×
مقالة وعظية لمن غفل عن قيمة الوقت وكيفية الاستفادة منه.


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله تعالى خلق فأحسن التقويم.. وعلم فأحسن التعليم, والصلاة والسلام على النبي الهادي إلى الدين القويم. وعلى آله وأصحابه السالكين الصراط المستقيم.

    وبعد: هذه رسالة كتبتها نزولاً لرغبة بعض الأخوات في الكتابة في هذا الموضوع، فجزاها الله خيرًا، وقد قال رسول الله ﷺ‬: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» [رواه مسلم].

    والموضوع خليق أن يكتب فيه، إذ أن الكثيرين في عمر الستين وما بعدها؛ غفلوا عن قيمة الوقت، وفرطوا في ساعات العمر، وكان الأجدر بمثلهم أن يكونوا أكثر وعيًا، واستفادة من ساعات العمر، إذ أن الإنسان كلما كبر؛ ازداد فهمًا وتجربة، فيبعثه ذلك على فهم ما يجري حوله..

    والكتاب وإن حمل عنوانه الخطاب إلى من بلغ الستين والسبعين، فإنه يشمل أيضًا من بلغ الأربعين وما بعدها، وهو في مجمله خطاب إلى كل عاقل، يلتمس إصلاح أمر دينه ودنياه..

    أخي المسلم: العمر نافذة إلى تلك الحياة التي يحياها الجميع؛ المؤمن والكافر.. فأما المؤمن؛ فإنه في خدمة وعبودية خالقه تبارك وتعالى.. وضع أمامه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

    وأما الكافر؛ فلم يرضَ بالخدمة والعبودية.. قطع أيام عمره كالبهائم.. بل إن البهيمة أفضل منه.. لأنها تسبح ربها وتعبده!

    {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

    والإنسان يحب أن يحيا.. ويحب أن تكون أيامه كلها سرورًا.. وسعادة! بل مهما تمادى العمر بالإنسان؛ فإنه يحب أن يصف نفسه: أنه ما زال صغيرًا.. ويود أن يحقق الآمال الكثيرة! ومن طرائف ذلك:

    * رأى الحسن البصري في يد أمه كراثة، فقال: يا أمه، ما هذه الشجرة الخبيثة في يدك؟ قالت: يا بني إنك شيخ قد خرفت! قال: يا أمه، أيُّنا أكبر أنا أم أنت؟!

    * وقال رجل للفضل بن مروان: كم سنوك؟ قال: سبعين، ثم سأله بعد سنين، فقال: سبعون! فقال: ألم تخبرني منذ عشرين سنة بهذا؟! قال: بلى، ولكني رجل ألوف، إذا ألفت سنة؛ أقمت فيها عشرين سنة، لم أتجاوزها إلى غيرها!

    وقد أخبرنا النبي ﷺ‬ عن ذلك بأصدق بيان.. فقال ﷺ‬: «يكبر ابن آدم، ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر»
    [رواه البخاري ومسلم].

    أخي المسلم: ليت الناس انتبهوا إلى مرور الأيام.. وانقضاء الأعمار.. كما انتبهوا إلى طول الآمال.. ونسج الأحلام!

    قال الحسن البصري: «ابن آدم! إنما أنت عدد أيام، إذا مضى منك يوم؛ مضى بعضك»!

    فكم من أعمال ضاعت.. وضاع أصحابها!

    وكم من أعمار.. انقضت قبل أن تنقضي آمال أصحابها!

    وكم من أعمار.. عاشها أصحابها بغير غاية!

    وكم من أعمار.. انقضت في غير طاعة الله تعالى!

    * في طول العمر قيام لحجة الله على العبد!

    نعم.. كلما امتدت أيامك؛ كلما ازدادت حجة الله تعالى عليك!

    كثير أولئك الذين غفلوا عن هذا المعنى! وهم في حمأة الحياة.. وصراع البقاء!

    فأفق يا ابن آدم! فكم حجة لله عليك ظاهرة وأنت غافل!

    تظاهرت الحجج.. وتكالبت عليك البراهين!

    قال رسول الله ﷺ‬: «من عمر من أمتي سبعين سنة؛ فقد أعذر الله إليه في العمر»!

    [رواه الحاكم/ صحيح الترغيب للألباني: 3360]

    قال قتادة: «اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37].

