجاهد توفيق كلامه، فيقول: =في ندوة طه حسين في المجلس الأعلى للثقافة قمت بمداخلة، وقلت هذا الكلام، فغضب عليَّ الدكتور جابر عصفور، وهو من العلْمانيين المعروفين في مصر.

ولكن هو لا يعرف الحقائق، وعندما قلت هذا الكلام قام وثار وغضب، وقال: هذا الكلام غير صحيح؛ لأنه لو كان صحيحاً لوقف في وجه هيئة كبار العلماء الذين أخرجوه من زمرتهم.

فقلت: اذهبوا إلى الشيخ أحمد إدريس، والصحفيون تجمعوا حولي؛ لأن هذا الكلام جديد بعد مرور أكثر من سبعين سنة على هذا الكتاب.

وذهبوا إلى الشيخ أحمد إدريس، وأكد لهم ما قلته، ونشر ذلك في الصحف.

هذا بخصوص (الإسلام وأصول الحكم) وقد عارضه مولانا وشيخنا الجليل الشيخ الخضر حسين، عارض هذا الكتاب، فأُعجب به الملك فؤاد؛ لأنه كان يريد أن يكون خليفة للمسلمين.

كتاب (الإسلام وأصول الحكم) يقول فيه طه حسين؛ لأنه ليس لعلي عبدالرازق، يقول: إن الحكومات الحديثة لا تحتاج إلى الخلافة، والخلافة ليسـت ضـرورية، وليسـت من الديـن، هذا كـلام طه حسـين، وهو كـلام المستشرقين+( ).

فهذا خلاصة ما أورده الدكتور مجاهد توفيق.

الموقف الثاني: وهو ما أورده الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه (من أعلام العصر) وذلك في ترجمته للشيخ علي عبدالرازق؛ حيث تكلم على شيء من سيرته، وصفاته، ولقائه به بعد أن طلب الشيخ علي مقابلته، بعد قراءته لكتاب البيومي (الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير).

يقول الدكتور البيومي: =قابلني الرجل الكريم بهدوءٍ باسم، وفهمتُ من حديثه أنه قرأ كتابي من ألفه إلى يائه، وقد سأل عن نقاط شتى، فأجبته عنها كما أستطيع، وكان الحديث يتجه في أكثره وجهة الأدب الخالص، فرأيتُ أن أعدل به إلى مباحث التشريع، فقلت: لقد وقع في يدي كتاب (الإجماع) وقرأتُه باهتمام، ثم علمت أن الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت قد عَقَّب عليه، فناقش أموراً جوهرية، تتعلق بمباحثه، واختلافُ الأساتذة الكبار متوقع منتظر؛ فهل قرأتَ

ما كتب الأستاذ شلتوت؟.

فقال الأستاذ: إن الشيخ محمود شلتوت من أعز أصدقائي، وترجع معرفتي به إلى أكثر من ثلاثين عاماً وله رأيُه الحر، وقد ناقش آرائي بدون أن يشير إلى اسمي، وكأنه رأى أن تكون الموضوعية وحدها منهجاً يُلْتَزَم، وقد قابلتُه بعد ظهور كتابه عدة مرات في جلسات مجمع اللغة العربية، وتحدثنا في مسائل كثيرة، ولكنه لم يشر إلى شيء مما كتب في حديثه معي؛ فآثرت ألا أفاتحه حتى يبدأ، وقد حمدتُ له سلوكه العلمي؛ لأنه احترم الرأي المعارض، وناقشه في حدود الأدب واللياقة.

ولو سلك المعارضون معي مسلك الأستاذ شلتوت لما صادفتُ كثيراً من العقبات+( ).

ثم يعلق الدكتور البيومي على هذا الكلام، فيقول: =أدركت من حديث الأستاذ، أنه يشير إلى المعركة الكبرى حول كتابه (الإسلام وأصول الحكم) إذ رأى الأستاذ رأياً لم يُوفّق في تحقيقه؛ فقابله الجمهور بصخب مائج، واندفع بعض الكتاب إلى مهاجمةٍ تتعلق بشخص الكاتب لا رأيه، فقلتُ في أدب: إن ما ذهب إليه كتابُك عن الإسلام وأصول الحكم حين قررتَ أن الإسلام صلةٌ روحية بين العبد وربه، وليس دستورَ معاملة وتشريع كان من الخطورة بحيث لا يجوز السكوت عنه!

قلتُ هذا وأنا أخشى أن أُغْضِبَ الأستاذ؟ وقد قابلني مقابلة كريمة، ولكنه سأل في هدوء: أتقولُ: إني قلت إن الإسلام صلة روحية فقط؟ لم أقل هذا، وقد أوضحتُ مقصدي في مقالٍ صريح نشرته بمجلة (رسالة الإسلام) التي كانت تصدرها جماعة التقريب، رداً على الأستاذ الدكتور أحمد أمين حين قال إن هذه هي فكرتي!+( ).

ثم يعلق الدكتور البيومي على قول الشيخ علي، قائلاً: =كان ما قاله الأستاذ لي مفاجأة لي!

فأنا أعرف أنه قرر أن الإسلام صلة روحية فقط، وما قامت الفرقعة الصاخبة إلا من جراء هذا القول، وأن الذين عارضوه في كتب مستقلة من أمثال الشيخ محمد بخيت المطيعي، ومحمد الخضر حسين، ومحمد الطاهر عاشور _ قد وجهوا الهدفَ إلى إبطال هذا الزعم؛ فهل يكون الأستاذ قد رجع عن موقفه بعد سنوات راجع فيها نفسه، وقرأ ما كتب معارضوه بإمعان؛ فصحح الرأي، وعاد إلى الصواب؟!

لقد صَمَّمْتُ أن أراجع مقال الأستاذ، وارتحتُ كثيراً لهذا النبأ الجديد.

وانتقلَ الحديث إلى شجون أخرى ألـْمَمْنا فيها بمؤلفاتِ شقيقه الأستاذ الأكبر مصطفى عبدالرازق، وصداقاته المختلفة لكبار المفكرين والشعراء في هذا العصر، ثم ذكّرتُ الأستاذ بمحاضرة جيدة ألقاها عن التجديد في البلاغة العربية، ونشرها بمجلة (الهلال) فَراعَني أن أجدَه نسيَها كل النسيان، وقد طلبَ مني أن أحضر مجلة (الهلال) التي أشرت إليها؛ ليرى ما قال+( ).

