برنامج فعلي في التوبة إلى الله
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
برنامج فعلي في التوبة إلى الله
د. نوال عبد العزيز العيد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71].
فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقلت، فإن عاد زيد فيها، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو فيه، فهو الران الذي ذكر الله ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]».
أخرجه ابن حبان في صحيحه (3/210) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1670) وجاء في صحيح مسلم (144) من حديث حذيفة عنه - صلى الله عليه وسلم -: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربدًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه...» وفي الحديث شبه الحبيب - صلى الله عليه وسلم - عرض الفتن على القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدان الحصير، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس وهو معنى قوله: (كالكوز مجخيًا)، أي: مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسودَّ وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران قاداه إلى الهلاك:
أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة.
الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانقياده للهوى واتباعه له.
وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها، وردها، فزاد نوره وإشراقه وقوته، والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها وهي فتن الشهوات، وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد. قاله ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/12).
ولما كان العبد يعيش في سفر تغزوه فيه الأعادي، أولاها: نفسه التي بين جنبيه، وشياطين الإنس والجن، وشهوات الدنيا وملذاتها، ولما كان خلقه ضعيفًا لا يقاوم الشهوات، ولا يتحمل مشاق الطاعات، فإن وقوعه في الزلات أمرٌ لا يستغرب، ومن رحمة الله بعباده، وعلمه بأحوالهم فتح لهم باب التوبة، ووفق قلوبهم للإنابة إليه، والتذلل بين يديه، وامتنَّ جل وعلا بقبول ما وفقهم إليه، فله الحمد والشكر على ذلك يقول تعالى: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 27، 28]، وبعد هذا أحببت أن أقدم في وريقاتي هذه مادة عملية لصقل القلوب وتزيينها، وبرنامجًا فعليًا في التوبة إلى الله تعالى.
وفي البدء أحب أن أقدم تعريفًا للتوبة، ثم أثنِّي بفضائلها، ثم أرسم برنامجًا عمليًا مستمدًا من الكتاب والسنة لتحقيقها، وأختم بشروط التوبة. وفقني الله وإياك لما يحب ويرضى.
تعريف التوبة
التوبة في اللغة: يقول ابن منظور في اللسان (1/233): «التوبة الرجوع من الذنب».
وأما في الشرع: فقد تعددت تعاريف العلماء لها:
يقول القرطبي في التفسير (5/91): «هي الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياءً من الله» ونقل ابن كثير عن بعض العلماء تعريفًا للتوبة، فقال في التفسير (4/392): «التوبة النصوح هي أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على ألا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه» ويقول ابن قيم الجوزية في المدارج (1/305) «وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي، وإن كان في حق آدمي؛ فلا بد من أمر رابع وهو التحلل منه، وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها، وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن ذلك، تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به، هذا حقيقة التوبة، وهي اسم لمجموع الأمرين...».
وقد سبق ابن القيم إلى هذا المعنى شيخه، شيخ الإسلام في رسالة في التوبة (299) فقد قررا رحمة الله عليهما أن التوبة الرجوع إلى الله في فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه.
لم الحديث عن التوبة؟
للتوبة فضائل كُثر أذكر بعضها لتشوق نفس المؤمن إلى الانضمام إلى ركب أهلها، والمسابقة لدخول توبته من بابها.
1- التوبة هدي الأنبياء والمرسلين، يقول تعالى عن آدم: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 37]، وقد فسرت هذه الكلمات في سورة الأعراف: ﴿قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].
وقال عن نوح في قصته مع ابنه في سورة هود: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود: 47].
وقال عن إبراهيم: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: 75].
وقال عن موسى بعد قتله النفس خطأ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [القصص: 16].
وأخرج ابن حبان في صحيحه (3/204) من حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأتوب في اليوم سبعين مرة».
2- توبة الله على التائبين قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 39]، ومعنى يتوب عليه أي: يقبل توبته.
أخرج البخاري في صحيحه (2/945) في حادثة الإفك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب؛ تاب الله عليه».
وأخرج ابن حبان في صحيحه (629) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها؛ تاب الله عليه».
وأخرج أحمد في المسند (4/240) من حديث صفوان بن عسال مرفوعًا: «إن من قبل المغرب لبابًا مسيرة عرضه سبعون أو أربعون عامًا فتحه الله عز وجل للتوبة يوم خلق السموات والأرض لا يغلقه حتى تطلع الشمس منه».
وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب (3137)؛ بل من رحمته جل وعلا وفضله أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
3- فرحة الرب بتوبة العبد: يقول ابن القيم في المدارج (1/209): «منها السر الأعظم الذي لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر عليه الإشارة، ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رؤوس الأشهاد، بل شهدته قلوب خواص العباد فازدادت به معرفة لربها، ومحبة له، وطمأنينة به، وشوقًا إليه، ولهجًا بذكره، وشهودًا لبره، ولطفه، وكرمه، وإحسانه، ومطالعة لسر العبودية، وإشرافًا على حقيقة الإلهية، وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلة بأرض فلاة، فانفلتت منه، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذه بخطامها» ثم قال من شدة الفرح: «اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» هذا لفظ مسلم».
