أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة الأمة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- أثر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة الأمة
- المدخل إلى الموضوع
- بشائر وإنذارات السنة
- أهمية هذا الأمر
- حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
- ما ينبغي أن يتحلى به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
- مراتب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
- مراتب المنكر الذي ينكره المرء
- هل يلزم من إنكار المنكر مظنة الاستجابة
- هل يلزم من إنكار المنكر ألا يكون المنكر مرتكبا لذلك المنكر؟
- الأساليب التي تستعمل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
- المداهنة والمداراة
- ما يترتب على الامتثال من خير وعلى الإهمال من شر
- أسئلة
حول موضوع المحاضرة
- س1: هل يجوز للداعية أن يأخذ الموافقة من ولاة الأمر أو من الحكومة مثلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
- س2: هل تبرأ الذمة بإنكار المنكر مرة واحدة أم أن الواجب الاستمرار؟
- س3: كيف نأمر وننهي مرتكب المعصية إذا كان أبًا أو أخًا أو عمًا أو كبيرًا؟
- س4: هل يلزمني لإنكار منكر الأمر بمعروف أن أعرف الدليل وإن كان ذلك المنكر واضحًا عندي؟
- س5: هل كتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، شيئًا من أمر الدين مداراة خوفًا على الدعوة؟
- س6: هل يجوز المداراة في أمور المعتقد بقصد جمع كلمة المسلمين مع اختلاف عقائدهم؟
- س7: ما رأيكم بالعمل الجماعي في الدعوة لنصرة الدين؟
- س8: هل يجوز الكذب والغش للوصول إلى المصلحة العامة في إنكار المنكر؟
- س9: ما قولك في قول الله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ- رضي الله عنه - [المائدة: 105]؟
- س10: ما معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ- رضي الله عنه - [فصلت: 33]؟
أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة الأمة
عبد الله بن حسن آل قعود
المدخل إلى الموضوع
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، أرسله الله هاديًا وبشيرًا ونذيرًا ورسولاً إلى الناس أجمعين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة حتى لقي الله في الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد ([1]):
فيسرني أيها الإخوة المؤمنون أن ألتقي بكم في هذه الليلة وفي موضوع مهم للجميع، موضوع جاء به القرآن كما جاءت به السنة المطهرة، ألا وهو موضوع: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره في حياة الأمة».
هذا الموضوع أيها الإخوة لم يعد خافيًا أبدًا على ذي لب، ولن يظل خافيًا يومًا ما بإذن الله.
* فهو مهمة رسل الله الكرام، عليهم الصلاة والسلام.
* ومهمة أتباع الرسل، من لدن أن بزغ فجر الإسلام؛ وبدأ التكليف على البشرية إلى أن يرث الله ألأرض ومن عليها. وهو خير الوارثين.
نعم، إنه مهمة الرسل الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، فوالله ما أنزلت الكتب ولا أرسلت الرسل إلا لهذا الأمر، وهو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
* الأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله توحيد الله الذي خلق الثقلان من أجله، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ- رضي الله عنه - [الذاريات: 56].
* والنهي عن المنكر، الذي أصله ورأسه الشرك بالله المضاد لتوحيد الله، الذي خلق الله – تعالى – الثقلين من أجله.
* الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي رفعت به رايات الجهاد ونصر به دين الله، وارتفعت به كلمته، بل وسادت به دولته يوم أن كانت دولته.
يقول – جلا وعلا – في وصف رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتي هي إتمام لرسالات الرسل، وختم لها: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ- رضي الله عنه - [الأعراف: 157].
* وعن أبر هريرة t أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنةٍ من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلاَّ وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة؛ وأنا خاتم النبيين»([2]).
والمعنى أنه متمم ومكمل وخاتم لرسالات المرسلين، التي ترتكز على:
* الأمر بالمعروف، والذي في مقدمته توحيد الله.
* والنهي عن المنكر، الذي في مقدمته الشرك بالله.
وإن هذا الأمر العظيم والمهمة الكبرى التي هي في الأصل رسالة ومهمة وواجب صفوة وسادات وخيرة الأمم، رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام، هذه المهمة التي هي في الأصل وظيفة أولئكم القوم، الذين أمرنا باتباعهم في مثل قول الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ- رضي الله عنه - [الأنعام: 90].
* ولقد اختار الله تعالى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، للقيام بحمل دعوته، اختارهم الله واصطفاهم واجتباهم بمثل قوله – جل وعلا -: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ- رضي الله عنه - [الحج: 78].
وبمثل قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ- رضي الله عنه - [البقرة: 143].
نعم أقول: اختارهم واجتباهم للقيام بهذه المهمة الكبرى العظيمة، ووصفهم بأرقى وأعظم وأجل وصف، يؤهل بالقيام بمثل هذا العمل المهم، بالقيام بحمل أعظم دين وأكمل دين، وأيسر دين، وأجمع دين، أنزله الله تعالى على الأرض على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليدين به العباد جميعًا؛ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قال تعالى: ﴿قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا- رضي الله عنه - [الأعراف: 158].
* ووصفهم سبحانه وتعالى بأوصاف راقية، تتلاءم مع المهمة العظيمة الكبرى، وتتناسب معها، يقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ- رضي الله عنه - [آل عمران: 110].
ويقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ- رضي الله عنه - [التوبة: 71].
* وإن الله الذي وصفهم بهذه الأوصاف أمرهم أمر إيجاب، أمرهم بتأصيل هذه الأمور، وبترسيخها، وتقويتها في النفوس، وبالعمل على استمراريتها، وبقائها قائمة في واقع الأمة، بقوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ- رضي الله عنه - [الأعراف: 199].
وبقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- رضي الله عنه - [آل عمران: 104].
وبقوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ- رضي الله عنه - [الحجر: 94].
وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ- رضي الله عنه - [الأنفال: 39].
