خطوات إلى السعادة
ترجمات المادة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- خطوَات
... إِلَى السَّعَادَة
- المقدمة
- • أين أجد السعادة؟
- • طريق السعادة:
- • المحروم من السعادة:
- • كيف أعرف أني سعيد؟
- • ما هي الأعمال التي أخلص فيها الله؟
- • ما هو الإخلاص؟
- • أثر الإخلاص:
- • بركة العمل في الإخلاص وإن قل العمل:
- • ثمرات الإخلاص:
- هل الرياء يدخل على الصالحين؟
- منزلة التوكل
- • ثمرات التوكل على الله:
- • كيف أصل رحمي؟
- • فوائد العلم:
- • آداب طالب العلم:
- • عثرات طلب العلم:
- • هل في طلب العلم مشقة؟
- • الغربة في طلب العلم:
- • هل أتزوج وأنا أطلب العلم؟
- • ما هي مواصفات الزوجة التي أختارها؟
- • الأنبياء والابتلاء:
- • مكانة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:
- • ما هي العبادات التي أكثر منها؟
- أعاني من قسوة القلب فما هو الحل؟
- أفضل طريقة لحفظ القرآن
- • كيف أفرق بين المتشابهات في القرآن؟
- • ماذا أحفظ من المتون؟
- • طريقة حفظ المتون:
خطوَات ... إِلَى السَّعَادَة
تأليف د. عبد المحسن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقَاسِم إِمَام وخطيب الْمَسْجِد النَّبَوِيّ
(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذه مقتطفات مختصرة في موضوعات متنوعة تعين العبد للوصول إلى شاطئ السعادة، وقد سميته: "خطوات إلى السعادة"، وعلى هذا النهج سار الأئمة الأعلام في مؤلفاتهم، كابن القيم في كتابه "الفوائد" و"بدائع الفوائد"، وابن الجوزي في "صيد الخاطر"، وابن حزم في "مداواة النفوس". أسأل الله أن ينفع به وأن يجعله ذخراً لنا في الآخرة. د. عبد المحسن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقَاسِم إِمَام وخطيب الْمَسْجِد النَّبَوِيّ
(1/5)
السعادة السعادة جنة الأحلام ومنتهى الآمال، كل البشر ينشدها، وقليل من يدركها، ومع اختلاف العباد ومعايشهم وتباين وسائلهم وغاياتهم وتنوع لغاتهم وأجناسهم، ومع افتراق مشاربهم وطموحاتهم، إلا أنهم متفقون على طلب السعادة، لتوجعهم من مكابدة الحياة وآلامها، لطمعهم في حياة سعيدة هنيئة لا أحزان فيها ولا هموم، ونوال السعادة منحة من الرحمن يهبها لمن يشاء من عباده، فمنهم من ينعم في جناها، ومنهم من يحرمها ويعيش في أمانيها، والموفق من هدي إليها فسلكها وخطى إليها وعمل لها وجانب ما يضادها مما يجلب له الشقاء.
• أين أجد السعادة؟
ظن بعض الناس أن السعادة في المال والثراء، ومنهم من توهمها في المنصب والجاه، ومنهم من طلبها في تحقيق الأماني المحرمة، والخلق في سعي حثيث لنيلها، وفي جد وتشمير لتحصيلها، فمن مدرك لها ومن محروم منها، ومن بائس شقي توهم السعادة على غير حقيقتها، فآثر دنياه على دينه، وهواه على آخرته، فجنى الوهم والهم وكابد المعيشة وقاسى الأحزان. والسعادة لن تُنال إلا بتقوى الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبالبعد عن المعاصي والسيئات، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
(1/7)
قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. قال شيخ الإسلام: "الإيمان بالله ورسوله هو جماع السعادة وأصلها" (1) فالحياة وما فيها من متاع لا سعادة فيها بلا تقوى. قال الشاعر: ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد فتقوى الله خير الزاد ذخراً ... وعند الله للأتقياء مزيد
• طريق السعادة:
لا سبيل إلى السعادة إلا بطاعة الله، ومن أكثر من الأعمال الصالحة واجتنب الذنوب والخطايا عاش سعيداً وكان من ربه قريباً، قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. قال ابن كثير: "الحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت" (2) والسعادة تزهو إذا حقق العبد توحيد ربه، وعلق قلبه بخالقه، وفوض جميع أموره إليه. قال ابن القيم: "التوحيد يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة، والفرح والابتهاج" (3). والسعادة يكتمل عقدها بالإحسان إلى الخلق مع ملازمة طاعة الله. قال شيخ الإسلام: "والسعادة في معاملة الخلق: أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم _________ (1) فتاوى شيخ الإسلام 20/ 193. (2) تفسير ابن كثير 2/ 908. (3) زاد المعاد 4/ 202.
(1/8)
ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم وتكف عن ظلمهم خوفاً من الله لا منهم" (1). ومن ذاق طعم الإيمان ذاق حلاوة السعادة، وعاش منشرح الصدر مطمئن القلب ساكن الجوارح. قال ابن القيم: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، وقال لي مرة ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني" (2).
• المحروم من السعادة:
الشقاء في اتباع الهوى باقتراف المعاصي والسيئات، ولذات الدنيا المحرمة مشوبة بالمضار، وهي سبب الشقاء في الدنيا والآخرة قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]. أي في شدة وضيق. قال شيخ الإسلام: "كل شر في العالم مختص بالعبد، فسببه: مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة" (3). والفرار من الشقاء إلى السعادة يكون بالتوبة والإنابة إلى الله. قال ابن القيم: "ويغلق باب الشرور بالتوبة والاستغفار" (4) فاطرق أبواب التوبة وأوصد أبواب المعاصي لتذوق طعم السعادة، فعافية القلب في ترك الآثام والذنوب على القلب منزلة السموم إن لم تهلكه أضعفته، ومن انتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة أغناه الله بلا مال وآنسه بلا صاحب والشقي من أعرض عن طاعة مولاه، واقترف ما حرم الله. _________ (1) فتاوى شيخ الإسلام 1/ 51. (2) الوابل الصيب ص60. (3) فتاوى شيخ الإسلام 19/ 93. (4) زاد المعاد 4/ 202.
(1/9)
• كيف أعرف أني سعيد؟
من جمع ثلاثة كان سعيداً حقاً: الشكر على النعم، والصبر على الابتلاء، والاستغفار من الذنوب. قال ابن القيم: "إذا أُنعم عليه شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإن هذه الأمور الثلاثة عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبداً" (1). وإذا أطرقت ملياً تُحاسب نفسك على تقصيرها، وتعظم زلاتها، وتخشى من هفواتها خوفاً من بارئها، وتتغافل عما قدمت من محاسن بين يديها طمعاً في ثواب خالقها، فتلك أمارة على نفس تطلب حياة سعيدة. قال ابن القيم: "علامة السعادة أن تكون حسنات العبد خلف ظهره، وسيئاته نصب عينيه، وعلامة الشقاوة أن يجعل حسناته نصب عينيه، وسيئاته خلف ظهره" (2). فالسعيد من اتقى خالقه وحسنت معاملته مع الخلق، وشكر النعم واستعملها في طاعته، وتلقى البلاء بالصبر والاحتساب، وشرح الفؤاد يقيناً منه بأن الله يطهره بذلك ويرفع درجاته واستغفر ربه عن الخطايا وندم على الأوزار. _________ (1) الوابل الصيب ص6. (2) مفتاح دار السعادة 2/ 310.
(1/10)
الإخلاص لله طريق السعادة غنى العبد بطاعة ربه والإقبال عليه، وإخلاص الأعمال لله أصل الدين وتاج العمل، وهو عنوان الوقار، وسمو الهمة، ورجحان العقل، وطريق السعادة، ولا يتم أمر ولا تحصل بركة إلا بصلاح القصد والنية، وقد أمر الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالإخلاص في أكثر من آية، فقال له: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] وقال له: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11] وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14]، فصلاح العمل من صلاح النية، وصلاح النية من صلاح القلب. وأصل قبول الأعمال عند الله الإخلاص مع المتابعة يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قول وعمل ونية إلا بما وافق السنة". والإخلاص عزيز في جانب العبادات يقول ابن الجوزي (1): "ما أقل من يعمل لله تعالى خالصاً؛ لأن أكثر الناس يحبون ظهور عباداتهم". ويقول ابن رجب (2): "الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من _________ (1) صيد الخاطر ص251. (2) جامع العلوم والحكم 1/ 79.
(1/11)
الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة". وقد افتتح بعض العلماء كالإمام البخاري في صحيحه، والمقدسي في "عمدة الأحكام" والبغوي في "شرح السنة" و"مصابيح السنة"، والنووي في "الأربعين النووية"ـ مصنفاتهم بحديث: «إنما الأعمال بالنيات» إشارة منهم إلى أهمية الإخلاص في الأعمال. وسفيان الثوري يقول: "ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، لأنها تتقلب علي" والعمل من غير نية خالصة لوجه الله طاقة مهدرة، وجهد مبعثر، وهو مردود على صاحبه، والله تعالى غني حميد لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً له سبحانه. يقول أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه -: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا شيء له. فأعادها عليه ثلاث مرات ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: لا شيء له، ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغى به وجه الله" (رواه أبو داود والنسائي). ويقول عليه الصلاة والسلام قال الله عز وجل: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» (رواه مسلم). • الواجب في الإسلام الإخلاص مع كثرة العمل: العبرة في الإسلام ليست بكثرة العمل فحسب، إنما الواجب صحة الإخلاص لله وكثرة العمل الموافق لسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وقد جمع ربنا ذلك في قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فجمعت هذه الآية الإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. والعمل ـ وإن كان كثيراً ـ مع فقد صحة المعتقد يورد صاحبه النار قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
(1/12)
وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2] قال: "أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة".
• ما هي الأعمال التي أخلص فيها الله؟
بعض الناس يظن أن الإخلاص إنما هو فقط في الصلاة وقراءة القرآن وأعمال العبادات الظاهرة كالدعوة إلى الله والإنفاق، وهذا غير صحيح، فالإخلاص واجب في جميع العبادات حتى زيارة الجار وصلة الرحم وبر الوالدين، فهذه مطلوب فيها الإخلاص، وهي من أجل العبادات، وكل فعل يحبه الله ويرضاه واجب فيه إخلاص النية مهما كان العمل، حتى في جانب المعاملات كالصدق في البيع والشراء وحسن معاملة الزوجة والاحتساب في إصلاح الأولاد وغيرها، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في في امرأتك» (متفق عليه). فكل أمر يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فهو عبادة، وواجب فيها الإخلاص وإن دق العمل.
• ما هو الإخلاص؟
ضابط الإخلاص: أن تكون نيتك في هذا العمل لله لا تريد بها غير الله، لا رياء ولا سمعة ولا رفعة ولا تزلُّفاً عند أحد، ولا تترقب من الناس مدحاً ولا تخشى منهم قدحاً، فإذا كانت نيتك لله وحده ولم تزين عملك من أجل البشر فأنت مخلص، يقول الفضيل بن عياض: "العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما".
(1/13)
فأخلص جميع أعمالك له سبحانه ولا تتطلع لأحد، وأدخل نفسك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163].
• أثر الإخلاص:
إذا قوي الإخلاص لله وحده في الأعمال ارتفع صاحبه إلى أعالي الدرجات، يقول أبو بكر بن عياش: "ما سبقنا أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكنه الإيمان وقر في قلبه والنصح لخلقه". وفي هذا يقول عبد الله بن المبارك: "رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية" وبالعمل القليل مع الإخلاص يتضاعف الثواب، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه (1) حتى تكون مثل الجبل العظيم» (متفق عليه). قال ابن كثير (2): في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] قال أي بحسب إخلاصه في عمله. وإذا قوي الإخلاص وعظمت النية وأخفي العمل الصالح مما يشرع فيه الإخفاء، قَرُب العبد من ربه، وأظله تحت ظل عرشه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سبعة يظلهم الله في ظله ... وذكر منهم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». (متفق عليه).
• بركة العمل في الإخلاص وإن قل العمل:
إذا أخلص العبد النية وعمل عملاً صالحاً ولو يسيراً فإن الله يتقبله ويضاعفه. _________ (1) الفلو: المهر: وهو ولد الفرس. (2) تفسير ابن كثير 1/ 317.
(1/14)
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين» (رواه مسلم). وفي رواية: «مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة». فبإخلاصه مع يسر العمل أدخله الله الجنة برحمته. وتأمل في المرأة البَغيَّ التي عملت أعمالاً قبيحة، ثم عملت عملاً يسيراً في أعين البشر، وهو سقاية كلب، وليس إنساناً، فغفر الله لها بذلك العمل اليسير مع سوء عملها من البغي، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بينما كلب يطيف (1) بركية (2) قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها (3) فاستقت له به فسقته، فغفر الله لها به» (متفق عليه). • بالنية الصادقة تنال ثواب العمل وإن لم تعمل: الكرم من صفات رب العالمين، والعبد إذا أحسن القصد ولم تتهيأ له أسباب عمل الصالحات، فإنه يؤجر على ذلك الفعل وإن لم يعمله كرماً من الله وفضلاً، يقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فقال: «إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حسبهم المرض» وفي رواية: «إلا شركوكم في الأجر» رواه مسلم. ورواه البخاري عن أنس قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر». ويقول النبي عليه الصلاة والسلام عن الرجل الذي لا مال عنده وينوي الصدقة ويقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فهو بنيته فأجرهما سواء». (رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح). _________ (1) يطيف: يدور. (2) الركية: البئر. (3) الموق: الخف.
(1/15)
وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة». فالمسلم يجعل نيته في كل خير قائمة، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أفضل الأعمال صدق النية فيما عند الله". ومن سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله يأجر العبد إذا حسنت نيته حتى باللقمة. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجر عليها حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك» (متفق عليه). يقول زبيد اليامي: "انو في كل شيء تريد الخير حتى خروجك إلى الكناسة". ويقول داود الطائي: "رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية". وكان السلف الصالح يحثون على حسن النية في كل أمر صالح، يقول يحيى بن كثير: "تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل".
• ثمرات الإخلاص:
العمل الصالح لا يقبل إلا بالإخلاص، وبدون إخلاص يرد العمل ولو كثر، والإخلاص مانع بإذن الله من تسلط الشيطان على العبد قال سبحانه عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83]. والمخلص محفوظ بحفظ الله من العصيان والمكاره، قال سبحانه عن يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] وبالإخلاص رفعة الدرجات وطرق أبواب الخيرات، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنك لن تختلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله ازددت به درجة ورفعة» (متفق عليه). في الإخلاص طمأنينة القلب وشعور بالسعادة وراحة من ذل الخلق. يقول الفضيل بن عياض: "من عرف الناس استراح" إذا عرف أنهم لا ينفعونه ولا يضرونه استراح من الناس.
(1/16)
• كيف أكون مخلصاً لله في جميع أعمالي؟ الشيطان يتعرض للإنسان ليفسد عليه أعماله الصالحة، ولا يزال المؤمن في جهاد مع عدوه إبليس حتى يلقى ربه على الإيمان بربه وإخلاص جميع أعماله له وحده، ومن أهم عوامل الإخلاص: 1 - الدعاء: الهداية بيد الله والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالجأ إلى من بيده الهداية وأظهر إليه حاجتك وفقرك، واسأله دوماً الإخلاص وقد كان أكثر دعاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً". 2 - إخفاء العمل: كلما استتر العمل مما يشرع فيه الإخفاء كان أرجى للقبول وأعز في الإخلاص، والمخلص الصادق يحب إخفاء حسناته كما يحب أن يخفي سيئاته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذا منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه». (متفق عليه). يقول بشر بن الحارث: "لا تعمل لتذكر، اكتم الحسنة كما تكتم السيئة". وقد فضلت نافلة صلاة الليل على نافلة النهار واستغفار السحر على غيره، لأن ذلك أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص. 3 - النظر إلى أعمال الصالحين ممن هم فوقك: في أعمالك الصالحة لا تنظر إلى أعمال رجال زمانك ممن هم دونك في المسابقة إلى الخيرات، وتطلع دائماً إلى الاقتداء بالأنبياء والصالحين يقول سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. واقرأ سير الصالحين من العلماء والعباد والنبلاء والزهاد، فهو أرجى لزيادة الإيمان في القلب.
(1/17)
4 - احتقار العمل: آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه بعين الرضا فقد أهلكها، ومن نظر إلى عمله بعين العجب قلَّ معه الإخلاص، أو نزع منه أو حبط العمل الصالح بعد العمل، يقول سعيد بن جبير: "دخل رجل الجنة بمعصية، دخل رجل النار بحسنة، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: عمل رجل معصية فما زال خائفاً من عقاب الله من تلك الخطيئة فلقي الله فغفر له من خوفه منه تعالى، وعمل رجل حسنة فما زال معجباً بها ولقي الله بها فأدخله النار". 5 - الخوف من عدم قبول العمل: كل عمل صالح تفعله احتقره وإذا عملته كن خائفاً من عدم قبوله. ولقد كان من دعاء السلف: "اللهم إنا نسألك العمل الصالح وحفظه" ومن حفظه عدم العجب والفخر به، بل يبقى الخوف من عدم قبوله معلقاً، يقول سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92]. وروى الإمام أحمد والترمذي أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: «لا يا بنت أبي بكر الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم خائفون ألا يتقبل منهم». قال ابن كثير في تفسير (1) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا ...} [المؤمنون: 60]: "أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء". والإخلاص يحتاج إلى مجاهدة قبل العمل وأثناءه وبعده. _________ (1) تفسير ابن كثير 3/ 248.
(1/18)
6 - عدم التأثر بكلام الناس: الرجل الموفق هو الذي لا يتأثر بمدح الناس فإذا أثنوا عليه خيراً إن فعل طاعة لم يزده ذلك إلى تواضعاً وخشية من الله، وأيقن بأن مدح الناس له فتنة، فدعا ربه أن ينجيه من هذه الفتنة، فليس أحد ينفع مدحه ويضر ذمه إلا الله، وأنزل الناس منزلة أصحاب القبور في عدم جلب النفع لك ودفع الضر عنك، يقول ابن الجوزي (1): "ترك النظر إلى الخلق ومحو الجاه من قلوبهم بالعمل وإخلاص القصد وستر الحال هو الذي رفع من رفع". 7 - استصحاب أن الناس لا يملكون جنة ولا ناراً: إذا شعر العبد بأن الذين يرائي لهم سوف يقفون معه في المحشر خائفين عارين أدرك أن صرف النية لهم في غير محله حيث لم يخففوا عنه وطأة المحشر، بل هم معه في ذلك الضنك، فإذا عملت ذلك علمت أن إخلاص العمل حقه أن لا يصرف إلا لمن يملك جنة وناراً. فعلى المؤمن أن يوقن بأن البشر لا يملكون جنة يقدمونك إليها، ولا قدرة لهم على إخراجك من النار لو طلبت منهم إخراجك منها، بل لو اجتمعت البشر كلهم من آدم إلى آخرهم، ووقفوا خلفك، لما استطاعوا أن يقدموك إلى الجنة ولو بخطوة واحدة، إذاً لماذا ترائي البشر وهم لا يملكون لك شيئاً؟ قال ابن رجب (2): "من صام وصلى وذكر الله، ويقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا خير له فيه بالكلية، لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه، لما يترتب عليه من الإثم فيه ولا لغيره". أي ولا نفع فيه أيضاً لغيره. ثم إن الذين تُزين عملك لهم من أجل أن يمدحوك لن تحصل مرادك منهم، بل إنهم سوف يذمونك، وتفضح عندهم، ويلقى في قلوبهم بغضك، يقول عليه الصلاة والسلام: «من يرائي الله به» رواه مسلم. أما إذا أخلصت لله أحبك الله الخلق، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا _________ (1) صيد الخاطر ص251. (2) جامع العلوم والحكم 1/ 67.
