×
كتب المصنف عبدالله الجارالله، كتابًا نفيسًا عن النوم المبكر وأضرار السهر .. ووسمه باسم: "تذكير البشر .. بفوائد النوم المبكر وأضرار السهر" هذا الكتاب اشتمل على آيات من القرآن الكريم، يمتن الله سبحانه وتعالى فيها على عباده بأن جعل لهم الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرًا؛ وأيضًا اشتمل الكتاب على أضرار السهر، وفوائد النوم، وعجائب الليل والنهار، وما فيهما من الأسرار، وأوضح المؤلف شيئًا من هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم في نومه ويقظته، وشيء من آفات نوم نهارًا، خصوصًا بعد الفجر وبعد العصر، وغير ذلك مما أورده المؤلف.

 تذكير البشر بفوائد النوم المبكر وأضرار السهر

جمع وتحقيق الفقير إلى الله تعالى

عبد الله بن جار الله بن إبراهيم الجار الله

غفَر الله له ولوالدَيْه ولجميع المسلمين


 مقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، فإياه نعبد وإياه نستعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، ومن سلك طريقهم في العلم والعمل والدعوة إلى الله، واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

أما بعد، فنظرًا لنعمة الله وحكمته ورحمته بأنْ جعل الليل سكنًا، والنهار معاشًا، ونظرًا لمخالفة كثيرٍ من الناس لهذه الفطرة، حيث صاروا يسهرون الليل فيما لا تحمد عقباه غالبًا من الملاهي والملاعب، ثم ينامون عن أداء صلاة الفجر في وقتها حتى يخرج وقتُها بطلوع الشمس، وهذه خسارة عظمى، ومصيبة كبرى، تجب التوبة منها، والرجوع عنها، ثم قد ينامون غالب النهار ويكسلون عن الأعمال المنوطة بهم، وقد يضر ذلك بصحتهم وبدينهم، ودنياهم وآخرتهم.

وبناءً على محبة الخير لإخواني المسلمين، وكراهية الشر لهم؛ ألَّفتُ هذه الرسالة "تذكير البشر بفوائد النوم المبكر وأضرار السهر"، وهي مستفادة من كلام الله - تعالى - وكلام رسوله ﷺ‬ وكلام المحققين من أهل العلم.

وقد اشتملتْ على ذِكر آيات من القرآن الكريم، اشتملت على امتنان الله على عباده بأن جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار مبصرًا؛ ليتصرفوا فيه في مصالحهم، وبيان أضرار السهر، وفوائد النوم وأسراره، وعجائب الليل والنهار، وما فيهما من الأسرار، وذكر شيء من هدْيه ﷺ‬ في نومه وانتباهه، وشيء من آفات نوم النهار، وخصوصًا بعد الفجر، وبعد العصر، وأن مدافعة النوم تورث الآفات، وأن اليقظة أفضل من النوم لمن يقظتُه طاعة.

أسأل الله - تعالى - أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


بسم الله الرحمن الرحيم

من آيات الله الدالةِ على فضله وكرمه، حيث جعل الليل ليسكنوا فيه، والنهار مضيئًا ليعملوا فيه فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

1- قال الله - تعالى -: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [يونس: 67].

2 - وقال – تعالى -: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [الروم: 23].

3 - وقال - تعالى -: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61].

4- وقال – تعالى -: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النمل: 86].

5- وقال – تعالى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: 47].

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:

1- بيان الحكمة في خلق الليل والنهار، وهي السكن والراحة في الليل، والتصرف في مختلف الأعمال والمصالح في النهار.

2- أن في ذلك آياتٍ ودلالات على قدرة الله وعظمته وتوحيده، لمن كان له سمع يسمع به ما ينفعه ويضره.

3- أنه لا يَعتبر ويتفكر في آيات الله ومخلوقاته إلا من كان له سمع يسمع به سماعَ قَبولٍ وفهم، وتفكُّر وإيمان.

4- أن النوم بالليل، وابتغاء فضل الله بالنهار، من آيات الله، ودلائل توحيده وقدرته.

5- أن من اعتاد سهر الليل بدون عبادة وضرورة، فقد خالف الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها.

6- أن تسخير الليل للسكن والنوم والراحة من فضل الله على الناس، ومن أعظم النعم الموجبة للشكر ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61].

7- أنه لا يتفكَّر في عجائب الليل والنهار، ويستدل بها على قدرة خالقها إلا المؤمنون.