وفي الحديث الذي رواه مسلم – رحمه الله تعالى – عن جابر بن سمرة t عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لن يبرح هذا الدين قائمًا يُقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة»([3]).
وفي مسلم عن عقبة بن عامر t قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك»([4]).
ورضي الله عن حسان بن ثابت القائل:
دعا المصطفى دهرًا بمكة لم يجب | ||||
وقد لان منه جانب وخطاب | ||||
فلما دعا والسيف صلت بكفه | ||||
له أسلموا واستسلموا وأنابوا | ||||
فخيرية هذه الأمة، مرتبط بمحافظتها على ما وصفت به، وبقيامها بما كلفت به من الله، لا أن تدعي تلكم الأوصاف دعاوى وتقولها نظريات – مع الأسف – لا واقع لها في كثير من أعمالها. يقول الشاعر ([5]):
لا درَّا درُّ امرئ يطري أوائله فخرًا | ||||
ويطرق إن ساءلته ما هو؟ | ||||
بشائر وإنذارات القرآن
أيها الإخوة:
إن الله – جل وعلا – الذي اصطفانا وأكرمنا بقيادة محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجتبانا للقيام بهذا الأمر العظيم، والمهمة الكبرى، قد بشر وأنذر.
* أنذر الذين تخلوا عن هذا الأمر، تخليًا كليًّا أو جزئيًّا.
* وبشر الملتزمين به والقائمين عليه.
* أنذر المتخلين وما أكثرهم في الأمة، ولا سيما – مع الأسف – من مكَّن الله لهم في ألأرض من أصحاب السلطة، ولم يفوا بحق هذا التمكين، أنذرهم بمثل قوله – جل وعلا -: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ- رضي الله عنه - [المائدة: 78، 79].
وقوله تعالى وهذا يهم العلماء: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ- رضي الله عنه - [المائدة: 63].
وروى ابن جرير عن عبد الله بن عباس t أنه قال: «ما في القرآن آية هي أشد توبيخًا من هذه الآية، يعني قوله تعالى: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ- رضي الله عنه -. الآية»([6]).
وأنذرهم بمثل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ- رضي الله عنه - [محمد: 38].
وقوله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ- رضي الله عنه - [المائدة: 54].
* وبشر الملتزمين بهذه الأوصاف – وما أقلهم – بشرهم بمثل قوله – جل وعلا -: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون- رضي الله عنه - [النور: 55].
وعلى رأس هذه الأعمال الصالحة، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبشرهم بمثل قوله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ- رضي الله عنه - [الحج: 40].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا- رضي الله عنه - [الحج: 38].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ- رضي الله عنه - [النحل: 128].
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ- رضي الله عنه - [الأعراف: 165].
* * *
بشائر وإنذارات السنة
وكما جاء القرآن مبشرًا ومنذرًا وواصفًا تلكم الأوصاف، وحاثًا عليها، فقد جاءت السنة الغراء، بالبيعة به على كل مسلم.
جاءت بالبيعة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
* روى البخاري ومسلم – رحمهما الله تعالى – عن عبادة بن الصامت، عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخشى في الله لومة لائم»([7]).
* روى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف بعدهم خلوف([8]) يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»([9]).
* وروى الإمام مسلم – أيضًا – عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم»([10]).
ولا يفهم أن درجة الكراهة أقوى من درجة الإنكار، فالبراءة هنا محمولة على من كره بقلبه إذا لم يكن له مجال في استعمال اللسان؛ ولا في استعمال اليد.
أهمية هذا الأمر
بعد هذا البيان من الكتاب والسنة، وبعد هذا التذكير والتنبيه اللذين نذكر بهما من جفوا في هذا الأمر. وننبه وننصح بهما من لديهم بقايا عسى أن يقوى ذلك في قلوبهم.
فإننا بهذه الآيات، وبهذه الأحاديث، وبهذه اللفتة، وبهذه الذكرى، إنما ندعو علماء المسلمين، وشباب المسلمين ومفكريهم، والغيورين على دعوة الإسلام، والذين يدركون فساد الوضع وخطورة الموقف، وضرورة الأخذ بالمبدأ القائل: «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها».
* ندعوهم بأن ينفضوا الغبار، وبأن يتقوا الله؛ وبأن يخافوا الله، وبأن يهبوا ويرسلوها صيحة حق، ودعوة هدى، إلى إصلاح ما اعوج من أمر المسلمين، وإلى إقامة ما فسد من أمر الأمة في مجال حكم أو تحاكم أو سلوك أو اعتقاد أو معاملة، أو صلة بغيرهم ممن ليسوا على دينهم.
* إننا ندعوهم أن يلبوا نداء الداعية، نداء الحق الذي يقول: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ- رضي الله عنه - [هود: 116].
* نداء الحق العالم بما يترتب على القيام بهذا الأمر من نجاة وعزة وكرامة وعلو في الدنيا والآخرة، وطيب محيا وطيب ممات.
* وما يترتب على إهماله من هلكة وذل وهوان وتفرق، ولا حول ولا قوة إلا الله.
* نداء من يقول: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ- رضي الله عنه - [الأنفال: 24].
والذي به حياتنا أن نرجع إلى أصولنا، وأن نقوم بواجبنا وأن ننظر في سيرة أسلافنا الذين قاموا بهذا الأمر، فنقتدي بهم خير اقتداء.
ثم قال تعالى في آخر الآية: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً- رضي الله عنه - [الأنفال: 24، 25].
ويقول رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: في مجال ندب المصلحين ندب العارفين، الشاعرين بخطورة الوضع، وتدهور الموقف، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرفنا في نصيبنا خرفًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وأن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»([11]).
* إن لم يأمر المصلحون بالمعروف!!
* إن لم ينتفضوا للإصلاح!!
* إن لم يقوموا بأمر الله؛ هلكوا جميعًا!!