(1/19)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] أي محبة. 8 - تذكر أنك في القبر بمفردك: النفوس تصل بتذكر مصيرها، وإذا أيقن العبد أنه يوسَّد اللحد منفرداً بلا أنيس، وأنه لا ينفعه سوى العمل الصالح، وأن جميع البشر لن يرفعوا عنه شيئاً من عذاب القبر، وأن الأمر كله بيد الله، حين ذاك يوقن العبد أنه لا ينجيه إلا إخلاص العمل لخالقه وحده جل وعلا. يقول ابن القيم (1): "صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته، فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها". _________ (1) طريق الهجرتين ص297.
(1/20)
هل الرياء يدخل على الصالحين؟
مداخل الشيطان على العبد عديدة ويلبس كل صنف لبوسهم فيؤُزُّ التجار إلى أكل الربا، ويزين للنساء أمور الزينة المحرمة، ويدخل على الصالحين من باب الرياء. قال الطيبي عن الرياء: "وهو من أضر غوائل النفس وبواطن مكائدها، يبتلى به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة". وهو من أخفى الأبواب وأضرها على العبد. قال في تيسير العزيز الحميد (1): "الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال". اهـ. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخافه على أصحابه ويقول لهم: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يرى من نظر الرجل» (رواه أحمد). والصالح إذا كان يرائي بعمله يعذب في الآخرة قبل غيره، يقول عليه الصلاة والسلام: «أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يُقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمَّه وقرأ القرآن فأتي به فعرَّفه _________ (1) تيسير العزيز الحميد ص354.
(1/21)
نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار» (رواه مسلم). فتأمل هذا الحديث فإن أول الناس يقضى فيهم يوم القيامة المجاهد والمتعلم والمتصدق إذا فسدت نياتهم، ويسحبون على وجوههم في النار مع أن العمل الذي عملوه من أجل الأعمال عند الله ولكن جنوح النية عن الإخلاص أرداهم في الهاوية. • ليس هذا من الرياء: من عمل عملاً صالحاً خالصاً لوجه الله، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين وهو لم يترقب ذلك ففرح بفضل الله واستبشر بذلك، فإن هذا لا يضره وليس هذا من الرياء. يقول أبو ذر - رضي الله عنه - سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» رواه مسلم. أما من عمل عملاً صالحاً وزيَّنه من أجل أن يمدحه الناس عليه فهذا هو الرياء. • عقاب المرائي: ضاعت آمال المرائي وخاب سعيه وعُومل بنقيض قصده وعوقب بعقوبتين: عقوبة في الدنيا وعقاب في الآخرة. * عقوبته في الدنيا: في الدنيا يفضح الله المرائي ويهتك ستره ويظهر خباياه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يسمع يسمع الله به ومن يرائي يراء الله به». رواه مسلم. قال
(1/22)
الخطابي: معناه من عمل عملاً على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه. حتى وإن أخفى المرائي كوامن النفس وخفايا الصدور فإن الله يعلنها، يقول عليه الصلاة والسلام: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور». (رواه البخاري). * عقابه في الآخرة: المرائي في الآخرة متوعد بنار جهنم قال جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 و 16]. ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: «أول الناس يقضى يوم القيامة عليه ... وذكر منهم: الشهيد، وقارئ القرآن، والمتصدق، ـ الذين كانت أعمالهم لغير الله ـ فيقال له كذبت ولكنك فعلت ليقال كذا فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار». فالمرائي في الدنيا مفضوح وفي الآخرة معذب.
(1/23)
طلب الدنيا بالدين الدين أعز من أن يُدنس بوحل الدنيا، وعمل البر لا يقوم على سوقه إلا بالإخلاص، ومن صرف أعمال الآخرة لمقصد دنيوي عوقب به، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» يعني ريحها. رواه أحمد وأبو داود. والعمل الصالح وإن كان كثيراً مع فساد النية يورد صاحبه المهالك، فقد أخبر الله عن المنافقين أنهم يصلون وينفقون ويقاتلون، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم أنهم يتلون كتاب الله في قوله عليه الصلاة والسلام: «ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر». متفق عليه. ولفقد صدقهم في إخلاصهم قال الله عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] وأول من تسعر بهم النار قارئ القرآن والمجاهد والمتصدق بماله الذين لم تكن أعمالهم خالصة له، وإنما فعلوا ذلك ليقال فلان قارئ، وفلان جريء وفلان متصدق. فابتغ بقولك وفعلك ما عند الله فإنه يبقى وما سواه يفنى. وإذا عمل العبد عملاً أظهر منه قصد الخير ونيته في ذلك تحيل مقصد دنيوي فهذا ضرب من النفاق العملي. قال ابن رجب (1): "ومن أعظم خصال _________ (1) جامع العلوم والحكم 2/ 493.
(1/24)
النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملاً ويظهر أنه قصد به الخير، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سيء فيتم له ذلك، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهر، وتوصل به إلى غرضه السيء الذي أبطنه وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود". ومن أحب المدح بما لم يفعل فهو متوعد بالنار قال جل وعلا: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188].
(1/25)
منزلة التوكل
التوكل منزلة عالية من منازل الدين قرنه الله بالعبادة في قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]. وجعله سبباً لنيل محبته فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. في التوكل رضا الرحمن ومنعة من الشيطان والرسل عليهم السلام هم أئمة المتوكلين فالخليل قال: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]. وشعيب عليه السلام قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. ومن حقق التوكل دخل الجنة بغير حساب. وأمور الدنيا وزينتها قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم، ولا يقدم في ذلك إلا التوكل على الله. ولما سئل الإمام أحمد عن التوكل قال: "هو قطع الاستشراف باليأس من الخلق" والتعلق بالأسباب لا يجدي في تحقيق المطلوب. • فعل الأسباب لا ينافي التوكل: الالتفات إلى الأسباب نقص في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب التي أمر بها قدح في الشرع، وعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله لا على الأسباب. وحقيقة التوكل: القيام بالأسباب والاعتماد بالقلب على المسبب واعتقاد أنها بيده، فإن شاء منع اقتضاءها، وإن شاء جعلها مقتضية لضد أحكامها،
(1/26)
وإن شاء أقام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه. والموحد المتوكل لا يطمئن إلى الأسباب ولا يرجوها كما أنه لا يهملها أو يبطلها بل يكون قائماً بها ناظراً إلى مسببها سبحانه ومجريها. وعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه، وتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله المقدورات بها، فإن الله أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، والناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك يجهدون أنفسهم في الأسباب ومن تعلقت نفس بالله وأنزل به حوائجه، والتجأ إليه وفوض أمره كله إليه، كفاه كل سؤله ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله وتمائمه، واعتمد على حوله وقوته، وكله الله إلى ذلك وخذله. ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح وهو نوع من الطلب والسعي، ولكنه سعي يسير. قال في تيسير العزيز الحميد (1): "وهذا معروف بالنصوص والتجارب".
• ثمرات التوكل على الله:
في التوكل على راحة البال، واستقرار في الحال، ودفع كيد الأشرار، وهو من أقوى الأسباب التي يدع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم، وبالتوكل تستغني النفس عما في أيدي الناس، يقول شيخ الإسلام (2): "وما رجا أحد مخلوقاً أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه"، ومن فوض أمره إلى مولاه حاز مناه، وزكريا بلغ من الكبر عتياً ثم وُهب سيداً من فضلاء البشر _________ (1) تيسير العزيز الحميد ص170. (2) الفتاوى 10/ 257.
(1/27)
وأنبيائهم وإبراهيم بشر بولد وامرأته تقول بعد يأس من حالها: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72]. وترك الخليل هاجر وابنه إسماعيل بواد لا زرع فيه ولا ماء فإذا هو نبي يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وما ضاع يونس مجرداً في العراء. يقول الفضيل بن عياض: "لو يئست من الخلق لا تريد منهم شيئاً لأعطاك مولاك كل ما تريد". فألق كنفك بين يدي الباري، وعلق رجاءك به، وسلم الأمر للرحيم، واقطع العلائق عن الخلائق، ولا ترج إلا الله، وإذا قوي التوكل والرجاء، وجمع القلب في الدعاء لم يرد النداء، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]، والجأ إلى الله بقلب خاشع ذليل يفتح لك الباب.
(1/28)
طلب الرزق السعي في طلب الرزق هم كثير من الخلق، فالصغير ينشده والكبير يطلبه، وأكثر هموم الحياة وأحاديثها وأحداثها تدور في فلكه، والمؤمن الحاذق من يفوض أمر الرزق إلى الرازق. فالرزق ما كان لك منه أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بوقتك، فلا تضيع زمانك بهمك بما ضمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً، قال سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]. قال بعض السلف: "توكل تُسق إليك الأرزاق بلا تعب ولا تكلف". وعلى العبد أن يقنع بما أعطاه الله من الرزق، يقول عمر بن عبد العزيز: "بين العبد وبين رزقه حجاب فإن قنع ورضيت نفسه أتاه رزقه، وإن اقتحم وهتك الحجاب لم يزد فوق رزقه". ومن نظر إلى من دونه في الدنيا امتلأ قلبه غنى من الحياة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انظروا إلى ن هو دونكم في الدنيا وانظروا إلى من فوقكم في الدين». (رواه البخاري). فكن متوكلاً على الله في طلب الرزق بقلبك، ساعياً له بجوارحك مع الاعتماد على الخلاق الكريم، وإياك والحرص على تحقيق أملك من
(1/29)
الحياة، فإن ذلك قد يخرجك من طور التوكل، فتحرص على تحقيق المرام، وتعتمد على الأسباب دون التفويض بالقلب، والله عز وجل إذا أغلق عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده.
(1/30)
حسن الظن بالله التفاؤل حسن ظن بالله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: «يعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الطيبة». (متفق عليه). والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله على كل حال، والتشاؤم سوء ظن بالله، وإذا زاد إيمان العبد حسن ظنه بربه، وإذا نقص إيمانه بربه ساءت ظنونه بخالقه، فمن ظن أن الله لا ينصر عباده الموحدين، ولا يُعليهم، أو أن الله لا يظهر دينه، أو ظن أنه ينال ما عند الله بمعصيته ومخالفته كما يناله بطاعته والتقرب إليه، أو ظن أنه إذا ترك شيئاً من أجله لم يعوضه الله خيراً منه، أو ظن أن من فعل شيئاً لأجله لم يعطه أفضل منه، أو ظن أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكل عليه، أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله، أو ظن أن الكرم طريق إلى الفقر، أو ظن المتصدق أن المال ينقص بالصدقة، أو ظن أن الله لا يخلف عن صدقته مالاً، أو ظن أن التمسك بهذا الدين لا يعلي شأن صاحبه فمن ظن شيئاً من ذلك، فقد ظن بالله ظن السوء، ووقع فيما نهى الله عنه. وإنما كان هذا ظن سوء بالله لأنه ظن بالله غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجماله وكماله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته تأبى ذلك. وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا
(1/31)
يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته. وعرف موجب حكمته وحمده. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1): "لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه". قال ابن القيم (2): "فأكثر الخلق، بل وكلهم إلا من شاء الله، يظنون بالله غير الحق، وظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه، ولسان حاله يقول ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعتباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجياً فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء ومنبع كل شر". فيجب على المسلم أن لا يظن بربه ظن السوء، وأن يحسن ظنه بربه في كل شأنه. في الحديث القدسي قال الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي» (متفق عليه). _________ (1) مسائل كتاب التوحيد ص474. (2) زاد المعاد 3/ 235 ..
(1/32)
بر الوالدين جعل الله الوالدين موئل السعادة، وروضة العطف والحنان، فحقهما عظيم، ومعروفهما لا يجازى، وجميلهما يربو على كل جميل من الخلق، وليس في الناس أعظم إحساناً ولا أكثر فضلاً من الوالدين. بر الوالدين خلق الأنبياء ودأب الصالحين، وسبب تفريج الكربات وتنزل البركات وإجابة الدعوات، به ينشرح الصدر وتطيب الحياة، قال تعالى في وصف نبيه يحيى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]. ويقول عن عيسى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32]. ومن كان باراً بوالديه كان سعيداً متواضعاً. بر الوالدين من شيم الكرام ودليل الفضل والكمال، وهو طريق إلى الجنة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه». (رواه الترمذي وصححه). حقهما واجب بعد حق الله تعالى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]. برهما عمل محبب إلى الله وأفضل من الجهاد في سبيل الله قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها، قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» (متفق عليه).
(1/33)
برهما سلوك لطريق الجنة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة» (رواه مسلم).
(1/34)
صلة الأرحام من أجل القربات عند الله وأفضل الطاعات صلة الرحم، ومن فضل الله وكرمه أن جعل صلة الرحم بركة في الوقت وزيادة في رزق العبد، يقول عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» متفق عليه. وواجب على المسلم أن يكون واصلاً ومواصلاً لرحمه، ومن الأفضل أن يحدد يوماً معلوماً في الأسبوع لزيارة أقاربه ويتبادل معهم أطراف الأحاديث، فإن في ذلك سلامة للقلب، وصلة الرحم لا تشغل عن طلب العلم أو الدعوة أو نفع الناس، فزيارتهم هي بركة العمر ومن أراد زيادة بركة حياته فليكثر من صلة رحمه. قال ابن التين: "صلة الرحم تكون سبباً للتوفيق في الطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى الذكر الجميل فكأنه لم يمت". والمسلم لا يستكثر ذلك عليهم، فرحم الإنسان هم أولى الناس في الرعاية وأحقهم بالعناية وأجدرهم بالإكرام والحماية، يقول جل وعلا: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]. «والرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصلته ومن قطعني قطعته» (متفق عليه). صلة الرحم توفيق في الحياة وإثراء للمال، يكتب الله بها العزة، وصلتهم عبادة جليلة من أفضل العبادات، يقول عمرو بن دينار: "ما من خطوة بعد
(1/35)
الفريضة أعظم أجراً من خطوة إلى ذي الرحم"، وقريبك قطعة منك إن أحسنت إليه فإنما تحسن إلى شخصك، وإن بخلت عليه فإنما تبخل عن نفسك، والله خلق الرحم وشق لها اسماً من اسمه، ووعد ربنا بوصل من وصلها "أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال فذاك لك" (متفق عليه). وصلة الرحم تدفع بإذن الله نوائب الدهر، وترفع بأمر الله عن المرء البلايا، ومن وصله الرحيم وصله كل خير، ولم يقطعه أحد، ومن تره الجبار لم يصله بشر وعاش في كمد.
• كيف أصل رحمي؟
الرحم توصل بمعاهدتهم بالزيارة، بإكرام كريمهم، وعيادة سقيمهم، والتيسير على معسرهم، وتفقد أحوالهم. وفي الوسائل الحديثة عون على الطاعة بأداء هذه العبادة، ففي الهاتف امتداد جسر العطف والمحبة، وفي المراسلة بقاء الود، وفي تبليغ السلام تجديد العهد. وكل وسيلة مباحة لتقوية أوَّار ذوي القربى اغتنمها في أداء تلك العبادة. ودعوة أقاربك وتوجيههم وإرشادهم ونصحهم ألزم من غيرهم قال سبحانه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. • أقاربي يسيئون إلي: الأقارب ليسوا سواء في الصلة والمودة والرحمة، وصلة الأرحام عبادة عظيمة لا تفعل لفعل الناس لها، ولا تترك لترك الأرحام لها، بل المسلم واصل لرحمه ولو قطعوه أداء للعبادة، يصلهم لا مكافأة وإنما تعبداً لله جل وعلا، يقول عليه الصلاة والسلام: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها» (رواه البخاري). وأقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركون آذوه أذية شديدة، ومع ذلك كان يصلهم ويقول: «غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها» رواه مسلم، والله عز وجل يقول له مع محاربتهم له: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
(1/36)
وإذا أساء إليك القريب فأحسن إليه، وهذا هو الدواء الشرعي فالمسيء تقابل سيئته بالحسنة، وفي هذا الصنيع علو ورفعة عند الله، وعزة عند خلقه بإلجام النفس عن قبائحها، يقول عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]. ولا يوفق لهذه الخلة إلا من أرخص نفسه في جنب الله. وثمة خير آخر من الإحسان إليهم مقابل إساءتهم وهو كظم الغيظ، وذلك من صفات أهل الجنة، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134]. وفي مقابلة إساءتهم بالإساءة هجر لعبادة صلة ذوي القربى، وتأجيج للقطيعة، ووقوع في حبائل الشيطان وشراكه. جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال عليه الصلاة والسلام: «لأن كان كما تقول فكأنما تسفهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» (رواه مسلم).
(1/37)
المحافظة على الوقت الأيام أجزاء من العمر ومراحل من الطريق، تفنى يوماً بعد يوم، ومضيها استنفاد للأعمار واستكمال للآثار وقرب من الآجال، وغلق لخزائن الأعمال، والشاب الحاذق يغتنم زهرة شبابه في حفظ القرآن والمتون وحضور دروس العلماء وقراءة الكتب والعبادة عملاً بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» (رواه ابن ماجه). وما نبغ من نبغ من العلماء إلا بمحافظتهم على أعمارهم بحفظ زمانهم، وصحبة صالحة أعانتهم على طاعة ربهم.
(1/38)
فضل العلم العلم أفضل مكتسب، وأشرف منتسب، وأنفس ذخيرة تقتنى، وأطيب ثمرة تجنى، وما اكتسب مكتسب مثل علم يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى، يقول سفيان بن عيينة: "من طلب العلم فقد بايع الله". وهو ميراث النبوة كما قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16]. ومن أورثه الله علم الكتاب والسنة فقد اصطفاه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» (رواه البخاري). طلب العلم والاستزادة منه شرف لا يضاهى، وفضل لا يحد، ثمراته معجلة، وقطوفه دانية، طالبه منظوم في سلك العظماء {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]. ولا أنفع بإذن الله للعبد من التحصن بعلم الشريعة. سلوك طريقه توفيق للخلود في الجنان، الخلق عنه راضون، ولصنيعه مستغفرون، والملائكة لمجالسة أهله راغبون. العقلاء على تعظيم العلم والحث على تحصيله، وقد رفع الله بالعلم أقواماً فجعلهم في الخير قادة، فكم من وضيع رفعه العلم إلى مصاف الشرفاء، وكم من حقير عند الناس نظمه العلم في سلك العظماء.
(1/39)
تحب الملائكة مجالسة أهله، وبأجنحتها تحفهم، ومن في السموات ومن في الأرض مستغفر لهم، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاءً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» (رواه أبو داود والترمذي).
