×
إنَّ من طبيعة النفس البشرية الخطأ والتقصير والانحراف، وأنها تضعف أمام الشهوات والمغريات فتميل إلى المعاصي والمنكرات ..وهذا الكتيب يدعو إلي تجديد التوبة.

 أيها العاصي أقبل

القسم العلمي بدار ابن خزيمة

بسم الله الرحمن الرحم

 إهداء

إلى الحيارى، إلى البائسين، إلى الذين ظلموا أنفسهم، إلى الذين أوغلوا في أوحال المعاصي والخطايا .. هلمُّوا، هلمُّوا إلى باب الرجاء والأمل.

أتُوبُ إلَهِي إلَيكَ مَتَابَا

وَمَهْمَا ابتَعدَتُ أَزيدُ اقتِرَابَا

وَمَهمَا تَجَاوَزتُ حَدِّي

أُوَجِّهُ نَحْوَكَ قَلبًا مُذَابَا

إلَهِي وَأَنْتَ قَرِيبٌ مُجِيبٌ

أُنَاجِكَ أَطلُبُ مِنكَ الثَّوَابَا

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك. يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة»([1]).

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوبة شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إله المصير .. سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك ولك الحمد على عفوك بعد قدرتك. وأشهد أن لا إله إلا الله الكريم العظيم الحليم، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، إمام التائبين وسيد المستغفرين والناس أجمعين .. صلى الله وسلم وبارك على آله وأصحابه أجمعين أما بعد:

فإنَّ من طبيعة النفس البشرية الخطأ والتقصير والانحراف، وأنها تضعف أمام الشهوات والمغريات فتميل إلى المعاصي والمنكرات .. نعم، نحن بشرٌ معرَّضون للأخطاء، فما كنا في يوم ملائكة لا يعصون ولا رُسل معصومون، فما منا إلا وله ذنب، وما منا لا يخطئ في حقِّ ربِّه، ولكنَّ المؤمن الصادق الذي إذا أذنب رجع وتاب وتدارك الحال قبل فوات الأوان.

فتعال يا أخي الحبيب نُجدِّد التوبة ونعزم على عدم العودة وندحر الشيطان باستغفارٍ من القلب على ذنوب ومعاصٍ مضت، وليكن دأبنا قول الله تعالى ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].

تعال يا أخي نتوب ونعود إلى ربٍّ كريمٍ رحيمٍ ودودٍ، يغفر الخطايا والذنوب .. نعم تعالى لنتذوَّق حلاوة اللقاء بين ربِّ رحيم غافر الذنب وقابل التوبة بعدما تجرعنا مرارة العصيان.

تعال يا أخي نفتح باب الرجاء والأمل فسبحان من جعل باب القبول مفتوح لكلِّ توبة نصوح.

نعم يا أخي:

إنَّ التوبة دموع كالشموع تضيء الطريق وتفتح أبواب الرحمات، التوبة مشاعر وأحاسيس ترسم طريق الأمل. التوبة ابتسامة ونبضة قلب تفطر ألمًا وكمدًا .. كيف لا وهي بينك وبين ربٍّ غفورٍ رحيمٍ ودود!

نعم يا أخي:

التوبة بينك وبين ربك الذي يراك ويعلم كلَّ ما اقترفت يداك، كلُّ شيءٍ عنده في كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً .. لكن إذا قلت له عجلت إليك ربِّ لترضى قبلك وغُفِر لك لأنه ربٌّ رحيمٌ كريم .. فمن أعظم منه جُودًا ومن أحسن منه فَضلاً يجود بالفضل على العاصي ويجود بالإحسان على المسيء.

مَنْ ذَا الَّذِي دَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْه

وَمَن ذَا الَّذِي سأَلَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ

مَنْ ذَا الَّذِي أَمَلَهُ لِنَائِبَةٍ فَقَطَعَ بِه

مَنْ ذَا الَّذي أَنَاخَ بِبَابِهِ فَنَحَاه

هو الفضل ومنه الفضل وهو الكريم ومنه الكرم، من كرمه غفر للعاصين، ومن كرمه ستر المذنبين.

 دموع التائبين

تعال يا أخي الكريم نسكب دموعًا صافيةً كالنور مُحرقةً كالنار نقيةً من التصنُّع، خاليةً من التكلُّف، تعصر القلب فتزلزله، وتنحدر من الجفون فتغسلها.

يا أخي، ألا تعلم كم من عَبَراتٍ سُكِبت فوق صفحة خدٍّ أبصر بها طريق الهداية والرشاد وفتحت لها أبواب الرحمات.

نعم، دمعةٌ أسكبت تطفئ حرقة الذنوب والعصيان وتُخفِّف مرارة البعد والحرمان وتشعر بالأماني والحنان.

نعم، هي دمعةٌ أسكبت من عبدٍ انحرف وغوى في طريق الشيطان فبادر واعترف وأناب وتاب.

نعم، دمعة أسكبت تعترف بخطايا وظلام، سنين تنجلي بها ظُلمة الليل الحزين، معتذرًا إلى مولاه معترفًا بما جناه .. لعلَّ المحبَّ بدينه ويبلغه مناه.

نعم يا أخي، هي دمعة تائبٍ سُكبت حارة، ذاق حلاوة التوبة وعرف طعمها ووجد للطاعة لذَّةً وحلاوة.

نعم يا أخي، نُسيء ونخطئ، ثم نأوي إليه نستغفره ونتوب إليه ونرجع، فأين عنه نهرب ولمن نشكو إليه المرجع والمآل؟

يا رب، كم بيني وبينك من الأسرار وهتك الأستار؟ لكنَّ عزائي أني أحبك.

يَا رَبُّ بَيْنِي وَبَيْنِكَ جِسْرُ حُبٍّ خالد

رُؤًى تُحَرِّكُ كُلَّ قَلْبٍ خَامِدِ

بَيْنِي وَبيْنِكَ مِنْ صَلاَتِي سَالِمًا

مَا زِلْتُ أَمْنَحُهُ عَزِيمَةَ صَاعِدِ

أَرْضَى بِهِ عَن هَذِه الدُنيَا

الَّتِي تُغرِي بِبَهجَتِهَا فُؤادَ العَابِدِ

يَا رَبُّ عَفوًا إنَّ ذَنْبِيَ لَم يَزَل

عِبْئًا يُعَذِّبُنِي وَيُوهِنُ سَاعِدِ

أَخْطَأتُ يَا ذَا العَفو حَتَّى صِرتُ في

طُرُقِ الأَسَى أَمشِي بِذِهنٍ شَارِدِ

أَرْنُو إلَيكَ بِمُقْلَةٍ مَكسُورَةٍ فِيهَا

مِنَ العَبَرَاتِ أَصْدَقُ شَاهِدِ

نعم يا أخي..