ثم يقول البيومي في فقرة من تلك الترجمة عنوانها (تحقيق ودراسة) وأراد منها أن يقف على حقيقة الأمر الذي دار بينه وبين الشيخ علي بخصوص مسألة الحكم في الإسلام، يقول البيومي: =اتجهت من فوري إلى البحث عن أعداد مجلة (رسالة الإسلام) وكانت مَهمّةً صعبة؛ لأن الأعداد كثيرة، والرجل لم يحدد تاريخ الصدور فيريح الباحث؛ إذ لا يذكره، ثم كان من توفيق الله أن وجدتُ ما أريد في عددين متلاحقين (هما العدد الثاني والعدد الثالث من السنة الثالثة) أبريل 1951، ويوليو سنة 1951؛ لأن المجلة فصلية تصدر كل ثلاثة أشهر، وفي العدد الثاني (ص146) وجدتُ مقالاً للدكتور أحمد أمين تحت عنوان (الاجتهاد في نظر الإسلام) يقول في مطلعه: (كنت أتجادل في الشهر الماضي مع معالي الأستاذ علي عبدالرازق باشا، وكنا نتعرضُ حال المسلمين وما وصلوا إليه من جمود، فقال: (إن دواءَ ذلك أن نرجعَ إلى ما نشرتُه قديماً من أن رسالة الإسلام روحانية فقط، ولنا الحق فيما عدا ذلك من مسائل ومشاكل).

فقلت: (إن رأيي أن رسالة الإسلام أوسع من ذلك؛ فهي روحانيةٌ ومادية معاً، بدليل ما ورد في القرآن من نظام البيع والشراء، والإجارة، والمعاملات المالية، ومسائل الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونحو ذلك).

ثم صدرَ العدد الثالث يحملُ مقالاً تحت عنوان (الاجتهاد في نظر الإسلام ص246) بقلم الأستاذ علي عبدالرازق باشا، قال فيه بعد أن نقل عبارة الدكتور أحمد أمين: (وقفتْ أمام ناظري كلمةُ رسالة الإسلام روحانية فقط، ولم تشأْ أن تمر من غير أن تثير ذكرى قصة قديمة لهذه الكلمة معي؛ فقد زعم الطاعنون الذين جعلوا في قلوبهم الحميّة يومئذ أنني في ذلك البحث قد جعلت الشريعة الإسلامية شريعةً روحانية محضة، ورتّبوا على ذلك ما طوّعت لهم أنفسهم أن يفعلوا.

أما أنا فقد رددتُ ذلك عليهم، وقلتُ لهم يومئذ صادقاً ومخلصاً: إنني لم أقلْ ذلك لا في هذا الكتاب ولا في غيره.

وأسوق هذا الحديث؛ ليذكرَ الأستاذ الكاتب الكبير( ) أن فكرة روحانية الإسلام لم تكن لي رأياً يوم نشرتُ البحث المشار إليه، وأني رفضت يومئذ رفضاً باتاً أن يكون ذلك رأيي؛ فما ينبغي أن أعودَ اليوم فأقول إنني أدعو إلى أن نرجع إلى ما نشرتُه قديماً من أن رسالة الإسلام روحانية فقط)+( ).

ثم يقول الدكتور البيومي معلقاً على الكلام السابق: =هذا ما قاله الأستاذ رداً على الدكتور أحمد أمين، وهو مما أثار دهشتي؛ لأني أعرف أنه قال هذا الكلام بمضمونه إن لم يكن بلفظه، ولو كان ينكر كلمة (روحانية) فإن مادتها صريحة في كتابه؛ حيث يقول (ص69 _ الطبعة الأولى): (ولاية الرسول على قومه ولايةٌ روحية منشؤها إيمان القلب، وخضوعُه خضوعاً تاماً يتبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولايةٌ مادية تعتمد على إخضاع الجسم من غير أن يكون له بالقلوب اتصال، تلك ولاية هداية إلى الله، وإرشادٍ إليه، وهذه ولايةُ تدبيرٍ لصالح الحياة وعمار الأرض، تلك للدين، وهذه للدنيا، تلك لله، وهذه للناس، تلك زعامةٌ دينية، وهذه زعامةٌ سياسية، ويا بُعدما بين السياسة والدين).

ثم يقول الأستاذ علي عبدالرازق (ص78 من الطبعة الأولى): (والدنيا من أولها إلى آخرها، وجميع ما فيها من أغراضٍ وغاياتٍ أهون على الله من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركّب فينا من عقول، وحبانا من عواطف وشهوات، وعلَّمنا من أسماء ومسميات، هي أهونُ على الله من أن يبعث لها رسولاً، وأهونُ عند رسل الله من أن يشتغلوا بها وينصبوا لتدبيرها)+( ).

فهذا هو خلاصة ما دار بين الدكتور البيومي والشيخ علي عبدالرازق، ويلحظ فيه مدى اضطراب الشيخ علي في رأيه من أن رسالة الإسلام روحية، أو أنها شاملة.

الموقف الثالث: وهو ما ذكره الأستاذ أنور الجندي في كتابه: (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام).

حيث عقد× في ذلك الكتاب فصلاً قال فيه: (الفصل الخامس: كتاب الإسلام وأصول الحكم ليس من تأليف علي عبدالرازق بل من تأليف مرجليوث) ( ).

يقول الأستاذ الجندي بعد مقدمة قرر فيها أن الإسلام دين ودولة وليس ديناً روحياً فحسب: =ما ذهب إليه علي عبدالرازق عام 1925م لم يكن من الإسلام في شيء، ولم يكن علي عبدالرازق نفسه إماماً مجتهداً، وإنما كان قاضياً شرعياً تلقفته قوى التغريب، فاصطنعته تحت اسم (التجديد) ودعي علي عبدالرازق إلى لندن؛ لحضور حلقات الاستشراق التي تروِّج للأفكار المعارضة لحقيقة الإسلام، وهدم مقوماته.

وأُهدي هذا الكتاب الذي وضع عليه اسمه مترجماً إلى اللغة العربية، وطلب إليه أن يضيف إلى مادته بعض النصوص العربية التي يستطيع اقتباسها من كتب الأدب.

أما الكتاب نفسه فكان من تأليف قزم من أقزام الاستشراق، وداهية من رجال الصهيونية واليهودية العالمية، هو (مرجليوث) الذي تقضي الصدف أن يكون صاحب الأصل الذي نقل عنه طه حسين بحثه عن (الشعر الجاهلي) والذي أطلق عليه محمود محمد شاكر (حاشية طه حسين على بحث مرجليوث) ويمكن أن نطلق الآن اسم (حاشية علي عبدالرازق على بحث مرجليوث)+ ( ).

ويقرر بعد ذلك أن =قوى التغريب لا تزال تعيد نشره وطبعه مع مقدمات ضافية يكتبها كتاب مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم، وهم يجدون في هذه الفترة التي يرتفع فيها صوت تطبيق الشريعة الإسلامية، والدعوة إلى الوحدة الإسلامية _ مناسبة لنفث هذه السموم مرة أخرى.

ولن يجديهم ذلك نفعاً؛ فإن كلمة الحق سوف تعلو وتنتشر، وتدحض باطل المضللين مهما تجمَّعوا له، وقدَّموه في صفحات برَّاقة مزخرفة، وأساليب خداعة كاذبة+( ).

