×
العقود الدرية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية : كتاب للحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - والذي يُعد من أهم مصادر ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.

 العُقُودُ الدُّرِّيَّةُ فِي ذِكر بعض مَناقِبِ شَيخِ الإسْلامِ ابنِ تَيمِيَّة

تأليف الإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي (705 - 744) تحقيق علي بن محمد العمران دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


راجع هذا الجزء محمد أجمل الإصلاحي جديع بن محمد الجديع

(المقدمة/3)


 مقدّمة التحقيق

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيد ولد آدم، المبعوث رحمة وهدى للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. أما بعد، فهذا كتاب مفرد في ترجمة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الدمشقي المتوفى سنة (ت 728) من تأليف تلميذه الإمام الحافظ محمد بن أحمد ابن عبد الهادي المقدسي (المولود سنة 705 - المتوفى سنة 744) ولم يجاوز الأربعين من العمر. وهذا الكتاب يعدُّ من أهم مصادر ترجمة شيخ الإسلام، وهو أصل أكثر الكتب التي جاءت بعده في ترجمة الشيخ، خلا كتاب أبي حفص البزار «الأعلام العلية» فهو كتاب مبتكر ... وهذان العالمان مع الحافظ الذهبي هم الذين ألّفوا في ترجمة الشيخ، من تلاميذه، ووُجِدت مؤلفاتهم، وقد وعد غيرُ واحد منهم بالتأليف في ترجمته، كما هو الحال في الحافظ عماد الدين إسماعيل ابن كثير الدمشقي (ت 774) فقد وعد بذلك (1)، ولا أدري هل وفَّى به أم لا؟ وهذه الترجمة على أنها أطول ترجمة للشيخ وُجِدت إلا أن المؤلف في مقدمته يقول: إنها «نبذةٌ يسيرة مختصرة في ذِكر حال سيِّدنا وشيخنا، _________ (1) في «البداية والنهاية»: (18/ 304).

(المقدمة/5)


شيخ الإسلام، تقيِّ الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية ... وذِكْرِ بعضِ مناقبه وبعض مصنَّفاته». ويؤيده قول الذهبي: إن ترجمة الشيخ تحتمل أن ترصع في مجلدتين (1). وكنتُ قبل سنوات خلت تزيد على العشر نشرتُ بالاشتراك مع الأستاذ المحقق محمد عزير شمس كتاب «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون» في مجلد ضخم، ثم أعيد طبعه ضمن هذا المشروع المبارك ـ إن شاء الله تعالى ـ مع استدراك ما فات، وقد ذكر شيخنا العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد ـ عليه رحمة الله ـ أن ترجمة شيخ الإسلام تستفاد من خمسة مصادر، أحدها هذا «الجامع» وقد طُبع بحمد الله. وثانيها كتاب «العقود الدرية»، ودعا الشيخُ إلى إعادة تحقيقه فقال: «وأرى إعادة تحقيق وطبع «العقود الدرية» ويضمّ إليه ما زاد عليه من كتب التراجم المفردة المذكورة تَحشيةً في محلها المناسب من هذا الكتاب، حتى يغني عنها» (2). فنكون في هذا المشروع المبارك قد جمعنا ما في كتب التراجم في «الجامع»، ثم أتبعناه بـ «العقود الدرية» باعتباره أهمّ كتاب مفرد، ويضم إلى حواشيه ما أشار إليه الشيخ، وبهذا النحو تكتمل ترجمة ابن تيمية، إلى أعمال ثلاثة أخرى مكملة ذكرها الشيخ في مقدمة «الجامع» (ص 35) وفي «المداخل إلى آثار شيخ الإسلام» (ص 12 - 13). _________ (1) نقله المصنف في كتابنا هذا (ص 34). (2) تقديمه لكتاب «الجامع» (ص 35 ط الثالثة).

(المقدمة/6)


وقد طبع هذا الكتاب باسم «العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية» بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله سنة 1356 هـ، وبهذا الاسم العَلَميّ اشتهر. واعتمد في تحقيقه على نسخة واحدة متأخرة، وهي المرموز لها بـ (ك) (انظر وصفها ص 46) ثم توالت طبعاته تصويرًا عن هذه الطبعة أو اعتمادًا عليها، ثم طُبع عن قريب طبعتين اعتمدتا على نفس النسخة الخطية مع نسخة القدس (ق) التي تمثّل نصف الكتاب فقط، لكن كلا التحقيقين لم يضيفا جديدًا إلى الكتاب. وتأتي هذه الطبعة أخيرًا بعد طول انتظار مستوفيةً ــ إن شاء الله ــ جوانب خدمة الكتاب؛ من تحرير نصِّه على أهمّ نُسَخه الخطية، والعناية به، والتعليق عليه، وعمل الفهارس الكاشفة لألفاظه وفوائده، والتقديم المُعرّف به. وبين يدي تحقيق الكتاب نقدم عددًا من المباحث، هي: * ترجمة مختصرة للمؤلف. وقد ترجمت له ترجمة مختصرة؛ لأنه قد كُتِب عنه عدّة مرات في دراسات جامعية وغيرها. * التعريف بالكتاب من حيث: - اسمه. - تاريخ تأليفه. - إثبات نسبته إلى المؤلف. - موارده. - مباحث الكتاب، وترتيب المؤلف لها.

(المقدمة/7)


- أهمية الكتاب وأثره فيمن بعده. - مطبوعاته. - مخطوطاته. - منهج التحقيق. - نماذج من النسخ الخطية.

(المقدمة/8)


ترجمة المؤلف (1) - اسمه ونسبه: هو: محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي، المقدسي، الجماعيلي الأصل، ثم الصالحي، يُرفع نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. - مولده: اختُلف في تحديد تاريخ مولده اختلافًا يسيرًا، فقيل: إنه ولد في رجب سنة خمس وسبعمائة. وقيل: سنة أربع وسبعمائة. والأمر قريب. - نشأته: نشأ ابن عبد الهادي في دمشق، في أسرة علم وصلاح، وكان أبوه من أهل العلم (2)، فاعتنى الوالد بابنه النجيب الذي بدت عليه مخايل الذكاء والنبوغ من صغره. وكانت دمشق إذ ذاك زاخرةً بالعلماء المحققين في كافة _________ (1) أهم مصادر ترجمته: «المعجم المختص» (ص 215)، «تذكرة الحفاظ»: (4/ 1508)، «أعيان العصر»: (4/ 273 - 275)، «الوافي بالوفيات»: (2/ 113 - 114)، «البداية والنهاية»: (18/ 466 - 467)، «الذيل على طبقات الحنابلة»: (5/ 115 - 123)، «الدرر الكامنة»: (3/ 331 - 332)، «الرد الوافر» (ص 63 - 65). و «تاريخ ابن قاضي شهبة»: (2/ 1/395 - 396). ومقدمات تحقيق كتبه: «التنقيح» بطبعتيه، و «مجموع الرسائل». (2) ترجمته في «الدرر الكامنة»: (1/ 195).

(المقدمة/9)


الفنون والتخصصات، فنهل ابن عبد الهادي من علومهم، وظفر بالأخذ من كبار علماء عصره علوًّا في الإسناد، وجلالة في العلم، وتبحرًا في فنونه، وقد تيسر له ملازمة جهابذتهم وأئمتهم (1)، فكان لهذا الأمر، مع ما أعطاه الله من كمال التهيؤ، للعلم أثره المحمود في شخصيته العلمية. - شيوخه: ونشير هنا إلى أبرزهم: 1 - شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728). قال ابن عبد الهادي واصفًا دراسته على ابن تيمية في سنة 721 هـ بعد خروجه من السجن، وكان عمره آنذاك ستة عشر عامًا: «وكنتُ أتردد عليه في هذه المدة أحيانًا، وقرأتُ عليه قطعة من «الأربعين» للرازي، وشَرَحها لي، وكتب لي على بعضها شيئًا، وكان يُقرأ عليه في تلك المدة من كتبه، وهو يصلح فيها، ويزيد وينقص. ولقد حضرتُ معه يومًا في بستان الأمير فخر الدين بن الشمس لؤلؤ، وكان قد عمل وليمة، وقرأت على الشيخ في ذلك اليوم أربعين حديثًا، وكتب بعض الجماعة أسماء الحاضرين، وأخذ الشيخ بعد ذلك في الكلام في أنواع العلوم، فبُهت الحاضرون لكلامه، واشتغلوا بذلك عن الأكل» (2). _________ (1) ولعل هذا هو السبب في عدم رحلة ابن عبد الهادي إلى خارج الشام، فكأنه اكتفى بالأخذ عن جهابذتها عن الرحلة إلى غيرها. (2) «العقود الدرية»: (ص 397).

(المقدمة/10)


وتتجلى علاقة ابن عبد الهادي بشيخه ومدى احتفائه وإعجابه به: أنه صاحب أوسع ترجمة للإمام ابن تيمية من بين تلاميذه ــ وهم كثر ــ ومَن بعدهم. ويتضح أيضًا من عنايته بمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية واختياراته، بل وعَدَ بتأليف كتاب مفرد في مؤلفات الشيخ، قال: «وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا، وأبيّن ما صنّفه منها بمصر، وما ألفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن، وأرتّبه ترتيبًا حسنًا غير هذا الترتيب، بعون الله تعالى وقوته ومشيئته» (1). 2 - أبو الحجاج يوسف المزِّي (ت 742). الإمام الحافظ، شيخ المحدثين في زمانه، صاحب الكتابين العظيمين: «تهذيب الكمال»، و «تحفة الأشراف». قال ابن عبد الهادي بعد الثناء على شيخه ومدى إفادته منه وتخرّجه عليه: «وصنف كتاب «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» ... ، وهو كتاب حافل عديم النظير، وكتاب «الأطراف»، وأَوْضَح في هذين الكتابين مشكلات لم يُسبق إليها، وقد ملكتُ الكتابين بخطه، والحمد لله. وهو شيخي الذي انتفعت به كثيرًا في هذا العلم، وكان إمامًا في السُّنة، ماشيًا على طريقة سلف الأمة ... وكان صحيح الذهن، حسن الفهم، سريع الإدراك، يرُدّ في الإسناد والمتن ردًّا ينبهر له فضلاء الحاضرين، وربما يكون في أثناء ذلك يطالع وينقل الطِّباق» (2). _________ (1) «العقود» (ص 107). (2) «مختصر طبقات علماء الحديث»: (4/ 266 ــ 267).

(المقدمة/11)


وقد أثنى المزي على تلميذه ابن عبد الهادي ثناء عاطرًا كما سيأتي، مما يدل على توثق العلاقة بينهما، واحتفاء الشيخ بتلميذه الذي يُعدّ من ثمار غرسه. وأما بقية شيوخه فنسرد أسماءهم، ولتراجع تراجمهم. 3 - أبو الفضل سليمان بن حمزة، تقي الدين المقدسي (ت 715). 4 - أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم المقدسي (ت 718). 5 - يحيى بن محمد سعد الدين الأنصاري المقدسي (ت 721). 6 - محمد بن أحمد بن الزرّاد الصالحي (ت 726). 7 - محمد بن مسلّم شمس الدين الزيني الصالحي (ت 726). 8 - إسماعيل بن محمد بن الفرّاء مجد الدين الحرّاني (ت 729). 9 - أبو العباس أحمد بن أبي طالب الصالحي الحجّار (ت 730). 10 - محمد بن أحمد بن بصخان الدمشقي المقرئ (ت 743). 11 - محمد بن أحمد شمس الدين الذهبي الحافظ (ت 748). 12 - محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيّم الجوزية (ت 751). - ثناء العلماء عليه: 1 - الحافظ المزي (ت 742): وهو من شيوخه، قال ابن ناصر الدين (1): «ولقد كتب الحافظ أبو الحجاج المزي على كتاب «ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية» تأليف ابن عبد الهادي، ما صورته: كتاب مختصر في ذكر حال الشيخ الإمام شيخ _________ (1) في «الرد الوافر» (ص 230).

(المقدمة/12)


الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، وذِكْر بعض مناقبه ومصنفاته رضي الله تعالى عنه، جَمْع الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، أدام الله النفع بفوائده». وقال الحافظ ابن حجر (1): «قال المزي: ما التقيت به إلا واستفدت منه». وستأتي نحو هذه العبارة للذهبي. 2 - الحافظ الذهبي (ت 748): وهو من شيوخه أيضًا، قال (2): «الفقيه البارع، المقرئ المجوِّد، المُحدِّث الحافظ، النحوي الحاذق، صاحب الفنون». وقال: «سمع الكثير ... وعني بفنون الحديث ومعرفة رجاله، وذهنه مليح، وله عدة محفوظات وتواليف وتعاليق مفيدة، كتب عني واستفدت منه، والله يصلحه ويسعده». وقال (3): «الإمام الأوحد الحافظ ذو الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي ... واعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع وتصدَّى للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصول والنحو، وله توسُّع في العلوم وذهن سَيَّال». _________ (1) «الدرر الكامنة»: (3/ 332). (2) «المعجم المختص» (ص 215). (3) «تذكرة الحفاظ»: (4/ 1508).

(المقدمة/13)


وقال فيما نقله عنه الحسيني (1): «وسمعت شيخنا الذهبي يقول ... : ما اجتمعت به قط إلا واستفدت منه رحمه الله تعالى». 3 - الحافظ الحسيني (ت 765): وهو من أقرانه، قال (2): «الإمام العلامة ... اعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع وصنف وتصدر للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصلين والنحو واللغة». 4 - صلاح الدين الصفدي (ت 764): وهو من أقرانه، قال (3): «لو عُمّر لكان يكون من أفراد الزمان، رأيته يواقف الشيخ جمال الدين المزي ويرد عليه في الرجال، واجتمعت به غير مرة، وكنت أسأله أسئلة أدبية وأسئلة نحوية فأجده كأنه كان البارحة يراجعها لاستحضاره ما يتعلق بذلك، وكان صافي الذهن، جيد البحث، صحيح النظر». وقال أيضًا (4): «الشيخ الإمام الفاضل المتفنن الذكي النحرير ... كان ذهنه صافيًا، وفكره بالمعضلات وافيًا، جيد المباحث، أطرب في نقله من المثاني والمثالث، صحيح الانتقاد، مليح الأخذ والإيراد، قد أتقن العربية، وغاص في لُجَّتها على فوائدها ونكتها الأدبية، وتبحَّر في معرفة أسماء _________ (1) «ذيل تذكرة الحفاظ» (ص 49). (2) المصدر نفسه. (3) «الوافي بالوفيات»: (2/ 161). (4) «أعيان العصر»: (4/ 273).

(المقدمة/14)


الرجال، وضيَّق على المزي فيها المجال ... كان من أفراد الزمان، رأيته يواقف شيخنا جمال الدين المزي ويرد عليه في أسماء الرجال، واجتمعت به غير مرة، وكنت أسأله أسئلة أدبية وأسئلة عربية فأجده فيها سيلاً يتحدَّر، ولو عاش كان عجبًا». 5 - الحافظ ابن كثير (ت 774): وهو من أقرانه، قال (1): «صاحبنا الشيخ الإمام العالم العلامة الناقد البارع في فنون العلوم ... لم يبلغ الأربعين وحصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين والتاريخ والقراءات، وله مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة، وكان حافظًا جيدًا لأسماء الرجال وطرق الحديث، عارفًا بالجرح والتعديل، بصيرًا بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن مستقيمًا على طريقة السلف، واتباع الكتاب والسنة، مثابرًا على فعل الخيرات» اهـ. 6 - الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت 795): قال (2): «المقرئ، الفقيه، المحدِّث الحافظ، الناقد، النحوي، المتفنن ... قرأ بالروايات وسمع الكثير ... وعني بالحديث وفنونه، ومعرفة الرجال والعلل، وبرع في ذلك، وتفقه في المذهب وأفتى، وقرأ الأصلين والعربية وبرع فيها». _________ (1) «البداية والنهاية» (18/ 466 ــ 467) (2) «ذيل الطبقات» (5/ 116).

(المقدمة/15)


7 - الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842): قال (1): «الشيخ الإمام العلامة الحافظ، الناقد، ذو الفنون، عمدة المحدثين، متقن المحررين». وقال أيضًا: «قرأ القرآن العظيم بالروايات، وسمع ما لا يحصى من المرويات ... ورافق الحفاظ والمحدثين، وعني بالحديث وأنواعه، ومعرفة رجاله وعلله، وتفقه وأفتى، ودرس وجمع وألف، وكتب الكثير وصنف، وتصدى للإفادة والاشتغال في فنون من العلوم ... وكان إمامًا في علوم: كالتفسير، والقراءات، والحديث، والأصول، والفقه، واللغة العربية». - مصنفاته: يُعَدُّ ابن عبد الهادي ــ على قِصر عمره ــ من المكثرين من التأليف، فقد تجاوز عدد مؤلفاته السبعين عنوانًا، مما دعا عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي ــ أخا المؤلف ــ أن يؤلف كتابًا في أسماء مصنفات أخيه شمس الدين (2). وقد اعتنى مترجموه بذكر مؤلفاته، ولعل أهم قائمتين في ذلك: ما ذكره ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة»، وابن قاضي شهبة في «تاريخه»، وسنذكر هنا ما طبع منها، مع الإشارة إلى معلومات الطبع أو _________ (1) «الرد الوافر» (ص 63). (2) انظر: «الجوهر المنضد» (ص 55).

(المقدمة/16)


تعدد الطبعات باختصار (1). 1 - اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية. طبع مرتين، إحداهما في ضمن هذا المشروع المبارك إن شاء الله تعالى سنة 1424 هـ بتحقيق سامي جاد الله. والثانية بتحقيق حسين عكاشة ضمن مجموع فيه من تراث ابن تيمية (مرتبًا على أبواب الفقه) سنة 1424 هـ. ومرة أخرى ضمن رسائل ابن عبد الهادي (دون ترتيب) سنة 1428 هـ، كلاهما من طبع الفاروق الحديثة. 2 - إقامة البرهان على عدم وجوب صوم يوم الثلاثين من شعبان. طبعت عدة مرات، منها بتحقيق سامي جاد الله عن دار الوطن 1418 هـ. 3 - تعليقة على «العلل» لابن أبي حاتم. طبع مرتين، الأولى بتحقيق مصطفى أبو الغيط، وإبراهيم فهمي عن الفاروق الحديثة سنة 1422 هـ. والثانية بتحقيق سامي جاد الله عن دار أضواء السلف سنة 1423 هـ. 4 - تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق. له عدة طبعات، أكملها وأفضلها طبعة دار أضواء السلف 1428 هـ، في خمسة مجلدات، تحقيق سامي جاد الله، وعبد العزيز الخباني. وكان _________ (1) ولمعرفة بقية قائمة أسماء كتبه راجع مقدمة تحقيق «تنقيح التحقيق» بطبعتيه، ومقدمة تحقيق «مجموع رسائل ابن عبد الهادي».

(المقدمة/17)


الكتاب قد حَقَّق قسمًا منه إلى كتاب الزكاة الدكتور عامر حسن صبري وطبع في مجلدين عن المكتبة الحديثة سنة 1409 هـ، وأكمل باقيه إلا يسيرًا من آخره الصديق الدكتور أحمد القرني في رسالته للدكتوراه. 5 - جزء في المراسيل. طبع ضمن مجموع رسائل المؤلف (ص 113 ــ 140). 6 - جزء في الكلام على حديث: «أفرضكم زيد». طبع ضمن مجموع رسائل المؤلف (ص 43 ــ 81). 7 - رسالة لطيفة في أحاديث متفرقة ضعيفة. طبع عدة مرات، منها طبعة ضمن مجموع رسائل المؤلف (ص 83 ــ 111). 8 - شرح قصيدة ابن فرح الإشبيلي «غرامي صحيح». طبع ضمن مجموع رسائل المؤلف (ص 263 ــ 283). 9 - الصارم المنكي في الردِّ على السبكي. طبع عدة مرات، وهو يحتاج إلى تحقيق علمي يليق بمكانة الكتاب. ومنه نسخ خطية عديدة. 10 - مختصر طبقات علماء الحديث. طبع في مؤسسة الرسالة، في أربعة مجلدات متوسطة الحجم، تحقيق أكرم البوشي، وإبراهيم الزيبق. وهو في غالبه مختصر من «تذكرة الحفاظ» للذهبي، مع إضافات وفوائد.

(المقدمة/18)


11 - الطرفة في النحو. طبع ضمن مجموع رسائل المؤلف (ص 285 ــ 308). 12 - ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، المسمّاة: العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية. وهو كتابنا هذا. 13 - فضائل الشام. طبع ضمن مجموع رسائل المؤلف (ص 237 ــ 261). 14 - الكلام على أحاديث لبس الخفين للمحرم. جزء، لم يوجد كاملًا، وطبع ما وُجِد منه ضمن مجموع رسائل المؤلف (ص 141 ــ 158). 15 - الكلام على مسألة الاستواء على العرش. طبع عن دار الفلاح بمصر، تحقيق الدكتور ناصر السلامة. 16 - المحرّر في أحاديث الأحكام. طبع عدة مرات، وأحسنها طبع دار العطاء سنة 1422 هـ في مجلد، تحقيق عادل الهدايا ومحمد علوش. 17 - مناقب الأئمة الأربعة. طبع عن دار المؤيد بالرياض سنة 1416 هـ بتحقيق سليمان بن مسلّم الحرش.

(المقدمة/19)


- وفاته: مرض نحو ثلاثة أشهر بقرحة وحمى سُل، ثم تفاقم أمره، وأفرط به إسهال، وتزايد ضعفه، إلى أن توفي يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى من سنة أربع وأربعين وسبعمائة، ولم يبلغ الأربعين (1). قال ابن كثير (2): «أخبرني والده أن آخر كلامه أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فصُلي عليه يوم الخميس بالجامع المظفَّري، وحضر جنازته قضاةُ البلد وأعيان الناس من العلماء والأمراء والتجار والعامة، وكانت جنازته حافلة مليحة، عليها ضوء ونور، ودفن بالروضة، رحمه الله تعالى». _________ (1) ذكرته في كتابي «العلماء الذين لم يتجاوزوا سن الأشُد» (ص 135)، دار العاصمة، ط الأولى 1418 هـ. (2) «البداية والنهاية»: (18/ 467).

(المقدمة/20)


 التعريف بالكتاب

- اسم الكتاب: وقع اختلاف في اسم الكتاب على عدة أنحاء: 1 - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية. بهذا العنوان طبع الكتاب أول مرة عام 1356 هـ بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله. وعنه اشتهرت هذه التسمية، ولم يذكر مستنده فيها، مع أن النسخة التي اعتمد عليها ليس عليها عنوان، وهي نسخة الكويت المرموز لها عندنا بـ (ك). لكن وجدنا من ذكره بهذا الاسم قبل الشيخ الفقي، فوجدناه أولًا على نسخة خطية من مخطوطات الحرم المكي الشريف منسوخة سنة 1295 هـ (وسيأتي وصفها ضمن نسخ الكتاب) ونص العنوان فيها: «العقود الدرية في ذكر بعض مناقب ابن تيمية». ووجدنا ثانيًا الشيخ أبا بكر بن محمد خُوقير المكي (ت 1349) قد ذكر الكتاب بهذا الاسم، قال: «وقد ألف الحنابلة في ذلك (يعني ترجمة ابن تيمية) قديمًا وحديثًا، فمنهم تلميذ المؤلف شيخ الإسلام الحافظ ابن عبد الهادي .. له: العقود الدرية في نحو خمسة عشر كراسًا» (1) اهـ. ويمكن أن تكون النسخة التي يشير إليها خوقير هي نسخة الحرم نفسها، والله أعلم. _________ (1) في خاتمة طبعته لكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» (ص 40) من الطبعة الأولى سنة 1311 هـ. وقد أوقفني على هذه الفائدة الصديق المحقق عزير شمس.

(المقدمة/21)


فنسخة الحرم وكلام الشيخ خوقير قبل أن يَطبع الشيخُ الفقي الكتاب، فلعله اطلع على ما يشهد لتسميته بهذا الاسم، غير أنه لم يذكر مستنده صراحة، وها نحن قد ذكرناه فأزلنا عنه بعض العتب. وقد اخترتُ الإبقاء على هذا العنوان كما ورد في نسخة الحرم المكي، لوجوده على نسختين خطيتين، ولأن الكتاب طُبع واشتهر بهذا العنوان، ولأن المؤلف لم يضع له عنوانًا عَلَميًّا. 2 - العقود البهية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا العنوان ثابت في نسختي مكتبة الملك فهد (ف)، ومكتبة جامعة الملك سعود (د). وهما نسختان متأخرتان ــ كما سيأتي ــ والثانية منسوخة من التي قبلها على ما يظهر. 3 - الدرر البهية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية. نصَّ على هذا الاسم العلامة محمود شكري الآلوسي في كتابه «غاية الأماني في الرد على النبهاني»: (1/ 500 - ط الرشد) قال: «وقد رأيت كتابًا كتب على ظهر ترجمة شيخ الإسلام وبيان مناقبه وهي: الدرر البهية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، للحافظ الشيخ شمس الدين بن عبد الهادي المقدسي .. » اهـ. فقد وقف الآلوسي على نسخة خطية بهذا العنوان. غير أنه لم يصفها لنعرف قيمتها العلمية. 4 - كتاب الانتصار في ذِكْر أحوال قامع المبتدعين وآخر المجتهدين تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية. وهذا العنوان مكتوب على الصفحة الأولى من نسخة القدس (ق)،

(المقدمة/22)


وبه طُبِع الكتاب بتحقيق الدكتور محمد السيد الجليند بالقاهرة سنة 1423 هـ. وقد زعم في مقدمة طبعته (ص 39) أن هذا هو الاسم الصحيح للكتاب، وأنه من ميزات هذه النسخة! ومن ميزات طبعته! ولم يتنبه الأستاذ الفاضل إلى أن هذا العنوان مكتوب بخط مغاير لخط النسخة، فهو إما لأحد المطالعين أو ممن تملّك النسخة الخطية. ويضعف من شأنه أيضًا أن كاتب ذاك العنوان أخطأ في اسم مؤلف الكتاب ــ كما أخطأ في عنوانه ــ فقال: إنه من تصنيف سيدي عبد الرحمن المقدسي! كما أن هذا العنوان الفريد لم يذكره أحد ممن ذكر الكتاب أو نقل منه، ولا هو في أيٍّ من نسخه الخطية العديدة. وعليه فإن غاية الأمر أن يقال: إن ذلك العنوان ليس هو إلا أحد العناوين التي وردت على إحدى مخطوطات الكتاب، وأنه لا مزية له على غيره من العناوين، وأنه في نهاية الأمر من ابتكارات من كتبه فحسب. 5 - كتاب مختصر في ذكر حال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني وذكر بعض مناقبه ومصنفاته. هذا العنوان جاء على صفحة الغلاف من نسخة الأصل ــ كوبريللي، ونسخة (ب). ونسخة الأصل هي أقدم نسخ الكتاب إذ كتبت سنة 758 هـ أي بعد موت المؤلف بأربعة عشر عامًا فقط. وقد نصَّ ناسخُها أنه نقل هذه الترجمة (أي العنوان) من خط الإمام الحافظ جمال الدين المزي (ت 742). وقد اطلع أيضًا على هذه الترجمة بخط المزي الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي ونقلها في كتابه «الرد الوافر» (ص 230). وهذه الترجمة التي كتبها المزي أَتْبعها بذكر مصنِّفها ابن عبد الهادي

(المقدمة/23)


فقال: «جَمْع الشيخ الإمام ... أدام الله النفع بفوائده». وهذا دليل على أن هذه العنوان بخط الحافظ المزي على ظهر نسخة من الكتاب في حياة مؤلفه. وهذا دليل كاف في إثبات أن هذا العنوان هو الأوثق من بين العناوين التي وردت للكتاب، وأن ابن عبد الهادي لم يكتب له عنوانًا مسجوعًا، وأن العناوين المسجوعة السالف ذكرها من صنع النساخ أو غيرهم من متملكي النسخ. وقد ذكره ابن ناصر الدين مرتين أخريين في كتابه (ص 64، 109) ولم يسمه إلا بنحو ذلك الاسم. 6 - مناقب ابن تيمية. ذكره هكذا الشيخ مرعي الكرمي (ت 1033) في كتابيه «الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية» في مقدمته (ص 51). وفي كتابه «الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية» (ص 52). وبعد، فهذه الأسماء التي وردت للكتاب، وتعدُّدها يدلّ على أن المؤلف لم يضع للكتاب اسمًا علَمِيًّا مسجوعًا، بل كان اسم الكتاب هو العنوان الوارد على نسختي الأصل و (ب) وعند ابن ناصر الدين الدمشقي: «كتاب مختصر في ذكر حال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني وذكر بعض مناقبه ومصنفاته». مما دعا بعض النسّاخ أو مُلّاك النسخ إلى اختيار اسمٍ مسجوع له، فتعددت تسمياتهم بحسب اجتهاداتهم في التسمية كما سبق. وقد رأيتُ في طبعتنا هذه أن أبقي على التسمية التي اشتهر بها الكتاب وهي: «العقود الدرية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية»، خاصةً وقد وجدنا ما يشهد لهذا الاسم في النسخ الخطية للكتاب كما سبقت الإشارة إليه.

(المقدمة/24)


- تاريخ تأليف الكتاب: ليس بين أيدينا نص يحدّد تاريخ تأليف هذا الكتاب بدقة، لكن يمكن القول أنه ألفه بعد سنة 730 هـ وقبل سنة 740 هـ. ويمكن تقريب ذلك بالقول: إن شيخ الإسلام توفي سنة 728 هـ، في العشرين من ذي القعدة، والكثير من مباحث الكتاب تدلنا أن مؤلفه لم يكتبه بعد وفاة الشيخ مباشرة، بل أخذ بعض الوقت في جمع مادة الكتاب ومصادره، سواء من كتب الشيخ أو رسائل تلاميذه أو المعلومات والوثائق والشهادات التي ساقها، ومن أصرح تلك المواضع: ما يتعلق بسرد مؤلفات الشيخ، وما وقع لها من الحفظ والتلف، قال: «ولقد رأيت مِنْ خَرْق العادة في حفظ كتبه، وجمعها وإصلاح ما فسد منها، وردّ ما ذهب منها ما لو ذكرته لكان عجبًا، يعلم به كلّ منصف أن لله عناية به وبكلامه ... » (1). وأيضًا نَقْله لكتاب أبي عبد الله ابن رُشيق (ت 749) في وصف مؤلفات الشيخ وتعدادها، الذي ألفه بعد وفاة الشيخ، وأُرجِّح أنه ألفه بناء على طلب من البعض ومنهم الشيخ عبد الله بن حامد الشافعي، الذي أرسل رسالة لابن رشيق بعد وفاة الشيخ بهذا الخصوص (2). ومنها أيضًا ذِكْر أعداء الشيخ، وأنهم قد وقعت بهم أنواع العقوبات مما كانوا يكيدون به للشيخ رحمه الله، قال ابن عبد الهادي عند كلامه على محنة _________ (1) «العقود» (ص 107 ــ 108). (2) انظرها في «الجامع» (ص 241 - 245).

(المقدمة/25)


الشيخ في مسألة الزيارة وكانت قبل وفاته بقليل: «ولقد اجتمع جماعة معروفون بدمشق وضربوا مشورة في حق الشيخ، فقال أحدهم: يُنْفَى، فنفي القائل. وقال آخر: يُقْطَع لسانه، فقطع لسان القائل. وقال آخر: يُعزَّر، فعزر القائل. وقال آخر: يحبس، فحبس القائل. أخبرني بذلك من حضر هذه المشورة وهو كاره لها» (1). أما كونه ألف نحو سنة 740 هـ فيؤخذ مما جاء على ظاهر نسخة الأصل من كلام الإمام جمال الدين المزي (ت 742) وفيها: «هذا كتاب مختصر في ذكر حال شيخ الإسلام ... جَمْع الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد ابن قدامة المقدسي، أدام الله النفع بفوائده». فهذا دليل أنه ألف قبل وفاة الحافظ المزي بمُدَّة، مما مكَّنه من الاطلاع على الكتاب وكتابة عنوانه. * * * _________ (1) «العقود» (ص 399).

(المقدمة/26)


- إثبات نسبته إلى المؤلف: الكتاب ثابت النسبة لابن عبد الهادي رحمه الله، ودلائل ذلك متعددة، وهي: 1 - أنه منسوب إلى الحافظ ابن عبد الهادي في جميع نسخ الكتاب الخطية، سواء على صفحة العنوان أو في ديباجة النسخة، عدا نسخة القدس (ق) فقد وهم أحد المطالعين أو ملاك النسخة فنسب الكتاب فيها إلى سيدي عبد الرحمن المقدسي! ووضع له عنوانًا مغايرًا لباقي النسخ والمصادر التي ذكرت الكتاب (1). 2 - ما كتبه الحافظ جمال الدين المزي (656 - 742) ــ رفيق شيخ الإسلام صاحب الترجمة، وشيخ ابن عبد الهادي صاحب الكتاب ــ على ظهر نسخة من الكتاب، وفيها ذكر اسم الكتاب وذكر مؤلفه، والدعاء لمؤلفه بإدامة النفع لفوائده (2). وهذا دليل لو انفرد لكان كافيًا في إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه. 3 - أن من ترجم للمؤلف ذكروا هذا الكتاب من جملة مؤلفاته، راجع مصادر ترجمته. 4 - وكذلك مَن اقتبس مِن الكتاب نَسَبه لابن عبد الهادي، كما في «الرد الوافر» (ص 64، 109، 230). وكذلك من لخّصه كالشيخ مرعي _________ (1) انظر ما سبق عند الكلام على اسم الكتاب (ص 21 ــ 23)، وما سيأتي في وصف النسخ الخطية (ص 40). (2) انظر النص كاملًا في مبحث وصف النسخ الخطية (ص 40).

(المقدمة/27)


الكرمي الحنبلي (ت 1033) في كتابه «الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية» كما ذكر في مقدمته (1). واقتبس منه في كتابه «الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية» (ص 52 - 53). 5 - أن ترجمة الشيخ من كتاب «طبقات علماء الحديث»: (4/ 279 - 296) للمؤلف متطابقة مع ترجمته هنا، لا تكاد تغادر منها شيئًا، حتى في العبارات الإنشائية التي هي من تعبيره وإنشائه، وكذلك في المعلومات والفوائد والنقول التي انفرد بها ابن عبد الهادي. مما يدل أنهما لمؤلف واحد. وأرجح أنه ألف الطبقات قبل الترجمة المفردة، بدليل أن لم يذكر في الطبقات أنه أفرد ترجمة الشيخ بكتاب مستقل. ولمَّا ذكر مؤلفاته في الطبقات قال: إنها تحتاج إلى أوراق كثيرة، ولذكرها موضع آخر. * * * - موارده: تعددت موارد المؤلف في كتابه؛ ما بين كتب، وروايات شفوية، ومشاهدات، ورسائل شخصية، أو كتب لصاحب الترجمة، أو مناظرات، وقصائد. ونستطيع القول إن المؤلف بنى كتابه على ثلاثة مصادر: _________ (1) (ص 51).

(المقدمة/28)


المصدر الأول: جماعة من الأعلام المعاصرين لشيخ الإسلام. وقد تعددت طرق نقله عنهم: - فإما أن يصرِّح بمصدر النقل، كما في نقله عن الذهبي من طبقة بخطِّه على كتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» (ص 15)، وعن ابن الزّمْلكاني مِن خطِّه على كتاب «بيان الدليل على بطلان التحليل» (ص 14)، وعن البِرْزالي من «معجم شيوخه» (ص 19). - أو يصرِّح باسم العَلَم فقط ونعلم بالمقارنة مصدره، كما نَقَل عن الذهبي في المواضع الآتية (ص 9، 33، 35، 168) وهذه النقول من رسالته «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية» (1). ونَقَل عن ابن سيِّد الناس اليَعمَري (ص 16 - 19) والنقل من كتابه «أجوبة ابن سيّد الناس على سؤالات ابن أيْبَك الدمياطي». ونَقَل عن البِرْزالي (ص 253، 332، 334، 335، 353، 444) من كتاب «المقتفي لتاريخ أبي شامة». والموضع الأخير ليس في المطبوع من كتاب أبي شامة؛ لأنه ينتهي في سنة 721 هـ. ونقل عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن رُشَيِّق المالكي في (ص 39، 42، 107) من رسالته «أسماء مؤلفات شيخ الإسلام» (2)، والنقل الأخير ليس في المطبوع من كتاب ابن رُشَيّق إذا المطبوع فيه نقص كما بيناه في «مقدمة الجامع». - أو يصرِّح باسم العَلَم ولا نعلم مصدر نقله. كما نقل عن ابن النجّار _________ (1) نَشَرتُها ضمن «تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام». (2) نشرناه ضمن «الجامع لسيرة شيخ الإسلام». وصححنا نسبته لابن رُشَيّق، وكان قد طبع منسوبًا لابن القيم.

(المقدمة/29)


(ص 4)، وابن الزملكاني (ص 13)، والمزِّي (ص 12). - وقد تكون تلك النقول خاصة بالمؤلف، بالسماع المباشر، والنقل الخاص، والمكاتبة، وهذه على نوعين: الأول: أن يصرِّح باسمه، كما قال في موضع: «أخبرني الذهبي» (ص 172)، أو: «كتب إليَّ المقاتليّ» (ص 345)، وقوله: «جلست يومًا إلى قاضي القضاة صدر الدين علي الحنفي» (ص 346). وقوله: «هكذا أخبرني أخوه زين الدين» (ص 443). الثاني: أن يُبهِم المنقول عنه ولا يصرّح باسمه؛ كنقله من نبذة في سيرة شيخ الإسلام لبعض قدماء أصحاب الشيخ (ص 10 - 11). وقوله: «بلغني عن بعض مشايخ حلب» (ص 8). وقوله: «أخبرني غير واحد» (ص 108)، وقوله: «قرأت بخط بعض أصحابه في وقعة التتر» (ص 226 - 233)، وقوله: «قرأت بخط بعض أصحاب الشيخ» (ص 308)، و «أخبرني بعض أصحابنا» (ص 342)، و «أخبرني بذلك مَن حَضَر المشورة» (ص 397)، وقوله: «أُخْبِرت» (ص 307). المصدر الثاني: النصوص والاقتباسات التي أودعها الكتاب. وهذه على نوعين: الأول: نصوص لشيخ الإسلام رحمه الله. وهي كما يلي بحسب ورودها في الكتاب: 1 - نقله للغز الرشيد الفارقي، وحلّ الشيخ له (ص 21 - 29). 2 - نقل مقدمة كتاب «تنبيه الرجل العاقل» (ص 45 - 51).

(المقدمة/30)


3 - نقل مقدمة «الحموية» ومواضع منها (ص 111 - 144). 4 - نقل مناظرات الشيخ مع ابن المرحّل (ص 145 - 167). 5 - نقله لكتاب الشيخ في حادثة غزو التتار لبلاد الشام ومقارنتها بغزوة الأحزاب (ص 173 - 226). 6 - رسالة الشيخ إلى الملك الناصر بعد غزوة جبل كسروان (ص 235 - 247). 7 - نقله لحكاية المناظرة في العقيدة (ص 262 - 306). 8 - رسائل الشيخ إلى أقاربه وهو في مصر (ص 326 - 328، 347 - 350). 9 - فتوى الشيخ في مسألة الزيارة (ص 400 - 410). 10 - ورسائله التي كتبها بالفحم من سجن قلعة دمشق (ص 438 - 442). الثاني: نصوص لغيره. 1 - نقله لكتاب «التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار» لعماد الدين الواسطي المعروف بابن شيخ الحزّامين (ص 356 - 387). 2 - أجوبة العلماء انتصارًا للشيخ في مسألة الزيارة (ص 412 - 434). 3 - قصائد الرثاء والمديح (ص 452 - 590). قلت: وهذه النصوص ــ على طولها إذ بلغت ثلثي حجم الكتاب ــ

(المقدمة/31)


مهمة جدًّا من جهة الإفادة في ترجمة الشيخ، ومن جهة أن كتابنا هذا أصبح المصدر الوحيد لأكثر تلك النصوص المنقولة، فلولا نقله لها لضاعت مع ما ضاع من تراثنا. المصدر الثالث: أخبار يرويها بنفسه من مشاهداته. وهي قليلة مقارنة بحجم الكتاب، وكان من المتوقع أن تكون مصدرًا ثرًّا في الترجمة لقرب ابن عبد الهادي من صاحب الترجمة وتتلمذه عليه. وقد تعددت عباراته في ذلك، كقوله: «جلستُ يومًا إلى قاضي القضاة صدر الدين علي الحنفي» (ص 346)، وقوله: «كنتُ أتردّد عليه، وقرأتُ الأربعين»، و «حضرتُ معه يومًا بستان الأمير الشمس لؤلؤ» (ص 395). وقوله: «بلغني عن بعض مشايخ حلب» (ص 8). وقوله: «أخبرني غير واحد» (ص 108)، وقوله: «قرأت بخط بعض أصحابه في وقعة التتر» (ص 226 - 233)، وقوله: «قرأت بخط بعض أصحاب الشيخ» (ص 308)، و «أخبرني بعض أصحابنا» (ص 342)، و «أخبرني بذلك مَن حَضَر المشورة» (ص 397)، وقوله: «أُخْبِرت» (ص 307). * * * - مباحث الكتاب، وترتيب المؤلف لها: - افتتح المؤلف كتابه بذكر نسب الشيخ ومولده، وانتقاله من حران مع أهله، ثم ذكر بعض شيوخه المسندين، ونشأته العلمية، ونبوغه المبكر، وثناء العلماء عليه وهو في صغره. ثم انتهاء الإمامة إليه في العلم والعمل

(المقدمة/32)


وهو شاب في الثلاثين. ثم ذكر نصوصًا في الثناء عليه للمزي وابن الزملكاني والذهبي وابن سيد الناس والبرزالي. (ص 3 - 20). - ثم استطرد وذكر لغز الرشيد الفارقي وجواب شيخ الإسلام عليه في أسرع وقت وله نحو العشرين. (ص 20 ــ 32). - ثم عقد فصلاً طويلاً في ذكر مصنفات الشيخ، واستفاد من رسالة مؤلفات ابن تيمية لأبي عبد الله بن رُشيّق (ت 749) وقد استوعبها أو كاد. وساق مقتطفات من بعض كتبه، مثل كتاب «تنبيه الرجل العاقل»، و «الحموية». (ص 38 ــ 144). - ثم تطرّق إلى بعض مناظرات الشيخ، فذكر مناظرتين له جرتا مع الشيخ صدر الدين ابن المرحِّل (ت 716) في «الحمد والشكر» ومناظرة في قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. (ص 145 ــ 167). وعاد من جديد إلى نقل ثناءٍ مطول للذهبي، ثم لابن دقيق العيد. (ص 168 ــ 170). - وانفصل إلى ما فعله الشيخ في نوبة غازان، ومجيء التتار بعد ذلك بعام سنة 700 هـ وقيام الشيخ في ذلك أتم قيام وسفره إلى مصر واستنهاض الهمم إلى مقاتلة التتار ... ثم ساق كتابًا مطولا للشيخ في هذه الحادثة ومقارنتها بما وقع في غزوة الأحزاب. (ص 170 ــ 228). - ثم ذكر ما كان في وقعة شقحب، وما ظهر فيها من نصر المسلمين، وكرامات الشيخ وشجاعته وقوة بأسه. وما وقع بعدها من التجهيز لغزو

(المقدمة/33)


جبل كسروان وتطهيره من أنواع المبتدعة الخارجين عن الشريعة وعلى ولاة الأمور وجماعة المسلمين. وذكر نصّ كتاب الشيخ إلى الملك الناصر بهذا الخصوص (ص 228 ــ 249). - ثم أشار إلى ما وقع للشيخ مع الأحمدية الرفاعية وبيان فساد ما هم عليه. (ص 250 ــ 251). - ثم ذكر من كلام الذهبي (مختصرًا) والبرزالي (مطوّلًا) ما وقع للشيخ من المحنة في تأليف «الحموية» عام 698 هـ، وما جرى من السؤال عن معتقده عام 705 هـ واستدعائه إلى مصر. (ص 251 ــ 263). - وبعده ذكر ما وقع للشيخ من المناظرة في العقيدة في المجالس الثلاثة المعقودة لذلك، وذكر فصلًا طويلًا من تأليف الشيخ في ذلك. (ص 264 ــ 308). - ثم استدعاء الشيخ إلى مصر، وتوجّهه إلى هناك، وما وقع له من السجن والمناظرات وغيرها (ص 309 ــ 317). - ثم ساق المؤلف عدة كتب أرسلها الشيخ من مصر إلى والدته وأقاربه وأصحابه (ص 318 ــ 330، 349 ــ 352). ــ ثم ذكر كتابًا من شرف الدين ابن تيمية إلى أخيه لأمه بدر الدين (ص 338 ــ 343). - وعاد المؤلف إلى ذكر بعض ما وقع للشيخ من أمور وأحداث بمصر مع الصوفية والغوغاء وغيرهم، ثم تسفيره إلى الإسكندرية، ثم

(المقدمة/34)


رجوعه إلى القاهرة ومقابلته للسلطان الملك الناصر معزّزًا مكرّمًا، وما جرى له في مجلسه، وعفوه عمن ظلمه، ثم إفادته للناس وبثه للعلم. (ص 330 ــ 356). - ثم ذكر رجوع الشيخ إلى دمشق ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، بعد غيبته عنها سبع سنين وسبع جُمَع. (ص 356 ــ 358). - بعده ذكر كتابًا للشيخ عماد الدين الواسطي (ت 711) في الثناء على الشيخ والوصاية به، سمّاه «التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار» (ص 358 ــ 389). - ثم ذكر ما كان من الشيخ بعد عودته، مِنْ نَشْر العلم والاجتهاد في الأحكام الشرعية، وتخَلَّص إلى ذكر بعض اختياراته الفقهية التي خالف فيها المذاهب الأربعة أو بعضها. وانفصل إلى ذكر فتياه في الحَلِف بالطلاق وما جرى له فيها من محنة وسجن. (ص 390 ــ 398). - وانتهى به القول إلى ذكر ما وقع للشيخ في مسألة شَدِّ الرحل إلى قبور الأنبياء والصالحين، ومحنة الشيخ وسجنه، وذكر صورة الفتيا التي أوجبت ذلك، ثم ذَكَر انتصار علماء بغداد والشام وغيرهم له في المسألة وإرسالهم بكتب كثيرة بموافقة الشيخ والالتماس من السلطان الإفراج عنه، وأنه لم يخالف العلماء، بل قال ما أداه إليه اجتهاده الذي قد سبق إليه. (ص 398 ــ 437). - ثم ذكر وفاة الشيخ شرف الدين عبد الله ابن تيمية أخي الشيخ سنة 727 هـ (ص 438 ــ 439).

(المقدمة/35)


- ثم وصف حاله في سجنه بقلعة دمشق، وما آل به الحال إلى إخراج الكتب والأوراق والدواة والقلم، وما كان حاله من التعبد والتلاوة والذكر. ثم ذكر أن الشيخ كان يكتب لأصحابه أوراقًا بعضها مكتوب بالفحم، وساق رسالتين منها. (ص 440 ــ 445). - ثم ذكر وفاة الشيخ، ومن دخل عليه وغسله، ووصف جنازته وكثرة اجتماع الناس فيها، كل ذلك من كلام البرزالي. ثم ذكر أبياتًا وجدت بخطه قالها بالقلعة. (ص 446 ــ 453). - وانتهى إلى ذكر بعض المدائح والمراثي التي قيلت في الشيخ، فساق طرفًا صالحًا منها يقارب حجمها خُمس الكتاب. (ص 454 ــ 546). وبعد هذا العرض الموجز لموضوعات الكتاب بحسب ترتيب المؤلف لها أسجّل ملاحظتين: الأولى: أن الكتاب كان بحاجة إلى مزيد من الترتيب والتسلسل في ذكر الأحداث والمواقف، ولعل المنيّة عاجلت المؤلف فلم يتمكن من إعادة النظر فيه إذ توفي شابًا دون الأربعين، ولعل قوله لما ذكر مؤلفاته (ص 107): «وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من أسماء مؤلفاته في موضع آخر غير هذا ... وأرتبه ترتيبًا حسنًا غير هذا الترتيب .. » يشهدُ لما قُلته. الثانية: هناك حوادث لم يذكرها المؤلف في كتابه، وقد ذُكرت في المصادر الأخرى، وكان من المتوقع أن يذكرها المؤلف لأهميتها وشهرتها، مثل حادثة عسَّاف النصراني وتأليف شيخ الإسلام على إثرها كتاب «الصارم المسلول»، وحادثة تكسيره للأحجار والأصنام التي كانت بدمشق، ووصف ما جرى له في مجلس غازان، إلى غير ذلك من الحوادث والماجَرَيات. وربما يعود

(المقدمة/36)


ذلك أيضًا إلى ما أسلفته في الفقرة السالفة. * * *

  - أهمية الكتاب وأثره فيمن بعده:

سلف القول إن هذا الكتاب هو أهم كتاب في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتتضح أهميته من النقاط الآتية: - أن مؤلفه من تلاميذ شيخ الإسلام، الآخذين عنه، وقد عاصر كثيرًا من الأحداث التي جرت، وأخذ عمن عاصرها. - أنه أوسع كتاب في ترجمة الشيخ، سواء من المعاصرين له أو ممن جاء بعدهم. - أن المؤلف متثبِّت في أخباره وسياقه للنقول، فهو إما يعزو إلى كتاب معروف ذاكرًا اسمه، أو إلى طبقة سماع نقل منها، أو ينقل من خطوط أصحاب الكتب، أو ينقل من خط الشيخ، أو من خط بعض أصحابه. أو يعتمد على سماعاته من الرواة أو مشاهداته. - أنه حفظ لنا نصوصًا عزيزة وكتبًا نادرة لم تعرف إلا من خلال هذا الكتاب، منها مقدمة «تنبيه الرجل العاقل» التي ساقها بتمامها، ومناظرات الشيخ مع ابن الوكيل، وكتاب الشيخ في حادثة غزو التتر، ومقارنتها بما قصّه القرآن يوم الأحزاب، وكتاب عماد الدين الواسطي «التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار»، ورسائل الشيخ إلى أقاربه وأصحابه، ورسائله من السجن، والكثير من القصائد التي مُدِح بها الشيخ. فهذه الميزات جعلت منه عمدة لمن جاء بعده ممن كتب في ترجمته،

(المقدمة/37)


سواء في الكتب المفردة، أو الدراسات المعاصرة، فقد نقل منه: 1 - ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842) في «الرد الوافر» في مواضع (ص 64، 109، 230). 2 - ولخّصه الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي (ت 1033) في كتابه «الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية» كما ذكر في مقدمته (1). 3 - واقتبس منه أيضًا في كتابه «الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية» (ص 52 - 53). 4 - واقتبس منه العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1342) في كتابه «غاية الأماني في الرد على النبهاني»: (1/ 500). 5 - وتوسعت مدى الإفادة منه بعد طبعه سنة 1356 هـ؛ فصار عمدة التراجم التي يرجع إليها، فلا تخلو دراسة عن ابن تيمية من النقل عن هذا الكتاب أو الإشارة إليه. * * * - طبعات الكتاب: للكتاب عدة طبعات: 1 - طبعة مكتبة السنة المحمدية، تحقيق محمد حامد الفقي رحمه الله، وهي الطبعة الأولى للكتاب سنة 1356 هـ. وقد اعتمد فيها _________ (1) (ص 51) فقد كان عمدته مع كتابين آخرين هما: «الأعلام العلية» للبزار، وترجمة ابن فضل الله العمري من كتاب «مسالك الأبصار».

(المقدمة/38)


على نسخة خطية واحدة كانت من ممتلكاته، ثم آلت أخيرًا إلى مكتبة إحياء التراث بدولة الكويت، وهي التي رمزت لها بـ (ك). وقد استفدت منها وأشرت إليها بـ (ط). 2 - طبع بمطبعة المدني، بتقديم علي صبح المدني. بدون تاريخ نشر أو رقم الطبعة. 3 - طبعة الفاروق الحديثة للنشر والتوزيع، سنة 1422 هـ بتحقيق طلعت بن فؤاد الحُلواني. واعتمد فيها على نسختين خطيتين، الأولى نسخة الكويت (ك)، والثانية نسخ القدس (ق). 4 - طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مركز السيرة والسنة النبوية بوزارة الأوقاف بجمهورية مصر العربية، سنة 1423 هـ بتحقيق الدكتور محمد السيد الجليند. بعنوان: كتاب الانتصار في ذكر أحوال قامع المبتدعين وآخر المجتهدين تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية (1). واعتمد في تحقيقه على النسختين السالفتين في طبعة الفاروق. 5 - طبعة دار الكتب العلمية سنة 1426 هـ، بتحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل، ضمن مجموع يحوي خمسة كتب في ترجمة ابن تيمية، وكتابنا هو الثاني من (ص 51 - 316). ولم يذكر على أي شيء كان اعتماده، ويبدو أنه على إحدى طبعات الكتاب. _________ (1) انظر في نقد هذا العنوان ما سبق (ص 21 ــ 22).

(المقدمة/39)


6 - طبعة دار الكتاب العربي، ببيروت، صورة من تحقيق محمد حامد الفقي. * * * -مخطوطات الكتاب: 1 - نسخة كوبريللي «الأصل» رقم (1142): تقع في (166) ورقة، كتبت سنة (758) بخط عبد الرزاق بن محمد بن أحمد بن أبي الفتح بن علي الحلبي البزاز. نصّ على ذلك في صفحة العنوان كما سيأتي نقله. في كل ورقة 20 سطرًا، وخطها نسخي جميل، مضبوط بالشكل، ولا يخلو من خطأ فيه. وقد وقع خَلْط في ترتيب أوراقها من (ق 79 ــ 106)، يبدو أنه ناتج عن انفراط أوراق الكتاب فلم يحسن مَن جَمَعَه ترتيبَ أوراقِهِ، ثم رُقِّمت أوراقه بهذا الخلط، وقد أعدناها إلى الصواب مستفيدين من التعقيبة التي التزمها الناسخ ومن مخطوطات الكتاب الأخرى. جاء عنوان الكتاب كما في ظاهر النسخة: «هذا كتاب مختصر في ذكر حال شيخ الإسلام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني وذكر بعض مناقبه ومصنفاته رضي الله عنه وأثابه الجنة بفضل رحمته آمين». ثم كتب تحتها: «جمع الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن

(المقدمة/40)


عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي، أدام الله النفع بفوائده». ثم كتب تحتها بالخط نفسه: «نقلتُ هذه الترجمة من خط الشيخ جمال الدين المِزِّي رحمه الله ورضي عنه». وعَنى «بالترجمة» عنوان الكتاب، لا النسخة بتمامها كما فهمه ناسخ (ب) وغيره. ثم كُتب بخط مغاير عدة أسطر، مُحِيَت بحيث لم يبق لها أثر يُستدلّ به على ما كان فيها، غير أنّ من محاها أبقى آخرها وهو «وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم». ووضع على هذا الكلام المطموس ختم وقفية الكتاب وفيه: «هذا مما وقفه الوزير أبو العباس أحمد بن الوزير أبي عبد الله محمد عُرِف بكوبرولو، عفى الله عنهما» وبجواره رقمه في المكتبة. ثم أسفل منه من جهة اليمين عبارة قد أتى على بعضها تآكل الورقة: « ... للعبد الحقير ... بن أحمد بن .... من فوائده وفرائده ... مؤلفه بمنه وكرمه». وبجواره ختم صغير كتب عليه: «إنما لكل امرئٍ ما نوى». وبجواره إلى جهة اليسار عبارة لناسخ الأصل ونصها: «كتبه لنفسه بيده الجانية الفانية أحوج عبيد الله إلى المغفرة: عبد الرزاق بن محمد بن أحمد بن أبي الفتح بن علي الحلبي البزار (1). عامله الله بلطفه». _________ (1) لم أعثر على ترجمته. وقد أعاد اسمه في (ق 190) في آخر رسالة عبد الله بن حامد إلى ابن رشيق.

(المقدمة/41)


ثم كتب تحته بخط آخر: «نظر فيه العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن إبراهيم بن نصر الله أحمد بن محمد بن إبراهيم الكناني العسقلاني الحنبلي ... (1). وتحته أيضًا: «نظر فيه الفقير إلى الله تعالى ......... البهوتي الحنبلي لطف الله به آمين ... سنة 974». وينتهي الكتاب بالورقة (166 ب) وفيها قصيدة ابن فضل الله العمري في رثاء شيخ الإسلام. وقال الناسخ: «آخر ما اخْتُصِر من المناقب، والحمد لله رب العالمين، وصلاته على محمد وآله وصحبه أجمعين». ثم ألحق الناسخ بالكتاب عدة رسائل لها تعلق بترجمة شيخ الإسلام وهي: رسالة شيخ الإسلام إلى الملك الناصر (ق 174 ــ 179). ترجمة شيخ الإسلام لابن فضل الله العمري (ق 180 ــ 187). رسالة عبد الله بن حامد إلى ابن رشيق (ق 188 ـ 190). رسالة عبد الله بن حامد إلى ابن بُخيخ (ق 191 ــ 197). وفي آخرها بين تاريخ نسخها قال: «وفُرغ منه يوم الأحد الثاني من شهر جمادى الأولى من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، غفر الله لمن نظر فيه أو سمعه ودعا لكاتبه بالمغفرة والرحمة آمين». _________ (1) (ت 876) من كبار علماء الحنابلة بمصر. ترجمته في «الضوء اللامع»: (1/ 130).

(المقدمة/42)


وقد قسمها الناسخ إلى أجزاء، كل جزء عشر ورقات، يشير إلى ذلك في ركن الورقة الأيسر، فبلغت أجزاء النسخة سبعة عشر جزءًا، عدا ما ألحق بالكتاب من الرسائل السالف ذكرها. وتعتبر هذه النسخة أهم نسخ الكتاب وأقدمها، وهي جيدة، وأخطاؤها قليلة، وعليها علامات التصحيح والمقابلة، مما يدل أنها قد عورضت بأصلها، وقد أثبت الناسخ قيد المقابلة بالأصل كل عشر ورقات من أول الكتاب إلى آخره، انظر (ق 19 ب، 29 ب، 39 ب، 49 وهكذا) ومن عباراته في ذلك (ق 190 ب): «بلغ مقابلة حسب الطاقة، وكتب ليلاً ونهارًا». وهذه النسخة تتفق مع النسخ الأخرى في ترتيب موضوعاتها في عموم الكتاب، مع بعض الزيادات التي انفردت بها، كرسالة شيخ الإسلام إلى أخيه لأمه بدر الدين أبو القاسم. غير أنها تختلف اختلافًا كثيرًا عما في نسخ (ف، ح، ك، د) من حيث عدد قصائد الرثاء وترتيبها وعدد الأبيات. 2 - نسخة القدس (ق): نسخة محفوظة في مكتبة الشيخ خليل الخالدي بالقدس رقم 42/ 429، عدد أوراقها 142 ورقة ــ بترقيمي، في كل ورقة 13 سطرًا، في كل سطر من سبع إلى تسع كلمات فقط. ومنه صورة على ميكروفلم في معهد المخطوطات العربية رقم (913). وهي من منسوخات القرن التاسع تقديرًا. والورقة الأخيرة (ق 142) أُكملت بخط مغاير. على صفحة عنوانها كتب: «كتاب الانتصار في ذكر أحوال قامع المبتدعين وآخر المجتهدين تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية تغمده الله برحمته».

(المقدمة/43)


ثم كتب تحتها: «تصنيف العلامة الأوحد الفهامة سيدي الشيخ عبد الرحمن المقدسي عفى الله عنه آمين». وبمحاذاة العنوان من جهة اليسار كتب تملّكٌ نصّه: «في نوبة الفقير عبد الله الحنبلي عُفي عنه». وهذا العنوان وما بعده بخط مغاير لخط النسخة، فلعله بخط أحد المطالعين أو متملّكي النسخة، فإما أن يكون قد رأى النسخة غُفْلاً من العنوان، أو سقطت منها ورقة العنوان، فاجتهد في كتابة عنوان الكتاب واسم مؤلفه، فلم يصب في شيء منهما! فأما العنوان فسبق الكلام عليه في مبحث مفرد، وأما المؤلف فواضح الأمر. والنسخة ناقصة الآخر، تنتهي عند قوله: «وفي ثاني يوم بعد صلاة الجمعة جمع القضاة وأكابر الدولة بالقلعة لمحفل الشيخ، وأراد الشيخ أن يتكلم، فلم يمكَّن من البحث والكلام» (ص 305) من طبعتنا. وهي نسخة جيدة يغلب عليها الصحة، وإن لم تخل من أوهام. لكن أُقْحِم في أثناء النسخة (ق 8 ــ 60) كتاب «الحموية» لشيخ الإسلام رحمه الله، فقد ساق المؤلف مقدمته وبعضًا من مباحثه، لكنها هنا مستوفاة بتمامها. والذي يظهر لي أن نسخة «الحموية» هنا ليست من الكتاب بل ولا من ناسخه، بل هي ملفّقة وأدخلت في هذا الكتاب وهي ليست منه، إما ممن جلّد الكتاب أو ممن رتب أوراقه، بدليل واضح وهو اختلاف الخط واختلاف مقاس الصفحة وعدد الأسطر، بحيث لا يبقى أدنى شك في أن هذه النسخة من الحموية ليست من الكتاب في شيء، بل هي مقحمة فيه. أما من قال: إن سياقها بتمامها يعتبر الإخراج الأول للمؤلف ثم رأى في

(المقدمة/44)


الإخراج الثاني الاكتفاء ببعضها (1)؛ فهو قول بعيد مجانب للتحقيق. وقد وقع فيها بعض العيوب في مواضع، منها: طمس نصف صفحة (ق 54)، ووقع سقط في موضع آخر (ق 15 ــ 18). 3 - نسخة مكتبة الملك فهد (ف): كتب عنوانها: «كتاب العقود البهيّة في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية». تأليف الشيخ الإمام الحافظ المحقق أبي عبد الله بن محمد بن عبد الهادي رحمه الله تعالى ورضي عنه آمين، وسائر المسلمين، وصلى الله على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين. ثم كتب تحته بالخط نفسه تاريخ 1285 هـ. وعلى صفحة الغلاف ختمان، الأول: كتب عليه: «وقف الشيخ محمد بن عبد اللطيف 1381». والثاني: كتب عليه: «مكتبة الرياض العامة السعودية رقم 524/ 86، بتاريخ 15/ 10/ 1392 هـ. ثم آل أخيرًا إلى مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، ومنها حصلنا على هذه الصورة، أحسن الله إليهم. عدد صفحاتها (218 صفحة) أي 109 ورقات، وهي كاملة، كتبت سنة (1284) كما جاء في خاتمتها: «وكان الفراغ منها صبيحة يوم الجمعة حادي عشر من ذا (كذا) القعدة سنة 1284». وهي نسخة جيدة في الجملة، وإن لم تخل من التصحيف أو السقط _________ (1) انظر مقدمة د. الجليند لطبعته (ص 37).

(المقدمة/45)


وعلى هوامشها أنواع من التقييدات، فمنها: اجتهادات للناسخ في قراءة بعض الكلمات، كان يقول: «لعله كذا ... »، وبعض الاستدراك للسقط مما يدل أنها قد قُوبلت، وبعض التوضيح للكلمات مصحوبة بكلمة (بيان)، وبعض العناوين للمباحث الواردة في الكتاب، وبعض التقييد للفروق بين النسخ مما يدل أن الناسخ كان بين يديه نسخة أخرى، أو كانت هذه التقييدات على نسخة الأصل فنقلها كما هي، ويشير إلى ذلك إما بـ (ن) أو (خ). وهناك رمز آخر وهو (ظ) يشير إليه غالبًا إلى إشكال في الكلمة أو بيت الشعر. 4 - نسخة الكويت (ك): نسخة محفوظة في مركز المخطوطات والتراث والوثائق بالكويت رقم (97 ــ 64) تقع في (165) صفحة من القطع الكبير، يتفاوت عدد الأسطر من 28 ــ 33 سطرًا. وهي بخط فارسي جميل واضح محرر. وقد كانت من ممتلكات الشيخ محمد حامد الفقي ثم آلت إلى المركز المذكور. وتاريخ نسخها ــ كما جاء في آخرها ــ يوم الاثنين 12 شوال سنة 1312 هـ. وقد تعاور على نسخها أخوان عالمان، جاء في آخرها ما نصه: «وقع الفراغ التام من نسخ الكتاب المستطاب من أوله إلى صفحة 115 بيد أبي عبد الله محمد بن حسن (1) سلمه ربه. ومن صفحة 116 إلى آخره بيد أبي إسماعيل يوسف حسين بن محمد حسن الصابر الحنيف السني المحمدي، رواح يوم الاثنين 12 شوال سنة 1312 الهجرية، على صاحبها أنمى الصلاة وأزهى التحية. _________ (1) فوقها (رح) في الموضعين، يقصد الترحم على والده حسن.

(المقدمة/46)


ستبقى خطوطي في الدفاتر برهة ... وأنملتي تحت التراب رميم والحمد لله» اهـ. ترجمة الناسِخَين: 1 ــ محمد بن محمد حسن الخانـپـوري: من علماء الهند، من تلاميذ الشيخ نذير حسين الدهلوي، له مناظرات كثيرة وبعض التصانيف، ترجم له ابنُه ترجمة طويلة في كتاب «تذكرة علماء خانـپـور- بالأوردية» (ص 143 ــ 191). 2 ــ يوسف حسين بن محمد حسن الخانـپـوري: من علماء الهند، ومن تلاميذ الشيخ نذير حسين الدهلوي، له مصنفات كثيرة بالعربية والأردية، وهوممن له عناية بمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ترجم له ابن أخيه ترجمة طويلة في «تذكرة علماء خانـپـور» (ص 193 ــ 249) (1). وقد ذكر الشيخ الفقي في تقدمته للعقود (ص 13) أن للكتاب نسخة وحيدة ــ فيما يعلم ــ في المكتبة الظاهرية بدمشق، وعنها أخذت هذه النسخة (ك) ونقلها هذان العالمان الهنديان. أقول: وليس في خاتمة هذه النسخة ذِكْر للأصل الذي نُسِخت منه. _________ (1) وله ترجمة في «نزهة الخواطر»: (8/ 1404 - ابن حزم).

(المقدمة/47)


ولا في المكتبة الظاهرية ــ الأسد الآن ــ أثر لهذه النسخة التي ذكرها الشيخ الفقي! فالله أعلم. وهذه النسخة على تأخّرها نسخة جيدة، تستحق أن يقابل عليها ويُستفاد منها، وقد رفع من شأنها أنها بخط عالمين من علماء الهند، وقد قوبلت على نسخة أخرى كما يظهر من بعض هوامشها الإشارة إلى ذلك، ويحتمل أن هذه الفروق منقولة من نسخة الأصل، كما هو مصرح به في مواضع من النسخة. وعن هذه النسخة طُبع الكتاب أول ما طُبع. وللشيخين الفاضلين يوسف العلي ووليد العَلي أجمل الثناء لتفضلهما بتصوير النسخة وإرسالها. ولصاحبنا الشيخ زاهر بالفقيه أيضًا شكر موصول لمقابلته الجيدة لأكثر هذه النسخة ونسخة (ف). 5 - نسخة مكتبة الحرم المكي (ح). نسخة محفوظة في مكتبة الحرم المكي رقم (2854 تراجم). وهي في (155 ورقة) من القطع الصغير. وينتهي الكتاب إلى الورقة 153 وبعده ورقتان بهما فوائد من كتب أخرى. وهي نسخة تامة، كتبت في جمادى الآخرة سنة 1295 هـ بخط عبد الرحمن بن عبد العزيز بن محمد بن فوزان. كتب عنوانها هكذا: «العقود الدرية في ذكر بعض مناقب ابن تيمية». وهذا من فوائد هذه النسخة على تأخرها، إذ لم ترد هذه التسمية إلا في هذه النسخة.

(المقدمة/48)


ولمدير مكتبة الحرم وافر الشكر على الإذن بتصوير نسخة منها على cd. 6 - نسخة الملك سعود (د): نسخة في جامعة الملك سعود بالرياض رقم (1639 ــ مجاميع)، وهي ضمن مجموع يحوي تسع رسائل، ويقع كتابنا في (ق 31 ــ 128) أي نحو 100 ورقة. وهي نسخة متأخرة جدًّا كُتبت سنة (1352 هـ) بخط ناسخ المجموع عبد الله بن إبراهيم بن محمد الربيعي (1). كتب على ورقة العنوان: «كتاب العقود البهية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف الشيخ الإمام الحافظ المحقق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي رحمه الله تعالى، ورضي عنه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء، آمين». ثم كتب بشكل دائري يحيط بالعنوان: «مما منَّ الله به على عبده وابن عبده وأمَتِه عبد الله بن إبراهيم الربيعي، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولمن أحسن إليه والمسلمين أجمعين آمين». وجاء في آخرها: «تم هذا المجموع المبارك ضحوة الأربعاء سادس _________ (1) وقد لقب نفسه في آخر رسالة شيخ الإسلام في العلو التي بخطه بـ «الحنبلي السلفي». وهو ناسخ معروف من أهل القصيم ثم انتقل إلى الرياض واشتغل بنسخ الكتب (ت 1368). انظر «مجلة الدرعية» عدد 6، 7، س 2، سنة 1420 ص 140 ــ 180، بحث للدكتور راشد القحطاني. وعنه «ناسخو المخطوطات النجديون» (ص 110) لخالد المانع.

(المقدمة/49)


رجب الفرد من سنة اثنتين وخمسين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة. نقل من نسخة كثيرة الغلط، اجتهد الكاتب فيما تيقَّن من تصليح غلط الكاتب الأول. فجزى الله الجميع خير الجزاء، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم آمين». وقد قابلها الناسخ على نسخة أخرى، وعلق الفروق على طرر النسخة، وكان يشير إليها بـ (ن)، وقد أشار في آخرها إلى أنه قابلها على نسختين غير الأصل. والغريب أنه قد قابلها على النسخة المطبوعة، كما نصَّ على ذلك في (ق)، وكان يصلح النص منها فيما يظهر لموافقة إصلاحاته للنسخة المطبوعة في مواضع كثيرة. ولجامعة الملك سعود الموقرة خالص الشكر؛ إذ أتاحت الإفادة من ذخيرة مكنوناتها العلمية على الشبكة. 7 - نسخة باريس (ب): وهي نسخة محفوظة في المكتبة الوطنية بباريس برقم (566)، وتقع في (35 ورقة) من القطع الكبير. في كل ورقة 35 سطرًا تقريبًا. حصلت على نسخة منها من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية جزاهم الله خيرًا. جاء عنوانها مطابقًا لعنوان نسخة الأصل «هذا كتاب مختصر في ذكر حال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن

(المقدمة/50)


عبد الحليم ابن تيمية الحراني ... ». ثم كتب تحته: «نقلت هذه الترجمة من نسخة نُقِلت من خط الشيخ جمال الدين المزي». فالظاهر أنها منقولة من نسخة الأصل (كوبريللي)؛ لأنها كثيرة الموافقة لها في القراءة والترتيب. وفهم ناسخها أن نسخة الأصل منقولة من خطّ المزّي، وليس كذلك، فليس المنقول من خطِّه إلا عنوان النسخة، واسم مؤلفها فقط. إلا أن ناسخها عَمَد إلى اختصار جملة من نصوص الكتاب، وهي تلك النصوص التي يذكرها المؤلف نقلاً من كتب شيخ الإسلام، كما هو الحال في نقله لمواضع من «الحموية»، أو للمناظرات مع ابن الوكيل، أو رسالة الشيخ في واقعة التتار وموافقتها لما وقع في غزوة الأحزاب .. فكان يختصر هذه المواضع ويشير إلى ذلك بقوله: «ثم ساق المؤلف بقية ... وحذفناه اختصارًا» أو نحو هذه العبارة. وقد أشرت إلى كل هذه الاختصارات في هوامش الكتاب. وتنتهي النسخة (ص 512) من المطبوعة، ولم يُشْعِر الناسخ بانتهائها إلا بعلامة الدائرة المنقوطة|⊙|ويظهر على صفحة عنوانها عدة تملّكات أحدها مؤرخ في غرة رجب سنة 1082. تنبيه: ذكر الشيخ زهير الشاويش في (ص 64) هامش 3 من تحقيقه لـ «الرد الوافر» عن الشيخ الألباني قوله: إن من هذا الكتاب نسخة جيدة في مكتبة أوقاف حلب، كما في الفهرس الذي كنت قد جمعت فيه منذ سنين

(المقدمة/51)


منتخبًا من كتب الحديث في المكتبة المذكورة. اهـ. ولا أعلم مِنْ أمر هذه النسخة شيئًا. * * *

  - منهج التحقيق:

سبق أن شرحت طريقة التحقيق في غير كتاب حققته ضمن هذا المشروع المبارك بإذن الله، فالقول هنا كالقول هناك، غير أني أذكر هنا ما يخص هذا الكتاب فأقول: قد توفر لنا بحمد الله تعالى مجموعة من نسخ الكتاب الخطية، أقدَمها نسخة كوبريللي بتركيا، فقد كُتِبت بعد موت المؤلف بأربعة عشر عامًا، فعليها كان الاعتماد في إثبات النص، ولم نكن نعدل عنها إلا لخطأ بيِّن أو سقط يخل بالكلام. وكانت نسخة باريس (ب) تتفق مع الأصل في كثير من المواضع، وكذلك نسخة القدس (ق)، فلعل هذه النسخ تعود إلى أصل واحد. وأثبتّ فروق النسخ الأخرى في هامش النص، وكذلك الزيادات التي تفرَّدتْ بها عن الأصل ما لم يكن النص يقتضيها كما سلف. وكانت نسختا (ف) و (ك) غالبًا ما تتفق، وإن كان بينهما خلاف في مواضع دَلَّني على أن (ك) لم تنسخ من (ف). أما نسختا مكتبة الحرم المكي (ح) ومكتبة الملك سعود (د) فكنت أراجعهما عند الإشكال أو للتأكد من صحة كلمة أو نحوها، ولم أثبت فروقهما في الهوامش إلا في مواضع قليلة، وهما منسوختان في غالب

(المقدمة/52)


الظن من نسخة (ف) وإن لم تنصَّا على ذلك. وجريتُ في إثبات نص الكتاب على ما في نسخة الأصل، ولم يكن الخلاف بين النسخ واسعًا في ترتيب مباحث الكتاب بل كان محدودًا، إلا في آخر الكتاب عند ذكر القصائد التي رُثي بها الشيخ رحمه الله، فقد كانت نسخة الأصل تخالف من حيث الترتيب وعدد القصائد بقية النسخ، فاعتمدنا ما فيها عددًا وترتيبًا، ثم ألحقتُ في آخر الكتاب القصائد التي لم ترد في الأصل وجاءت في النسخ الأخرى، حتى لا تفوت الفائدة. وقد استفدت كثيرًا في تقويم نصوص الشعر ــ وقد بلغت في الكتاب أكثر من 150 صفحة ــ من أخويّ الفاضلين: الشيخ محمد أجمل الإصلاحي، والشيخ محمد عزير شمس. وواضح من نسخة الأصل أن الكتاب ينتهي عند هذا العدد من القصائد، ولعل هذا العدد هو الذي كتبه المؤلف رحمه الله، ثم جاء مَنْ بعده فأضاف ما وجده من قصائد وألحقها بالكتاب، فنُسِخت بعد ذلك على أنها منه. وقلْ مثل ذلك في رسالة الشيخ عبد الله بن حامد الشافعي، والقصيدة التائية في القَدَر، فلا وجود لهما في الأصل، وهما في النسخ الأخرى. وقد جاءت أيضًا في النسخ في غير مكانها المناسب، فجاءت رسالة عبد الله بن حامد في أثناء قصائد الرثاء، والتائية في القَدَر في أول قصائد الرثاء بعد ذِكْر وفاة الشيخ. ولم نذكرهما في ملحق الكتاب؛ لأن التائية مطبوعة في

(المقدمة/53)


«الفتاوى»: (8/ 245 ــ 255) (1)، ورسالة عبد الله بن حامد مطبوعة في «الجامع»: (ص 241 ــ 245). وأُشير أيضًا إلى أني قد قابلت نصوص الرسائل التي ينقلها المؤلف أو ينقل بعضها بأصول أخرى، فمثلًا «الحموية» قابلت ما نقله المصنّف منها بنسخة خطية قديمة لم تُستخدم في أيّ من طبعاته، وذكرتُ فروقها في الهامش. والمناظرات مع ابن الوكيل قابلتها بما في «الفتاوى»، و «التذكرة والاعتبار» قارنتها بما في «الجامع» وهكذا. هذا ما يتعلق بنسخ الكتاب وإثبات النص منها. أما التعليق على النص، فقد حَرَصت على ذكر ما لم يذكره المؤلف من مصادر الترجمة الأخرى ما لم تكن في «الجامع»، أو كانت وكان النص يقتضي التعليق عليها، وهي فوائد قليلة. وترجمتُ للأعلام الذين ذكرهم المؤلف تراجم موجزة. أما كتب شيخ الإسلام التي ذكرها المؤلف في مبحث طويل، فقد أوليتها بعض العناية، فذكرتُ مَن ذكر الكتاب غير المؤلف، وذكرت المطبوع منها وأين طُبع، وأشرت إلى أحسن الطبعات للكتاب غالبًا إن تعددت طبعاته، وحرصت على المقارنة بين ما ذكره المؤلف وبين رسالة أبي عبد الله ابن رُشَيّق في «أسماء مؤلفات شيخ الإسلام» (2)، كلّ ذلك بألطف إشارة وأقرب عبارة. _________ (1) المطبوعة في «الفتاوى» تزيد على التي في نسخ «العقود» بنحو عشرين بيتًا. (2) وهو بتمامه في «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (ص 282 ــ 311).

(المقدمة/54)


وعلقتُ على نصّ الكتاب بما رأيته يفيد القارئ ولا يطيل الكتاب، فأرجو أن أكون وفقت في ذلك أو في بعضه. ثم ختمت نصّ الكتاب بأمرين هما: أولاً: القصائد التي لم تذكر في نسخة الأصل وهي في النسخ الأخرى. ثانيًا: ختمته بفهارس كاشفة لفظية وعلمية. ثم ألحقتُ به: كتاب «الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية» لأبي حفص عمر بن علي البزّار (ت 749). وبيّنتُ هناك في مقدمته (ص 731) سبب إلحاقه بـ «العقود الدرية». وقدّمتُ قبل ذلك مقدمةً ذكرتُ فيها ترجمة مختصرة لمؤلف الكتاب، ثم عرفت بالكتاب بعدة مباحث. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وكتب علي بن محمد العمران في مكة المكرمة حرسها الله 14/ 5/ 1431 هـ [email protected]

(المقدمة/55)


نماذج من النسخ الخطية

(المقدمة/57)


ورقة العنوان من نسخة كوبريللي (الأصل)

(المقدمة/59)


الورقة الأولى من نسخة كوبريللي (الأصل)

(المقدمة/60)


الورقة الأخيرة من نسخة كوبريللي (الأصل)

(المقدمة/61)


ورقة العنوان من نسخة المكتبة الخالدية بالقدس (ق) ويبدو واضحًا أنه بخط مغاير، والخطأ في اسم المؤلف

(المقدمة/62)


الورقة الأولى من نسخة المكتبة الخالدية بالقدس الشريف (ق)

(المقدمة/63)


ورقة العنوان من نسخة مكتبة الملك فهد الوطنية (ف)

(المقدمة/64)


الورقة الأولى من نسخة مكتبة الملك فهد الوطنية (ف)

(المقدمة/65)


الورقة الأخيرة من نسخة مكتبة الملك فهد الوطنية (ف)

(المقدمة/66)


الورقة الأولى من نسخة الكويت - مركز إحياء التراث (ك)

(المقدمة/67)


الورقة الأخيرة من نسخة الكويت - مركز إحياء التراث (ك)

(المقدمة/68)


ورقة العنوان من نسخة باريس (ب)

(المقدمة/69)


الورقة الأولى من نسخة باريس (ب)

(المقدمة/70)


الورقة الأخيرة من نسخة باريس (ب)

(المقدمة/71)


ورقة العنوان من نسخة مكتبة الحرم المكي الشريف ويبدو الاسم واضحا (العقود الدرية)

(المقدمة/72)


الورقة الأخيرة من نسخة مكتبة الحرم المكي الشريف (ح)

(المقدمة/73)


ورقة العنوان من نسخة الملك سعود (د)

(المقدمة/74)


الورقة الأولى من نسخة الملك سعود (د)

(المقدمة/75)


الورقة الأخيرة من نسخة الملك سعود (د)

(المقدمة/76)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على نبيِّه محمد وآله وسلم تسليمًا. قال الشيخ الإمام الحافظ المحقِّق أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، رحمه الله ورضي عنه، وأثابه الجنةَ بفضله ورحمته، وإيَّانا وسائر المسلمين (1). الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا (2). أما بعد، فهذه نبذةٌ يسيرة مختصرة في ذِكر حال سيِّدنا وشيخنا، شيخ الإسلام، تقيِّ الدين أبي العباس أحمد (3) ابن تيميَّة ــ رحمه الله ورضي عنه، وأدخله (4) الجنةَ برحمته ــ وذِكْرِ بعضِ مناقبه وبعض مصنَّفاته. هو الشيخ الإمام الربَّاني، إمام الأئمة، ومفتي الأمَّة، وبحر العلوم، سيِّدُ _________ (1) هذه الديباجة من الأصل، وهي بنحوها في (ك، ف) بدون التصلية. وبعد البسملة في (ق): «حسبي الله»، وزاد في (ك): «ونعم الوكيل». وفي (ف): «بفضل رحمته». (2) ليست في (ب). (3) ليست في (ب). (4) (ك): «وأثابه».

(الكتاب/3)


الحفَّاظ، وفارس المعاني والألفاظ، سيِّدُ (1) العصر وقريعُ الدهر (2)، شيخ الإسلام، بَركةُ الأنام علَّامة الزمان وتَرْجمان (3) القرآن، عَلَم (4) الزُّهّاد وأوحد العُبَّاد، قامعُ المبتدعين وآخِر المجتهدين: تقيُّ الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن أبي محمد عبد الله ابن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله (5) ابن تيميَّة الحرَّاني. نزيلُ دمشق، وصاحبُ التصانيف التي لم يُسْبَق إلى مثلها. قيل: إن جدَّه محمد بن الخضر حجَّ على دَرْب تَيْماء (6)، فرأى هناك طِفْلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت [ق 2] له بنتًا فقال: يا تيميَّة يا تيميَّة! فلُقِّب بذلك. _________ (1) بقية النسخ عدا الأصل: «فريد». (2) «وقريع الدهر» سقطت من (ف). (3) (ب، ق): «ترجمان» بدون واو. (4) من هنا إلى قوله ص 12: «ثم ذكر» ساقط من (ق). (5) (ف): «بن محمد بن علي عبد الله». (6) تَيماء: بالفتح والمد. بلدة في أطراف جزيرة العرب بين الشام ووادي القرى على طريق حاج الشام ودمشق. انظر «معجم البلدان»: (2/ 67). وهي الآن تابعة لأمارة مدينة تبوك وبينهما (264) كيلًا. انظر «المعجم الجغرافي للسعودية» (1/ 322 ــ المختصر). وقال ابن ناصر الدين الدمشقي في «التبيان لبديعة البيان ــ الجامع» (ص 492): «ومن زعم أن أمهم من وادي التيم فقد تقوَّل، وليس بصحيح ما عليه عوَّل».

(الكتاب/4)


وقال (1) ابنُ النجَّار (2): ذُكِرَ لنا أن جدَّه محمدًا كانت أمه تسمى تيميَّة، وكانت واعظة، فنُسِب إليها وعُرِفَ بها. ولد شيخُنا أبو العباس بحرَّان (3) يوم الاثنين عاشر ــ وقيل: ثاني عشرـ ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة. هاجر والدُهُ (4) به وبإخوته إلى الشام عند جَور التتار، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلةٍ لعدم الدوابِّ (5)، فكاد العدوُّ يلحقهم ووقفت العجلة (6)، فابتهلوا إلى الله واستغاثوا به، فنَجَوا وسَلِموا. وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين وستمائة (7)، فسمعوا من الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نِعْمة المقدسي «جزءَ ابن _________ (1) (ك): «قال». (2) لعله في كتاب «المتفق والمفترق»، أو كتاب «انتساب المحدثين إلى الآباء والبلدان» كما يدل عليه نقل ابن ناصر الدين الدمشقي عنه في «التبيان». (3) حرَّان: بتشديد الراء وآخره نون، والنسبة إليها: حرناني على غير قياس، والقياس حرَّاني والعامة عليها. وكانت مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أقور، وهي قصبة ديار مُضر، بينها وبين الرُّها يوم، وبين الرقة يومان. انظر «معجم البلدان»: (2/ 235 - 236). وهي الآن إحدى محافظات ولاية أورفه بجمهورية تركيا. انظر «المعجم الجغرافي للأمبراطورية العثمانية» (ص 250). (4) (ف): «وقدم والداه». و (ك): «وسافر والداه». ويؤيد ما في الأصل ما في «مختصر علماء الحديث ــ الجامع» (ص 249) للمؤلف. (5) قال الذهبي في «ذيل تاريخه ــ الجامع» (ص 267): «فإن العدو ما تركوا في البلد دواب سوى بقر الحرث، وكلَّت البقر من ثقل العجلة، ووقف الفران (كذا)». (6) «ووقفت العجلة» ليست في (ب). (7) «وستمائة» ليست في (ق).

(الكتاب/5)


عَرَفَة»، وغير ذلك (1). ثم سمع شيخُنا الكثيرَ من ابن (2) أبي اليُسْر، والكمال ابن عَبْدٍ، والمَجْد ابن عساكر، وأصحاب الخُشُوعي (3)، ومن الجمال يحيى ابن الصيرفي، وأحمد ابن أبي الخير سلامة (4)، والقاسم الإربلي (5)، والشيخ فخر الدين ابن البخاري، والكمال عبد الرحيم، وأبي الغنائم (6) بن علَّان، وأحمد بن شيبان، وخلق كثير (7). _________ (1) سقطت «وغير» من (ك). وتنبه الناسخ لذلك فأشار إليه بوضع ثلاث نقط ( ... ) في موضع السقط وفي الهامش. واستشكلها في (ط) فغيرها إلى «ابن عرفة كله»! وموضع «ابن عرفة وغير» في (ف) بياض. (2) سقطت من «الأصل». (3) هو: أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الدمشقي الخُشُوعي الأنماطي المعمر مسند الشام (ت 598). والخُشُوعي نِسْبة إلى الجد الأعلى الذي كان يؤم الناس، فتوفي في المحراب، فسمِّي الخشوعي انظر «سير النبلاء»: (21/ 355 - 358) وحاشيته. (4) «سلامة» ليست في (ف، ك). وانظر ترجمته في «ذيل تاريخ الإسلام» (ص 150) للذهبي، «الدرر الكامنة»: (1/ 140). (5) في (ب) زيادة «والشيخ شمس الدين ابن أبي عمر». وابن أبي عمر هذا ذكره المصنف في «مختصر علماء الحديث ــ الجامع» (ص 249) بلقبه شمس الدين الحنبلي. (6) تحرفت في (ك) إلى «القاسم». (7) زاد المصنف في «مختصر علماء الحديث ــ الجامع» (ص 249): «القاضي شمس الدين ابن عطاء الحنفي، والنجيب المقداد، وأبي بكر الهروي، والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي».

(الكتاب/6)


وشيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ. وسمع «مسند الإمام أحمد بن حنبل» مرات، وسمع الكتب (1) الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته «معجم الطبراني الكبير» (2). وعُنِي بالحديث، وقرأ ونسخ وانتقى (3)، وتَعَلَّم الخطَّ والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ أيامًا في العربية (4) على ابن عبد القوي (5)، ثم فهمها، وأخذ يتأمل «كتاب سيبويه» حتى فهمه وبرع في النحو (6)، وأقبل على التفسير إقبالًا كليًّا حتى حاز فيه قَصَب السَّبْق، وأحْكَم (7) أصولَ الفقه، وغير ذلك. _________ (1) في (ك) زيادة «الستة». (2) انظر نموذجًا من مسموعاته وقراءاته على شيوخه وهو دون العشرين «سماعات البرزالي ــ الجامع» (ص 216 - 223)، ومما قرأه الشيخ في مجلس واحد: «الغيلانيات» ذكره المصنف في «مختصره» السالف. (3) ليست في (ف، ك). أقول: فمما نسخه «سنن أبي داود» ذكره الذهبي في «ذيل تاريخه ــ الجامع» (ص 268)، ومما انتقاه: مئة حديث من عوالي «صحيح البخاري» وقد طبعت مرارًا. (4) (ك): «وقرأ العربية». (5) هو: محمد بن عبد القوي بن بدران بن عبد الله المقدسي، المرداوي، شمس الدين أبو عبد الله، الفقيه المحدث النحوي (ت 699). وقد ذكر ابن رجب قراءة ابن تيمية عليه. انظر «تاريخ الإسلام». (وفيات 699 ص 446 - 447)، و «ذيل طبقات الحنابلة»: (4/ 307 ــ 309). (6) (ف، ك): «حتى فهم في النحو». (7) سقط من (ف).

(الكتاب/7)


هذا كلُّه (1) وهو بعدُ ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاءُ (2) من فَرْط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوَّة حافظته، وسرعة إدراكه! ولقد بلغني (3) أن بعض مشايخ العلماء بحلب قَدِم إلى دمشق وقال: سمعت في البلاد بصبيٍّ يقال له: أحمد (4) ابن تيمية، وأنه سريع الحفظ، وقد جئت قاصدًا لعلِّي أراه. فقال له خياطٌ: هذه طريق كُتَّابِه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يجيء يعْبُر علينا ذاهبًا إلى الكُتّاب؛ فجلس الشيخُ الحلبيُّ قليلًا، فمرَّ صبيانٌ، فقال الخياط للحلبي: هذاك (5) الصبي الذي معه اللوح الكبير هو أحمد ابن تيميَّة، فناداه الشيخ، فجاء إليه، فتناول الشيخُ اللوحَ فنظر فيه، ثم قال: يا ولدي امسح هذا حتى أملي عليك شيئًا تكتبه، فَفَعل، فأملى عليه من متون الأحاديث أحَدَ عشر أو ثلاثة عشر حديثًا، وقال له: اقرأ هذا، فلم يَزِد على أن نظر فيه (6) مرة بعد كتابته إياه، ثم دفعه إليه وقال: أسْمِعه عليَّ، فقرأه عليه عرضًا كأحسن ما أنت سامع. فقال له: يا ولدي امسح هذا، ففعل فأملى (7) عليه عدة أسانيد انتخبها، ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه كما فعل أول مرة، فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا _________ (1) «هذا كله» ليس في (ب). (2) (ف): «فانبهر أهله»، (ك): «أهل دمشق». (3) (ك): «واتفق» بدل «ولقد بلغني». (4) ليست في (ف). (5) (ف): «هذا». (6) (ك): «على أن تأمله». (7) (ب): «ثم أملى».

(الكتاب/8)


الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإنّ هذا لم يُر مثلُه. أو كما قال (1). وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي (2): نشأ ــ يعني الشيخ تقي الدين رحمه الله ــ في تصوُّن تامٍّ وعفافٍ وتعبُّد، واقتصاد في الملبس والمأكل. وكان يحضر المدارس والمحافل في صِغَره [ق 3] ويناظر (3) ويُفْحِم الكبار، ويأتي بما يتحيَّرُ منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة (4)، بل أقل. وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكبَّ على الاشتغال. ومات والده ــ وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم ــ فدرَّس بعدَه بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمرُه وبَعُدَ صيتُه في العالم. وأَخَذ في تفسير الكتاب العزيز أيام (5) الجُمَع على كرسيٍّ من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم (6)، وكذا كان يوردُ (7) الدَّرسَ بِتُؤَدة وصوت جَهْوَريّ فصيح (8). _________ (1) «أو كما قال» ليست في (ب). (2) في «الدرة اليتيمية ــ ضمن تكملة الجامع» (ص 37). (3) (ب): «فيتكلَّم ويناظر ... ». (4) في «مختصر علماء الحديث ــ الجامع» (ص 250): «وله نحو سبع عشرة سنة». وفي غيره: «وهو دون التاسعة عشرة»، أو «دون العشرين» فيحتمل أن سبعة عشر وتسعة عشر مصحفة إحداهما عن الأخرى، أو هما قولان، ومن عبر بـ «دون العشرين» لم يجزم بتاريخ محدّد. (5) ليست في (ف)، وفي (ك): «في». (6) (ك): «يتعلثم» تحريف. (7) سقطت من (ف، ك). (8) بعده في كتاب الذهبي: «فيقول في المجلس أزيد من كراسين أو أقل، ويكتب على الفتوى في الحال عدة أوصال بخط سريع إلى غاية التعليق والإغلاق».

(الكتاب/9)


وقال بعض قدماء أصحاب شيخنا ــ وقد ذكر نبذةً من سيرته ــ: أمَّا مبدأ أمرِه ونشأته، فإنّه (1) نشأ مِن حين نشأ في حجور العلماء، راشفًا كؤوس الفهوم (2)، راتعًا في رياض التفقُّه ودوحات الكتب الجامعة لكل فنٍّ من الفنون، لا يلوي إلى غير المطالعة والاشتغال والأخذ بمعالي الأمور، خصوصًا علم الكتاب العزيز والسنة النبوية ولوازمهما ولم يزل على ذلك خَلَفًا صالحًا سلفيًّا متألّهًا، برًّا بأُمِّه، ورعًا عفيفًا عابدًا ناسكًا صوَّامًا قوَّامًا، ذاكرًا لله تعالى في كلِّ أمر وعلى كلِّ حال، رجَّاعًا إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقَّافًا عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر بالمعروف. لا تكاد نفسُه تشبع من العلم، ولا (3) تَرْوى من المطالعة، ولا تملُّ من الاشتغال، ولا تكلُّ عن (4) البحث. وقلَّ أن يدخل في علم من العلوم من باب من أبوابه إلا ويُفْتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك مستدركات في ذلك العلم على حُذَّاق أهله، معضودةً بالكتاب (5) والسنة. ولقد سمعته في مبادئ أمره يقول: إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء (6) أو الحالة التي تُشكل عليَّ، فأستغفر الله تعالى ألف مرَّة أو أكثر أو أقل، حتى ينشرح الصدر وينحلّ إشكال ما أشكل. _________ (1) (ك): «فقد». (2) (ك): «الفهم». (3) (ك): «فلا». (4) (ب، ف، ك): «من». (5) (ك): «مقصودة بالكتاب». (6) (ب، ف، ك): «أو الشيء».

(الكتاب/10)


قال: وأكون إذ ذاك في السوق أو (1) المسجد أو الدَّرْب أو المدرسة، لا (2) يمنعني ذلك من الذِّكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي (3). قال هذا الصاحب: ولقد كنت في تلك المدة وأول النشأة إذا اجتمعتُ في خَتْمة أو مجلس ذِكْر خاصٍّ مع أحد المشايخ المذكورين، وتذاكروا وتكلم ــ مع حداثة سنه ــ أجدُ لكلامه صَولةً على القلوب، وتأثيرًا في النفوس، وهيمنة (4) مقبولةً ونفعًا يظهر أثره وتنفعل له النفوس التي سمعَتْه أيامًا كثيرةً بِعَقبه، حتى كأنَّ مقاله بلسان حالِه، وحالُه ظاهر له في مقاله. شهدْتُ منه ذلك (5) غير مرَّة. قلت: ثم لم يبرح شيخُنا رحمه الله في ازديادٍ من العلوم وملازمة للاشتغال (6) والإشْغال، وبثّ (7) العلم ونشره، والاجتهاد في سُبُل (8) _________ (1) (ب): «أو في». (2) (ب): «ولا». (3) تَعَلُّق شيخ الإسلام بالذكر أمرٌ مشهور، نقَلَه طلابه الملازمون له، قال ابن القيم في «الوابل الصيب» (ص 96): «وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي. أو كلامًا قريبًا من هذا. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنِيَّة إجمام نفسي وإراحتها لأستعدّ بتلك الرّاحة لذكرٍ آخر». وانظر ما ذكره تلميذه أبو حفص البزار في «الأعلام العلية» (ص 38). (4) (ك): «وهيبة». (5) (ف، ك): «ذلك منه». (6) (ب، ف، ك): «الاشتغال». (7) (ف): «ببث». (8) (ب): «سبيل».

(الكتاب/11)


الخير. حتى انتهت إليه الإمامةُ في العلم والعمل، والزُّهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحِلم (1) والإنابة، والجلالة والمهابة (2)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصِّدق والأمانة (3)، والعِفَّة والصّيانة، وحُسْن القصد [ق 4] والإخلاص، والابتهال إلى الله، وكثرة الخوف منه، وكثرة (4) المراقبة له، وشدّة التمسّك بالأثر، والدّعاء إلى الله، وحُسْن الأخلاق، ونَفْع الخلق والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه والصفح عنه والدعاء له، وسائر أنواع الخير. وكان رحمه الله سيفًا مسلولًا على المخالفين، وشجًى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين (5)، وإمامًا قائمًا ببيان الحق ونُصْرة الدين. وكان بحرًا لا تكدِّره الدِّلاء، وحِبْرًا يقتدي به الأخيار (6) الأَلبَّاء، طنَّت بذكره الأمصار، وضَنَّت بمثله الأعصار. قال شيخُنا الحافظ أبو الحجَّاج (7): ما رأيتُ مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتْبَعَ لهما منه. _________ (1) (ف): «والحكم». (2) سقطت من (ب). (3) سقطت من (ك). (4) (ب): «ودوام». (5) (ف): «هولاء المبتدعين». (6) (ف): «الأخبار». (7) هو: يوسف بن عبد الرحمن المِزِّي (ت 742) صاحب الكتابين العظيمين: «تهذيب الكمال» و «تحفة الأشراف». ترجمته في «ذيل تاريخ الإسلام» (ص 381 - 386). و «طبقات الشافعية»: (10/ 395) للسبكي.

(الكتاب/12)


وقال العلامة كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني (1): كان إذا سئل عن فنٍّ من العلم ظنَّ الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفنّ، وحَكَم أنّ أحدًا لا يعرفه مثله (2). وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يُعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلَّم في علم من العلوم، سواءٌ كان من علوم الشرع أو غيرها إلّا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه. وكانت له اليد الطُّولى في حُسْن التصنيف، وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين. ووقعت مسألة فرعية في قسمة (3) جرى فيها اختلاف بين المفتين في العصر، فكتب فيها مجلّدةً كبيرة. وكذلك وقعت مسألة في حدٍّ من الحدود، فكتب فيها مجلَّدة كبيرة أيضًا (4). ولم يخرج في كلّ واحدة عن _________ (1) هو: محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري الشافعي الدمشقي، قاضي حلب (ت 727). «طبقات الشافعية»: (9/ 190) للسبكي، و «الدرر الكامنة»: (4/ 74 - 76). وقد كان ابن الزملكاني ممن يُثني على الشيخ، ثم صار من مناوئيه كما سيأتي. (2) (ف): «غيره مثله». (3) «في قسمة» سقطت من (ب). وهو ما سيذكره المصنف لاحقًا بعنوان «التحرير في مسألة حفير». (4) «أيضًا» ليست في (ك، ف). ولعله يعني «الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -» فإنه ألفه عقب حادثة عسَّاف النصراني لمّا سبّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. انظر «البداية والنهاية ــ الجامع» (ص 406 - 407). وقد كتب ابن الزملكاني على ظهر نسخة (الصارم) التي بخط البرزالي ترجمةً للشيخ، كما صنع مع كتبه الأخرى التي سيذكرها المصنف. انظر مقدمة تحقيق «الصارم المسلول»: (1/ 187 - 188).

(الكتاب/13)


المسألة، ولا طَوَّل (1) بتخليط الكلام والدخول في شيء والخروج من شيء، وأتى في كلّ واحدة بما لم يكن يجري في الأوهام والخواطر. واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. (2) وقرأت بخطِّ الشيخ كمال الدين أيضًا على كتاب «بيان الدليل على إبطال التحليل» (3) لشيخنا ــ وقد ذكر ترجمةً (4) ــ فقال: من مصنفات سيدنا وشيخنا وقدوتنا، الشيخ السيد الإمام (5) العلامة، الأوحد البارع الحافظ، الزاهد الورع القدوة، الكامل العارف، تقي الدين شيخ الإسلام ومفتي الأنام، سيّد العلماء قدوة الأئمة الفضلاء، ناصر السنة قامع البدعة حُجَّة الله على العباد (6)، رادّ أهل الزَّيغ والعناد، أوحد العلماء العاملين، آخر المجتهدين، أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم ابن محمد ابن تيميَّة الحرَّاني. حفظ الله على المسلمين طول حياته، وأعاد عليهم من بركاته، إنه على كل شيء قدير. وقرأتُ أيضًا بخطّه على كتاب «رَفْع الملام على الأئمة الأعلام»: _________ (1) (ف): «طولب». (2) من هنا إلى قوله (ص 16) «رضي الله عنه» سقط من (ب). (3) وهذه النسخة التي كَتَب عليها ابن الزملكاني هذا التصدير محفوظة في مكتبة شيخنا الأستاذ محمد زهير الشاويش، والتقريظ موجود على ظاهرها، وقد كُتبت سنة 714 هـ وقد تفضّل شيخنا وأرسل صورةً منها جزاه الله خيرًا. (4) (ف، ك): «ترجمته». (5) بخط الزملكاني زيادة: «العالم». (6) بخط الزملكاني: «في عصره».

(الكتاب/14)


تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة، الأوحد الحافظ المجتهد، الزاهد العابد القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علّامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، بُرْهان المتكلمين، قامع المبتدعين، محيي السنة ومَنْ عَظُمت به لله علينا المِنّة (1)، وقامت به على أعدائه الحجّة، واستبانت ببركته وهديه المَحجّة: تقيّ الدين أبي العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني. أعلى الله منارَه وشيَّد به من الدين أركانَه. ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلَّت عن الحصر [ق 5] هو حُجّةٌ لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدَّهر هو آيةٌ للخلق ظاهرة ... أنوارُها أربت على الفجر وقرأتُ على آخر هذا الكتاب طَبقة (2) بخطّ الذَّهبي يقول فيها: سمع جميعَ هذا الكتاب على مؤلِّفه شيخِنا الإمام العالم العلامة الأوحد، شيخ الإسلام، مفتي الفِرَق، قدوة الأمّة، أعجوبة الزّمان، بحر العلوم، حبر القرآن، تقي الدين سيد العُبَّاد: أبي العباس (3) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيميَّة الحراني رضي الله عنه. _________ (1) (ف): «ومن علينا به الله المنة». (2) الطبقة أو الطِّباق: مصطلح عند المحدثين يعنون به ما يُكتب في آخر نسخة الكتاب ــ غالبًا ــ من أسماء من حضر مجالس القراءة والسماع وتواريخها وإجازة المسمّع لهم. وتسمى «السماعات» أيضًا. انظر «عناية المحدثين بتوثيق المرويات» (ص 14 - 23) لأحمد نور سيف، و «توثيق النصوص» (ص 68 - 75) لموفق عبد القادر. (3) «أبي العباس» ليست في (ك).

(الكتاب/15)


وقال (1) الحافظ فتح الدّين أبو الفتح (2) ابن سيِّد الناس اليَعْمَري المصري (3) ــ بعد أن ذكر ترجمة شيخنا الحافظ جمال الدين أبي الحجَّاج المِزِّي ــ: وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (4) ابن تيميَّة، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلَّم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مُدْرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب عِلْمِه وذو روايته (5)، أو حاضر بالنِّحَل والمِلَل لم يُرَ (6) أوسع من نِحْلَته في ذلك ولا أرفع من درايته. بَرَّز في كلّ فنٍّ على أبناء جنسه، ولم تر عينُ من رآه مثله، ولا رأت عينُه مثلَ نفسه. كان يتكلَّم في التفسير فيحضر مجلسَه الجمُّ الغفير، ويَرِدون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دبَّ إليه من أهل بلده داءُ الحَسَد، وأكبّ (7) أهلُ النظر منهم على ما يُنْتَقد عليه (8) من أمور المُعْتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوّقوا لتبديعه _________ (1) (ف، ك): «وقال الشيخ ... ». (2) «أبو الفتح» ليست في (ب). (3) في كتاب «أجوبة ابن سيد الناس على سؤالات ابن أيبك الدمياطي»: (2/ 221 - 224). وانظر «الجامع» (ص 188 - 190). (4) «بن عبد السلام» سقطت من (ب). (5) (ف): «رايته». (6) (ب، ف، ك): «تر». (7) (ب): «وألب». (8) بعدها كلمة غير واضحة في (ف) وفي (ك) بياض بمقدار كلمة ثم «حنبليته».

(الكتاب/16)


سهامًا، وزعموا أنه خالف طريقتهم وفَرَّق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضَهم وقاطعوه. ثم نازعَ طائفةً أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدقِّ باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذَكَر لها على ما زعم بوائق، فآضت (1) إلى الطائفة الأولى من مُنازعيه، واستعانت بذوي الضِّغْن (2) عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأَعْمَل كلٌّ منهم في كُفره فِكْره (3)، فكتبوا (4) محاضر، وألَّبوا الرُّويبضة للسعي بها بين الأكابر، وَسَعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية، فنُقِل وأُودِعَ السجن ساعةَ حضوره واعْتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قومًا من عُمَّار الزوايا (5) وسُكَّان المدارس؛ من مُجامل (6) في المنازعة مخاتل بالمخادعة، ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، وربُّك يعلم ما تُكِنّ صدورهم وما يعلنون (7). وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالًا من المخاتل. _________ (1) (ب): «فأفضت». آض أي: صار. (2) (ف، ك): «الظعن». (3) الأصل: «في كفرةً فكفره» تحريف. (4) (ب): «فرتبوا». (5) (ف) زيادة في: «سكان الزوايا». (6) الأصل، و (ك): «محامل». (7) اقتباس من الآية 69 سورة القصص.

(الكتاب/17)


وقد دَبَّت إليه عقاربُ مكره، فردَّ الله كيد كلٍّ في نحره، فنجَّاه (1) على يد من اصطفاه، والله غالب على أمره. ثم لم يَخْلُ بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلّا إلى محنة، إلى أن فُوِّض أمرُه لبعض القضاة فتقلّد ما تقلَّد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه (2) ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله تُرْجَع الأمور، وهو المطَّلع على خائنة الأعين وما تُخْفي الصدور. وكان يومه مشهودًا؛ ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها (3) المسلمون [ق 6] من كلِّ فجٍّ عميق، يتبرّكون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسَّكون بشَرْجَعِه (4) حتى كسروا تلك الأعواد، وذلك في ليلة العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، بقلعة دمشق المحروسة. وكان مولده بحرّان في عاشر شهر (5) ربيع الأول من سنة إحدى وستين وستمائة رحمه الله تعالى (6). ثم قال: قرأت على الشيخ الإمام، حامل راية العلوم، ومُدْرِك غاية الفهوم، تقيّ الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن _________ (1) (ب، ف، ك): «ونجاه». (2) (ف): «بمجلسه». (3) (ف): «وانتحابه». (4) الشرجع: السرير الذي يُحمل عليه الميت. «لسان العرب» (8/ 179). (5) «شهر» ليست في (ب، ف، ك). (6) (ف، ك، ب): «رحمه الله وإيانا».

(الكتاب/18)


تيميَّة رحمه الله بالقاهرة ــ قدم علينا ــ قلت له: أخبركم الشيخ الإمام زين الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي، ثم ذكر حديثًا من «جزء ابن عرفة» (1). وقال الشيخ عَلَم الدين البِرْزالي في «معجم شيوخه» (2): أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله (3) ابن أبي القاسم بن محمد ابن تيميَّة الحراني، الشيخ تقي الدين أبو العباس، الإمام المُجْمع على فضله ونُبْله (4) ودينه، قرأ القرآن (5) وبرع فيه، والعربية والأصول، ومَهَر في عِلْمَي التفسير والحديث، وكان إمامًا لا يُلْحَق غبارُه في كلّ شيء، وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين. وكان إذا ذَكَر (6) التفسير أبْهَتَ الناسَ من كثرة محفوظه وحُسْن إيراده، _________ (1) من قوله: «ثم قال .... » إلى هنا سقط من (ب). (2) نقل هذا النص أيضًا من «معجم شيوخ البرزالي» ابن ناصر الدين في «الرد الوافر» (ص 218). وهذا المعجم خَرَّجه البرزالي لنفسه وذكر فيه ثلاثة آلاف شيخ: ألفان بالسماع وألف بالإجازة. وقد أنشد فيه الذهبي: إن رمتَ تفتيش الخزائن كلها ... وظهور أجزاء حوت وعوالي ونعوت أشياخ الوجود وما رووا ... طالع أو اسمع معجم البرزالي انظر «الدرر الكامنة»: (3/ 237)، و «الرد الوافر» (ص 217). (3) «بن عبد الله» سقط من (ب). (4) (ك): «ذبله» تحريف. (5) (ف، ك): «قرأ الفقه». (6) (ف): «ذاكر».

(الكتاب/19)


وإعطائه كلَّ قولٍ ما يستحقّه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كلِّ علم. كان الحاضرون يقضون منه العجب، هذا مع انقطاعه إلى الزّهد والعبادة والاشتغال بالله تعالى، والتجرّد من أسباب الدنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى. وكان يجلس في صبيحة كلِّ جمعة على الناس يُفَسِّر القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه، وبركة دعائه، وطهارة أنفاسه، وصدق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله لعمله، وأنابَ إلى الله خلقٌ كثير. وجرى على طريقة (1) واحدة من اختيار الفقر والتقلُّل (2) من الدنيا، وردّ ما يُفْتَح به عليه. وقال في موضع آخر: كان قد نظم شيئًا يسيرًا في صغره وكتبت عنه إذ ذاك، ثم إنه ترك ذلك وأعرض عنه. وسُئل عن مسألةِ القَدَر بنظمٍ، فأجاب فيها بنظم (3)، وقد قُرئ عليه وسُمِع منه. وحلّ لُغز الرّشيد الفارقيّ بأبيات تشتمل على نحو مائة بيت على وزن اللغز، وذلك في حياة والده رحمه الله تعالى، وله نحو العشرين من العمر، _________ (1) (ف، ك): «طريق». (2) (ف): «والتقليل». (3) يعني الأبيات التي نُظِمت على لسان ذمّي في إنكار القدر، ومطلعها: أيا علماء الدين ذِمّي دينكم ... تحيَّر دلّوه بأعظم حجة وهي في «مجموع الفتاوى»: (8/ 245 ــ 255). وقد سأل شيخَ الإسلام عيسى بن إبراهيم الماردي الشاعر سؤالًا منظومًا في القدر في عدة أبيات، فأجاب عنه الشيخ نثرًا. انظر «مجموع الفتاوى»: (8/ 448 ــ 516)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 200 ــ 201).

(الكتاب/20)


وكان حَلُّه له (1) في (2) أسرع وقت. قلت: هذا اللغز الذي أشار إليه الشيخ عَلَم الدين نظمه الشيخ الإمام العلامة رشيدُ الدين أبو حفص عمر بن إسماعيل بن مسعود الفارقي (3) في اسمٍ أَلْغَزَه، بوصف أَبْرَزه، في لفظٍ أوجزه، لفهمٍ أَعْجَزه، وهي هذه (4): ما اسمٌ ثلاثيّ الحروف فثُلْثه ... مِثلٌ له والثلث ضِعْف جميعه والثلث الآخر جوهرٌ حلَّت به الـ ... أعراض جمعًا فاعجبوا لبديعه وهو المثلَّث جذرُه مثلٌ له ... وإذا يربَّع بان في تربيعه _________ (1) «له» سقطعت من (ك). (2) من هنا إلى قوله (ص 23): «ابن عبد السلام» ساقط من (ق). (3) (ت 689). ترجمته في «تاريخ الإسلام»: (وفيات 689، ص/376 - 381) للذهبي، و «الوافي بالوفيات»: (22/ 129 - 131) للصفدي. وقد ذكر الصفدي هذا اللغز ــ ووصفه بالمشهور ــ بتمامه، وأشار إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد حلَّه في «عِلْم» بنحو مئة بيت وذكر أن أولها قوله: بغزيرِ علمٍ وامتنانٍ واسعٍ ... ألغزتَ (علمًا) في فنون وسيعه وهذا البيت هو السابع في جواب شيخ الإسلام الذي ذكره المصنف هنا. وأشار الصفدي إلى اللغز أيضًا باختصار في «أعيان العصر»: (1/ 246). أقول: وللعلامة ابن الخشّاب النحوي (ت 567) قصيدة تُعرف بـ «القصيدة البديعة الجامعة لأشتات الفضائل» وهي نحو 112 بيتًا فيها مسائل زعموا أن أحدًا من أرباب العلوم لم يستطع الإجابة عنها. قال ناقلها: إن شيخ الإسلام ابن تيمية وقف عليها وقال: يمكن الإجابة عما فيها من المسائل لكن ليس لي فراغ للإجابة عنها. انظر حاشية أستاذنا العلامة عبد الرحمن العثيمين على «المقصد الأرشد»: (2/ 10 ــ 14) فقد أورد نماذج منها، وعنه استفدنا هذه الفائدة. (4) «وهي هذه» ليست في (ف، ك)، وفي (ب) بدلًا منها: «فقال».

(الكتاب/21)


جزء من الفلك العليّ وإنما ... باقيه خوفٌ أو أمان (1) مروعه حيٌّ جمادٌ ساكن متحرِّك ... إن كنتَ ذا نظر إلى تنويعه وتراه مع خُمْسيه علة كونه ... معلوله سرًّا لغير (2) مذيعه وبغير خمسيه بغير النحو مو ... جودٌ ومحمول على موضوعه وبحاله فعل مضى مستقبلًا ... حُمِدت صناعته بحمد (3) صنيعه [ق 7] قيدٌ لمطْلَقِه (4) خصوص عمومه ... زيدٌ لمفرده على مجموعه شيء مقيم في الرَّحيل وممكن ... كالمستحيل بطيئه كسريعه وأهمّ ما في الشرع والدين اسمه ... ومضافه بأصوله وفروعه ودقيق معناه الجليل مناسبٌ ... علم الخليل وليس من تقطيعه وإذا عروضيٌّ تطلَّب حلَّه ... ألفاه في المفروق أو مجموعه وإذا ترصِّعه بدرِّ (5) فريدة ... عِقْدًا يَزِين الدّرَّ في ترصيعه للمنطقيّ وللحكيم نتاجه ... وعلاجه بذهابه ورجوعه وله شِعارٌ أشعريٌّ واعتقا ... دٌ حنبليٌّ فاعجبوا لوقوعه وتمامُه في قول شاعر كندة: ... ما حافظ للعهد مثل مُضِيعه يُرويك في ظمأٍ ندى بوروده ... ويريك في ظُلمٍ هُدًى بطلوعه _________ (1) تحتمل في (ك): «أبان». (2) (ك): «بغير». (3) (ك): «لحمد». (4) (ف): «لمطلع». (5) ضبطها في الأصل: «بدُرٍّ» ويمكن أن يضبط هذا الشطر «وإذا يرصّعه بدرِّ فريده .. ».

(الكتاب/22)


ولقد حللتُ اللغزَ إجمالًا وفي ... تفصيله تفصيل روض ربيعه فاسْتَجْل بكرًا من وليٍّ بالحُلى ... تُهدى لكُفء الفضل بين رُبوعه فأجاب العبد الفقير إلى ربه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيميَّة حلًّا لمعضله، وفصلًا لمجمله، وفتحًا لمقفله، وشرحًا لمشكله: يا عالمًا قد فاق أهلَ زمانه ... بفنونه وبيانه وبديعه وغدا لأعلام العلوم منارَهم ... يَهدي الُهداةَ إلى منار ربوعه وأجاد نظمًا عقد جيد عقيلةٍ ... من درِّ بحر العلم في ترصيعه وجلا (1) المعارف في عوارف لفظه (2) ... أخذًا لعَرْف (3) العلم من ينبوعه وأبان عما قد حوى من كلّ فنـ ... ـن قد أحاط بأصله وفروعه ببيانه السِّحرِ الحلال ولفظه الـ ... ـعذب الزُّلال ولفظ (4) حُسْن صنيعه ... ج بغزير علمٍ وافتنانٍ واسع ... ألغزتَ (علمًا) في فنون وسِيعه حلّيته بدقيق وصفٍ صُنته ... بجليل لفظٍ ناءَ عن موضوعه ووصفته بِحُلى العلوم وأهلها ... ونعتَّه بضروبه وضروعه (5) وجمعتَ في أوصافه الأضدادَ حَتْـ ... ـتَى استيأسَ الطلَّاب من تتبيعه والعبدُ لمّا أن تأمّل نظمَكم ... بنظامه أُلقِيْ له في رُوعه _________ (1) الأصل: «وحكى»، والمثبت من (ب، ق، ك)، و (ف): «وأجلى». (2) (ب، ق): «فضله». (3) (ق): «لغرف». (4) (ب، ق): «ولطف». (5) (ق): «وصروعه» بالمهملة. وضروعه: أي وأشباهه.

(الكتاب/23)


أن الذي ألْغَزْتُمُ «عِلْم» ولمـ ... ـا يجعل المظنون من مقطوعه لكنه أمسى يُحلّيه بما ... حلَّيتمُ (1) ويغوص في توقيعه حتى تجلَّى الحقُّ من ظَلْمائه (2) ... في ليلةٍ من قبل وقت هُجُوعه فإذا الذي قد عنَّ أول مرةٍ ... حقٌّ تبلَّجَ فجره بطلوعه ورأيتُ فيه الوصف إما باديًا ... أو خافيًا معناه في مسموعه لدقيق مغزاه ولطف إشارة ... فيه (3) وبُعد حُلاه عن موضوعه فغدوتُ أكشفُ عنه كشفًا موجزًا ... بإشارةٍ تهدي لشَطْر بقيعه فاسمع لحلِّ حُلاه في تفصيله ... واشهد بقلبٍ مقبلٍ بهطوعه «العلم» لفظ ذو ثلاثة أحرف ... وهجاء كلٍّ مثل ما مجموعه فإذا يكون مركبًا من تسعة ... جذرًا لها فانظر إلى تربيعه ومربعًا ساواه جذر حسابه ... ومثلّثًا بحدوده وضلوعه ويكون أثلاثًا فثلثٌ مثلُه ... هو لامه إن خُضْت في توزيعه والميمُ في الجمل الكبير حسابه ... هو أربعون بقول أهل ربيعه والميم (4) في الجمل الصغير حسابه ... عشرون هذا الثلث ضعف جميعه والثلثُ عينٌ عينُ كلٍّ ذاته ... هو جوهرٌ والوصفُ في موضوعه إذ كانت الأعيانُ قائمةً بها الـ ... أعراض جمعًا فافطنوا لجموعه _________ (1) (ك): «حليته». (2) (ف): «ظلماته». (3) سقطت من (ك). (4) جميع الأصول «والعلم». والمثبت هو الصواب.

(الكتاب/24)


حكمٌ يخصُّ العين حرفًا واحدًا ... من بين جنس الحرف في تنويعه [ق 8] هو تسعةٌ في أصله والعالم العُلْـ ... ـوي منه تسعة برقيعه العرش والكرسيّ والسبع السمـ ... ـوات الطّباق فالاسم جزء رفيعه من عالم الملكوت أعني الغيب إذ ... عنه كنَى لعلوِّ شأن ضليعه (1) لم يبق إلا جنةٌ أو جاحِمٌ ... فيه المخافة أو أمان مروعه بالعلم يُحيي الله قلبًا ميتًا ... يسري كنورٍ ضاء حين سُطوعه فلأنَّه يحيى اسمه حيٌّ (2) إذ الـ ... أحياءُ فرعُ حياة ربّ صنيعه ولأنه يسري اسمه متحرّك ... لوحًا تنقّله بذهن قريعه ذا الوصفُ عقليّ وفي حِسّيه ... هو جامد هو ساكن بربوعه إذ كان نوع العلم معنى جنسه ... عَرَض يقوم بمستوى موضوعه والحيُّ والمتحرّك الوصفان يخـ ... ـتصَّان شخصًا جوهرًا ببقيعه إذ كان في المحسوس ليس بقائم ... عرضٌ بآخر مثله وتبيعه أما إذا ما جُرّد المعقول فالـ ... ـوصفان في المعنى له بربيعه ثلثاه حرفا العين والميم هما ... في اللفظ من عدم وفي تنويعه وإذا جمعتَ حسابه في أكبر (3) ... وأضفت خمسيه إلى مجموعه _________ (1) كذا بجميع النسخ. (2) (ف): «حتى». (3) (ف، ك): «أكثر»، وكتب فوقها في (ك): لعله، وفي هامشها: «لعله: أكبر». وهي غير محررة في (ق).