8- من نِعَمِ الله على خلقه أن جعل لهم الليل ساترًا بظلامه كاللباس، والنوم راحةً لأبدانهم، قاطعًا لأعمالهم، والنهار مضيئًا لانتشارهم وتصرفاتهم وقضاء حوائجهم، فلله الحمد والشكر والثناء على ذلك.


بسم الله الرحمن الرحيم

 من أضرار السهر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد، فمن أضرار السهر ما يلي:

1- مخالفة السُّنة؛ فقد كان النبي ﷺ‬ يكره النومَ قبل العشاء والحديثَ بعدها؛ كما في الحديث الصحيح المتفق عليه.

2- أن السهر من أسباب النوم عن صلاة الفجر في وقتها مع الجماعة، التي تعدل قيامَ الليل كله مع صلاة العشاء مع الجماعة؛ كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: «من صلَّى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى العشاء والفجر مع الجماعة، فكأنما قام الليل كله».

وقيام الليل يطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النار؛ كما في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وهذا شيءٌ عظيم لا يستهان به.

3- أن الله - تعالى - بحكمته ورحمته جعل الليل سكنًا، يستريح فيه الإنسان من التعب في النهار، والسهرُ في الليل مخالفٌ لهذه الحكمة.

4- أن السهر في الليل يؤدي إلى النوم في النهار، فيعطل الإنسان مصالحه من صناعةٍ، أو تجارة، أو زراعة، أو دراسة، أو وظيفة، وذلك مخالفٌ للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومخالف للمصالح الخاصة والعامة.

وربما أدى السهر في الليل، والنوم في النهار، إلى النوم عن الصلوات الخمس في أوقاتها مع الجماعة، كمن لا يؤدِّي صلاة الفجر إلا بعد خروج وقتها بعد طلوع الشمس، والعصر عند غروبها، وهذه خسارة عظمى، ومصيبة كبرى.

5- أن السهر مرضٌ للقلب والجسم، اللهم إلا من كان يسهر على صلاة التهجد والعبادة، والذكر والدعاء وتلاوة القرآن، يتقرَّب إلى الله بذلك، ويبادر حياته القصيرة فيما يقربه إلى ربه، ويكون سببًا في فوزه.

وينبغي للمسلم الراجي رحمة ربه، والخائف من عذابه: أن ينام أول الليل، ويقوم آخره للصلاة والعبادة، والدعاء والاستغفار، والتوبة إلى الله - تعالى - وفي كل ليلة ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟»؛ كما في الحديث الصحيح المتفق عليه، وهذه فرصة ثمينة للمسلم.

وكل ما تقدم من أضرار السهر فيما إذا كان السهر على أمرٍ مباح، أما إذا كان السهر على محرَّم كالملاعب والملاهي والمسلسلات الهابطة، فإن الأمر أشدُّ وأعظم؛ لأن الإنسان مخلوق للعبادة، وسوف يُسأل عن أوقاته، ويحاسَب عليها، ويجزى على ما عمل فيها من خيرٍ أو شر.

وسوف يُسأل الإنسانُ عما ينظر إليه، أو يستمع إليه، وعما يكنُّه ضميره؛ كما قال - تعالى -: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء: 36]، وقال - عز وجل -: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: 92، 93].

فلْيُعِدَّ الإنسانُ لنفسه جوابًا صحيحًا، عن طريق محاسبته لنفسه عما يقول ويفعل، ويأتي ويذر، وقد مدح الله المؤمنين القائمين في الليل للتهجد بقوله: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 17، 18]، وبقوله: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 16، 17].

فانظر إلى مقابلة ما أخفَوْه من قيام الليل، بما أُخفي لهم من الجزاء في جنات النعيم، مما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقال – تعالى -: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9].

وأخبر ﷺ‬ أن قيام الليل يطفئ الخطيئةَ كما يطفئ الماء النار في الحديث الذي رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وأن الله - تعالى - ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر»؛ كما في الحديث المتفق عليه، وهذه الفضائل محرومٌ منها أكثرُ الناس اليوم، الذين يسهرون على الملاهي والملاعب إلى نصف الليل، ثم ينامون عن صلاة الفجر، وهذه خسارة عظمى، ومصيبة كبرى.

 من فوائد النوم وأسراره

قال – تعالى -: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 9 - 11].