ويبين بعد ذلك أن =أول من كشف حقيقة الكتاب هو الشيخ (محمد بخيت) الذي ردَّ على الشيخ علي عبدالرازق في كتابه (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) وهو واحد من الكتب التي صدرت في الرد عليه حيث قال: (علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له منه لا وضع اسمه عليه فقط؛ فهو منسوب إليه فقط؛ ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحيةَ هذا العار، وألبسوه ثوب الخزي إلى يوم القيامة)+ ( ).

ثم يعقب الأستاذ الجندي على كلام الشيخ محمد بخيت قائلاً: =قد علق الشيخ علي عبدالرازق على هذا المعنى حين قال للماركسيين الذين اتصلوا به سنة 1964م لإعادة طبع كتابه أن هذا الكتاب كان شؤماً عليه، وقد ألصق به كثيراً من المتاعب والشبهات.

والحقيقة أنه بعد أن طرده الأزهريون من (هيئة العلماء) ظل منسياً ومهجوراً، وعاش بقية حياته منقطعاً عن الحياة العامة، بالرغم من أن محاولات جرت لإعادته إلى زمرة العلماء، وإلى مجمع اللغة؛ فقد كان أشبه باللعنة على حياته كلها+( ).

ويضيف الأستاذ الجندي قائلاً: =ومن هذا الخيط الرفيع بدأت محاولة الدكتور ضياء الدين الريس، فاستطاع أن يصل إلى الحقيقة بأن كاتب الكتاب في الحقيقة هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل شن الهجوم على الخلافة؛ لأن بلاده (بريطانيا) كانت في حرب مع تركيا، وقد أعلن الخليفة العثماني الجهاد الديني ضدها؛ فإنه يذكر بالاسم (السلطان محمد الخامس) الخليفة في ذلك الوقت الذي كان يسكن (قصر يلدز).

وهناك نص آخر عن (جماعة الاتحاد والترقي) وهي التي كانت تحكم تركيا _أي دولة الخلافة_ طوال أعوام الحرب العالمية الأولى.

ونقول: إن الاتحاديين تلاميذ الماسونيين، وقد تربوا في محافلهم، واعتنقوا شعارهم ومفاهيمهم، وقاموا بدور مسموم وهو فتح باب فلسطين أمام اليهود المهاجرين، وكان السلطان عبدالحميد قد رفض ذلك، وكانوا هم _أي الاتحاديون_ أداة الصهيونية العالمية في إسقاط هذا السلطان الشهيد+( ).

ويذكر الأستاذ الجندي بعد ذلك ترجيح الدكتور الريس في نسبة الكتاب إلى مرجليوث، فيقول: =ورجَّح الدكتور ضياء الدين الريس أن مرجليوث اليهودي الذي كان أستاذاً للغة الغربية في أكسفورد ببريطانيا هو كاتب الكتاب؛ لأن آراء الكتاب هي آراؤه التي كتبها من قبل عن الدولة الإسلامية، وفنَّدها الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه (النظريات السياسية في الإسلام) وأثبت خطأها وبطلانها بالأدلة العلمية.

وهو يكتب عن الإسلام بنزعة حقد شديد، ويتسم أسلوبه بالمغالطات والمعلومات المضللة، والقدرة على التمويه، كما يتصف بالالتواء.

وهذه الصفات كلها تظهر في هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ عبدالرازق، ومعروف أن الشيخ علي عبدالرازق ذهب إلى بريطانيا، وأقام فيها عامين؛ فلا بد أنه كان متصلاً بالمستر مرجليوث، أو تتلمذ عليه.

وكذلك توماس أرنولد الذي يشير إليه الشيخ، ويصفه بالعلامة قد ألف كتاباً عن الخلافة هاجم فيه الخلافة بوجه عام، والعثمانية بوجه خاص، وقد نقدناه (القول للدكتور الريس) في كتابنا (النظريات السياسية الإسلامية)+ ( ).

إلى أن يقول الأستاذ الجندي موضحاً تلك القصة: =والقصة تتلخص في أنه إبان الحرب العالمية الأولى والحروب دائرة بين الخليفة العثماني وبريطانيا أعلن الخليفة الجهاد الديني ضد بريطانيا، ودعا المسلمين أن يهبُّوا ليحاربوها، أو يقاوموها.

وكانت بريطانيا تخشى غضب المسلمين الهنود بالذات، أو ثورتهم عليها.

في هذه الفترة كلفت المخابرات البريطانية أحد المستشرقين الإنجليز أن يضع كتاباً يهاجم فيه الخلافة، وعلاقتها بالإسلام، ويشوِّه تاريخها؛ ليهدم وجودها، ومقامها، ونفوذها بين المسلمين، وقد استخدمت السلطات البريطانية هذا الكتاب في الهند وفي غيرها+( ).

إلى أن يقول: =وبعد أن انتهت الحرب كان الشيخ عبدالرازق قد اطلع على هذا الكتاب أو عثر عليه، هذا إن لم يفرض أن هذا كان باتفاق بينه وبين هذا المستشرق الذي اتصل به حينما كان في انجلترا، أو في بعض الجهات البريطانية التي كانت تعمل في الخفاء؛ للقضاء على فكرة الخلافة، أو التي تحارب الإسلام، فأخذ الكتاب إلى اللغة العربية، أو أصلح لغته إن كان بالعربية، وأضاف إليه بعض الأشعار أو الآيات القرآنية التي تبدو أنها لم تكن في أصل الكتاب، وبعض الهوامش والفقرات، وأخرجه للناس على أنه كتاب من تأليفه؛ ظناً منه أنه يكسبه شهرة، ويظهره باحثاً علمياً، ومتفلسفاً ذي نظريات جديدة، غير مدرك ما في آرائه أو في ثناياه من خطورة.

ولا يستغرب هذا؛ لأنه لم يدرك أن إنكار القضاء الشرعي هو إنكار لوظيفته نفسه وعمله، وإلغاء وجوده.

وكانت هذه هي البدعة السائدة في ذلك الوقت بين كتاب (السياسة) جريدة من أسموا أنفسهم (حزب الأحرار الدستوريين)+ ( ).

ويسوق الأستاذ الجندي قرائن على أن كتاب (الإسلام وأصول الحكم) ليس من تأليف علي عبدالرازق، ومن تلك القرائن ما يلي:

1. أن المؤلف يتحدث عن المسلمين كأنه أجنبي عنهم، وهم منفصلون عنه؛ فَيَذْكرهم بضمير الغائب، ولا يقول: عندنا، أو العرب، أو نحو ذلك، كما يقول المسلم عادة.

2. يكرر الشيخ علي عبارة: عيسى وقيصر مرتين، ويكرر الجملة التي يسميها الكلمة البالغة (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) مع أن أي مسلم صحيح الإسلام لا يمكن أن يؤمن بهذا التعبير، وأن قيصر،وما لقيصر لله رب العالمين.