(الكتاب/25)


فمربعًا يُضحي ويُضحي (1) جذره ... مع أربع عشرًا لدى (2) تربيعه فالجذر عِلّته ومعلول له ... من حيث ما هو علة لوقوعه فالجذر معلول لجذرٍ كائن ... معلوله فافهم مدار رجيعه فلكونه معلولَ معلولٍ (3) له ... قد صار معلولًا له برجوعه ويقول إن العلم (4) منه النحو هـ ... ـذا إن تُرِد حملًا على موضوعه فإذًا يكون الضمّ علة كون هـ ... ـذا الجمع علةَ نفسه وجميعه وبغير خُمْسيه يعود لأصله ... علمًا وعلم النحو بعضُ فروعه وإذا اعتبرتَ حروفه ألفيته ... فعلًا مضى لغةً وفي موضوعه (5) حكمٌ على المستقبلات وغيرها ... لعمومه متعلّقًا وذيوعه إذ من خصائصه تعلُّقه بكُلْ ... ـلِ محقق معَ سَبْقه لوقوعه أكْرِم به أمرًا عظيمًا نفعُه ... حُمِدت صناعته بحمد صنيعه والفعل فيه مصدرٌ وزمانه ... وضعًا وملزومٌ لربّ صنيعه (6) فلذاك كان مقيدًا ومخصّصًا ... لعموم جنس العلم في تنويعه هو مفردٌ (7) نوعٌ حوى أشخاصه ... فإذا تركَّبَ خُصّ في تجميعه _________ (1) (ق): «يصحي». (2) ما عدا الأصل: «لذي». (3) (ف): «معلولًا»، (ق): «معلولٌ». (4) (ب، ق): «ونقول ... »، (ك): «ويقول ... »، (ف): «ويقولو أهل ... ». (5) الأبيات الثلاثة سقطت من (ف). (6) البيت ساقط من (ف). (7) (ب، ق، ف): «مفردًا».

(الكتاب/26)


فيصحُّ حينئذٍ مقالة قائل ... قد زاد مُفرده على مجموعه هو ثابتٌ في كلّ حال ممكن ... ذو عِزّة صعب على مُسْطيعه حتى يُنال فيَحْمَد القومُ السُّرى ... وإذًا يقال: بطيئه كسريعه فالبُطْءُ والإسراع ليس بنفسه ... بل في الطريق وفي اقتناص منيعه والعلمُ بالرحمن أول واجبٍ (1) ... وأهمُّ فرض الله في مشروعه وأخو الديانة طالبٌ لمزيده ... أبدًا ولمّا ينهه بقطوعه والمرء فاقته إليه أشدّ من ... فقر الغذاء لعِلْم حُكم صنيعه في كلِّ وقتٍ، والطعام فإنما ... يحتاجه في وقت شِدَّةِ جوعه وهو السبيل إلى المحاسن كلِّها ... والصالحات فسوأة لمضيعه وإليه يُسْنَد كلُّ فنٍّ نافع ... بل فارع بأصوله وفروعه لجلالة المعلوم واللطف (2) الذي ... للعلم كان مناسبًا لبديعه فالعلم ميزانُ الحقائق والعرو ... ض كذاك (3) ميزان لدى تقطيعه والاسم بالتحريك (4) من مفروقه ... والفعل بالتسكين من مجموعه [ق 9] هو واسطٌ (5) عِقْد الفضائل كلّها ... وبه يُزان الحَلْي في ترصيعه _________ (1) (ف، ك): «صاحب». (2) (ف): «واللفظ». (3) (ك): «وكذاك». (4) كذا في الأصول. وبهامش الأصل: «صوابه: بالتسكين». أقول: وكذلك في الشطر الثاني «والعقل بالتحريك». ولعل مراد المؤلف أن اسم «عِلْمَ» (وتد مفروق)، أي متحرك بينهما ساكن. والفعل عَلِمَ (وتد مجموع) متحركان ثم ساكن أو متحرك. (5) (ف): «واسطة».

(الكتاب/27)


وعلاجه بالجدِّ في تحصيله ... بمقدمات نتاجه وينوعه ولكلّ قومٍ منه حظٌّ وافر ... وحقائق التوحيد (1) في مشروعه بشعائر لمشاعر وقواعدٍ ... لعقائد المعقول في مسموعه وجميعُه متفرِّق في قوله: ... ما حافظ للعهد مثل مُضِيعه فلِعَينه وللامه ولميمه ... من ذا الكلام الحظ في تبضيعه (2) يُرْوي بماء حياته في وِرْده ... ظمآن تحقيق إلى ينبوعه ويُري بنور هداه في تبيينه ... حَيران تدقيق طلوع سطيعه كطلوعه لمّا أبان بنوره ... قصدَ السبيل لحلّ عقد بديعه جلّى المُجلّى بَعْد بُعْد بُدُوِّه ... مع فتح مُقْفله وقرب شَسوعه (3) وأبان مجملَه وفصَّل عِقْدَه ... ولروضِه الأُنف ارتعى برتوعه وجَلَى (4) جمال البكر في حَلْي الحلى ... فافتضَّها كُفء ثَوَت بربوعه فخُذ الجوابَ مخلَّصًا فيه اللبا ... بُ مُلخّصًا في نظمه لسميعه مع أنّ نظم الشعر غير مُحصِّل ... لكمال مغزاه (5) وشرح جميعه من خاطرٍ مستعجل مستوفزٍ ... لم يُنْعِم (6) التفكير في مرجوعه _________ (1) بقية النسخ: «التحقيق». (2) البيت ليس في الأصل. (3) الأصل: «شيوعه»، (ف): «هسوعه»، (ك): «مع قرب ... مسوعه». ولعله ما أثبت أي: بعيده. (4) (ك): «وحلى» بالمهملة. (5) (ك): «معزاه». (6) (ب، ق، ك): «يمعن».

(الكتاب/28)


لم يجعل التحليل من مقصوده (1) ... كلَّا ولا الفضلات من مصنوعه إذ كان مخلوقًا لأكبر غايةٍ ... دار القرار جميله وقطيعه وعليه من أمر الإله ونهيه ... ما يلفت المعقول عن تضييعه لكنه لا بدّ للمصدور من ... نفثٍ يُريح فؤادَه بنخوعه مع أنه مُزْجى البضاعة نظمُه ... غِرّ بحكم اللفظ في تسجيعه (2) عبدٌ ذليل عاجز مُتضعِّف ... في حال مبداه وحال رجوعه لكنه لما استعان بربِّه ... ثم استكان له بذلِّ خضوعه فأعانه يُسْر الجواب فإن يكن ... حقًّا بوفق (3) الوصف في توقيعه فالحمد والفضل العظيم لربنا ... شكرًا على محمود حُسْن صنيعه إذْ ما بِنا من نعمة فَبِمنِّه ... والخير منه جميعه بهموعه أو إن يكن خطأً فمني حيث إن ... لم أستطع متناولًا لرفيعه فالنقصُ للإنسان وصفٌ لازم ... إنْ كان يعرفُ نفسَه بنخوعه والحمد لله الرحيم بخلقه الـ ... ـبرّ الودود بعبده ومُطيعه ومُيسّر الخَطْب العسير بلطفه ... من بعد منعته وبعد منيعه ثم الصلاةُ على النبيّ وآله ... والمُصْطَفَين من الأنام جميعه وعليهم التسليم منّا دائمًا ... ما اهتزَّ وجه الأرض بعد خُشُوعه _________ (1) (ك): «مصنوعه». (2) (ق، ب): «تشجيعه». (3) (ك): «برفق».

(الكتاب/29)


فلما وقفَ الشيخ رشيد الدين (1) على هذا الجواب كتب إلى منُشئه الشيخ تقي الدين (2): أحْسَنَ في حلّ المسمَّى وما ... سمّى ولكن جاء بالمِثْل (3) وجاوز الجوزاء بالنطق والشْـ ... ـشِعْرَى بشعرٍ رائقٍ جَزْل جَلَّت معانيه فشكري (4) له ... مُصَحّف والحلّ كالحلّ أحمدُ وزنُ الفعل فيه وفي التْـ ... ـتَقيِّ وزنُ القول والفعل كأنما أحرفه مُثِّلت (5) ... تُمْلي عليه وهو يستملي ... ج وحُقّ بالفخر فتًى (6) جدُّه الـ ... مجد وقد بورك في النَّسْل فسهَّل الله لمن في اسمه الـ ... ـعدل مكافاة (7) على الفضل فنظر والد الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة بعد ذلك في اللُّغز (8)، وحلَّه في لفظة أخرى، ونَظَم في ذلك قصيدة، فكتب إليه الشيخ رشيد الدين جوابًا لها: [ق 10] ماثَلَ (9) لُغزي ولم يُسم به ... مَنْ لم يماثَل في الفَضْل والأدب _________ (1) (ك): «رشيد». (2) بعده في (ف، ك): «ابن تيمية رضي الله عنه». (3) (ف): « ... في المسمى .. ولكن جاد ... ». (4) (ف، ك): «فشكرًا». (5) (ب، ف): «مثلث». (6) (ف): «وحق بفتى». (7) (ك): «مكافآت». (8) الأصل: «اللفظ»، والمثبت من النسخ، وفي (ف): «ذلك اللغز». (9) (ف، ك): «ما مثل».

(الكتاب/30)


بخاطرٍ حاضرٍ (1) يضيء ولا ... يُنكر ضوءٌ لواحدِ (2) الشُّهُب شيخُ شيوخ الإسلام قاطبةً ... مفتي الفريقين حُجّة العَرَب شنَّف سمعي بالدُّرّ من كلِمٍ ... تُرْوَى فتُرْوي (3) بالدّر من سحب حلًّا كحلٍّ فنشوتي نشأت ... من ضرب مثلٍ أحلى من الضَّرَب وكان لغزي من فضّةٍ فعلا ... سِعرًا (4) وشعرًا وصار من ذهب فالفخر للمجد بالشّهاب وللشـ ... ـهاب بالمجد ذروة النسب ذروةٌ والعنان (5) يحسبها ... ذُرّية للشروق في الحَسَب (6) وإن تعفَّت رسومُ بلدته ... وهي خيار البلاد والتُّرَب فبلدة الأفق حلّها عوضًا ... عنها بفضل يسمو على الرُّتَب (7) وإن قلبي أضحى له وطنًا ... وفيه أُنْسٌ لكلِّ مغترب (8) هذا ثنائي مع الخمول وإن ... نُبِّهَ حظّى (9) أربى على الأرب وعِشْ طويلًا مكمّلًا أدبًا ... بسيط فضلٍ ناءٍ ومقترب _________ (1) سقطت من (ف). (2) (ب، ق): «لواجد». (3) الأصل: «فتردى»، (ف): «ترى»، (ك): «فترى». (4) (ف، ك): «فعلى شعرًا». (5) (ق، ب): «ذرية والعيان». (6) (ف، ك): «السحب». (7) (ك): «الترب». (8) (ق، ب): «مقترب». (9) الأصل: «نية»، و (ق، ب، ك): «نبه خطي».

(الكتاب/31)


وقال الشيخ علمُ الدين: رأيت في إجازة لابن الشَّهْرزوري (1) الموصلي خطَّ الشيخ تقيّ الدين ابن تيميَّة، وقد كتب تحته (2) الشيخُ شمسُ الدين الذهبي: هذا خطّ شيخنا الإمام العلّامة (3)، شيخ الإسلام، فَرْد الزّمان، بحر (4) العلوم، تقي الدين. مولده عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقرأ القرآن والفقه، وناظر واستدلّ وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير، وأفتى ودرَّس وله نحو العشرين سنة (5). وصنَّف التصانيف، وصار من كبار (6) العلماء في حياة شيوخه، وله من (7) المُصنَّفات الكبار التي سارت بها الرُّكبان، ولعلّ تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كرَّاس وأكثر (8). وفسَّر كتابَ الله تعالى مُدَّة سنين من صدره أيام الجُمَع، وكان يتوقَّد ذكاءً، _________ (1) (ف): «الشهروي» تحريف. وهو: محمد بن عبد القاهر بن عبد الرحمن محيي الدين الشيباني الشهرزوري الموصلي الشافعي (ت 778). ترجمته في «الوافي»: (3/ 225 - 227)، و «الدرر الكامنة»: (4/ 21)، و «إنباء الغمر»: (1/ 220). وقد نقل هذا الثناء أيضًا ابن ناصر الدين في «الرد الوافر» (ص 69). (2) سقطت من (ف). (3) من الأصل فقط. (4) (ف): «محيي». (5) «سنة» ليست في (ب، ق). (6) (ب، ق، والرد): «أكابر». (7) «من» ليست في (ب، ق، والرد). (8) «وأكثر» ليست في (ب، ق).

(الكتاب/32)


وسماعاته (1) من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصِحّته وسقمه فما يُلْحَق فيه. وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين ــ فضلًا عن مذاهب (2) الأربعة ــ فليس له فيه نظير (3). وأما معرفته بالملل والنِّحَل، والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه نظيرًا، ويدري جملةً صالحة من اللغة، وعربيته (4) قويّة جدًّا، ومعرفته بالتاريخ والسِّيَر فعجبٌ عجيب!! وأما شجاعته وجهاده وإقدامه، فأمرٌ يتجاوز الوصف ويفوق النعت. وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يُضْرَب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والمَلْبس. وقال الذهبيُّ في موضع آخر ــ وقد ذكر الشيخ رحمه الله ــ: كان آيةً في (5) الذكاء وسُرْعة الإدراك، رأسًا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحرًا في النقليات. هو في زمانه فريد عصره علمًا وزهدًا، وشجاعةً وسخاءً، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وكثرةَ تصانيف. قرأ وحصَّل، وبرع في الحديث والفقه، وتأهَّل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع [ق 11] عشرة سنة. وتقدَّم في علم التفسير والأصول وجميع علوم _________ (1) (ب، ق): «وسماعًا». (2) (ك): «المذاهب». (3) (ب، ك): «فليس فيه»، (ف): «فليس له نظير». (4) (ك): «عربية». وسيأتي قول الذهبي: «وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة». (5) الأصل: «من».

(الكتاب/33)


الإسلام؛ أصولها وفروعها، ودِقّها وجِلّها سوى علم القراءات (1). فإن ذُكِرَ التفسير فهو حامل لوائه (2)، وإن عُدّ الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفَّاظ نطقَ وخَرِسوا، وسَرَد وَأَبْلَسوا، واستغنى وأفلسوا. وإن سُمِّي المتكلّمون فهو فَرْدهم وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يَقْدم الفلاسفة فلَّسهم (3) وتيَّسَهم، وهتك أستارهم، وكشف عُوارهم (4)، وله يدٌ طولى في معرفة العربية والصرف واللغة. وهو أعظم من أن تَصِفه (5) كَلِمي، أو يُنبِّه على شأوه قلمي، فإنَّ سيرته وعلومه ومعارفه ومِحَنَه وتنقّلاته يحتمل (6) أن ترصَّع (7) في مجلّدتين. وهو بَشَرٌ من البشر له ذنوب، فالله تعالى يغفر له ويُسكنه أعلى جنته؛ فإنه كان ربَّاني الأمة، وفريد الزمان، وحامل لواء الشريعة، وصاحب معضلات المسلمين. وكان رأسًا في العلم (8)، يبالغ في إطراء (9) قيامه في _________ (1) (ف): «القرآن» خطأ. (2) (ب، ق): «رايته». (3) (ك): «فلسفهم». (4) (ب): «عورائهم». (5) (ف، ك): «يصقه». (6) (ف، ك): «تحتمل». (7) (ب، ق، ف): «توضع». (8) «وكان» ليست في (ب، ق، ف). و (ب): «الذكاء» بدلًا من «العلم». وزاد في (ق): «رأسًا في الذكاء». (9) كذا في الأصول الخطية، وكذا نقله الكرمي في «الكواكب» (ص 63). ولكن في «الشهادة الزكية» (ص 43) له أيضًا: «في أمر قيامه ... » فإن صحّ ما في النسخ، فلعلّ الذهبي قصد ما وقع للشيخ في مجالس المناظرة من الثناء على نفسه لما احتاج إلى ذلك، فإنه قال: «وتكلمت بكلام احتجت إليه مثل أن قلت: من قام بالإسلام في أوقات الحاجة غيري؟ ومن الذي أوضح دلائله وبينه؟ وجاهد أعداءه وأقامه لما مال؟ حين تخلى عنه كل أحد، فلا أحد ينطق ولا أحد يجاهد عنه، وقمت مظهرًا لحجته، مجاهدًا عنه، مرغّبًا فيه. فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام فيّ فكيف يصنعون بغيري»؟ ! انظر ما سيأتي في كتابنا هذا (ص 268)، و «مجموع الفتاوى»: (3/ 163).

(الكتاب/34)


الحق والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغةً ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد ولا لَحَظْتها في فقيه. وقال في مكان آخر ــ ذَكَر فيه ترجمةً طويلة للشيخ قبل وفاة الشيخ بدهر طويل (1) ــ: «قلت: وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفردَ به، فلا يبلغ أحدٌ في العصر رتبتَه ولا يقاربه. وهو عجَبٌ في استحضاره واستخراج الحُجَج منه، وإليه المنتهى في عَزْوه (2) إلى الكتب الستة و «المسند»، بحيث يَصْدُق عليه أن يقال: كلُّ حديثٍ لا يعرفه ابن تيميَّة فليس بحديث، ولكنَّ الإحاطة لله، غير أنه يغترف فيه (3) من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي. _________ (1) في «الدرة اليتيمية ــ ضمن تكملة الجامع» (ص 38 - 40). ومن قوله: «وقال في مكان .. » إلى هنا سقط من (ب). (2) ضبطها في الأصل «عُزُوِّه»! (3) ليست في (ب، ق، ك).

(الكتاب/35)


وأما التفسير فمسلَّمٌ إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن وقتَ إقامة الدَّليل بها على المسألة قوَّة عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحيَّر فيه. ولِفَرْط إمامته في التفسير ولعَظَمة اطِّلاعه يبيّن خطأ كثيرٍ (1) من أقوال المفسِّرين، ويوهِّي أقوالًا عديدة، وينصر قولًا واحدًا موافقًا لما دلَّ عليه القرآنُ والحديث. ويكتب في اليوم والليلة (2) من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين (3) أو من الرَّدّ على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أَزْيَد. وما أُبْعِد أنَّ تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة (4). وله في غير مسألةٍ مصنَّف مفرد (5) في مجلد ــ ثم ذكر بعض تصانيفه ــ وقال: ومنها كتابٌ في الموافقة بين المعقول والمنقول، في مجلدتين (6). قلت: هذا الكتاب ــ وهو كتاب «درء تعارض العقل والنقل» ــ في أربع مجلدات كبار، وبعض النُّسَخ به في أكثر من أربع مجلدات. وهو كتابٌ _________ (1) بقية النسخ: «وعظمة ... كثيرًا». (2) (ك): «والليل». (3) (أ، ف، ك): «الأصولين». والمثبت من (ب، ق، جزء الذهبي). (4) (ف): «مجلد». (5) زيادة «مفرد» من بقية النسخ، وجزء الذهبي. وفي (ك): « .. غير المسألة». والكتب المفردة التي ذكرها الذهبي هي: مصنف في مسألة التحليل (بيان الدليل في بطلان التحليل)، ومصنف في مسألة حفير، ومصنف في من سبّ الرسل (الصارم المسلول)، واقتضاء الصراط المستقيم. وانظر ما سبق (ص 14 - 15). (6) (ك): «مجلدين». هنا انتهى النقل عن الذهبي.

(الكتاب/36)


حافلٌ عظيم المقدار، ردَّ الشيخُ فيه على الفلاسفة والمتكلِّمين (1). وله كتابٌ في نحو مجلد أجاب فيه عمَّا أورده [ق 12] كمال الدين ابن الشَّرِيشي (2) على هذا الكتاب (3). وللشيخ رحمه الله من المصنَّفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرَّسائل، وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط، ولا أعلم أحدًا من متقدِّمي الأئمة (4) ولا متأخِّريها جَمَع مثل ما جمع، ولا صنَّف نحوَ ما صنَّف ولا قريبًا من ذلك (5)، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثيرًا منها صنَّفه في الحبس (6)، وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب. _________ (1) طبع الكتاب في جامعة الإمام بالرياض في أحد عشر مجلدًا، بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم. وفيه يقول ابن القيم في نونيته: واقرأ كتاب (العقل والنقل) الذي ... ما في الوجود له نظير ثاني (2) هو: أحمد بن محمد بن أحمد البكري كمال الدين الشريشي الشافعي القاضي (ت 718). انظر «ذيل تاريخ الإسلام» (ص 150 - 151)، و «الدرر الكامنة»: (1/ 252). (3) ذكره ابن رشيق (ص 295 - ضمن الجامع). (4) كذا في الأصل ومختصره «الكواكب» (ص 77)، وفي بقية النسخ: «الأمة»، و (ف): «متقدم الأمة». (5) قال الحافظ الذهبي في «السير»: (21/ 367) في ترجمة ابن الجوزي: «ما عرفت أحدًا صنف ما صنف». أقول: المكثرون من التصانيف جمعهم جميل العظم في «عقود الجوهر»، ومحمد خير في رسالة له في ذلك. ولا ريب أن شيخ الإسلام من أكثرهم تصنيفًا، وأقواهم مادة وبحثًا. (6) (ف): « ... بالحبس». (ك): «وكثير .. ».

(الكتاب/37)


[مصنفات الشيخ رحمه الله] وها أنا أذكرُ بعضَ مصنفاته، ليقف عليها من أحبَّ معرفتَها. فمن ذلك ما جمعه في تفسير القرآن العظيم، وما جمعه من أقوال مفسِّري السَّلف الذين يذكرون الأسانيد في (1) كتبهم، وذلك (2) أكثر من ثلاثين مجلدًا (3)، وقد بيَّض أصحابُه بعضَ ذلك، وكثيرًا منه لم يكتبوه بعدُ (4). وكان رحمه الله يقول: ربَّما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير (5)، ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا مُعَلِّم (6) إبراهيم علِّمني. وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها (7) وأمرِّغ وجهي في التراب، وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلِّم إبراهيم فهِّمْني، ويذكر قصَّة معاذ بن جبل وقوله لمالك بن يَخامِر لمَّا بكى عند موته وقال: إني لا أبكي على دنيا _________ (1) (ب، ق): «من». (2) بعده في (ك): «في». (3) زاد في «الكواكب»: «ولو كتب كله لبلغ خمسين مجلدًا». وقال ابن القيم في «النونية» (3679): إنه لا يقل عن عشر مجلدات كبار. (4) (ب، ق): «بعد ذلك». (5) وذكر ابن رشيق (ص 383) أن شيخ الإسلام قال له مرة: وقفت على نحو خمسة وعشر (كذا ولعلها: وعشرين) تفسيرًا مسندًا. (6) (ف): «يا معلم آدم ويا معلم ... ». (ك): «يا معلم آدم وإبراهيم». (7) (ب، ق): «وغيرها».

(الكتاب/38)


كنت أصيبها (1) منك ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذَين كنت أتعلمهما منك. فقال: إنَّ العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما فاطلب العلم عند أربعة ــ وسمَّاهم ــ فإن أعياك العلم عند هؤلاء، فليس هو في الأرض (2)، فاطلبه من معلِّم إبراهيم (3). قال الشيخ أبو عبد الله بن رُشَيِّق (4) ــ وكان من أخصِّ أصحاب _________ (1) (ب): «ذنب ... أصبتها». (ق): «أصبتها». (2) «فليس هو في الأرض» سقطت من (ف). (3) الأصل: «قاطبة من معلم». هذا كله ذكره ابن رشيق (ص 283) وسمى الأربعة: «عند أبي الدرداء، وعبدالله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وعبدالله بن سلام». وذكره ابن القيم في «إعلام الموقعين»: (6/ 197). أقول: هذا الأثر لم أقف عليه من رواية مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل، ورواه عن معاذ جماعة، أشهرها رواية يزيد بن عَميرة الهَمْداني عن معاذ، أخرجه الترمذي (3804)، والنسائي في «الكبرى» (8196)، وأحمد (22104)، وابن حبان (7165)، والحاكم: (1/ 98)، والبيهقي في «المدخل» (102)، وابن سعد (2/ 304) وغيرهم بألفاظ مختلفة. قال الترمذي: حسن غريب. كما في «تحفة الأشراف»: (8/ 418)، ونسخة الكروخي (ق 258)، وفي المطبوع: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقد نسبه شيخ الإسلام لمالك بن يخامر كما في «مجموع الفتاوى»: (4/ 531)، وتابعه تلميذه ابن القيم في «إعلام الموقعين»: (2/ 23، 6/ 197). (4) هو: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد، سبط ابن رُشَيِّق المالكي (ت 749) كاتب شيخ الإسلام، يقول ابن كثير: كان أبصر بخط الشيخ منه .. انظر ما كتبناه عنه في «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (ص 59). وهذ النقل من رسالته ــ المنسوبة خطأً لابن القيم ــ «أسماء مؤلفات ابن تيمية»: (ص 283 وما بعدها - ضمن الجامع).

(الكتاب/39)


شيخِنا وأكثرهم كتابة لكلامه وحرصًا على جمعه ــ: كتب الشيخ رحمه الله نقولَ السَّلف مجرَّدَةً (1) عن الاستدلال على جميع القرآن. وكتب في أوَّله قطعةً كبيرة (2) بالاستدلال. ورأيتُ له سورًا وآياتٍ يفسِّرها ويقول في بعضها (3): كتبته للتذكُّر ونحو ذلك. ثم لما حُبِس في آخر عمره كتبتُ له أن يكتب على جميع القرآن مرتَّبًا (4) على السور، فكَتَبَ يقول: إن القرآن فيه ما هو بيِّن بنفسه، وفيه ما قد بيّنه المفسرون في غير كتاب، ولكن بعض الآيات أشكل تفسيرُها على جماعةٍ من العلماء، فربّما يطالع الإنسان عليها (5) عدَّة كتبٍ ولا يتبيّن له تفسيرُها، وربَّما كتب المصنف الواحدُ في آية تفسيرًا ويفسِّر نظيرها بغيره (6)، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل لأنه أهم من غيره (7)، وإذا _________ (1) الأصل: «مخرَّجة». (2) (ف): «يسيرة». (3) (ب): «بعض». (4) (ف): «شيئًا».وموضعه بياض في (ك)، وبدا طرف الكلمة (تنا) ومقابله في الهامش بخط مغاير: «تفسير مرتبًا». (5) «عليها» ليست في (ب، ق). (6) (ك): «يفسر غيرها بنظيره». (7) طبعت فصول من هذه الآيات ضمن «مجموع الفتاوى» المجلدات (14، 15، 16)، ثم طبعت مستقلة مع غيرها بعنوان «تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير فيها القول الصواب بل لا يوجد فيها إلا ما هو خطأ». في مجلدين، بتحقيق عبد العزيز الخليفة. وانظر ما سيأتي (437).

(الكتاب/40)


تبيّن معنى آية تبيّن معاني نظيرها (1). وقال: قد فتح الله عليَّ في هذا الحِصْن في هذه المرَّة (2) من معاني القرآن وأصول (3) العلم بأشياء مات كثير من العلماء يتمنَّونها، وندمتُ على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، أو نحو هذا (4). وأرسل إلينا شيئًا يسيرًا مما كتبَه من هذا الجنس (5)، وبقي شيءٌ كثير في سَلَّة (6) الحُكْم عند الحُكَّام لمَّا أخرجوا كتبه من عنده، وتوفي وهي عندهم [ق 13] إلى هذا الوقت، نحو أربع عشرة رِزْمة (7). _________ (1) (ق، ف، ك): «نظائرها». (2) (ب، وابن رشيق): «المدة». (3) (ب، ف، ك): «ومن أصول». (4) انظر ما كتب الأستاذ محمد بن عبد الله أبو الفضل القونوي حول هذه الكلمة «وندمت على تضييع ... » في كتابه الماتع «موقف خليل الصفدي من ابن تيمية»: (ص 93 - 94). (5) (ك): «في هذا الحبس». (6) (ف): «مسئلة»، و (ك): «سنلة» تحريف. وسلة الحكم: هو المكان الذي تحفظ فيه الوثائق ونحوها، بحيث لا يخرجها ولايَطَّلع عليها إلا القاضي أو من يأذن له. (7) سيذكر المصنف (ص 445) «أن هذه الكتب حُملت إلى القاضي علاء الدين القونوي (ت 729)، وجُعلت تحت يده في المدرسة العادلية». وتوفي القونوي بعد الشيخ بسنة، فبقيت الكتب عند القاضي الشافعي، حتى خلصها منه الأمير قطلوبغا الفخري بعد أربعة عشر عامًا. قال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»: (18/ 440): «وفي يوم السبت ثالثه (أي ثالث شهر رجب من عام 742) استدعى قطلوبغا الفخريُّ (الأمير قطلوبغا) القاضيَ الشافعيَّ، وألحَّ عليه في إحضار الكتب المُعْتَقَلة في سلَّة الحُكم، التي كانت أُخِذت من عند الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله من القلعة المنصورة في أيام جلال الدين القزويني، فأحضرها القاضي بعد جهد ومدافعة، وخاف على نفسه منه، فقبضها منه الفخري بالقصر، وأذن له في الانصراف من عنده، وهو متغضِّب عليه، وربما همَّ بعزله لممانعته إياها، وربما قال قائل: هذه فيها كلام يتعلق بمسألة الزيارة، فقال الفخري: كان الشيخ أعلم بالله وبرسوله منكم. واستبشر الفخري بإحضارها إليه، واستدعي بأخي الشيخ زين الدين عبد الرحمن، وبالشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن قيم الجوزية، وكان له سعي مشكور فيها، فهنأهما بإحضاره الكتب، وبيَّت الكتبَ تلك الليلة في خزانته للتبرُّك، وصلى به الشيخ زين الدين أخو الشيخ صلاة المغرب بالقصر، وأكرمه الفخري إكرامًا زائدًا لمحبته الشيخ رحمه الله» اهـ.

(الكتاب/41)


ثم ذكر الشيخ أبو عبد الله ما رآه ووقف عليه من تفسير الشيخ (1). قلت: ومن مصنَّفاته: كتاب «بيان (2) تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» في ستّ مجلدات، وبعض النسخ منه (3) في أكثر من ذلك. وهو كتاب جليل المقدار، معدوم النَّظير، كشف الشيخُ فيه أسرار الجهمية، وهتَكَ أستارَهم. ولو رحل (4) طالب العلم لأجل تحصيله من (5) _________ (1) انظر ما ذكره ابن رشيق في كتابه (ص 284 - 294 - ضمن الجامع). وبهامش (ك) دون علامة لحق أو تصحيح ما نصه: «ومن مصنفاته تفسير سورة الصمد، وجواب سؤال عن كلام الله تعالى هل يتفاضل». (2) «بيان» ليست في (ب، ق). (3) بقية النسخ: «به». وهذا الكتاب ردٌّ على كتاب «أساس التقديس» للرازي. ذكره ابن رشيّق (ص 295). وقد طبع ما وجد من كتاب الشيخ في عشر مجلدات عن مجمع الملك فهد، بتحقيق مجموعة من الباحثين. (4) (ك): «رحل رجل». (5) (ط): «إلى».

(الكتاب/42)


الصين ما ضاعت رحلتُه (1). ومنها: كتاب «منهاج السنَّة النبويَّة في نقضِ كلام الشِّيَعِ القدرية» (2) في ثلاث مجلَّدات، وبعض النسخ في أربع مجلدات (3). ردَّ فيه على ابن المُطَهَّر الرَّافضي (4)، وبيَّن جهل الرَّافضة وضلالتَهم (5)، وكذبَهم وافتراءَهم. ومنها: كتاب «جواب الاعتراضات المصريَّة على الفُتْيا الحمويَّة» في أربع مجلَّدات، وبعض النُّسَخ به (6) في أقلّ (7). _________ (1) وذكره ابن القيم في النونية فقال: وكذلك التأسيس أصبح «نقضه» ... أُعجوبة للعالم الرباني (2) (ف): «والقدرية»، (ط): «الشيعة». وقد نص الشيخ في أثناء كتابه على اسمه فقال: «ولهذا جُعِل هذا الكتاب: منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشِّيَع والقدريَّة». «المنهاج»: (2/ 199). (3) صدر في تسع مجلدات عن جامعة الإمام بالرياض، بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم. (4) هو: حسن (أو حسين) بن يوسف بن مطهر الحلي العراقي أبو منصور (ت 726) له تصانيف كثيرة. وكتابه المردود عليه هو «منهاج الكرامة ــ ويقال: الاستقامة ــ في معرفة (أو إثبات) الإمامة». ترجمته في «البداية والنهاية»: (18/ 271 - 272) و «الدرر الكامنة»: (2/ 71 - 72). (5) (ب، ق): «وضلالهم». (6) ليست في (ب، ق). (7) وكذا قال ابن رشيق (ص 294): في أربع مجلدات، وقيل: في ست مجلدات كما قال ابن القيم في نونيته: وكذاك أجوبة له مصرية ... في ست أسفار كُتِبْن سمان والمردود عليه هو: القاضي شمس الدين أحمد بن إبراهيم السَّرُوجي الحنفي (ت 710) وصفه شيخ الإسلام بأفضل القضاة المعارضين. انظر «بيان تلبيس الجهمية»: (1/ 6). وترجمته في «الجواهر المضية»: (1/ 123) للقرشي، و «البداية والنهاية»: (18/ 107). وقد نُشِرت منه قطعتان في مجلد لطيف ضمن هذا المشروع (آثار شيخ الإسلام ابن تيمية)، بتحقيق صديقنا البحاثة الشيخ محمد عزير شمس.

(الكتاب/43)


وهو كتاب عزيز الفوائد سهل التناول. ومنها: كتاب الردّ على النصارى سمَّاه «الجواب الصّحيح لمن بدَّل دينَ المسيح» في مجلدين، وبعض النسخ منه (1) في ثلاث مجلدات، وبعضها في أكثر (2). وكذلك كثير من كتبه الكبار تختلف النُّسَخُ بها. وهذا الكتاب من أجلِّ الكتب وأكثرها فوائد، ويشتمل على تثبيت النبوات وتقريرها بالبراهين النَّيِّرة الواضحة، وعلى تفسير آيٍ كثير من القرآن، وعلى غير ذلك من المهمَّات. ومنها: كتاب «الإيمان» في مجلد (3). وهو كتاب عظيم لم يُسْبَق إلى _________ (1) (ق، ف، ك): «به». وسقطت «منه» من (ب)، و «في» سقطت من (ف). (2) وقد كتبه الشيخُ ردًّا على كتاب ورد من قبرص فيه الاحتجاج لدين النصارى بما يحتجّ به علماء دينهم قديمًا وحديثًا. كما ذكر في مقدمته: (1/ 98). وقد صدر الكتاب عن دار العاصمة محققًا في سبع مجلدات، بتحقيق ثلاثة من الباحثين. (3) مطبوع في «الفتاوى»: (7/ 4 - 460)، وطبع مستقلاًّ مرات، وحقق في رسالة جامعية ولم تطبع حتى الآن. ويسمى «الإيمان الكبير»، وهو غير «الإيمان الأوسط» الآتي ذكره (ص 105).

(الكتاب/44)


مثله. ومنها: كتاب «الاستقامة» في مجلدين (1). وهو من أجلِّ الكتب وأكثرها نفعًا. ومنها: كتاب «تنبيه الرَّجل العاقل على تمويه الجدل (2) الباطل» في مجلد (3). وهو من أحسن الكتب وأكثرها فوائد. قال في خُطبته: «الحمد لله العليم القدير الخالق، اللطيف الخبير الرَّازق، السميع البصير الحكيم (4) الصّادق، العليّ الكبير الفاتق الرَّاتق (5)، الذي يسنُّ المناهجَ (6) والشرائع ويُبيِّن الطرائق (7)، ويَنْصِبُ الأعلامَ الطوالعَ لكشف الحقائق، ويُنزِّل الآيات والدَّلائل لبيان الجوامع _________ (1) والكتاب أكثره في الرد على كتاب «الرسالة» للقشيري، ومناقشة ما فيه من أخطاء. وقد طبع بجامعة الإمام بالرياض في مجلدين، بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم. (2) (ف): «الجدال». (3) والكتاب ردّ على برهان الدين النسفي (ت 687) في كتابه «فصول في الجدل» ويقال: المقدمة في الجدل، أو المقدمة البرهانية. وقد طبع الكتاب في مجلدين ضمن هذا المشروع المبارك، بتحقيق محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران. وقد فقدت مقدمته من نسخة الكتاب الخطية، وحفظها لنا ابن عبد الهادي في كتابه هذا، ولله الحمد والمنة. وقد كتبنا مقالًا مفصلًا في إثبات نسبة الكتاب الذي نشرناه إلى شيخ الإسلام في مقدمة الطبعة الثانية، ونُشر على الشبكة، فليراجعه من أحبّ. (4) (ف، ك): «الحليم». (5) (ك): «الفائق الرائق» تحريف. (6) (ف): «المنهاج». (7) (ف): «الطريق».

(الكتاب/45)


والفوارق، ويقذفُ بالحقِّ على الباطل فيدْمَغُه فإذا هو زاهق. أحمده ثناءً عليه بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى وشكرًا له على نعمه البواسق (1). وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ربّ المغارب والمشارق، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله المؤيَّد بالمعجزات الخوارق، الموضِّح لسبيل الحقِّ في الجلائل والدقائق، صلى الله عليه وعلى آله (2) وسلم صلاة وتسليمًا باقيَين ما بقيت الخلائق. أما بعد، فإنَّ الله سبحانه علمَ ما عليه بنو آدم من كثرة الاختلاف والافتراق، وتبايُن العقول والأخلاق، حيث خُلِقوا من طبائع ذات تنافر، وابتلوا بتشعُّب (3) الأفكار والخواطر. فبعث الله الرُّسل مبشِّرين ومنذرين ومبيِّنين للإنسان ما يُضلُّه ويهديه، وأنزل معهم الكتاب بالحقِّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وأمرهم بالاعتصام [ق 14] به حذرًا من الافتراق (4) في الدِّين، وحضَّهم عند التنازع على الرَّدّ إليه وإلى رسوله المبين. وعَذَرهم بعد ذلك فيما يتنازعون فيه من دقائق الفروع العملية (5)، لخفاء مَدْرَكها وخفَّة مَسْلكها وعدم إفضائها إلى بليَّة، وحضَّهم على المناظرة والمشاورة، _________ (1) (ف، ك): «السواسق». (2) (ف) زيادة: «وصحبه». (3) (ف): «بتشعُّث». (4) (ك): «التفرق». (5) (ف، ك): «العلمية».

(الكتاب/46)


لاستخراج الصّواب في الدّنيا والآخرة، حيث يقول لمن رضي دينهم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، كما أمرهم بالمجادلة والمقاتلة لمن عَدَل عن السبيل العادلة، حيث يقول آمرًا وناهيًا لنبيِّه والمؤمنين، لبيان ما يرضاه منه ومنهم: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]. فكان أئمة الإسلام ممتثلين لأمر المليك (1) العلَّام، يجادلون أهلَ الأهواء المضلَّة، حتى يردُّوهم (2) إلى سواء المِلَّة، كمجادلة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج المارقين، حتى رجع كثيرٌ منهم إلى ما خرج عنه من الدين، وكمناظرة كثير من السلف الأولين لصنوف المبتدعة الماضين، ومن في قلبه ريبٌ يخالفُ اليقين، حتى هدى الله من شاء من البَشَر، وعَلَن (3) الحقُّ وظَهَر، ودَرَس ما أحدثه المبتدعون واندَثَر. وكانوا يتناظرون في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، بالأدلة المرضيَّة والحُجَج القويَّة، حتى كان قلَّ مجلسٌ يجتمعون فيه (4) إلا ظهر الصواب، ورجع راجعون إليه؛ لاستدلال المستدلِّ بالصّحيح من الدلائل، وعِلْمِ المنازعِ (5) أنَّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل. كمجادلة الصّدّيق لمن نازعه في قتال مانعي الزَّكاة حتى رجعوا إليه، _________ (1) (ب، ق): «الملك». (2) (ف، ك): «يردونهم». (3) (ف): «وأعلن». (4) بقية النسخ: «عليه». (5) ضبطها في الأصل و (ف): «وعَلِمَ المنازعُ».

(الكتاب/47)


ومناظرتِهم في جَمْع المُصحف حتى اجتمعوا عليه، وتناظُرِهم (1) في حدِّ الشّارب وجاحد التحريم، حتى هُدوا إلى الصراط المستقيم. وهذا وأمثاله يجلُّ عن العدِّ والإحصاء، فإنَّه أكثرُ من نجوم السّماء. ثم صار المتأخِّرون بعد ذلك قد يتناظرون في (2) أنواع التأويل والقياس بما يُؤثِّر في ظنِّ بعض الناس، وإن كان عند التحقيق يؤول إلى الإفلاس، لكنَّهم لم يكونوا يقبلون من المناظر إلا ما يفيد ولو ظنًّا ضعيفًا للنَّاظر، واصطلحوا على شريعةٍ من الجدل، للتعاون على إظهار صواب القول (3) والعمل، ضبطوا بها قوانينَ الاستدلال، لتسلم عن الانتشار والانحلال. فطرائقهم وإن كانت بالنسبة إلى طرائق (4) الأوَّلين غيرَ وافيةٍ بمقصود الدّين، لكنَّها غيرُ خارجةٍ عنها بالكليَّة ولا مشتملة على مالا يُؤثِّر في القضيَّة، وربَّما كسَوها من جَودة العبارة، وتقريب الإشارة، وحُسْن الصِّياغة (5)، وصنوف البلاغة ما يُحَلِّيها عند النّاظرين، ويُنْفِقُها عند المتناظرين، مع ما اشتملت عليه من الأدلَّة السَّمعية والمعاني الشرعيّة (6)، وبنائها على الأصول الفقهيَّة والقواعد المرضيَّة (7)، والتحاكم فيها إلى _________ (1) (ب، ق): «ومناظرتهم». (2) الأصل و (ب، ق): «من». (3) (ف): «التأول». (4) (ق): «أدلة». (5) (ب، ق): «الصناعة». (6) الأصل: «الشريعية». (7) (ك): «الشرعية».

(الكتاب/48)


حاكم (1) الشّرع الذي لا يُعْزَل، وشاهد العقل المُزَكَّى المعدَّل. وبالجملة [ق 15] لا تكاد تشتمل على باطل مَحْض ونُكْرٍ (2) صِرْف، بل لا بدَّ فيها من مَخِيلٍ للحقِّ ومشتملٍ على عُرْف. ثم إن بعض طلبةِ العلوم من أبناء فارس والروم صاروا مولَعين (3) بنوعٍ من جَدَل المُمَوِّهين استحدثه طائفةٌ من المشرقيِّين (4)، وألحقوه بأصول الفقه في الدين، راوغوا (5) فيه مراوغة الثَّعالب، وحادوا فيه عن المسلك اللَّاحب، وزخرفوه بعبارات موجودة في كلام العلماء قد نطقوا بها، غير أنَّهم وضعوها في غير مواضعها المستحقَّة لها، وألَّفوا الأدلَّة تأليفًا غير مستقيم، وعَدَلوا عن التركيب الناتج إلى العقيم. غير أنَّهم بإطالة العبارة، وإبعاد الإشارة، واستعمال الألفاظ المشتركة والمجازيَّة في المقدِّمات، ووضع الظنيَّات موضع (6) القطعيَّات، والاستدلال بالأدلة العامَّة حيثُ ليس (7) لها دلالة، على وجهٍ يستلزمُ الجمعَ بين النقيضين مع الإحالةِ والإطالة، وذلك مِنْ فِعْل غالطٍ أو (8) _________ (1) (ب): «حاكم». (2) (ب، ف، ك): «مكر». وغير واضحة في (ق). (3) رسمها في الأصل: «مولفين». (4) من بقية النسخ، وفي الأصل: «المسرفين». (5) (ب، ف): «راغو». (6) (ف): «مواضع». (7) (ف، ك): «ليست». (8) (ف، ك): «و».

(الكتاب/49)


مُغالطٍ للمُجادل، وقد نهى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عن أغلوطات المسائل (1) = نَفَق ذلك على الأغْتام الطَّماطِم، وراج رواج البَهْرج على الغِرِّ العادِم، واغترَّ به بعضُ الأغْمار الأعاجم، حتى ظنُّوا أنَّه من العلم بمنزلة الملزوم من اللازم، ولم يعلموا أنه والعلم المقرِّب من الله (2) متعاندان متنافيان، كما أنَّه والجهل المركَّب متصاحبان متآخيان (3). فلما استبان لبعضهم أنّه كلامٌ ليس له حاصل، لا يقوم بإحقاقِ حقٍّ ولا إبطال باطل= أخَذَ يطلبُ كشفَ مُشكِله وفتحَ مُقفَله، ثم إبانة علله وإيضاح زَلله، وتحقيق خطئه وخلله (4)؛ حتى يتبيَّن (5) أنَّ سالكَه يسلك في الجَدَل مسلك اللَّدَد، وينأى عن مسالك (6) الهدى والرَّشَد، ويتعلَّق من الأصول بأذيالٍ لا توصل إلى حقيقة، ويأخذ من الجدل الصحيح رسومًا يموِّه بها على أهل الطّريقة. ومع ذلك فلا بدَّ أن يدخل في كلامهم قواعدُ صحيحة، ونُكتٌ من _________ (1) أخرجه أحمد (23688)، وأبو داود (3656)، وغيرهما، من طرق عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وفي سنده عبد الله بن سعد مجهول، وضعف الحديث ابن القطان في «بيان الوهم»: (4/ 66)، وقواه الحافظ في «فتح الباري»: (10/ 407). (2) «من الله» من الأصل فقط. (3) (ف): «ومتآخيان». (4) بقية النسخ: «وخطله». (5) (ف): «تبين». (6) (ف، ك): «مسلك».

(الكتاب/50)


أصول الفقه مليحة، لكن إنَّما أخذوا ألفاظَها ومبانيها دون حقائقها ومعانيها، بمنزلة ما في الدِّرْهم الزّائف من العين، ولولا ذلك لما نَفَق على من له عين. فلذلك آخذُ في تمييز حقِّه من باطله، وحاليه من عاطله، بكلام مختصر مرتجل، كتبه كاتبُه على عَجَل. والله الموفِّق لما يحبّه ويرضاه، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله». انتهت خطبة هذا الكتاب. ومن مصنفاته أيضًا: كتاب «بيان الدّليل على بطلان التّحليل» (1). وكتاب «الصّارم المسلول على شاتم الرّسول» (2). وكتاب «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة (3) أصحاب الجحيم» (4). وكتاب «تحرير الكلام في حادثة الاقتسام» (5)، وسماه بعضهم: كتاب _________ (1) طبع عدة مرات، أفضلها بتحقيق الدكتور أحمد الخليل، دار ابن الجوزي. وطبع مختصره للبعلي ضمن هذا المشروع بتحقيقي. (2) طبع مرارًا، وأفضلها بتحقيق الشيخين محمد الحلواني ومحمد شودري، عن دار رمادي، الطبعة الأولى 1417 هـ في ثلاث مجلدات. وطبع مختصره للبعلي بتحقيقي. (3) (ب، ق، ف): «في مخالفة». وعند ابن رشيّق (ص 305): «في الرد على أصحاب .. ». (4). طبع عدة مرات، آخرها بتحقيق الدكتور ناصر العقل في مجلدين. وطبع مختصره للبعلي بتحقيقي. (5) (ك): «الأقسام». انظر ما قاله ابن الزملكاني (ص 13 ــ 14) عن الكتاب، وقال ابن رجب في «الذيل»: (ص 384 - الجامع): إنه مجلد في مسألة من القسمة كتبها اعتراضًا على الخويي في حادثة حكم فيها.

(الكتاب/51)


«التحرير في مسألة حفير» (1). وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» (2). وكتاب «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» (3). وكتاب «تفضيل صالح الناس على سائر الأجناس» (4). وكتاب «التحفة العراقية في الأعمال القلبية» (5). وكتاب [ق 16] «المسائل (6) الإسكندرية في الردّ على الملاحدة والاتحادية» (7). وتعرف بـ «السبعينية» لاشتمالها على الردّ على ابن سبعين _________ (1). وقع عند ابن رشيّق (ص 306): «مسألة الخضر» تحريف. (2) عند ابن رشيّق (ص 306): «دفع الملام ... مجلد لطيف».طبع مرارًا، وهو في «مجموع الفتاوى»: (20/ 231 - 293). (3) ذكره ابن رشيّق (ص 306). وطبع مختصره مرارًا، وهو في «مجموع الفتاوى»: (28/ 244 - 397). وطبع كاملًا لأول مرة ضمن مشروع آثار شيخ الإسلام ابن تيمية في مجلد، بتحقيقي. (4) ذكره ابن رشيق (ص 298 - الجامع) وغيره. ولعله ما في «مجموع الفتاوى»: (4/ 350 - 392). (5) قال ابن رشيّق (ص 298): «نحو ستين ورقة». وقد طبع مرارًا، آخرها بتحقيق د. يحيى الهنيدي، عن مكتبة الرشد بالرياض. وهو في «مجموع الفتاوى»: (10/ 5 - 90). (6) (ف، ك): «مسائل». (7) قال ابن رشيّق (ص 295): «رد فيه على ابن سبعين وغيره، مجلد». طبع بعنوان «بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد» بتحقيق د. موسى الدويش، عن دار العلوم والحكم 1408. وقد ذكر أن هذا العنوان من النساخ، وأن المؤلف قد ذكره في كتبه بعدة أسماء، وكذلك تلاميذ الشيخ ومن بعدهم ذكروه بعناوين أخرى. راجع مقدمة التحقيق (ص 53 - 57).

(الكتاب/52)


وأضرابه. وكتاب «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» (1). وكتاب «فضائل القرآن» (2). وكتاب «أقسام القرآن» (3). وكتاب «أمثال القرآن» (4). وهذه المصنَّفات بعضها مجلد كبير، وبعضها مجلد صغير. وله كتاب في الردّ على المنطق، مجلد كبير (5). _________ (1) قال ابن رشيّق (ص 302): «مجلد لطيف». طبع عدة مرات، ومن آخرها طبعة مكتبة الرشد بتحقيق د. عبد الرحمن اليحيى. وهو في «مجموع الفتاوى»: (11/ 156 - 310). وتأخر ذكر هذا الكتاب في (ب، ق) إلى ما بعد «أمثال القرآن». (2) ذكره ابن رشيق (ص 294 - الجامع) بعنوان «قاعدة في فضائل القرآن». (3) ذكره ابن رشيق (ص 294) بعنوان «قاعدة في أقسام القرآن». وهو في «مجموع الفتاوى»: (13/ 314 - 328) بعنوان «فصل في ... ». (4) ذكره ابن رشيق (ص 294) بعنوان «قاعدة في أمثال القرآن». (5) ذكره ابن رشيّق (ص 295). وطبع بتحقيق الشيخ عبد الصمد شرف الدين رحمه الله، عن الدار القيمة بالهند عام 1368 هـ، بعنوان «الرد على المنطقيين». وهذا هو عنوانه الصحيح؛ لأنه هو المكتوب على غلاف نسخته الخطية التي قرئت على المصنف، وعليها خطه في مواضع عديدة. ويسمى أيضًا «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق القرآن» وقد لخصه السيوطي وطبع تلخيصه في «مجموع الفتاوى»: (9/ 82 - 254).

(الكتاب/53)


وله مصنفان آخران في الردّ على المنطق، نحو مجلد (1). وله كتاب في محنته بمصر (2)، مجلَّدان، ردَّ فيه على القائلين (3) بالكلام النفسيّ من نحو ثمانين وجهًا (4). وله في مسألة القرآن مؤلفات كثيرة وقواعد وأجوبة وغير ذلك، إذا _________ (1) ذكر الصفدي في «أعيان العصر»: (ص 354 - الجامع)، و «الوافي»: (ص 477 - الجامع) أن للشيخ مصنّفًا في المنطق في مجلد، ثم قال: وآخر في مجلد لطيف. أقول: وللشيخ فصل في ضبط كليات المنطق والخلل فيه، طبع ضمن «مجموع الفتاوى»: (9/ 255 - 319). أما الكتاب المطبوع باسم «نقض المنطق» فليس عنوانه من وضع الشيخ بل من اجتهاد الطابع، وليس موضوعه في المنطق، بل غالب الكتاب في عقيدة أهل الحديث، وفي آخره جواب عن المنطق وهل هو فرض كفاية؟ (ص 155 - 209)، وقد استلّ هذا القسم وطبع في «مجموع الفتاوى»: (9/ 5 - 82). (2) وهو الكتاب المسمى بـ «التسعينية»، وسمي بذلك؛ لأن الشيخ ردّ على القائلين بالكلام النفسي من نحو تسعين وجهًا، طبع أولاً في «مجموعة فتاوى ابن تيمية»: (5/ 2 - 288)، ثم طبع بتحقيق د. محمد العجلان، في ثلاثة مجلدات عن دار المعارف بالرياض عام 1420 هـ. واختلف في تسميته على أقوال. انظر مقدمة تحقيقه: (1/ 56 - 59). (3) من هنا طمس في (ق) أكثر من نصف صفحة. (4) ذكر أنها من ثمانين وجهًا ابن رشيق: (ص 296 - الجامع)، والصفدي: (ص 354 - الجامع). وذكر أنها من تسعين وجهًا ابن القيم في «النونية»: (ص 341 - الجامع) وغيره. واختلافهم عائد إلى احتساب بعض الأوجه أو التفريعات في العد، أو عدم احتسابها.

(الكتاب/54)


جُمِعَت (1) بلغت مجلدات كثيرة، منها ما بُيِّض ومنها ما لم يُبَيض. فمن مؤلفاته في ذلك: الكيلانية (2). والبغدادية (3). والقاهرية (4). والأزهرية (5). والبعلبكية (6). والمصرية (7). _________ (1) (ك): «اجتمعت». (2) (ف): «الكلابية» تحريف. قال ابن رشيق: (ص 296 - الجامع): «وهو جواب في مسألة القرآن، في مجلد لطيف». وهو في «مجموع الفتاوى»: (12/ 323 - 501). وسميت كذلك؛ لأن السؤال ورد من كيلان، وكِيلان أو جِيلان إحدى محافظات إيران الآن على حدود بحر قزوين، وهي اسم لبلاد كثيرة من وراء بلاد طبرستان. وليس في جيلان مدينة كبيرة إنما هي قرى في مروج بين جبال، ينسب إليها: جيلاني وجيلي، والعجم يقولون: كيلان، وقد نسب إليها من لا يحصى من أهل العلم في كل فن. انظر «معجم البلدان»: (2/ 201). (3). قال ابن رشيق: (ص 297 - الجامع): «وهي مسألة في القرآن». وللشيخ رسالة بعنوان «البغدادية فيما يحل من الطلاق ويحرم» في «مجموع الفتاوى»: (33/ 5 - 43). (4) (ب، ف، ك): «والقادرية» وكذا عند ابن رشيق: (ص 297 - الجامع)، وقال: «وهي مسألة في القرآن، نحو عشر ورقات». والمثبت من الأصل، وهو المناسب لتسمية كتب المؤلف بأسماء البلدان التي وردت منها الأسئلة. (5) قال ابن رشيّق (ص 297): «بضع وعشرون ورقة». اقتبس نصوصًا منها الفتوحي في «شرح الكوكب»: (2/ 34 - 40)، والمرداوي في «التحبير»: (3/ 1278 - 1282). ثم ضمت إلى «جامع المسائل-المجموعة الخامسة»: (5/ 123 - 129). (6) قال ابن رشيّق (ص 296): «تكلم فيها على اختلاف الناس في الكلام، نحو عشرين ورقة». وقد طبعت عدة مرات، آخرها رسالة ماجستير بجامعة أم القرى، عن نسخة عليها خطّ المؤلف. وهي في «مجموع الفتاوى»: (12/ 117 - 161) ولم تعنون فيه، وتبدأ بقوله: «فصل في أن القرآن العظيم كلام الله وليس شيء منه كلامًا لغيره». (7) قال ابن رشيق (ص 296): «جواب في مسألة القرآن، وردت من مصر، نحو سبعين ورقة». وهي في «مجموع الفتاوى»: (12/ 162 - 234). ومما ذكره ابن رشيق ولم يذكره المصنف: «جواب مسألة في القرآن، هل هو حرف وصوت أم لا؟ نحو ثلاثين ورقة».

(الكتاب/55)


وله في الردِّ على الفلاسفة مجلدات وقواعد أملاها مفردة غير ما (1) تضمَّنته كتبه. منها: إبطال قولهم بإثبات الجواهر العقلية (2). ومنها: إبطال قولهم بقدم العالم، وإبطال ما احتجّوا به (3). ومنها: إبطال قولهم: إنَّ (4) الواحد لا يصدر عنه إلا واحد (5). وله كتاب في الوسيلة، مجلد (6). وكتاب الردّ على البكري في الاستغاثة، مجلد (7). وكتاب شرح أول كتاب الغزنوي في أصول الدين، مجلد لطيف (8). _________ (1) (ب): «وغيرها». (2) ذكره ابن رشيق (ص 297). (3). قال ابن رشيق (ص 297): «في مجلد كبير». (4) «إبطال» ليست في (ف)، و (ب، ك): «في إن». (5). ذكره ابن رشيق (ص 397). (6) ذكره ابن رشيّق (ص 295). وطبع مرات باسم «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة»، وهو في «مجموع الفتاوى»: (1/ 142 - 368). وفي «جامع المسائل-الخامسة»: (5/ 95 - 122) قاعدة في الوسيلة. (7) ذكره ابن رشيّق (ص 295). وطبع عدة مرات، آخرها بتحقيق د. عبد الله السهلي في مجلد، والكتاب ناقص من أوله. واختصره الحافظ ابن كثير. وطبع أيضًا. (8) ذكره ابن رشيّق (ص 295). والغزنوي هو جمال الدين أحمد بن محمد الحنفي (ت 593) وكتابه طبع في مجلد لطيف بعنوان: «أصول الدين»، عن دار البشائر عام 1418 هـ بتحقيق عمر الداعوق.

(الكتاب/56)


وكتاب «شرح عقيدة الأصبهاني»، يسمى: «الأصبهانية»، مجلد (1). وكتاب شَرَح فيه بضع عشرة مسألة من كتاب «الأربعين» للفخر الرازي، أكثر من مجلدين (2). وكتاب يُعرف بـ «الصفديَّة» في الردِّ على الفلاسفة في قولهم: إن معجزات الأنبياء عليهم السلام قُوى نفسانيَّة، وفي إبطال (3) قولهم بقدم العالم (4). وله كتاب شرح أول المحصَّل، مجلد (5). _________ (1) «الأصبهاني يسمى» من (ف، ك)، وسقط «مجلد» من (ك). ذكره ابن رشيّق (ص 295). وطبع عدة مرات، لكنه ناقص بمقدار الثلث. وحققه محمد السعوي رسالة دكتوراه على نسخة تامة وطبع بدار المنهاج أخيرًا في مجلد كبير. (2) ذكره ابن رشيّق (ص 295). وكتاب الرازي «الأربعين في أصول الدين» مطبوع في مجلد كبير. سيأتي (ص 87) أن للمؤلف فصلًا في الرد على الرازي في الأربعين في مسألة الصفات الاختيارية، وهو مطبوع في «الفتاوى» (6/ 273 - 287). (3) «نفسانية وفي إبطال» سقطت من (ف). (4). طبع بتحقيق د. محمد رشاد سالم في مجلدين، ثم طبع في مكتبة أضواء السلف سنة 1423 هـ في مجلد واحد، وفيها تصحيحات واستدراكات على الطبعة السابقة. (5) ذكره ابن رشيّق (ص 295). وكتاب «المحصل» مطبوع في مجلد. وقد ذكر شيخ الإسلام أن بعضهم كان ينشد فيه كما في «منهاج السنة»: (5/ 433): محصَّل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله علمٌ بلا دين أصل الضلالة والإفك المبين فما ... فيه فأكثره وحي الشياطين

(الكتاب/57)


وكتاب الردّ على أهل كسروان الرافضة، مجلدان (1). وكتاب يسمى: الهلاوونية (2). وهو جواب سؤال ورَدَ على لسان هولاكو ملك التتار، مجلد. وله في الردّ على من قال: إن (3) الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، عدّة مصنفات. وله في الردّ على منكري المعاد قواعد كثيرة. وله تعليقة على كتاب «المحرّر» في الفقه، لجده الشيخ مجد الدين، في عدة مجلدات (4). وله كتابٌ شرَح فيه قطعةً من كتاب «العمدة» في الفقه، للشيخ موفَّق الدين، في مجلدات (5). _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 295). وهو كتاب آخر غير «منهاج السنة النبوية». وانظر ما كتبه شيخ الإسلام عن أحوال الكسروانيين وعقائدهم بعد فتح ديارهم من جيش المسلمين في «مجموع الفتاوى»: (28/ 398 - 409). (2) (ق): «الهلاكونية». و (ب، ك): «الهلاونية». و (ف): «الهلاوكية». وذكره ابن رشيّق (ص 295). (3) سقطت من (ق، ب). (4) سماها ابن رشيق (ص 305): «شرح المحرر». (5) قال ابن رشيّق (ص 305): «شرح العمدة، في أربع مجلدات». وقد شرح منه الشيخ العبادات إلى كتاب الحج، وطبع ما وجد منه سوى شرح كتاب الزكاة فلم يُعثر عليه. طبع قسم الطهارة بتحقيق د. سعود العطيشان، والصلاة بتحقيق د. خالد المشيقح، وقطعة من كتاب الصلاة بتحقيق الشيخ عبد العزيز المشيقح، والصيام بتحقيق الشيخ زايد النشيري، والحج بتحقيق د. صالح الحسن. وسيعاد تحقيقه ضمن هذا المشروع إن شاء الله تعالى.

(الكتاب/58)


وله قواعد كثيرة في فروع الفقه لم تبيَّض بعد، ولو بُيّضت كانت مجلدات عدة. وقد جمع بعضُ أصحابه جملةً كثيرة (1) من فتاويه الفروعية وبوَّبها على أبواب الفقه في مجلدات كثيرة، تعرف بـ «الفتاوى المصرية». وسماها (2) بعضهم «الدّرر المضيَّة من فتاوي ابن تيميَّة» (3). وله مؤلفات في صفة حجّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، والجمع بين النصوص في ذلك. والكلام على (4) مُتعة الحج. _________ (1) بقية النسخ: «قطعة كبيرة». (2) (ف، ك): «سماها». (3) قال ابن رجب: إنها سبعة مجلدات «الجامع» (ص 482). وقد طبع منه أربعة مجلدات، وبقي اثنان أو ثلاثة، أما المطبوع في خمسة مجلدات بعنوان (مجموعة فتاوى) فقد أدخل فيها ما ليس من الفتاوى المصرية بل هي كتب مستقلة؛ كالتسعينية، وبغية المرتاد، والقواعد النورانية، وإبطال التحليل. وبالمقارنة مع مختصره المطبوع باسم «مختصر الفتاوى المصرية» للبعلي في مجلد واحد يتبين ترتيب الكتاب ومقدار النقص. وانظر مقدمة «جامع المسائل-الرابعة»: (4/ 5 - 9). ... وذكر ابن القيم في «النونية» (3676 - 3678) أن فتاواه تبلغ ثلاثين مجلدًا بعدد أيام الشهر، وأنّ الذي فاته منها بلا حُسبان. فلعلّه يعني مجمل فتاواه المصرية وغيرها. والله أعلم. (4) (ك): «في».

(الكتاب/59)


والعمرة المكيَّة (1). وطواف الحائض (2) وما يتعلّق بذلك= أكثر من مجلّدين (3). وله مصنَّفات في زيارة القبور هل (4) تُباح للنساء؟ والفرق بين الزّيارة الشرعية والزّيارة [ق 17] البدعية. وفي المشاهد متى حدثت، وفي النذور (5) لها (6). وفي المشهد المنسوب للحسين (7). وفي قبر علي رضي الله عنه، وغير ذلك= عدة مجلدات (8). _________ (1) قال ابن رشيّق (ص 304): «قاعدة في العُمَر المكية، وهل الأفضل للمجاور وأهل مكة الاعتمار أو الطواف؟ نحو أربعين ورقة». (2) «وطواف الحائض» تأخرت في (ف، ك) إلى بعد «بذلك». وذكر ابن رشيّق (ص 308) أن للشيخ قاعدة في طواف الحائض. (3) في المجلد السادس والعشرين من «مجموع الفتاوى» عدة رسائل تتعلق بالحج ومسائله، منها: «التمتع والقران أيهما أفضل»: (26/ 33 - 78)، و «منسك شيخ الإسلام»: (26/ 98 - 158)، و «طواف الحائض والجنب والمحدث»: (26/ 176 - 217)، و «مسائل في الحيض يبتلى بها النساء في الحج»: (26/ 219 - 242)، و «العمرة المكية»: (26/ 248 - 301). (4) (ف، ك): «وهل». (5) بقية النسخ: «النذر». (6) «جامع المسائل-الثالثة»: (3/ 117 - 141)، و (الرابعة): (4/ 154 - 171). (7) كتب فوقها في (ك): «رض». (8) في المجلد السابع والعشرين من «مجموع الفتاوى» عدة رسائل، منها: «[مكان] رأس الحسين»: (27/ 450 - 489)، و «سؤال القبور ومن يستنجد بها»: (27/ 64 - 105) «سؤال عن استجابة الدعاء عند القبور»: (27/ 12 - 149)، وآخر نحوه: (27/ 151 - 179).

(الكتاب/60)


وله في مسألة شدِّ الرِّحال ولوازمها التي حبس ومات في الحبس (1) بسببها شيء كثير، بُيّض منه مجلدات عديدة (2). وله في مسائل الطلاق والخُلْع (3) وما يتعلق بذلك من الأحكام شيء كثير ومصنفات عديدة، بيَّض الأصحابُ من ذلك كثيرًا، وكثيرٌ منه لم يبيَّض (4)، ومجموع ذلك نحو العشرين مجلدًا (5). وله قواعد كثيرة في (6) سائر أنواع العلوم؛ منها: قاعدة في الصفات والقَدَر تسمى: «تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، _________ (1) بقية النسخ: «السجن». وطمست هي وما بعدها في (ف). (2) منها: «الجواب الباهر في زوّار المقابر» طبع مفردًا، وفي «مجموع الفتاوى»: (27/ 314 - 443). ومنها «الرد على الإخنائي في مسألة الزيارة» طبع في مجلد، وطبع مختصره في «مجموع الفتاوى»: (27/ 214 - 288). وله ردّ على ابن الزملكاني في المسألة كتاب كبير. ذكر ابن رشيّق (ص 311) كتابًا بعنوان: «الدر المنثور في زيارة القبور». (3) (ف، ك): «الطلاق ومسائل الخلع». (4) (ب، ق): «يبيضوه». (5) وقال الصفدي: (ص 381 - الجامع): إنها خمسة عشر مجلدًا. وفي المجلد الثالث والثلاثين من «مجموع الفتاوى» عدة رسائل، وكذا في «جامع المسائل-المجموعة الأولى» الرسائل رقم (17 - 22). (6) الأصل: «من».

(الكتاب/61)


وحقيقةُ الجمع بين القَدَر والشرع»، وهي المعروفة بـ «التدمريَّة» (1). وقاعدة في أنَّ مخالفة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - لا تكون إلا عن (2) ظنٍّ واتباع هوى (3). وقاعدة في أن الإيمان والتوحيد يشتمل على مصالح الدنيا والآخرة (4). وقاعدة في إثبات كرامات الأولياء (5). وقاعدة في أنّ خوارق العادات لا تدل على الولاية (6). وقاعدة في الصبر والشكر (7). وقاعدة كبيرة في الرِّضا (8). _________ (1) ذكرها ابن رشيّق (ص 296). وطبعت مرات، منها طبعة بتحقيق محمد السعوي، في مجلد. وهي في «مجموع الفتاوى»: (3/ 1 - 128). (2) سقطت من (ب، ق). (3) ذكره ابن رشيق (ص 297). (4) ذكره ابن رشيّق (ص 297). وفي «جامع المسائل-السادسة»: (6/ 131 - 199) رسالة بعنوان: فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح. (5) قال ابن رشيق (ص 297): «عشرون ورقة». (6) ذكره ابن رشيّق (ص 297). ولعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (11/ 311 - 362) بعنوان: قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات. (7) قال ابن رشيق (ص 298): «نحو ستين ورقة». وطبع للشيخ في الشكر رسالة في «مجموع الفتاوى» (1/ 103 - 118)، وفي: «جامع المسائل-الأولى»: (1/ 163 - 168). (8) قال ابن رشيق: (ص 298): «مجلد لطيف». وطبعت في «جامع المسائل-الثالثة»: (3/ 211 - 217) رسالة صغيرة في الرضا.

(الكتاب/62)


وقاعدة في الشُّكر والرِّضا. وقاعدة في أنَّ كلَّ آيةٍ يحتجُّ بها مبتدع، ففيها (1) دليل على فساد قوله. وقاعدةٌ في أنَّ كلَّ دليل عقليّ يحتجّ به مبتدع، ففيه دليل على بطلان قوله (2). وقاعدة في الخلوات، وما يلقيه الشيطان لأهلها من الشُّبَه، والفرق بين الخَلوة الشرعية والبدعية (3). وقاعدة في الفقراء والصوفية، أيُّهم أفضل؟ (4). وقاعدة في الفقير الصابر والغنيّ الشاكر، أيُّهم (5) أفضل؟ (6). وقاعدة في أهل الصُّفَّة ومراتبهم وأحوالهم (7). _________ (1) (ق): «منها». (2) «قوله» سقطت من (ف). قال ابن رشيق (ص 298): «مائة ورقة». وفي «مجموع الفتاوى»: (6/ 288 - 338): «فصل: فيه قاعدة شريفة، وهي: أن جميع ما يحتجّ به المُبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق لا تدل على قول المبطل». فلعله يكون هذا. (3) ذكره ابن رشيّق (ص 298). (4) ذكره ابن رشيّق (ص 298). وطبعت في «مجموع الفتاوى»: (11/ 5 - 24). (5) بقية النسخ: «أيهما». (6) ذكره ابن رشيّق (ص 311). وهو في «مجموع الفتاوى»: (11/ 122 - 132). وجواب آخر في: (11/ 119 - 121). (7) طبعت في «مجموع الفتاوى»: (11/ 37 - 70).

(الكتاب/63)


وقاعدة كبيرة في محبة الله للعبد ومحبة العبد لله (1). وقاعدة في الإخلاص والتوكُّل (2). وقاعدة في الإخلاص وتقريرُه (3) بالعقل. وقاعدة في الشيوخ الأحمدية وما يظهرونه (4) من الإشارات (5). وله قواعد وأجوبة في تحريم السماع أكثر (6) من مجلدين (7). وقاعدة في شرح أسماء الله الحسنى (8). _________ (1) قال ابن رشيق (ص 298): «مجلد لطيف». وهي في «جامع الرسائل»: (2/ 191 - 401) تحقيق محمد رشاد سالم. (2) قال ابن رشيق (ص 298): «نحو خمسين ورقة». وذكرها (ص 304) وقال: «قاعدة في التوكل والإخلاص، نحو أربعين ورقة». فهل هما رسالتان؟ وفي «جامع المسائل-السادسة»: (6/ 3 - 42) رسالة بعنوان: «قاعدة في الإخلاص لله تعالى». وأخرى: «في تحقيق التوكل» طبعت في «جامع الرسائل»: (1/ 85 - 100) تحقيق د. محمد رشاد سالم. (3) (ف، ك): «وتقديره». (4) (ف): «يظهرون». (5) قال ابن رشيق (ص 298): «نحو خمسين ورقة». (6) (ف، ك): «أكبر». (7) ذكر ابن رشيق رسالتين «قاعدة في تحريم السماع، نحو عشرين ورقة، وتحريم السماع، في مجلد». وقد طبعت عدة رسائل في السماع في «مجموع الفتاوى»: (11/ 557 - 586، 587 - 602). وفي «جامع المسائل- الثالثة»: (3/ 387 - 389). (8) ذكره ابن رشيق (ص 299).

(الكتاب/64)


وقاعدة في الاستغفار وشرحه وأسراره (1). وقاعدة في أن (2) الشريعة والحقيقة متلازمان (3). وقاعدة في الخُلَّة والمحبة أيهما أفضل؟ (4) وقاعدة في العلم المحكم (5). وقواعد وأجوبة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه (6). وقاعدة في وجوب نصيحة أولي الأمر والدعاء لهم. وقاعدة في أحوال الشيخ يونس القُنَيِّي (7)، والشيخ أحمد بن (8) _________ (1) ذكره ابن رشيق (ص 299). وقد طبع لشيخ الإسلام في مسألة الاستغفار رسالتان في «جامع المسائل-الأولى»: (1/ 157 - 162) بعنوان: «فصل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «سيد الاستغفار ... »، وفيها أيضًا: (السادسة): (6/ 273 - 279) بعنوان: «مسألة في الاستغفار». (2) «أن» من الأصل. (3) ذكره ابن رشيق (ص 299). (4) قال ابن رشيق (ص 299): «في مجلد». (5) قال ابن رشيق (ص 299): «مجلد». (6) قال ابن رشيق (ص 299): «مجلد». وطبعت في «جامع المسائل- السابعة»: (7/ 261 ــ 271) رسالة بعنوان: مسألة في تقديم عليّ على أبي بكر. (7) رسمها في الأصل: «الفيتتي»، و (ب، ق، ف): «القنني»، و (ك): «الغيبي». تحريفات، وصوابه ما أثبت نِسبة إلى القُنَيّة، قرية من أعمال دارا من نواحي ماردين. والشيخ يونس هو ابن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي الجزري، شيخ اليونسية (ت 619) قال الذهبي: «كان ذا كشف وحال، ولم يكن عنده كبير علم، وله شطح وشعر ملحون ... ». ترجمته في «السير»: (22/ 178 - 179)، و «وفيات الأعيان»: (7/ 256). (8) «بن» ليست في (ف). وهو أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن رفاعة المغربي ثم البطحائي، شيخ الرفاعية (ت 578)، قال الذهبي في «العبر»: (3/ 75) بعد ثنائه على الرفاعي: «ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم، وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتارُ العراق؛ من دخول النيران وركوب السباع، واللعب بالحيات. وهذا لا عرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله من الشيطان» اهـ. وانظر «السير»: (21/ 78 - 80)، و «تاريخ الإسلام».

(الكتاب/65)


الرِّفاعي. وقاعدة وأجوبة في عصمة الأنبياء عليهم السلام (1). وقاعدة في الاستطاعة هل هي مع الفعل (2) أو قبله؟ (3) وقاعدة في العدم واستطاعته (4). وقاعدة في وجوب العدل على كلّ أحدٍ لكلِّ أحد (5) في كلِّ حال (6). وقاعدة في فضل السلف على الخَلَف في العلم (7). وقاعدة في حق الله وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحقوق عباده، وما وقع في ذلك من التفريط (8). _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 300) وعنده: «رسالة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هل هي من الصغائر؟ وهل يكفر المنازع في تجويز الصغائر عليهم؟ نحو ثلاثين ورقة». (2) (ب، ق): «العقل». (3) ذكره ابن رشيّق (ص 300). (4) في «جامع المسائل-السادسة»: (6/ 201 - 215) رسالة في الموضوع. (5) «لكل أحد» سقطت من (ف). (6) ذكره ابن رشيق (ص 301). (7) المصدر نفسه. (8) ذكره ابن رشيّق (ص 301). وفيه: «قاعدة في حق الله وحق عباده، بضع عشرة ورقة». وطبع للشيخ في هذا البحث رسالتان: في «جامع المسائل-الثالثة»: (3/ 49 - 65) بعنوان: «فصل في حق الله وحق عبادته وتوحيده»، وفي (السادسة): (6/ 43 - 67) بعنوان: «فصل في حق الله على عباده وقِسمه من أم القرآن».

(الكتاب/66)


وقاعدة في أنّ مَبدأ العلم الإلهي عند النبي [ق 18] - صلى الله عليه وسلم - هو الوحي، وعند أتباعه هو الإيمان (1). وقاعدة في أنَّ الحمد والذمَّ والثواب والعقاب بالجهاد (2) والحدود تتعلق (3) بأفعال العباد لا بأنسابهم. وقاعدة في أنّ كلّ حمد وذمٍّ للمقالات والأفعال لا بد أن يكون بكتاب الله وسنة رسوله (4). وقاعدة فيما لكل أمة من الخصائص، وخصائص هذه الأمة (5). وقاعدة في الكليَّات (6). وقواعد في الفناء والاصطلام (7). _________ (1) ذكره ابن رشيق (ص 301). (2) كذا بالأصل وغير واضحة في (ق). (3) (أ، ف): «يتعلق». (4) ذكره ابن رشيق (ص 301). (5) ذكره ابن رشيق (ص 301). (6) قال ابن رشيق (ص 301): «مجلد لطيف». وفي «جامع المسائل-السابعة»: (7/ 467 ــ 475) رسالة بعنوان: «مقاصد الكليات». (7) قال ابن رشيق (ص 301): «نحو ثلاثين ورقة». ولعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (10/ 337 - 443) بعنوان: «فصل الفناء الذي يوجد في كلام الصوفية» ... وفي «جامع المسائل ــ السابعة»: (7/ 157 ــ 196) رسالة بعنوان: «قاعدة في الفناء والبقاء».

(الكتاب/67)


وقاعدة في العلم والحلم (1). وقاعدة في الاقتصاص من الظالم (2) بالدعاء وغيره، وهل هو أفضل من العفو؟ (3) وله قاعدتان في قُرْب الرَّب من عابديه وداعيه (4). وقاعدة في تزكية النفوس (5). وقاعدة في (6) كلام ابن العريف في التصوّف (7). وقاعدة في الصراط المستقيم في الزهد والورع (8). _________ (1) قال ابن رشيق (ص 301): «نحو عشرين ورقة». (2) بقية النسخ: «المظالم». (3) قال ابن رشيق (ص 302): «مجلد». (4) ذكر ابن رشيق (ص 300) رسالة واحدة وقال: «مجلد لطيف». (5) (ف، ك): «النفس». قال ابن رشيق (ص 302): «نحو ثلاثين ورقة». وهي ضمن «مجموع الفتاوى»: (10/ 625 - 640). ونشرها د. محمد القحطاني مفردة، وفيها زيادات عما في الفتاوى. (6) بقية النسخ): «على». (7) قال ابن رشيق (ص 302): «كراسة». وتحرّفت فيه إلى «ابن الشريف». وابن العريف هو: أبو العباس أحمد بن محمد ابن عطاء الله الصنهاجي الصوفي (ت 536) له كتاب «محاسن المجالس» في التصوف. انظر «الصلة»: (1/ 81)، و «السير»: (20/ 111 - 114). (8) قال ابن رشيق: «نحو ثلاثين ورقة»، وهي في «مجموع الفتاوى»: (10/ 568 - 624).

(الكتاب/68)


وقاعدة في الإيمان والتوحيد، وبيان ضلال من ضل (1) في هذا الأصل (2). وقاعدة في أمراض القلوب وشفائها (3). وقاعدة في السياحة ومعناها في هذه الأمة (4). وقاعدة في خُلَّة إبراهيم الخليل عليه السلام، وأنه الإمام المطلق (5). وقواعد (6) في الشهادتين (7). وقواعد كثيرة فيمن امْتُحِنَ في الله وصبر (8). وقاعدة في الصفح الجميل والهجر الجميل (9). وقاعدة فيما يتعلَّق بالوسيلة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والقيام بحقوقه الواجبة على _________ (1) (ف): « ... في الإبان والتوحيد وبيان من ضل». (2) ذكره ابن رشيق (ص 302). (3) قال ابن رشيق (ص 302): «نحو أربعين ورقة». وقد طبعت ضمن «مجموع الفتاوى»: (10/ 91 - 148). (4) ذكره ابن رشيق (ص 302). (5) ذكره ابن رشيق (ص 302). (6) (ف، ك): «عدة في». (7) عند ابن رشيق (ص 300): «كتاب في الشهادتين وما يتبع ذلك، في مجلد». (8) (ب): «امتحن وصبر». ذكره ابن رشيق (ص 303) وعند: قاعدة فيمن ... (9) (ف): «في الصبر و ... ». ذكره ابن رشيق (ص 303) وفيه زيادة: «والصبر الجميل». وهي في «مجموع الفتاوى»: (10/ 666 - 677).

(الكتاب/69)


أُمَّته في كل زمان ومكان، وبيان خصائصه التي امتاز بها على جميع العالمين، وبيان فضل أمته على جميع الأمم (1). وقاعدة (2) تتعلق بالصبر المحمود والمذموم (3). وقاعدة تتعلق برحمة الله تعالى في إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأن إرساله أجلّ النعم (4). وقاعدة في الشكر لله، وأنه يتعلق بالأفعال الاختيارية (5). وقاعدة في المقربين هل يسألهم مُنكرٌ ونكير. وقاعدة في الفتوَّة الاصطلاحية وأنه ليس لها أصل في الأحكام الشرعية (6). وقاعدة في الكلام على المُرْشدة التي ألفها ابن التومرت (7). وله أجوبة تتعلق بها أيضًا. وقاعدة في كلام الجُنَيد لما سئل عن التوحيد فقال: (8) إفراد _________ (1) (ف): «الأمة».ذكره ابن رشيق (ص 303). (2) (ف): «وكذا قاعدة». (3) ذكرها ابن رشيق (ص 303). (4) نفسه. (5) ذكرها ابن رشيق (303). وللمصنف عدة رسائل في الشكر كما سيأتي، وقد طبعت له رسالة في «جامع الرسائل»: (1/ 101 - 118) تحقيق محمد رشاد سالم. (6) طبعت رسالة في هذا البحث في «جامع المسائل-الأولى»: (1/ 175 - 180). (7) ذكرها ابن رشيّق (ص 304). وهي في «مجموع الفتاوى»: (11/ 476 - 491). (8) بقية النسخ: «هو إفراد».

(الكتاب/70)


الحدوث عن القِدَم (1). وقاعدة في التسبيح والتحميد والتهليل (2). وقاعدة في أن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته (3). وقاعدة في الكلام على قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... } الآية [البقرة: 21]، تسمى: «العبودية»، وهي جليلة القدر (4). وقاعدة فيما أحدثه (5) الفقراء المجرَّدون. وقاعدة في القدرية وأنهم ثلاثة أقسام مجوسية ومشركية وإبليسية (6). وقاعدة في بيان طريقة القرآن في الدعوة والهداية النبوية، وما بينها (7) وبين الطريقة الكلامية والطريقة الصوفية (8). وقاعدة في وصية لقمان لابنه (9). وقاعدة في تسبيح المخلوقات من الجمادات وغيرها، هل هو بلسان _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 304). (2) ذكره ابن رشيّق (ص 304). (3) بعده في (ك) زيادة: «وقاعدة في الكلام». ذكره ابن رشيّق (ص 304). (4) طبعت في «مجموع الفتاوى»: (10/ 149 - 236). وطبعت مستقلة مرات. (5) (ق): «أحدثته». (6) لعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (8/ 256 - 261). (7) (ف): «بينهما». (8) ذكره ابن رشيّق (ص 304). (9) ذكره ابن رشيّق (ص 304).

(الكتاب/71)


الحال أم لا؟ (1). وقاعدة تعرف بـ «الصعيدية» تتعلق (2) بالثنوية (3). وقاعدة في لباس الخرقة هل له أصل شرعي؟ وفي الأقطاب ونحوهم (4). وقاعدة [ق 19] في القضايا الوهمية (5). وقاعدة فيما يتناهى وما لا يتناهى (6). وقاعدة في الخُلْطة والعُزلة (7). وقاعدة في مشايخ العلم ومشايخ الفقراء أيّهم أفضل؟ (8). وقاعدة في تعذيب المرء (9) بذنب غيره (10). _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 304). (2) (ق): «وقاعدة في». (ب): «بالصعيدية الثنوية». (3) عند ابن رشيّق (ص 298): «بالتوبة». والثنوية: فرقة يقولون: إن العالم صادر عن أصلين: النور والظلمة، والنور إله الخير المحمود، والظلمة إله الشر المذموم. «الملل والنحل»: (ص 245)، و «الجواب الصحيح»: (1/ 351). (4) ذكره ابن رشيّق (ص 298). وفي «جامع المسائل ــ الثامنة» سؤال عن الخرقة. (5) ذكره ابن رشيّق (ص 297). (6) ذكره ابن رشيّق (ص 297). (7) عند ابن رشيّق (ص 305): «قاعدة في السياحة والعزلة، وفي الفقر والتصوف، هل هما اسمان شرعيان». وفي «مجموع الفتاوى»: (10/ 425 ــ 429) جواب عن العزلة والخلطة. (8) ذكره ابن رشيّق (ص 305). (9) (ف، ك): «المريد»! (10) ذكره ابن رشيّق (ص 305).

(الكتاب/72)


وقاعدة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ستفترق أُمَّتِي على ثلاث وسبعين فرقة» (1). وقاعدة في أن جِماع الحسنات العدل، وجِماع السيئات الظلم، ومراتب الذنوب في الدنيا (2). وقاعدة في أن (3) الحسنات تعلَّل بعلَّتين: جلب المنفعة ودفع المضرة، والسيئات بالعكس (4). وقاعدة في فضائل عشر ذي الحجة (5). وقاعدة في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن والإنس (6). وقاعدة في أن جميع البدع ترجع إلى شعبة من شعب الكفر (7). وقاعدة (8) في الكلام على السنة والبدعة، وأنَّ كلَّ بدعة ضلالة (9). _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 299). وطبع في «مجموع الفتاوى»: (3/ 345 - 358). (2) ذكره ابن رشيّق (ص 305). ولعله ما في «مجموع الفتاوى»: (1/ 86 ــ 96). (3) «أن» ليست في (ب، ق). (4) لعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (20/ 192 ــ 195)، وفيه أيضًا: (20/ 48 ــ 84) رسالة بعنوان: «تعارض الحسنات والسيئات». (5) قال ابن رشيّق (ص 305): «وذكر نحو عشرين فضيلة». (6) ذكره ابن رشيّق (ص 305). ولعلها ما في «جامع المسائل-الثالثة»: (3/ 227 - 243) بعنوان: «قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمر الثقلين الجن والإنس». ونحوها رسالة في «مجموع الفتاوى»: (19/ 9 ــ 65). (7) ذكره ابن رشيّق (ص 305). (8) (ف، ك): «وقواعد». (9) ذكره ابن رشيّق (ص 306).

(الكتاب/73)


وقاعدة في الإجماع، وأنه ثلاثة أقسام (1). وقاعدة كبيرة في أصول الفقه غالبها نقل أقوال الفقهاء. وقاعدة فيما يُظَنّ من تعارض النصّ والإجماع (2). وقواعد (3) فقهية في مسائل من النذور والأيمان (4). ونكاح الشِّغار، وما يستقرُّ به المهر، ونحو ذلك= مجلد. وقواعد في المغالبات وما يحلّ من الرّهن، وهل يفتقر إلى محلِّل؟ مجلد. وقواعد في المائعات والمياه (5) وأحكامها (6). وفي الميتة إذا وقعت في المائعات (7). والكلام على حديث القلتين، وما يتعلق بذلك= شيء كثير. وقواعد في الوقف، وشروط الواقفين، وما يعتبر منها، وفي إبداله بأجود منه، وفي بيعه عند تعذُّر الانتفاعِ ونحو ذلك، أكثر من مجلد (8). _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 305). (2) ابن رشيق (ص 306). (3) (ب، ق): «وقاعدة». (4) عند ابن رشيّق (ص 307): «قواعد في مسائل من النذور والضمان (كذا ولعلها: الأيمان)». (5) ساقط من (ب، ق). (6) قال ابن رشيّق (ص 307): «نحو ستين ورقة». (7) قال ابن رشيّق (ص 307): «نحو عشرين ورقة». (8) ذكره ابن رشيّق (ص 307).

(الكتاب/74)


وقاعدة كبيرة في تفضيل (1) مذهب الإمام أحمد وذِكْر محاسنه، نحو مجلد (2). وقاعدة في تفضيل مذهب (3) أهل المدينة تسمى: «المالكية» (4). وقواعد في الاجتهاد والتقليد (5). وفي الأسماء التي علّق الشارعُ بها الأحكام، مجلد (6). وقواعد في المجتهد في الشريعة، هل يأثم إذا أخطأ الحقَّ؟ وهل المصيب واحد؟ ونحو ذلك، أكثر من مجلد (7). وقاعدة في الاستحسان (8). _________ (1) سقطت من (ب). (2) ذكره ابن رشيّق (ص 307). (3) سقطت من (ب، ق). (4) قال ابن رشيّق (ص 308): «نحو خمسين ورقة». وهي في «مجموع الفتاوى»: (20/ 294 - 396) باسم: «صحة مذهب أهل المدينة». (5) ذكره ابن رشيّق (ص 308) وقال: قواعد ... وفي «مجموع الفتاوى»: (19/ 260 - 279) رسالة في الموضوع. (6) في «مجموع الفتاوى»: (19/ 235 - 259) رسالة بعنوان: «الأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة». (7) ذكره ابن رشيّق (ص 308). وفي «مجموع الفتاوى»: (19/ 203 - 227) رسالة في ذلك. (8) (ب، ق): «وقواعد في ... »، (ف، ك): «الإحسان» تحريف. نشرها الأستاذ محمد عزير شمس مفردة، ثم ضمت إلى «جامع المسائل-الثانية»: (2/ 17 - 228).

(الكتاب/75)


وقاعدة (1) في شمول النصوص للأحكام (2). وقاعدة في تقرير القياس في (3) مسائل عدة، والردّ على من يقول: هي على خلاف القياس (4). وقاعدة في شرح رسالة ابن عبدوس (5). وهي متضمّنة لكلام الإمام أحمد في أصول الدين. وقاعدة في لعب الشِّطْرَنْج، وأنه حرام (6). وقواعد كثيرة في السفر الذي يجوز فيه القصر والفطر، هل له حدٌّ (7). وفي الجمع بين الصلاتين (8). وفي ذوات الأسباب هل تُصلَّى في وقت النهي؟ (9). _________ (1) (ب، ق): «وقواعد». (2) ذكره ابن رشيّق (ص 308). وطبعت في «جامع المسائل-الثانية»: (2/ 231 - 349). وفي «مجموع الفتاوى»: (19/ 280 ــ 289) جواب في المسألة. (3) (ق): «وقاعدة في مسائل». (4) للمؤلف رسالة في القياس في «مجموع الفتاوى»: (20/ 504 - 585). (5) ذكره ابن رشيّق (ص 301). (6) ذكره ابن رشيّق (ص 308) وليس فيه: «وأنه حرام». ولعله ما في «مجموع الفتاوى»: (32/ 216 ــ 239). (7) ذكره ابن رشيّق (ص 308) بلفظ: قاعدة ... وفي «مجموع الفتاوى»: (22/ 77 ــ 92، 24/ 33 ــ 162) رسائل تتعلق بذلك. (8) ذكره ابن رشيّق (ص 308). وفي «جامع المسائل-السادسة»: (6/ 319 - 367) رسالة بعنوان: «فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين». (9) في «مجموع الفتاوى»: (23/ 178 ــ 218) رسالتان في هذه المسألة.

(الكتاب/76)


وفي مواقيت الصلاة (1). وفي أن أول ما يحاسب به العبد الصلاة. وفي تارك الصلاة وفي (2) تفصيل القول فيه. وفي أن الصلاة أول الأعمال. وفي تارك الطمأنينة= وذلك شيء كثير جدًّا (3). وقواعد في الكنائس وأحكامها، وما يجوز هدمُه منها وإبقاؤه، وما يجب هدمه (4)، وأجوبة نحو مجلَّدين (5) تتعلق بذلك (6). وقواعد في رجوع المغرور على من غرَّه (7). وفي استقرار الضمان. _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 309). وفي «جامع المسائل-السادسة»: (6/ 319 - 367) رسالة بعنوان: «فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين». (2) من الأصل فقط. وانظر «جامع المسائل ــ الرابعة»: (4/ 102 ــ 126، 139 ــ 145). (3) انظر «مجموع الفتاوى» (22/ 526 ــ 600)، و «جامع المسائل ــ السادسة»: (6/ 281 - 298). (4) (ف، ك): «هده». (5) (ف، ك): «تتعلق بذلك نحو مجلدين». (6) ذكره ابن رشيّق (ص 309) بعنوان: «قاعدة في الكنائس وما يجوز هدمه منها، في مجلد». وطبعت رسالة في الكنائس ضمن «مجموع الفتاوى»: (28/ 632 - 646)، ثم حققها د. علي الشبل واستدرك سقطًا في آخرها. ورسالة أخرى في «جامع المسائل-الثالثة»: (3/ 361 - 369) وأصلها ساقه ابن القيم في «أحكام أهل الذمة». (7) ذكره ابن رشيّق (ص 306).

(الكتاب/77)


وفي بيع الغرر، والشروط (1) في البيع والنكاح وغير ذلك، نحو مجلد (2). وقاعدة في فضائل الأئمة الأربعة، وما امتاز به كلُّ إمام من الفضيلة (3). وقاعدة في مقدار الكفَّارة في اليمين (4). وقاعدة في لفظ الحقيقة والمجاز، وفي العام إذا خُصّ هل يكون حقيقةً أو مجازًا؟ والبحث مع السيف الآمدي في ذلك (5). وقاعدة كبيرة (6) في أنّ جنس فعل المأمور (7) به أفضل من جنس تَرْك المنهيّ عنه (8). وقاعدة في طهارة بول ما يُؤكَل لحمُه، ذكر فيها نحو ثلاثين حُجَّة على ذلك (9). _________ (1) (ف، ك): «الشرط». (2) (ب): «مجلدين». (3) ذكره ابن رشيّق (ص 306). (4) قال ابن رشيّق (ص 306): «نحو خمسين ورقة». وفي «مجموع الفتاوى»: (35/ 241 ــ 353) قواعد وفصول في الأيمان. (5) قال ابن رشيّق (ص 306): «نحو ثمانين ورقة». وللشيخ بحوث في الحقيقة والمجاز انظر «مجموع الفتاوى»: (20/ 400 - 497). (6) (ب، ق): «وقواعد». (ق): «كثيرة». (7) (ف، ك): «جنس فعل ... ». (8) قال ابن رشيّق (ص 307): «في مجلد لطيف». وطبعت ضمن «مجموع الفتاوى»: (20/ 85 - 158). (9) قال ابن رشيّق (ص 307): «نحو سبعين ورقة». ولعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (21/ 534 ــ 603).

(الكتاب/78)


وقاعدة في في تطهير العبادات (1) من الفواحش والمنكرات. وقواعد وأجوبة في تحريم نكاح الزانية (2). وقاعدة في معاهدة (3) الكفار المُطْلَقة والمقيَّدة (4). وقاعدة في مفطِّرات الصائم (5). وقاعدة فيما شرعه الله تعالى بوصف العموم والإطلاق، هل يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد (6). وقاعدة في أن العامِّي هل يجب عليه تقليد (7) مذهب معيَّن أم لا؟ (8). وقاعدة في تعليق العقود والفسوخ بالشرط. وقاعدة في الجهاد والترغيب فيه (9). وقاعدة في ذمّ الوَسْواس (10). _________ (1) زاد في المطبوع: «النفس». (2) انظر «مجموع الفتاوى»: (32/ 109 ــ 134). (3) (ف، ك): «معاهد». (4) ذكره ابن رشيّق (ص 307). (5) ذكره ابن رشيّق (ص 308). وانظر «مجموع الفتاوى»: (25/ 219 ــ 258). (6) ذكره ابن رشيّق (ص 308). وانظر «مجموع الفتاوى»: (20/ 196 ــ 198). (7) «تقليد» سقطت من (ب، ق). (8) ذكره ابن رشيّق (ص 309). ولعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (19/ 260 ــ 279). (9) ذكره ابن رشيّق (ص 308). ولعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (28/ 7 ــ 25)، و «جامع المسائل ــ الخامسة»: (5/ 337 ــ 379). (10) ذكره ابن رشيّق (ص 309).

(الكتاب/79)


وقاعدة في الأنبذة والمُسْكرات (1). وقاعدة في الحِسْبة (2). وقاعدة في المسألة الشُّريحية (3). وقاعدة في حلِّ الدَّور، ومسائل في (4) الجبر والمقابلة (5). وقاعدة في أنّ كلّ عمل (6) صالح أصله اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - (7). وقاعدة في الأطعمة وما يحلّ منها وما يحرُم، وتحرير الكلام على الطيّبات والخبائث (8). وقاعدة في اشتراط التسمية على الذبائح والصيد (9). وقاعدة في دم الشهداء ومِداد العلماء، تتضمَّن (10) أيّ الطائفتين _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 309). وانظر «مجموع الفتاوى»: (34/ 186 ــ 192 و 204 ــ 210). (2) ذكرها ابن رشيّق (ص 309). وهي في «مجموع الفتاوى»: (28/ 60 - 120). (3) بقية النسخ: «السريجية». وكذا عند ابن رشيّق (ص 309). (4) ليست في (ف، ك). (5) ذكره ابن رشيّق (ص 309). (6) «عمل» سقطت من (ب، ق). (7) ذكره ابن رشيّق (ص 308). ولعله ما في «جامع المسائل ــ الخامسة»: (5/ 207 ــ 238) و (6/ 131 ــ 199). (8) ذكره ابن رشيّق (ص 308) وليس في: «وتحرير ... ». (9) ذكره ابن رشيّق (ص 308). وفي «جامع المسائل-السادسة»: (6/ 375 - 389) رسالة بعنوان: «مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة». (10) (ف، ك): «يتضمن». وسقطت من (ب، ق).

(الكتاب/80)


أفضل؟ (1) وقاعدة في الانغماس في العدوِّ هل (2) يباح؟ (3) وقاعدة في ضمان البساتين (4) هل يجوز أم لا؟ (5) وله قواعد في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه؟ وقاعدة في زكاة مال الصبي. وقاعدة في الإيمان المقرون بالإحسان، وفي الإحسان المقرون بإسلام (6) الوجه. وقاعدة في اقتران الإيمان بالاحتساب (7). وقواعد (8) وأجوبة في النجوم هل لها تأثير عند الاقتران والمقابلة وفي الكسوف؟ وهل (9) يُقبل قول المنجمين فيه؟ و (10) في رؤية الهلال ونحو _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 308). (2) (ب، ق، ك): «وهل». (3) طبعت في «جامع المسائل-الخامسة»: (5/ 307 - 334). (4) سقطت من (ب، ق). (5) طبعت في «جامع المسائل-السادسة»: (6/ 405 - 422). (6) (ك): «بالإسلام». (7) كذا في الأصول وكتاب ابن رشيق (ص 303)، وفي هامش (ك): «لعله: الإحسان». (8) (ف، ك): «وقاعدة». (9) (ف، ك): «هل». (10) «فيه و» سقطت من (ب، ق).

(الكتاب/81)


ذلك، نحو مجلد (1). وقاعدة في الأقراء هل هي الحيض أو الأطهار؟ واختار أنها الحيض. وقاعدة في الشُّكر (2) وأسبابه وأحكامه. وقاعدة في الاستفتاحات في الصلاة (3). وقاعدة تتضمَّن ذِكر ملابس النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلاحه ودوابه، وهي «القرمانية» (4). وقاعدة تتعلق بمسائل من التيمُّم والجمع بين الصلاتين، تسمى: «تيسير العبادات لأرباب الضرورات» (5). وقاعدة في النُّصَيرية وحكمهم (6). وقاعدة في تحريم الشبَّابة (7). [ق 21] وقاعدة في العقود اللازمة والجائزة. _________ (1) للشيخ رسالة في الهلال في «مجموع الفتاوى»: (25/ 126 - 202). (2) (ك): «السكر»! وسبق ذكر بعض المؤلفات في الشكر (ص 70). (3) هي ضمن «مجموع الفتاوى»: (22/ 376 - 397)، ونشرها الشيخ عبد الصمد شرف الدين عام 1381 هـ بالهند. (4) طبعت ضمن «جامع المسائل-السابعة»: (7/) بتحقيقي. (5) طبعت مفردة، وهي في «مجموع الفتاوى»: (21/ 449 - 462، 24/ 10 - 13). (6) طبعت في «مجموع الفتاوى»: (35/ 145 - 160) بعنوان: «فتوى في النصيرية». (7) في (ق) بين الأسطر: (وهو الميراع). والشبّابة: نوع من المزامير يُصنع من القصب، وينفخ فيه. انظر «تكملة المعاجم»: (6/ 231)، و «مقدمة ابن خلدون»: (2/ 891).

(الكتاب/82)


وله قاعدة جليلة في وجوب الاعتصام بالرسالة، وأنّ كلّ خير في العالم فأصله متابعة الرّسل، وكلّ شرّ فمن مخالفتهم، إما جهلًا أو عمدًا (1). وقاعدة في تحزيب القرآن وما يتعلق بذلك وما ورد فيه من الآثار (2). وقاعدة في الكلام على الممكن. وقاعدة في ذبائح أهل الكتاب (3). وقاعدة في تعليل الأفعال (4). وقاعدة في الكلام على العِدَد. وله رسائل تشتمل على علوم كثيرة منها: رسالة كتبها إلى الشيخ نصر المَنْبِجي (5)، تسمى «المصرية» (6). ورسالة كتبها إلى الشيخ شمس الدين الدِّباهي تسمى «المدنيَّة» (7). _________ (1) وهي في «مجموع الفتاوى»: (19/ 193 - 105). وفيه رسالة أخرى أيضًا (19/ 66 - 75) بعنوان: «الاكتفاء بالرسالة والاستغناء بالنبي عن اتباع ما سواه». (2) لعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (13/ 405 ــ 416). (3) ذكره ابن رشيّق (ص 306). (4) قال ابن رشيّق (ص 296): «جواب في تعليل مسألة الأفعال، نحو ستين ورقة». (5) «نصر» سقطت من (ب، ق)، و (ك): «المنيحي» تحريف. (6) هذه الرسالة تأخرت في باقي النسخ على التي تليها. ذكرها ابن رشيّق (ص 310) ولم يذكر إلى من أرسلت. وهي في «مجموع الفتاوى»: (2/ 452 - 479). (7) ذكرها ابن رشيّق (ص 310) ولم يذكر إلى من أرسلت. وهي في «مجموع الفتاوى»: (6/ 351 - 373). وحققها مفردة د. الوليد الفريان.

(الكتاب/83)


ورسالة كتبها إلى أهل بغداد. ورسالة كتبها إلى أهل البصرة. ورسالة كتبها إلى القاضي شمس الدين السَّروجي قاضي الحنفية بمصر (1). ورسائل (2) إلى غيره من القضاة والعلماء. ورسالة كتبها إلى بيت الشيخ عديّ بن مُسافر، تسمى «العدوية» (3). ورسالة كتبها إلى [بيت] (4) الشيخ جاكير (5). وأرسل إليهم أجوبةً في مجلد غير الرسالة. ورسالة كتبها إلى ملك قبرص في مصالح المسلمين، تتضمن علومًا (6). _________ (1) ذكر هذه الرسائل ابن رشيّق (ص 310). (2) (ب، ق): «ورسالة».زاد في (ب): «كتبها». (3) قال ابن رشيّق (ص 303): «بقدر أربعين ورقة» وأعاد ذكرها (ص 310). وهي في «مجموع الفتاوى»: (3/ 363 - 430). وتسمى أيضًا: «الوصية الكبرى». (4) من بقية النسخ. (5) (ق): «جاكريه». ذكرها ابن رشيّق (ص 310). والشيخ جاكير هو: محمد بن دشم (وقيل غير ذلك) الكردي الحنبلي، وجاكير لقب، من مشايخ العراق، صاحب أحوال وتأله (ت 590). انظر «السير»: (21/ 261)، و «طبقات الأولياء»: (ص 425) وجعل وفاته سنة (679). (6) (ف، ك) زيادة: «نافعة». ذكرها ابن رشيّق (ص 311). وهي في «مجموع الفتاوى»: (28/ 601 - 630). وذكر ابن رشيق (ص 303) رسالة أخرى بعنوان: «رسالة لأهل قبرص تتضمن قواعد دينية أصولية، بقدر ثلاثين ورقة».

(الكتاب/84)


وله رسائل (1) إلى البحرين (2). وإلى ملوك العرب. وإلى ثغور الشام، إلى طرابلس وغيرها تتعلَّق بمصالح (3) المسلمين. وأجوبة عن مسائل كُتِبت إليه في أمرٍ (4) بمعروف ونهيٍ عن منكر. ورسالة لأهل (5) تدمر (6). ورسائل للملوك: ملك مصر، وملك حماة، وغيرهما (7). ورسائل (8) إلى الأمراء الكبار (9). ورسالة إلى طبرستان وجيلان (10). _________ (1) (ب، ق): «رسالة». (2) طبعت رسالته إلى أهل البحرين في «مجموع الفتاوى»: (6/ 485 - 506، و 24/ 163 - 176). (3) (ب، ق، ف): «وغيرها بمصالح تتعلق بالمسلمين». (4) ليست في (ف، ك). (5) (ب، ق): «إلى أهل». (6) ذكرها ابن رشيّق (ص 305). وهي غير «التدمرية» التي سبق ذكرها (ص 63). (7) ذكر رسائله إلى ملوك العرب ومصر وحماة ابن رشيّق (ص 311). ورسالته إلى ملك مصر (الملك الناصر) موجودة في كتابنا بتمامها (ص 237 ــ 249). وفي «مجموع الفتاوى»: (28/ 398 ــ 409). (8) (ب، ق): «رسالة». (9) مثل الأمير سنقر شاه، والأمير آقش المنصوري، والأمير حسام الدين لاجين. (10) الأصل: «طوستان» تحريف. وسقطت «جيلان» منه وهي في بقية النسخ. ذكر ابن رشيّق (ص 303) أن له «رسالة في الأصول لأهل جيلان، نحو خمسين ورقة». وفي «جامع المسائل ــ السابعة»: (7/ 389 ــ 393) ورقات في عقيدة أهل كيلان.

(الكتاب/85)


ورسائل كثيرة كتبها إلى الصُّلحاء من إخوانه من مصر إلى دمشق، ومن دمشق إلى غيرها، ومن السجن= شيء كثير يحتوي على مجلدات عدة (1). وله من الكلام على مسائل العلوّ والاستواء والصفات الخبرية، وما يتعلّق بذلك من الردِّ على الجهمية والقدرية والجبرية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع، ما يشتمل على مجلدات كثيرة. وله من الكلام على فروع الفقه والأجوبة المتعلقة بذلك شيء كثير يشقُّ إحصاؤه ويعسُر ضبطُه. ومن مؤلفاته: الكلام على دعوة (2) ذي النون، في مجلَّد لطيف (3). وكتاب فيه الكلام على إرادة الرب تبارك وتعالى وقدرته، وتحرير القول في ذلك على كلام الرازي في «المطالب العالية» (4). _________ (1) انظر بعض رسائله إلى والدته والتشوّق إليها وسبب بقائه في مصر، وإلى أصحابه وإخوانه في طلب بعض الكتب من بيته، وخصّ منهم الحافظ جمال الدين المزي، وفي الوصية بهم وإصلاح ما بينهم، وألا يؤذى أحد بسبب الشيخ. انظرها فيما سيأتي من هذا الكتاب (ص 318 فما بعدها)، وفي «مجموع الفتاوى»: (28/ 30 - 59). وأفردت في رسالة مستقلة. (2) «دعوة» ليست في (ف). (3) طبعت في «مجموع الفتاوى»: (10/ 237 - 336). (4) قال ابن رشيّق (ص 296): «نحو مائة ورقة». و «المطالب العالية» في علم الكلام للرازي مطبوع في ثلاثة مجلدات. وانظر «مجموع الفتاوى»: (8/ 7 ــ 57).

(الكتاب/86)


ومسألة في العلوّ، أجاب فيها عن شُبَه المخالفين، وهي مفيدة (1). وأخرى في الصفات تسمى: «المرّاكشية»، وتشتمل على نقول كثيرة (2). وقاعدة تتضمن صفات الكمال وما الضابط فيها، مما يستحقّه الربُّ عزّ وجل، تسمّى «الأكمليّة» (3). والإحاطة الكبرى. والإحاطة الصغرى (4). وعقيدة الفرقة الناجية، وتعرف بـ «الواسطية» (5). والجواب عما أُورِدَ عليها عند المناظرة بقصر الإمارة بدمشق (6). _________ (1) لعلها ما ذكره ابن رشيّق (ص 296): «فتيا في مسألة العلو، نحو خمسين ورقة». وقد طبعت عدة رسائل في العلو في «مجموع الفتاوى»: (5/ 121 - 135، 136 - 152). وفي «جامع المسائل-الأولى»: (1/ 61 - 64)، و (الثالثة): (3/ 181 - 191) وأخرى: (3/ 193 - 208)، و (السابعة): (7/ 343 ــ 351). (2) قال ابن رشيّق (ص 296): «خمسون ورقة». وهي في «مجموع الفتاوى»: (5/ 153 - 193). (3) قال ابن رشيّق (ص 296): «نحو ستين ورقة». وهي في «مجموع الفتاوى»: (6/ 68 - 140). (4) في فهرس «مجموع الفتاوى»: (6/ 626) ذكر أن رسالة العرش تسمى أيضًا: «الإحاطة». وسيأتي ذكر الرسالة العرشية (98). (5) قال ابن رشيّق (ص 296): «نحو ثلاثين ورقة». طبعت مرارًا، وهي في «مجموع الفتاوى»: (3/ 129 - 159). (6) طبع في «مجموع الفتاوى»: (3/ 160 - 193).

(الكتاب/87)


والكلام على حديث عِمران بن حُصين الذي فيه: «جئنا نسألك عن أول هذا الأمر». وهو [ق 22] مؤلف مفيد (1). والكلام على حديث عبد الله بن خليفة عن عمر (2)، وهل هو ثابت أم لا؟ وأيّ ألفاظه هو المحفوظ؟ وكتابٌ في نزول الرَّب تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، والجواب عن اختلاف وقته (3) باختلاف البلدان والمطالع (4). وجواب في اللقاء وما ورد فيه (5) في القرآن وغيره (6). وجواب في الاستواء والنزول هل هو حقيقة أم لا؟ تسمى «الإربلية» (7). _________ (1) طبع في «مجموع الفتاوى»: (18/ 210 - 243). (2) وهو: أن امرأة أتت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة، قال: فعظّم الرب وقال: إنّ كرسيه وسع السماوات والأرض، وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا رُكب من ثِقَله». أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (574)، وابن خزيمة (1/ 245)، والبزار (325). وانظر كلام ابن تيمية عليه في «الفتاوى»: (16/ 434 - 435). (3) (ب): «فيه». (4) ذكره ابن رشيّق (ص 300) وفيه: «مسألة الزوال .. » خطأ وصوابه: النزول. وهو في «مجموع الفتاوى»: (5/ 321 ــ 582)، وحققه د. محمد الخميس، وطبع مفردًا بعنوان «شرح حديث النزول». (5) «فيه» ليست في (ف، ك). (6) قال ابن رشيّق (ص 300): «نحو عشرين ورقة». وهو في «مجموع الفتاوى»: (6/ 461 - 484). (7) ذكره ابن رشيّق (ص 300). ولعله ما في «مجموع الفتاوى»: (5/ 194 - 213) وبقيتها في (20/ 217 - 219).

(الكتاب/88)


وجواب في الاستواء وإبطال قول من تأوَّلَه بالاستيلاء، من نحو عشرين وجهًا (1). ومسألة في المباينة بين الله تعالى وبين خلقه (2). وله أجوبة أخر في مباينة الله تعالى لخلقه، وفيمن يقول: إنه سبحانه على عرشه بذاته، وأقوال السلف في ذلك (3). وله مسائل كثيرة في الأفعال الاختيارية المسمَّاة عند بعض المتكلمين بـ «حلول الحوادث» (4). منها كلام مفرد على كلام الرَّازي في «الأربعين» (5). وله مسائل وأجوبة في مسألة القدر، والردّ على القدريَّة وعلى (6) الجبرية، أكثر من مجلدين (7). وله مسائل (8) في محلّ الشِّعْر والعلوم، وغيرها هل هو واحد أو متعدّد؟ _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 300). وهو في «مجموع الفتاوى»: (5/ 136 - 149). (2) قال ابن رشيق (ص 303): «نحو أربعين ورقة». ولعله ما في «مجموع الفتاوى»: (5/ 267 ــ 320). (3) منها عدة قواعد وأجوبة في المجلد الخامس من «مجموع الفتاوى». (4) انظر «الفتاوى»: (6/ 217 ــ 267). (5) وهو مطبوع في «مجموع الفتاوى»: (6/ 273 - 287)، وانظر ما سبق (ص 57). (6) «القدرية وعلى» من بقية النسخ. (7) بقية النسخ «مجلد». وله في «مجموع الفتاوى»: (8/ 81 - 158 و 8/ 303 - 370) رسالتان في القضاء والقدر والحكمة والتعليل. (8) بقية النسخ «مسألة».وسقطت «محل» من (ب، ق).

(الكتاب/89)


وله درس السّكريَّة في (1) البسملة، جزء. ودرس الحنبلية في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] جزء حسن. ومسألة فيمن يدَّعي أن للقرآن باطنًا، وأنَّ لذلك الباطن باطنًا (2) إلى سبعة أبْطُن. ومسألة في عَقْل الإنسان وروحه. والحَلَبية (3) في الصفات، وهل (4) هي زائدة على الذَّات أم لا؟ والردّ على ابن سينا في رسالته الأضحويّة، نحو مجلد (5). وجواب في العزم على المعصية هل يعاقب عليه العبد؟ (6). وجواب على حزب أبي الحسن (7) الشّاذلي وما يشبهه، مجلد لطيف (8). _________ (1) (ف، ك): «بالبسملة». (2) «وأن لذلك الباطن باطنًا» سقطت (ف، ك). ولعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (13/ 230 ــ 269). (3) الأصل: «والحِلْية» ولعله تحريف. ولعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (6/ 339 ــ 350). (4) (ف، ك): «وهل». (5) ذكره ابن رشيّق (ص 296). ورسالة «الأضحوية» في إنكار المعاد وتأويل الأدلة في ذلك، وهي مطبوعة بتحقيق د. سليمان دنيا. (6) قال ابن رشيّق (ص 297): «نحو عشرين ورقة». وهو في «مجموع الفتاوى»: (10/ 720 ــ 769). (7) «أبي الحسن» من الأصل فقط. (8) طبع ضمن هذا المشروع المبارك بتحقيقي بعنوان «الرد على أبي الحسن الشاذلي في حِزْبيه وما صنفه في آداب الطريق» في مجلد واحد عام 1429 هـ.

(الكتاب/90)


وجواب في الكفّار من التتر وغيرهم، وهل لهم خُفَراء (1) بقلوبهم لهم تأثير؟ وله شرح كلام الشيخ عبد القادر في غير موضع، نحو مجلد (2). وقاعدة في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لن يدخلَ أحدٌ منكم الجنَّة بعملِه» (3). وله جواب في يزيد بن معاوية وهل يجوز سَبُّه أم لا؟ (4). وله قاعدة في فضل معاوية (5). وجواب في الخضر هل مات أو هو حي؟ (6) واختار أنه مات. _________ (1) «خفراء» مهملة النقط في الأصل، وتحرفت في (ف) إلى «خضراء». و «وهل لهم» سقطت من (ب). (2) ومنها تعليقة على «فتوح الغيب» ذكرها ابن رشيّق (ص 298). وطبعت في «مجموع الفتاوى»: (10/ 455 - 548). وفي «جامع الرسائل»: (2/ 73 - 189) تحقيق محمد رشاد سالم. (3) أخرجه البخاري (6463)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد طبعت في «جامع الرسائل»: (1/ 143 - 152). (4) ذكره ابن رشيّق (ص 299). طبع في «مجموع الفتاوى»: (4/ 481 ــ 488)، وأخرى في «جامع المسائل-الخامسة»: (5/ 139 - 158)، وفي (السادسة): (6/ 253 - 267) بعنوان: «مسألة في قتل الحسين وحكم يزيد». (5) في «مجموع الفتاوى»: (4/ 453 - 480) جواب سؤالٍ عن إيمان معاوية رضي الله عنه. (6) ذكره ابن رشيّق (ص 299). وانظر «جامع المسائل-الخامسة»: (5/ 131 - 137)، و «مجموع الفتاوى»: (4/ 337، 27/ 100). أما ما وقع في «مجموع الفتاوى»: (4/ 339) من القول بحياته، فهي فتوى مخالفة لكلام الشيخ المفصَّل في مواضع عدة، ومخالف لما نقله تلاميذه، ومنهم المصنف هنا وابن القيم في «المنار المنيف» (ص 64). ولقطب الدين الخيضري الشافعي (ت 894) رسالة في الخضر مخطوطة، وذكر فيها أن بعضهم نقل عن ابن تيمية القول بحياة الخضر، فردّ عليه بأن هذه الفتوى التي نقل منها هذا القائل إنما هي حكاية على لسان من يرى حياته، وليس هو قول الشيخ، وأنه قد تتبع فتاوى ابن تيمية بهذا الخصوص فوجدها متفقة على القول بموته. راجع مقدمة «جامع المسائل- المجموعة الخامسة»: (ص 8 - 9).

(الكتاب/91)


وله جواب في أنَّ الذَّبيح من ولد إبراهيم عليه السلام هو إسماعيل، واحتجَّ لذلك بأدلة كثيرة (1). وله (2) جواب في زيارة القدس يوم عرفة للتعريف به (3). وله أجوبة كثيرة في هذا المعنى. وجواب في احتجاج الجهمية والنصارى بالكلمة (4). وجواب فيمن عزم على فعل محرَّم ثم مات (5). وجواب في الذوق والوجد الذي يذكره الصوفية (6). _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 299). وهي في «مجموع الفتاوى»: (4/ 331 ــ 336). (2) «وله» ليست في (ف، ك). (3) طبعت رسالتان في «مجموع الفتاوى»: (27/ 5 - 24). وفي «جامع المسائل- السابعة»: (7/). (4) ذكره ابن رشيّق (ص 299). (5) (ف، ك): «تاب». ذكره ابن رشيّق (ص 299). (6) ذكره ابن رشيّق (ص 299).

(الكتاب/92)


وجواب في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من قال: أنا خير من يونس بن متَّى فقد كذب» (1). وجواب في التشاغل بكلام الله وأسمائه وذكره أيُّ ذلك أفضل (2)؟ وجوابٌ في غضّ البصر وحفظ الفرج (3). وجواب في المعيَّة وأحكامها. وله في (4) مسائل [ق 23] الرُّوح وهل يُعذَّب في القبر مع الجسد؟ وهل يفارق البدنَ بالموت، وهل يتصوَّر بصورة ويعقل (5) بعد الموت، ونحو ذلك، نحو (6) مجلد. وله جواب هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الرسالة نبيًّا؟ وهل يسمّى من صَحِبه إذ ذاك صحابيًّا؟ (7). _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 299). والحديث أخرجه البخاري (4604) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) ذكره ابن رشيّق (ص 299). ولعلها ما في «جامع المسائل-الثالثة»: (3/ 383 - 385) بعنوان: «مسألة في تلاوة القرآن والذكر أيهما أفضل؟ ». (3) ذكره ابن رشيّق (ص 299). (4) من بقية النسخ. (5) (ك) الأفعال «يعذب ... يتصور ... يعقل» بتاء التأنيث. و «الروح» مذكَّر في قول الأكثر، وقيل: يذكر ويؤنّث. «تاج العروس»: (4/ 57). (6) ليست في (ك). وفي «مجموع الفتاوى»: (4/ 216 ــ 299 و 24/ 363) مسائل عن الروح. (7) ذكره ابن رشيّق (ص 300).