أيها المسلم:
هذه تذكرة وموعظة لأهمية هذا الأمر، وليعيها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ونأتي الآن على شيء من التفصيل في عناصر هذا الموضوع، وما توفيقي إلا بالله؛ عليه توكلت؛ وإليه أنيب.
* * *
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فرض كفاية.
ومعروف أن فرض العين هو الذي يتعين على كل شخص بعينه، كفرضية صلاة الجمعة.
وفرض الكفاية: هو الذي إذا قام به عدد يحصل بهم المقصود، سقط الإثم عن الباقين.
وهذا يعني أنه واجب عيني على الجميع، لكن إن قام به عدد يحصل بهم المقصود([12])، برئت الذمة من الوجوب العيني، وبقي الندب لمن يقوم بهذا الأمر.
* ويناقش بعض العلماء أفضلية الواجب الكفائي، بأنه فاضل وأجره كثير، لأن العامل للواجب العيني أبرأ ذمة نفسه، أما من يقوم بالواجبات الكفائية فقد أبرأ ذمته وذمة غيره من الناس، وبهذا يكون الواجب الكفائي أفضل من الواجب العيني.
فالخلاصة: أنه واجب كفائي، إذا قام به عدد تحصل بهم الكفاية؛ سقط الإثم عن مجموعة المسلمين. وإلا فالواجب قائم عليهم بالنصوص التي سبق ذكرها، والأوامر الصريحة التي تأمر بهذا الأمر، والقرآن والسنة الشريفة شاهدان بذلك في أكثر من موضع.
* * *
ما ينبغي أن يتحلى به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
أولاً: العلم:
يجب على الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، أن يكون عالمًا بالشيء الذي يأمر به، وينهى عنه.
هذه الصفة لابد أن توجد قبل البدء في الأمر والنهي، يكون عالمًا بما يأمر به من معروف، وينهى به عن منكر.
ولا يعني هذا أنه لا يأمر إلا العلماء، أو طلبة العلم، المهم النهي عن المنكر باعتبار أنه منكر، أو الأمر بالمعروف على اعتبار أنه معروف، حتى نكون على بصيرة، ونكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ- رضي الله عنه - [يوسف: 108]. أي على علم، وعلى هدى.
ومعلوم أن الغرض من هذا الأمر أن ينقذ الجاهل من جهله إلى العلم، والعاصي من عصيانه إلى الطاعة، وهذا لا يتم إلا بعلم.
وهذا العلم يجب أن يكون مستمدًا من كتاب الله وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيًا: الحلم:
يجب على الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، أن يكون حليمًا، حتى لا يثور ويغضب عندما يُجابه بشيء لا يرضيه أو لم يتوقعه. فيفسد أكثر مما يصلح، وحتى لا يتأثر فيصبح الموضوع انتقامًا للنفس وتشفيًا، بل إنكارًا لما يغضب الله سبحانه وتعالى، ورغبة في تصحيح الأوضاع.
فلابد للداعية إلى الله أن يروِّض نفسه من قبل. يروِّضها على أن تكون حليمة ولو لطمت في أحد خديها لذات الله لأعطت الخد الثاني إذا علمت أنها لله وفي سبيل الله. فلابد أن يتحمل وأن يصبر وليعلم أن هذا العمل لله – جل وعلا -.
ثالثا: الصبر:
الصبر على ما يناله، ولهذا وصفت هذه الأمة بالصبر، ودعيت إليه، وأول ما أمر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، بإبلاغ الرسالة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في قول الله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ- رضي الله عنه - [المدثر: 1-7].
يأمر الله سبحانه وتعالى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ- رضي الله عنه -، ثم يأمره سبحانه وتعالى، بالصبر على ذلك. لأنه يعلم سبحانه أنه سيواجه بالابتلاء والامتحان.
ولذا يقول العلماء: إن الصبر ورد في القرآن في أكثر من تسعين موضعًا ([13]).
والله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ- رضي الله عنه - [الأحقاف: 35].
فلابد للآمر بالمعروف، أو الناهي عن المنكر، أن يروِّض نفسه على الحلم، وعلى الصبر ولو أصيب في ذات الله.
وللصبر منزلة عالية كبيرة، لا ينالها إلا من وفق لها من الله سبحانه وتعالى، ولهذا جعل الله ثوابه بغير حساب. فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ- رضي الله عنه - [الزمر: 10].
* * *
مراتب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهذه المراتب بينها لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»([14]).
والخطاب هنا للجميع، وكلمة (من) هنا في أول الحديث للعموم من العقلاء، وتعم الصغير والكبير، والذكر والأنثى، وتعم أي واحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
يقول العلماء: إنه يتعين إذا لم يعلم به إلا هو.
* منكر ما علمه أحد إلا أنت، فهنا يتعين عليك أنت وحدك باعتبارك أنت المختص الذي رأيته أن تنكره، ويصدق عليك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرًا...» الحديث.
ومراتب وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من خلال الحديث هي:
* الإنكار باليد.
* الإنكار باللسان.
* الإنكار بالقلب.
* من يقوى على إنكار منكر باليد وأنكره باللسان ولم يمتثل المنكر عليه، ولم يستعمل اليد يكون آثمًا.
أما إذا لم يقدر على استعمال اليد وأنكر باللسان فذاك واجبه، وقد قضى ما عليه وبرئت ذمته.
* من استطاع أن يقول قولاً من الخير في الأمر بالمعروف، أو النهي عن المنكر، وسكت ولم ينكره باللسان، يكون قد عطل ما أقدره الله عليه فيعتبر آثمًا. لأنه أنكره بقلبه وهو يستطيع أن ينكره بلسانه.
فليحاسب المرء نفسه مع هذه المراتب، ويرى موقعه منها.
* * *
مراتب المنكر الذي ينكره المرء
* يختلف المنكر قوة وضعفًا، فتارة يكون من الشرك، وتارة يكون من المعاصي، هذا من جانب.