هكذا التائب غزير الدمعة كثير العبرات والزفرات .. نعم، دموع التائبين عبرةٌ لكلِّ عاقل، وحرقات النادمين مليئةٌ بالدروس والمواعظ.

نعم، تبكي عيونهم للأسف على ما مضى، وتتقطع أفئدتهم على ما فات وانتهى .. نعم يا أخي، لا تبكِ بكاءَ البائس، ولكن ابكِ بكاء الفرح، وانثر دموع السعادة بالحياة الجديدة.

أَتَبكِي وَفِي عَينَيْكَ يَزْدَحِمُ الرَّدَى

وفِي قَلبِكَ الشَّادِي مِنَ الحُبِّ جَدولُ

أتَبكي وَفِي أعمَاقك النَّبعُ لم يَزَل

سَخِيا وعَهدِي إنَّ قَلِيلاً يَنهلُ

بربِّك لا تَكسَرْ عليَّ صَخرةَ الأَسَى

جمُودك إنَّ البَأسَ يَدنُو وَيَقتُلُ

نَعَمْ يَا أَخِي..

بادر ولا تتردَّد، عجِّل وسارع، وإيَّاك والتسويف .. أسرع قبل فوات الأوان، اسمع إلى هذه المبادرة والعزيمة الصادقة من المرأة التي زنت في غفلةٍ عن رقابة ربها، ولكن لما انتبهت من غفلتها أشعلت حرارة المعصية في قلبها نار تتأجَّج، فلم يهدأ لها بال ولم يقرّ لها قرار، تقول بلسان حالها عصيت ربي وهو يراني، كيف ألقاه وقد نهاني؟.. حرُّ المعصية يؤجِّج النار في قلبها، وَكبر الكبيرة يُقلقها، وقبح الفاحشة يستقرُّ في صدرها، حتى لم تقنع بالتوبة بينها وبين ربها قالت «أصبت حدًّا فطهِّرني»، عجبًا للمرأة، وهي محصنةٌ وتعلم أنَّ حدَّها الرَّجم بالحجارة حتى الموت، فينصرف عنها الحبيب يمنةً ويسرةً ويردُّها فتأتي في الغد، لِمَ تَردّني، والله إني لحبلى من الزنا، فقال لها: «اذهبي حتى تلدي»..

فيا عجبًا لأمرها!

تمرُّ الشهور ثم الشهور ولم تخمد النار في قلبها، فأتت بالصبي في خرقة تتعجَّل أمرها، ها هو قد ولدته فطهِّرني؟ قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه»..

يا عجبًا لحالها!

يمرُّ عليها سنةٌ وسنتان ولم ينطفئ حرُّ معصيتها، فلمَّا فطمته أتت بالصبيِّ وفي يده كسرة خبزٍ دليل لها، قالت قد فطمته، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبي إلى رجلٍ، ثم أمر بها ودفعها في حفرة إلى صدرها، وأمر الناس فأقبل عليها خالد بحجر فرمى رأسها فطفح الدم على وجه خالد فسبَّها، فسمع نبيُّ الله سبَّه إليها فقال: «مهلاً يا خالد، والذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكسٍ لغُفِر له»، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفِنت.

أنظر يا أخي التائب:

ألا تعجب من حالها؟!.. حرارة المعصية تلسع فؤادها وتحرق قلبها وتعذِّب ضميرها، فهنيئًا لها .. إنه الخوف من ربِّها، هكذا فلتكن العزيمة والإصرار على التوبة الصادقة:

إذا لَم يَرُدَّ المرء عَن فِعلِ مُنكَرٍ

حَيَاءً وَلَمْ يُرْدِعْهُ عَنْهُ يَقِينُ

فَقَد ضَاعَ حَتَّى وَلَوْ بَدَا مِنْهُ مظهر

جَميلٌ وَلَو طَافَت إلَيهِ عُيُونُ

يَردُّ يَدِي عَنْ بَطْشِ رَبِّهَا خَوْفٌ

وَتَمنَعُ نَفسٌ إن تخَادعُ دِينُ

وَمَا العِزُّ إلا في التَّضَرُّعِ وَالتُقَى

وإن قَلَّ مَالٌ أَو جَفَاكَ مُعِينُ

وأنت أيها الصالح، لماذا صرفتَ سمعك؟ هل تظن أنك بمنأى عن التوبة؟

لا تظن أنها لا تعنيك، ويقفز خيالك إلى أصحاب الكبائر والشهوات، وتفكر أو يخطر ببالك أنَّ كلامنا لا يعنيك ولك فيه نصيب ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم: 32].

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: «إن التوبة ليست في حقِّ المذنبين فقط، وإنما هي في حقِّ المؤمنين أيضًا في تقصير الواجبات وضعف أداء الطاعات». انتهى كلامه رحمه الله.

نعم يا أخي..

فما أحوجنا إلى التوبة في كلِّ لحظةٍ والرجوع في كلِّ وقتٍ وحين!

أين نحن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أصحابه يعدُّون له الاستغفار في المجلس الواحد مائة مرَّة، وما صلى صلاة قط بعدما نزلت ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر] إلاَّ قال في ركوعه: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي».

ويقول ابن القيم: «﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11].

فقسم العباد إلى تائب وظالم وما ثمَّة قسم ثالث البتة، وأوقع اسم «الظالم» على ما لم يتب لجهله بربِّه وبحقِّه وبعيب نفسه». اهـ رحمه الله.

أخي التائب: لا تستكثر أعمالك؛ فإنَّ استكثارها ذنبٌ، والعارف بالله من صغرت حسناته وعظمت سيئاته، وكلما صغرت الحسنات في عينيك كبرت عند الله، وكلما كبرت سيئاتك في عينك صغرت عند الله.

 توبوا إلى الله جميعًا

لقد فتح الله باب التوبة ودعا جميع العباد للولوج فيه حتى يتخلَّصوا من الذنوب والمعاصي في الدنيا والآخرة؛ فقد أمر عباده المؤمنين ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].

وأيضًا دعا إليها المنافقين، قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 146].