3. يتعاطف مع المرتدين الذين خرجوا على الإسلام، وشنُّوا الحرب على المسلمين؛ فيدافع عنهم في الوقت الذي يَحْمِل فيه على رأي أبي بكر الصديق÷ المسلم الأول بعد رسول الله" فينكر خلافته، ويقول: إن محاربته لهؤلاء المرتدين لم تكن حرباً من أجل الدين، ولكن نزاعاً في ملوكية ملك، ولأنهم رفضوا أن ينضموا لوَحْدَة أبي بكر.

وما هي وحدة أبي بكر؟ أليست وَحْدة المسلمين؟!.

ويقول: (حكومة أبي بكر) أوليست حكومة الإسلام والمسلمين؟!.

ويتكلم على أبي بكر هكذا دون تبجيل أو احترام وكأنه رجل عادي، أو كما يتكلم عدو.

فهل هذا أسلوب المسلم فضلاً عن الشيخ في الكلام عن الصحابة، وعن أفضل الناس، وأحبّهم إلى رسول الله"، وخير من دافعوا عن الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله _عز وجل_.

4. أن الأسلوب الذي كتب به الكتاب أسلوب غريب، ليس مألوفاً في الكتب العربية؛ فهو أسلوب مناورات ومراوغة، ويتصف بالالتواء، واللف، والدوران؛ فهو يوجِّه الطعنة، أو يلقي بالشبهة، ثم يعود، فيتظاهر بأنه ينكرها، ولا يوافق عليها ويفلت منها، ثم ينتقل؛ ليقذف بشبهة أو طعنة أخرى على طريقة (اضرب واهرب) وحين يهاجم يصوغ عبارته في غموض.

وهذا يدل على أسلوب رجل سياسي متمرسٍ في المحاورة والمخادعة، وهو أشبه بالأسلوب الأفرنجي، وأسلوب الدعايات السياسية، أو الدينية التبشيرية، وليس هو أبداً الأسلوبَ العربيَّ الصريحَ، فضلاً عن أسلوب أحد الشيوخ المتعلمين في الأزهر، وهذا مما يغلب الرأي بأنه كتاب مترجم.

5. لم يُعْرفْ عن الشيخ علي عبدالرازق _من قبل_ أنه كان كاتباً تمرس في الكتابة، ومَرَن على التأليف، فيكتب بهذا الأسلوب، ويتعمد الطعن في الإسلام وتاريخه وعظماء رجاله.

ولم يُعْرف للشيخ كتاب أو مقالات من قبل هذا الكتاب (أي في السياسة والتاريخ) بل كل ما كتب من قبل كان (كتيباً) في اللغة أو في علم البيان.

وهذا كل إنتاجه في أربعة عشر عاماً بعد تخرجه من الأزهر.

ثم بعد أن كتب هذا الكتاب ظل أربعين عاماً لم يكتب كتاباً آخر في نفس موضوعه أو مثله، ولم يحاول أو لم يستطع حتى أن يدافع عن نفسه، ويرد على خصومه بكتاب آخر.

6. هناك من القرائن والأدلة العديدة ما يدعو العقل إلى أن يرجع صحة الخبر الذي رواه فضيلة المفتي الشيخ محمد بخيت نقلاً عن كثيرين من أصحاب الشيخ علي عبدالرازق المترددين عليه من أن مؤلف الكتاب شخص آخر من غير المسلمين، و قد غَلَّبَنا نحن أنه أحد المستشرقين، ولكننا نقيد هذا الخبر بأن الشيخ قد أضاف بعض فقرات وتعليقات، وأنه هو الذي أورد آياتٍ من القرآن، وأبياتاً من الشعر التي استشهد بها، كما كتب المقدمة التي زعم فيها أنه بدأ البحث في تاريخ القضاء منذ سنة 1915م؛ وذلك ليغطي المفارقة الظاهرة بين وضع الكتاب ووقت صدوره؛ فإنه من غير المعقول أن يستغرق تأليفُ كتيب لا يزيد عن مائة صفحةٍ عشرَ سنواتٍ.

ثامناً: كانت هناك أسباب ودوافع مختلفة دفعت الشيخ إلى إصدار هذا الكتاب، ولكن كان أقواها في نهاية الأمر حب الظهور، والرغبة في الشهرة، وأن يوصف بأنه باحث أو محقق أو مجدد، كما فعل غيره من قبل.

ونحن نعرف أن مسألة انتحال الكتب، أو عدم الأمانة في نسبة الأمور والمعلقات مسألة مألوفة في الشرق، ولا سيما في النقل من الكتب الأجنبية.

وفي مثل هذه المسائل بالذات فإن هذه الحال أسهل؛ لأن النقل أو الترجمة من كتيب مجهول، أو كانت المسألة بتصريح، أو اتفاق؛ لخدمة غرضين، فالطرف الأول يريد نشر آرائه؛ لغايات سياسية ودينية، والطرف الثاني له مأرب سياسي _أيضاً_ ولكن الدافع الذاتي أنه يريد الشهرة، أو الظهور، أو الغرور( ).

فهذه هي خلاصة القرائن التي يرى الأستاذ الجندي من خلالها أن الكتاب ليس من تأليف الشيخ علي عبدالرازق.

ويختم الأستاذ الجندي الكلام بقوله: =وهكذا تنكشف  تلك المؤامرة الخطيرة التي استغلها الاستشراق، وبعض التغريبيين خصوم الشريعة الإسلامية؛ للقول بأن هناك رأيين، بينما لا يوجد غير مفهوم واحد، هو أن الإسلام دين ومنهج حياة ونظام مجتمع، وأن هذا ما قال به علي عبدالرازق هو وجهة نظر الاستشراق الصهيوني التلمودي الهدَّام، وأنه ليس رأي أي مجتهد، أو عالم، أو إمام في الإسلام، وأن علي عبدالرازق لم يكن إلا مضللاً أو مخدوعاً+( ).

ويقول الأستاذ الجندي في موضع آخر من كتابه المذكور بعد أن تكلم على علي عبدالرازق ودوره في التغريب: =هذه صورة علي عبدالرازق صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم، الذي أحدث في الإسلام حدثاً لم يَقُلْ به أحدٌ من قبله، وهو أن الإسلام دين روحي، والتشكيك في دولة الإسلام التي أقامها النبي"، وأن دين محمد" كدين المسيح _عليه السلام_

لا رسالة له، ولا حكم، ولا دولة.

وقالوا: إن الكتاب إنما أريد به معارضة الملك فؤاد في سعيه نحو إقامة الخلافة في مصر بعد سقوطها في تركيا.

وهي قولة خادعة؛ فإن الكتاب استهدف ضرب مفهوم الإسلام القائم على أنه دين ودولة في الصميم+( ).

 إشكالات منهجية في كتاب (الإسلام وأصول الحكم(

ما مضى من إشكالات في نسبة الكتاب إلى الشيخ علي عبدالرازق، ومدى قناعته بالآراء التي أوردها فيه _ إنما هي بعض ما أثير حول ذلك الكتاب؛ إذ هناك إشكالات كثيرة غير ما ذكر، ومنها على سبيل المثال الإشكالات المنهجية التي تُسْتَغْرب من باحث يتبوأ مقعد القضاء، ويحمل شهادة الأزهر وما أدراك ما الأزهر في ذلك الوقت؛ من حيث القوة، والمنهجية.