(الكتاب/93)


وجواب هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي متعبّدًا بشرع من كان (1) قبله من الأنبياء؟ (2). وله جواب في كفر فرعون، والردّ على من لم يكفِّره (3). وجواب في ذي الفِقَار هل كان سيفًا لعلي رضي الله عنه؟ (4). وله قواعد وأجوبة في الإيمان هل يزيد وينقص؟ وما يتبع ذلك، نحو مجلد (5). وله جواب في عقيدة الأشعرية وعقيدة الماتريدي وغيره من الحنفية، تسمى «الماتريدية» (6). وله عقيدة تسمى (7) «الحَوفية» (8). وله أجوبة في العرش والعالم، هل هو كُريّ الشكل أم لا؟ (9). _________ (1) من الأصل فقط. (2) ذكره ابن رشيّق (ص 300). (3) ذكره ابن رشيّق (ص 300). وهي في «جامع الرسائل»: (1/ 201 ــ 216 ت ـ رشاد سالم). (4) ذكره ابن رشيّق (ص 300). (5) ذكره ابن رشيّق (ص 301). (6) قال ابن رشيّق (ص 301): «نحو خمسين ورقة». (7) «الما تريدية. وله عقيدة تسمى» سقطت من (ف). (8) قال ابن رشيّق (ص 301): «نحو عشرين ورقة». و «الحَوفية» بالفتح وسكون الواو، نسبةً إلى الحَوْف، والحوف بمصر حَوفان الشرقي والمغربي، ويشتملان على بلدان وقرى كثيرة. انظر «معجم البلدان»: (2/ 322). (9) ذكره ابن رشيّق (ص 301)، وأعاد ذكره في (ص 311) بعنوان: رسالة العرش. وهي في «مجموع الفتاوى»: (6/ 545 - 583) بعنوان: «الرسالة العرشية».

(الكتاب/94)


وفي قصد القلوب العلوّ ما سببه (1)؟ وله في الكلام على توحيد الفلاسفة على نظم ابن سينا، مجلد لطيف (2). وله في جواب محيي الدين الأصبهاني، عدّة كراريس (3). وله جواب في الفرق بين ما يتأوّل من النصوص وما لا يتأوّل (4). ومسألة في قوله: «أُمِرْتُ أن أخاطب الناسَ على قَدْر عقولهم»، هل (5) هو كلامه - صلى الله عليه وسلم - ؟ (6) وقاعدة في الردِّ على أهل الاتحاد (7). وله مؤلَّف في الردّ على ابن عربي (8). _________ (1) الأصل «ماشية»! (2) ذكره ابن رشيّق (ص 302). (3) (ك): «في عدة». قال ابن رشيّق (ص 302): «نحو ستين ورقة». (4) قال ابن رشيّق (ص 302): «نحو عشرين ورقة». (5) (ف) زيادة «من». (6) ذكره ابن رشيق (ص 303). وفي «مجموع الفتاوى»: (18/ 336 - 339) سؤال عن أحاديث، ومنها هذا الحديث. وقال في جوابه: «فهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين الذين يُعتمد عليهم في الرواية، وليس هو في شيء من كتبهم». والظاهر أن ما ذكره المؤلف كتاب آخر غير هذا الجواب المختصر. وانظر «المقاصد الحسنة»: (ص 93 - 94). (7) قال ابن رشيق (ص 303): «وهي جواب الطوفي، في مجلد لطيف». وللشيخ في الاتحادية كلام كثير انظر «مجموع الفتاوى»: (2/ 134 - 285). (8) (ك): «العربي». في «مجموع الفتاوى»: (2/ 362 - 451) رد عليه بعنوان: «الرد الأقوم على فصوص الحكم». وله مَحْضر حول الاعتقاد فيه ضمن «جامع المسائل- السابعة»: (7/ 241 ــ 257).

(الكتاب/95)


وجواب على حال الحلاج، ورفع ما وقع فيه من اللَّجاج (1). وله مسائل وقواعد في الاستغاثة غير ما تقدَّم ذكرُه. وجواب في الرِّضا على كلام أبي سليمان الداراني (2). وجواب في رؤية النساء ربهم في الجنة سأله عنه الشيخ إبراهيم الرقِّي رحمه الله. وجواب في العباس وبلال رضي الله عنهما أيهما أفضل؟ (3) وجواب في الكتاب الذي همَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه (4). وجواب فيمن يقول: إن بعض المشايخ أحيا ميتًا (5). وله أجوبه في مسائل وردت من أصبهان (6). وجواب عن مسائل وردت من الأندلس (7). _________ (1) ذكره ابن رشيق (ص 303) وعنده: «رسالة في حال الحلاج، ودفع ما وقع به التحاج». وطبع للشيخ في شأن الحلاج رسالة في «مجموع الفتاوى»: (2/ 480 ــ 487)، (35/ 108 ــ 119)، وفي «جامع الرسائل»: (1/ 185 - 199)، وفي «جامع المسائل-السابعة»: (7/ 447 ــ 465) بتحقيقي. (2) لعله ما في «مجموع الفتاوى»: (10/ 678 ــ 719). (3) ذكره ابن رشيّق (ص 305). (4) وللشيخ جواب عنه في «منهاج السنة»: (6/ 8 - 14). (5) ذكره ابن رشيّق (ص 305). (6) «في مسائل» ليست في (ب، ق). ذكره ابن رشيّق (ص 307). (7) ذكره ابن رشيّق (ص 307).

(الكتاب/96)


وجواب عن سؤال ورد من الرَّحْبة (1). وجواب عن سؤال ورد من ماردين (2). وجواب عن سؤال ورد من زُرَع. وأجوبة كثيرة عن مسائل وردت من بغداد (3). وأجوبه كثيرة (4) عن مسائل وردت من الصّلْت (5). وجواب في أرض الموات إذا أحياها الرّجل ثم عادت مواتًا هل تُمْلَك بالإحياء مرّةً أُخرى؟ (6). وله وصايا عدَّة يُسأل عنها. فكتب منها وصية لابن المهاجري، في كراريس؟ (7). _________ (1) هذا الجواب متأخر على تاليه في (ب، ق). ذكره ابن رشيّق (ص 307). وهي واحد وأربعون سؤالًا وردت من الرحبة، وهو ضمن «جامع المسائل-السابعة»: (7/ 3 ــ 119) بتحقيقي. (2) لعله «المسائل الماردينية» وهي أربعون سؤالًا في مسائل الفقه، طبعت مرارًا وهي في «مجموع الفتاوى» مفرقة على الأبواب. (3) هذا الكتاب سقط من (ف، ك). (4) «كثيرة» ليست في (ب، ق). (5) ذكره ابن رشيّق (ص 307). وفيها ستة وعشرون سؤالًا، طبعت في «جامع المسائل-الرابعة»: (4/ 347 - 385). (6) ذكره ابن رشيّق (ص 307). (7) (أ، ف، ك): «وكتب». ذكر الوصيتين ابن رشيّق (ص 310) وزاد «ووصية لأبي القاسم يوسف السَّبْتي». وهذه الأخيرة هي المعروفة بالوصية الصغرى، وهي في «مجموع الفتاوى»: (10/ 653 - 665).

(الكتاب/97)


ووصية كتبها للتُّجِيبي. وله إجازات منها (1): إجازة لأهل (2) سَبْتة ذكر (3) فيها مسموعاته. وإجازة كتبها لبعض أهل توريز (4). وإجازة لأهل غرناطة. وإجازة لأهل أصبهان. وله قواعد وأجوبة في الفقه كثيرة جدًّا، منها: قاعدة في الجمعة هل يُشْترط لها الاستيطان؟ وقاعدة في المسح على الخُفّين، وهل يجوز على المقطوع؟ (5). وقاعدة [ق 24] في حلق الرّأس هل يجوز في غير النُّسُك لغير عذر؟ (6). وقواعد في الاستجمار، وفي الأرض هل تَطْهُر بالشمس وبالرِّيح (7)؟ _________ (1) ذكر الإجازات ابن رشيّق (ص 310). (2) تحرفت في الأصل إلى «لابن». (3) (ف، ك): «وذكر». (4) هي مدينة تبريز. (5) في «مجموع الفتاوى»: (21/ 172 - 212). (6) ذكره ابن رشيّق (ص 309). (7) بقية النسخ: «والريح». ذكره ابن رشيّق (ص 307). وانظر «مجموع الفتاوى»: (21/ 474 ــ 482).

(الكتاب/98)


 وقواعد في نواقض الوضوء (1).

وفي المحرَّمات في النكاح (2). وقاعدة في الجدِّ هل يُجبر البكر على النكاح؟ وفي الاستئذان من الأب هل يجب؟ (3). وجواب في المظالم المشتركة وأحكامها (4). وجواب عن (5) أهل البدع هل يصلَّى خلفهم؟ ومسائل وأجوبتها في قتال التتار الذين قدموا مع غازان وغيره (6)، وفي قتال أهل البيعات (7) من النصارى، ونصارى ملطية، وقتال الأحلاف والمحاربين، نحو مجلَّد. وقاعدة في قوله: «استحللتم فروجهنَّ بكلمة الله» (8). وقاعدة في العِينَة والتورُّق ونحوهما من البياعات. _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 308). (2) انظر «مجموع الفتاوى»: (32/ 62 ــ 67). (3) ذكره ابن رشيّق (ص 309) وليس فيه: «وفي الاستئذان ... ». (4) طبعت في «مجموع الفتاوى»: (30/ 337 - 355). (5) (ق): «في». وانظر «مجموع الفتاوى»: (23/ 342 ــ 350 و 355 ــ 356). (6) في «مجموع الفتاوى» المجلد الثامن والعشرين أجوبة عدة في قتال التتار. (7) غير محررة في الأصل، وفي (ق، ب): «التينات»، و (ك): «السات»، ومهملة النقط في (ف). (8) الحديث أخرجه مسلم (1218).

(الكتاب/99)


وقاعدة في القراءة خلف الإمام (1). وقاعدة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من (2) بكَّر وابتكر، وغسَّل واغتسل» (3). وأجوبة في الصلوات المبتدعة، كصلاة الرغائب، ونصف شعبان، ونحو ذلك (4). وأجوبة في النهي عن أعياد النصارى (5)، وعما يُفعل من البدع يوم عاشوراء، نحو مجلد. وله مسألة في أنّ الجدَّ يُسقط الإخوة. وقاعدة في توريث ذوي الأرحام. ومسألة في بيع المُسْلَم فيه قبل قبضه، هل يجوز؟ وله أجوبة في رؤية هلال ذي الحِجَّة إذا رآه بعضُ الناس، ما حكمهم في الأضحية؟ وفي قوله: «صومكم يوم تصومون» (6)، وفيما إذا غُمَّ هلالُ رمضان ليلة _________ (1) ذكره ابن رشيّق (ص 309). ولعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (23/ 265 - 328). (2) سقطت من (ك). (3) أخرجه أحمد (16272)، وأبو داود (345)، والترمذي (496)، وابن ماجه (1087)، والنسائي (1318)، وابن خزيمة (1758) من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه، قال الترمذي: «حديث حسن». (4) انظر «مجموع الفتاوى»: (23/ 131 - 135). (5) منها رسالة في «جامع المسائل ــ الثالثة»: (3/ 371 ــ 377). (6) الحديث أخرجه الترمذي (697) من حديث أبي هريرة وقال: «هذا حديث حسن غريب». وفي إغمام هلال رمضان انظر «مجموع الفتاوى»: (25/ 98 - 103).

(الكتاب/100)


الثلاثين، هل يجب (1) الصوم أم لا؟ وجواب (2) في الإجارة، هل المعقود عليه تهيؤ العين وصلاحيتها (3) لنفع المستأجر؟ وهل ما يحدث في العين على ملكه؟ وهل هي على وَفْق القياس؟ وله قاعدة في أنّ ما كان داعيًا إلى الفُرْقة والاختلاف يجب النهي عنه (4). وجواب في التسمية على الوضوء. وقواعد في سباق الخيل، ورمي النُّشَّاب (5). وقواعد وأجوبة في النية في الصلاة، وغير ذلك من العبادات (6). وأجوبة في صلاة بعض أصحاب المذاهب خلف بعض، وأنه جائز (7). وجواب فيمن تفقَّه على مذهب، ثم يجد حديثًا صحيحًا بخلاف مذهبه (8). _________ (1) (ف): «يجزئ». (2) (ب، ق، ف): «وله جواب». (3) (ب، ق): «صلاحها». (4) لعلها ما في «مجموع الفتاوى»: (1/ 12 ــ 17). (5) في «جامع المسائل-السابعة»: (7/ 297 ــ 305) بعنوان: «مسألة في الرمي بالنشاب». (6) انظر «مجموع الفتاوى»: (22/ 217 - 258). (7) في «جامع المسائل-الخامسة»: (5/ 269 - 279) رسالة بعنوان: «المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية». (8) ستطبع قريبًا ضمن «جامع المسائل-الثامنة». ورسالة أخرى في «مجموع الفتاوى»: (20/ 210 ــ 230).

(الكتاب/101)


وجواب فيمن (1) يقول: أنا مذهبي غير موافق للأربعة. وجواب لمن (2) يقول: من لا شيخَ له فشيخُه الشيطان. وجواب في (3) المخلوقة من ماء الزّاني هل له أن يتزوَّج بها؟ وجواب في صلاة (4) الركعتين جالسًا بعد الوتر (5). وجواب في القنوت في الصبح والوتر (6). وجواب عن المرازقة وما يفعلونه من أعمال، والردّ عليهم فيما أخطأوا فيه (7). وقاعدة في الحمَّام والاغتسال. وقاعدة في الصلاة بين الأذانين يوم الجمعة (8). وجواب في قوله: «خير القبور (9) الدوارس» (10). _________ (1) (ب، ق): «من». (2) (ف، ك): «فيمن». (3) سقطت من الأصل. (4) سقطت من (ف). (5) في «مجموع الفتاوى»: (23/ 92 - 98). (6) في «مجموع الفتاوى»: (23/ 98 - 116). (7) في «مجموع الفتاوى»: (23/ 351 - 356). (8) طبعت في «مجموع الفتاوى»: (12/ 188 - 196). (9) (ب): «النفور»، وفي المطبوعة: «القرون». (10) قال العجلوني في «كشف الخفاء»: (1/ 477): «هذا مشهور على الألسنة، وليس معناه بظاهره صحيحًا، فإنه يُسنّ أن يجعل على القبر علامة ليُعرف فيُزار ... ». وانظر «أحكام الجنائز»: (ص 209) للألباني.

(الكتاب/102)


وجواب في نصرانية ماتت وفي بطنها ولد من مسلم. وجواب في امرأة مسلمة ماتت وفي بطنها إذ ذاك ولدٌ حيٌّ متحرِّك. وجواب مبسوط في السجَّادة (1) التي تُفْرَش في المسجد قبل الجمعة قبل مجيء المصلي (2). وجواب في ساعة الجمعة، هل هي (3) مقدَّرة بالدَّرَج؟ وله أجوبة في الوقف في مُنقطع الوسط وغيره (4). وله مسألة تسمى «الواسطة» (5). وله «إبطال الكيمياء». ومسألة الشفاعة. ومسألة الشهادة بالاستفاضة. ومسألة في الإجازة على كتاب «المصابيح» للبغوي. وأخرى على كتاب «المصابيح» أيضًا. _________ (1) (ف): «السجادات». (2) في «مجموع الفتاوى»: (22/ 163 - 192). (3) «هي» سقطت من (ف، ك). و «الدَّرَج» جمع درجة، وهي في علم الفلك: جزء من ثلثمائة وستين جزءًا من دورة الفلك. «المعجم الوسيط»: (ص 287)، و «ألفاظ الحضارة في القرن الرابع الهجري»: (ص 190). (4) في «مجموع الفتاوى»: (31/ 100 - 180) وهذا المجلد من أوله إلى ص 268 في مسائل الوقف. (5) (ب، ق): «الواسطية» خطأ. فالواسطية تقدم ذكرها (ص 87)، وهذه طبعت في «مجموع الفتاوى»: (1/ 121 ــ 138) وتسمى «الواسطة بين الخلق والحق».

(الكتاب/103)


وله في الأحاديث وشرحها شيء (1) كثير جدًّا، منها ما بُيّض ومنها ما لم يبيض، ولو بُيِّض لبلغ مجلدات عديدة. وكتب كثيرًا من «مسند الإمام أحمد» وغيره على أبواب الفقه. وله مختصر في الكَلِم الطيّب، جمع فيه الأذكار المستعملة طَرَفي النهار وغير ذلك (2). وشرح حديث أبي ذرٍّ الذي أوله: «يا عبادي إني حَرَّمت الظلم على نفسي» (3). وحديث: «الأعمال بالنيّات» (4). وحديث: «بدأ الإسلام غريبًا» (5). وحديث: «لا يرث المسلم الكافر» (6). وحديث الدعاء الذي علَّمَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا» (7). _________ (1) سقطت من الأصل. (2) طبع مرات، من آخرها بتحقيق د. رفعت فوري عبد المطلب بدار الخانجي. (3) طبع في «مجموع الفتاوى»: (18/ 136 - 209). (4) طبع في «مجموع الفتاوى»: (18/ 244 - 285). (5) طبع في «مجموع الفتاوى»: (18/ 291 - 305). (6) الحديث أخرجه البخاري (6764)، ومسلم (1614) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. (7) ذكره ابن رشيّق (ص 311). طبع ضمن «جامع المسائل-الرابعة»: (4/ 21 - 69).

(الكتاب/104)


وحديث جبريل في الإيمان والإسلام (1)، غير كتاب «الإيمان» المتقدم، في مجلد لطيف (2). وحديث: «لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن» شرحه مرات عديدة (3). وحديث: «أنزلَ القرآنُ على سبعة أَحْرف» شَرَحه غير مرَّة (4). وحديث النزول، شرحه مرّات (5). وحديث الأولياء الذي رواه البخاري (6) منفردًا به: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة». شرحه مرات. تارةً يُسأل عن مجموعه، وتارة يُسأل عن التردُّد المذكور فيه. وحديث حكيم بن حزام: «أسْلَمْت على ما أَسْلَفْت من خير» (7). وحديث ابن مسعود في درء الهمِّ. _________ (1) «والإسلام» من بقية النسخ. (2) طبع في «مجموع الفتاوى»: (7/ 461 - 622). وطبع مفردًا بتحقيق د. علي الزهراني في مجلد، عن دار ابن الجوزي عام 1423 هـ. ويسمى «الإيمان الأوسط». (3) طبع ضمن «جامع المسائل-الخامسة»: (5/ 239 - 259). (4) طبع في «مجموع الفتاوى»: (13/ 389 - 403). (5) طبع في «مجموع الفتاوى»: (5/ 321 - 582). وحققه مفردًا د. محمد الخميس. (6) رقم (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (7) طبع في «مجموع الفتاوى»: (11/ 701 - 702). والحديث في مسلم (194).

(الكتاب/105)


وحديث معاذ وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له (1): «لا تدعنَّ دُبُر كلِّ صلاةٍ». وحديث بَرِيرة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة (2): «اشترطي لهم الولاء». وحديث: «فحجَّ آدمُ موسى» شرحه مرَّات (3). وحديث: «لا يضرب أحدٌ (4) فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله». وحديث: «من جُعِل قاضيًا فقد ذُبح بغير سِكِّين» (5). وحديث: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم» (6). وشرحَ أحاديثَ كثيرة غير (7) ما ذُكِر. _________ (1) من الأصل فقط. وقد سُئل شيخ الإسلام عن هذا الحديث وغيره كما في «مجموع الفتاوى»: (22/ 492، 500 - 504). (2) ليست في (ق). وللشيخ فصل في هذا الحديث في «مجموع الفتاوى»: (29/ 337 - 356). (3) منها في «مجموع الفتاوى»: (8/ 303 - 336). (4) سقطت من (ك). والحديث أخرجه البخاري (6850)، ومسلم (1708). من حديث أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه. (5) هذا الكتاب سقط من (ك). والحديث أخرجه أبو داود (3571)، والترمذي (1325)، والنسائي (5892 ــ الكبرى)، وابن ماجه (2308) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) عند ابن رشيّق (ص 306): «رسالة في قوله: كما صليت على إبراهيم، وفي أن المشبه به أعلى من المشبَّه». وهو في «مجموع الفتاوى»: (22/ 454 - 467). (7) الأصل: «على».

(الكتاب/106)


وشرح ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: نِعْم العبدُ (1) صُهيب لو لم يخفِ اللهَ لم يعْصِه. وتكلم على (لو) (2). وشرح قول علي رضي الله عنه: لا يرجونَّ أحدٌ (3) إلا ربَّه ولا يخافنَّ إلا ذنبه (4). وله أجوبة كثيرة في أحاديث يُسأل عنها، من صحيحٍ يشرحه، وضعيفٍ يبيّن ضعفه، وباطل ينبّه على بطلانه. وله من الأجوبة والقواعد شيء كثير غير ما تقدَّم ذكره يشقّ ضبطُه وإحصاؤه، ويعسُر حصرُه واستقصاؤه. وسأجتهد [ق 26] إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من أسماء (5) مؤلفاته في موضع آخر غير هذا، وأبيّن ما صنَّفه منها (6) بمصر وما ألَّفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن، وأرتِّبه ترتيبًا حسنًا غير هذا الترتيب، بعون الله وقوَّته ومشيئته. قال الشيخ أبو عبد الله (7): لو أراد الشيخ تقي الدين رحمه الله أو غيره _________ (1) (ب، ق): «الرجل». (2) طبع في «جامع المسائل-الثالثة»: (3/ 313 - 320). (3) (ق، ف، ك): «عبدٌ». (4) طبع في «مجموع الفتاوى»: (8/ 161 - 180). (5) (ك): «من ضبط مؤلفاته». وسقط «ما يمكنني من أسماء» من (ف). (6) ليست في (ب، ق). (7) يعني: ابن رشيّق، انظر ما سبق (ص 41).

(الكتاب/107)


حصرها ــ يعني مصنفات (1) الشيخ ــ لما قدروا (2)؛ لأنه ما زال يكتب، وقد مَنَّ الله عليه بسرعة الكتابة، ويكتب من حفظه من غير نقل. وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلدًا لطيفًا في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأكثر. وأحْصيتُ ما كتبه في يوم وبَيَّضتُه (3) في يوم فكان ثمان كراريس، في مسألة من أشكل المسائل. وكان يكتب على السؤال الواحد مجلدًا. وأما جوابٌ يَكْتب فيه خمسين ورقة، وستين، وأربعين، وعشرين، فكثير. ويكتبُ الجوابَ، فإن حضر من يبيّضه وإلا أخذ السائلُ خطَّه وذهب. ويكتب قواعدَ كثيرة في فنونٍ من العلم؛ من (4) الأصول والفروع والتفسير وغير ذلك، فإن وُجِد من ينقله (5) من خطِّه وإلا لم يشتهر ولم يُعْرَف. وربما أخذه بعضُ أصحابه فلم (6) يقدر على نقله، ولا يردّه إليه فيذهب. وكان كثيرًا ما يقول: قد كتبت في كذا وفي كذا. ويُسأل عن الشيء، فيقول: قد كتبتُ في هذا، فلا يُدرى أين هو، فيلتفت _________ (1) (ق، ف، ك): «مؤلفات». وفي الهامش (الأصل وب): «مؤلفات» في نسخة. (2) (ب، ق): «قدر». (3) كذا في الأصل و (ق)، وتحتمل في (ب): «وبيضه». و (ف، ك): «ما كتبه وبيّضه في اليوم ... ». (4) بقية النسخ: «في». (5) (ف، ك): «نقله». (6) (ك): «فلا».

(الكتاب/108)


إلى أصحابه ويقول: ردّوا خطي وأظهروه لينقل. فمِن حرصهم عليه لا يردُّونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يعرف اسمه ولا أين هو (1). فلهذه الأسباب وغيرها تعذَّر إحصاءُ ما كتبه وما صنفه. وما كفى هذا، إلا أنه لما حُبِس تفرَّقت (2) أتباعُه، وتفرَّقت كتبُه، وخوَّفوا أصحابه من أن يُظهروا كتبه= ذهبَ كلُّ أحدٍ بما عنده وأخفاه ولم يظهروا كتبه (3)، فبقي هذا يهرب بما عندَه، وهذا يبيعه أو يهبه (4)، وهذا يخفيه ويودعه، حتى إن منهم من تُسْرَق كتبه أو تُجْحَد، فلا يستطيع أن يطلبها ولا يقدر على تحصيلها (5)! ! فبدون هذا تتمزق الكتب والتصانيف كلَّ تمزّق (6)! ولولا أنَّ الله تعالى لطفَ وأعان ومنَّ وأنعم، وخَرَق (7) العادةَ في حِفْظ أعيان كتبه وتصانيفه لما أمكن أحدًا أن يجمعها. ولقد رأيتُ من خَرْق العادة في حفظ كتبه وجمعها، وإصلاح ما فَسَد منها، وردّ ما ذهب منها= ما لو ذكرتُه لكان عجبًا، يعلم به كلُّ منصف (8) أنَّ لله _________ (1) «ولا أين هو» ليست في (ك). (2) (ب، ق، ف): «وتفرق»، (ك): «تفرق». (3) «ذهب كل ... كتبه» سقط من (ب). (4) «أو يهبه» سقط من (ب، ق). (5) بقية النسخ: «تخليصها». (6) «كل تمزق» ليست في (ك). (7) (ف، ك): «وجرت». (8) (الأصل وف): «مصنف» خطأ.

(الكتاب/109)


عنايةً به وبكلامه؛ لأنه يذب عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. قلت: ومن مؤلفاته أيضًا: قاعدة في تقرير النبوات بالعقل والنقل (1). وقاعدة في تبديل السيئات حسنات. وقاعدة في المتشابهات. وقاعدة في إبطال المجرّدات (2). وقاعدة في إثبات الرؤية والردّ على نُفاتها (3). وقاعدة [ق 27] في وجوب تقديم محبَّة الله ورسوله على النَّفْس والأهل والمال. وقاعدة في لفظ الجسم، واختلاف الناس واصطلاحاتهم في هذا الاسم (4). وقاعدة في تحريم الحشيشة، وبيان حكم آكلها، وماذا يجب عليه (5). _________ (1) لعله الكتاب المطبوع باسم «النبوات»، وأحسن طبعاته بتحقيق د. عبد العزيز الطويان في مجلدين ــ دار أضواء السلف. وفي «مجموع الفتاوى»: (10/ 430 - 453) رسالة بعنوان: «اتباع الرسول بطريق المعقول». (2) (ق): «وقاعدة المجردات». وهذا الكتاب مقدم على الذي يليه في (ب، ق). (3) وهي في «مجموع الفتاوى»: (6/ 401 ــ 460). (4) (ف): «الأصل». (5) في «مجموع الفتاوى»: (34/ 213 - 214) سؤال وجوابه عن الحشيشة.

(الكتاب/110)


وقاعدة في الردِّ على من قال بفناء الجنة والنار (1). وله «الحموية الكُبرى» (2). و «الحموية الصُّغرى» (3). فأما «الحموية الكبرى» فأملاها ما (4) بين الظهر والعصر، وهي جواب عن سؤال ورد من حماة سنة ثمان وتسعين وستمائة، وجرى بسبب تأليفها أمور ومحن. وتكلَّم الشيخُ فيها على آيات الصفات والأحاديث الواردة في ذلك، وقال في مقدَّمتها ــ وهي عظيمة جدًّا ــ: «قولنا فيها ما قال (5) الله ورسوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد (6) هؤلاء الذين _________ (1) قال ابن رشيّق (ص 287): «نحو عشرين ورقة» وذكر أنه ألفها في محبسه الأخير. وقد طبعت بتحقيق د. محمد السمهري عن دار بلنسية في (118 ص). (2) قال ابن رشيّق (ص 296): «الفتيا الحموية، ستون ورقة، كتبها بين الظهر والعصر». وهي في «مجموع الفتاوى»: (5/ 5 - 120). وطبعت مفردة بتحقيق حمد التويجري ــ دار الصميعي. (3) طبعت في الهند سنة 1295 هـ. والذي يظهر أن الشيخ أملى «الحموية الصغرى» أولًا، ثم بعد ذلك أضاف إليها كثيرًا من النصوص والاقتباسات عن المتكلمين والفلاسفة بما يعادل ثلث الكتاب، فصارت هذه النسخة المزيدة هي «الحموية الكبرى». والله أعلم. قلت: وقد قابلنا ما ساقه المصنف من «الحموية» على مطبوعة الفتاوى ورمزت لها بـ (ط) وعلى مخطوطة تركية كتبت سنة 730 هـ ورمزت لها بـ (خ). (4) «ما» ليست في (ف، ك). (5) بقية النسخ وخ: «قاله». (6) (ف، ك): «من بعد».

(الكتاب/111)


أجمعَ المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وفي غيره. فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيًا إليه (1) بإذنه وسراجًا منيرًا، وأمره أن يقول: {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 80]. ومن المُحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أَخرجَ (2) به الناسَ من الظلمات إلى النور، وأنزلَ معه الكتابَ بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمرَ الناسَ أن يردّوا ما تنازعوا فيه من (3) دينهم إلى ما بُعِثَ به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه (4) على بصيرة، وقد أخبر الله أنه أكمل له ولأمته دينهم وأتمَّ عليهم نعمته =محالٌ (5) مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به مُلتبسًا مشتبِهًا، ولم يميّز ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العُلى، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه. فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصَّلته النفوس وأدركته العقول. _________ (1) (ب، ق): «أنه بعثه ... ». و «إليه» سقطت من (ف). (2) (ك) كتب فوقها بخط دقيق «الله». (3) في (ك) بخط دقيق مغاير: «من أمر». (4) (ب، ق): «بأنه». وكتبت في (ك) بخط دقيق مغاير. و «بإذنه» ليست في (خ). (5) (ف): « .. نعمته عليهم ومحال ... ».

(الكتاب/112)


فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول، وأفضل خَلْق الله بعد النبيين لم يُحْكِموا هذا الباب اعتقادًا وقولًا. ومن المحال أيضًا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علَّم أمته كلَّ شيء حتى الخِراءة (1). وقال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (2). وقال ــ فيما صح عنه أيضًا ــ: «ما بعث الله من نبيّ إلا كان حقًّا عليه (3) أن يدلَّ أمته على خير ما يَعْلَمه لهم وينهاهم عن شرِّ ما يعلمه لهم» (4). وقال أبو ذرّ: لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلِّب جناحيه في السماء إلا ذَكَّرنا (5) منه علمًا (6). _________ (1) كما جاء في حديث سلمان الفارسي عند مسلم (262). (2) أخرجه أحمد (71742)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وابن حبان (45)، والحاكم: (1/ 95 - 96) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. قال الترمذي: «حسن صحيح». وصححه ابن حبان والحاكم والبزار وغيرهم. (3) ليست في (ب، ق). (4) أخرجه مسلم (1844) ضمن حديث طويل من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (5) هكذا في جميع النسخ و (خ) ومصادر التخريج، وغيّرها أحد المطالعين في (ف) إلى «ذكرلنا» وهي كذلك في طبعة الفتاوى: (5/ 8). (6) أخرجه أحمد (21361، 21439) بنحوه، والطبراني في «الكبير»: (2/ 155) من حديث أبي ذر. قال الهيثمي في «المجمع»: (8/ 263): «رجال الطبراني رجال الصحيح ... وفي إسناد أحمد من لم يسمّ».

(الكتاب/113)


وقال [ق 28] عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامًا فذكر بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم. حفظ ذلك من حَفِظَه، ونَسِي ذلك (1) من نسيه. رواه البخاري (2). مُحال مع هذا ومع (3) تعليمهم كلّ شيء لهم فيه منفعة في الدين ــ وإن دقَّت ــ أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم وقلوبهم (4) في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزُبْدة الرسالة الإلهية. فكيف يتوهَّم من في قلبه أدنى مُسْكَة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غاية التمام؟ ! ثم إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المُحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصَّروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه. ثم من المُحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة؛ القرن الذي بُعِث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين (5) وغير قائلين في هذا الباب بالحقِّ المبين؛ لأنّ ضدّ ذلك إما عدم العلم والقول، وإما _________ (1) (ب، ق، ف): «ونسيه من». (2) بعد رقم (3192) معلقًا، وانظر «تغليق التعليق»: (3/ 486 - 488) لابن حجر. (3) «مع» ليست في (ق، ف، ك). (ب): «وبتعليمهم». و (خ): «محال مع تعليمهم». (4) (ف، ك): «ويعتقدونه بقلوبهم». (5) «ثم الذين يلونهم» ليست في (ق)، وكُتِب فوق «عالمين» في (ك): «لعله» وفي الهامش: «بدله: العالمين».

(الكتاب/114)


اعتقاد نقيض الحقّ وقول خلاف الصِّدْق، وكلاهما ممتنع. أما الأول؛ فلأنَّ من في قلبه أدنى حياة، وطلبٍ للعلم، ونَهْمة في العبادة؛ يكون البحثُ عن هذا الباب والسؤالُ عنه ومعرفةُ (1) الحقّ فيه أكبر (2) مقاصده وأعظم مطالبه (3). وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية (4). فكيف يتصوَّر مع قيام هذا المقتضي ــ الذي هو من أقوى المقتضيات ــ أن يتخلَّف عنه مقتضاه في أولئك (5) السادة في مجموع عصورهم (6)؟ ! هذا لا يكاد يقع في أبْلَد الخلق، وأشدّهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع في أولئك؟ وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عَرَف حالَ القوم. ثم الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن أن يُسَطَّر في هذه الفتيا أو أضعافها، يَعرف ذلك من طلبَه وتتبَّعه. ولا يجوز أيضًا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله _________ (1) (ف): «عن معرفة». (2) (ف، خ): «أكثر». (3) في (خ، والفتاوى) زيادة: «أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته». (4) في هامش (ك): «الوجدانية». و (خ): «الوجودية». (5) (ك): «مقتضاه لأولئك». (6) الأصل: «عمورهم» خطأ. و (ف، ك): «عصرهم».

(الكتاب/115)


بعضُ الأغبياء ممن لم يَقْدُر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها؛ من أنَّ طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم. فإن هؤلاء المبتدعة الذين يُفضِّلون طريقة (1) الخَلَف (2) على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرَّد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقهٍ لذلك. بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة/78] [ق 29] وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظنُّ الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وسبب ذلك: اعتقادُهم أنه ليس [لله] (3) في نفس الأمر صفة دلَّت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شَركوا (4) فيها إخوانهم من الكافرين. _________ (1) ليست في (ق). (2) بعده في هامش (ك) بخط مغاير: «من المتفلسفة ومن حذا حذوهم». (3) زيادة «لله» من (خ وط) وليست في الأصول. (4) في هامش (ن)، و (خ، ط): «شاركوا».

(الكتاب/116)


فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان ــ مع ذلك ــ لابدّ للنصوص من معنى، بقوا متردّدين بين الإيمان باللفظ، وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها: طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معانٍ (1) بنوع تكلُّف، وهي التي يسمونها: طريقة الخلف؛ وصار هذا الباطل مركبًا من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا (2) فيه على أمور عقلية ظنوها بيَّنات وهي شبهات، والسمع حرَّفوا فيه الكَلِمَ (3) عن مواضعه. فلما انْبَنى (4) أمرُهم على هاتين المقدِّمتين الكاذبتين الكُفْريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأوّلين (5) واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا (6) أميين، بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحَّروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطَّنوا لدقيق (7) العلم الإلهي، وأن الخَلَفَ الفضلاء حازوا قَصَب السَّبْق في هذا كله. وهذا (8) القول إذا تدبَّره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة. كيف يكون هؤلاء المتأخِّرون ــ لاسيما والإشارة بالخَلَف إلى _________ (1) (أ، ب، ق): «معاني» وزاد في المطبوعة «أخرى». (2) الأصل: «اعتقدوا». (3) (خ): «حرفوا الكلام فيه». (4) (ب، ق): «انتهى». (ك): «ابتنى». (5) «الأولين» ليست في (ف، خ). (6) ليست في (ك). (7) (خ، ط): «لدقائق». (8) (خ): «فإن هذا»، (ط): «ثم هذا».

(الكتاب/117)


ضَرْب من المتكلمين ــ الذين كَثُر (1) في باب الدين اضطرابُهم، وغَلُظ عن معرفة الله حجابُهم، وأخبر الواقفُ على نهايات (2) إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم (3) حيث يقول: لعمري لقد (4) طُفت المعاهد كلّها ... وسيّرت طَرْفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعًا كفَّ حائرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارعًا سنَّ نادم (5) وأقرُّوا على أنفسهم بما قالوه متمثِّلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم (6)، كقول بعض رؤسائهم: نهاية إقدام العقولِ عقالُ ... وأكثرُ سَعْي العالمين ضلال وأرواحُنا في وَحْشةٍ من نفوسنا (7) ... وحاصل دنيانا أذًى ووبال ولم نستفد في (8) بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا (9) _________ (1) الأصل: «كبر». (2) (ف، ك، ط): «نهاية». (3) (خ، ط): «أمرهم». (4) الاصل: «قد». (5) تنسب لابن سينا، وقيل للشهرستاني، ذكرهما الأخير في «نهاية الإقدام» (ص 3)، وانظر «وفيات الأعيان» (2/ 161، 4/ 274). (6) «من كتبهم» من بقية النسخ و (خ، ط). (7) بقية النسخ و (خ، ط): «جسومنا». وبعده في (خ): «غاية دنيانا». (8) (ك): «من». و (خ): «وما نالنا في ... ». (9) (ب، ق، ف، خ): «وقال». والأبيات للرازي، انظرها في «طبقات الأطباء»: (2/ 42 ــ 43)، و «وفيات الأعيان»: (4/ 250).

(الكتاب/118)


لقد تأملت الطرق الكلامية (1)، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها (2) تشفي عليلًا ولا تُرْوي غليلًا، ورأيتُ أقربَ الطرق طريقة القرآن؛ أقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وأقرأُ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]. قال: ومن جَرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ويقول الآخر منهم (3): لقد خُضْت البحر الخِضَمّ (4)، وتركتُ أهلَ الإسلام وعلومهم، وخضت في [ق 30] الذي نهوني (5) عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته (6) فالويل لفلان، وها أنذا (7) أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكًّا عند الموت أصحاب (8) الكلام. ثم هؤلاء المتكلِّمون (9) المخالفون للسلف إذا حُقِّق عليهم الأمر، لم _________ (1) تحرفت في (ف) إلى: «الكلابية»! (2) (خ): «فلم أجدها». ثم قدم آيات النفي على الإثبات. (3) هو إمام الحرمين الجويني، انظر «السير»: (18/ 471). (4) سقطت من (ف). وكتبت في (ك) بخط دقيق مغاير. (5) (خ): «نهوا». (6) (ف): «يداركني ... رحمته». (7) «ذا» ليست في (ب، ف، ك). (8) سقطت من (ب). وهذه المقولة نسبها شيخ الإسلام للغزالي، انظر «نقض المنطق» (ص 25). (9) سقطت من (ف).

(الكتاب/119)


يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله، وخالص المعرفة به خَبَر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر. = كيف يكون هؤلاء المحجوبون، المنقوصون، المسبوقون المفضولون (1)، الحيارى، المتهوِّكون (2) أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، من (3) ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدُّجى، الذين بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلًا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جُمِعَت حكمةُ غيرهم إليها لاستحيى من يطلب المقابلة؟ ! ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة، لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ ! أم كيف يكون أفراخُ المتفلسفة، وأتباع الهند واليونان، وورثة (4) _________ (1) (ق): «هؤلاء المحجبون .. »، (ف): « ... المسبوقون المفصلون»، و «المفضولون» ليست في (خ). (2) الأصل: «المهوكون»، (ب، ق): «المهتوكون». (3) «من» ليست في (خ). (4) (ف، ك): «ورثة».

(الكتاب/120)


المجوس والمشركين، وضُلَّال اليهود والنصارى (1) والصابئين، وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟ ! . وإنما قدَّمت هذه المقدمة لأن من استقرت عنده هذه المقدمة (2) عَلِم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره، وعلم أن الضلال والتهوُّك (3) إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عمَّا بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين، والتماسهم عِلْم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة (4) الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة. وليس غرضي واحدًا معيَّنًا وإنما أصفُ نوع هؤلاء ونوع هؤلاء (5). وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة (6) مملوء بما هو إما نصّ وإما ظاهر في أن الله هو العليّ الأعلى (7)، وهو فوقَ كلّ شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله: _________ (1) سقطت من (ف). (2) «لأن ... المقدمة» سقطت من (ف). (3) (ف): «والهتوك». (4) (ف، ق): «وشهادة». (5) «ونوع هؤلاء» ليست في (ب، ق، خ) وبعده في (خ) زيادة: «والعاقل يسير فينظر». (6) (ب، ق): «الأمة». (7) «هو العلي الأعلى» ليست في (خ).

(الكتاب/121)


{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (1) (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16 - 17]، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [آل عمران: 158]، {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. [ق: 31]، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في ستة مواضع {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) [طه: 5] {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ (3) ... إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا (4)} [غافر: 36 - 37]، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 14]. إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يُحصى إلا بِكُلْفة. وفي الأحاديث الصحاح ما لا يكاد يُحْصى إلا بكُلْفة (5)، مثل قصة معراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه (6)، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، _________ (1) «فإذا هي تمور» سقطت من (ق، ف، ك، خ). (2) قوله: «في ستة مواضع» والآية سقطت من (ب، ق). (3) ضبطها في الأصل: (فأطَّلِعَُ) بالضبطين، وكتب فوقها: (معًا)، وقراءة النصب قراءة حفص عن عاصم، وقرأ الباقون بالضم. انظر «المبسوط»: (ص 327) لابن مهران. (4) الآية في (ب، ق) إلى قوله: «إله موسى» .. (5) (ف، ك، خ، ط): «الصحاح والحسان ما لا يحصى ... ». و «وفي الأحاديث ... بكلفة» سقط من (ب). (6) القصة أخرجها البخاري (346)، ومسلم (163).

(الكتاب/122)


وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل (1) والنهار: «فتعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم، فيسألهم وهو أعلم بهم ... » (2). وفي «الصحيح» (3) في (4) حديث الخوارج: «ألا تأمنوني وأنا أمين مَنْ في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً». وفي حديث الرُّقية الذي رواه أبو داود وغيره: «ربنا الله (5) الذي في السماء تقدَّس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رَحْمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حُوبنا وخطايانا، أنت ربّ الطيبين، أنزِلْ رحمةً من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع (6)» (7). قال - صلى الله عليه وسلم - : «إذا اشتكى أحدٌ منكم أو اشتكى أخٌ له فليقل: ربّنا الله الذي في السماء ... » وذَكَره. وفي حديث الأوعال: «والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم _________ (1) الأصل: «في الليل». (2) أخرجه البخاري (3223)، ومسلم (632) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (4) نسخ الكتاب: «من» والمثبت من (خ، ط). (5) من بقية النسخ و (خ، ط). وكذا في اللفظ الآتي. (6) كتب بين الأسطر في (ق): «فيبرأ». وهي واردة في مصادر الحديث. (7) أخرجه أبو داود (3892)، والنسائي في «الكبرى» (10809)، والحاكم: (1/ 343 - 344) وغيرهم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، ومداره على زياد بن محمد، وهو منكر الحديث، وقد تفرَّد به. وحسَّنه شيخ الإسلام في «الفتاوى»: (3/ 139).

(الكتاب/123)


ما أنتم عليه» رواه أحمد وأبو داود وغيرهما (1). وقوله في الحديث الصحيح (2) للجارية: «أين الله؟ » قالت: في السماء، قال: «من أنا؟ ». قالت: أنت رسول الله. قال: «أعتقها فإنها مؤمنة». وقوله في الحديث الصحيح: «إنَّ الله لما خلق الخلق كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي» (3). وقوله في حديث قَبْض الروح: «حتى تعرج به (4) إلى السماء التي فيها الله عز وجل». وقول عبد الله بن رَواحة الذي أنشده للنبي وأقرَّه عليه: _________ (1) أخرجه أحمد (1770)، وأبو داود (4723)، والترمذي (332)، وابن ماجه (193) وغيرهم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. والحديث ضعيف انظر حاشية (المسند: 3/ 293). لكن قال شيخ الإسلام ــ في بعض نسخ الحموية (ص 222 - 223 ــ ط الصميعي): «وهذا الحديث مع أنه قد رواه أهل السنن كأبي داود وابن ماجه والترمذي وغيرهم، فهو مرويّ من طريقين مشهورين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر، وقد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب «التوحيد» (1/ 334) الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - » اهـ. وانظر «تهذيب السنن»: (4/ 2158 - 2163) لابن القيم. وفي (خ): «رواه أبو داود» فقط. (2) «في الحديث الصحيح» من بقية النسخ. والحديث في «صحيح مسلم» (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي. (3) أخرجه البخاري (7422) بنحوه، ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا الحديث والذي قبله سقط من (خ). (4) (ف، ك): «يعرج إلى».

(الكتاب/124)


شهدتُ بأنّ وعْدَ الله حقّ ... وأنّ النارَ مثوى الكافرينا (1) وأنَّ العرش فوقَ الماء طافٍ ... وفوق العرش ربّ العالمينا (2) وقول أمية بن أبي الصَّلْت الذي أنشده (3) للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو وغيره من شعره فاستحسنه وقال: «آمن شِعْرُه، وكفر قلبُه». مجِّدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق النـ ... ـاس (4) وسوَّى فوق السماء سريرا شرجعًا ما يناله بصر الـ ... ـعين تُرى دونه الملائكُ صورا (5) وقوله في الحديث الذي في «السنن»: «إن الله حيِيٌّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صِفْرًا» (6). وقوله: «يمدّ يديه إلى السماء يا ربّ يا ربّ» (7). _________ (1) في النسخ عدا (ف): «الكافرين ــ العالمين»، والقافية بألف الإطلاق. (2) ذكر القصة والشعر ابن عبد البر في «الاستيعاب»: (2/ 296 - 297 - بهامش الإصابة) وقال: إنها رويت من وجوه صحاح. وأخرجها ابن عساكر في «تاريخه»: (28/ 112). (3) (ك): «أنشد». (4) (خ): «الخلق». (5) «ديوان أمية بن أبي الصلت»: (ص 41). (6) أخرجه أبو داود (1488)، والترمذي (3556). وابن ماجه (3865)، وابن حبان (876)، والحاكم: (1/ 497). وغيرهم من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه. قال الترمذي: «حسن غريب»، وصححه ابن حبان، والحاكم وقال: «هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين». (7) من حديث أخرجه مسلم (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(الكتاب/125)


إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو من أبلغ التواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علمًا يقينيًّا (1) من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول المبلِّغ عن الله ألقى إلى أمته المَدْعوّين: أن الله سبحانه على العرش، وأنه [ق 32] فوق السماء، كما فَطَر (2) على ذلك جميع الأمم: عَرَبهم وعَجَمهم في الجاهلية والإسلام، إلا من اختالته (3) الشياطين عن فطرته. ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمِعَ لبلغ مئين و (4) ألوفًا. ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أحدٍ من سلف الأمة، لا (5) من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف = حَرْفٌ واحد (6) يخالف ذلك لا نصًّا ولا ظاهرًا، ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش، ولا إنه بذاته في كل مكان (7)، ولا أنَّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه (8) _________ (1) (ف): «يقينا». (2) (ف، ك، خ، ط): «فطر الله». (3) (ف، ك، خ، ط): «اجتالته». يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (2865): «خلقتُ عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ... ». وقوله: «فاجتالتهم» بالجيم، وروي بالخاء المعجمة، أي أزالتهم وأذهبتهم. انظر «شرح النووي»: (17/ 197). (4) (ف، ق، خ، ط): «أو». (5) (ف): «ولا». (6) (ف، ك): «حرفًا واحدًا». (7) «ولا إنه بذاته في كل مكان» ليست في (خ). (8) (ف، ك): «وأنه لا».

(الكتاب/126)


لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز إليه الإشارة الحسية (1). بل قد ثبت في «الصحيح» (2) عن جابر بن عبد الله أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال (3) لمَّا خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مَجْمع حَضَره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يقول: «ألا هل بلَّغْت». فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء ويَنْكُتها (4) إليهم ويقول: «اللهم اشهد» غير مرة، وأمثال ذلك كثير. فإن كان الحقُّ ما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة بالكتاب والسنة من هذه (5) العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة إمّا نصًّا وإما ظاهرًا، فكيف يجوز على الله تعالى، ثم على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم على خير الأمة = أنهم يتكلَّمون دائمًا بما هو (6) نصّ أو ظاهر في خلاف الحق! ثم الحقّ الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلّون عليه لا نصًّا ولا ظاهرًا، حتى تجيء أنباطُ الفرس والروم، وفراخ اليهود (7) والفلاسفة، _________ (1) بعده في (خ، ط) و (ك) من هامشها: «للأصابع ونحوها». (2) «صحيح مسلم» (1218) من حديث جابر رضي الله عنه. (3) من الأصل فقط. (4) (ب، ف، ك): «وينكبها». (5) العبارة في (ق): «كان ما يقوله ... الثابتة فيما في الكتاب والسنة هذه» و (ب): «الحق مما يقوله ... الثابتة في الكتاب والسنة هذه». (6) زاد في (ك): «إما». (7) (ب، ق، ف، خ، ط): «وفروخ اليهود». وفي هامش (ك) بخط دقيق زيادة «والنصارى».

(الكتاب/127)


يبيّنون (1) للأمة العقيدة الصحيحة، التي يجب على كلِّ مكلَّف أو كلّ فاضل أن يعتقدها! لئن كان الحقُّ ما يقوله هؤلاء المتكلّمون (2)، وهو الاعتقاد الواجب، وهم مع (3) ذلك أُحيلوا في معرفته على مجرَّد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دلَّ عليه الكتاب والسنة نصًّا أو ظاهرًا= لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير! بل كان وجود الكتاب والسنة ضررًا محضًا في أصل الدين! فإنّ (4) حقيقة الأمر ــ على ما يقوله هؤلاء ــ: إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله وما يستحقّه من الصفات نفيًا وإثباتًا، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقًّا له من الصفات فصِفوه به، سواء كان موجودًا في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقًّا له في عقولكم فلا تصفوه به. ثم هم ههنا فريقان؛ أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه. ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياسُ عقولكم ــ الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافًا أكثر [ق 33] من جميع اختلافٍ على وجه الأرض ــ _________ (1) (خ): «يثبتون». (2) في (خ) زيادة: «المتكلمون». وهي في هامش (ك) بخط دقيق، وكتب فوقها: نسخة. (3) (ب، ق): «في». (4) (خ): «فإن كان ... ».

(الكتاب/128)


فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبَّدتكم به (1)! وما كان مذكورًا في الكتاب والسنة مما (2) يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم ــ على طريقة أكثرهم ــ فاعلموا أني امتحنتكم (3) بتنزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذِّ اللغة، ووَحْشيّ الألفاظ، وغرائب الكلام، أو أن (4) تسكتوا عنه مفوِّضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات! هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين. وهذا الكلام قد رأيته صرَّح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزومًا لا محيدَ عنه. ومضمونه: أنَّ كتابَ الله لا يُهتدَى به في معرفة الله، وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسلَه، وأن الناس عند التنازع لا يردُّون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة، وهم المشركون والمجوس وبعض الصابئين، وإن كان هذا الردّ (5) لا يزيد الأمر إلا شدَّة ولا يرتفع الخلافُ به؛ إذ لكلِّ فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا _________ (1) (خ): «يُعبد ربكم به». (2) ليست في (ك). (3) (خ، ط): «أمتحنكم». (4) (ب، ق، ك، خ): «وأن». (5) أي: إلى غير الكتاب والسنة.

(الكتاب/129)


إليهم، وقد أُمِروا أن يكفروا بهم (1). وما أشبه حالَ هؤلاء المتكلِّفين بقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا (2) بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 60 - 62]. فإنَّ هؤلاء إذا دُعُوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول ــ والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته ــ أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علمًا وعملًا بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية. ثم عامة هذه الشُّبهات التي يسمُّونها دلائل إنما تقلَّدوا أكثرها عن طاغوت (3) من طواغيت المشركين والصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أُمِروا أن يكفروا بهم، مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم لتشابه (4) قلوبهم (5): _________ (1) كتب فوقها في (ق): «بها». (2) من قوله: «بهم وما أشبه ... » إلى هنا سقط من (ف). (3) (ب، ق): «طواغيت». (4) المطبوعة: «في تشابه». (5) بعده في (خ): «يعني: فلاسفة الهند واليونان كأرسطو ونحوه».

(الكتاب/130)


{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (1) [البقرة: 213]. ولازم هذه المقالة: أن لا يكون الكتابُ هدىً للناس، ولا بيانًا ولا شفاءً لما في الصدور، ولا نورًا ولا مردًّا عند التنازع؛ لأنّا نعلم [ق 34] بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلِّفون أنه الحقّ الذي يجب اعتقاده= لم يدلّ عليه الكتابُ ولا السنةُ لا نصًّا ولا ظاهرًا، وإنما غاية المُتَحَذّق (2) منهم أن يستنتج هذا من قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. وبالاضطرار يعلمُ كلُّ عاقل أنَّ من دلَّ الخلقَ على أنَّ الله ليس فوق العرش، ولا فوق السموات، ونحو ذلك بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} لقد أبعد النُّجْعة، وهو إمَّا مُلْغز وإما مدلِّس، لم يخاطبهم بلسانٍ عربّي مبين. ولازم هذه المقالة: أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرًا لهم في أصل دينهم؛ لأن مرَدَّهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عَمًى _________ (1) أكملَ الآيةَ في (ف). (2) (ف، ك، خ، ط): «المتحذلق». والمتحذّق: الذي يتظاهر بالحذق ويتكلّفه.

(الكتاب/131)


وضلالًا (1)! يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسولُ يومًا من الدَّهر، ولا أحدٌ من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلَّت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، واعتقدوا (2) كذا وكذا فإنه الحق. وما خالفه ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره وانظروا فيها، فما وافقَ قياسَ عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقَّفوا فيه وانفوه (3)! ثم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بأن أمته ستفترق ثلاثًا وسبعين فرقة (4)، فقد عَلِم ما سيكون، ثم قال: «إني تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكْتم به لن تضلّوا: كتاب الله» (5). ورُوِي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية: «هو (6) من كان على مثل ما أنا _________ (1) (خ، ط): «وضلالة». (2) (ق، ف، ك، خ، ط): «أو اعتقدوا». (3) (ب، ق، ط): «أو انفوه». (4) حديث الافتراق جاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، أقواها حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 332)، وأبو داود (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجه (3991)، وابن حبان (6731)، والحاكم: (1/ 128). قال الترمذي: «حسن صحيح». وصححه ابن حبان، والحاكم على شرط مسلم، وصححه المصنف في «الفتاوى»: (3/ 345). (5) أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر الطويل. (6) الأصل: «هي»

(الكتاب/132)


عليه اليوم وأصحابي (1)» (2). فهلَّا قال: من تمسَّك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو (3) بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يُحْدِثه المتكلِّمون منكم بعد القرون الثلاثة! وإن كان نَبَغَ (4) أصلُ هذه المقالة في أواخر عصر التابعين. ثم أصل هذه المقالة ــ مقالة التعطيل للصفات ــ إنما هو مأخوذ من (5) تلامذة اليهود والمشركين، وضُلَّال الصابئين. فإنَّ أول (6) من حُفِظَ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام (7): هو الجَعْد بن درهم، وأخذها (8) عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنُسِبَت مقالته (9) الجهمية إليه. وقد قيل: إنَّ الجَعْد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان من _________ (1) (ب، ق): «عليه وأصحابي». (2) هذا اللفظ جزء من حديث الافتراق المتقدم. (3) «بالقرآن ... أو» سقط من (خ). (4) الأصل: «تَبِعَ»، : (ف): «نبع». (5) (ف، ك، خ، ط): «عن». (6) (ف، ك): «فأول». (7) بعده في (خ): «أعني: أن الله ليس على العرش حقيقة، وإنما استوى بمعنى استولى، ونحو ذلك، أول ما ظهرت هذه المقالة من الجعد ... ». (8) (ب، ق): «واخذ». (ف، ك): «فأخذها». (9) (ب، ق، ك، خ، ط): «مقالة».

(الكتاب/133)


طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن أعصم اليهودي الساحر، الذي سَحَر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ». ثم أطال الشيخ رحمه الله الكلامَ إلى أن قال: «والفتوى لا تحتمل البسطَ في هذا الباب، وإنما أُشير إشارةً إلى مبادئ الأمور، والعاقل يسير فينظر، وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة، لا يمكن أن نذكر هنا إلا قليلًا منه». إلى أن قال: «وإذا كان أصلُ هذه المقالة ــ مقالة (1) التعطيل والتأويل ــ مأخوذًا (2) عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيبُ نفسُ مؤمن، بل نفس عاقل أن يأخذ [ق 35] سبيلَ (3) هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدعَ سبيلَ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟ ! ». قال: «ثم القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصَفَ اللهُ بما وصف به نفسَه أو وصفَه به رسولُه، و (4) بما وصفه به السابقون الأولون، لا يتجاوز (5) القرآنَ والحديثَ (6). _________ (1) سقطت من (ف). (2) (ب، ق، ك): «مأخوذ». (3) سقطت من (ف). (4) (ك): «أو». (5) (ف): «لا يتجاوزون». (6) بعده في (ك) بخط دقيق وعليه علامة اللحق: «قال الإمام أحمد رضي الله عنه لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله لا يتجاوز القرآن والحديث». وهي موجودة في (خ، ط). والظاهر أن المصنف تركها اختصارًا.

(الكتاب/134)


ومذهب السلف: أنهم يصفون اللهَ بما وصف به نفسَه وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل». ثم ذكر الشيخ رحمه الله جُملًا نافعةً وأصولًا جامعةً في إثبات الصفات والردِّ على الجهمية، وذَكَر من النقول عن سلف الأمة وأئمتها في إثبات العلوّ وغيره ما يضيق هذا الموضع عن ذكره. ثم قال في آخر كلامه: «وجِماع الأمر: أن الأقسامَ الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كلُّ قسم عليه طائفة من أهل القبلة؛ قسمان يقولون (1): تُجْرَى على ظاهرها، وقسمان يقولون: هي على خلاف ظاهرها، وقسمان يسكتون. أما الأولون (2) فقسمان: أحدهما: من يُجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرَها من جنس صفات المخلوقين. فهؤلاء هم المشبِّهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليهم توجَّه الردُّ بالحق. والثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، كما يجري _________ (1) كذا في الأصول، وفي (خ، ط): «يقولان». (2) (ف): «الأولان».

(الكتاب/135)


اسم (1) العليم والقدير، والربّ والإله، والموجود والذات، ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى. فإنَّ ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدَث وإما عَرَض قائم به (2). فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب، ونحو ذلك في حق العبد: أعْراض. والوجه واليد والعين في حقّه: أجسام. فإذا كان الله موصوفًا عند عامة أهل الإثبات بأنَّ له علمًا وقدرة، وكلامًا ومشيئة، وإن لم تكن أعراضًا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله ويداه ليست أجسامًا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين (3). وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطَّابي وغيره عن السلف، وعليه يدلُّ كلامُ جمهورهم، وكلامُ الباقين لا يخالفه (4). وهو أمر واضح، فإنَّ الصفات كالذات، فكما أنَّ ذاتَ الله ثابتةٌ حقيقةً من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين (5)، [فصفاته ثابتةٌ حقيقةً من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين] (6). _________ (1) (خ، ط): «ظاهر اسم». (2) (خ): «حق المخلوق إما جوهر وإما عَرَض». (3) «جاز ... المخلوقين» سقط من (خ). (4) «وكلام ... يخالفه» سقطت من (ف). (5) (ف، ك، خ، ط): «جنس المخلوقات». (6) ما بينهما ساقط من الأصل و (ب، ق)، وهو انتقال نظر، وثابت في (ف، ك، خ، ط). وفي الأخيرتين «المخلوقات».

(الكتاب/136)


فمن قال: لا أعقل علمًا ويدًا إلا من جنس العلم واليد المعهودَين (1). قيل له: فكيف تعقل ذاتًا من غير جنس ذوات المخلوقين؟ ! ومن المعلوم أن صفات كلِّ موصوفٍ تناسب ذاتَه وتلائمُ حقيقتَه، فمن لم يفهم من صفات الربّ الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوق، فقد ضلَّ في عقله ودينه. وما أحسن ما قال بعضُهم: إذا قال لك الجهميُّ: كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا؟ وكيف يداه؟ ونحو ذلك. فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا يعلم ما هو [ق 36] إلا هو، وكُنْه الباري غير معلوم للبشر. فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم (2) للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن يُعْلَم (3) كيفية صفةٍ لموصوفٍ (4) لم تُعْلم كيفيته؟ وإنما تُعلم الذات والصفات من حيث الجملة، على الوجه الذي ينبغي لك. بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء» (5). وقد أخبر الله تعالى أنه: _________ (1) الأصل: «المعهودتين». (2) الأصل: «يستلزم». و (خ): «الصفة مسبوق بكيفية». (3) (ك): «تعلم». (4) «فكيف ... لموصوف» سقطت من (ب). و (ك): «أن تعلم». (5) أخرجه ابن جرير: (1/ 416) وغيره كما في «الدر المنثور»: (1/ 82).

(الكتاب/137)


{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «يقول الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلبِ بشر» (1). فإذا كان (2) نعيم الجنة ــ وهو خلقٌ من خلق الله ــ كذلك، فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى؟ ! وهذه الرُّوح التي في بني آدم، قد عَلِم العاقلُ اضطرابَ الناسِ فيها، وإمساك النصوص عن بيان (3) كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى؟ مع أنا نقطع أن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تُسَلُّ منه وقت النَّزْع، كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة. لا نغالي (4) في تجريدها غلوّ المتفلسفة ومن وافقهم، حيث نفوا عنها الصعود والنزول، والاتصال بالبدن والانفصال عنه، وتخبَّطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته. فعَدَم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها (5) بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص، فيكونوا قد أخطأوا في اللفظ، وأنى لهم بذلك؟ ! (6) _________ (1) أخرجه البخاري (4779)، ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) بعده في (ف): «هذا». (3) «عن بيان» في (ف): «على». (4) (خ): «لا يقال». (5) ليست في (ب، ق). (6) بعده في (ط- الفتاوى) نص في أربعة أسطر ليس في نسخ العقود ولا (خ) ولا نسخ الحموية الأخرى.

(الكتاب/138)


وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها ــ أعني (1) الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة لله تعالى قطّ، وأنَّ الله لا صفةَ له ثبوتية، بل صفاته إما سلب وإما إضافة (2) وإمَّا مركَّبة منهما. أو يثبتون بعض الصفات، وهي السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر. أو يثبتون الأحوال دون الصفات، على ما قد عُرِف من مذاهب المتكلِّمين (3)؛ فهؤلاء قسمان: قسم يتأوَّلونها ويعيّنون المراد، مثل (4) قولهم: «استوى» بمعنى «استولى»، أو بمعنى: علوّ المكانة والقدر (5)، أو بمعنى: ظهور نوره للعرش، أو بمعنى (6): انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلِّفين (7). وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها لكنَّا نعلم أنه لم يُرِد إثبات صفة خارجةٍ عما علمناه. وأما القسمان الواقفان؛ فقسم يقولون: يجوز أن يكون المراد ظاهرها _________ (1) الأصل: «عن»! (2) (ب، ق): «سلب وإضافة». (3) (خ): «من مذاهبهم». (4) (ف): «بمثل». (5) (خ): «مكانه والقدرة». (6) «علو ... بمعنى» سقطت من (ف)، وهي لحق في هامش (ك) بخط دقيق مغاير. (7) الأصل: «المتكلمين» قراءة مرجوحة.

(الكتاب/139)


اللائق بالله تعالى، ويجوز أن لا يكون المراد (1) صفةً لله تعالى، ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقوم (2) يمسكون عن هذا كلِّه، ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات. فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرجَ الرجلُ عن قسم منها. والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثانية (3)؛ كالآيات والأحاديث الدالة على أنه [ق 37] سبحانه فوق عرشه، ويُعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك دلالةً لا تَحْتمل (4) النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض. وتردُّد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. ومن اشتبه ذلك عليه أو غيره، فلْيَدْعُ بما رواه مسلم في «صحيحه» (5) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يصلي يقول: _________ (1) «ظاهرها ... المراد» سقط من (ب، ق). (2) المطبوعة: «وقسم». (3) (ب): «الثابتة». (4) (ق): «لا يشتمل النقيض ... مع اشتمال .. ». (5) رقم (770).

(الكتاب/140)


«اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطرَ السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وفي رواية لأبي (1) داود: أنه كان يكبِّر في صلاته ثم يقول ذلك. فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدْمَن النظرَ في كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين= انفتح له طريقُ الهدى. ثم إن كان قد خَبَر نهايات (2) إقدام المتفلسفة والمتكلِّمين في هذا الباب، وعَلِم (3) غالبَ ما يزعمونه برهانًا وهو شُبهة (4)، ورأى أن غالبَ ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركَّبة (5) من قياس فاسد، أو قضيَّة كُلّية لا تصحّ إلا جُزئية، أو دعوى إجماع لا حقيقة له، والتمسّك (6) في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة. ثم إن ذلك إذا رُكِّب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم (7) يعرف _________ (1) (ب): «وفيما رواه أبو .. ». (ق): «رواية أبي .. ». والرواية في «السنن» رقم (768). (2) (ف): «بنهايات». (3) بقية النسخ، خ، ط: «وعرف». (4) (ق): «شبه». (5) (ب، ق): «شبه مرة». (6) (ف، ك): «والتمثيل». (ط): «أو التمسك». (7) (خ): «غرّ من لم».

(الكتاب/141)


اصطلاحهم أوهَمَت الغِرَّ ما يوهم (1) السَّرابُ للعطشان= ازداد إيمانًا وعلمًا بما جاء به الكتاب والسنة. فإن الضدَّ يُظْهر حُسْنَه الضدُّ. وكلُّ من كان بالباطل أعلم كان للحق أشدَّ تعظيمًا وبقدره أعْرَف (2). فأما المتوسِّط من المتكلّمين فيُخاف عليه ما لا يُخاف على من لم يدخل فيه، وعلى من قد أنهاه نهايته. فإنَّ من لم يدخل فيه هو في عافية، ومن أنهاه فقد عرف الغاية، فما بقي يخاف (3) من شيء آخر. فإذا ظهر له الحقّ وهو عطشان إليه قَبِلَه. وأمّا المتوسِّط فمتوهِّم بما تلقَّاه (4) من المقالات المأخوذة، تقليدًا لمعظَّمِه وتهويلًا. وقد قال الناس: أكثر ما يفسدُ الدنيا: نصفُ متكلِّم، ونصف متفقِّه، ونصف متطبِّب، ونصف نحوي. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان. ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة (5) وغيرهم ــ في الغالب ــ في قولٍ مختلف (6)، يؤفَكُ عنه من أُفِك، يعلم الذكيُّ منهم العاقلُ أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حُجَّته ليست بيّنة، وإنما هي كما قيل فيها: _________ (1) (ف، ك، خ، ط): «يوهمه». (2) بعده في (ط ــ الفتاوى): «إذا هُدي إليه». (3) (ف، ك): «يخاف عليه». (4) (ق، ف، ك، خ): «يلقاه». و (ط): «يتلقاه». (5) (ب، ق): «المتفلسفين». (6) (ب، ق، ف): «مؤتفك».

(الكتاب/142)


حُججٌ تَهافَتُ كالزّجاج تخالها ... حقًّا وكلٌّ كاسِرٌ مكسور (1) ويعلمُ البصير العالم أنهم من وجه مستحقُّون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال: «حُكْمي في أهل الكلام أن [ق 38] يضربوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم (2) في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام». ومن وجه آخر إذا نظرتَ إليهم بعين (3) القدر ــ والحيرةُ مستوليةٌ عليهم، والشيطانُ مستحوذٌ عليهم ــ رَحِمْتَهم ورقَقْتَ لهم (4). أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاء، وأُعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا، وأعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدةً {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26]. ومن كان عالمًا (5) بهذه الأمور تبيَّن له بذلك حِذْق السلف وعلمهم _________ (1) ذكره الخطابي في «الغنية» (ص/41)، وقريب منه من أبيات لابن الرومي في «ديوانه»: (3/ 1139): لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضلّ عن الهدى وتجورُ وهنَّ كآنية الزِّجاج تصادمت ... فهوَت وكلٌّ كاسرٌ مكسور فالقاتل المقتول ثَمَّ لضعفه ... ولوَهْيه والآسرُ المأسور (2) (ف): «عليهم». وكلمة الشافعي أخرجها ابن عبد البر في «الجامع»: (2/ 941). (3) سقطت من (ب، ق). (خ): «بعين العُذْر». (4) (ف، ك، ب، ق، خ): «عليهم». و (ك): «ورفقت». (5) (خ، ط): «عليمًا».

(الكتاب/143)


وخبرتهم، حيث حذَّروا عن (1) الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم. وعَلِمَ أنّ من ابتغى الهدى من (2) غير الكتاب والسنة لم يزدد إلا بُعدًا. فنسأل الله العظيم أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين». هذا آخر «الحموية الكبرى» وهي في ستة (3) كراريس بقطع نصف البلدي، ألفها الشيخ رحمه الله قبل سنة سبعمائة، وعمره إذ ذاك دون الأربعين سنة، ثم انفتح له بعد ذلك من الردِّ على الفلاسفة والجهمية وسائر أهل الأهواء والبدع، ما لا يوصف ولا يعبَّر عنه. وجرى له من المناظرات العجيبة والمباحثات الدقيقة، في كتبه وغير كتبه، مع أقرانه وغيرهم، في سائر أنواع العلوم ما تضيق العبارة عنه. وقد ذكرنا عن ابن الزَّمْلَكاني ــ فيما تقدم ــ أنه قال: ولا يعرف أنه (4) ناظر أحدًا فانقطع معه. _________ (1) (ف): «من». (2) (خ، ط): «في». (3) «في» ليست في (ف، ك). و (ب، ق، ف): «ست». (4) سقطت من (ك).

(الكتاب/144)


[مناظرة في الحمد والشكر مع ابن المرحِّل] وقد رأيت بخطِّ بعض (1) أصحابه ما صورته: «تلخيص مبحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيميَّة رحمه الله وبين ابن المُرَحِّل (2): كان الكلام في الحَمْد والشكر، وأن الشكر يكون بالقلب (3) واللسان والجوارح (4)، والحمد لا يكون إلا باللسان. فقال ابنُ المُرحِّل: قد نقل بعض المصنِّفين ــ وسمّاه ــ: أن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد، ومذهب الخوارج: أنه يكون بالاعتقاد والقول والعمل. وبنوا على هذا أن من ترك الأعمال يكون كافرًا؛ لأن الكفر نقيض الشكر، فإذا لم يكن شاكرًا كان كافرًا. قال الشيخ تقي الدين: هذا المذهب المحكيُّ عن أهل السنة (5) خطأ، _________ (1) سقطت من (ف). (2) «المرحل» تكررت في (ك)، و «ابن» سقطت من (ف) وفي هامشها إشارة إلى التصحيح. وابن المرحِّل هو: محمد بن عمر بن مكي صدر الدين المعروف بابن الوكيل الشافعي (ت 716). قيل: كان لا يقوم بمناظرة ابن تيمية أحد سواه. انظر «أعيان العصر»: (5/ 5 - 33)، و «الدرر الكامنة»: (4/ 115 - 123). وهذا المبحث موجودٌ في «مجموع الفتاوى»: (11/ 135 - 145) وهو مأخوذ من هنا. (3) (ف): «في القلب» (4) سقطت من (ب). (5) (ف): «السنة والجماعة».

(الكتاب/145)


والنقلُ فيه (1) عن أهل السنة خطأ، فإنّ مذهب أهل السنة: أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل، قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]. وقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غَفَر الله لك (2) ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ » (3). قال ابن المُرحِّل: أنا لا أتكلَّم في الدليل، وأُسلِّم ضعف هذا القول، لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة. قال الشيخ تقي الدين: نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ، فإنَّ القول إذا ثبت ضعفه كيف يُنْسَب إلى أهل [ق 39] الحقِّ؟ ثم قد صرَّح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة: أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول (4) والعمل، وقد دلَّ على ذلك الكتابُ والسنة. قلت: وباب سجود الشكر في الفقه (5) أشهر من أن يُذْكر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سجدة (ص): «سجدها داودُ توبةً ونحن نسجدها شكرًا» (6). ثم مَن _________ (1) «فيه» ليست في (ب، ق) وفي هامش (ق): لعله «والناقل له أو». و «والنقل فيه» سقطت من (ف). (2) (ف): «أتفعل ذلك وقد غُفِر لك». (3) أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (819) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (4) ليست في (ب، ق). (5) «في الفقة» سقطت من (ب، ق). (6) أخرجه النسائي (957)، وفي «الكبرى» (1031، 11374) من حديث ابن عباس مرفوعًا، وأخرجه الشافعي في القديم كما في «معرفة السنن»: (2/ 155 - 156) وفي القديم مرسلًا وموصولًا. قال البيهقي: والمحفوظ المرسل، والموصول ليس بالقوي. وكذا قال المنذري. انظر «البدر المنير»: (4/ 250 - 251).

(الكتاب/146)


الذي قال من أئمة السنة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد؟ قال ابن المُرحِّل: هذا قد نُقل، والنقل لا يُمْنَع لكن يُسْتَشْكل، ويقال: هذا مذهبٌ مُشكل. قال الشيخ تقيُّ الدين ابن تيميَّة: النقل نوعان: أحدهما: أن يَنقل ما سَمِع أو رأى. والثاني: ما يُنقل باجتهادٍ واستنباط. وقول القائل: مذهب فلان كذا، أو مذهب أهل السنة كذا، قد يكون نسبَه إليه لاعتقاده (1) أن هذا مقتضى أصوله، وإن لم يكن فلانٌ قال ذلك. ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرًا (2). ألا ترى أن كثيرًا من (3) المصنِّفين يقول (4): مذهبُ الشافعي أو غيره كذا، ويكون منصوصه بخلافه، وعُذْرهم في ذلك: أنهم رأوا أن أصولَه تقتضي ذلك القول، فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط لا من جهة النص. وكذلك هذا لمَّا كان أهل السنة لا يُكَفِّرون بالمعاصي، والخوارج _________ (1) (ب، ق): «لاعتقاد». (2) سقطت من (ب، ق). (3) زاد في (ب): «المتعلمين». (4) (ف): «يقولون».

(الكتاب/147)


يكفِّرون بالمعاصي، ثم رأى المصنِّف أنَّ (1) الكفر ضد الشكر = اعتقدَ أنَّا إذا جعلنا الأعمال شكرًا لزم انتفاء الشكر بانتفائها، ومتى انتفى الشكر خَلَفه الكفر، ولهذا قال: إنهم بنوا على ذلك التكفير بالذنوب، فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر. قلت: كما أن كثيرًا من المتكلِّمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة. قال: وهذا خطأ؛ لأن الكفر (2) نوعان؛ أحدهما: كفر النِّعمة، والثاني: الكفر بالله. والكفرُ الذي هو ضدّ الشكر إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله، فإذا زال الشكر خَلَفه كفر النّعمة لا الكفر بالله (3). قلت: على أنه لو كان ضدّ (4) الكفر بالله، فَمَن ترك الأعمال شاكرًا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله، والكفرُ إنما يثبت إذا عُدِم الشكرُ بالكلية، كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرًا حتى يترك أصل (5) الإيمان، وهو الاعتقاد. ولا يلزم من زوال فروع (6) الحقيقة التي هي ذات شُعَب وأجزاء زوال اسمها، كالإنسان إذا قُطِعت يدُه، أو الشجرة إذا قُطِع بعض فروعها. _________ (1) ليست في (ف). (2) (ف، ك): «التكفير». (3) عبارة «فإذا زال ... الله» تكررت في (أ، ف، والمطبوعة، والفتاوى). (4) (ف، ك): «ضده». (5) باقي النسخ: «أصول». (6) سقطت من (ب، ق).

(الكتاب/148)


قال الصَّدْر ابن المُرحِّل: فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق «كافر النعمة»، كما خالفوا الخوارج في جعله كافرًا بالله (1). قال الشيخ تقي الدين: أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا، فعمَّن تنقل من أصحابي هذا (2)؟ بل يجوز عندهم أن يسمَّى الفاسق «كافر النعمة» حيث أطلقته الشريعة (3). قال ابن المُرحِّل: أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا [ق 40] لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا. قال الشيخ تقي الدين: ولا أصحابك خالفوه، فإن أصحابك قد تأوَّلوا أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي أُطْلق فيها الكفر على بعض الفسوق، مثل ترك الصلاة، وقتال المسلمين، على أن المراد به كفر النعمة؛ فعُلِم (4) أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة، فعُلِم أنهم موافقو (5) الحسن لا مخالفوه. ثم عاد ابن المُرحِّل فقال: أنا أنقل هذا عن المصنف، والنقلُ ما يُمْنع لكن يُسْتَشكل. _________ (1) سقط من (ب، ق). (2) ليست في (ب). (3) (ق): «الشرع». (4) سقطت من (ب، ق). (5) (ف): «موافقون».

(الكتاب/149)


قال الشيخ تقي الدين: إذا دار الأمر بين أن يُنْسَب إلى أهل السنة مذهب باطل، أو يُنْسَب الناقلُ عنهم إلى تصرّفه في (1) النقل، كان نسبة الناقل إلى التصرُّف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة الحق، مع أنهم قد صرَّحوا في غير موضع أن الشكر يكون بالقول والعمل والاعتقاد، وهذا أظهر من أن يُنْقَل عن واحدٍ بعينه. ثم إنَّا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق إخراج الأعمال أن تكون شكرًا لله، بل قد نصَّ الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال. وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل. وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يُتكلَّم فيها على لفظ (الحمد والشكر) مثل (2) كتب التفسير واللغة وشروح الحديث، يعرفه آحاد الناس، والكتاب والسنة قد دلَّا على ذلك. فخرج ابن المُرحِّل إلى شيء غير هذا فقال: الحَسَن (3) يسمِّي الفاسق منافقًا، وأصحابك لا يسمونه منافقًا. قال الشيخ تقيُّ الدين له: بل يسمّونه منافقًا النفاق الأصغر لا النفاق الأكبر، والنفاقُ يطلق على النفاق الأكبر الذي هو إضمار (4) الكفر، وعلى النفاق الأصغر الذي هو اختلاف السرِّ والعلانية في الواجبات. _________ (1) (ب، ق): «إلى». (2) سقطت من (ب، ق). (3) (ف، ك) زيادة: «البصري». (4) الأصل: «إصرار».

(الكتاب/150)


قال له ابن المُرحِّل: ومن أين قلت: إن الاسم يُطلق على هذا وعلى هذا؟ قال الشيخ تقي الدين: هذا (1) مشهور عند العلماء، وبذلك فسَّروا قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - : «آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كَذَب، وإذا وَعَد (2) أخْلَف، وإذا ائتُمِنَ خان» (3). وقد ذكر ذلك الترمذيُّ وغيره، وحكوه عن العلماء (4). وقال غير واحد من السلف: كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك. وإذا كان النفاقُ جنسًا تحته نوعان، فالفاسق داخلٌ في أحد نوعيه. قال ابن المُرحِّل: كيف تجعل النفاق اسم جنس، وقد جَعَلْته (5) لفظًا مشتركًا؟ وإذا كان اسم جنس كان (6) متواطئًا، والأسماء المتواطئة غير المشتركة، فكيف تجعله مشتركًا (7) متواطئًا؟ قال الشيخ تقي الدين: أنا لم أذكر أنه مشترك، وإنما قلت: يُطلق على هذا _________ (1) من قوله: «له: بل يسمونه ... » إلى هنا ساقط من (ق). (2) (ب): «أوعد». (3) أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) قال الترمذي في «الجامع» عقب حديث (2632): «وإنما معنى هذا عند أهل العلم: نفاق العمل، وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . هكذا روي عن الحسن البصري شيء من هذا أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق التكذيب» اهـ. (5) الأصل «جعله». (6) «إذا كان اسم جنس كان» سقط من (ف). (7) «وإذا كان ... مشتركًا» سقط من (ب، ق).

(الكتاب/151)


وعلى هذا، والإطلاق أعمّ. ثم لو قلتُ: إنه مشترك لكان الكلام صحيحًا، فإن اللفظ الواحد قد يُطلق على شيئين (1) بطريق التواطؤ، وبطريق الاشتراك، فأطلقتُ لفظ النفاق على إبطان الكفر وإبطان المعصية، تارةً بطريق الاشتراك، وتارةً بطريق التواطؤ. كما أنَّ لفظ «الوجود» يطلق على الواجب والممكن، عند قوم باعتبار الاشتراك، وعند قومٍ باعتبار التواطؤ؛ ولهذا سمّي مشكّكًا. قال ابن المُرحِّل: كيف يكون هذا؟ وأخذَ في كلامٍ (2) لا يَحْسُن ذِكْره! قال (3) الشيخ تقي الدين: المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر. وذلك أن الماهيَّتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يُطلق على كلٍّ منهما، فقد يطلق عليهما باعتبار (4) ما به تمتاز كلُّ ماهيَّة عن الأخرى، فيكون مشتركًا الاشتراك اللفظي. وقد يكون مطلقًا باعتبار القَدْر المشترك بين الماهيَّتين، فيكون لفظًا متواطئًا. قلت: ثم إنه في اللغة يكون موضوعًا للقدر المشترك، ثم يغلب عُرْف الاستعمال على استعماله في هذا تارةً وفي هذا تارة. فيبقى دالًّا بِعُرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز. وقد تكون قرينة مثل لام التعريف أو الإضافة تكون هي الدالَّة على ما به الامتياز. _________ (1) (ب، ق): «مشترك». (2) (ق، ف): «بكلام». (3) (ك): «قال له». (4) سقطت من (ف).

(الكتاب/152)


مثال ذلك: اسم الجنس إذا غلب في العُرْف على بعض أنواعه، كلفظ «الدابة» إذا غلب على الفَرَس، قد نُطلقه على الفَرَس باعتبار القَدْر المشترك بينها (1) وبين سائر الدواب، فيكون متواطئًا. وقد نُطلقه (2) باعتبار خصوصية الفَرَس، فيكون مشتركًا بين خصوص الفَرَس وعموم سائر الدواب، ويصير استعماله في الفَرَس تارةً بطريق التواطؤ (3)، وتارة بطريق الاشتراك. وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار عَلَمًا بالغَلَبة، مثل ابن عُمر (4) والنجم، فقد نُطلقه عليه باعتبار القَدْر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمر، فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ، وقد نطلقه (5) باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم، ومن بني عمر، فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي، وبين المعنى النوعي. وهكذا كلّ اسمٍ عامّ غلب على بعض أفراده، يصحّ استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام فيكون بطريق التواطؤ، وبالوضع (6) الثاني فيصير بطريق الاشتراك. ولفظ «النفاق» من هذا الباب؛ فإنه في الشرع: إظهار الدين وإبطان _________ (1) (ف): «بينهما». (2) (ب، ق): «يطلقه». وكذا ما يأتي بعد خمسة أسطر. (3) «تارة بطريق التواطؤ» في (ب، ق، ف) بعد «الاشتراك». (4) (ك) في جميع المواضع: «عمرو». (5) (ف، ك) زيادة: «عليه». (6) (ف، ك): «بالوضع».

(الكتاب/153)


خلافه. وهذا المعنى الشرعيّ أخصّ من مسمّى النفاق في اللغة، فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين. ثم إبطان (1) ما يخالف الدين، إما أن يكون كفرًا أو فسقًا، فإذا (2) أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب، فهذا هو النفاق الأكبر الذي أُوعِدَ صاحبه بأنه في الدَّرْك الأسفل من النار. وإن أظهر أنه صادق أو موف أو أمين، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك، فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقًا. فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ. وعلى هذا؛ فالنفاق اسم جنس تحته نوعان. ثمّ إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين، مثل قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. والمنافق هنا (3): الكافر. وقد يراد به [ق 42] النفاق في فروعه، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «آية المنافق ثلاث» (4)، وقوله: «أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا» (5). وقول ابن عمر فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث (6)، ثم يخرج فيقول بخلافه: «كنّا نعدّ هذا _________ (1) (ف): «إبطال». (2) (ب، ق): «فإن». (3) (ب، ق): «هو». (4) تقدم تخريجه. (5) أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (6) ليست في (ب، ق).

(الكتاب/154)


على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نفاقًا» (1). فإذا أردتَ به أحدَ النوعين، فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظيّة، مثل لام العهد والإضافة، فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئًا، كما إذا قال الرجل: جاء القاضي، وعنَى به: قاضي بلده، لكون اللام للعهد، كما قال سبحانه: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أن اللام هي أوجبت قَصْر الرسول على موسى، لا نفس لفظ «رسول». وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه فيصير مشتركًا بين اللفظ العام والمعنى الخاص، فكذلك قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر، إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد، والمنافق المعهود هو الكافر، أو تكون (2) لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر. وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ثلاثٌ من كنَّ فيه كان منافقًا ... » يعني به (3) منافقًا بالمعنى العام، وهو إظهاره من الدين خلاف ما يُبْطن. فإطلاق لفظ «النفاق» على الكافر وعلى الفاسق، إن أَطلَقْتَه باعتبار المعنى العام كان متواطئًا، وإن أَطْلَقْتَه على الكافر باعتبار (4) ما يمتاز به عن الفاسق كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك. وكذلك يجوز أن _________ (1) أخرجه البخاري (7178). (2) (ب، ق): «ويكون». (3) «يعني به» ليست في (ب). (4) «المعنى ... باعتبار» سقطت من (ف، ك)، و «باعتبار» ليست في (ب، ق) ومكانها في (ق): «بما».

(الكتاب/155)


يُراد به الكافر خاصة، ويكون متواطئًا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ «منافق» بل لام التعريف. وهذا البحث (1) الشريف جار في كلّ لفظ عام اسْتُعْمل في بعض أنواعه؛ إما لغلبة الاستعمال، أو لدلالة لفظية خصَّته بذلك النوع، مثل تعريف الإضافة، أو تعريف اللام؛ فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال: إن اللفظ مشترك (2)، وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيًا على مواطأته. فلهذا صحّ أن يقال: النفاق (3) اسم جنس تحته نوعان، لكون اللفظ في الأصل عامًّا متواطئًا. وصحَّ أن يقال: هو مشترك بين النفاق (4) في أصل الدين، وبين مطلق النفاق في الدين، لكونه في عُرْف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر. _________ (1) (ف): «اللفظ». (2) مكانها في الأصل علامة لحق، لكن لم يظهر على هامش النسخة. (3) (ف): «إن النفاق». (4) «بين النفاق» سقطت من (ب، ق).

(الكتاب/156)


بحثٌ ثانٍ جرى (1) أَنَّ الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص؛ فالحمد أعمّ من جهة أسبابه التي يقع عليها، فإنه يكون على جميع الصفات، والشكر لا يكون إلا على الإحسان. والشكر أعمُّ من جهة ما به يقع، فإنه يكون بالاعتقاد والقول والفعل، والحمد يكون بالفعل (2) أو بالقول أو بالاعتقاد (3). أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجَّى الحنبلي (4): أن هذا الفرق إنما هو من جهة مُتعلَّق الحمد والشكر؛ لأنَّ كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته، فلا يكون فرقًا في الحقيقة، والحدود إنما يتعرَّض فيها لصفات الذات، لا لما خرج عنها. فقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيميَّة: المعاني على قسمين: مفردة ومضافة [ق 43] فالمعاني المفردة حدودها _________ (1) في نسخة (ب) في هذا الموضع ما نصه: «وذكر الشيخ شمس الدين بن عبد الهادي رحمة الله عليه مؤلف هذه الترجمة بحوثًا أخر تركتها اختصارًا» اهـ. ونهاية الاختصار في ص 173. وهذا البحث في «مجموع الفتاوى»: (11/ 146 - 155) وهو مأخوذ من هنا. (2) الأصل، (ف): «بالقول» سبق قلم. (3) «والقول ... بالاعتقاد» سقط من (ق). (4) هو: المنجَّى بن عثمان بن أسعد بن المنجَّى أبو البركات الدمشقي الحنبلي، عالم، مشارك في عدة فنون، وأحد شيوخ ابن تيمية، انتهت إليه رئاسة المذهب بالشام، (ت 695). «ذيل طبقات الحنابلة». (4/ 271 - 274)، و «المقصود الأرشد»: (3/ 41 - 42).

(الكتاب/157)


لا تؤخذ (1) عنها متعلَّقاتها (2)، وأما المعاني الإضافية فلا بد أن يوجد في حدودها تلك الإضافات، فإنها داخلة في حقيقتها ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلَّقات، فتكون المتعلَّقات (3) جزءًا من حقيقتها فيتعيَّن (4) ذكرها في الحدود. والحمد والشكر معنيان متعلَّقان (5) بالمحمود عليه والمشكور عليه (6) فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلّقهما، فيكون متعلقهما داخلًا في حقيقتهما. فاعترض الصدر ابن المُرحِّل (7) بأنه ليس للمتعلِّق من المتعلَّق صفة ثبوتية، فلا يكون للحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية، فإن التعلُّقَ (8) صفة نسبية (9)، والنِّسَب أمورٌ عدمية، وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة؛ لأن العدم لا يكون جزءًا من الوجود. _________ (1) (ف، ك) في هذا الموضع: «توجد»، وفي الموضع الثاني (ف، ق): «توجد»، (ك): «يوجد». (2) (ف، ك): «فيها بتعلقاتها». (3) (ف): «التعليقات ... للتعلقات». (4) (ق): «فتعين». (5) «متعلقان» ليست في (ف)، و (ق، ك): «معينان متعلقان» ووضع في (ك) خطًّا على «معينان» ثم كتب في الهامش: لعله متعلقان .. (6) (ق): «والشكر ... »، و «عليه» ليست في (ف). (7) تقدم التعريف به (ص 145). (8) (ف، ك): «المتعلق». (9) (ف): «تشبيه».

(الكتاب/158)


فقال الشيخ تقي الدين: قولك: «ليس للمتعلِّق من المتعلَّق صفة ثبوتية»، ليس على العموم، بل قد يكون للمتعلِّق من المتعلَّق صفة ثبوتية (1)، [وقد لا يكون، وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين: ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية] (2). ثم الصفات المتعلِّقة نوعان: أحدهما: إضافة محضة، مثل الأبوَّة والبنوَّة والفوقية والتحتية، ونحوها. فهذه الصفة التي (3) يقال فيها: هي مجرّد نسبة وإضافة، والنِّسَب أمور عدمية. والثاني: صفة ثبوتية مضافة إلى غيرها كالحبّ والبغض، والإرادة والكراهة، والقدرة، وغير ذلك من الصفات، فإن الحبّ صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب. فالحب معروض للإضافة، بمعنى أن الإضافة صفة عرضَتْ له، لا أنَّ (4) نفس الحبّ هو الإضافة. ففرقٌ بين ما (5) هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة، فالإضافة يقال فيها: إنها عَدَمية، وأما (6) الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية كالحب (7). _________ (1) «ليس على ... ثبوتية» سقط من (ف). (2) مابين المعكوفين سقط من الأصل، وهو انتقال نظر. (3) (ف، ك): «هي التي». (4) (ق): «لأن». (5) (ف، ك): «بينهما» وفي هامش (ك): لعله «بينهما» في الموضعين. (6) (ط): «قال: وأما». (7) «كالحب» ساقطة من (ق). وفي (ك) تكررت عبارة: «وأما الصفة ... كالحب».

(الكتاب/159)


قال ابن المُرحِّل: الحبُّ أمر عَدَميّ؛ لأن الحبّ نسبة، والنِّسَب (1) عدميّة. قال الشيخ تقيّ الدين: كون الحب والبغض والإرادة والكراهة أمرًا عدميًّا باطلٌ بالضرورة، وهو خلاف إجماع العقلاء. ثمّ هو مذهبُ بعض المعتزلة في إرادة الله؛ فإنه (2) زعم أنها صفة سلبية، بمعنى أنه غير مغلوب ولا مُسْتَكره، وأطبق الناسُ على بطلان هذا القول. وأما إرادة المخلوق وحبّه وبُغْضه فلم نعلم أحدًا من العقلاء قال: إنه أمرٌ (3) عدميّ. فأصرَّ ابنُ المُرحِّل على أن الحبّ الذي هو ميل القلب إلى المحبوب أمر عدمي، وقال: المحبة أمر وجودي. قال الشيخ تقي الدين: المحبّة هي الحبّ، فإنه يقال: أحبّه وحبّه حبًّا ومحبّةً، ولا فرق، وكلاهما مصدر. قال ابن المُرحِّل: وأنا أقول: إنهما إذا كانا مصدَرَين فهما أمرٌ عَدَميّ. قال له الشيخ تقي الدين: الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتمّ، وكون الحبّ والبغض أمرًا وجوديًّا معلومٌ بالاضطرار، فإنّ كلَّ أحدٍ يعلم أن الحيَّ إن (4) كان خاليًا عن الحبّ كان هذا الخُلوّ (5) صفةً _________ (1) الأصل: «والنسبة». (2) تكررت في الأصل. (3) ليست في (ف، ك). (4) (ف): «إذا». (5) (ف، ك): «الخلق».

(الكتاب/160)


عدمية، فإذا صار محبًّا فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية (1) زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحبّ، وهو (2) يحس ذلك من نفسه [ق 44]، يجده كما يجد شهوته ونُفْرته، ورضاه وغضبه، ولذَّته وألَمَه. ودليل ذلك: أنك تقول: أحبَّ يُحب محبَّة، ونقيض «أحبّ»: لم يحب، و «لم يحب» صفة عدمية، ونقيض العدم الإثبات. قال ابن المُرحِّل: هذا ينتقض بقولهم: امتنع يمتنع، فإنّ نقيض الامتناع: لا امتناع، [والامتناع] (3) صفة عدمية. قال الشيخ تقي الدين: الامتناع أمرٌ اعتباري عقلي، فإنّ الممتنع ليس (4) له وجود خارجي حتى تقوم به صفة، وإنما هو معلوم بالعقل باعتبار (5) كونه معلومًا له ثبوتٌ علمي. وسَلْب هذا الثبوت العلمي: عدم هذا الثبوت، فلم يَنْقُضْ هذا قولَنا: نقيض العدم ثبوت. وأما الحبّ فإنه صفة قائمة بالمحبّ، فإنك تشير إلى عينٍ خارجةٍ وتقول: هذا الحيّ صار محبًّا بعد أن لم يكن محبًّا، فتخْبِر عن الوجود الخارجي بصفةٍ (6)، فإذا كان نقيضها عدمًا خارجيًّا، كانت وجودًا (7) خارجيًّا. _________ (1) ليست في (ق). (2) (ف، ك): «ومن». (3) سقطت من الأصل. (4) سقطت من (ق). (5) (ف، ك): «وباعتبار». (6) ليست في (ك). (7) (ف): «وجوديًّا».

(الكتاب/161)


وفي الجملة فكون الحبّ والبغض صفةً ثبوتيةً وجودية معلوم بالضرورة، فلا يُقبل فيه نزاع ولا يُناظَر صاحبه إلا مناظرة السّوفسطائية. قلت: وإذا كان الحبُّ والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير صفاتٍ وجودية، وظهر الفرقُ بين الصفات التي هي إضافة ونسبة، وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة، فالحمد والشكر من القسم الثاني. فإن الحمد أمر وجوديّ متعلِّق بالمحمود عليه، وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه، فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير، وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما. فإذا كان متعلَّق أحدهما أكبر (1) من متعلَّق الآخر، وذلك التعلق إنما هو (2) عارض لصفة ثبوتية لهما = وجبَ ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكر حقيقتهما. والدليل على هذا: أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر، فعُلِم أن تصوّر متعلَّق الشكر داخل في تصوّر الشكر. قلت: ولو قيل: إنه ليس هذا إلا أمرًا عدميًّا فالحقيقة إن كانت مركَّبة من وجودٍ وعدم، وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة، كما أنَّ من عرَّف الأبَ من حيث هو أب، فإنّ تصوّره موقوف على تصوّر الأبوَّة التي هي نسبة وإضافة، وإن كان الأبُ أمرًا وجوديًّا. فالحمد والشكر متعلِّقان بالمحمود عليه والمشكور عليه، وإن لم يكن _________ (1) (ق): «أكثر». (2) سقطت من (ف، ك).

(الكتاب/162)


هذا التعلُّق عارضًا (1) لصفة ثبوتية، فلا يُفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا التعلّق، كما لا يُفهَم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوَّة، الذي هو التعلق. وكذلك الحمد والشكر أمران متعلّقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. وهذا التعلُّق جزء من هذا المسمى، بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد، ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر. فإذا كان فهمهما موقوفًا على فهم متعلَّقهما، فوقوفه على فهم التعلّق أولى، فإن التعلّق فرع على المتعلّق وتبع (2) له، فإذا توقَّف فهمهما على فهم المتعلّق الذي هو أبعد عنهما من التعلق، فتوقّفه على فهم المتعّلق (3) أولى، وإن كان المتعلّق أمرًا عدميًّا، والله سبحانه أعلم. [ق 45] مبحث ثالث ادّعى مُدّعٍ أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] عامٌّ (4) في كلِّ ما يسمّى بيعًا. قال له الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة: قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} قد أُتْبع بقوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} وعامة أنواع الربا يسمى بيعًا، والربا إنْ كان اسمًا مجملًا فهو مجهول، واستثناء المجهول من المعلوم يوجب جهالة _________ (1) (ف، ك): «المتعلق» وكذا مابعدها، و (ك): «عارض». (2) الأصل: «ومنع»! (3) (ف، ك): «التعلق» وكذا ما بعدها. (4) «عام» ليست في (ب، ق).

(الكتاب/163)


المستثنى (1)، فيبقى المراد إحلال (2) البيع الذي ليس بربًا. فما لم يثبت أن الفرد المعيّن ليس بربًا لم يصحّ إدخاله في البيع الحلال، وهذا يمنع دعوى العموم. وإن كان الربا اسمًا عامًّا فهو مستثنًى من البيع أيضًا، فيبقى البيع لفظًا مخصوصًا، فلا يصح ادعاء العموم على الإطلاق فيه (3). قال ابن المُرحِّل: هذا من باب التخصيص، وهنا عمومان تعارضا، وليس من باب (4) الاستثناء، فإنّ صِيَغ الاستثناء معلومة، وإذا كان هذا تخصيصًا لم يُمنع ادعاء العموم فيه. قال الشيخ تقي الدين: هذا كلام متصل بعضه ببعض، وهو من باب التخصيص المتصل، وتسميه الفقهاء: استثناء، كقوله: له هذه الدار ولي منها هذا البيت، فإن هذا بمنزلة (5): إلا هذا البيت، وكذلك لو قال: أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانًا، وهو منهم، كان بمنزلة قوله: إلا فلانًا، وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله: أحلَّ (6) الله البيع إلا ما كان منه ربًا. فمن ادعى بعد هذا أنه عامّ في كلّ ما يسمى بيعًا فهو مخطئ. قال ابن المُرحِّل: أنا أسلِّم أنه إنما هو عامّ في كل بيع لا يسمى ربًا. _________ (1) (ق، ف، ك): «المستبقى». (2) (ق): «حلال». (3) ليست في (ك) (4) «التخصيص ... من باب» سقط من (ف). (5) (ق، ف، ك) زيادة: «قوله». (6) (ف، ك): «وأحل».

(الكتاب/164)


قال له الشيخ تقي الدين: وهذا كان المقصود، لكن (1) بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق، فإن دعوى العموم على الإطلاق تنافي (2) دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض، وهذا كلام بيِّن. وادعى مدّع أن فيه قولين، أحدهما: أنه عام مخصوص، والثاني: أنه عموم مراد. فقال الشيخ تقي الدين: فإنَّ دعوى أنه عموم مراد، باطل قطعًا، فإنّا نعلم أن كثيرًا من أفراد البيع حرام. فاعترض ابنُ المُرحِّل بأن تلك الأفراد حُرِّمت بعد ما أُحِلّت، فيكون نسخًا. قال الشيخ تقي الدين: فيلزم من هذا أن لا نحرم شيئًا من البيوع بخبر واحد ولا بقياس، فإنّ نسخ القرآن لا يجوز بذلك، وإنما يجوز تخصيصه به، وقد اتفق العلماء (3) على التحريم بهذه الطريقة. قال ابن المُرحِّل: رجعتُ عن هذا السؤال، لكن أقول: هو عموم مراد في كلِّ ما يسمى بيعًا في الشرع، فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي. قال الشيخ تقي الدين: «البيع» ليس من الأسماء المنقولة، فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي، لكنَّ الشارع اشترط لِحِلّه وصحته _________ (1) (ف، ك): «ولكن». (2) (ق، ف، ك): «ينافي». (3) (ك): «الفقهاء».

(الكتاب/165)


شروطًا، كما قد كان أهلُ الجاهلية لهم شروط (1) أيضًا بحسب اصطلاحهم، وهكذا سائر أسماء العقود، مثل الإجارة والرهن والهبة والقرض والنكاح، إذا أريد به العقد وغير ذلك هي باقية على مسمّياتها، والنقل إنما يُحْتاجُ إليه إذا أحدث الشارعُ معاني لم تكن العربُ [ق 46] تعرفها مثل الصلاة والزكاة والتيمم، فحينئذٍ يحتاج إلى النقل، ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة. قال ابن المُرحِّل: أصحابي قد قالوا: إنها منقولة. قال الشيخ تقي الدين: لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير: أحلّ الله البيع الصحيح الشرعي، أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال. وهذا مع أنه تكرر (2) فإنه يمنع الاستدلال بالآية، فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي، ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية. قال ابن المُرحِّل: متى ثبت أنَّ هذا الفرد يسمى بيعًا في اللغة قلتُ: هو بيع في الشرع؛ لأن الأصل عدم النقل، وإذا كان بيعًا في الشرع دخل في الآية. قال الشيخ تقي الدين: هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول، أما إذا ثبت (3) أنه منقول، لم يصحّ إدخال فردٍ فيه حتى يثبت أن الاسم (4) المنقول _________ (1) (ك): «شروطًا». (2) (ق، ف، ك): «تكرير». (3) (ق): «ثبتت». (4) «منقول ... أن الاسم» سقط من (ق).

(الكتاب/166)


واقع عليه، وإلا فيلزم من هذا أن كلَّ ما سمي في اللغة صلاة وزكاة وتيممًا وصومًا وبيعًا وإجارةً ورهنًا أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار، وعلى هذا التقدير فلا يبقى فرقٌ بين الأسماء المنقولة وغيرها، وإنما يقال: الأصل عدم النقل إذا لم يثبت، بل متى ثبت النقل فالأصل (1) عدمُ دخول هذا الفرد في (2) الاسم المنقول حتى يثبت (3) أنه داخل فيه بعد النقل. قلت: أصل (4) هذه الأبحاث الثلاثة، وكل ما فيها (قلت) فإنه من كلام الشيخ تقي الدين قرَّره بعد المناظرة (5). _________ (1) الأصل: «والأصل». (2) (ف، ك): «في هذا». (3) الأصل: «ثبت». (4) (ق): «فليتأمل»، (ف، ك): «فلتُتامل»، والمثبت من الأصل. (5) هنا نهاية الاختصار في نسخة (ب) وبدايته ص 162.

(الكتاب/167)


[عودة إلى ترجمة شيخ الإسلام] وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي (1) ــ في أثناء كلامه في ترجمة الشيخ رحمه الله ــ: وله باعٌ طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، وقلَّ أن يتكلَّم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب (2) الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنَّف فيها واحتجَّ لها بالكتاب والسنة. ولما كان مُعتقلًا بالإسكندرية التمسَ منه صاحب سَبْتة أن يجيز له مرويَّاته، وينصّ (3) على أسماء جملة منها، فكتب في عشر ورقات جملةً من ذلك بأسانيدها من حفظه، بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر مُحَدِّث (4). وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معيَّن، بل بما قام الدليلُ عليه عنده. ولقد نَصَر السُّنةَ المَحْضة، والطريقةَ السلفية، واحتجَّ لها ببراهين ومقدّمات وأمور لم يُسْبَق إليها. وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجَسَر (5) هو عليها، حتى قام عليه خلقٌ من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيدَ عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه (6)، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحقَّ المرَّ _________ (1) في «الدرة اليتيمية»: (ص 40 ـ تكملة الجامع). (2) «الصحابة ... مذاهب» سقط من (ف). (3) (ق، ف): «وبيض». (4) (ق، ف، وجزء الذهبي) زيادة: «يكون». (5) في الأصل «وحسر» والحاء عليها علامة الإهمال تحتها حاء صغيرة. (6) (ب، ق): «وكاتبوه».

(الكتاب/168)


الذي أدَّاه إليه اجتهادُه، وحِدَّة ذهنه، وسَعَة دائرته في السنن والأقوال. مع ما اشتهر عنه (1) من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله العظيم (2)، والتعظيم لحرمات الله. فجرى بينه وبينهم [ق 47] حَمَلات حربية، ووقائع شامية ومصرية، وكم من نوبةٍ قد رموه بها (3) عن قوسٍ واحدة، فينجِّيه الله! فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، قويُّ التوكُّل، ثابت الجأش، له أورادٌ وأذكار يُدْمِنها بكيفيَّةٍ (4) وجمعيّة. وله من الطرف الآخر محبُّون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء. وسائر العامةِ تحبُّه؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه. وأما شجاعته؛ فبها تُضرب الأمثال، وببعضها يتشبَّه (5) أكابر الأبطال. فلقد أقامه الله في نوبة (6) غازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع _________ (1) (ب، ق، ف): «ومنه». (2) ليست في (ف، ك، وجزء الذهبي). (3) من الأصل. (4) الأصل: «بكفية»! (5) بقية النسخ: «تتشبّه». (6) (ف): «ولقد أقامه الله نوبة».

(الكتاب/169)


وخرج، واجتمع بالملك (1) مرتين، وبخطلوشاه (2) وببولاي (3). وكان قَبْجَق (4) يتعجَّب من إقدامه وجرأته على المغول. وله حِدّة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنَّه ليثٌ حَرِب (5). وهو أكبر من أن ينبِّه مثلي على نعوته، فلو حُلِّفْتُ بين الرُّكن والمقام لحَلَفتُ أنِّي ما رأيت بعيني مثله، ولا والله رأى (6) هو مثل نفسه في العلم! قلت: ما فعله الشيخ رحمه الله في نوبة غازان من جميع أنواع الجهاد، وسائر أنواع الخير؛ من إنفاق الأموال، وإطعام الطعام، ودفن الموتى، وغير _________ (1) هو ملك التتار غازان ــ والعامة تقول: قازان ــ محمود بن أرغون، سار سيرة جده الأعلى جنكيزخان، وهو صاحب الحملات المتكررة على بلاد المسلمين، آخرها معركة شقحب التي مُني فيها بالهزيمة، وتوفي على إثرها سنة (703). انظر «أعيان العصر»: (4/ 5 - 18)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 212 - 214). (2) خطلوشاه ــ ويقال: قطلوشاه بالقاف ــ من كبار أمراء التتار، وهو مقدّمهم في وقعة شقحب المشهورة سنة (702) التي شارك فيها ابن تيمية، وهُزم فيها التتر هزيمة نكراء. قتل سنة (707). انظر «أعيان العصر»: (2/ 321 - 322)، و «الدرر الكامنة»: (2/ 85). (3) بولاي: أحد مقدمي التتار الذين حضروا مع غازان لغزو الشام. قال الصفدي: اسمه الصحيح «مولاي» وإنما الناس يُحرّفونه تهكّمًا به وبأمثاله. انظر «أعيان العصر»: (2/ 70 - 71). (4) قبجق المنصوري، أصله من المغل، وتذبذب أمره في الالتحاق بالمغول أو بالمسلمين، إلى أن استقر أمره على قتال المغول فأبلى حسنًا، وكان شجاعًا مقدامًا ت (710). انظر «أعيان العصر»: (4/ 61 - 72)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 241 - 243). (5) قيدها في الأصل: «ليثُ حرب»، وفي (ف): «حُرِب». (6) (ف، وجزء الذهبي) والمطبوعة: «ما رأى». وبهذه الفقرة ينتهي كلام الذهبي.

(الكتاب/170)


ذلك، معروف مشهور. ثم بعد ذلك بعام سنة سبعمائة، لما قدم التتار إلى أطراف البلاد، وبقي الخلق في شدَّة عظيمة، وغَلَب على ظنّهم أن عسكر مصر قد ارتحلوا (1) عن الشام = ركب الشيخ، وسار (2) على البريد إلى الجيش المصري في سبعة أيام، ودخل القاهرة في اليوم الثامن، يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى، وأطْلابُ المصريين داخلة، وقد دخل السلطان الملك الناصر. فاجتمع بأركان الدولة، واسْتَصْرخ بهم، وحضَّهم على الجهاد، وتلا عليهم الآيات والأحاديث، وأخبرهم بما أعدَّ الله للمجاهدين من الثواب، فاستفاقوا وقويت هممهم، وأبدَوا له العذر في رجوعهم مما قاسوا من المطر والبرد بيد عرش (3) ونودي بالغزاة، وقَوي العزمُ، وعظَّموه وأكرموه، وتردد الأعيان إلى زيارته. واجتمع به في هذه السنة الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد وسمع كلامه، وذُكِر أنهم سألوه عنه (4) بعد انقضاء المجلس فقال: هو رجل حُفَظَة (5). _________ (1) كذا في الأصل، وفي (ب، ق، ف، ك): «تخلوا». (2) الأصل و (ب، ق): «وساق». (3) (ب): «مد غرش»، (ف): «نيد عرس» ومهملة النقط في (ك)، و (ح): «يثد عرس». و (ط): «منذ عشرين»! والذي في المصادر «بَدْعَرش». انظر «ذيل مرآة الزمان»: (1/ 457) و «تاريخ الإسلام»: (52/ 100)، و «أعيان العصر»: (1/ 472)، غيرها. ويفهم من المصادر أنها قرية بقرب قاقون، إحدى محافظات طولكرم في فلسطين. انظر على الشبكة: www.palestineremembered.com (4) ليست في (ك). (5) يعني: كثير المحفوظ. وفي مصادر أخرى أنه قال لما اجتمع به: «رأيت رجلًا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد». «الجامع»: (ص 320، 335، 514).

(الكتاب/171)


قيل له: فهلَّا تكلَّمتَ معه؟ فقال: هذا رجل يحبُّ الكلام، وأنا أحبّ السكوت. ولقد أخبرني الذهبيّ عن الشيخ رحمه الله أنه أخبره أنّ ابنَ دقيق العيد قال له بعد سماع كلامه: ما كنت أظنُّ أن الله بقي (1) يخلق مثلك (2)! وفي اليوم السابع والعشرين من شهر جمادى المذكور، وصل (3) الشيخ إلى دمشق على (4) البريد. _________ (1) ليست في (ف). (2) والمعنى: ما كنت أظن أن سيأتي مثلك في العلم والحفظ، وهي نحو كلمة المزي وغيره: إنه لم ير مثله من نحو خمسمائة سنة. وهذه الكلمة جاءت في عدة مصادر بمثل سياق المؤلف، وأقربها إلى المعنى الذي ذكرته لفظ ابن كثير: «ما أظن بقي يُخلَق مثلك». انظر «الجامع»: (ص 417، 470، 484، 603، 671، 722). وإن كان الأولى ترك هذا اللفظ لما يوهم ظاهره. انظر «معجم المناهي اللفظية» (ص 488 ــ 489). (3) (ك): «وفي يوم ... »، و (ب): « ... والعشرين وصل». (4) (ف، ك): «على باب».

(الكتاب/172)


 [كتاب الشيخ في حادثة غزو التتار لبلاد الشام]

وكتب في هذه الحادثة كتابًا (1) وصورته (2): إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين. سلامٌ (3) عليكم ورحمة الله [ق 48] وبركاته، فإنَّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أَهْل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على صفوته من خلقه (4)، وخِيرته من بَرِيَّته محمد عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه (5) وسلم تسليمًا. أما بعد، فقد صدق الله وعدَه، ونصر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزم الأحزابَ وحدَه، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] والله تعالى يحقِّق لنا تمامَ الكلام (6) بقوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي _________ (1) من هنا إلى ص 233 مختصر في (ب) وقال ناسخها: «وذكر الشيخ شمس الدين رحمه الله مؤلف هذه الترجمة الكتاب بطوله حذفته من هذه النسخة للاختصار». (2) بعده في (ف، ك): «بسم الله الرحمن الرحيم [هذا (من ف وفي ك قبل البسملة)] صورة كتاب كتبه شيخ الإسلام علامة الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه». (3) (ك): «سلام الله». (4) (ف، ك): «خليقته». (5) ليست في (ق، ك)، و (ف): «وصحبه». (6) (ق): «لنا التمام».

(الكتاب/173)


قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 26 - 27]. فإنَّ هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع عدُوِّهم (1)، العدوّ المفسد الخارج عن شريعة الإسلام، قد جرى فيها شبيهٌ بما جرى للمسلمين مع عدوّهم على (2) عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المغازي التي أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيَّه والمؤمنين مما (3) هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا إلى يوم القيامة، فإنَّ نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - يتناولان (4) عموم الخلق بالعموم اللفظيّ والمعنويّ، أو بالعموم المعنويّ. وعهودُ الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخرَ هذه الأمة كما نالت أوَّلها. وإنما قصَّ الله علينا قَصَص مَن قبلنا من الأمم، لتكون عبرةً لنا فنشبِّه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المستأخرين شَبَه بما كان للمؤمن (5) من المستقدمين (6)، ويكون للكافر والمنافق من المستأخرين شَبَهٌ بما كان للكافر والمنافق من المستقدمين (7)، كما قال تعالى _________ (1) (ف، ك): «مع هذا»، وسقطت «هذا» من (ق). (2) (ق): «جرى شبيه ... للمسلمين على ... ». (3) (ف): «والمؤمنون ما»، و (ك): «ما». (4) (ف): «نبينا ولان» تحريف. (5) (ق): «للمؤمنين». (6) (ك): «المتقدمين». (7) (ك): «المتقدمين».

(الكتاب/174)


ــ لمَّا قصَّ قصة يوسف مفصَّلةً وأجمل ذكر قصص الأنبياء (1): {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يُذْكر في الحروب في (2) السِّيَر المكذوبة. وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 25 - 26]. وقال في سيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع أعدائه ببدرٍ وغيرها: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]. وقال تعالى في محاصرته لبني النضير: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. فأمرنا أن نعتبر بأحوال المستقدمين (3) علينا من هذه الأمة، وممن (4) _________ (1) بعده في (ف، ك): «ثم قال». (2) (ف): «وفي». (3) (ك): «المتقدمين». (4) (ق، ف): «ومن».

(الكتاب/175)


قبلها [ق 49] من الأمم. وذكر في غير موضع أن سنته في ذلك سنة مُطَّرِدة وعادته مستمرة؛ فقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ... } إلى قوله: {اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 60 - 62]. وقال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 22 - 23]. وأخبر سبحانه أنَّ دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المستقدمين. فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طَبَّقَ الخافقين خَبَرُها، واستطار في جميع ديار المسلمين (1) شرَرُها، وأطلع فيها النفاقُ ناصيةَ رأسه، وكَشَر فيها الكفرُ عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه (2) عمود الكتاب أن يُجْتَثَّ ويُخْتَرم، وحَبْل الإيمان أن يُقْطَع (3) ويُصْطَلم، وعُقْر دار المؤمنين أن يحلّ بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفَجَرة التتار، وظنَّ المنافقون والذين في قلوبهم مرض أنْ ما وعدهم الله ورسولُه إلا غرورًا، وأن لن ينقلب حزبُ الله ورسوله إلى أهليهم أبدًا، وزُيّن ذلك في قلوبهم، وظنوا ظنَّ السَّوء وكانوا _________ (1) (ك): «الإسلام». (2) (ف، ك): «فيها». (3) (ف، ك): «ينقطع».

(الكتاب/176)


قومًا بورًا. ونزلت فتنةٌ تركت الحليمَ (1) فيها حيران، وأنزلت الرجلَ الصاحي منزلةَ السَّكْران، وتركت الرجلَ اللبيبَ لكثرة الوَسْواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، وبقي (2) للرجل بنفسه شُغل عن أن يُغيث اللهفان. ومَيَّز الله فيها أهلَ البصائر والإيقان، مِنَ الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان. ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفَّر بها عن آخرين أعمالَهُم الخاطئة. وحَدَث من أنواع البلوى ما جعلها قيامةً مُختصرةً (3) من القيامة الكبرى، فإنَّ الناسَ تفرَّقوا فيها ما بين شقيٍّ وسعيد (4)، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود. وفرَّ الرجلُ فيها من (5) أخيه وأمّه وأبيه؛ إذ كان لكلّ امرئ منهم (6) شأنٌ يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاةُ بنفسه، لا يَلْوي على ماله ولا ولده ولا غرسه (7)، كما أنَّ فيهم (8) من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخرُ فيه _________ (1) (ق): «الحكيم». (2) (ق، ف، ك): «حتى بقي». (3) (ك): «محتضرة». (4) في هامش الأصل: في نسخة «ومسعود» صح. (5) (ق، ف، ك): «عن». (6) (ق): «لكل منهم». (ف): «منهم يومئذٍ». (7) (ك): «عرسه». (8) (ق، ف): «منهم».

(الكتاب/177)


زيادةُ معونةٍ لمن هو منه ببال، وآخر منزلتُه منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعملُ الصالح (1)، والبرّ والتقوى، وبُلِيَت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تُكِنُّها (2) الضمائر، وتبيّن أنَّ البَهْرج من الأقوال والأعمال، يخون صاحبه أحوجَ ما كان إليه في المآل. وذمَّ سادتَه وكبراءَه من أطاعهم فأضلّوه السبيلا (3)، كما حمدَ ربَّه من صَدَق في إيمانه فاتخذ مع الرسول [ق 50] سبيلًا، وبان صدقُ ما جاءت به الآثارُ النبوية من الإخبار بما يكون، وواطأتها قلوبُ الذين هم في هذه الأمة محدَّثون، كما تواطأت عليه (4) المبشِّرات التي أُرِيَها المؤمنون، وتبيّن فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرُّهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة. حيث تحزَّب الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذلٌ له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام. وانقسم الناسُ ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غرَّه بالله الغَرور، وكان هذا الامتحانُ تمييزًا من الله وتقسيمًا، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24]. _________ (1) (ق): «الخالص». (2) (ف): «ظهرت فيها ... »، (ق): «وظهرت الجنايا»، (ف، ك): «كانت تكتمها». (3) (ق): «السبيل». (4) (ف): «علم».