ودعا إليها اليهود والنصارى الذين قالوا "يد الله مغلولة" وقالوا "إنَّ الله فقير"، فقال الله عزَّ وجل: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 74].

ودعا إليها المشركين كافة فقال عز وجل: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 11].

ودعا إليها المسرفين على أنفسهم من أمَّة النبي وغيرهم فقال تعالى ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

وقد جعل الله في التوبة ملاذًا مكينًا وملجأً حصينًا يَلِجُه المذنب معترفًا مؤملاً في ربِّه نادمًا على فعله غير مصرٍّ على خطيئة يتبع السيئة الحسنة فتح الله التوبة لكلِّ التائبين، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .. وخاطبهم في الحديث القدسي «يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا؛ فاستغفروني أغفر لكم».

فمن ظنَّ أنَّ ذنبه لا يتَّسع لعفو الله فقد ظنَّ بربه ظنَّ السوء، فكم من عبدٍ كان غارقًا في المعاصي منَّ الله عليه بتوبةٍ محت عنه ما سلف فصار من التائبين!

واعلم أخي الكريم أنَّ هذا الباب العظيم باب التوبة يُغلق حينما تبلغ الرُوح الحلقوم، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 18].

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ يقبل توبة العبد ما لم يشرك به»([2]).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه»([3]).

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئو الليل حتى تطلع الشمس من مغربها»([4]).

اعلم يا أخي الحبيب أنَّ التوبة عبارة عن ندمٍ يورث عزمًا وقصدًا، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلاً بين الإنسان وبين محبوبه وينبغي للتائب أن يأتي بحسنات تضاد ما عمل من السيئات لتمحوها وتكفِّرها، وجاء في الحديث أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما من رجلٍ يُذنب ذنبًا فيتوضًأ ويُحسِن الوضوء ثم يُصلِّي ركعتين ويستغفر الله عزَّ وجلَّ إلاَّ غُفر له»([5]).

 احذروا المعاصي

أخي الحبيب:

احذر المعاصي والذنوب واتقِ خطرها على الأبدان والقلوب؛ فإنها مزيلةٌ للنعم جالبةٌ للنقم مؤديةٌ إلى الهلاك والدمار، فهي سبب كلِّ بلاءٍ وطريق كلِّ شقاء، ما حلَّت في ديارٍ إلاَّ أهلكتها، ولا فشت في مجتمعاتٍ إلاَّ دمرتها، وما أهلك الله تعالى أمَّةً من الأمم إلاَّ بذنب، وما نجا من نجا وفاز من فاز إلاَّ بتوبة وطاعة.

إنْ كُنتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعِهَا

فإنَّ الذُنُوبَ تُزِيلُ النِّعَم

وحُطها بطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ

فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيعُ النِّقَم

وإيَّاكَ وَالظلم مَهمَا استَطعْتَ

فظُلمُ العبَادِ شَدِيدُ الوَخَم

نعم يا أخي..

احذر المعاصي، فإنها بريد الكفر وقاصمة للعمر، فكم سبَّبت من قلَّة وأورثت من ذلَّة وسوَّدت من وجهٍ وأظلمت من قلبٍ وضيّقت من صدرٍ وعسَّرت من أمرٍ وحرمت من علم... ألا تعلم إن من عقوبة السيئة فعل السيئة بعدها، فإنها تُحبب المعاصي إلى جنسها فتجرُّه إلى مثلها. وأنشد بعض العارفين:

الأَمَانَ الأمَانَ وِزرِي ثَقِيلُ

وَذُنوبِي إذا عَددتُ تَطُولُ

أَوْبَقتْنِي وَأَوثَقَتْنِي ذُنُوبِي

فَتَرَى لِي إلى الخَلاصِ سَبِيلُ

نعم يا أخي، احذر المعاصي؛ إنها تنزع الحياء وتجرأ على الله، فإذا ذهب حياءوك وتجرأت على ربِّك انتكست فطرتك وعميت بصيرتك، ولذا من كان حاله لا يفكر في توبة ولا يخشى عاقبة حتى يأتيه الموت بغتة فلا تقبل منه توبة عند السكرة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ﴾ [النساء: 17، 18].

نعم يا أخي، احذر المعاصي، واعلم أن من أخطر عقوبات المعاصي إن المعصية قد تعرض لصاحبها عند الوفاة فينشغل بها وتصدُّه عن قول «لا إله إلا الله» كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله .. قيل لرجل: قل لا إله إلا الله؟ فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها.

وقيل لأحدهم - وكان تاجرًا - قل «لا إله إلا الله»، فقال: هذه القطعة رخيصة، هذا المشتري جيد.

وقيل لرجل يُطفِّف الميزان عند الموت قل: «لا إله إلا الله» فقال: لا أستطيع أن أقولها لأنَّ كفة الميزان على لساني!

عياذًا بالله من حسرة الفوت والفتنة في الدنيا وعند الموت.

يَا غَادِيًا فِي غَفْلَةٍ وَرَائِحَا

إلَى مَتَى تَسْتَحْسِنُ القَبَائحَا

وكَم إلَى كَم لا تَخَاف موَقِفَا

يَستَنطِقُ اللهُ بِهِ الجَوَارِحَا

يَا عجَبًا لَكَ وأَنتَ مُبصِرٌ

كَيفَ تَجنَّبتَ الطَّرِيقَ الوَاضِحَا

كَيفَ تَكُونُ حِينَ تَقرَأُ فِي غدٍ

صَحِيفَةً قَدْ حَوَتِ الفضَائِحَا

وَكَيفَ تَرضَى أَن تَكُونَ خَاسرًا

يَومَ يَفُوزُ مَن يَكُونُ رَابِحَا

نعم يا أخي، احذر المعاصي..

إنَّ للمعاصي شؤمها ولها عواقبها في النفس والأهل في البرِّ والبحر، تضل بها الأهواء وتفسد بها الأجواء، وبالمعاصي يهون العبد على ربه فيرفع مهابته من قلوب خلقه ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: 118].

يقول الحسن رحمه الله: «هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم»..

أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لَمَّا فُتحت قبرص رأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي. فقلت: يا أبا الدرداء، ما يُبكيك في يومٍ أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟

فقال: ويحك يا جُبير؟ ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، فبينما هي أمة قاصرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.

وهذه مقتطفات للعلامة ابن القيم رحمه الله من كتابه القيم «الجواب الكافي» تبين آثار المعاصي وأضرارها.