ومع ذلك يقع الشيخ علي في خلط، وخلل كثير في المنهج.

ومن الأمثلة على ذلك _زيادة على ما مضى_ ما يلي:

1.      عزوه الأحاديث النبوية إلى كتب الأدب ككتاب (الكامل) للمبرد( )، و (العقد الفريد) لابن عبدربه الأندلسي( ).

ومعلوم أنها كتب أدب لا كتب حديث يُستند، ويرجع إليها في عزو الأحاديث.

وهذا ما نعاه عليه الشيخُ محمد الخضر حسين في معرض نقضه لكتاب (الإسلام وأصول الحكم) وذلك عندما عَقَّب على كلمة لعلي عبدالرازق يثني فيها على الأنظمة للحكومة الحديثة، وأن فيها من الضبط الشيء الكثير =مما لم يوجد منه شيء في أيام النبوة ولا أشار إليه النبي"+.( )

قال الشيخ الخضر معقباً: =إن القارئ ليبتسم لهذه الجملة عجباً، بل يتمزق لها قلبه أسفاً؛ فإن هذه المقالة إن صح أن تخرج من فَمِ عالمٍ فإنما تصدر من حافظ حجة خاض في علم السنّة، وعرف الصحيح والضعيف والموضوع، ونقد الأسانيد بقانون علمي مستقيم.

ولكن المؤلف لم يزل في طبقة من ينقلون الأحاديث من (الكامل) للمبرد وأصحاب هذه الطبقة لا يدخلون في حساب علماء الشـريعة، وإن وضعوا على رؤوسهم عمائم، وجلسوا مجلس الفتوى أو الحكم بين الناس+.( )

وقال في موضع آخر: =وإن تعجب، فعجب قول المؤلف: إن النبي _عليه السـلام_ (لم يشر طول حياته إلى شيء يسمّى: دولة إسلامية).

ولقد ذهب هذا القلم في الجرأة إلى مكان سحيق.

يقول حفّاظ السنّة: لم نسمع كذا، أو لم يبلغنا كذا، ويقول من ينقل حديث رسول الله" عن (الكامل) للمبرّد: (لم يشر _ عليه السلام _ طول حياته إلى شيء يسمّى: دولة إسلامية!) .

من مثل هذه العبارة يدرك قراء كتابه الأذكياء وأشباه الأذكياء: أنه يرمي بالكلام جزافاً، ويحاول أخذ قلوبهم ولو على طريق غير معقول، ومنطق ليس له فروع ولا أصول.

يرمي المؤلف هذه المقالة الخاطئة، وفي السنّة الصحيحة من أحاديث الإمامة ما فيه عبرة لقوم يفقهون، وقد قصصنا منها ما لا يمكن للمؤلف أن ينازع في صحته، أو يحرفه بالتأول عن مواضعه+.( )

وقال الشيخ الخضر معقباً على علي عبدالرازق حين عزا حديثاً إلى كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي.

قال _ أي الشيخ الخضر _: =نتحدث مع المؤلف فيما عزاه إلى أبي هريرة، فنذكِّره بأن (العقد الفريد) كتاب أدب لا يليق برجل يبحث في موضوع ديني أن يستند إلى شيء مما ينقله ذلك الكتاب عن صحابي أو غيره.

وإذا أباح لنفسه الاستشهاد بما بين دفتي (العقد الفريد) فلا يحق له بعد هذا أن يعمد إلى أحاديث في (صحيحي البخاري ومسلم) يراها واقفة في سبيل بعض آرائه، فيقول: لنا أن ننازع في صحتها+.( )

2. رجوعه إلى غير المتخصصين في المسائل الشرعية في هذه المسألة الخطيرة، وهذا مما أخذه عليه الشيخ الخضر في نقضه لكتابه، وذلك كما في قول علي عبدالرازق في شأن الخلافة: =وإذا أردت مزيداً في هذا البحث فارجع إلى كتاب (الخلافة) للعلامة السير تومس أرنلد؛ ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع مقنع+.( )

عقب عليه الشيخ الخضر بقوله: =ولو أحالنا المؤلف على كتاب السير أرنولد في بحث تاريخي، أو اجتماعي له مساس بالخلافة _ لأخذ منا الأسف على أن فاتنا الاطلاع عليه مأخذاً بليغاً.

ولكنه أحالنا على كتاب السير أرنولد في تحقيق حكم شرعي، فقلنا: لعله أراد الجد بشيء من الهزل، أو إخراج أحكام الشريعة من دائرة الراسخين في علومها.

يجب أن تكون قيمة الأحكام الشرعية في نظر المؤلف فوق هذا التقدير، وما ينبغي له أن يخيل إلينا أنا في حاجة إلى الاقتداء بعقول الغربيين حتى في أمور الدين من واجب وحرام.

وإذا كان المؤلف يدري أن للشريعة أصولاً ومقاصد لم يدرسهما السير أرنولد حق دراستهما _ فإن إحالتنا على كتابه ليست سوى عثرة في سبيل البحث تعترض السذَّج من الأحداث، فتكبو بهم في تردد وارتياب+. ( )

3. كثرة الخلط والمغالطات: يقول الشيخ الخضر في مقدمة كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) بعد أن بَيَّن وقوفه على الكتاب المردود عليه، وإحسانه الظن بمؤلفه في بداية الأمر إلى أن اتضح له يقيناً ما يرمي إليه( ) _ قال مبيناً بإيجاز ما تضمنه ذلك الكتاب من باطل: =فَوَّقَ المؤلف سهامه في هذا الكتاب إلى أغراض شتى، والتوى به البحث من غرض إلى آخر، حتى جحد الخلافة، وأنكر حقيقتها، وتخطى هذا الحد إلى الخوض في صلة الحكومة بالإسلام.

وبعد أن ألقى حبالاً وعِصِيّاً من التشكيك والمغالطات زعم أن النبي _عليه السلام_ ما كان يدعو إلى دولة سياسية، وأن القضاء وغيره من وظائف الحكم ومراكز الدولة ليست من الدين في شيء، وإنما هي خطط سياسية صِرْفة لا شأن للدين بها.

ومسَّ في غضون البحث أصولاً لو صدق عليها ظَنَّه لأصبحت النفوس المطمئنة بحكمة الإسلام وآدابه مزلزلة العقيدة، مضطربة العنان+( ).

ثم انتقل بعد ذلك إلى بيان أن خطورة ذلك الكتاب تَكْمُن في كونه قد صدر من ذي علم، وانتساب للقضاء الشرعي، فقال: =كنا نسمع بعض مزاعم هذا الكتاب من طائفة لم يتفقهوا في الدين، ولم يحكموا مذاهب السياسة خبرة، فلا نقيم لها وزناً، ولا نحرك لمناقشتها قلماً؛ إذ يكفي في ردها على عقِبها صدورُها من نفرٍ يرون الحطّ في الأهواء حرية، والركض وراء كل جديد كياسة.