وليس للعبد ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ومع ذلك يفرح بتوبة عبده مع غناه عنه، يقول ابن القيم في المدارج (1/212): «فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه، وأعد له أنواع كرامته، وفضله على غيره، وجعله محل معرفته، وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله، واعتنى بأمره ولم يهمله، ولم يتركه سدى، فتعرض لغضبه، وارتكب مساخطه، وما يكرهه، وأبق منه، ووالى عدوه، وظاهره عليه، وتحيز إليه، وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام، فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصبر غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطائه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان، فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة، إذ انقلب شاردًا رادًا لكرامته مائلاً عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته، وخدمته، ناسيًا لسيده، منهمكًا في موافقة عدوه، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله، إذ عرضت له فكرة، فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعرضه عليه، وأنه إن لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه على أسوأ حال الأحوال، ففر إلى سيده من بلد عدوه، وجدَّ في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه، فوضع خده على عتبة بابه، وتوسد ثرى أعتابه، متذللاً متضرعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملق سيده، ويسترحمه، ويستعطفه، ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه، واستسلم له، وأعطاه قياده، وألقى إليه زمامه، فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه، ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفوًا، وبالمنع عطاءً، وبالمؤاخذة حلمًا، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله، وما هو موجب أسمائه وصفاته العلياء فكيف يكون فرح سيده، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعًا واختيارًا...».
4- تبديل السيئات حسنات، وذلك من فضل الرب جل وعلا على عباده، ورحمته بهم، فطوبى لك أيها التائب قبول الرب لتوبتك، وفرحه بها، وتبديل خطاياك إلى حسنات تخبر بها، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 68-70].
واختلف أهل العلم في معنى تبديل السيئات إلى حسنات على أقوال منها:
1- أنهم بدلوا مكان عمل السيئات عمل الحسنات، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية أنه قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات.
2- إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار، فيوم القيامة وإن وجده مكتوبًا عليه فإنه لا يضربه، وينقلب حسنة في صحيفته، واستدلوا على هذا بما أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/170) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول نَحُّوا عنه كبار ذنوبه، وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا كذا وكذا، فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئًا، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ها هنا، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه» صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2485). وأخرجه مسلم في أواخر كتاب الإيمان (190)([1]).
5- الفلاح والفوز إنما يكون بالتوبة، يقول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ [القصص: 67]، والذنوب سبب تسليط الأعادي على العبد يقول تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30]، وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].
فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وفي الدعاء المشهور الذي أخرجه أبو يعلي في المسند (1/60): «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم» صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (716).
وقال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]، وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان، وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة (لعل) المشعرة بالترجي إيذانًا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون. جعلنا الله منهم.
فالفوز في الدنيا والآخرة معلق بالتوبة النصوح، «وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها، وليس للعبد إذا بغي عليه، وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح، فيتولى العبد التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه، فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فما كل أحد يوفق لهذا لا معرفة به، ولا إرادة له، ولا قوة عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله»([2]).
6- المتاع الحسن يقول الله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [هود: 3].
يقول الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (2/170): «والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى الموت، ويدل لذلك قوله تعالى في هذه السورة الكريمة (يعني: سورة هود) عن نبيه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52].
وقوله تعالى عن نوح: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [نوح: 10، 11]، وقوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]، وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96].
فطوبى لك أيها التائب المتاع الحسن الذي وعدك به ربك ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ [النساء: 122].
7- محبة الله للتوابين: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].
وتأمل الآية يرحمك الله ففيه أن الطهر طهران: طهر بالماء من الأحداث والنجاسات، وطهر بالتوبة من الشرك والمعاصي، وهذا الطهور أصل لطهور الماء، وطهور الماء لا ينفع بدونه بل هو مكمل له، معد مهيأ بحصوله، فكان أولى بالتقديم.
8- الخروج من الدرع الضيقة التي يلبسها العاصي، فإن المذنب تحيط به ذنوبه من جميع الجهات حتى تهلكه، ولا ينفك المؤمن منها إلا بالتوبة النصوح، وإبدال السيئة حسنة، أخرج الإمام أحمد في المستدرك (4/145) من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات، كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته، ثم عمل حسنة، فانفكت حلقة، ثم عمل حسنة أخرى فانفكت حلقة أخرى حتى يخرج إلى الأرض».
وبعد استعراض سريع أتيت فيه ببعض ثمرات التوبة هلم إلى برنامج فعلي في التوبة إلى الله.
برنامج فعلي في التوبة إلى الله
استعن بالله على تطبيق هذا البرنامج لتحصل على نتائج طيبة مباركة:
1- معرفة الرب سبحانه:
اعلم وفقك الله أن معرفة الرب سبحانه نوعان:
الأول: معرفة إقرار وهي التي اشترك فيها الناس: البر والفاجر والمطيع والعاصي.
والثاني: معرفة توجب الحياء منه، والمحبة له، وتعلق القلب به، والشوق إلى لقائه، وخشيته، والإنابة إليه، والأنس به، والفرار من الخلق إليه. ولهذه المعرفة بابان واسعان:
الباب الأول: التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة، وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط، وجماع ذلك الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها([3]).
وتأمل رحمك الله وصف ابن القيم لحال العبد مع ربه في مدارج السالكين (1/194): «دعاه (أي: الله سبحانه) إلى بابه فما وقف عليه ولا طرقه، ثم فتحه له فما عرج عليه ولا ولجه، أرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته فعصى الرسول، وقال: لا أبيع حاضرًا بغائب، ونقدًا بنسيئة، ولا أترك ما أراه لشيء سمعت به ويقول:
خذ ما رأيت ودع شيئًا سمعت به | ||||
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل | ||||
فإن وافق حظه طاعة الرسول أطاعه لنيل حظه لا لرضا مرسله، لم يزل يتمقت إليه بمعاصيه حتى أعرض عنه، وأغلق الباب في وجهه. ومع هذا فلم يؤيسه من رحمته، بل قال: متى جئتني قبلتك، إن أتينتي ليلاً قبلتك، وإن أتيتني نهارًا قبلتك، وإن تقربت مني شبرًا تقربت منك ذراعًا، وإن تقربت مني ذراعًا تقربت منك باعًا، وإن مشيت إلي هرولت إليك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا أتيتك بقرابها مغفرة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، ومن أعظم مني جودًا وكرمًا.
عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بنعمي، وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي، وهم أفقر شيء إلي، من أقبل إلي تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد...».
* فاستشعر أيها التائب بره سبحانه في ستره عليك حال ارتكابك المعصية مع كمال رؤيته لك، ولو شاء لفضحك بين الخلق فحذروك، وهذا من كمال بره سبحانه ومن أسمائه البر.
* وشاهد حلم الله تعالى عليك في إمهالك في ارتكاب الخطايا، ولو شاء لعاجلك بالعقوبة، ولكنه الحليم الذي لا يعجل.
* وتأمل كرمه سبحانه فإنه يقبل توبة التائب، ويفرح بها مع غناه عنها.
2- استعظم ولا تستحقر:
اعلم أن الذنوب استجابة لداعي الشيطان الذي تحدى سيدك ومولاك فقال: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 16، 17].
فقال الرب جل وعلا: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأعراف: 18].
وأنت أيها العبد إن عصيت ربك؛ فقد استجبت لعدوه، وانضممت تحت لوائه، وأكثرت سواده، وهذا كله عظيم مهما حقر في نظر العاصي.
واحتقار الذنب بل والفرح به دليل على شدة الرغبة فيه، والجهل بقدر من عصاه، والجهل بسوء عاقبة المعصية، وعظم خطرها، ففرحه بها غطى عليه ذلك كله، والفرح بها أشد ضررًا عليه من مواقعتها، والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدًا، ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به ومتى خلا قلبه من هذا الحزن، واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه، وليبك على موت قلبه، فإنه لو كان حيًا لأحزنه ارتكابه الذنب، وغاظه، وصعب عليه، فحيث لم يحس به فما لجرح بميت إيلام. ولذا يقول الرب في كتابه: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 128].
وتأمل في قوله ﴿اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ ذلك أن الإنس تطيع شياطين الجن وتنقاد إليها، فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع والخادمين، ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم فهذا استمتاع الجن بالإنس، وأما استمتاع الإنس بالجن فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات المحرمة، ويسهلون تلك الأمور عليهم، وهذا استمتاع الإنس، نسأل الله السلامة ([4]).
والشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبة من سبع عقبات بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها:
العقبة الأولى: الكفر بالله وبدينه، وإن ظفر بالإنسان في هذه العقبة؛ بردت نار عداوته واستراح.
العقبة الثانية: البدعة إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والأمور المحدثة في الدين، والبدعتان في الغالب متلازمتان قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيثون في بلاد الإسلام تضج منهم العباد والبلاد. وقال شيخ الإسلام: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة فتولد بينهما خسران الدنيا والآخرة.
فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السنة، واعتصم منها بحقيقة المتابعة، انتقل إلى العقبة الثالثة.
العقبة الثالثة: الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له، وحسنها في عينه، وسوف به. فترى العبد يشرب الخمر لا يبالي، ثم هو يزني، ثم هو يقتل النفس التي حرَّم الله وهكذا دواليك، فإن قطع هذه العقبة بعصمة من الله، أو بتوبة نصوح تنجيه منها؛ طلبه على العقبة الرابعة.
العقبة الرابعة: الصغائر، فكال له منها بالقفزان، وقال: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللمم، أو ما علمت بأنها تكفر باجتناب الكبائر، وبالحسنات، ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه، فالإصرار على الذنب أقبح منه، ولا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، أخرج الإمام أحمد في المسند (5/331) من حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم ومحقرات الذنوب، كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه».
وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2686). وفي صحيح البخاري (5949) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جيل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا".
فإن نجا من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ ودوام التوبة والاستغفار وأتبع السيئة الحسنة طلبه على.
العقبة الخامسة: المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده، ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات، فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة، ونور هاد، ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها، فبخل بأوقاته، وضن بأنفاسه أن تذهب في غير ربح، طلبه العدو على العقبة السادسة: وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها، وحسنها في عينه، وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عمَّا هو أفضل منها، وأعظم كسبًا ورجاءً؛ لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول، فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين مفضولها وفاضلها، لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لابد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه.
العقبة السابعة: تسليط جنده عليه بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبة أجلب عليه العدو بخيله ورجله، وظاهر عليه بجنده، وسلط عليه حزبه ([5]).
3- أحكم الإغلاق:
اعلم حفظ الله أن للشيطان مداخل على الإنسان، جماعها أربعة أبواب، فأغلقها وأحكم الإغلاق؛ بل وتعاهده أيضًا، فإنه متى فتح الباب؛ ولج الشيطان معه؛ ليفسد عليك دارك، وإليك هذه الأبواب:
1- النظرة: فأما اللحظات فهي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورد نفسه موارد المهلكات.
وعند الترمذي (5/101) من حديث علي مرفوعًا: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» [وحسنه الألباني].
وفي صحيح ابن حبان (271) من حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اضمنوا لي ستًا أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم».
والنظرة أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولابد، ما لم يمنع منه مانع – وفي هذا قيل: «الصبر على غضب البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده».