قال يرحمه الله: وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة، المضرَّة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة، ما لا يعلمه إلاَّ الله، فمنها حرمان العلم؛ فإنَّ العلم نورٌ يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئ ذلك النور. ومنها حرمان الرزق. ومنها وحشةٌ يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلاً. ومنها الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم. ومنها تعسير أموره عليه. ومنها ظلمةٌ يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل. ومنها أنَّ المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته. ومنها أنَّ المعاصي تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضًا. ومنها أنَّ العبد لا يزال يرتكب الذنب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه؛ وذلك علامة الهلاك. ومنها ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب وهو أصل كلِّ خير، وذهابه بهذا الخير أجمعه. ومنها إنها تضعف في القلب تعظيم الربِّ جلَّ وعلا. ومنها أنها تضعف سَير القلب إلى الله والدار الآخرة. ومنها إنها تزيل النعم وتُحلُّ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب ولا حلَّت به نقمة إلا بذنب. ومنها أنَّ العاصي في أسر الشيطان وسجن شهواته وقيود هواه. ومنها أنها تصغر النفس وتحقرها وتدسيها وتقمعها. ومنها أنَّ المعاصي سبب لسوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى.

انتهى كلامه رحمه الله.

أخي، لا تغرُّك عدم رؤية عقوبة الله تعالى حينما ارتكبت المعاصي أو تظنُّ أنه قد غفر لك أو أنها ليست بشيءٍ فتستحقرها وتنساها، ولا تظن حينما أنعم الله عليك نِعمًا كثيرةً وأنت مُقيم على المعصية أنَّ هذا فضلٌ من الله، بل هذا استدراج، كما روى عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا رأيت الله عزَّ وجل يُعطي العبد ما يحب وهو مُقيمٌ على معاصيه فإنما ذلك له منه استدراج»([6]).

وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 44، 45].

احذر يا أخي أن تغترَّ بنعمه الأمن وتأخير العقوبة فتكون من الخاسرين قال الله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 97، 98].

 خير الخطَّائين التوابون

أخي الكريم:

اعلم أنَّ كلاًّ منا معرَّضٌ لِلخطأ والتقصير، فبعض الناس مهما انحرف عن طريق الاستقامة وارتكب كثيرًا من المعاصي وانحرف عن الجادة بوازع الجهل والهوى واستجابةً لشهوات جامحة فالأمل في العودة ما زال موجودًا، وباب التوبة ما زال مفتوحًا حتى تطلع الشمس من مغربها.

وتذكر أنك بشرٌ تخطئ وتصيب، ولست ملكًا كريمًا ولا بشرًا معصومًا، تنازعك قوتان: قوَّة الخير وقوَّة الشر، وكل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون .. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم».

لكن إياك أن تبقى على الخطأ أو يتكرَّر منك مرةً بعد مرةٍ ولا تتَّعِظ ولا تتذكَّر، وتتوب وتندم على المعصية .. ألا تعلم أنَّ للمعصية شؤمًا إذا كثرت أَلِفها القلب وأحبَّها، وحينئذ تطبع عليه فمعصية ثم معصية ثم يتلوها معصية فيشرب القلب المعاصي فيصير القلب كما وصف النبيُّ من حديث حذيفة - رضي الله عنه - «...قلب أسود مرباد لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا»([7]).

نعم يا أخي، إذا وقعت في المعصية أو زلت قدمك في الخطيئة عليك أن تسارع وتتوب وتعود إلى رب كريم.

ها هم بني إسرائيل كما في كتاب التوَّابين لابن قدامة مُنِع عنهم القطر من السماء بسبب معصيةِ فردٍ واحدٍ منهم، ولَمَّا تاب وندم كان خيرهم وسقوا به.

ذكر ابن قدامة في كتابه «التوابين» أنه لَحِقَ بني إسرائيل قحطٌ على عهد موسى u، فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله، ادعُ لنا ربَّك أن يسقينا الغيث، فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألف ويزيدون. فقال موسى u: «إلهي، أَسقِنَا غَيْثَك وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والمشايخ الركَّع»، فما زادت السماء إلاَّ تقشعًا والشمس إلاَّ حرارةً.

فقال موسى: «إلهي، إن كان قد خلقُ([8]) (أي بلى وذهب) جاهي عندك فبجاهِ النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي تبعثه في آخر الزمان»، فأوحي الله إليه: «مَا خَلق جاهك عندي، وإنك عندي وجيه، ولكنَّ فيكم عبدٌ يُبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي، فنادِ في الناس حتى يخرج من بين أظهركم، فيه منقبكم»، فقال موسى: «إلهي، أنا عبدٌ ضعيفٌ وصوتي ضعيف، فأين يبلغ وهم سبعون ألفًا أو يزيدون؟»، فأوحي الله إليه: «منك النداء ومني البلاغ»..

فقام مناديًا وقال: «يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة، اخرج من بين أظهرنا؛ فبك مُنِعنا المطر»، فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال فلم يرَ أحدًا خرج فعلم أنه المطلوب، فقال في نفسه: "إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رءوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم مُنِعوا لأجلي"، فأدخل رأسه في ثيابه نادمًا على فعله وقال: "إلهي وسيدي، عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعًا فاقبلني"، فلم يستتمّ الكلام حتى ارتفعت سحابةٌ بيضاء فأمطر كأفواه القرب.

فقال موسى: «إلهي وسيدي! بماذا سقيتنا وما خرج من بين أظهرنا أحد؟!»، فقال: «يا موسى، سقيتكم بالذي به منعتكم»، فقال موسى: إلهي! أرني هذا العبد، قال: «يا موسى إني لم أفضحه وهو يُعصيني، أفضحه وهو يطيعيني؟!»([9]).

نعم أيها التائب، ما أكرم الله ما أحلم الله، يحلم بعد علمه ويعفو بعد قدرته، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].