* ومن جانب تفاوته في الأمر، إذا وجد منكرًا متفاوتًا فهنا يحكمه أو يدلنا على علاجه وإنكاره، قوله عليه الصلاة والسلام. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا t إلى اليمن فقال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب»([15]).
فإذا كان المنكر الذي أمامك درجات في حد ذاته، فابدأ بأكبره وأعظمه. ولنوضح ذلك بالمثال التالي:
لنفرض أن أمامك زانيًا خمارًا مشركًا؛ وتريد أن تنكر عليه ([16]). فهنا تبدأ معه بما يصلح معتقده وينقي سريرته، ويثبت إيمانه، وبما يرده إلى التوحيد، فلو قال لا إله إلا الله ودخل في الإسلام، جاء بها مستجمعًا لشروطها، ولم يرتكب مانعًا من موانع الاستفادة منها، وعنده ما عنده من الكبائر. لو مات عند هذه الخطوة لكان من المسلمين، وكان من أهل الجنة، إن دخل النار طهر منها، وإن لم يدخلها وشمله قول الله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ- رضي الله عنه - [النساء: 48].
إذن فلنبدأ في معالجة الإنكار بأهمه وأعظمه، ولنتدرج تدرجًا تنازليًا لا تصاعديًا.
* وأما مراتب إنكار المنكر من جانب آخر، فقد ذكر ابن القيم – رحمه الله تعالى – أربع مراتب هي:
المرتبة الأولى: أن يغلب على ظنك أنك إذا أنكرت هذا المنكر أن يحل محله معروف.
المرتبة الثانية: أن يغلب على ظنك أنك إذا أنكرت المنكر أن يخف المنكر.
المرتبة الثالثة: أن يتساويا، أي بمعنى أنه قد يترك المنكر الذي هو واقع فيه، لكن ينتقل إلى منكر يساويه.
المرتبة الرابعة: أن ينتقل من منكر إلى ما هو أشد وأنكى منه.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -:
* أما الأولان فمشروعان: يعني إذا كان إنكار المنكر يؤدي إلى إجلال معروف، أو يخف المنكر فهذا لا يختلف عليه.
* وأما الثالثة إذا تساويا: يعني إذا خرج من كبيرة أنكرتها عليه، ذهب وارتكب كبيرة مشابهة لها. فيقول – رحمه الله -: «أما هذا فمحل اجتهاد». بمعنى أن الإنسان يجتهد إن رأى المصلحة في الإنكار عليه أنكر، وإن رأى المصلحة في تركه فليتركه.
* وأما الرابعة وهي الخطرة: وقد قال: «إذا رأيت من هو على منكر وأنكرت عليه وترك ما هو فيه لذهب وارتكب لما هو أشد منه».
ويضرب – رحمه الله – لهذا بمثال:
يقول: فلو أن رجلاً كان مغرمًا بقراءة كتب الجنس والروايات والغرام ومنهكمًا في هذا الأمر، وعنده رغبة في القراءة والاطلاع، ولكنك إذا أنكرت عليه وترك هذا المنكر لانتقل إلى كتب الابتداع أو الإلحاد؛ أيهما أشد ضررًا. يقول: (نتركه على كتب الجنس الصادر عن مرض الشهوة. لئلا ينتقل إلى كتب الابتداع والإلحاد الصادر عن مرض الشبهة).
ومعلوم أن مرض الشبهة أشد وأنكى من مرض الشهوة، فيقول – رحمه الله تعالى -: (مثل هذا دعه لا تنقله من سوء إلى ما هو أشد منه).
* وينقل ابن القيم عن شيخه (شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى –) ما نصه فيقول: «مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس»([17]).
* * *
هل يلزم من إنكار المنكر مظنة الاستجابة
بعض الناس يطرح سؤالاً مضمونه: هل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مشروع على مستوى المراتب التي سبق ذكرها؟
وهل يلزم من إنكار المنكر أن يغلب على ظنك الاستجابة أو لم يغلب؟
نقول: لا؛ لأن الاستجابة أمر لله وليس لك، إن عليك إلا البلاغ، كما قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -.
عليك الأمر، عليك النهي، عليك هداية الدلالة التي أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بها في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ- رضي الله عنه - [الشورى: 52].
فلا يلزم ألا تأمر فلانًا بمعروف ولا تنهاه عن منكر إلا إذا غلب على ظنك أنه يستجيب. وهذا حجر عثرة في الدعوة إلى الله، وحجر عثرة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فأنت عليك العمل، وعليك هداية الدلالة، وعليك البلاغ، كما قال – تعالى – لنبيه، عليه الصلاة والسلام.
أما كون المأمور أو المنهي يقبل أو لا يقبل فهذه من الأمور المنفية عنك وعن من هو أفضل منك! يقول – تعالى – لنبيه، عليه الصلاة والسلام: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ- رضي الله عنه - [القصص: 56].
ولا ينبغي القول بمظنة الاستجابة؛ لأنه يعطل الدعوة إلى الله، ويعطل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ولكن لو قام اثنان بمنكرين وأحدهما يغلب على الظن استجابته، والآخر بضد ذلك ولا طاقة لك إلا بالإنكار على أحدهما فبداءتك بمن تُظنُّ استجابته أولى وأخرى، وكذا لو كان بك طاقة على الإنكار عليهما. فابتداؤك بمن تظن استجابته خير وأجمل، لتقليل فاعلي المنكر، وإضعاف المنكر قبل الإنكار على من قد يشتد في البقاء على منكره.
* * *
هل يلزم من إنكار المنكر ألا يكون المنكر مرتكبا لذلك المنكر؟
رجل يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر فهل يلزم أن يكون في أمره بالمعروف قد امتثل وفي نهيه عن المنكر قد انتهى.
الصحيح أنه لا يلزمه ذلك.
فارتكابه للزنى مثلاً معصية كبرى، ونهيه عنها بجد وصدق طاعة يدخل في ميزان حسناته.
* فارتكابه السوء معدود عليه في حساب السيئات.