(الكتاب/178)


ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة: أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليُظْهِره على الدين كلِّه، وشرع له الجهاد إباحةً (1) أولًا ثم إيجابًا ثانيًا؛ لمَّا هاجر إلى المدينة وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسولَه، فغزا بنفسه - صلى الله عليه وسلم - مدَّة مُقامه بدار الهجرة ــ وهو نحو عشر سنين ــ بضعًا وعشرين غزوة، أوّلها بدر وآخرها غزوة (2) تبوك. أنزل الله في أول مغازيه سورة الأنفال، وفي آخرها سورة براءة، وجمع بينهما في المصحف ليشابه (3) أول الأمر وآخره، كما قال أمير المؤمنين عثمان لما سُئل عن القِران بين السورتين من غير فصل بالبسملة (4). وكان القتال منها في تسع غزوات. فأوَّل غزوات القتال بدر، وآخرها حُنَين والطائف. وأنزل الله فيهما (5) ملائكته، كما أخبرَ به القرآن، ولهذا (6) صار الناس يجمعون بينهما في القول، وإن تباعَدَ ما بين الغزوتين مكانًا وزمانًا. فإنَّ بدرًا كانت في شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ما بين المدينة ومكة، شاميَّ مكة. وغزوة حنين في آخر شوال من السنة الثامنة. وحنين وادٍ قريب من الطائف شرقيّ مكة. _________ (1) بعدها في (ق، ف، ك): «له»، وكذا بعد «إيجابًا». (2) ليست في (ك). (3) (ف، ك): «لتشابه». (4) أخرجه أحمد (399)، وأبو داود (786)، والترمذي (3086)، والحاكم: (2/ 221)، وابن حبان (43). وحسنه الترمذي وصححه الحاكم وابن حبان. (5) (ق): «معه فيها»، (ف، ك): «فيها». (6) (ف): «بهذا».

(الكتاب/179)


ثم قَسَم النبي - صلى الله عليه وسلم - غنائمها (1) بالجِعِرَّانة، واعتمر عمرة الجِعِرّانة. ثم حاصر الطائف فلم يقاتله أهلُ الطائف زحفًا وصفوفًا (2)، وإنما قاتلوه من وراء جدار. وآخر (3) غزوةٍ كان فيها القتال زحفًا واصطفافًا هي غزوة حُنَين. وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار، وقَتَل (4) الله وأَسَر رؤوسَهم مع قلة المسلمين وضعفهم، فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، ليس معهم إلا فَرَسان، وكان يَعْتَقِب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد، وكان عدوّهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوَّة وعُدّة وهيبةٍ (5) وخُيَلاء. فلما كان من العام المقبل غزا الكفارُ المدينةَ وفيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهُ فخرج [ق 51] إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (6) في نحوٍ من ربع الكفار، وتركوا عيالهم بالمدينة لم ينقلوهم إلى موضع آخر. وكانت أولًا الكَرَّة للمسلمين عليهم، ثم صارت للكفار (7)، فانهزم عامة عسكر المسلمين إلا نفرًا قليلًا حول النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم من قُتِل، ومنهم من جُرِح. وحَرَصوا على قتل النبي _________ (1) (ف): «غنائمًا». (2) (ف): «ولا صفوفًا». (3) (ق، ف، ك): «فآخر». (4) (ق): «وقتلهم». (5) (ف): «وهيئة». (6) «فخرج ... وأصحابه» سقط من (ف). (7) (ك): «لكفار».

(الكتاب/180)


- صلى الله عليه وسلم - (1) حتى كسروا رَباعيته، وشجّوا جبينه، وهشموا البيضةَ على رأسه، وأنزل الله فيها نحوًا من شطر سورة آل عمران، من قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى أن قال فيها: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]، وقال فيها: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]، وقال فيها: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]. وكان الشيطان قد نَعَق في الناس: أنّ محمدًا قد قُتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب، ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. وكان (2) هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي، وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوبٍ ظاهرة وخطايا واضحة؛ مِن فساد _________ (1) «منهم ... - صلى الله عليه وسلم - » سقطت من (ق). (2) (ق): «فكان».

(الكتاب/181)


النيّات، والفخر والخيلاء، والظلم والفواحش، والإعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله، والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة (1) والروم. وكان عدوُّهم في أول الأمر راضيًا منهم بالموادعة والمسالمة، شارعًا في الدُّخول في الإسلام. وكان مبتدئًا في الإيمان والأمان، وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان = فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليُمَحِّص (2) الله الذين آمنوا ويُنِيبوا إلى ربِّهم، وليظهر من عدوِّهم ما ظهر منه (3) من البَغْي والمَكْر والنَّكْث، والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر وبعدوِّهم ما يستوجب به الانتقام. فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيَّتهم من الشرِّ الكبير ما لو يقترن (4) به ظَفَرٌ بعدوِّهم ــ الذي هو على الحال المذكورة ــ لأوجب لهم ذلك من فساد الدِّين والدنيا مالا يوصف. كما أن نَصْر الله للمؤمنين يومَ بَدْر كان رحمةً ونعمة (5)، وهزيمتهم يوم أُحدٍ كان باطنها رحمةً ونعمةً (6) على المؤمنين. _________ (1) أي: جزيرة ابن عمر التغلبي، وهي بلدة فوق الموصل، انظر «معجم البلدان»: (2/ 138). تقع الآن بجمهورية تركيا جنوب شرق الأناضول، على الحدود السورية. (2) (ق): «أن ابتلاهم به فيمحص». (3) ليست في (ق). (4) (ق): «اقترن». (5) (ك): «للمسلمين يوم ... »، (ق): «كان من رحمة الله ونعيمه». (6) (ف، ك): «نعمة ورحمة»، و «باطنها» ليست في (ك).

(الكتاب/182)


فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ فشكر الله كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء [ق 52] فصبر كان خيرًا له» (1). فلما كانت حادثةُ المسلمين عامَ أوَّل شبيهةً بأحدٍ، وكان بعد أُحد بأكثر من سنة ــ وقيل بسنتين ــ قد ابتلي المسلمون بغزوة الخندق= كذلك في هذا العام ابتُلي المسلمون (2) بعدوِّهم، كنحو ما ابتُلي المسلمون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الخندق، وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها سورة الأحزاب. وهي سورة تضمَّنت ذِكْر هذه الغَزَاة التي نصر الله فيها عبدَه - صلى الله عليه وسلم - وأعزَّ فيها جندَه المؤمنين (3)، وهزم الأحزاب الذين تحزَّبوا عليهم وَحْدَه (4) بغير قتال، بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوِّهم. ذُكِرَ فيها خصائصُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحقوقُه وحُرْمتُه (5)، وحُرمة أهل بيته؛ لمَّا كان هو القلبُ الذي نصره الله فيها بغير قتال، كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء (6). وظهر فيها سرّ تأييد (7) الدين كما ظهر في غزوة الخندق، وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق. _________ (1) أخرجه مسلم رقم (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه بنحوه. (2) (ف، ك): «المؤمنون». (3) (ف، ك): «المؤمنون»، وصححها في الهامش من (ك). (4) (ك): «عليه»، و «وحده» ليست في (ق). (5) (ق): «ورحمته». (6) فوقها في الأصل حرف (حد) ينظر (7) (ف): «سواء، وأهل ظهر ... تأبيد».

(الكتاب/183)


وذلك أن الله تعالى منذ (1) بعثَ محمدًا وأعزَّه بالهجرة والنُّصرة؛ صار الناس ثلاثة أقسام: قسمًا مؤمنين، وهم الذين آمنوا به ظاهرًا وباطنًا. وقسمًا كفَّارًا، وهم الذين أظهروا الكفر به. وقسمًا منافقين، وهم الذين آمنوا به ظاهرًا لا باطنًا. ولهذا افتتح الله (2) سورة البقرة بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة آية في صفة المنافقين. وكلُّ واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشُعَب، كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وكما فسَّره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المأثور عنه في الإيمان ودعائمه وشُعَبه (3). فمن النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدَّرْك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبيّ وغيره، بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحودَ بعض ما جاء به أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرَّة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوًّا لله ورسوله. _________ (1) (ق): «مذ». (2) لفظ الجلالة ليس في (ك). (3) أخرجه اللالكائي في «شرح الاعتقاد» رقم (1570)، وابن عساكر في «تاريخه»: (42/ 515). تفرد به سليمان بن الحكم وهو ضعيف، وذكره الذهبي في «الميزان»: (2/ 389) من منكراته.

(الكتاب/184)


وهذا القَدْر كان موجودًا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما زال بعده (1)، بل هو بعده أكثر منه على عهده (2)؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى. فإذا كانت مع قوَّتها كان النفاق (3) موجودًا، فوجوده فيما دون ذلك أولى. وكما أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم بعضَ المنافقين ولا يعلم بعضهم، كما بيَّنه قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] كذلك خلفاؤه بعده وورثته قد يعلمون بعضَ (4) المنافقين ولا يعلمون بعضًا (5). وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة والعامة، ويسمّون الزنادقة. وقد اختلف العلماء في قبول توبتهم في الظاهر، لكون ذلك لا يعلم، إذ هم دائمًا يُظهِرون الإسلام، وهؤلاء يَكْثُرون في المتفلسفة [ق 53] من المنجِّمين ونحوهم، ثم في الأطباء، ثم في الكتّاب أقل من ذلك. ويوجدون في المتصوِّفة والمتفقِّهة و (6) المقاتلة والأمراء، وفي العامة أيضًا. ولكن يوجدون كثيرًا في نِحَل أهل البدع لاسيما الرافضة، ففيهم من _________ (1) ليست في (ق). (2) تحرفت في (ق): «هذه». (3) بعده في (ف، ق): «معها». (4) الأصل: «بعض»، و (ق): «ببعض». (5) الأصل: «بعضَ»، و (ف، ك، ح): «بعضهم». وسقطت من (ق). (6) (ف، ق، ك): «وفي».

(الكتاب/185)


الزنادقة والمنافقين، ما ليس في أحدٍ من أهل النِّحَل، ولهذا كانت الخُرَّمِيّة والباطنية والقرامطة والإسماعيلية والنُّصيرية، ونحوهم من المنافقين الزنادقة منتسبةً إلى الرافضة. وهؤلاء المنافقون ــ في هذه الأوقات ــ لكثيرٍ (1) منهم مَيل إلى دولة هؤلاء التتار؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام، بل يتركونهم وما هم عليه. وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدِّماء والسبي، لا لأجل الدين. فهذا ضربُ النّفاق الأكبر. وأما النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها، مثل أن يكذب إذا حدَّث، أو (2) يُخْلِف إذا وعد، ويخون إذا ائتمن، أو يَفْجُر إذا خاصم، ففي «الصحيحين» (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه (4) قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّثَ كَذَب، وإذا وعَدَ أخْلَف، وإذا ائتمن خان». وفي رواية صحيحة: «وإن صام وصلَّى وزعم أنه مسلم». وفي «الصحيحين» (5) عن عبد الله بن عَمْرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصْلة منهن كانت فيه خَصْلة من _________ (1) (ف): «كثير». (2) (ك): «و». (3) البخاري رقم (33)، ومسلم رقم (59) وقد تقدم. ووقع في (ك): «وإن صلى وصام». (4) ليست في (ق، ف، ك). (5) البخاري (34)، ومسلم (58). وقد تقدم.

(الكتاب/186)


النفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد (1) أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر». ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ مات ولم يغز ولم يحدِّث نفسَه بالغزو مات على شعبةٍ من نفاق» رواه مسلم (2). وقد أنزل الله سورة براءة التي تسمى «الفاضحة» لأنها فضحت المنافقين. أخرجاه في «الصحيحين» (3) عن ابن عباس قال: هي الفاضحة، ما زالت تنزل (ومنهم، ومنهم) حتى ظنوا أن لا يبقى أحدٌ إلا ذكر فيها. وعن المقداد بن الأسود قال: هي سورة البحوث؛ لأنها بحثت عن سرائر (4) المنافقين. وعن قتادة قال: هي المثيرة؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين. وعن ابن إسحاق (5) قال: هي المُبَعْثرة. والبعثرة والإثارة متقاربان. وعن ابن عمر: أنها المُقَشْقِشَة؛ لأنها تبرئ من مرض النفاق. يقال: تَقَشْقَش المريضُ إذا برأ. وقال الأصمعي: وكان يقال لسورتي الإخلاص: المُقَشْقِشتان؛ لأنهما _________ (1) الأصل: «عاهد»، سبق قلم، والمثبت من النسخ الأخرى ومن مصادر الحديث. (2) رقم (1910) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) البخاري كتاب التفسير، باب الجلاء، ومسلم (3031). (4) (ق): «سائر». (5) الأصل: «أبي» خطأ، (ك): «ابن عباس».

(الكتاب/187)


يُبْرِئان من النفاق (1). وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ غزوة تبوك ــ عام تسع من الهجرة، وقد عزَّ الإسلامُ وظهر، فكشف الله فيها أحوالَ المنافقين، ووصفهم فيها بالجُبْن وترك الجهاد، ووصفهم (2) بالبخل عن النفقة في سبيل الله، والشحِّ على المال. وهذان داءان (3) عظيمان: البُخْل والجُبْن (4). قال النبي - صلى الله عليه وسلم - [ق 54]: «شرُّ ما في المرء شحُّ هالع وجُبْن خالع» (5) حديث صحيح. ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار كما دل عليه قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] وقال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]. وأما (6) وصفهم بالجبن والفزع؛ فقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ _________ (1) انظر لهذه الأسماء «الدر المنثور»: (3/ 376 - 377). (2) (ف): زيادة «فيها». (3) الأصل: «رذءان» (4) (ك): «الجبن والبخل». (5) أخرجه أحمد (8010، 8263)، وأبو داود (2511)، وابن حبان (3250)، والبيهقي: (9/ 170)، وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) (ق، ف، ك): «فأما».

(الكتاب/188)


مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 56 - 57]. فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا أنهم من المؤمنين، فما هم منهم، ولكن يفزعون من العدوِّ فـ {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} يلجأون إليه مثل (1) المعاقل والحصون التي يفرُّ إليها من يترك الجهاد {أَوْ مَغَارَاتٍ} وهي جمع مغارة (2)، سُمّيت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي: يستتر، كما يغور الماء. {أَوْ مُدَّخَلًا} وهو الذي يُتَكَلَّف الدخول إليه إما لضيق بابه أو غير (3) ذلك أي: مكانًا يدخلون إليه (4) ولو كان الدخول بِكُلْفة ومشقَّة {لَوَلَّوْا} عن الجهاد {إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون إسراعًا لا يردُّهم شيء، كالفرس الجَمُوح الذي إذا حمل لا يردُّه اللجام. وهذا وصف منطبق على أقوامٍ كثيرين في حادثتنا، وفيما قبلها من الحوادث وبعدها. وكذلك قال في سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - : {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} أي: فبُعدًا (5) لهم {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ _________ (1) (ك): «من». (2) سقطت (أو مغارات) من (ف)، و (ف، ك): «مغارة ومغارات سميت ... ». (3) (ق، ف، ك): «لغير». (4) (ف): «فيه». (5) (ف): «بعدًا».

(الكتاب/189)


صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 20 - 21]. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] فحَصَر المؤمنين فيمن آمن وجاهد. وقال تعالى: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 44 - 45]. فهذا إخبارٌ من الله بأنّ المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد، وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن. فكيف بالتارك من غير استئذان؟ ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة على هذا المعنى. وقال في وصفهم بالشحِّ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]. فهذه حال من أنفق كارهًا، فكيف من (1) ترك النفقة رأسًا؟ ! وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58]. _________ (1) (ف، ك): «بمن».

(الكتاب/190)


وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 75 - 76]. [ق 55] وقال في السورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]. فانتظمت هذه الآية حالَ من أخذ المال بغير حقِّه، أو منعه عن مستحقِّه من جميع الناس؛ فإنَّ الأحبار هم العلماء، والرُّهبان هم العُبَّاد. وقد أخبر أنَّ كثيرًا منهم يأكلون أموالَ الناس بالباطل، ويَصدُّون أي: يُعرضون ويَمنعون، يقال: صدَّ عن الحق صدودًا وصدَّ غيره صدًّا (1). وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل، مِنْ وَقْفٍ أو عطيَّة على الدين، كالصِّلات (2) والنذور التي تُنْذَر لأهل الدين، ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك. فهذا فيمن يأكلُ المال بالباطل بشُبْهَة دين. _________ (1) لسيت في (ك). (2) (ف): «كالصلاة».

(الكتاب/191)


ثم قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ} فهذا يندرج فيه مَن كَنَز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله، والجهادُ أحقُّ الأعمال باسم «سبيل الله» سواءً كان مَلِكًا أو مقدَّمًا أو غنيًّا أو غير ذلك. وإذا دَخَل في هذا ما كُنِز من المال (1) الموروث والمكسوب، فما كُنِز من الأموال المشتركة التي يستحقُّها عمومُ الأمة، ويستحقُّها (2) مصالحهم أَوْلى وأحْرى. *** فصل فإذا تبيَّن بعضُ معنى المؤمن والمنافق، فإذا قرأ الإنسان سورة الأحزاب، وعَرَف من المنقولات في الحديث والتفسير والفقه والمغازي كيف كانت صفةُ الواقعة التي نزل بها القرآن، ثمَّ اعتبر هذه الحادثة بتلك = وجد مصداق ما ذكرنا (3)، وأن الناس انقسموا في هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة، كما انقسموا في تلك، وتبيَّن له كثير من المتشابهات. افتتح الله السورة بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1] وذكر في أثنائها قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا _________ (1) (ق): «في هذا الباب». (2) (ق، ف، ك): «ومستحقها». (3) (ق، ف): «ما ذكرناه».

(الكتاب/192)


(47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 47 - 48] ثم قال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 2 - 3]. فأمره باتباع ما أُوحِي إليه من الكتاب والحكمة ــ التي هي سُنَّته ــ وبأن يتوكل على الله. فبالأول (1) تحقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. وبالثانية تحقق قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. ومثل ذلك قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. وهذا وإن كان مأمورًا به في جميع الدين، فإنَّ ذلك في الجهاد أَوْكَد؛ لأنه يحتاج إلى أن يُجاهد الكفار والمنافقين، وذلك لا يتمّ إلا بتأييد قويّ من الله، ولهذا كان الجهادُ سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة. ففيه سنام المحبة كما في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ق 56] وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]. وفيه سنام التوكُّل وسنام الصبر، فإنّ المجاهدَ أحوجُ الناس إلى الصبر والتوكل، ولهذا قال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا _________ (1) الأصل: «فبأول» وهو سهو، وفي (ف، ك): «فبالأولى»، ومابعدها «الثانية».

(الكتاب/193)


حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41 - 42] و {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]. ولهذا كان الصبر واليقين ــ الذي هو (1) أصل التوكّل ــ يوجبان الإمامة في الدين، كما دلَّ عليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ (2) أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التي هي مُحِيْطة بأبواب العلم، كما دلَّ عليه قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. فجعل لمن جاهد فيه هدايته جميع سُبله (3) تعالى، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر، فإنَّ الحقّ معهم؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (4). وفي الجهاد أيضًا: حقيقة الزُّهد في الحياة الدنيا (5). _________ (1) كذا في جميع الأصول. (2) الأصول: «وجعلناهم .. ». (3) (ق): «سبيله». (4) «فجعل لمن ... سبلنا» سقط من (ف، ك). (5) بعده في (ق، ف، ك): «وفي الدار الدنيا».

(الكتاب/194)


وفيه أيضًا: حقيقة الإخلاص، فإنَّ الكلام فيمن جاهد في سبيل الله لا في سبيل الرِّياسة، ولا سبيل المال، ولا سبيل الحَمِيَّة، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدِّين كلّه لله (1). وأعظم مراتب الإخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]. والجنةُ اسمٌ للدار التي حَوَت كلَّ نعيم، أعلاه النظر إلى الله، إلى ما دون ذلك مما تَشْتهيه الأنفس وتَلَذُّ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه، كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله: «أعْدَدْت لعباديَ الصالحين مالا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر» (2). فقد تبيَّن بعضُ أسباب افتتاح هذه السورة بهذا. ثم إنه قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]. وكان مختصر (3) القصة: أن المسلمين تحزَّب عليهم (4) عامَّةُ المشركين الذين حولهم، وجاءوا _________ (1) (ق): «ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة ... »، وفي (ف، ك) تقديم وتأخير في الكلام. (2) أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824) من حديث أبي هرير رضي الله عنه. (3) (ق): «مختصر هذه». (4) ليست في (ف).

(الكتاب/195)


بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريشٌ وحلفاؤها ومواليها من كنانة وأهل نجد والأحابيش، واجتمعَتْ غَطَفان وحلفاؤها (1) من بني أسد وأشْجَع وفَزارة وغيرهم من قبائل نجد. واجتمعت أيضًا اليهودُ من قُرَيظة والنضير، فإنّ بني النضير كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله في سورة الحشر، فجاءوا في الأحزاب إلى قُرَيظة، وهم متعاهدون (2) للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومجاورون له قريبًا من المدينة، فلم يزالوا بهم (3)، [ق 57] حتى نَقَضت قريظةُ العهد ودخلوا في الأحزاب، فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بِقَدْر المسلمين مرَّات متعددة، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذرية من النساء والصبيان في آطام المدينة، وهي مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أُخر، وجعل ظهرهم (4) إلى سَلْع وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام، وجعل بينه وبين العدو خندقًا، والعدوُّ قد أحاط بهم من العالية والسافلة، وكان عدوًّا شديد العداوة، لو تَمَكَّن من المؤمنين لكانت نكايتُه فيهم أعظمَ النِّكايات. * وفي هذه الحادثة تحزَّب هذا العدوّ من مُغل وغيرهم من أنواع الترك، ومن فُرْس ومُسْتَعربة، ونحوهم من أجناس المُرْتدَّة، ومن نصارى من الأرمن وغيرهم، ونزل هذا العدوُّ (5) بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام _________ (1) «ومواليها ... وحلفاؤها» سقطت من (ف، ك) .. (2) (ق، ف، ك): «معاهدون». (3) ليست في (ف، ك). (4) (ف): «موضع آخر»، (ق): «جعل ظهورهم». (5) «من فعل ... العدو» سقطت من (ف).

(الكتاب/196)


والإحْجام، مع قِلَّة مَنْ بإزائهم من المسلمين، وقصدهم (1) الاستيلاء على الدار، واصطلام أهلها. كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المؤمنين (2). ودامَ الحصارُ على المسلمين عام الخندق ــ على ما قيل ــ بضعًا وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة. وهذا العدوُّ عَبَر الفراتَ سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول انصرافه راجعًا عن حلب، لما رجع مُقَدَّمهم الكبير غازان بمن معه يوم الاثنين حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى (3) يوم دخل العسكر ــ عسكر (4) المسلمين ــ إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي، وخاطبهم في هذه القضية. وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى، من الاهتمام والعزم= ألقى في قلوب عدوِّهم الرَّوعَ والانصراف. وكان عامَ الخندقِ بردٌ شديد، وريح شديدة منكرة، بها صَرَف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]. وهذا (5) العام أكْثَرَ الله فيه الثلجَ والمطر والبَرْد، على خلاف أكثر _________ (1) (ف، ك): «ومقصودهم». (2) (ق): «أولئك بضواحي المدينة ودام ... ». (3) الأصل و (ق): «ثاني جمادى» (4) (ق): «دخل عسكر». (5) (ق، ف، ك): «وهكذا هذا».

(الكتاب/197)


العادات، حتى كره أكثر الناس ذلك، وكنّا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك، فإن لله فيه حكمةً ورحمة. وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به (1) العدوَّ، فإنه كَثُر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك أيضًا منهم من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خَيلهم الضَّعْفُ (2) والعَجْزُ بسبب البرد والجوع = ما رأوا أنهم (3) لا طاقة لهم معه بقتال. حتى بلغني عن بعض كبار المقدَّمين في أرض الشمال (4) أنه قال: لا بيَّض الله وجوهنا، عدوُّنا في الثلج إلى شعره، ونحن نعودُ ولا نأخذهم! (5). وحتى علموا أنهم كانوا صيدًا للمسلمين لو يصطادونهم، لكن كان لله في تأخير (6) اصطيادهم حكمةٌ عظيمة. وقال الله في شأن الأحزاب: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11]. _________ (1) (ق): «بها». (2) كذا في الأصل، وبقية النسخ: «من الضعف». (3) (ف): «أنه». (4) (ف، ك): «الشام». (5) (ك): «ونحن قعود ولا نأخذهم»، و (ق) مثلها لكن بدون الواو في «ولا نأخذهم»، (ق) كما هو مثبت، لكن شاركت (ف) في حذف الواو. (6) (ق): «لكن لله في تأخير ... »، (ف): «لكن لله في تأخير الله»، (ك): «لكن في تأخير الله ... ».

(الكتاب/198)


* وهكذا هذا العام؛ جاء العدوُّ من ناحيتي علوّ الشام، وشمالي (1) الفرات، وقِبْلي (2) الفرات؛ فزاغت الأبصارُ زيغًا عظيمًا [ق 58] وبلغت القلوب الحناجرَ لعظم البلاء، لاسيّما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وبِقُرْب (3) العدوِّ، وتوجُّهه إلى دمشق، وظنَّ الناس بالله الظنون (4): هذا يظنُّ أنه لا يقف قُدَّامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام. وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم شرَّ كِسْرة، وأحاطوا بهم إحاطةَ الهالة بالقمر. وهذا يظنُّ أن أرض الشام ما بقيت تُسْكَن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها، فلا يقف قُدّامهم أحد، فيحدِّث نفسَه بالفرار إلى اليمن ونحوها. وهذا ــ إذا أحسن ظنَّه ــ قال: إنهم (5) يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين. ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام. وهذا (6) ظنُّ خيارِهم. _________ (1) (ف، ك): «وهو شمالي». (2) (ف، ك): «وهو قبلي». (3) بقية النسخ: «وتقرب». (4) بقية النسخ: «الظنونا». (5) (ق): «وهذا أحسن ... إنهم لا ... ». (6) (ق): «هكذا».

(الكتاب/199)


وهذا يظنّ أنَّ ما أخبره به أهل الأثارة (1) النبوية، وأهل التحديث والمبشِّرات أمانيّ كاذبة، وخرافات لاغية (2). وهذا قد استولى عليه الرُّعب والفَزَع، حتى يمرُّ الظنُّ من فؤاده (3) مرَّ السَّحاب (4)، ليس له عقلٌ يتفهَّم ولا لسانٌ يتكلَّم. وهذا قد تعارَضَت عندَه الأمارات، وتقابلت عنده (5) الإرادات، لاسيما وهو لا يفرِّق من المبشِّرات بين الصادق والكاذب، ولا يميّز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوصَ الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلًا بها أو قد سمعها سماعَ الغبراء (6). ثم قد لا يتفطَّن لوجوه دلالتها الخفيَّة، ولا يهتدي (7) لدفع ما يتخيَّلُ أنه معارض لها في بادِئ (8) الرويَّة. فلذلك استولت الحيرةُ على مَن كان مُتَّسِمًا بالاهتداء، وتراجمت به الآراءُ تراجمَ الصبيان بالحصباء= {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا _________ (1) كذا بالأصل و (ق) ويشهد له ما سيأتي في الصفحة التالية من قوله: « ... أهل الوراثة النبوية»، وفي (ف، ك): «الآثار». وتحتمل: «الإيالة» يعني: السياسة. وقد استخدمه شيخ الإسلام في مواضع، انظر «السياسة الشرعية» (ص 4 - بتحقيقي)، و «مجموع الفتاوى»: (22/ 463). (2) الأصل: «لاعبة» والمثبت من باقي النسخ. (3) بقية النسخ: «بفؤاده». (4) الأصل: «من السخاف» تحريف. (5) «الأمارات ... عنده» سقط من (ق). (6) (ق): «العيرا»، (ف): «وقد ... العبرا»، (ك): «العبر». (7) (ق): «يهدي». (8) في الأصل و (ق): «نادي» والمثبت من باقي النسخ.

(الكتاب/200)


شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] ابتلاهم الله بهذا البلاء (1) الذي يُكَفِّر به خطيئاتهم (2)، ويرفع به درجاتهم، وزُلْزِلوا بما حصل (3) لهم من الرَّجَفات، ما استوجبوا به أعلى (4) الدرجات. قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]. * وهكذا قالوا في هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية، والخلافة الرِّسالية، وحزب الله المُحَدَّثون عنه، حتى حصل لهؤلاء التأسِّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم. وأمّا الذين في قلوبهم مرض فقد تكرَّر ذكرُهم في هذه السورة، فذُكِروا هنا وفي قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب: 60]، وفي قوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. وذكر الله مرضَ القلب في مواضع، فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ _________ (1) (ف، ك): «الابتلاء». (2) (ق): «خطاياهم». (3) (ك): «يحصل». (4) (ف): «عليّ».

(الكتاب/201)


فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال تعالى (1): {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49]. والمرض في القلب كالمرض في الجَسَد، فكما أنَّ هذا هو ما أحالَه (2) عن الصِّحَّة والاعتدال من غير [موت، فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال من غير] (3) أن يموت القلب، سواءٌ أفْسَد (4) إحساسَ [ق 59] القلبِ وإدراكَه، أو أفْسَد عملَه وحركَتَه. وذلك ــ كما فسّره هو (5) ــ من ضعف الإيمان؛ إمّا يُضْعِف (6) علم القلب واعتقاده، وإما يُضْعِف عملَه وحركته، فيدخل فيه مَنْ ضَعُفَ تصديقه ومَنْ غلب عليه الجُبْن والفزع، فإنَّ أدواء القلب؛ من الشهوة المحرَّمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك، كلها أمراض. وكذلك الجهل والشّكوك (7) والشبهات التي فيه. وعلى هذا فقوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] هو إرادة الفجور، وشهوة الزنا ــ كما فُسِّرَ به (8) ــ ومنه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : «وأيُّ داءٍ أدوى _________ (1) «في قلوبهم ... تعالى» ليست في (ف، ك). (2) «ما» ليست في (ف، ك)، و (ف): «حاله». (3) ما بينهما ساقط من الأصل. (4) (ق): «فسد»، وكذا التي تليها. (5) (ق): «فسّروا به»، (ف، ك): «فسّروه». (6) الأصل: «إنّما»، وبقية النسخ: «بضعف» وكذا ما بعده. (7) الأصل و (ق): «الشكوى». والمثبت من باقي النسخ. (8) بقية النسخ: «فسّروه به».

(الكتاب/202)


من البُخل» (1)، وقد جعل الله كتابَه شفاءً لما في الصدور (2). وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «إنما شِفاءُ العِيِّ السؤال» (3)، وكان يقول في دعائه: «اللهمَّ إني أعوذُ بك من منكرات الأخلاق والأهْواء والأدْواء» (4). ولن يخاف الرجلُ غيرَ الله إلا لمرضٍ في قلبه، كما ذكروا أن رجلًا شكا إلى أحمد بن حنبل خَوفَه من بعض الوُلاة، فقال: لو صَحَحْتَ لم تخَفْ أحدًا (5). أي: خوفُك من أجل زوال الصِّحة من قلبك. ولهذا (6) أوجبَ الله على عباده أن لا يخافوا حِزْبَ الشيطان، بل لا يخافوا (7) غيره، فقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. أي: يُخَوِّفكم أولياءَه. _________ (1) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (296) من حديث جابر بن عبد الله، والحاكم في «المستدرك»: (3/ 219) من حديث أبي هريرة، وقال: صحيح على شرط مسلم. (2) الورقة (93 ب) من نسخة (ق) مشوشة الكتابة غير ظاهرة، ومثلها (ق 96 ب-97 أ). (3) أخرجه أحمد (3057)، وأبو داود (337)، وابن ماجه (572)، والدارمي (779)، وابن حبان (1314)، وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (4) أخرجه الترمذي (3591)، والحاكم: (1/ 532)، والطبراني في «الكبير»: (19/ 19)، وغيرهم من حديث قُطبة بن مالك رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه الحاكم على شرط مسلم. (5) ذكر القصة عن أحمد شيخُ الإسلام في عدد من كتبه، انظر «الفتاوى»: (10/ 100، 28/ 36، 449)، وابن مفلح في «الآداب الشرعية»: (2/ 32 ــ الرسالة). (6) ليست في (ف). (7) (ف، ك): «يخافون».

(الكتاب/203)


وقال لِعموم بني إسرائيل تنبيهًا لنا: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]. وقال: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، وقال (1): {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3]، وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18]، وقالَ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، وقال: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ... } إلى قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13]. فدلَّت هذه الآية، وهي (2) قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأنفال: 49] على أنَّ المرضَ والنفاقَ في القلب يوجب الرَّيبَ في الأنْباءِ الصادقة التي توجِبُ أمْنَ (3) الإنسانِ من الخوف، حتَّى يظنوا أنها كانت غُرورًا لهم، كما وقع في حادثتنا هذه سواء. ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مَقَامَ (4) لَكُمْ فَارْجِعُوا} _________ (1) (ف، ك): «قال لنا». (2) (ف، ك»: «وهو». (3) (ف، ك»: «كفر». (4) قرأ عامة القراء بالفتح (مَقام)، وقرأ حفص عن عاصم وحده بالضم (مُقام). انظر «المبسوط في القراءات العشر»: (ص 300) لابن مِهران. وقراءة الفتح هي التي ذكرها المؤلف كما هو واضح مما سيأتي.

(الكتاب/204)


[الأحزاب: 13]. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد عَسْكَرَ بالمسلمين عند سَلْعٍ، وجعل الخَنْدَق بينه وبين العدوِّ، فقالت طائفةٌ منهم: لا مَقَامَ لكم هنا لكثرة العدوِّ، فارجعوا إلى المدينة. وقيل: لا مَقام لكم على دين محمد فارجعوا [إلى دين الشرك وقيل: لا مَقام لكم على القتال] (1) فارجعوا إلى الاستيمان والاستجارة (2) بهم. وهكذا لما قَدِمَ (3) العدوُّ؛ مِنَ المنافقينَ مَنْ قال: ما بقيتِ الدَّولة الإسلامية تقوم، فينبغي الدُّخول في دولةِ التتار. وقال بعضُ الخاصَّة: ما بقيت أرضُ (4) الشام تُسْكَنُ، بل ننتقل (5) عنها إما إلى الحجاز واليمن، وإما إلى مصر. وقال بعضهم: بل المصلحةُ الاستسلام لهؤلاء، كما قد استسلم لهم أهلُ العراق، والدخولُ تحت حُكمهم. * فهذه [ق 60] المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة، كما قيلت في تلك. وهكذا قال طائفة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض لأهل دِمَشْق خاصَّة والشام عامَّة: لا مُقام لكم بهذه الأرض. _________ (1) ما بينهما ساقط من الأصل. (2) الأصل: «الاستيمار» وبعده في (ف): «والاستخارة». (3) بقية النسخ: «قدم هذا ... ». (4) ليست في (ق). (5) (ق): «يُنْتقل».

(الكتاب/205)


ونفي المَقام بها أبلغ من نفي المُقام، وإن كانت (1) قد قُرئت بالضَّمِّ أيضًا (2). فإنَّ من لا (3) يقدرُ أنْ يقومَ بالمكان فكيف يُقيم فيه (4)؟ قال الله: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13]. كان قومٌ من هؤلاء المذمومين يقولون ــ والناسُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عند سَلْع داخل الخندق، والنساء والصبيان في آطام المدينة ــ: يا رسول الله إنّ بيوتنا عورة، أي مكشوفة، ليس (5) بينها وبين العدوّ حائل. وأصل العورة: الخالي الذي يحتاج إلى حفظ وسَتْر، يقال: اعورَّ مجلسك إذا ذهب ستره، أو سقط جداره. ومنه: عورة العدوّ. وقال مجاهد والحسن: أي ضائعة، نخشى (6) عليها السُّرَّاق. وقال قتادة: قالوا: بيوتنا ممّا يلي العدوّ، ولا نأمن على أهلنا، فأذَنْ لنا لنذهب إليها (7)، لحفظ النساء والصِّبيان (8). _________ (1) (ف، ك): «كان». (2) انظر الصفحة السابقة حاشية (3). (3) (ق): «لم». (4) (ك): «به». (5) (ف، ك): «فليس». (6) (ك): «يخشى». (7) (ف، ك): «فلا نأمن ... أن نذهب ... ». (8) أخرجها ابن جرير: (19/ 44)، وانظر «الدر المنثور»: (5/ 159).

(الكتاب/206)


قال الله تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}؛ لأنَّ الله يحفظها {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}، فهم يقصدون الفرار من الجهاد، ويحتجُّون بحجَّة العائلة. * وهكذا أصاب كثيرًا من الناس في هذه الغَزاة، صاروا يفرُّون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة، كمصر، ويقولون: ما مقصودنا إلاّ حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون في ذلك. فقد كان يمكنهم جعلهم في حِصْن دمشق لو دنا العدوُّ، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فرَّ بعد إرسال عياله (1)؟ قال الله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 14]. فأخبر أنه لو دُخِلَت عليهم المدينة من جوانبها، ثم طُلِبَت منهم الفتنة ــ وهي الافتتان عن الدين بالكفر، أو (2) النفاق ــ لأعطَوا الفتنةَ، ولجاءوها من غير توقُّف. * وهذه حالة (3) أقوام لو دَخَل عليهم هذا العدوُّ المنافق المجرم، ثم طُلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام ــ وتلك فتنةٌ عظيمة ــ لكانوا معه على ذلك، كما ساعدهم (4) في العام الماضي أقوام _________ (1) (ف): «إرساله». (2) (ق، ف): «و». (3) بقية النسخ: «حال». (4) (ق): «ساعدوهم».

(الكتاب/207)


بأنواعٍ من الفتنة في الدين والدنيا، ما بين ترك واجباتٍ، وفعل محرَّمات، إمّا في حقِّ الله، وإمّا (1) في حق العباد؛ كترك الصلاة، وشُرب الخمور، وسبِّ السَّلف، وسبِّ جنود المسلمين، والتجسُّس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين وحريمهم، وأخذ أموال الناس وتعذيبهم، وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين (2) منهم، إلى غير ذلك من أنواع الفتنة. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا (3) عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب: 15]. * وهذه حالة (4) أقوام عاهدوا ثم نكثوا قديمًا وحديثًا في هذه [ق 61] الغزوة؛ فإنّ العام الماضي وفي هذا العام ــ في أوّل الأمر ــ مِنَ الناس (5) من أصنافِ الناس مَنْ عاهد على أن يُقاتل ولا يفرَّ، ثم فرَّ منهزمًا لما اشتدّ الأمرُ. ثمَّ قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 16]. فأخبر الله أنّ الفرار لا ينفع لا من (6) الموت ولا من القتل، فالفرار _________ (1) «في حق الله وإما» سقطت من (ف). (2) (ف): «المؤمنين». (3) «كانوا» سقطت من الأصل. (4) بقية النسخ: «حال». (5) كذا في جميع الأصول، وغيَّر «من الناس» في المطبوع إلى «كان». (6) (ف): «لا ينفع من».

(الكتاب/208)


من الموت كالفرار من الطاعون، ولذلك (1) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه» (2). والفرارُ من القتل كالفرار من الجهاد. وحرف «لن» ينفي الفعل في الزمن المستقبل، والفعلُ نكرة، والنكرةُ في سياق النفي تعمُّ جميع أفرادها، فاقتضى ذلك: أنّ الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة (3) أبدًا. وهذا خبر الله الصادق، فمن اعتقد أنّ ذلك منفعة فقد كذَّبَ الله في خبره. * والتَّجربة تدلُّ على مثل ما دلّ عليه القرآن، فإنَّ هؤلاء الذين فرُّوا في هذا العام لم ينفعهم فرارُهم، بل خسروا الدِّين والدنيا، وتفاوتوا في المصائب. والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك في الدِّين والدنيا، حتَّى الموت الذي فرُّوا منه كَثُرَ فيهم، وقلَّ في المقيمين، فمات مع الهرب مَن شاء الله. والطالبون للعدوِّ والمعاقبون لهم لم يمت منهم أحد ولا قُتِل، قلَّ الموتُ جدًّا في البلد (4) من حين خرج الفارُّون (5). وهكذا سُنَّة الله قديمًا وحديثًا. ثم قال تعالى: {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}، يقول: لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياةً قليلة ثم تموتون، فإنّ الموت لا بُدَّ منه. وقد حُكِيَ عن بعض الحمقى أنَّه قال: فنحن نريد ذلك القليل! _________ (1) (ف، ق): «وكذلك». (2) أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (3) في هامش (ك): نسخة «ينفعه». (4) (ك): «بل الموت قل في البلد»، و (ف): «بل الموت جدًّا بالبلد». (5) الأصل: «الغازون» خطأ.

(الكتاب/209)


وهذا جهلٌ منه بمعنى الآية، فإنّ الله لم يقل: إنّهم يُمتَّعون بالفرار قليلًا، لكن (1) ذكر أنه لا منفعة فيه أبدًا. ثم ذكر جوابًا ثانيًا: أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل (2). ثم إنّه ذكر جوابًا ثالثًا: وهو أنّ الفارَّ يأتيه ما قُضِي له من المضرَّة، ويأتي الثابت ما قُضِي له من المسرَّة، فقال: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 17]. ونظيره قوله في سياق آيات الجهاد: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156]. فمضمون الأمر: أنّ المنايا محتومة، فكم ممّن حضر الصفوف فسلم، وكم ممَّن (3) فرَّ من المنيَّة فصادفته. كما قال خالد بن الوليد لمّا احْتُضِر: «لقد حضرتُ كذا وكذا صفًّا (4)، وإنّ ببدني (5) بضعًا وثمانين، ما بين ضَرْبة بسيف، _________ (1) (ف، ك): «لكنه». (2) بهامش (ك): «لعله قليلًا». (3) «حضر ... ممن» سقط من (ف). (4) «صفًّا» ليست في (ق) (5) في هامش الأصل: «نسخة: جسدي».

(الكتاب/210)


وطَعْنة برمح، ورَمْية بسهم. وهأنذا أموت (1) على فراشي كما يموت العَيْرُ (2). فلا قرَّت أعينُ الجبناء» (3). ثم قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]. قال العلماء: كان من المنافقين من يرجع من الخندق [ق 62] فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحدٌ قالوا له: ويحك، اجلس فلا تخرج. ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر: أنِ ائتونا بالمدينة فإنّا ننتظركم، يُثبِّطونهم عن القتال. وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بُدًّا، فيأتون العسكر ليرى الناسُ وجوهَهم، فإذا غُفِلَ عنهم عادوا إلى المدينة. فانصرف بعضهم من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ، فقال له (4): أنت ههنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرماح والسيوف؟ ! فقال: هلُمَّ إليَّ، فقد أُحيط بك وبصاحبك. فوصف المثبِّطين (5) عن الجهاد وهم صنفان؛ لأنّهم إمّا أن (6) يكونوا في بلد الغُزاة أو في غيره، فإن كانوا فيه عَوَّقوهم عن الجهاد بالقول أو بالعمل أو _________ (1) (ف): «وها أموت». (2) (ف): «العنز»، (ك): «الغز» وفسرها في الهامش: هو «حمار الوحش». (3) أخرجه الدينوري في «المجالسة»: (3/ 194)، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق»: (16/ 273). (4) «له» ليست في (ف، ك). (5) الأصل: «المتثبطين»، والمثبت من باقي النسخ. (6) (ف): «لإنهم إنما» (ك): «إنما أن».

(الكتاب/211)


بهما. وإن كانوا في غيره راسلوهم و (1) كاتبوهم بأن يخرجوا إليهم من بلد الغُزاة؛ ليكونوا معهم بالحصون أو بالبُعد، كما جرى في هذه الغزاة. فإنَّ أقوامًا في العسكر والمدينة وغيرهما (2) صاروا يُعوِّقون من أراد الغزو، وأقوامًا بعثوا من المعاقل والحصون أو غيرها إلى إخوانهم: هلُمَّ إلينا. قال الله تعالى فيهم: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}. أي: بخلًا (3) عليكم بالقتال معكم، والنفقة في سبيل الله. وقالوا: بخلًا عليكم بالخير والظَّفَر والغنيمة (4). وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شحَّ عليهم بفضل الله؛ من نَصْره ورزقه الذي يُجريه بفعل غيره. فإنَّ أقوامًا يَشُحُّون بمعروفهم، وأقوامًا يشُحُّون بمعروف الله وفضله، وهم الحُسَّاد. {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19] من شدة الرُّعب الذي في قلوبهم يُشْبِهون المُغْمى عليه وقت النّزْع، فإنَّه يخاف ويذهل عقله، ويَشْخَص بصره ولا يَطْرِف، فكذلك هؤلاء؛ لأنّهم يخافون القتل. {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}. _________ (1) (ف، ك): «أو». (2) بقية النسخ: «وغيرها». (3) (ق): «قالوا: بخلًا»، (ف، ك): «بخلاء» وكذا ما بعدها في (ك). (4) انظر تفسير الطبري: (19/ 51 - 52).

(الكتاب/212)


ويقال في اللغة: «صلقوكم» وهو رفع الصوت بالكلام المؤذي. ومنه: «الصالقة» وهي التي ترفع صوتها بالمصيبة. يقال: سَلَقه، وصَلَقه (1) ــ وقد قرأ طائفة من السَّلف بها، لكنها خارجةٌ عن المصحف (2) ــ إذا خاطبه خطابًا شديدًا قويًّا. ويقال: «خطيب مِسْلاق»، إذا كان بليغًا في خطبته. لكنَّ الشدَّة هنا في الشرِّ لا في الخير، كما قال: {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}. وهذا السَّلق بالألسنة الحادّة (3) يكون بوجوه: تارةً يقول المنافقون للمؤمنين (4): هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فإنّكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين وقاتلتم عليه وخالفتموهم. فإنَّ هذه (5) مقالةُ المنافقين للمؤمنين من الصحابة. وتارةً يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمُقام هنا، والثبات بهذا بالثَّغْر إلى هذا الوقت، وإلاّ فلو كنَّا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا. وتارة يقولون: أنتم مع قِلَّتكم وضَعْفكم تريدون أن تكسروا العدوَّ، وقد غرَّكم دينكم، كما قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ [ق 63] دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]. _________ (1) (ك): «صلقه وسلقه». (2) انظر «معاني القرآن»: (2/ 339) للفراء، وتفسير القرطبي: (14/ 101). (3) بعده في (ف، ك): «وهذا». (4) ليست في (ف). (5) بقية النسخ: «هذا».

(الكتاب/213)


وتارةً يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم! تريدون أن تُهلِكُوا أنفسكم والناسَ معكم. وتارةً يقولون أنواعًا من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحَّةٌ على الخير، أي: حِراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم. قال قتادة: إذا (1) كان وقت قِسْمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا، فلستم بأحقَّ بها منَّا. فأمَّا عند البأس (2) فأجْبَنُ قومٍ وأخذلهم للحقّ. وأما عند الغنيمة فأشحُّ قومٍ. وقيل: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي: بُخلاء به، لا ينفعون، لا بنفوسهم ولا بأموالهم. وأصلُ الشُّحِّ: شدّة الحرص الذي يتولَّد عنه البخل والظلم؛ من مَنْع الحقِّ، وأخذ الباطل، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إيّاكم والشحَّ، فإنَّه (3) أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبُخل فبَخِلوا، وأمرهم بالظُّلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» (4). فهؤلاء أشحَّاءُ على إخوانهم، أي: بُخلاءُ عليهم، وأشحَّاءُ على الخير، _________ (1) (ف، ك): «إن». (2) الأصل: «الناس» تصحيف، والمثبت من النسخ. (3) (ف، ك): «فإن الشح». (4) أخرجه أحمد (6487)، وأبو داود (1698)، والنسائي في «الكبرى» (11519)، والدارمي (2516)، وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وروي أيضًا من حديث جابر وأبي هريرة.

(الكتاب/214)


أي: حِراصٌ عليه فلا يُنْفقونه، كما قال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]. ثم (1) قال تعالى: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 20]. فوصفهم بثلاثة (2) أوصاف: الأول (3): أنَّهم لِفَرْطِ خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذه حالُ الجَبان الَّذي في قلبه مَرض، فإنَّ قلبَه يُبادرُ (4) إلى تصديق الخبر الَمخُوف، وتكذيبِ خبر الأمْن. الوصف الثاني: أنَّ الأحزابَ إذا جاءوا تَمنّوا أن لا يكونوا بينكم، بل يكونون في البادية بين الأعراب، يسألون عن أنبائكم: أيْشٍ خَبَرُ المدينة؟ وأيْشٍ جرى للناس؟ والوصف الثالث: أن الأحزابَ إذا أتوا وهم فيكم، لم يقاتلوا إلا قليلًا. * وهذه الصفات الثلاث منطبقةٌ على كثير من الناس في هذه الغزوة، كما يعرفونه من أنفسهم، ويعرفه (5) منهم مَنْ خَبَرَهم. _________ (1) الأصل: «كما». (2) (ف): «فوصفهم الله ثلاثة». (3) (ف، ك): «أحدها». (4) (ق): «مبادر». (5) (ف، ك): «ويعرفونه».

(الكتاب/215)


ثم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. فأخبر ــ سبحانه ــ أنَّ الذين يُبتلون بالعدوِّ، كما ابْتُلِي به (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلهم فيه إِسْوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه، فليتأسَّوا به في التوكُّل والصَّبر، ولا يظنُّوا أنّ هذه المصائب نقمة لصاحبها (2) وإهانة له، فإنه لو كان كذلك ما ابتُلِي بها خير الخلائق، بل بها تُنالُ الدَّرجات العالية، وبها يُكَفِّرُ الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا. وإلاّ فقد ابتُليَ بذلك من ليس كذلك، فيكون في حقِّه عذابًا، كالكفار والمنافقين. ثمّ قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. قال العلماء: كان الله قد أنزل في [ق 64] سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. فبيّن الله سبحانه ــ منكرًا على من حَسِب خلاف ذلك ــ أنّهم لا يدخلون الجنّة إلاّ بعد أن يُبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم بـ «البأساء» وهي الحاجة والفاقة؛ و «الضراء» وهي الوجع والمرض، و «الزلزال» وهي زلزلة العدوّ. _________ (1) ليست في (ك). (2) «به ... لصاحبها» سقط من (ف). و (ك): «هذه نقم لصاحبها».

(الكتاب/216)


فلمّا جاء الأحزابُ عام الخندق فرأوهم (1) قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، وعلموا أنَّ الله قد ابتلاهم بالزلزال. وأتاهم مَثَل الذين من قبلهم، وما زادهم إلّا إيمانًا وتسليمًا لحكم الله وأمره. * وهذا حالُ أقوامٍ في هذه الغزوة قالوا ذلك. وكذلك قوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23]. أي: عهده الذي عاهد الله عليه، فقاتل حتى قُتِل أو عاش. «والنَّحبُ»: النَّذرُ والعهد ــ وأصله من النَّحِيْب (2)، وهو الصوت. ومنه: الانتحاب في البكاء ــ وهو الصوت الذي تكلَّم به في العهد. ثمّ لمّا كان عهدهم هو نَذْر (3) الصِّدق في اللقاء ــ ومن صَدَق في الِّلقاء فقد يُقتَل ــ صار يُفْهَمُ من قوله: {قَضَى نَحْبَهُ} أنه استُشْهِد، لاسيّما إذا كان النَّحْب (4) نَذْر الصّدق في جميع المواطن، فإنَّه لا يقضيه إلّا بالموت. وقضاءُ النَّحْب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي: أكمل الوفاء، وذلك لمن _________ (1) الأصل: «فزادهم». (2) (ف): «التنحب». (3) (ف، ك): «نذره». (4) (ق): «النحيب».

(الكتاب/217)


كان عهده مطلقًا بالموت أو القتل. ومنهم من ينتظر قضاءه إذا كان قد وفَّى البعضَ. فهو ينتظر إتمام (1) العهد. وأصل القضاء: الإكمال والإتمام (2). {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24]. بيّن الله ــ سبحانه وتعالى ــ أنّه أتى بالأحزاب ليجزي (3) الصادقين بصدقهم، حيثُ صدقوا في إيمانهم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. فحصر الإيمان في المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون في قولهم: آمنَّا. لا كما (4) قالت الأعراب: (آمنّا)، والإيمانُ لم يدخل في قلوبهم، بل انقادوا واستسلموا. وأمّا المنافقون فهم بين أمرين: إما أن يعذِّبهم، وإمّا أن يتوب عليهم. فهذا حالُ الناس في الخندق وفي هذه الغزاة (5). _________ (1) (ف، ك): «تمام». (2) (ف): «الإتمام والإكمال». (3) (ف، ك): «ليجزي الله». ومثلها في (ف) فيما يأتي بعد أسطر. (4) بقية النسخ: «لا من قال كما». (5) (ف): «الغزوة».

(الكتاب/218)


وأيضًا: فإنَّ الله ابتلى الناس بهذه الفتنة؛ ليجزي الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون (1) الصابرون، لينصروا الله ورسوله، ويعذِّب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم. ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلقٍ كثير من هؤلاء المذمومين (2)، فإنّ منهم من ندم، والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد «فتح الله للتوبة بابًا من قِبَل المغرب عرضُه أربعون سنةً، لا يُغلقه حتى تطلع الشمس من قِبَله» (3). وقد ذكر [ق 65] أهل المغازي ــ منهم ابن إسحاق ــ أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الخندق: «الآن نغزوهم ولا يغزونا» (4) فما غزت (5) قريشٌ ولا غطفانُ ولا اليهودُ المسلمين بعدها، بل غزاهم المسلمون ففتحوا (6) خيبر، ثم فتحوا مكة. كذلك إن شاء الله هؤلاء الأحزابُ من المُغْلِ وأصناف التُّرْك، ومن الفُرس، والمُستَعْرِبة، والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة _________ (1) (ق، ف): «التايبون». (2) (ك): «ومن هذه المذمومين» وأشار في هامشه إلى نسخة فيها: «على خلق كثير من هؤلاء المؤمنين كذا». و (ف): «من هذه الفرقة». (3) هذا لفظ حديث أخرجه أحمد (18100)، والترمذي (3536) وغيرهما من حديث صفوان بن عسّال رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. (4) أخرجه البخاري (4109) من حديث سليمان بن صُرَد رضي الله عنه. (5) (ف): «عبرت». (6) (ف، ك): «ففتح».

(الكتاب/219)


الإسلام = الآن نغزوهم ولا يغزونا. ويتوب الله على من يشاء (1) من المسلمين، الذين خالط قلوبَهم مرضٌ أو نفاق، بأن يُنيبوا إلى ربهم ويحسن ظنُّهم في الإسلام، وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوِّهم. فقد أراهم الله من (2) الآيات ما فيه عبرةٌ لأُولي الأبصار، كما قال: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]. فإنّ الله صَرَف الأحزابَ عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصَّبا ــ ريحٍ شديدةٍ باردةٍ ــ وبما فرَّق به بين قلوبهم، حتَّى شَتَّت شَمْلهم، ولم ينالوا خيرًا، إذ كان هِمّتُهم فتح المدينة والاستيلاء على الرسول والصحابة، كما كان همة هذا العدوِّ فتح الشَّام والاستيلاء على من بها من المؤمنين= فرَدَّهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثَّلج العظيم، والبرد الشديد، والرِّيح العاصف، والجزع (3) المزعج، ما الله به عليم. وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام، حتَّى طلبوا الاستصحاء غير مرَّة، وكنا نقول لهم: هذا فيه خِيْرَةٌ عظيمة، وفيه لله حكمة وسرٌّ فلا تكرهوه، وكان (4) من حكمته أنه ــ فيما قيل ــ أصاب غازان وجنودَه حتّى أهلكهم. وهو كان ــ فيما قيل ــ سبب رحيلهم، _________ (1) (ف، ك): «شاء». (2) (ك): «أراهم من». (3) كذا بالأصل، وفي (ق، ف، ك): «الجوع». (4) (ق): «تكرهونه ... »، (ف): «فكا»، (ك): «فكان».

(الكتاب/220)


وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه (1) ممّن يفرّ عن طاعته وجهاد عدوِّه. وكان مبدأُ رحيل غازان فيمن معه من أرض الشام وأراضي (2) حلب يوم الاثنين، حادي عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر (3) واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه، فلمّا ثبَّت الله قلوبَ المسلمين صرف العدوَّ، جزاءً ومنَّةً (4)، وبيانًا أنّ النية الخالصة والهمَّة الصَّادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل، وإن تباعدت الدِّيار. وذكر أنَّ الله تعالى فرَّق بين قلوب هؤلاء المُغْل والكرْج وألقى بينهم تباغضًا وتعاديًا، كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان، وبين اليهود. كما ذكر ذلك أهل المغازي (5). فإنّه لم (6) يتَّسع هذا المكان لأنْ نَصِفَ فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك، كما (7) ذكره أهل المغازي، مثل عروة بن الزبير، والزُّهريِّ، وموسى بن عُقبَة، وسعيد بن يحيى الأموي، ومحمد بن عائذ، ومحمد بن إسحاق، والواقدي، وغيرهم. _________ (1) (ق): «وحكمته». (2) (ك): «أراضي»، (ف): «إلى أراضي». (3) بعده في (ف): «عقيب الأسكر»، و (ك): «عقيب العسكر». (4) في غير الأصل: «جزاءً مِنْه ... ». (5) انظر «السيرة النبوية»: (ق 2/ 3/230 - 231) لابن هشام. (6) سقطت من (ف). (7) (ف، ك): «كما قد».

(الكتاب/221)


ثم تبقّى بالشام (1) بقايا، سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم، مضافًا إلى عسكر حماة وحلب، وما هنالك. وثبت المسلمون بإزائهم، وكانوا أكثر من المسلمين بكثير، لكن في ضعف شديد، وتقرّبوا [ق 66] إلى حماة وأذلَّهم الله تعالى، فلم يَقْدموا على المسلمين قط، وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم، فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار، كما كان قد جرى (2) في غزوة الخندق، حيث قَتَل عليُّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ فيها عَمْرو بن عبد وُدٍّ العامريَّ لما اقتحم الخندق هو ونفرٌ قليل من المشركين. كذلك صار يتقرَّبُ بعضُ العدوّ فيكسرهم المسلمون، مع كون العدوِّ المتقرِّب أضعافَ من قد يسري (3) إليه من المسلمين، وما من مرّة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين (4)، وساق المسلمون خلفهم في آخر النوبات، فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات، وبعضهم في جزيرةٍ فيها، فرأوا أوائلَ المسلمين فهربوا منهم وخالطوهم، وأصاب المسلمون بعضَهم (5). وكان عبورهم وخلوّ الشام منهم في أوائل رجب، بعد أن جرى ما بين عبور غازان أوَّلًا وهذا العبور رَجَفات ووَقَعات صغار، وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرّة لأجل الغزاة، لمّا بلغنا أنّ المسلمين يريدون غَزْوَ الذين _________ (1) (ق، ف): «تبقى منهم ... »، (ك): «تبقى بالشام منهم». (2) (ق، ك): «كما قد كان يجري». (3) (ف، ك): «سرى». (4) (ف، ك): «مستظهرون». وكتب في هامش (ك): لعله «مستظهرين». (5) بعده في بقية النسخ: «وقيل: إنه غرق بعضهم».

(الكتاب/222)


بقوا، وثبت بإزائهم المقدَّم الذي بحماة ومن معه من العَسْكر، ومن أتاه من مَدَد (1) دمشق، وعزموا على لقائهم، ونالوا أجرًا عظيمًا. وقد قيل: إنهم كانوا عدة طمانات (2)، إما ثلاثة، أو أربعة، وكان من المقدَّر أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يُلْقِي في قلوب عدوِّهم الرُّعبَ فيهربون، لكن أصابوا من البُليدَات (3) بالشَّمال مثل تيزين (4)، والفُوعة، ومعرَّة مَصْرِين، وغيرها ما لم يكونوا وَطِئوه في العام الماضي. وقيل: إنَّ كثيرًا من تلك البلاد كان فيهم مَيلٌ إليهم بسبب الرَّفض، وأنَّ عند بعضهم قرابين (5) منهم، لكن هؤلاء ظَلَمة، ومَنْ أعان ظالمًا بُلي به، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]. وقد ظاهروهم (6) على المسلمين: الذينَ كفروا من أهل الكتاب، من أهل سيس (7) والإفرنج. فنحن نرجو من الله أن يُنْزِلَهم من صياصيهم ــ وهي _________ (1) ليست في (ف، ك). (2) كذا بالأصل، وفي (ق): «ظمانات»، و (ك): «لحمانات»، وفي «الفتاوى»: (28/ 465): «كمانات». (3) (ف): «البلدان». (4) بالأصل: «تبريز»، و (ق): «نرامين» كلاهما تحريف. وكلّها من قرى حلب. انظر «معجم البلدان»: (2/ 66، 4/ 280، 5/ 155) على التوالي. (5) كذا في الأصل و (ق)، وفي (ف، ك): «فرامين» ولعله الأنسب، والفرامين جمع فرمان، وهو المرسوم السلطاني. انظر «معجم المصطلحات والألقاب التاريخية» (ص 338). (6) (ف، ك): «ظاهرهم». (7) سيسة وعامة أهلها يقولون: سيس. كانت من أعظم مدن الثغور الشامية بين أنطاكية وطرسوس. «معجم البلدان»: (3/ 297). وقال شيخ الإسلام ــ عن طرسوس وهي بأرض سيس ــ في «مجموع الفتاوى»: (13/ 183): «وكانت إذ ذاك أعظم ثغور بغداد ومن أعظم ثغور المسلمين، يقصدها أهل الدين من كل ناحية ويرابطون بها، رابط بها الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والسّرِيّ السقطي، وغيرهما، وتولى قضاءها أبو عبيد، وتولى قضاءها أيضًا صالح بن أحمد بن حنبل، ولهذا ذُكِرت في كتب الفقه كثيرًا، فإنها كانت ثغرًا عظيمًا».

(الكتاب/223)


الحصون، ويقال للقرون: الصياصي ــ ويقذفَ في (1) قلوبَهم الرُّعبَ، وقد فعل. ويفتح (2) الله تلك البلاد، ونغزوهم إن شاء الله تعالى، فَنَفْتَح (3) أرض العراق وغيرها، وتعلو كلمةُ الله ويظهر دينُه. فإنّ هذه الحادثة كان فيها أمورٌ عظيمة جازت حدَّ القياس. وخَرَجت عن سَنَن العادة، وظهر لكلِّ ذي عقلٍ من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه (4) الأمة، وحفظه للأرض (5) التي بارك فيها للعالمين، بعد أن كاد الإسلام أن (6)، _________ (1) «في» سقطت من (ك). (2) (ف، ك): «الرعب وقد فتح». (3) (ف، ك): «فيفتح». (4) (ف، ك): «لهذه». (5) (ق): «الأرض». (6) بعده في (ف، ك) بياض بمقدار كلمة، وكذا بعد قوله: «يلووا على» في (ف). وهذا اجتهاد من النسّاخ ظنًّا منهم أن كلمةً سقطت من النص، وإلى ذلك أشار ناسخ (ك) في هامش نسخته. وليس كذلك، بل هو من باب حذف الخبر إذا كان معلومًا، وهو أبلغ في الكلام، ليذهب في تقديره كلّ مذهب. كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}. انظر: «خزانة الأدب»: (11/ 46). فتقدير الكلام: بعد أن كاد الإسلام أن يضعف أو يضمحل ... ومثلها في التقدير ما بعدها.

(الكتاب/224)


وكرَّ (1) العدوُّ كرَّةً فلم يَلْوِ عن، وخُذِلَ الناصرون فلم يلووا على، وتحيَّر السائرون فلم يدروا مِنْ ولا إلى، وانقطعت الأسبابُ الظاهرة، وأهطعت الأحزابُ القاهرة، وانصرفت الفئةُ الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الصابرة، وأيقنت (2) بالنصر القلوبُ الطاهرة، واستنجزت من الله وعدَه للعصابة (3) المنصورة الظاهرة. ففتحَ الله أبوابَ سماواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحقّ آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله. وثبّت لواء الدين بقوّته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر [ق 67] والنفاق، وجعل ذلك آيةً للمؤمنين إلى يوم التلاق. فالله تعالى يُتمُّ هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطُّغْيان، ويجعل هذه المِنَّة الجسيمة مَبْدأً لكلِّ منحةٍ كريمة، وأساسًا (4) لإقامةِ الدعوة النبوية القويمة، ويشفي صدور المؤمنين من أعدائهم (5)، ويمكِّنهم من دانيهم وقاصيهم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على (6) محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا (7). _________ (1) كذا في النسخ، ورسمها في الأصل «ركز». (2) (ف، ك): «الناصرة وأيقن»، (ق): «وأيقن». (3) (ك): «العصابة». (4) (ق): «وأمنًا شاملًا». (5) (ف، ك): «أعاديهم». (6) (ف، ك): «على سيدنا». (7) ليست في (ف).

(الكتاب/225)


قال الشيخ (1) رحمه الله: كتبتُ أوّل هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده، لما رجعت من مصر في جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد، ثمّ لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم، وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتّى جاءنا الخبرُ بانصراف المتبقين منهم، فكملته في رجب (2). *** قلتُ: وفي أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمائة كانت وقعة شَقْحَب (3) المشهورة، وحصل للناس شدَّة عظيمةٌ، وظهر فيها من كرامات الشيخ، وإجابة دعائه، وعظيم جهاده، وقوّة إيمانه، وفَرْطِ (4) نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته= ما يفوق النعت، ويتجاوز الوصف. ولقد قرأتُ بخطِّ بعض أصحابه ــ وقد ذكر هذه الوَقْعة (5)، وكثرة من حَضَرها من جيوش المسلمين ــ قال: واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقيّ الدين ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتّعظوا بمواعظه، وسأله بعضُهم مسائل في أمر الدِّين، ولم يبق من ملوك الشام تركيٌّ ولا عربيٌّ إلا _________ (1) (ف، ك): «قال المؤلف» أي ابن تيمية. (2) بعده في (ف، ك): «والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف خلقه (ك: الخلق محمد) وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين». (3) شقحب: قرية جنوب غربي دمشق، على بعد 40 كيلًا تقريبًا. (4) (ف، ك): «وشدة». (5) (ك): «الواقعة». وكلام هذا الصاحب من هنا إلى (ص 233).

(الكتاب/226)


واجتمع بالشيخ في تلك المدّة (1)، واعتقد خيرَه وصلاحَه ونصحَه لله ولرسوله وللمؤمنين. قال: ثم ساق الله ــ سبحانه ــ جيش الإسلام العَرَمْرَم المصريِّ، صحبةَ أمير المؤمنين والسلطان الملك الناصر، وولاة الأمر (2)، وزعماء الجيش، وعظماء المملكة، والأمراء المصريين عن آخرهم، بجيوش الإسلام= سَوقًا حثيثًا للقاء التتار المخذولين، فاجتمع الشيخ المذكور بالخليفة والسلطان، وأرباب الحلِّ والعقد، وأعيان الأُمراء عن آخرهم (3). وكلُّهم (4) بمَرْجِ الصُّفَّر قِبْليَّ دمشق المحروسة، وبينهم وبين التتار أقل من مقدار ثلاث ساعات مسافةً. ودار بين الشيخ المذكور وبينهم ما دار بينه وبين الشاميين، وكان منهم وبينهم كأحد (5) أعيانهم. واتفق له من اجتماعهم مالم يتفق لأحد قبله من أبناء جنسه، حيث اجتمعوا بجملتهم في مكانٍ واحدٍ في يومٍ واحد، على أمرٍ جامعٍ لهم وله، مهمٍّ عظيمٍ يحتاجون (6) فيه إلى سماع كلامه. هذا توفيقٌ عظيم كان من الله تعالى له، لم يتفق لمثله. _________ (1) (ق): «تلك هذه المدة»! (2) (ب، ق): «والأمراء» بدل «ولاة الأمر». (3) «بجيوش ... آخرهم» سقط من (ف). (4) (ق): «وكلمهم». (5) «وبينهم» من بقية النسخ. (ك): «ما دار بين الشاميين وبينه، وكان بينهم ومعهم كأحد ... ». (ب، ق): «وكان معهم ... ». (6) (ق): «منهم يحتاجون».

(الكتاب/227)


وبقي الشيخ المذكور هو وأخوه وأصحابه ومن معه من الغزاة قائمًا بظهوره وجهاده ولأْمَةِ حَرْبه، يوصي الناس بالثبات، ويَعِدُهم النصرَ (1)، ويُبشِّرهم بالغنيمة والفوز بإحدى الحُسنيين، إلى أن صدق الله وعدَه، وأعزَّ جندَه، وهزمَ التتارَ وحدَه، ونصر المؤمنين، وهُزِمَ الجمعُ وولَّوا الدُّبر، وكانت (2) كلمة الله العُليا، وكلمة الكفار السُّفلى، وقُطِع دابرُ [ق 68] القوم الكفار، والحمد لله ربِّ العالمين. ودخل جيشُ الإسلام المنصور إلى دمشق المحروسة، والشّيخُ في أصحابه شاكًّا (3) في سلاحه، داخلًا معهم، عاليةً كلمتُهُ، قائمةً حُجَّتُه، ظاهرةً ولايتُه، مقبولةً شفاعتُه، مجابةً دعوتُه، مُلْتَمَسَةً بركتُه، مُكرَّمًا مُعَظّمًا، ذا سلطانٍ وكلمةٍ نافذةٍ. وهو مع ذلك يقول للمدّاحين (4) له: أنا رجلُ مِلَّةٍ، لا رجُلُ دولةٍ. ولقد أخبرني حاجبٌ من الحُجّاب الشاميين، أميرٌ من أمرائهم، ذو دينٍ متين، وصدق لهجةٍ، معروفٌ في الدولة قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء، ونحن بمَرْج الصُّفَّر، وقد تراءى الجمعان: يا فلان الدِّين (5)، أوقِفْني موقفَ (6) الموت. _________ (1) (ف، ك): «بالنصر». (2) (ب، ق): «وكان». (3) (ب، ق): «والشيخ وأصحابه»، وفي هامش (ك): «شاكيًا». (4) (ب، ق): «للمداخلين». (5) (ب، ق): «فلان» بدون «يا». و (ط) حذف «الدين» لظنه أنها لا معنى لها، وليس كذلك. (6) (ق): «في موقف».

(الكتاب/228)


قال: فسُقْتُه إلى مقابلة العدوّ، وهم مُتحدّرون (1) كالسّيل، تلوحُ أسلحتُهم (2) من تحت الغبار المنعقد عليهم. ثم قلت له: يا سيدي! هذا موقف الموت، وهذا العدوّ قد أقبل تحت هذه الغَبَرة المنعقدة، فدونك وما تريد. قال: فرفع طَرْفَه إلى السماء، وأشخصَ بصرَه (3)، وحرّك شفتيه طويلًا، ثم انبعثَ وأقدم على القتال. وأما أنا فخُيِّل إليَّ (4) أنّه دعا عليهم، وأنّ دعاءه استُجيب منه في تلك الساعة. قال: ثم أحال (5) القتال بيننا والالتحام، وما عدتُ رأيتُه، حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير، عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين تلك الساعة، وكان آخر النهار. قال: وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما، تحريضًا على القتال، وتخويفًا للناس من الفرار. فقلت له: يا سيدي! لك البشارةُ بالنصر، فإنّه قد فتح الله ونصر، وهاهم التتار محصورون بهذا السّفْح، وفي غدٍ ــ إن شاء الله ــ يُؤخَذون عن آخرهم. _________ (1) (ب، ق): «منحدرون»، (ف، ك): «متحدون». (2) (ق): «أسلاحتهم». (3) (ب، ق): «ببصره». (4) (ف): «لي». (5) كذا في النسخ، ولعلها: «حال» أي: منع. أما «أحال» فمعناها: تحوّل.

(الكتاب/229)


قال: فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ودعا لي في ذلك الموطن دعاءً (1) وجدت بركته في ذلك الوقت وبعده. هذا (2) كلام الأمير الحاجب. قال (3): ثمّ لم يزل الشيخ بعد ذلك على زيادةٍ في الحال والقال والجاه، والتعمُّق (4) والتحقيق في العلم والعرفان، حتّى حرَّك الله عَزَمات نفوس ولاةِ الأمر لقتال أهل جبل كسروان. وهم الذين بَغَوا وخرجوا على الإمام، وأخافوا السَّبيل (5)، وعارضوا المارّين بهم من الجيش بكلِّ سوء. فقام الشيخ في ذلك أتمّ قيام (6)، وكتبَ إلى أطراف الشام في الحثّ على قتال المذكورين، وأنها غَزاةٌ في سبيل الله. ثم تجهّز هو بمن (7) معه لغزوهم بالجبل، صُحْبَةَ وليّ الأمر نائب المملكة (8) المعظّمة ــ أعزّ الله نصره ــ والجيوش الشامية المنصورة، وما زال _________ (1) (ب، ق): «بدعاء». (2) (ف): «فهذا». (3) ليست في (ك). والقائل هو صاحب الشيخ تقي الدين الذي بدأ كلامه (ص 228). (4) ليست في (ك). (5) (ف، ك): «السبل». (6) «أتمّ قيام» ليست في (ف). (7) (ق): «ومن». (8) (ب، ق): «السلطنة»، وفي (ق) كتب فوق «نائب»: (الأفرم). وكان نائب السلطنة آنذاك: جمال الدين آقُش الأفرم الجركسي، تولى عدّة مناصب منها نيابة دمشق، وحُمِدت فيها ولايته، (ت بعد 720). انظر «أعيان العصر»: (1/ 561 - 572)، و «الدرر الكامنة»: (1/ 396 - 398).

(الكتاب/230)


مع وليِّ الأمر في حصارهم وقتالهم، حتّى فتح الله الجبل وأجلى أهله. وكان من أصعب الجبال مسلكًا، وأشقِّها (1) ساحة. وكانت الملوكُ المتقدِّمة لا تُقْدِم على حصاره، مع علمها بما أهله عليه من البغي والخروج على الإمام والعصيان (2)، وليس إلاّ لصعوبة المسلك، ومشقّة النزول عليهم. وكذلك لما حاصرهم بَيْدَرَا (3) بالجيش رحلَ عنهم، ولم ينل منهم (4) منالًا، لذلك السبب ولغيره، وذلك عقيب [ق 69] فتح قلعة الروم، ففتحه (5) الله على يدي وليّ الأمر، نائب الشام المحروس ــ أعزّ الله نصره ــ. وكان فتحُه أحدَ المكرمات والكرامات المعدودة (6) بسببين (7) ــ على ما يقوله الناس ــ: أحدهما: لكون أهل هذا الجَبَل بُغاةً رافضة (8) سبّابة، تَعَيّن قتالُهم. _________ (1) «مسلكًا» ليست في (ك). و «أشقها» تحتمل في (ق) «وأمنعها». (2) «والعصيان» من بقية النسخ. (3) بَيْدَرا: بفتح الباء الموحّدة وسكون الياء آخر الحروف ودال مهملة وبعدها راء وألف مقصورة. الأمير سيف الدين العادلي، وكان من الأمراء بدمشق (ت 714). انظر «أعيان العصر»: (2/ 97)، و «الدرر الكامنة»: (1/ 513). (4) (ف): «ولم منهم». (5) (ف): «فتحه». (6) بعده في بقية النسخ «للشيخ». (7) (ب، ق): «بشيئين». (8) (ب، ق): «ورافضة».

(الكتاب/231)


والثاني: لأنّ أهل (1) جبل الصالحية لمّا استولت الرافضةُ عليه (2) ــ في حال استيلاء الطاغية غازان ــ أشار بعض كُبرائهم بنهب الجبل، وسَبْي أهله وقَتْلهم وحَرْق (3) مساكنهم، انتقامًا منهم لكونهم سُنّة، وسمّاهم ذلك المُشير: نواصب (4). فكان (5) ما كان من أمر جبل الصالحية بذلك القول، وتلك الإشارة. قالوا: فكوفئ الرافضةُ بمثل ذلك، بإشارةِ كبير من كبراء أهل السنة، وزنًا بوزنٍ، جزاءً على يد وليِّ الأمر وجيوش الإسلام، والمشير المذكور هو (6) الشيخُ المشارُ إليه. ولمّا فُتِحَ الجبلُ، وصار الجيشُ بعد الفتح إلى دمشق المحروسة، عكف خاصُّ الناس وعامُّهم على الشيخ بالزيارة له، والتسليم له (7)، والتهنئة بسلامته، والمسألة له منهم عن كيفية الحِصار للجبل، وصورة قتالِ أهله، وعمّا وقع بينهم وبين الجيش من المراسلات وغيرها؟ فحكى الشيخ ذلك. _________ (1) «أهل» ليست في (ف، ك). (2) «عليه» ليست في (ق، ف، ك). (3) (ق، ف، ك): «وحريق». (4) (ق): «انتقامًا لكونهم ... وسماهم نواصب»، (ك): «انتقامًا لكونهم سنية ... ». (5) الأصل: «كان»، و (ب): «وكان». (6) (ف، ك): «وهو». (7) (ب، ق): «وعامتهم ... »، وفي بقية النسخ: «والتسليم عليه».

(الكتاب/232)


وحكى أيضًا أنّه تجادل معه (1) كبيرٌ من كبراءِ أهلِ جبل كسروان، له (2) اطلاع على مذهب الرافضة. قال: وكان الجدلُ والبحثُ في عصمة الإمام وعدم عصمته، وفي أنّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ معصومٌ من الكبائر والصغائر (3)، في كلِّ قولٍ وفعل ــ هذه (4) دعوى الجَبَلي ــ وأنَّ الشيخَ حاجَّه في أنَّ العصمة لم تثبُت إلاّ للأنبياء ــ عليهم السلام ــ. قال: وإنّني قلتُ له: إنَّ عليًّا وعبدالله بن مسعود اختلفا في مسائل وقعت، وفتاوى أفتيا (5) بها، وأنّ تلك الفتاوى والمسائل عُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصوَّب فيها قولَ ابنِ مسعود ــ رضي الله عنه ــ. هذا معنى كلام الشيخ في حديثه عن المجادلة مع الرافضيِّ الجبليِّ، وإن اختلفت العبارة. انتهى ما ذكره. وكان توجُّه الشيخِ تقيِّ الدِّين إلى الكسروانيين في مُسْتَهَلِّ ذي الحجة من سنة أربعٍ وسبعمائة، وصحبته الأمير قراقوش (6)، وتوجَّه نائبُ السلطنة _________ (1) (ف): «مع». (2) (ب): «وأنّ له». (3) (ك): «الصغائر والكبائر». (4) (ف): «كل وقت»، (ف، ك): «وهذه». (5) (ف، ك): «أفتى». (6) هو: بهاء الدين قراقوش المنصوري. له ترجمة مقتضبة في «أعيان العصر»: (4/ 100 - 101) للصفدي.

(الكتاب/233)


الأميرُ جمالُ الدين الأفرم بمن تأخَّر من عسكر دمشق إليهم، لغزوهم واستئصالهم في ثاني شهر المحرَّم من سنة خمسٍ وسبعمائة (1). وكان قد توجّه قبله العَسْكَرُ، طائفة بعد طائفة في ذي الحجة. في (2) يوم الخميس سابع عشر صَفَر (3) وصَلَ النائبُ والعسكرُ معه إلى دمشق، بعد أن نصرهم الله على حزب الضُّلاَّل من الروافض والنُّصَيرية وأصحاب العقائد الفاسدة، وأبادهم اللهُ من تلكَ الأرض، والحمدُ لله ربِّ العالمين. _________ (1) «وسبعمائة» ليست في (ب، ق، ف). (2) «في» من بقية النسخ. (3) ليس في (ك).

(الكتاب/234)


[رسالة الشيخ إلى الملك الناصر] (1) ثمّ إنّ الشيخ ــ رحمه الله ــ بعد وقعة جبل كسروان أرسل رسالة إلى السلطان الملك الناصر، يذكر فيها ما أنعم الله على السلطان وعلى أهل الإسلام، بسبب فتوح الجبل المذكور. وهي هذه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من الداعي أحمد ابن تيمية إلى سلطان المسلمين، ومن أيّد الله في دولته الدين، وأعزّ (2) بها عباده المؤمنين، وقمع فيها الكفار والمنافقين والخوارج المارقين، نصره الله ونصر به الإسلام، وأصلح له وبه أمور الخاص والعام، وأحيا به معالم الإيمان، وأقام به شرائع القرآن، وأذلّ به أهل الكفر والفسوق والعصيان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإنّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كلّ شيء قدير. ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين، وإمام المتقين محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. أمّا بعد، فقد صدق الله وعده، ونصر عبدَه، وأعزَّ جُندَه، وهزم الأحزابَ _________ (1) هذه الرسالة ليست في الأصل و (ب، ق)، بل هي ملحقة في آخر نسخة الأصل. وهي في (ف، ك، ح، د). والعنوان من هامش (ف). وقد أشار إليها المؤلف (ص 85). وهي ضمن «مجموع الفتاوى»: (28/ 398 - 409). (2) (ك): «أعز».

(الكتاب/235)


وحده. وأنعم الله على السلطان، وعلى المؤمنين في دولته نعمًا لم تُعهد في القرون الخالية. وجُدِّد الإسلام في أيامه تجديدًا بانت فضيلته على الدول الماضية. وتحقّق في ولايته خبر الصادق المصدوق، أفضل الأولين والآخرين، الذي أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوس المئين، والله تعالى يُوزِعُهُ والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين، ويُتِمُّها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين. وذلك أنّ السلطان ــ أتمَّ الله نعمته ــ حصل للأمة بيُمنِ ولايته وحُسْن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته، وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدّين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته = ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين، من جهاد أعداء الله المارقين من الدين، وهم صنفان: أهل الفجور والطغيان، وذوو الغَيِّ والعدوان، الخارجون عن شرائع الإيمان، طلبًا للعلوّ في الأرض والفساد، وتركًا لسبيل الهدى والرشاد. وهؤلاء هم التتار، ونحوهم من كل خارج عن شرائع الإسلام وإن تمسَّك بالشهادتين، أو ببعض سياسة الأنام (1). والصنف الثاني (2): أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون، الخارجون عن السنة والجماعة، المفارقون للشِّرْعَة والطاعة. مثل هؤلاء الذين غُزُوا بأمر السلطان من أهل الجبل، والجرد، والكسروان. فإنّ ما منَّ الله _________ (1) (ط): «الإسلام». (2) (ف، ك): «الباقي»، وفي هامش (ف): «الثاني».

(الكتاب/236)


به من الفتح والنصر على هؤلاء الطَّغَام، هو من عزائم (1) الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام. وذلك أنَّ هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين، فإن اعتقادهم: أنَّ أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بَدْر وبَيْعة الرِّضوان، وجمهور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الإسلام وعلماءَهُم، أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومشايخ الإسلام وعُبَّادهم، وملوك المسلمين وأجنادهم، وعوامَّ المسلمين وأفرادهم. كل هؤلاء عندهم كُفَّار مرتدُّون، أكفر من اليهود والنصارى؛ لأنهم مُرتدّون عندهم، والمرتدُّ شَرٌّ من الكافر الأصلي. ولهذا السبب يُقدِّمون الفرنج والتتار على أهل القرآن والإيمان. ولهذا لمّا قَدِم التتار إلى البلاد، فعلوا (2) بعسكر المسلمين ما لا يحصى من الفساد، وأرسلوا إلى أهل قُبْرُس (3) فملكوا بعض الساحل، وحملوا راية الصَّليب، وحملوا إلى قبرس من خيل المسلمين وسلاحهم وأسْراهم ما لا يُحصي عَدَدَه إلا الله، وأقام سوقهم بالساحل عشرين يومًا يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرس، وفرحوا بمجيء التتار، هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون، مثل أهل جِزِّين (4) وما حواليها، وجبل _________ (1) (ف): «عظائم». (2) (ف): «وفعلوا». (3) قُبْرُس: جزيرة في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط، بها دولة قائمة الآن، أغلب سكانها من اليونان والأتراك. وانظر «معجم البلدان»: (4/ 305). (4) أحد أقاليم مدينة صيدا في لبنان، أهلها مشهورون بالرفض. انظر «نزهة المشتاق»: (ص 119)، و «توضيح المشتبه»: (3/ 237).

(الكتاب/237)


عاملة (1) ونواحيه. ولما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية، ظهر فيهم من الخزي والنكال ما عرفه الناس منهم. ولما نصر الله الإسلام النُّصرة العظمى عند قدوم السلطان، كان بينهم شبيه بالعزاء. كل هذا، وأعظم منه، عند هذه الطائفة التي كانت من أعظم الأسباب في خروج جَنكِخان إلى بلاد الإسلام، وفي استيلاء هُولاكو على بغداد، وفي قدومه إلى حلب، وفي نَهْب الصَّالحية (2)، وفي غير (3) ذلك من أنواع العداوة للإسلام وأهله؛ لأن عندهم أَنّ كلّ من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد. ومن استحلّ الفُقَّاع (4) فهو كافر. ومن مسح على الخُفّين فهو عندهم كافر. ومن حَرَّم المتعة فهو عندهم كافر. ومن أحبَّ أبا بكْر أَو عمر، أَو عثمان، أو ترضَّى عنهم أو عن (5) جماهير الصحابة، فهو عندهم كافر. ومن لم _________ (1) جبل عاملة أو عامل بحذف تاء التأنيث تخفيفًا، وعاملة نسبة إلى قبيلة عاملة بن سبأ اليمانية: جبل كبير قرب صيدا في جنوب لبنان، فيه بلدات وقرى عديدة، وغالب من يسكنه من الشيعة الإمامية. انظر «خطط جبل عامل» لمحسن الأمين. (2) انظر «تاريخ الإسلام»: (52/ 81 - 82) للذهبي، و «البداية والنهاية»: (17/ 730)، وما سبق (ص 233). (3) (ف): «وغير». (4) «الفُقَّاع» كرُمَّان. شراب يُتخذ من الشعير يُخمّر حتى تعلوه فقاعاته. انظر «لسان العرب» (8/ 256). وانظر جواب الشيخ في جواز شربها لأنها غير مسكرة في «الفتاوى»: (35/ 210). (5) (ف): «وعن».

(الكتاب/238)


يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر (1)! وهذا المنتظر صبيٌّ (2) عمره سنتان، أو ثلاث، أو خمس. يزعمون أنه دخل السِّرداب بسامرَّاء من أكثر من أربعمائة سنة. وهو يعلم كلّ شيء، وهو حجّة الله على أهل الأرض، فمن لم يؤمن به فهو عندهم كافر. وهو شيء لا حقيقة له. ولم يكن هذا في الوجود قط. وعندهم من قال: إن الله يُرى في الآخرة فهو كافر. ومن قال: إن الله تكلَّم بالقرآن حقيقة فهو كافر. ومن قال: إن الله فوق السموات فهو كافر، ومن آمن بالقضاء والقدر وقال: إن الله يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء، وأن الله يُقلِّب قلوب عباده، وأن الله خالقُ كلِّ شيء فهو عندهم كافر. وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله فهو عندهم كافر. هذا هو المذهب الذي تُلقِّنُهُ لهم أئمتهم، مثل بني العُود. فإنهم شيوخ أهل هذا الجبل. وهم الذين كانوا يأمرونهم بقتال المسلمين. ويُفتونهم بهذه الأمور. وقد حصل بأيدي المسلمين طائفة من كتبهم تصنيف ابن العُود (3) _________ (1) انظر «منهاج السنة»: (3/ 269). (2) تكررت في (ف). (3) هو: أبو القاسم بن الحسين بن العود الحلّي المتكلم شيخ الشيعة (ت 677 أو بعدها). قال الذهبي في «تاريخه»: (50/ 337): «قدم حلب وتردد إلى الشريف عز الدين مرتضى نقيب الأشراف، فاسترسل معه يومًا، ونال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فزبره النقيب وأمر بجرّه بين يديه، وأُرْكِب حمارًا مقلوبًا، وصُفع في الأسواق. فحدثني أبو الفضل بن النحاس الأسدي: أن فاميًّا نزل من حانوته وجاء إلى مزبلة، فاغترف غائطًا ولطخ به ابن العود. وعظم النقيب عند الناس، وتسحب ابن العود من حلب. ثم إنه أقام بقرية جزين مأوى الرافضة، فأقبلوا عليه وملكوه بالإحسان». وانظر «البداية والنهاية»: (17/ 556).

(الكتاب/239)


وغيره. وفيها هذا وأعظم منه. وهم اعترفوا لنا بأنهم الذين علَّموهم وأمروهم، لكنهم مع هذا يُظهرون التّقيَّة والنفاق، ويتقرَّبون ببذل الأموال إلى من يقبلها منهم. وهكذا كان عادة هؤلاء الجَبَلِيَّة، فإنما أقاموا بجَبَلهم لما كانوا يظهرونه من النفاق ويبذلونه من البِرْطِيل (1) لمن يقصدهم. والمكان الذي لهم في غاية الصعوبة. ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله؛ ولهذا كثر فسادُهم؛ فقتلوا من النفوس وأخذوا من الأموال ما لا يعلمه إلا الله. ولقد كان جيرانهم من أهل البقاع وغيرها معهم في أمر لا يُضْبط شرُّه، كل ليلة تنزل (2) عليهم منهم طائفة، ويفعلون من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. وكانوا في قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عُرِفت من أهل الجنايات، يرد إليهم النصارى من أهل قبرس فيضيفونهم _________ (1) البرطيل: الرشوة. وقد شرحه شيخ الإسلام في «السياسة الشرعية»: (ص 91 - بتحقيقي) قال: «وأصل البرطيل هو الحجر المستطيل، سميت به الرشوة لأنها تلقم المرتشي عن التكلم بالحق كما يلقمه الحجر الطويل، كما قد جاء في الأثر: إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكُوَّة. يعني الطاقة». وانظر في تعليقي فائدة في أول من أظهر البرطيل بالشام. (2) (ف): «ينزل».

(الكتاب/240)


ويعطونهم سلاح المسلمين، ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين؛ فإما أن يقتلوه أو يسلبوه، وقليل (1) منهم من يفلت منهم بالحيلة. فأعان الله ويَسَّرَ، بحسن نية السلطان، وهِمَّته في إقامة شرائع الإسلام، وعنايته بجهاد المارقين أن غزوا غزوة شرعية، كما أمر الله ورسوله، بعد أن كُشِفَت أحوالهم، وأُزِيحَت عللهم، وأُزِيلَت شُبْهتهم (2)، وبُذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبُيِّن لهم أن غزوهم اقتداء بسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتاله الحروريَّة المارقين، الذين تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بقتالهم، ونَعْت حالهم من وجوه متعددة. أخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه: من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخُدْري، وسَهْل بن حُنَيف، وأبي ذَرٍّ الغِفَاري، ورافع بن عَمرو، وغيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال فيهم: «يَحْقِر أحدُكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يُجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرُق السهم من الرَّميَّة، لئن أدْرَكتُهم لأقتلنَّهم قتلَ عاد، لو يعلم الذين يُقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - لاتَّكلوا (3) عن العمل، يقتلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، _________ (1) سقطت من (ف). (2) سقطت من (ف). (3) (ك): «للتَكّلوا»، (ف): «لتكلوا» وكتب فوقها: كذا.

(الكتاب/241)


شرُّ قتلى (1) تحت أديم السَّماء، ـ خير قتلى من قتلوه» (2). وأوّل ما خرج هؤلاء زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وكان لهم من الصلاة والصيام والقراءة والعبادة والزَّهادة ما لم يكن لعموم الصحابة، لكن كانوا خارجين عن سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن جماعة (3) المسلمين. وقتلوا من المسلمين رجلًا اسمه عبد الله بن خبَّاب وأغاروا على دوابِّ المسلمين (4). وهؤلاء القوم كانوا أقلّ صلاةً وصيامًا، ولم نجد في جَبَلهم مصحفًا، ولا فيهم قارئ للقرآن، وإنّما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، وأباحوا بها دماء المسلمين، وهم مع هذا قد سفكوا من الدماء، وأخذوا من الأموال ما لا يحصي عددَه إلاّ الله تعالى. فإذا كان علي بن أبي طالب قد أباح لعسكره أن ينهبوا ما في عسكر الخوارج، مع أنّه قتلهم جميعهم، كان هؤلاء أحقَّ بأخذ أموالهم. وليس هؤلاء بمنزلة المتأوِّلين الذين نادى فيهم علي بن أبي طالب يوم الجمل: «أنّهُ لا يقتل مُدْبِرهم، ولا يُجْهَز على جريحهم، ولا يُغنم لهم مال (5) ولا يُسْبى لهم ذرية» (6)؛ لأنّ مثل أولئك لهم تأويل سائغ، وهؤلاء ليس لهم تأويل _________ (1) (ف): «قتل». (2) أخرجه البخاري (3611)، ومسلم (1066) من حديث علي رضي الله عنه. (3) (ف): «جماعة من». (4) (ك): «للمسلمين». (5) سقطت من (ف). (6) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (38933)، وابن سعد في «الطبقات»: (7/ 94 - 95).

(الكتاب/242)


سائغ، ومثل أولئك إنّما يكون خارجًا (1) عن طاعة الإمام، وهؤلاء خرجوا عن شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وهم شرٌّ من التَّتار من وجوه متعدّدة، لكن التتر أكثر وأقوى، فلذلك ظهر شرُّهم. وكثير من فساد التتر هو لمخالطة هؤلاء لهم، كما كان في زمن قازان وهولاكو وغيرهما، فإنهم أخذوا من أموال (2) المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم، وأرضهم فيءٌ لبيت المال. وقد قال كثيرٌ من السلف: إنّ الرّافضة لا حقَّ لهم من الفيء؛ لأنّ الله إنّما جعل الفيء للمهاجرين والأنصار {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، فمن لم يكن قلبه سليمًا لهم، ولسانه مستغفرًا لهم، لم يكن من هؤلاء (3). وقطعت أشجارهم؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا حاصر بني النضير قطع أصحابُه نخْلَهم وحرَّقوه، فقال اليهود: هذا فساد، وأنت يا محمد تنهى عن الفساد، فأنزل الله في القرآن: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5]. وقد اتّفق العلماء على جواز قطع الشجر، وتخريب العامر عند الحاجة _________ (1) تكررت «يكون» في (ف)، وفي (ط): «يكونون خارجين». (2) سقطت من (ف). (3) انظر «الدر المنثور»: (6/ 293 - 294).

(الكتاب/243)


إليه، فليس ذلك بأولى من قتل النفوس. وما أمكن غير ذلك؛ فإنّ القوم لم يحضروا كلّهم من الأماكن التي اختفوا فيها، وأيسوا من المقام في الجبل إلا حين قُطعت الأشجار، وإلاّ كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم، وما أمكن أن يسكن الجبل غيرهم؛ لأن التركمان إنّما قصدُهم الرَّعي، وقد صار لهم مرعى، وسائر الفلَّاحين لا يتركون عمارة أرضهم ويجيئون إليه. فالحمد لله الذي يسَّر هذا (1) الفتح في دولة السلطان بهمته وعزمه وأمره، وإخلاء الجبل منهم، وإخراجهم من ديارهم. وهم يشبهون ما ذكره الله في قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 2 ــ 5]. وأيضًا فإنَّه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز واليمن والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان، ويُعِزُّ به أهل الإيمان. _________ (1) (ك): «بهذا».

(الكتاب/244)


فصل تمام هذا الفتح وبركته تقدُّم مراسم (1) السلطان بحسم مادّة أهل الفساد، وإقامة الشريعة في البلاد، فإنَّ هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قُرى كثيرة مَنْ يقتدون به وينتصرون (2)، وفي قلوبهم غلٌّ عظيم، وإبطان معاداة شديدة، لا يُؤمَنون معها على ما يمكنهم، ولو أنَّه مباطنة العدوّ، فإذا أمسك رؤوسهم الذين يُضِلونهم ــ مثل بني العُود ــ زال بذلك من الشرّ ما لا يعلمه إلا الله. ويُتقدَّم إلى قُراهم، وهي قُرى متعدّدة بأعمال دمشق، وصَفَد، وطرابلس، وحماة، وحمص (3)، وحلب= بأن يُقام فيهم شرائع الإسلام: الجمعة والجماعة وقراءة القرآن، ويكون لهم خطباء ومؤذِّنون، كسائر قرى المسلمين، وتُقرأ فيهم الأحاديث النبوية، وتُنشر فيهم المعالم الإسلامية، ويُعاقب من عُرِفَ منه البدعة (4) والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام. فإنَّ هؤلاء المحاربين (5) وأمثالهم قالوا: نحن قوم جهال، وهؤلاء كانوا يعلمونا ويقولون لنا: أنتم إذا قاتلتم هؤلاء تكونون مجاهدين، ومن قُتل منكم فهو شهيد. _________ (1) (ف): «مراسيم». (2) (ط): «بهم وينتصرون لهم». (3) (ف): «حمص وحماة». (4) (ط): «منهم بالبدعة». (5) يعني: التتار.

(الكتاب/245)


وفي هؤلاء خلقٌ كثير لا يقرُّون بصلاة، ولا صيام، ولا حجّ ولا عمرة، ولا يُحَرِّمون الميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنّة والنّار، من جنس الإسماعيلية، والنُّصيرية (1)، والحاكميّة، والباطنيّة، وهم كفّار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين. فتقدُّمُ المراسيم السلطانية بإقامة شعائر الإسلام: من الجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، وتبليغ أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في قُرى هؤلاء من أعظم المصالح الإسلامية، وأبلغ الجهاد في سبيل الله. وذلك سبب لانقماع من يُباطن العدوَّ من هؤلاء، ودخولهم في طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي الأمر من المسلمين. وهو من الأسباب التي يعين الله بها على قمع الأعداء. فإنَّ ما فعلوه بالمسلمين في أرض «سيس» (2) نوع من غدرهم الذي به ينصر الله المسلمين عليهم. وفي ذلك لله حكمة (3) عظيمة، ونصرة للإسلام جسيمة. قال ابن عباس: «ما نقض قومٌ العهد إلا أُديل عليهم العدوّ» (4). ولولا هذا وأمثاله ما حصل للمسلمين من العزم بقوّة الإيمان، وللعدوّ من الخذلان، ما ينصر الله به المؤمنين، ويُذلُّ به الكفار والمنافقين. _________ (1) (ف): «النصرانية» خطأ. (2) انظر ما سبق (ص 233). وانظر بعض الأحداث التي جرت في سيس «تاريخ الإسلام»: (43/ 12، 49/ 6) للذهبي. (3) (ف): «ذلك حكمة». (4) أخرجه البيهقي في «الكبرى»: (3/ 346) بنحوه.

(الكتاب/246)


والله هو المسئول أن يُتمَّ نعمته على سلطان الإسلام خاصة، وعلى عباده المؤمنين عامّة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. عنوان الكتاب ظاهره: سلطان المسلمين، ومن أيَّد في دولته الدِّين، وقمع الكفَّار والمنافقين، أَيَّد الله به الإسلام، ونشر عدله في الأنام.

(الكتاب/247)


 [مناظرة الشيخ مع الأحمدية]

وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى (1) من هذه السنة ــ سنة خمسٍ ــ اجتمعَ جماعةٌ من الأحمدية الرِّفاعية (2) عند نائب السلطنة بالقصر، وحضر الشيخ تقيُّ الدِّين، وطلبوا أن يُسَلِّم إليهم حالهم، وأنَّ الشَّيخ تقيَّ الدِّين لا يُعَارضهم ولا يُنكر [ق 70] عليهم، وأرادوا أن يُظْهروا شيئًا ممَّا يفعلونه، فانتدبَ لهم الشيخ، وتكلّم باتباع الشريعة، وأنَّه لا يسعُ أحدًا (3) الخروج عنها بقولٍ ولا فعلٍ (4)، وذكر أنَّ لهم حيلاً يتحيَّلون بها في دخول النَّار، وإخراج الزّبدة من الحلوق. وقال لهم: من أراد دخول النار فليغسل جَسَدَه في الحمام، ثمّ يَدْلكه بالخَلِّ، ثم يدخل (5)، ولو دخل لا يُلتفت إلى ذلك، بل هو نوعٌ من فعل الدجَّال عندنا. وكانوا جمعًا كثيرًا. وقال الشيخ صالح شيخ المُنَيبِع (6): نحن أحوالنا تَنْفُقُ عند التتار ما تنفق _________ (1) (ب، ق): «الأول». (2) (ف): «والرفاعية». (3) (ب، ق، ف): «أحد». (4) (ب، ق): «عنها ولا يفعل». (5) «ثم يدخل»: ليست في (ب، ق). (6) الأصل: «الينبع»، و (ب): «المنيع»، و (ف): «المينبيع»، و (ك): «المنيبيع». والمثبت من (ق) والمصادر. وهي قرية بقرب دمشق، وهي ما كان يعرف بـ «صنعاء دمشق»، ومكانها اليوم جامعة دمشق. انظر «توضيح المشتبه»: (4/ 94)، و «خطط دمشق» (443) للعُلَبي. والشيخ صالح هو الأحمدي الرفاعي، شيخ المنيبع. قال ابن كثير: «كان التتار يكرمونه لما قدموا دمشق، ولما جاء قطلوشاه نائب ملك التتار نزل عنده .. » ثم ذكر عبارته هذه. توفي سنة (707). انظر «البداية والنهاية»: (18/ 77). و «الدرر الكامنة»: (2/ 201 - 202).

(الكتاب/248)


قُدَّام الشَّرْع. وانفصلَ المجلسُ على أنَّهم يخلعون أطواقَ (1) الحديد، وعلى أنَّ من خرج عن الكتاب والسُّنَّة ضُرِبَت عُنُقه (2)، وحَفِظ هذه الكلمة الحاضرون من الأمراء والأكابر وأعيان الدولة. وكتب الشيخُ عقيب هذه الواقعة جزءًا في حال الأحمدية ومبدئهم، وأصل طريقتهم (3)، وذِكْرِ شيخهم، وما في طريقهم من الخير والشرّ، وأوضح الأمرَ في ذلك.

  [ملخص محنة الشيخ بسبب الحموية وما جرى له في مصر]

وقال الذهبيُّ في أثناء كلامه في ترجمة الشيخ (4): ولمّا صنَّف «المسألة الحموية» في الصفات سنة ثمان وتسعين، تحزَّبوا له، وآل بهم الأمرُ إلى أن طافوا بها (5) على قصبة من جهة القاضي الحنفي، ونُودي عليه بأن لا يُسْتَفتى. ثم قام بنصره طائفةٌ آخرون، وسلَّم الله. _________ (1) (ب، ق، ف): «الأطواق». (2) (ف، ك): «رقبته». (3) (ف): «طريقهم». (4) «في ترجمة الشيخ» سقطت من (ف)، وتكرر قوله: «في أثناء كلامه». وكلام الذهبي في «الدرة اليتيمية - ضمن تكملة الجامع»: (ص 42). (5) (ف، ك): «به».

(الكتاب/249)


فلمّا كان سنة (1) خمس وسبعمائة جاء الأمر من مصر بأن يُسأل عن مُعْتقده، فجُمِعَ له القُضاةُ والعلماءُ بمجلس نائب دمشق الأفرم. فقال: أنا كنتُ سُئِلْتُ عن مُعتقد السنَّة (2)، فأجبتُ عنه في جزءٍ من سنين، وطَلَبه من داره، فأُحضِرَ، وقرأه. فنازعوه في موضعين أو ثلاثة منه، وطال المجلس، فقاموا واجتمعوا مرَّتين أيضًا لتتمة الجزء، وحاققوه، ثم وقع الاتفاقُ على أنَّ هذا مُعْتَقدٌ سلفيٌّ جَيِّد. وبعضُهم قال ذلك كُرْهًا. وكان المصريُّون قد سَعَوا في أمر الشيخ، ومالأوا الأمير رُكن الدين الشاشنكير (3) ــ الذي تَسَلْطن ــ عليه، فطُلِب إلى مصر على البريد. فثاني يوم دخوله اجتمعَ القُضاة والفقهاء بقلعة مصر، وانتصبَ ابنُ عَدْلان (4) له خصمًا، وادَّعى عليه عند القاضي ابن مخلوفٍ (5) المالكي: أنَّ _________ (1) (ق، ف، والدرة): «في سنة». (2) (ق، ف، ك، والدرة): «كنت قد .. ». و (ف، ك): «معتقد أهل السنة». (3) هو: بيبرس بن عبد الله المنصوري، ركن الدين. كان من أمراء المماليك، تسلطن بعد خلع الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 708، ولم يطل أمره في الملك فلم يكمل السنة، وأمسكه الملك الناصر وأُحْضِر بين يديه وخَنَقه بوترٍ كان بيده سنة (709). انظر «أعيان العصر»: (2/ 71 - 75)، و «مورد اللطافة فيمن ولي السلطنة والخلافة»: (2/ 59 - 63). (4) هو: محمد بن أحمد بن عثمان، الكناني المصري الشافعي، من الفقهاء، كان مقربًا من الجاشنكير، له شرح على مختصر المزني ــ مخطوط. توفي سنة (749) عن نحو تسعين عامًا. انظر «أعيان العصر»: (4/ 297 - 299). و «الدرر الكامنة»: (3/ 333 - 334). (5) (ك): «ابن مخلوف القاضي». وهو: علي بن مخلوف بن ناهض النُّويري المالكي، ولي القضاء، وعيب عليه قلة العلم، والتسرّع في الأحكام (ت 718). انظر «رفع الإصر»: (2/ 405 - 406)، و «أعيان العصر»: (3/ 543 - 545). وقد قال عنه شيخ الإسلام: إنه قليل العلم والدين. «مجموع الفتاوى»: (3/ 235).

(الكتاب/250)


هذا يقول: إنَّ الله تكلَّم بالقرآن بحرفٍ وصوتٍ، وأنَّه تعالى على العرش بذاته، وأنَّ الله يُشارُ إليه الإشارة الحِسِّيَّة. وقال: أطلبُ عقوبته على ذلك. فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه. فقيل له: أسْرِع، ما أحضرناك لتخْطُب! فقال: أُمْنَع من الثناء على الله؟ ! فقال القاضي: أجِبْ، فقد حمدتَ اللهَ. فسكتَ، فألحَّ عليه. فقال: مَن الحاكم فيَّ (1)؟ فأشاروا له إلى القاضي ابن مخلوف. فقال: أنت خَصْمي، كيف تحكمُ فيَّ؟ وغضبَ وانزعجَ، وأُسْكِتَ القاضي. فأقيمَ الشيخُ وأخواه، وسُجنوا بالجُبِّ بقلعة الجبل، وجرت أمورٌ طويلة. وكُتِبَ إلى الشام كتابٌ سلطانيٌّ بالحطِّ (2) عليه، فقرئ بالجامع، وتألَّم _________ (1) (ب، ق، ف): «فمن الحاكم ... »، و «فيّ» سقطت من (ب، ق). (2) (ك): «بالخط».

(الكتاب/251)


الناسُ له. ثم بقي سنةً ونصفًا، وأُخرج، وكتب لهم ألفاظًا اقترحوها عليه، وهُدِّد أو (1) تُوُعِّد بالقتل إن لم يكتبها (2). وأقام بمصر يُقرئ العلمَ ويجتمع خلقٌ (3) عنده، إلى أن تكلَّم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، وهم ابنُ سبعين وابنُ عربي والقُونويُّ وأشباههُم (4)، فتحزَّب عليه صوفيَّةٌ وفقراءُ، وسعوا فيه، وأنَّه تكلَّم (5) في صفوة الأولياء. فعُمِل له محفل، ثم أخرجوه على البريد، ثم ردُّوه على مرحلةٍ من مصر، ورأوا مصلحَتهم في اعتقاله، فسجنوه في حبس القُضاة سنةً ونصفًا. _________ (1) بقية النسخ: «وهُدّد وتُوعد». (2) في تفصيل هذه الحادثة، وتحرير ما وقع فيها انظر مقدمة «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية ــ ط الثالثة»: (ص 39 - 47). (3) (ك): «عنده خلق». (4) ابن سبعين هو: عبد الحق بن إبراهيم بن محمد الأشبيلي، من متصوّفة الفلاسفة القائلين بوحدة الوجود، له تصانيف في التصوف والفلسفة (ت 669). انظر «تاريخ الإسلام»: (15/ 168). وابن عربي هو: محمد بن علي بن محمد بن عربي الطائي الأندلسي، محيي الدين الحاتمي، يلقب بالشيخ الأكبر، من كبار المتصوّفة القائلين بوحدة الوجود، له تصانيف كثيرة. (ت 638). انظر «تاريخ الإسلام»: (14/ 273). والقونوي هو: محمد بن إسحاق بن محمد، صدر الدين القونوي الرومي، من كبار تلاميذ ابن عربي، تزوّج ابنُ عربيّ أمَّه وربّاه، وله مصنفات كثيرة في التصوف (ت 673). انظر «تاريخ الإسلام»: (15/ 266). (5) (ب، ق): «يتكلم».

(الكتاب/252)


فجعل أصحابُه يدخلون إليه في السِّرِّ، ثم تظاهروا، فأخرجته الدولة على البريد إلى الإسكندرية، وحُبِس ببرج منها، وشِيْع (1) بأنه قتل، وأنَّه غرق، غيرَ مرَّةٍ. فلما عادَ السلطانُ ــ أيَّده الله ــ من الكَرْك، وأبادَ أضْدَادَه، بادر باستحضار الشيخ إلى القاهرة مكرَّمًا. واجتمعَ به وحادَثَه، وسارَّه بحضرة القضاة والكبار، وزادَ في إكرامه. ثم نزلَ وسكنَ في دارٍ، واجتمع بعد ذلك بالسلطان، ولم يكن الشيخ من رجال الدُّوَل، ولا يسلك معهم تلك النواميس، فلم (2) يعد السلطانُ يجتمع به، فلما قَدِمَ السلطانُ لكشف العدو عن الرَّحَبة جاء الشيخُ إلى دمشق سنة اثنتي عشرة وسبعمائة (3). ثم جَرَت أمورٌ ومِحَن. انتهى كلامه. [مفصَّل محنة الشيخ بسبب «الحموية»] وقال الشيخُ عَلَمُ الدين: وفي شهر ربيع الأول من سنة (4) ثمان وتسعين وستمائة وقع بدمشق محنة للشيخ الإمام تقيِّ الدين ابن تيميّة، وكان الشروع فيها من أول الشهر، وظهرت يومَ الخامس منه، واستمرَّت إلى آخر الشهر. وملخَّصُها: أنه كان كتَب جوابًا سُئل عنه من حماة في الصفات، فذكر فيه مذهبَ السلف، ورجَّحَه على مذهبِ المتكلِّمين، وكان قبل ذلك بقليل أنكرَ _________ (1) في الأصول: «وشنع»، والتصحيح من «الدرة اليتيمية - ضمن تكملة الجامع» (ص 44). (2) «الشيخ ... فلم» سقطت من (ف، ك). (3) «وسبعمائة» ليست في بقية النسخ. (4) (ب، ق): «وفي سنة .. ». وانظر «المقتفى»: (2/ 570).

(الكتاب/253)


أمر المنجِّمين، واجتمع بسيف الدين جاغان (1) في ذلك، في (2) حال نيابته بدمشق وقيامه مقام (3) نائب السلطنة. وامتثلَ أمرَه وقَبِلَ قولَه، والتمس منه كثرةَ الاجتماع به. فحصلَ بسبب ذلك ضيقٌ لجماعة، مع ما كان عندهم قبل ذلك (4) من كراهية الشيخ، وتألُّمِهم (5) لظهوره وذِكْره الحَسَن. فانضافَ شيءٌ إلى أشياء، ولم يجدوا مساغًا إلى الكلام فيه، لزهده وعدمِ إقباله على الدنيا، وتركِ المزاحمة على المناصب، وكثرةِ علمه، وجودةِ أجوبته وفتاويه، وما يظهرُ فيها من غزارة العلم (6)، وجَوْدَة الفهم. فعَمَدوا إلى الكلام في العقيدة؛ لكونهم يرجِّحُون مذهبَ المتكلِّمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب. فأخذوا الجوابَ الذي كتبه، وعملوا عليه أوراقًا في ردِّه، ثم سَعَوا السَّعيَ الشديدَ إلى القضاة والفقهاء (7) واحدًا واحدًا. [ق 72] وأَغْرَوا به (8) خواطرَهم، _________ (1) جاغان: هو الأمير سيف الدين جاغان المنصوري الحسامي. قال الذهبي: كان فيه دين وعقل. (ت 700). انظر «تاريخ الإسلام»: (52/ 396) للذهبي. (2) ليست في (ف). (3) (ف، ك): «فقام». (4) «قبل ذلك» ليس في (ب، ق). (5) (ب): «وتأملهم». (6) سقطت من (ق). (7) ليست في (ب). (8) «به» من الأصل فقط.

(الكتاب/254)


وحَرَّفوا الكلامَ، وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم ــ وحاشاه من ذلك ــ وأنَّه قد أوعز (1) ذلك المذهب إلى أصحابه، وأنَّ العوامَّ قد فسدت عقائدُهم بذلك، ولم يقع من ذلك شيء والعياذ بالله! وسَعَوا في ذلك سعيًا شديدًا، في أيامٍ كثيرة المطر والوَحْل والبرد (2). فوافقهم جلالُ الدّين الحنفيُّ ــ قاضي الحنفية يومئذٍ ــ على ذلك، ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفيَّة، وطلب حضورَه، وأرسل إليه، فلم يحضر. وأرسل إليه (3) في الجواب: إنَّ العقائد ليس أمرُها إليك، وإن السلطان إنّما ولاَّك لتحكمَ بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس ممَّا (4) يختصُّ به القاضي. فوصلت إليه هذه الرسالة، فأوْغَروا (5) خاطرَه، وشوَّشوا قلبَه، وقالوا: لم يحضر، وردَّ عليك. فأمرَ بالنِّداء على بطلان عقيدته في البلدة، فأجيب (6) إلى ذلك، فنودي في بعض البلد (7). ثم بادرَ سيفُ الدّين جاغان، وأرسل طائفةً، فضُرِبَ المنادي وجماعةٌ _________ (1) (ق): «أوغر». (2) «في أيام ... والبرد» ليست في (ف)، وفي (ك) تكررت عبارة: «وسعوا ... شديدًا». (3) «وأرسل ... إليه» سقطت من (ب). (4) (ف): «من لم». (5) (ب): «فأوعزوا»، (ف، ك): «فأغروا». (6) المثبت من (ب)، وبقية النسخ: «فأجاب». (7) انظر «الدرة اليتيمية ــ تكملة الجامع»: (ص 42)، و «تاريخ الإسلام»: (52/ 61).

(الكتاب/255)


ممن حولَه، وأخْرَق بهم، فرجعوا مضروبين في غاية الإهانة! ثم طلب سيفُ الدين جاغانُ من قام في ذلك وسعى فيه، فدارت الرسلُ والأعوانُ عليهم في البلد، فاختفوا، واحتمى مُقدَّمهم ببدر الدِّين الأتابكي، ودخل عليه في داره، وسأل منه أن يجيره (1) من ذلك. فترفَّق في أمره، إلى أن سكن غضب (2) سيفُ الدّين جاغان. ثُمَّ إنّ الشيخ جلس يوم الجمعة على عادته ثالث عشر الشهر، وكان تفسيره في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وذَكَر الحِلْمَ، وما ينبغي استعمالُه، وكان ميعادًا جليلًا. ثُمّ إنّه اجتمع بالقاضي إمام الدين الشافعي (3)، وواعده لقراءة جُزئه الذي أجابَ فيه، وهو المعروف بـ «الحموية». فاجتمعوا يوم السبت رابع عشر الشهر، من بُكرة النهار إلى نحو الثلث من ليلة الأحد، ميعادًا طويلًا مستمرًّا، وقُرِئت (4) جميع العقيدة، وبَيَّن مرادَه من مواضع أشكلت، ولم يحصل إنكارٌ عليه من الحاكم ولا ممَّن حضر المجلس، بحيثُ انفصل منهم والقاضي يقول: كلُّ من تكلَّم في الشيخ فأنا _________ (1) رسمها في الأصل: «يجيره». وفي (ف): «يخبره». (2) من بقية النسخ. (3) هو: عمر بن عبد الرحمن بن أحمد أبو المعالي القزويني الشافعي قاضي القضاة بدمشق (ت 699). قال ابن كثير: «وكان القاضي إمام الدين معتقده حسنًا ومقصده صالحًا». انظر: «أعيان العصر»: (3/ 633 - 634)، و «البداية والنهاية»: (17/ 711 - 712). (4) (ق، ف، ك): «وقرئت فيه».

(الكتاب/256)


خصمه. وقال أخوه جلالُ الدِّين ــ بعد هذا الميعاد ــ: كلُّ من تكلَّم في الشيخ نُعَزّره (1). وانفصلَ عنهم عن طيبةٍ. وخرج والناس ينتظرون ما يسمعون من طَيِّب أخباره، فوصل إلى داره في ملأ كثيرٍ من الناس، وعندهم استبشارٌ وسرورٌ به، وهو في ذلك كلِّه ثابتُ الجأش، قويُّ القلب، واثقٌ بالنصر (2) الإلهيِّ، لا يلتفتُ إلى نصر مخلوق، ولا يُعَوِّل عليه. وكان سَعْيهم في حقِّه أتَمَّ السَّعْي، لم يُبْقُوا ممكنًا من الاجتماع بمن يرجون (3) منه أدنى نصرٍ لهم، وتكلَّموا في حقِّه بأنواعِ الأذى، وبأمورٍ يستحي الإنسانُ من الله سبحانه أن يحكيها، فضلاً عن أن يختلقها ويُلفِّقها، فلا حول ولا قوَّة إلاّ بالله. والذين سعوا فيه معروفون عندنا وعند كلِّ أحدٍ، قد اشتهر عنهم هذا الفعل الفظيع، وكذلك من ساعدهم [ق 73] بقول، أو تشنيع، أو إغراء، أو إرسال رسالة، أو إفتاءٍ، أو شهادة، أو أذىً لبعض أصحاب الشيخ ومن يلوذُ به، أو شَتْم، أو غيبة، أو تشويش باطنٍ. فإنَّه وقع من (4) ذلك شيءٌ كثير من جماعة كثيرة. ورأى جماعةٌ من الصالحين والأخيار في هذه الواقعة وعقيبها للشيخ _________ (1) «فأنا خصمه ... الشيخ» سقط من (ف، ك)، وفيهما: «يعزره». (2) (ك): «بالنصرة». (3) (ف، ك): «يرتجون». (4) (ق): «في».

(الكتاب/257)


مرائي حسنةً جليلةً، لو ضُبطَت كانت مجلّدًا تامًّا. انتهى ما ذكره. ثمَّ بعد هذه الواقعة بمُدَّةٍ كثيرةٍ، وذلك يوم الاثنين ثامن رجب من سنة خمس وسبعمائة، طُلِبَ القضاةُ والفقهاءُ، وطُلِبَ الشيخُ تقيُّ الدين إلى القصر، إلى مجلس نائب السلطنة الأفرم، فلما اجتمعوا (1) عنده سأل الشيخَ تقيَّ الدِّين وحدَه عن عقيدته، وقال له: هذا المجلس عُقِدَ لك، وقد وردَ مرسومُ السلطان أن أسألك عن اعتقادك. فأحضر الشيخُ عقيدَته «الواسطية»، وقال: هذه كتبتُها من نحو سبع سنين، قبل مجيء التتار إلى (2) الشام. فقُرِئت في المجلس، وبُحِثَ فيها، وبقي مواضع أُخِّرت إلى مجلسٍ آخر. ثمَّ اجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر رجب المذكور، وحضر المخالفون، ومعهم الشيخ صفيُّ الدين الهندي (3)، واتفقوا على أنَّه يتولَّى _________ (1) (ف، ك): «فاجتمعوا». (2) «التتار إلى» سقطت من (ق). (3) هو: محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي أبو عبد الله الشافعي المعروف بالهندي، له تصانيف في الأصول وغيره (ت 715). وذكروا في ترجمته أنه لما ناظر شيخ الإسلام قال له: أنت مثل العصفور تنط من هنا إلى هناك. قال الشوكاني معلقًا: «ولعله قال ذلك لما رأى من كثرة فنون ابن تيمية وسعة دائرته في العلوم الإسلامية. والرجل ليس بكفءٍ لمناظرة ذلك الإمام إلا في فنونه التي يعرفها، وقد كان عريًّا عن سواها» اهـ. انظر «أعيان العصر» (4/ 501 - 505)، و «الدرر الكامنة»: (4/ 14 - 15)، و «البدر الطالع»: (2/ 187 - 188).