    أخي المسلم: وهذا لا يعني أن حجة الله لم تقم على من هو دون السبعين.. بل إن من تجاوز الحلم؛ كان ذلك أدعى لقيام حجة الله عليه..

    قال الحسن البصري: «لقد أعذر إليك أن عمرك أربعين، فبادر المهلة قبل حلول الأجل، أما والله لقد كان الرجل فيما مضى إذا أتت عليه أربعون سنة عاتب نفسه».

    وقال عمر بن عبد العزيز: «لقد تمت حجة الله على ابن الأربعين، فمات بها»!

    فيا من طال بك العمر: حاسب النفس.. ولا تغفل.. وأخلص العمل لمن قامت حجته عليك.. فكم في طول السنين من برهان قاطع للعذر!

    * طول العمر واعظ لمن اتعظ!

    حقًا! إن في مرور الأيام عظات وعظات.. لمن تفكر وتدبر! بل لا يمضي يوم من أيام الحياة؛ إلا وفيه درس للعاقلين!

    وكم في عمرك – أيها الإنسان – من عظات!

    من ذلك: في طول العمر؛ زيادة في الفهم.. فهل استفدت من ذلك؟!

    ومن ذلك: في طول العمر؛ ضعف.. ووهن.. فهل فطنت لذلك؟!

    قال عبد العزيز بن أبي داود: «من لم يتعظ بثلاث لم يتعظ بشيء: الإسلام، والقرآن، والشيب».

    وقال بعض الحكماء: «من أخطأته سهام المنايا؛ قيدته الليالي والسنون»!

    ودخل يونس بن حبيب المسجد، وهو يهادي بين اثنين من الكبر، فقال من كان يتهمه على مودته: بلغ بك الكبر ما أرى يا أبا عبد الرحمن؟! فقال: هو ما ترى، فلا بلغته!

    ومن ذلك: موت الأقران.. وفراق الأحباب.. وفي ذلك واعظ بالاستعداد! فتمثل أيها العاقل:

    هبني بقيت على الأيام والأبد

    ونلت ما رمت من مال ومن ولد

    من لي برؤية من قد كنت آلفه

    وبالشباب الذي ولى فلم يعد

    ومن ذلك: تجدد الأحداث.. ورؤية المصائب في النفس والولد.. فإن كان الاحتساب.. كان الثواب والأجر..

    قال عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما: «من تمنى طول العمر؛ فليوطن نفسه على المصائب»!

    * فضل طول العمر في الطاعات:

    هذه هي المنقبة العظمى لطول العمر.. فإن الغاية من الخلق؛ عبودية الله تعالى.. فمن قام بهذه الوظيفة كاملة؛ فهو أسعد الناس حظًا بحياته.. وحق لمثله أن يتمنى طول العمل..

    ومثل هذا كمثل من يودع في رصيده كل يوم مبلغًا من المال.. فلا شك يسره أن يدوم له ذلك؛ حتى يكثر ماله! فهذا حال من أودع في رصيده الفاني.. وهذا سروره.. فكيف بسرور من أودع في الرصيد الخالد؟!

    قال رسول الله ﷺ‬: «ألا أنبئكم بخيركم؟» قالوا: نعم. قال: «خياركم أطولكم أعمارًا؛ وأحسنكم أعمالاً».

    [رواه أحمد وابن حبان والبيهقي/ صحيح الترغيب: 3361]

    دخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق، فرأى شيخًا يزحف، فقال: يا شيخ، أيسرك أن تموت؟! قال: لا! قال: ولم، وقد بلغت من السن ما أرى؟!

    قال: ذهب الشباب وشره، وبقي الكبر وخيره، إذا أنا قعدت ذكرت الله، وإذا قمت حمدت الله، فأحب أن تدوم لي هاتان الخصلتان!

    وقيل لشيخ: كم أتى عليك؟ قال: عشر سنين! قيل: وكيف وأنت شيخ كبير؟! قال: أنا منذ عشر سنين من التوابين!

    وعن محمد بن عيسى البغدادي، قال: «كان يقال: إن مالك من عمرك ما أطعت الله فيه، فأما ما عصيت الله فيه؛ فلا تعده عمرًا»!

    وقال هلال بن يساف: «كان الرجل من أهل المدينة إذا بلغ أربعين سنة؛ تخلى للعبادة».