وكان من تدبير الله للبشر أنْ جعل النوم سباتًا، يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط، ويجعلهم في حالةٍ لا هي موت، ولا هي حياة، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم، وتعويضها عن الجهد الذي بذلتْه في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة، وكلُّ هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها، ولا نصيب لإرادته فيها، ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه؛ فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون، وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة، ولا يقدر على ملاحظتها، وهي سر من أسرار تكوين الحي، لا يعلمه إلا مَن خَلَقَ هذا الحيَّ، وأودعه ذلك السرَّ، وجعل حياته متوقفةً عليه، فما من حيٍّ يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة، فإذا أجبر إجبارًا بوسائلَ خارجةٍ عن ذاته كي يظل مستيقظًا، فإنه يَهلِكُ قطعًا.

وفي النوم أسرارٌ غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب، إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجُنَّتَه - طائعًا أو غير طائع - ويستسلم لفترة من السلام الآمن، السلام الذي يحتاجه الفردُ حاجتَه إلى الطعام والشراب، ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات، حيث يلم النعاس بالأجفان، والروحُ مثقل، والأعصابُ مكدودة، والنفسُ منزعجة، والقلبُ مروع، وكأنما هذا النعاس - وأحيانًا لا يزيد على لحظات - انقلابٌ تام في كيان هذا الفرد، وتجديد كامل لا لقواه؛ بل له هو ذاته، وكأنما هو كائن حي يصحو من جديد، ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أُحد، وامتنَّ الله عليهم بها وهو يقول: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال: 11]، ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ [آل عمران: 154]، كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة.

فهذا السبات - أي: الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم - ضرورةٌ من ضرورات تكوين الحي، وسرٌّ من أسرار القدرة الخالقة، نعمة من نِعَمِ الله، لا يملك إعطاءها إلا هو.

وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبِّه القلبَ إلى خصائص ذاته، وإلى اليد التي أودعتها كيانه، ويلمسه لمسة تُثير التأملَ والتدبُّر والتأثر.

وكان من تدبير الله كذلك أنْ جعل حركة الكون موافقةً لحركة الأحياء، وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات، بعد العمل والنشاط، فكذلك أودع الكون ظاهرةَ الليل؛ ليكون لباسًا ساترًا يتم فيه السبات والانزواء، وظاهرةَ النهار؛ ليكون معاشًا تتم فيه الحركة والنشاط، بهذا توافق خلق الله وتناسق، وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء، تلبي ما ركّب فيهم من خصائص، وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات، وخرج هذا وهذا من يد القدرة المبدعة، متسقًا أدق اتِّساق. ([1])


 عجائب الليل والنهار وما فيهما من الأسرار

ومن آياته - سبحانه وتعالى - الليل والنهار، وهما من أعجبِ آياته، وبدائعِ مصنوعاته؛ ولهذا يعيد ذكرهما في القرآن ويبديه، كقوله - تعالى -: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ﴾ [فصلت: 37]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: 47]، وقوله - عز وجل -: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [غافر: 61]، وهذا كثير في القرآن.

فانظر إلى هاتين الآيتين، وما تضمنتاه من العِبر والدلالات على ربوبية الله وحكمته، كيف جعل الليل سكنًا ولباسًا يغشى العالم، فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطيرُ إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس وتستريح من كدِّ السعي والتعب، حتى إذا اتخذتْ منه النفوسُ راحتَها وسباتَها، وتطلعتْ إلى معايشها وتصرفها، جاء فالق الإصباح - سبحانه وتعالى - بالنهار، يقدم جيشه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمةَ ومزَّقها كل ممزق، وكشفها عن العالم، فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان وتصرَّف في معاشه ومصالحه، وخرجتِ الطيور من أوكارها، فيا له من معاد ونشأة دالٍّ على قدرة الله - سبحانه - على المعاد الأكبر! وتكررُه ودوام مشاهدة النفوس له، بحيث صار عادة ومآلاً، مَنَعَها من الاعتبار به، والاستدلال به على النشأة الثانية، وإحياء الخلق بعد موتهم، ولا ضعف في قدرة القادر التام القدرة، ولا قصور في حكمته، ولا في علمه يوجب تخلُّفَ ذلك، ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهذا أيضًا من آياته الباهرة، أن يعمي عن هذه الآياتِ الواضحة البيِّنة مَن شاء مِن خلقه، فلا يهتدي بها ولا يبصرها، كمن هو واقف في الماء إلى حلقه وهو يستغيث من العطش، وينكر وجود الماء، وبهذا وأمثاله يُعرَف الله - عز وجل - ويشكر ويحمد، ويتضرع إليه ويُسأل([2]).