* ونهيه الغير عن فعل هذه المعصية، محسوب له عند ربنا في ميزان الحسنات.
قال الله تعالى في حق بني إسرائيل: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ- رضي الله عنه - [المائدة: 79]. قال القرطبي في تفسيره: «وقال حذاق من أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليمًا عن معصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضًا». وقال بعض الأصوليين: «فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضًا»، واستدلوا بهذه الآية، قالوا: لأن قوله: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ- رضي الله عنه -. يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي»([18]).
إلا أنه قد يتأكد الأمر عليه أكثر، لأنه عرف أن هذا منكر وارتكبه، ويقول للناس لا ترتكبوه، وعرف أن هذا معروف وتركه، ويقول للناس افعلوه، فليس ثمة شك في أن هذا نقص، وأنه عيب، وليس خافيًا أن من وسائل الاستجابة امتثال الآمر بما يأمر، وانتهاؤه عما ينكر.
وفي مثله جاء قوله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ- رضي الله عنه - [الصف: 2، 3].
والحاصل: أنه يلزمه الأمر بالمعروف حتى وإن لم يمتثله، ويلزمه النهي عن المنكر وإن ارتكبه، ومن العار والعيب أن يبقى قوله مخالفًا لفعله.
الأساليب التي تستعمل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأساليب التي ينبغي أن تستعمل في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، كثيرة وواسعة، منها: ما سبق ذكره، مثل البداية بالأهم. ومثل توخي النفع بالأمر والنهي، وتغير الحال، وما إلى ذلك.
* إلا أنه ينبغي للمسلم أن يسبر الوقت الذي يعيش فيه، والحالة التي هو فيها، ومن سيواجه بالأمر بالمعروف، ويسبر حاله وتحمله فيما لو ضرب أن يعرف الوضع الذي يحبط به، ويعالج المنكر حسب الاستطاعة، وحسب الإمكان، فإن كان يحتاج لقوة فليستعمل القوة، وإن كان محتاجًا للتعريض استعمل التعريض.
وهذا موضوع واسع، لكن المؤمن الذي يتحرى في هذه الأشياء ويجتهد في القيام بالحق يهديه الله إليه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا- رضي الله عنه - [العنكبوت: 69].
وكلما كان الإنسان هاديًا، وكان مقربًا إلى قلوب الناس، وكان ملتزمًا داعيًا للخير، كان أدعى لقبول قوله وسماعه.
* ومن الأساليب اللين والتودد، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ- رضي الله عنه - [آل عمران: 159].
يبين لنا الله سبحانه وتعالى، أن اللين والتودد في الدعوة، وفي ألأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أمر مطلوب ما لم يكن فيه إهانة للعلم، وإهانة للأمر بالمعروف، وللنهي عن المنكر.
اللين مطلوب وقد مر معنا ما يدل على ذلك، وخير قدوة لنا في هذا المجال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان عليه الصلاة والسلام، كثيرًا ما يُعالج المنكر بأسلوب يتلاءم مع الوضع الذي فيه المنكر.
* ففي صحيح مسلم، عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: «بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله ([19])، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»([20]).
* وعن أبي هريرة t قال: «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دعوه، وهريقوا على ما بوله سجلاً من ماء – أو ذنوبًا من ماء – فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»([21])، وهذا لفظ البخاري.
وعند ابن ماجه، عن أبي هريرة t قال: «دخل أعرابي المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فقال: اللهم اغفر لي ولمحمد، ولا تغفر لأحد معنا. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «لقد احتظرت واسعًا»([22]) ثم ولى حتى إذا كان في ناحية المسجد فشج يبول، فقال الأعرابي بعد أن فقه، فقام إلي بأبي وأمي. فلم يؤنب ولم يسب. فقال: «إن هذا المسجد لا يبال فيه. وإنما بني لذكر الله والصلاة». ثم أمر بسجل من ماء، فأفرغ على بوله»([23]).
فالآمر والناهي ينبغي أن يستعمل الأساليب التي فيها لين، ورفق، ورحمة لكي يحبه الناس، ويستمعوا لقوله، ولكي تنعطف قلوبهم إليه، لأنك تسعى لإصلاحهم ولم شملهم، وتعليمهم، وهدايتهم لا للشماتة بهم وتحقيرهم، وفضحهم والسخرية منهم، وهذا ديدن الطبيب، فإنه لا ينتهر المريض بل يلين له القول حتى يقبل منه ويستمع إليه.
* ومن الأساليب أن الأمر السري لا يجوز أن يعالج علنًا بل يعالج سرًا، لئلا يفشو المنكر، ولئلا يفتضح فاعله، وإذا كان ظاهرًا فإنه يعالج علنًا ولا حرج في ذلك، لأن صاحب المنكر هو الذي فضح نفسه، وأعلن البلاء على نفسه.
* * *
المداهنة والمداراة
المداهنة:
يقول العلماء في تعريفها: (المداهنة أن تسكت عما يجب عليك النطق به، أو أن تترك ما يجب عليك فعله لغرض دنيوي).
أما المداراة:
«فهي أن تدرأ الشر عن الدعوة إلى الله، أو تدرأها عن نفسك في مجال الدعوة إلى الله»([24]).
فالأولى في أمر خاص وهذه في أمر عام.
* قال الحافظ ابن حجر، في فتح الباري ([25])، ما خلاصته:
الفرق بين المداراة والمداهنة:
إن المداراة: هي خفض الجناح للناس والرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإِغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألف، وهي من أخلاق المؤمنين ومندوب إليها.
والمداهنة: مأخوذة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه: كمعاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، وهي محرمة منهي عنها.
* وقال ابن القيم، في كتابه الروح ([26])، ما ملخصه:
والفرق بين المداراة والمداهنة:
أن المداراة: التلطف بالإنسان لتستخرج منه الحق، أو ترده عن الباطل.