قال الشاعر:
كل الحوادث مبدؤها من النظر | ||||
ومعظم النار من مستصغر الشرر | ||||
كم نظرة بلغت من قلب صاحبها | ||||
كمبلغ السهم بين القوس والوتر | ||||
والعبد ما دام ذا طرف يقلبه | ||||
في أعين العين موقوف على الخطر | ||||
يسر مقلته ما ضر مهجته | ||||
لا مرحبا بسرور عاد بالضرر | ||||
فاحفظ بصرك عما حرم الله عليك، وهنا أشير إلى ضرر القنوات الفضائية، وما تبث من سموم، وما تسحب من لذة طاعة، وحلاوة إيمان، فاحذر أن يراك الله في ما لا يحب. عصمني الله وإياك من الفتن.
2- الخطرة: وأمَّا الخطرات فشأنها أصعب، فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه، وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرًا إلى الهلكات.
واعلم أن ورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته، فالخاطر كالمار على الطريق، إن تركته مر وانصرف عنك، وإن استدعيته سحرك بحديثه وغوره، يقول ابن القيم في طريق الهجرتين (274): «قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة... وهي شيئان:
أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها والحذر من إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء؛ لأنها هي بذر الشيطان، والنفس في أرض القلب، فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال، ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزًا أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذ لم يدفعها وهي خاطر ضعيف، لمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها.
فإن قلت فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟ قلت: أسباب عدة:
أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك.
الثاني: حياؤك منه
الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته.
الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.
السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر، ويستسعر شرارها، فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.
السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلاً بل هي ضدها من كل وجه، وما اجتمعتا في قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه، وأخرجه واستوطن مكانه، فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة فأخرجتها واستوطنت مكانها لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه».
وتذكر رحمك الله قصة أبينا وأمنا مع الشيطان، وكيف دخل الخواطر، وزين أكل الشجرة، بل وعلم أن الإنسان يحب الغناء والبقاء، فقال لهما: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: 20]، وقال في سورة طه: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 120، 121].
فانظر كيف أسمى قبح عمله دلالة، وأسمى الشجرة التي نهى الله الأبوين عنها، وبين عاقبة أكلها فقال: ﴿وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 19]، شجرة الخلد، وهذا باب كيده الأعظم الذي يدخل منه على ابن آدم فإنه يجري منه مجرى الدم حتى يصادف نفسه ويخالطه ويسألها عما تحبه وتؤثره، فإذا عرفه استعان بها على العبد، ودخل عليه من هذا الباب، وكذلك علَّم إخوانه وأولياءه من الإنس.
فاحذره واستعن بالله على دفع وساوسه، ولا تسلم خاطرتك له، فتعصي ربك، فتندم ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]، ولا يغرنك تغير المسميات ما دام أن حقيقتها محرمة، وقد نبأك الله كيده مع أبيك وأمك، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فقد أسمى الربا فوائد مادية، والتبرج والسفور تقدمًا وحرية، والعلاقات المحرمة صداقة. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
3- اللفظة: وأما اللفظات فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة، وأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أو لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها.
قال يحيى بن معاذ: القلوب تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلم، فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، حلوًا وحامضًا، عذبًا وأجاجًا، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه، كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور؛ فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه. وفي المسند (3/198) من حديث أنس مرفوعًا: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل النار؟ فقال: «الفم والفرج» قال الترمذي: حديث صحيح (2004).
ومن العجب: أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة والنظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة اللسان، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر فيما رواه مسلم في صحيحه (2621) من حديث جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث أن رجلاً قال: «والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك» فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله.
وفي البخاري (6113) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم».
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيرًا أو ليصمت».
وفي الترمذي (2412) عن أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر لله».
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
وقال بعض الصحابة لجاريته يومًا: «هاتي السفرة نعبث بها ثم قال: أستغفر الله ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام».
وأيسر حركات الجوارح حركات اللسان وهي أضرها على العبد.
وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاصٍ لله، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة.
4- الخطوات: وحفظها أن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه عند الله تعالى، فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب؛ فالقعود عنها خير له، ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطو إليه قربة يتقرب بها، وينويها لله، فتقع خطاه قربة، وتنقلب عادته عبادة، ومباحاته طاعات، فإن مشت المرأة في بيتها لإصلاح أمر زوجها، والقيام بشؤون أولادها، واحتسبت ذهابها وإيابها، كتب لها الأجر إن شاء الله، وإن سارت لصلة قريباتها، واحتسبت الأجر في صلة الرحم كتب لها إن شاء الله، وعليه فقس، ولما كانت العثرة عثرتين عثرة الرجل وعثرة اللسان، جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: 63]، فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم، كما جمع بين اللحظات والخطرات في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]([6]).
4- جالس الأخيار:
مما لا شك فيه أن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض، ولذا كان المبتدئ بالخير والشر له مثل من تبعه من الأجر والوزر، وذلك لاشتراكهم في الحقيقة، وأن حكم الشيء حكم نظيره، وشبيه الشيء منجذب إليه. والتائب من الذنب قد خالف أصحاب السوء فلا بد له من تركهم، وتيمم الطيب بدلاً منهم.
والصديق له تأثير كبير على صديقه؛ لكثرة مخالطته، وشدة ملازمته، وصحبته تمتد مع العبد في دنياه وآخرته، فكما أنه ليس كل بيت يصلح للسكنى، ولا كل راحلة تصلح للركوب، فكذلك أبناء آدم لا يصلح كلهم للصحبة، أخرج البخاري في صحيحه (6133) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة».
يقومل الحافظ في الفتح (11/335): «... فالمعنى لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب؛ لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئًا سهل الانقياد، وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه، ويلين جانبه...».