• فوائد العلم:
العلوم النافعة تصلح العقائد، وتزكي النفوس، وتهذب الأخلاق، وتكون بها الأعمال الصالحة مثمرة الخيرات، والعلم هو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، ومنار سبيل الجنة، وهو عبادة جليلة من أجل العبادات، يقول بشر الحافي: "لا أعلم على وجه الأرض عملاً أفضل من طلب العلم" من غرس العلم اجتنى النباهة، ومن غرس الوقار اجتنى المهابة. قال ابن حزم (1): "لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به الوساوس المضنية، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم، وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داع إليه، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره".
• آداب طالب العلم:
إذا جلست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وليكن سؤالك تفقهاً لا تعنتاً. قال لقمان: "يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل المطر". _________ (1) مداواة النفوس من رسائل ابن حزم 1/ 343.
(1/40)
وعليك بتبجيل العلماء وأهل الفضل والإيمان وإذا تعلم الإنسان وحصل قدراً من العلم، فليعلم أنه قليل بجانب ما جهل، فلا يدخله العجب، والعلم لا ينال إلا بالتواضع وإلقاء السمع، فاحترم معلمك وجل قدره بالتأدب معه في الحديث والاستماع والهيئة. وسوء الأدب معه مروق من صفات المروءات والأعراف وزيغ عن سير الأسلاف يقول الربيع: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له". واشكر معلمك على إرشاده وإخلاصه لحالك، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، ومن مودة المتعلم بمعلمه الاعتذار له ونسب العتب للنفس. وأحسن إليه في الخطاب وتلطف في السؤال والجواب. واحذر المباهاة والمماراة، واصغ إلى حديث معلمك ولا تنثن عن الاستفهام فيما أشكل عليك من علوم الشريعة فالسؤال عن الدين شرف، والإعراض عن السؤال والبقاء على الجهل مهانة. تقول عائشة رضي الله عنها: "رحم الله نساء الأنصار لم يكن الحياء يمنعهن أن يتفقهن في الدين". • الأقران: الخصال الصالحة من البر لا تحيا إلا بالموافقين في الطباع، ومن أخص الصفات في الصاحب أن يكون ذا فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء. ولا تلزم سوى الصالحين فنعم العون هم على أمور الدنيا والدين. ومن سمات المسلم أن لا يحسد أحداً من أقرانه على ما منحه الله من نعم من حفظ أو فهم أو إدراك أو بدو علامات نفعه للمسلمين، ويحفظه في غيبته فلا يؤذيه، ولا يهتك عرضه بالنميمة والبهتان. وقد كان السلف يعظم أحدهم قرينه ويبجله مع سلامة قلبه له والثناء عليه في غيبته، ولقد كان ابن كثير وابن القيم كلاهما أقران وهما من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر إلى تعظيم ابن كثير لقرينه ابن القيم
(1/41)
وهو يترجم له، يقول عنه (1): "كان حسن القراءة والخلق وكثير التودد لا يحسد أحدا، وكنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه". اهـ. فبسلامة الصدر والمحبة في الله نفع أمثال هؤلاء المسلمين. فصاحب المجدين المتيقظين للزمان، وجانب المجالسة الخاوية، واقرأ سير الأفذاذ واستزد من المعرفة بعلوم الشريعة، واغتنم حياتك النفسية واحتفظ بأوقاتك العزيزة، وحث رفقاءك على تحصيل العلم، وانصح لهم في الدين، ولا تحسد ذا نعمة على نعمته بالحفظ والفهم، وسل المنعم التوفيق دوماً، فالعون من الوهاب لا بالركون إلى الأسباب.
• عثرات طلب العلم:
العوائق والآفات عثرات أمام مواصلة سير الطلب، فالحفظ والمدارسة لا تحمدان بحضرة الشواغل والصوارف. وفي الملهيات الحضارية المحذورة، والمحطات الفضائية، إشغال للأفكار وعيش في الأوهام، وهدر للأوقات، وفي مجانبتها صيانة للدين وصفاء الأذهان وحفظ الأزمان ومسابقة الأقران، فنزه سمعك وبصرك عما يلوث فكرك ويسيء إلى سلوكك، ويفسد أخلاقياتك، وآفة العلم الإعجاب، وحليته الحلم والتواضع، والسعيد من عرف الطريق إلى ربه وسلكه قاصداً الوصول إليه، والمحروم من عرف الطريق ثم أعرض عنه.
• هل في طلب العلم مشقة؟
طلب العلم شاق، ولكن له لذة ومتعة، والعلم لا ينال إلا على جسر من التعب والمشقة، ومن لم يتحمل ذل العلم ساعة يتجرع كأس الجهل أبدا. _________ (1) البداية والنهاية 18/ 523.
(1/42)
والعلم والعمل لا مناص من الصبر عليهما، والصابر موعود بالجنان: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]، ولا ينال العلم إلا بالصبر على المكاره، وبذل النفوس في طلبه والتفاني فيه، قال ابن الجوزي (1): "ولقد كنت في حلاوة طلب العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبى آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت اللقمة شربت عليها وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم". وقال ابن كثير عن نفسه وهو يؤلف كتاب جامع المسانيد: "لا زلت أكتب فيه في الليل والسراج ينونص (2) حتى ذهب بصري معه" (3). ويقول أبو حاتم الرازي: "أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ (4)، ثم تركت العدد بعد ذلك، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشياً، ثم إلى الرملة ماشياً، ثم إلى دمشق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى طرسوس، ثم رجعت إلى حمص، ثم منها إلى الرقة، ثم ركبت إلى العراق، كل هذا وأنا ابن عشرين سنة" (5). وبالنظر إلى عواقب الأمر يهون الصبر عن كل ما تشتهي وتكره. ومن أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يحمد ما جنى من غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم. قيل للإمام أحمد: "متى الراحة؟ قال: عند وضع أول قدم في الجنة". والله معك على قدر صدق الطلب وقوة اللجأ وخلع الحول والقوة. _________ (1) صيد الخاطر ص151. (2) ينونص: أي يرتفع ضوؤه وينخفض. (3) المصعد الأحمد في تم مسند الإمام أحمد ص23، لمحمد بن الجزري. (4) الفرسخ: 5.5 كيلومتر تقريباً أي أنه قطع 5.500 كيلومتر على قدميه في تلك الرحلة في طلب العلم ثم بعد ذلك توقف عن حساب ما قطعه من المسافات. (5) طبقات الشافعية الكبرى 2/ 208.
(1/43)
• الغربة في طلب العلم:
البعد عن الأهل والأوطان يظهر مناصع الرجال وكريم الخلال، وفي الغربة دربة على مشقة الحياة وضيق الابتلاء، وهو مدرسة للشموخ في العلم، ودرس في أن الحياة قد لا يدوم فيها الرخاء والترف، وفي الغربة انطلاقة لطالب العلم في عدم الاعتماد على الأهل، وأن الحياة لا تدوم على حال، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي في ديوانه: تغرب عن الأوطان في طلب العلا ... وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفرج هم واكتساب معيشة ... وعلم وآداب وصحبة ماجد وقال أيضاً: ما في المقام لذي عقل وذي أدب ... من راحة فدع الأوطان واغترب سافر تجد عوضاً عمن تفارقه ... وانصب فإن لذيذ العيش في النصب إني رأيت وقوف الماء يفسده ... إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست ... والسهم لولا فراق القوس لم يصب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة ... لملها الناس من عجم ومن عرب
(1/44)
والبدر لولا أفول منه ما نظرت ... إليه في كل حين عين مرتقب والتبر كالتبر ملقى في أماكنه ... والعود في أرضه نوع من الحطب فإن تغرب هذا عز مطلبه ... وإن تغرب ذاك عز كالذهب وإذا صدق الغريب مع الله شرح الله صدره في غربته، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان مدخله إلى المدينة مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر، وأدرك خيري الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب، فإنه لم يكن بالله ولا لله، بل كان محادَّةً لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار، وما خرج أحد من بيته إلى بلد آخر إلا يكون بصدق أو كذب فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق أو الكذب. والله عز وجل إذا أراد رفعة عبد كسره أولاً، فإذا لجأ إلى الله وطلب ما عنده وتقرب إليه بالطاعات، رفعه الله بعد ذلك بقدر انكساره لله تعالى. فلا تحزن في الغربة ولا تضجر من كرباتها، فقد لاقى العلماء منها المشقة الضنك، فلم يزدهم ذلك إلا صموداً في طلب العلم حتى حفظ هذا الدين على أعناق أولئك العظام. فسر على ما سار عليه العلماء فأنت في الغربة تخطو خطواتهم، وكن متعلقاً بالله عز وجل في غربتك، واحفظه بالطاعة ليحفظك ربك ويحفظ أهلك في ديارهم وتأنس في التغرب. • مشقة الغربة: فراق الوطن عزيز على النفس ثقيل على الطباع، ولما أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة نظر إليها وقال: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (رواه أحمد).
(1/45)
وقد لاقى فحول العلماء في الغربة ما لاقوا، ولم يثنهم ذلك عن مواصلة طلب العلم، فالإمام أحمد لما خرج إلى عبد الرزاق الصنعاني في اليمن، انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه (أي أجرها) على جلالة قدره وعلمه من بعض الحمالين إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه عرضوا عليه المواساة فلم يقبل من أحد شيئاً (1). ورهن الإمام أحمد نعله عند خباز على طعام أخذه منه عند خروجه من اليمن (2). وقال الحافظ ابن كثير (3) ـ وهو يتحدث عن الشدائد التي لقيها الإمام أحمد خلال رحلته إلى اليمن وإقامته فيه لتحصيل العلم والحديث ـ قال: "وسرقت ثيابه وهو باليمن، فجلس في بيته ورد عليه الباب، وفقده أصحابه، فجاؤوا إليه فسألوه، فأخبرهم فعرضوا عليه ذهباً فلم يقبله، ولم يأخذ منهم إلا ديناراً واحداً ليكتب لهم به، ـ أي أخذ الدينار على أن يكون أجرة لما ينسخه لهم من الكتب ـ، فكتب لهم بالأجر رحمه الله". والإمام البخاري في الغربة لا يجد ما يستر به عورته، وحكى الخطيب البغدادي (4) في ترجمة الإمام البخاري قال: "قال عمر بن حفص الأشقر إنهم فقدوا البخاري أياماً من كتابة الحديث بالبصرة، قال: فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان، وقد نفد ما عنده ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث". اهـ. بل كان يأكل من الأرض، وما عنده ما يشتري به طعاماً. يقول الإمام البخاري عن نفسه: "خرجت إلى آدم ابن أبي إياس في عسقلان، فتخلفت عني نفقتي حتى جعلت أتناول حشيش الأرض ولا أخبر بذلك أحداً، فلما كان اليوم الثالث أتاني آت لم أعرفه، فناولني صرة دنانير، وقال أنفق على نفسك" (5). _________ (1) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص226. (2) مناقب الإمام أحمد ص226، الحلية 8/ 174 - 175. (3) البداية والنهاية 10/ 343. (4) تاريخ بغداد 2/ 13. (5) طبقات الشافعية الكبرى 2/ 227.
(1/46)
وأبو حاتم يحكي لنا ما قاساه في طلب العلم من الشدة يقول: "في سنة أربع عشرة ـ أي ومائتين ـ بقيت ثمانية أشهر بالبصرة، وكان في نفسي أقيم سنة، فانقطعت نفقتي فجعلت أبيع ثيابي حتى نفدت وبقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي وإلى المشيخة وأسمع إلى المساء، فانصرف رفيقي ورجعت إلى بيتي لجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت فغدا علي رفيقي فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، وانصرفت جائعاً، فلما كان من الغد غدا علي فقال مر بنا إلى المشائخ، قلت أنا ضعيف لا يمكنني، قال ما ضعفك؟ قلت لا أكتمك أمري قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئاً، فقال قد بقي معي دينار، فنصفه لك ونجعل النصف الآخر في الكراء فخرجنا من البصرة وقبضت منه النصف دينار" (1). • الأخوة في الله: كل رابط في الحياة ينقلب في الآخرة إلى عداوة إلا ما كان في ذات الله قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] قال ابن كثير في تفسيره (2): "أي كل صداقة وصحابة لغير الله تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه". والله عز وجل يحب المتآخين في ذاته المتوادين على طاعته. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال أين تريد؟ قال أريد أخاً لي في هذه القرية. قال هل لك عليه من نعمة تربها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه». (رواه مسلم). المحبة في الله محبة مأمونة منزوعة المكر، بعيدة عن الخيانة أو الخذلان، لا تخشى فيها الغوائل، متوارية عن المصالح الدنيوية باقية ببقاء الله وهو سبحانه حي لا يموت. _________ (1) سير أعلام النبلاء 13/ 256. (2) تفسير ابن كثير 4/ 133.
(1/47)
الأخوة في الله عبادة ميسورة ممزوجة بالمتعة والأنس، تزداد بالإيمان والنصح وحفظ السر وإيصال النفع لأخيك وكف الضر عنه. وتصفو مودتها بصدق الحديث ونبذ الحسد ومجانبة المكر أو النكاية. آية صدقها الوفاء والأمانة والهدية. قال عليه الصلاة والسلام: «تهادوا تحابوا». (رواه البخاري في الأدب المفرد). كمال الإيمان مقيد بها، قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم». (رواه مسلم). حقيقتها جسد واحد تعدد فيه القلوب قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمنون كرجل واحد» رواه مسلم وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (متفق عليه). وإذا كان المؤمنون إخوة أمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب واجتماعها، ونهوا عما يوجب تنافر القلوب واختلافها. • حضور دروس العلماء: حضور دروس العلماء عبادة جليلة، ففي دروسهم زيادة إيمان ومجالسة للصالحين، وتعلو وجوههم خشية الله ومراقبته، والنصح للأمة، وتنتفع بمجالسة العالم الشفقة على الضعفاء ومواساة الفقراء، في درسهم سمت العلماء، وفي حديثهم الصدق وعلى جوارحهم أمارة نقاء السريرة وكثرة العبادة، وحفظ دائم لزمان دهرهم، حسن في التعامل في أفعالهم، حلم الشيوخ وحكمة العقلاء، ومع أقرانهم وفاء الصديق وحفظ الود، ومع الغريب إكرام الضيف، مجالسهم تذكير بسير الأفذاذ من الأسلاف، شحذ دائم لأمور الآخرة، في دروسهم يلتقط الناشئ ما في صدورهم من لباب الكتب، حفظوا أحسن ما قرؤوا، وأظهروا زهرة ما حفظوا، في حلقاتهم تصحيح لألفاظ ما في بطون الكتب، وإرشاد لخير ما يقرأ وخلاصة ما يحفظ، في القرب منهم إيضاح لفهوم مسطور فحول العلماء، في دروسهم خيرات متناثرة وثمرات
(1/48)
يانعة، فكن أقرب الناس إليهم وإلى دروسهم ترتشف من معين علومهم وأخلاقهم. • احترام العلماء: العلماء هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، يقول سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: "مثل المعلم كمثل رجل عمل سراجاً في طريق مظلم يستضيء به من مر به". ومن تعظيم الشريعة والدين تعظيم العلماء، فهم خلف أنبياء الله في دعوتهم، قال عليه الصلاة والسلام: «العلماء ورثة الأنبياء» رواه أحمد. وقد سار الأسلاف على تبجيل العلماء وتوقيرهم. يقول الربيع بن سليمان: "ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له". سؤالهم علم، ومجالستهم سعادة، ومخالطتهم تقويم للسلوك، وملازمتهم حفظ للشباب بإذن الله من الزلل. يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم". ثمرة مجالسة العلماء ليست في التزود من العلوم والمعارف فحسب، بل بالإقتداء في الهدي والسمت وعلو الهمة ونفع الآخرين. يقول ميمون بن مهران: "وجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء" وبُعد ناشئة المسلمين عن العلماء يفضي إلى تخبط في طلب العلم، وإعجاب بالرأي، وسبب في الفرقة وقلة في التعبد، يقول الشعبي رحمه الله: "جالسوا العلماء فإنكم إن أحسنتم حمدوكم، وإن أسأتم تأولوا لكم وعذروكم، وإن أخطأتم لم يعنفوكم، وإن جهلتم علموكم، وإن شهدوا لكم نفعوكم" فجالس العلماء بأدب وتواضع في نفسك وتلطف معهم في السؤال وليكن حديثك معهم بأحسن المقال. • عدم استعجال قطف الثمرة: لا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي، وداوِ بدواء الإخلاص عليل العمل القليل.
(1/49)
فإذا شرعت في طلب العلم فلا تقرأ كتب المطولات والخلافيات وأنت في أول الطلب، وإذا بدأت في حفظ المتون فلا تحفظ متناً يحفظه السابقون في أشهر تحفظه أنت في أيام، وكانت طريقة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مع طلابه: يحفظون ثلاثة أبيات من ألفية ابن مالك كل يوم فقط، وثلاثة أحاديث من بلوغ المرام، وثلاثة أسطر من زاد المستقنع، فينتهون من الزاد كل ثلاث سنوات مرة، وبهذه الطريقة المتأنية المتقنة خرج العلماء الراسخون. والعلماء يمكثون في بعض مصنفاتهم عدد سنين يقول ابن حزم (1): "أنفقت في ذلك أكثر عمري" وهو ثمانون صفحة فقط. وابن حجر مكث في تصنيف "فتح الباري شرح صحيح البخاري" خمسة وعشرين عاماً. والداعية لا يتطلع إلى ثمرة دعوته بكثرة المستجيبين، بل عمله مقصور على البيان والدعوة، وليست له الهداية وتحويل القلوب، يقول الله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99]. فأنت بلغ وربك المسدد {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] كم سعى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إسلام عمه أبي طالب فلم يحصل له ما أراد {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]. ومن الأنبياء من اجتهد في دعوة قومه سنين عدداً فلم يستجيبوا له، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عرضت علي الأمم فرأيت النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد». (رواه البخاري). فاعمل صالحاً بإخلاص ولا تتطلع إلى ثمرة العمل. _________ (1) مداواة النفوس ص5.
(1/50)
• العمل بالعلم: العلوم ما وضعت إلا لتهدي إلى العلم النافع، وليس العلم أن تعرف المجهول ولكن أن تستفيد من معرفته، والعلم النافع حقاً هو الذي يرى أثره على صاحبه نوراً في الوجه، وخشية في القلب واستقامة في السلوك، وصدقاً مع الله، وصدقاً مع النفس والناس، والله عز وجل جعل العمل الصالح مع الإيمان قيداً في دخول الجنة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11] فذكر العمل الصالح مع الإيمان. والله عز وجل ذم بني إسرائيل على عدم انتفاعهم بالعلم فقال سبحانه عنهم: {وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 17] وذم النصارى ووصفهم بالضلالة لجهلهم وعبادتهم ربهم بغير علم. والعامل بعلمه يخرج من بين الطائفتين الملومتين اليهود والنصارى، والعمل بالعلم ليس في جانب العبادات المحضة فحسب، بل حتى في المعاملات مع الخلق، فصدق الحديث، والوفاء بالوعد، والإحسان إلى الجار، وصلة الرحم، والعفو عن الآخرين، كل ذلك عمل بالعلم. يقول ابن القيم (1) عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان بعض أصحابه الأكابر يقول وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم. وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا الكلام، فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه". اهـ هكذا العلم يهذب النفوس ويعلو على الهوى ويغلب الشهوات، وبهذا جاءت الشريعة. _________ (1) مدارج السالكين 2/ 345.