(الكتاب/258)


المناظرة مع الشيخ تقي الدين، فتكلَّم معه. ثم إنهم رجعوا عنه، واتفقوا على الشيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكانيّ، فناظرَ الشيخَ وبحثَ معه، وطال الكلامُ، وخرجوا من هناك والأمرُ قد انفصل. وأَظهر اللهُ من قيام (1) الحجَّة ما أَعَزَّ به أهلَ السنة. وانصرفَ الشيخُ تقيُّ الدين إلى منزله. واختلفت نقول المخالفين للمجلس (2)، وحَرَّفوه، ووضعوا مقالةَ الشيخ على غير موضعها، وشنَّع ابنُ الوكيل وأصحابه بأن الشيخَ قد رجع عن عقيدته، فالله المستعان (3). والذي حَمَل نائب السَّلْطنة على هذا الفعل: كتابٌ ورَدَ عليه من مصر في هذا المعنى، وكان القائمُ في ذلك بمصر: القاضي ابن مخلوف المالكي، والشيخ نَصْر الَمنْبِجيُّ، والقَرَوي (4)، واستعانوا بركن الدين الششنكير. _________ (1) بقية النسخ: «وقد أظهر .. »، و «من» سقطت من (ب، ق). (2) ليست في (ب، ق). (3) أشاع أعداء الشيخ أنه أشهد على نفسه أنه شافعي المذهب، وأشاع بعضُ أصحابه أنه انتصر. انظر: «ذيل مرآة الزمان ــ ضمن التكملة»: (ص 19 - 20)، و «الدرر الكامنة» (ص 534 - ضمن الجامع). (4) الأصل: «القزويني»، و (ب، ق): «القونوي»، والمثبت من (ف، ك). وهو شمس الدين أبو عبد الله المغربي المالكي (ت 706). والقَرَوي نسبةً إلى القيروان. ترجمته في «ذيل مرآة الزمان»: (2/ 1149)، وقد ذكره ضمن من ألّب على الحنابلة بمصر أيام مقدم شيخ الإسلام إليها انظر المصدر السالف: (2/ 853).

(الكتاب/259)


ثم بعد ذلك عَزَّرَ بعضُ القضاة بدمشق شخصًا يلوذُ بالشيخ تقي الدين، وطُلِبَ جماعةٌ، ثم أُطْلِقوا، ووقع هَرْج في البلد، وكان الأمير نائب السلطنة قد خرج للصيد وغابَ (1) نحو جمعةٍ ثم حضر. وكان الحافظُ جمالُ الدين المِزِّي يقرأ «صحيح البخاري» لأجل الاستسقاء (2)، فقرأ يوم الاثنين الثاني والعشرين من رجب في أثناء ذلك فصلاً في الردِّ على الَجْهمية، وأنَّ اللهَ فوقَ العرش، من «كتاب أفعال العباد»، تأليف البخاري، تحت النَّسْر (3)، فغضبَ لذلك بعضُ الفقهاء الحاضرين، وقالوا (4): نحن المقصودون بهذا، ورفعوا الأمر إلى قاضي القضاة الشافعية (5)، فطلبه ورَسَم بحبسه. فبلغ ذلك الشيخَ تقيَّ الدين، فتألَّمَ له، وأخْرجه من الحبس بيده، وخرج إلى القصر إلى ملك الأمراء، وتخاصَمَ هو والقاضي هناك، وأثنى على الشيخ جمال الدين. _________ (1) ليست في (ف). (2) انظر مقالًا في نقد ظاهرة قراءة البخاري لدفع النوازل وتفريج الكربات في «مجلة المنار»: (5/ 474 ــ 477) وعنه القاسمي في «قواعد التحديث» (ص 263 ــ 267). (3) يعني: تحت قبة النسر في الجامع الأموي. (4) (ق): «وقال». (5) (ف، ك): «الشافعي». والقاضي هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم نجم الدين ابن صَصْرى الدمشقي الشافعي ت (723). انظر «أعيان العصر»: (1/ 327 ــ 333)، و «الدرر الكامنة»: (1/ 263 ــ 264).

(الكتاب/260)


وغضبَ القاضي وانزعج وقال: لئن لم يُرَدَّ إلى حبسي (1) عزلتُ نفسي. فأرضاه ملك الأمراء بأن أعاد الشيخ جمال الدين إلى حبسه، فاعتقله بالقوصيَّة أيَّامًا. وذكر الشيخُ تقيُّ الدين للنائب ما وقع في غَيْبته في حقِّ بعض أصحابه من الأذى، فرسَمَ بحبس جماعةٍ من أصحاب ابن الوكيل، وأمر فنودي في البلد: إنه من تكلَّم في العقائد حلَّ ماله ودمه، ونُهِبَت (2) دارُه وحانوته. وقَصَدَ بذلك تسكين الشرِّ والفتن (3). وفي يوم الثلاثاء سابع شعبان عُقِدَ للشيخ تقي الدين مجلسٌ ثالث بالقصر، ورضي الجماعة بالعقيدة. وفي هذا اليوم عَزلَ قاضي القُضاة نجم الدين بن صَصْرى نفسَه عن الحكم بسببِ كلامٍ سمعه من الشيخ كمال الدين بن الزّمْلكاني لا أحبُّ حكايتَه (4). وفي اليوم السادس والعشرين من شعبان وردَ كتابُ السلطان إلى القاضي بإعادته إلى الحكم، وفيه: إنا كنَّا رَسَمْنا بعَقْدِ مجلس للشيخ تقيّ الدين، وقد بلغنا ما عُقِدَ له من المجالس، وأَنه على مذهب السلف. وما قَصَدْنا بذلك إلّا براءة ساحته. _________ (1) (ف): «حبس». (2) (ف، ك): «دمه وماله»، و (ف): «ونهب». (3) (ك): «الفتن والشر». (4) انظر «مجموع الفتاوى»: (3/ 172 - 174) ففيه حكاية ما جرى بالتفصيل. و «الجامع ــ نهاية الأرب»: (ص 174 - 175)، و «تكملته ــ ذيل المرآة»: (ص 21).

(الكتاب/261)


 [مجالس المناظرة في العقيدة]

وقد ذكر الشيخ رحمه الله صورةَ ما جَرَى في هذه المجالس ملخَّصًا، وعلَّق في ذلك شيئًا مختصرًا (1) فقال (2): الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهيرَ ولا مُعين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الذي أرسلَه إلى الخلقِ أجمعين. صلى الله عليه وعلى آله وسلم (3) وعلى سائر عباد الله الصَّالحين. أما بعد؛ فقد سُئلت (4) أن أكتبَ ما حضرني ذِكْرُه مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة في أَمْر الاعتقاد، بمقتضى ما وردَ به كتابُ السلطان من الديار المصريَّة إلى نائبه أمير البلاد، لما سعى إليه قومٌ من (5) _________ (1) «مختصرًا» ليست في (ب، ق). (2) بعده في (ف، ك): «بسم الله الرحمن الرحيم». أقول: كتب الشيخ ما جرى في هذه المجالس عدة مرات في أوقات مختلفة، وفي كل واحدة ما ليس في الأخرى، وهذه النسخة الثابتة هنا من أتمّ ما كتب الشيخ، ومثلها النسخة التي في «مجموع الفتاوى»: (3/ 160 - 193)، وأخرى مختصرة نقلها البرزالي، ورابعة مختصرة حكاها عبد الله بن تيمية، وكلها في «الفتاوى». وهناك نسخة أخرى بخط الشيخ ضمن مجموع في الظاهرية (ق 261 أ-266 ب). وسأرمز لطبعة الفتاوى عند المقارنة بـ (طف). (3) (ب، ق، ف) زيادة: «تسليمًا». (ط): «كثيرًا». (4) (ف، ك، طف) زيادة: «غير مرة». (5) بعده في (ف، ك، طف) زيادة: «الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم».

(الكتاب/262)


ذوي الأحقاد. فأَمَرَ الأميرُ بجمع القضاة (1) والمشايخ ممن له حُرْمة وبه اعتداد. وهم لا يدرون ما (2) قُصِد بجمعهم في هذا الميعاد، وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة. فقال لي: هذا المجلس عُقِد لك، وقد (3) وردَ مرسومُ السلطان: أن أسألكَ عن اعتقادك، وعما كتبتَ به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها (4) الناسَ إلى الاعتقاد. وأظنُّه قال: وأنْ أَجْمَعَ القضاةَ والفقهاءَ، ويتباحثون (5) في ذلك. فقلتُ: أما الاعتقادُ فلا (6) يُؤْخَذ عنّي ولا عمَّن هو أكبرُ منِّي، بل يؤخذُ عن الله ورسوله [ق 75] وما أجمعَ عليه سلفُ الأمة؛ فما كان في القرآن وجبَ اعتقادُه، وكذلك ما ثبتَ في الأحاديث الصحيحة، مثل «صحيح البخاري ومسلم». وأما الكتب؛ فما كتبتُ إلى أحدٍ كتابًا ابتداءً أدعو (7) به إلى شيءٍ من ذلك، _________ (1) بعده في (ف، ك، طف) زيادة: «الأربعة: قضاة المذاهب الأربعة، وغيرهم من نوابهم والمفتين». (2) (ب، ق، ف): «فيما». (3) (ف، ق، طف): «فقد». (4) (ك): «تدعونها». (5) (ف، ك، طف): «وتتباحثون». (6) (ف): «فإنه لا». (7) (ط): «أدعوه».

(الكتاب/263)


ولكن (1) كتبتُ أجوبةً أجبتُ بها مَن يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم. وكان قد بلغني أنه زُوِّرَ عليِّ كتابٌ إلى الأمير رُكْن الدين الجاشنكير أستاذِ دارِ (2) السلطان، يتضمَّن ذكرَ عقيدةٍ مُحَرَّفة، ولم أعلم بحقيقتهِ، لكن علمتُ أنَّ هذا مكذوب (3). وكان يَردُ عليَّ من مصرَ وغيرها مَنْ يسألني مسائل في الاعتقاد أو غيره، فأُجيبه (4) بالكتاب والسنة وما كان عليه سلفُ الأمة. فقال: نريدُ أن تكتبَ لنا عقيدتك. فقلتُ: اكتبوا. فأُمِرَ الشيخُ كمالُ الدين (5) أن يكتب. فكُتِبَتْ (6) له جُمَلُ الاعتقاد في أبواب الصفاتِ، والقَدَرِ، ومسائل الإيمان، والوعيد، والإمامة (7)، والتفضيل. وهو أنَّ اعتقاد أهل السنة والجماعة: الإيمانُ بما وصف الله به نفسَه، وبما وصفه به رسولُه - صلى الله عليه وسلم - ، من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيل. وأنَّ القرآن كلامُ الله غير _________ (1) (ف، ك): «ولكنني». (طف): «ولكني». (2) (ب، ق): «استدار». (3) (ط): «أنه مكذوب». (4) (ف، ك، طف): «عن مسائل ... »، (ق، ف، طف): «وغيره»، (ب، ق، ف): «فأجبته». (5) هو ابن الزملكاني. (6) (ط): «فكتب». (7) (ب، ق): «الأمانة» تحريف.

(الكتاب/264)


مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. والإيمانُ بأنَّ الله خالقُ كلِّ شيءٍ من أفعال العباد وغيرها. وأنَّه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وأنَّه أمر بالطاعة وأحبَّها ورضيها (1)، ونهى عن المعصية وكرهها. والعبدُ فاعل حقيقةً، واللهُ خالقُ فعله. وأنَّ الإيمان والدِّين قولٌ وعملٌ يزيدُ وينقص. وأن لا يُكَفَّر أحدٌ (2) من أهل القبلة بالذنوب، ولا يُخلَّد في النار من أهل الإيمان أحدٌ (3). وأنَّ الخلفاء بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليٌّ، مرتبتهم في الفضل كَرُتْبَتهم (4) في الخلافة، ومن قدَّم عليًّا على عثمان فقد أزْرى بالمهاجرين والأنصار. وذكرت (5) هذا ونحوه، فإنّي الآن قد بَعُدَ عهدي، ولم أحفظ لفظ ما أمليته إذ ذاك (6). ثم قلتُ للأمير والحاضرين: أنا أعلم أنَّ أقوامًا يكذبون عليَّ، كما قد كذبوا عليّ (7) غير مرَّةٍ، وإن أمليتُ الاعتقاد من حفظي (8) ربما يقولون: كتم بعضَه، أو داهن ودارى، فأنا أُحضِر عقيدةً مكتوبةً من نحو سبع سنين، قبل _________ (1) (ف، ك): «شاء الله ... ورضيها وأحبها». (2) (ف، ك، طف): «نكفر أحدًا». (3) (ط): «نخلّد ... أحدًا». (4) (ف، ك): «رضي الله عنهم، ومرتبتهم ... كمرتبتهم». (طف): «وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم». (5) الأصل و (ب): «وذكر». (6) (طف): «ما أمليته لكنه كتب إذ ذاك». (7) «كما .... عليّ» سقط من (ف). (8) (ب، ق): «خطي» خطأ.

(الكتاب/265)


مجيء التتر إلى الشام. وقلتُ قبل حضورها كلامًا قد بَعُدَ عهدي به، وغضبت غضبًا شديدًا، لكن (1) أذكر أنّي قلتُ: أنا أعلمُ أنَّ أقوامًا كذبوا عليَّ، وقالوا للسلطان أشياء (2). وتكلَّمتُ بكلامٍ احتجتُ إليه، مثل أن قلتُ: من قام بالإسلامِ أوقات (3) الحاجة غيري؟ ومن الذي أوضحَ دلائلَه وبيَّنه، وجاهد أعداءَه، وأقامه لمَّا مال؟ حين (4) تخلّى عنه كلُّ أحدٍ ولا (5) أحدٌ ينطقُ بحجَّته، ولا أحدٌ يجاهدُ _________ (1) (ق، ف، ك، ط): «لكني». (2) لعل الشيخ أراد أنهم وشوا به عند السلطان أنه يريد الملك، كما قال نصر المنبجي لابن مخلوف: «قل للأمراء بأنّ ابن تيمية يُخشى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب». انظر «الجامع»: (ص 322، 505، 544). وقد زَوّر عليه بعض الصوفية كتابًا سنة (702 هـ) فيه أنه يريد قلب الملك مع بعض العلماء والأمراء، فأُمسك المزّوِّر وعوقب عقوبةً بليغة. انظر «الجامع»: (ص 414)، و «تكملته» (ص 9 - 10). ثم حاولوا محاولة ثالثة، فقد نقل أبو حفص البزار في «الأعلام العلية» (ص 783 ــ ملحق بكتابنا هذا) أنه وُشي بالشيخ إلى الملك الناصر فأحضره بين يديه وقال: إنني أُخبرتُ أنك أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك؟ فلم يكترث به، بل قال له بنفسٍ مطمئنة وقلب ثابت وصوت عال ــ سمعه كثير ممن حضر ــ: أنا أفعل ذلك! والله إن ملكك وملك المغل لا يساوي عندي فَلْسين! فتبسّم السلطان لذلك. وانظر بقية الخبر هناك. (3) (ف، ك): «في أوقات». (4) (ب، ق): «حتى». (5) بقية النسخ: «فلا».

(الكتاب/266)


عنه، وقمتُ مُظْهِرًا لحجَّته، مُجاهدًا عنه، مُرَغِّبًا فيه. فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام فيَّ، فكيف يصنعون بغيري؟ ! ولو أنّ يهوديًّا طلب من السلطان الإنصاف، لوجبَ عليه أن يُنصفه، وأنا قد أغفر عن حقِّي وقد لا أغفر (1)، بل قد أطلبُ الإنصاف (2) منه، وأن يُحْضَر هؤلاء الذين يكذبون [ق 76]، ليُحاقُّوا (3) على افترائهم. وقلتُ كلامًا أطولَ من هذا (4)، من هذا الجنس، لكن بَعُدَ عهدي به. فأشار الأميرُ إلى كاتب الدَّرْج (5): محيي الدين بأن يكتب ذلك (6). وقلتُ أيضًا: كلُّ من خالفني في شيءٍ ممَّا كتبتُه فأنا أعلمُ بمذهبه منه. وما أدري، هل قلتُ هذا قبل حضورها أو بعدها؟ لكنِّي (7) قلتُ ــ أيضًا ــ بعد حضورها وقراءتها: ما ذكرتُ فيها فصلاً إلا وفيه مخالفٌ من المنتسبين إلى القبلة، وكلُّ جملةٍ فيها خلافٌ لطائفةٍ من الطوائف. _________ (1) (ف، ك، طف): «قد أعفو ... لا أعفو» (2) كذا في جميع النسخ، ولعل صوابها: «الانتصاف». (3) (ك، ح): «ليحاققوا». (ف): «ليخافوا». (4) «من هذا» سقطت من (طف). (5) كاتب الدَّرْج: من يكتب الأحكام والفتاوى في الورق المسمى دَرْجًا. انظر «تكملة المعاجم العربية»: (4/ 315 - 316). ومحيي الدين هو: يحيى بن فضل الله أبو المعالي العمري، ولي كتابة السر وديوان الإنشاء وكثر الثناء عليه ت (738 هـ). انظر «الدرر الكامنة»: (4/ 424). (6) (ب، ق) زيادة «كله». (7) (ف، ك، طف): «لكنني».

(الكتاب/267)


ثمَّ أرسلتُ من أحضرها، ومعها (1) كراريس بخطِّي من المنزل، فحضرت «العقيدة الواسطية». وقلتُ لهم: هذه كان (2) سببُ كتابتها أنَّه قَدِمَ من أرض واسط بعضُ قُضاة نواحيها، شيخٌ يُقال له: رضيُّ الدين الواسطي (3)، قَدِمَ علينا حاجًّا، وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناسُ فيه بتلك البلاد وفي دولة التتر (4) من غَلَبةِ الجهل والظلم، ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتبَ له عقيدةً تكونُ عمدةً له ولأهل بيته. فاستعفيت (5) من ذلك، وقلت: قد كتبَ الناسُ عقائد أئمة السنة (6). فألحَّ في السؤال، وقال: ما أحبُّ إلا عقيدةً تكتبها أنت. فكتبتُ له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر. وقد انتشرت (7) بها نُسَخ كثيرة في مصر والعراق وغيرهما. فأشار الأميرُ بأن لا أقرأها أنا ــ لدفع (8) الرِّيبة ــ وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين، فقرأها على الحاضرين حرفًا حرفًا، والجماعةُ الحاضرون _________ (1) (ق): «ومعه». (2) (ب، ق): «كانت». (3) لم أعثر على ترجمته. (4) (الأصل، ف، ك): «الططر». (5) (ب، ق): «فاستعففت». (6) في (ف، ك، طف): «عقائد متعددة فخذ بعض عقائد ... ». (7) (ف): «انتشر». (8) (ك، طف): «لرفع».

(الكتاب/268)


يسمعونها (1). ويُوْرِدُ الموردُ منهم ما شاء، ويُعَارض ما (2) شاء. والأميرُ أيضًا سأل (3) عن مواضع فيها. وقد علم الناسُ ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف والهوى (4). ولا يمكن ذِكْر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس، فإنَّه كثير (5)، لكن أكتب ملخَّصَ ما حضرني من ذلك مع بُعْدِ العهد بذلك. ومع أنه كان يجري رَفْعُ أصواتٍ ولَفْظٌ (6) لا ينضبط. فكان ممَّا اعترضَ عليه (7) بعضُهم لما ذُكِرَ في أولها: «ومن الإيمان بالله: الإيمانُ بما وصفَ به نفسَه، ووصفَه به رسولُه (8)؛ من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ولا تكييفٍ ولا تمثيل». فقال: ما المراد بالتحريف والتعطيل؟ _________ (1) (ب، ق): «يقرؤها على ... حرفًا وهم يسمعونها». (2) (ق، ف، ك، طف): «فيما». (3) بقية النسخ: «يسأل». (4) (ف، ك، طف) زيادة: «ما قد علمَ الناسُ بعضَه، وبعضه بسبب الاعتقاد، وبعضه بغير ذلك». (5) (ف، ك، طف) زيادة: «ولا ينضبط». (6) كذا بالأصول، وفي (ط): «لغط». (7) (طف): «عليَّ». (8) بعد في (ف، ك): «محمد - صلى الله عليه وسلم - ».

(الكتاب/269)


ومقصودُه: أنَّ هذا ينفي التأويل الذي يثبته أهلُ التأويل، الذي هو صرفُ اللفظِ عن ظاهره؛ إمَّا وجوبًا وإمَّا جوازًا. فقلت: تحريفُ الكَلِمِ عن مواضعه، كما ذمَّه الله في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دلَّ عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهْمِيَّة لقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] أي: جرَّحَه بأظافير الحكمة تجريحًا. ومثل تأويلات (1) القَرامِطة والباطنية، وغيرِهم من الجَهْميِة والرافضة والقَدَرية وغيرهم (2). فسكت وفي نفسِه ما فيها. وذكرتُ في غير هذا المجلس: أني عَدَلْتُ عن لفظ «التأويل» إلى لفظ «التحريف»؛ لأن التحريفَ اسمٌ جاءَ القرآنُ بذمِّه. وأنا تحرَّيتُ في هذه العقيدة اتباعَ الكتاب والسنة، فنفيتُ ما ذمَّهُ الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظَ التأويل بنفيٍ ولا إثبات؛ لأنه لفظٌ له عِدَّة معانٍ، كما بَيَّنتُه في موضعه من القواعد. فإنَّ معنى لفظ «التأويل» في كتاب الله غير (3) [ق 77] لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرِّين من أهل الأصول والفقه، وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف (4)، ولأنّ منَ المعاني التي قد تُسَمَّى تأويلاً ما هو (5) صحيحٌ منقول عن بعض _________ (1) (ف): «تأويل». (2) ليست في (ب، ق). (3) في (ك) زيادة: «معنى». (4) ليست في (ب، ق). (5) الأصل و (ب، ق): «ولأن المعاني» و (طف): «لأن من ... »، و (ب، ق): « ... تأويلًا قد يكون فيها ما [سقطت من ق] هو».

(الكتاب/270)


السلف (1). فلم أنفِ ما تقومُ الحجّةُ على صِحَّته؛ إذ ما قامت الحجةُ على صحته، وهو منقولٌ عن السَّلف، فليس من التحريف. وقلتُ لهم (2) أيضًا: ذكرتُ في النفي «التمثيل» ولم أذكر «التشبيه»؛ لأنَّ التمثيل نفاه الله بنصِّ كتابه حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] كان (3) أحبَّ إليَّ من لفظٍ ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله (4)، وإن كان قد يُعنى بنفيه معنىً صحيح، كما قد يُعنى به معنىً فاسد. ولما ذكرتُ: «أنهم لا ينفون عنه ما وصفَ به نفسَه، ولا يحرِّفون الكَلِم عن مواضعه، ولا يُلحدون (5) في أسماء الله وآياته». جعل بعضُ الحاضرين يمتعِضُ من ذلك؛ لاستشعاره ما في ذلك من الردِّ لِمَا (6) هو عليه، ولكن لم (7) يتوجَّه له ما يقوله، وأرادَ أن يدور عليَّ بالأسولة (8) التي أعلمها، فلم يتمكَّن (9). _________ (1) (ب، ق): «عن السلف». (2) (ف، ك): «له». (3) (ف، ك): «فكان»، (طف): «وكان». (4) (ف، ك، طف): «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ». (5) وقع في الأصل و (ب، ق، ف): «ويحرفون ... ويلحدون» وهو خطأ. (6) جميع النسخ: «ولما»، و (طف): «من الرد الظاهر عليه». (7) (ف): «ولم». (8) (طف): «يدور بالأسئلة». (9) (ف، ك، طف) زيادة: «لعلمه بالجواب».

(الكتاب/271)


ولما ذكرتُ آية الكرسِّي، أظنُّ سألَ الأميرُ عن قولنا: «لا يقربه شيطانٌ حتَّى يصبح». فذكرتُ حديثَ (1) أبي هريرة في الذي كان يسرق صدقةَ الفطر، وذكرتُ أنَّ البخاريَّ رواه في «صحيحه» (2). وأخذوا يذكرون نفيَ التشبيه والتجسيم، ويُطنبون في هذا ويُعَرِّضون بما ينسبه بعضُ الناس إلينا من ذلك. فقلتُ: قولي (3): «من غير تكييف ولا تمثيل» ينفي كلَّ باطل، وإنَّما اخترتُ (4) هذين الاسمين؛ لأنَّ «التكييف» مأثورٌ نفيه عن السَّلَف، كما قال ربيعةُ، ومالكٌ، وابن عُيينة وغيرهم ــ المقالةَ التي تلقَّاها العلماءُ بالقبول ــ: «الاستواءُ معلوم، والكيفُ مجهول، والإيمانُ به واجب، والسؤال عنه بدعة». واتَّفق (5) هؤلاء السَّلف على أن الكيف غير معلومٍ لنا، فنفيتُ ذلك اتّباعًا لسلفِ الأُمَّة، وهو أيضًا منفيٌّ بالنَّصِّ. فإنَّ تأويل آياتِ الصفات يدخلُ فيها حقيقةُ الموصوف وحقيقةُ صفاته، وهذا من التأويل الذي لا يعلمُه إلاَّ الله. كما قد قرَّرْتُ ذلك في قاعدةٍ مفردة ذكرتها في «التأويل، والمعنى، والفَرْق بين عِلْمِنا بمعنى الكلام، وبين عِلْمِنا بتأويله». _________ (1) (ك): «له حديث». (2) رقم (2311). (3) (ب): «قوله». (4) (ف، ك): «أخذت». (5) بقية النسخ: «فاتفق».

(الكتاب/272)


وكذلك «التمثيل» منفيٌّ (1) بالنصِّ والإجماع القديم، مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف، إذ كُنْهُ الباري غير معلومٍ للبشر، وذكرتُ في ضمن ذلك كلامَ الخطَّابي الذي نقل أنه مذهبُ السَّلف، وهو: إجراءُ آيات الصِّفات وأحاديثها على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها، إذ الكلام في الصِّفات فرعٌ عن (2) الكلام في الذَّات، يُحْتَذَى (3) فيه حذوه، ويُتَّبَعُ فيه مثالُه. فإذا كان إثباتُ الذَّاتِ إثباتَ وجودٍ لا إثباتَ تكييف= فكذلك إثباتُ الصِّفات (4) إثبات وجود لا إثبات تكييف. فقال أحدُ كبراء المخالفين (5): فحينئذٍ يجوز أن يُقال: هو جسم، لا (6) كالأجسام! فقلتُ له أنا وبعضُ الفضلاء (7): إنِّما قيل: إنَّه يوصَفُ الله بما وصفَ به نفسَه، وبما وصفه به رسوله، وليس في الكتاب والسنَّة [ق 78] أنَّ الله جسم، حتَّى يلزم هذا السؤال. _________ (1) (ف، ك): «ينفي». (2) الأصل و (ب، ق، ك): «على». (3) (ف): «محتذى». (4) (ب، ق): «إثبات كيفية فكذلك ... »، (ف): «فكذلك الصفات». (5) (ب، ق): «المجلس» بدل «المخالفين»، (طف): «كبار». (6) «لا» ليست في (ف). (7) (ب، ق): «فقلت له وبعض .. »، (ف، ك، طف): «الفضلاء الحاضرين».

(الكتاب/273)


وأخذَ بعضُ القضاةِ (1) المعروفين بالدِّيانة يريد إظهار أنَّ ينفي عنّا ما يقوله (2)، فجعل يزيد في المبالغة (3) في نفي التشبيه والتجسيم. فقلتُ: قد ذُكِرَ (4) فيها في غير موضع «من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييف ولا تمثيل». [وقلتُ في صدرها: «ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف الله به نفسَه في كتابه، وبما وصفه به رسولُه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل». ثمَّ قلتُ: «وما وصف الرسول به ربَّه من الأحاديث الصحاح التي تلقَّاها أهلُ المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك». إلى أن قلت: «إلى أمثال هذه الأحاديث الصحاح التي يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يخبر به، فإنَّ الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. بل هم] (5) الوسط في فرق الأمة، كما أنَّ الأمة هي _________ (1) بعده في (ف، ك، طف): «الحاضرين و». (2) الأصل: «ينفي عنه»، و (طف): «عنا ما يقول وينسبه البعض إلينا». (3) الأصل: «يريد المبالغة». (4) (طف): «ذكرت». (5) ما بين المعكوفين ليس في الأصل و (ب، ق)، وهو من (ف، ك، طف). وأثبته ليستقيم السياق. وفي الأصل حتى يستقيم السياق: «وفيها: فهم الوسط ... ».

(الكتاب/274)


الوسط في الأمم، فهم وسطٌ في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبِّهة». ولمَّا رأى هذا الحاكمُ العَدْلُ تمالُؤَهم وتعصُّبَهم، ورأى قلَّة العارف الناصر (1)، وخافهم، قال: أنتَ قد صنَّفت اعتقاد الإمام أحمد، فنقول: هذا اعتقادُ أحمد. يعني: والرجلُ يصنِّفُ على مذهبه، فلا يُعتَرضُ عليه، فإنَّ هذا مذهبٌ متبوع. وغرضُهُ بذلك: قطعُ مخاصمة الخصوم. فقلتُ: ما خرَّجتُ (2) إلاّ عقيدةَ السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاصٌ بهذا، والإمامُ أحمد إنَّما هو مبلِّغ العلم الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولو قال أحدٌ (3) من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله. وهذه عقيدة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقلتُ مرَّاتٍ: قد أمهلتُ من (4) خالفني في شيءٍ منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرفٍ واحدٍ عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث قال: «خيرُ القرونِ القرن الذي بُعِثتُ فيهم، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين _________ (1) المثبت من الأصل و (طف)، وفي (ف، ك): «قلة المعاون»، وفي (ف): «منهم والناصر». (2) (ف، ك، طف): «ما جمعتُ». (3) كذا في الأصول، وفي (ط، طف): «أحمد». (4) (ف، ك، طف): «كل من».

(الكتاب/275)


يلونهم» (1) = يخالفُ ما ذكرتُه فأنا أرجع عن ذلك. وعليَّ أن (2) آتي بنقولِ جميع الطوائف من القرون الثلاثة يوافقُ (3) ما ذكرتُه؛ من الحنفيّة، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والأشعرية، والصوفية، وأهل الحديث، وغيرهم. وقلتُ ــ أيضًا في غير هذا المجلس ــ: الإمامُ أحمد ــ رضي الله عنه ــ لمَّا انتهى إليه من السنَّة ونصوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثرُ ممَّا انتهى إلى غيره، وابتُلي بالمحنة والرَّدِّ على أهل البدع أكثر من غيره (4) = فصار إمامًا في السنة أظهر من غيره. وإلاَّ فالأمرُ كما قاله بعضُ شيوخ المغاربة العلماء (5)، قال: المذهبُ لمالك والشَّافعي، والظهور لأحمد بن حنبل (6). يعني: أنَّ الذي كان عليه أحمد عليه جميعُ أئمة الإسلام، وإن كان لبعضهم من زيادة العلم والبيان، وإظهار الحقِّ، ودفع الباطل، ما ليس _________ (1) أخرجه البخاري (2561)، ومسلم (2535) من حديث عمران بن حُصين رضي الله عنه، وأخرجاه عن ابن مسعود أيضًا. (2) (ب، ق): «وأنا» بدلًا من «وعليَّ أن». (3) (ف): «توافق». و (طف، ط): «من القرون». (4) بعده في (ف، ك، ط، طف) زيادة: «كان كلامه وعمله [طف: علمه] في هذا الباب أكثر من غيره». (5) (ف، ك): «العلماء الصلحاء». (6) ذكر هذه العبارة شيخ الإسلام أيضًا في «منهاج السنة»: (2/ 365)، وفي «درء التعارض»: (5/ 5) ونسبَها لبعض أكابر الشيوخ.

(الكتاب/276)


لبعض (1). ولمَّا جاء حديثُ أبي سعيد المتفق عليه في «الصحيحين» (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «يقولُ اللهُ (3): يا آدم! فيقول: لبَّيك وسَعْدَيْك. فينادَى بصوتٍ: إنَّ الله يأمرُكَ أنْ تبعثَ بعثًا إلى النار ... » الحديث. سألهم الأميرُ: هل هذا الحديث صحيح؟ فقلتُ: نعم، هو في «الصحيحين»، ولم يخالفوا في ذلك، واحتاجَ المنازعُ إلى الإقرار به (4). وطلبَ الأميرُ الكلامَ في مسألة الحرف والصوت؛ لأنَّ ذلك طُلِبَ منه. فقلتُ: هذا الذي يُحكى عن أحمد (5) وأصحابه: أنَّ صوت القارئين ومِدَاد المصاحف قديمٌ أزليٌّ (6) = كَذِبٌ مُفترى، لم يقل ذلك أحمد ولا أحدٌ من علماء المسلمين (7). وأخرجتُ كُرَّاسًا كان قد أُحْضِرَ (8) مع العقيدة، _________ (1) (ب، ق): «لبعضهم». (2) البخاري رقم (4741)، ومسلم رقم (222). (3) (ب، ق، ك، ط، طف) زيادة: «يوم القيامة». (4) في (طف): «ولم يخالف في ذلك أحد» وزاد في آخر العبارة «ووافق الجماعةُ على ذلك». (5) في (ف، ك، ط، طف): «يحكيه [ف: يحكي] كثير من الناس عن الإمام أحمد ... ». (6) (طف) زيادة: «كما نقله مجد الدين [كذا، ولعله: فخر الدين] بن الخطيب وغيره». (7) زاد في (طف): «لا من أصحاب أحمد ولا غيرهم». (8) (ف): «حضر»، (طف): «قد أحضرته».

(الكتاب/277)


وفيه (1) ما ذكره الشيخ أبو بكر الخلاَّل في «كتاب السُّنَّة» عن الإمام أحمد، وما جمعه صاحبه أبو بكر المرُّوْذي من كلام أحمد، وكلام أئمة زمانه (2)، في أنَّ من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جَهْمي. ومن قال: غيرُ مخلوق، فهو مبتدع (3). قلتُ: فكيف بمن يقول: لفظي (4) قديمٌ أزليّ؟ [فكيف بمن يقول: صوتي غير مخلوق] (5)؟ فكيف بمن يقول: صوتي قديم (6)؟ ! وأحضرتُ جواب مسألةٍ كنتُ سُئلتُ قديمًا عنها، فيمن حلف بالطلاق في مسألة الحَرْفِ والصَّوت، ومسألة الظَّاهر في العرش (7). وقلتُ: هذا جوابي. وكانت هذه المسألة قد أرْسَلَ بها طائفةٌ من المعاندين المتجهِّمة، ممَّن _________ (1) (طف): «فيه ألفاظ أحمد مما ذكره». (2) (طف) زيادة: «وسائر أصحابه». (3) بعده في (طف): «قلت: وهذا هو الذي نقله الأشعري في كتاب «المقالات» عن أهل السنة، وأصحاب الحديث، وقال: إنه يقول به». (4) «بالقرآن ... لفظي» سقطت من (ف). (5) «أزلي» ليست في (ك، ط، طف)، وقوله: «فكيف ... مخلوق» من (ف، ك، ط، طف). (6) (طف) زيادة: «ونصوص الإمام أحمد في الفرق بين تكلم الله بصوت وبين صوت العبد، كما نقله البخاري صاحب الصحيح في كتاب «خلق أفعال العباد» وغيره من أئمة السنة». (7) (طف) زيادة: «فذكرت من الجواب القديم في هذه المسألة وتفصيل القول فيها، وأن إطلاق القول أن القرآن هو الحرف والصوت، أو ليس بحرف ولا صوت= كلاهما بدعة حدثت بعد المائة الثالثة».

(الكتاب/278)


كان بعضُهم حاضرًا في المجلس، فلمَّا وصل إليهم الجوابُ أسْكَتَهم. وكانوا قد ظنُّوا إن أُجِيْب (1) بما في ظنهم أنَّ أهل السُّنَّة تقوله= حَصَلَ مقصودُهم من الشناعة، وإن أجبتُ بما يقولونه (2) = حَصَل مقصودُهم من الموافقة. فلمَّا أُجيبوا بالفرقان الذي عليه أهلُ السُّنَّة، وليس هو ممَّا (3) يقولونه هم، ولا ما ينقلونه عن أهل السُّنَّة، أو قد (4) يقولُه بعضُ الجُهَّال= [بُهِتُوا لذلك] (5). وفيه: «إنَّ القرآن (6) كلامُ اللهُ حروفه ومعانيه، ليس القرآنُ اسمًا لمجرَّد الحروف، ولا لمجرَّد المعاني» (7). ولمَّا جاءت مسألةُ القرآن، «وأنَّ القرآنَ (8) كلامُ الله غيرُ مخلوق، منه _________ (1) كذا في الأصل و (ب، ق)، وفي (ف، ك): «ظنوا أنه إن»، و (ح): «أنه إذا» وفي (ط، طف): «ظنوا أني إن أجبت». (2) (ف، ك، ط، طف): «يقولونه هم». (3) (ف، ك، ط، طف): «ما». (4) (ط، طف، ف، ك): «إذ». (5) من (ف، ك، ط، طف). (6) (طف): «القرآن كله ... ». (7) بعده في (طف) كلام طويل للشيخ نحو صفحتين، فيه شرح ما جرى مع صدر الدين ابن الوكيل من النقاش، وخصومة ابن الوكيل مع كمال الدين ابن الزملكاني، وما وقع بين ابن الزملكاني وابن صصرى. «طف»: (3/ 172 - 174). (8) (ف، ك، ط، طف): «القرآن ومن الإيمان به الإيمان بأن القرآن ... ». وقوله بعده «ونازع .. يعود» سقطت من (ف).

(الكتاب/279)


بدأ وإليه يعود» = نازَع بعضُهم في كونه منه بدأ وإليه يعود، وطلبوا تفسيرَ ذلك. فقلتُ: أمَّا هذا القول فهو المأثور الثابت عن السَّلف، مثل ما نقله عَمْرو بن دينار قال: «أدركتُ النَّاسَ منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق، إلاَّ القرآن، فإنَّه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود» (1). وقد (2) جمع غيرُ واحدٍ ما في ذلك من الآثار عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين (3). وأمَّا معناه: فإنَّ قوله (4): «منه بدأ» أي: هو المتكلِّم به، وهو الذي أنزله من لدنه، ليس هو كما تقوله الجهميَّة: إنَّه خُلِقَ في الهواء أو غيره (5)، وبدأ من عند غيره. وأمّا «إليه يعود» فإنَّه يُسْرَى به في آخر الزَّمان (6) من المصاحف والصدور، فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف. ووافقَ على ذلك غالبُ الحاضرين، وسكت المنازعون. _________ (1) أخرجه اللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد»: (2/ 234). (2) الأصل: «قد». (3) (طف) زيادة: «كالحافظ أبي الفضل بن ناصر، والحافظ أبي عبد الله المقدسي». (4) (ب): «فقوله»، (ف): «فأقول»، (طف): «قولهم». (5) (ف): «عبره». (6) (ف، ك): «في آخر الزمان به».

(الكتاب/280)


وخاطبتُ (1) بعضَهم في غير هذا المجلس، بأن أريتُه العقيدة التي جمعها الإمام القادرُ بالله (2)، [التي فيها]: «إنه (3) كلام الله خرج منه» فتوقَّف في هذا اللفظ. فقلتُ: هكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «وما تقرَّب العبادُ إلى الله بمثل ما خرجَ منه» (4). يعني: القرآن. وقال خبَّاب بن الأرَتّ: «يا هَنَتاه! تقرَّبْ إلى الله بما استطعتَ، فلن تتقرَّب (5) إليه بشيءٍ أحبَّ إليه ممَّا خرج منه» (6). _________ (1) (ب): «خاطب». (2) (طف): «القادري». وهو: أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر الخليفة الملقب «القادر بالله» (336 - 422 هـ)، له اشتغال بالعلم، وصنف عدة تصانيف، محمود السيرة في دينه وحكمه. وعقيدته هذه ساقها ابن الجوزي في «المنتظم»: (9/ 303) حوادث سنة 433 هـ. انظر «سير أعلام النبلاء»: (15/ 127 - 137). (3) «التي فيها» من (ف، ك، ط، طف)، وبعده فيها: «إن القرآن». (4) أخرجه أحمد (22306)، والترمذي (2911) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الترمذي: «حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خُنَيس قد تكلم فيه ابن المبارك وتركه في آخر أمره». وقد روي عن جبير بن نُفير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، أخرجه الترمذي (2912)، والحاكم: (2/ 441) وغيرهما. وصححه الحاكم. (5) (ب، ق): «يُتقرَّب». (6) أخرجه ابن أبي شيبة (30722)، وأحمد في «الزهد» (ص 35)، والحاكم: (2/ 441)، والخلال في «السنة»: (6/ 104) وغيرهم. وفيها: «أحبّ إليه من كلامه»، ولم أجده بلفظ «خرج منه». وقد ذكره ابن تيمية كذلك في عدد من كتبه «الاستقامة»: (1/ 345)، و «شرح الأصفهانية» (ص 15).

(الكتاب/281)


وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ــ لما قُرئ عليه قرآنُ مُسَيلمة (1) ـ: «إنَّ هذا كلام (2) لم يخرج من إلٍّ» (3). يعني: رَبٍّ. وممَّا فيها: «ومن الإيمان به: الإيمان بأنَّ القرآنَ كلامُ الله، مُنَزَّلٌ، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنَّ الله تكلَّم به حقيقةً، وأنَّ هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو كلامُ الله حقيقةً، لا كلامُ غيره، ولا يجوزُ إطلاقُ القول بأنه [ق 80] حكاية عن كلام الله، أو عبارة، بل إذا قرأ الناسُ القرآنَ (4)، أو كتبوه في المصاحف، لم يخرج بذلك عن أن يكونَ كلامَ الله، فإنَّ الكلامَ إنما يُضاف حقيقةً إلى من قاله مبتدئًا، لا إلى من قاله مُبَلِّغا مؤدِّيًا». فامْتَعَضَ بعضُهم من إثبات (5) كونه كلام الله حقيقة، بعد تسليمه أنَّ اللهَ تكلَّم به حقيقةً، ثمَّ إنه سلَّم ذلك لمَّا بُيِّنَ له أنَّ المجاز يصحّ نفيُه، وهذا لا يصحُّ نفيه، ولما بُيِّنَ له أنّ (6) أقوالَ المتقدِّمين المأثورة عنهم، وشِعْر الشعراء المضاف إليهم، هو كلامهم حقيقةً. [فلا يكون نسبة القرآن إلى الله _________ (1) بقية النسخ زيادة: «الكذاب». (2) (ب، ق): «الكلام». (3) ذكره أبو عبيد في «غريب الحديث»: (1/ 100)، وابن قتيبة في «غريب الحديث»: (1/ 532) وغيرهما. (4) (طف): «قرأه الناس». (5) الأصل: «امتعض ... »، (طف): «فتمعض»، (ف، ك): «كونه إثبات». (6) «المجاز ... له أن» سقطت من (ف).

(الكتاب/282)


بأقلّ من ذلك] (1). ولما ذُكِرَ فيها: «أنَّ الكلامَ إنما يُضافُ حقيقةً إلى من قاله مبتدئًا، لا إلى من قاله مُبَلِّغا مؤديًا». استحسنوا هذا الكلام وعظَّمُوه، وأخذ أحدُ الخصوم (2) يُظْهِر تعظيمَ هذا الكلام، وأنه أزال عنه الشُّبهات، ويذكر أشياءَ من هذا النَّمط (3). ولما جاء ما ذُكرَ من الإيمان باليوم الآخر، وتفصيله ونَظْمه استحسنوا ذلك وعظَّموه. وكذلك لما جاء ذِكْر الإيمان بالقَدَرِ، وأنه على درجتين، إلى غير ذلك ممَّا فيه من القواعد الجليلة. وكذلك لما جاء الكلامُ في الفاسقِ المِلِّيِّ، وفي الإيمان؛ لكن اعترضوا على ذلك بما سأذكره. وكان مجموع ما اعترض به المنازعون (4) ــ بعد انقضاء قراءة جميعها، والبحث فيها ــ[أربعة أسئلة: السؤال الأول] (5): قولنا: «ومن أصولِ الفرقة الناجية: أنَّ الإيمان _________ (1) ما بين المعكوفين من (ف، ك، ط، طف). (2) (ف، ك): «كبراء الخصوم»، (طف): «أكبر الخصوم». (3) العبارة في (طف): «هذا الكلام، كابن الوكيل وغيره، وأظهر الفرح بهذا التلخيص، وقال: إنك قد أزلت عنا هذه الشبهة، وشفيت الصدور، ويذكر ... ». (4) (ف، ك، ط، طف) زيادة: «المعاندون». (5) زيادة من (ف، ك، ط، طف).

(الكتاب/283)


والدين: قولٌ وعملٌ، يزيدُ وينقصُ؛ قولُ القلبِ واللسان، [وعَمَلُ القلبِ واللسان] (1) والجوارح». قالوا: إذا قيل: إنَّ هذا من أصول الفرقة الناجية، خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك، مثل أصحابنا المتكلِّمين الذين يقولون: إنَّ الإيمانَ هو التصديق، ومن يقول: إنَّ الإيمانَ هو التصديق (2) والإقرار. وإذا لم يكونوا ناجين، لزمَ أن يكونوا هالكين (3). وأما الأسولة الثلاثة ــ وهي التي كانت عمدتهم ــ فأوردوها على قولنا: «وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمانُ بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأجمعَ عليه سلفُ الأُمة: من (4) أنه سبحانه فوقَ سمواته، على (5) عَرْشه، عليٌّ على خَلْقِه، وهو معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون. كما جمع بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ (6) مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. _________ (1) ما بين المعكوفين سقط من الأصل. (2) «ومن ... التصديق» سقطت من (ب). (3) (ب): «من الهالكين». (4) الأصل و (ب، ق، ط): «ومن»، والمثبت من (ق، ك، طف) وهو الأولى في المعنى. (5) في (ب، ف، ك، ط): «وأنه على». (6) تبدأ الآية من هنا في الأصل و (ق).

(الكتاب/284)


«وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (1) أنَّه مختلطٌ بالخلق، فإِنَّ هذا لا توجبه اللغة، وهو خلافُ ما أجمعَ عليه سلفُ الأُمة، وخلافُ ما فطَرَ الله عليه الخلق، بل القمر آيةٌ من آياتِ الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر (2) أينما كان، وهو سبحانه فوقَ العَرْش، رقيبٌ على خَلْقه، مُهَيْمنٌ عليهم، مُطَّلعٌ إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وكلُّ هذا الكلام الذي ذكره الله، من أنَّه فوقَ العرش، وأنَّه معنا= حقٌّ على حقيقته، لا يحتاج (3) إلى تحريف، ولكن يُصان عن الظنون الكاذبة. [والسؤال الأوّل] (4) قال بعضهم: نُقِرُّ باللفظ الوارد، مثل حديث [ق 81] العباس، حديث (5) الأوعال: «واللهُ فوقَ العرشِ» (6) ولا نقول: فوق السماوات، ولا نقول: على العرش. وقالوا أيضًا: نقول: على (7) العرش _________ (1) «أينما كنتم ... معكم» سقط من (ف). (2) زاد في (ف، ك، ط، طف): «وغير المسافر». (3) (ف): «لا يحتاجون». (4) ما بينهما من (ف، ك، ط)، وفي (طف): «السؤال الثاني» وجعل الأسئلة التي بعدها الثالث والرابع. وفي باقي النسخ الثاني والثالث. والسبب في اختلاف العدّ هو اعتبار الأسئلة الثلاثة مستأنفة العد، أو تابعة للسؤال الأول. وبعده في (ب، ق): «فقال». (5) (ب، ق): «من حديث». (6) أخرجه أبو داود (4725)، والترمذي (3638) وغيرهما. قال الترمذي: «حسن غريب». (7) (ف، طف): «الرحمن على ... ».

(الكتاب/285)


استوى، ولا نقول: الله على العرش (1) استوى، ولا نقول: مستوٍ. وأعادوا هذا المعنى مرارًا= أنّ الّلفظ الذي ورد يقال (2) بعينه، ولا يُبدَّل بلفظٍ يرادفُه، ولا يُفهم له معنًى أصلًا، ولا يقال: إنَّه يدلُّ على صفة لله أصلًا. وانبسط الكلامُ في هذا في (3) المجلس الثاني، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. والسؤال الثاني: قالوا: التشبيه بالقمر فيه تشبيه كونِ الله في السَّماء بكون القمر في السَّماء. السؤال الثالث: قالوا: قولك: «حقٌّ على حقيقته»، الحقيقةُ هي المعنى اللغويُّ، ولا يُفهم من الحقيقة اللغوية (4) إلاَّ استواء الأجسام وفوقيَّتها (5)، ولم تضع العرب ذلك إلا لها. فإثبات الحقيقة هو محضُ التجسيم، ونفي التجسيم ــ مع هذا ــ تناقضٌ أو مُصانعة؟ فأجبتهم (6): بأنَّ قولي: «اعتقادُ الفِرْقة الناجية» هي الفرقة التي وصفها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالنجاة، حيثُ قال: «تفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون _________ (1) «وقالوا أيضًا ... العرش» سقط من الأصل. (2) (ب، ق): «وأعاد»، و (ف، ك، ط، طف): «مرارًا أي ... يقال اللفظ ... ». (3) «في» من (ق، طف). (4) «اللغوية» ليست في (ك). (5) الأصل: «وتوفيته»، وفي (ق): «وفوقيته»، والمثبت من (ف، ك، ط، طف). (6) زاد في (ف، ك، ط، طف): «عن الأسئلة».

(الكتاب/286)


في النار، وواحدة في الجنَّة، وهي من كان على مِثْل ما أنا عليه وأصحابي» (1). فهذا الاعتقادُ هو المأثورُ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم ومن اتَّبعهم: الفرقةُ الناجية. فإنَّه قد ثبت عن غير واحدٍ من الصحابة أنَّه قال: «الإيمانُ يزيد وينقص» (2). وكلُّ ما ذكرتُه في ذلك فإنَّه مأثورٌ عن الصحابة بالأسانيد الثابتة، لفظُه أو معناه (3)، وإذا خالفهم من بعدهم لم يضرّ في (4) ذلك. قلت (5): وليس كلُّ من خالف (6) في شيءٍ من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا. فإنَّ المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا، يغفر اللهُ له (7) خطأه. وقد لا يكون بَلَغه في ذلك من العلم ما تقوم عليه به الحجَّة، وقد يكون له _________ (1) أخرجه الترمذي (2641)، والحاكم: (1/ 218) من حديث عبد الله بن عمرو، قال الترمذي: «حديث مفسر حسن غريب». ورُوي من حديث جماعة من الصحابة منهم: أنس، ومعاوية، وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة. قال ابن تيمية: الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند. وقال العراقي: أسانيده جياد. وانظر «السلسلة الصحيحة» (204) للألباني. (2) انظر «السنة»: (4/ 38 ــ 39) للخلال. (3) (طف): «ومعناه». (4) كذا في الأصل و (طف)، وفي (ب، ق، ف، ك، ط): «يضرني». و «ذلك» ليست في (ف). (5) (ف، ك): «قلت لهم»، (ط، طف) بزيادة «ثم» .. (6) (ف): «وليس مخالف في»، (ك): «وليس كل خالف ... ». (7) ليست في (ب، ق، طف).

(الكتاب/287)


من الحسنات ما يمحو (1) الله به سيئاته. وإذا كانت ألفاظُ الوعيد المتناولة [له] (2) لا يجبُ أن يدخلَ فيها المتأوِّل، والتائب (3)، وذو الحسنات الماحية، والمغفور له، وغير ذلك= فهذا أولى. بل مُوجب هذا الكلام أنَّ من اعتقدَ ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضِدَّه فقد يكون ناجيًا، وقد لا يكون ناجيًا. كما يقال (4): من صَمَتَ نجا. وأمَّا السؤال الثاني: فأجبتهم أوَّلاً: بأنَّ كلَّ لفظٍ قلته فهو مأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مثل لفظ: «فوق السماوات» ولفظ: «على العرش»، و «فوق العرش». وقلتُ: اكتبوا الجوابَ. فأخَذ الكاتبُ في كتابته. ثمَّ قال بعضُ الجماعة: قد طال المجلسُ اليوم، فيؤخَّر هذا إلى مجلسٍ آخر، تكتبون (5) أنتم الجواب، وتُحضِرونه في ذلك المجلس. وأشار بعضُ الموافقين بأن نُتِمَّ (6) الكلامَ بكتابةِ الجوابِ؛ لئلا تنتشر أسْوِلتهم واعتراضهم. _________ (1) (ب، ق): «يغفر». (2) زيادة يستقيم بها السياق من (ط، طف). (3) الأصل: «الثابت»، و (طف): «والقانت». (4) (ف، ك، ط): «قال». (5) (ف): «وتؤخرون»، (ك): «فتكتبون». (6) بقية النسخ: «يتمّم».

(الكتاب/288)


وكأنَّ الخصومَ كان (1) لهم غرضٌ في تأخير كتابةِ الجواب، ليستعدُّوا لأنفسهم، ويطالعوا، ويُحضروا من غابَ من أصحابهم، ويتأمَّلوا العقيدةَ فيما بينهم، ليتمكَّنوا من الطعن والاعتراض. فحصلَ الاتفاقُ على أن يكون تمامُ الكلام يوم الجمعة، وقمنا على ذلك. وقد أظهرَ الله من قيام الحُجَّة وبيانِ المحجَّة ما أعزَّ به [ق 82] أهل (2) السنة والجماعة، وأرغَم به أهل البدعة والضلالة، وفي نفوس كثيرٍ من الناس أمورٌ لما يحدث (3) في المجلس الثاني. وأخذوا في تلك الأيام يتأمَّلونها، ويتأملون ما أجبتُ (4) به في مسائل تتعلَّق بالاعتقاد، مثل «المسألة الحموية في الاستواء والصفات الخبرية»، وغيرها. _________ (1) ليست في (ب، طف). (2) (ف، ك): «أعز الله .. »، و «أهل» من الأصل فقط. (3) (ب، ق): «بُحِث». (4) (ك): «أجيب».

(الكتاب/289)


فصل (1) فلمَّا كان المجلس الثاني، بعد صلاة الجمعة (2)، ثاني عشر رجب، وقد أحضروا أكبرَ (3) شيوخهم ــ ممن لم يكن حاضرًا ذلك المجلس (4) ــ وبحثوها فيما بينهم، واتفقوا وتواطأوا، وحضروا بقوَّة واستعداد غير ما كانوا عليه؛ لأنَّ المجلس الأول أتاهم بغتة، وإن كان أيضًا بغتةً للمخاطَب الذي هو المسؤول والمجيبُ والمناظرُ. فلمَّا اجتمعنا ــ وقد أحضرتُ ما كتبته من الجواب على (5) أسولتهم المتقدِّمة التي طُلِبَ تأخيرها (6) إلى هذا اليوم ــ حمدتُ الله بخطبة الحاجة، خطبة ابن مسعود. ثمَّ قلتُ: إنَّ الله أمرَنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفُرقة والاختلاف، وقال لنا في القرآن: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ _________ (1) من (ف، ك). (2) في (ف، ك): «في المجلس الثاني يوم الجمعة بعد الصلاة». (3) (طف): «أكثر». (4) (ك): «اليوم». وفي (طف) زيادة: «وأحضروا معهم زيادة صفي الدين الهندي، وقالوا: هذا أفضل الجماعة وشيخهم في علم الكلام، وبحثوا ... ». (5) (ف، ك): «عن». (6) (ف، ك): «تأخيره»، (طف): «طلبوا تأخيره».

(الكتاب/290)


الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]. وربُّنا واحد، وكتابنا واحد، ونبيّنا واحد، وأصولُ الدِّين لا تحتمل التفرُّقَ والاختلاف. وأنا أقول ما يوجب الجماعةَ بين المسلمين، وهو متفقٌ عليه بين السلف، فإن وافق الجماعةُ فالحمد لله، وإلاَّ فمن خالفني بعد ذلك، كشفتُ له (1) الأسرار، وهتكت الأستار، وبيَّنتُ المذاهب الفاسدة، التي أفسدت الملل والدُّوَل. وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأُعرِّفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس، فإنَّ للسِّلم كلامًا، وللحرب كلامًا. وقلتُ: لا شكَّ أنَّ الناس يتنازعون، فيقول هذا: أنا حنبليٌّ، ويقول هذا: أنا أشعريٌّ، ويجري بينهم تفرُّقٌ وفتنٌ (2) واختلاف على أمور لا يعرفون حقيقتها. وأنا قد أحضرتُ ما يُبيِّن (3) اتفاقَ المذاهب فيما ذكرتُه، وأحضرتُ كتاب «تبيين (4) كَذِب المفتري فيما يُنسَب (5) إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري»، تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر. _________ (1) «له» ليست في (ف، ك). (2) ليست في (ك). (3) (ف، ك): «ما بين». (4) تحرف اسم الكتاب في (ب، ق): «بتبيين ــ يتبين»! (5) (ب): «نُسِبَ».

(الكتاب/291)


وقلتُ: لم يُصَنَّف في أخبار الأشعريِّ المحمودة كتابٌ مثل هذا، وقد ذكرَ فيه لفظَه الذي ذكره في كتاب «الإبانة». فلمَّا انتهيتُ إلى ذكر المعتزلة، سأل الأميرُ عن معنى المعتزلة؟ فقلتُ: كان (1) الناسُ في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق المِلِّيِّ ــ وهو أوَّل اختلاف (2) حدث في الملَّة ــ هل هو كافرٌ أو مؤمن؟ فقالت الخوارج: إنَّه كافر، وقالت الجماعةُ: إنَّه مؤمن. فقالت طائفةٌ: نقول: هو فاسقٌ، لا كافر ولا مؤمن، نُنْزِله منزلةً بين المنزلتين، وخلَّدوه (3) في النار، واعتزلوا حَلْقة الحسن البصري وأصحابه، فسُمُّوا معتزلةً. فقال الشيخ الكبير ــ بِجَبَهٍ (4) وردٍّ ــ: ليس كما قلت، ولكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون: مسألة الكلام، وسُمِّي المتكلمون [ق 83] متكلِّمين لأجل تكلُّمهم في ذلك، وكان أوَّلُ من قالها: عَمْرو بن عُبَيد، ثم خلفه بعد موته عطاءُ بن واصل. _________ (1) (ب، ق): «كانوا». (2) (ب، ق): «خلاف». (3) (ف، ط): «منزلتين»، (ف، ك): «وخلوده». (4) الأصل و (ف): «بحبه» بحاءٍ مهملة، و (طف): «بجبته وردائه»! والمثبت من (ب، ق، ك) هو الصواب. قال في «تاج العروس»: (19/ 28): «جَبَهَه، كَمَنَعَه، ومن المجاز: جَبَهَ الرجلَ يَجْبَهُه جَبْهًا إذا ردَّه عن حاجته .. وفي المحكم: جَبَهتُه إذا استقبلته بكلامٍ فيه غلظة، وجبهتُه بالمكروه إذا استقبلته به» اهـ.

(الكتاب/292)


هكذا قال! وذكر نحوًا من هذا. فغضبتُ (1) وقلتُ: أخطأتَ، وهذا كذبٌ مخالفٌ للإجماع. وقلتُ له: لا أدبَ ولا فضيلة، لا تأدَّبتَ معي في الخطاب، ولا أصبتَ في الجواب! الناسُ (2) اختلفوا في مسألة الكلام في خلافة المأمون وبعدها في أواخر المئة الثانية، وأمَّا المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير، زمن (3) عَمْرو بن عُبيد بعد موت الحسن البصريِّ، في أوائل المئة الثانية، ولم يكن أولئك قد تكلَّموا في مسألة الكلام، ولا تنازعوا فيها، وإنَّما أوَّل بدعتهم: تكلُّمُهم في مسائل الأسماء والأحكام (4) والوعيد. فقال: هذا ذكره الشهرستاني في كتاب «الملل والنِّحل». فقلتُ: الشهرستانيُّ ذكر ذلك في اسم المتكلِّمين لِمَ سُمُّوا متكلِّمين (5)، والأميرُ إنِّما سألَ عن اسم المعتزلة. وأنكر الحاضرون عليه. وقال: غلطتُ (6). وقلتُ في ضمن كلامي: أنا أعلمُ كلَّ بدعةٍ حدثت في الإسلام، وأوّل _________ (1) زاد في (ف، ك، ط، طف): «عليه». (2) (ف، ك): «قلت: الناس»، و (ط، طف): «ثم قلت ... ». (3) (ق): «من»، (ف، ك، ط، طف): «في». (4) (ف، ك، ط): «الأحكام والأسماء». (5) بعده في (ف، ك، ط، طف): «لم يذكره في اسم المعتزلة». (6) (طف): «وقالوا: غلطت».

(الكتاب/293)


من ابتدعها، وما كان سببُ ابتداعها (1). وأيضًا: فما ذكره الشهرستانيُّ ليس بصحيح في اسم المتكلِّمين، فإنَّ المتكلّمين كانوا يُسَمَّون بهذا الاسم قبل تنازعهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء: إنَّه متكلِّم، ويصفونه بالكلام، ولم يكن الناس اختلفوا في مسألة الكلام. وقلتُ أنا وغيري: إنَّما هو واصل بن عطاء (2). قلتُ: وواصل لم يكن بعد موتِ عَمْرو بن عُبيد، وإنِّما كان قرينَه (3). وقد رُويَ أنَّ واصلاً تكلَّم مرَّةً بكلام، فقال عَمْرو بن عُبيد: لو بُعِثَ نبيٌّ أكان (4) يتكلّم بأحسن من هذا، وفصاحتُه مشهورة، حتى قيل: إنَّه كان ألثغ، فكان يحترز عن الرَّاء، حتَّى قيل له: أمرَ الأميرُ أن تُحْفَر بيرٌ (5). فقال: أوْعزَ القائدُ أن يُقْلَب قليبٌ (6). قال الشيخ المقدَّم فيهم (7): لا ريب أنَّ الإمام أحمد إمامٌ عظيم القدر، _________ (1) «وما كان سبب ابتداعها» سقطت من (ب). (2) (طف) زيادة: «أي: لا عطاء بن واصل كما ذكره المعترض». (3) (ك): «قريبه». (4) (ق، ف): «لكان»، (ط، طف): «ما كان»، (ف): «متكلم». (5) زاد في (ك): «في قارعة الطريق». (6) زاد في (ك، طف): «في الجادة». (7) (ك): «المتقدم»، و «فيهم» ليست في (ب، ق). وقبلها في (طف): «ولما انتهى الكلام إلى ما قاله الأشعري .. ».

(الكتاب/294)


ومن أكبر أئمة الإسلام، لكن قد انتسب إليه أناسٌ ابتدعوا أشياء. فقلتُ: أمَّا هذا فحقٌّ، وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمامٍ إلَّا وقد انتسب (1) إليه أقوامٌ هو منهم بريءٌ، قد انتسبَ إلى مالك أقوامٌ هو منهم بريءٌ، وانتسب إلى الشافعيّ كذلك، وانتسب إلى أبي حنيفة كذلك. وقد انتسب إلى عيسى أُناسٌ هو منهم بريءٌ، وانتسب إلى موسى كذلك. وكذلك إلى علي بن أبي طالب (2). ونبينا - صلى الله عليه وسلم - قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف المُلْحِدَة والمنافقين من هو بريءٌ منهم. وذكر في كلامه أنَّه انتسبَ إلى أحمد أناسٌ من الحَشَوية والمشبِّهة. ونحو هذا الكلام. فقلتُ: المشبِّهة والمجسِّمة في غير أصحاب الإمام (3) أحمد أكثر منهم فيهم، هؤلاء أصناف الأكراد كلهم شافعيَّة، وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنفٍ آخر. وأهلُ جيلان، فيهم شافعيّة وحنبليَّة. (4) وأمَّا الحنبليةُ المَحْضةُ [ق 84] فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم. _________ (1) (ب، ق): «انتسبت». (2) النص في هذه الفقرة في (ف، ك، ط، طف) مغايرٌ لباقي النسخ، وهذا سياقه: «إلى مالك أناس مالك بريءٌ منهم، وانتسب إلى الشافعي أناس هو منهم بريءٌ، وانتسب إلى أبي حنيفة أناس هو بريءٌ منهم. وقد انتسب إلى موسى عليه السلام أناسٌ هو بريء منهم، وانتسب إلى عيسى عليه السلام أناس هو بريء منهم، وقد انتسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أناس هو بريءٌ منهم». (3) ليست في (ف، ك). (4) قبله في (ف، طف): «قلت».

(الكتاب/295)


وكان من تمام الجواب: أنَّ الكرَّاميَّة المجسِّمة كلَّهم حنفية. وتكلمتُ على لفظ الحشويَّة (1) فقلتُ: هذا الّلفظ أوّل من ابتدعه المعتزلة؛ فإنَّهم يسمُّون الجماعةَ والسواد الأعظم: الحَشْو، كما تسميهم الرافضةُ: الجمهور. وحَشْو الناسِ: هم (2) عموم الناس وجمهورُهم، وهم غير الأعيان المتميزين (3). وأوَّل من تكلَّم بهذا: عَمْرو بن عُبَيد، وقال: كان عبد الله بن عمر حَشْويًّا. فالمعتزلة سموا الجماعة حَشْوًا (4). وأوَّلُ من قال: إنّ الله جِسْم: هشامُ بن الحكم الرافضي. وقلتُ لهذا الشيخ: مَنْ في أصحابنا (5) حَشْويٌّ بالمعنى الذي تريده؟ الأثرم، أبو داود، المرُّوذي، الخلاّل، أبو بكر عبد العزيز، أبو الحسن التميمي، ابن حامد، القاضي أبو يعلى، أبو الخطاب، ابن عقيل؟ ! ورفعتُ صوتي وقلتُ: سَمِّهم، قل لي مَنْ هم، مَن هم؟ أَبِكَذِبِ ابنِ الخطيب (6) وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطلُ الشريعةُ، _________ (1) (ف، ك، ط، طف) زيادة «ما أدري جوابًا [ف: أجوابًا] على سؤال الأمير أو غيره، أو من غير جواب». (2) ليست في (ب، ق)، و (ف، ك): «هو». (3) (ك، طف) زيادة: «يقولون: هذا من حشو الناس كما يقال: هذا من جمهورهم». (4) «فالمعتزلة ... حشوًا» سقط من (ب). وبعده في (ف، ك، ط، طف): «كما تسميهم الرافضة: الجمهور، وقلت ــ لا أدري في المجلس الأول أو الثاني ــ .. ». (5) العبارة في (ف، ك، ط، طف): «من في أصحاب أحمد الإمام [ك: من] الأعيان». (6) يعني فخر الدين الرازي.

(الكتاب/296)


وتندرسُ معالم الدين؟ كما نقل هو وغيره عنهم أنَّهم يقولون: القرآنُ (1) القديمُ هو أصوات القارئين، ومدادُ الكاتبين، وأنَّ الصوتَ والمداد قديمٌ أزليٌّ؟ من قال هذا؟ أو في أيِّ كتابٍ وُجِدَ عنهم هذا (2)؟ قل لي. وكما نقلَ عنهم: أنَّ الله لا يُرى في الآخرة، باللزوم الذي ادَّعاه، والمقدِّمة التي نقلها عنهم. وأخذتُ أذكرُ ما يستحقّه هذا الشيخ؛ من أنَّه كبير الجماعة وشيخُهم، وأن فيه من العقل والدين، ما يستحقُّ أن يُعامل بموجبه (3). وأمرتُ بقراءة العقيدة جميعها عليه، فإنّه لم يكن حاضرًا في المجلس الأوّل، وإنّما أحضروه في الثاني انتصارًا به. وحدثني الثقةُ عنه بعد خروجه من المجلس، أنَّه اجتمعَ به، وقال له: أخبرني عن هذا المجلس؟ فقال: ما لفلانٍ ذنبٌ، ولا لي، فإنَّ الأمير سأل عن شيءٍ فأجابه عنه. فظننتُه سألَ عن شيءٍ آخر. وقال: قلتُ لهم: ما لكم على الرجل اعتراضٌ، فإنَّه نَصَرَ تَرْكَ التأويل، وأنتم تنصرون قولَ التأويل، وهما قولان للأشعريِّ. وقال: أنا أختارُ قولَ تركِ التأويل، وأخرج وصيَّته التي أوصى بها. وفيها: _________ (1) (ب، ف، ك، طف): «إنَّ القرآن». (2) (ك، ط، طف): «وفي ... هذا عنهم». (3) في الأصل «بمذهبه» تحريف.

(الكتاب/297)


قولُ تركِ التأويل. قال الحاكي لي: فقلتُ له: فبلغني عنك أنَّك قلتَ في آخر المجلس (1)، لما أشهدوا (2) الجماعةُ على أنفسهم بالموافقة: لا تكتبوا عنِّي نفيًا ولا إثباتًا. فلِمَ ذاك؟ فقال: لوجهين: أحدهما: أنِّي لم أحضر قراءةَ جميع العقيدة في المجلس الأول. والثاني: لأنَّ أصحابي طلبوني لينتصروا بي، فما كان يليق أن أُظْهِرَ مخالفتهم، فسكتُّ عن الطائفتين. وأمرتُ غيرَ مرَّة أن تُعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ، فرأى بعضُ الجماعة أنَّ ذلك يطولُ (3)، وأنَّه لا يُقرأ عليه إلا الموضع الذي (4) لهم عليه سؤال، وأعْظَمُه لفظ «الحقيقة» فقرؤوه عليه. وذكر هو بحثًا حسنًا يتعلَّق بدلالة اللفظ. فحسَّنته ومَدَحْتُه عليه، وقلتُ: لا ريبَ أنَّ الله حيٌّ حقيقة، [عليمٌ حقيقةً] (5)، سميعٌ حقيقةً، بصيرٌ حقيقةً، وهذا متَّفقٌ عليه بين أهل [ق 85] السنَّة _________ (1) (ب، ق): «المجالس». (2) (ك، ط، طف): «بلغني ... أشهد». (3) (طف): «تطويل». (4) (ف): «وأنه يقرأ .. »، (الأصل، ب، ق): «المواضع»، (ب، ق): «التي». (5) ما بينهما ليس في الأصل.

(الكتاب/298)


والصِّفاتية من جميع الطوائف، ولو نازَع بعضُ أهل البدع في بعض ذلك، فلا ريبَ أنَّ الله موجودٌ، والمخلوقُ موجودٌ. ولفظ «الوجود» سواء كان مقولاً عليهما بطريق الاشتراك اللفظيِّ فقط، أو بطريق التواطُؤ المتضمِّن للاشتراك لفظًا ومعنًى، أو بالتشكيك الذي هو نوعٌ من التواطؤ= فعلى كلِّ قول، فالله موجود حقيقةً، والمخلوقُ موجودٌ حقيقة، ولا يلزمُ من إطلاق الاسم على الخالق والمخلوق بطريق الحقيقة محذورٌ. ولم أُرَجِّح في ذلك المقام قولاً من هذه الثلاثة على الآخر؛ لأنَّ غرضي يحصُل على كلِّ مقصود. وكان مقصودي تقريرَ ما ذكرتُه على قولِ جميعِ الطوائف، وأن أُبَيِّن اتفاقَ السلفِ ومن تَبِعَهم على ما ذكرتُه، وأَنَّ أَعيانَ المذاهبِ الأربعة، والأشعريَّ، وأكابر أصحابه على ما ذكرتُه. فإنَّه قبل المجلس الثاني، اجتمعَ بي من أكابر الشافعية، والمنتسبين إلى الأشعرية والحنفية، وغيرهم، ممن عَظُم خوفُهم من هذا المجلس، وخافوا انتصارَ الخصوم فيه، وخافوا على نفوسهم أيضًا من تفرُّق (1) الكلمة، فلو أظْهَرتُ (2) الحُجَّةَ التي ينتصرُ بها ما ذكرته، ولم (3) يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها= لصارت فُرقةً، ولصعُب (4) عليهم أن يُظْهِروا في المجالس _________ (1) (ق): «تفريق». (2) (ب، ق): «وظهرت». (3) (ط، طف): «أولم». (4) (ب، ق): «ويصعب».

(الكتاب/299)


العامة الخروج عن أقوال طوائفهم، لما في ذلك من تمكُّن أعدائهم من أغراضهم. فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك، وقامت عليه الحجَّة، وبان أنَّه مذهب السلف= أمكنهم إظهارُ القول به، مع ما يعتقدونه [في الباطن] (1) أنه الحق. حتَّى قال لي بعض الأكابر من الحنفية ــ وقد اجتمع بي ــ: لو قلتَ: هذا مذهب أحمد بن حنبل، وثَبَتَّ على ذلك؛ لانقطع النزاع. ومقصودُه أنَّه يحصل دفع الخصوم عنه (2) بأنَّه مذهبُ متبوع، ويستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة. فقلتُ: لا والله، ليس لأحمد بن حنبل بهذا اختصاصٌ، وإنَّما هذا اعتقادُ سلف الأمة، وأهل (3) الحديث. وقلتُ أيضًا: هذا اعتقادُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلُّ لفظٍ ذكرتُه فأنا أذكُر به آيةً أو حديثًا، أو إجماعًا سلفيًّا، وأذكر (4) من ينقل الإجماعَ عن السلف من جميع طوائف المسلمين؛ الفقهاء (5) الأربعةِ، والمتكلِّمين، وأهلِ الحديث، والصوفية. _________ (1) «في الباطن» ليست في الأصل. (2) كذا في الأصل، وفي بقية النسخ: «عنك». (3) (ف، ك، طف): «وأئمة أهل ... ». (4) (ف): «أو ذكر». (5) (ك): «أتباع الفقهاء»، (طف): «والفقهاء».

(الكتاب/300)


وقلتُ لمن خاطبني من أكابر الشافعية: لأُبيننَّ (1) أنَّ ما ذكرتُه هو قولُ السَّلف، وقولُ أئمة أصحاب الشافعيِّ، وأذكرُ قولَ الأشعريِّ وأئمة أصحابه التي ترُدُّ على هؤلاء الخصوم، ولينتصرنَّ كلُّ شافعيٍّ، وكلُّ من قال بقول الأشعريِّ الموافقِ لمذهب السَّلف، وأُبيِّنُ أنَّ القولَ المحكيَّ عنه في تأويل الصِّفات الخبريّة قولٌ لا أصلَ له في كلامه، وإنَّما هو قولُ طائفةٍ من أصحابه. فللأشعرية قولان، ليس للأشعريِّ قولان. ولما ذكرتُ في المجلس أنَّ جميعَ أسماء الله التي يُسمَّى (2) بها المخلوق، كلفظ «الوجود» الذي هو مقولٌ بالحقيقة على الواجب والممكن (3) = تَنازَعَ كبيران (4)؛ هل هو مقولٌ بالاشتراك أو بالتواطؤ؟ فقال أحدهما: هو متواطئ، وقال الآخر: هو [ق 86] مشترك، لئلّا يلزم التركيب. وقال هذا: قد ذكر فخر الدين أنَّ هذا النزاع (5) مبنيٌّ على أنَّ وجودَه هل هو عينُ ماهيَّته أم لا؟ فمن قال: إنَّ وجود كلِّ شيءٍ عينُ ماهيَّته، قال: إنَّه مَقُول بالاشتراك، ومن قال: إنَّ وجودَه قدرٌ زائد على ماهيَّته، قال: إنَّه مقولٌ بالتواطؤ. _________ (1) (ب، ف، ق، ط، طف): «لأبيّن». (2) (ف): «تسمى»، (طف): «سمى». (3) بعده في (ف، ك): «على الأقوال الثلاثة». (4) (ف): «كثيران». (5) (ف): «التزام».

(الكتاب/301)


فأخَذ الأوَّلُ يُرجِّحُ قولَ من يقول: إنَّ الوجود زائدٌ على الماهيَّة، لينصر أنَّه مقولٌ بالتواطؤ (1). فقال الثاني: ليس (2) مذهبُ الأشعريِّ وأهل السنة أنَّ وجودَه عينُ ماهيَّته. فأنكر الأول ذلك. فقلتُ: أمَّا متكلِّمو (3) أهل السنة، فعندهم أنَّ وجود كلِّ شيءٍ عينُ ماهيَّته. وأمَّا القولُ الآخر فهو قول المعتزلة: إنَّ وجود كلِّ شيءٍ قدرٌ زائدٌ على ماهيَّته، وكلٌّ منهما أصاب من وجه. فإنَّ الصوابَ أنَّ هذه الأسماء مقولة بالتواطؤ، كما قد قرَّرْتُه في غير هذا الموضع. وأجبتُ عن شُبهة التركيب بالجوابين المعروفَين. وأمَّا بناءُ ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيَّته أو ليس [عينه] (4) فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب، فإنَّا وإن قلنا: إنَّ وجودَ الشيءِ عينُ ماهيَّته، لا يجبُ أن يكون الاسم مقولاً عليه وعلى نظيره بالاشتراك (5) اللفظيِّ فقط، كما في جميع أسماء الأجناس، فإنَّ اسم «السواد» مَقُولٌ على هذا السواد وهذا السواد بالتواطؤ، وليس عينُ هذا السواد هو عين هذا السواد؛ _________ (1) «فأخذ الأول ... بالتواطئ» سقط من (ف). (2) سقط من (ب، ق). (3) (ب، ق): «متكلمة». (4) من (طف)، و (ط): «عينها». (5) الأصل: «الاشتراك».

(الكتاب/302)


إذ (1) الاسم دالٌّ على القدر المشترك بينهما، وهو المطلق الكلّي، لكنَّه لا يوجد مطلقًا (2) بشرط الإطلاق إلا في الذِّهْن، ولا يلزم من ذلك نفي القَدْر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج، فإنّه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة، وهي جمهورُ (3) الأسماء الموجودة في اللُّغات (4)، وهي أسماء الأجناس اللغوية، وهو الاسم المطلق (5) على الشيء وعلى كلِّ ما أشبهه، سواء كان اسم عين أو اسم صفة، جامدًا أو مشتقًّا، وسواء كان جنسًا (6) منطقيًّا أو فقهيًّا أو لم يكن. بل اسم الجنس في اللغة يدخل فيه (7) الأجناس والأصناف (8) والأنواع، ونحو ذلك، وكلُّها أسماء متواطئة، وأعيانُ مُسمياتها في الخارج متميزة. وطلب بعضُهم إعادةَ قراءة الأحاديث المذكورة (9) في العقيدة، ليطعنَ _________ (1) (ب، ق): «و». (2) زاد في (ف، ك، ط): «كليًّا». (3) (ق): «جميع». (4) (طف): «في الغالب». (5) الأصل، (ف): «المعلّق». (6) الأصل: «اسمًا». (7) هنا انتهى الموجود من نسخة القدس (ق)، وأكمل بعض المطالعين ورقةً أخرى بخط مغاير. (8) (ب): «والأوصاف»، (ف، ك): «الأصناف والأجناس». (9) ليست في (ف).

(الكتاب/303)


في بعضها (1). فقلتُ: كأنّك استعددت للطعن في حديث الأوعال (2)، وكانوا قد تَعَنَّوا (3) حتَّى ظفروا بما تكلَّم به زكيُّ الدين عبد العظيم (4)، من قول البخاريِّ في «تاريخه» (5): عبد الله بن عُميرة، لا يُعرَف له سماع من الأحنف. فقلت: هذا الحديث مع أنه رواه أهل السنن، كأبي داود وابن ماجه والترمذي وغيرهم= فهو مرويٌّ من طريقين مشهورَين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر. فقال: أليس مداره على ابن عُميرة، وقد قال البخاريّ: لا يُعرف له سماعٌ من الأحنف؟ فقلتُ: قد رواه إمام الأئمة ابن خُزيمة في «كتاب التوحيد» (6) الذي اشترط فيه أنه لا يحتجُّ فيه إلا بما نقله العدلُ عن العدل موصولًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . _________ (1) في (ف، ك، ط، طف) زيادة: «فعرفتُ مقصودَه». (2) بعده في (ف، ك، ط، طف): «حديث العباس بن عبد المطلب». (3) (ك، طف): «تعنتوا». (4) يعني المنذري. والذي قاله تعليقًا على هذا الحديث في «مختصر سنن أبي داود»: (7/ 93): «ورواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب، وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه. هذا آخر كلامه. وفي إسناده الوليد بن أبي ثور لا يحتج بحديثه» اهـ. (5) (5/ 159). (6) (1/ 235).

(الكتاب/304)


قلتُ: والإثبات مقدَّمٌ على النفي، والبخاريُّ إنَّما نفى معرفتَه بسماعه (1) من الأحنف، لم ينف معرفةَ الناس بهذا، فإذا عرف غيره ــ إمام الأئمة (2) ــ كانت معرفته وإثباته مقدَّمًا على نفي غيره وعدم معرفته. ووافقَ الجماعةُ على ذلك. وأخذ بعضُ الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه. وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن في العقيدة، ولكن لها تعلُّقٌ بما أجبتُ به في مسائل، ولها تعلُّقٌ بما قد يفهمونه من العقيدة. وأحضر بعضُ أكابرهم (3) كتاب «الأسماء والصفات» للبيهقي، فقال: هذا فيه تأويل الوجه عن السَّلف. فقلتُ: لعلك تعني قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (4) [البقرة: 115]. فقال: نعم، قد قال مجاهد والشافعي: يعني قِبلَة الله. فقلتُ: هذا صحيح عنهما وعن (5) وغيرهما، وهذا حقٌّ، وليست هذه الآية من آيات الصفات. ومن عدَّها في الصفات فقد غلط، كما فعل طائفة! فإنَّ سياق الكلام يدلُّ على المراد، حيث قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا _________ (1) (ف، ك): «لسماعه». (2) (ف، ك): «كإمام الأئمة [ط، طف: ابن خزيمة] الإسناد». (3) (ب): «بعضهم». (4) (ف): «فلعلك تعني قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا ... }. (5) (ف، ك، ط، طف): «نعم هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما»

(الكتاب/305)


تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والمشرقُ والمغربُ الجهات. والوجه: هو الجهة، يقال: أيَّ وجهٍ تريد؟ أي: أيَّ جهةٍ، وأنا أريدُ هذا الوجه، أي هذه الجهة. كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، ولهذا قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، أي: تستقبلوا وتتوجّهوا. والله أعلم. هذا آخر ما علَّقه الشيخ ــ رحمه الله ــ فيما يتعلَّق بالمناظرة، بحضرة نائبِ السَّلطنة (1) والقضاة والفقهاء وغيرهم بالقصر. _________ (1) (ف): «السلطان».

(الكتاب/306)


[كتاب باستدعاء الشيخ إلى مصر] وفي يوم الاثنين خامس شهر رمضان من سنة خمس وسبعمائة وصل كتابُ السلطان بالكشف عما (1) وقع للشيخ تقيّ الدين في ولاية سيف الدين جاغان، وفي ولاية القاضي إمام الدين (2)، وبإحضاره وإحضار القاضي (3) نجم الدين بن صَصْرى إلى الديار المصرية. فَطَلب نائبُ السلطنة الشيخَ وجماعةً من الفقهاء وسألهم عن تلك الواقعة وقُرئ عليهم المرسوم. فأجابَ كلٌّ منهم بما كان عنده من تلك القضية، وكتبه عنهم صاحب الديوان محيي الدين ابن فضل الله (4). وفي يوم الاثنين ثاني عشر رمضان توجه الشيخ تقي الدين (5)، والقاضي نجم الدين إلى مصر على البريد، وخرج مع الشيخ خَلْق كثير، وبكوا وخافوا عليه من أعدائه. وأُخْبِرت أن نائب السَّلْطنة كان قد أشار على الشيخ بترك التوجُّه إلى مصر، وأنه يُكاتب في ذلك، فامتنع الشيخ من ذلك ولم يقبل، وذَكَر أن في توجُّهه إلى مصر مصالح كثيرة. *** _________ (1) (ف، ك): «عما كان». (2) سبق ذكر هذه الحادثة بالتفصيل فيما سبق (ص 263 - 268) وكانت سنة (698 هـ). (3) ليست في (ف). (4) سبقت ترجمته (ص 267). (5) «ابن فضل الله ... تقي الدين» سقط من (ف، ك).

(الكتاب/307)


وقرأت بخطِّ بعض أصحاب الشيخ، قال: ولمَّا توجَّه الشيخ في اليوم الذي توجّه فيه من دمشق المحروسة، كان يومًا مشهودًا غريبَ المثل في كثرة ازدحام الناس لوداعه ورؤيته، حتى انتشروا (1) من باب داره إلى قريب الجسورة (2) ــ فيما بين دمشق والكِسْوة (3) ــ التي هي أول منزلة منها، وهم ما بين باكٍ وحزين ومتعجِّب ومتنزِّه، ومزاحم متغالٍ فيه. [ق 88] ودخل الشيخُ مدينة غزَّة يوم السبت، وعمل في جامعها مجلسًا عظيمًا. وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من رمضان وصل الشيخ والقاضي إلى القاهرة. وفي ثاني يوم بعد صلاة الجمعة، جُمِع القضاةُ وأكابر الدولة بالقلعة لمَحْفِل الشيخ (4)، وأراد الشيخ أن يتكلَّم، فلم يمكَّن من البحث والكلام على عادته، وانتَدَب له الشمسُ ابن عَدْلان خَصْمًا احتسابًا، وادَّعى عليه عند القاضي ابن مخلوف المالكي (5) أنه يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وإن الله يتكلَّم بحرف وصوت، وسأل جوابه. _________ (1) (ف): «انتشر». (2) (ك): «للجسورة». (3) مدينة تقع الآن جنوب دمشق، سميت بذلك في الغالب لأنه كان يصنع بها كسوة الكعبة ويذهب به إلى مكة. انظر www.keswa.net، و «معجم البلدان»: (4/ 461). (4) «الشيخ» ليست في (ف، ك). (5) سبق ترجمة ابن عدلان وابن مخلوف (ص 250 ــ 251).

(الكتاب/308)


فأخذ الشيخُ في حَمْد الله والثناء عليه، فقيل له: أجِبْ، ما جئنا بك لتخطب! فقال: ومَنِ الحاكمُ فيَّ؟ قيل (1) له: القاضي المالكي. قال: كيف يحكم فيَّ وهو خصمي؟ ! وغضب غضبًا شديدًا وانزعج. فأُقيم مرسَّمًا عليه وحُبِس في برجٍ أيامًا. ثم نُقِل منه ليلة عيد الفطر إلى الحبس المعروف بـ «الجُبّ» هو وأخواه شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن. ثم إن نائب السلطنة: سيف الدين سلَّار (2)، بعدَ أكثر من سنةٍ، وذلك ليلة عيد الفطر من سنة ست وسبعمائة أحضر القضاة الثلاثة: الشافعي والمالكي والحنفي، ومن الفقهاء: الباجيّ والجَزَري والنمراوي، وتكلم في إخراجه (3) من الحبس. فاتفقوا على أنه يُشْترط عليه (4) أمور، ويُلْزَم بالرجوع عن بعض العقيدة. فأرسلوا إليه من يُحضره ليتكلَّموا معه في ذلك، فلم يُجِب إلى _________ (1) (ك): «فقيل». (2) (ك): «سلارا». (ت 710) ترجمته في «أعيان العصر»: (2/ 489)، و «الدرر الكامنة»: (2/ 179). (3) (ف، ك): «إخراج الشيخ». (4) (ف): «على».

(الكتاب/309)


الحضور، وتكرَّر الرسولُ إليه في ذلك ست (1) مرات، وصمَّم على عدم الحضور، فطال عليهم المجلس، وانصرفوا عن غير شيء (2). وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة (3) ست وسبعمائة، أخبر نائبُ السلطنة بدمشق بوصول كتابٍ إليه من الشيخ تقيّ الدين من الجُبّ، وأعْلَمَ بذلك جماعةً ممن حضر مجلسه، وأثنى عليه وقال: ما رأيت مثله ولا أشجع منه! وذَكَر ما هو عليه في السِّجْن من التوجُّه إلى الله تعالى، وأنه لم يقبل شيئًا من الكسوة السلطانية، ولا من الإدرار السلطاني، ولا تدنَّس بشيء من ذلك. وفي هذا الشهر أيضًا شهر ذي الحجة في يوم الخميس اليوم السابع والعشرين منه طُلِب أخَوا الشيخ تقيّ الدين: شرف الدين (4)، وزين الدين من الحَبْس (5) إلى مجلس نائب السلطة سلَّار، وحضر القاضي زينُ الدين بن مخلوف المالكي، وجرى بينهم كلام كثير، وأُعِيدا إلى موضعهما بعد أن بحثَ الشيخُ شرف الدين مع القاضي المالكي (6)، وظهر عليه في النقل _________ (1) «ست» ليست في (ك)، و (ف): «سيرات»! (2) شرح شيخ الإسلام ما جرى في هذه الحادثة، وماذا طلبوا منه وبماذا أجابهم في أول كتابه «التسعينية»: (1/ 109 - 119). (3) (ف): «من سنة». (4) (ف، ك): زيادة «عبدالله». (5) (ف، ك): زيادة «عبدالرحمن»، و (ف): «السجن». (6) «وجرى ... المالكي» سقط من (ف).

(الكتاب/310)


والمعرفة، وخطَّأه في مواضع [89] ادَّعى فيها الإجماع، وكان الكلام في مسألة العرش، وفي مسألة الكلام، وفي مسألة النزول. وفي يوم الجمعة التالي لليوم (1) المذكور أُحْضِر الشيخ شرف الدين وحدَه إلى مجلس نائب السلطنة، وحضر ابن عَدْلان، وتكلَّم معه الشيخ شرفُ الدين، وناظره وبحثَ معه وظهرَ عليه (2). وفي اليوم الرابع والعشرين من صفر من سنة سبع وسبعمائة اجتمع القاضي بدر الدين بن جماعة (3) بالشيخ تقيّ الدين في دار الأوحديّ بالقلعة بكرة الجمعة، وتفرَّقا قبل الصلاة، وطال بينهما الكلام. [الأمير ابن مهنا وإخراج الشيخ من الجبّ] وفي شهر ربيع الأول من سنة سبع دخل الأمير حُسام الدين مهنَّا ابن عيسى مَلِك العَرَب إلى مصر، وحضر بنفسه إلى الجبّ. فأخرجَ الشيخَ تقيّ الدين بعد أن استأذنَ في ذلك، فخرج يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر المذكور (4) إلى دار نائب السلطنة بالقلعة، وحضر بعضُ الفقهاء، _________ (1) (ف): «الثاني»، (ك): «ثاني اليوم». (2) في «ذيل مرآة الزمان ــ تكملة الجامع»: (ص 30): «فظهر عليه، ولكن ليس له مساعد. وقيل: إنه ظهر من نائب السلطنة تعصُّب على الشيخ وإخوته». (3) هو: محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بدر الدين الكناني الشافعي، ولي القضاء بمصر والشام وغيرها (ت 733) وقد جاوز التسعين. انظر «أعيان العصر»: (4/ 208 - 213)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 281 - 283). (4) ليست في (ب، ف، ك).

(الكتاب/311)


وحصل بينهم بحثٌ كثير، وفَرَّقت صلاةُ الجمعة بينهم، ثم اجتمعوا (1) إلى المغرب، ولم ينفصل الأمر. ثم اجتمعوا يوم الأحد بعد يومين بمرسوم السلطان مجموعَ النهار، وحضرَ جماعةٌ أكثر من الأولين، حضر نجم الدين بن الرِّفْعة، وعلاء الدين الباجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعزّ الدين النَّمْراوي، وشمس الدين بن عَدْلان، وجماعة من الفقهاء (2). ولم يحضر القضاة، وطُلِبوا، فاعتذر بعضُهم بالمرض، وبعضهم بغيره، وقَبِل عذْرَهم نائبُ السلطنة (3). ولم يكلِّفهم الحضور، بعد أن رسم السلطان بحضورهم. وانفصلَ المجلس على خير. وبات الشيخ عند نائب السلطنة. وكتبَ كتابًا إلى دمشق بكرة الاثنين السادس والعشرين من الشهر، يتضمَّنُ خروجَه، وأنه أقام بدار ابن شُقَير بالقاهرة، وأنَّ الأمير سيف الدين سلَّار رَسَم بتأخُّرِه (4) عن الأمير مهنَّا أيَّامًا، ليرى الناسُ فضله ويحصل لهم الاجتماع به. _________ (1) «بعض ... اجتمعوا» سقط من (ف). (2) ذكر منهم اليونيني في «ذيل المرآة ــ تكملة الجامع»: (ص 31): «شمس الدين الجزري الخطيب، وصهر المالكي». (3) قال ابن كثير عن سبب اعتذارهم عن الحضور: «لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوٍ عليه من العلوم والأدلة، وأن أحدًا من الحاضرين لا يطيقه». «البداية والنهاية»: (18/ 73 - 76)، و «الجامع»: (ص 425). (4) (ف): «بتأخيره».

(الكتاب/312)


وكان (1) مُدَّة مقام الشيخ في الجبِّ ثمانية عشر شهرًا. وفرح خلقٌ كثير بخروجه، وسرُّوا بذلك سرورًا عظيمًا، وحَزِن آخرون وغضبوا. وامتدحه الشيخ الإمام نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي (2) بقصيدة، منها: فاصبر ففي الصبر (3) ما يغنيك عن حِيَل ... وكلُّ صَعْب إذا صابرته هانا ولستَ تَعْدَم من خطبٍ رُميتَ به ... إحدى اثنتين فأيقن ذاك إيقانا تمحيصَ ذنب لتلقى الله خالصةً ... أو امتحانًا به تزدادُ قربانا يا سعد، إنا لنرجو أن تكون لنا ... سَعْدًا ومرعاك للرّوّاد (4) سعدانا وأن يَضرّ بك الرحمنُ طائفةً ... وَلَّت وينفعُ من بالودِّ والانا يا أهل تيميَّة العالين مرتبةً ... ومنصبًا فَرعَ (5) الأفلاك تبيانا جواهرُ الكون أنتم غيرَ أنكمُ ... في معشر أُشرِبوا في العقل نقصانا لا يعرفون لكم فضلًا ولو عَقَلوا ... لصيَّروا لكم الأجفانَ أوطانا [ق 90] يا من حوى من علوم الخلق ما قَصُرَتْ عنه الأوائل مُذْ كانوا إلى الآنا _________ (1) «الأمير ... وكان» سقط من (ف، ك). (2) الحنبلي (ت 716). ترجمته في «أعيان العصر»: (2/ 445 - 447)، و «الذيل على طبقات الحنابلة»: (4/ 404 - 420). (3) (ب، ف): «الغيب». (4) (ف): «للوراد». (5) الأصل و (ف، ب): ««قرع» والمثبت من (ك، ح)، ومعنى فرع: أي علا.

(الكتاب/313)


إن تُبْتلى بلئام الناس يرفَعُهم ... عليك دهر (1) لأهل الفضلِ قد خانا إني لأقسم والإسلامُ مُعْتقدي ... وإنني من ذوي الإيمان أيمانا: لم ألقَ قبلك إنسانًا أُسرُّ به ... فلا بَرِحْتَ لعين المجد إنسانا في أبيات كثيرة غير هذه يمدح فيها الشيخ ويذمُّ أعداءه. *** وفي يوم الجمعة صلّى الشيخ في جامع الحاكم، وجلس فاجتمع إليه خلقٌ عظيم. وسأله بعضُهم أن يتكلَّمَ بشيء يسمعونه منه، فلم يجبهم إلى ذلك، بل كان يتبسَّم وينظر يَمْنهً ويَسْرةً. فقال له رجل: قال الله في كتابه الكريم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، فنهضَ (2) قائمًا، وابتدأ بخطبة الحاجة ــ خطبة ابن مسعود ــ ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ... } [الفاتحة: 1 - 2] (3) إلى آخرها. وتكلَّم على تفسير قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وفي معنى العبادة والاستعانة، إلى أن أذَّنَ مؤذِّن العصر. _________ (1) (ك، ح): «دهر عليك». (2) (ف، ك): «فنهض الشيخ». (3) (ك) زيادة: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، و (ط) أكمل السورة إلى آخرها.

(الكتاب/314)


وفي يوم الخميس السادس من شهر ربيع الآخر من سنة سبع عُقِد للشيخ مجلسٌ آخر بالمدرسة الصالحية بالقاهرة، واجتمع فيه القضاةُ وغيرهم. وكان مما جرى في المجلس ــ فيما بلغني ــ أنه قيل للشيخ: تَسْتَغفر الله العظيم، وتتوب (1) إليه! فقال الشيخ: كلُّنا نستغفر الله العظيم ونتوب إليه، والتفتَ إلى رجلٍ منهم، فقال له: اسْتَغْفر الله العظيم وتُبْ إليه! فقال: أستغفرُ الله العظيم وأتوبُ إليه، وكذلك قال لآخر ولآخر، وكلُّهم يقول كذلك! فقيل للشيخ: تُبْ إلى الله عز وجل من كذا وكذا ــ وذُكِر له كلامٌ (2) ــ. فقال: إن كنتُ قلتُ كلامًا يستوجب التوبةَ فأنا تائبٌ منه. فقال له قائل: هذه ليست توبة. فردَّ عليه الشيخ، وجهَّلَه، ووقع كلامٌ يطول ذكره. ووصل كتابُ الشيخ مؤرَّخًا بليلة الجمعة الرابع عشر من الشهر، يذكر فيه أنه عُقِد له مجلس ثالث بالمدرسة الصالحية بالقاهرة، بعد خروج مُهنَّا في يوم الخميس سادس الشهر، وأنه حَصَل فيه خير، وأن في إقامته مصالح وفوائد (3). _________ (1) (ك): «نستغفر ... ونتوب» خطأ. لأن مقصودهم الطلب من الشيخ. (2) «وذكر له كلام» ليست في (ف). (3) انظر ما سبق (ص 262).

(الكتاب/315)


 [كتاب من الشيخ إلى والدته وغيرها]

وقد وقفتُ على عدَّة كتبٍ بخط الشيخ، بعثها (1) من مصر إلى والدته، وإلى أخيه لأمه: بدر الدين، وإلى غيرهما. منها: كتاب إلى والدته يقول فيه: من أحمد ابن تيميَّة إلى الوالدة السعيدة، أقرَّ الله عينَها بنِعَمِه، وأسبغَ عليها جزيلَ كرمه، وجعلها من خيار إمائه وخَدَمِه. سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنَّا نحمدُ إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهْلٌ، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلِّي على خاتم النبيين، وإمام المتقين محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. كتابي إليكم [ق 91] عن نِعَم من الله عظيمة، ومِنَن كريمة، وآلاء جسيمة، نشكر الله عليها، ونسأله المزيدَ من فضله. ونِعَم الله كلَّما جاءت في نموٍّ وازدياد (2)، وأياديه جلَّت عن التَّعْداد. وتعلمون أنّ مُقامنا الساعة في هذه البلاد، إنما هو (3) لأمور ضرورية، متى أهملناها فسَدَ علينا أمرُ الدين والدنيا. ولَسْنا والله مختارين للبعد عنكم، ولو حملتنا الطيورُ لسِرْنا إليكم، ولكنَّ الغائب عذرُه معه، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور، فإنكم ــ ولله الحمد ــ ما تختارون الساعةَ إلا ذلك، ولم _________ (1) (ب): «بعينها». (2) (ب): «جاءت تنمو زيادة». (3) «إنما هو» ليست في (ب).

(الكتاب/316)


نعزم على المُقام والاستيطان شهرًا واحدًا، بل كلَّ يوم نستخير الله تعالى في السَّفَر إليكم، فاستخيروا اللهَ (1) لنا ولكم، وادعوا لنا بالخِيَرة. فنسأل الله العظيم أن يَخِير لكم ولنا (2) وللمسلمين ما فيه الخِيَرة في خير وعافية. ومع هذا فقد فتح الله من أبواب الخير والرحمة، والهداية والبركة، ما لم يكن يخطر بالبال ولا يدور في الخيال! ونحن في كلّ وقت مُهتمُّون في السَّفَر (3)، مستخيرون الله سبحانه وتعالى. فلا يظن الظانُّ أنا نؤثِرُ على قربكم شيئًا من أمور الدنيا قط، بل ولا نؤثر من أمور الدين ما يكون قربُكم أرجح منه، ولكن ثَمَّ أمور كبار نخاف الضررَ الخاصَّ والعامَّ من إهمالها، والشاهدُ يرى ما لا يرى الغائب. والمطلوبُ كثرة الدّعاء بالخيرة، فإنَّ الله يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علَّام الغيوب. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «مِنْ سعادة ابن آدم استخارَتُه الله، ورضاه بما يقسم الله له، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته لله، وسَخَطه بما يقسم الله له» (4). _________ (1) «تعالى ... الله» سقطت من (ك، ط). (2) (ب): «يخير لنا». (3) (ف، ك): «مهمون بالسفر». (4) أخرجه بنحوه أحمد (1444)، والترمذي (2151)، والحاكم: (1/ 513)، وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. قال الترمذي: «حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد ... وليس بالقويّ عند أهل الحديث». وصحح إسناده الحاكم.

(الكتاب/317)


والتاجر يكون مسافرًا، فيخاف ضياعَ بعضِ ماله، فيحتاج أن يقيم حتى يستوفيه، وما نحن فيه أمرٌ يَجِلُّ عن الوصف، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كثيرًا كثيرًا، وعلى سائر من في البيت من الكبار والصغار، وسائر الجيران والأهل والأصحاب واحدًا واحدًا. والحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه (1) وسلَّم تسليمًا. ***

  [كتاب الشيخ إلى أخيه لأمه بدر الدين] (2)

ومنها: كتاب إلى أخيه لأمّه يقول فيه: من أحمد ابن تيمية إلى الأخ الشيخ الإمام العالم بدر الدين، تولَّاه الله في جميع الأمور (3)، وصرف عنه كلَّ محذور، وأصلح له أمرَ الدّنيا والآخرة، وأسبغ عليه نِعَمَه باطنةً وظاهرة. _________ (1) ليست في الأصل. (2) هذا الكتاب ساقط من (ف، ك، ط). وأخوه لأمه هو: أبو القاسم بن محمد بن خالد الحرَّاني، بدر الدين، كان فقيهًا، ودرّس في عدّة مدارس (ت 717) ودفن بجوار والدته. انظر «الذيل على طبقات الحنابلة»: (4/ 421 - 425)، و «المقصد الأرشد» (3/ 163)، و «البداية والنهاية»: ضمن أحداث سنة 717: (18/ 166) ووقع اسمه فيه: القاسم، بلا كنية، خطأ. (3) (ب): «أموره».

(الكتاب/318)


سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله [إلا] هو، وهو للحمد أهل، وهو على كلِّ شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين، وإمام المتقين: محمدٍ عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليمًا. أما بعد؛ فقد وصل كتابكم المبشِّر بوصول الكتاب إليكم، وحَمِدْنا الله على ما أنعم به عليكم (1) من وصول أخبار السرور إليكم. ومن حين خرجنا لم نزل في آلاءٍ مترادفة ونِعَمٍ متزايدة، ومِنَنٍ جازت حدَّ الأماني، بحيث يقصر الخطاب والكتاب عن تفصيل مِعْشارها (2)، ونِعَم الله في زيادة، والله هو المسؤول أن يوزِعَنا وسائرَ المؤمنين شكرَها ويزيدنا من فضله. وفي مُقامنا من حصول الخير والفوائد لأهل هذه البلاد ولكم ولسائر المؤمنين ما أوجبَ التأخُّر عن التعجيل إليكم [ق 92]. فتعلمون أن ذلك من تمام نِعَمة الله تعالى، فإنّ في ذلك من الخيرات ما لا يمكن وصفُه. وقد كان عُقِد مجلسٌ بالمدرسة المنصوريّة يوم الخميس، وكان يومًا مشهودًا، كان فيه من رحمة الله ولطفه، وانتشار الدعاء المستجاب، والثناء المستطاب، واجتماع (3) القلوب على ما تحبونه وتختارونه فوق (4) ما كان _________ (1) (ب): «الله بما أنعم عليكم». (2) الأصل: «معاشرها» والمثبت من (ب). (3) (ب): «وإجماع». (4) ليست في (ب).

(الكتاب/319)


بالشام وأعظم منه، بحيث صار عند أهل (1) مصر من البِشْر بنعمة الله علينا ما لا يوصَف، وظَهَر الحقُّ للعامّة والخاصّة، ووصل الجماعةُ القادمون عقب (2) ذلك يوم الجمعة، فجمع الله الشمل بهم على أحسن حال، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله الذي جمعَ قلوبَ المؤمنين، فأكْثِروا الشكر لله والثناء. وعليكم بما يجمع قلوبَ المؤمنين ويؤلِّف بين قلوبهم (3)، وإيّاكم والبَطَر والتفريقَ بين المؤمنين، فالأصل الذي يُبْنى عليه الاعتصام بالسنة والجماعة هو (4): اجتماع قلوب المؤمنين بحيث يُجْتنب التفرّق بينهم والاختلاف بحسب الإمكان. فإنّ الذي صنعه الله ويصنعه (5) في هذه القضية أمرٌ جاز (6) حدَّ الأوهام، وفات قُوى العقول. والحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وتسلِّمون على جميع الإخوان والأصحاب (7) واحدً واحدًا. _________ (1) «عند أهل» سقطت من (ب). (2) (ب): «عقيب». (3) «ويؤلف بين قلوبهم» سقط من (ب). (4) (ب): «السنة والجماعة، والجماعة هي ... ». (5) ليست في (ب). (6) في هامش الأصل: «في نسخة: جاوز». (7) ليست في (ب).

(الكتاب/320)


كتب (1) ليلة الجمعة رابع عشر شهر ربيع الآخر. ***

  [كتاب آخر للشيخ بعثه من مصر إلى دمشق]

ومنها: كتاب قال فيه ــ بعد حَمْد الله تعالى والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ــ: أما بعد؛ فإنَّ الله ــ وله الحمد ــ قد أنعم عليَّ من نعمه العظيمة، ومِنَنه الجسيمة، وآلائه الكريمة ما هو مستوجبٌ لعظيم الشكر، والثبات على الطاعة، واعتياد حُسْن الصبر على فعل المأمور، والعبدُ مأمور بالصبر (2) في السرَّاء أعظم من الصبر في الضرَّاء، قال تعالى: {وَلَئِنْ (3) أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11]. وتعلمون أنّ الله سبحانه منَّ في هذه القضية من المِنَن التي فيها من أسباب نَصْر دينه، وعلوِّ كلمته، ونَصْر جُنده، وعزّة أوليائه، وقوَّة أهل السنة والجماعة، وذُلّ أهل البِدْعة والفُرْقة، وتقرير ما قُرِّر عندكم من السنة، وزيادات على ذلك بانفتاح أبواب من الهدى (4) والنصر والدلائل، وظهور _________ (1) (ب): «وكتب». (2) «على ... بالصبر» ليست في (ب). (3) الأصل و (ب): «وإذا». (4) (ب): «أبواب الهدى».

(الكتاب/321)


الحق لأمم لا يُحْصي عددَهم إلا الله، وإقبال الخلائق إلى سبيل السنة والجماعة، وغير ذلك من المِنن، مما (1) لابدَّ معه من عظيم الشكر ومن الصبر، وإن كان صبرًا في سرَّاء. وتعلمون أنَّ من القواعد العظيمة، التي هي من جِماع الدِّين: تأليفَ القلوب، واجتماع الكلمة، وإصلاحَ (2) ذات البَين، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]. ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. ويقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]. وأمثالُ ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى (3) عن الفُرْقة [ق 93] والاختلاف. وأهلُ هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أنَّ الخارجين عنه هم أهل الفُرْقة. وجماع السنة: طاعةُ الرسول، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في «صحيحه» (4) عن أبي هريرة: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن _________ (1) (ف، ك): «ما». (2) (ك): «وصلاح». (3) (ف، ك): «يأمر ... وينهى». (4) رقم (1715).

(الكتاب/322)


تُناصِحوا من ولَّاه الله أمورَكم». وفي «السنن» (1) من حديث زيد بن ثابت وابن مسعود ــ فَقيهَي الصحابة ــ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «نضَّر الله امرأً سمع مِنَّا (2) حديثًا فبلَّغه إلى من لم يَسْمَعه، فرُبّ حامل فقهٍ غير فقيه، وربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإنّ دعوتهم تُحِيط مَنْ وراءَهم». وقوله: «لايغلّ» أي: لا يحقد عليهنّ، فلا يبغضُ هذه الخصال قلبُ المسلم بل يحبهنّ ويرضاهنّ. وأول ما أبدأ به من هذا الأصل: ما يتعلَّقُ بي (3)، فتعلمون ــ رضي الله عنكم ــ أني لا أحبُّ أن يؤذَى أحدٌ من عموم المسلمين ــ فضلًا عن أصحابنا ــ بشيء (4) أصلًا، لا باطنًا ولا ظاهرًا، ولا عندي عَتْب على أحد منهم ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال، والمحبَّة والتعظيم أضعافُ أضعافِ ما كان، كُلٌّ بِحَسَبه. _________ (1) أخرجه أبو داود (3660)، والترمذي (2656)، ابن ماجه (230)، وأخرجه أحمد (21590)، وابن حبان (680). قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان، وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه. (2) (ف): «مني». (3) (ف): «في». (4) (ب): «بسببي».

(الكتاب/323)


ولا يخلو الرَّجل من (1) أن يكون مجتهدًا مصيبًا، أو مخطئًا، أو مذنبًا. فالأول: مأجور مشكور، والثاني: مع أجره على الاجتهاد فمعفوٌّ عنه مغفور له. والثالث: فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين. فيُطْوَى (2) بساطُ الكلام المخالف لهذا الأصل؛ كقول القائل: فلانٌ قصَّر، فلانٌ ما عَمِل، فلانٌ أُوذِيَ الشيخُ بسببه، فلانٌ كان سبب هذه القضية، فلانٌ كان يتكلَّم في كذا (3)، فلانٌ، فلانٌ (4). ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمَّة لبعض الأصحاب والإخوان، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل مثل هذا يعودُ على قائله بالملام، إلا أن تكون له نيَّة حسنة فيكون (5) ممن يغفرُ الله له إن شاء، وقد عفا الله عمَّا سلف. وتعلمون أيضًا أن ما يجري (6) من نوع تغليظٍ أو تخشينٍ على بعض الأصحاب والإخوان، مما (7) كان يجري بدمشق، ومما جرى الآن بمصر، فليس ذلك غَضاضةً ولا نقصًا في حقِّ صاحبه، ولا حصل بسبب ذلك تغيّر _________ (1) (ف، ك): «إما». (2) (ف، ك): «فنطوي». (3) (ك): «كيد». (4) (ب، ك): «فلان» مرة واحدة. (5) العبارة في (ف، ك): «أن يكون له من [ف: نية] حسنة وممن». (6) (ب): «جرى». (7) (ف، ك): «ما».

(الكتاب/324)


منَّا ولا نقص (1)، بل هو بعد ما عُومِلَ به من التغليظ والتخشين أرفعُ قدرًا، وأنْبَه ذكرًا، وأحبّ وأعظم. وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين، التي يُصْلِحُ الله بها بعضَهم ببعض؛ فإن المؤمن للمؤمن كاليدين يغسل أحدُهما (2) الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخُ إلا بنوعٍ من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما يُحْمَد (3) معه ذلك التخشين. وتعلمون أنَّا جميعًا متعاونون على البرِّ والتقوى، واجبٌ علينا نصر بعضنا بعضًا أعظمَ مما كان وأشدّ، فمن رام أن يؤذي بعضَ الأصحاب أو الإخوان لِمَا قد يظنه من نوع تخشينٍ عُومل به بدمشق أو بمصر [ق 94] الساعة أو غير ذلك= فهو الغالط. وكذلك من ظنَّ أن المؤمنين يتخلَّون (4) عمَّا أُمِروا به من التعاون والتناصر، فقد ظنَّ ظنَّ سوء، وإن الظنَّ لا يغني من الحقّ شيئًا، وما غاب عنَّا أحدٌ من الجماعة، أو قَدِم إلينا الساعة أو قبل الساعة، إلا ومنزلته عندنا اليوم أعظم مما كانت وأجلُّ وأرفع. وتعلمون رضي الله عنكم: أن ما دون هذه القضية من الحوادث يقع فيها من اجتهاد الآراء، واختلاف الأهواء، وتنوّع أحوال أهل الإيمان، وما لا بدّ منه _________ (1) (ب): «تغير ما»، (ك): «ولا بغض». (ف): «ولا بعض». (2) (ف، ك): «تغسل إحداهما». (3) (ف): «موجب ... تحمد». (ك): «نحمد». (4) (ك): «يبخلون».

(الكتاب/325)


من نزغات الشيطان= مالا يتصوّر أن يعتري (1) عنه نوع الإنسان، وقد قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72 - 73]. بل أنا أقول ما هو أبلغ من ذلك، تنبيهًا بالأدنى على الأعلى وبالأقصى على الأدنى، فأقول: تعلمون كثرة ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب المفتراة، والأغاليط المظنونة، والأهواء الفاسدة، وأنَّ ذلك أمرٌ يجلّ عن الوصف، وكل ما قيل من كَذِبٍ وزور، فهو في حقِّنا خيرٌ ونعمة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... } (2) [النور: 11]. وقد أظهر الله من نور الحقِّ وبرهانه، ما ردَّ به إفكَ الكاذبِ وبُهتانه. فلا أحبُّ أن يُنْتَصر لي (3) من أحدٍ بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعداوته (4)، فإني قد حلَّلتُ كلَّ مسلم، وأنا أحبُّ الخير لكلِّ المسلمين، وأريد لكلّ مؤمن من الخير ما أحبُّه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي. وأما ما يتعلَّق بحقوق الله تعالى؛ فإن تابوا تابَ الله عليهم، وإلا فحُكم _________ (1) (ف، ح): «يعتزي»، (ط): «يعرى». والمثبت من (الأصل، ك). (2) الآية بتمامها في (ف، ك). (3) ليست في (ك). (4) (ف، ك): «عدوانه».

(الكتاب/326)


الله نافذٌ فيهم. فلو كان الرجل مشكورًا على سوء عمله لكُنْت (1) أشكر كلَّ من كان سببًا في هذه القضية؛ لما ترتَّب عليه من خير الدنيا والآخرة، لكنَّ الله هو المشكور على حُسْن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يُقْضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له. وأهل القصد الصالح يُشْكَرون (2) على قصدهم، وأهل العمل الصالح يُشْكرون على عملهم، وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم. وأنتم تعلمون هذا من خُلقي، والأمر أزْيَد مما كان وأوكد، لكن حقوق الناس بعضهم مع بعض، وحقوق الله عليهم= هم فيها تحت حكم الله. وأنتم تعلمون أن الصدِّيق الأكبر في قضية الإفك ــ التي أنزل الله فيها القرآن ــ حلف لا يَصِلُ إلى (3) مِسْطَح بن أُثاثة؛ لأنه كان من الخائضين في الإفك، فأنزل الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] فلما نزلت قال أبو بكر: بلى أحبُّ (4) أن يغفر الله لي، فأعاد إلى مِسْطَح النفقة التي كان ينفق. ومع ما ذكر من العفو والإحسان وأمثاله وأضعافه، فالجهادُ (5) على ما _________ (1) (ك): «لكتب»، وبهامشها: لعله: لكنت. (2) (ف، ك): «لا يشكرون»، وبهامش (ك) إشارة إلى أن الصواب حذف «لا». (3) «إلى» ليست في (ب، ك). (4) (ط): «بلى والله إني لأحب». وحديث الإفك أخرجه البخاري (2661) ومسلم (2770). (5) (ف، ك): «والجهاد» خطأ.

(الكتاب/327)


بعثَ الله به رسولَه من الكتاب والحكمة أمرٌ لا بدَّ منه= {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ [ق 95] عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 54 - 56]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا (1). *** وقد بعثَ الشيخُ ــ رحمه الله ــ إلى أقاربه (2) وأصحابه بدمشق كتبًا غير هذه. ولم يزل بمصر يُعلِّم الناسَ ويُفتيهم، ويذكِّرُ بالله ويدعو إليه، ويتكلَّم في الجوامع على المنابر بتفسير القرآن وغيره، من بعد صلاة الجمعة إلى العصر. إلى أن ضاقَ منه خلقٌ كثيرٌ (3) وانحصروا، واجتمعَ خلقٌ كثيرٌ من أهل الخوانِقِ والرُّبط والزوايا، واتفقوا على أن يشتكوا (4) الشيخَ إلى السلطان، _________ (1) العبارة في (ف، ك): «والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على [ك: سيدنا] محمد وآله [ف: وصحبه] ... ». (2) (ب): «أقرانه». (3) «كثير» من الأصل فقط. وسقطت «خلق كثير» من (ط). (4) (ف، ك): «يتشكوا».

(الكتاب/328)


فطَلَعَ منهم خلقٌ إلى القلعة، وكان منهم خلقٌ تحت القلعة= كانت (1) لهم ضَجَّةٌ شديدة، حتى قال السلطان: ما لهؤلاء؟ فقيل له: هؤلاء كلُّهم قد جاءوا من أجل الشيخ تقيّ الدين ابن تيميَّة يشكون منه، ويقولون: إنه يسبُّ مشايخهم، ويضعُ من قَدْرهم عند الناس! واستعاثوا (2) فيه، وأجلبوا عليه، ودخلوا على الأمراء في أمره، ولم يُبقوا ممكنًا. وكان بعضُ الناس يأتون إلى الشيخ فيقولون له: إنَّ الناسَ قد جمعوا لك جمعًا كثيرًا. فيقول: حَسْبُنا الله ونعم الوكيل. وأمر أن يُعْقَد له مجلسٌ (3) بدار العدل. فعُقِد له مجلسٌ يوم الثلاثاء في العشر الأول من شوال من سنة سبعٍ وسبعمائة. وظهر في ذلك المجلس من علم الشيخ، وشجاعته وقوَّة قلبه، وصِدْق توكُّله، وبيان حُجَّته= ما يتجاوزُ الوَصْفَ. وكان وقتًا مشهودًا ومجلسًا عظيمًا. وقال له كبيرٌ من المخالفين: من أين لك هذا؟ فقال له الشيخ: من أين لا تعلمه! وذكر بعضُ من حضر ذلك المجلس: أنَّ الناسَ لما تفرَّقوا منه قام الشيخ _________ (1) باقي النسخ: «فكانت». (2) كذا في الأصل و (ب)، وفي (ف، ك، ح): «واستغاثوا»، و (ط): «واستغاثوا منه». (3) (ك): «وأمر من»، وكتب في الهامش أن (مجلس) لعلها: (مجلسًا).

(الكتاب/329)


ومعه جماعةٌ من أصحابه، قال: فجاء وجئتُ معه إلى موضعٍ ــ ذَكَره ــ في دار العدل، قال: فلما جلسنا استلقى الشيخُ على ظهره، وكان هناك حَجَر لأجل تثقيل الحصير، فأَخَذَه ووضعه تحت رأسه، فاضطجع قليلاً ثم جلس، وقال له إنسان: يا سيِّدي قد أكثرَ الناسُ عليك! فقال: إنْ هُم إلَّا كالذُّباب، ورفع كفَّه إلى فيه ونفخَ فيه. وقام، فقمنا (1) معه، حتَّى خرَجْنا، فأُتي بحصانٍ، فركِبَه وتحنَّك (2) بذؤابته، فلم أر أحدًا أقوى قلبًا منه (3) ولا أشدَّ بأسًا. ولما (4) أكثروا الشِّكايَةَ منه والملام، [وأوسعوا من أجله الكلام] (5) = رُسِم بتسفيره إلى بلاد الشام. فخرج للسفر ليلة الخميس ثامن عشر (6) الشهر إلى جهة الشام، ثم رُدَّ في يوم الخميس المذكور، وحُبِس بسجن الحاكم بحارة الدَّيْلم، في ليلة الجمعة تاسع [عشر] (7) شوال. قال: [ق 96] ولما دخلَ الحبس وجد المحابيس مشتغلين بأنواعٍ من _________ (1) (ف، ك): «قال: وقام وقمنا». (2) (ك): «ويختل» تحريف. (3) تأخرت «منه» في غير الأصل إلى بعد «بأسًا». (4) (ف، ك): «قال: فلما». (5) ما بين المعكوفين زيادة من (ف، ط). (6) غير الأصل: «ثاني عشر» خطأ بدليل ما بعده. (7) سقطت من الأصل و (ب).