    وقال إبراهيم النخعي: «كانوا يطلبون الدنيا؛ فإذا بلغوا الأربعين؛ طلبوا الآخرة».

    أخي المسلم: فاجعل من عمرك مزرعة ليوم فقرك.. واغتنم ساعاته في الطاعات.. وتعهد نفسك.. حتى تحصد الخير والنجاة..

    * احذر تضييع العمر في غير طاعة الله تعالى:

    أخي المسلم: إن عمرك أمانة ائتمنك الله عليها.. فلا تأتين غدًا وقد ضيعت أمانته!

    فاحرص – أيها العاقل – على الاستفادة من العمر.. ولا تضيع ذلك في غير طاعة الله تعالى!

    فإنه ينبغي لمن بلغ الستين أو السبعين؛ أن يكون أحرص الناس على طاعة الله تعالى.. إذ أن ذلك عمر يدعو إلى الوقار.. والتأني..

    ولكن يأخذك العجب عندما ترى من بلغ الستين أو السبعين؛ متهافتًا على الدنيا.. لاهثًا خلف شهواتها! لا يرده دين.. ولا عقل!

    وكان من المفترض أن يكون مثل هذا قدوة للآخرين في الفضائل.. ومحاسن الأخلاق.. فتضييع مثل هذا أيامه أمر عظيم! ولمثل هذا نهدي قول شميط بن عجلان..

    قال شميط بن عجلان: «أحدهم قد كبر سنه، ورق عظمه، وأنكر نومه وطعمه، وهو فاغر فاه، لهفان على الدنيا، كأنما ابتكر العيش جذعًا، ويحك! أترجو أن يرجع إليك الشباب؟! فليس بعائد إليك، أما تدرك نفسك في بقية عمرك؟! أما تتوب إلى الله من قريب؟!».

    فعجبًا لك! أما كان في الشيب.. وتعاقب السنين.. ما يكبح الخفة.. ويرد هواك؟!

    لياليك تفنى والذنوب تزيد

    وعمرك يبلى والزمان جديد

    وتحسب أن النقص فيك زيادة

    وأنت إلى النقصان ليس تزيد

    ففكر ودبر كيف أنت فربما

    تذكر فاستدعى الرشاد رشيد

    فكم من كبير أضاع ساعات العمر في الجلوس أمام شاشة التلفاز.. هاجرًا لنداء العقل والحكمة!

    وكم من كبير أضاع ساعات العمر في السهر العقيم.. والقيل والقال.

    وكم من كبير أضاع ساعات العمر مع أصدقاء السوء؛ غاديًا.. ورائحًا.

    قال علي بن أبي طالب t: «بقية عمر المرء لا ثمن لها، يدرك بها ما فات، ويحيى بها ما أمات».

    وهنالك صنف آخر أضاع العمر في المكاسب.. والسعي خلف الرزق.. فتراه مشغولاً بأمر أولاده.. غير ملتف إلى شأنه.. حتى يفجأه الموت بكأسه.. فيترك خلفه ما لغيره غنمه.. وعليه غرمه!

    قال أبو حازم: «الناس عاملان: عامل في الدنيا للدنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلف الفقر، ويأمنه على نفسه، فيفنى عمره في بغية غيره! وعامل في الدنيا لما بعدها، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأصبح ملكًا عند الله، لا يسأل الله شيئًا فيمنعه»!

    فعجبًا لك أيها الساعي لبنيان دنياه.. هلا سعيت إلى بنيان آخراك؟!

    يا عامر الدنيا على شيبه

    فيك أعاجيب لمن يعجب

    ما عذر من يعمر بنيانه

    وجسمه منهدم يخرب

    * احذر الموت!

    يا من مد له العمر حباله.. اعلم أن للرحلة نهاية!

    فهل تذكرت – أيها العاقل – بم ستختم هذه الرحلة؟!

    إنه: الموت! نهاية شديدة على من لم يعد لها العدة!

    قال مسروق: «إذا بلغ أحدكم أربعين سنة؛ فليأخذ حذره من الله»!

    وقال الفضيل بن عياض لرجل: «كم أنت عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك توشك أن تبلغ! فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفضيل: أتعرف تفسيره؟! تقول: أنا لله عبد، إليه راجع، فمن علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع؛ فليعم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف؛ فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول؛ فليعد للسؤال جوابًا! فقال الرجل: فما الحيلة؟! قال: يسيرة! قال: ما هي؟! قال: تحسن فيما بقي، يغفر لك ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقي؛ أخذت بما مضى، وبما بقي»!