(1/51)
• هل أتزوج وأنا أطلب العلم؟
الزوجة هي المأوى الذي هيأه الله للرجل يستقر فيه، قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] فذكر جل وعلا بأن الزوجة سكن ووصفها بأنها لباس قال سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وأيهما أفضل للشاب أن يكون له لباس يلتحف به وسكن يأوي إليه أم يبقى عرياناً وحيداً بلا مسكن؟!! والزواج للشاب أجمع للذهن، وأدعى للرجولة، وأمكن في المجتمع، فالزوجة عون على طلب العلم، ورافد في متاعب الحياة فلا تتردد أيها الشاب في العزم على دخول بوابة الزواج متفائلاً بالسعادة.
• ما هي مواصفات الزوجة التي أختارها؟
صفات المرأة الباطنة وحسن معشرها لا تظهر على حقيقتها إلا بعد الزواج، فكم من امرأة أثني عليها في خلالها ثم تبين ضد ذلك، والإسلام وجه طالب النكاح إلى اختيار المرأة ذات الدين التي تحقق له مقاصد الزواج الشرعية، يقول عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك». (متفق عليه). وشرط الدين في المرأة اجعله أساساً في الخطبة، وكذا علو خلقها ورقي تعاملها وحسن بشاشتها، فبهاء منظرها مع دينها وخلقها من كمال صفاتها. وإذا اجتمع في المرأة دين ومال وحسب وجمال، فتلك خلال أربع إن اجتمعت في امرأة فاظفر بها، ولا تقدم شرط الجمال على الدين، يقول عليه الصلاة والسلام: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة». (رواه مسلم). وقبل الخطبة اجعل الأناة مطيتك، والسؤال عن خلق والديها أصل في علو خلق زوجتك فالخلل من أحدهما قد يظهر الصدع عليها.
(1/52)
• أبي يمنعني من الزواج: السمة الغالبة على المجتمعات تقليد بعضها بعضا، وهذا من الخطأ، ودين الإسلام له أصول ثابتة ودعائم قائمة، فلسنا بحاجة إلى تقليد غيرنا، وديننا حثنا على تزويج الشباب وكذا الشابات، لما يترتب على ذلك من مصالح ظاهرة ولما يندرئ بها من محاذير واقعة، والخالق للخلق أعلم بهم، وفي الإسلام قول نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإن أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». (متفق عليه). ولو كان في زواج الشاب وهو حديث السن مفسدة لما حث الشرع المطهر على زواج الشاب، والقاعدة الشرعية المقررة أن "كل أَمْرٍ أمرَ الله به فهو يحبه ويرضاه"، فإذا كان الله يحب زواج الشاب والشابة فلماذا يتوقف الآباء عن تزوجيهم، وفي المجتمع ويلات يئن منها، سببها تأخير سن الزواج، وفي النكاح يتحقق العفاف والإحصان والصلاح.
(1/53)
الدعوة إلى الله خير الأعمال وأبرها عند الله الدعوة إليه سبحانه، وقول الداعية أحسن الأقوال في ميزان الله قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] وهي طريقة الأنبياء وأتباعهم قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. وكل عمل يقوم به المهتدي على يديك لك فيه نصيب يقول عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله». رواه مسلم. والدعوة إلى الله من الأسس التي قام عليها هذا الدين، وهي سبيل النجاة، وربنا ذكر أن الإنسان خاسر إلا إذا أدى حقوقاً أربعة هي: الإيمان بالله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والصبر على ذلك. وقد ذكرها الله في سورة كاملة: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. فادع إلى الله بحكمة وأناة وموعظة حسنة, ولا تتردد في دعوة الآخرين، فإن رأيت تكاسلاً من أحد إلى الصلاة فإرشاده إلى أدائها دعوة، وتذكير العاق لوالديه بوبال العقوق إرشاد، وموعظة قاطع الرحم نصيحة.
(1/54)
• أحب الدعوة ولكني لست بليغاً فماذا أفعل؟ البلاغة والفصاحة والبيان ليست شرطاً في الدعوة إلى الله، فكليم الرحمن موسى ثقل لسانه عن البيان وسأل الله سبحانه بقوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] وعدوه فرعون أبين منه في الكلام لذا أخبر الله عن فرعون أنه قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] أي لا يحسن الكلام والبيان. ومع عدم فصاحة موسى وبيانه إلا أن أمته أصبحت أكثر الأمم أتباعاً بعد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فبلغ بما أوتيته من علم وفصاحة على قدر الجهد والطاقة ولا يكن حياؤك مانعاً لك عن تبليغ الخير لغيرك. والدعوة إلى الله ليست مقتصرة على موعظة على منبر أو نصيحة في محفل، بل إن الدعوة إليه متنوعة، فالإنكار على الفرد على خلوة به دعوة، ودعم سبل الخير بالمال فضيلة، وتسهيل طرق الدعوة دعوة، وبهذا يصبح المجتمع على اختلاف فئاته دعاة إلى الله بالمال والقلم واللسان.
(1/55)
النصيحة الخلق مجبولون على النقص وظهور المعايب، وأصل الدين مبني على النصح للخلق وإخفاء النقائص، قال عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم. وهي من قواعد إصلاح المجتمع، واتصف بها رسل الله عليهم السلام في دعوتهم لأقوامهم، قال الله عن نوح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62] وقال الله عن هود: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68] وقال الله عن صالح {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79] وكان الصحابة رضوان الله عليهم يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها، قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" (متفق عليه). والناصح ناصح القلب سليم الصدر حسن السريرة مشفق القلب، وقد علت مرتبة السابقين بها قال أبو بكر بن عياش: "ما فاق أبو بكر - رضي الله عنه - أصحاب رسول الله بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه، قال: الذي كان في قلبه الحب لله والنصيحة في خلقه".
(1/56)
وما منح العبد حب إصلاح المجتمع بالنصح إلا شرف قال الفضيل بن عياض: "ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء النفس وسلامة الصدور والنصح للأمة". وهي من أجل الأعمال، سئل ابن المبارك: "أي الأعمال أفضل؟ قال: النصح لله"، وما خفي النصيحة في مجتمع إلا ظهرت الغيبة فيه، ولا ينصح لك إلا من أحبك، ولتكن نصيحة المشفق على خفاء. قال ابن رجب (1): "وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سراً حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه" اهـ. وتتعين النصيحة لمن طلب منك النصيحة قال عليه الصلاة والسلام: «حق المسلم على المسلم ست ـ ذكر منها ـ: وإذا استنصحك فانصح له» (رواه مسلم). ولتكن نصيحتك لأخيك محفوفة بالشفقة والرأفة والمحبة والمودة وكمال النصح بعيدة عن التشفي أو الحسد أو الفضيحة، وكلما كانت محاطة بضوابط الشريعة كانت أبلغ في النفس وأشد في التأثير، وأسرع في التغيير. ولا تتردد عن نصيحة أي شخص ولا تحقره، فقد يغير الله أحواله بكلمات يسيرة ينساها قائلها بعد لحظات، ولكن لصدق قائلها يصبح لها دوي في فؤاد أخيك. _________ (1) جامع العلوم والحكم 1/ 225.
(1/57)
الصبر على المصائب المرء في حياته معرض للفتن والرزايا، والمحن والبلايا، ولا ينصع نور الإيمان ويرسخ اليقين إلا بالتمحيص والمماحلة. والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار، ولا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم، ولكن ما بين مقل ومستكثر، قال ابن الجوزي (1): "من يريد أن تدوم له السلامة، والنصر على من يعاديه، والعافية من غير بلاء، فما عرف التكليف ولا فهم التسليم". ولابد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت. والقواطع ممن يتبين بها الصادق من الكاذب قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]. وما الابتلاء إلا عكس المقاصد وخلاف الأماني، والدنيا لا تصفو لأحد ولو نال منها ما عساه أن ينال. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيراً يصب منه» (رواه البخاري). والمرء يتقلب في زمانه في تحول من النعم واستقبال للمحن. _________ (1) صيد الخاطر ص384.
(1/58)
قال ابن القيم (1): "من خلقه الله للجنة لم تزل تأته المكاره، والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، ولا يتغير فؤاده، ولا ينطق بالشكوى لسانه، وكتمان المصائب والأوجاع من شيم النبلاء، وما هلك الهالكون إلا من نفاد الجلد، فخفف المصاب عن نفسك بوعد الأجر وتسهيل الأمر لتذهب المحن بلا شكوى، وتذكر دوماً أنك ما منعت إلا لتعطى، ولا ابتلاك إلا لتعافى، ولا امتحنك إلا لتصفى". • كيف تهون عليَّ المصيبة؟ يقول ابن الجوزي (2): "ليس في التكليف أصعب من الصبر في القضاء، ولا فيه أفضل من الرضا به"، ومن تأمل بحر الدنيا، وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام، لم يتهول نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء، فلا تتألم على فوات حظوظ الحياة، وأنزل ما أصابك من ذلك، ثم انقطع منزلة ما لم يصب، وأنزل ما طلبت من ذلك، ثم لم تدركه منزلة ما لم يطلب. يقول ابن القيم (3): "قال لي شيخ الإسلام مرة: العوارض والمحن هي كالحر والبرد، فإذا علم العبد أنه لابد منهما لم يغضب لورودها، ولم يغتم لذلك ولم يحزن". فطوارق الحياة هموم، والناس فيها معذبون على قدر هممهم بها، الفرح بها وعين المحزون عليه، آلامها متولدة من لذاتها، وأحزانها من أفراحها، يقول أبو الدرداء: "من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها". فأيقن بقدر الله وخلقه وتدبيره، واصبر على بلائه وحكمه، واستسلم _________ (1) الفوائد ص32. (2) صيد الخاطر ص91. (3) مدارج السالكين 3/ 389.
(1/59)
لأمره فالدنيا طافحة بالأنكاد والأكدار، مطبوعة على المشاق والأهوال. قال ابن مفلح (1): "وكان شيخ الإسلام كثيراً ما يتمثل بهذا البيت: بينا يرى الإنسان فيها مخبراً ... حتى يرى خبراً من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفواً من الأقذار والأكدار وكن مؤمناً بالأقدار، فالإيمان بها ركن من أركان الدين، وليس كل ما يتمنى يدرك، وبالإلحاح في الدعاء والتوجه إلى الله بالكلية، تفتح الأبواب ويتحقق المرغوب، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس تكن أغناهم ولا تقنط فتخذل، وتذكر كثرة نعم الله عليك، وادفع الحزن بالرضا بمحتوم القضاء، فطول الليل وإن تناهى فالصبح له انفلاج، وآخر الهم أول الفرج، واضرع إلى الله يزهو نحوك الفرج، وما تجرع كأس الصبر معتصم بالله إلا أتاه المخرج.
• الأنبياء والابتلاء:
بالابتلاء يُرفع شأن الأخيار، ويعظم أجر الأبرار، يقول سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء في المؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة» (رواه البخاري). وطريق الابتلاء مَعْبر شاق، تعب فيه آدم، ورمي فيه في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وأُلقي في بطن الحوت يونس، وقاسى الضر _________ (1) الآداب الشرعية 2/ 247.
(1/60)
أيوب، وبيع بثمن بخس يوسف، وألقي في الجب إفكاً وفي السجن ظلماً، وعالج أنواع الأذى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأنت على سنة الابتلاء سائر، والمؤمن يبتلى ليهذب لا ليعذب، والمصيبة حقاً إنما هي المصيبة في الدين، وما سواها من المصائب فهي عافية، فيها رفع الدرجات وحط السيئات، فلا تأس على ما فاتك من الدنيا، فنوازلها أحداث، وأحاديثها غموم، وطوارقها هموم، فالأنبياء لما ابتلوا صبروا، فاصبر أيها المبتلى كما صبر صفوة البشر عليهم الصلاة والسلام لعل الله أن يحشرك معهم في الآخر.
(1/61)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الشريعة، ومن أوجب قواعد الدين، وهو حصن الإسلام المنيع، يحجز عن الأمة الفتن وشرور المعاصي، ويحمي المسلمين من نزوات الشيطان ونزغات الهوى، وهو البناء المتين الذي تتماسك به عرى الدين، يحفظ العقائد والسلوك والأخلاق، ويدرأ المحن والرذائل، في القيام به صلاح الأمم، وحفظ النعم وحلول الأمن وإجابة الدعاء وصرف كيد الأعداء مع رفع الدرجات، والإحسان إلى الخلق، به تنمو في المجتمعات الآداب والفضائل، وتختفي المنكرات والرذائل.
• مكانة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:
أعلى الناس قدراً وأرفعهم شرفاً من أصلح نفسه، ثم امتن بالإصلاح والخير إلى غيره، وهو من أخص صفات نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال جل وعلا: {يَامُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] وهذه الخلة جعلت هذه الأمة غرة في جبين الأمم، وتاجاً على علو هامها بينهم، وقد مدح الله المؤمنين القائمين بتلك الشعيرة فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
(1/62)
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] وجعل تركه من أبرز صفات المنافقين، فقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] القائم به متصدق بلا مال، قال عليه الصلاة والسلام: «وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة». (رواه مسلم). وهو عبادة جليلة يقوم بها العبد لتُمحى عنه ذنوبه وتُكفر عنه خطاياه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره تكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (رواه البخاري). • أضرار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الشخص: من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة المخلوقين نُزع منه الطاعة، وزالت عنه المهابة، فاحذر المداهنة، فهي باب من الذل والهوان عريض، ولا تأسف على من قلاك، ولا من فارقك لأمرك أو نهيك له، واقطع أطماعك من الخلق، وثق بكفاية رب الخلق، والقيام بهذه الشعيرة لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً، وترك هذه الشعيرة إيذان بسخط الله على الخلق، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "من لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر، نُكس، فجعل أعلاه أسفله". ومن ترك هذه العبادة استخف به أهل العصيان. وسلط الله عليه من يأمره وينهاه بما يضاد الشريعة. • هل أنكر المنكر وأنا أفعل المعصية؟ ترك الذنب ليس شرطاً في الناهي، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا، ويلزم المسلم الأمر بالمعروف وإن لم يمتثله، ويلزمه النهي عن المنكر وإن ارتكبه، وتبقى ثلمة مخالفة الفعل القول.
(1/63)
يقول أبو الدرداء: "إني لآمركم بالمعروف وما أفعله، ولكن لعل الله يأجرني فيه" (1). فمن كان يستمع إلى الأغاني إذا رأى رجلاً يستمع إليها، يجب عليه أن ينكر عليه سماعه لذلك المحرم وإن كان هو يستمع إلى الأغاني، فإذا سكت عن المنكر جمع محرمين: الأول: استماعه للأغاني، والثاني: السكوت عن ذلك المنكر وعدم إنكاره. ومن رأى ذا منكر ولم ينهه فقد أعانه عليه بالتخلية بينه وبين معصيته، والسكوت عن الذنب تزيين للمعصية في الصدور، ومجانبة المنكر من مقتضيات إنكار المنكر في القلب. • كيف أنكر المنكر؟ المنكر ينقسم إنكاره إلى ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الإنكار باليد، وذلك حال القدرة على إزالته كالزوج في داره يزيل المنكر. الدرجة الثانية: الإنكار باللسان، وذلك في حال تعذر الإنكار باليد، كمن يرى امرأة متبرجة في الأسواق فهذا ينكر عليها باللسان بالحكمة. الدرجة الثالثة: الإنكار بالقلب، وذلك في حال تعذر الإنكار باليد واللسان، وهذه أضعف درجات الإنكار. وإنكار الخطيئة بالقلب فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال. يقول عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». (رواه مسلم). _________ (1) سير أعلام النبلاء 2/ 335.
(1/64)
قال ابن رجب (1): "إنكاره بالقلب لابد منه، فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه". قال شيخ الإسلام: "القلب إذا لم يكن فيه كراهة ما يكرهه الله لم يكن فيه من الإيمان الذي يستحق به الثواب. وقوله من الإيمان أي من هذا الإيمان وهو الإيمان المطلق أي ليس وراء هذه الثلاث ما هو من الإيمان ولا قدر حبة خردل، والمعنى هذا آخر حدود الإيمان ما بقي بعد هذا من الإيمان شيء ليس مراده أنه من لم يفعل ذلك لم يبق معه من الإيمان شيء" (2). والمنكر يُزال بالحكمة، والاستطاعة، عدم الوقوع في منكر أو مفسدة أعظم منه. • لا تيأس من نصح صاحب المنكر: أطرق باب قلب العاصي مراراً فلا تعلم متى يفتح الله قلبه على يديك، فنوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو قومه غير يائس من دعوتهم، فمتى رأيت ذا منكر على معصية فبادره بالنصيحة بحكمة ولين ولا ترجئ النصيحة، فقد يلقى المقصر ربه وهو على معصية وأنت لم تبد له النصح فتتحسر على تقصيرك. • لا تنظر إلى إزالة المنكر: اعلم أنه ليس في كل أمر أو نهي تقوم به يجب معه زوال المحذور أو أداء الواجب، فزمام الاستقامة بيد الهادي جل وعلا، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] ويقول سبحانه: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12] فالمنكر قد يزول بالإنكار، وقد لا يزول، ولا تجعل نصب عينيك وأنت تقيم هذه الشعيرة إزالة المنكر فإن لم يزل تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هذا من الخطأ. _________ (1) جامع العلوم والحكم 2/ 245. (2) الفتاوى: 7/ 52.
(1/65)
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُقام لثمرات عديدة وإن لم يزل المنكر، فمنها أن المسلم يؤدي بتلك الشعيرة عبادة جليلة هي من أجل العبادات وبأدائها يتقرب العبد إلى ربه ويكون المرء متصفاً بصفة من صفات المؤمنين قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] وبإقامتها سبب تكفير الذنوب والخطايا، وحفظ النعم، ومنع العذاب من السماء، وبها يُدفع عن المجتمع شر أعظم من المنكر الواقع، وهي وسيلة من وسائل إصلاح المجتمع والحفاظ على حصن الإسلام، وبها تُحجز الأمة عن الفتن وتُحمى من الشبهات والشهوات وإحسان عظيم للخلق، كل ذلك وغيره من فوائد إنكار المنكر، فإن زال المنكر بالإنكار فهذه نعمة كبرى، وإن لم يزل المنكر فقد جنى العبد بإقامة تلك الشعيرة مصالح عديدة تعود على الفرد والمجتمع بالخيرات ووفور النعم، وهذا من مقاصد الشريعة. وقد بين ابن رجب (1) مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله: "واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يُحمل عليه رجاء ثوابه، وتارة خوف العقاب في تركه، وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه، وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة، وتارة يُحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته، وأنه أهل أن يُطاع فلا يُعصى ويُذكر فلا يُنسى ويُشكر فلا يُكفر". • الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يؤذى فماذا يفعل؟ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر معرض للأذى، فمن أقامه فلا يستوحش من سلوك طريقه فهو عبادة أداؤها ثمرة من ثمار الإيمان، وليجعل له من الصبر حصناً مكيناً واثقاً بالثواب مما يتلقى من المشاق. _________ (1) جامع العلوم والحكم 2/ 255.