وها هي توبة شاب مسرف على نفسه: عن وهب بن منبه قال: كان في زمن موسى شاب عات مسرف على نفسه، فأخرجوه من بينهم لسوء فعله، فحضرته الوفاة في خربة على باب البلد، فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: «إن وليًّا من أوليائي حضره الموت فاحضرْه وغسِّله وصلِّ عليه، وقل لمن كثر عصيانه يحضر جنازته لأغفرَ لهم، واحمله إليَّ لأُكرِم مَثوَاه»، فنادى موسى في بني إسرائيل، فكثر الناس، فلما حضروه عرفوه فقالوا: يا نبي الله، هذا هو الفاسق الذي أخرجناه! فتعجَّب موسى من ذلك، فأوحى الله إليه: «صدَقوا، وهم شهدائي؛ إلاَّ أنه لَمَّا حضرته الوفاة في هذه الخربة نظر يمنةً ويسرةً فلم يرَ حميمًا ولا قريبًا، ورأى نفسه غريبةً وحيدةً ذليلةً، فرفع بصره إليَّ وقال: "إلهي، عبدٌ من عبادك غريبٌ في بلادك، لو علمتُ أنَّ عذابي يزيد في ملكك وعفوك عني ينقص من ملكك لَما سألتك المغفرة، وليس لي ملجأ ولا رجاء إلاَّ أنت، وقد سمعت فيما أنزلت أنك قلت إني أنا الغفور الرحيم؛ فلا تُخيِّب رجائي". يا موسى، أفكان يحسن بي أن أردَّه وهو غريب على هذه الصفة وقد توسَّل إليَّ بي، وتضرَّع بين يدي! وعزتي سألني في المذنبين من أهل الأرض جميعاً لوهبتهم له لذل غربته يا موسى! أنا كهف الغريب وحبيبه وطبيبه وراحمه»([10]).

قال - صلى الله عليه وسلم -: «يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها».

فيا مخطئ، ويا من سقط في المعصية وكلنا ذاك الرجل ويا من زلت قدمه وكلنا أصحاب زلل صحح أخطاؤه وعالج أمراضك وأغسل نفسك مما قد ران عليها واستأنف الحياة في ثوب التقوى النقي النظيف واسمع لداعي الله ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]. وينادي المنادي بالإيمان: ﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأحقاف: 31].

أخي التائب:

كلنا ذوو خطأ والله يمهل ولا يهمل ويحب التوابين والمتطهِّرين لذلك فتح باب التوبة، أمام المخطئين ليتوبوا ويعودوا إلى رب كريم رحيم فيغفر لهم ما اقترفوه من إثم وخطية.

 توبة رجل عاص على يد ابنته الصغيرة

كان هذا الرجل مغرمًا بالمعاصي لا عرف إلاَّ الطرب والغناء، يعيش في ضياع ولا يعرف الله إلاَّ قليلاً، منذ سنوات لم يدخل المسجد ولم يسجد لله سجده واحدة، ويشاء الله أن تكون توبته على يد ابنته الصغيرة.

يروي القصة فيقول:

كنت أسهر حتى الفجر مع رفقاء السوء في سهو وضياع تاركًا زوجتي المسكينة وهي تعاني من الوحدة والضيق والألم ما الله به عليم، لقد عجزت عني تلك الزوجة الصالحة الوفية، والتي لم تدخر وسعًا في نُصحي وإرشادي ولكن دون جدوى .. وفي إحدى الليالي جئت من إحدى سهراتي العابثة وكانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحًا فوجدت زوجتي وابنتي الصغيرة وهما تغطَّان في سبات عميق، فاتجهت إلى الغرفة المجاورة لأكمل ما تبقى من ساعات الليل في مشاهدة بعض الأفلام الساقطة من خلال جهاز الڤيديو، تلك الساعات التي ينزل فيها ربنا عز وجل فيقول: «هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من سائلٍ فأعطيه سؤاله؟».

وفجأة فتح باب الغرفة فإذا هي ابنتي الصغيرة التي لم تتجاوز الخامسة، فنظرت إليَّ نظرة تعجب واحتقار. وبادرتني قائلة: "يا بابا عيب عليك، اتق الله". رددتها ثلاث مرات، ثم أغلقت الباب وذهبت. أصابني ذهولٌ شديد فأغلقت جهاز الڤيديو وجلست حائرًا وكلماتها لا تزال تتردَّد في مسامعي وتكاد تقتلني، فخرجت إثرها فوجدتها قد عادت إلى فراشها.

أصبحت كالمجنون لا أدري ما الذي أصابني في ذلك الوقت، وما هي إلاَّ لحظات حتى انطلق صوت المؤذِّن من المسجد القريب ليمزِّق سكون الليل الرهيب مناديًا لصلاة الفجر، توضَّأت وذهبتُ إلى المسجد، ولم تكن لديَّ رغبة شديدة في الصلاة، وإنما الذي كان يشغلني ويقلق بالي كلمات ابنتي الصغيرة..

وأقيمت الصلاة وكبَّر الإمام وقرأ ما تيسَّر له من القرآن، وما أن سجد وسجدتُ خلفه ووضعت جبهتي على الأرض حتى انفجرت ببكاءٍ شديدٍ لا أعلم له سببًا .. فهذه أول سجدةٍ أسجدها لله عزَّ وجل منذ سبع سنين، وكان ذلك البكاء فاتحة خير لي، لقد خرج مع ذلك البكاء كلُّ ما في قلبي من كفرٍ ونفاقٍ وفساد، وأحسست بأنَّ الإيمان بدأ يسري بداخلي!

وبعد الصلاة جلستُ في المسجد قليلاً ثم رجعت إلى البيت فلم أذق طعم النوم حتي ذهبت إلى العمل .. لَمَّا دخلت على صاحبي استغرب حضوري مبكرًا؛ فقد كنتُ لا أحضر إلاَّ في ساعة متأخرة بسبب السهر طول ساعات الليل، ولَمَّا سألني عن السبب أخبرته بما حدث لي البارحة فقال: احمد الله أن سخَّر لك هذه البنت الصغيرة التي أيقظتك من غفلتك ولم تأتك منيتك وأنت على تلك الحال.

ولَمَّا حان وقت صلاة الظهر كنت مُرهقًا حيث لم أنم منذ وقت طويل؛ فطلبت من صاحبي أن يتسلَّم عملي وعدتُ إلى بيتي لأنال قسطًا من الراحة، وأنا في شوقٍ لرؤية ابنتي الصغيرة التي كانت سببًا في هدايتي ورجوعي إلى الله.

دخلت البيت فاستقبلتني زوجتي وهي تبكي، فقلت لها: ما لك يا امرأة؟ فجاء جوابها كالصاعقة: لقد ماتت ابنتك.!