والمداهنة: التلطف به لتقره على باطله، وتتركه على هواه.
فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق.
مثال ذلك: «رجل به قرحة فجاءه الطبيب الرفيق فتعرف على حالها، ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت بطها برفق وسهولة، فأخرج ما فيها ثم وضع عليها من الدواء ما يمنع الفساد ويقطع المادة، ثم تابع عليها المراهم المنبتة للحم، ثم ذر عليها ما ينشف الرطوبة، ثم شد عليها الرباط. ولم يزل حتى صلحت»، فهذا المداري.
وأما المداهن فقال لصاحبها: «لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء! فاسترها عن العيون بخرقة ثم الْهُ عنها، وهذا لما رأى من جزعه من بطها، فلم تزل مادتها تقوى وتستحكم، حتى زادت موادها وعظم فسادها». انتهى.
إذا كان الوضع يقتضي ألا تنكر باليد وتركت الإنكار باليد مداراة خشية أن تتضرر أو يتضرر من حولك، هذا لا يكون فاعله مرتكبًا منكرًا.
ومما يدل على هذا، أن الرسول عليه الصلاة والسلام، جلس في مكة ثلاثة عشر عامًا بعد الرسالة يأتي للبيت ويطوف به، والأصنام معلقة ثلاثمائة وستون صنمًا، ويصلي وهي أمامه، وكان ينكر باللسان، لكن لما لم يكن له قوة تحميه ولما كان استعمال اليد في ذلك الوقت يأتي بمردود أشد وأكثر بلاءً للإسلام والمسلمين ما استعمل القوة أبدًا.
ولكنه لما عاد فاتحًا لها هل جاء بما يسميه بعض الناس في عصرنا سنة التدرج في إزالة المنكر، أو سنة التصحيح أو سنة الوضع، أو ما إلى ذلك بل أقبل عليها بالقضيب يضربها وهو يقرأ قول الله: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا- رضي الله عنه - [الإسراء: 81].
فالمداراة مرتبطة بالأمر العام، بأمر الدعوة، بأمر إنكار المنكر، بمصلحة الدعوة نفسها، ومصلحة إنكار المنكر نفسه، فإذا اقتضى الحال أن تسكت عن أمر ما لأنك لو نطقت بإنكاره لجاءك ضرر أو انتقل الضرر إلى دعوتك أو من حولك، فهنا تسكت مداراة ودرءًا للفتنة، لا مداهنة وتملقًا للباطل وأهله.
* * *
ما يترتب على الامتثال من خير وعلى الإهمال من شر
الآثار المترتبة على امتثال الأوامر التي جاءت بالأمر بالمعروف، أو على الإهمال له، لا أكرر القول فيها ولا أطيله، لكن في هذا الموضوع ما ختمت به الاستعراض قبل التفصيل من قول الله سبحانه وتعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ- رضي الله عنه - [الأنفال: 24].
فالاستجابة تجعلنا نحيا حياة طيبة، ونعز ونعلو على الأمم، ونؤهل لحمل الرسالة وللشهادة على الناس يوم يقوم الأشهاد.
أما عدم الاستجابة فبضدها تتبين الأشياء.
وكذلك في الحديث الذي ختمت به مع الآية أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: «مثل الواقع في حدود الله والقائم فيها...» الحديث.
* فهذه آثار إن قامت الأمةُ بها اقترن بقيامها العزة والكرامة والألفة، وضع ما شئت من الأوصاف الفاضلة.
* وإن لم يقوموا بها فخذ ما لا يجوز أن يؤخذ ولا يرتضى أن يوصف به من هوان ومن ذلةٍ.
وفي واقع المسلمين ما يشهد بهذا، فالأمة لما أن كانت أمة فعالة غزت القلوب قبل أن تغزو الأجسام، كانت ذات صدارة، وذات قيادة، أما وقد أصبحت أقوالاً فارغة، يتحدث أحدهم ويفتخر بأمورٍ ليسوا أهلاً لها، يفتخرون بآباء وأفعال من مضى وإذا سبرت حالهم على حال أولئك وجدتهم يناقضونها.
وواقع المسلمين – وللأسف – في المجموع لا في الأفراد، ففي الأفراد من هم أعزة والحمد لله، وكرماء وأحبة لله، يحسبون كذلك، والله حسيبهم، أما في المجموعات فمع الأسف هم غثاء كغثاء السيل، والسبب أنهم تخلوا عن تلك المواصفات فاتصفوا بضدها.
* بعد أن كانوا أرقى الناس صاروا أحط الناس؟!.
* بعد أن كانوا أعز الناس صاروا أذل الناس؟!.
* بعد أن كانوا في المقدمة صاروا في المؤخرة؟!.
* بعد أن كانوا رؤساء أصبحوا مرؤوسين؟!.
* بعد أن كانوا أئمة أصبحوا مأمومين؟!.
والله تعالى نسأل أن يعيدهم إلى رشدهم، وأن يهدينا وإياهم سواء السبيل، وأن يقيم لهذه الأمة من يأمر بالمعروف ابتغاء وجه الله، وينهى عن المنكر ابتغاء وجه الله، نرجو الله أن يولي عليهم خيارهم ممن يأمرون بالمعروف حقًا، انطلاقًا من كتاب الله وسنة رسوله، وينهون عن المنكر، انطلاقًا من كتاب الله وسنة رسوله.
وأخيرًا أرجو أن أكون قد بينت بعض جوانب كانت خافية في قضية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ثم أنصح نفسي وأنصح الدعاة إلى الله والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، بالاحتساب والصبر ومواصلة الجهود ومخاطبة الناس على ضوء ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي- رضي الله عنه - [يوسف: 108]. وقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- رضي الله عنه - [النحل: 125]. استغفره وأتوب إليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أسئلة حول موضوع المحاضرة
س1: هل يجوز للداعية أن يأخذ الموافقة من ولاة الأمر أو من الحكومة مثلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ج1: الله المستعان، - مع الأسف – هذا السؤال منبعث من واقعنا المريض نحن المسلمين، فالله تعالى يقول: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ- رضي الله عنه - [آل عمران: 104] ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكرًا...».