لقد أخبر الرب جل وعلا في كتابه أن الابتعاد عن سبيل الرسول، والضلالة إنما يكون بسبب صحبة السوء، فيعض الظالم على يديه يوم القيامة حسرة وأسفًا، لكن ولات حين مندم يقول الرب: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً﴾ [الفرقان: 27-29].
بل إن الرابطة بين أهل الشر تمتد حتى بعد دخول النار؛ لكن تنقلب إلى عداوة وبغضاء يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ﴾ [فصلت: 29].
وتأمل ﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ﴾ سلمني الله وإياك من عذابه.
ويقول تعالى: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 38].
وإذا كان ما مضى من الأدلة فيه تحذير من صحبة الأشرار؛ فإن الشرع حث على صبر النفس مع الأخيار ونهى عن أن تعدو عين المسلم عنهم يقول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].
وتأمل وصفهم بقوله: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾.
والغداة: أول النهار وهو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة، وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة.
والعشي: آخر النهار وهو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم، ومن الحياة إلى الموت، والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله، عظيم الشكر لآلائه ونعمائه ([7]).
ومن صحب أهل الخير علا ذكره، وارتفع شأنه في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فدليله قول الله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾ [الكهف: 22]، فرفع الله ذكر الكلب لما صحب أهل الخير.
وأما في الآخرة، فهم أهل الوفاء ولا غرو، أخرج مسلم في صحيحه (183) من حديث أبي سعيد الخدري مطولاً وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد منا شدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا...» وقارن بين هؤلاء وأولئك الذين يقولون: ﴿نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا﴾ وأعمل عقلك، قم صنف صحبتك، وبناء على هذا اتخذ قرارك.. وفقك الله لك خير.
والتائب حديث عهد بتوبة، وللشهوات طغياتها، وللأهواء مغرياتها، فوجود الصاحب أمر ضروري، ليذكره إذا نسي، ويعظه إذا هم بسوء، ويعينه على طاعة ربه ومرضاته، ثم إن مجالسة الأخيار حماية للتائب من الخلوة والوقوع في أسر الخواطر، وهي ميدان للمنافسة في الخيرات، والمسابقة لصنوف الطاعات.
6- ألق بها في اليم:
أيها المبارك، لابد لك أن تفارق دواعي المعصية أيًا كانت صديقًا أو مجلة أو شريطًا أو رقما في هاتف أو فيلما أو مسلسلا أو ناديا أو مجلسًا أو آلة...! ذلك أن وجود التائب في مكان المعصية وفي جوها الخانق، يذكره بها، ويحرك في نفسه الداعي إليها، فيقع في حبال الشهوة، ويدخل أسر الشيطان بعد أن خرج منه، ولا تزال نفسه الأمارة بالسوء تراوده حتى يعصي ربه، تأمل – يرعاك الله – في قول موسى في سورة طه: ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾ يقول الشيخ السعدي في تفسيره (1/512): «ففعل موسى ذلك، فلو كان إلهًا لامتنع ممن يريده بأذى، ويسعى له بالإتلاف، وكان قد اشرب العجل في قلوب بني إسرائيل، فأراد موسى u إتلافه وهم ينظرون على وجه لا تمكن إعادته بالحرق والسحق وذره في اليم ونسفه؛ ليزول ما في قلوبهم من حبه كما زال شخصه، ولأن في إبقائه محنة» مع أن العجل كان من الحلي إلا أن موسى لم يتردد في إزالته؛ لما في بقائه من الفتنة.
وانظر في دعوة يوسف: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف: 33، 34].
فاختار عليه الصلاة والسلام السجن على المعصية، ولجأ إلى الله، واحتمى بحماه، وسأله أن يخلصه من أسباب المعاصي، فاستجاب له السميع العليم سبحانه.
أخرج مسلم في صحيحه (2766) من حديث أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة. فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة».
فالحديث يشير إلى أن هجر التائب للبيئة السيئة أمر لابد له منه، وذلك حرصًا على التائب، وخوفًا عليه من الانحدار إلى قاع الرذيلة بعد أن رفعه الله لقمة الطهر.
فاشحذ الهمة، وقوى العزيمة، وتخلص مما يحرك في نفسك دواعي معصية ربك، واستبدل أشرطة الذكر والخير بأشرطة الغناء، وأخرج القنوات الفضائية التي تدعو للعهر والفساد والرذيلة من بيتك، وأنت أيتها المسلمة اتقي الله في حجابك، واجعليه سترًا وعفافًا لا تبرجًا وسفورًا.
ولتكن بيوتنا بيوت خير وذكر لا بيوت شياطين الإنس والجن.
7- حاسب نفسك:
إن كل واحد منا في هذه الحياة يسعى لإصلاح دنياه ولا عجب في ذلك فهي دار ممره للحياة الحقة، فتراه ينمي أمواله، ويحرص على اقتناء البيت الواسع، والمركب الوطيء، والزوجة الحسناء، ويحبر بأعلى الشهادات، ولكن هنا سؤال يطرح نفسه: وماذا عن آخرتك؟ أين تراه بيتك في الجنة، وفي أي درجة، وبجوار من أنت؟
لابد للتائب أن يعيش بين محاسبتين، محاسبة قبل توبته تقتضي وجوبها، ومحاسبة بعدها تقتضي حفظها، فالتوبة محفوظة بمحاسبتين، وقد دل عليها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: 18]، فأمر سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد، وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك، والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟
والمقصود من هذا النظر ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله، قال عمر بن الخطاب: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية».