لم أتمالك نفسي من هول الصدمة، وانفجرت بالبكاء، وبعد أن هدأت نفسي تذكَّرت أنَّ ما حدث لي ما هو إلاَّ ابتلاءٌ من الله عزَّ وجل ليختبر إيماني، فحمدتُ الله عزَّ وجلَّ، ورفعتُ سماعة الهاتف، واتصلت بصاحبي وطلبت منه الحضور لمساعدتي..

حضر صاحبي وأخذ الطفلة وغسلها وكفنها وصلينا عليها ثم ذهبنا إلى المقبرة، فقال لي صاحبي: لا يليق أن يُدخلها في القبر غيرك. فحملتها والدموع تملأ عيني ووضعتها في اللحد، أتالم وأنا أدفن ابنتي، أدفن النور الذي أضاء لي الطريق في هذه الحياة، فأسأل الله أن يجعلها سترًا لي من النار، وأن يجزي زوجتي المؤمنة الصابرة خير الجزاء.

يا معشر العاصين جودٌ واسعٌ

عند الله لمن يتوب ويندَمَا

أيها العبد المسيءُ إلى متى تُفنِي

زمانك في عسى وربما

بادرْ إلى مولاك يَا من عُمره

قد ضاع، يا ربِّ بصرني وأزل عنِّي العمَى

أخي العاصي: تُبْ إلى الله، وعُدْ إليه..

نعم، عد إليه. تمرَّغ على عتبة عبوديته. أظهر الذلَّ والافتقار والانكسار. نادِه بقلبك المنيب وقل "يا رب، يا رب"..

إذا قلت له «وعجَّلت إليك رب لترضي» غفر لك وقبلك، إنه ربٌ رحيمٌ ودود.

نعم يا أخي، هيا قم وأسرع ولا تتأخر، هيا قُمْ واسكب العبرات لتغسل الخطايا والزلات.

 تأمُّلات في شروط التوبة

اعلم أيها التائب أنَّ للتوبة شروط لا تُقبل التوبة إلاَّ إذا تحقَّقت هذه الشروط:

1- الإقلاع عن الذنوب:

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها، وإن زاد زادت حتى يغلف بها قلبه، فذاك الران الذي ذكر الله في كتابه تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطصفين: 14]»([11]).

اعلم أيها التائب:

على قدر إخلاصك في ترك ذنبك يأتيك من الله العون والسداد في الخلاص منه واسمع لهمَّة هذا الرجل في توبته والإقلاع عن الذنب .. قال ابن قدامة: رُوِي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه مرَّ ذات يومٍ في موضعٍ من نواحي الكوفة، فإذا بفتيان فسَّاق قد اجتمعوا يشربون وفيهم مغنٍّ يُقال له «زاذان» يضرب ويغنِّي، وكان له صوتٌ حسن .. فلمَّا سمع ذلك عبد الله قال: «ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله!»، وجعل الرداء على رأسه ومشى، فسمع زاذان قوله فقال: من كان هذا؟ قالوا: عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وأيُّ شيءٍ قال؟ قالوا: إنه قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى.

فقام وضرب بالعود على الأرض فكسره، ثم أسرع فأدركه وجعل المنديل في عنق نفسه وجعل يبكي بين يدي عبد الله بن مسعود فاعتنقه بن مسعود وجعل يبكي كلُّ واحدٍ منهما، ثم قال عبد الله: «كيف لا أحبُّ من قد أحبَّه الله عزَّ وجلَّ»، فتاب إلى الله عز وجل من ذنوبه، ولازم عبد الله بن مسعود، وأخذ حظًّا من العلم حتى صار إمامًا في العلم وروى عن عبد الله بن مسعود وسلمان وغيرهما ([12]).

2- عدم العودة إلى الذنب:

نعم أيها التائب، إذا أردتَ ألاَّ تعود إلى ذنبك عليك أن تتخلَّص من رواسب الماضي وتقطع الصلة بالذي يُذكرك بالذنب كما في حديث الذي قتل مائة نفس فدلَّه العالم أن يخرج من أرض السوء الذي اعتاد فيها المعصية، فكذلك ينبغي للتائب مفارقه الأحوال والأماكن الذي اعتادها في زمن المعصية، ثم إيَّاك أن تغفل عن الاعتصام بالله، وأن يلهج لسانك بالتوبة والاستغفار؛ فإن كنت صادقًا فاحرص على هذا فإنه أنفع علاجًا إلى عدم العودة إلى الذنب.

3- الندم على فعل الذنوب:

أيها التائب، إنَّ الندم على ما حصل منك واعترافك بالخطأ وتنكيس رأسك بالندم وانكسارك بين يدي الله هذه بشارة عظيمة للعودة والاستغفار ودليل على إيمانك وبداية الطريق إلى الله.

نعم أيها التائب:

إنَّ أنين المذنبين ودموع النادمين وانكسار التائبين بهنَّ يجد التائب حلاوة الإيمان. وها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُبشرك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبدٍ يُذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلِّي ركعتين ثم يستغفر الله من ذلك الذنب إلا غفر الله له»([13]).

لِمَن ألوذ وأشكو له حالي

سواك يا رب في حِلٍّ وترحالِ

تَقضي بأَمرك يَا ربّ وأَقبلُهُ

فأنت أعلم يا رحمَنُ بِالحَالِ

أَوغَلتُ فِي دَربِ أَحلامٍ وَكَم تَعِبَت

رِجلِي وكَم شَكت الإحلال إيغَالِ

نعم يا أخي، أكثر العبرات، ونكِّس الرأس، وأدم الطَّرق، واشكُ إلى الله، وتضرعْ بين يديه خائفًا ذليلاً ممَّا جنت يداك لعلَّك أن تبلغ مناك.

يَا حُبٌّ يَسْرِي فِي الْهَوَى أَدْمُعِ

وَدَلَّتِ الوَاشِي عَلَى مَوْضِعِي

يَا قَوْمُ إنْ كُنْتُمْ عَلَى مَذْهَبِي

الوَجْدُ وَالحُزْنُ فَنُوحُوا مَعِي

يَحِقُّ لِي أَنْ أَبْكِيَ عَلَى زِلَّةٍ

فَلا تَلُومُنِي عَلَى أَدْمُعِي

انظر أيها التائب إلى قصة ماعز بن مالك على ندمه وحرقة قلبه على عصيانه لربِّه، ففي الصحيحين عن سليمان عن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، طهِّرني. فقال: «ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهِّرني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه»، قال فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهِّرني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فيم أُطهِّرك؟» فقال: من الزنا. فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أَبِه جنون» فَأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: «أشرب خمرًا» فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أزنيت؟» فقال: نعم، فأمر به فرُجِم، فكان الناس فيه فرقتين: قائلٌ يقول لقد هلك؛ لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول ما توبة أفضل من توبةِ ماعز، إنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده في يده ثم قال اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم جُلوسٌ فسلَّم ثم جلس، فقال: «استغفروا لماعز بن مالك» فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم».