(الكتاب/330)


اللَّعب يلتهون (1) بها عمَّا هم فيه، كالشِّطرنج والنَّرْدِ ونحو ذلك من تضييع الصلوات= فأنكر الشيخُ ذلك عليهم أشدَّ الإنكار، وأمرهم بملازمة الصلاة، والتوجُّه إلى الله بالأعمال الصالحة، والتسبيح والاستغفار والدُّعاء. وعلَّمهم من السُّنة ما يحتاجون إليه، ورغَّبهم في أعمال الخير، وحَضَّهم على ذلك، حتى صار الحبسُ بما (2) فيه من الاشتغال بالعلم والدين خيرًا من كثير من (3) الزَّوايا والرُّبط والخوانق والمدارس، وصار خلقٌ من المحابيس إذا أُطْلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المتردِّدون إليه حتَّى كان السِّجن (4) يمتلئ منهم. فلما كَثُر اجتماعُ الناس به، وتردُّدُهم إليه، ساءَ ذلك أعداءَه، وحَصِرتْ صدورُهم. فسألوا نقله إلى الإسكندرية، وظنُّوا أنَّ قلوبَ أهلها عن محبَّته عَرِيَّة، وأرادوا أن يَبْعُد عنهم خبرُه، أو لعلهم يقتلوه (5) فينقطع أثرُه. فأُرْسِل به إلى ثغر الإسكندرية، في ليلةٍ يُسْفر صباحُها (6) عن يوم الجمعة سلخ صفر من سنة تسع وسبعمائة. _________ (1) (ب): «يتلهون». (2) بقية النسخ: «مما». (3) «كثير من» سقطت (ك). و «من» من الأصل. (4) (ب): «إليه كان الحبس ... ». (5) بقية النسخ: «يقتلونه». (6) (ك): «صاحبها» تحريف.

(الكتاب/331)


[سجن الشيخ بالإسكندرية] وذكر الشيخُ علم الدين (1) البرزاليُّ وغيره: أنَّ في شهر شوَّال من سنةِ سبعٍ وسبعمائة شكا شيخُ الصوفية بالقاهرة ــ كريم الدين الآملي (2)، وابنُ عطاء (3)، وجماعةٌ نحو الخمسمائة ــ من الشيخ تقيِّ الدين وكلامه في ابن عربي وغيره إلى الدولة. فرُدَّ (4) الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي. وعُقِدَ له مجلسٌ وادَّعى عليه ابنُ عطاء بأشياءَ لم يثْبُت منها شيء (5)، لكنه قال: إنه لا يُستغاثُ إلَّا بالله، حتَّى لا يُستغاثُ (6) بالنبي - صلى الله عليه وسلم - استغاثةً بمعنى العبادة، ولكن (7) يُتَوسَّلُ به ويُتَشفَّع به إلى الله. _________ (1) في «المقتفي»: (3/ 379). و «علم الدين» ليست في (ف، ك). (2) هو: عبد الكريم بن الحسين أبو القاسم كريم الدين الآملي الصوفي، شيخ خانقاه سعيد السعداء، ثم عزل عنها بعد اتهام الصوفية له بأشياء قادحة. قال الذهبي: أثبت الصوفية فسقه من ستة عشر وجهًا. (ت 710)، انظر «أعيان العصر»: (3/ 133 ــ 134)، و «البداية والنهاية «: (18/ 86، 108)، و «الدرر الكامنة»: (2/ 397). (3) هو: أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله تاج الدين أبو الفضل الشاذلي الصوفي، كان المتكلم على لسان الصوفية في زمانه. (ت 709). انظر «الدرر الكامنة»: (1/ 92)، و «المنهل الصافي»: (1/ 106). (4) (ف): «فردوا». (5) بقية النسخ: «شيء منها». (6) «إلا ... يستغاث» سقطت من (ب). (7) (ف، ك): «ولكنه».

(الكتاب/332)


فبعضُ الحاضرين قال: ليس في هذا شيءٌ، ورأى قاضي القضاة بدر الدين أنَّ هذا فيه قلَّة أدب. فحضرتْ رسالةٌ إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة (1) في ذلك، فقال القاضي: قد قلتُ له ما يُقال لمثله. ثم إنَّ الدولةَ خيَّروه بين أشياء، وهي: الإقامة بدمشق، أو الإسكندرية بشروط، أو الحبس؟ فاختار الحبس. فدَخَل عليه جماعةٌ في السفر إلى دمشق ملتزمًا ما شُرِط (2)، فأجابهم، فأرْكَبوه (3) خيلَ البريد ليلةَ الثامن عشر من شوَّال. ثمَّ أُرْسِل خلْفَه من الغَدِ بريدٌ آخر، فرَدَّه، وحضر عند قاضي القضاة بحضور جماعة من الفقهاء، فقال بعضهم له: ما ترضى الدولة إلا بالحبس. وقال قاضي القضاة (4): وفيه مصلحةٌ له، واستناب شمس الدين التونسي (5) المالكي، وأَذِنَ له أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيءٌ. _________ (1) (ب): «الشرع». (2) (ب): «ملتزمًا بشرط». (3) (ف): «فأركبوهم». (4) «بحضور ... القضاة» سقط من (ب). (5) الأصل: «التنوسي». وهو: محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام الربعي التونسي، كان مشاركًا في عدة فنون (ت 715). انظر «الدرر الكامنة»: (4/ 149 - 150)، و «الديباج المذهب»: (ص 323 - 324).

(الكتاب/333)


فأذِنَ لنور الدين الزواوي المالكيّ (1)، فتحيَّر. فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس وأتْبَع ما تقتضيه المصلحة. فقال نور الدين ــ المأذون له في الحكم ــ: فيكون في موضعٍ يصلح لمثله. فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمَّى الحبس، فأُرْسِلَ إلى حبس القاضي، وأُجْلِس [ق 97] في الموضع الذي أُجْلس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعزّ لما حُبِس (2)، وأُذِن في (3) أن يكون عنده من يخدمه. وكان جميع ذلك بإشارة الشيخ نَصْر المنبجي ووجاهته في الدولة. واستمرَّ الشيخ في الحبس يُسْتَفْتى ويقصده الناس ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس. قال عَلَم الدين (4): وفي ليلة الأربعاء العشرين من شوال من سنة ثمان _________ (1) «بالحبس ... المالكي» سقط من (ف، ك). وهو: عيسى بن مسعود بن منصور المنجلاتي أبو الروح الحميري، تولى القضاء في عدة أماكن، وناب عن ابن مخلوف المالكي، ثم أقبل على التصنيف فألف في الحديث والفقه. (ت 743). انظر «الدرر الكامنة»: (3/ 210 - 211)، و «الديباج المذهب»: (ص 182 - 184). وجاءت كنيته في المصادر «شرف الدين». وفي «نهاية الأرب ــ الجامع» للنويري (ص 182) كما هنا. (2) هو: عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف العلَامي ـ بتخفيف اللام ــ الشافعي، ولي القضاء والوزارة، ووقعت له محنة كاد يتلف بسببها .. (ت 695). انظر «تاريخ الإسلام»: (52/ 261 - 262)، و «طبقات الشافعية»: (8/ 170 - 173) للسبكي، وكان القاضي الأعزّ وزير الملك الكامل بن أيوب جده لأمه، فعُرِف بابن بنت الأعزّ. (3) ليست في (ف، ك). (4) في «المقتفي»: (3/ 403).

(الكتاب/334)


وسبعمائة طُلِب أخوا الشيخ تقيّ الدين، فوُجِد زين الدين وعنده جماعة، فرُسِّم عليهم، ولم يوجد شرف الدين، ثم أُطْلق الجماعةُ سوى زين الدين، فإنه حُمِل إلى المكان الذي فيه الشيخ، وهو قاعة الترسيم بالقاهرة، ثم إنه أُخْرِج في خامس صفر سنة تسع وسبعمائة. قال (1): وفي الليلة الأخيرة من شهر صفر هذا ــ وهي ليلة الجمعة ــ توجَّه الشيخُ تقيّ الدين من القاهرة إلى الإسكندريَّة مع أميرٍ مُقَدَّم، ولم يُمَكَّن (2) أحدٌ من جماعته من السفر معه. ووصل (3) الخبر إلى دمشق بعد عشرة أيام، فحصل التألّم لأصحابه ومحبِّيه. وضاقت الصدور، وتضاعف الدعاء له. وبلغنا أنّ دخوله الإسكندرية كان يوم الأحد، دُخِل به (4) من باب الخوخة إلى دار السلطان، ونُقِلَ ليلًا إلى برجٍ في شرقي البلد. ثم وصلت الأخبار أن (5) جماعةً من أصحابه توجَّهوا إليه بعد ذلك، وصار الناس يدخلون إليه، ويقرؤون عليه، ويبحثون (6) معه. وكان الموضع الذي هو فيه فسيحًا مُتَّسِعًا. _________ (1) في «المقتفي»: (3/ 415). (2) الأصل و (ب): «يكن» خطأ. (3) (ف، ك): «ووصل هذا ... ». (4) «به» ليست في (ك). (5) (ب): «إلى». (6) (ف، ك): «ويتحدثون».

(الكتاب/335)


[كتاب شرف الدين ابن تيميّة إلى أخيه لأمه بدر الدين] وقد رأيتُ كتابًا بخطِّ الشيخ (1) شرف الدين كتبه إلى أخيه بدر الدين بعد توجُّه الشيخ إلى الإسكندرية، يقول فيه: من أخيه عبد الله ابن تيميَّة. سلامُ الله (2) ورحمتُه وبركاته على الشيخ الإمام العالم الجليل (3) بدر الدين والى اللهُ عليه آلاءَه وأَتْبعها، وأسْبغَ عليه نعمَه ونَوَّعَها، وأباحَه مِنَنَه وأينعها (4)، وأيَّده بالقوَّة والتأييد لإقامة الحقّ على القريب والبعيد، غير مقصِّر ولا وانٍ، ولا مُفَتِّرٍ ولا متوانٍ بالرأي السديد، والعزم الوكيد. وجمعنا وإياه في هذه الدار على طاعته، وفي دار القرار في دار كرامته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين أهل ولايته، إنه ذو الفضل العظيم، والمنِّ الجسيم، والطَّوْل العميم. أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، وأصلِّي على سيِّد ولد آدم، وخيرِ خلقِ الله أجمعين، وسيِّد رُسُل ربِّ العالمين إلى الأسود والأحمر، والجنّ والإنس، بشيرًا للمؤمنين، ونذيرًا للكافرين= أتمَّ الصلاةِ وأفضلَها، وأشرَفَها وأكملَها، دائمةً إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. _________ (1) ليست في (ف). (2) (ف) زيادة: «عليكم». و «ابن تيمية» ليست في (ب). (3) (ف، ك) زيادة: «الكبير». (4) (ط): «ومنحه .. »، و (ف): «وأنبعها».

(الكتاب/336)


وبعد؛ فنحن والجماعة في نعم الله الكاملة، ومِنَنه الشاملة التي تفوق (1) العدَّ والإحصاء، وتعجزُ العقولُ عن تصوُّرها ودَرْكها، وتحسر (2) الألسنُ عن نعتها ووَصْفها فضلًا عن كتابتها. فنسأل الله [ق 98] العظيم أن يُوزِعَنا شكرَها، وأن يُدِيمها علينا وعلى جميع الإخوان والمؤمنين، إنه جوادٌ كريم (3). فمنها: نزول الأخ الكريم بالثَّغْر المحروس، فإنَّ أعداءَ الله قصدوا (4) بذلك أمورًا يكيدون بها الإسلامَ وأهلَه، وظنوا أنَّ ذلك يحصل (5) عن قريب، فانقلبت عليهم مقاصدُهم الخبيثةُ المعلومةُ، وانعكست من كلِّ الوجوه، وأصبحوا وما زالوا عندَ الله وعند العارفين من المؤمنين سُوْدَ الوجوه، يتقطعون حسراتٍ وندمًا على ما فعلوه. وأقبلَ أهلُ الثغر أجمعون إلى [الأخ] متقبِّلين (6) لما نذكره وننشره (7) من كتاب الله وسنة رسوله، والحطِّ والوقيعة في أعدائهما من أهل البدع والضلالات والكفر والجهالات. خصوصًا أخبث الملاحدة: الاتحادية (8) ثم الجهمية. _________ (1) (ك): «تفوت». (2) (ب): «وذكرها .. »، و (ف، ك): «وتحصر». (3) (ب، ف، ك): «الجواد الكريم». (4) (ب): «فإنهم قصدوا». (5) (ب، ف) زيادة: «لهم». (6) «الأخ» سقطت من الأصل. وفيه و (ب): «منقلبين». (7) في غير الأصل: «يذكره وينشره». (8) (ف، ك): «والاتحادية».

(الكتاب/337)


واتفقَ أنه وجَدَ بها إبليس إلحادَهم قد باض وفرَّخ، ونصبَ بها عَرْشَه ودوَّخ، وأضلَّ بها فريقي السَّبْعينية والعربية (1)، فمزَّق الله بها بقدومه الثغرَ جموعَهم شَذَرَ مَذَرَ، وهتك أستارَهم وكشف رمزهم ــ الإلحاد والكفر ــ وأسرارَهم وفضحهم، واستتابَ جماعاتٍ منهم. وتوَّبَ رئيسًا من رؤسائهم ــ وإن كان عند عباد الله المؤمنين حقيرًا ــ وصنَّف هذا التائبُ كتابًا في كشف كفرهم وإلحادهم، وكان من خواصِّ (2) اللعين عدوِّ الله ورسوله نُصَيْرٌ الملحِدُ (3). واشتهر ذلك واستقرَّ عند عموم المؤمنين وخواصهم؛ من أمير وقاض وفقيه ومفتٍ (4) وشيخ وعموم المجاهدين، إلا من شذَّ من الأغمار الجهال مع الذلّة والصَّغَار؛ حذرًا على نفسه من أيدي المؤمنين وألسنتهم. وعَلَت كلمةُ الله بها على أعداء الله ورسوله، ولعِنوا لعنًا ظاهرًا في مجامع الناس بالاسم الخاصِّ، وصارَ بذلك عند نصيرٍ الملحدِ (5) المقيمُ المقعِدُ، ونزل به من الخوف والذُّلِّ ما لا يُعَبَّر عنه. _________ (1) يقصد بالسبعينية أتباع ابن سبعين (ت 669)، وبالعربية أتباع ابن عربي (ت 656). وتقدم التعريف بهما (ص 254). (2) (ف، ك): «خواص خواص». (3) (ف، ك، ح): «الملحدين». وفي هامش (ك): هو نصر المنبجي الاتحادي. وقد تقدمت ترجمته. (4) ضبطها في الأصل: «ومفتيٍّ». (5) في المطبوع: «الملحدين».

(الكتاب/338)


وهمَّ أن يكيد كيدًا آخر، فوقع ما وقع عندكم بالشام من الأمر المزعج، والكَرْب المقْلِق، والبلاء العظيم والذّلّ، واستعطاف (1) من كانوا لا يلتفتون إليه بالأموال والأنفس والتذلُّل، حتى رقَّ بعضُ الأصحابِ لهم، فزُجِر عن ذلك. وقيل له: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] إلى أمور كثيرة من المِحَن والبلاء (2) مما لا يمكن وصفُه. فنسألُ الله العظيم أن يعجِّل تمامَ النِّقْمة (3) عليهم، وأن يقطع دابرَهم، وأن يريح عبادَه وبلاده منهم، وأن ينصرَ دينَه وكتابَه ورسولَه وعبادَه المؤمنين (4) عليهم، وأن يُوزِعنا شكرَ هذه النعمة، وأن يتمَّها علينا وعلى سائر المؤمنين. وغير خافٍ عنك سيرتُنا: إذا أعجبتْكَ خصالُ امرئ ... فكُنْه يكن منك (5) ما يعجِبُك فليسَ لدى المجد والمكرماتِ ... إذا جئتها حاجبٌ يحجُبُك (6) _________ (1) (ف): «واستضعاف». (2) سقطت من (ب). (3) (ك): «النعمة» وبهامشه: «لعله: النقمة». وهو الصواب. (4) ليست في (ف، ك). (5) سقطت من (ك)، وعلق في هامشها: لعله: (يكن منه) أو (فيه) أو ما يقاربه. أبو إسماعيل يوسف حسين، عُفي عنه. (6) البيتان لأبي العيناء «ديوانه»: (ص 17)، وهو في «محاضرات الأدباء»: (1/ 610، 637). ووقع في (ب): «فليس لذا»، و (ب، ف): «الحمد والمكرمات».

(الكتاب/339)


فأسأل الله العظيم أن يُغْنيك ويعينك (1)، ويمدَّك ويؤيدك بروح منه، وأن يُقرَّ بك أعينَ المؤمنين، وأن يُخْزيَ بك الكافرين (2) والمنافقين، وأن يوفقك لما يحبه ويرضاه، وأن يتولَّاك في جميع الأمور، ويعينك على القيام فيها بما يرضي اللهَ ورسولَه (3). والسلام عليك (4) [ق 99] ورحمة الله وبركاته. وعلى السَّعيدة الكريمة الطيبة التي رضي الله عنها وأرضاها، وجعل ــ بعد اجتماعنا بها ــ الجنةَ دارَها ومأواها (5)، وأراها وجْهَه الكريم في دار النعيم: الوالدةِ التي منحها الله في آخر عمرها هذه الكرامة العظيمة، والمنزلة الرفيعة، والدرجة العليَّة= أكمل (6) السلام وأنماه. وعلى جميع الأهلِ والأصحابِ والإخوانِ (7)، والمعارفِ والجيرانِ، كبيرهم وصغيرهم، قريبهم وبعيدهم، كلِّ فردٍ فردٍ أتمُّ (8) السلام. وغير خافٍ عنهم العجزُ عن حصرهم. فالله تعالى يرضى عن جميعهم، ويجمعنا وإياهم ــ بعد نصر دين الله ورسوله ــ على ما يحبُّه ويرضاه. _________ (1) «يغنيك و» ليست في (ك). (2) بقية النسخ: «الكفار». (3) «بما يرضي الله ورسوله» ليست في (ب). (4) (ف): «عليكم». (5) (ب): « ... الكريمة التي ... الجنة مأواها .. ». (6) (ف، ك): «وأكمل». (7) بقية النسخ: «والإخوان والأصحاب». (8) (ف، ك) بدلًا منها: «له».

(الكتاب/340)


كُتِبَ والخاطرُ مشغولٌ بأمر المسلمين، لحدوثِ أمرٍ يذكره لكم الشيخ عبد الله (1). والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا. *** قلتُ: بقي الشيخُ بثغر الإسكندرية ثمانية أشهر، مقيمًا ببرجٍ مليحٍ نظيف له شُبَّاكان: أحدهما إلى جهة البحر، يدخلُ إليه من شاء، ويتردَّد (2) إليه الأكابرُ والأعيانُ والفقهاءُ، يقرأون عليه، ويبحثون معه، ويستفيدون منه. [إحضار الشيخ إلى القاهرة ولقاؤه بالملك الناصر] فلما دخل السلطانُ الملك (3) الناصر إلى مصر، بعد خروجه من الكرك، وقدومه إلى دمشق، وتوجّهه (4) منها إلى مصر ــ وكان دخوله (5) إليها يوم عيد الفطر، من سنة تسعٍ وسبعمائة ــ نفَّذ لإحضار الشيخ من الإسكندرية في اليوم الثامن من شوال. وخرج الشيخُ منها متوجِّهًا إلى مصر، ومعه خلقٌ من أهلها يودِّعونه، _________ (1) كذا! وعبد الله هو كاتب هذه الرسالة، فلعله: عبد الرحمن. أو شخص آخر أرسلت معه الرسالة أو غيره. (2) (ب): «وتردد». (3) ليست في (ك). (4) (ب، ف، ك): «وتوجه». (5) (ط): «قدومه».

(الكتاب/341)


ويسألون الله أن يردَّه إليهم، وكان وقتًا مشهودًا. ووصل إلى القاهرة يومَ السبت ثامن عشر الشهر، واجتمع بالسلطان في يوم الجمعة الرابع والعشرين منه، وأكرمه وتلقَّاه في مجلس حَفِل (1)، فيه قضاةُ المصريين والشاميين والفقهاء، وأصلَحَ بينه وبينهم. ولقد أخبرني بعضُ أصحابنا (2) قال: أخبرني القاضي جمالُ الدين بن القلانسي، قاضي العساكر المنصورة، فيما تذاكرتُ أنا وهو ذات ليلة؛ حينَ كان الشيخُ تقيّ الدين ــ رحمه الله ــ معتقلًا (3) في القلعة المنصورة (4)، وقد أشاع بعضُ الجهلة، وأرجفَ بعضُ المبغضين للسُّنَّة بأخبارٍ مُخْتَلَقَة (5) لا حقيقة لها، لكن وقعَ في نفوس أصحابِ الشيخ من ذلك ما يلقيه الشيطانُ في قلب الإنسان، وما ذاك إلا من شِدَّة الشَّفَقة والمحبّة. فقلت له ــ فيما تحدَّثْنا به ــ: إنَّ الناسَ يقولون: كَيتَ وكَيتَ، وأنَّ الشيخَ ربّما يخرج من القلعة، ويُدَّعَى عليه، ويُعزَّر ويُطاف به. فقال: يا فلان هذا لا يقع منه شيءٌ، ولا يسمحُ السلطان ــ خلَّد الله سعادته ــ _________ (1) (ف): «في حفل». (2) لعله الحافظ ابن كثير، انظر «البداية والنهاية»: (18/ 92 - 95). والقلانسي هو: أحمد بن محمد بن محمد التميمي الدمشقي الشافعي، تُولي عدة مناصب منها قضاء العسكر، (ت 731). انظر «أعيان العصر»: (1/ 361 ــ 362)، و «البداية والنهاية»: (18/ 341)، و «الدرر الكامنة». (1/ 300 ــ 301). (3) «رحمه الله» ليست في (ف، ك). و «معتقلًا» ليست في (ب). (4) (ف، ك) زيادة: «يعني في قلعة دمشق». وكتب فوقها في (ف): كذا. (5) في النسخ بالفاء «مختلفة» ولعل الصواب ما أثبت بدليل قوله: لاحقيقة لها.

(الكتاب/342)


بشيءٍ من ذلك، وهو أعلمُ بالشيخ من كلِّ هؤلاء، وبعلمه ودينه (1). ثم قال: أُخبرك بأمرٍ عجيبٍ وقع من السلطان في حقِّ الشيخ تقيّ الدين، وذلك حين توجَّه السلطانُ إلى الديار المصرية ومعه القضاةُ والأعيان ونائبُ الشام الأفرم. فلما دخل الديار المصرية [ق 100] وعاد إلى مملكته، وهربَ سلَّار والششنكير، واستقرَّ أمرُ السلطان= جَلَسَ يومًا في دَسْتِ السلطنة، وأُبَّهةِ المُلْكِ (2)، وأعيانُ الأمراءِ من الشاميين والمصريين حضورٌ عنده، وقضاة مصر عن يمينه، وقضاة الشام عن يساره، ــ وذكر لي كيفية جلوسهم منه بحسب (3) منازلهم ــ. قال: وكان من جملة من هناك ابن صَصْرى عن يسار السلطان، وتحته الصَّدْر علي قاضي الحنفية (4)، ثم بعده الخطيب جلال الدين، ثم بعده ابن الزَّمْلَكاني. قال (5): وأنا إلى جانب ابن الزَّمْلَكاني والناسُ جلوسٌ خلفه، والسلطانُ على مَقْعد مرتفعٌٍ، فبينما الناسُ كذلك (6) جلوسٌ؛ إذ نهض السلطانُ قائمًا، _________ (1) (ف): «ويعلمه دينه» تحريف. (2) العبارة في (ك): «والشنكير ... جلسا يوم دست السلطنة .. ». ووقع في (الأصل، وب): «وأئمة الملك». (3) (ف، ك): «كحسب». (4) هو: علي بن أبي القاسم بن محمد صدر الدين أبو الحسن البصروي الحنفي (ت 727). ترجمته في «أعيان العصر»: (3/ 472 ــ 473)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 96 ــ 97). (5) من الأصل. (6) (ف): «على ذلك».

(الكتاب/343)


فقام الناسُ، ثم مشى السلطانُ، فنزل عن تلك المقعدة، ولا ندري (1) ما به، وإذا بالشيخ تقيّ الدين ابن تيميَّة ــ رحمه الله ــ مُقْبِل من الباب والسلطانُ قاصِدٌ إليه، فنزل السلطانُ عن الإيوان، والناسُ قيام (2) والقضاةُ والأمراءُ والدولةُ، فتسالم هو والسلطان وتَكَارَشا (3)، وذهبا إلى صُفَّةٍ في ذلك المكان فيها شُبَّاك إلى بستان، فجلسا فيها حينًا، ثم أقبلا ــ ويدُ الشيخ في يد السلطان ــ فقام الناس، وكان قد جاء في غَيْبة السلطان تلك الوزيرُ فخرُ الدين ابن الخليلي (4)، فجلس عن يسار السلطان فوق ابن صَصْرى. فلما جاء السلطانُ قَعَد على [مقعدته، وجاء الشيخُ تقيُّ الدين فجلسَ بين يدي السلطان على طرف] (5) مقعدته متربِّعًا. فشرعَ السلطانُ يُثْني على الشيخ عند الأمراء والقضاة بثناءٍ ما سمعتُه من _________ (1) (ب): «يدرى». (2) (ف، ك): «قاصد فنزل ... والناس والقضاة». (3) في بعض المصادر «تعانقا وتكارشا» والتعانق معروف، والتكارش أو المكارشة: أن يلتقي المسافر بالشخص المستقبل له، فيلصق كل منهما بطنه ببطن الآخر بحركات رشيقة. وهي عادة معروفة في العصر المملوكي، على ما يفهم من بعض المصادر. انظر «معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي» (ص 143) لدهمان، و «معجم المصطلحات التاريخية» (ص 405) للخطيب، و «تكملة تاج العروس» (ص 284) لوهيب دياب. وذكر دهمان في معجمه وفي تعليقه على «إعلام الورى» (ص 40) لابن طولون: أنه شاهد اثنين من رجال الهند يلتقيان ويتكارشان، قال: وهذه العادة غير معروفة في بلادنا اليوم. اهـ. وانظر «الوافي بالوفيات»: (16/ 292) للصفدي، و «عقد الجمان»: (1/ 200) للعيني. (4) (ف، ك): «الخليل». وهو: عمر بن عبد العزيز بن الحسن الداري (ت 711). انظر «أعيان العصر»: (3/ 635 - 638). (5) (ف، ك): «جلس على ... ». وما بين المعكوفين سقط من الأصل، وهو انتقال نظر.

(الكتاب/344)


غيره قطّ، وقال كلامًا كثيرًا، والناس يقولون (1) معه ومثله، والقضاةُ (2) والأمراءُ. وكان وقتًا عجيبًا! وذلك مما يسوء كثيرًا من الحاضرين من أبناء جنسه. وقال في الشيخ من الثناء والمبالغة مالا يقدر أحدٌ من أخصِّ أصحابه أن يقوله. ثم إنَّ الوزير أنهى إلى السلطان: أنَّ أهلَ الذِّمّة قد بذلوا للديوان في كلِّ سنةٍ سبعمائة ألف درهم، زيادة على الجالية (3)، على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض المعلَّمة بالحُمرة والصُّفْرة والزُّرْقة، وأن يُعْفَوا من هذه العمائم (4) المصَبَّغة كلِّها بهذه الألوان، التي ألزمهم بها ركن الدين الشاشنكير. فقال السلطان للقضاة ومَنْ هناك: ما تقولون؟ فسكت الناس! فلما رآهم الشيخُ تقيُّ الدين سكتوا، جثا على ركبتيه، وشرع يتكلَّم مع السلطان في ذلك بكلامٍ غليظٍ، ويردُّ ما عرضَه الوزيرُ عنهم ردًّا عنيفًا، والسلطانُ يُسَكِّتُه بترفُّق وتُؤَدَة وتوقير. وبالغ (5) الشيخُ في الكلام، وقال مالا يستطيعُ أحدٌ أن يقوم بمثله ولا بقريبٍ منه، حتَّى رجع السلطانُ عن ذلك، وألزمهم بما هم عليه، واستمرُّوا على هذه الصِّفة. _________ (1) (ف، ك): «تقول». (2) (ف، ك): «ومثله القضاة». (3) الجالية: هو ما يؤخذ من أهل الذمة من الجزية المقررة عليهم كل سنة. انظر «صبح الأعشى»: (3/ 458). (4) «البيض ... العمائم» سقط من (ف). (5) (ف، ك): «فبالغ».

(الكتاب/345)


فهذه من حسنات الشيخ تقيّ الدين ابن تيميَّة رحمه الله (1). قال: هذا مُلَخَّص ما أخبرني به رحمه الله. وكنت جلستُ يومًا إلى قاضي القضاة صدر الدين، قاضي الحنفية، فقال لي وهو يضحك: تحبُّ الشيخَ تقيَّ الدين ابن تيميَّة؟ فقلت: نعم. فقال: والله تحبُّ شيئًا مليحًا، وحكى لي قريبًا مما ذكر ابن القلانسي، لكن سياق ابنِ القلانسي أبْسَط وأتمّ. ***

  [عفو شيخ الإسلام عمن ظلمه]

وسمعتُ الشيخَ تقيَّ الدين ابن تيميَّة رحمه الله يذكر أنَّ السلطانَ ــ لما جلسا (2) بالشباك ــ أخرج (3) فتاوى لبعض الحاضرين في قتله، واستفتاني (4) في قتل بعضهم. قال: ففهمتُ مقصودَه، وأنَّ عنده حَنَقًا شديدًا عليهم، لمَّا خَلعوه، وبايعوا الملكَ المظفَّرَ ركنَ الدين بيبرس الشاشنكير. فشرعتُ في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأنَّ هؤلاء لو ذهبوا لم _________ (1) (ف، ك): «ورضي عنه آمين». (2) بقية النسخ: «جلسنا». (3) (ف، ك) زيادة: «من جيبه». (4) (ف): «واستفتا». (ك): «واستفتاء».

(الكتاب/346)


تجد مثلَهم في دولتك، وأنا (1) فَهُم في حلٍّ من حقِّي ومن جهتي، وسكَّنْتُ ما عندَه عليهم. قال: فكان القاضي زينُ الدين ابنُ مخلوف ــ قاضي المالكية ــ يقولُ بعد ذلك: ما رأينا أفْتى (2) من ابن تيميَّة، لم نُبْقِ ممكنًا في السَّعْي فيه، ولما قَدَر علينا عفا عنَّا. ثم إنَّ الشيخَ رحمه الله ــ بعد اجتماعه بالسلطان ــ نزلَ إلى القاهرة، وسكن بالقرب من مَشْهد الحسين، وعاد إلى بثِّ العلم (3) ونشره، والخلقُ يشتغلون عليه ويقرؤون، ويستفتونَه ويجيبهم بالكلام والكتابة، والأمراءُ والأكابرُ والناسُ يتردَّدون إليه، وفيهم من يعتذرُ إليه ويتنصَّل مما وقع، فقال: قد جعلتُ الكلَّ في حلٍّ مما جرى. [كتاب الشيخ إلى أصحابه وأقاربه بدمشق] وبعثَ الشيخُ كتابًا إلى أقاربه وأصحابِه بدمشق، يَذْكُر ما هو فيه من النعمة (4) العظيمة والخير الكثير، ويطلب فيه جملةً من كتبِ العلم يُرْسَل بها إليه. وقال في هذا الكتاب: تعلمون أنَّا بحمد الله في نِعَم عظيمة، ومِنَنٍ جسيمة، وآلاءٍ متكاثرة، وأيادٍ _________ (1) (ب): «وأما أنا»، (ك): «أو أنا». (2) من الفتوّة، وهي: الحرية والكرم. وغيَّرها في (ط) إلى: «أتقى». (3) سقطت من (ف). (4) (ف، ك): «النعم».

(الكتاب/347)


متظاهرة. لم تكن تخطر (1) لأكثر الخلق ببالٍ، ولا تدور لهم في خيال. والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبه ربنا ويرضاه ... إلى أن قال: والحقُّ دائمًا في انتصار وعلوٍّ وازدياد، والباطل في انخفاض وسَفال وَنَفاد. وقد أخضع الله رقابَ الخصوم وأذلَّهم غايةَ الذلِّ (2)، وطلب أكابرهم من السِّلم والانقياد ما يطولُ وصفُه. ونحن ــ ولله الحمد ــ قد اشترطنا عليهم في ذلك من الشروط ما فيه عزُّ الإسلام والسُّنة، وانقماعُ الباطل والبدعة، وقد دخلوا في ذلك كلِّه؛ وامتنعنا حتى يَظْهَر ذلك إلى الفعل، فلم نثق لهم بقولٍ وعهد (3)، ولم نُجِبْهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولًا، والمذكور مفعولًا، ويظهر من عزِّ الإسلام والسنة للخاصَّة والعامَّة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم. وقد أيَّد (4) الله من الأسباب التي فيها عزُّ الإسلام والسنة، وقَمْع الكفر والبدعة، بأمورٍ يطولُ وصفُها في كتابٍ. وكذلك جرى من الأمور التي فيها (5) عزُّ الإسلام وقمع اليهود والنصارى، بعد أن كانوا قد استطالوا وحصلت لهم شوكة، وأعانهم من أعانهم على أمرٍ فيه ذُلٌّ كبير من المسلمين (6)، فلطفَ الله باستعمالنا في _________ (1) (ف): «يكن يخطر». (2) (ب): «الذلة». (3) (ف، ك): «ولا عهد». (4) (ف، ك): «أمد». (5) بقية النسخ: «جرى من الأسباب»، (ف، ك): «التي هي». (6) (ب): «ذل كثير». (ف، ك، ح): «من الناس».

(الكتاب/348)


بعض ما أمرَ الله به ورسولُه. وجرى في ذلك مما فيه عزّ المسلمين، وتأليف قلوبهم، وقيامهم على اليهود والنصارى، وذلّ المشركين وأهل الكتاب، مما هو من أعظم نِعَم الله على عباده المؤمنين. ووَصْفُ هذا يطول. وقد أرسلت إليكم كتابًا أطلبُ ما صنَّفْته في أمر الكنائس، وهي كراريس بخطي، قَطْعِ [ق 102] النصف (1) البلدي، فترسلون ذلك إن شاء الله تعالى، وتستعينون على ذلك بالشيخ جمال الدين المِزِّي، فإنه يُقلِّبُ الكتبَ ويخرجُ المطلوب. وترسلون أيضًا من تعليق القاضي أبي يعلى الذي بخطِّ القاضي أبي الحسين، إنْ أمكنَ الجميع، وهو أحدَ عشر مجلدًا، وإلَّا فمن أوله مجلدًا، أو مجلَّدين (2)، أو ثلاثة. وذكر كُتُبًا أُخر (3) يطلبها منهم. ولم يزل الشيخُ مستمرًّا على عادته من إشغال الناسِ (4) ونَفْعهم وموعظتِهم، والاجتهادِ في سَبِيْل (5) الخير. *** _________ (1) (ف، ك): «نصف». (2) (ب): «مجلد أو مجلّدان». (3) «أخر» ليست في (ف، ك). وكان كتبها في الأصل «كتابا آخر» ثم أصلحا في الهامش. (4) (ك): «اشتغال». وأصلحها في (ط): «الاشتغال بتعليم». (5) (ف، ك): «سبل».

(الكتاب/349)


[قيام جماعة على أذية الشيخ وعفوه عنهم] فلما كان في شهر (1) رجب من سنة إحدى عشرةَ وسبعمائة، جاءَ رجلٌ ــ فيما بلغني ــ إلى أخيه الشيخ شرف الدين، وهو في (2) مسكنه بالقاهرة، فقال له: إن جماعةً بجامع مصر قد تعصَّبوا على الشيخ، وتفرَّدوا به (3) وضربوه. فقال: حسبُنا الله ونعم الوكيل! وكانَ بعضُ أصحابِ الشيخ جالسًا عند شرف الدين. قال: فقمتُ من عنده وجئتُ إلى مصر، فوجدتُ خلقًا كثيرًا من الحُسَيْنية (4) وغيرها رجالًا وفرسانًا يسألون عن الشيخ، فجئتُ فوجدْتُه بمسجدِ الفخر كاتب المماليك على البحر، واجتمعَ عندَه جماعةٌ، وتتابع الناسُ، وقال له بعضهم: يا سيِّدي! قد جاء خلقٌ من الحسينية، ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلَّها لفعلوا. فقال لهم الشيخ: لأيِّ شيءٍ (5)؟ قالوا (6): لأجلك. _________ (1) (ف، ط): «رابع شهر». (2) «في» ليست في (ف، ك). (3) «به» ليست في (ف، ك). (4) الحسينية: نسبة إلى طائفة من عبيد الشراء، وقيل إلى جماعة من الأشراف الحسينيين، سكنوا في عدة حارات بالقاهرة سميت بـ «الحسينية». انظر «خطط المقريزي»: (2/ 20 - 21). (5) (ب) زيادة: «جئتم». (6) (ف، ك): «قال».

(الكتاب/350)


فقال لهم: هذا ما يجوز. قالوا: فنحنُ (1) نذهبُ إلى بيوت هؤلاءِ الذين آذوك، فنقتلهم ونخرِّب دورهم. فإنَّهم شَوَّشوا على الخلق، وأثاروا هذه الفتنة على الناس. فقال لهم: هذا ما يحلّ. قالوا: فهذا الذي قد فعلوه معكَ يحلّ؟ هذا شيءٌ لا نصبرُ عليه، ولا بدَّ أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا. والشيخ ينهاهم ويزجرهم. فلما أكثروا في القول قال لهم: إمَّا أن يكون الحقُّ لي أو لكم أو لله، فإنْ كانَ الحقُّ لي فهم في حلٍّ منه، وإن كان لكم، فإنْ لم تسمعوا منِّي ولا تستفتوني، فافعلوا ما شئتم (2)، وإنْ كان الحقُّ لله، فالله يأخذُ حقَّه كما يشاء إن شاء (3). قالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟ ! قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه. قالوا: فتكونُ أنتَ على الباطل وهم على الحقّ؟ فإذا كنتَ تقول: إنَّهم مأجورون فاسمع (4) منهم ووافقهم على قولهم! _________ (1) (ف، ك): «فقالوا نحن». (2) (ف، ك): «فلا تستفتوني». (ب): «وافعلوا». (3) (ف، ك): «إن شاء كما يشاء». (4) غير الأصل: «مأجورين». و (ف، ح): «فاستمع».

(الكتاب/351)


فقال لهم: ما الأمرُ كما تزعمون، فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين، فَفَعَلوا ذلك باجتهادٍ (1)، والمجتهدُ المخطئ له أجرٌ. فلما قال لهم ذلك. قالوا: فقُمْ واركب معنا، حتى تجيء (2) إلى القاهرة. فقال: لا. وسأل عن وقت العصر؟ فقيل له: إنه قريب، فقام قاصدًا إلى الجامع لصلاة العصر. فقيل له: يا سيّدي قد تواصَوا عليك ليقتلوك. وفي الجامع قد يتمكَّنون منك، بخلاف غيرِه، فصَلِّ حيثُ كان. فأبى إلا المضيَّ إلى الجامع والصلاة فيه، فخرج وتبعه خَلْق كثير لا يرجعون عنه، فضاقت الطريق بالناس، فقال له من كان قريبًا منه: ادخل إلى هذا المسجد ــ مسجدٍ في الطريق ــ واقعد فيه حتَّى يخفّ الناسُ، لئلَّا يموتَ أحدٌ من الزحام. فدخل ولم يجلس فيه، ووقف وأنا معه. فلما خفَّ الناسُ خرج يطلب الجامع العتيق، فمرَّ في طريقه على قوم يلعبون بالشِّطْرنج على مَسْطَبة بعض حوانيت الحدَّادين، فنفض الرُّقعة وقلبها، فَبُهِت (3) الذي يلعب بها والناسُ من فعله ذلك. ثم مشى قاصدًا للجامع، والناسُ يقولون: هنا يقتلونه، الساعة يقتلونه. _________ (1) (ب، ك): «باجتهادهم». (2) (ف، ك): «نجيء». (3) ضبطها في الأصل «فبُهِتَ، فبَهَتَ» وكتب فوقها: معًا.

(الكتاب/352)


فلما وصل [ق 103] إلى الجامع قيل: الساعة يُغْلَق الجامعُ عليه وعلى أصحابه ويُقْتَلون، فدخل الجامعَ ودخَلْنا معه، فصلَّى ركعتين، فلما سلَّم منها (1) أذَّن المؤذِّن بالعَصْر، فصلَّى العصرَ، ثم افتتح بقراءة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، ثم تكلَّم في المسألة التي كانت الفتنةُ بسببها إلى أذان المغرب. فخرج أتباعُ خصومه وهم يقولون: والله لقد كُنَّا غالطين في هذا الرجل بقيامنا عليه، والله إنَّ الذي يقوله هذا هو الحق. ولو تكلَّم هذا بغير الحقِّ لم نُمهله إلى أن يسكت، بل كنَّا نبادر إلى قتله، ولو كان هذا يبطن (2) خلافَ ما يظهر لم يَخْفَ علينا، وصاروا فرقتين يخاصمُ بعضُهم بعضًا. قال: ورُحْنا مع الشيخ إلى بيت ابن عمه على البحر فبِتْنا عنده. *** [أذيّة أخرى للشيخ] وقال الشيخ عَلَم الدين (3): وفي العشر الأوسط من رجب من سنة إحدى عشرة (4)، وقع أذًى في حقِّ الشيخ تقيّ الدين بمصر، وظَفِر به بعضُ المبغضين له في مكان خالٍ، وأساءَ عليه الأدب. وحضرَ جماعةٌ كثيرة من الجند وغيرهم إلى الشيخ بعد ذلك لأجل الانتصار له، فلم يُجِب إلى ذلك. _________ (1) بقية النسخ: «منهما». (2) «يبطن» سقطت من (ف). (3) في كتاب «المقتفي»: (4/ 32). (4) (ف): «وسبعمائة».

(الكتاب/353)


وكتبَ إليَّ المقاتلي (1) يذكُرُ أنَّ ذلك وقعَ من فقيهٍ (2) بمصر، يُعْرف بالبكري (3)، حصل منه إساءة أدب، ثم بعد ذلك طُلِبَ وتُودر (4)، وشَفَعَ فيه جماعةٌ، والشيخُ ما تكلَّم ولا اشتكى، ولو حصل منه شكوى أُهِيْن ذاك (5) غاية الإهانة، لكن قال: أنا ما أنتصرُ لنفسي. وأقام الشيخُ بعد هذا مدةً بالديار المصرية. _________ (1) هو: عثمان بن بلبان فخر الدين الرومي المقاتلي الدمشقي (ت 717) من أقران الذهبي ذكره في «معجم شيوخه»: (1/ 433). وانظر «الدرر الكامنة»: (2/ 439). (2) «من فقيه» سقطت من (ف). (3) تحرفت في (ف، ك، ط): «بالمبدي». والبكري هو: علي بن يعقوب بن جبريل البكري نور الدين أبو الحسن المصري الشافعي (ت 724)، له رد على شيخ الإسلام في مسألة الاستغاثة، قال ابن كثير: «وما مثاله إلا مثال ساقية ضعيفة كَدِرة لاطمت بحرًا عظيمًا صافيًا، أو رملة أرادت زوال جبل. وقد أضحك العقلاء عليه». وقد ردّ عليه شيخ الإسلام في كتابه المعروف بـ «الرد على البكري» ويعرف بـ «الاستغاثة». وقد وقعت له حادثة أخرى مع السلطان همّ فيها بقتله. انظر «الدرر الكامنة»: (3/ 139 - 141)، و «البداية والنهاية»: (18/ 246 - 247). (4) هكذا في الأصل و (ب)، وفي (ف): «وتورّد»، و (ك، ط، والمقتفى): «وتودّد». ووجه ما في الأصل أنها من (ودَر) يقال: ودره توديرًا إذا أوقعه في مهلكة، ويقال: وُدِّر فلان إذا غُيِّب، وودّره الأمير وأمر به أن يودّر، إذا غرَّبه وطرده عن البلد. انظر «أساس البلاغة»: (ودر)، و «التاج»: (7/ 587). واقترح د. الإصلاحي أن تكون محرفة عن «نودي عليه» وسقطت «عليه». (5) (ف): «أهين على ذلك».

(الكتاب/354)


[عودة الشيخ إلى الشام] ثم إنَّه توجَّه إلى الشام صحبةَ الجيش المصري قاصدًا الغزاة (1). فلما وصل معهم إلى عسقلان توجَّه (2) إلى بيت المقدس، وتوجَّه منه إلى دمشق، وجعل طريقَه على عَجْلون وبعض بلاد السَّواد وزُرَعَ. ووصل إلى دمشق (3) في أول يومٍ من شهر ذي القَعْدة سنة (4) اثنتي عشرة وسبعمائة، ومعه أخواه وجماعةٌ من أصحابه. وخرَجَ خلقٌ كثير لتلقِّيه، وسُرُّوا سرورًا عظيمًا بمقدَمه وسلامته وعافيته. وكان مجموع غَيبته عن دمشق سبعَ سنين وسبعَ جُمَع. وقد توفي في أثناء غيبة الشيخ عن دمشق غيرُ واحدٍ من كبار أصحابه وساداتهم. منهم: الشيخُ الإمامُ القدوة الزاهد العابد (5) العارف عمادُ الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، المعروف بابنِ شيخِ الحزَّامين (6). توفي يوم السبت السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر من _________ (1) (ف): «القراه». (ك): «الفُراة» كلاهما تحريف. (2) (ب): «توجّه الشيخ». (3) «وجعل ... دمشق» سقط من (ف). (4) (ف، ك): «من سنة». (5) ليست في (ف، ك). (6) الأصول: «الحزاميين». وصوابه ما أثبت. انظر «توضيح المشتبه»: (3/ 165) لابن ناصر الدين. وترجمته في «معجم الشيوخ»: (1/ 29 - 30) للذهبي، و «المقتفى»: (4/ 19 - 20) للبرزالي، و «أعيان العصر»: (11/ 153 - 154) للصفدي. وله مصنفات ورسائل عديدة تزيد على الخمسين، وقد اعتنى بها الأستاذ البحّاثة أبو الفضل القونوي يسّر الله طباعتها.

(الكتاب/355)


سنة إحدى عشرة وسبعمائة. وكان رجلًا صالحًا ورعًا، كبيرَ الشَّأْن، منقطعًا إلى الله، متوفِّرًا على العبادة والسلوك. وكان قد كتَبَ رسالةً وبعثها إلى جماعةٍ من أصحاب الشيخ وأوصاهم فيها بملازمة الشيخ، والحثِّ على اتباع طريقه (1)، وأثنى فيها على الشيخ ثناءً عظيمًا. وهذه نسخةُ الرسالة التي كتبها: [التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار] (2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وسبحانَ الله وبحمده، وتقدَّس في علوِّه وجلالِه، وتعالى في صفاتِ كماله، وتعالى (3) في سُبُحات فَرْدانيته وجماله، وتكرَّم في إفضاله ونواله (4)، جلَّ أن يُمَثَّل بشيءٍ من مخلوقاته، أو يحاط (5) به، بل هو المحيط بمبتدعاته، لا تصوره الأوهام، ولا تُقِلُّه الأجرام، ولا تَعقل كُنْهَ ذاته _________ (1) (ف، ك): «طريقته». (2) هذه التسمية لمؤلف الرسالة كما نص عليه في آخرها. انظر (ص 389). وقد طبعت مرارًا مفردة، وطبعت ضمن «الجامع لسيرة شيخ الإسلام»: (ص 109 - 131). (3) كذا في الأصل، وبقية النسخ: «وتعاظم». (4) (ك): «وجماله ونواله». (5) الأصل: «يخاطب»، وكتب الناسخ في الهامش: «أظنه: يحاط» وهو الصواب.

(الكتاب/356)


البصائر ولا الأفهام. الحمد لله مؤيّد (1) الحقِّ وناصره، ودافعِ (2) الباطل وكاسره، ومُعِزِّ الطائع [ق 104] وجابره، ومُذِلِّ الباغي وداثره، الذي سعد بحضرة (3) الاقتراب من قدسه من قام بأعباء الاتباع في بنائه وأُسِّه، وفاز بمحبوبيّته في ميادين أُنسه مَن بَذَلَ ما يهواه في طلبه من قلبه وحِسِّه، وتَثَبَّت في مَهامِهِ (4) الشكوك منتظرًا زوالَ لَبْسِه، سبحانه وبحمده، وله (5) المثل الأعلى، والنور الأتمّ الأجلى، والبرهان الظاهر في الشريعة المُثلى. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي شَهِدَت بوحدانيته الفِطَر، وأَسْلم لربوبيّتهِ ذوو العقل والنظر، وظهرت أحكامُه في الآي والسُّوَر، وتمَّ اقتدارُه في تنزُّل القدر. وأشهدُ أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عبدُه ورسولُه، الذي شهدت بنبوَّته الهواتف والأحبار، فكان قبل ظهوره يُنْتَظر (6)، وتلاحقت عند مبعثه معجزاته من حَنِيْن الجِذْع وانقياد الشَّجَر، صلواتُ الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الخشية والحَذَر، والعلم المنوَّر، فهم قُدْوَة التابع للأثر. _________ (1) الأصل: «مريد» والمثبت من بقية النسخ. (2) (ف، ك): «ودامغ». (3) (ف): «بخطوة».وأصلحها في (ط): «بحظوة». (4) (ب): «ويثبت». (ف): «وثبتت في مهابة». (5) (ف، ك): «له». (6) (ب): «وكان ... تنتظر». و «ينتظر» سقط من (ف).

(الكتاب/357)


وبعد؛ فهذه رسالةٌ سطرها العبدُ الضعيف الراجي رحمةَ ربِّه وغفرانه، وكرمه وامتنانه: أحمد بن إبراهيم الواسطي ــ عامله الله بما هو أهله، فإنه أهل التقوى والمغفرة (1) ـــ إلى إخوانه في الله، السادةِ العلماءِ، والأئمةِ الأتقياء، ذوي العلم النافع، والقلب الخاشع، والنور الساطع، الذين كساهم الله كسوة الاتّباع، وأرجو من كرمه أن يحقِّقهم بحقائق الانتفاع: السيّد الأجلّ العالم الفاضل، فخر المحدِّثين ومصباح المتعبِّدين المتوجِّه إلى ربِّ العالمين؛ تقي الدين أبي حفص عُمر بن عبد الله (2) بن عبد الأحد بن شُقَيْر (3). والشيخ الأجلّ، العالم الفاضل، السَّالك الناسك ذي العلم والعمل، المكتسي من الصفات الحميدة أجملَ (4) الحُلل، الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الأحد الآمِدي (5). والسيّد الأخ، العالم الفاضل، السَّالك الناسك، التقيّ الصالح، الذي سيماء نور قلبه لائح على صفحات وجهه؛ شرف الدين محمد بن المنجَّى (6). والسيّد الأخ، الفقيه العالم، النبيل الفاضل، فخر المحدِّثين (7)؛ _________ (1) (ف، ك): «وأهل المغفرة». (2) «بن عبد الله» سقط من (ب). (3) ترجمته في «أعيان العصر»: (3/ 632)، و «المنهج الأحمد»: (5/ 80). (4) (ف): «الجميلة وأجمل». (5) ترجمته في «معجم الشيوخ»: (2/ 190) للذهبي، و «الدرر الكامنة»: (4/ 154). (6) ترجمته في «الذيل على طبقات الحنابلة»: (4/ 456). (7) (ف، ك): «المخلصين»، وأصلحها في (ط): «المحصلين».

(الكتاب/358)


زين الدين عبد الرحمن (1) بن محمود بن عُبيدان البعلبكّي (2). والسيّد الأخ، العالم الفاضل، السَّالك الناسك، ذي اللبِّ الراجح، والعمل الصالح، والسكينة الوافرة، والفضيلة الغامرة؛ نور الدين محمد بن محمد بن محمد بن الصَّائغ (3). وأخيه السيد الأخ، العالم التقي الصالح، الخيِّر الدَّيِّن، العامل الثقة، الأمين الراجح، ذي السَّمْت الحسن، والدِّين المتين في الاتباع للسنن (4)؛ فخر الدين محمد (5). والأخ العزيز الصالح، الطالب لطريق ربِّه، والراغب في مرضاته وحبِّه، العالم الفاضل، الولد شرف الدين محمد بن سعدِ الدين سعدِ الله ابن بُخَيْخٍ (6). _________ (1) (ب): «بن عبد الرحمن». (2) ترجمته في «الذيل على طبقات الحنابلة»: (5/ 50). (3) ترجمته في «أعيان العصر»: (5/ 197 ــ 199)، و «الدرر الكامنة»: (4/ 226). و «البداية والنهاية»: (18/ 511 - 512) ولقبه في المصادر: «بدر الدين»، وعند ابن كثير «ناصر الدين». توفي سنة (739). (4) (ك): «اتباع السنن». (5) لم أجد ترجمته. (6) في الأصول: «نجيح» خطأ، وصوابه (بُخَيخ) بموحدة ثم خاء معجمة، ثم ياء مثناة من تحت، آخره خاء معجمة. انظر «توضيح المشتبه»: (1/ 369) لابن ناصر الدين الدمشقي. و «سعدالله» سقطت من (ب). توفي سنة (749). وترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة»: (5/ 142 - 144).

(الكتاب/359)


وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم وشيخنا السيد الإمام، الأُمَّة (1) الهمام، محيي السنة وقامع البدعة، ناصر الحديث ومفتي الفرق، الفاتق (2) عن الحقائق، ومُؤصِّلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحقِّ ظاهرًا وقلبه في العُلى قاطن. أنموذج الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سِيَرهم [ق 105]، ونَسِيَت الأمَّة حَذْوَهم وسُبُلهم، فذكَّرَهم بها الشيخ، فكان في دارس نهجهم سالكًا، ولمَوات حَذْوِهم محييًا، ولأعِنَّة قواعدهم مالكًا: الشيخُ الإمام تقيُّ الدين أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيميَّة، أعاد الله علينا (3) بركته، ورفعَ إلى مدارجِ العُلى درجتَه، وأدام توفيق السادة المبدوِّ بذكرهم وتسديدهم، وأجزل لهم حظَّهَم ومزيدَهم. السلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته، جَعَلنا الله وإياكم ممن ثبت على قَرْع نوائب الحق جأْشُه، واحتسبَ لله ما بذله من نفسه في إقامة دينه، وما احتوشه من ذلك وحاشه (4)، واحتذى حَذْو السُّبَّق الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين لم تأخذهم في الله لومةُ لائم، فما ضَرَّهم مَنْ خذلَهم ولا من خالفهم، مع قِلَّة عددهم في أوَّل الأمر، فكانوا مع ذلك كلٌّ منهم مجاهدٌ بدين الله قائم. ونرجو من كرم الله أن يوفِّقنا لأعمالهم، ويرزقَ _________ (1) (ف): «إمام الأئمة». (2) (ف، ك): «مفتي ... »(ك): «الفايق». (3) «علينا» ليست في (ف، ك). (4) (ف، ك): «احتوشته». و (ف): «وجاشه».

(الكتاب/360)


قلوبنا قِسْطًا من أحوالهم، ويَنْظِمنا في سِلْكهم، تحت سَنْجقهم (1) ولوائهم، مع قائدهم وإمامهم سيِّد المرسلين، وإمام المتّقين، محمد صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أذكِّركم ــ رحمكم الله ــ ما (2) أنتم به عالمون، عملًا بقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. وأبدأُ من ذلك بأنْ أُوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله، وهي وصية الله تعالى إلينا وإلى الأمم من قبلنا، كما بيَّن سبحانه وتعالى قائلًا وموصِّيًا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]. وقد علمتم تفاصيلَ التقوى على الجوارح والقلوب، بحسب الأوقات والأحوال؛ من الأقوال والأعمال، والإرادات والنيات. وينبغي لنا جميعًا أن لا نقنع من الأعمال بصُوَرِها، حتى نطالب قلوبنا بين يدي الله تعالى بحقائقها. ومع ذلك فلتكن لنا هِمَّةٌ عُلْوِيَّةٌ تترامى إلى أوطان القُرْب، [ونفحات] (3) المحبوْبِيَّة والحبّ. فالسعيدُ من حَظي من ذلك بنصيب، وكان مولاه (4) منه على سائر الأحوال قريبًا بخصوصِ التقريب، فيكتسي العبدُ من ذلك ثمرةَ الخشية والتعظيم للعزيز العظيم. فالحبُّ والخشيةُ ثابتان في الكتاب العزيز والسنة المأثورة. قال تعالى: _________ (1) (ك): «سجعتهم».وغيرها في (ط): «سجفتهم». والسنجق هو اللواء. (2) (ف، ك): «بما». (3) زيادة من بقية النسخ. (4) (ب): «وكان منه مولى».

(الكتاب/361)


{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وفي الحديث: «أسألك حُبَّكَ وحبَّ من أحَبَّك وحبَّ عملٍ يقرِّبني إلى حُبِّك» (1). وفي الحديث: «لو تعلمون ما أعْلَم لضحِكْتُم قليلًا ولَبَكَيتُم كثيرًا، ولخرجتم إلى الصُّعُدَاتِ تجأرُوْنَ إلى الله» (2). ومعلومٌ أنُّ الناسَ يتفاوتون في مقامات الحبِّ والخشية؛ في مقامٍ أعلى من مقام، ونصيبٍ أرفعَ من نصيب، فلتكن همةُ أحدِنا من مقامات الحبِّ والخشية أعلاه، ولا يقنع إلا بِذرْوَته (3) وذُرَاه. فالهممُ القصيرة تقنع بأيسر نصيب، والهمم العليَّة تعلو مع الأنفاس إلى قُرْب (4) الحبيب، لا يشغلها عن ذلك ما هو دونه من الفضائل، والعاقلُ لا يقنعُ بأمرٍ مفضول عن حالٍ فاضل. [ق 106] ولتكن الهمَّة مقسمةً على نيل المراتب الظاهرة، وتحصيل المقامات الباطنة، فليس من الإنصاف الانصبابُ إلى الظواهر، والتشاغل عن المطالب العلويَّة ذوات الأنوار البواهر. وليكن لنا جميعًا (5) من الليل والنهار ساعةٌ، نخلو فيها بربِّنا جلَّ اسمه _________ (1) أخرجه الترمذي (3235)، والحاكم: (1/ 521)، من حديث معاذ. قال البخاري والترمذي: حسن صحيح. (2) بهذا اللفظ أخرجه الترمذي (2312)، وابن ماجه (4190)، وأحمد (21516) وغيرهم من حديث أبي ذر. قال الترمذي حسن غريب. وبدون قوله «لخرجتم ... » أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901) من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) (ب): «أعلاه ولا بذروته». (4) (ك): «قريب». (5) (ك): «جمعًا».

(الكتاب/362)


وتعالى قدسُه، نجمعُ بين يديه في تلك الساعة همومَنا، ونطرحُ أشغال الدنيا عن (1) قلوبنا، فنزهدُ فيما سوى الله ساعةً من نهار، فبذلك يعرفُ الإنسانُ حالَه مع ربِّه، فمن كان له مع ربِّه حالٌ، تحرَّكَت في تلك الساعة عزائمُه، وابتهجَتْ (2) بالمحبَّة والتعظيم سرائرُه، وطارت إلى العُلى زفراتُه وكوامِنُه. وتلك الساعة أنموذجٌ لحالة العبدِ في قبره، حين خُلُوِّه عن ماله وحِبِّه، فمن لم يُخْلِ قلبَه لله ساعةً من نهار، لِمَا احتوشَه من الهمومِ الدنيويّة وذوات الآصار. فلْيَعْلَم أنه ليس له ثَمَّ رابطة علويّة، ولا نصيبٌ من المحبة ولا المحبوبية، فلْيَبْكِ على نفسه، ولا يرضى منها إلا بنصيبٍ من قرب ربِّه وأُنْسِه (3). فإذا خَلَصَت (4) لله تلك الساعةُ أمكنَ إيقاعُ الصلواتِ الخمس على نمطها من الحضور والخشوع، والهيبة للربِّ العظيم في السجود والركوع. فلا ينبغي لنا أن نبخل على أنفسِنا في اليوم والليلة من أربعٍ وعشرين ساعة بساعةٍ واحدةٍ لله الواحد القهَّار، نعبُدُه فيها حقَّ عبادته، ثم نجتهدُ على إيقاع الفرائض والتهجّد (5) على ذلك النَّهْج في رعايته، وذلك طريقٌ لنا جميعًا ــ إن شاء الله تعالى ــ إلى النفوذ (6). فالفقيه إذا لم ينفُذْ في عِلْمه حصل _________ (1) (ف، ك): «من». (2) الأصل: «وانتهجت». (3) «وأنسه» ليست في (ف). (4) (ف، ك): «حصلت». (5) ليست في (ك، ط). (6) الأصل: «الفوز» وما أثبته من النسخ، ويؤيده قوله بعد ذلك: «إذا لم ينفذ ... فالنافذ من الفقهاء .. لم ينفذ .. ».

(الكتاب/363)


له الشطر الظاهر، وفاته الشطرُ الباطن؛ لاتصاف قلبه بالجمود، وبُعْدِه في العبادة والتلاوة عن لين القلوب والجلود، كما قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]. وبذلك يرتقي الفقيه عن فقهاء عصرنا (1) ويتميَّزُ به عنهم، فالنافذ من الفقهاء له البصيرة المنوَّرَة، والذَّوق الصحيح، والفراسة الصادقة، والمعرفة التامّة، والشهادة على غيره بصحيح الأعمال وسقيمها. ومن لم ينفُذْ لم تكن له هذه الخصوصية، وأبصرَ بعضَ الأشياء وغاب عنه بعضُها. فيتعيَّنُ علينا جميعًا طلبُ النفوذِ إلى حضرة قُرْب المعبودِ، ولقائه بذوق الإيقان، لنعبدَه كأنَّنا نراه، كما جاءَ في الحديث (2). وذلك بعد الحظوة في هذه الدار بلقاء (3) الرسول - صلى الله عليه وسلم - غيبًا في غيب، وسرًّا في سرٍّ، بالعكوفِ على معرفةِ أيامه وسننه واتباعها، فتبقى البصيرةُ شاخصةً إليه، تراه عيانًا في الغيب، كأنها معه - صلى الله عليه وسلم - وفي أيامه. فيجاهد على دينه، ويبذل ما استطاع من نفسه في نُصْرته. وكذلك من سلك في طريق النفوذ يُرجَى له أن يلقى ربَّه بقلبه غيبًا في غيب، وسرًّا في سرٍّ، فيُرْزَق القلبُ قسطًا من المحبَّة والخشية والتعظيم [اليقيني] (4)، فيرى الحقائقَ بقلبه من وراءِ سِتْر رقيق. وذلك هو المُعَبَّر عنه _________ (1) (ف): «عصر». (2) في حديث جبريل الطويل أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (3) (ف، ك): «وبعد ذلك الخطوة ... تلقاء». (4) «اليقيني» من بقية النسخ.

(الكتاب/364)


بالنفوذ. ويصلُ إلى قلبه من وراء ذلك السِّتر ما يغمره من أنوار العظمة والجلال والبهاء والكمال، فيتنوَّر العلمُ الذي اكتَسَبَه العبد، ويبقى له كيفية أخرى زائدة على الكيفية المعهودة من [ق 107] البَهْجة (1) والأنوار، والقوّة في الإعلان والإسرار. فلا ينبغي لنا أن نتشاغل عن نَيْل هذه الموهبة السَّنِيَّة بشواغل الدنيا وهمومها، فننقطع (2) بذلك ــ كما تقدّم ــ بالشيءِ المفضول عن الأمر المهمِّ الفاضل. فإذا سلَكْنا في ذلك بُرْهةً من الزمان، ورَزَقَنا الله تعالى نفوذًا وتمكَّنا في ذلك النفوذ، فلا تعودُ هذه العوارض الجزئيات (3) الكونيات تُؤَثِّر فينا إن شاء الله تعالى. وليكن شأنُ أحدنا اليوم: التعديل بين المصالح الدنيوية والفضائل العلمية، والتوجُّهات القلبية، ولا يقنع أحدُنا بأحدِ هذه الثلاثة عن الآخَرَين، فيفوته المطلوب. ومتى اجتهد في التعديل فإنه إن شاء الله تعالى بقَدْر ما يحصِّل العبدُ جزءًا (4) من أحدهم، حصَّل جزءًا من الآخر، ثم بالصبر على ذلك تجتمع الأجزاءُ المحصَّلة، فتصيرُ مرتبةً عاليةً عند النهاية إن شاء الله تعالى. هذا وإن كنتم ــ أيّدكم الله تعالى ــ بذلك عالمين، لكنّ الذِّكْرى تنفعُ المؤمنين. _________ (1) الأصل: «المهجة». والمثبت من باقي النسخ. (2) (ف): «فنقطع». (ب): «فينقطع». (3) رسمها في الأصل: «الجُزوَّيات» بتسهيل الهمز، لكن الشدة على الواو خطأ من الناسخ. (4) (ك): «للعبد جزء».

(الكتاب/365)


فصل واعلموا ــ أيَّدكم الله ــ أنه يجب عليكم أن تشكروا ربَّكم تعالى في هذا العصر، حيثُ جعلكم بين جميع أهل هذا (1) العصر كالشَّامة البيضاء في الحيوان الأسود. لكن من لم يسافر إلى الأقطار، ولم يتعرَّف أحوالَ الناس، لا يدري قَدْر ما هو فيه من العافية. فأنتم إن شاء الله تعالى كما قال الله تعالى في حقِّ هذه الأمة الأُولى (2): {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وكما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ... } الآية [الحج: 41]. أصبحتم إخواني تحت سَنْجق (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ إن شاء الله تعالى ــ مع شيخكم وإمامكم، شيخنا وإمامنا المبدوء بذكره ــ رضي الله عنه ــ قد تميَّزتُم عن جميع أهل الأرض؛ من (4) فقهائها وفقرائها، وصوفيتها (5) وعوامها= بالدين الصحيح. وقد عرفتم ما أحدَثَ الناسُ من الأحداث، في الفقهاء والفقراء، والصوفية والعوام. فأنتم اليوم في مقابلة الجهمية من الفقهاء، نصرتم اللهَ _________ (1) ليست في (ب). (2) «كما قال تعالى» تأخرت في (ف، ك) إلى هذا الموضع. و «الأولى» ليست في (ب). (3) السنجق: اللواء أو الراية. وقد سبق. (4) ليست في (ف، ك). (5) (ف): «وصفويتها» خطأ.

(الكتاب/366)


ورسولَه في حفظ ما أضاعوه من دين الله، تصلحون ما أفسدوه من تعطيل صفات الله. وأنتم أيضًا في مقابلة من لم ينفُذ في علمه من الفقهاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجَمَد (1) على مجرَّد تقليد الأئمة، فإنَّكم قد نصرتم الله ورسوله في تنفيذ العلم إلى أصوله من الكتاب والسنة، واتخاذ أقوال الأئمة تأنُّسًا (2) بهم لا تقليدًا لهم. وأنتم أيضًا في مقابلة ما أحدثته أنواعُ الفقراء؛ من الأحمدية والحريرية، من إظهار شعار المُكاء والتَّصْدِية، ومؤاخاة النساء والصبيان، والإعراض عن دين الله، إلى خُرافات مكذوبة عن مشايخهم، واستنادهم (3) على شيوخهم، وتقليدهم في صائب (4) حركاتهم وخطائها، وإعراضهم عن دين الله الذي أنزله من السماء. فأنتم بحمد الله تجاهدون هذا الصنف أيضًا كما تجاهدون من سبق. حفظتم من دين الله ما أضاعوه، وعرفتم ما جهلوه، تُقَوِّمون من الدين ما عوَّجوه، وتُصْلِحون منه ما أفسدوه. وأنتم أيضًا في مقابلة [ق 108] رسميَّة الصوفية والفقهاء، وما أحدثوه من _________ (1) (ف): «وجهد». (2) (ف): «تأسّيًا». (3) (ب): «إلى زخرفات مكذوبة على مشايخهم وإسنادهم». (4) الأصل: «مصائب»، ثم عدّلت إلى «صائب».

(الكتاب/367)


الرسوم الوضعية (1)، والآصار الابتداعية، من التصنُّع باللباس، والأطواق (2)، والسجادة؛ لنيل الرزق من المعلوم، ولُبس البَقْيار (3)، والأكمام الواسعة في حضرة الدرس (4)، وتنميق الكلام، والعَدْو بين يدي المدرِّس (5) راكعين، حفظًا للمناصب، واستجلابًا للرزق والإدْرار. فخَلَط هؤلاء في عبادة الله غيرَه، وتألَّهوا سواه، ففسدت قلوبُهم من حيث لا يشعرون؛ يجتمعون لغير الله بل للمعلوم، ويلبسون للمعلوم، وكذلك في أغلب حركاتهم يراعون ولاةَ المعلوم، فضيَّعوا كثيرًا من دين الله وأماتوه، وحفظتم أنتم ما ضيَّعوه، وقوَّمتم ما عوَّجوه. وكذلك أنتم في مقابلة ما أحدثته (6) الزنادقةُ؛ من الفقراء والصوفية، من قولهم بالحلول والاتحاد، وتألُّه المخلوقات، كاليونسية، والعربية، والصدرية، والسبعينية، والسَّعدية (7)، والتِّلِمْسانية. فكلُّ هؤلاء بدَّلوا دين الله _________ (1) الأصل: «الوصفية»، والمثبت من بقية النسخ. (2) (الأصل، ف، ك، ط): «والأطراق». والتصويب من (ب). والأطواق جمع طوق، وهو ما يُلبس حول العنق، وقد اتخذ جماعات من الصوفية لبس الأطواق من المسابح الطوال وغيرها شعارًا. (3) لفظة فارسية، وهي ضرب من العمائم يعتمرها الوزراء والكُتّاب والقضاة. انظر «معجم دوزي»: (1/ 407). أقول: وليست خاصة بهم فقد ورد في ترجمة ابن حمّوية المتصوّف قول الذهبي: «ثم تصوّف ولبس البقيار ... ». «تاريخ الإسلام»: (50/ 152). (4) (ب): «خضر الدروس». (5) (ف): «المدارس». (6) (ب): «أحدثوه». (7) ليست في (ف، ك، ط).

(الكتاب/368)


وقلبوه، وأعرضوا عن شريعةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فاليونسية: يتألَّهون شيخَهم، ويجعلونه مَظْهَرًا للحقّ، ويستهينون (1) بالعبادات، ويظهرون بالفَرْعَنة والصَّولة، والسفاهة والمحالات، لما وَقَر في بواطنهم من الخيالات الفاسدة. وقِبلتهم الشيخ يونس (2). ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآنُ المجيد عنهم بمعزل، يؤمنون به بألسنتهم، ويكفرون به بأفعالهم. وكذلك الاتحاديّة، يجعلون الوجود مَظْهَرًا للحقِّ، باعتبار أن [لا] (3) متحرِّك في الكون سواه، و [أن لا] ناطق في الأشخاص غيرُه (4). وفيهم من لا يفرق بين الظاهر والمظهر، فيجعل الأمر كموج البحر، فلا يفرّق بين عين الموجَة وبين عين البحر، حتَّى إن أحدهم يتوهَّم أنه الله، فينطق على لسانه، ثم يفعل ما أراد من الفواحش والمعاصي؛ لأنَّه يعتقد ارتفاع المثنوية (5)، فمن العابدُ ومن المعبود؟ صار الكلُّ واحدًا! ! اجتمعنا بهذا الصنف في الرُّبُط والزوايا. فأنتم بحمد الله قائمون في وجه هؤلاء أيضًا تنصرون الله ورسوله، وتذبُّون عن دينه، وتعملون على إصلاح ما أفسدوا، وعلى تقويم ما عوّجوا. فإنَّ هؤلاء محوا رَسْم الدِّين، وقلعوا أثره، فلا يقال: أفسدوا ولا _________ (1) (ب): «ويشتهرون». (2) تقدمت ترجمته (ص 65). (3) الزيادة من (ف، ك). (4) ما بين المعكوفين من (ف)، وفي (ك): «ولا ناطق»، وسقطت من الأصل وب. وفي الأصل وب: «غيرهم». (5) (ب): «الثنوية».

(الكتاب/369)


عوَّجوا، بل بالغوا في هَدْم الدين ومَحْوِ أثره! ولا قُربة أفضل (1) عند الله تعالى من القيام بجهاد هؤلاء بمهما أمكن، وتبيين مذاهبهم للخاصِّ والعام. وكذلك جهادُ كلِّ من ألْحَد (2) في دين الله وزاغ عن حدوده وشريعته، كائنًا في ذلك ما كان من فتنةٍ وقول، كما قيل: إذا رضيَ الحبيبُ فلا أُبالي ... أقام الحيُّ أم جدَّ الرَّحِيْلُ (3) وبالله المستعان. وكذلك أنتم ــ بحمد الله ــ قائمون بجهاد الأمراء والأجناد، تصلحون ما أفسدوا من المظالم والإجحافات، وسوء السيرة الناشئة عن الجهل بدين الله، بما أمكن. وذلك لبعد [ق 109] العهد عن دين (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنَّ له اليوم سبعمائة سنة، فأنتم بحمد الله تجدِّدون ما دَثَر من ذلك، بل يُجَدِّد الله بكم وبشيخكم إن شاء الله ما عفا من ذلك ودَثَر (5). وكذلك أنتم ــ بحمد الله ــ قائمون في وجوه العامة، مما أحدثوا من تعظيم الميلادة (6)، والقَلَنْدس، وخميس البيض (7)، والشّعانين، وتقبيل _________ (1) سقطت من (ب). (2) (ب): «اتخذ». (3) لم أجده. (4) ليست في (ك، ط). (5) «بل يجدد ... من ذلك» سقطت من (ف، ك، ط). (6) كذا في النسخ، وفي مواضع من «الفتاوى»: (25/ 319، 329)، و «الاقتضاء»: (1/ 552، 2/ 5، 11) وغيرها: «الميلاد». (7) في «الفتاوى»: «خميس العدس»، وهذا الخميس من أعياد النصارى وله عدة إطلاقات، فيسمى «الخميس الكبير»، وربما أضيف إلى البيض أو العدس لأنهم كانوا يصبغون البيض ويطبخون باللبن. انظر «مجموع الفتاوى»: (25/ 319، 321)، و «الاقتضاء»: (1/ 533، 536، 539، 2/ 12) وغيرها.

(الكتاب/370)


القبور والأحجار، والتوسُّل عندها. ومعلومٌ أن ذلك كلَّه من شعائر النصارى والجاهلية. وإنما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليُوَحَّد الله ويُعبد وحده (1)، ولا يُتألَّه معه شيء من مخلوقاته. بعثه الله تعالى ناسخًا لجميع الشرائع والأديان والأعياد، فأنتم بحمد الله قائمون بإصلاح ما أفسد الناسُ من ذلك. وقائمون في وجوه من ينصر هذه البدع من مارقي الفقهاء، أهل الكيد والضِّرار لأولياء الله، أهل المقاصد الفاسدة، والقلوب التي هي عن نَصْر الحقِّ حائدة (2). وإنما أَعْرَض هذا الضعيفُ عن ذكر قيامكم في وجوه التتر والنصارى واليهود، والرافضة والمعتزلة والقدرية، وأصناف أهل البدع والضلالات؛ لأنَّ النَّاس متفقون على ذمِّهم، يزعمون أنَّهم قائمون بردِّ بدعتهم، ولا يقومون بتوفية حقِّ الرَّدِّ عليهم كما تقومون، بل يعلمون ويَجْبُنون عند (3) اللقاء فلا يجاهدون، وتأخذهم في الله اللائمة لحفظ مناصبهم، وإبقاءً على أعراضهم. سافرنا البلاد فلم نرَ من يقوم بدين الله في وجوه مثل هؤلاء ــ حقَّ القيام ــ سواكم، فأنتم القائمون في وجوه هؤلاء ــ إن شاء الله ــ بقيامكم _________ (1) بعده في (ب): «لا يعبد». (2) (ب): «جامدة». (3) (ف، ك): «عن».

(الكتاب/371)


بنُصرة شيخكم وشيخنا ــ أيده الله ــ حقَّ القيام، بخلاف (1) من ادَّعى من الناس أنهم يقومون بذلك. فصبرًا يا إخواني على ما أقامكم الله فيه، من نُصرة دينه وتقويم اعوجاجه، وخذلان أعدائه. واستعينوا بالله، ولا تأخذكم في الله (2) لومة لائم، وإنَّما هي أيام قلائل، والدين منصور، قد تولَّى الله إقامته (3)، ونُصْرة من قام به من أوليائه، إن شاء الله، ظاهرًا وباطنًا. وابذلوا فيما أقمتم فيه ما أمكنكم من الأنفس والأقوال والأفعال والأموال، عسى أن تلحقوا بذلك بسلفكم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلقد عرفتم ما لقوا في ذات الله، كما قال خُبَيْب حين صُلِبَ على الجذع (4): وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يُبارك على أوصال شِلْوٍ مُمَزَّع وقد عرفتم ما لقي رسول (5) الله - صلى الله عليه وسلم - من الضرِّ والفاقة في شعب بني هاشم، وما لقي السابقون الأولون من التعذيب والهجرة إلى الحبشة، وما لقي المهاجرون والأنصار في أُحد، وفي بئر معونة، وفي قتال أهل الرِّدَّة، وفي جهاد الشام والعراق، وغير ذلك. وانظروا كيف بذلوا نفوسهم وأموالهم لله، حُبًّا له، وشوقًا إليه. فكذلك _________ (1) سقط «أيده الله» «بخلاف» من (ب). (2) بقية النسخ: «فيه» بدل «في الله». (3) (ك) زيادة: «ونَصْره». (4) أخرج القصة بطولها البخاري (3045) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (5) (ب): «أصحاب رسول ... ».

(الكتاب/372)


أنتم ــ رحمكم الله ــ كلٌّ منكم على قدر إمكانه [ق 110] واستطاعته، بفعله، وبقوله، وبخطِّه، وبقلبه، وبدعائه. كلُّ ذلك جهاد. أرجو أن لا يخيبَ مَنْ عاملَ اللهَ بشيءٍ من ذلك؛ إذ لا عيش إلَّا في ذلك، ولو لم يكن فيه إلَّا أنَّ (1) هِمَمَكُم مزاحِمةٌ لأهل الزيغ، ومُشوِّشة لهم، تُبغضونهم في الله، وتطلبون استقامته في دين الله، وذلك من الجهاد الباطن إن شاء الله تعالى. فصل ثم اعرفوا إخواني حقَّ ما أنعم الله عليكم من قيامكم بذلك، واعرفوا طريقكم إلى ذلك، واشكروا الله تعالى عليها، وهو أن أقام لكم ولنا في هذا العصر مثل سيِّدنا الشيخ الذي فتح الله به أقفال القلوب، وكشف به عن البصائر عمى الشُّبهات وحيرة الضلالات، حيث تاه العقلُ بين هذه الفرق، ولم يهتد (2) إلى حقيقة دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومن العجب أنَّ كلًّا منهم يدَّعي أنه على دين الرسول، حتى كشف الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل عن حقيقة دينه الذي أنزله من السماء وارتضاه لعباده. واعلموا أنَّ في آفاق الدنيا أقوامًا يعيشون أعمارهم بين هذه الفرق، يعتقدون أنَّ تلك البدع حقيقةُ الإسلام، فلا يعرفون الإسلام إلا هكذا! فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبع مئة من الهجرة من بَيَّن (3) _________ (1) «أن» من الأصل فقط. (2) (ف): «يهتدوا». (3) (ب): «أقام في ... من يبين».

(الكتاب/373)


لكم أعلام دينكم، وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته، وبيَّن لكم بهذا النور المحمَّدي ضلالات العبَّاد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم. وأرجوا أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة، الذين لا يضرُّهم من خَذَلهم ولا من خالفهم، وهم بالشام إن شاء الله تعالى. فصل ثم إذا علمتم ذلك؛ فاعرفوا حقَّ هذا الرجل ــ الذي هو بين أظهركم ــ وقدْرَه، ولا يعرفُ حقَّه وقدره إلَّا من عرف دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحقَّه وقَدْره. فمن وقع دينُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قلبه بموقعٍ يستحقُّه، عرف ما قام هذا الرجل به (1) بين أظهر عباد الله؛ يُقوِّم معوَجَّهم، ويُصلح فسادهم، ويلُمّ شَعَثَهم جَهْد إمكانه، في الزمان المظلم، الذي انحرف فيه الدين، وجُهِلَت السنن، وعُهِدَت البدع، وصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والقابضُ على دينه كالقابض على الجمر، فإنَّ أجر من قام بهذا (2) النور في هذه الظلمات لا يُوْصَف وخطره لا يُعرَف. هذا إذا عرفتموه أنتم من حيثيَّة الأمر الشرعي الظاهر، فهنا قومٌ عرفوه من حيثيّةٍ أُخرى من الأمر الباطن، ومن نُفُوذه (3) إلى معرفة أسماء الله _________ (1) (ب، ف، ك): «عرف حق ما قام». (2) «أجر» غيَّرها في الأصل إلى «آخر» وهي كذلك في (ب). وفي (ك): «قام بإظهار هذا». (3) (ك، ط): «يقوده».

(الكتاب/374)


تعالى وصفاته، وعظمةِ ذاته، واتصال قلبه بأشعة أنوارها، والاحتظاء (1) من خصائصها وأعلى أذواقها، ونفوذه من الظاهر إلى الباطن، ومن الشهادة إلى الغيب، ومن الغيب إلى الشهادة، ومن عالم الخلق إلى عالم الأمر، وغير ذلك ممَّا لا يمكن شرحُه في كتاب. فشيخكم ــ أيدكم الله ــ عارفٌ (2) بأحكام الله الشرعية، عارفٌ بأحكامه القدرية، عارفٌ بأحكام أسمائه [ق 111] وصفاته الذاتية. ومثلُ هذا العارف قد يبصر ببصيرته تنزُّلَ الأمر بين طبقات السماء والأرض، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ... } (3) [الطلاق: 12]. فالناسُ يحِسُّون بما يجري في عالم الشهادة، وهؤلاء بصائرهم شاخصةٌ إلى الغيب، ينتظرون ما تجري به الأقدار، يشعرون بها أحيانًا عند تنزُّلها. فلا تُهوِّنوا أمرَ مثل هؤلاء في انبساطهم مع الخلق، واشتغال أوقاتهم بهم، فإنهم كما حُكي عن الجُنيد ــ رحمه الله ــ أنه قيل له: «كم تنادي على الله تعالى بين الخلق؟ فقال: أنا أنادي على الخلق بين يدي الله». فاللهَ اللهَ في حفظ الأدب معه، والانفعال لأوامره، وحفظ حُرُماته في الغيب والشهادة، وحُبِّ من أحبَّه، ومجانبة من أبغضه أو عابَه وانتقصه (4)، وردِّ غيبتِه، والانتصار له في الحقِّ. _________ (1) (ف): «والاختصاص». (2) (ف، ك): «عارف بذلك عارف ... ». (3) الآية في (ف، ك) إلى قوله: «شيء قدير». (4) (ف): «من بغضه وانتقصه»، (ك): «أبغضه وتنقّصه». وسقط عنهما «أو عابه».

(الكتاب/375)


واعلموا ــ رحمكم الله ــ أنَّ هنا من سافر إلى الأقاليم، وعرف الناس أذواقهم وأشرف على غالب أحوالهم، فوالله ثم والله ثم والله، لم يُرَ تحت أديم السماء مثل شيخِكم؛ علمًا (1)، وحالًا وخُلُقًا، واتباعًا وكرمًا، وحلمًا في حقِّ نفسه، وقيامًا في حقِّ الله عند انتهاك حُرُماته. أصدق الناس عقدًا، وأصحُّهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحقّ وقيامه هِمَّةً، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - . ما رأينا في عصرنا هذا من تُسْتجلى النبوّة المحمديّة وسنتها (2) من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيثُ يشهد القلب الصحيح أنَّ هذا هو الاتباع حقيقةً. وبعد ذلك كلِّه فقول الحقِّ فريضة، فلا ندَّعي فيه العصمة عن الخطأ (3)، ولا ندَّعي إكماله لغايات الخصائص المطلوبة، فقد يكون في بعض الناقصين خصوصية مقصودة مطلوبة لا يتم الكمالُ إلا بها [و] تلك الخصوصية في غيره أكمل مما هي فيه، بمعنى أنَّ ذلك متّصِف بحقائقها مثلًا؛ لانفراد همة وقته (4) بها، وتَفْرِقة شيخنا في فضائل مهمةٍ دينيَّةٍ وغيرها (5). ولو حقّقنا لوجدنا شيخَنا أفضلَ من ذلك الرجل مع قيامه _________ (1) بقية النسخ: «علمًا وعملًا». (2) (ف، ك): «وسننها». (3) (ف): «تدّعى فيه». و (ب): «عن الخطايا». (4) (ب): «همه ووقته». (5) (ب): «غيرها».

(الكتاب/376)


بتلك (1) الخصوصية. وهذا القدر لا يجهله منصفٌ عارفٌ. ولولا أنَّ قول الحق فريضة، والتعصُّب للإنسان هوى، لأعرضتُ عن ذكر هذا، لكن يجبُ قول الحقِّ إن ساء أو سرَّ، وبالله المستعان. إذا علمتم ذلك ــ أيدكم الله ــ فاحفظوا قلبه، فإنَّ مثل هذا قد يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماء. واعملوا على رضاه بكل ممكن، واستجلبوا وُدَّهُ لكم وحُبَّه إيَّاكم بمهما قدرتم عليه، فإنَّ مثل هذا يكون شهيدًا، والشهداءُ في العصر تبع لمثله، فإن حَصَلت لكم محبَّتُه رجوتُ لكم بذلك خصوصية أكتُمُها ولا أذكرها، وربّما يفطن لها الأذكياء منكم، وربَّما سمحت نفسي بذكرها كيلا (2) أكتم عنكم نُصحي. وتلك الخصوصية هي: أن تُرزَقوا قسطًا من نصيبه الخاصِّ المحمَّديّ مع الله، فإنَّ ذلك إنَّما يسري بواسطة محبَّة الشيخ للمريد، واستجلاب المريد محبَّة الشيخ بتأتّيه (3) معه، وحِفْظ قلبه وخاطره، واستجلاب وُدِّه ومحبته، فأرجو بذلك لكم قسطًا ممّا [ق 112] بينه وبين الله تعالى، فضلًا عمّا تكتسبونه (4) من ظاهر علمه وفوائده وسياسته، إن شاء الله تعالى. وأرجو أنَّكم إذا فتحتم بينكم وبين ربِّكم تصحيحَ (5) المعاملة، بحفظ تلك الساعة مع الله تعالى بالزهد فيها عما سواه، واستصحاب حكم تلك _________ (1) «تلك الخصوصية ... بتلك» سقط من (ف، ك، ط). (2) (ف): «لئلا». (3) الأصل: «بتأسِّه». (4) (ف، ك، ط): «تكسبونه». (5) (ف، ك): «بصحيح».

(الكتاب/377)


الساعة (1) في الصلوات الخمس والتهجُّد= أن ينفتح لكم معرفة حقيقة (2) هذا الرجل ونبئه إن شاء الله تعالى. وإنّما ذكرتُ حفظ الساعة ــ وإن كان في الصلوات الخمس كفاية إذا قام العبد فيها بحقّ الله تعالى ــ وذلك لأنَّ الصلاة قد تهجُم على العبد وقلبُه مأخوذٌ في جواذب الظاهر، فلا يعرف نصيبَ قلبهِ من ربِّه، فإذا عرف فيها كان (3) للعبد ساعةٌ بين الليل والنهار عرفَ فيها نصيب قلبِه من ربِّه، فإذا جاءت الصلوات، عرف فيها حالَه وزيادَته ونقصانه باعتبار حالته مع ربّه في تلك الساعة. وبالله المستعان. فصل وإذا عرفتم قدر دين الله تعالى الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعرفتم قدر حقائق الدين الذي يعبَّر عنه بالنفوذ إلى الله تعالى، والحظوة بقربه، ثم عرفتم اجتماع الأمرين في شخصٍ معيَّن، ثم عرفتم انحراف الأمة عن الصِّراط المستقيم، وقيام الرجل المُعيَّن الجامع للظاهر والباطن في وجوه المنحرفين، يَنْصر اللهَ تعالى ودينَه، ويقوِّم معوجَّهم، ويلُمُّ شَعَثهم، ويُصلح فاسدهم. ثم سمعتم بعد ذلك طَعْنَ طاعنٍ عليه من أصحابه أو من غيرهم، فإنه لا يخفى عليكم (4) مُحِقٌّ هو أو مُبْطِل إن شاء الله. _________ (1) «مع الله .. الساعة» سقطت من (ف، ك، ط). و «حكم» ليست في (ب). (2) (ف): «أن يفتح ... ». (ب): «حقيقية». (3) العبارة في (ف، ك): «من ربه فيها، فإذا كان». و «عرف» ليست في (ب). (4) بقية النسخ: «عنكم».

(الكتاب/378)


وبرهانُ ذلك: أنَّ المحقّ طالب (1) الهدى والحقّ يعرض (2) عند من أنكر عليه ذلك الفعل الذي أنكره، إمّا بصيغة السؤال أو الاستفهام بالتلطُّف عن ذلك النقص الذي رآه فيه، أو بلغه عنه. فإن وجد هناك اجتهادًا أو رأيًا أو حُجَّةً، قنع بذلك وأمسك، ولم يُفشِ ذلك إلى غيره، إلا مع إقامة ما بيَّنه من الاجتهاد أو الرأي أو الحجَّة، ليَسُدَّ الخلل بذلك. فمثل هذا يكون طالبَ هدًى، مُحبًّا ناصحًا (3)، يطلبُ الحقَّ، ويرومُ تقويم أستاذه عن انحرافه، بتعريفه وتعريضه (4)، كما يرومُ أستاذُه تقويمَه. كما قال بعضُ الخلفاء الراشدين ــ ولا يحضرني اسمه ــ: إذا اعوججْتُ فقوِّموني (5). فهذا حقٌّ واجب بين الأستاذ والطالب، فإنَّ الأستاذ يطلبُ إقامة الحجّة (6) على نفسه ليقوّم به، ويتَّهم نفسَه أحيانًا، ويتعرَّف أحوالَه من غيره، مما عنده من النَّصَفَة وطلب الحقّ، والحذر من الباطل، كما يطلب المريد ذلك من شيخه من التقويم، وإصلاح الفاسد من الأعمال والأقوال. _________ (1) الأصل: «يطلب». (2) (ف، ك، ط): «بغرض». (3) الأصل بالرفع. (4) (ف): «تغريضه»، (ك): «وتفويضه». (5) هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته المشهورة حين توليه الخلافة. أخرجه البزار في «مسنده» (100)، والطبراني في «الأوسط» (8597)، وغيرهم من طرق عنه. (6) (ف، ك، ط): «الحقّ».

(الكتاب/379)


ومن براهين المحقّ (1): أن يكون عدلًا في مَدْحه، عدلًا في ذمِّه، لا يحمله الهوى ــ عند وجود المراد ــ على الإفراط في المدح، ولا يحمله الهوى ــ عند تعذّر المقصود ــ على نسيان التفاضيل (2) والمناقب، وتعديد المساوئ والمثالب. فالمحقُّ في حالتي غضبه ورضاه، ثابتٌ على مدح من مدحه وأثنى عليه، ثابتٌ على ذمّ من ثلبه وحطَّ عليه. وأمَّا من عمل كراسةً في عدِّ مثالب (3) هذا الرجل القائم بهذه الصفات [ق 113] الكاملة بين أصناف هذا العالم المنحرف، في هذا الزمان المظلم، ثم ذكر مع ذلك شيئًا من فضائله، ويُعلم أنه ليس المقصود ذكر الفضائل، بل المقصود تلك المثالب، ثم أخذ الكرّاسة يقرؤها على أصحابه واحدًا واحدًا في خَلْوة، يوقفُ بذلك همَّهم (4) عن شيخهم، ويُريهم قدحًا فيه (5) = فإني استخير الله وأجتهد رأيي في مثل هذا الرجل، وأقول انتصارًا لمن ينصر دينَ الله، بين أعداء الله في رأس السبعمائة، فإنَّ نُصرة مثل هذا _________ (1) (ب): «الحقّ». (2) بقية النسخ: «الفضائل». (3) (ف): «مثالب مثل». (4) (ب): «هممهم». (5) عقد الأستاذ أبو الفضل القونوي في كتابه الفذ «أضواء على الرسالة المنسوبة إلى الحافظ الذهبي: النصيحة الذهبيّة لابن تيمية» (ص 139 - 148 - ط 2 تحت الإعداد) فصلًا عن كاتب هذه الرسالة، خلص فيه إلى أن كاتبها هو قاضي اللاذقية علي بن عبد الرحمن ابن السرّاج والد محمد بن السرّاج خصم ابن تيمية ورفيقه في الطلب.

(الكتاب/380)


الرجل واجبة على كلِّ مؤمن، كما قال ورقة بن نوفل: «لئن أدركني يومُك لأنصُرنَّك نصرًا مُؤزّرًا» (1). ثمّ أسأل الله العصمةَ فيما أقول عن تعدِّي الحدود والإخلاد إلى الهوى (2). أقول: مثل هذا ــ ولا أُعيِّن الشخص المذكور بعينه ــ لا يخلو من أمور: أحدها: أن يكون ذا سنٍّ تغيَّر رأيه لسِنِّه، لا بمعنى أنه اضطرب، بل بمعنى أنَّ السنَّ إذا كبر يجتهد صاحبه للحقِّ، ثم يضعه في غير مواضعه. مثلًا يجتهد أنَّ إنكار المنكر واجب، وهذا منكرٌ، وصاحبه قد راج على الناس. فيجبُ عليَّ تعريف الناس ما راج عليهم. ويغيبُ عنه (3) المفاسدُ في ذلك. فمنها: تخذيلُ الطلبة، وهم مضطرّون (4) إلى محبَّة شيخهم، ليأخذوا عنه، فمتى تغيَّرت قلوبهم عليه، ورأوا فيه نقصًا، حُرِمُوا فوائده الظاهرة والباطنة، وخيف عليهم المَقْت (5) من الله أوَّلًا ثم من الشيخ ثانيًا. المفسدة الثانية: إذا شعر أهلُ البدع الذين نحن وشيخنا قائمون الليلَ والنهارَ بالجهاد أو التوجُّه في وجوههم لنصرة الحقِّ= أنَّ في أصحابنا من _________ (1) أخرجه البخاري رقم (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة رضي الله عنها في حديث بدء الوحي الطويل. (2) الأصل: «الهدى» خطأ. (3) (ف، ك، ط): «وتغيب عنهم». (4) (ف): «مضطربون» خطأ. (5) رسمها في الأصل: «الموت».

(الكتاب/381)


يثْلب (1) رئيسَ القوم بمثل هذا، فإنَّهم يتطرَّقون بذلك إلى الاشتفاء بأهل الحقِّ ويجعلونه حجَّةً لهم. المفسدة الثالثة: تعديد المثالب في مقابلة ما يستغرقها ويزيدُ عليها بأضعافٍ كثيرة من المناقب، فإنَّ ذلك ظلمٌ وجهل (2). والأمر الثاني ــ من الأمور الموجبة لذلك ــ: تغيُّر حاله وقلبه، وفساد سلوكه بحسدٍ كان كامنًا (3) فيه، وكان يكتمه بُرهةً من الزّمان، فظهر ذلك الكمين في قالبٍ، صورتُه حقٌّ ومعناه باطل. فصل وفي الجملة ــ أيَّدكم الله ــ إذا رأيتم طاعنًا (4) على صاحبكم، فافتقدوه في عقله أوَّلًا، ثم في فهمه، ثم في صِدْقه، ثم في سنِّه. فإذا وجدتم الاضطراب في عقله، دلَّكم على جهله بصاحبكم، وبما (5) يقول فيه وعنه. ومثله قلَّة الفهم. ومثله عَدَم الصدق أو قصوره؛ لأنَّ نقصان الفهم يؤدِّي إلى نقصان الصدق بحسب ما غاب عقله عنه (6). ومثلُه العلوّ في السنِّ، _________ (1) (ف): «سلب»، (ك): «ثلب». (2) (ف): «أو جهل». (3) (ب): «بحسد كامن». (4) الأصل: «طاغيًا»! (5) (ب، ف): «دلكم ذلك على ... »، (ف، ك): «وما يقول ... ». (6) (ف): «عنه عقله»، و (ب) سقطت «عنه».

(الكتاب/382)


فإنَّه يشيخ فيه الرأي والعقل، كما يشيخُ فيه القُوى الظاهرة الحِسِّيَّة. فاتَّهِموا مثل هذا الشخص واحذروه، وأعْرِضوا عنه إعراضَ (1) مداراةٍ بلا جدل ولا خصومة. وصفة الامتحان بصحة (2) إدراك الشخص وعقله وفهمه: أن تسألوه عن مسألة سلوكية أو علمية [ق 114] فإذا أجاب عنها، فأَورِدوا (3) على الجواب إشكالًا متوجِّهًا بتوجيهٍ صحيح، فإن رأيتم الرجل يروحُ (4) يمينًا وشمالًا، ويخرج عن ذلك المعنى إلى معانٍ خارجة، وحكايات ليست في المعنى حتى يُنْسِي ربَّ المسألةِ سؤالَه، حيث توَّهَه (5) عنه بكلام لا فائدة فيه. فمثل هذا لا تعتمدوا على طعنه ولا على مدحه، فإنَّه ناقص الفطرة، كثير الخيال، لا يثبت على تحرير (6) المدارك العلمية، ولا تنكروا مثل إنكار هذا، فإنَّه اشتهر قيام ذي الخُوَيصِرَةِ التميمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله له: «اعْدِل فإنَّك لم تعدل، إنَّ هذه قسمةٌ لم يُرَد بها وَجْهُ الله تعالى» (7) ونحو ذلك. _________ (1) ليست في (ب). (2) بقية النسخ: «لصحة». (3) بقية النسخ: «أوردوا». (4) (ف): «يروج». (5) الأصل و (ب): «توهمه» خطأ. (6) (ك): «تحرِّي». (7) أخرجه البخاري (3610) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(الكتاب/383)


فوقوع ذلك (1) وأمثاله من بعض معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّه قال: «لتركَبُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم حَذْو القُذَّةِ بالقُذَّة» (2). وإن كان ذلك في اليهود والنصارى، لكن لَّما كانوا منحرفين عن نهج الصواب، فكذلك يكونُ في هذه الأمة من يحذو حذو كلِّ منحرفٍ وُجِد في العالم، متقدِّمًا كان أو متأخّرًا، حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتَّى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلوه. يا سبحان الله العظيم! أين عقولُ هؤلاء؟ أَعَمِيَت أبصارهم وبصائرهم؟ أفلا يرون ما الناس فيه من العَمَى والحيرة في الزمان المظلم المُدْلَهمِّ، الذي قد ملكت فيه الكفَّارُ مُعظم الدنيا؟ وقد بقيت هذه الخطة (3) الضيّقة يشمّ فيها المؤمنون رائحةَ الإسلام؟ وفي هذه الخطة الضيِّقة من الظلمات من علماء السوء، والدُّعاة إلى الباطل وإقامته، ودَحْض الحقِّ وأهله، ما لا يُحْصَر في كتاب. ثمَّ إنّ الله تعالى قد رَحِمَ هذه الأمة بإقامة رجلٍ قويِّ الهِمَّة، ضعيف التركيب، قد فرَّق نفسَه وهمَّه في مصالح العالم، وإصلاح فسادهم، والقيام بمهمَّاتهم وحوائجهم، ضِمْن ما هو قائم بصدَدِ البدع والضلالات، وتحصيل موادِّ (4) العلم النبويّ الذي يُصلح به فسادَ العالم، ويردّهم إلى الدين الأول العتيق جُهدَ إمكانه؟ وإلاّ فأين حقيقة الدين العتيق؟ _________ (1) بقية النسخ: «هذا». (2) أخرجه بنحوه البخاري (3456)، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (3) (ب): «اللحظة» وكذا ما بعدها. (4) (ب): «مراد».

(الكتاب/384)


فهو مع هذا كلّه قائمٌ بجملة ذلك وحده، وهو منفردٌ بين أهل زمانه، قليلٌ ناصرُه، كثيرٌ خاذلُه وحاسدُه والشامت فيه! فمثل هذا الرجل في هذا الزمان، وقيامه بهذا الأمر العظيم الخطير فيه= أيُقال له: لِمَ تردُّ على الأحمدية؟ لِمَ لا تعدل في القِسْمَة؟ لِمَ تدخل على الأمراء؟ لم تقرِّب (1) زيدًا وعَمرًا؟ أفلا يستحيي العبدُ من الله يذكر مثل هذه الجُزْئيَّات في مقابلة مثل (2) هذا العبء الثقيل؟ ولو حُوقِق الرَّجلُ على هذه الجُزْئيَّات وُجدَ عنده نصوصٌ صحيحة، ومقاصدُ صحيحة (3)، ونيَّات صحيحةٌ، تغيبُ عن الضعفاء العقول، [بل عن الكُمَّل منهم] (4) حتى يسمعوها. أمَّا ردُّه على الطائفة الفلانية (5) ــ أيها المُفْرِّط التائه، الذي لا يدري ما يقول ــ أفيقوم دين محمد بن عبد الله الذي أُنزل من السماء إلا بالطعن على هؤلاء؟ وكيف يظهر الحقّ إن لم يُخْذَل الباطل؟ لا يقول مثلَ هذا إلاّ تائه، أو مُسنٌّ، أو حاسدٌ؟ وكذا القسمة [ق 115] للرجل، في ذلك اجتهاد صحيح، ونظرٌ إلى مصالح تترتَّب (6) على إعطاء قوم دون قوم، كما خصَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الطُّلقاء _________ (1) (ف): «يقرب». (2) من الأصل فقط. (3) «ومقاصد صحيحة» سقطت من (ف). (4) ما بين المعكوفين من باقي النسخ. (5) يعني الصوفية الرفاعية. (6) (ب): «ترتب».

(الكتاب/385)


بمائة من الإبل، وحَرَم الأنصار، حتى قال منهم أحداثُهم شيئًا في ذلك، لا ذوو الأحلام، وفيها (1) قام ذو الخُوَيصرة فقال ما قال. وأما دُخُوله على الأُمراء؛ فلو لم يكن، كيف كان شمَّ الأمراءُ رائحةَ الدين العتيق الخالص؟ ولو فتَّش المفتِّشُ لوجد هذه الكيفية التي عندهم من رائحة الدين، ومعرفة المنافقين، إنَّما اقتبسوها من صاحبكم. وأمَّا تقريب زيد وعَمْرو؛ فلمصلحة باطنة، لو فُتِّش عنها مع الإنصاف، وُجِد هناك ما يُرِي أنَّ ذلك عين (2) المصلحة. ونفرضُ أنك مصيبٌ في ذلك، إذ لا نعتقد العصمةَ إلا في الأنبياء، والخطأ جارٍ على غيرهم، أيُذكَر مثل هذا الخطأ في مقابلة ما تقدَّم من الأمور العظام الجِسام؟ ! لا يَذْكُرُ مثلَ هذا في كُرّاسة ويعدِّدها، ثم يدور بها على واحدٍ واحد (3)، كأنه يقول شيئًا، إلا رجلٌ نسألُ الله (4) العافيةَ في عقله، وخاتمة الخير على عمله، وأن يردَّه عن انحرافه إلى نَهْج الصواب، بحيث لا يبقى مَعْثرةً يعيبُه بعمَلِه (5) وتصنيفِه أولو العقول والأحلام! ونستغفر الله العظيم من الخطأ والزلل في القول والعمل، والحمدُ لله _________ (1) (ف، ك، ط): «ذوو أحلامهم»، (ف): «وفيهم». (2) (ك، ط): «عن». (3) ليست في (ب). (4) (ك): «يسأل ... »، (ب، ف): «الله له .. ». (5) (ك، ط): «لا يبقى معشره بعيه» تحريف، (ف، ك): «يعلمه».

(الكتاب/386)


وحدَه، وصلى الله على سيدنا محمد النبيِّ (1) وسلَّم. هذا آخر الرّسالة التي سمَّاها مؤلِّفها: «التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار». وقال: فرحم الله من قام بحَلّ (2) الإصرار، وتصحيح التوبة النصوح بالاستغفار إلى عالِم الأسرار. نفع الله بها (3) من وقف عليها، وأصغى إلى ما ينتج (4) منها ولديها. آمين. _________ (1) مكانها في (ف، ك، ط): «وآله وصحبه». (2) الأصل و (ك): «بحمل» والتصحيح من (ب، ق، ح). ولعل فيه إشارة إلى ما قيل: «إن الاستغفار مع الإصرار توبة الكذابين». (3) ليست في (ك، ط). (4) (ف، ك، ط): «يفتح».

(الكتاب/387)


[بعض اختيارات الشيخ رحمه الله] (1) ثم إنَّ الشيخ ــ رحمه الله ــ بعد وصوله من مصر إلى دمشق، واستقراره بها، لم يزل ملازمًا للإشغال والاشتغال (2)، ونَشْر العلم، وتصنيف الكتب، وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطوَّلة وغيرها، ونَفْع الخلق، والإحسان إليهم، والاجتهاد في الأحكام الشرعية. ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده، من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها قد يفتي بخلافهم، أو بخلاف المشهور من مذاهبهم. ومن اختياراته التي خالفهم فيها، أو خالف المشهورَ من أقوالهم: - القولُ بقَصْر الصلاة في كلِّ ما يُسَمَّى سفرًا، طويلًا كان أو قصيرًا، كما هو مذهبُ الظاهريَّة، وقول بعض الصحابة (3). _________ (1) ولابن عبد الهادي عناية باختيارت شيخ الإسلام، فله جزء في اختيارات الشيخ ذكر فيه (151) اختيارًا وفائدة، وطبع ضمن هذا المشروع المبارك. وذكر هنا واحدًا وعشرين اختيارًا فقط، سنحيل في الهامش إلى مراجعها من كتب الشيخ. وأفرد أيضًا برهان الدين ابن القيم اختيارات الشيخ في رسالة مستقلة ذكر فيها (98) اختيارًا، وطبعت أيضًا ضمن هذا المشروع مع رسالة ابن عبد الهادي السابقة. وهناك أيضًا رسائل جامعية في اختيارات الشيخ للدكتور أحمد موافي في 3 مجلدات، ولمجموعة من الباحثين في 10 مجلدات. واختيارات الشيخ لدى تلاميذه، سيطبع ضمن هذا المشروع إن شاء الله. (2) (ف، ك): «للاشتغال والإشغال»، (ب): «للإشغال والإشغال». (3) انظر «مجموع الفتاوى»: (19/ 243 - 244، 24/ 12).

(الكتاب/388)


- والقولُ بأنَّ البِكْر لا تُسْتَبْرأ، وإن كانت كبيرة، كما هو قول ابن عمر، واختاره البخاريُّ صاحبُ «الصحيح» (1). - والقولُ بأنَّ سجود التلاوة لا يُشترط له وضوء كما يُشْترط للصلاة (2). كما هو مذهب ابن عمر، واختيار البخاريِّ أيضًا (3). - والقولُ بأنَّ من أكل في شهر رمضان، معتقدًا أنَّه ليل فبان نهارًا لا قضاء عليه، كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه ذهب بعض التابعين، وبعض الفقهاء بعدهم (4). - والقولُ بأنَّ المتمتِّع يكفيه سَعْيٌ واحد بين الصفا والمروة، كما في حقِّ [ق 116] القارن والمُفْرِد. وهو (5) قولُ ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل، رواها عنه ابنه عبد الله، وكثير من أصحابِ الإمام أحمد لا يعرفونها (6). - والقولُ بجواز المسابقة بلا مُحَلِّل، وإن أُخْرِج (7) المتسابقان (8). _________ (1) انظر «مجموع الفتاوى»: (19/ 255، 34/ 70). (2) «كما يشترط للصلاة» ليست في (ب). (3) انظر «مجموع الفتاوى»: (21/ 270، 23/ 165 - 166). (4) انظر «الفتاوى»: (25/ 216، 259 - 260). (5) (ك): «كما هو»، و «هو» ليست في (ب). (6) انظر «الفتاوى»: (26/ 138). (7) (الأصل وك): «خرج» والمثبت من (ب، ف)، وانظر «اختيارات البرهان» (11)، والبعلي (233). (8) انظر «الفتاوى»: (28/ 22، 32/ 223).

(الكتاب/389)


- والقولُ باستبراء المختلعة بحيضةٍ. وكذلك الموطوءة بشبهةٍ، والمطلَّقة آخر ثلاث تطليقاتٍ (1). - والقولُ بإباحة وطء الوثنيَّات بملك (2) اليمين (3). - والقولُ بجواز عَقْد الرِّداء (4) في الإحرام، ولا فدية في ذلك (5). - وجواز طواف الحائض، ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرًا (6). - والقولُ بجواز بيع الأصل بالعصير (7)، كالزيتون بالزيت. والسمسم بالشَّيرَج (8). - والقولُ بجوازِ الوضوء بكلِّ ما يسمَّى ماءً (9)، مطلقًا كان أو مقيَّدًا (10). _________ (1) انظر «الفتاوى»: (32/ 342)، (33/ 10). (2) (ب): «بوطئ» خطأ. (3) انظر «الفتاوى»: (32/ 182 - 186). (4) (ك): «الرد». (5) انظر «الفتاوى»: (21/ 201، 26/ 111). (6) انظر «الفتاوى»: (26/ 125، 214). (7) (ك): «بالعصر». (8) انظر «الاختيارات» (ص 188) للبعلي. (9) سقطت من (ب). (10) انظر «الفتاوى»: (21/ 25).

(الكتاب/390)


- والقولُ بجواز بيع (1) ما يُتَّخَذُ من الفضَّة للتحلِّي وغيره ــ كالخاتم ونحوه ــ بالفضة متفاضلًا، وجَعْل الزائد من الثمن في مقابلة الصَّنعة (2). - والقولُ بأنَّ المائع لا ينجُسُ بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغيَّر، قليلًا كان أو كثيرًا (3). - والقولُ بجواز التيمُّم لمن خاف فوات (4) العيد والجمعة باستعمال الماء (5). - والقولُ بجواز التيمّم في مواضع معروفة (6). - والجمع بين الصلاتين (7) في أماكن مشهورة (8). وغير ذلك من الأحكام المعروفة من أقواله. - وكان يميل أخيرًا إلى القول بتوريث المسلم من الكافر الذِّمِّي، وله في ذلك مصنَّف وبحثٌ طويل (9). _________ (1) ليست في (ف). (2) (ف): «جعل الثمن الزائد ... » والأصل: «مقابلة الصيغة» خطأ. انظر «الاختيارات» (ص 188) للبعلي. (3) انظر: «الفتاوى»: (21/ 19 ــ 20). (4) (ب): «فوت». (5) انظر: «الفتاوى»: (21/ 456). (6) المصدر نفسه. (7) (ف): «الصلاة». (8) انظر «الاختيارات» (ص 113). (9) انظر «الاختيارات» (ص 283).

(الكتاب/391)


- ومن أقواله المعروفة المشهورة التي جرى بسبب الإفتاء بها مِحَنٌ وقلاقل: قوله بالتكفير في الحَلِف بالطلاق (1). - وأنَّ الطلاق الثلاث لا يقعُ إلا واحدةً (2). - وأنَّ الطلاق المحرَّم لا يقع (3). وله في ذلك مصنَّفات ومؤلَّفات كثيرة، منها: قاعدة كبيرة (4) سمَّاها: «تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان». نحو أربعين كراسة. وقاعدة سماها: «الفرقُ المبين بين الطلاق واليمين». بقَدْر النصف من ذلك. وقاعدة في أنَّ جميع أيمان المسلمين مُكفَّرة. مجلَّد لطيف. وقاعدة في تقرير أنَّ الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة. وقاعدة سمَّاها: «التفصيل (5) بين التكفير والتحليل». وقاعدة سماها «اللمعة» (6). _________ (1) انظر «الفتاوى»: (33/ 58، 215 ــ 218). (2) انظر «الفتاوى»: (33/ 7 ــ 9). (3) انظر «الفتاوى»: «33/ 66، 71). (4) ليست في (ب). (5) الأصل و (ب): «التفضيل». (6) تحتمل في (ب): «اللمحة». وبهامش (ك): «لعله: اللمحة؛ لأن له رحمه الله قاعدة سماها: لمحة المختطف». وتمام اسمها «لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحَلِف» طُبعت مرارًا، وهي في «مجموع الفتاوى»: (33/ 57 ــ 64).

(الكتاب/392)


وغير ذلك من القواعد والأجوبة في ذلك لا تَنْحَصر ولا تَنْضَبط. وله في ذلك جوابُ اعتراضٍ ورَدَ عليه من الديار المصرية، وهو جوابٌ طويل في ثلاث مجلَّدات، بقطع نِصْف البلدي. ***

  [مسألة الحَلِف بالطلاق، وما جرى للشيخ فيها من فصول]

وكان القاضي شمس الدين ابن مُسَلَّم الحنبليّ (1) رحمه الله، في يوم الخميس منتصف شهر ربيع الآخر، من سنة ثمان عشرة وسبعمائة، قد اجتمع بالشيخ، وأشار عليه بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق. فقَبِل الشيخُ إشارته، وعرف نصيحته، وأجاب إلى ذلك. وكان قد اجتمع بالقاضي (2) جماعةٌ من الكبار حتى فعل ذلك. فلمَّا كان يوم السبت، مُسْتَهلّ جُمادى الأولى من هذه السنة، وردَ البريدُ إلى دمشق (3) ومعه كتابُ السُّلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق التي رآها [ق 117] الشيخ تقيُّ الدين ابن تيميَّة، وأفتى بها _________ (1) هو محمد بن مسلّم ــ بتشديد اللام ــ بن مالك الدمشقي شمس الدين الحنبلي (662 ــ 726). لمَّا عُيّن للقضاء توقّف، فطلع ابن تيمية إليه ولامَه على الترك وقوَّى عزمه فأجاب بشروط، فأجيب ... فباشر أحسن مباشرة، وعَمَرَ الأوقاف، وحاسب العمّال. انظر «الذيل على طبقات الحنابلة»: (4/ 464)، و «البداية والنهاية»: (18/ 274)، و «الدرر الكامنة»: (4/ 258). (2) (ك): «إلى القاضي». (3) «إلى دمشق» ليست في (ب).

(الكتاب/393)


وصنَّف فيها، والأمرُ بعَقْد مجلسٍ في ذلك. فعُقِد يوم الاثنين ثالث الشهر المذكور بدار السعادة، وانفصل الأمرُ على ما أمر به السلطان، ونودي بذلك في البلد يوم الثلاثاء رابع الشهر المذكور. ثمّ إنَّ الشيخ عاد إلى الإفتاء بذلك، وقال: لا يَسَعُني كتمان العلم، فلما كان في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر رمضان من سنة تسع عشرة، جُمع القضاة والفقهاء عند نائب السلطة بدار السعادة، وقُرئ عليهم كتابُ السلطان. وفيه فصلٌ يتعلَّق بالشيخ بسبب الفتوى في هذه المسألة، وأُحْضِر وعُوتِبَ على فتياه بعد المنع، وأُكِّدَ عليه في المنع من ذلك. *** فلمَّا كان بعد ذلك بمدة، في يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب سنة (1) عشرين، عُقِدَ مجلسٌ بدار السعادة، وحضره (2) النائب، والقضاةُ، وجماعةٌ من المفتين (3)، وحضر الشيخُ، وعاودوه في الإفتاء في مسألة (4) الطلاق، وعاتبوه على ذلك، وحُبِسَ (5) بالقلعة، فبقي فيها خمسةَ أشهر وثمانية عشر يومًا. _________ (1) (ب، ك): «من سنة». (2) (ب): «حضر»، (ف، ك): «حضره». (3) الأصل و (ب): «المفتيين». ورد هذا الجمع بهذه الصيغة في «الرسالة» (ص 278) للإمام الشافعي. (4) (ف، ك): «بمسألة». (5) (ف، ك): «وحبسوه».

(الكتاب/394)


ثم وردَ مرسومُ السلطان بإخراجه، فأُخْرِجَ منها يوم الاثنين يوم عاشوراء، من سنة إحدى وعشرين. وتوجَّه إلى داره. *** ثم لم يزل بعد ذلك يُعَلِّم الناس ويلقي الدَّرس بالحنبلية (1) أحيانًا، ويُقْرأ عليه في مدرسته (2) بالقَصَّاعين (3) في أنواع العلوم (4). وكنتُ أتردَّدُ إليه في هذه المدّة أحيانًا (5)، وقرأتُ عليه قطعةً من «الأربعين» للرازي، وشَرَحَها لي، وكتب لي على بعضها شيئًا، وكان يُقرأ عليه في تلك المدة من كتبه، وهو يُصْلح فيها، ويزيدُ وينقص. ولقد حضرت معه يومًا في بستان الأمير فخر الدين بن الشمس لؤلؤ (6)، وكان قد عمل وليمةً، وقرأتُ على الشيخ في ذلك اليوم أربعين حديثًا. وكتب بعضُ الجماعة أسماء الحاضرين، وأخذ الشيخُ بعد ذلك في _________ (1) المدرسة الحنبلية بدمشق، أوقفها شرف الإسلام عبد الوهاب بن أبي الفرج الحنبلي (ت 536). انظر «الدارس في تاريخ المدارس»: (2/ 50 ــ 62). (2) (ب): «مدرسة». (3) وهي دار الحديث السكريّة. انظر «الدارس في تاريخ المدارس»: (1/ 56 ــ 59)، وكتاب «دار الحديث السكرية سُكنى شيخ الإسلام ابن تيمية» لمحمد مطيع الحافظ. (4) (ف، ك): «أنواع من العلم». (5) كان عمر المؤلِّف حينها ستة عشر عامًا، وكونه يقرأ عليه الأربعين للرازي في هذه السنّ ما يدلّ على نبوغه المبكر رحمه الله. (6) قال ابن كثير: «متولّي البرّ، كان مشكورًا» (ت 736). انظر «البداية والنهاية»: (18/ 389 ــ 390)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 65).

(الكتاب/395)


الكلام في أنواع العلوم؛ فَبُهِتَ الحاضرون لكلامه، واشتغلوا بذلك عن الأكل. ومما حفظتُ من كلامه في (1) المجلس قوله: «يقول الله تعالى في بعض الكتب: أهلُ ذكري أهلُ مشاهدتي، وأهلُ شكري أهلُ زيادتي (2)، وأهلُ طاعتي أهل كرامتي، وأهلُ معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي؛ إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأُطَهِّرهم من المعايب» (3). وحصل في ذلك المجلس خير كثير، وكان فيه غير واحد من المشايخ. واستمرَّ الشيخُ بعد ذلك على عادته. [الكلام في مسألة شدّ الرّحال وما وقع للشيخ من فصول] فلمّا كان في سنة ستٍّ وعشرين وسبعمائة، وقع الكلام في مسألة شدِّ الرِّحال، وإعمال المطِيِّ إلى قبور الأنبياء والصالحين، وظفروا للشيخ بجواب سؤال في ذلك، كان قد كتبه من سنين كثيرة، يتضمَّن حكايةَ قولين في المسألة، وحجَّة كلِّ قولٍ منهما (4). _________ (1) بقية النسخ: «في ذلك». (2) (ك): «زيارتي». (3) ذكره شيخ الإسلام في مواضع من كتبه «منهاج السنة»: (6/ 210)، و «مجموع الفتاوى»: (10/ 86، 14/ 319). وابن القيم في «الوابل» (ص 158) وغيره. وانظر «الضعيفة»: (9/ 383) للألباني. (4) وسيأتي نص السؤال وجوابه (ص 402 وما بعدها).

(الكتاب/396)


وكان للشيخ في هذه المسألة كلامٌ متقدِّم أقدمُ (1) من الجواب المذكور بكثير (2)، ذكره في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم» (3) وغيره، وفيه [ق 118] ما هو أبلغ من هذا الجواب الذي ظفروا به. وكَثُر الكلام، والقيل والقال، بسبب العثور على الجواب المذكور، وعَظُم التشنيعُ على الشيخ، وحُرِّف عليه، ونُقِلَ عنه ما لم يَقُله، وحَصَلت (4) فتنةٌ طار شرَرُها في الآفاق، واشتدَّ الأمر، وخِيْفَ على الشيخ من كَيْد القائمين في هذه القضية بالديار المصرية والشامية، وكثر الدعاءُ والتضرُّعُ والابتهال إلى الله. وضَعُفَ من أصحاب الشيخ من كان (5) عنده قوَّة، وجَبُن منهم من كانت له هِمَّة. وأما الشيخ ــ رحمه الله ــ فكان ثابتَ الجأْش، قويَّ القلب. وظهر صدقُ توكّله واعتماده على ربِّه. ولقد اجتمع جماعةٌ معروفون بدمشق، وضربوا مشورةً في حقِّ الشيخ؛ فقال أحدهم: يُنفَى، فَنُفِيَ القائل. وقال آخر: يُقطع لسانه، فقُطِعَ لسانُ القائل. وقال آخر: يُعَزَّر، فعُزِّرَ القائل (6). وقال آخر: يُحْبَس، فحُبِسَ القائل. أخبرني بذلك من حضر هذه المشورة وهو كارهٌ لها. _________ (1) ليست في (ب). (2) (ف): «بكثرة». (3) (2/ 182 وما بعدها). (4) (ك): «وحصل». (5) (ب): «كانت». (6) «وقال آخر ... القائل» سقط من (ف).