 من آيات الله ونعمه على عباده النوم بالليل والنهار وابتغاؤهم من فضله

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله - تعالى -: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [الروم: 23]، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 42، 43]([3]).

فضل الله على عباده بليل يسكنون فيه، ونهار يتصرفون فيه

قال الله - تعالى -: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [القصص: 71 - 73].

هذا امتنانٌ من الله على عباده، يدْعوهم به إلى شكره، والقيام بعبوديته وحقِّه؛ أنْ جعل لهم من رحمته النهار؛ ليبتغوا من فضل الله، وينتشروا لطلب أرزاقهم ومعايشهم في ضيائه، والليل؛ ليهدؤوا فيه ويسكنوا، وتستريح أبدانُهم وأنفسهم من تعب التصرف في النهار، فهذا من فضله ورحمته بعباده.

فهل أحد يقدر على شيء من ذلك؟

و﴿إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ مواعظ الله وآياته سماعَ فهمٍ وقبول وانقياد؟

و﴿إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ مواقعَ العبر، ومواضع الآيات، فتستنير فيه بصائركم، وتسلكوا الطريق المستقيم؟

وقال في الليل: ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾، وفي النهار: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾؛ لأن سلطان السمع في الليل أبلغُ من سلطان البصر، وعكسه النهار.

وفي هذه الآيات تنبيهٌ إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبَّر نِعَم الله عليه، ويستبصر فيها، ويقيسها بحال عدمها.

فإنه إذا وازَنَ بين حالة وجودها وبين حالة عدمها، تنبَّه عقلُه لموضع المنَّة، بخلاف من جرى مع العوائد، ورأى أن هذا أمرٌ لم يزل مستمرًّا ولا يزال، وعمي قلبُه عن الثناء على الله بنعمه، ورؤية افتقاره إليها في كل وقت، فإن هذا لا يَحدُث له فكرة شكر، ولا ذِكر([4]).

فلله الحمد والشكر والثناء على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تحصى، ومنها وجود الليل للنوم والراحة، والنهار للتصرف وقضاء الحاجة، والتقرب إليه بالليل والنهار بأنواع العبادة.


 هديه وسيرته ﷺ‬ في نومه وانتباهه

من تدبَّر نومه ويقظته ﷺ‬ وجده أعدلَ نومٍ، وأنفعَه للبدن والأعضاء والقوى، فإنه كان ينام أول الليل، ويستيقظ في أول النصف الثاني، فيقوم ويستاك، ويتوضأ ويصلي ما كَتَبَ الله له، فيأخذ البدنُ والأعضاء والقوى حظَّها من النوم والراحة، وحظها من الرياضة، مع وفور الأجر، وهذا غاية صلاح القلب والبدن، والدنيا والآخرة.

ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه، ولا يمنع نفسَه من القدر المحتاج إليه منه، وكان يفعله على أكمل الوجوه، فينام إذا دعتْه الحاجة إلى النوم على شقِّه الأيمن، ذاكرًا اللهَ حتى تغلبه عيناه، غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب، ولا مباشرٍ بجنبه الأرض، ولا متخذٍ للفرش المرتفعة؛ بل له ضجاع من أدم حشوُه ليفٌ، وكان يضطجع على الوسادة، ويضع يده تحت خده أحيانًا.


 من فوائد النوم

وللنوم فائدتان جليلتان؛ إحداهما: سكون الجوارح وراحتها مما يعرض لها من التعب، فيريح الحواسَّ من نصب اليقظة، ويزيل الإعياءَ والكلال.

والثانية: هضم الغذاء، ونضج الأخلاط؛ لأن الحرارة الغريزية في وقت النوم تغور إلى باطن البدن، فتعِين على ذلك؛ ولهذا يبرد ظاهره، ويحتاج النائم إلى فضلِ دثارٍ([5]).

من آفات نوم النهار، خصوصًا بعد الفجر وبعد العصر

ونوم النهار رديء، يورث الأمراضَ الرطوبية والنوازل، ويفسد اللون، ويورث الطحال، ويرخي العصب، ويكسل، ويضعف الشهوة، إلا في الصيف وقت الهاجرة، وأردؤه نومُ أول النهار، وأردأ منه النومُ آخره بعد العصر، ورأى عبدالله بن عباس ابنًا له نائمًا نومة الصبحة، فقال له: قم، أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق؟!