نعم أيها التائب، وصل به الأمر أن يستعجل تطهير نفسه بالحدِّ في الدنيا حتى يبذل نفسه في سبيل رضا الله عنه، مع أنَّ الرحيم قد أمر بالستر على نفسه وأمره بالتوبة بينه وبين ربِّه، لكنها قلوب أحرقها حرُّ المعصية!

5- ردُّ المظالم إلى أهلها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان لأخيه عنده مظلمة من مالٍ أو عرضٍ فليتحلَّله اليوم من قبل ألاَّ يكون دينار ولا درهم إلاَّ الحسنات والسيئات»([14]).

فيجب على المسلم أن يردَّ المظالم إلى أهلها قبل أن يكون التعامل بالحسنات والسيئات في وقتٍ يعزَّ فيه الحسنات، فقد يكون العبد محتاجًا إلى حسنةٍ واحدةٍ تُنجِّيه من عذاب النار.

 لا تستعجل حلاوة الإيمان بعدما ذقت مرارة العصيان

إنَّ بعض التائبين يشتكي ويقول إني تبتُ ورجعتُ إلى ديني، فأين حلاوة الإيمان؟.. إني أعيش في ضيقٍ واكتئابٍ وعزلٍ له عن الآخرين.

أيها التائب، اعلم أنَّ ما أنت فيه الآن آثار ذنوب ومعاصٍ مضت وتكرَّرت منك، وقد يستمرُّ هذا معك مدّةً من الزمن، فلا تعجب ولا تستعجل، واصبر وجاهدْ نفسك، فقد صبرت على الشرِّ سنين مضت ألاَّ تصبر على الخير.

واحذر أيها التائب إن يغرَّك الشيطان لِمثل هذه الوساوس، وتعود وتنزلق قدميك وتنتكس على عقبيك، فكم من أناسٍ زلَّت أقدامهم عن طريق الهداية بمثل هذه الوساوس.

لماذا يا أخي تُطالب أن تكون مثل غيرك ممَّن لم يتجرَّع مثلك، فأنت قد أخطأت في فترة من الزمن، ولا بدَّ أن يكون لهذا الخطأ آثار فاصبر واحتسب، لعلَّ هذا الألم خيرٌ لك حتى لا يبقى عليك ذنب.

واعلم أنَّ ذكريات الماضي من معاصٍ وذنوبٍ لن تزول بسهولة، ولكن عليك بسكب عبراتٍ حتى تغسل غبار الماضي، واجتهد فيما بقي من عمرك؛ فالعمر قصير، ويكفي ما ضاع منه لعلَّك تدرك بالباقي رضا ربِّك، ولا تستعجل حلاوة الإيمان؛ فإنَّ طريق الشر ضريبةٌ لا بدَّ أن تدفعها.

 تكرار الذنب وتكرار التوبة

بعض الناس يقع في الذنب وقد يستمر معه لا يفارقه، يجاهد نفسه ويصارعها لعلَّها أن تقلع عن الذنب، يحاول أن يتوب ويقلع عن الذنب لفترة ما ثم تغلبه شهوته فيقع في الذنب مع كراهته له من غير إصرارٍ في نفسه، ولكنَّ هذا الصنف يحتاج إلى مجاهدةٍ واحتسابٍ وإخلاص نيَّةٍ لله وإلحاحٍ على الله بالدعاء.

يقول ابن القيم رحمه الله:

إنَّ الله يغفر الذنب إذا كان وقوع الذنب منه على غلبة الشهوة وقوة الطبيعة، فواقع الذنب مع كراهته له من غير إصرارٍ من نفسه فهذا ترجى مغفرته وصفحه وعفوه لعلمه تعالى بضعفه، وأنه يرى كلَّ وقت ما لا صبر عليه، فهو إذا وقع في الذنب واقعه مواقعة ذليلٍ خاضعٍ لربِّه يجيب داعية النفس تارة وداعية الإيمان تارات.

فأما من بنى أمره على ألاَّ يقف على ذنبه ولا يُقدِّم خوفًا، مسرورًا بذنبه، يضحك ظهرًا لبطن، إذا ظفر بالذنب، فهذا الذي يُخَاف عليه أن يُحال بينه وبين التوبة ولا يفوق لها. أ.ﻫ.

اعلم أيها العاصي أنه إذ تكرَّر منك الذنب عُد إلى ربِّك وابكِ واندم، وكلَّما تكرَّر منك عُدتَ إلى ربِّك نادمًا، ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «إنَّ عبدًا أذنب ذنبًا فقال: ربي، أذنبتُ ذنبًا فاغفر لي، فقال ربه عَلِم عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنوب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبًا فقال: ربي، أذنبت ذنبًا فأغفر لي، فقال ربه علم عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي؛ فليعمل ما شاء».

وفي حديث عقبة بن عامر أنَّ رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، أحدنا يُذنب، قال: «يُكتب عليه»، قال: ثم يستغفر ويتوب، قال: «يغفر له ويُتَاب عليه»، قال: فيعود فيذنب، قال: «يكتب عليه»، قال: ثم يستغفر ويتوب، قال: «يُغفر له ويتاب عليه» قال فيعود فيذنب؟ قال «يكتب عليه»، قال ثم يستغفر ويتوب، قال «يُغفر له ويُتاب عليه، ولا يملّ الله حتى تملُّوا»([15]).

أيها العاصي..

لا تتهاون بالذنب ولا تصر عليه مهما تكرر منك، ولكن لا بدّ من الصدق والإقلاع عن الذنب، وهكذا قلب المؤمن الصادق الذي إذا وقع في الذنب احترق قلبه وتألم وسرعان ما رجع وتاب وعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنوب ويستر العيوب.


 رحمة الله وسعت كلَّ شيء

إلى الذين بلغت ذنوبهم عنان السماء إلى الذين ظنوا أنهم شر الناس إلى الذين ابتلوا بذنوب لم تفارقهم إلى المسرفين النادمين استمعوا إلى الله وهو يناديكم قائلاً: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

الله أكبر!.. بعدما وقعتَ في المعصية وأسرفتَ في الذنب وحسبتَ أن قد طُرِدتَ وجاءت لحظة اليأس والقنوط؛ تسمع نداء الرحمن الذي يفتح باب القبول لكلِّ توبةٍ نصوح. يفتح أبواب الرحمة على مصرعها لمن أراد أن يتوب.