كنا نسمع هذه المزاعم، فلا نزيد أن نعرض عمّن يلغطون بها حتى يخوضوا في حديث غيرها.

أما اليوم، وقد سرت عدواها إلى قَلَمِ رَجُلٍ ينتمي للأزهر الشريف، ويتبوأ في المحاكم الشرعية مقعداً _ فلا جرم أن نسوقها إلى مشهد الأنظار المستقلة، ونضعها بين يدي الحجّة، وللحجّة قضاء لا يستأخر، وسلطان لا يحابي ولا يستكين+( ).

ثم بين _بعد ذلك_ مراده من ذلك الرد، فقال: =لا أقصد في هذه الصحف إلى أن أعجم الكتاب جملة، وأغمز كل ما ألاقيه فيه من عوج؛ فإن كثيراً من آرائه تحدثك عن نفسها اليقين، ثم تضع عنقها في يدك، دون أن تعتصم بسند، أو تستتر بشبهة.

وإنما أقصد إلى مناقشته في بعض آراء يتبرأ منها الدين الحنيف، وأخرى يتذمر عليه من أجلها التاريخ الصحيح، ومتى أميط اللثام عن وجه الصواب في هذه المباحث الدينية التاريخية بقي الكتاب ألفاظاً لا تعبر عن معنى، ومقدمات لا تتصل بنتيجة+( ).

ثم بين بإيجاز شديد خطته في الرد، فقال: =والكتاب مرتب على ثلاثة كتب، وكل كتاب يحتوي على ثلاثة أبواب، وموضوع الكتاب الأول: الخلافة والإسلام، وموضوع الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام، وموضوع الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ+( ).

ثم بين بإيجاز وبلاغة طريقتَهُ في النقد، فقال: =وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخصَ ما تناوله المؤلف من أمهات المباحث، ثم نعود إلى ما نراه مستحقاً للمناقشة من دعوى أو شبهة، فنحكي ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لَبْسها، أو يحل لُغزَها، أو يجتثها من منبتها+( ).

وهكذا أفصح الشيخ الخضر من خلال هذه المقدمة البليغة المحكمة ما وقع فيه علي عبدالرازق من خلل، وخطل، وخلط، وأفصح عما يريده من تأليف ذلك الرد.

ثم مضى بعد ذلك في نقض كتاب: (الإسلام وأصول الحكم) في سطوع حجة، وروعة بيان، واستجماع ثقافة.

ثم ختم كتابه بقوله مقارناً بين صنيع أتاتورك الذي طبق العلمانية عملياً، وقام بهدم الخلافة، وبين صنيع علي عبدالرازق الذي نَظَّر لها علمياً: =قام في زمن قريب بعض مَنْ تخبطه الجهل والغرور، وصاح في وجه حكومة شعب مسلم صيحة المعربد، منكراً عليها ما قررته في قانونها الأساسي؛ مِنْ جَعْلِ الإسـلام ديناً رسـمياً للدولة.

وقد ردّد المؤلف في نتيجة أبوابـه التسعة هذه الصيحة؛ إذ حاول أن يقطع الصلة بين الدين والسياسة، ويحارب آداب الإسلام القاعدة للإباحية الفاسقة في كل مرصد.

ولكن الفرق بين ذلك الصائح وهذا الصدى: أن الأول وثب على المسألة وثوبَ أَهْبَلَ لا يعرف يمينه من شماله.

أما المؤلف، فقد أدرك أن الأمة مسلمة، وأن الإسلام دين وشريعة وسياسة، وأن هاتين الحقيقتين يقضيان على الدولة أن تضع سياستها في صبغة إسـلامية؛ فبدا له أن يعالج المسـألة بيد الكيد والمخاتلة، ويأتيها باسم العلم والدين؛ فكان من حذقه أن التقط تلك الآراء الساقطة خلطها بتلك الشبه التي يخزي بعضها بعضاً، وأخرجها كتاباً يحمل سموماً لو تجرعها المسلمون لتبدلوا الكفر بالإيمان، والشقاء بالسعادة، والذلّة بالعزّة، [ﮔ  ﮕ ﮖ  ﮗ  ﮘ   ﮙ    ﮚ    ﮛ] المنافقون: 8 +( ).

وفي غضون نقض الشيخ الخضر بيان لكثير من ذلك الخلط والمغالطة واللبس الذي وقع فيه الشيخ علي عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم).

ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في كتابه المذكور؛ حيث التبس على علي عبدالرازق حاتمَ الأصم بحاتم الصوفي، فقال بعد أن نقل كلام ابن خلدون: =وقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا المنصب رأساً لا بالعقل ولا بالشرع، منهم: الأصم من المعتزلة+( ).

ثم ذكر علي عبدالرازق أسفل الصحيفة معرفاً بالأصم، فقال: =حاتم الأصم الزاهد المشهور البلخي+( ).

قال الشيخ الخضر معلقاً: =التبس على المؤلف حال الأصم المعتزلي، وهو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان بحاتم الأصم الصوفي، وقد ذكره السيد في (شرح المواقف) والسعد في (شرح المقاصد) بلقب أبي بكر، وذكره إمام الحرمين في كتاب (غياث الأمم) باسمه عبد الرحمن بن كيسان، وجمع أحمد بن يحيى المرتضى في (طبقات المعتزلة) بين اسمه ولقبه، فقال: أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم+( ).

ومن الأمثلة _أيضاً_ على ذلك الخلط ما جاء في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبدالرازق؛ حيث تكلم في أحد مباحث كتابه على تولية عمر وعلي ومعاذ _رضي الله عنهم_ القضاء في كلام يطول، وفيه ما فيه من الشبه التي تولى الشيخ الخضر كشفها، ونقضها.

والذي يعني في هذا المقام إظهار الخضر خلط الشيخ علي؛ بين الزكاة والخمس.

يقول الشيخ الخضر في معرض نقضه: =يقول الإمام البخاري: بعث علياً بعد ذلك ليقبض الخمس.

ومن الجليّ لدى المبتدئين من طلاب العلم أن المراد: خمس الغنيمة.

ولكن المؤلف الذي لم يقنع برتبة مجتهد، وحاول أن يكون مشرّعاً، يقول: (ويروي الآخر: أنه كان لقبض الخمس من الزكاة).

وليس في الزكاة شيء يقال له: الخمس، ولكن الله ضرب هذا المثل؛ لنشهد به حظ المؤلف من فهم كتب الشريعة، وليعلم الذين يريدون أن يتبعوا خطواته أنهم ركبوا غارب عشواء، وفتحوا أعينهم في ليلة ظلماء+( ).

4. كثرة المجازفات: ففي ذلك الكتاب مجازفات كثيرة أطلقها الشيخ علي دون مبالاة مع أن الأمر يخالفها تماماً.

والدعاوى التي أطلقها جزافاً ليس من قبيل التحليل الذي تتفاوت فيه الأنظار.