وقيل: نوم النهار ثلاثة: خُلق، وحرق، وحمق.

فالخلق: نومة الهاجرة، وهي خلق رسول الله ﷺ‬ والحرق: نومة الضحى، تشغل عن أمر الدنيا والآخرة، والحمق: نومة العصر، قال بعض السلف: من نام بعد العصر، فاختُلس عقلُه، فلا يلومنَّ إلا نفسه، وقال الشاعر:

أَلاَ إِنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الفَتَى = خَبَالاً وَنَوْمَاتُ العُصَيْرِ جُنُونُ

ونوم الصبحة يمنع الرزقَ؛ لأن ذلك وقتٌ تَطلُبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها، وهو وقت قسمة الأرزاق، فنومُه حرمانٌ، إلا لعارضٍ أو ضرورة، وهو مضرٌّ جدًّا بالبدن؛ لإرخائه البدن، وإفساده للفضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة، فيحدث تكسرًا وعيًّا وضعفًا، وإن كان قبل التبرز والحركة والرياضة، وإشغال المعدة بشيء، فذلك الداء العضال، المولد لأنواعٍ من الأدواء([6]).


 (فصل) في أن مدافعة النوم تورث الآفات وأن اليقظة أفضل من النوم لمن يقظته طاعة

لا ينبغي مدافعةُ النوم كثيرًا وإدمان السهر؛ فإن مدافعة النوم وهجْره مورثٌ لآفاتٍ أُخَرَ من سوء المزاج، ويبسه، وانحرافِ النفس، وجفافِ الرطوبات المعِينة على الفهم والعمل، وتورث أمراضًا متلفة، وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به، فقد أخذ بحظِّه من مجامع الخير.

وفي "الآداب الكبرى" قال بعض الحكماء: النعاس يُذهِب العقل، والنوم يزيد فيه؛ فالنوم من نِعَم الله - جل شأنه - على عباده، ولهذا امتنَّ به عليهم في كتابه.

واليقظة أفضل من النوم، لا مطلقًا؛ بل لمن تكون يقظتُه طاعة، لا لمن تكون يقظته معصية، فإن كان لو لم ينم لم يشتغل بخير، وربما خالَطَ أهلَ الغفلة، وتحدَّث معهم، فضلاً عن إتيانه العظائمَ من الخطايا والجرائم - فالنوم خيرٌ له؛ بل ربما يكون واجبًا عليه إن كان لا يتخلص من ملابسة الحرام إلا به؛ إذ في النوم الصمت والسلامة، كما قال بعض السلف: يأتي على الناس زمان الصمتُ والنوم فيه أفضلُ أعمالهم.

وقال سفيان الثوري - رحمه الله ورضي عنه -: كانوا يستحبُّون إذا تفرَّغوا أن يناموا؛ طلبًا للسلامة.

فإذًا؛ النوم على قصْد طلب السلامة، ونية قيام الليل - قربةٌ، وأما إذا كان لو لم ينم لانبعث في العبادة من الأذكار والوظائف، فهذا يقظتُه خيرٌ من نومه، فإذا نام لأجْل أن يَذهَب عنه التعبُ والكسل والسآمة، وينهض إلى الوظائف والأذكار على غاية من النشاط، وصفاء الذهن والخاطر - فنومه أيضًا عبادة([7]).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



([1]) "في ظلال القرآن"، لسيد قطب، 8/ 430.

([2]) "مفتاح دار السعادة"، لابن القيم، 1/ 256.

([3]) ففي النوم واليقظة آياتٌ من آيات الله، ونعم من نعمه، بالراحة وابتغاء الرزق، ودلالات من أدلة توحيده وعظمته وقدرته الباهرة، كما أن في ذلك دلالةً على البعث؛ فالنوم أخو الموت؛ بل هو الموتة الصغرى، وإنما يستفيد من هذه الآيات، ويستدل بها على ما ذكر - مَن له سمع يسمع به ويفهم، وفكرٌ صحيح يتفكر به، كما أن في النوم قطعًا للأشغال، وراحة للأبدان، تستريح به من التعب؛ فهو من نعم الله العظيمة على الإنسان، فلله الحمد والشكر والثناء على ذلك - وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

([4]) "تفسير الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي"، 6/ 53 - 54.

([5]) "زاد المعاد في هدي خير العباد"، بتحقيق الأرناؤوط، 4/ 239 - 240.

([6]) المصدر السابق 241 - 242.

([7]) "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب"، 2/ 358.