والنفس التي استهواها الشيطان، فعتت عن أمر ربها، لا تفتأ بعد التوبة تؤز صاحبها على الشر أزًا، ولذا أسماها الرب في كتابه «أمَّارة» ولم يقل: «آمرة» لكثرة تكرار أمرها بالسوء، وكان - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الحاجة يقول: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا...» فالشر كامن في النفس، وهو يوجب سيئات الأعمال، فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها، وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله.
وهذه النفس جُعل الشيطان قرينها وصاحبها الذي يليها، فهو يعدها ويمنيها، ويقذف فيها الباطل، ويأمرها بالسوء، ويزينه لها، ويمدها بأنواع الإمداد الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة، ويستعين عليها بهواها وإرادتها، فإذا استسلم العبد لشيطانه، وأسلمه نفسه، جاس خلال الديار، فعاث وأفسد، وهدم معالم الإيمان والقرآن والذكر والصلاة، وقصد الملك (أي: القلب) فأسره، وسلبه ملكه، ونقله من عبادة الرحمن إلى عبادة البغايا والأوثان، ومن عز الطاعة إلى ذل المعصية، ومن الاستعداد للقاء رب العالمين إلى الاستعداد للقاء إخوان الشياطين، وبينما كان منتصبًا لخدمة العزيز الرحيم صار منتصبًا لخدمة كل شيطان رجيم، فتأتي الحرب حين يستيقظ المسلوب، ملكه بينه ومعه ربه، ومن كان الله معه انتصر، وبين الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وأولى مراحل الحرب: المحاسبة، فالله الله بها، وازن بين نعمته وجنايتك، وتأمل سيد الاستغفار «أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
وازن بين حسناتك وسيئاتك، وأيهما أرجح، واعلم أنك الجاني لما تعمل، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وازن بين عمرك ومدة لبثك وبين ما قدمت لآخرتك. واعلم أن العمر محدود، وليس للعبد بعد رحمة ربه إلا عمل صالح يذكر به. وفقني الله وإياك لكل خير.
8- فانصب:
لقد نص القرآن الكريم في آيات كثيرة على العمل الصالح وقرنه بالتوبة، يقول تعالى: ﴿إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [مريم: 60].
وقال جل جلاله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82]، وقال عز من قائل: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ [القصص: 67]، وأمر الرب جل وعلا خليله ومصطفاه - صلى الله عليه وسلم - فقال: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 7، 8].
يقول ابن كثير في تفسيره: (4/527): «أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطًا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة...».
والعمل الصالح يعين التائب على الاستمرار على توبته وذلك لأسباب منها:
1- أن العمل الصالح بديل عملي لما كان يقترفه من الذنوب، وينشىء في النفس تعويضًا إيجابيًا للإقلاع عن المعصية، فالمعصية عمل وحركة يجب ملء فراغه بعمل مضاد وحركة، وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع، وقديمًا قيل: النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
2- من المتقرر أن المعصية تضعف القلب عن إرادة الخير، والطاعة ضدها تقوي القلب على إرادة الخير، فبالعمل الصالح تقوى إرادة الطاعات عند التائب، ويشعر بلذة المناجاة، وتصير الطاعة في قلبه هيئة راسخة، وصفة لازمة، وملكة ثابتة، فلو عطل المحسن الطاعة ضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت، إذا فارق الماء حتى يعادوها، فتسكن نفسه، وتقر عينه.
يقول ابن القيم في الجواب الكافي (82): «ولا يزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزًّا، وتحرضه عليها، وتزعجه من فراشه ومجلسه إليها. ولا يزال يألف المعاصي، ويحبها، ويؤثرها حتى يرسل الله عليه الشياطين، فتؤزه إليها أزًا. فالأول قوى جند الطاعة بالمدد، فصاروا من أكبر أعوانه، وهذا قوى جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانًا عليه».
ولن أنسى أن أوصيك أيها التائب بوصايا احفظها:
* صل الصلاة على وقتها فإن ذلك من أحب الأعمال إلى الله، وإن كنت رجلاً فصلها جماعة في المسجد، فإن رسولك - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن للأعمى أن يترك الجماعة بل قاله له: «هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة» أخرجه أبو داود في سننه (552) وقال الألباني: حسن صحيح... وأصله في مسلم.
* لا شك أن صلاتك قد يلحقها النقص، فأتممها بالنوافل، وأبشر ببيت في الجنة، أخرج مسلم في صحيحه (727) من حديث أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة إلا بني الله له بيتًا في الجنة». وهن كالآتي: ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء ([8]).
* احرص على سنة الضحى؛ فإنها وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة كما أخرج البخاري (1124)، وأخرج الإمام أحمد في المسند (4/153) من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل يقول: يا ابن آدم اكفني أول النهار بأربع ركعات، أكفك بهن آخر يومك» وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/422).
* لا تنس أن تختم ليلك بوتر، فإن الله يحب الوتر، أخرج مسلم في صحيحه (755) من حديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل؛ فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل» والوتر خير للعبد من حمر النعم.
* اعلم أيها التائب أن شرفك قيام الليل كما أخرج الطبراني في الأوسط (4/306) من حديث سهل بن سعد قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، وأعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس» قال الألباني في صحيح الترغيب (401): حسن لغيره، وأخرج الترمذي (3579) من حديث عمرو بن عبسة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن» صححه الألباني.
وتذكر قول الرب جل وعلا: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 15-18].
* احرص على صيام الاثنين والخميس لأنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله، وصم ثلاثة أيام من كل شهر، وأكملها الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر، وإلا فثلاثة أيام سواء من أوله أو أوسطه أو آخره، أخرج مسلم في صحيحه (1160) من حديث معاذة العدوية قالت: سألت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم. فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم.