(الكتاب/397)


واجتمع جماعة آخرون بمصر، وقاموا في هذه القضية قيامًا عظيمًا، واجتمعوا بالسلطان، وأجمعوا أمرَهم على قتل الشيخ، فلم يوافقهم السلطان على ذلك. *** [حَبْس الشيخ بقلعة دمشق] ولمَّا كان يوم الاثنين بعد العصر، السادس من شعبان من السنة المذكورة، حضر إلى الشيخ من جهة نائب السلطنة بدمشق مشَدُّ الأوقاف، وابنُ خطير أحد الحُجَّاب (1). وأخبراه أنَّ مرسوم السلطان وردَ بأن يكون في القلعة، وأحضرا معهما مركوبًا، فأظهر الشيخ السرورَ بذلك، وقال: أنا كنتُ منتظرًا ذلك، وهذا فيه خيرٌ عظيم. وركبوا جميعًا من داره إلى باب القلعة، وأُخْلِيَت له قاعة حسنة، وأُجْري إليها الماء، ورُسِمَ له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زينُ الدين يخدمه بإذن السلطان، ورُسِم له بما يقوم بكفايته. وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قُرئ بجامع دمشق الكتابُ السلطانيُّ الوارد بذلك، وبمنعه من الفُتيا. وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر القاضي الشافعيُّ بحبس جماعة _________ (1) يحتمل أن يكون مسعود أو محمود ابنا أوحد بن خطير، وكلاهما ولي الحجوبية بمصر، توفي الأول سنة (752)، والثاني سنة (749). انظر «الدرر الكامنة»: (4/ 348، 323).

(الكتاب/398)


من أصحاب الشيخ بسجن الحكم، وذلك بمرسوم النائب وإذنه له في فِعْل ما يقتضيه الشرع في أمرهم. وأُوذي جماعةٌ من أصحابه، واختفى آخرون، وعُزِّرَ جماعةٌ، ونُودِيَ عليهم، ثم أُطْلِقوا، سوى الإمام (1) شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزيَّة، فإنه حُبِسَ بالقلعة، وسكنت القضية (2). _________ (1) ليست في (ب). (2) بعده في (ف، ك، ط): «وهذه صورة الفتيا وموافقة البغاددة له وغيرهم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على محمد وآله. أما بعد، فهذه فُتيا أفتى بها الشيخ الإمام تقيّ الدين أبوالعباس أحمد ابن تيميَّة رضي الله عنه. ثم بعد مدة نحو سبع عشرة سنة أنكرها بعض الناس وشنع بها جماعة عند بعض ولاة الأمور، وذكرت بعبارات شنيعة، ففهم منها جماعة غير ما هي عليه، وانضمَّ إلى الإنكار والشناعة وتغيّر الألفاظ أمورٌ، أوجب ذلك كلّه مكاتبةَ السلطان سلطان الإسلام بمصر أيده الله تعالى، فجمع قضاة بلده، ثم اقتضى الرأي حبسه فحبس بقلعة دمشق المحروسة، بكتاب ورد سابع شعبان المبارك سنة ست وعشرين وسبعمائة. وفي ذلك كله لم يحضر الشيخ المذكور بمجلس حكم، ولا وقف على خطه الذي أنكر، ولا ادّعي عليه بشيء. فكتب بعض الغرباء من بلده هذه الفتيا، وأوقف عليها بعضَ علماء بغداد، فكتبوا عليها بعد تأملها وقراءة ألفاظها. وسئل بعض مالكية دمشق عنها، فكتبوا كذلك، وبلغنا أن بمصر من وقف عليها فوافق. ونبدأ الآن بذكر السؤال الذي كتب عليه أهل بغداد، وبذكر الفتيا وجواب الشيخ المذكور عليها، وجواب الفقهاء بعده. وهذه صورة السؤال والأجوبة: المسؤول من إنعام السادة العلماء والهداة الفضلاء أئمة الدين وهداة المسلمين وفقهم الله لمرضاته وأدام بهم الهداية، أن ينعموا ويتأملوا الفتوى وجوابها المتصل بهذا السؤال المنسوخ عقبه وصورة ذلك».

(الكتاب/399)


وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه (1): ما يقول السادة العلماء، أئمة الدين، نفع الله بهم المسلمين، في رجل نوى (2) زيارةَ قبور الأنبياء والصالحين (3)، مثل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وغيره. فهل يجوز له في سفره أن يَقْصُر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟ وقد رُوِيَ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من حجَّ ولم [ق 119] يَزُرْني فقد جفاني»، «ومن زارني بعد موتي (4) كمن زارني في حياتي». وقد رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى». أفتونا مأجورين (5). _________ (1) «وهذا ... عنه» ليست في «ف». و (ب): «وهذه ... ». وقد نُقِلت هذه الفتوى وما بعدها من هنا في «مجموع الفتاوى»: (27/ 183 ــ 213). ومنها نسخة خطية في المكتبة المحمودية برقم (2775) ضمن مجموع، وسنقابل النص بها ونرمز لها بـ (م). (2) (ف، ك): «نوى السفر إلى». (3) (م): «أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين ... زيارة قبر نبيّ من الأنبياء ... ». (4) (ب): «موتى كان ... ». (م): «موتي فكأنما ... ». (5) (ف، ك): زيادة: «رحمكم الله».

(الكتاب/400)


الجواب الحمد لله ربِّ العالمين. أمَّا من سافر لمجرَّد زيارة قبور الأنبياء والصالحين؛ فهل يجوز (1) له قَصْر الصلاة؟ على قولين معروفين: أحدهما ــ وهو قول متقدِّمي العلماء الذين لا يجوِّزون القَصْرَ في سفر المعصية، كأبي عبد الله بن بطَّة، وأبي الوفاء بن عَقيل، وطوائف كثيرين من العلماء المتقدمين ــ: أنه لا يجوز القَصْر في مثل هذا السفر؛ لأنّه سفرٌ منهيٌّ عنه. [ومذهب مالك والشافعي وأحمد: أنَّ السفر المنهيَّ عنه] (2) في الشريعة لا يُقْصَر فيه. والقول الثاني: أنه يُقْصَر، وهذا يقوله من يُجَوِّز القصرَ في السفر المحرَّم، كأبي حنيفة. ويقوله بعضُ المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، ممن يجوِّز السفرَ لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، كأبي حامد الغزالي، وأبي الحسن بن عبدوس الحرَّاني، وأبي محمد بن قُدامة المقدسي. وهؤلاء يقولون: إنَّ هذا السفر ليس بمحرَّم لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : «زُوروا القبور» (3). وقد يحتجُّ بعضُ من لا يعرف الحديث بالأحاديث المرويَّة في زيارة _________ (1) (ب): «لمجرد قبور ... قيل يجوز». (2) ما بينهما سقط من الأصل و (ب)، وهو انتقال نظر. (3) أخرجه مسلم (976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(الكتاب/401)


قبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، كقوله (1): «من زارني بعد مماتي، فكأنَّما زارني في حياتي» رواه الدارقطني (2). وأمَّا ما يذكره (3) بعضُ الناس من قوله: «من حجَّ ولم يزُرْني فقد جفاني» (4) فهذا لم يروه أحدٌ من العلماء، وهو مثل قوله: «من زارني وزار أبي (5) في عام واحد ضمنتُ له على الله الجنَّة» (6). فإنَّ هذا أيضًا باطلٌ (7) باتفاق العلماء، لم يروه أحد، ولم يحتجّ به أحد، وإنما يحتجُّ بعضُهم بحديث الدارقطني (8). وقد احتجَّ أبو محمد المقدسي (9) على جواز السفر لزيارة القبور _________ (1) الأصل: «لقوله». (2) (2/ 278) من حديث حاطب، قال شيخ الإسلام: «وهو ضعيف باتفاق أهل العلم» «الاقتضاء»: (2/ 296). وفي (ب، م) زيادة: «وابن ماجه» ولم أجده فيه. (3) (ف، ك): «ذكره». (4) أخرجه ابن حبان في «المجروحين»: (3/ 73) في ترجمة النعمان بن شبل، وقال فيه: «يأتي عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات». وقال الذهبي في «الميزان»: (4/ 265): «هذا موضوع». (5) (ك، ط): «أبي إبراهيم». وهي كذلك في المراجع التي ذُكر فيها الحديث. (6) لم أجده مسندًا، وقد سُئِل عنه النووي فقال: باطل موضوع. وكذا قال شيخ الإسلام. انظر «تذكرة الموضوعات» (ص 76)، و «تنزيه الشريعة»: (2/ 213). (7) ليست في (ف، ك، ط). (8) بعده في (ف، ك، ط): «ونحوه». (9) هو الإمام ابن قدامة المقدسي، انظر كتابه «المغني»: (3/ 117 ــ 118).

(الكتاب/402)


بأنه (1) - صلى الله عليه وسلم - كان يزور مسجدَ قُباء. وأجاب عن حديث: «لا تُشَدُّ الرِّحال» بأنَّ ذلك محمولٌ على نفي الاستحباب. وأما الأولون؛ فإنَّهم يحتجُّون بما في «الصحيحين» (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى». وهذا الحديث اتفق (3) الأئمةُ على صحَّته والعمل به، فلو نذر بشَدِّه الرَّحْلَ (4) أن يصلي بمسجد، أو مشهد، أو يعتكف فيه ويسافر إليه، غير هذه الثلاثة= لم يَجِب عليه ذلك باتفاق الأئمة. ولو نذر أن يسافر ويأتي المسجد الحرام بحجٍّ (5) أو عُمرة= وجبَ عليه ذلك باتفاق العلماء. ولو نَذَر أن يأتي مسجد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، أو المسجد الأقصى، لصلاةٍ أو اعتكاف= وجب عليه الوفاءُ بهذا النذر، عند مالك والشافعيّ ــ في أحد قوليه ــ وأحمد، ولم يجب عليه (6) عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان (7) جنسه واجبًا بالشرع. _________ (1) (ف، ك، ط): «لأنه». (2) تقدم تخريجه. (3) (ف، ك): «مما اتفق». (4) «بشده الرحل» ليست في (م). (5) (ف، ك، ط): «لحج». (6) ليست في (ب، م). (7) (ف، م): «ما كان من .. ».

(الكتاب/403)


وأما الجمهور؛ فيوجبون الوفاء بكلِّ طاعة، كما ثبت في «صحيح البخاري» (1) عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نَذَر أن يطيع (2) الله فَلْيطعه، ومن نذر أن يعصيَ الله فلا يعصِه». [ق 120] والسفر إلى المسجدين طاعة، فلهذا وجب الوفاء به. وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة؛ فلم يوجب أحدٌ من العلماء السفرَ إليه إذا نَذَره، حتى نصَّ العلماء على أنّه لا يُسافَر إلى مسجد قُباء؛ لأنه ليس من (3) الثلاثة، مع أنَّ مسجد قباء تُسْتَحبُّ (4) زيارتُه لمن كان في المدينة (5)؛ لأنَّ ذلك ليس بشدِّ رَحْل. كما في الحديث الصحيح: «من تطهَّر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة» (6). قالوا: ولأنَّ السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعةٌ، لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا استحبَّ ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادةً، وفَعَلَه، فهو مخالفٌ _________ (1) رقم (6696). (2) الأصل و (ف، ك): «يطع». (3) (ف، ك، ط): «من المساجد». (4) من الأصل و (م). (5) هكذا في النسخ غير الأصل، وغيّره في الأصل: «بالمدينة» وكتب في الهامش: «أصل: في المدينة» ولم يبين سبب التغيير، فأبقينا النص كما في الأصول. (6) أخرجه ابن ماجه (1412)، والنسائي (699)، وأحمد (15981)، والحاكم: (3/ 12) من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه. وصححه العراقي في «تخريج الإحياء»: (1/ 208). والألباني في «الصحيحة» (3446).

(الكتاب/404)


للسنَّة ولإجماع الأئمة. وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطَّة في «الإبانة الصغرى» (1) من البدع المخالفة للسنة والإجماع. وبهذا يظهر ضَعْف (2) حجة أبي محمد (3)؛ لأنَّ زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمسجد قباء لم تكن بشدِّ رَحْلٍ، ولأن السفر إليه لا يجبُ بالنذر. وقوله (4): «لا تُشَدُّ الرِّحال .. » محمولٌ على نفي الاستحباب؛ يجابُ عنه بوجهين (5): أحدهما: أنَّ هذا ــ إن سُلِّم ــ فيه أنَّ هذا السفر ليس بعملٍ صالح، ولا قُرْبة، ولا طاعة، ولا هو من الحسنات. فإذًا من اعتقد أنَّ السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قُرْبة وعبادةٌ وطاعة، فقد خالف الإجماع. وإذا سافر لاعتقاده أنَّها (6) طاعة؛ كان ذلك محرَّمًا بإجماع المسلمين، [فصار التحريم من جهة اتخاذه قُربة] (7)، ومعلومٌ أنَّ أحدًا لا يسافر إليها إلاّ لذلك. _________ (1) (ص 243). (2) (ف، ك، ط): «بطلان». (3) (ف، ك، ط) زيادة: «المقدسي». (4) (ف، ك، ط) زيادة: «بأن الحديث الذي مضمونه». (5) (ب، م): «عنه جوابان»، (ف): «من وجهين». (6) (ف، ك، ط): «أن ذلك». (7) من (ف، ك، ط). وفي (م): «فصار التحريم من وجهين».

(الكتاب/405)


وأما إذا نَذَر الرّجُل أن يسافر إليها لغرضٍ مباح، فهذا جائز، وليس من هذا الباب. والوجه الثاني: أنَّ هذا (1) الحديث يقتضي النهي، والنهيُ يقضي التحريم. وما ذكره (2) من الأحاديث في زيارة قبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فكلُّها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، لم يرو أحدٌ من أهل السنن المعتمدة شيئًا منها، ولم يحتجَّ أحدٌ من الأئمة بشيءٍ منها، بل مالكٌ ــ إمام أهل المدينة النبوية وأصحابه (3) الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة ــ كَرِه أن يقول الرجل: زُرْتُ قبرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . ولو كان هذا اللفظ معروفًا (4) عندهم، أو مشروعًا، أو مأثورًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكرهه عالمُ أهل المدينة. والإمام أحمد ــ أعلم الناس في زمانه بالسنة ــ لما سُئِلَ عن ذلك، لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما مِنْ رجلٍ يُسَلِّم عليَّ إلاّ ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام» (5). وعلى هذا اعتمد أبوداود في «سننه» (6). _________ (1) «هذا» ليست في (ب، ف، م). (2) (ف، ك، ط): «ذكروه». (م): «ذكر». (3) من الأصل فقط. (4) الأصل: «مشروعًا» سهو. (5) أخرجه أحمد (10815) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) رقم (1745). قال النووي: بإسناد صحيح. «رياض الصالحين» (ص 124). وقال العراقي: سنده جيد.

(الكتاب/406)


وكذلك مالك في «الموطأ» (1)، روى عن عبد الله بن عمر: «أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ (2)، ثم ينصرف». وفي «سنن أبي داود» (3) عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَه قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ، فإنَّ صلاتكم تبلُغني حيثما كنتم». وفي «سنن سعيد بن منصور»: أنَّ عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب رأى رجلًا يختلفُ إلى قبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له: إن رسول [ق 121] الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» (4) فما أنتَ ورجلٌ بالأندلس منه إلاّ سواء. وفي «الصحيحين» (5) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهودَ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد» يُحَذِّرُ ما فعلوا (6). ولولا ذلك لأُبرِز قبره، ولكن كره أن يُتَّخذ مسجدًا. وهم دفنوه في حُجرة عائشة، خلاف ما اعتادوه من الدّفْن في _________ (1) لم أجده فيه، وعزاه شيخ الإسلام في «الاقتضاء»: (2/ 243) لسعيد بن منصور. وأخرجه ابن أبي شيبة: (11915) بسندٍ صحيح. (2) (ب): «يا أبه». (3) رقم (1746). وأخرجه أحمد (8804). قال المصنف: بإسناد حسن. (4) أخرجه سعيد بن منصور، وساق المصنف سنده في «الاقتضاء»: (1/ 338، 2/ 172)، وابن أبي شيبة: (7625) وسنده جيد. (5) البخاري رقم (1390)، ومسلم رقم (529). وفي (ك، ط): زيادة: «عن عائشة». (6) بعده في (ب، م): «قالت عائشة».

(الكتاب/407)


الصحراء؛ لئلا يصلِّي أحدٌ عند قبره ويُتَّخذ مسجدًا، فيُتَّخَذَ (1) قبرُه وثنًا. وكان الصحابة والتابعون ــ لمّا كانت الحُجْرة النبويّة منفصلةً عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك ــ لا يدخُل أحدٌ إليه، لا لصلاةٍ هناك، ولا تَمَسُّحٍ (2) بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه في المسجد. وكان السلفُ من الصحابة والتابعين إذا سلَّموا عليه (3)، وأرادوا الدعاء دَعَوا مستقبلي القبلة، ولم يستقبلوا القبر. وأما الوقوف للسلام (4) عليه؛ فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضًا، ولا يستقبل القبر. وقال أكثر الأئمة: بل يستقبلُ القبر عند السلام خاصَّةً. ولم يقل أحدٌ من الأئمة: إنَّه (5) يستقبل القبر عند الدعاء، وليس في ذلك إلا حكاية مكذوبة تُروى عن مالك، ومذهبه بخلافها. واتفق الأئمة على أنه لا يَمسّ قبرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا يُقَبِّلُه. وهذا كلُّه محافظةً على التوحيد، فإنَّ من أصول الشرك بالله تعالى اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا _________ (1) (ك): «ويتخذه ... »، (ف): «ويتخذه فيتخذ»، (م): «ويتخذوه». وسقطت «فيتخذ» من (ب). (2) (الأصل، ب): «يمسح». والمثبت هو الموافق للسياق. (3) (ف، ك): «على النبي - صلى الله عليه وسلم - ». (4) (م): «وأما وقوف المسلِّم». (5) «بل يستقبل .. إنه» سقطت من (ف، ك، ط).

(الكتاب/408)


تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. قالوا: هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا على صُوَرِهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمَدُ فعبدوها». وقد ذكر هذا المعنى البخاريُّ في «صحيحه» (1) عن ابن عباس، وذكره محمد بن جرير الطبري وغيره في «التفسير» (2) عن غير واحد من السَّلف، وذكره وَثِيمَة (3) وغيره في «قصص الأنبياء» من عدّة طرق، وقد بسطتُ الكلامَ على أصول هذه المسائل في غير هذا الموضع. وأولُ من وضع هذه الأحاديث في السَّفرَ لزيارة المشاهد التي على القبور: أهلُ (4) البدع، من الرافضة ونحوهم، الذين يُعَطِّلون المساجد، ويعظّمون المشاهد (5) التي يُشْرَك فيها ويُكْذَب (6)، ويُبْتَدَع فيها دينٌ لم _________ (1) رقم (4920). (2) (23/ 303 ــ 305). (3) هو: وَثِيمة ــ بفتح الواو ــ بن موسى بن الفرات أبو يزيد الوشاء الفارسي الفسوي، أخباري، له مصنفات في «الردة» و «قصص الأنبياء» وغيرها. (ت 237). قال العقيلي: صاحب أغاليط، وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به، وفي كتبه مناكير كثيرة وموضوعات. انظر: «ميزان الاعتدال»: (6/ 5)، و «لسان الميزان»: (8/ 374)، و «وفيات الأعيان»: (6/ 12 ــ 13). (4) (ب، م): «هم أهل». (5) (ف، ك) زيادة: «يَدَعون بيوتَ الله التي أمر أن يُذكر فيها اسمه، ويُعْبَد وحده لا شريك له، ويعظِّمون المشاهد». (6) بعده في (ب، م): «فيها».

(الكتاب/409)


يُنْزِل الله به سلطانًا، فإنَّ الكتاب والسنة إنما فيهما (1) ذِكْر المساجد دون المشاهد، كما قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18]. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. وقال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في «الصحيح» (2) أنَّه كان يقول: «إنّ مَنْ كان قبلكم كانوا يتَّخِذون القبورَ مساجد. ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك». هذا آخر ما أجاب به شيخُ الإسلام، والله سبحانه وتعالى أعلم. *** وله من الكلام في مثل هذا كثير، كما أشار إليه في الجواب. ولمَّا ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه، وبعثوا به إلى الدّيار المصرية، وكتب عليه قاضي الشافعية: قابلتُ الجوابَ عن هذا السؤال المكتوب [ق 122] على خطِّ ابن تيمية فصحّ. إلى أن قال: وإنما المحرَّرُ (3) جَعْلُه زيارة قبر _________ (1) بقية النسخ: «فيه». (2) أخرجه مسلم (532) من حديث جندب رضي الله عنه. (3) كذا في الأصل، وفي (ب) وكتاب ابن كثير: «المَحَزّ»، (ف): «المخر»، (ك): «المحه» وبهامشها «لعله: المحرف» وكذلك أثبتها في (ط). وليس كذلك، والسياق يأباه. والأقرب ما في الأصل، ويكون المعنى أن المتحرر من فتوى ابن تيمية كذا وكذا. أو ما في (ب)، والمعنى: أن موضع النقد هو جعله زيارة قبور الأنبياء معصية. وعلى هذين التفسيرين يصح استنكار ابن عبد الهادي على هذا القاضي، وأنه حرَّف كلام ابن تيمية.

(الكتاب/410)


النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصيةً بالإجماع مقطوعًا بها. هذا كلامه! فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام! والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين. وإنما فيه ذِكْر (1) قولَين في شدِّ الرّحل والسفر إلى مجرَّد زيارة القبور. وزيارةُ القبور من غير شدِّ رَحْلٍ إليها مسألةٌ، وشدُّ الرّحْلِ لمجرَّد الزيارة مسألةٌ أخرى. والشيخُ لا يمنع الزيارة الخالية عن شدِّ رَحْل، بل يستحبّها، ويندُب إليها. وكُتُبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرَّض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا، ولا قال: إنَّها معصية، ولا حكى الإجماعَ على المنع منها. والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية. ولمَّا وصل خطُّ القاضي المذكور إلى الديار المصرية، كَثُرَ الكلامُ وعَظُمت الفتنة، وطُلِبَ القضاة بها (2)، فاجتمعوا وتكلّموا، وأشار بعضُهم بحبس الشيخ، فرسم السلطان به، وجرى ما تقدَّم ذكره (3). ثم جرى بعد ذلك أمورٌ على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذِكْرها في هذا الموضع (4). _________ (1) (ب): «فيه ذكر». (2) بعده في (ف): «واجتمع بها». (3) (ص 396 وما بعدها). (4) ليته ذكرها مفصلًا، وسبقت إشارته إجمالًا إلى بعض ما وقع لهم (ص 397 ــ 398).

(الكتاب/411)


 [عدّة أجوبة لعلماء بغداد انتصارًا للشيخ]

جوابٌ آخر وصورته (1): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ربّ يسِّر وأعِن (2) يقول العبدُ الفقير إلى الله تعالى: بعد حَمْدِ الله السابغة نعمُه، الشائعة مِننُه (3)، والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين. إنه حيثُ قد منَّ الله على عباده، وتفضَّل برحمته على بلاده، بأن وسَّد أمور الأمة المحمديَّة، وأسند أزِمَّة المِلَّة الحنيفية إلى (4) من خصَّصه الله تعالى بأفضل الكمالات النفسانية، وخصَّصه بأكمل السعادات الروحانية، محيي سنن العدل، ومُبدي سُنن الفضل، المعتصم بحبل الله، المتوكِّل على الله، المكتفي بنعم الله، القائم بأوامر الله، المستظهر بقوة الله، المستضيء بنور الله، أعزَّ الله سلطانه، وأعلى على سائر الملوك شأنه، ولا زالت رقابُ _________ (1) مكانه في (ف، ك): «وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى علماء بغداد، فقاموا في الانتصار [ف: الأمصار] له، وكتبوا بموافقته، ورأيت خطوطهم بذلك، وهذا صورة ما كتبوا». (2) ليست في (ب، ف). (3) (ف): «السابعة السائغة مننه»، (ك): «السابغة مننه». (4) (ف، ك): «على».

(الكتاب/412)


الأمم خاضعة لأوامره، وأعناقُ العباد طائعةً لمراسمه (1). ولا زال مُوالي دولته بطاعته محبورًا (2)، ومُعادي صولته بخزيه مذمومًا مدحورًا. فالمرجوُّ من (3) الحضرة المقدَّسة ــ زادها الله علوًّا وشرفًا ــ أن يكون للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وصفوة الأصفياء، وعماد الدين، ومدارُ أهل اليقين، حظٌّ من العناية السلطانية وافر، ونصيبٌ من الرَّحمة والشفقة ظاهر (4)، فإنَّها مَنْقَبَةٌ لا تعادلها فضيلة، وحسنةٌ لا تُحْبِطها سيئة؛ لأنها حقيقة التعظيم لأمر الله، وخلاصة الشَّفَقة على خلق الله. ولا ريبَ أنَّ المملوك وقف على ما سُئلَهُ الشيخ الإمام العالم (5) العلاّمة، وحيد دهره، وفريد عصره، تقيُّ الدين أبوالعباس ابن تيمية، وما أجاب به= فوجدتُه خلاصة ما قاله العلماء في هذا الباب، حسب ما اقتضاه الحال من نَقْلِه الصحيح، وما أدى إليه البحثُ من الإلزام والالتزام، لا يَدْخُلُه (6) تحامل، ولا يعتريه تجاهل، وليس فيه ــ والعياذ بالله ــ ما يقتضي الإزراء أو التنقيص بمنزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وكيف يجوزُ للعلماء أن تحملهم العصبية أن يتفوَّهوا بالإزراء _________ (1) (ف): «لمراسه». (2) (ك، ط): «مجبورًا». (3) (ب، ف، ك): «من ألطاف». (4) «ونصيب. . ظاهر» سقط من (ف)، و «ظاهر» سقطت من (ك، ط)، و (ب): «نصيب ... »، والأصل: «أو نصيب ... ». (5) ليست في (ف، ك، ط). (6) (ف، ك، ط): «يداخله».

(الكتاب/413)


والتنقيص في حقِّ الرسول عليه السلام؟ ! وهل يجوز أن يتصوَّر مُتَصَوِّرٌ أنَّ [ق 125] زيارةَ قبر النبيّ (1) - صلى الله عليه وسلم - تزيدُ في قَدْره! ؟ وهل تَرْكها مما ينقصُ من تعظيمه؟ ! حاشا للرسول من ذلك! نعم لو ذكر ذلك ذاكرٌ ابتداءً، وكان هناك قرائنُ تدلُّ على الإزراء والتنقيص، أمْكن حَمْلُه على ذلك، مع أنه كان يكون كنايةً (2) لا صريحًا، فكيفَ وقد قاله في معرض السؤال، وطريق البحث والجدال (3)؟ ! مع أنَّ المفهوم من كلام العلماء وأنظار العقلاء: أنَّ الزيارة ليست عبادةً وطاعةً بمجرّدها (4)، حتى لو حلف أنَّه يأتي بعبادةٍ أو طاعةٍ، لم يَبَرَّ بها. لكن القاضي ابن كَجٍّ (5) ــ من متأخري أصحابنا ــ ذكر أن نذر هذه الزيارة عنده قُربة تلزمُ ناذِرَها. وهو منفردٌ به، لا يساعده في ذلك نقلٌ صريح ولا قياسٌ صحيح، والذي يقتضيه مطلقُ الخبر النبويِّ في قوله عليه السلام: «لا تُشَدُّ الرحال. . .» إلى آخره= أنَّه لا يجوز شدُّ الرحال إلى غير _________ (1) بقية النسخ: «قبره». (2) (ف): «كتابة». (3) (ك، ط): «الجدل». (4) (ك، ط): «لمجردها». (5) هو: يوسف بن أحمد بن يوسف بن كَجّ أبو القاسم الدينوري الشافعي، من أصحاب الوجوه في المذهب، له تصانيف كثيرة. (ت 405). انظر «طبقات الشافعية»: (4/ 359) للسبكي، و «سير النبلاء»: (17/ 183).

(الكتاب/414)


ما ذُكِر. فمن اعتقد جواز الشدّ إلى غير ما ذُكِرَ (1) أو وجوبه، أو ندبيَّته= كان مخالفًا لصريح النهي، ومخالفة النهي معصية ــ إما كفر أو غيره ــ على قَدْر المنهيّ عنه، ووجوبه، وتحريمه، وصفةِ النهي. والزيارةُ أخصُّ من وجه؛ فالزيارة بغير شدٍّ غير منهيٍّ عنها، ومع الشدِّ منهيٌّ عنها. وبالجملة؛ فما ذكره الشيخُ تقيّ الدين على الوجه المذكور الموقوف عليه، لم يستحقّ عليه عقابًا، ولا يوجب عتابًا. والمراحم السلطانية أحْرَى بالتوسِعَة عليه، والنظر بعين الرأفة والرحمة إليه، وللآراء الملكيّة علوُّ المزيد. حرَّره ابنُ الكُتبي الشافعي (2)، حامدًا لله على نعمه. جواب آخر الله الموفق. ما أجاب به الشيخُ الأجلُّ الأوحدُ، بقية السلف، وقدوة الخلف، رئيس المحقّقين، وخلاصة المدقّقين، تقيُّ الملَّة والحقّ والدين= مِن الخلاف في هذه المسألة، صحيحٌ منقول في غيرِ ما كتابٍ من كتب أهل العلم، لا اعتراض عليه في ذلك؛ إذ ليس في ذلك ثَلْبٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا غَضٌّ من قدره - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) «فمن. . . ما ذكر» سقط من (ف، ك، ط). (2) لعله: يوسف بن إسماعيل بن إلياس أبو المحاسن الشافعي البغدادي، المعروف بابن الكتبي (ت 755). انظر «الوفيات»: (2/ 170) لابن رافع، و «مشيخة ابن رجب» (ص 113).

(الكتاب/415)


وقد نصَّ الشيخ أبومحمد الجويني في كتبه على تحريم السَّفَر لزيارة القبور، وهو (1) اختيار القاضي الإمام عياض بن موسى بن عياض في «إكماله» (2). وهو أفضل (3) المتأخرين من أصحابنا. ومن «المدوَّنة» (4): «ومن قال: عليَّ بالمشي إلى المدينة، أو بيت المقدس، فلا يأتيهما أصلًا، إلا أن يريد الصلاة في مسجديهما، فليأتهما». فلم يجعل نَذْر زيارة قبره طاعةً يجب الوفاء بها، إذ من أصلنا: أنَّ من نَذَر طاعةً لزمه الوفاءُ بها، كان من جنسها ما هو واجبٌ بالشرع ــ كما هو مذهب أبي حنيفة ــ أو لم يكن. قال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق عقيب هذه المسألة: ولولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما، ولو كان نَذَر زيارةَ طاعةٍ لما (5) لزمه ذلك. وقد ذكر ذلك القيرواني في «تقريبه»، والشيخ ابن بشير (6) في _________ (1) (ف، ك، ط): «وهذا». (2) (4/ 449). (3) (ف، ك، ط): «من أفضل». وعلق ناسخ (ك) بنقل كلام القسطلاني في شرح البخاري في مسألة شدّ الرحل ... ثم قال: «فيسع ابن تيمية رحمه الله في منعه شدّ الرحل لزيارة القبور ما وَسِع أبا محمد الجويني، والقاضي حسينًا وعياضًا وغيرهم، إن كان الإنصاف يُعدّ مرضاة اهـ. كذا في المنقول عنه». (4) (2/ 18). (5) (ب): «نذر زيارته»، و «لما» سقطت من باقي النسخ. (6) «وقد ذكر ذلك» سقطت من (ب)، و «ابن بشير» تحرفت في (ف، ك، ط) إلى: «ابن سيرين». وهو: إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير، أبو الطاهر التنوخي، كان إمامًا في مذهب مالك، صاحب اجتهاد واختيار. (ت بعد 526). انظر «الديباج المذهب» (ص 87).

(الكتاب/416)


«تنبيهه». وفي «المبسوط»: قال مالك: ومن نذر المشي إلى مسجدٍ من المساجد ليصلي فيه، قال: فإني أكره ذلك له؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تُعْمَلُ المَطِيُّ إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس، ومسجدي هذا». وروى محمد بن المَوَّاز في «المَوَّازيَّة» عنه (1): إلا أن يكون قريبًا، فيلزمه الوفاءُ؛ لأنَّه ليس بشدِّ رَحْل. وقد قال الشيخ أبوعُمر بن عبد البر في كتاب «التمهيد» (2): يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد. وحيث تقرَّر هذا؛ فلا يجوز [ق 126] أن يُنسب من أجاب في هذه المسألة بأنَّه سَفَرٌ منهيٌّ عنه إلى الكفر، فمن كفَّره بذلك من غير موجب، فإن كان مستبيحًا ذلك، فهو كافر وإلاّ فهو فاسق. قال الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المازَرِي في كتاب «المعلم» (3): «من كفَّر أحدًا من أهل القبلة، فإن كان مستبيحًا لذلك (4) فقد كفر، وإلاَّ _________ (1) ليست في (ف، ك، ط). (2) (1/ 168). (3) (/). وتحرفت في (ب) إلى «العلم». (4) (ف، ك، ط): «ذلك».

(الكتاب/417)


فهو فاسق، يجب على الحاكم إذا رُفِعَ أمرُه إليه أن يؤدِّبه ويُعزِّره بما يكون رادعًا لأمثاله، فإن ترك ذلك (1) مع القدرة عليه فهو آثم». والله تعالى أعلم. كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادي الخادم للطائفة (2) المالكية بالمدرسة الشريفة المُسْتنصرية، رحمة الله تعالى على مُنْشِئها. وكتب تحته الإمام صفيُّ الدين [ق 124] ابن عبد الحقّ الحنبلي (3): الحمد لله ربِّ العالمين، وصلواته على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين. ما ذكره مولانا الإمام، العالم العامل، جامع الفضائل (4)، بحر العلوم، ومنشأ الفضل، جمال الدين، الكاتب (5) خطّه أمام خطّي هذا، جَمَّل الله به الإسلام، وأسبل عليه سوابغ الإنعام، أتى فيه بالحقِّ الجليِّ الواضح، وأعرضَ فيه عن إغْضاء المشايخ؛ إذ السؤال والجواب اللذين (6) تقدماه، لا يخفى على ذي فطنةٍ وعقل، أنه أتى في الجواب المطابق (7) _________ (1) ليست في (ف، ك). (2) (ب): «لطائفة». يعرف بابن عسكر. ترجمته في «الديباج المذهب» (ص 333) لابن فرحون. (3) هذه العبارة ليست في (ف، ك) وبدلًا منها: «أجاب غيره فقال». وترجمته في «أعيان العصر»: (3/ 181)، و «الذيل على طبقات الحنابلة»: (5/ 77 ــ 84). وهو صاحب كتاب «مراصد الاطلاع». (4) (ف، ك): زيادة: «والفوائد». (5) (ف، ك): «كاتب». (6) كذا، والوجه «اللذان». (7) (ب، ك): «بالمطابق».

(الكتاب/418)


للسؤال، بحكاية أقوال العلماء الذين تقدَّموه، ولم يبق عليه في ذلك إلاّ أن يعترضه معترض في نقله فيبرزه له من كتب العلماء الذين حكى أقوالهم. والمعترض له بالتشنيع، إما جاهل لا يعلم ما يقول، أو مُتجاهل يحمله حسدُه وحميّته (1) الجاهلية على ردِّ ما هو عند العلماء مقبول، أعاذنا الله تعالى من غوائل الحسد، وعَصَمنا من مخايل النكد، بمحمد وآله الطاهرين (2). كتبه العبد الفقير (3) إلى عفو ربه ورضوانه: عبد المؤمن بن عبد الحق الخطيب. غفر الله له ولجميع المسلمين آمين، والحمد لله، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وسلامه (4). *** وجوابٌ آخر لبعض علماء أهل الشام المالكية (5) الحمد لله، وهو حسبي. السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بمشروع. وأما من سافر إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليُصلي فيه ويُسَلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحِبَيه ــ رضي الله عنهما ــ فمشروعٌ كما ذُكر (6) باتفاق العلماء. _________ (1) (ف، ك): «وحمية». (2) العبارة في (ف، ك): «. . . وآله الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين». ويُنبَّه إلى أن السؤال بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لايجوز. (3) «العبد» ليست في (ك)، و «الفقير» ليست في (ب). (4) (ب): «. . له ولوالديه. .»، و (ف، ك): «غفر الله له وللمسلمين أجمعين» فقط. (5) هذا الجواب متأخر في (ف، ك) بعد جواب ابن البتي الحنبلي. (6) (ب): «ذكرنا».

(الكتاب/419)


وأمّا لو قَصَد إعمال المطيّ لزيارته - صلى الله عليه وسلم - ولم يقصد الصلاة؛ فهذا السَّفر إذا ذكر رجلٌ فيه خلافًا للعلماء، وأن منهم من قال: إنه منهيٌّ عنه، ومنهم من قال: إنه مباح، وأنه على القولين (1) ليس بطاعة ولا قُرْبة ــ فمن جعلَه طاعةً وقربةً (2) على مقتضى هذين القولين كان حرامًا بالإجماع ــ وذكَرَ حُجَّةَ كلِّ قول منهما، أو رجَّح أحدَ القولين= لم يلزمه ما يلزم (3) مَنْ تَنَقَّص؛ إذ لا تنقُّص في ذلك، ولا إزراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد قال مالك ــ رحمه الله ورضي عنه ــ لسائلٍ سأله أنه نذر أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: إن كان أراد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فليأته وليصلِّ فيه، وإن كان أراد القبر، فلا يفعل؛ للحديث الذي جاء: «لا تُعْمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد»، والله أعلم (4). كتبه أبو عَمْرو بن أبي (5) الوليد المالكي (6). نقلتُ هذه الأجوبة كلّها من خطِّ المفتين بها. *** _________ (1) (ب): «قولين». (2) «فمن جعله طاعةً وقربة» من الأصل و (ب). (3) «ما يلزم» ليست في (ب). (4) «للحديث. . . أعلم» ليست في (ب). (5) «أبي» ليست في (ب). (6) ترجمته في «البداية والنهاية»: (18/ 476) و «الدرر الكامنة»: (1/ 247). قال ابن كثير: «وتأسف الناس عليه وعلى صلاحه وفتاويه النافعة الكثيرة» (ت 745).

(الكتاب/420)


وقد وصل ما أجاب به الشيخُ في هذه المسألة إلى علماء بغداد، فقاموا في الانتصار له، وكتبوا بموافقته، ورأيتُ خطوطَهم بذلك، وهذه صورة ما كتبوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) بعد حَمْد الله الذي هو فاتحة كلِّ كلام، والصلاة والسلام على رسوله محمد خير الأنام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، أعلام الهدى ومصابيح الظلام. يقول أفقر عباد الله (2)، وأحوجهم إلى عفوه: ما حكاه الشيخُ الإمام، البارع الهُمام، افتخار الأنام، جمال الإسلام، ركن الشريعة، ناصر السنة، قامع البدعة، جامع أشتات الفضائل، قدوة العلماء الأماثل في هذا الجواب، من أقوال العلماء، والأئمة النبلاء ــ رحمة الله عليهم أجمعين ــ بَيِّنٌ لا يُدْفَع، ومكشوفٌ لا يتَقَنَّع، بل أوضح من النيِّرَين، وأظهر من فَرَق الصبح لذي عين (3). والعُمْدة في هذه المسألة: الحديثُ المتفق على صِحَّته، ومنشأ الخلاف بين العلماء من احتمالي (4) صيغته. _________ (1) هذا التصدير سبق ذكره في (ف، ك) (ص 414) وبدله هنا فيهما: «وأجاب غيره فقال». (2) (ف): «عباده». (3) بقية النسخ: «لذي عينين». (4) (ب): «احتمال».

(الكتاب/421)


وذلك أنَّ صيغة قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تُشَدُّ الرِّحالُ ... » (1) ذاتُ وجهين: نفي ونهي، لاحتمالها لهما، فإنْ لُحِظَ معنى النفي، فمعناه (2) نفي فضيلة واستحباب شدِّ الرَّحل، وإعمال المَطيِّ إلى غير المساجد الثلاثة (3). إذ لو فُرض وقوعهما لامتنع رفعهما. فتعيَّن توجُّه النفي إلى فضيلتهما واستحبابهما دون ذاتهما، وهذا عامٌّ في كلِّ ما يُعتقد أن إعمال المطي وشدّ الرِّحال إليه قُربة وفضيلة؛ من المساجد، وزيارة قبور الصالحين، وما جرى هذا المجرى، بل أعمّ من ذلك. وإثبات ذلك النفي (4) لإعمال المطي إلى المساجد الثلاثة وما خرج من ذلك العموم (5)، بدليل ضرورة إثبات ذلك المنفيّ المقدَّر في صدر الجملة لما بعد «إلاّ»، وإلاّ لما افترق الحكم بين ما قبلها وما بعدها، وهو مفترق. وحينئذٍ (6) لا يلزم من نفي الفضيلة والاستحباب نفي الإباحة. فهذا وجهُ متمسَّك من قال بإباحة هذا السفر، بالنظر إلى أنَّ هذه الصيغة نفي، وبنى على ذلك جواز القصر. وإن كان النهي ملحوظًا، فالمعنى حينئذٍ نهيه عن إعمال [ق 123] المَطيّ _________ (1) تقدم تخريجه. (2) (ك): «فمقتضاه»، وفي هامشها: «فمعناه»، كذا في الأصل على هامشه» اهـ أبوإسماعيل يوسف حسين. (3) (ف، ك): «شد الرحال». وعبارة: «المطي. . . الثلاثة» سقطت من (ف). (4) الأصل: «المنفي» والمثبت من (ب). (5) «المنفي. . . العموم» سقط من (ف، ك). (6) (ف، ك، ط): «حينئذ».

(الكتاب/422)


وشدّ الرِّحال إلى غير المساجد الثلاثة؛ إذ المقرَّر عند عامة الأصوليين أن النهي عن الشيء قاضٍ بتحريمه أو كراهته، على حسب مقتضى الأدلة. فهذا وجه متمسَّك من قال بعدم جواز القصر في هذا السفر؛ لكونه منهيًّا عنه (1). وممَّن (2) قال بحرمته: الشيخ الإمام أبومحمد الجُوَيني من الشافعية، والشيخ الإمام أبو الوفاء بن عقيل من الحنابلة، وهو الذي أشار القاضي عياض ــ من المالكية ــ إلى اختياره. وما جاء من الأحاديث في استحباب زيارة القبور؛ فمحمول (3) على ما لم يكن فيه شدُّ رَحْلٍ وإعمالُ مَطِيٍّ، جمعًا بينهما. ويحتمل أن يقال: لا يصلح أن يكون غير حديث: «لا تُشَدُّ الرِّحال» معارضًا، لعدم مساواته إيّاه في الدَّرَجة؛ لكونه من أعلى أقسام الصحيح. والله تعالى أعلم. وقد بلغ (4) أنه زُري وضُيِّق على المجيب، وهذا أمر يَحارُ فيه اللبيب، ويتعجَّب منه الأريب، ويقعُ به في شكٍّ مريب! فإنَّ جوابه في هذه المسألة قاضٍ بذكر خلاف العلماء، وليس حاكمًا بالغضِّ من الصالحين والأنبياء. فإنَّ الأخذ بمقتضى كلامه ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ في الحديث المتفق _________ (1) «في هذا. . . عنه» سقط من (ب). (2) الأصل: «ومن». (3) (ف): «فمحمولة». (4) كذا في الأصول عدا (ف): «بلغني».

(الكتاب/423)


على رَفْعِه (1) إليه: هو الغايةُ القصوى في تتبع أوامره ونواهيه، والعدول عن ذلك محذور، وذلك مما لا مِرْيَة فيه. وإذا كان كذلك؛ فأيُّ حرجٍ على من سُئل عن مسألة، فذكر فيها خلاف الفقهاء، ومال فيها إلى بعض أقوال (2) العلماء؟ ! فإنَّ الأمر لم يزل كذلك على مرِّ العصور، وتعاقب الدُّهور. وهل ذلك محمول من القادح إلّا على امتطاء نضو (3) الهوى، المفضي بصاحبه إلى التَّوى، فإنَّ من يُقْتَبس من فوائده، ويُلْتَقط من فرائده، لحقيق بالتعظيم، وخليقٌ بالتكريم، ممن له الفهم السليم، والذِّهن المستقيم. وهل حكمُ المُظَاهِرِ عليه في الظاهر، إلاَّ كما قيل في المثل السائر، وقول الشاعر: «الشعير يُؤكل ويُذَمّ» (4). جزى بنوه أبا الغيلان عن كِبَرٍ ... وحُسْن فعلٍ كما يُجْزى سِنمَّار (5) [وغيره] (6): _________ (1) (ف): «صحته رفعه»، (ك): «صحة رفعه». (2) «الفقهاء. . . أقوال» سقط من (ب). (3) الأصل: «نصر»، (ف): «تصولد. وفي الهامش إشارة إلى نسخة: لصهوه»، والمثبت من (ك). والنضو: المهزول. (4) «الشعير. . .» ليست في (ب). (5) الأصل: «سمنار». والبيت لسليط بن سعد. انظر «الأغاني»: (2/ 138)، و «خزانة الأدب»: (1/ 275). (6) من (ف). والبيتان لمالك بن أسماء، انظر «البيان والتبيُّن»: (1/ 147)، و «الأغاني»: (17/ 238).

(الكتاب/424)


وحديث ألذّه، هو ممّا ... يَنْعَتُ النَّاعِتون يُوزَنُ وزنا منطقٌ رائع (1) وتلحَنُ أحيا ... نًا، وخيرُ الحديث ما كان لحنا قال الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. ولولا خشية الملالة لما نكَبْتُ عن الإطالة. نسأل الله الكريم أن يسلك بنا وبكم سُبُل (2) الهداية، وأن يجنّبنا وإيّاكم مسلك الغواية، إنه على كلِّ شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير، حسبنا الله ونعم الوكيل، نِعم المولى (3) ونعم النصير. والحمد لله ربّ العالمين، وصلوات الله وسلامه على سيّد المرسلين. محمد النبي وآله الطاهرين، وأصحابه الكرام المنتجبين (4). _________ (1) (ف، ك): «أربع» خطأ. والرواية: «صائب». (2) (ف، ك، ط): «سبيل». (3) «نعم المولى» ليست في (ف، ك، ط). وفي (ب): «وهو حسبنا». (4) (ف، ك، ط): «المنتخبين».

(الكتاب/425)


هذا جواب الشيخ الإمام العلامة جمال الدين يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام ابن البتّي الحنبلي (1) رحمه الله (2). ومن خطه نقلتُ (3). _________ (1) توفي في شوال سنة (726 هـ). ترجمته في «الذيل على طبقات الحنابلة»: (4/ 463). (2) بعده في (ف، ك، ط): «قال المؤلف. . .». (3) بعده في (ف، ك، ط) جواب أحد علماء الشام من المالكية، وهو في الأصل و (ب) مقدّم قبل جواب ابن البتي الحنبلي.

(الكتاب/426)


ووقفتُ على كتاب وَرَدَ مع أجوبة أهل بغداد، وصورته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله ناصر الملة الإسلامية، ومُعِزِّ الشريعة المحمدية، بدوام أيام الدولة المباركة السلطانية، المالكية (1) الناصرية، ألبسها الله تعالى لباس العزّ المقرون بالدوام، وحلَّاها بحِلْية النَّصْر المستمرِّ بمرور الليالي والأيّام. والصلاة والسلام على النبيّ المبعوث إلى جميع الأنام، وعلى آله البَرَرة الكرام. اللهم إنَّ بابك لم يزل مفتوحًا للسائلين، ورِفْدكَ ما بَرِحَ مبذولًا للوافدين، مَنْ عوَّدته مسألتك وحدَك، لم يسأل أحدًا سواك. ومن منَحْتَه منائح رِفْدك، لم يَفِدْ على غيرك، ولم يَحْتَمِ إلَّا بِحِماك. أنت الربُّ العظيم الكريم الأكرم. قَصْدُ بابِ غيرك على عبادك محرَّم، أنت الذي لا إله غيرك، ولا معبود سِواك، عزَّ جارك، وجلَّ ثناؤك، وتقدَّست أسماؤك، وعَظُم بلاؤك، ولا إله غيرك. لم (2) تزل سُنَّتُك في خَلْقِك جاريةً [ق 127] بامتحان أوليائك وأحبابك (3)، تفضُّلًا منك عليهم، وإحسانًا من لدنك إليهم، ليزدادوا لك في جميع الحالات ذِكرًا، ولأنْعُمِك في جميع التقلُّبات شكرًا. ولكنَّ أكثر الناس _________ (1) (ب): «الملكية». (2) (ف، ك): «ولم». (3) (ف): «وأحبائك».

(الكتاب/427)


لا يعلمون. {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. اللهم وأنت العالم الذي لا يُعَلَّم، وأنت الكريم الذي لا يُبَخَّل (1)، قد علمت يا عالم السِّرِّ والعلانية، أنَّ قلوبنا لم تزل ترفع إخلاص الدعاء صادقة، وألسنتنا في حالتي السرِّ والعلانية ناطقة= أن تسعفنا بإمداد هذه الدولة المباركة الميمونة السلطانية الناصرية بمزيد العلاء والرفعة والتمكين، وأن تحَقِّق آمالنا فيها بإعلاء الكلمة، ففي (2) ذلك رفع قواعد دعائم الدين، وقمع (3) مكايد الملحدين؛ لأنَّها الدولة التي بَرِئت من غشيان الجَنَفِ والحيْفِ، وسَلِمت من طغيان القلم والسَّيفِ. والذي تنطوي عليه ضمائر المسلمين، وتشتمل عليه سرائر المؤمنين: أنَّ السلطان الملك الناصر للدين، ممن قال فيه ربُّ العالمين، وإله السماوات والأرضين ــ الذي بتمكينه في أرضه (4) حصل التمكينُ لملوك الأرض، وعظماء السلاطين ــ في كتابه العزيز الذي يُتْلَى، فمن شاء فليتدبَّر: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]. وهو ممن مكَّنه الله في الأرض تمكينًا، يقينًا لا ظنًّا. _________ (1) (ب): «اللهم أنت الله». (ف، ك): «تعلم. . . تبخل». (2) (ف، ك، ط): «في». (3) (ب): «ورفع». (4) «في أرضه» ليس في (ب).

(الكتاب/428)


وهو ممَّن يُعْنَى بقوله (1) تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. والذي عَهِدَه (2) المسلمون، وتعوَّده المؤمنون، من المراحم الكريمة، والعواطف الرحيمة: إكرام أهل الدين، وإعظام علماء المسلمين. والذي حَمَل على رفع هذه الأدعية الصريحة إلى الحضرة الشريفة ــ وإن كانت لم تزل مرفوعةً إلى الله سبحانه بالنية الصحيحة ــ قولُه - صلى الله عليه وسلم - : «الدينُ النَّصيحة»، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم» (3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الأعمال بالنيات» (4). وهذان الحديثان مشهوران بالصحة، مُستفاضان (5) في الأمة. ثم إن هذا الشيخ المعظَّم الجليل، والإمام المكرَّم النبيل، أوحد الدهر، وفريد العصر، طراز المملكة الملكية، وعَلَم الدولة السلطانية، لو أقْسَم مُقْسم بالله القدير: إنَّ هذا الإمام الكبير ليس له في عصره مماثل ولا _________ (1) «تمكينا. . . بقوله» ليس في (ب). والآية في الأصل و (ب) إلى قوله: {أَمْنًا}. (2) (ك): «عهد». (3) أخرجه مسلم رقم (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر رضي الله عنه. (5) (ف، ك، ط): «ومستفيضان».

(الكتاب/429)


نظير= لكانت يمينُه بَرَّةً غنيةً (1) عن التكفير. وقد خلت من وجود مثله السبعُ الأقاليم، إلا هذا الإقليم، يوافق على ذلك كلُّ منصف جُبِلَ على الطبع السليم. ولست بالثناء عليه أُطريه، بل لو أطنب مُطْنِبٌ في مدحه والثناء عليه، لما أتى على بعض الفضائل التي هي فيه. أحمد ابن تيمية، دُرَّة يتيمة (2) يُتنافس فيها، تُشْتَرى ولا تباع، ليس في خزائن الملوك دُرَّة تماثلها وتؤاخيها، انقطعت عن وجود مثله الأطماع. لقد أصَمَّ الأسماع، وأوهى المتبوعين والأتباع= سماعُ رفع أبي العباس ــ أحمد ابن تيمية ــ إلى القلاع، وليس يقع من مثله أمرٌ [ق 128] يُنْقَم منه عليه، إلاَّ أن يكون أمرًا قد لُبِّسَ (3) عليه، ونُسِبَ إلى ما لا يُنْسَب مثلُه إليه. والتطويل على الحضرة العالية لا يليق، إن يكن في الدنيا قطبٌ فهو القطبُ على التحقيق. قد نَصَبَ الله السلطان ــ أعلى الله شأنه ــ في هذا الزمان منصب يوسف الصديق صلى الله على نبينا وعليه، لما صرف الله وجوه أهل البلاد إليه، حين أَمحَلَتِ البلاد (4)، واحتاجَ أهلُها إلى القوت (5) المُدَّخَر لديه. والحاجةُ بالناس الآن إلى قوت الأرواح الرُّوحانية أعظم من حاجتهم في _________ (1) «مقسم» و «غنية» سقطت من (ب). (2) (ب): «يتمية». (3) (ب): «أمرًا لبس»، (ف): «إلا أنه». (4) «حين أمحلت البلاد» سقط من (ب). (5) (ك): «الفوات» وفي هامشها: لعله القوت.

(الكتاب/430)


ذلك الزمان إلى طعم الجثث الجثمانية. وأقوات الأرواح (1) المشار إليها (2)، لا خفاء أنها العلوم (3) الشريفة، والمعاني اللطيفة. وقد كانت في بلاد المملكة السلطانية ــ حرسها الله تعالى ــ تُكال إلينا جُزافًا بغير أثمان، مِنْحَةً عظيمة من الله للسلطان، ونعمةً جسيمةً، إذ خصَّ بلاد مملكته، وإقليم دولته بما لا يوجد في غيرها من الأقاليم والبلدان، وقد كان وفد الوافدون من سائر الأمصار (4)؛ فوجدوا صاحبَ صُواع الملك قد رُفع إلى القلاع، ومثل هذه المِيرة لا توجد في غير تلك البلاد لتُشتَرى أو تُباع، فصادف ذلك جَدْب الأرض ونواحيها، جَدْبًا أعطب أهاليها، حتَّى صاروا من شدَّة حاجتهم إلى الأقوات كالأموات. والذي عرَّض للملك بالتضييق على صاحب صُواعه مع شدَّة الحاجة إلى غذاء الأرواح، لعله لم يتحقّق عنده أنَّ هذا الإمام من أكابر الأولياء، وأعيان أهل الصلاح، وهذه نزغةٌ من نزغات الشيطان، قال الله سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]. وأمّا إزراء بعض العلماء عليه في فتواه، وجوابه عن مسألة شدِّ الرِّحال _________ (1) «الروحانية. . . الأرواح» سقطت من (ف، ك، ط). (2) (ف، ك، ط): «المشار في ذلك الزمان إليها». (3) (ك، ط): «للعلوم». (4) (ب): «وقد كان الوافدون». (ف، ك، ط): «وكان قد وفد. . إلى تلك الديار فوجدوا ... ».

(الكتاب/431)


إلى القبور (1)؛ فقد حُمِلَ جوابُ علماء هذه البلاد إلى نظرائهم من العلماء، وقُرَنائهم من الفضلاء، وكلُّهم أفتى أنَّ الصواب في الذي به أجاب. والظاهر بين الأنام أنَّ إكرام هذا الإمام، ومعاملته بالتبجيل والاحترام؛ فيه من (2) قوام الملك، ونظام الدولة، وإعزاز الملَّة (3)، واسْتِجْلاب الدعاء، وكَبْتِ الأعداء، وإذلال أهل البدع والأهواء، وإحياء الأمة، وكشف الغُمَّة، ووفور الأجر، وعُلُوِّ الذِّكْر، ورفع البأس، ونفع الناس (4). ولسانُ حال المسلمين تالي قول الكبير المتعال: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88]. والبضاعة المزجاةُ: هي هذه الأوراق المرقومة بالأقلام، والمِيرة المطلوبة: هي الإفراج عن شيخ الإسلام. والذي حَمَل على هذا الإقدام قولُه عليه السلام (5): «الدينُ النصيحة» والسلام. وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين (6)، وسلَّم تسليمًا. هذا آخر هذا الكتاب. *** _________ (1) بقية النسخ: «زيارة القبور». (2) (ف، ك، ط): «فيه قوام». (3) «وإعزاز الملة» ليست في (ب). (4) «ورفع البأس» ليست في (ب)، «ونفع الناس» ليست في (ف). (5) «قوله عليه السلام» ليست في (ب). وتقدم تخريج الحديث. (6) «ف، ك»: «الكرام».

(الكتاب/432)


(1) ووقفتُ على كتابٍ آخر، صورته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلامُ على سيّد المرسلين، محمّد النبيّ وآله وصحبه أجمعين. اللهم فكما أيَّدت ملوكَ الإسلام، وولاة الأمور بالقوَّة والأيْدِ، وشَيَّدْت [ق 129] لهم ذِكْرًا، وجعلتَهم للمقهور اللائذ بجنابهم ذُخْرًا، وللمكسور العائذ بأكناف بابهم جَبْرا، فاشْدُد الّلهم منهم بحسن معونتك لهم أزرًا، وأعْلِ لهم مجدًا وارفع قدرًا، وزدهم عزًّا، وزوِّدهم على أعدائهم (2) نصرًا، وامْنحهم توفيقًا مسدَّدًا، وتمكينًا مستمرًّا. وبعد؛ فإنه لما قرع أسماعَ أهلِ البلاد المشرقيَّة، والنواحي العراقية التضييقُ على شيخ الإسلام، أبي العباس تقيِّ الدين أحمد ابن تيمية ــ سلمه الله ــ عَظُمَ ذلك على المسلمين، وشقَّ على ذوي الدين (3)، وارتفعت رؤوس الملحدين، وطابت نفوس أهلِ الأهواء والمبتدعين. ولما رأى علماءُ أهلِ هذه الناحية عُظْمَ هذه النازلة؛ من شماتة أصحاب أهل البدع (4) وأهل الأهواء، بأكابر الأفاضل وأئمة العلماء= أنْهَوا _________ (1) قبله في (ف، ك، ط): «قال المؤلف. . .». وهذا الكتاب سقط برمته من (ب). (2) (ف، ك، ط): «أعدائك». (3) (ف، ك، ط): «وشق عليهم». (4) (ف): «شماتة أصحاب البدع»، (ك، ط): «شماتة أهل. .».

(الكتاب/433)


حالَ هذا الأمر الفظيع والقول (1) الشنيع، إلى الحضرة الشريفة السلطانية ــ زادها الله شرفًا ــ وكتبوا أجوبتهم في تصويب ما أجاب به الشيخ ــ سلَّمه الله ــ في فتاويه (2)، وذكروا من علمه وفضائله بعض ما هو فيه، وحملوا ذلك إلى بين يدي مولانا ملك الأمراء ــ أعزَّ الله أنصاره وضاعف اقتداره ــ غيرةً منهم على هذا الدين، ونصيحةً للإسلام وأمراء المسلمين (3). والآراء المولوية العالية أولى بالتقديم؛ لأنَّها ممنوحة بالهداية إلى الصراط المستقيم. وأفضل الصلاة وأشرف (4) التسليم على النبي الأمي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلَّم تسليمًا (5). *** _________ (1) (ف، ك، ط): «والأمر». (2) (ك، ط): «فتواه». (3) (ف، ك، ط): «المؤمنين». (4) «أشرف» ليست في (ف). (5) قال مرعي الكرمي في «الكواكب الدريّة» (ص 171 ــ 172) بعد ما ساق هذه الكتب: «والظاهر أن هذه الكتب لم تصل للسلطان الملك الناصر، إما لعدم من يوصلها، أو لموت الشيخ قبل وصولها، وإلا لظهر لها نتيجة، ولم أقف على ذلك. وهذه الأجوبة والكتب وصلت كلها إلى دمشق» اهـ. ويضاف أيضًا ما قاله الذهبي في «الدرة اليتيمية ــ تكملة الجامع» (ص 45) لما تكلم على علاقة الشيخ بالملك الناصر ــ الذي أخرجه من السجن لما تولى عام 709، ثم هو الذي يأمر بسجنه سنة 726 وقبلها ــ قال: «ولم يكن الشيخ من رجال الدولة، ولا سلك معهم تلك النواميس، فلم يعد السلطان يجتمع به ... ».

(الكتاب/434)


ثم إن الشيخ رحمه الله بقي مقيمًا بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا (1)، ثم توفي إلى رحمة الله ورضوانه. وما برح في هذه المدة مُكِبًّا على العبادة والتلاوة، وتصنيف الكتب، والردِّ على المخالفين. وكَتَب على تفسير القرآن العظيم جملةً كثيرة، تشتمل على نفائس (2) جليلة، ونكتٍ دقيقة، ومعانٍ لطيفة، وبيَّن في ذلك مواضع كثيرة أشكلت على خلقٍ من علماء أهل التفسير (3). وكتب في المسألة التي حُبِسَ بسببها عِدَّة مجلَّدات. منها: كتاب في الردِّ على (4) الإخنائي، قاضي المالكية بمصر، تُعرف بـ «الإخنائية» (5). ومنها: كتابٌ كبير حافل في الردِّ على بعض قضاة الشافعية (6). وأشياء كثيرة في هذا المعنى أيضًا. *** _________ (1) «وأيامًا» ليست في (ب). (2) (ب): «نفائس على». (3) انظر ما سبق (ص 40). (4) بقية النسخ: «على ابن». (5) طبعت الإخنائية عدة مرات، منها بتصحيح الشيخ المعلمي، وآخرها بتحقيق أحمد العنزي ــ دار الخرّاز. والإخنائي هو: محمد بن أبي بكر بن عيسى السعدي المصري المالكي، قاضي المالكية بالديار المصرية (ت 750). انظر «أعيان العصر»: (4/ 362 ــ 363) و «الدرر الكامنة»: (3/ 407 ــ 408). (6) لعله يعني «الزملكانية» وسيأتي ذكر الشيخ لها قريبًا (ص 440).

(الكتاب/435)


 [وفاة الشيخ عبد الله ابن تيمية (1) أخي الشيخ]

وفي هذه المدة التي كان الشيخ فيها بالقلعة توفي أخوه الشيخ الإمام (2) العلامة البارع، الحافظ الزاهد (3) الورع، جمال الإسلام، شرف الدين أبومحمد عبد الله. توفي يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادى الأولى من سنة سبعٍ وعشرين وسبعمائة. وصُلِّيَ عليه ظهر اليوم المذكور بجامع دمشق، وحُمِلَ إلى باب القلعة، فصُلِّيَ عليه مرَّة أخرى، وصلَّى عليه أخوه (4)، وخَلْق من داخل القلعة، وكان الصوتُ بالتكبير يبلغهم (5)، وكثر البكاء في تلك الساعة، وكان وقتًا مشهودًا. ثم صُلِّي عليه مرَّةً ثالثة ورابعةً، وحُمِلَ على الرؤوس والأصابع إلى مقبرة الصوفية، فدُفِنَ بها. وحضر جنازتَه جمعٌ كثير، وعالم عظيم، وكثر الثناءُ والتأسُّف [ق 130] عليه. وكان ــ رحمه الله ــ صاحب صدق وإخلاص، قانعًا باليسير، شريف النفس، شجاعًا مِقْدامًا مجاهدًا، بارعًا في الفقه، إمامًا في النحو، مستحضرًا لتراجم السلف ووفياتهم، له في ذلك يدٌ طولى، عالمًا بالتواريخ المتقدمة والمتأخرة. وكان ــ رحمه الله ــ شديد الخوف والشَّفقة على أخيه شيخ الإسلام. _________ (1) توفي سنة (727). ترجمته في «أعيان العصر»: (2/ 692)، و «الذيل على طبقات الحنابلة»: (4/ 477)، و «الدرر الكامنة»: (2/ 266). (2) «الشيخ» ليست في (ب)، و (ف، ك، ط): زيادة «العالم». (3) بعده في (ب): «العابد». (4) بقية النسخ: «أخواه». (5) (ف، ك، ط): «يبلغهما».

(الكتاب/436)


وكان يخرجُ من بيته ليلًا، ويرجع إليه ليلًا، ولا يجلس في مكان معيَّن، بحيث يُقْصد فيه، ولكنه (1) يأوي إلى المساجد المهجورة، والأماكن التي ليست بمشهورة. وكان كثير العبادة والتألُّه، والمراقبة والخوف من الله. ولم يزل على ذلك إلى حين مرضه ووفاته. ومولده في اليوم الحادي عشر من المحرم سنة ستٍّ وستين وستمائة بحرَّان. وسمع من [ابن] أبي (2) اليُسر، والجمال عبد الرحمن البغدادي، وابن الصيرفي، والشيخ شمس الدين، وابن البخاري، وخلق كثير. وحدَّث وسمع الكتب الكبار. وقد سُئل عنه الشيخ كمال الدين ابن الزّملكاني، فقال: هو بارعٌ في فنون عديدة؛ من الفقه، والنحو، والأصول، ملازمٌ لأنواع الخير وتعليم العلم، حسن العبادة (3)، قويٌّ في دينه، جيِّد التفقُّه، مُسْتحضرٌ (4) لمذهبه استحضارًا جيِّدًا، مليحُ البحث (5)، صحيحُ الذِّهن، قويُّ الفهم. *** _________ (1) (ف): «ولكنه كان». (2) الأصل: «من أبي اليُسر»، (ب): «من ابن اليسر». والإصلاح من بقية النسخ، وقد سبق على الصواب في أول الكتاب. (3) تحتمل في الأصل: «العبارة». (4) (ف، ك): «مستحضرًا». (5) «جيد. . . البحث» سقط من (ب).

(الكتاب/437)


قلتُ: وما زال الشيخُ تقيُّ الدين ــ رحمه الله ــ في هذه المدَّة معظَّمًا مكرَّمًا، يُكرمه نقيبُ القلعة ونائبها إكرامًا كثيرًا، ويستعرضان (1) حوائجه ويُبالغان في قضائها. وكان ما صنَّفه في هذه المدة قد خرج بعضُه من عنده، وكتبه بعض أصحابه، وظهر واشتهر (2)، فلما كان قبل وفاته بأشهُر وَرَد مرسومٌ (3) بإخراج ما عنده كلِّه، ولم يبق عنده كتابٌ ولا ورقة، ولا دَوَاةٌ ولا قلم. وكان بعد ذلك إذا كتب ورقةً إلى بعض أصحابه، كتبها (4) بفحم. وقد رأيتُ أوراقًا عِدَّة بعثها إلى أصحابه، وبعضُها مكتوبٌ بفحم. منها ورقةٌ يقول فيها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (5). نحن ولله الحمد والشكر في نعم متزايدة متوفِّرة، وجميعُ ما يفعله الله فيه نصر الإسلام، وهو من نعم الله العظام. و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]. فإنَّ الشيطان استعمل حزبه في إفساد دين الله، الذي بعث به رُسُلَه، وأنزل به (6) كُتُبَه. _________ (1) الأصل و (ب): «ويستعرضا». (2) «وظهر» ليست في (ب)، (ك): «واشتهر وظهر». (3) (ك، ط): «مرسوم السلطان». (4) (ف، ك): «يكتبها». (5) (ب): «أوراقًا عدة وبعضها. . . يقول فيها: سلام الله عليكم ورحمته. . .». (6) «به» ليست في (ك، ط).

(الكتاب/438)


ومن سنة الله: أنَّه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يُعارضه (1)، فيُحِقُّ الحقَّ بكلماته، ويقذِفُ بالحقِّ على الباطل فيدمَغُه فإذا هو زاهق. والذي سعى فيه حزبُ الشيطان لم يكن مخالفةً لشرع محمد - صلى الله عليه وسلم - وحدَه، بل مخالفة لدين جميع المرسلين، إبراهيم وموسى والمسيح، ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين. وكانوا قد سعوا في أن لا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطابٌ ولا كتاب، وجزعوا من إظهار (2) «الإخنائية»، فاستعملهم الله تعالى حتى أظهروا أضعافَ ذلك وأعظم، وألزمهم بتفتيشه [ق 131] ومطالعته، ومقصودُهم إظهار عيوبه وما يحتجون به، فلم يجدوا فيه إلا ما هو حُجَّةٌ عليهم، وظهر لهم جهلُهم وكذبُهم وعجزُهم، وشاع (3) هذا في الأرض، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله، ولم يمكنهم أن يُظهروا علينا فيه عيبًا في الشرع والدين، غايةُ (4) ما عندهم: أنه خُوْلِف مرسومُ بعضِ المخلوقين، والمخلوقُ ــ كائنًا من كان ــ إذا خالفَ أمرَ الله ورسوله، لم يُجَب، بل (5) ولا يجوز طاعته في مخالفة أمر الله ورسوله باتفاق المسلمين. وقول القائل: «إنه يُظْهِر البدع»، كلامٌ يَظهرُ فسادُه لكلِّ مستبصر، ويعلم أنَّ الأمر بالعكس، فإنَّ الذي يُظهر البدعة، إما أن يكون لعدم علمه _________ (1) (ب): «يفارقه». (2) (ف، ك، ط): «ظهور». (3) (ب): «وكذبهم شاع». (4) بقية النسخ: «بل غاية». (5) ليست في (ب).

(الكتاب/439)


بسنة الرسول، أو لكونه له غرضٌ وهوًى يخالف ذلك، وهو أولى بالجهل بسنة الرسول، واتباع هواهم بغير هدًى من الله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، ممَّن هو (1) أعلمُ بسنَّة الرسول منهم، وأبعدُ عن الهوى والغرض في مخالفتها {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 ــ 19]. وهذه قضيَّة كبيرة لها شأن عظيم، وليعلمنَّ نبأه بعد حين. ثم ذكر الشيخُ في الورقة كلامًا، لا يمكن قراءة جميعه، لانطماسه. وقال بعده: وكانوا يطلبون تمام «الإخنائية»، فعندهم ما يُطِمُّهم أضعافها، وأقوى فقهًا منها، وأشدَّ مخالفة لأغراضهم. فإنَّ «الزملكانية» (2) قد بُيِّنَ فيها من نحو خمسين وجهًا أنّ ما حُكِمَ به ورُسِم به مخالفٌ لإجماع المسلمين، وما فعلوه ــ لو كان ممن يعرف ما جاء به الرسول، يتعمَّد (3) مخالفته ــ لكان كُفْرًا وردَّةً عن الإسلام؛ لكنهم جُهَّال دخلوا في شيءٍ ما كانوا يعرفونه، ولا ظنوا أنه يظهر منه أنَّ السلطنة تخالف مرادهم، والأمرُ أعظم _________ (1) (ب): «هم». (2) لعل ما في «مجموع الفتاوى»: (27/ 290 ــ 313) مختصر منها، ففي أولها: «فصل في الجواب عما كتب على نسخة جواب الفتيا ... قد بُسطت في غير هذا الموضع، وهي خمسون وجهًا ... ». (3) (ب): «ويتعمد».

(الكتاب/440)


مما ظهر لكم، ونحن ولله الحمد على عظيم الجهاد في سبيله. ثم ذكر كلامًا وقال: بل جهادُنا في هذا مثل (1) جهادنا يوم قزان والجبلية، والجهمية والاتحادية (2)، وأمثال ذلك. وذلك من أعظم نعم الله علينا وعلى الناس ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون. *** ومنها ورقة قال فيها: ونحن ولله الحمد والشكر في نِعَم عظيمة تتزايدُ كلَّ يوم، ويُجَدِّد الله تعالى من نعمه نعمًا أخرى، وخروج الكتب كان من أعظم النِّعم، فإنِّي كنت حريصًا على خروج شيءٍ منها، ليقفوا (3) عليه، وهم كرهوا خروج «الإخنائية»، فاستعملهم الله في إخراج الجميع، وإلزام المنازعين بالوقوف عليه، وبهذا يظهر ما أرسل الله به رُسلَه (4) من الهدى ودين الحق. فإنَّ هذه المسائل كانت (5) خفيَّة على أكثر الناس، فإذا ظهرت لمن كان قصده الحقّ هداه الله، ومن كان قصده الباطل قامت عليه حُجّةُ الله، واستحقَّ (6) أن يُذِلَّه الله ويُخزِيه. _________ (1) الأصل و (ب): «ثم». (2) (ك، ط): «قازان». و (ب): «والاتحادية والجهمية». (3) (ف، ك، ط): «لتقفوا». (4) (ف، ك): «رسوله». (5) ليست في (ب). (6) (ف، ك، ط): «أو استحق».

(الكتاب/441)


وما كتبتُ شيئًا من هذا ليُكْتَم عن أحد (1) ولو كان مُبْغِضًا. والأوراق التي فيها جواباتكم غُسِلت. وأنا طيِّبٌ، وعيناي طيبتان أطيب مما كانت (2)، ونحنُ في نعمة عظيمة لا تُحْصَى ولا تُعَدُّ، والحمد لله (3) حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. ثم ذكر كلامًا. . . وقال: وكلُّ ما يقضيه الله فيه الخير والرحمة (4) {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100]. ولا يدخلُ على أحدٍ ضررٌ إلا من ذنوبه {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. فالعبد عليه أن يحمد الله تعالى ويشكره (5) دائمًا على كلِّ حال، ويستغفر من ذنوبه، فالشكر يوجبُ المزيدَ من النِّعم، والاستغفار يَدْفَعُ النِّقم، ولا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له «إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صَبرَ، فكان خيرًا له» (6). *** _________ (1) (ف): «إليكم عن واحد». (2) (ف، ك، ط): «أطيب ما»، (ب): «مما كنت». (3) (ف، ك، ط): «في نعم»، (ب): «فلله الحمد». (4) (ف، ك) زيادة: «والحكمة». (5) (ف، ك، ط): «يشكر الله ويحمده». (6) «إن أصابته. . . خيرًا له» ليست في (ب).

(الكتاب/442)


وهذه الورقة كتبها الشيخ وأرسلها (1) بعد خروج الكُتُب من عنده بأكثر من ثلاثة أشهر، في شهر شوال، قبل وفاته بنحو شهرٍ ونصف. ولمَّا أُخرِج ما عندَه من الكتب والأوراق، حُمِلَ إلى القاضي علاء الدين القونوي، وجُعل تحت يده في المدرسة العادلية (2). وأقبل الشيخُ بعد إخراجها على العبادة والتلاوة والذِّكْر والتهجُّد حتى أتاه اليقين. وختم القرآن مدَّة إقامته بالقلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة. انتهى في آخر ختمةٍ إلى آخر (اقتربت) (3): {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 ــ 55]. ثم كُملت عليه بعد وفاته وهو مُسجًّى (4). كان كلَّ يوم يقرأ ثلاثةَ أجزاء، يختم (5) في عشرة أيام. هكذا أخبرني أخوه زينُ الدين. وكانت مُدَّة مرضه بضعةً وعشرين يومًا، وأكثرُ الناس ما علموا بمرضه، فلم يفجأ الخلقَ إلا نعيُه (6)، فاشتدَّ التأسُّفُ عليه، وكَثُر البكاءُ والحزن، _________ (1) ليست في (ب). (2) انظر ما سبق في تفصيل ما آلت إليه الكتب (ص 41). (3) (ف، ك، ط): «اقتربت الساعة». (4) الذي في «اختيارات شيخ الإسلام» (ص 146) أن القراءة على الميت بدعة، ولا ينتفع بها بعد موته، بخلاف القراءة على المحتضر. (5) (ف): «ويختم». (6) الأصل: «بغتة». والمثبت من المصادر، وانظر «الدرة اليتيمية ــ تكملة الجامع» (ص 49).

(الكتاب/443)


ودخل إليه أقاربه وأصحابه، وازدحم الخلقُ على باب القلعة والطرقات، وامتلأ جامعُ دمشق، وصلَّوا عليه، وحُمِلَ على الرؤوس ــ رحمه الله ورضي عنه ــ. قال الشيخ عَلَم الدين (1): وفي ليلة الاثنين العشرين (2) من ذي القَعْدة من سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، توفّي الشيخ الإمامُ، العلاّمة الفقيه، الحافظ الزاهد، القدوة، شيخ الإسلام، تقيُّ الدين أبو (3) العباس أحمد ابن شيخنا الإمام المفتي، شهاب الدين، أبي المحاسن عبد الحليم، ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات، عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرَّاني، ثم الدمشقي، بقلعة دمشق، في القاعة (4) التي كان محبوسًا فيها. وحضرَ جمعٌ كثير (5) إلى القلعة، فأُذِنَ لهم في الدخول، وجلس جماعةٌ عنده (6) قبل الغَسْل، وقرأوا القرآن، وتبرَّكوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا (7). _________ (1) في تاريخه «المقتفي لتاريخ أبي شامة» لكن القسم المطبوع منه إلى سنة (721). وقد نقل كلامه أيضًا ابن كثير في «البداية والنهاية»: (18/ 295 ــ 299) وغيره. (2) (ك): «لعشرين»، وسقطت من (ب). (3) الأصل: «أبي». (4) «في القاعة» ليست في (ف، ك، ط). (5) «كثير» ليست في (ف، ك، ط). (6) ليست في (ك، ط). (7) «وحضر. . . انصرفوا» ليست في (ف).

(الكتاب/444)


واقْتُصِر على من يُغَسِّله ويُعِيْن في غسله، فلما فرغ من ذلك أُخرج وقد اجتمع الناسُ بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وبابُ البريد، وبابُ الساعات إلى اللبادين والفوَّارة (1). وحضرت الجنازةُ في الساعة الرابعة من النهار أو نحو [ق 133] ذلك، ووُضِعَت في الجامع، والجُنْد يحفظونها من الناس من شدَّة الزحام، وصُلِّيَ عليه ــ أولًا ــ بالقلعة. تقدَّم في الصلاة عليه الشيخُ محمد بن تمّام (2). ثم صُلِّي عليه بجامع دمشق، عقيب صلاة الظهر، وحُمِلَ من باب البريد، واشتدَّ الزحام، وألقى الناسُ على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرُّك (3). وصارَ النعشُ على الرؤوس، تارةً يتقدَّم وتارةً يتأخَّر. وخرج الناسُ من الجامع من أبوابه كلِّها من شدَّة الزحام. وكلُّ بابٍ أعظم زحمةً من الآخر! ثم خرج الناسُ من أبواب البلد جميعها من شدَّة الزحام، لكن كان المُعْظَم من الأبواب الأربعة: باب الفَرَج ــ الذي خَرَجت (4) منه الجنازة ــ ومن باب الفراديس، ومن باب النصر، وباب الجابية. وعَظُمَ الأمر بسوق الخيل (5)، وتقدَّم في الصلاة عليه هناك أخوه زينُ الدين عبد الرحمن، _________ (1) (ب): «وإلى الغوّارة». (2) تقدمت ترجمته (ص). (3) هذا من التبرك الممنوع الذي كان الشيخ رحمه الله ينهي عنه. وكذلك ما سيأتي ذكره من مبالغات العامة عند غسل جنازته وتشييعها. (4) (ف، ك): «أخرجت». (5) «وعظم. . . الخيل» سقط من (ب).

(الكتاب/445)


وحُمِلَ إلى مقبرة الصوفية، فدُفِنَ إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله (1) ــ رحمهما الله ــ. وكان دفنه وقت العصر أو قبلها بيسير. وغلّق الناسُ حوانيتهم، ولم يتخلَّف عن الحضور إلا القليل من الناس، أو مَنْ عَجَز للزّحام (2). وحضرها نساءٌ كثير (3) بحيث حُزِرُوا بخمسة عشر ألفًا. وأمّا الرجال فحُزِروا بستين ألفًا وأكثر إلى مائتي ألف. وشَرِبَ جماعةٌ الماء (4) الذي فضل من غسله. واقتسم جماعةٌ بقيَّة السِّدْر الذي غُسِّل به. وقيل: إنَّ الطاقية التي كانت على رأسه دُفِعَ فيها خمسمائة درهم. وقيل: إنَّ الخيط الذي فيه الزئبق، الذي كان في عنقه بسبب القمل، دُفِعَ فيه مائة وخمسون درهمًا. وحصل في الجنازة ضجيجٌ وبكاء وتضرُّع. وخُتِمَت له ختمٌ كثيرة بالصالحية والبلد، وتردَّد الناس إلى قبره أيامًا كثيرة (5) ليلًا ونهارًا، ورُئيت له مناماتٌ كثيرة صالحة، ورثاه جماعةٌ بقصائد جمَّة. وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأول، بحرَّان، سنة إحدى وستين وستمائة. _________ (1) وقد توفي سنة (727)، انظر ما سبق (ص 438). (2) ليست في (ب). (3) (ف، ك): «كثيرون». (4) (ب): «من الماء». (5) «أيامًا كثيرة» ليست في (ب).

(الكتاب/446)


وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، فسمع الحديثَ من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسْر، وابنِ عَبْدٍ، والشيخ شمس الدين الحنبلي، والقاضي شمس الدين بن عطاءٍ الحنفي، والشيخ جمال الدين ابن الصيرفي، ومجد الدين ابن عساكر، والشيخ جمال الدين البغدادي، والنَّجِيب المِقْداد، [و] ابن أبي الخير، وابن علاَّن، وأبي بكر الهروي (1)، والكمال عبد الرحيم، والفخر عليّ، وابن شيبان، والشرف ابن القوَّاس، وزينب بنت مكِّيّ، وخلقٍ كثير. وقرأ بنفسه الكثير، وطلبَ الحديث، وكتب الطِّباق والأثبات، ولازمَ السماعَ بنفسه مُدَّة سنين، واشتغل بالعلوم. وكان ذكيًّا، كثير المحفوظ. فصار إمامًا في التفسير وما يتعلَّق به، عارفًا بالفقه، واختلاف العلماء، والأصلين (2)، والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية. وما تكلّم معه فاضل في فنٍّ (3) إلا وظنَّ ذلك (4) الفنَّ فنَّه، ورآه عارفًا به متقنًا له. وأمّا الحديث؛ فكان حافظًا له (5)، مميزًا بين صحيحه وسقيمه، عارفًا برجاله، [متضلِّعًا من ذلك] (6). _________ (1) (ب): «القروي». وفي بعض نسخ «البداية والنهاية»: «ابن أبي بكر ... ». (2) الأصل: «والأصوليين». (3) عند ابن كثير: «في فنّ من الفنون العلمية». (4) (ب، ف، ك): «إلا ظن أن ذلك». (5) عند ابن كثير: «متنًا وإسنادًا». (6) من باقي النسخ وابن كثير.

(الكتاب/447)


وله تصانيف كثيرة، وتعاليق مفيدة في الفروع والأصول. كَمَّل (1) منها جملةً، وبُيِّضت وكُتِبَت عنه، وجُملة كبيرة (2) لم يكملها، وجملة [ق 134] كمَّلها ولكن لم تُبَيَّض. وأثنى عليه وعلى فضائله جماعةٌ من علماء عصره، مثل القاضي الخُوييّ (3)، وابن دقيق العيد، وابن النحَّاس، وابن الزَّمْلكاني، وغيرهم. ووجدتُ بخطِّ الشيخ كمال (4) الدين ابن الزَّمْلكاني أنه اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. وأنّ له اليد الطُّولى في حُسْن التصنيف (5)، وجَودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين. وكَتَب على تصنيفٍ له هذه الأبيات الثلاثة من نظمه، وهي: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاتُه جلَّت عن الحَصْر هو حُجَّةٌ لله قاهرةٌ ... هو بيننا أعجوبةُ الدّهر هو آيةٌ في الخلق (6) ظاهرة ... أنوارُها أرْبَتْ على الفَجْر وهذا الثناء عليه وكان عمره نحو الثلاثين سنة. _________ (1) ليست في (ب). (2) (ف، ك): «كثيرة». (3) (ك): «الخوي». (4) تحرف في الأصل، و (ب، ك، ط) إلى «جمال»، والمثبت من (ف) ومصادر الترجمة، وقد تقدمت ترجمة ابن الزملكاني (ص 13 ــ 14) وأبياته هذه. (5) «على. . . التصنيف» ليست في (ب). (6) (ك، ط): «آية للخلق».

(الكتاب/448)


وكان بيني وبينه صُحْبة ومودَّة (1) من الصِّغَر، وسماع الحديث والطَّلب من نحو خمسين سنة. وله فضائل كثيرة. وأسماء مصنفاته، وسيرته، وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة، وحبسُه مرات، وأحوالُه= لا يحتمل ذكر جميعها هذا الكتاب. ولما مات كنت غائبًا عن دمشق بطريق الحجاز الشريف، وبلغنا خبره بعد موته بأكثر من خمسين يومًا لما وصلنا إلى تبوك، وحصل التأسُّف لفقده ــ رحمه الله تعالى ــ. *** قلتُ: وقد قيل: إنَّ الخلق الذين حضروا جنازَة الشيخ كانوا أزْيد مما ذُكِر (2). ومن الجنائز العظيمة في الإسلام: جنازة الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فإنَّ الذين حضروه، وصلوا عليه، كانوا أكثر من ألف ألف إنسان (3). _________ (1) (ف، ك، ط): «مودّة وصُحبة». والقائل هو الحافظ علم الدين البرزالي (ت 739) فإن الكلام ما زال له. وانظر «معجم سماعات البرزالي ــ ضمن الجامع» (ص 212 ــ 223) وفيه ترافق ابن تيمية والبرزالي والمزي في السماع على الشيوخ سنة (680 هـ) رحم الله الجميع. (2) (ب): «ذكروا». (3) قال ابن كثير معلقًا في «البداية والنهاية»: (18/ 299): «ولا شك أنّ جنازة الإمام أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك. والشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله توفي ببلده دمشق، وأهلُها لا يعشرون أهل بغداد كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعًا لو جمعهم سلطان قاهر وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي انتهوا إليها، هذا مع أنه مات بالقلعة مسجونًا من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء يذكرون عنه أشياء كثيرة مما ينفر منه أهل الأديان» اهـ.

(الكتاب/449)


وقد قال الإمام أبو عثمان الصابوني: سمعتُ أبا عبد الرحمن السُّلَمي يقول: حضرتُ جنازة أبي الفتح القوَّاس الزاهد مع الشيخ أبي الحسن الدارقطني، فلما بلغ إلى ذلك الجمع الكبير أقبل علينا وقال: سمعتُ أبا سهل بن زياد القطان يقول: سمعتُ عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز (1). قال أبو عبد الرحمن على إثر هذه الحكاية: إنَّه حَزَر (2) الحزَّارون المصلين على جنازة أحمد، فبلغ العددُ بحَزْرهم ألف ألفٍ وسبعمائة ألف، سوى الذين كانوا في السّفن. وقد وُجِدَ بخَطِّ الشيخ أبياتٌ، قالها بالقلعة، وهي (3): أنا الفقيرُ إلى ربِّ السموات ... أنا المسيكين (4) في مجموع حالاتي أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن جاءنا من عنده ياتي لا أستطيع لنفسي جلبَ منفعةٍ ... ولا عن النفس في دفع (5) المضرَّات وليس لي دونه مولىً يُدَبِّرني ... ولا شفيعٌ إلى ربِّ البريَّات (6) _________ (1) (ف، ك، ط): «يوم الجنائز». وانظر «سير النبلاء»: (11/ 340). (2) (ب): «حزوا». (3) الأبيات ذكرها أيضًا تلميذه ابن القيم في «مدارج السالكين»: (2/ 225). وقال: إنه بعث إليه في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه. (4) عامة الأصول: «المسكين» والتصحيح من (د). (5) الأصل: «جلب». (6) عند ابن القيم: «ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي».

(الكتاب/450)


إلاّ بإذنٍ من الرحمن خالقنا ... ربِّ السَّماء (1)، كما قد جا في الآيات ولستُ أملك شيئًا دونه أبدًا ... ولا شريكٌ أنا في بعض ذرَّاتي ولا ظهيرٌ له كَيْما أُعاونه (2) ... كما يكون لأرباب الولايات والفقر لي وصفُ ذاتٍ (3)، لازمٌ أبدًا ... كما الغِنى أبدًا وصفٌ له ذاتي [ق 135] وهذه الحال حالُ الخلق أجمعهم وكلُّهم عندَه عبدٌ له آتي فمن بغى مطلبًا من دون خالقه ... فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي والحمدُ لله مِلء الكون أجمعه ... ما كان فيه (4)، وما من بعده ياتي ثمَّ الصلاةُ على المختار من مُضَرٍ ... خيرِ البريَّة من ماضٍ ومن آتي (5) وله أيضًا عفا الله عنه: إن لله علينا أنْعُمًا ... يعجز الحصْرُ عن العدِّ لها فله الحمدُ على أنعُمِه ... وله الحمدُ على الشكر لها *** _________ (1) كذا في الأصل و (ك)، وفي (ب، ف، والمدارج): «إلى الشفيع» وإليها إشارة في هامش (ك). وفي هامش (ف) إشارة إلى ما في الأصل و (ك). (2) عند ابن القيم: «كي يستعين به». (3) (ب): «والفقر وصف»، الأصل: «ذاتي»، (ب): «لذاتي». (4) (ك): «منه». (5) البيت الأخير لم يذكره ابن القيم. وليس هو من نظم شيخ الإسلام كما بيّنه ناظمه في نسخته التي بخطه (الكواكب الدراري ــ الظاهرية رقم 597 ــ ق 89).

(الكتاب/451)


 [قصائد في مَدْح الشيخ ورثائه]

وقد مُدِح الشيخ ــ رحمه الله ــ بقصائد كثيرة في حياته، ورُثي بأكثر منها بعد مماته (1). فمن القصائد التي مُدِح بها: قصيدة نجم الدين إسحاق بن أبي بكر ابن أَلمَى التركي (2)، وهي: ذَرَانيَ مِنْ ذِكْرى سُعادٍ وزينب ... وَمِنْ ندبِ أطْلال اللِّوى والمُحصَّب وَمِنْ مدح آرامٍ سنَحْنَ برامةٍ ... وَمِنْ غَزَلٍ في وَصْفِ سِربٍ ورَبرَب ولا تُنْشداني غير شعرٍ إلى العُلا ... يظلُّ ارْتياحًا يَزْدَهيني ويُطْنِب (3) وإن أنْتُما طارَحْتُمانيَ، فلْيَكُنْ ... حَدِيثُكُما في ذِكْر مَجْدٍ ومَنْصب بِحُبِّ المعالي (4)، لا بحُبِّ امّ جُنْدُب ... أُقَضِّي لُبانات الفؤادِ المعذَّب خُلِقت امرءًا جَلْدًا على حَمْليَ الهوى ... فلستُ أُبالي بالقِلى والتجنُّب سواءٌ أرى للوصلِ (5) تعريضَ جُؤذر ... وإعراضَ ظبيٍ ألْعَسِ الثَّغْرِ أشْنَب ولم أصْبُ في عصر الشبيبة والصِّبا ... فهل أصْبُوَن كهلًا بِلمّة أشْيَب يُعنِّفني في بُغيتي رُتَبَ العُلَى ... جهولٌ أراه راكبًا غيرَ مَرْكبي _________ (1) (ك، ط): «وفاته». (2) توفي (بعد 720 هـ). ترجمته في «المعجم المختص» (ص 72)، والدرر الكامنة: (1/ 357). (3) (ف): «ويطرب» وهو مناسب. وفي (ح): «ويطأبي». (4) (ك، ط): «الأعالي». (5) (ف): «الوصل».

(الكتاب/452)


له همَّةٌ دون الحضيضِ محلُّها ... ولي همَّةٌ تسمو على كلِّ كوكَب فلو كان ذا جهلٍ بسيطٍ عَذَرْتُه ... ولكنَّه يُدلي بجهلٍ مركَّب يقول: علامَ اخترتَ مذهبَ أحمدٍ ... فقلتُ له: إذْ كان أحْمَدَ مَذْهَب وهل في ابنِ شَيْبَانٍ مقالٌ لقائل ... وهل فيه من طعن لِصَاحِبِ مَضْرَبِ؟ أليْس الَّذي قد طار في الأرض ذِكْرُهُ ... فطبَّقها ما بين شَرْقٍ ومغربِ؟ إمامُ الهدى، الدَّاعي إلى سُنَنِ الهُدَى ... وقد فاضت الأهواءُ من كُلِّ مُشْعَبِ (1) أتوا بِعَظيمِ الإفْكِ، وانْتَصَرُوا له ... بكلِّ مقالٍ بالدَّليلِ مُكَذَّب وقالوا: كلامُ الله خلقٌ، وكذَّبوا ... بما صحَّ نقلًا عن أُبَيّ ومُصْعَبِ (2) وأصْبَحَ أهْلُ الحقِّ بينَ مُعَاقَبٍ ... وبَيْنَ مُعَدٍّ لِلأذَى مُترقِّب فقام بما يُوهي ثَبيرًا ويَذْبُلًا ... قِيَامَ هِزَبْرٍ للفريسة (3) مُغْضَب ولمْ يَثنه عنْهُم، ولمَّا يصُدَّهُ ... عقُوبةُ ذي ظلمٍ وجَورُ مُعذِّب إلى أنْ بدا الإسلامُ أبْلَجَ ساطِعًا ... وكَشَّفَ عنْ ظَلْمائهم كُلَّ غَيْهَب وهَدَّم منْ أركانهم كلَّ شامخٍ ... ودَوَّخ منْ شُجعانِهم كُلَّ قرهب (4) ومزَّقهم أيدي سبا، فتفرَّقت ... كتائِبُهم ما بَيْنَ شَرْقٍ ومَغْرِب وأصْحابُهُ أهْلُ الهُدَى لا يَضُرّهم ... على دينهم طَعْنُ امْرئ جاهلٍ غَبِي _________ (1) (ب): «سنن التقى»، و (ك): «مسغب». (2) (ف، ك، ط): «خلقًا»، و (ب): «وابن مصعب». (3) الأصل: «للفرية». (4) الأصل: «شعانهم» خطأ. والقرهب: الكبير الضخم.

(الكتاب/453)


هُمُ الظاهِرون القائمُون بدينهم ... إلى الحَشْرِ، لم يَغلِبْهمُ ذو تَغَلُّب لنا منهمُ في كلّ عصْرٍ أئمةٌ ... هُداةٌ إلى العَلْيا، مَصَابِيْحُ مَرقَب فأيَّدهُم رَبُّ العُلا مِنْ عِصَابةٍ ... لإظْهَارِ دِيْن الله أهْلِ تَعَصُّب [ق 136] وقد عَلِمَ الرحمن أنَّ زماننا ... تَشَعَّبَ فيه الرأيُ أيَّ تشَعُّب فجاء بِحَبْرٍ عالمٍ منْ سَرَاتِهمْ (1) ... لِسَبعِ مئينٍ بَعْدَ هِجْرةٍ يَثْرب يُقيمُ قناة الدينِ بَعْدَ اعْوِجاجِها (2) ... ويُنقِذُها مِنْ قَبْضَةِ المُتغَصِّب فذاك فتى تيميَّةٍ، خيرُ (3) سَيِّدٍ ... نجيبٌ أتانا مِنْ سُلالةِ مُنْجِب عليمٌ (4) بأدواء النفوس يَسُوسُها ... بحكمته، فِعْلَ الطبيبِ المُجَرّب بعيدٌ عن (5) الفحشاء والبَغي والأذى ... قريبٌ إلى أهْل التُّقى، ذُو تَحَبُّب يغِيبُ، ولكن عن مَساوٍ وغِيبةٍ ... وعَنْ مَشْهَدِ الإحسْانِ لمْ يتغيَّب حليم كريم مشفِقٌ، بَيْدَ أنَّهُ ... إذا لم يُطَعْ في الله، لله يَغْضَبِ (6) يَرى نُصْرةَ الإسلامِ أكْرَمَ مَغْنَمِ ... وإظهارَ دينِ الله أرْبحَ مَكْسَب وكم قدْ غدا بالقَوْل والفِعْل مُبْطلًا ... ضلالةَ كذَّابٍ ورأيَ مُكَذِّبِ (7) _________ (1) السراة: السادة. (2) (ب): «اعوجاجه». (3) الأصل و (ك): «حبر». (4) (ب): «عليهم» تحريف. (5) (ف، ك): «من». (6) «كريم» سقطت من (ب). و «إذا» في البيت جازمة، و «يغضب» جواب الشرط مجزوم. (7) من هذا البيت إلى قوله: «وكل امرئ قد باع لله نفسه» في (ف، ك، ط) مقدَّمة قبل قوله: «ليوثٌ إذا أهل الضلال تجمّعوا».

(الكتاب/454)


ولمْ يَلْقَ مَنْ عاداهُ غيرَ منافقٍ ... وآخرَ عن نَهْجِ السَّبيلِ مُنكِّب (1) لقدْ حاولوا مِنْهُ الذي كان رامَه ... من المُصطفى قِدْمًا حُييُّ بن أخْطَب ولكنْ رأوا مِنْ بأسِهِ مِثْلما رأى ... من المُرْتَضَى في حَرْبِه رأسُ مَرْحَبِ (2) تمسَّكْ أبا العبّاس بالدين واعْتَصِم ... بِحَبْل الهُدَى، تقهر عِداك وتغْلِب ولا تخْشَ من كيْدِ الأعادي، فما هُمُ ... سِوى حائرٍ في أمرِهِ ومُذَبْذَب جُنُودُهمُ من طامعٍ ومُذَلَّلٍ (3) ... مُسَيْلمةٌ مِنْهُمْ يلُوذُ بأشْعَب وجندُك من أهل السَّماءِ ملائِكٌ ... يُمِدُّك منهُم مَوْكِبٌ بَعْدَ مَوْكِبٍ وكُلُّ امْرئٍ قدْ باعَ لله نفْسَه ... فلَيسَ إذًا يُصغي لِقَولِ مؤنِّب لَيُوثٌ، إذا أهلُ الضلالِ تجمَّعوا ... فَكُلُّ فتًى مَنْهُم يُعَدُّ بمِقْنَب (4) لئن جَحَدتْ علياءَ فضلك حُسَّدٌ ... لعَمْرُ أبي قدْ زاد منهم تَعَجُّبي وهلْ مُمكنٌ في العقل أنْ يُجْحَد السّنا ... ضُحًى وَضِيَاءُ الشَّمس لم يتحجَّبِ؟ أيا مطْلبًا حُزْناهُ من غير مَهْلَكٍ ... وكم مَهْلكٍ صدَّ الورَى دُوْنَ مطلب بعَزْم تقيِّ الدِّين أحْمَدَ تُتَّقى ... صُرُوفُ زمانٍ بالفوادح (5) مُرْعِب وفي الجدْبِ نسْتَسْقي الغَمامَ بوجْهه ... فنُصْبِحُ في رَوضٍ كناديه مُخصِب _________ (1) الأصل: «مكذب» تحريف. (2) (ك): «من المصطفى». ومرحب أحد فرسان يهود خيبر، قتله علي رضي الله عنه لما طلب المبارزة. (3) (ك): «مضلل». (4) المِقنب: الجماعة من الخيل، واختلف في عددها على أقوال. (5) (ف، ك): «بالقوادح».

(الكتاب/455)


ربيبُ المعالي يافعُ الجُودِ والنَّدَى ... فتى العِلْم، كَهْلُ الحِلْم شيْخُ التأدُّب مُفَصِّل ما قد جاء من جُمَل النُّهى ... وإيضَاحُه لِلفَهم غير مقرَّبِ (1) بسيطُ معانٍ في وجيزِ عبارةٍ ... بِتهْذيبِهِ تعْجيزُ كُلِّ مُهذَّب وليس له في الزهد والعلم مُشْبِهٌ ... سوى الحسن البصري وابن المسيبِ (2) ومن رام حَبْرًا غيرَه (3) اليوم في الورى ... فذاك الذي قدْ رامَ عنقاءَ مُغْرِب أليس هو النَّدْبَ الذي بانتصارِهِ ... حبا الدين حتَّى بالإمامة قد حُبي (4) وجاهد في ذاتِ الإلهِ بنفْسِهِ ... وبالمالِ والأهْلِينَ والأمِّ والأب ووازَرَهُ في حالتيه ابْنُ أُمّهِ ... فذَلِكَ عَبْدُالله، نِعْمَ الفَتَى الأَبِي عُقابُ المعالي ضَيغمُ الغابة، الذي ... فَرى كلَّ ذي غيٍّ بنابٍ ومِخْلب هُما ناصرا دين الإله وحاميا ... حِمَى خير خلق الله منْ نَسْل يَعْرُب مُقيمان كالإسلام في دارِ غُرْبَةٍ ... فيا حبَّذا في الله حُسْن التغرُّب خدَمْتُهُمَا مِنِّي بعقْدٍ مُنَضَّد ... بفِكْر سَوائي دُرُّهُ لمْ يُنَقَّب (5) يشنِّفُ سمعَ الدَّهْرِ حسنًا إذا اغْتدى ... به الناظم (6) التركيّ أفصحَ مُعْرِب _________ (1) (ب): «يفصّل ما قد ... ». (ق، ك): «ما قد حاز .. ». الأصل: «عين مقرب». (2) (ب): «مسيّب». (3) (ب): «دونه». (4) (ف، ك، ط): «حبى». (5) (ف، ب): «سواي»، (ف، ك): «تنقّب». (6) (ب): «الناصر».

(الكتاب/456)


وما جئْتُ في مَدْحَيهما مُتطلِّبًا ... به عَرَضًا يفْنى (1)، ولا نيل منْصِب [ق 137] ولكنني أبغي رضا الله خالقي ... وأرجو به غُفران زلَّة مذنِب وأجْعَلُه لي في المعَاد ذخيرةً ... أفوزُ به في الحشْر مِنْ خَطْبه الوبي (2) نجزت، وهي سبعة وستون بيتًا (3). * * * * ومن القصائد التي رُثِيَ بها ــ رحمه الله ــ: قصيدة (4) الشيخ قاسم بن عبد الرحمن بن نصير المقرئ (5)، وهي: عَظُمَ المُصَابُ وزَادَتِ الأفْكَارُ ... وجَرَتْ بحُكْم فراقِكَ الأقْدَارُ يا واحدًا في حِلْمِهِ وعُلُومِهِ ... خَلَتِ البِقَاعُ، وقلَّتِ النُّظَّارُ (6) أَعَلى تقيّ الدِّين يَحْسُنُ صَبْرُنا ... ولِمِثْلِهِ تتهتّكُ الأسْتَارُ تجْري لِعُظْمِ فِرَاقِهِ عَبَراتُنَا ... أَسَفًا عَلَيْهِ، كأنَّها أمْطَارُ لَهْفي على بَحْر العُلُومِ وغَوصِهِ ... يَحْوي الجَوَاهِرَ باهرٌ زخَّارُ _________ (1) (ك): «يغني». وقوله «مدحيهما» يقصد الإمامين أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيمية. (2) (ف، ك): «أفوز بها». (3) العبارة ليست في (ب). وبعده في (ف، ك، ح، ط) سؤال لشيخ الإسلام في القدر وجوابه شعرًا، أوله «أيا علماء الدين ذميّ دينكم ... » وواضح أن هذا ليس مكانها المناسب. وهذه القصيدة في «مجموع الفتاوى»: (8/ 245 - 256) ويزيد عدد أبياتها عما في النسخ بنحو عشرين بيتًا. (4) «ومن ... قصيدة» ليس في (ف، ك، ط). (5) لم أجد ترجمته. (6) (ك): «أوحدًا»، (ف): «في علمه»، (ب): «الأنصار»، و (ف، ك): «النصار».

(الكتاب/457)


يَنْثَالُ مِنْهُ إلى القُلُوبِ جَوَاهِرٌ ... والدُّرُّ مِنْ فِيْهِ السَّنيِّ نِثَارُ ولهُ بتَفْسِيرِ الكِتَابِ غَرائِبٌ (1) ... جُلِيَتْ لَهُ، وَكَذلِكَ الأخْبَارُ حَبْرٌ، لَبِيْبٌ أوْحدٌ في عَصْرِنَا ... سلْ ما تَشَاء، لهُ بِهِ إخْبَارُ غَلَبَ المُلُوكَ مَهَابةً وَشَجَاعَةً ... لَيْثٌ يهَابُ لِقَاءَه الكُفَّارُ (2) ما كانَ إلَّا شامةً في شَامِنَا ... وعليه مِنْ تَقْوَى الإلهِ شِعارُ وَلَهُ مِنَ الله الكَرِيمِ عِنَايَةٌ ... وَلَهُ مِنَ الصَّبْرِ الجَمِيلِ دِثَارُ ما كانَ إلَّا دُرَّةً مَكْنُونَةً ... لا يَعْتَرِيهِ تَدَنُّسٌ وَغُبَارُ لا يَلْويَنَّ إلى الحُطَامِ تعفُّفًا ... وعَلَيْهِ مِنْ تَقْوَى الإلهِ وقَارُ ما كانَ إلَّا خيرَ أُمَّةِ أحْمدٍ ... شَخَصَتْ لِعُظْمِ مُصَابِهِ الأَبْصَارُ (3) وَمُجَاهِدًا في الله حقَّ جِهَادِهِ ... بَحْرُ النَّدى وَنَوالُه مِدْرَارُ وَلَهُ الزَّهَادَةُ وَالعِبَادَةُ مَنْهَجٌ ... وَبسُنَّةِ الهادي لهُ اسْتِبْصَارُ حاز العُلُوْمَ، أصُولَها وفُرُوعَها ... وَبِكُلِّ ما يُرْوى لَهُ آثَارُ يَلْوِي عَنِ الدُّنيا، وما يَعْنَى (4) بها ... وَزَواه عَنْهَا الوَاحِدُ القَهَّارُ لما افتناه هَدَاهُ مِنْهَاجَ الهُدَى ... وعَطَاءُ رَبِّك وَافِرٌ مِكْثَارُ _________ (1) (ف): «غوائب». (2) سقط من (ب) عجز هذا البيت وصدر الذي يليه. (3) (ف، ك، ط): «إلا حبر»، (ب): «خير أهل زمانه». وكتب في الأصل فوق «شخصت». (4) (ب): «يغى» و «يَعْنى» من العَناء والمشقّة.

(الكتاب/458)


نَزَلَ القَضاءُ بهِ فآنَس رَحْمَةً ... مِنْ ربِّه، لا تُدْفَعُ الأقدارُ بَكَتِ السَّماءُ عَلَيْهِ يَوْمَ فِرَاقِهِ ... أسَفًا وجاء الغَيْثُ والأمطارُ وبكى الشَّآمُ ومُدْنُهُ وبِقَاعُه ... لمَّا مضى، وكذلك الأمصارُ أوَمَا نَظَرْت إِلَيه فَوْقَ سَرِيرِهِ ... حَفَّتْ بهِ منْ رَبِّه الأنْوارُ والنَّاسُ مِنْ باكٍ عَلَيْهِ بحسرةٍ (1) ... وَدُمُوعُهُمْ فَوْقَ الخُدُودِ غِزَارُ وهُمُ أُلوفٌ، لَيس يُحْصي جَمْعَهم ... إإلَّا إلهٌ غَافِرٌ سَتَّارُ نَزَلُوا بِهِ، كَالبَدْرِ في إشْرَاقِهِ ... فَتَبَاشَرتْ بِقُدُومِهِ الأقْطَارُ عَبْدُ الحَلِيْمِ، وَجَدُّهُ سَعِدُوا به ... وأخوه عَبْدُالله والأبْرَارُ وَلِمثْلِ هذا سَارَعُوا أَهْلُ التقى ... فازوا بما فازتْ بهِ الأخْيَارُ الله يُكْرِمُهُ بأفْضَلِ رَحْمَةٍ ... في جنَّةٍ مِنْ تَحْتِها الأنْهَارُ أكْوابُها مَوْضُوعَةٌ، وقِبَابُها ... مَرْفُوعَةٌ حَفَّتْ بِهَا الأنْوارُ وكؤُوسُها قدْ أُدْهِقت، وقُصُورُها ... قدْ أشْرَقتْ مِنْ فَوْقِهَا الأسْتَارُ وصِحَافُها منْ فِضَّةٍ، ولِبَاسُهُم ... مِنْ سُنْدُسٍ، وطعامهم أطيارُ [ق 138] والحُورُ في تِلْك الخِيَام بِبَهْجَةٍ ... لَكنَّهُنَّ علَى المدَى أبْكَارُ عُرُبًا لأصحاب اليَمِينِ، فلَيتَنا ... مِنْهُم إذا صِرْنَا إلى ما صَارُوا وعَلَى الأرائِك يَنْظُرُونَ نَعِيمَهُمْ ... وعَلَيْهِمُ كأْسُ الرَّحِيْق تُدَارُ (2) _________ (1) (ك، ط): «بحرة». (2) (ف): «يدار».

(الكتاب/459)


ووجُوهُهُم مِثْلُ الصَّبَاحِ إذا بدا ... لِلنَّاظِرينَ، كأنَّهُمْ أقْمَارُ ويُمتَّعُونَ بِنَظْرَةٍ قُدْسِيَّةٍ ... مِنْ ربِّهِمْ، سُبْحَانَهُ الجَبَّارُ في عُمْرِ عِيسَى، والجَمَالُ كَيُوسُفٍ ... وَبِطُولِ آدَمَ، كُلُّهُم أبْرارُ ثُمَّ الصَّلاةُ على النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... فَهُوَ الرَّسُولُ المُصْطَفَى المُخْتَارُ هَادِي الوَرَى وإمَامُهم وشفِيعُهُم ... أنْصَارُهُ الأمْلاكُ والأنْصَارُ صلَّى عليه اللهُ ما اهتزَّ الثَّرى ... فرحًا، إذا ما جاءتِ الأمطارُ آخرها (1)، وهي أحدٌ وأربعون بيتًا (2). * * * * وله ــ أيضًا ــ عفا الله عنهما وأسكنهما جنَّته (3): عزَّ التَصَبُّرُ، والفِرَاقُ (4) رَمَاني ... بِسِهَامِهِ وترادفَت أحزْانِي أصْبَحْتُ مُكْتَئِبًا لِفَقْدِ أَحِبَّةٍ ... جُبِلَت جِبِلَّتُهُمْ على الإِحْسَان لا صَبْرَ لِي عَنْهُم، وكَيْفَ تَصَبُّرِي ... عَنْ سَادِةٍ رَحَلُوا مِنَ (5) الأوطان خَلَتِ الدِّيَارُ، فأصْبَحُوا في بَلْقَعٍ ... يَا وَحْشَتَاهُ لِفُرقَةِ الإِخْوَانِ (6) _________ (1) (ك، ط): «تمت». (2) «آخرها ... بيتا» ليست في (ف). (3) «وله ... جنته» ليس في (ف، ك)، وفي (ف، ك، ط): «مرثاة للشيخ قاسم بن عبدالرحمن المقري في الشيخ تقي الدين رضي الله عنه». (4) (ف، ك، ط): «الزمان». (5) (ف): «عن». (6) أشار في هامش الأصل أنَّ هذا البيت مقدمٌ على الذي قبله. بخلاف (ف، ك، ط).

(الكتاب/460)


إنْ أوْحَشُوا نَظَرِي، فقَلْبِي مَوْطِنٌ ... وَعِمارَةُ الأوْطَانِ بالسُّكَّان لَمَّا سَمِعْتُ بأنَّ أحْمَدَ قَدْ قَضَى ... نَحْبًا على التوحيدِ والإيْمَان وَلِقَاءِ رَبٍّ، لا مَرَدَّ لِحُكْمِهِ ... سُبْحَانَهُ مِنْ قَادِرٍ مَنَّان عَظُمَتْ مُصِيبَتُنا لِسَيِّدِ عَصْرِنَا ... في شَرْحِ سُنَّةِ (1) أحمدٍ بِبَيَان وَالعِلْمُ حازَ أُصُولَه وَفُرُوعَهُ ... وغرائِبَ التفسيرِ لِلْقُرْآن وَيُنَاظِرُ الفُقَهاءَ في أقوالِهمْ ... وَيُجِيبُهُم بالثَّبْتِ والتِّبْيَان غَلَبَ المُلُوكَ بثَبْتِهِ وَجَنَانِهِ ... وَشَجَاعَةٍ بَلَغَتْ إلى غازَان أفْدِيهِ مِنْ بَطَلٍ يُلاقي عُصْبةً ... منْهُمْ، بِلا عَوْنٍ، ولا أعْوَان مَنْ ذا يقُومُ مقَامَهُ في عصْرِنَا ... أوْ ما مضَى من (2) سَالِفِ الأزْمَان وَلَهُ الزَّهَادَةُ والعِبَادَةُ مَنْهَجٌ ... وَكَذَا يَكُونُ العَالِمُ الرَّبَّانِي سَارَتْ رَكَائِبُه إلَى دَارِ الجَزَا ... مُتَمَسِّكًا بموَاعِدِ الرَّحْمَن أوَمَا نَظَرْتَ إليه فَوْقَ سَرِيْرِهِ ... حَفَّتْ به الأنوارُ بالإمْكَان والنَّاسُ مِنْ حَولِ الجَنازَةِ أحْدَقُوا ... كُلٌّ يَجُودُ بِعَبْرَةِ الثَّكْلان وهمُ أُلُوفٌ لَيْسَ يُحْصِي جَمْعَهُم ... إلَّا إلهٌ عَمَّ بِالغُفْرَان نَزَلُوا بهِ كالبَدْرِ في إشْرَاقِهِ ... فَتَبَاشَرَتْ بقُدُومِهِ القَمَرَانِ (3) عبدُ الحَلِيْمِ أَبُوهُ سَيِّدُ عَصْرِهِ ... وَأَخُوهُ عَبْدُالله حَبْرٌ ثَانِ (4) _________ (1) (ف، ك، ط): «سيد». (2) (ك): «في» وأشار في هامشها إلى أنها «من». (3) الأصل: «العمران» خطأ. (4) في قصيدته السالفة قريب من هذا البيت.

(الكتاب/461)


والمَجْدُ حَاز المَجْدَ في عَصْرٍ مَضَى ... في الجَرْحِ والتَّعدِيلِ والبُرْهَان ولِمثْلِ هذا سارَعُوا أَهْلُ التُّقَى ... فَازُوا بِأَرْفَعِ رُتْبَةٍ وَأَمَان في جَنَّةٍ أنْوارُهَا قدْ أشْرقت ... وَقُطُوفُها لِلقاطِفِيْن (1) دَوَاني أكْوابُها مَوْضُوعَةٌ وَقِبَابُهَا ... مِن لؤلؤٍ مَرْفُوعةُ البُنْيَان والنُّورُ يَغْشَى أَهْلَهَا وَهُمُ عَلَى ... تِلْكَ الأسِرَّةِ في رضًى وَأَمَان وَلِبَاسُهُم مِنْ سُنْدُسٍ وخِيَامُهُم ... قَدْ أُلْبِسُوا مِنْ أَحْسَنِ التِّيْجَان [ق 139] ولأهلها مَا يَشْتَهُونَ وشُغْلُهُم ... باللهِ لا بالحُورِ والغِلْمَانِ (2) منهم تقيُّ الدين فازَ بزهده ... وبصبره في طاعة الرحمن ثم الصلاةُ على النبيِّ محمدٍ ... خيرِ الأنامِ ومَعْدَنِ (3) الإحسان هادٍ وأول شافعٍ ومشفَّعٍ ... وله الوسيلةُ مُظهر الإيمان ما حنَّ مشتاقٌ إلى وادي منى ... وتطوَّفوا بالبيت والأركان آخرها (4)، وهي أحدٌ وثلاثون بيتًا. * * * * _________ (1) (ف): «للطائعين»، (ك): «للطائفين». (2) (ف): «والولدان». (3) ضبطها في الأصل بفتح الدال وكسرها وكتب فوقها «معًا». (4) (ف، ك): «تمت والحمدلله رب العالمين، وعدتها أحد ... ».

(الكتاب/462)


ومنها للشيخ علاء الدين ابن غانم (1): أيُّ حَبْرٍ قضى وأيُّ إمَامٍ ... فُجِعَتْ فيه مِلَّةُ الإسلام ابنُ تيمية التقيّ إمام الْـ ... ـعَصْر (2) من كان شامةً في الشآم بحْرُ عِلْمٍ (3) قَدْ غَاضَ مِنْ بَعدِ ما فَا ... ضَ نَداهُ، وعَمَّ بالإِنْعَام زَاهِدٌ، عابدٌ، تنزَّه في دُنـ ... ـيَاهُ عَنْ [كُلِّ ما بِهَا] (4) من حُطَام كانَ كنْزًا لكُلِّ طَالبِ عِلمٍ ... وَلِمَنْ خَافَ أن يُرى في حَرَام ولِعَافٍ، قد جاء يشكُو مِنَ الفَقْـ ... ــرِ لَدَيْهِ يَنَالُ كلَّ مَرام حازَ علمًا فما له من مُساوٍ ... فِيْهِ، من عَالمٍ، ولا مِنْ مُسامي (5) لَمْ يَكُنْ في الدُّنا لَهُ مِنْ نَظِيرٍ ... في جميع العُلُومِ والأحكام (6) _________ (1) بدلًا منها في (ف، ك): «وللشيخ علاء الدين أبي الحسن علي بن محمد بن سليمان [ك: سلمان] بن حمائل بن غانم المقدسي رحمه الله في شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه». وفي ترتيب الأبيات في (ف، ك) اختلاف وزيادة عما في الأصل. وعلاء الدين ابن غانم هذا كان وجيهًا فاضلًا كثير القضاء لحوائج الناس، له يد طولى في النظم (ت 737). ترجمته في «أعيان العصر»: (3/ 496 ــ 502)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 103). (2) (ف): «وحيد الدهر». (3) (ف): «علمٍ وجود .. »، (ك): «جود وعلمٍ». (4) ما بينهما ساقط من الأصل. و (ف): «من كل .. ». (5) (ف): «نال علمًا». والأصل: «مما له ... ». (6) (ف، ك، ط): «في البرايا في الفضل والأحكام». وأشارا في الهامش إلى نسخة بما هو مثبت. وفي الأصول: «الدنيا» وأصلحتها ليستقيم الوزن.