فما الذي يربط الدعوة بولي الأمر؟
وما الذي يربط إنكار المنكر بولي الأمر؟!
أما الأمور الظاهرة فهذه يعالجها المختصون، ولكن الأمور الداخلية أو الأمور الفردية أو ما إلى ذلك فالمسلم يدعو إلى الله ممتثلاً أمر الله الذي يقول: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ- رضي الله عنه - ويقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا- رضي الله عنه - [فصلت: 33]. فليتعامل مع الله ويدعو لولاة الأمور بالدعوات الصالحة وبالهداية لهم، وبأن يعدِّل الله حالهم، ويصلحها، أو يخلص المسلمين منهم، ويبدلهم بأفضل إن كان فيهم شر.
على كل حال إذا كان هناك تنظيمات ودعوته تستدعي أن يتصدر في منبر أو أن يتصدر في مؤتمر أو ما إلى ذلك، وهذا الأمر لا يصل إليه إلا عن طريق من يملك هذا الوضع، وله إشراف عليه، فلا بأس، ويكون هذا من باب التنظيم. أما أصل الدعوة فلا إذن فيه؛ الإذن في الشكليات التي يملكونها كما وضحت ذلك.
س2: هل تبرأ الذمة بإنكار المنكر مرة واحدة أم أن الواجب الاستمرار؟
ج2: لا تبرأ الذمة بإنكار المنكر مرة واحدة، إلا إذا كان منكرًا واحدًا ولم يتكرر ولم يقع مرة ثانية، فالمطلوب المواصلة في الإنكار فيما تكرر أو جدَّ أو أصر عليه صاحبه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرًا فليغيره...» الحديث عام يشمل من رآه أول مرة ومن تكررت رؤيته للمنكر.
س3: كيف نأمر وننهي مرتكب المعصية إذا كان أبًا أو أخًا أو عمًا أو كبيرًا؟
ج3: المشروع أن يبدأ بالأقربين من عشيرته في الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ- رضي الله عنه - [الشعراء: 214]. ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا- رضي الله عنه - [التحريم: 6].
فالمؤمن يبدأ بمن حوله ولا يجامل في أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر مع قريب أو بعيد، فالله تعالى يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ- رضي الله عنه - [الأعراف: 2].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري t أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام خطيبًا، فكان فيما قال: «ألا لا يمنعن رجلاً، هيبة الناس، أن يقول بحقٍ، إذا علمه»([27]).
وضرب الله في القرآن أمثلة لما يتعلق بالأبوه ولما يتعلق بالبنوه ولما يتعلق بالزوجة.
* اقرؤوا قصة إبراهيم u مع أقرب الناس إليه؛ مع أبيه.
* وقصة نوح u مع ابنه.
* وقصة امرأة فرعون مع زوجها.
س4: هل يلزمني لإنكار منكر الأمر بمعروف أن أعرف الدليل وإن كان ذلك المنكر واضحًا عندي؟
ج4: على كل حال أنا أشرت إلى هذا فيما ينبغي أن يتحلى به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
والداعية إلى الله يجب أن يكون على علم، وكلمة (على علم) تعني: أن عنده من الله فيه برهان.
فتكون على علم بما تنكره وتكون عارفًا لدين الله وعارفًا للدليل؛ بحيث لو نوقشت يكون عندك في هذا برهان؛ أما أن تقول: هذا منكر، وتسكت، دون معرفة للدليل، ثم إذا سُئلت عن الدليل قلت: أما ما أدري سمعت فلانًا يقول: أنه منكر فأنكرت.
وقد يناقشك فاعل المنكر وينقدك، خاصة إذا كان صاحب حجة ويبين لك أنه معروف.
فالعلم لابد منه والدليل أيضًا في مثل هذه الأمور التي يواجه بها الناس أرى أنه من الضروري معرفتها.
س5: هل كتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، شيئًا من أمر الدين مداراة خوفًا على الدعوة؟
ج5: لا فلقد أدى الأمانة خير أداءٍ وشهد الله له بالبلاغ. قد يكون هناك من الأمور الخيرية ما أخبر به بعض الناس دون بعض خشية أن يفتتنوا وألا يتحملوا هذا الأمر أو إن كان وعدًا يتكلوا عليه.
أو إن كان وعيدًا أن ييأسوا من رحمة الله – سبحانه وتعالى – ومن ذلك حديث معاذ بن جبل t قال: «بينا أنا رديف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال: «يا معاذ!» قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة، ثم قال: «يا معاذ!» قالت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة، ثم قال: «يا معاذ بن جبل!» قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا». ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل!» قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: «هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حق العباد على الله أن لا يعذبهم»([28]). وزاد مسلم في صحيح: قال: قلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس. قال: «لا تبشرهم فيتَّكلوا»([29]).
س6: هل يجوز المداراة في أمور المعتقد بقصد جمع كلمة المسلمين مع اختلاف عقائدهم؟
ج6: لا يجوز ذلك. واسمع قول الله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ- رضي الله عنه - [الممتحنة: 4]. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- رضي الله عنه - [النحل: 123].
س7: ما رأيكم بالعمل الجماعي في الدعوة لنصرة الدين؟
ج7: العمل الجماعي مطلوب والله أثنى على المسلمين عمومًا وندبهم أن يلتقوا وأن يجتمعوا.
يقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا- رضي الله عنه - [آل عمران: 103]، ويقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى- رضي الله عنه - [المائدة: 2].
س8: هل يجوز الكذب والغش للوصول إلى المصلحة العامة في إنكار المنكر؟
ج8: على كل حال أنا لا أرى أن ينكر منكر بارتكاب منكر. والكذب لا يجوز إلا في حالات ثلاث، كما ورد في الحديث عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس»([30]).