* عليك بالصدقة فإنها تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء، وتابع بين الحج والعمرة؛ فإنهما يزيدان في العمر والرزق، وينفيان الفقر كما ينفي الكير خبث الحديد([9]). أعانني الله وإياك على طاعته. وتذكر قول الرب: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات فإنه أبلغ في المحو مجموع الفتاوى (10/655).
9- داوم على الاستغفار:
لا شك أن الذنوب والخطايا أحاطت بقلبك أيها التائب حتى سودته، والاستغفار أداة فعالة في تنقيته وتطهيره، أخرج ابن ماجة في سننه (4244) من حديث أبي هريرة مرفوعًا قال: «إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]». حسنه الألباني.
* واعلم – غفر الله لك – أن العبد إذا استغفر ربه وكان صادقًا في استغفاره غفر الله تعالى له، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135].
وأخرج الإمام أحمد في المسند (3/76) من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال إبليس: أي رب لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال: فقال الرب عزَّ وجلَّ: لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1650).
* الاستغفار سبب في أن يعيش التائب حياة طيبة، وعيشة هانئة، يقول تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: 3].
* الاستغفار يولد القوة في نفس التائب، وبذلك يصبح قوي الإرادة، يقول الله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52]. وإطلاق القوة في الآية: يشمل الروحية والجسمية.
* ملازمة التائب للاستغفار تفتح له أبواب الرزق، وتبعد عن نفسه الهم والحزن، يقول تعالى في سورة نوح: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10-12].
بل كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - كثرة الاستغفار، وهو الذي غفر له ربه ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أخرج مسلم في صحيحه (2702) من حديث الأغر المزني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة».
10- الدعاء:
أخرج الإمام أحمد في المسند (6/4) من حديث المقداد بن الأسود قال: لا أقول في رجل خيرًا ولا شرًا حتى أنظر ما يختم له – يعني بعد شيء سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لقلب ابن آدم أشد انقلابًا من القدر إذا اجتمعت غليانًا» [وصححه الألباني في الصحيحة (1882)].
أيها الموفق إن قلبك بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فاسأله أن يثبت قلبك، أخرج الترمذي في سننه وحسنه (3522) من حديث شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه «يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك». قالت: قلت: يا رسول الله ما أكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: «يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ»، فتلا مُعَاذٌ ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: 8]، وصححه الألباني.
والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، ومن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة، فإن الله سبحانه يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ويقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ وفي سنن الترمذي (3373) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يسأل الله يغضب عليه» وحسنه الألباني. وهذا يدل على أن رضاءه في سؤاله وطاعته، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه.
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه | ||||
من جود كفيك ما عودتني الطلبا | ||||
وتأمل أن التوفيق إلى الهداية والثبات عليها لا يتحقق إلا بمعونة الله؛ لذلك أرشدنا إلى طلب الهداية منه، فنقرأ كل يوم في كل ركعة من كل صلاة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾. وفي الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه (2577) من حديث أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن الله تبارك وتعالى قال: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم» فأكثر أيها التائب – ثبتني الله وإياك على طاعته – من الدعاء بالثبات والهداية، وأن يصرف عنك السوء والفحشاء، وأن يثبتك على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
11- لا تعير أخاك بذنب:
اعلم – عفاك الله – أن كل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك، يقول ابن القيم في المدارج (1/177): «وأيضًا ففي التعيير ضرب خفي من الشماتة بالمعير، وفي الترمذي أيضًا – مرفوعًا: «لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك»([10])، ويحتمل أن يريد تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثمًا من ذنبه، وأشد من معصيته؛ لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وإن أخاك باء به، ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب، أنفع له وخير من صولة طاعتك، وتكثرك بها، والاعتداد بها، والمنة على الله وخلقه بها، فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله، وما أقرب هذا المدل من مقت الله، فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تدل بها عليه، وإنك إن تبت نائمًا وتصبح نادمًا، خيرٌ من أن تبت قائمًا وتصبح معجبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك إن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلين، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلاً هو فيك فلا تشعر».
وتأمل قول الله لأعلم الخلق به، وأقربهم إلبه وسيلة: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 74].
وقال يوسف الصديق: ﴿وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33]، فكيف تأمن أنت على نفسك؟
جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه (2621) عن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: «من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك».
ومر أبو الدرداء - رضي الله عنه - على رجل قد أصاب ذنبًا، فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أتبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي.
إن الأولى بالمسلم أن لا يعير أخاه بذنب، أو يهزأ منه بمعصية، بل عليه أن يكون مرآة له تعكس حسنه وقبيحه، ولا تطلع على ذلك غيره، ما زلت أذكر موقفه - صلى الله عليه وسلم - مع حمار، حين أدبه على فعله بإقامة الحد، وزكى ذاته الشريفة فما سكنت حتى تابت، إن جلد الذوات ليس من هديه - صلى الله عليه وسلم -، أخرج البخاري في صحيحه (6398) من حديث عمر بن الخطاب أن رجلاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأتى به يومًا فأمر به فجلد. فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» وأخرج بعده من حديث أبي هريرة قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسكران فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده، ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم».
أيها الكريم احمد الله أن هداك، وللطاعة اجتباك، ولا تعيِّر أخًا لك بذنب، بل انصحه، وادع الله له، ولا تكن عون الشيطان على أخيك.
12- اقرأ في سير الصالحين:
لقد قص الله في كتابه كثيرًا من قصص الأنبياء والصالحين، وأمر بأخذ العظة والعبرة من أحوالهم، وما جرى لهم فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111].