(1/66)
قال ابن كثير (1): "الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لابد أن يناله من الناس أذى فأمر بالصبر". ومن وصايا لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 71] فأمره لابنه بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إشارة إلى إيذاء من أدى تلك الشعيرة. وإياك وأهل التخذيل أو الركون إلى الضعف، وقف مع البلاء بالإيمان والتوكل، واصبر واحتسب وواصل الجهد، وخاطب الناس على ضوء قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. _________ (1) تفسير ابن كثير 3/ 450.
(1/67)
الصبر على المستهزئين الهداية منحة من الكريم لا تسدى لكل أحد، وسنة الله في هذه الحياة ابتلاء من تمسك بهذا الدين لتمحيص الصادق في الاستقامة قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3] ورسل الله سَخِر أقوامهم منهم قال تعالى عن قوم نوح: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38]. وأخبر جلَّ وعلا أن كل رسول يُبعث يُبهت بالسحر، ويُرمى بالجنون سخرية منه قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] والصحابة سَخر منهم قال سبحانه: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 30 - 31]. فالسخرية سنة جارية، فمن استهزأ باستقامتك أو إرخاء لحيتك أو لُبس السُّنة في ملبسك فلا تحزن، فإن دافعه الهوى أو الجهل، والساخر في عمق نفسه يتمنى الهداية ولكنه لا يملكها، قال سبحانه عن أهل الضلالة: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] بل ويعلم أن الحق هو ما سلكته قال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]. ومن سخر بك فالزم ما لزمه الأنبياء من الصبر والعفو والحلم والأناة والإعراض عمن آذاك، قال سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:
(1/68)
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35]. وقال جل وعلا: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109] فأمر الله بالعفو والصفح وقال جلَّ وعلا: {خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وإذا سخر بك فافرح فتلك بشرى صدق استقامتك ورفعة لك، فقد رُميت بأعلى المراتب، فالزم الصبر ولا تحبط العمل بالجزع أو الهلع على تمسكك بهذا الدين.
(1/69)
الدعاء الدعاء سمة العبودية، وروضة القلب، وجنة الدنيا، عبادة ميسورة مطلقة غير مقيدة بمكان ولا زمان ولا حال، هو عدو البلاء يُدافعه ويُعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يُخففه إذا نزل، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة فإذا ألهمت الدعاء فإن معه الإجابة"، الدعاء بإذن الله يكشف البلايا والمصائب، ويمنع وقوع العذاب والهلاك، وهو سلاح المؤمن، لا شيء من الأسباب أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، ما استُجلبت النعم ولا استُدفعت النقم بمثله، به تُفرج الهموم وتزول الغموم، كفاه شرفاً قرب الله من عبده حال الدعاء {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. وأعجز الناس من عجز عن الدعاء. بالدعاء تسمو النفس، وتعلو الهمم، ويقطع الطمع عما في أيدي الخلق، هو سهام الليل يطلقه القانتون، وهو حبل ممدود بين السماء والأرض، فالجأ إلى الله في الطلب والتحصيل، وافزع إليه وحده في الدعاء واللجوء إليه والانكسار بين يديه، والأرزاق خزائن ومفاتيحها السؤال، وثق بأن خزائن الله ملأى ويديه سحَّاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، فادع وربك الأكرم، وألق نفسك بين يديه، وسلم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وعظِّم الرغبة، فما رد سائله ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم
(1/70)
تسد فاقته ومن أنزلها بالرب فنعم الرزاق هو، ومن ظن بربه خيراً أفاض عليه جزيل خيراته وأسبل عليه جميل تفضلاته، فلازمْ الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخرت، ومن يُكثر قرع الأبواب يُوشك أن يُفتح له. ومن حلت به نوائب الدهر وجأر إلى الله حماه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]. ألقي يونس في بطن الحوت، وبالدعاء نُبذ بالعراء من غير أذى. وإذا تزخرف الناس بطيب الفراش فارفع أكف الضراعة إلى المولى في دجى الأسحار، فبدعوة تتقلب الأحوال، فالعقيم يولد له، والسقيم يُشفى، والفقير يرزق، والشقي يسعد، بدعوة واحدة أغرق أهل الأرض جميعهم إلا من شاء الله وهلك فرعون بدعوة موسى، قال سبحانه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]. ووُهب ما وهب سليمان بغير حساب بسؤال ربه الوهاب، وشفى الله أيوب من مرضه بتضرعه {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]. فأكثر الدعاء لنفسك بالهداية والبعد عن الفتن والثبات على الدين وإصلاح نيتك وإخلاص عملك.
(1/71)
الصدقة قسَّم الله خلقه إلى غني وفقير، ولا تتم مصالحهم إلا بسد خلة الفقير، فأوجب في فضول أموال الأغنياء ما يسد به عوز الفقراء. والسخي المؤمن قريب من الله ومن خلقه ومن أهله، قريب من الجنة بعيد عن النار، والبخيل بعيد من خلقه بعيد من الجنة قريب من النار. فجود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغضه إلى أولاده، وأحب الخلق إلى الله من اتصف بمقتضيات صفاته مما لم يختص به الرب جل وعلا، فهو سبحانه كريم يحب الكريم من عباده، وعالم يحب العلماء، ورحيم يحب الرحماء. قال ابن القيم (1): "الكريم المتصدق يعطيه الكريم مالا يُعطي غيره جزاء له من جنس عمله". ومن خير أعمال المسلم الصدقة على الفقراء وذوي الحاجات والكربات، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "ذكر لي أن الأعمال تتباهى فتقول الصدقة أنا أفضلكم". وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو إلى الإحسان والصدقة والسعي في تفريج هموم المسلمين. وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه، وكانت دائمة مستمرة، والصدقة تَفدي العبد من عذاب الله، فإن ذنوبه وخطاياه تقتضي _________ (1) الوابل الصيب ص56.
(1/72)
هلاكه فتجيء الصدقة تفديه من العذاب، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب النساء يوم العيد: «يا معشر النساء تصدقن ولو من حُليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» (متفق عليه). وفي الصحيحين «فاتقوا النار ولو بشق تمرة». والصدقة تطفئ شؤم المعصية، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» (رواه الترمذي). الصدقة تقي مصارع السوء، وتدفع البلاء، وتحفظ المال، وتجلب الرزق، وتُفرح القلب، وتُوجب الثقة بالله وحسن الظن به، وتُزكي النفس وتنميها، وتحبب العبد إلى ربه وتستر عليه كل عيب، وتزيد في العمر، وتدفع عن صاحبها عذاب القبر، وتكون عليه ظلاًّ يوم القيامة، وتشفع له عند الله، وتُهون عليه شدائد الدنيا والآخرة، وتدعوه إلى سائر أنواع البر فلا تُستعصي عليه. الصدقة وقاية بين العبد وبين النار، والمخلص المسرُّ بها يستظل بها يوم القيامة، ويدعى من باب الصدقة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة» (متفق عليه). الصدقة ترفع البلاء وتنفرج بها بإذن الله الكروب، قال ابن القيم (1): "للصدقة والإحسان تأثير عجيب في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديماً وحديثاً لكفى به، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته، عليه من الله جنة واقية وحصن حصين". ويقول أيضاً (2): "فإن للصدقة تأثيراً عجيباً في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجر أو من ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعاً من _________ (1) بدائع الفوائد 2/ 467. (2) الوابل الصيب ص49.
(1/73)
البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مُقرون به، لأنهم جرَّبوه". اهـ. والمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره، قال ابن القيم (1): "ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها والمبادرة إليها، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ".اهـ. والبخيل محبوس عن الإحسان، ممنوع عن البر، ممنوع من الانشراح، ضيق الصدر، صغير النفس قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا يكاد تقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب. فتصدق في يومك ولو بشيء يسير، فأفضل الصدقة جهد المقل، وفي صبيحة كل يوم ينزل ملكان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً. والصدقة قرض مسترد مضاعف قال عليه الصلاة والسلام: «ما نقصت صدقة من مال». رواه مسلم. وقال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] فابذل للفقير بسخاء نفس، وجود يد، وحسن ظن بالله بمضاعفة الثواب والمال. • لا تتصدق على الفقير ليدعو لك: يرتقي العبد بالصدقة إذا أخلص فيها لله، ولم يرج بها نوال دعوة مكروب أو ثناء أو طلب شهرة أو تحصيل مطمع من زخرف الحياة، فإذا تصدقت على فقير فلا تتصدق عليه لأجل أن يدعو لك، بل أنفق عليه ابتغاء مرضاة الله، لتكن في سلك المنظومين تحت قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] _________ (1) الوابل الصيب ص51.
(1/74)
قال شيخ الإسلام (1): "في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9] قال ومن طلب من الفقراء الدعاء أو الثناء خرج من هذه الآية، فإن في الحديث الذي في سنن أبي داود: «من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه». ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للرسول: "اسمع ما دعوا به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا، ويبقى أجرنا على الله". وقال بعض السلف: "إذا أعطيت المسكين فقال بارك الله عليك، فقل بارك الله عليك" أراد أنه إذا أثابك بالدعاء فادع له بمثل ذلك حتى لا تكون اعتضت منه شيئاً. وقال أيضاً (2): "ومن طلب من العباد العوض ثناء أو دعاء أو غير ذلك لم يكن محسناً إليهم لله". فبين شيخ الإسلام أن الصدقة من أجل الدعاء لا يدخل صاحبها في قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]. فالمسلم يتصدق لوجه الله، وما يحصل بها من تفريج الكروب وإزالة الهموم فهي ثمرات من ثمار الصدقة لوجه الله. _________ (1) الفتاوى 11/ 111. (2) الفتاوى 1/ 55.
(1/75)
كثرة التعبد ثمرة العلم العمل، واللذة في الحياة بالإكثار من عمل الصالحات، وآية الإخلاص الإكثار من الطاعات، وزيادة المنازل في الجنة على قدر التزود من الفضائل، وكان أفاضل البشر هم القدوة في الإكثار من الطاعات، فإبراهيم عليه السلام مدحه الله بكثرة تعبده له فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120]. فوصفه بالقنوت وهو دوام الطاعة. وداود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأثنى الله على زكريا وزوجته ويحيى بقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. وكان سلف الأمة يكثرون من التعبد لله. يقول ابن القيم (1): "وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد هذا الغداء لسقطت قوتي".اهـ. وقال شيخ الإسلام عن نفسه (2): "إنه ليقف خاطري في المسألة _________ (1) الوابل الصيب ص93. (2) العقود الدرية لابن عبد الهادي ص7.
(1/76)
والشيء أو الحالة التي تشكل علي، فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر، وينحل إشكال ما أشكل". قال: "وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي". وقال ابن كثير (1): عن ابن القيم: "ولا أعرف من أهل العلم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك".اهـ. والطاعة نور يُقذف في الصدور، فأكثر من التعبد لله والخضوع له، فهي نعم العون على تحقيق المبتغى، وعليك الإكثار من ذكر الله وتلاوة كتابه والقيام في ظلم الليل، فالقلب إذا صُفِّى أثَّر، وإذا تكدَّر أضرَّ.
• ما هي العبادات التي أكثر منها؟
أفضل الأعمال بعد الفرائض هي النوافل، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى قال: من عادي لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولأن استعاذني لأعيذنه» (رواه البخاري). • ومن أفضل النوافل التي يفعلها العبد: 1 - قيام الليل: نوافل الصلوات من أزكى الأعمال عند الله، والليل ثمين بدجاه، وقيامه من نعوت الصالحين المبشرين بجنة النعيم، وهو دليل على رجحان العقل والإيمان، وقربة إلى رب العالمين. _________ (1) البداية والنهاية 18/ 523.
(1/77)
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (رواه الترمذي وقال حسن صحيح). ومن محاسن أهل الإيمان القيام لله في الظُّلَم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] في دجى الأسحار تصفو الأوقات وقد تنافس الصالحون في ظلمائه. يقول أبو سليمان الداراني: "والله لولا قياما لليل ما أحببت الدنيا". ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدع قيام الليل في سفر أو حضر وكان يصليه قائماً وقاعداً وعلى راحلته في أسفاره ولو إلى غير القبلة. وكان الصالحون يعيبون على من ترك قيام الليل، يقول الحسن البصري: "ما ترك أحد قيام الليل إلا بذنب أذنبه"، وذلك نابع من وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حيث قال له: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل فكان ابن عمر لا ينام من الليل إلا قليلاً» متفق عليه. وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» (متفق عليه) ومن شرف العبودية التعبد ليلاً، والنفس لا تشرف إلا بعبوديتها لله. ولا يليق بشاب مستقيم أن يدع قيام الليل ولو نصف ساعة قبيل الفجر يناجي فيها ربه زَمَن فتح أبواب السماء، ولم يكن السلف يدعون قيام السحر يقول طاووس: "كنت أظن أن لا يدع أحد قيام السحر". 2 - الإكثار من الذكر: ذكر الله ميزان الرفعة والتكريم، وهو خير ما يعطر به اللسان، وهو باب مفتوح بين العبد وبين ربه ما لم يغلقه العبد بغفلته، يقول ابن القيم (1): "إنه ـ أي الذكر ـ يورثه ذكر الله تعالى له، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً" بالإكثار من الذكر يسمو العبد عند ربه، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر _________ (1) الوابل الصيب ص62.
(1/78)
الله على كل أحيانه. بالذكر سعادة القلب والأنس بالله، يقول ابن القيم (1): "وقال لي مرة شيخ الإسلام: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر". 3 - تلاوة القرآن الكريم: الكتاب العزيز عُمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، بتلاوته والعمل به يعلو الشأن، ويزهو القدر ويزيد الإيمان، والقرآن العظيم أصل العلوم وأسها، ومنه تؤخذ الأخلاق والآداب، وحفظ كتاب الله حفظ بإذن الله للعبد من الشرور والفتن، وحصن من الشبهات والشهوات، فاجعل تلاوة القرآن على لسانك متدبراً لها بقلبك. 4 - صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ربنا جل وعلا متصف بالشكر، يضاعف بالعمل اليسير الأجر الجزيل، وأمة محمد عليه الصلاة والسلام أمة مرحومة تعمل قليلاً في عمر قصير وتُجزى كثيراً، وتسبق الأمم في الآخرة، فصيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام جميع الشهر، كل يوم بعشرة أيام كرماً من الله ومنة. وصيامها هي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة، يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: "أوصاني خليلي بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام". (متفق عليه). _________ (1) الوابل الصيب ص93.
(1/79)
سمو الأخلاق حسن الخلق يستميل القلوب، وبحسن المنطق وعلو الخلق، ينجذب الخلق والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان داعية في أخلاقه ومعاملاته. وقد كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فعاده الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم فنظر الصبي إلى أبيه وهو عنده فقال له أطع أبا القاسم، فأسلم فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الحمد لله الذي أنقذه من النار» (رواه البخاري). حسن الخلق لا يتطلب بذل مال ولا إجهاد نفس، وما حسن الخلق إلا طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى. والتحلي بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق والهدي الحسن والسمت الصالح سمة ذي الفضل والمروءات، وخير الناس من علا خلقه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً». (متفق عليه). وديننا يأمر بالمكارم وينهى عن المفاسد، وعلو المرء يكون بالدين والأخلاق والآداب، وتهذيب النفوس عون على عمرة القلوب ودليل على محامد الأمور. • هل حسن الخلق عبادة؟ حسن الخلق عبادة من أجل العبادات وكثير من الناس يجهل ذلك، قال ابن رجب (1): "كثير من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده". يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: «تقوى الله وحسن الخلق»، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: «الفم والفرج» (رواه الترمذي وقال حسن صحيح). _________ (1) جامع العلوم والحكم 1/ 454.
(1/80)
والمرء لا يكمل إيمانه إلا بحسن الخلق، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم» رواه الترمذي. وحسن الخلق مع الإيمان صاحبه في أعلى الجنة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا زعيم ـ أي ضامن ـ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه». (رواه أبو داود). وجماع الخير كله في حسن الخلق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «البر حسن الخلق». (رواه مسلم). وأنس بن مالك يحكي خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً". متفق عليه. يعلو على وجهه عليه الصلاة والسلام البشر والسرور والفأل، لم يكن عبوساً ولا مشمئزاً، يقول جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -: "ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تبسم". (رواه البخاري). ووصفه الله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وذو الأخلاق مع الإيمان أقرب الناس مجلساً من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أحبكم إلي وأربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً». (رواه الترمذي). وبعض الناس يُفرِّط في القيام بحقوق الخلق، ويظن أن كمال التعبد هو إصلاح ما بينه وبين خالقه دون خلقه، قال ابن رجب (1): "وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصديقين" اهـ. والجمع بين حق الله وحق عباده لا يوفق إليه كل عبد، قال المحاسبي: "ثلاثة أشياء عزيزة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة". _________ (1) جامع العلوم والحكم 1/ 454.
(1/81)
قضاء حوائج الناس ما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمة بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه. والدين الحنيف جاء بالعلم والعمل، أمر بإخلاص العبادة وحسن المعاملة قال شيخ الإسلام (1): "من عبد الله وأحسن إلى الناس فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله في إخلاص الدين له". وخدمة الناس بركة في الوقت والعمل، وسبب في تيسير ما تعسر، يقول عليه الصلاة والسلام: «ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة» رواه مسلم والشريعة جاءت بالحث على التعاون بين الناس وقضاء حوائجهم والسعي في تفريج كروبهم، يقول عليه الصلاة والسلام: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة». (رواه مسلم). ببذل المعروف والإحسان إلى الخلق تحسن الخاتمة، وتصرف عنك ميتة السوء، يقول عليه الصلاة والسلام: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والمهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة». (رواه ابن حبان في صحيحه). _________ (1) الفتاوى 1/ 53.
(1/82)
وقضاء الحوائج صدقات مبذولة، يقول ابن عباس - رضي الله عنه -: "من مشى بحق أخيه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة". وخدمة الناس مفتاح للخير، وتعطيلها فتح للشرور، يقول ابن القيم (1): "وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين وطلب مرضاته، والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأن أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر". والمعروف ذخيرة الأبد، والسعي في شؤون الناس زكاة أهل المروءات، والكسل عن الفضائل بئس الرفيق، وحب الدِّعة والراحة يورث من الندم ما يربو على كل متعة. ومن المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد الناس لهم في حوائجهم، يقول حكيم بن حزام: "ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب". وبخدمة الناس تُجذب أفئدتهم وتستميل قلوبهم. قال الشاعر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان _________ (1) الجواب الكافي ص9.
(1/83)
الرسل وخدمة الناس نفع الناس والسعي في كشف كروبهم من صفات الأنبياء والرسل وهم السابقون في هذا، فالكريم يوسف عليه السلام مع ما فعله إخوته به جهزهم بجهازهم. وموسى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، رفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما. وموسى عليه السلام شفع عند ربه أن يكون أخوه هارون نبياً فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29] قال ابن كثير في تفسيره (1): "قال بعض السلف ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون، فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبياً ورسولاً معه إلى فرعون وملائه، ولهذا قال تعالى في حق موسى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] ". وخديجة تقول في وصف نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - "إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". _________ (1) تفسير ابن كثير 3/ 389.