س9: ما قولك في قول الله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ- رضي الله عنه - [المائدة: 105]؟
ج9: الآية تفيد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في قوله سبحانه: ﴿آمَنُوا- رضي الله عنه -، وقوله: ﴿اهْتَدَيْتُمْ- رضي الله عنه -.
فمقتضى الإيمان الحق والهداية المطلوبة ذلك.
وقد روى أحمد وأبو داود وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟. قلت: قوله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ- رضي الله عنه -؟ قال: أما والله لقد سألتُ عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة؛ فإن من ورائكم أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم». قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عبثة، قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم»([31]).
ويلاحظ أن فضل الصحابة مطلق، وأن هذا الفضل مقيد بالحالة المذكورة، والفضل المطلق أفضل من الفضل المقيد.
س10: ما معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ- رضي الله عنه - [فصلت: 33]؟
ج10: المعنى: لا أحد أحسن كلامًا وطريقة وحالة ممن دعا الناس إلى طاعة الله وطاعة رسله؛ وذلك بتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم ونصح معرضهم، ومجادلة مباطلهم على ضوء ما سلف من الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- رضي الله عنه - [النحل: 125].
([1]) أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ عبد الله بن قعود، في جمعية الإصلاح في الكويت وقد أذن لنا مشكورًا بإخراجها، ونشرها.
([2]) أخرجه البخاري: [(3535) – الفتح: 6/645]، كتاب المناقب، باب (18). ومسلم برقم [20-23 (2286)]، كتاب الفضائل، باب (7).
([3]) أخرجه مسلم برقم [172 - (1922)]، كتاب الإمارة، باب (53).
([4]) أخرجه مسلم برقم [176 – (1924)]، كتاب الإمارة، باب (53).
([5]) البيت للشاعر (محمود غنيم) من قصيدته المعروفة والتي مطلعها:
مالي وللنجم يرعاني وأرعاه | أضحى كلانا يعاف الغمض جفناه | |
لا تحسبني محبًا يشتكي وصبًا | أهون بما في سبيل الحب ألقاه | |
إني تذكرت والذكرى مؤرقة | مجدًا تليدًا بأيدينا أضعناه | |
أني اتجهت إلى الإسلام في بلد | تجده كالطير مقصوصًا جناحاه |
([6]) تفسير ابن كثير (2/74)، من تفسير الآية 63 من سورة المائدة. ط مكتبة دار التراث – مصر.
([7]) أخرجه البخاري [(7056) – الفتح 13/7]، كتاب الفتن، باب (2). ومسلم [41، 42 – (1709) كتاب الإمارة، باب (8).
([8]) خلوف: بضم الخاء، جمع خلف، يقول أهل اللغة: خلف كذا إذا جاء بعده، لكنها بالفتح (خلف): وهو الخالف بخير، وبالإسكان (خلف): وهو الخالف بشر. قال تعالى: }فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا { [مريم: 59].
([9]) أخرجه مسلم برقم [80 – (50)]، كتاب الإيمان، باب (20).
([10]) أخرجه مسلم [62 – (1854)، كتاب الإمارة، باب (16).
([11]) أخرجه البخاري [(2493) – الفتح: 5/157)]، كتاب الشركة، باب (6).
([12]) وأين المقصود اليوم في أي بلد نسأل الله العافية.
([13]) تتبعتها في المعجم المفهرس فوجدتها وردت 103 مرة.
([14]) أخرجه مسلم [78 - )49)]، (1) كتاب ألإيمان، باب (20).
([15]) أخرجه البخاري [(1395) – الفتح: (3/307)]، كتاب الزكاة، باب (1). ومسلم [(29) – (19)]، كتاب الإيمان، باب (7).
([16]) والإنكار هنا هو الدعوة، والدعوة هي الإنكار، وإن قسمت اصطلاحًا.
([17]) إعلام الموقعين (3/16).
([18]) تفسير القرطبي: (6/253).
([19]) والله أعلم أنه لم يعرف أن النهي عن الكلام في الصلاة قد أمر الناس به، وأن الكلام في الصلاة قد نسخ ونهي الناس عنه، لأنه في أول الإسلام كانوا يتكلمون في الصلاة فنهوا عن ذلك.
([20]) جزء من حديث أخرجه مسلم بطوله برقم [33- (537)]، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب (6).
([21]) أخرجه البخاري [الفتح: 1/386 (220)]، كتاب الوضوء، باب (58).
([22]) احتظرت واسعًا: أي ضيقت واسعًا، والمعنى ضيقت رحمة الله ومغفرته علينا فقط. وهي واسعة تسع كل عباده – سبحانه وتعالى -.
([23]) أخرجه ابن ماجه بهذا اللفظ (529)، كتاب الطهارة وسنتها، باب (78). وأخرج مسلم بعض ألفاظه من حديث أنس بن مالك t، [100- (285)]، كتاب الطهارة، باب (30).
([24]) الدرر السنية (7/35-36).
([25]) فتح الباري: (0/428).
([26]) الروح لابن القيم: ص281.
([27]) هذه الأسئلة ألقيت على فضيلة الشيخ عقب المحاضرة، نوردها هنا رجاء الانتفاع بها.
([28]) أخرجه البخاري: [(6500) – الفتح: 11/345]، كتاب الرقاق، باب (37). ومسلم [48، 49 – (30)] كتاب الإيمان، باب (10).
([29]) أخرجه مسلم [49 – (30)]، كتاب الإيمان، باب (10).
([30]) أخرجه الترمذي (1939)، كتاب البر والصلة، باب (26).
([31]) أخرجه أبو داود (4341)، كتاب الملاحم، باب (17ت/ 17م)، وأخرجه الترمذي (3058)، كتاب تفسير القرآن، باب (6)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه ابن ماجه (4014)، كتاب الفتن، باب (21).