وقال: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فصلت: 43].
وقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35].
وقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90].
وقراءة سير الصالحين تبعث الهمة، وتوقظ العزيمة، وتدعو العبد أن يقتدي بهم في المتاب.
جدد عليَّ حديثهم يا حادي | ||||
فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي | ||||
والأمة مليئة بقصص العلماء والعباد وأولي الفكر والنهى، فاقرأ في سيرهم، وطالع أحوالهم، ولا شك أنك ستشعر بروح تدب في جسدك، وحركة تدفعك للإتيان بعظائم الأمور، وجلائل الأعمال.
وكثيرًا ما دفع الناس إلى العمل الجليل حكاية قرؤوها عن رجل عظيم، أو حادثة أيقظت حسه، وسارت به نحو معالي الأمور، ولا شك أنه أجوزد القصص ما قصه الرب جل وعلا في كتابه، ثم ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاقرأ في قصص القرآن، وما كتب حولها، والقصص في السنة النبوية، ثم في كتب التراجم المعتمدة.
«ومن أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به بمنه، آمين»([11]).
13- تذكر الآخرة:
إن قصر الأمل، وتذكر الآخرة من أعظم الموقظات للعبد، لا سيما وأنت ترى الموت يتخطف من حولك، فهب أن الميت أنت؟
والمراد إذا تذكر قصر الدنيا وسرعة زوالها، وأدرك أنها مزرعة للآخرة وأنها فرصة لكسب الأعمال الصالحة، وتذكر ما في الجنة من النعيم المقيم، وما في النار من العذاب الأليم، وزهد في متاع الدنيا، وقصر عن الشهوات، وأقبل على الطاعات.
قصر الآمال في الدنيا تفز | ||||
فدليل العقل تقصير الأمل | ||||
أخرج البخاري في صحيحه (6053) عن ابن عمر قال: «أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».
وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
قال الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحِكم (2/377): «وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يأخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها. ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل. وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم. قال تعالى: حاكيًا عن مؤمن آل فرعون: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر: 39].
يقول ابن عقيل في كتاب الفنون (2/546): «ما تصفو الأعمال والأحوال إلا بتقصير الآمال، فإن كل من عد ساعاته التي هو فيها كمرض الموت حسنت أعماله، فصار عمره كله صافيًا.
واعلم – رعاك الله – أن صدق التأهب، والاستعداد للقاء الله هو مفتاح سائر أعمال القلوب والجوارح من يقظة، وتوبة، وإنابة، ومحبة وما إلى ذلك.
14- أحسن الظن بربك:
لقد حثَّ الرب جل وعلا عباده على الرجاء وحسن الظن به وعدم اليأس من رحمته، فقال في كتابه: ﴿وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
وقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
فالتوبة التوبة – يا رعاك الله – وأجب نداء ربك:
يا ابن آدم.. إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي؟
يا ابن آدم.. لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك.
يا ابن آدم.. لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا أتيتك بقرابها مغفرة.
فهل تجيب النداء، لتحوز على رضا الله: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل».
ويحسن هنا التنبيه إلى الفرق بين حسن الظن والغرور، فإن دعا حسن الظن إلى العمل وحث عليه، وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة، والانهماك في المعاصي فهو غرور.
يقول ابن القيم في الجواب الكافي (41): «فمن كان رجاؤه هاديًا له إلى الطاعة، وزاجرًا له عن المعصية فهو رجاء صحيح.
ومن كانت بطالته رجاء، ورجاؤه بطالة وتفريطًا فهو المغرور، ولو أن رجلاً كانت له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه، فأهملها ولم يبذرها ولم يحرثها، وحسن ظنه بأنه يأتي من مغلها ما يأتي من حرث وبذر وسقى وتعاهد الأرض، لعده الناس من أسفه السفهاء، وكذلك لو حسن ظنه، وقوي رجاؤه، بأن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب للعلم وحرص تام عليه، وأمثال ذلك.
فكذلك من حسن ظنه، وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلا والنعيم من غير تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وبالله التوفيق».
وختامًا اعلم – يا حفظك الله – أن التوبة النصوح ليست ألفاظًا يلهج بها اللسان دون مواطأة القلب والجوارح، بل التوبة النصوح التي تنفع هي التي استكملت الشروط، ونفت الموانع:
- الإقلاع عن الذنب.
- الندم على ما فات.
- العزم الجازم على ترك معاودته.
فحقيقة التوبة الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل.
- واشترط بعض العلماء أن من كان لأخيه عنده حق رده إليه.
اسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتوب علينا، وأن يغفر لنا خطايانا وجهلنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنَّا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير.
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
([1]) انظر للاستزادة: طريق الهجرتين لابن القيم (1/372)، تفسير ابن كثير (3/328)، جامع العلوم والحِكم (1/116).
([2]) انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (2/467).
([3]) انظر الفوائد (170).
([4]) في قوله: ]اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ[ أقوال آخر انظرها في: التفسير الكبير (13/157)، الدر المنثور (3/357).
([5]) ذكر العقبات السبع ابن القيم في المدارج (1/612-226).
([6]) ذكر الأبواب الأربعة بمزيد تفصيل ابن القيم في الجواب الكافي (106-113).
([7]) انظر: التفسير الكبير للرازي (21/98).
([8]) انظر: زاد المعاد (1/310).
([9]) أخرجه النسائي في المجتبى (2631) وقال الألباني: حسن صحيح.
([10]) ضعفه الألباني في الضعيفة (5426).
([11]) قاله ابن حزم في الأخلاق والسير (ص:24).