(1/84)
وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا سئل حاجة لم يرد السائل عن حاجته، يقول جابر: "ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال لا". (متفق عليه). والدنيا أقل من أن يرد طالبها. وعلى هذا النهج القويم سار الصحابة والصالحون فقد كان عمر - رضي الله عنه - يتعاهد الأرامل يسقي لهن الماء، وكان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهن كل يوم فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن. وكان شيخ الإسلام يسعى سعياً شديداً لقضاء حوائج المسلمين.
(1/85)
لا تحتقر الآخرين حقيقة العلو إنما هو القرب من الله، والتمايز إنما يكون بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. والتزخرف في الملبس والصورة لا يغني عن الله شيئاً، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». (رواه مسلم). واحتقار الآخرين لقلة ذات أيديهم أو جاههم أو عدم حسن صورتهم ضعف في العقل، ونقص في كمال الإدراك، وقلة في الإيمان، فالحياة وزينتها وغناها وجاهها وزخرفها دول بين الخلق، فكم من فقير اغتنى، وكم من وضيع شرف، والمحتقر على وجل من زوال نعمة غناه أو جاهه أو مكانته أو صورته. والتواضع للخلق آية على صحة الإيمان، وكمال في العقل، ورأفة في القلب، قال ابن رجب (1): "وقد يكون كثير ممن له صورة حسنة أو مال أو جاه أو رياسة في الدنيا قلبه خراباً من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبه مملوءاً من التقوى، فيكون أكرم عند الله، بل ذلك هو الأكثر _________ (1) جامع العلوم والحكم 1/ 276.
(1/86)
وقوعاً كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مُتضعِّف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جوَّاظ مستكبر». (متفق عليه). وفي التواضع رفعة الدنيا والآخرة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (رواه مسلم). وكان شيخ المحدثين أبو موسى المدني يقرئ الصبيان القرآن في الألواح مع جلالة قدره وعلو منزلته. والمتواضع من إذا رأى أحداً قال: هذا أفضل مني. يقول الشافعي: "أرفع الناس قدراً من لا يرى قدره وأكبر الناس فضلاً من لا يرى فضله".
(1/87)
شكر النعم ربك أغدق عليك من نعمه العظيمة، وأجزل عليك من عطاياه الجسيمة، لتشكره عليها والشكر هو الغاية من خلقه وأمره: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وأخبر سبحانه أن من لم يشكره لم يكن من أهل عبادته: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. وقد أثنى الله على أول رسول بعثه إلى الأرض بالشكر، فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] وأمر عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والتكليم بالشكر، فقال: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] وأثنى على خليله إبراهيم بشكر نعمه، فقال عنه: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 13]. وأمر الله به آل داود فقال: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]. وأمر الله رسوله محمداً بالشكر فقال له: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66]. وأول وصية وصى به الإنسان الشكر له وللوالدين فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]. وبالشكر أمر الأنبياء أقوامهم فقال إبراهيم لقومه: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
(1/88)
وأفضل الأدعية دعاء الرب العون على مرضاته بشكر نعمه وعبادته، قال شيخ الإسلام (1): "تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين". ولما عرف عدوا لله قدر مقام الشكر وأنه من أجل العبادات وأعلاها جعل غايته السعي في قطع الناس عنه فقال: {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]. والشاكرون هم قلة في الخلق، فكن مع تلك الثُّلَّة القليلة المباركة قال جل وعلا: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وكل نعمة لا تقرب من الله فهي بليَّة، قال الفضيل: "عليكم بملازمة الشكر على النعم فقلَّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم". وإذا رأيت ربك يوالي عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره. فالعبد إذا كانت له عند الله منزلة فحفظها، وبقى عليها، ثم شكر الله على ما أعطاه، آتاه الله أشرف منها. وإذا ضيع الشكر استدرجه الله. والنعمة موصولة بالشكر، والمزيد يتعلق بالشكر. ومن رزق الشكر رزقه الله الزيادة {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. وبشكر الله وطاعته تتفتح للعبد أبواب الدنيا والآخرة قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. • كيف أشكر نعم الله؟ الشكر يكون بقلبك ولسانك وجوارحك. فشكر النعم بالقلب يكون بنسبتها إلى بارئها قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]. _________ (1) مدارج السالكين 1/ 78.
(1/89)
وشكرها باللسان يكون بالإكثار من الحمد لمسديها، فالحمد رأس الشكر وأوله، وهو من أفضل ما تحرك به اللسان، قال - صلى الله عليه وسلم -: «والحمد لله تملأ الميزان» (رواه مسلم). وشكرها بالجوارح يكون بالاستعانة بها على مرضاة الله، ومنع استخدامها في مساخطه وعصيانه، وأسعد الخلق من جعل النعم وسائل إلى الله والدار الآخرة، وأشقاهم من توصل بنعم الله إلى هواه ونيل ملذاته. وكن قنوعاً بما رزقك الله تكن أشكر الناس، وتذكر أن شكر نعم الله عبادة من أجل العبادات، قال - صلى الله عليه وسلم -: «الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر» (رواه البخاري).
(1/90)
الاستغفار الاستغفار سبب لغفران الذنوب، ودخول الجنات، ودفع البلاء، وزيادة الأموال والبنين، قال سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]. وهو سبب للحياة السعيدة ووفور الخيرات، قال جل وعلا: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3]. وبه تزيد القوة قال هود لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]. وهو سبب لنزول الرحمة من السماء قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46]. والاستغفار مزيل للخطايا وشؤم العصيان، يقول قتادة: "إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار". وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الاستغفار قال عليه الصلاة والسلام: «إنه ليغان على قلبي لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» (رواه مسلم). قال أبو المنهال: "ما جاور عبد في قبره من جارٍ أحب من الاستغفار". فأكثر من التوبة والاستغفار في كل حين يصلح لك أمر دينك ودنياك.
(1/91)
أعاني من قسوة القلب فما هو الحل؟
القلب يتقلب في هذه الحياة بين القسوة واللين، فإذا توارت عليه القسوة والعصيان قسى، وإذا أكثر العبد من الطاعات رق الفؤاد. وسبب غلظة القلب هو البعد عن الله جل وعلا. وإذا وقع القلب في وحل الذنوب وجب على العبد أن لا يستسلم لتلك الأدران، بل عليه البدار بغسل تلك الأوساخ التي علقت بالقلب بالرجوع إلى الله والإنابة إليه. وقد أثنى الله على خليله بأنه دائم الرجوع إليه أواه منيب له في كل حال. قال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]. ومن أنجع أسباب علاج قسوة القلب: 1 - الإكثار من ذكر الله: الذكر يجلب الفرح والسرور والرزق والمهابة، ويوجب مراقبة الله وكثرة عبادته والإنابة إليه والقرب منه، وسبب للنجاة من عذابه. يقول مكحول: "ذكر الله دواء، وذكر الناس داء". وجاء رجل إلى الحسن البصري فقال له: أشتكي قسوة قلبي، فقال: "ألنه بذكر الله". بالذكر ترفع الدرجات، وتغفر السيئات، وتستدفع الآفات، وتستكشف الكربات، وتهون به على المصاب الملمات، به انشراح الصدر وطمأنينة القلب:
(1/92)
{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. وهو وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن طلب منه أن يوصيه «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله». (رواه الترمذي). يذكر الله تحيى القلوب يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت» (رواه البخاري). ومن عرف عظمة الله أكثر من ذكره، والإكثار علامة الصدق مع الله. 2 - حفظ الجوارح عن المعاصي: فتحفظ السمع عن استمع المعازف والغيبة مثلاً، وتحفظ البصر عن مشاهدة مالا يحل، وتحفظ اللسان من الكذب والبهتان. 3 - الإكثار من قراءة تفسير القرآن الكريم: في القرآن المواعظ والعبر، والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، فقد لا تستوقف قارئ القرآن هذه المعاني إلا بالتأمل في الآيات بقراءة التفسير وبيان معاني تلك الآيات. 4 - حضور دروس العلماء: فالاجتماع بالصالحين والاستماع إلى العلماء يحدوان بك إلى طريق الآخرة، ويزهدانك في الدنيا الفانية. 5 - قراءة كتب العلماء: في الاطلاع على مسطور كنوز العلماء زيادة الخشية من الله فإذا قرأت لعالم عامل فأنت تقرأ لمن أثنى الله عليه بأنه يخشى الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28] وحقيق بمن يقرأ لمن يخشى الله أن يتصف بصفاتهم. 6 - زيارة القبور: زيارة القبور من هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ـ وهي خاصة بالرجال دون النساء ـ وهي أوضح بيان لقصر هذه الحياة وعدم الاغترار بالأمل المذموم، وكم من دمعة ذرفها الصالحون عند زيارة القبور خوفاً من الله بتذكر منازلهم بعد الرحيل، وقد قال عنها عليه الصلاة والسلام: «إنها تذكركم الآخرة» (رواه الترمذي وابن ماجه).
(1/93)
* أنواع من الذكر: «أحب الكلام إلى الله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» (رواه مسلم). «ولا حول ولا قوة إلا بالله. كنز من كنوز الجنة» (متفق عليه). «ومن قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة» (رواه الترمذي). «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» (متفق عليه). «والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض» (رواه مسلم). وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب ألف حسنة؟ قال يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة» (رواه مسلم).
(1/94)
المجتمع لا يدفعني لفعل الطاعات المجتمعات تغيرت كثيراً فشى في بعضها الكذب، وإخلاف الوعد، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، والكسل عن أداء الطاعات، وعدم التورع عن الشبهات. وتنافس الناس في دنياهم، وعادى الناس بعضهم بعضاً من أجلها، وتنافسوا في ميادينها مع غفلة جلية عن أحوال الآخرة، والله عز وجل ساق قصص الأنبياء وأحوالهم وأخلاقهم وعباداتهم، وأمرنا بالإقتداء بهم، والتأسي بأحوالهم فيما لم يخالف شرعنا، فقال {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. فذكر عن أهل البيت الصالح زكريا وابنه وزوجته تَبَتُّلهم إلى الله ومسابقتهم إلى فعل كل عمل صالح، فقال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. وإذا أردت أن تنظر إلى بر الوالدين فتأسى بيحيى عليه السلام، فقد أثنى الله عليه بقوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]. وإذا رأيت المجتمع يموج في خصلة من خصال النفاق بإخلاف وعودهم، فتذكر أن الله قد أثنى على إسماعيل ابن خليله بالوفاء بالوعد،
(1/95)
فقال عنه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]. وفي حال شُحِّ الناس بأموالهم وإعراضهم عن خلة الكرم، فأنبياء الله هم المقدمون في تلك الخلة، أخبر سبحانه عن كرم إبراهيم أنه راغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين حنيذ، وقدمه لثلاثة أضياف فقط. ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل مالاً فأعطاه قطيعاً من الغنم بين جبلين. وإذا تألمت من وقوع الانحراف في بعض المجتمعات، وقلة حياء بعض الناس، وسعي بعض الشباب إلى علاقات محرمة، فتذكر أن هناك من عباد الله من وهبه الله جمالاً ونسباً، والنساء يدعونه إلى الفاحشة، ومع ذلك يمتنع منها، بل يفضل السجن على الفاحشة، بل قد أدخل السجن لعدم استجابته، قال تعالى عن يوسف عليه السلام: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] فاجعل رسل الله عليهم السلام نبراسك في العفة والنزاهة، فسلامة عرض الشاب وانتصاره على الشهوات تاج على هامة رأسه. وفي حال انفتاح الدنيا على بعض الناس، وجلب الخدم للنفس والدار، قد تأنف النفس بالكبر والخيلاء، فإذا أحسست ذلك من نفسك، فقل لها: يا نفس رويداً، إن أشرف الناس نسباً، وأجلهم قدراً، وأعلاهم عند الله منزلة قد حلب شاته وخدم نفسه، وخصف نعله، ونام على الحصير حتى أثر في جنبه عليه الصلاة والسلام. وفي خضم صخب الحياة الشاقة، وكثرة المعاملات مع خلق الله، يصدر خطأ من أقوالهم، وتسجل الهفوة على أفعالهم، حينذاك تنصع سجاياك بالعفو والصفح عمن أساء إليك، وتذكر أن هناك من ألقي في الجب وحيداً، وفي الغربة فريداً، وفي عمره صغيراً، ومع هذه المكايد عفا عمن فعل معه العظائم، وقال لهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].
(1/96)
ماذا أصنع مع أهل المعاصي؟ لا تتزعزع عن هداية الخلق ولو كثر الانحراف، ولا تيأس عن السير في دعوتك فهم بحاجتك، وأيقن دوماً بأن أهل المعاصي الذلة محيطة بهم، ولو تظاهروا بالعزة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. وأهل المعاصي دائر عليهم لباس الذلة كل بحسب عصيانه، يقول عليه الصلاة والسلام: «وجُعل الذل والصغَار على من خالف أمري» (رواه أحمد). وأهل الطاعة هم أهل العزة، وبقدر طاعتك تعتز، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. فأنت العزيز في مجتمعك، فاخفض جناحك لمن ابتلي بمعصية بدعوته بحكمة ولين وروية، وعدم احتقار له، مع كثرة الدعاء له بالهداية، فبحسن الخلق مع الدعوة تكسب القلوب.
(1/97)
البعد عن الفتن جاء الإسلام بالأمر بصفاء المعتقد ونقاء القلب وتطهيره من أدران القوادح، ونهى عن تلويث القلب بالشبهات أو تدنيسه بالشهوات، وفي زمن البعد عن مشكاة النبوة تزداد الحاجة إلى التمسك بينابيع الدين، يقول عليه الصلاة والسلام: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه» (رواه البخاري). ومن نتن الفتن أن من اشرأب بعنقه إليها أصابته من لوثتها، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفتن «ومن استشرف ـ تطلع ـ إليها أخذته». (رواه البخاري). والإسلام الحنيف جاء بلزوم النورين الكتاب والسنة، ونهى عن ضدهما مما يورث القلب الفساد، والشبهة إذا وردت على القلب ثقل استئصالها. يقول شيخ الإسلام رحمه الله (1): "وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء وكله الله إلى نفسه".اهـ والتقصير في أداء الواجبات، واللهث وراء المنكرات، والاعتماد في السلوك على الفضائيات، يورث المهالك. والقلب إذا أظلم بكثرة المعاصي ثقل عليه أداء المعروف، وسهل عليه قبول المنكر. وفي زمن تنزل الوحي وملازمة الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كان - صلى الله عليه وسلم - يخشى عليهم من الفتن، فلما رأى عمر بن الخطاب قطعة من التوراة _________ (1) الفتاوى 10/ 577.
(1/98)
تلون وجهه - صلى الله عليه وسلم - وقال: «أو متهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي» (رواه أحمد). ومن تعرض للشبهات والشهوات ثم طلب إصلاح القلب رام ممتنعاً. ورب عثرة أهلكت، ورب فارط لا يُستدرك، والنفس طامعة إذا أطمعتها، فالجمها بلجام الأوامر والنواهي، ومن صابر الهوى أينعت له الثمرات، فابتعد عن أسباب الفتن ومواردها، فإن المقاربة منها محنة لا يكاد صاحبها يسلم، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وحصن نفسك بزاد العلم، وانتق صحبة الأخيار، واسلك مسلك الحق، وانهج منهج الرشد، واجتهد في المحافظة على عقيدتك. وقد كان العلماء يوصي بعضهم بعضاً بالبعد عن مواطن الفتن، يقول ابن القيم (1): "جيش شهوات الغي وجيش شبهات الباطل أيما قلب صفا إليها وركن إليها تشربها، وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات". _________ (1) مفتاح دار السعادة 1/ 140.
(1/99)
جليس السوء لجليس السوء تأثير على الدين والسلوك والآداب والأخلاق والطموحات، يقول عليه الصلاة والسلام: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل». (رواه أبو داود). ومضرة قرناء السوء ظاهرة، ولضررها على الإنسان حذَّر الإسلام من مصاحبتهم، وحرم المكث معهم، وأوجب الهجرة إلى مجتمع صالح، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. وطبيعة البشر سرعة تأثرهم بمن يخالطون فيتأثرون حتى من البهيمة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الفخر والخيلاء في الفدَّادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم». (متفق عليه). فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن في رعاة الإبل الكبر والفخر والخيلاء، وفي رعاة الغنم السكينة والتواضع، فإذا كان الإنسان يتأثر ببهيمة لا عقل لها، ولا تفقه أنت مراد صوتها مع الاختلاف في المأكل والمشرب، فما ظنك بالإنسان الذي يبادلك الأحاديث، وتفقه قوله، بل قد يؤزُّك إلى هواه، ويزين لك الشهوات، أليس حقيقياً بأن تتأثر به؟!!
(1/100)
جليس السوء يبعدك عن ربك ويتتبع عثراتك، قريب منك في السراء، بعيد عنك في الضراء، يلهث خلف ملذاته فإذا حُلت بينه وبين ما يشتهي نبذك. جليس السوء يضرك إلى آخر رمق في حياتك، وإذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك، فتأمل قصة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي طالب وهو يحتضر وبجانبه رفيقا السوء عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فإنه لما حضرت الوفاة أبا طالب جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ـ أي لا تسلم، بل استمر على الكفر ـ فأعاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعادا عليه، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله» (متفق عليه). فانظر إلى حرص الناصح المشفق على عمه، وهو على فراش الموت، يتمنى نجاته من النار، ورفيقا السوء لم يرحما ضعف المحتضر، بل جلسا عنده يلقنانه الكفر حتى فارق الحياة، وأيقنا أنه دخل النار مع علمهما أنه لو تركاه يموت على الإسلام، لم يضرهما، لأنه سيموت، ولكن هذا شأن رفيق السوء. جليس السوء ضرره متجدد في صور شتى، لذا شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنافخ الكير الذي ينالك أذاه على كل حال، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك ـ أي يعطيك ـ وإما أن تبتاع منه ـ أي تشتري منه ـ وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة» (متفق عليه). رفيق السوء ضرره ظاهر للجميع، يدعوك للكسل عن العبادة وفضائل الأعمال، والفتور عن أداء واجبات حياتك، يدني همتك العالية، لا للمعالي يعليك، ولا عن الدنايا يجافيك.
(1/101)
جليس السوء يقف أمام همتك العالية وطموحاتك السعيدة، بل إن له تأثيراً حتى على مظهرك الخارجي فيسيء إلى سمعتك ومكانتك في المجتمع. إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى فاحذر رفيق السوء قبل أن تندم في الآخرة على مصاحبته {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]. واعمل بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اختيار الصحبة: «لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي». (رواه أبو داود).
(1/102)
الجليس الصالح المرء يتأثر بجليسه، ويعرف بمجالسه، والمسلم بمفرده يضعف عن عبادة ربه، لذا لابد له من جليس يقوي عضده للسير إلى ربه. والصحبة لها شأن كبير في الإسلام، فالأنبياء بل أولوا العزم من الرسل اتخذوا لهم أصحاباً فعيسى عليه السلام يقول: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14]. أي من يعينني في الدعوة إلى الله، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - اتخذ له صاحباً في حياته قال سبحانه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فأخبر الله عز وجل بأن لنبينا صاحباً ويقول عليه الصلاة والسلام: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي» متفق عليه. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور صاحبه أبا بكر في داره في كل يوم مرتين، تقول عائشة رضي الله عنها: " لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول اله طرفي النهار بكرة وعشياً". (رواه البخاري). الجليس الصالح يحفظك في الغيب، ويظهر ودك إذا حضرت، يدنيك من ربك، يهديك للخير، يذكرك إذا نسيت، ويحضك إذا غفلت، لا تسمع منه إلا قولاً طيباً وفعلاً حسناً، فاختر في طريقك ناصحاً مخلصاً في صحبتك، يعينك إذا انثنيت، ويقوي همتك إذا ضعفت، وأكثر من مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب.