    فيا أيها الممدود له في عمره: ها أنت تبصر رحيل الناس صغارهم وكبارهم.. نعم، إن الموت لا يميز بين الصغير والكبير.. ولكنه إلى الكبير أقرب!

    لذلك قال رسول الله ﷺ‬: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز لك» [رواه الترمذي وابن ماجه/ صحيح الترمذي للألباني: 3550].

    أخي المسلم: تجهز ليوم لقائك فاطر السماوات والأرض.. تذكر يوم تفرد وحدك في حفرة ضيقة اللحد.. فادحة الظلمة!

    إذا كانت السبعون داءك لم يكن

    لدائك إلا أن تموت طبيب

    وإن امرأً قد سار سبعين حجة

    إلى منهل من ورده لقريب

    * ما ينبغي أن تكون عليه:

    إن مما ينبغي أن تكون عليه – أيها العاقل – هو الحرص الدائم على الطاعات.. فلا يمضي عليك يوم إلا وتتفقد رصيدك من الحسنات.. كحرصك على تفقد رصيدك الفاني من الأموال..

    * وإن أهم ما بدأت به في ذلك؛ الفرائض.. وإن أهم ما في الفرائض؛ الصلاة.. فينبغي أن تؤديها في مواقيتها.. وفي بيوت الله تعالى..

    ولتحرص على الإتيان بها على أتم الأحوال؛ بخشوعها.. وأركانها.. وسننها.. واحرص في ذلك على قراءة كتب أهل العلم، الموضحة للكيفية الصحيحة للصلاة، كما صلاها النبي ﷺ‬..

    * واحرص على الازدياد من النوافل.. فإنك في عمر ينبغي أن تبادر فيه إلى الصالحات.. وأن تأخذ منها بأكبر نصيب..

    * وحاول أن تبكر في الحضور إلى المسجد.. وأنعم بها إن عودت نفسك أن تكون أول الناس حضورًا.. وآخرهم انصرافًا..

    * وفي حضورك المبكر إلى المسجد؛ أكثر من صلاة النافلة.. وقراءة كتاب الله تعالى. وافعل ذلك أيضًا بعد الصلاة.. إلا أن يكون من الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.. فزد عندها من وردك من القرآن..

    * ولا تجالس إلا من ينفعك في دينك.. واحذر المجالس التي يكثر فيها اللغو.. والرفث.. وإن جلست في مجلس؛ فأحسست أن أهله في غفلة؛ فبادر إلى القيام.. ولا تستوحش ذلك.. فإنك إن امتلأ قلبك بحب الطاعات؛ وجدت من الأنس والراحلة ما تقر به عينك!

    * واحرص على الأذكار الواردة في المناسبات المتعددة؛ كأذكار دخول المنزل، والخروج منه، وأذكار الأكل والشرب، وأذكار النوم، وغيرها من الأذكار.. حتى تكون على صلة دائمة بالله تعالى.. وأكثر من تكبير الله تعالى، وتسبيحه، وتهليله، وتحميده.

    * وبما أن غالب الشواغل تكون في البيوت.. فينبغي أن تحرص على ملأ فراغك في البيت.. ويكون ذلك بوسائل متعددة: كالتنفل بالصلاة، وقراءة القرآن، وقراءة المفيد من الكتب، واستماع الأشرطة المفيدة، ومحادثة الأبناء فيما ينفع.. فالبيت إذا أحسن الفرد ترشد طاقاته فيما ينفع تحول إلى مدرسة ناجحة.. تتخرج منها الأجيال الناجحة..

    * ومن داخل بيتك يمكنك محادثة ذوي أرحامك.. وتفقد أحوالهم عبر الهاتف..

    وأخيرًا: تذكر دائمًا أن طاعة الله تعالى؛ هي الغاية التي ينبغي أن يدندن الجميع حولها.. وهي الوسيلة الموصلة إلى سعادة الدارين.. فاحرص أن تكون من أهلها.. وتجنب أختها (المعصية!).

    وجعلني الله تعالى وإياك من أهل الطاعات.. وبلغني وإياك برحمته رفيع الدرجات.. في الدنيا وبعد الممات.. والحمد لله تعالى.. والصلاة والسلام على النبي وآله والأصحاب..

    ***