وإنما هي من قبيل الوقائع التي تحتاج إلى أمانة في النقل، وتصوير للأمر كما هو.

والذي يقرأ ذلك الكتاب وهو عاطل من الاطلاع على الإسلام: شريعته، وعقائده، وتاريخه، ورجالاته _ قد ينطلي عليه ذلك الأمر.

أما مَنْ عنده أدنى نظر من ذلك فإنه يدرك أن أغلب تلك المجازفات يكذبها الواقع.

وإلا كيف يَسُوغُ للشيخ علي أن يزعم أن الإسلام كالنصرانية من جهة كونها صلة روحية بين العبد وربه فحسب، وهو الأزهري الذي قرأ القرآن الكريم، ونظر في السنة النبوية؟ كيف غابت عنه الآيات الكثيرة التي تأمر بالحكم بين الناس بما أنزل الله، وتحذر أشد التحذير من ضد ذلك، وأنه فسوق، وظلم، وكفر؟!.

وكيف غاب عنه نصوص المواريث، والعقود، والمواثيق، والبيوع، والمعاملات، ونحو ذلك؟

وكيف غابت عنه السيرة النبوية وهي المليئة بما كان يحكم ويقضي به النبي" بين الناس؟

وكيف يجازف ويقول: =إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين [ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅ]، ثم لا تجد فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة، أو الخلافة؛ إن في ذلك لمجالاً للمقال.

ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة، ولم يَتَصَدَّ لها، بل السنة كالقرآن _أيضاً_ قد تركتها، ولم تتعرض لها.

يدلك على هذا أن العلماء لم يستطيعوا أن يستدلوا في هذا الباب بشيء من الحديث+( ).

كيف يدَّعي هذه الدعوى العريضة مع أن الأمر _في الواقع_ بخلافها.

قال الشيخ الخضر في معرض نقضه لتلك الدعوى: =في القرآن بيان كل شيء من أمور الدين، وأحكام الوقائع، وليس معنى هذا التبيان أنه يذكر أحكام الأشياء على وجه التفصيل، حتى إذا رجعنا إليه في قضية، ولم نجد لها حكماً مفصلاً، خالطت قلوبنا الريبة من حكمها الذي دلت عليه السنّة، أو انعقد عليه إجماع أهل العلم، أو شهدت به القواعد المسلَّمة.

وإنما معنى تبيانه لكل شيء: أنه أتى بكليات عامة، وهي معظم ما نزل به، وفصّل بعض أحكام، وأحال كثيراً من آياته على بيان السنّة النبوية، ثم إن الكتاب والسنّة أرشدا إلى أصول أخرى؛ كالإجماع، والقياس، وغيرهما من القواعد المستفادة من استقراء جزئيات كثيرة؛ كقاعدة: (المصالح المرسلة) وقاعدة: (سد الذرائع).

قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب (الموافقات): تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي... فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، ومكمل كل واحد منها، وهذا كله ظاهر أيضاً، فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو: السنّة، والإجماع، والقياس، وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن.

فإن لم ينص القرآن على حكم الخلافة، فإن في أيدينا من طرق تبيانه السنّة والإجماع والقياس، والقواعد التي لا يأتيها الريب من بين يديها ولا من خلفها+( ).

وبعد أن فَنَّد الشيخ الخضر تلك الشبه التي أثارها الشيخ علي حول هذا المعنى، وأورد عدداً من الأمثلة والأدلة التي تنقض كلام الشيخ علي قال: =ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذه الأمثلة بعد أن كشفنا عن وجه دلالة الأمر بإطاعة صاحب الدولة على حكم ولايته، وذلك الوجه من الدلالة لا يوجد في هذه الأمثلة، وما كان لها إلا أن تَلُفَّ رؤوسَها حياءًا، وتزدحم على باب هذه المبحث متسابقة إلى الخروج منه+( ).

ومن المجازفات التي أطلقها الشيخ علي في كتابه قوله: =من الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظٍّ، وأن وجودها بينهم كان أضعفَ وجودٍ؛ فلسنا نعرف لهم مؤلفاً في السياسة، ولا مترجماً، ولا نعرف لهم بحثاً في شيء من أنظمة الحكم و لا أصول السياسة، اللهم إلا قليلاً لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون؛ ذلك وقد توافرت عندهم الدواعي التي تدفعهم إلى البحث الدقيق في علوم السياسة، وتظاهرت لديهم الأسباب التي تعدهم للتعمق الدقيق فيها+( ).

إلى أن يقول: =وأقل تلك الأسباب أنهم _مع ذكائهم الفطري، ونشاطهم العلمي_ كانوا مولعين بما عند اليونان من فلسفة وعلم.

وقد كانت كتب اليونان التي انكبوا على ترجمتها، ودرسها كافية في أن تغريهم بعلم السياسة، وتحببه إليهم؛ فإن ذلك العلم قديم، وقد شغل كثيراً من قدماء الفلاسفة اليونانيين، وكان له من فلسفة اليونان، بل في حياتهم شأن خطير+( ).

يقول هذا الكلام في كتاب قال في مقدمته: =شرعت في بحث ذلك كله منذ بضع سنين+( ).

فكيف غاب عن باله، ونسي أو تناسى _والتناسي شر من النسيان_ ما قام به علماء المسلمين منذ مطلع الإسلام إلى عصورنا المتأخرة من جهد جبار، وبحث متواصل في السياسة، والحكم نتج عنه مؤلفات كثيرة لا تكاد تحصى؟.

هل يجهلها الشيخ علي؟ وهل يليق بمثله _وقد تصدى لتلك المهمة الخطيرة، وادعى أنه بحث ذلك منذ بضع سنين_ أن تفوته تلك المؤلفات؟!.

فهذا _في الحقيقة_ موطن غرابة، وهذا مما فتح عليه ثغرات من قبل خصومه الذين ردوا عليه.

يقول الشيخ محمد الخضر حسين رداً على كلام الشيخ علي الآنف الذكر: =ظل المؤلف مستهتراً( ) بشهوة فصل الإسلام عن وظيفة إصلاح السياسة، فرأى أن من المقدمات المساعدة له على هذا الغرض مخاتلةَ نفس القارئ، وأخذها إلى الاعتقاد بأن زعماء الإسلام أو علماءه أهملوا النظر في أنظمة الحكم وأصول السياسة.

لم يكن حظ المسلمين من علم السياسة سيئاً، ولا وجودها بينهم كان أضعف وجود، وعرفنا لهم في السياسة مؤلفات شتى+( ).

ثم ذكر الشيخ الخضر جملة من تلك المؤلفات التي تثبت عناية علماء الإسلام بالسياسة فقال: =اطلعوا على كتاب (السـياسـة) لأفلاطـون، الذي عربـه حنين بـن إسحاق، وترجم بعض فصوله أيضاً أحمد بن يوسف الكاتب المتوفى سنة 340ﻫ، وكتاب (السياسة) تأليف قسطا بن لوقا البعلبكي، وكتاب (المتوّج في العدل والسياسة) للصابي، وأشار ابن خلدون في (مقدمته) إلى أن كتاب أرسطو في السياسة كان متداولاً بين الناس، وألّف الكندي في السياسة اثني عشر تأليفاً، منها: (رسالته الكبرى في السياسة)، (ورسالة في سياسة العامة).