(1/103)
اجتناب المعاصي للخطايا تأثيرات قبيحة إن أسرعت، وإن اجتمعت آذت، فشرارة ربما أحرقت بلداً، والخطايا مطوقة في أعناق الرجال، والهلاك في الإصرار عليها، وبالمعاصي تزول النعم وتحل النقم، وبالمعصية تتعسر الأمور على العاصي، فما يتوجه لأمر إلا ويجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه تحقيقه. والمعصية تمحق بركة العمر، والذي يفوت بارتكاب المعصية من خيري الدنيا والآخرة أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، وعقوبة الذنب تحل ولو بعد حين قال عز وجل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]. وقد أهبط إبليس من منزل العز بترك سجدة واحدة أمر بها، وأخرج آدم من الجنة بأكلة تناولها، ودخلت امرأة النار في هرة حبستها، وبينما رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة. وهكذا الذنوب تورد المهالك فكن خائفاً من ذنبك، ولا تأمن العقوبة فإن هوان الذنب على العاصي من علامة الهلاك، وكلما صغر الذنب في عين العبد عظم عند الله، فإياك ومحقرات الذنوب، فإنهن إذا اجتمعن على الرجل أهلكنه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم». (رواه أحمد). والذنب يعظم ويحدق خطره إذا جاهر به العبد أو استصغره أو فرح به أو تهاون بستر الله عليه، يقول أنس بن مالك رضي
(1/104)
الله عنه: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات" (رواه البخاري). ولما نزل الموت بمحمد بن المنكدر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال "والله ما أبكي لذنب أعلم أني قد أتيته، ولكني أخاف أن أكون أذنبت ذنباً حسبته هيناً وهو عند الله عظيم". والذنب لا يقتصر على ارتكاب المناهي فحسب، بل إن التقصير في أداء الواجب من جملة المآثم، قال شيخ الإسلام (1) "التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات والأول يخفى على كثير من الناس". _________ (1) الفتاوى 10/ 670.
(1/105)
لا تضعف قضت سنة الله أن ذوي العصيان أكثر عدداً ممن يطيع الرحمن، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] ويقول جل وعلا: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. فإذا رأيت أن أهل المعاصي هم الكثرة الغالبة، فلا يكن هذا صادًّا لك عن تمسكك بهذا الدين، وانظر إلى الحق ولا تنظر إلى العدد من الأشخاص، فالله وصف إبراهيم عليه السلام بأنه أمة وهو وحده قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]. وابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: "أنت أمة وإن كنت وحدك". وكثرة الانحراف تدعوك لتمسك بدينك لا الضعف في التمسك به، لأن ذلك يدعوك إلى شكر نعمة الله عليك، بأن اصطفاك للهداية من بين خلقه وأضل غيرك مما يوحي إليك بتذكر هذه النعمة العظيمة والمنحة الإلهية الجليلة عليك. وهذا مما يزيدك هداية ودعوة لغيرك، يقول الفضيل بن عياض: "لا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين ولا تستوحش من الحق لقلة السالكين". فإذا سلكت طريق الحق، فاعلم أن الخلق يودون أنهم على الحق مثلك، ولكن الهداية لا تتحقق بالأماني، فاحمد الله أن من عليك بالاستقامة.
(1/106)
الدنيا مزرعة الآخرة عمر الإنسان في هذه الحياة محصور، ودرجته في الآخرة مبنية على هذه الأيام التي تعيشها، فإذا قدمت لنفسك صالحاً كنت من السعداء، وإذا أهملت نفسك في هذه الحياة وفرطت في ساعاتك ندمت في الآخرة، والله عز وجل ذكر أنك مرهون في الآخرة بعملك في الدنيا، قال سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. ولا تعلم متى يزورك ملك الموت، وإذا نزعت روحك، فإن أقاربك وأحبابك ومن حولك بعد دفنك في شغل في هذه الحياة وسعي في الدنيا حثيث مما يجعلهم في غفلة عن الدعاء لك بعد موتك، وهذه سنة الله في الحياة بالنسيان، فأنت مثلاً لا تدعو لوالد جدك وهو ليس بعيداً عنك مع أنه سبب في وجودك في الحياة، وسيأتي الزمان الذي ينسى أحفادك ومن دونهم الدعاء لك. فإذا تقرر ذلك عندك، وأن الناس في غفلة عنك بعد موتك، فأكثر من عمل الصالحات، واطرق كل باب خير في الدنيا لعلها تقربك عند ربك في الآخرة.
(1/107)
لا تحتقر أي عمل لا تحتقر أي عمل صالح تعمله ولو قل في عينيك، فقد يكون سبب دخولك الجنة. ولا تستصغر ارتكاب أي معصية تعملها فقد تكون سبباً في دخولك النار، فاطرق جميع أبواب الأعمال الصالحة فلا تدري أيها يفتح لك في الجنان، فقد دخل رجل الجنة بإزالة غصن شجرة في الطريق. قد تلقي كلمة أو تسدي نصيحة لأحد تسعد غيرك وتسعد بها على مر الدهور، يقول عليه الصلاة والسلام: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» وكل عمل صالح في الإسلام فهو عظيم فأكثر من الأعمال الصالحة المتنوعة وإن قل العمل في نوع منها «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ» (متفق عليه). واحذر جميع طرق العصيان فلا تدري أيها تهوي بك في النيران، فبهرة دخلت امرأة النار، يقول عليه الصلاة والسلام: «دخلت امرأة النار في هرة لا هي أطعمتها وسقتها، إذ حسبتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض». (متفق عليه). فاسلك طريق الكرم والمروءة، وحسن الخلق والبشاشة، وخدمة الآخرين، والصدق في الحديث، والوفاء بالوعد، وحسن المعاملة المالية،
(1/108)
وكل باب من أبواب الخير، يقول ابن القيم (1): "وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله أين كانت، فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم". _________ (1) مدارج السالكين 1/ 89.
(1/109)
تذكر الموت وزيارة المقابر على العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مراراً ذكراً يباشر به قلبه، ليقارع أطماعه، فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأماناً بإذن الله من الهلع، ومصرع غيرك يريك مصرعك. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من زيارة المقابر ليلاً ونهاراً، وكان إذا كان يوم عائشة يزور البقيع، تقول عائشة رضي الله عنها: "كلما كان ليلتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع" (رواه مسلم). وزيارتها تشحذ الهمم إلى الآخرة وتغض الطرف عن الدنيا. يقول عليه الصلاة والسلام: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة». (رواه الترمذي وابن ماجه). فاجعل الموت بين ناظريك تصلح أحوالك، وزر المقابر يحيى قلبك.
(1/110)
التحلي بالصدق الصدق من أعظم الفضائل الأخلاقية، وأكرم الصفات الإنسانية، وهو أساس الإيمان، به تظهر الرفعة والهمة والعلو يتحلى به الأماثل من الرجال، ويتصف به الأوفياء من المؤمنين، فأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لم تُعدّ عليه كذبة في حياته. يقول مصعب بن الزبير - رضي الله عنه - في وصف أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: "وأجمعت الأمة على تسميته بالصديق، لأنه بادر إلى تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولازم الصدق، فلم تقع منه هنة ما، ولا وقفة في حال من الأحوال" (1) والله أمر رسوله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]. وهو علامة على رفعة المتصف به، التحلي به يوصل العبد إلى منازل الأبرار، وإذا رأيت رجلاً صادقاً في حديثه وتعامله، فترقب علوه ورفعته وصحة همته. يقول الجنيد: "حقيقة الصدق أن تَصدق في موطن لا يُنجيك منه إلا الكذب". _________ (1) تهذيب اللغات 2/ 181.
(1/111)
وإذا تحليت بالصدق فاعلم أن ذلك من منن الله العظيمة عليك. يقول ابن القيم (1): "ما أنعم الله على عبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده". ويوم القيامة لا ينجي العبد إلا الصدق قال سبحانه: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119]. فلازم الصدق في قولك وفعلك لتلحق برتبة الصديقين في الجنة. _________ (1) زاد المعاد 2/ 591.
(1/112)
قبح الكذب الكذب مفتاح النفاق وأساسه، وهو من أخص صفات الأراذل من الخلق، قال عليه الصلاة والسلام: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». (متفق عليه). وما أخرج آدم وحواء من الجنة إلا بسبب كذب إبليس عليهما، قال سبحانه وتعالى عن إبليس: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]. وقد جعل أهل العلم حاله أسوأ من حال البهائم، قال شيخ الإسلام (1): "الكاذب أسوأ حالاً من البهيمة العجماء". وهو متضمن لفساد المعاش والمعاد، قال ابن القيم (2): "كل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب، والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدها ومضارها بمثل الكذب". ولو لم يأتك من مفاسد الكذب إلا أنه يحرمك من درجة الصديقية في الآخرة لكفى به مفسدة، فإن درجة الصديقية لا ينالها كاذب البتة، فجانب الكذب في حديثك فهو يهوي بك في الرذائل، ويبعد عنك الأصحاب، ويبغض فيك الخلق، ويحذر منك في التعامل. _________ (1) الفتاوى 20/ 74. (2) بدائع الفوائد 1/ 136.
(1/113)
الحسد الحسد مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب يقع بين النظراء، لكراهة أحدهما، أو لفضل الآخر عليه، وهو من أعظم مداخل الشيطان، وهو خصلة ذميمة من خصال اليهود، قال جل وعلا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]، وهو نار محرقة من بُلي به فهو في عذاب الله، يقول الشاعر: لله در الحسد ما أعدله يبدأ بصاحبه فيقتله وقد قيل: أول ذنب عصي الله به ثلاثة: الحرص والكبر والحسد، فالحرص من آدم، والكبر من إبليس، والحسد من قابيل حيث قتل هابيل. والحسد نوع من معاداة الله، فالحاسد يكره نعمة الله على عبده، وقد أحبها الله وأحب زوالها عنه، والله يكره ذلك فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهيته، وهو منافي للأخوة في الدين قال عليه الصلاة والسلام: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً». (رواه مسلم). والحاسد كاره فضل الله على عباده، مبغوض في الخلق، محب للذات، كاره لنفع الآخرين. قال معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -: "كل الناس أستطيع أن أرضيه، إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها". قال ابن القيم (1): "الحاسد عدو نعمه ـ أي نعم الله ـ وعدو عباده، _________ (1) بدائع الفوائد 2/ 462.
(1/114)
وممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبداً، ولا يواسى، فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم". والفاضل لا يكون حسوداً، ولا يحسد إلا المفضول، والله عز وجل قد ينعم على المحسود بالنعمة التي حسد عليها أو يزيد. قال شيخ الإسلام (1): "بغضه لنعمة الله على عبده مرض، فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها، وقد يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود". ومن وجد في قلبه حسداً لغيره فليجاهد نفسه باستعمال التقوى والصبر. قال رجاء بن حيوة: "ما أكثر عبد ذكر الموت إلا ترك الحسد والفرح" فعليك بالسعي في إزالة الحسد من قلبك، والإحسان إلى المحسود بإكرامه، والدعاء له، ونشر فضائله، واعل بنفسك إلى إزالة ما وجدت عليه في نفسك من الحسد حتى تصل إلى مرتبة تتمنى فيها أن يكون أخوك المسلم خيراً منك وأفضل. قال ابن رجب (2): "وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه". والمحسود مظلوم مأمور بالصبر والتقوى فليصبر على أذى الحاسد وليعف وليصفح عنه فالرفعة له. قال ابن القيم (3): "من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق لها إلا من عظم حظه من الله، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشراً وبغياً وحسداً، ازددت إليه إحساناً وله نصيحة وعليه شفقة". _________ (1) الفتاوى 10/ 112. (2) جامع العلوم والحكم 2/ 263. (3) بدائع الفوائد 2/ 468.
(1/115)
الغيبة من عزت عليه نفسه صانها وحماها، ومن هانت عليه أطلق لها عنانها وأرخى زمامها، فألقاها الرذائل، ولم يحفظها من المزالق، والناس عورات ومعايب، وزلات ومثالب، فلا تظن أنك علمت ما لم يعلم غيرك، أو أنك أدركت ما عجز عنه غيرك، والموفق من شغله عيبه عن عيوب الناس. والمغتاب يفسد الدين، والسلامة في البعد عنه، يقول عبد الله بن المبارك: "فر من المغتاب فرارك من الأسد". والغيبة جالبة للسيئات، يقول الحسن البصري: "والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد" ومن العجب أن الرجل لا يغتاب إلا من هو أعلى منه، أما من هو دونه فيقدم الرحمة على الغيبة. والإسلام حارب الهوى ورتب جزاء الغيبة أن حسناتك تعطى لمن تغتابه، كل ذلك تنفير من الغيبة، يقول الإمام الشافعي: "لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت أمي، فإنها أحق الناس بحسناتي". فهي نار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار الحطب. ولما تجلبه الغيبة من قسوة القلب ونتن اللسان، فقد خافها العلماء على أنفسهم، يقول البخاري "ما اغتبت أحداً منذ أن علمت أن الغيبة حرام". فاحفظ لسانك عن أعراض الناس وعن ساقط القول ومرذوله، تكن زاكي النفس محبوباً عند الخلق، مقرباً عند الخالق.
(1/116)
إخلاف الوعد الوفاء بالوعد من نعوت ذوي المروءات، والخلف فيه قدح في كمال الرجولة، وعصيان لرب العالمين، وأمارة على احتقار الآخرين، ولم يتصف بتلك الصفة إلا أراذل الخلق. يقول عليه الصلاة والسلام: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» متفق عليه. زاد مسلم «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم». ومن أخلف وعده فقد عصى الله قال عز وجل: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] فيجب عليك الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد. ومن وعد علق وعده بمشيئة الله وهو ناو عدم الوفاء به كان ذلك من إخلاف الوعد. قال ابن رجب (1): "أن يعد ومن نيته أن لا يفي بوعده، وهذا أشر الخلف، ولو قال أفعل كذا إن شاء الله تعالى، ومن نيته أن لا يفعل كان كذباً وخلفاً، قاله الأوزاعي". _________ (1) جامع العلوم والحكم 2/ 482.
(1/117)
• أمل والديك: أمل والديك أن تكون ممن سيرتهم فاضلة، وأخلاقهم سامية مع صحة الاستقامة، والبعد عن محقرات الأعمال ورذائل المهالك، وأن لا تقع فريسة للانحراف، أو أسيراً للملذات والشهوات، أو مطية للجهل والهوى، فلا تضيع أملك وأملهم فيك أمام لحظة من شهوة، أو ساعة من غفلة، وعليك بانتقاء الأصحاب والمؤانسة، فالنفس إن تركت وهواها ضلت وأضلت، إن هذبت اكتسبت حسن الاستقامة، ولطف الشمائل، وجميل الأخلاق. ومن لم يضبط نفسه عن الإهمال في الملاذ والركون إلى المشتبهات، فقد دخل في الغفلة، وخرم مروءته، وأضاع نفسه، وسقط من الناس دره وقتل أمل غيره من والديه وأقاربه.
(1/118)
أفضل طريقة لحفظ القرآن
حفظ القرآن العظيم كنز ثمين يتسابق إليه المشمرون فهو كلام الله الشافع لصاحبه يوم القيامة، وقد تنوعت طرق حفظه للوصول إلى فضائله، وإليك طريقة سهلة تتميز بسرعة الحفظ وقوته ورسوخه وهذه الطريقة مع التمثيل لها بوجه واحد من سورة الجمعة ما يلي: 1 - تكرر الآية الأولى عشرين مرة حفظاً: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. 2 - تكرر الآية الثانية عشرين مرة حفظاً: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. 3 - تكرر الآية الثالثة عشرين مرة حفظاً: {وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. 4 - تكرر الآية الرابعة عشرين مرة حفظاً: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. 5 - تكرر هذه الآيات الأربع من أولها إلى آخرها للربط بينها عشرين مرة. 6 - تكرر الآية الخامسة عشرين مرة حفظاً: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
(1/119)
7 - تكرر الآية السادسة عشرين مرة حفظاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. 8 - تكرر الآية السابعة عشرين مرة حفظاً: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. 9 - تكرر الآية الثامنة عشرين مرة حفظاً: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. 10 - تكرر من الآية الخامسة إلى الآية الثامنة عشرين مرة حفظاً للربط بينها. 11 - تكرر من الآية الأولى إلى الآية الثامنة عشرين مرة حفظاً لإتقان هذا الوجه. وهكذا تلتزم هذه الطريقة في كل وجه لكل القرآن ولا تزد في اليوم الواحد عن حفظ أكثر من ثمن لئلا يزيد عليك المحفوظ فيتفلت الحفظ. • إذا أردت حفظ وجه جديد في يوم غد فكيف أفعل؟ إذا أردت أن تحفظ الوجه الآخر في اليوم التالي، فقبل أن تحفظ الوجه الجديد بالطريقة التي ذكرتها لك، تقرأ الوجه السابق من أوله إلى آخره عشرين مرة، ليكون محفوظ الوجه السابق راسخاً، ثم تنتقل إلى حفظ الوجه الجديد على الطريقة التي أشرت إليها. • كيف أجمع بين الحفظ والمراجعة؟ الحفظ لا يرسخ إلا بالمراجعة ومن حفظ القرآن كاملاً بدون مراجعة وأراد الرجوع إلى ما حفظه وجد نفسه قد نسي ما حفظه، والطريقة المثلى أن تجمع بين حفظ القرآن ومراجعته وذلك باتباع الخطوات التالية: 1 - قسم القرآن ثلاثة أقسام كل عشرة أجزاء قسم، القسم الأول: من سورة الناس إلى سورة العنكبوت، القسم الثاني من سورة القصص إلى سورة يونس، القسم الثالث من سورة التوبة إلى سورة البقرة. 2 - إذا حفظت في اليوم وجهاً أو وجهين فراجع كل يوم أربعة أوجه حتى تحفظ عشرة أجزاء، فإذا حفظت أجزاء القسم الأول من سورة الناس
(1/120)
إلى سورة العنكبوت، توقف شهراً كاملاً لمراجعتها، كل يوم تراجع فيه ثمانية أوجه. 3 - بعد شهر من المراجعة استمر في بقية الحفظ، وجهاً أو وجهين حسب القدرة، وراجع ثمانية أوجه من القسم الأول من سورة الناس إلى سورة العنكبوت حتى تحفظ القسم الثاني من القرآن من سورة القصص إلى سورة يونس. 4 - إذا حفظت القسم الثاني توقف عن الحفظ مدة شهرين لمراجعة العشرين جزء من سورة الناس إلى سورة يونس كل يوم تراجع فيه ثمانية أوجه. 5 - إذا مضى شهران على المراجعة، ابدأ في حفظ القسم الثالث من سورة التوبة إلى سورة البقرة كل يوما وجهاً أو وجهين حسب القدرة، وتراجع ثمانية أوجه من سورة الناس إلى سورة يونس حتى تنتهي من حفظ القرآن كاملاً. 6 - إذا انتهيت من حفظ القرآن كاملاً، راجع القسم الأول حفظاً من سورة الناس إلى سورة العنكبوت مدة شهر، كل يوم نصف جزء. 7 - انتقل على مراجعة العشر الأجزاء الوسطى حفظاً من سورة القصص إلى سورة يونس مدة شهر كل يوم نصف جزء وتراجع معها كل يوم حفظاً ثمانية أوجه من القسم الأول من سورة الناس إلى سورة العنكبوت. 8 - انتقل إلى مراجعة القسم الثالث من سورة التوبة إلى سورة البقرة مدة شهر كل يوم نصف جزء مع جزء واحد من سورة الناس إلى سورة يونس. • كيف أراجع القرآن كاملاً إذا انتهيت من هذه المراجعة؟ ابدأ بمراجعة القرآن كاملاً، واجعل طريقتك فيه بأن تقرأ جزئين تكررهما ثلاث مرات في اليوم، وبذلك تختم القرآن كاملاً بالمراجعة في كل أسبوعين مرة.