وها هو القرآن يدعوا المفرطين والمقصرين ويؤنس المذنبين والتائبين، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 135، 136].

الله أكبر..!

لم يطردهم من رحمته، ولم يبخل عليهم بكرمه وإحسانه بعد أن زلَّت أقدامهم واستحوذ عليهم الشيطان في لحظة ضعف .. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110].

اسمع أيها العاصي إلى هذه البشارة من ربنا الرحمن لكلِّ عاصٍ من العباد بعفو الله ومغفرته لمن تاب إليه ورجع وأناب.

قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].

وقد بين لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - سعة رحمة الله وإن حِلمه سبق غضبه وعفوه سبق مؤاخذته .. روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عند فوق العرش أنَّ رحمتي سبقت غضبي»([16]).

وأيضًا بيَّن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الله أرحم بعباده من رحمة الأم بولدها، فإنه حين قدم عليه سبيٌ فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «أترون هذه طارحة بولدها في النار؟» فقالوا: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها»([17]).

فهذه الآيات والأحاديث التي تبعث في النفس الأمل وهذا الدين عظيم ورحمة الله أعظم وما ظنُّكم بربكم أدخل الجنة رجلاً لم يسجد لله سجدةً واحدة؟!.. ما ظنكم بربكم أدخل الجنة امرأة بغيًا بمجرَّد أنها سقت كلبًا ماءً؟!.. ما ظنكم بربكم أدخل الجنة رجلاً قتل مائة نفسٍ لكن علم الله مِن هؤلاء صدق الإقبال والندم والانكسار والخوف منه والذلِّ له فرحمهم برحمته.

أيها العاصي:

مهما عظم ذنبك فهو شيء ورحمة الله وسعت كلَّ شيء، فهل تصدق مع الله وتقبل عليه أم تتكل على أحاديث الرجاء والأمل بدون عمل وهذا دأب الخاسرين فإن الله عزيز ذو انتقام كما أنه غفور رحيم.

 باب التوبة مفتوح

أيها العاصي:

لا تجعل عظيم ذنبك حاجزًا لتوبتك؛ فالله أرحم بك من أمِّك التي ولدتك إذا رجعت وتبت إليه فمهما أسرفت وعظم ذنبك فإنَّ الله تعالى قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].

فباب التوبة مفتوح، لن يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها .. عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [رواه مسلم].

أخي الحبيب:

احمد ربك أنَّ الله أمهلك وبطريق المعاصي بصَّرك .. هلمَّ إلى الله وأسرع ولا تتأخَّر.

نعم يا أخي، استعد وبادر وعجِّل بالتوبة قبل أن يفاجئك أمر على غير موعد.

نعم يا أخي، عليك أن تأخذ قرار جريئًا تُرضي به ربك، قد يكون القرار شاقًّا، لكنَّه ليس مستحيلاً، فكم من أناسٍ أخذوا هذا القرار فرجعوا وتابوا إلى ربهم فسعدوا في الدنيا وفازوا في الآخرة..

وإيَّاك والتسويف، أو أن تغرَّك الأماني؛ فإنَّ الدنيا ساعة اجعلها طاعة، ولا يغرَّنك كثرة الهالكين، فإنَّ الله لا يعجزه كثرة من عصاه أن يعذبهم جميعًا، فهؤلاء يُذهبون طيباتهم في حياتهم الدنيا بشهوةٍ عاجلةٍ يذوقون مرارتها في العاقبة، فإنَّ العبرة بالحياة الآخرة.

فالسعيد من حجب نفسه مما يغضب ربه يوم القيامة فإنَّ ربنا سريع الحساب.

أخي الكريم: بادر بالتوبة من هفواتك قبل فواتك فما تدري متى المنية؛ فإن العمر قصير، واستدرك ما فات، وكفى ما ضاع منه وراح.

يَا نَفْسُ تُوبِي فَإنَّ الموتَ قَدْ حَانَا

وَاعصِ الهوَى فَالهَوَى مَا زَالَ فَتَّانَا

أمَّا تَرَينَ المَنَايَا كَيْفَ تَلْقِطُنَا

لَقطًا وَتُلحِقُ أُخرَانَا بأُولاَنَا

في كُلِّ يَومٍ لَنَا مِيْتٌ نُشَيِّعُه

نَرَى ِبمَصرَعِهِ آثَارَ مَوتَانَا

التوبة التوبة، الرجعة الرجعة قبل غلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة، فقد قرب وقت الفاقة .. ما أحسن ندم التوابين!.. وما أحلى قدوم الغائبين!.. وما أجمل وقوفهم بالباب..!

أخي الحبيب: عليك بالعودة إلى الله والتوبة والاستغفار افتح صفحة بيضاء تعاهد فيها ربك وتستغفر ذنبك، فباب القبول مفتوح لكلِّ توبة نصوح. قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].

فهذا ما تيسر أن أجمعه في هذه الرسالة فإن كان من خطأ فمن نفسي والشيطان وإن كان من صواب فمن توفيق الله وحده.

اللهم ربنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وهب لنا تقواك واهدنا بهداك واجعل لنا من كل همّ فرجًا وكل ضيق مخرجًا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أخوكم

محمود أحمد راشد

الأحد 20 شعبان 1420هـ



([1]) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

([2]) رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة وحسنه الألباني.

([3]) رواه مسلم 17/25.

([4]) رواه مسلم.

([5]) رواه الترمذي وابن ماجة وسنده حسن صحيح كما في صحيح الجامع.

([6]) أخرجه أحمد وصححه الألباني في الصحيحة.

([7]) جزء من حديث رواه الإمام مسلم.

([8]) خلقُ: أي بلى وذهب.

([9]) التوابين لابن قدامة ص115-116.

([10]) التوابين لابن قدامة ص116-117.

([11]) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وصححه ابن حبان والنسائي في اليوم والليلة.

([12]) كتاب التوابين لابن قدامة ص222.

([13]) رواه أحمد وهو في صحيح الجامع.

([14]) رواه البخاري 5/101.

([15]) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري وصححه الألباني.

([16]) رواه البخاري.

([17]) رواه البخاري.