وألّف أحمد بن الطيب، أحد المنتمين إلى الكندي كتاب: (السياسة الكبير)، وكتاب: (السياسة الصغير).

وألّف أبو نصر الفارابي ثمانية مؤلفات في السياسة، منها: السياسة المدنية، (وهو الاقتصاد السياسي الذي يدعي أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم)، ومن مؤلفاتهم: كتاب (سياسة الملك) للماوردي، و(سياسة المالك في تدبير الممالك) لابن أبي الربيع، وهو جليل جداً، لم يغادر بحثاً من أبحاث العمران والسياسة والأخلاق إلا طرقه، وكتاب (سراج الملوك) لأبي بكر الطرطوشي، وكتاب (نهج السلوك في سياسة الملوك) للشيخ عبد الرحمن بن عبدالله، و(قوانين الدواوين في نظام حكومة مصر وقوانينها) لأبي المكارم أسعد بن الخطير، إلى غير ذلك من فصول ممتعة احتوى عليها كتاب (المسالك) لابن خرداذبـة، و(مقدمـة) ابن خلـدون، و(عيون الأخبـار) لابن قتيبة، و(العقد الفريد) لابن عبد ربّه+( ).

ويواصل الشيخ الخضر بيانه عنايةَ المسلمين بالسياسة فيقول: =ويتصل بهذا كتب في أخلاق الملوك؛ ككتاب: (أخلاق الملوك) للفتح ابن خاقان، وكتاب: (التاج في أخلاق الملوك) للجاحظ، وكتاب: (أخلاق الملوك) لمحمد بن حارث التغلبي، و(التاج في سيرة كسرى أنوشروان) لابن المقفع، وكتاب: (السفارة والسفراء)، وكتاب: (جند الوزارة وحراسة حصن الصدارة) لحسن بن عبد الكريم البرزيخي، وكتاب: (لطائف الأفكار وكاشف الأسرار) في علم السياسة، ألفه القاضي حسين ابن حسن السمرقندي، للوزير إبراهيم باشا سنة 936هـ في خمسة أبواب، الأول: في السياسات، فهو من قبيل الموسوعات، لكنه يشتمل على ضروب من السياسة، منه نسخة في فيينا).

هذا ما اطلعنا عليه، أو على التعريف به في بعض كتب التاريخ، وقد منيت المكاتب الإسلامية من بلايا الإحراق والإغراق والإتلاف، التي سامها بها أعداء العلم على ما هو معروف في التاريخ من هجمات التتار على بغداد، ونائبة خروج المسلمين من الأندلس، ونكبات الحروب الصليبية في الشام ومصر وغيرهما؛ علاوة على ما غشي الأمة من ظلمات الجهل في عصورها الأخيرة، حتى ضاع من بين أيديها كثير مما أبقته تلك النكبات+( ).

ثم يقول بعد ذلك: =هذا وقد شهد أولو العلم أن الإسلام قد رسم للسياسة خطة واسعة، وسنَّ لها نظماً عامة، حسبما نوافيك ببيانه في الموضع اللائق به؛ فصرفوا أنظارهم في دراسـة تلك الخطة، والتفقه في هاتيـك النظم؛ حيث كانت سياستهم العملية موصولة بها، وقائمة على أسسها، ومن المؤلفات على هذا النمط كتاب: (غياث الأمم) لإمام الحرمين، وكتاب: (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) لابن القيّم، وكتاب: (السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية) لابن تيمية، وكتاب: (الأحكام السلطانية) للماوردي، وكتاب: (الأحكام السلطانية) للقاضي أبي يعلى، وكتاب: (إكليل الكرامة) لصديق حسن خان، ورسالة (السياسة الشرعية) لإبراهيم يخشى زادة، توجد في برلين.

آثر المسلمون أن ينظروا إلى السياسة بمرآة الشريعة، فترى كثيراً من رجال الدولة إذا حركوا أقلامهم في تحرير سياسي، نفخوا فيه روحاً من حكمة الشريعة، وكسوه حلة من حلل آدابها الوضَّاءة+( ).

ويختم الشيخ الخضر كلامه في هذا السياق قائلاً: =فالحق أن حظ المسلمين في السياسة لم يكن منقوصاً، وأن منزلتهم فيها كانت فوق المنزلة التي قعد بها المؤلف عندها، وبالغ في استصغار شأنها+( ).

فهذه أمثلة يسيرة من بعض ما جاء في ذلك الكتاب من الإشكالات المنهجية، والخلط، والمجازفة، ونحو ذلك، وليس المقامُ ههنا مقامَ التفنيد لما جاء في ذلك الكتاب( ) .

 خاتمة

وبعد فهذه قراءة موجزة لكتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ علي عبدالرازق، وما أثير حوله من جدل، وما فيه من إشكالات.

وعلى كل حال فسواء كان الكتاب لعلي عبدالرازق أو لغيره، أو أنه شارك في تأليفه، أو أضاف عليه ما أضاف؛ فَأَشْرَبه صبغة شرعية، ونفخ فيه روحاً إسلامية، وسواء كان متمسكاً بتلك الآراء التي ضمنها كتابه، أو كان راجعاً عنها  _ فإن الكتاب منسوب إليه، ولم يُظْهِر البراءة منه صراحة؛ ولا يُدرى _على وجه الدقة_ دافعُه إلى تأليف ذلك الكتاب، وإيراده تلك الآراء، أهو يريد شهرة في بداية حياته؟ أم أنها خطوة لم يحسب حسابها، وينظر في تبعاتها؟ أم أنه جامل في بداية الأمر ثم صعب عليه العودة في منتصف الطريق؟ أم أنها شُبَهٌ تخطفها دون أن يتبين جَلِيَّةَ أمرها؟  ثم هل هو نادم على إخراجه الكتابَ؟ وإذا كان كذلك فلماذا لم يظهر ندمه علانية؟ أهو خوف سقوط المكانة؟ أم أنهم الأكابر يخطؤون في العلانية ويتوبون في السر؟ ولماذا لم يتراجع صراحة عما جاء في الكتاب؟ خصوصاً وأنه رأى آثاره الوخيمة؛ حيث عاش بعد تأليف ما يزيد على اثنتين وأربعين سنة.

أسئلة تحتاج إلى مزيد بحث وتحرٍّ وعدل؛ للوقوف على حقيقتها.

ولا يسع في هذا المقام إلا أن يقال: لعله رجع من ذلك، ولعل الله قبل منه، وتجاوز عنه، والله غفور رحيم، ورحمته وسعت كل شيء، ولا تحجير لرحمة الله _عز وجل_.