(1/121)
افعل هذه الطريقة سنة كاملة. وبهذه الطريقة تكون خلال سنة قد حفظت القرآن كاملاً بإتقان. • ماذا أفعل بعد سنة من حفظ القرآن؟ بعد سنة من إتقان القرآن ومراجعته، ليكن حزبك اليومي من القرآن حتى مماتك هو حزب الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا يحزبون القرآن سبعاً، أي كل سبعة أيام يختمون القرآن، قال أوس بن حذيفة - رضي الله عنه -: "سألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزبون القرآن قالوا ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من قاف حتى يختم" (رواه أحمد). - أي في اليوم الأول يقرأ من "سورة الفاتحة" إلى نهاية "سورة النساء". - وفي اليوم الثاني يقرأ من "سورة المائدة" إلى نهاية "سورة التوبة". - وفي اليوم الثالث يقرأن من "سورة يونس" على نهاية "سورة النحل". - وفي اليوم الرابع يقرأ من "سورة الإسراء" إلى نهاية "سورة الفرقان". - وفي اليوم الخامس يقرأ من "سورة الشعراء" إلى نهاية "سورة يس". - وفي اليوم السادس يقرأ من "سورة الصافات" إلى نهاية "سورة الحجرات". - وفي اليوم السابع يقرأ من "سورة ق" إلى نهاية "سورة الناس". وحزب الصحابة رضي الله عنهم، جمعه العلماء في قولهم: "فمي بشوق" فكل حرف من هاتين الكلمتين هو بداية حزب الصحابة رضي الله عنهم كل يوم، فحرف الفاء في قولهم "فمي" رمز لسورة الفاتحة يشير إلى أن حزبهم في اليوم الأول يبدأ من سورة الفاتحة. وحرف الميم في قولهم "فمي" يشير إلى أن بداية حزبهم في اليوم الثاني يبدأ من "سورة المائدة". وحرف الياء في قولهم "فمي" يشير إلى أن بداية حزبهم في اليوم الثالث يبدأ من "سورة يونس".
(1/122)
وحرف الباء في قولهم "بشوق" يشير إلى أن بداية حزبهم في اليوم الرابع يبدأ من "سورة بني إسرائيل"، والتي تسمى أيضاً "سورة الإسراء". وحرف الشين في قولهم "بشوق" يشير إلى أن بداية حزبهم في اليوم الخامس يبدأ من "سورة الشعراء". وحرف الواو في قولهم "بشوق" يشير إلى أن بداية حزبهم في اليوم السادس يبدأ من سورة "الصافات". وحرف القاف في قولهم "بشوق" يشير إلى أن بداية حزبهم في اليوم السابع يبدأ من "سورة ق" إلى نهاية سورة "الناس". وأما تحزيب القرآن الحالي فهو من وضع الحجاج ابن يوسف.
• كيف أفرق بين المتشابهات في القرآن؟
أفل طريقة أنه إذا وقع عندك تشابه في آيتين، فافتح المصحف على كلتا الآيتين، وانظر ما الفرق بينهما، وتأمله، وضع لنفسك ضابطاً له، وأثناء مراجعتك تبنه لذلك الفرق مراراً حتى تتقن المتشابه الذي بينهما. • قواعد وضوابط في الحفظ: 1 - يجب أن يكون حفظك على شيخ لتصحيح التلاوة. 2 - احفظ كل يوم وجهين، وجهاً بعد الفجر ووجهاً بعد العصر أو بعد المغرب، وبهذه الطريقة تحفظ القرآن كاملاً متقناً خلال سنة، ويكون حفظك متقناً، أما إذا أكثرت من الحفظ فإن المحفوظ يضعف. 3 - الحفظ يكون من سورة الناس إلى سورة البقرة، لأنه أيسر، وبعد حفظك للقرآن تكون مراجعتك من البقرة إلى الناس. 4 - الحفظ يكون من مصحف موحد في الطبعة ليكون معيناً على رسوخ الحفظ وسرعة الاستذكار لمواطن الآيات وأواخر الصفحات وأولها.
(1/123)
5 - كل من حفظ القرآن في السنتين الأوليين يتفلت عليه المحفوظ، وهذه تسمى (مرحلة التجميع) فلا تحزن من تفلت القرآن منك أو كثرة خطئك، وهذه مرحلة صعبة للابتلاء، للشيطان منها نصيب ليوقفك عن حفظ القرآن، فدع عنك وساوسه، واستمر في حفظ القرآن، فهو كنز لا يعطى لأي أحد. • حفظ المتون: العلم أكثر من أن يحاط، والعاقل يأخذ منه زهرته، والنبيل يكتب خير ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، ويحدث بأحسن ما يحفظ، والعالم لا يكون عالماً بدون حفظ المتون، يقول شيخ الإسلام: "من حفظ المتون حاز الفنون" والحبي يقول: والثلثان وهما التمام ... فاحفظ فكل حافظ إمام ولا يكون المرء راسخاً في العلم بدون حفظ أصول العلم، وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعاباً، فاطلب من العلم آكده وأوجبه وأغزره نفعاً، واحفظ في كل فن مختصراً قال شيخ الإسلام (1): "وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ثم انتقل إلى المبسوطات وتبحر فيها، وخذ العلم من أهله من شيخ يقتدى به في العلم والعمل. يقول محمد بن سيرين: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" وخير العلوم ما ضبط أصله واستذكر فرعه. _________ (1) الفتاوى 10/ 664.
(1/124)
• ماذا أحفظ من المتون؟
ابدأ في مطلع الطلب بحفظ كتاب الله متقناً مع التدبر، ثم احفظ متوناً في العقيدة، فنقاء العقيدة يصحح النية، ويلجم الهوى، ويبارك في العمل، ويخلد الذكر، ثم احفظ متوناً في فنون متنوعة في التجويد والمصطلح والحديث والفقه وأصوله والفرائض والنحو والآداب، وإليك بياناً بأهم المتون مرتبة مسلسلة حسب الفنون: (1) القرآن الكريم: وخلال حفظك للقرآن لا تقتصر على حفظه فقط بل اجمع معه حفظ متون أخرى. (2) التجويد: وتحفظ منظومة التحفة للجمزوري وهي 61 بيتاً. (3) العقيدة: وتحفظ مسلسلة كما يلي: 1 - نواقض الإسلام. 2 - القواعد الأربع. 3 - ثلاثة الأصول 4 - كتاب التوحيد، وهذه المتون الأربعة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. 5 - العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية. 6 - العقيدة الطحاوية. (4) مصطلح الحديث، وتحفظ فيه: 1 - البيقونية وهي (34) بيتاً. 2 - نخبة الفكر لابن حجر. (5) الحديث: وتحفظ من الحديث المتون الآتية: 1 - الأربعون النووية. 2 - عمدة الأحكام. 3 - بلوغ المرام.
(1/125)
(6) أصول الفقه: متن الورقات للجويني. (7) الفقه، وتحفظ فيه: 1 - شروط الصلاة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. 2 - زاد المستقنع للإمام الحجاوي، وهو خلاصة في فقه الأحكام، وقد حوى مسائل عديدة. (8) الفرائض: وتحفظ فيه: متن الرحيبة وهي 176 بيتاً. (9) النحو: وتحفظ فيه: 1 - الآجرومية. 2 - ألفية ابن مالك. (10) في الآداب، تحفظ: 1 - نونية أبي الفتح البستي الموسومة بـ (عنوان الحكم ـ النونية) وهي منظومة تعد من عيون الأدب، مليئة بالحكم والأخلاق الكريمة عدد أبياتها (63) بيتاً ومطلعها: زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير خسران 2 - منظومة أبي إسحاق الألبيري، وهي منظومة بديعة مليئة بالنصائح والتوجيهات عدد أبياتها (115) بيتاً ومطلعها: تفتُّ فؤادك الأيام فتا ... وتنحت جسمك الساعات نحتا
(1/126)
* اذكر لي المتون مرتبة لكي أحفظها: 1 - القرآن العظيم. 2 - نواقض الإسلام. 3 - القواعد الأربع. 4 - ثلاثة الأصول. 5 - الأربعون النووية. 6 - التحفة في التجويد. 7 - البيقونية. 8 - شروط الصلاة. 9 - منظومة أبي الفتح البستي في الحكم. 10 - الآجرومية. 11 - كتاب التوحيد. 12 - الواسطية. 13 - الطحاوية. 14 - الرحبية. 15 - متن الورقات. 16 - منظومة الألبيري في الآداب. 17 - نخبة الفكر. 18 - عمدة الأحكام. 19 - بلوغ المرام. 20 - زاد المستقنع. 21 - ألفية ابن مالك.
(1/127)
• طريقة حفظ المتون:
إذا كان المتن المحفوظ من متون الحديث فلا تزد كل يوم عن حفظ ثلاثة أحاديث. وإذا كان نثراً فلا تزد على حفظ ثلاثة أسطر. وإذا كان منظوماً فلا تزد على حفظ ثلاثة أبيات وبهذه الطريقة المتأنية يرسخ المحفوظ. والطريقة هي أن تكرر المقطع الذي تريد أن تحفظه عشرين مرة حفظاً بعد الفجر مثلاً، وبعد العصر أيضاً تكرره عشرين مرة حفظاً، ولو كنت تحفظ مثلاً ألفية ابن مالك، فقبل أن تبدأ في حفظ الأبيات الجديدة اقرأ الأبيات الثلاثة التي حفظتها بالأمس عشرين مرة حفظاً، ثم اقرأ حفظاً من أول الألفية حتى تصل إلى موطن الحفظ الجديد، وهكذا تكرر ذلك يومياً حتى يرسخ المحفوظ، وبهذه الطريقة سر في كل متن تحفظه مع ضرورة مداومة مدارسة العلم حفظاً ومراجعة وقراءة، وحضور دروس العلماء وملازمتهم، والسؤال عما أشكل من مسائل العلم. وكان أبو إسحاق الشيرازي يعيد الدرس مائة مرة، وكان الكيا الهراسي يعيد سبعين مرة، واليك هذه القصة التي تظهر لك أن قلة التكرار سبب سرعة النسيان. قال ابن الجوزي في الحث على حفظ العلم (1): "وحكى لنا الحسن يعني ـ ابن أبي بكر النيسابوري ـ أن فقيهاً أعاد الدرس في بيته مراراً كثيرة، فقالت له عجوز في بيته: قد والله حفظته أنا، فقال: أعيديه فأعادته، فما كان بعد أيام، قال: يا عجوز أعيدي ذلك الدرس فقالت ما أحفظه، قال أنا أكرر عد الحفظ (2) لئلا يصيبني ما أصابك". فطريقة رسوخ الحفظ هو التكرار وما الحفظ إلا بالتكرار. _________ (1) الحث على حفظ العلم ص36. (2) أي أكرر الحفظ.
(1/128)
• كيف أراجع المتون؟ إذا حفظت متوناً متنوعة في فنون العلم، فراجع كل شهر جميع المتون التي حفظتها لتكون أرسخ في الحفظ، وأظهر في الاستحضار، وأسرع في الاستدلال. • ماذا أقرأ من الكتب؟ المكتبة الإسلامية ثرية بالكتب في مختلف الفنون، ويحرص المرء على قراءة عيون الكتب المتميزة بغزارة الفائدة ورصانة الأسلوب، وليكثر من قراءة كتب الأسلاف، ومن أهم ما يقرؤه طالب العلم ما يلي: أولاً: العقيدة: 1 - حاشية ثلاثة الأصول لعبد الرحمن بن قاسم. 2 - شرح كشف الشبهات، للشيخ محمد بن إبراهيم. 3 - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد. 4 - شرح العقيدة الواسطية. ثانياً: التفسير: 1 - تفسير ابن كثير. 2 - تفسير السعدي. ثالثاً: المصطلح: 1 - شرح نخبة الفكر. رابعاً: الحديث: 1 - جامع العلوم والحكم لابن رجب. 2 - إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد. 3 - سبل السلام للصنعاني. 4 - الكتب الستة (البخاري، مسلم، أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه). خامساً: الفقه: 1 - الروض المربع.
(1/129)
سادساً: السيرة: الفصول في سيرة الرسول لابن كثير. سابعاً: التاريخ: البداية والنهاية. ثامناً: التراجم والسير: سير أعلام النبلاء. تاسعاً: النحو: 1 - التحفة السنية في شرح الآجرومية. 2 - شرح ابن عقيل على الألفية. عاشراً: الآداب: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب. حادي عشر: تهذيب النفوس: 1 - صيد الخاطر لابن الجوزي. 2 - مداواة النفوس لابن حزم. ثاني عشر: الفتاوى: 1 - فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله. 2 - فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله. 3 - فتاوى اللجنة الدائمة. ثالث عشر: كتب في فنون عديدة: 1 - مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية. 2 - مؤلفات ابن القيم. 3 - الدرر السنية في الأجوبة النجدية. • أقرأ وأنسى فما هو الحل؟ الله عز وجل فطر الإنسان على النسيان، ومن ذلك سمي الإنسان إنساناً لكثرة نسيانه، والعلوم واسعة، والفنون متنوعة، والمعارف متشعبة، ومسائل
(1/130)
الشريعة بحور، والحياة مزدحمة بالهموم، وطاقة البشر مقصورة، وخير البشر عليه الصلاة والسلام نسي في صلاته وقال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون». (متفق عليه). فإذا ظهر ذلك لك جلياً أدركت أن من يقرأ العلم ثم ينسى شيئاً منه، ليس نقصاناً في شأنه، ولا ينقص ذلك من جلالته، كما أن ذلك لا يقنطه من مواصلة طلب العلم الشرعي، ولا ييأس من تحصيله. ولو كان ما يقرأ لا ينسى لما احتاج العلماء إلى مدارسة العلم وإدامة النظر فيه، والعكوف عليه، ومعاودة الإطلاع على ما قرئ. والنسيان في العلم أدعى لدارسته، ليحصل طالب العلم ثواب العكوف عليه، ولو كان لا ينسى لما أصبحت لعبادة طلب العلم في حياته نصيب، وهذا من رحمة الله أن طالب العلم يتعبد الله بمراجعة وتكرار ما قرأ، لئلا ينسى، وهو بذلك يقوم بعبادة جليلة تكون له رفعة في الآخرة. فإذا قرأت ونسيت فلا تحزن على ما فاتك منه، فالعلم أودية وأنت حال مدارسته في عبادة. • كيف أتدارك كثرة نسيان ما أقرأ؟ طريقة العلماء حين قراءة كتب أهل العلم هي تدوين شوارد المسائل من المهمات بأن تكتب ما تلتقطه على باطن غلاف ما تقرؤه من الكتاب، ومع تعاقب الزمن ترى نفسك قد حصلت علوماً وافرة مما قيدته. العلم صيد والكتابة قيده .. قيد صيودك بالحبال الواثقة
(1/131)
التوفيق بين مطالب الحياة في هذا العصر تنوعت المشارب، وتشعبت الطموحات، مآرب مختلفة وصوارف متعددة، يقف المرء أمام تلك الصوارف والموانع والمتطلبات حيران، فللبيت رعاية وواجبات، وللزوجة عناية ومطالب، وللوالدين إكرام وحقوق، وللأصدقاء ود ووفاء، وللأرحام صلة وإحسان، وللجار تعاهد وزيارة، وللفقراء بذل وحنو، ولطلب الرزق زمن لازم، ولحضور دروس العلماء شغف وطموح، ولحفظ المتون أمنية وأمل، أمام كل ذلك يقف طالب العلم الهميم حيران ليجمع بين منثور ذلك الخير فكيف الجمع بينها؟ إن ذلك يتطلب دعاء ببركة الوقت، وتوفيقاً في تنظيم شئون الحياة، وفي الشريعة قاعدة في الجمع بين متطلبات الدنيا والدين، قال عليه الصلاة والسلام: «فإن لزوجك عليك حقا، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً». (متفق عليه). فأعط كل ذي حق حقه، واغتنم زمن عمرك وزهرة دهرك بطرق كل أبواب الخير، واجعل لكل أولئك زمناً تتقرب به إلى الله بإخلاص النية، واجعل بر والديك في غير معصية هو المقدم، فالبركة والخيرات في القرب منهم.
(1/132)
• برنامج يومي مقترح: تصلي الفجر في المسجد مع جماعة المسلمين، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله». (رواه مسلم). ثم تمكث في المسجد، وبعد قراءة أوراد الصباح تحفظ من القرآن، وإذا كنت حافظاً له تراجع ما حفظته ثم تحفظ من المتون، وتراجع شيئاً منها، كل ذلك وأنت في المسجد، حتى تطلع الشمس قيد رمح ثم تصلي ركعتي الضحى، ثم تذهب إلى دارك ثم تذهب إلى المدرسة أو الوظيفة، وبعد عودتك من المدرسة أو العمل تأخذ قسطاً من الراحة إلى صلاة العصر، وبعد صلاة العصر يقرأ الطالب واجبات المدرسة. وبعد صلاة المغرب تمكث في المسجد إلى صلاة العشاء، وتصنع بعد المغرب مثل ما صنعت بعد الفجر من حفظ القرآن والمتون ومراجعتها. وبعد صلاة العشاء تنام مبكراً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها يقول أبو برزة - رضي الله عنه -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها". (متفق عليه). فتقرأ أوراد النوم، ثم تنام على طهارة على جنبك الأيمن، وقبل صلاة الفجر بساعة تستيقظ من نومك وتذكر الله عند استيقاظك، لتنحل عنك عقدة من عقد الشيطان. قال عليه الصلاة والسلام: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان». (متفق عليه). وتقول إذا استيقظت من نومك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال عليه الصلاة والسلام: «من تعار من الليل أي استيقظ فقال: لا إله إلا الله وحده لا
(1/133)
شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته». (رواه البخاري). أسأل الله عز وجل أن يجعلك من السعداء في الدنيا والآخرة وأن يمنحك التوفيق أينما توجهت وأن يجعلك مباركًا حيثما حللت وأن يجمعنا جميعًا في الفردوس الأعلى من الجنة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
(1/134)