(الكتاب/463)


كانَ في عِلْمِهِ وَحِيْدًا فَريدًا ... لم يَنَالُوا ما نَالَ في الأحْلام عَالِمٌ في زَمَانِهِ، فَاق بالعِلْـ ... ــم جَمِيعَ الأئمةِ الأعْلام كلُّ مَنْ في دمشق نَاحَ عليه ... بِبُكاءٍ، مِنْ شِدَّةِ الآلام فُجِعَ الناسُ فيه في الغَرْبِ والشَّرْ ... قِ، وَأَضْحَوا بالحُزْنِ (1) كالأَيْتَام لو يفيد الفِداءُ فادوه بالأر ... واحِ منهم من الرَّدَى والحِمَامِ (2) أوحدٌ، فيه قد أُصيبَ البرايا ... فيُعَزَّى فيهِ جَمِيعُ الأنَامِ (3) وعزيزٌ عليهم أن يروه ... غابَ بالرّغم في الثرى والرَّغام لا يُرى مثلُ (4) يومِه عندما سا ... رَ على النَّعْش نحو دار السَّلام حَمَلُوهُ على الرِّقَاب إلى القَبْـ ... ـرِ وَكَادُوا أنْ يَهْلِكُوا بالزِّحَام صَارَ جارَ الإلهِ، رَبّ السَمَوا ... تِ، الرحِيم، المُهَيْمِن، العَلَّامِ (5) _________ (1) (ف، ك، ط): «في الحزن». (2) في هامش الأصل: نسخة: لو يفيد الفداء بالروح كنا ... قد فديناه من هجوم الحمام وهذا البيت في (ف، ك) يأتي في آخر القصيدة. (3) صدره في (ف، ك): «كل من في الوجود فيه مصابٌ». (ك): «فيغرى به». (4) الأصل: «مثله»، (ف، ك): «ما يرى عند». ولعل الصواب ما أثبت. (5) بعده في (ف، ك): كان وقتَ الحروبِ بالطَّعن والضر ... ب سريعَ القدومِ والإقدام لا يهابُ الهولَ العظيمَ يقول الـ ... ـحقّ في نَقْضِه وفي الإبرام تابعٌ سنةَ الرسول، عليه ... من إله السماء أزكى سَلام قائمٌ في نصر الشريعة بالعلـ ... ـــم، وبالفضل منه كلَّ قيام = = كم بنور العلم أخرج قومًا ... من ضلالٍ، ومن عظيم ظلام نالَ ما نالَ من شريف مقال ... بعلومٍ شتَّى، وعُظم مقام طبّق الأرض بالفتاوى اللواتي ... هي منقذات الورى من الآثام حسدوه إذ ماله من نظيرٍ ... من بني دَهْره الكبار الكرام خصّه بالكمال من كلّ علمٍ ... ربُّنا ذو الجلال والإكرام لو يفدَّى بالروح كنّا جميعًا ... قد فديناه من هجوم الحِمام ورضي عنه ربُّنا وترضَّا ... هـ، وملَّاه بالنعيم النَّامي

(الكتاب/464)


قدَّس الله رُوحَهُ وسَقَى قَبْـ ... ـرًا حَوَاهُ بهاطِلاتُ الغَمَامِ (1) فَلَقَدْ كَانَ نَادِرًا في بَنِي الدَّهْـ ... ـرِ، وَحُسْنًا في أوْجه الأيَّامِ (2) * * * * ومنها للقاضي الإمام زين الدين أبي حفص عُمَر بن المظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس بن علي بن الوردي المغربي الشافعي النحوي ــ رحمه الله ــ (3). قلوبُ الناس قاسيةٌ سِلاطُ ... وليس لها إلى العليا نشاطُ (4) _________ (1) (ف): «قبره من طلات». (2) الأصل: «الأنام» تحريف. وبعده في (ك): «تمت، والحمد لله رب العالمين وعدتها ثلاثون بيتًا». وبعدها في (ف، ك) قصيدة لرجل جندي بالديار المصرية، وهي طويلة، وستأتي هنا بعد عدة قصائد. (3) هذه الديباجة من الأصل، وفي كل من (ف، ك) اختلاف في صياغتها. وابن الوردي (ت 749). ترجمته في «أعيان العصر»: (3/ 677 ــ 706)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 195). (4) مكانه في (ف، ك): عثا في عرضه قوم سلاط ... لهم من نثر جوهره التقاط

(الكتاب/465)


أينشطُ قطّ بعد وفاة حَبْرٍ ... لنا من نَثْر جوهره التقاطُ (1) تقيُّ الدين ذو وَرَعٍ وعِلمٍ (2) ... خُروق المُعْضِلات به تُخاطُ توفي وهو محبوسٌ فريد (3) ... وليس له إلى الدُّنيا انبساطُ ولو حضروه حينَ قَضى لألْفَوا ... ملائكةَ النَّعيم به أحاطوا قضى نَحْبًا وليس له قرينٌ ... وليسَ يَلُفّ مُشبِهَهُ القِمَاطُ (4) [ق 140] فتًى في علمه أضحى فريدًا ... وحلُّ المُشْكلاتِ به يُناطُ (5) وكان يخاف إبليسٌ سَطَاه ... لوعظٍ (6) للقلوبِ هو السِّياطُ فيا لله ما قد ضَمَّ لَحْدٌ ... ويا لله ما غَطَّى البلاطُ (7) وحَبْس الدرِّ في الأصدافِ فَخْرٌ (8) ... وعندَ الشّيخ بالسَّجْن اغْتِباطُ (9) _________ (1) هذا البيت ليس في (ف، ك). (2) (ف، ك): «تقي الدين أحمد خير حبر». (3) (ف، ك): «وهو مسجون ... »، وفي الأصل: «فريدًا». (4) (ف، ك): «ولا لنظيره لُفّ القماط». (5) بعده في (ف، ك): وكان إلى التُّقى يدعو البرايا ... وينهى فِرْقةً فسقوا ولاطوا (6) (ف، ك): «بوعظٍ». (7) بعده في (ف، ك): ... همُ حسدوه لمّا لم ينالوا ... مناقبه فقد فسقوا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كُسالى ... ولكن في أذاه لهم نشاطُ (8) في الأصل: «بحرٌ» خطأ. (9) بعده في (ف، ك): بآل الهاشمي له اقتداءٌ ... فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا

(الكتاب/466)


بنو تيميَّةٍ كانوا فبانوا ... نجومُ العلمِ أدْرَكها انْهِبَاطُ ولكنْ يا ندامتنا عليه ... فشكُّ المُلْحِدين به يُماطُ (1) إمامٌ لا وِلايةَ قطُّ عانى (2) ... ولا وقفٌ عليه ولا رِباطُ ولا جارى الوَرَى في كَسْبِ مالٍ ... ولم يَشْغَلْه بالناسِ اخْتِلاطُ (3) ولولا أنهم سجنوه شرعًا ... لكانَ به لِقَدْرهمُ انْحِطاطُ (4) لقد خَفِيَت عليَّ هنا أمور ... فليس يليقُ لي فيها انْخِراطُ وعِنْدَ الله تجتمعُ البَرَايا ... جميعًا وانطوى هذا البِساطُ * * * * _________ (1) البيت في (ف، ك): ولكن يا ندامة حابِسِيه ... فشكُّ الشرك كان به يُماطُ وبعده مما ليس في الأصل: ويا فرح اليهود بما فعلتم ... فإن الضدّ يعجبه الخباط ألم يك فيكمُ رجلٌ رشيد ... يرى سَجْن الإمام فيُستشاط (2) (ف، ك): «كان يرجو». (3) (ف، ك): «ولا جاركمُ ... ولم يُعهد له بكم ... ». وبعد هذا البيت اختلفت الأبيات عما في الأصل في ألفاظها وأعدادها. (4) بل سجنوه ظلمًا وعدوانًا لمجرد رأي فقهي قال به قبله جماعات من العلماء، وقد تقدمت عدة كتب من أهل العلم في العراق وغيرها تبين أن سجن الشيخ لا مستند له من شرع أو عقل.

(الكتاب/467)


ومنها للشيخ الأديب مُجير الدين أبي العباس أحمد بن الحسن بن محمد البغدادي ثم الدمشقي الخيَّاط رحمه الله (1): خَشَعتْ لهيبةِ نَعْشكَ الأبصارُ ... لمَّا عليهِ تبدَّت الأنوارُ (2) وبه الملائكةُ الكرامُ تطوَّفتْ (3) ... زُمَرًا، وحَفَّت حَولَهُ الأبرارُ فكساهُ رَبُّ العرشِ نورًا ساطِعًا ... فكأنَّما غَشِيَ النَّهارَ نهارُ ولأمّةِ الإسلام حَولَ سَريرهِ ... سامٍ إلى ربِّ السماء جُؤارُ (4) ولهم دُموعٌ من خُشوعِ نفوسِهم ... وخُضوعِها (5) فوقَ الخُدودِ غِزارُ وسَرَوا به فوق الإران (6)، وتحتَه ... منهمْ يمينُ أنامل ويسارُ ولرحمةِ الرحمن ظِلٌّ سَجْسَجٌ (7) ... يغشاهُمُ، وسكينةٌ ووقارُ فَلَكَمْ عيونٍ مِنْ تَموُّج مائها ... حُزْنًا تأجَّجَ في الجوانِح نارُ _________ (1) (ف، ك): «من قصائد الشيخ مجير الدين أحمد بن الحسن بن محمد الخيّاط الجوخي الدمشقي، مرثية في الشيخ رحمه الله تعالى». والخياط توفي سنة (735)، وترجمته في «أعيان العصر»: (1/ 211)، و «الدرر الكامنة»: (1/ 122). وله ديوان شعر في عدة مجلدات. (2) البيت ليس في (ف). (3) (ف): «تطوقت». (4) الأصل: «خوار». (5) (ف، ك، ط): «ودموعها». (6) الإران: النّعْش. (7) هو المعتدل الذي لا حرّ فيه ولا قرّ.

(الكتاب/468)


كان (1) المماتُ زفافَ عُرسِ حياتِه ... وبه النفوسُ مع الدُّموع نِثَارُ إن كان عن (2) أهلٍ وجيرانٍ نأى ... فلهُ دنا من ذي الجلالِ جِوارُ أو كان عن دار الفناء رحِيلُهُ ... فلديه من (3) دارِ البقاء دِيارُ أو كان أُزْعِجَ عن ذُرَى (4) أوطانِهِ ... فله بِخُلدٍ في الجنان قرارُ ما كان إلا مُزْنَ عِلمٍ رُوِّضتْ ... منهُ بِصَيِّبِ قطرِهِ الأقطارُ كالغيثِ أقلعَ بعدَ سحٍّ غيمُه ... وتخلَّفت مِنْ بعده الآثارُ ما كان إلا طَودَ عِلْمٍ باذخٍ ... من دون وَزْن حصاته القنْطارُ (5) ما كان إلا بحرَ جُودٍ، كَفُّه ... تيَّارُهُ بنواله زخَّارُ ما كان إلا دِيمةً معروفُها (6) ... بِهباته لعفاته مِدْرارُ ما كان إلا البدرَ عندَ كمالِهِ ... وافاه مِنْ نقصِ التّمامِ سِرارُ ما كان إلا خيرَ أُمة أحمدٍ ... في العصرِ، لم تسمح به الأعصارُ حَبْرٌ، وبحرٌ، للمكارم والتُّقى ... والجودِ، والإحْسَانِ فيه بحارُ وَلَكَمْ لأحمدَ في المحامدِ رتبةً ... عن (7) طولِها تتقاصرُ الأفكارُ _________ (1) الأصل: «كأن». (2) (ف، ك، ط): «من». (3) (ف، ك، ط): «في». (4) (ف): «ذوي». (5) (ف): «طود حلم»، (ك): «من دونه»، الأصل و (ف): «دون رزن». (6) (ك، ط): «معروضها» وفي هامشها: لعله معروفها. (7) (ك، ط): «من». ووجه ضبط «رتبة» بالنصب كما في الأصل: أنه تمييز كم الخبرية؛ لأنه يجوز نصبه عند بني تميم إذا كان مفردًا.

(الكتاب/469)


وله الشعورُ بكلِّ علمٍ نافعٍ ... عقلًا ونقلًا، في الأنام شعارُ وله التزهّد، والتعبُّد، والتقى ... ما بين أرباب الدُّثور دِثارُ [ق 141] وله إذا فَخَر الفَخَور بزينة الد ... نيا بتشعيث (1) الحياة فَخارُ ولأشرف الأشياء علمٌ نافعٌ ... لا دِرْهَمٌ يُقْنى (2)، ولا دِينارُ إن أظْلَمت سُبلُ النُّهى لِسُكونه ... فلِذِكْره في الخافِقَين منارُ ولقد علا الإسلامَ جَلُّ مُصابِه ... لكنها لا تُدْفَعُ الأقدارُ لو كانَ في الدنيا يدومُ مُخلَّدًا ... بَشَرٌ، لخُلِّد أحمدُ المُخْتارُ ولكُلِّ حيٍّ خَلْع ثوبِ حياتِهِ ... علمًا بأنْ ثوبُ الحياةِ مُعارُ فيمَ (3) النَّجاةُ؟ وكلُّ حَيٍّ ميِّتٌ ... إلّا الإلهُ الواحِدُ القهَّارُ ولقد أَسِفْتُ على فراقي أحمدا ... إذْ ليس لي قُضِيَت به الأوطارُ لو كان يُفْدَى هان عند فدائه الـ ... أموالُ، والأولاد، والأعمارُ قد كان مغناطيسَ أفئدةِ الوَرَى ... أُنْسًا، ولكنْ في القليلِ نِفارُ (4) ما كنتُ أحْسِبُ أنَّ يومَ وفاتِه ... يَبْدو المَصونُ وتُهْتَك الأستارُ بَكَرَ النِّساءُ (5) من السُّتور ثواكلًا ... ومن الخدور النُّهَّدُ الأبكارُ والناسُ أمثالُ الجرادِ، لهم على الـ ... ـتَّابُوتِ منهُ تهافتٌ ودُوارُ _________ (1) (ف، ك، ط): «بتشعيب». (2) (ك، ط): «يغني»، (ف): «يفنى». (3) (ف): «فبما». (4) في هامش الأصل إشارة إلى نسخة: «وفيما قل عنه نفارُ». (5) ضبطها في الأصل: «بِكر النساءِ».

(الكتاب/470)


فكأنّه يعسوبُ نَحْلٍ نحوه ... حيًّا وميتًا للنُّفوس نظارُ (1) مَلأتْ مَحاسنُه البلادَ، ونوَّهت ... بحديثِ مُعْجزِ فَضْلِه الأمصارُ وجرى بأفواه الأنام ثناؤه ... فالأرضُ روضةُ ذِكْره المِعْطارُ يَفنَى الزَّمانُ ويَنْقضي وبأحمدٍ ... وحديثِه تتحدَّثُ السُّمَّار فأحلَّه الرحمنُ دارَ أمانِهِ ... ليزولَ من خوفٍ عليه حِذَارُ وحباه ظلًّا ضافيًا (2) في جَنةٍ ... فيحاءَ، تَجْري تحتَها الأنهارُ * * * * وله أيضًا عفا الله عنهما برحمته (3): لِمُصابِ البرِّ التَّقيِّ الإمام ... كُلُّ دَمْعٍ من الورى في انْسِجام والبَواكي لهم عليه نُواحٌ ... كفقيداتِ صادِحاتِ الحَمام مات يوم الاثنين، والسِّرُّ فيه ... غيرُ خافٍ على ذوي الأفهام مَوتةً عَظَّم المُهيمِنُ فيها ... قَدْرَهُ في عُموم جمعِ الأنام حفَّه الناسُ أجمعون رجالًا ... ونساءً، سَعْيًا على الأقدام ومشوا تحت نَعْشِه، وهو مِنْ فَوْ ... قِ رُؤوسِ الأعيان والحُكَّامِ (4) _________ (1) (ف، ك، ط): «مطار». (2) الأصل: «صافيًا»، و (ف): «طلا ضافيًّا». (3) (ف، ك، ط): «تمت وهي ثلاثة وأربعون بيتًا. وله أيضًا يرثي شيخ الإسلام رضي الله عنه». (4) (ف، ك): «والأحكام»، وفي هامش (ك): «لعله الحكام» وهو الصواب.

(الكتاب/471)


يُسْبِلون الدُّموع من خشية اللـ ... ـه، وحُزنًا كمُسْبلات الغمام وضجيجُ العباد سرًّا وجَهْرًا ... كدَويٍّ في سامقِ الجوِّ سام يَا لَهُ مكْفهِرَّ يومٍ عبوسٍ ... عاث في غارِبِ السُّهى (1) والسَّنام كم بِهِ عاينَ الهلاكَ قَويٌّ ... ذُو نشاطٍ لِفَرْطِ كَظِّ الزِّحام يا لها مِن رَزِيَّةٍ كان فيها ... يومُ بؤسٍ في طُولِه فوق عام جلَّ فيه المُصابُ، حتَّى لقد ... دَقَّ تعبيرُه (2) على الأوهام كان شيخَ الإسلام في العلمِ والزُّهـ ... ـد وحلَّال (3) مُشْكلاتِ الكلام فقد الناسُ منهُ حبرًا (4) عليمًا ... هدْيُهُ كالأئمةِ الأعلام مِنهُ حُبُّ الكتاب والسنة المُثْـ ... ـلَى، جرى في عُرُوقِهِ والعِظام بلغَ الأوجَ من سماءِ المعالي ... وتسامَى عِلمًا على كُلِّ سامي وطَوى ذِكْرُه البلادَ انتشارًا ... فهو حتَّى المعادِ في الناس نامي [ق 142] كان جبرَ الكسير (5) إن هاضه الدَّهـ ـرُ، وعونَ العاني، وحَطْمَ الحُطَام كان حُبُّ الدنيا إليه بغيضًا ... فوق [بُغْضِ] الصَّحيحِ ثوبَ السَّقام _________ (1) الأصل و (ف): «النُّهى». (2) (ف، ك): «تعثيره». (3) (ك، ط): «وحل». (4) (ف، ك، ط): «بحرًا». (5) (ف): «الكسر».

(الكتاب/472)


كان لا يَرْهَب الملوكَ ولا يرْ ... غَبُ فيما لهم من الإنعام كان وِترًا في الفضل فذًّا (1)، وكلُّ النـ ... ـاس جاءوا بشَفْعِهم والتُّؤام كان سَمْحًا، بمثله الدَّهرُ كزٌّ (2) ... في ليالي الزّمان والأيّام كان سطرًا في جَبْهة الدَّهْرِ يُقرا ... في البرايا، وشامةً في الشآم كان نَفْعًا لكلِّ من خاف ضُرًّا ... في سبيلي حلاله والحرام لم يَكُن ذا تأنُّقٍ في متاعٍ ... ولِباسٍ، ومَشْرب، وطعام كان يَخشْى داءً، ويرجُو (3) دواءً ... وشفاءً لكُلِّ داءٍ عُقامٍ كان في الله ذا انتقامٍ ولا يُو ... جدُ يومًا لنفسه ذا انتقام كان نُورًا (4) يُهْدَى به ذو ضلالٍ ... كان بحرًا، يُرْوى به كُلُّ ظام كان كاللّيثِ بالنوائب (5) فتكًا ... كان كالغيثِ بالمواهبِ هام في يديه وصدرِهِ كلُّ بحرٍ ... زاخِرٍ بالنَّوالِ والعلمِ طام أيُّ نَدْبٍ، شَهْمٍ، شُجاعٍ، جوادٍ ... أروعٍ (6)، ماجدٍ، سريٍّ، هُمام قام لمّا تَذْبذبَ النَّاسُ بالذّبْـ ... ـبِ عليهم لما نبا كلُّ حامِ (7) _________ (1) (ف): «قد». (2) (ك): «كثرا»، و (ط): «ضنًّا». (3) الأصل و (ف): «ويرجى». (4) (ف، ك، ط): «برًّا». (5) (ف): «بالنواب». (6) (ك): «أورع». (7) «بالذب» ليست في (ف، ك، ط).

(الكتاب/473)


كم له في حَنادس الخَطْبِ والنا ... سُ نِيَامٌ حتى الضُّحى مِنْ قيامِ (1) وجميعُ الأنامِ من شدَّة الخو ... فِ نِيَامٌ من الرَّدَى في منام وبنو فارسٍ قد افترسوا النا ... سَ افتراسَ الأسودِ سَرْح السَّوام ودمشقُ الشآمِ بَعدَ انبساطٍ ... من ضواحي رُسْتاقها في انْضِمام إذ غزانا عِلْجُ العلوج غَزَانٌ ... وغَزانا من فارسٍ بالطَّغَام فأعادَ العزيزَ مِنَّا ذليلًا ... ذا صَغَار، ينقادُ كالأنعام فنضاهُ الجبَّارُ، جلَّ ثناهُ ... في وُجوه العِدى كحدِّ الحُسام فحمانا (2) بالله من كلِّ طاغٍ ... لا برمحٍ، وصارمٍ، وسِهام يا لهُ حينَ فرَّ كلُّ كَمِيٍّ ... مِنْ حُماة الإسلام عنَّا: مُحامي يا ابن تيميَّةٍ، عليك خصوصًا ... وعمومًا تحيَّتي وسلامي يا سليلَ العُلا، عليك القوافي ... قد بكت في الطُّروسِ بالأقلام يا فقيدَ المثال علمًا وحلمًا ... وقريبَ المَرْمَى، بعيدَ المَرام يا بطيء الإحْجامِ إن عزَّ خَطْبٌ ... وسريعَ القيام والإقدام يا محلًّى وكاسيًا (3) كلَّ فضلٍ ... ومُعَرًّى من كلِّ عارٍ وذام يا سَريعَ الإقْدامِ إن عنَّ خَطْبٌ ... وكثيرَ القيام جُنْحَ الظَّلامِ (4) _________ (1) (ف، ك): «والخلق نيام .. ». (2) الأصل: «فجاءنا». (3) الأصل: «محلًا كاسيًا». (4) البيت من الأصل فقط.

(الكتاب/474)


كُفَّ طَرْفي إن لذَّ مِنْ بعد مَرْآ ... ك لأجفانه لذيذُ المنام وبودِّي ــ بفقد (1) شخصك ــ لو حا ... م على أيْكتي حَمامُ حِمامي ولعمري، يا من له في فؤادي ... لحْدُ ذكرٍ، دوامُه بدوامي إن حللتَ الثَّرى فروحُك حلَّتْ ... يا ابنَ عبدِالسَّلام، دارَ السّلام فسقى تربةً حَواك ثراهَا ... كُلُّ مُزْنٍ بوابِلِ وَرِهام وإذا شحّت (2) السّواري بسحٍّ ... والغوادي جُدْناكَ بالدمعِ دامي * * * * وله عفا الله عنهما (3): بمصرعك الناعي أصمَّ وأسْمعا ... وصُمَّ الصَّفا مِنْ صَدْمةِ الحُزْن صدَّعا [ق 143] فكم مُقلةٍ جفَّت جمودًا من الأسى وكم مُهجةٍ سالت من الدمع أدْمُعا وكم ثاكلٍ بالنَّوح والنَّدْب رجَّعتْ ... وكم فاضلٍ بالنَّظم والنَّثْر سَجَّعا ولم يبقَ ذُو علمٍ وزهدٍ من الورى ... لفقدِك إلّا كاسفَ البال موجَعا تنكَّرت الدُّنيا على كلِّ عارفٍ ... رأى منك مأهولَ المنازِل بَلْقعا _________ (1) (ف، ك): «ويودي لفقد». (2) بقية النسخ: «سحت». (3) (ف، ك): «للشيخ مجير [ف: محيي ــ تحريف] الدين أحمد بن الحسن الخياط الجوخي الدمشقي، يرثي بها شيخ الإسلام ... ». و (ب): «ومنها للشيخ مجير الدين الخياط».

(الكتاب/475)


جعلتُ لمن أخلى مَصيفًا ومَرْبعًا ... فُؤادي وأجفاني مَصيفًا (1) ومربعا فيا أحمدَ المحمودُ، قد كُنْتَ للهدى ... منارًا، وللشَّرْع الحنيفيِّ مَشْرعا وللدِّين والدُّنيا ضياءً وبَهْجةً ... إذا لاحَ وجهُ الخطْبِ أسْودَ أسْفَعا (2) رُمِينا بِرُزْءٍ منك، لم تَسْتَطِع له ... برأيٍ شديد الأيْد والكيْدِ مَدْفعا رحَلْتَ عن الأوطان رِحْلةَ نازحٍ ... إليهنَّ لم تُزْمِع مَدى الدَّهر مَرْجِعا لقد كنتَ عن شرٍّ بطيئًا ووانيًا ... وفي طلب الخيراتِ عجلانَ مُسْرِعا وللحِلْم طَودًا راسخًا باذِخَ الذُّرَى ... وللجُود والإحسان والعلم مَنْبعا (3) ورُكنًا لدين الله حين تهدَّمتْ ... قواعِدُه منه وهًى وتَضَعْضُعا ورَوضَ عُلوم ناضرًا عاد مُمْعِرًا ... وصوَّح منه كلُّ ما كان مُمْرِعا (4) ومَجْمَع (5) شَمْلٍ شتَّت الشملَ فقدُهُ ... وأنواعُ أشتات النوائب جَمَّعا وحبرًا حوى حَيزُومُه (6) وبنانُه ... بِحارَ النَّدى والجود والعلمِ أجْمعا سرى ذكرُه في الأرض شَرْقًا ومغربًا ... سُرى نَشْر عَرْفِ المَنْدَل الرَّطْبِ ضوَّعا _________ (1) (ك): «مضيقًا». (2) (ف): «أسعفا». (3) (ب): «مشبعا». (4) (ف، ك): «وروض علم»، (ب): «عاد ممرعا»، (ف): «معمرا». المكان الأمعر: القليل النبات. والممرع: الخصيب. (5) (ب): «ومجموع». (6) الأصل: «حيزمه».

(الكتاب/476)


وجازتْ مَساعِيه الكواكبَ عِدّةً ... مع القَطْر إذْ فاتت رمالًا ويرمَعا (1) فيا حُكمه (2) ما كان في القلب أوجعا ... ويا يومَه، ما كان في العين أفْظعا ويا لك من خَطْبٍ جليلٍ وحادِثٍ ... عَدِمْنَا به الشَّهْمَ الجوادَ السّمَيدْعا ومن يوم بؤسٍ عابسِ الوجهِ كالحٍ ... سبانا إمامًا (3)، يؤمن الرَّوْعَ أرْوَعا مُطيعًا لربِّ العَرْش لم يَعْصِ أمرَه ... ومنه له في العَصْر لم نر أطْوعا مُنيبًا إليه قائمًا بِحُدوده ... إلى حين ولّى، مُذْ نَشا وتَرَعْرعا هِزَبرٌ ومِقْدامٌ على الهول لم يَهَبْ ... مليكًا بِمَنْع المُنكرات ممنَّعا (4) شجاعُ جِلادٍ (5) في جدال بُحُوثه ... يعيدُ جَبانًا كلَّ من كان أشْجَعا يصولُ بسيفِ العلم في مَعْرك النُّهى ... وأرْماحُ شَرْع الجهل أقْبَلنَ شُرَّعا وفي عَصْره كم من إزالة بدعةٍ ... ومُنْكرِ (6) فِعْلٍ قد أجاد وأبْدعا وما كان إلا الشمسَ في ليل باطلٍ ... يُرينا بنورٍ منه للحقِّ مَطْلعا فكم من ظلام الظُّلم زَحْزَح غَيهبًا ... بساطع نور العَدْل من حين شَعْشَعا وكم من كراماتٍ له ومناقبٍ ... يضيقُ بها وُسْعُ الزَّمان توسُّعًا _________ (1) الأصل: «حازت». واليرمع: حجارة بيض تلمع. «اللسان». (2) (ف، ك): «حلمه»، (ط): «موته». (3) (ف، ك، ط): «همامًا». (4) (ف، ك): «على الهـ ... لمنع». وفي (ط): «هِزبرًا ومقدامًا على العرف كله ... مليكا لمنع .................. ». (5) (ك): «جلال». (6) (ب): «إزالة منكر».

(الكتاب/477)


وكم من طريقٍ في المباحث مُبهمٍ ... بإيضاحه أضحى لساريه (1) مَهْيعا وكم سامه النُّقصانَ والخَفْضَ حاسدٌ ... وخُصَّ كمالًا زائدًا وترفُّعا تولَّى عن الدنيا حميدًا ولم يكُنْ ... لزخرفها المَذْمومِ يُبدي تطلُّعا وعاش إلى أن مات لم يُعْطِ نفسَه ... بتأميل ما في دار دُنياه مَطْمَعا إمامٌ عليمٌ خاشعٌ متواضعٌ ... لِهَيْبَتِهِ تُغضي النواظرُ خُشَّعا سحابُ علوم روَّض الأرضَ فضلُه ... وألبَسَها بُرْدَ البيان الموسَّعا ونضَّر منها بالفضائل أوجُهًا ... وتَوَّجها تاجَ المعالي المُرَصَّعا وخلَّفها من بعد صيِّب صوبه ... عليها رياضًا للعقول وأقلعا كذا المُزْن، أنَّى جاد (2) بالوابل الثرى ... وروَّى صداها حُقَّ أن يتقَشَّعا [ق 144] فلله مفقودٌ فقدناه نافعٌ ... لنا منه ــ غير الله ــ لم نَرَ أنفعا شُغِفْنَا به في الله حُبًّا، فلم نَدَعْ ... هواه لغير الله في القلب مَوْضعا عليك أبا العباس أحمدَ لم يزل ... فؤادي بتَذْكارِ الفِراق (3) مُرَوَّعا إلى أن يُريني الله وَجْهك سافرًا ... بنَضرته يومَ المعادِ مُبْرقعا (4) * * * * _________ (1) (ب): «لباريه». (2) (ف): «إن جارت». (3) (ف، ك، ط): «الفؤاد». (4) بعده في (ف، ك): «تمت. وهي ثلاثة وأربعون بيتًا».

(الكتاب/478)


(1) ومنها للشيخ الإمام صفيّ الدين عبد المؤمن بن عبد الحق، مُدرِّس البشيرية ببغداد رحمه الله (2): طِبْتَ مثوًى يا خاتم العلماء ... في مقام الزُّلفى مع الأتقياء أولياء الرحمن والسَّادة الغُرْ ... رِ الهُداة الأئمة الصُلحاء ويح للموت كم طوى بك من عِلْـ ... مٍ غزيرٍ وفِطْنةٍ وذكاء وبيان يشفي القلوبَ من الغَيْـ ... ـيِ ويجلو عنها صدى الغمّاء (3) أين تلك العلوم والمنطق الصا ... ئب عند السؤال والإفتاء أين ذاك الخُلُق الجميل وحُسْن الـ ... ـبِشْر للزائرين عند اللِّقاء رَمِدَت مُقلةُ الفضائل مُذْمِتْـ ... ـتَ وقرَّت عيونُ أهلِ الشَّقاء حينَ لا عالمٌ يردُّ الذي قا ... لوا وما نمَّقوه للإغواءِ (4) من ضلالات أهل فلسفة اليو ... نان والإِعتزال والإرجاء (5) _________ (1) في (ب) سقط من هنا إلى ص 478. (2) بدلًا من هذه العبارة في (ف، ك): «للشيخ الإمام المحدّث الفاضل الأديب البارع صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق مدرّس البشيرية ببغداد، البغدادي الحنبلي يقول: قال العبد الفقير عبد المؤمن بن عبد الحق بلغه وفاة الشيخ الإمام العالم بقية العلماء المجتهدين تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني رحمه الله ورضي عنه وبوَّأه الجنة بمنه وكرمه آمين». وتقدمت مصادر ترجمته (ص 420). (3) الأصل: «العماء». (4) الأصل: «علمَ» والمثبت من (ف، ك)، (ف): «نمقوا». (5) (ك): «من ضلال»، و «أهل» سقطت من (ف).

(الكتاب/479)


وذوي الرَّفض من يدينون بالطّعْـ ... ـن على الصالحين والإزراء مَنْ يحلّ الشكوكَ بعدك والمَرْ ... دود مِنْ شبهةٍ وقولٍ هُراءِ (1) مَنْ لتبيين مُشكلٍ (2) قَصُرت عنـ ... ـه عقولٌ لِمَا به مِنْ خفاء مَنْ لقَمْع (3) الخصم المجادل في الدّيـ ... ـن عنادًا مِنْ ملَّةٍ عَوجاء مَنْ ترى للغريب بعدك يلقا ... هُ بوجهٍ طَلْقٍ وفضلِ حِباء (4) ضاع من بعدِك الغريبُ فما يلْـ ... ـقى مُعينًا له على اللأواءِ (5) أيما عالمٍ نعاه لنا النا ... عي وحبرٍ قد صِين في الغَبْراء أيُّ حبرٍ قد غيَّضته المنايا ... في رَجَا حُفرةٍ من الأَرْجاءِ (6) أعلمُ الناسِ كُلِّهم بكتاب اللْـ ... لَهِ جلّ اسمُه بغير مِراء بمعانيه والعلومِ التي فيـ ... ـه وأدرى بالسُّنة الغرَّاء مِنْ أحاديث سيد الرُّسل يرويـ ... ـه كِبَارُ الأئمَةِ النُّبلاء مِنْ صحيحٍ ومِنْ سقيم وأخْبا ... رِ الرواةِ الثِّقَاتِ والضُّعفاء وبآثارِ صَحْبِه وفتاوي ... مَنْ أتى بعْدَهم مِن العلماء _________ (1) (ف، ك): «من لحل ... وقول هذاء». (2) (ف): «شكل». (3) (ف): «قمع». (4) (ك): «حياء». (5) الأصل: «اللواء» خطأ. (6) (ف): «بحر قد ... المنايا رجا». وفي الأصل و (ك): «في رحا».

(الكتاب/480)


وبإجماعهم وما اختلفوا فيـ ... ـه من الحُكمِ سادةُ الفقهاء حاله إن نظرْتَ فيها تجِدْها (1) ... مثلَ أحوالِ سادةِ الأولياء قانعُ النفس بالدَّنيِّ من العيـ ... ـش غنيًّا يُعَدّ في الفقراء مُؤثرًا بالذي لديه لِعافيـ ... ـهِ (2) على نفسه بغير رياء وَرَعٌ ظاهرٌ (3) ونُسكٌ وإخْبا ... تٌ وشكرٌ في شدَّةٍ ورخاء والتُّقى والعفافُ والزُّهد في الدنْـ ... يا حُلاهُ والصَّبرُ عند البلاء لم يزل جاهدًا يُجاهدُ للـ ... ـه قَبِيلَ الضلال والأهواءِ (4) بجَنانٍ ثَبْتٍ وجأشٍ قويٍّ ... وفؤادٍ رأسٍ لدى الهيجاءِ (5) يَزَعُ الخصمَ بالجواب عن الشكْـ ... ـكِ ويُدلي بالحجَّة البيضاء [ق 145] صابرًا نفسَه إلى أن قضى اللـ ... ـه بما قد قضى على الأنبياء ولقد أضمروا له السوءَ قومٌ ... للذي حُمِّلوا من البغضاء حسدًا منهم لما خصَّه اللـ ... ـه به من ملابس الفضلاء فاستحلّوا منه الذي حرّمَ اللـ ... ـه لِمَا أضْمروا من الشَّحْناء حرَّفوا قولَه كما حرَّف القو ... مُ نصوصَ القرآن للإغواء _________ (1) (ك): «فيه»، (ط): «فيه تجد». (2) الأصل: «لعاقبه». وعافيه: طالبه. (3) (ف، ك): «طاهر». (4) «يزل» سقط من (ف)، (ف، ك): «يجاهد في الله». (5) (ف، ك): «وفؤاد رأس لذي ... ».

(الكتاب/481)


ورموه (1) بكلِّ قولٍ شنيعٍ ... بيّن الكِذْب ظاهر الافتراء عَجَزوا عنه مرَّة بعد أُخرى ... فاستعانوا عليه بالإغراءِ (2) هل يُباري العَضْبَ الصقيلَ كَهَامٌ ... صَدِئٌ في صرامة (3) ومضاء أم يجاري (4) الحميرُ في حَلْبة السّبْـ ... ـق جوادًا مُضمَّر الأحشاء لم ينالوا منه الذي أمَّلُوهُ ... بل رمى الله جَمْعَهم بالفناء يا تقيَّ الدين الذي صدقت فيـ ... ـه وحَقَّت مخايل الآباءِ (5) عند تَلْقيبه كذلك قد كُنْـ ... ـتَ وسُمِّيت أحسنَ الأسماء يا ابن تيميَّة لقد (6) فزت في الدُّنـ ... ـيا بذكرٍ باقٍ وحُسنِ ثناء وكذا أنتَ ــ يعلم (7) الله ــ في الأُخْـ ... ـرى مع الصالحين والشُّهداء بُوّئتْ رُوحُك الشريفةُ في الجَنْـ ... ـنَة أعلى منازل السُّعداءِ (8) وسَقَى قَبْرَك الرِّضى وأتاك الرْ ... رَوْحُ في كل (9) بُكرةٍ وعشاء _________ (1) الأصل: «رموه». (2) (ك): «بإغراء». (3) (ط): «ضرابه». (4) (ف، ك): «تجاري». (5) (ف): «وحققت مخائل»، الأصل: «نجائل». (6) (ف): «قد». (7) (ف): «بعلم». (8) (ف): «الشهداء». (9) «كل» سقطت من الأصل.

(الكتاب/482)


وتوالَت عليك من نِعَم اللـ ... ـه ورضوانه صُنوفُ العطاء آخرها، وهي (1) ثمانيةٌ وأربعون بيتًا. * * * * (2) ومنها للشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن عبدالكريم بن عبدالصمد بن أنوشروان التبريزي الأصل، الحنفي، المعروف بابن الكرشب (3) رحمه الله تعالى: عمَّ المصابُ فلا تبكوا بغير دمِ ... على ابن تيميَّةٍ ذي العِلْم والحِكَم حبر البريَّة ولّى وهو في دَعَةٍ ... فكلُّ جَفْنٍ عليه لا يفيضُ (4) عَمِي عارٌ على جَفْن عينٍ عاينته وقد ... أبانه البَيْنُ تلفى غَيرَ منسجم لو أن كلَّ تقيٍّ في الإنام فدى ... نفسَ الإمام تقيّ الدين لم يُلَم إذا تذكَّره من كان يألَفُه ... يهزّه الشوقُ من فَرْق إلى قَدَم ويستغيث لسَهْمٍ قد أُصيب به ... وأيُّ سهم به هذا المصابُ رُمي يا ثُلمةً ثُلِمَت في الدّين واتسعت ... ولست حتى اللقا والحشر تلتئمي _________ (1) (ف، ك): «وعدتها». (2) هذه القصيدة من الأصل فقط. وهي في «الكواكب الدرية» (ص 206 ــ 207) لكنها ثلاثة عشر بيتًا فقط، مع زيادة بيت ليس في الأصل. والناظم توفي سنة (735). ترجمته في «الدرر الكامنة»: (1/ 177)، و «الشذرات»: (6/ 111)، و «الطبقات السنية»: (1/ 385) للتميمي. (3) كذا في الأصل. ووقع في «الدرر»: «المكوشة» وفي هامشها: في نسخة: «بابن الكوشت». وفي «الطبقات»: «المكوشت» وفي «الشذرات»: «عُرف: بكرشت». (4) «الكواكب»: «فلا يبكي عليه».

(الكتاب/483)


هيهات هل تسمح الدّنيا بمثل فتى ... تيميّةٍ أو يُرى في عالَمِ الحُلُم فقل لنفسٍ لبان اللُّطْف أرضعها: ... يا نفسُ قد مات ظِئرُ اللُّطْف فانفطمي قد كان عند ذوي التقوى الإمام تقيـ ... ـي الدين أحمد معدودًا من النّعم لكنَّ مَصْرَعه والله يرحمه ... على محبِّيه محسوبٌ من النِّقم كانت به تَفْخَر الدنيا وقد بقيت ... به تُفاخِر أجداثٌ ذوو رِمَم كانت مواعِظُه للزائغين عن الْـ ... ـحَقِّ السقيمين يشفيهم من السَّقَم والعلم والحلم والتقوى بهنَّ غدا ... في الناس أَشْهَر من نارٍ على علم والزهد في زخرفِ الدنيا وزينتها ... من وصفه كان مضمومًا إلى الكرم إلى فضائله العميانُ قد نَظَرت ... حقًّا وأصغى إليها كلُّ ذي صَمَم مولًى على حُبِّه الأرواحُ قد جُبِلَت ... ولستُ في هذه (1) الدعوى بمتَّهم [ق 146] ما ذاك إلا لما قد كان خَصَّصه ... به الإله من الأخلاق والشِّيَم ونورُ ربِّك لا يُطْفَى ولو حَرَص الـ ... ـحريص [يومًا] ومالا كلّ مؤتَثِم مَنْ للمسائل قد أعْيَت فيوضحها ... وضُوحَ بَرْقٍ لَموعٍ لاحَ في الظُّلَمِ (2) ما إن رأى الناس أبهى من جنازته ... لما استقلَّت على الأعناق والقِمَم وحولَه وهو يُجْلَى كالعروس على ... سريره أممٌ ناهيك من أُمَم يضَّرَّعون إلى ربّ العباد به ... لِمَا به اختصَّه مولاه في القِدَم _________ (1) «الكواكب»: «في القول». (2) في «الكواكب» بيت ليس في الأصل وهو: كالبحر يزخر إن بثّ العلومَ وكالسْـ ... ـسَيل الذي مدَّهُ (الوسميُّ) بالدِّيَم

(الكتاب/484)


بكى عليه مصلَّاه ومنبره ... وفي الخدور بكته أعْين الحُرُم والأرضُ تبكي عليه والسماءُ كذا ... قد جاء عن سيِّد الأعَرابِ والعَجَم لأنَّه العالم الحبر الذي أبدًا ... تُتلى مناقبه جهرًا بكلِّ فم هذا هو المجد حُقَّ الافتخارُ به ... لا بالتكاثر بالأموال والحَشَم يا جنّةَ الخُلْدِ وافيهِ مُزَخرفةً ... وأنتِ يا نار أشواق الورى اضطرمي ويا شموس العُلى غيبي لغيبته ... ويا مباني المعالي بَعْدَه انهدمي قد صار دَرْسيَ ذكراه أكرِّره ... وصِرْتُ فيه مُعيدَ الدَّرس للفهم ولي على ذاك معلومٌ أعيشُ به ... أنْ قد جُعِلت له من جملةِ الخَدَم فأعظمَ الله أجرَ الفاقدين له ... الواجدين ذوي الإخلاص كلّهم وأكرم الله مثواه وموضعه ... بوابلٍ من سحاب الجود والكرم والله يجمع في دار النعيم به ... قومًا يحبونه في الله ربِّهم تمت، وهي أربعة وثلاثون بيتًا. * * * * وله أيضًا (1): صبرًا جميلًا فالمصابُ كبير ... كادت جبال الأرض منه تمورُ وجسيمُ خَطْبٍ قد عَرى كلَّ الورى ... فُقِد الضياء وأظلمَ الدّيجورُ وانهدَّ ركنُ فضائل وفواضلٍ ... فعليهما ركنُ الأسى معمورُ وعلى تقيِّ الدين أحزانُ الورى ... لسحائب الدمع الغزير تُثيرُ _________ (1) هذه القصيدة أيضًا من الأصل فقط. وهي في «الكواكب الدرية» (ص 204 ــ 206) مع زيادة بيتين.

(الكتاب/485)


لولا ابتغاء الأجر لم يُحْمَد على ... صبرٍ على هذا المصاب صبورُ أفَلَت شموسُ المَكْرُمات وأظلم الشْـ ... ـشَام المنير وزال عنه النور نور الفتى التيميّ والقُطبِ الذي ... فلكُ العلوم عليه كان يدور حبرٌ به كان الزمانُ ومَنْ به ... يزهو ويُشرق في الدُّجى وينيرُ عَلَم التعبُّد والتزهُّد والتقى ... في سائر الدنيا له منشور ورسوخه في كلِّ علمٍ نافعٍ ... فحديثه بين الورى مشهور قد كان صدرًا في الصدور فمُذ نأى ... ضاقت على صَدْر الصدور صدور لا غَرْو أن فاضت عليه مدَامعٌ ... حرَّى وأن قُصِمت عليه ظهور تبكي السماءُ عليه والأرضُ التي ... لصفائها بفراقه تكدير وبكى مصلَّاه ومنبرُه ومو ... ضعُ دَرْسه والجامعُ المعمورُ وبكى الغمامُ لفقده وتفطَّرت ... عن أعْيُنٍ تجري عليه صُخور وكذاك ربَّاتُ الخُدور بكينَه ... وتهتَّكَت منها عليه سُتور نَشَرت له العَذَباتِ بانات اللوى ... عِوضَ الشعور وما لهنَّ شعور وعليه نُحْنَ على الأراك حمائمٌ ... يندُبْنَه أسَفًا وهنَّ طيور [ق 147] فالصَّبُّ إن صبَّ المدامع بعد من ... يهوى ومات فإنه معذورُ والناسُ في حزنٍ عليه وإنه ... عبدٌ بلقاءِ (1) ربِّه مسرور غار الإله عليه من أغياره ... فزواه عنهم والمحبُّ غيور فخلا به يتلو عليه كلامَه ... وله الحبيبُ مؤانسٌ وسمير حتَّى إذا اشتدَّ التشوُّق زَفَّه ... زفَّ العروسِ وذيلُها مجرور _________ (1) كذا، ولعلها: «بلُقيا» ليستقيم الوزن.

(الكتاب/486)


وشعارُ كلِّ مُشَيِّعٍ لسريره: ... التسبيحُ والتهليلُ والتكبيرُ (1) ولقد سَرَت لسريره (2) لما سرى ... سِيَرٌ لها حتى النشورِ نشورُ تفنى الليالي والزمانُ وذِكْرُهُ ... مُتجدِّدٌ بين الورى مذكورُ قد كان في الدنيا هلالًا لائحًا ... كلٌّ إليه بالبنان يُشيرُ وكذا جنازته تعالى الله لم ... يُنْظَر لها في العالمين نظيرُ ومن العجائب أنها نطقت على ... صمتٍ بما هو كامنٌ مستورُ إنَّ المشيِّع للجنازة لم يعد ... إلا وسائرُ ذَنْبه مغفورُ هذا هو الفضل المبين وهذه ... نِعَمٌ عليها ربُّنا مشكورُ لا أوحشَ الله الوجودَ من الذي ... أنِسَتْ به في الموحِشَاتِ قبورُ وإلى جِنانِ الله راحت روحُه ... يلقاه منها بَهْجةٌ وسرورُ طوبَى لميْتٍ جاور القبرَ الذي ... فيه فتى تيميَّةٍ مقبور بل فاز نُزَّالٌ ثووا بجنابِه ... إنَّ الكريمَ نزيلُه مَخْفورُ فينال حتى الحشرِ من بركاته ... وعليه ينزلُ رحمةٌ وحُبورُ يا ربِّ فاجمع بيننا في جنة الـ ... ـمأوى فأنتَ لِمَا تشاءُ قديرُ تمّت، وهي ستةٌ وثلاثون بيتًا (3). _________ (1) بعده بيتان في «الكواكب» وهي: ولقد سرى فوق الرقاب سريرُه ... فعجبتُ كيف الراسيات تسيرُ ما كنت أعلم قبل يوم وفاته ... أن البحار الزاخرات تغور (2) الأصل: «لسيره» والمثبت من «الكواكب». (3) بل سبعة وثلاثون.

(الكتاب/487)


وله أيضًا (1): لِفَقْد الفتى التَّيميِّ تَجْري المَدامعُ ... وتصدعُ بالنَّوح الحمامُ الصَّوادِعُ فتُغرِق أجفانًا يُقرِّحها البُكا ... وتَضْرِمُ نيرانًا حَوَتْها الأضالعُ (2) وبالماء يُطْفَى كلّ نارٍ، ونارُنا ... يُؤجِّجها بين الضلوعِ المَدَامع (3) وأمَّا الحَمام الصادِحاتُ فإنَّها ... حَمامُ حِمام للقلوب صوادعُ وحقُّ فتًى كانت جوامِعُهم له ... جوامعَ تبكي فقدَه والجوامعُ (4) على ماجدٍ جلَّت مآثره الّتي ... لها في قلوب العارفين مواقعُ علومٌ وأخلاقٌ كرامٌ وسُؤدَدٌ ... وجودٌ ومجدٌ باذخٌ وتواضعُ وزهدٌ، وإيثارٌ، وتقوى، وعِفّةٌ ... وتلك سجايا حازها وهو يافعُ هو الحَبْرُ، أمَّا المشكلاتُ فحلُّها ... يسيرٌ لديه، وهو في الحلِّ بارعُ وأمَّا عُقودُ الدِّين فهي وثيقةٌ ... لديه، وعنها بالعوالي يُقارِعُ (5) إمامٌ، بَكَتْه أرضُه وسماؤه ... بُكاء حزينٍ، حُزْنهُ مُتتابع _________ (1) مكانها في (ف، ك): «مرثية للشيخ برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبدالكريم التبريزي، يرثي شيخ الإسلام، وهي .... ». ولم أقف على ترجمة إبراهيم المذكور، وتقدمت ترجمة والده (ص 483). (2) (ف، ك، ط): «فتغرق جفنًا قد تقرّح بالبكا ... وتُضرمُ ... ». (3) (ف، ك، ط): «مؤججها بين ... ». (4) هذا البيت سيأتي في (ف، ك) بعد أبيات. ولفظه: وحُق لمن كانت جوامعهم له ... جوامع، يبكوا فقده والجوامع (5) (ف، ك، ط): «وعنها بالرماح ينازع».

(الكتاب/488)


وما لهما لا يَبْكيان لفقدِ مَنْ ... عن الله لم يشغَلْه في الكون قاطع (1) ولو بكت الدنيا، وما كان حقَّها ... فواحِدَها قد كان، والشملُ جامع وقد أصبحت ثَكْلى تُعَزَّى بفقده ... ومِنْ بعده هانت عليها الفجائع (2) ولولا ابتغاءُ الأجر كان اصْطبارُنا الـ ... ـجميل قبيحًا، إنما الصبرُ نافع (3) * * * * ومنها لصاحبنا برهان الدين إبراهيم ولد شهاب الدين المتقدِّم ذكره. رحمهما الله تعالى (4): _________ (1) (ف، ك): «لم يقطعه». (2) الأصل: «هافت»، (ط): «هالت». (3) بعده في (ف، ك) عدة أبيات ليست في الأصل، وهذه هي: ومنبره لولا غزارة وعظه ... عليه قديمًا حرَّقته المدامعُ وما زال في حقّ ابن تيميَة الفتى الـ ... إمامِ تقيِّ الدين أحمدَ ضائعُ أما كان شمسًا في المطالع يُجْتلى ... فعادت عليه فاختبته المطالعُ وشامة خدّ الشام قد كان علمه الشـ ... ريف على الخدِّ المكرّم طابعُ ونجمُ هدى للسالكين إذا سروا ... وبدرٌ منير في الدياجيِّ طالعُ قد غابَ غابَ البدرُ عنه ولم يَشِم ... لشائمه بَرْق على الشام لامعُ ولا افترَّ ثغرُ الشام من فَرْط حُزنه ... على من عليه مَدْمَع العين هامعُ وبدر الدُّجى إن غاب لم تُشْرِق الدُّنا ... ولو أشرقت فيها النجومُ الطوالعُ (4) في (ف، ك): «[ك: مرثاة] للشيخ برهان الدين إبراهيم بن الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد [الكريم] الكرست العجمي يرثي الشيخ تقي الدين ابن تيمية في جمادى الآخرة سنة 735، ومولده في أوائل سنة 97، وتوفي في رمضان سنة 735». وقد سبق في (ف، ك) نسبة القصيدة السابقة لإبراهيم بن أحمد هذا، وواضح أنه من أقران المؤلف وإن لم أعثر على مَن ترجمه.

(الكتاب/489)


[ق 148] خُذِي في انسجام (1) الدمع يا مقلة العاني إلى أن تروِّي الأرض من فيضِ أجفاني وذُق يا فؤادي كلَّ يومٍ وليلةٍ ... مرارةَ أشواقٍ ولوعة أشجاني إلى أن أرى وجهَ ابن تيميَةَ الذي ... به الله من أهلِ الضلالة نجَّاني ومَنْ لي بأن ألقاه والموت قد أتى ... فغيَّبه في التُّرب (2) عن كلِّ إنسان فيا وَحْشة الدنيا لأنوارِ وجهه ... ويا لهفَ إخوانٍ عليه وجيران فحُقَّ (3) لعينٍ لا ترجِّي لقاءه ... إلى الحشر أن ينهلَّ مدمعُها القاني لقد عمَّ أهلَ الأرض رُزء مُصابه ... ولم يَنْجُ فيهم منه قاصٍ ولا داني لقد كانت الدنيا به ذاتَ بَهْجةٍ ... ونورٍ وإشراقٍ ورَوْحٍ وريحان وما كان إلّا آيةً في زمانه ... وفي كلِّ فنٍّ (4) حاز ليس له ثاني إمامُ هدًى يدعو إلى دين ربِّه ... دعاء نصوحٍ مشفقٍ غير خوَّان فمذهبه ما جاء عن خير مُرسَلٍ ... وأصحابه والتابعين بإحسان أتى بعلومٍ حيَّرتْ كلَّ واصِفٍ ... على أنه يُهْدَى بها كلُّ حيران فكم مُبطلٍ وافاه يبغي جدالَه ... فأنصَفَه في البحث من غير عدوان ويكشف عنه شُبهةً بعد شُبهةٍ ... إلى أن يَبِينَ الحقُّ أحسن تبيان _________ (1) في الأصول: «جدي» ولعله ما أثبت، و (ك): «بانسجام». (2) (ف): «التراب». (3) (ف، ك، ط): «يحق». (4) (ف، ك، ط): «علم».

(الكتاب/490)


فيصبح عن تلك المقالةِ مُعرضًا ... ولو كان من أحبارِ (1) سوءٍ ورهبان يغار على الإسلام من كلِّ بدعةٍ ... وما زالَ منها هادمًا كلَّ بُنيان وفي الله لم تأخُذه لومةُ لائمٍ ... ولم يخشَ مخلوقًا من الإنس والجان ولم ينتقم (2) في الدهر يومًا لنفسه ... ولكنه يُؤذَى فيعفو عن الجاني وأما سخاءُ الكفِّ فالبحرُ دونَه ... ولم يكُ في بذلِ العطاءِ (3) بمنَّان ولو وزنوا أهلَ الشجاعة كلّهم ... به رجحَ الشجعانَ في كلِّ ميزان فمن جاهدَ الأعداءَ في الدين مثلَه ... ومن سلَّ سيفَ العزمِ في وجه غازان؟ ومن قال للناس: اثبتوا يومَ شَقْحبٍ ... فإنَّ الأعادي في انهزامٍ وخِذلانِ؟ فمن خشيَ الرحمنَ بالغيب واتَّقى ... إله البرايا خافَه كلُّ سلطان وما ضرَّه أن طالَ في السّجنِ مُكْثُه ... إذا كان في نُسْكٍ وطاعةِ رحمن منيبًا إلى مولاه يقطعُ وقتَه ... بنقلِ أحاديثٍ وتفسير قرآن ولم يك مشغوفًا بحبِّ رياسةٍ ... ولا شدِّ بغلاتٍ ولا حُسْن غلمان ولا (4) كان مشغولًا بجاهٍ ومنصبٍ ... ولا رَفْع بُنيانٍ و [لا] غَرْس بستان ولكن بعلمٍ نافعٍ وعبادةٍ ... وزهدٍ وإخلاصٍ وصبرٍ وإيمان وفي موته قد كان للناس عبرةٌ ... لما شاهدوا من غير زورٍ وبُهتان _________ (1) سقط من (ف). (2) (ف): «ينتقم يومًا». (3) (ف، ك، ط): «العطايا». (4) (ف، ك، ط): «وما».

(الكتاب/491)


إذ انتشروا مثلَ الجراد وكاد أن ... تزيغ عقولٌ من رجالٍ ونِسْوان وسار على أعناقهم نحو قبره ... يُجاور مولى ذا امتنانٍ وغُفران إلى الذهب الباقي دعاه إلهه ... وذاك (1) له خيرٌ من الخَزَف الفاني دعاه إلى جنّات عَدْنٍ وطِيبها ... ومتَّعه (2) فيها بحورٍ وولدان فنسألُ ربَّ العرش يجْمَعُ شملَنا ... به في جِنان الخُلْدِ من بعد حرمان ويجبرنا بعد انكسارِ قُلوبنا ... ويُروي برؤيا وجهه كلَّ ظمآن * * * * ومنها للشيخ زين الدين عمر بن [ق 149] الحُسام الشِّبْلي رحمه الله تعالى (3): لو كان يُقْنعني عليكَ بكائي ... لجرت سوابقُ عبرتي بدماء أو كنتُ في يوم انتقالك للبِلَى ... صخرًا لزدتُ على (4) بكا الخنساء لكن أصبِّرُ عنكَ نفسي كاتمًا ... للحزن (5) خوفَ شماتةِ الأعداء _________ (1) (ف، ك، ط): «فذاك». (2) (ف): «وأسكنه». (3) (ف، ك): «للشيخ زين الدين [سقطت من ك] عمر بن الشيخ حسام الدين آقش [ف: حسام الدراقس ــ تحريف] الشبلي، يرثي الشيخ تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه». توفي الشبلي سنة (749). ترجمته في «أعيان العصر»: (3/ 598)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 156). (4) سقطت من (ف). (5) الأصل: «للخوف»، والمثبت من باقي النسخ.

(الكتاب/492)


أترى علمتَ وأنتَ أفضلُ عالمٍ ... ما عندنا من لوعةٍ وبلاء أسفي على تلك الديانة والتُّقى ... والجود آذَنَ شملُه (1) بثناء أسفي عليك وما التأسُّفُ نافعٌ ... صبًّا عليك مُقَلْقل الأحشاء أسفي عليك نفى الكرى عن ناظري ... من فَرْط أحزاني وفرط عنائي (2) غاضت بحارُ العلم بعدك والوَرَى ... في غفلةٍ يا سيِّد العلماء بأبي وحيدًا مات منفردًا عن الـ ... أحباب كان بقيَّة الصلحاء بحر العلوم حوى الفضائلَ كلَّها ... وسما سموَّ كواكب الجوزاء متفرِّدًا في كلِّ علمٍ دونَه ... لعلوِّ رتبته ذُرَى العَلْياء بالفضل قد شَهِدَتْ له أعداؤه ... وبه سما فضلًا على النُّظَراء شيخُ العلوم وتابع السلف الذي ... تَبِعوا الرسول بشدّةٍ ورخاء وإمامُ أهل الأرض والمبدي لهم ... سَنَن (3) الهدى عن صِحَّة الأنباء ذو الصالحات وذو الشجاعة والتُّقى ... والجود والبركات والآلاء من كان لا يثني لطالبِ جودِه ... حتى يبلّغه لكلِّ رجاء يجفو المَضاجِعَ راكعًا أو ساجدًا ... أو ذاكرًا لله في الظَّلْماء كالصَّبْر في حَنَك العدوِّ مذاقُه ... وألذُّ من شَهْدٍ إلى الجُلَساء _________ (1) (ف، ك، ط): «قربه». (2) هذا البيت متقدم على الذي قبله في (ف، ك، ط). (3) (ف): «سفن».

(الكتاب/493)


المانح البحر [الهمام] العالم الـ ... ـحبر الإمام وحُجَّة الفُقهاءِ (1) الواهبُ المال الجزيل وغامرُ الضْـ ... ـضَيف النزيل بوافر النَّعْماء المُحْسنُ الكافي السؤال وحاسمُ الدْ ... دَاءِ العُضال وكاشفُ الغمَّاء صَدْر المدارس والمجالس أحمد الـ ... محمود في عَودٍ وفي إبداء وإذا المسائل في الفتاوى أفْحَمَت ... أهلَ العلوم وحُجِّبت بخفاءِ (2) وأتت تقيَّ الدين أظهر ما اختفى ... منها (3) وأبداهُ لعينِ الرَّائي فيرى سُهاها في الخفاء بكشفه ... كالشمس مشرقة بصحوِ سماء ويرى البصيرُ الحقَّ فيما قاله ... والحقُّ لا يَخْفَى على البُصرَاء سجنوه خَشْيةَ أن يُرى متبذّلًا ... صونًا فنالَ منازلَ الشُّهداء للمؤمنين له وعند غُدُوّهم ... ذلُّ الكسير وعزةُ الخلفاءِ (4) في المُحْدَثين أتى بفضل باهرٍ ... ومناقبٍ أرْبَتْ على القُدَماء أيْ خاشعٍ أيْ شاكرٍ أيْ ذاكرٍ ... لله في الإصباح والإِمساء أيْ زاهدٍ أيْ حامدٍ أيْ باذلٍ ... للمسلمين نصائح النُّصحاء خيرُ الصِّفات صفاتُه وثناؤه ... بالجود بين الناس خيرُ ثناء ويظلّ يسألُ جودُه عن سائلٍ ... ذي فاقةٍ ليبرّه بعطاء _________ (1) الأصل: «الغمام» بدل «الإمام»، و (ف، ك): «الحبر الهمام». (2) (ف): «أقحمت أهل ... ». (3) (ف): «منه». (4) الأصل: «عدوهم» بالعين المهملة. خطأ. وفي (ف، ك، ط): «ذاك الكسير».

(الكتاب/494)


وتراه يُشْرق وجهُه مُتهلِّلًا ... للسائلين له شروق ذكاء بادي التبسّم عند بَذْل نواله ... لطفًا إلى الفقراءِ والضعفاء أرْبى على فَضْل البرامكةِ الأُلى ... وطوت مكارمه حديثَ الطائي من جاء يَسأله يُشاهدْ عندَه ... بذلَ الملوكِ وعِيشة الفقراء [ق 150] يُرْبي على سحِّ السحائب جُودُه ... وكذا تكون مواهبُ الكرماء والجودُ يرفعُ أهلَه بين الوَرَى ... أبدًا ويهوي البخلُ بالبخلاء وله إذا اضطرم (1) القتالُ شجاعةٌ ... قامت بنصر الدين في الهيجاء سَلْ عنه غازانًا وسل أُمَراءَه ... لما أتوا بطلائع الأُسَراء والمغل (2) قد ملكوا البلاد وأهلَها ... كم فكَّ من عانٍ بغير عناء وكذا بشقحب والتتار قدَ اقْبلوا ... بالطمِّ (3) في أممٍ بغير مراء والمسلمون على النزول قدَ اجْمعوا ... والمغل عنهم نظرةً للرَّائي من حرَّض السلطانَ والأُمرا على ... ترك النزول سواه (4) عند مساء قال اثبتوا فلكم دليلُ النصرِ قد ... وافى (5) فكان النصرُ عند لقاء وأتى جبال الكسروان فآذَنَتْ ... بدمارِها من بعد طول بقاء _________ (1) (ف، ك): «اصطدم». (2) (ف): «والغل». وكذا في البيت بعد الآتي. (3) (ف، ك): «كالطم». (4) الأصل: «سواء» خطأ. (5) (ف): «وفا».

(الكتاب/495)


وله بكلِّ مدينةٍ ذكرٌ أتى ... كالمِسْك فهو مُعطَّر الأرجاء سِيَرٌ إذا (1) نظَّمْتها سارَتْ بها الرْ ... ـرُكبانُ دون قصائد الشُّعراء وإذا إمامُ المسلمين وشيخُهم ... ولى وعزَّ على عزاه عزائي ادعوا إله العرش يجمع بيننا ... في جَنَّة الفِرْدوس فهو رجائي وعليه من ربِّ (2) السماءِ تحيَّةٌ ... تبقى (3) له أبدًا بغير فناء تمت. وهي اثنان وخمسون بيتًا (4). * * * * وله ــ أيضًا ــ عفا الله عنهما برحمته (5): هل بعد بُعْدِك طَرْفٌ دمعهُ راقي ... أم هل لداء أخي الأحزان من راقي بَعُدْتَ عنّا وللأحشاء (6) نارُ جوًى ... تشبّ فيها بإزعاج وإحراق _________ (1) سقطت من (ف). (2) سقطت من (ف). (3) الأصل: «تبغي» خطأ. (4) بعده في (ك، ط): «قال الشيخ المؤلف رحمه الله: وقد رُثي الشيخ رضي الله عنه بقصائد كثيرة غير هذه، وفيما ذكرناه كفاية. والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم» ثم بدأ بالبسملة وذكر قصيدة شمس الدين الحنبلي ... وقصائد أخرى. (5) (ف، ك، ط): «وله أخرى على قافية القاف نحو خمسة عشر بيتًا تقدم ذكرها» وصَدَّرها في ذاك الموضع بقوله: «للشيخ زين الدين عمر بن حسام الدين آقُش الشبلي يرثي الشيخ تقي الدين رضي الله عنه». (6) (ف، ك): «فللأحشاء».

(الكتاب/496)


إنَّا إلى الله من خطبٍ غدا مثلًا ... عمَّ الأنامَ بأوجالٍ وإشفاق كِدنا من الحزن أن نقضي عليك أسًى ... لما برَزْتَ لنا من فوقِ أعناق لما خرجت بيومِ الدفن في أُمَمٍ ... كأنه كان يومَ الكَشْفِ عن ساق وقلتُ: مات إمام المسلمين، فيا ... عينُ اذْرفي إن رَعَيتي حفظَ ميثاق لَهْفي على ناصرٍ للدين وهو إلى الـ ... ـغايات من كلِّ فضل خيرُ سبَّاق حوى فنون النُّهى، صدقًا بلا كذبٍ ... وحازَ عِلْم الورى في طِيب أخلاق لهفي على حُجَّةِ الإسلام، كان له ... مناقبٌ حازها في حُسْن أعراق بحارَ علمٍ حوى في صدره وغدا ... ببحرِ جُودٍ لِوافي المال نفَّاق يَزْدادُ حُزْني عليه كلَّ آونةٍ ... وليسَ يُطفي لهيبي فيضُ آماق غاضت بحارُ علوم الدِّين يومَ ثَوى ... ذاك الإمامُ بلحدٍ تحت أطباق نسعى إلى الدَّفن مشيًا فوق أرجُلنا ... وقلَّ لو كان مشيًا فوق أحداق يا جامع الفضل قد جفَّ الكتابُ بما ... قد كان من بَسْط آجالٍ وأرزاق والموتُ بعدك لا يُبْقي على أحدٍ ... لم يبقَ إلا الإله الدائمُ الباقي تمت (1)، والحمد لله. * * * * ومنها لمحمود بن الأثير الحلبي ــ رحمه الله ــ (2): _________ (1) (ك): «وهي خمسة عشر بيتًا». وبعده في النسختين (ف، ك) قصيدة لبعضهم. (2) (ف، ك): «مرثية في الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، نظمها رجل اسمه جمال الدين محمود بن الأثير الحلبي، وأرسلها من حلب المحروسة». ولم أقف على ترجمة جمال الدين الحلبي هذا.

(الكتاب/497)


يا دُموعي سُحِّي كسُحْب الغمامِ ... هاطلاتٍ على الخدود سِجام لفراقِ الشيخ الإمام المفَدَّى ... ابن تيميَّةٍ ونَجْلِ الكِرام زاهدٌ عابدٌ تقيٌّ نَقِيٌّ ... فهْمُه لا يقاسُ بالأفهام [ق 151] ابن تيميّةٍ يتيمةُ دَهْرٍ ... ماله من مُساومٍ ومُسامي فُجِعتْ فيه كلُّ أهل البرايا ... جَمْعها للعلوم والأحكام أوحدٌ في العلوم والفضل والزُّهـ ... ـد، لا يرائي في ملة الإسلام بحرُ علمٍ يغوصُ كلُّ لبيبٍ ... في معانيه حارَ كلُّ الأنام فاق بالعلمِ والفضائل للخَلْـ ... ـق، فأضحى إمامَ كلِّ إمَام إن يكنْ غاب شخصُه وتوارى ... ومضَتْ روحُه لدارِ السلام فمناقِبْه والفضائلُ تَبْقى ... في ممرِّ الدُّهُورِ والأعوام سيِّدٌ قد علا بعلمٍ وحلْمٍ ... فعِداهُ لَدَيْه كالأنعام كم رموه الحُسَّاد بالكَيْدِ والبغْيْ، ... وهْو لا ينثني عنِ الإقدام طالِبُ الحقِّ لا يخافُ لحيفٍ ... وهو يَحْمي عن ذُرْوةِ الإسلام لا يخافُ الملوكَ أيضًا، ولا الخَلْـ ... ـقَ، ولا للعِداةِ (1) واللُّوَّام كم مُلوكٍ أتى بحزْمٍ (2) وعَزْمٍ ... وهو في الله مُسْرِعُ الإقدام إلى أن قال (3): _________ (1) (ف، ك، ط): «ولا العبيد مع .. ». (2) (ك، ط): «بجزم». (3) في (ف، ك، ط) أكمل القصيدة وهي واحدٌ وخمسون بيتًا. وهذه هي: = ولغازان إذ أتاه بقلب ... ما أسود الغابات مع ضرغام؟ فتلقاه بالبشاشة والرحبْ ... والعطايا والعز والإكرام أخذ العهدَ منه للناس جميعًا ... بأمان لكل أهل الشآم نَفَسٌ صادقٌ تقبله الله ... فأطاعه كل تلك الأنام وحماهم من الحِمَى بخشوع ... وخضوع للواحد العلام قل لمن رام للفخار ويبغي ... رتبة قد علت بحدّ الحسام هو في رتبة النبيين فاعلم ... هكذا أخبر النبيّ التهامي فقدته الدّنى مع الدين والعلـ ... ـم وكل الزهاد والأيتام كم فتاوى أتته مَعْ كل شخص ... أعجزت كلَّ عالم صمصام حلَّها كالنسيم في الحالِ جلَّى ... لصداها من علة الأسقام كان بحرًا للناس من غاص فيه ... فاز بالدرِّ منه لا بالحطام أوحد الخلق في التفاسير طرًّا ... والأحاديث والعلوم التمام شيخ كل الإسلام في الزهد والنُّسْكْ ... والعبادات والتقى والصيام كان شمس الضحى ونيل البرايا ... وإمام العلوم والاحتشام ولديه أهل العلوم تداعت ... إذ هوت حوله من الإزدحام تبتغي من جنى معانيه نطقًا ... تَسْتضئ منه في دياجي الظلام فيروِّي قلوبَهم بعلوم ... فتراهم سكرى بغير مُدام كلما رمت سلوة عن هواه ... قادني الشوق نحوه بزمام خجل البدر من سناه فأضحى ... يعتريه النقصان عند التمام استمع يا عذول بالله وافهم ... لمعانيه في جميع نظامي قد تساوى في الحق كل وزير ... عنده مَعْ رذالة الأعوام فضله شاع بين كلّ البرايا ... بعلوم شبه البحار الطوامي كان بدرًا يضيء في الناس بالعلـ ... ـم إمامًا فيا له من إمام حسدوه عند الوفاة على الخلـ ... ـق فلم يخل منهمُ في الحِمام = = نقلته أيدي المنية بالحق ... بجنان الخلود والدمع دامي يا لها ساعة لَقَى الله فيها ... حاز فيها المنى ونيل المرام فهو في جنة النعيم مُفدّى ... بين حور كلؤلؤ في الخيام قدَّس الله روحَه مَعْ أخيه ... ما أضاء الصباح بالابتسام يا نسيم الصبا بالله بلِّغ ... لحبيبي تحيتي وسلامي وتعرّض على المحبين ذكري ... وشجوني وشقوتي وسقامي ثم صِفْ ما أكابد الآن فيه ... من همومي ولوعتي وهيامي وتقول العبيد محمودُ أضحى ... بدموع وعبرة كالغمام

(الكتاب/498)


صَدْرُه للعلومِ والقلبُ للربِّ ... ويداه للبَذْل والإنعام لا تَلُمْني على المدِيْح ودَعْني ... فهو شيخي وبُغيتي وغرامي كلُّ من مات في هواه بِوَجْدٍ ... ما عليه في حَتْفِهِ من مَلام وذكر تمامها، وهي واحدٌ وخمسون بيتًا. * * * * ومنها قصيدة لرجل جُنديّ من أهل مصر (1) أرسلها، وذكر أنه عرضها على الإمام أبي حيَّان ــ رحمه الله ــ وهي (2): _________ (1) في هامش الأصل: «اسمه: بدر الدين بن عزّ الدين المغيثي ــ رحمهما الله تعالى ــ». (2) (ف، ك، ط): «قصيدة من القصائد التي رُثي بها شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، وهي لرجل جندي بالديار المصرية يقال له: بدر الدين محمد بن عز الدين أيدمي المغيثي، رجل فاضل له محفوظات متنوعة، وفيه ديانة وصلابة في دينه، أرسلها، وذكر أنه عرضها على الإمام أبي حيان .. ». قال ابن ناصر الدين في «الرد الوافر» (ص 122 ــ 123) في التعريف بناظم هذه القصيدة: «قلت: وناظم هذه القصيدة يقال له بدر الدين ابن عز الدين المغيثي رحمه الله تعالى. وأراه محمد بن عبد العزيز ابن كمال الدين عبد الرحيم المارديني الصفار. وكان والده عز الدين من خواص أصحاب الشيخ تقي الدين. وكتب ابنُه بدر الدين المذكور مصنفَ الشيخ في الرد على الرافضي في ست مجلدات، هي عندي بخطه، يترجم الشيخ في أوائل كل جزء بترجمة بليغة، من ذلك قوله في حاشية الجزء الأول فيما وجدته بخطه: تأليف شيخ الإسلام والمسلمين، القائم ببيان الحق ونصر الدين، الداعي إلى الله ورسوله المجاهد في سبيله ... إلى آخر الترجمة. ثم كتب ابن عز الدين المذكور مقابل الترجمة: نقلتُ هذه الترجمة من خط محمد ابن قيم الجوزية». وذكره الحافظ في «الدرر الكامنة»: (4/ 17) ولم يزد على ما قاله ابن ناصر الدين، وكأنه نقله منه.

(الكتاب/500)


خَطْبٌ دها، فبكى له الإسلامُ ... وبكَتْ لعُظْمِ بكائه الأيَّامُ (1) وبكتْ بعبرتها السَّماءُ، فأمطرتْ ... في غير فصلٍ تسمحُ الأعوامُ وبكت له الأرضُ الجليدةُ بعدما ... أضْحى عليها وَحْشةٌ وقَتامُ وتزلزلت كلُّ القلوبِ لِفَقْده ... وتواترتْ مِنْ بعده الآلام ولمؤمنين الجنِّ حُزنٌ شاملٌ ... ونياحةٌ نطقتْ بها الأحلام وتفجَّعَ الدّينُ القويمُ لفقدِه ... وبَقَى غريبًا يُبْتلى ويُضامُ مُذ مات ناصِرُه الذي أوصَافُه ... أبدًا تكونُ على سواهُ حرامُ لِتقيِّ دينِ الله وصفٌ باهرٌ ... وخَصائصٌ خَضَعت لها الأفهامُ ومواهبٌ من ذي الجلال تُمِدُّه ... فيتمّ فخرٌ شامخٌ ومقامُ (2) وغدا تقيُّ الدين أحمدُ مالَهُ ... حدٌّ فتحمِلُ فَقْدَه الأجسام _________ (1) البيت ساقط من (ف)، وفي الأصول: «دنا» ولعل الصواب ما أثبت. وفي الأصل: «وبكته». (2) الأصل: «فليتم»، و (ف): «فتم»، (ك): «فلينم» ولعل الصواب ما أثبت.

(الكتاب/501)


العالِمُ الحَبْرُ الإمامُ، ومَنْ غَدا ... في راحتيه من العلوم زِمامُ ذُو المَنْصِب الأعلى الذي نُصِبَتْ لَهُ ... في الأرض في أقطارها الأعلامُ بحرُ العلوم، وكنزُ كلِّ فضيلةٍ ... في الدّهر فردٌ في الزَّمان إمامُ حَبْرٌ تخيَّره الإله لدينه ... ختمٌ لأعلامِ الهُدى وخِتامُ فوفَى بأحكام الكِتاب وكم له (1) ... في نَصْرِ توحيدِ الإله قيامُ والسُّنَّةُ البيضاءُ أحْيا مَيْتَها ... فغَدَتْ عليها حُرْمةٌ وذِمامُ (2) وأمات مِنْ بدعِ الضلالِ عوائدًا ... لا يستطيعُ لِدَفْعها الصَّمْصَامُ ابن (3) الفضائل والمعارف والذي ... لا تهتدي لفنونه الأوهام وأناله ربُّ السموات العُلا ... في العلم سَبْقًا ما إليه مَرامُ [ق 152] ونفوذُه في العِلْم قولُ محمدٍ ... صلى عليه الخالقُ العَلّامُ إنَّ المُنَزَّه ربّنا سُبْحانه ... يَقْضي بما تأتي به الأحكامُ يُبدي لكم في كلِّ قرنٍ قادمٍ ... للدِّين من يُهْدَى (4) به الأقوامُ فلئن تأخَّر في القرون لثامنٍ ... فلقد (5) تقدَّم في العلوم إمامُ _________ (1) (ك): «فكم له». (2) (ف): «عليه حرمة»، (ك): «حُرمة وحجام». (3) كذا في الأصل، وفي (ف): «أين»، وغير محررة في (ك)، وقرأها في (ط): «أسّ»، و «المعارف» سقطت من (ك). (4) (ف، ك، ط): «تهدى». (5) (ف، ك): «فقد». وأصلحها في (ط).

(الكتاب/502)


فاق القُرون سوى الثلاث فإنها ... خيرُ القرون يَزينُهنَّ تمامُ وسوى ابنِ حَنْبلَ إنه عَلَم الهُدى ... حبرٌ إمامٌ صابرٌ قوَّامُ لكنَّ أحمدَ مثل أحمد قدْ حوى ... عِلْمًا وزُهدًا في العلوم تُؤامُ حدِّث بلا حَرَج وقُل عن زهْدِه ... ما شئتَ لا ردٌّ ولا آثامُ (1) هَجَر المطاعمَ والملابسَ والدُّنى ... ولِعَزْمِه في تَرْكها إحْزامُ (2) نزْرُ المآكلِ والمنامِ ولا يُرى ... لِبني الدُّنى في قلبه إعظامُ (3) وتراه يَصْمُت ـ لا لِعيّ ـ دائمًا ... إلّا لِعلمٍ يُقتنى ويُرامُ وإذا تكلَّم لا يُراجَعُ هيبةً ... وسَكِينةً وكلامُه إبرامُ أُلقي عليه مهابةٌ من ربِّه ... فخِطابُهُ الإجلالُ والإكرامُ وإذا رنا فترى الرِّجال ذليلةً ... فكأنها في نفسِها إحْجامُ (4) بَشَرٌ يُعَظَّمُ بالقلوب، وقُدْوةٌ (5) ... أبدًا يُعظَّمُ، وهو بعدُ غُلامُ مِنَنٌ يخُصُّ بها المهيمنُ من يشا ... مِن خَلْقِه، والجاهلون نيامُ وجفا العبادَ لشُغْلِه بحبيبه ... فوِدادُه للأقربين سلامُ _________ (1) (ك): «جرح» وفي هامشها: «لعله: حرج». وأصلحها في (ط) كذلك. (2) الأصل: «ولعزمها» والمثبت من (ف، ك)، وفيهما: «إجزام» تصحيف. (3) الأصل و (ف): «الدنيا»، (ك): «الدُّنا». (4) (ك): «دنا». والأصل: «نفسها اححلام»! (5) الأصل و (ف): «وقدرة» خطأ.

(الكتاب/503)


وله مَقامٌ في الوصول لربِّه ... ومكانَة نطقت بها الأغْتامُ (1) وله فتوحٌ من غيوب إلهه ... وتحزُّنٌ وتمكُّنٌ وكلامُ (2) وتصوُّفٌ وتقشّفٌ وتعفُّفٌ ... وقراءةٌ وعبادةٌ وصيامُ وعنايةٌ وحمايةٌ ووقايةٌ ... وصيانةٌ وأمانةٌ ومقامُ وله كراماتٌ سَمَتْ وتعدَّدت ... ولها على مرِّ الدّهور دوامُ مَن ردَّ عن أرض الشآم بعَزْمِهِ ... مَن صدَّ وجهَ الكُفْر وهو حسامُ مَن ردَّ غازان الهُمام بحَسْرةٍ ... مَنْ خلَّص الأسرى، وهم أيتامُ مَن قام بالفتح المبين مؤيَّدًا ... في كِسْروان، وهم طُغاةُ عِظامُ مَن جدَّ في بِدع الضّلال وحِزْبه ... فأذلَّهم (3) بعد الرَّضاع فِطامُ مَن سار في سُنن الرَّسول ونَصْرها ... حتَّى استقرَّ لأمْرِهنَّ نظامُ مَن قام في خَذْل الصَّليب ودينِه ... لمَّا تداعوا لِلِّباس وقاموا (4) فوهوا ورُدُّوا خائبين بذِلّةٍ ... وعليهمُ فوقَ الوجوه ظلامُ فالأمرُ بالمعروف يُفْقَدُ بعدَه ... والفاعلون النُّكرَ ليسَ يُلاموا _________ (1) (ك): «ومقامه نطقت بها الأفهام» وبهامشه: «خ: الأغتام» وأصلحها في (ط): «الأقتام». والأغتام جمع غتم وهو الذي لا يفصح. (2) (ف): «وتحرز»، (ط): «وتمسكن وكلام». (3) (ف، ك، ط): «وأذلهم». (4) (ف): «لما تدا». الأصل: «اللباس». لعله أراد: لما أراد النصارى تغيير الزي المفروض عليهم مقابل زيادة فيما يؤدونه للدولة في أوائل أيام عودة الملك الناصر إلى الحكم سنة 709. كما سبق.

(الكتاب/504)


فكأنَّ أشراط القيامة قد دَنَتْ ... وانْحَلَّ مِنْ سَرْجِ الزَّمَان حِزامُ فالعلم فينا ليس يُقْبَضُ سرعةً ... كلّا ولا يأتي حِماهُ حِمامُ لكنْ بقبض الرَّاسخينَ ذَهابُه ... وزوالُه، وبَقَى رعاعُ طغامُ (1) لله ما لا قَى تقيُّ الدين مِن ... مِحَنٍ تُتايعُه (2)، وهُنَّ ضِخَامُ ومكارهٌ حُفَّتْ بكلِّ شديدةٍ ... ومواقفٍ زلَّتْ بها الأقدامُ ومكايدٌ نُصِبَت له، وحبائلٌ ... قصدًا إليه فزادها الإقدام (3) فحكى ابن حنبل في فنون بلائه ... بجنانِ ثَبْتٍ، ليس فيهِ ذام (4) وبسَجْنه وبِحَصْره ونَكَاله ... حتَّى رثى (5) العُذَّالُ واللُّوَّامُ [ق 153] فأراد ربُّ العرش جلَّ جلالُه ... للقائه مُذْ حانهُ (6) الإعدامُ وأتاه آتي الموتِ، يخطُبُ نفسَه ... فأجابَه طوعًا له القمقامُ (7) فخلَتْ منابرُه وأوحش رَبْعُهُ ... وتقوّضتْ عند الرحيل خيامُ وتفجَّعتْ كُلُّ القلوبِ بفَقْدِه ... وغدا عليها ذِلَّةٌ وسَقامُ ومَضَتْ جنازتُه الشريفةُ بعدما ... سَدَّ المسالكَ صارِخٌ وزِحامُ _________ (1) (ف): «وطغام». (2) الأصل: «تُتايُعه»، و (ف): «متتابعة»، والتتايع والتتابع واحد. (3) الأصل: «إليه فزادها». (4) (ف، ك): «ذؤام». (5) (ف): «رأى». (6) الأصل و (ف): «خانه». (7) القمقام: السيّد المعظّم.

(الكتاب/505)


وأتت رواياتُ الشآم بجَمْعها ... خبرًا صحيحًا ليس فيه أثامُ إنَّ الذي شهدوا الصلاةَ وشيَّعوا ... واللَّهِ لا تُحصيهمُ الأقلامُ فعليه أفضلُ رحمةٍ تُهْدَى له ... ومن الإله تحيَّةٌ وسلامُ ما دامتِ الأفلاكُ في دَوَرانها ... أو ناحَ مِنْ فوقِ الغصون حَمامُ تمت، وهي (1) ستةٌ وستون بيتًا. * * * * ومنها قصيدةٌ للشيخ جمال الدين عبد الصمد بن إبراهيم بن الخليل ابن إبراهيم بن الخليل البغدادي الحنبلي، المعروف بابن الخُضَري رحمه الله تعالى (2): عِش ما تشاءُ فإنَّ آخِرَهُ الفنا ... الموتُ مالا بدَّ منه ولا غِنى (3) والدَّهرُ إن يومًا أعانَ فطالما ... بالسُّوء عانَ فعونُه عينُ العنا لا بدَّ من يومٍ يؤمُّك حَتْفُه ... حتمًا نأى الأجلُ المقدَّر أو دنا للنَّفس سَهْمٌ من سهام نوائبٍ ... يرمي فيُصْمي مِن هناك ومِنْ هنا (4) _________ (1) (ف، ك، ط): «وعدتها». (2) وقع في الأصول: «الحصري» بمهملات، والتصويب من المصادر. وفي (ب): «ومنها للشيخ جمال الدين عبدالصمد بن خليل». قال ابن كثير: «محدّث بغداد وواعظها». ت (765). ترجمته في «البداية والنهاية»: (18/ 691) و «الذيل على طبقات الحنابلة»: (5/ 14 ــ 15). (3) (ب): «الموت لا بد»، (ب، ف): «عنه ولا غنى». (4) (ف): «من سهوم .. »، (ف، ك): «ترمي فتُصمي».

(الكتاب/506)


من غرَّه الأمدُ (1) المديد فإنَّه ... غِرٌّ لأنَّ طعامَه لن يُسْمِنا شمسُ الحياةِ تضيَّفت ومَشيبُه ... ضيفٌ يجرُّ من المنيَّة ضَيفنا مِن حين أُوجِد (2) كان نفسُ وجودِه ... في الكون بالعَدَم المحقّق مُؤذِنا يا من يَعُدُّ الدَّهر صاحبَ دَهْره ... ويُعدُّ فيه للإقامة (3) موطنا أوَ ما رأيتَ الموتَ كيفَ سطا بِمَن ... في الخلق عن مَحْضِ العلوم تكوَّنا ندبٌ مباحُ الصبر حظر (4) بعده ... فَلِمَ استحال، وكان شيئًا مُمْكنا بذَّ الأنامَ، مع البذاذةِ (5) فضلُه ... إذْ لم يكن بسوى التُّقَى مُتزيِّنا ترك الجميعَ على الجُموع فلم يَهَب ... تلك الجُموعَ ولا استراث (6) ولا ونى ولَكم مقاماتٍ له في الحقِّ لا ... بِيضَ الظُّبا يخشى ولا سُمْرَ القنا بالعُرْفِ يأمر ناهيًا عن مُنْكر ... متقرِّبًا وهو البعيدُ عن الخنا فبخيرِ ما سَننٍ، وبالسُّنن اقتدى ... والشُّكر والذِّكر الجميلين اقتنى ما حادَ عن نَهْج الصواب وما اعتدى ... وبغير تحصيل الفضائل ما اعْتَنى (7) إمّا تُبارِزْهُ تجدْهُ مُبَرِّزا ... في أيِّ عِلْم شئتَ حبرًا مُتْقِنا _________ (1) (ب): «الأمل». (2) (ب): «يوجد». (3) (ف): «الإقامة». (4) الأصل: «خطر» والمثبت من النسخ. (5) الأصل: «البذاة». بذ الأنام: أي سبقهم. والبذاذة: رثاثة الهيئة. (6) (ف، ك، ط): «استراب». (7) (ب، ف، ك، ط): «ما جار»، (ف): «ولا اعتدى ... ما اغتنى».

(الكتاب/507)


وإذا تُجاريه فما السَّيلُ انبرى ... إما جرى في بحثه مُتفنِّنا متزهِّدًا متعبِّدًا مُتهجِّدًا ... متخشِّعًا متورِّعًا مُتَديِّنا في كلِّ عصرٍ سيّد هو حجةُ الـ ... ـباري على كلِّ الخلائق في الدُّنا ونرى أحقَّ من استحقَّ، فحاز ذا ... من للإمامة لم يزل مُتعيِّنا شيخُ الأنام وحُجَّةُ الإسلامِ مَنْ ... أغْناه نشرُ الذِّكْرِ عن ذِكْر الكُنى أعْني أبا العباس أحمدَ بل تقيـ ... ـيَ الدّين حقًّا والعليمَ المُمْعِنا (1) [ق 154] في الله ليس يخافُ لومةَ لائمٍ ... ويرى التّوى فيه نهايات المُنى (2) لّما تحقَّق أنَّ كلَّ مُخَلَّفٍ ... يفنَى وإن كان النفيسَ المُثْمَنا لم يدَّخِر قوتًا لأجل غدٍ ولا ... أبْقى له إرثًا سوى حُسْنِ الثَّنا صدْرٌ حوى في صَدْرِه لكماله ... من كلِّ عِلم معنويٍّ (3) مَعْدَنا ظَهَرت أماراتُ (4) الولاية بعدَه ... واسأل لتُصْبِحَ بالحقائق موقنَا واسمع مقالةَ أحمدٍ متوعِّدًا ... أعداءه: «يومُ الجنائز بيننا» فأحقُّ ما يُبْكَى عليه فَقْدُه ... ما موتُ هذا الحَبْرِ رُزْءًا هَيِّنا فيض النفوس يقلُّ فيه فلا تَلُم ... وأعِن عيونًا فِضْن فيه أعْينا (5) _________ (1) البيت ساقط من (ف). (2) (ب): «التوى في الحق غايات المنى». (3) (ف، ك، ط): «مغلوي». (4) (ف، ك، ط): «ولايات الولاية». (5) (ب): «قبض النفوس»، (ف): «فلا يلم».

(الكتاب/508)


يا من أعاد أُولي التَّشدُّق عِلْمُه ... خُرْسًا وأنْطَقَ بالثناء الألسُنا يا دَوحةَ الفضل التي (1) في أصلها ... طيبٌ وزاكي فَرْعها حُلو الجنا يا حَبْرُ بل يا بحرُ كم حيَّرت مِن ... حَبْر تُصَيّر ذا الفصاحةِ ألْكَنا يا خاتمَ الفضلاء علمك معجزٌ ... بهر الورى فصدرت عنه مؤمنا إن كان ذا حفظًا فوقتُك ضيِّقٌ ... عنه، ولو كان الزمان له إنا لكنَّه من فضل ما هو (2) قاذفٌ ... بالحقِّ من نور الوِلاية والسَّنا أسستَ بُنيانًا على تقوى ورِضْـ ... ـوان، فلا سِيَما قد ارتفع البِنا غبَّرتَ يا من لا يُشَقُّ غُبارُه ... في أوجه الفضلاءِ (3) قِدْمًا قبلنا جَاهَدْتَ في ذاتِ المُهَيمن صابرًا ... عِنْدَ الأذى فأتتْ بشارات الهنا إن الذين يُجاهدون عدُوَّنا ... فينا سَنَهْديهم إلينا سُبْلنَا الله قد أثنى على العلماء في ... نصِّ الكتاب وأنتَ أولى من عَنى لا غَرْو إن كنتَ ابتُلِيْتَ بحاسدٍ ... فالحرُّ مُمْتَحنٌ بأولاد الزِّنا أشكو إليكَ وأنتَ أصلُ شكايتي ... مِن فَرْط ضُرٍّ في افتقادِك مسّنا قد (4) عبَّرت عبراتُنا مِن حُزْننا ... وبما نُجِنُّ مِن الجوى نَطق الضنى سَقيًا لتلك الروح مِن سُحْب الرّضا ... وتبوّأت جنّات عدنٍ مَسْكنَا _________ (1) (ب): «الذي». (2) (ب): «من هو». (3) (ب): «العلماء». (4) (ب): «إن».

(الكتاب/509)


لو كان فيها الموتُ يقبلُ فِدْيةً ... كان الأنامُ فِدًى وأوَّلهم أنا (1) تمت. * * * * ومنها قصيدة للشيخ محمود بن علي بن محمود بن مقبل الدَّقوقي البغدادي المحدِّث، رحمه الله ــ ولم ير الشيخ ــ وهي (2): مضى عالمُ الدُّنيا الذي عزَّ فقدُه ... وأضرمَ نارًا في الجوانح (3) بُعْدُه فدمعي طليقٌ فوق خدِّي مُسلسلٌ ... أُكَفْكِفه حينًا وجَفْني يرُدُّه ويرجو التلاقي، والفراقُ يصُدُّه ... وما حيلةُ الرَّاجي إذا خاب قصدُهُ مضى الطَّاهِرُ الأثوابِ ذو العلم والحِجى ... ولم يتدنَّس قطُّ بالإثم بُرْدُهُ (4) مضى الزَّاهدُ النَّدْبُ ابنُ تيميَّة الذي ... أقرَّ له بالعلم والفضل ضِدُّهُ بكَتْه بلادُ الشام طُرًّا وأهلُها ... وجامعها وانماع للحزن صَلْدهُ _________ (1) إلى هنا انتهت نسخة باريس (ب) دون الإشارة إلى نهاية النسخة إلا بعلامة الدائرة المنقوطة:|⊙| (2) للدقوقي رحمه الله عدة مراثي في شيخ الإسلام، اختلف ترتيبها في النسخ، وهذا ترتيب الأصل، وفي هذا الموضع في (ف، ك، ط): «وللدقوقي أيضًا رحمه الله». والدقوقي توفي سنة (733)، ترجمته في «أعيان العصر»: (5/ 406 ــ 407)، و «البداية والنهاية»: (18/ 356 ــ 357)، و «الذيل على طبقات الحنابلة»: (5/ 44). (3) الأصل و (ط): «الجوائح» خطأ. (4) هذا البيت في (ف) يأتي بعد البيت التالي.

(الكتاب/510)


يحنُّ إليه في النهار صيامُه ... ويشتاقُهُ في ظُلْمة الليل وِرْدُهُ ويبكي له نوعُ الكلام وجنسُهُ ... ويندبه فصلُ الخطاب وحدُّه (1) حمى نفسَه الدنيا وعفَّ تكرُّمًا ... ولمّا يُصعَّر للدَّنيَّات خَدُّه ولم يجتمع زوجان من شهواتها ... لديه، وبينَ الناسِ قد صحَّ زُهْدُهُ [ق 155] ويؤثر عن فقرٍ وفيه قناعةٌ ... ويُعْجِبُه من كلِّ شيءٍ أشدُّه عليمٌ بمنسوخ الحديث وحُكْمِه ... وناسِخِه فخرُ الزَّمان ومجدُهُ قوُولٌ فعولٌ طيِّبُ الخِيْم طاهرٌ ... إمامٌ، له من كلِّ حُكمٍ أسَدُّه (2) فما قال في دنياه هُجْرًا ولا هوًى ... ولا زاغ عن حقٍّ تبيَّن رُشدُهُ عُلومٌ كنشرِ (3) المِسْك من كلِّ سيرةٍ ... يُشيِّد دينَ المصطفى ويُجِدُّه فلله ما ضمَّ التُّرابُ وما حوى من ... الفضل فليفْخَر على الأرض لَحْدُهُ فيا نعْشَه ماذا حَمَلْتَ من امرئٍ ... جميعُ الورى فيه وفوقكَ فردُه وما مات من يُبْقي التصانيف (4) بعدَه ... مخلَّدةً والعِلمُ والفضلُ وُلْدُه وخلَّف آثارًا حِسانًا حَميدةً ... إذا عُدِّدَتْ (5) زادت على ما نعدُّهُ ولستُ مُطيقًا شَرْح ذاك مفصَّلا ... ولكن على الإجمال يُعْكَس طَرْدهُ _________ (1) (ك، ط): «وجده». (2) (ط): «كل علم». والخيم: الأصل. (3) (ف): «كنثر». (4) (ف، ك، ط): «تَبقَى التصانيفُ». (5) (ف): «عدت».

(الكتاب/511)


لقد فارق الأصحابُ منه مُصاحبًا ... يُراعِي وداد الخِلّ إن خان وُدُّه (1) قضى نَحْبَه والله راضٍ بفعلِه ... ولله فيما قد قَضَى فيه حمدُهُ يدلُّ تُرابُ القَبْر من جاء زائرًا ... إليه بطيبٍ فيه يَعْبَقُ ندُّه ولا تَحْسِبوا ما فاح عطرُ حَنوطِهِ ... ولكنَّه حُسْن الثناءِ ومجدُهُ وكان لأهلِ العِلْم تاجًا مُكلَّلًا ... يحوطُهُمُ مِن مُبطلٍ خِيفَ حِقْدُهُ| وما كان إلا التِّبْر عند امتحانه ... يبينُ لعينِ الحاذِق النَّقدِ نقدُه وكان يقولُ الحقَّ والحقُّ حُلوه ... مريرٌ لهذا كان يُكْرَه رَدُّه (2) وفي الحقِّ لم تأخُذْه لومةُ لائمٍ ... ولا خافَ من غِمْر تشدَّد (3) حَرْدُه وما كان إلّا السيفَ غارت يدُ العُلا ... عليه فردَّتهُ كما غار غِمدُهُ ولم تُلْهه الدُّنيا وزُخْرفها الذي ... يروق لِمَن لم يؤنِسِ الدَّهرَ رُشدُهُ لقد فقدَتْ منه المَحافلُ زَينها ... ولمَّا يُفارق علمَه الجمَّ وَجْدُهُ وخُضِّبت الأقلامُ بعد مِدادها ... عليه دمًا قد فاض في الطِّرْس مَدُّه فللدَّهر ما ضمَّ الثَّرى من مُحَقّقٍ ... ويالك مِن عَضْبٍ تثلَّم حدُّه (4) وكان إمامًا يُستضاءُ بنوره ... وبحرًا من الإفضال قد غِيضَ عِدُّه وكنتُ أُرَجِّي أن أراه، ونلتقي ... ولكنْ قضاءُ الله مَنْ ذا يردُّه _________ (1) (ك، ط): «أوده». (2) (ف): «ورده». (3) (ف): «تشدد». (4) (ك): «جده».

(الكتاب/512)


نرى الموتَ مألوفَ الطِّباع وربَّما ... يُعَلَّل بالمألوف مَنْ لا يَوَدُّه فآهٍ على تفريق شملٍ مُجمَّعٍ ... وحَرِّ فؤادٍ بان مُذ بان بَرْدُهُ ألا إنَّها نفسٌ وللنَّفسِ حَسْرةٌ ... وقلبٌ وقد يشجَى ويُضنِيه وجدُهُ (1) ولستُ بناسٍ عَهْد خِلٍّ تغيّبتْ ... محاسِنُه (2)، والخِلُّ يُحْفظُ عهدُهُ وما عُذْرُ جفنٍ (3) لا يجيشُ بدمعه ... غداةَ نأى عنهُ الصَّديقُ ورِفْدُهُ يرومُ الأماني والمنايا تصُدُّه ... وما حيلةُ الرَّاجي إذا خاب (4) قصدُهُ عليك أبا العبَّاس فاضتْ مَدامعي ... وقلبي لبُعْدِي عنك أُجِّجَ وَقْدُه على مِثْلك الآن المراثي مُباحةٌ ... وإن غاضَ دَمْعي فالدِّماءُ تمدُّه شدَدْتَ عُرى الإسلام شدَّةَ عارفٍ ... قويٍّ على الأعداءِ لم يألُ جُهْدُهُ تركتَ لهم دُنياهُمُ تَرْك عالمٍ ... علا قدرُه عِنْد الإله ومجدُهُ وكنتَ لمجموعِ الطوائف مُقْتَدًى ... وعَقْدًا لهذا الدينِ أُبْرِمَ عَقْدُهُ وكنتَ ربيعًا للمريد وعِصْمةً ... فمُذ صِرْت تحتَ الأرض صوَّح وردُهُ [ق 156] جمعتَ علومَ الأولين مع التُّقَى ... إلى الورع الشَّافي (5) الذي شاع حمدُهُ _________ (1) (ك، ط): «وللنّفس حرة»، (ف): «ويضليه وحده». (2) سقطت من (ف). (3) (ف، ك، ط): «دمع». (4) (ك، ط): «حار». (5) (ف، ك): «الثاني». يرى د. الإصلاحي أنها ربما تكون محرفة من «الصافي». وهذا التركيب مأخوذ من قول الإمام أحمد في حكايته مع أخت بشر الحافي: «من بينكم يخرج الورع الصافي».

(الكتاب/513)


وكنتَ تقيَّ الدين معنًى وصُورةً ... قوولًا، وخيرُ (1) القولِ عندك جِدُّهُ رحلتَ وخلَّفتَ القلوبَ جريحةً ... تذوبُ وجيشُ الصَّبر قد قلَّ جُنْدُهُ عليكَ سلامُ الله حيًّا وميتًا ... مدى ما بدا نجمٌ وأشرقَ سعْدُهُ تمت، وعدتها خمسون بيتًا (2). * * * * وله ــ أيضًا ــ عفا الله عنهما بكرمه (3): قِفْ بالرُّبُوعِ الهامداتِ وعدِّدِ ... واذْرِ الدُّموعَ الجامداتِ وبدِّد واحْبِس مَطيّك في المنازل ساعةً ... واسْألْ ولا تكُ في سؤالك معتَد واقْطعْ علائقك التي هي فتنةٌ ... واتْبَع سبيلَ أُولي الهداية تَهْتدي ودِّعْ صِباكَ ودَعْ أباطيل المُنى ... واهْجُرْ دَنِيَّات الأمور وسدِّد _________ (1) الأصل: «وجيز». (2) (ك، ط): «وهي اثنان وخمسون»، (ف): «وهي خمسون». أقول: عددها اثنان وخمسون بيتًا، ولعل ما في النسخ الأخرى باعتبار إهمال الكسر. (3) (ف، ك، ط): «وجدت بخط الشيخ سعيد الذهلي يقول: أنشدنا الشيخ الإمام العالم الفاضل الكامل، أوحد دهره وفريد عصره، إمام المحققين وقدوة أئمة المحدثين تقي الدين أبو الثناء محمود بن علي بن محمود بن مقبل بن سليمان بن داود الدقوقي المحدث سامحه الله تعالى لنفسه، يرثي الشيخَ الإمام العلامة والبحر الفهَّامة، حجة الإسلام وقدوة الأنام تقي الملة والحق والدين: أحمد ابن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية الحراني، قدَّس الله روحه ونوّر ضريحه، في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ــ ولم ير الشيخ رحمه الله ــ».

(الكتاب/514)


واقْنع من الدُّنيا القليلَ، ولازمِ الْـ ... ـفعلَ الجميلَ وسرْ مَسير مُجَرَّدِ (1) وتوخَّ فعلَ الخيرِ واصْحَبْ أهلَهُ ... مُتحبِّبًا مُتَجنِّبًا أهلَ الدَّدِ (2) لا تَعْتِبنَّ مفارقًا يبكي على ... أحبابه وارْحَمْهُ إن لم تُسْعِد ودَعِ المروَّع بالبِعاد وعَذْلَهُ ... فالعَذْلُ أمضى مِنْ فِعال مُهنَّد ماذا الوقوفُ عن السُّرى وصِحابُنا ... ساروا وصاروا بالعراءِ الفدْفد لا اخضرَّ بعدهمُ العقيقُ ولا شَدَتْ ... وُرْقُ الحمائم فوق بُرْقة ثَهمْدِ (3) أما أنا فلأبْكِيَنَّ فإن وَنى ... دَمْعي سفكتُ حُشاشةَ القلبِ الصَّدي أين المُعينُ على الخطوبِ إذا عَرَت ... أينَ المُساعِدُ عند فَقْد المُسْعِدِ ... ج أوما دَرَى من كنتَ تعرفُ قد مضى ... لسبيله في ضَنْك لحْدٍ مُؤصَد أين المحامي عن شريعةِ أحمدٍ ... أين المحقِّق نهجَ مذهبِ أحمد مات الإمامُ العالمُ الحبرُ الذي ... بُهداه عالِمُ كلِّ قومٍ يهتدي من لليهود وللنصارى بعدَه ... يرميهمُ بمقالهِ المُتسدِّد سلْ عنه دَيَّان اليهودِ أما غدا ... مُتلفِّعًا بصَغارِه المتهوِّد نشأَتْ على فِعْل التُّقى أطوارُه ... فعَنَت له التَّقوى وأعْطَتْ عن يد ورثَ الزهادةَ كابرًا عن كابرٍ ... والعلم إرثًا سيِّدًا عن سيِّد قِفْ إن مررت بقاسيون على ثَرًى ... فيه ضريحُ العالِمِ المتفرِّد _________ (1) (ك، ط): «وسر سير» وبهامشه: لعله كسير. (2) (ف): «السدد».والدّد: اللهو واللعب. (3) الأصل و (ك، ط): «برقد». و (ف): «تمهد».

(الكتاب/515)


واعْجب لقبرٍ ضمَّ بحرًا زاخرًا ... بالفضل يَقْذفُ بالعُلا والسُّؤدد بَشَرٌ يبشّر بالغنى من جاءَه ... يسرٌ يَسُرُّ فؤاد عانٍ مُزهِد كانتْ به أرضُ الشآم أمينةً ... مِنْ مُبطل مُتهوِّلٍ متلدِّد لو تستطيعُ بناتُ نعشٍ أن ترى ... يومًا يسيرُ بنعش ميتٍ مُلْحَد كانت تَسيرُ بنعشِه وتحطُّهُ ... فوقَ السِّماكِ وفوقَ فَرْقِ (1) الفَرْقد مات الذي جمع العلومَ إلى التُّقى ... والفضلِ والوَرَعِ الصحيح الجيِّد شيخُ الأنام تقيُّ دين مُحمدٍ ... وجمالُ مَذْهب ذي الفضائل أحمد ودَّعتُ قلبي يوم جاءَ نعيُّه (2) ... فتقاعَدي يا عينُ بي أو أنْجِدي سقتِ العِهادُ عراصَ قبرٍ حلَّه ... جَسَدٌ حوى خُلُقًا وحسنَ تودُّد يا (3) مُبْلغَ العُذَّال فرطَ صبابتي ... وتَقَلْقُلي يومَ النَّوى وتسهُّدِي ما بعدَ رُزْئك في الزَّمانِ رزيَّةٌ ... تُصْمي المَقَاتل بالفراق ولا تدي [ق 157] بدَّدْت شَمْل المُلحدين جميعهم ... وجمعتَ شَمْل ذوي التُّقى المُتبدِّد يا من تُرَى أقوالُه مُبْيضَّةً ... في كلِّ ذي قولٍ ووجهٍ أسْود يا كالئ الإسلام مِن أعدائه ... وسِمامَ كلِّ أخي نفاقٍ ملحِد يا واحدَ الدُّنيا الذي بعُلُومِهِ ... يمتازُ في الإسلام كُلُّ مُوَحِّد _________ (1) الأصل: «فوق» والمثبت من النسخ. (2) الأصل: «نعته» خطأ. (3) (ف): «من».

(الكتاب/516)


يا حامل الأعْباءِ عن مُسْتَبْصِرٍ ... يا كاشفَ الغَمَّاء عن مُستنجدِ (1) يا طارد الشُّبُهات عن مُتَرَدِّدِ ... يا دافع الفاقاتِ عنْ مُسترفد قرَّتْ عُيُونُ مُجاوريك وقد غَنُوا ... بجوار قَبْرك عن وثير المَرْقدِ (2) فكأنَّما تلك اللُّحودُ حدائقٌ ... تزهُو بنرجسِ زهرها الغضِّ النَّدِي (3) يا خاتَم العلماءِ صحَّ بموتِك الـ ... ـخَبَرُ الذي يرويه كُلُّ مُجَوِّد اليومَ قبضُ العلم قولًا واحدًا ... من غيرِ ما مَنْعٍ وغير تردُّد لو لم يكن خَتْمَ الأئمةَ أحمدٌ ... بَشّرْتُ أهلَ الخافقين بأحمد خوضُ الكرائه لم يَزَل من دأبهِ ... فبه الفوارسُ في المضايق تهتدي (4) شيخٌ إذا أبصرتَهُ في محْفِلٍ ... تَقْذِيْ برؤيته عيونُ الحُسَّد ذو المَنْقبات الغُرِّ والشِّيَمِ التي ... يفنى الزّمانُ وذكرُها (5) لم ينفد يا من يروم له عديلًا في الورى ... قد رُمتَ كالعنقاء ما لم (6) يوجد _________ (1) (ف، ك): «الأعياء عن». (ط): «مستنصر». (2) (ف، ك): «المرفد». (3) الأبيات الأربعة السابقة ضرب عليها في (ك) بخط دقيق، فلعله لما فيها من مبالغة في مدح الشيخ. (4) (ف، ك): «تزل من .. ». و (ك): «فيه الفوارس». (5) (ك): «وذكره». (6) الأصل: «ما لا».

(الكتاب/517)


كم بين رئبال الفلاة وثعلبٍ ... كم بين شَغْواءِ (1) البُزاةِ وجُدْجُد أرِح المَطيَّ، ولا تكن كمحاولٍ ... صيدَ النُّجوم من المياه الرُّكَّد قد كان شمسًا للصِّحاب مُنيرةً ... بضيائها في كلِّ قُطرٍ نهتدي واليوم أدْرَكها الكُسُوفُ فأظلمتْ ... طُرُقُ الهدى للسالك المتردِّد لَهْفي على تلك الشمائل والنَّدَى ... والجودِ والهَدْي القويم الأرشد هجم الحِمامُ فلا مفرَّ لهاربٍ ... والموتُ في الدُّنيا لنا بالمرصد ماتَ الصَّديق وماتَ من عاديتَهُ ... وتموتُ أنتَ كمثله وكأنْ قد وإذا مضى أقرانُ عمرِكَ فانتظِرْ ... في يومِك النَّاعي، وإلّا في غد لكِنْ لنا عنْ كُلِّ خِلٍّ سَلْوَةٌ ... بِمُصابِ سَيِّدنا النَّبيِّ محمّد صلى عليه الله ما هَجَرَ الكرى ... جَفْنُ التَّقيِّ القانت المُتهجِّد تمت (2)، وعدَّتها ستَّةٌ وخمسون بيتًا. * * * * وله ــ أيضًا ــ عفا الله عنهما برحمته (3): ما كُفء هذا الرُّزء جَفْنٌ تَسْجُمُ ... أبدًا ولا قلبٌ يذوبُ ويَألمُ _________ (1) (ف، ك، ط): «شعواء». الرئبال: الأسد. والشغواء العقاب، وسميت بذلك لفضل منقارها الأعلى على الأسفل «اللسان» (شغا). والجدجد: صرّار الليل، وهو قفّاز يشبه الجراد. «الصحاح» (جدجد). (2) (ك): «تمت ولله الحمد ... ». (3) (ف، ك، ط): «بسم الله الرحمن الرحيم. وأيضًا للدقوقي رحمه الله [ك: تعالى]».

(الكتاب/518)


رُزءٌ أصمَّ جميعَ أسماعِ الورى ... سَبَق الحدوثَ به القضاءُ المُبرمُ رُزء يجلُّ عن البُكاء لأنَّه ... لا رُزْء منهُ في البَرِيَّةِ أعْظَمُ يتضاءلُ الَّلسِنُ الفصيحُ لذكره ... خوفًا ويَكْبُر (1) في النفوس ويعظُمُ رُزْءٌ له هوتِ النجومُ وكُوِّرَتْ ... شمسُ الهدى (2) والصُّبحُ ليلٌ مُعْتمُ من عُظْمِ موقِعه وفادح خَطْبه ... لم يَدْر قُسٌّ ما يقولُ وأكثَمُ (3) لكنَّما يجري القضاءُ بكلِّ ما ... يقضي به ربُّ السماءِ ويحكُمُ (4) والأمرُ أعظمُ أن يقومَ بحقِّه ... صبٌّ حُشاشَتُه تذوْبُ وتُكْلَمُ (5) ذا الخطْبُ أعظُم أنْ يُدَاوَى بالأسى ... هذا المُصَابُ أجلُّ ممَّا يُعْلَمُ (6) كلٌّ يُدافعُ حَتْفه عن نفسه (7) ... حتَّى يُفاجئهُ الحِمامُ المُؤلمُ [ق 158] أعيا الأنام فما له (8) من ملجأٍ ... يُؤويهم عند الخطوب ويَعْصِمُ _________ (1) (ف، ك، ط): «ويجل قدرا». (2) (ف، ك، ط): «الضحى». (3) (ك): «قسّ ما البيان .. ». وقُس: هو ابن ساعدة الإيادي. وأكثم هو ابن صيفي، من خطباء العرب المشهورين. (4) (ف، ك، ط): «لكنما تجري الأمور ... ». (5) عجزه في (ف، ك، ط): «دمع يصوب ولم يخالطه دم» وأشار في الهامش إلى نسخة بالمثبت. و (ك): «يقوم ببعضه ... ». وأشار في الهامش إلى ما هو مثبت. (6) (ف، ك، ط): «تعلم». (7) الأصل: «كلًا»، و (ك، ط): «عن أنفه». (8) (ف): «فما لهم».

(الكتاب/519)


والموتُ وِرْدٌ للأنام (1) وكلُّهم ... في ماء ذاك الوِرْدِ حتمًا يُقدِمُ من أخطأتْهُ يدُ الحوادِثِ في الصِّبَا ... حينًا ستذكُرُه إذا هُوَ يَهْرَمُ (2) سيَّان في حُكمِ القضاء مؤجَّلٌ ... في نفسه ومُعجَّلٌ يتقدَّمُ أأُخَيَّ لا تُبعد فليس بخالدٍ ... أحدٌ ولا حيٌّ عليها يسْلَمُ لا تعذِل الباكي على أحبابِهِ ... واعْذُرْهُ وارْحَمْهُ لعلَّك تُرْحَمُ للخطبِ يُدَّخَرُ الصديقُ، ولا أرى ... في الناس يومَ البينِ خلّاً يَرْحَمُ لا تَحْسِبُوا وُرْقَ الحمامِ سَواجعًا ... يومَ الرَّحِيْلِ ولا المطايا تُرْزِمُ (3) هذا يحنُّ فيشتكي طولَ السُّرَى ... والوُرْقُ تَذْكُرُ إلْفها فترنَّمُ (4) ما حاربت أيدي الرَّدى من مارقٍ (5) ... إلّا غَدَتْ أقرانُهُ تتخرَّمُ من ذا يُطيقُ مع الفِراقِ تجلّدًا ... قلْ لي وقد مات الإمامُ الأعظمُ أودى فريدُ الدَّهْر أوْحَد عصره ... ومضى التقيُّ العارف المتوسِّم شيخٌ يسودُ بجِدِّه وبحَدِّه ... وسواه مِن (6) هذين صِفْرٌ مُعْدِمُ شيخٌ كأنَّ الله أودعَ سِرَّهُ ... فيه فما تلقاهُ إلا يَعْلمُ _________ (1) (ف، ك، ط): «للجميع». (2) (ف): «لا بد أن تدركه إذ ... »، (ك): «لا بد تدركه إذا» وفي هامشها إشارة إلى ما في (ف). (3) (ف، ك، ط): «تدرم». (4) (ف، ك، ط): «هذي تحنّ وتشتكي [ك: ألم] ... » وبهامش (ك): «طول». (5) (ف): «ما جاربت ... »، (ف، ك، ط): «في مارِق». ولعل صواب الكلمة الأخير «تتحزَّم». (6) الأصول: «في» ولعله ما أثبت.

(الكتاب/520)


اليوم أكشِفُ عن غوامضِ سِرّهِ ... اليوم منه يفسَّرُ المُسْتعجِمُ قد كان يُؤثرُ من أتاه بقوتِهِ ... ويظلُّ طُولَ نهاره لا يَطْعَمُ ويجودُ بالموجود منه، ويُرشدُ الـ ... ـجَنِفَ العصيَّ بهديه ويقوِّم ظهرت له شِيَمُ التُّقى فكأنه ... يومَ القِراع (1) العالمُ المتقدِّمُ من ذا يُرى للمشِكلاتِ يحلُّها ... والواقعاتِ ومَنْ به يُستَعْصَمُ وعلى النصارى الملحدين إذا أتوا ... من ذا يردّ ومن يجيبُ ويفهمُ يشتاقُهُ الإرسالُ في إسناده ... والنسخُ والمنسوخُ ثم المُحْكم وبكَتْه عنعنةُ الحديثِ وطُرْقُهُ ... وبيانُ ما يَحْوي عليه المُعْجَم هذا الذي للدِّين منه مُعلِّلٌ ... ومنوِّعٌ ومجنِّسٌ ومعلِّم هذا الإمامُ الحُجَّةُ الحَبْرُ الذي ... تُنْفى به شُبَهُ الشُّكوكِ وتُحْسَمُ فَضْلٌ وزُهدٌ لا يُحَدُّ (2) وعفَّةٌ ... وديانةٌ ورَزانةُ وتحلُّمُ لك يا ابنَ مجدِ الدِّين طَودٌ باذِخٌ ... في الفَضْل ممنوعُ الجوانب أيهَمُ (3) أقسمتُ ما وُصِفَ امرؤ في نفسه ... بصيانةٍ إلا ورأيُكَ أحْزَمُ (4) أبْدَى مصلّاك البكاءَ وحَسْبُهُ ... يَبْكي عليكَ وحقُّهُ يتندَّمُ _________ (1) (ف، ك، ط): «النزاع». (2) (ف، ك، ط): «يعد» وبهامشه: «لعله: يحد». (3) الأيهم: وصف مشهور للجبل. (4) (ف، ك، ط): «أقسمت ... بصيانة ... في نفسه إلا وصوتك أعظم».

(الكتاب/521)


أسفًا على ما فاته من وِرْدِه ... والليل ساجٍ (1) والخلائق نُوَّمُ حَسَدوه إذْ وجَدوه أعْلَمَ منهمُ ... ورأوهُ أفْضَلهم وإن كانوا عَموا عَقَلوه إذ عقلوه ليثَ كِباشِهم ... والليثُ يَعقِلُ مَن سَطاه ويُلْجِم تَبْكي عليه جوامعٌ ومجامعٌ ... ومناقبٌ ومراتبٌ تتهدَّمُ وزكتْ خلائقُهُ الشِّرافُ وكُرِّمتْ ... منه المغارسُ (2) وهو منها أكرمُ جُمِعتْ له أشتاتُ كُلِّ فَضيلةٍ ... تُرْوَى مدائحُ شارِدَاتٌ حُوَّمُ مَلأتْ فضائلُهُ البلادَ فَفَضْلُه ... كالشَّمْس نورُ ضيائها لا يُكْتَمُ ولقد دعوتُ الشِّعْرَ يومَ (3) نعِيَّه ... فأبى عليَّ، فلم أُطِقْ أتكلَّمُ ... أ أنَّى يُجيبُ ومِنْ لوازمِ حقِّه ... أن لايجيبَ وفِكْرُه مُتقسِّم وأخذتُ أكتُبُ ما أقولُ وأدْمُعي (4) ... بين السُّطُورِ كعِقْدِ دُرٍّ يُنْظَمُ [ق 159] نَفِدَ المدادُ فساعدتْهُ مدامعي ... فعَصى عليَّ فساعدَ الدَّمعَ الدَّمُ حالَ المدادُ عن السَّوادِ كأنَّهُ ... دمْعُ المَحاجم صُبَّ فيه العَنْدمُ (5) جادَتْ (6) ضريحًا بالشآم غمامةٌ ... تسْقي ثراهُ على المدى وتُدَوِّمُ _________ (1) الأصل: «شاج» بالمعجمة، والمثبت من باقي النسخ. وساج بالمهملة: ساكن. (2) (ف، ك، ط): «المعارش». (3) الأصل: «يومًا». (4) (ف): «ومدمعي». (5) العندم: قيل: شجر أحمر، وقيل: دم الأخوين. «اللسان» (عندم). (6) الأصل: «جازت».

(الكتاب/522)


وسقى قبورًا جاوَرْته من الرِّضا ... تحتَ التّرابِ سَحابُ عَفْو (1) مُثْجَمُ طُوبى لمن أمسى مُجاوِر تُرْبه ... من أجلها الجارُ المصاقِبُ (2) يُكرمُ أمسى وتحتَ الأرضِ عُرْسٌ إذ ثوى ... فيها وفوق الأرض فيها (3) مأتمُ هذا وأملاكُ السماءِ تَحُفُّه ... في كُلِّ يومٍ لا تملُّ وتَسْأمُ يا أرضُ صِرْتِ به كروضة جنَّةٍ ... لنزيلها في كلِّ يومٍ موسِمُ لسواهُ تَشْقيقُ الجيوبِ وإنما ... شقُّ الجيوب (4) عليه مما يَلْزمُ سَعِدتْ به أرضٌ أقام برَمْسِها ... ميتًا وهذا الميتُ حيٌّ مُكْرَمُ نُقِلَتْ إلى جنّاتِ عَدْنٍ رُوحُه ... والحورُ والولدانُ فيها تَخْدِمُ جُثمانه تحت العراء وروحُه ... في مَقْعد الصِّدق الرِّضا تتنعَّمُ لو كان للجَدَث المحيط بجِسْمه ... يومًا لسانٌ ناطقٌ يتكلمُ (5) لسَمِعتَ بُشراهُ (6) بمن وافى إلى ... عَرَصاته من خيرِ ضيفٍ يَقْدَم هو في جوار الله أشرفِ منزلٍ ... والله أرأفُ بالعباد وأرْحَمُ يَبْكي له سبعُ الطَّوافِ وسَعْيهُ ... والحِجْرُ والبيتُ العتيقُ وزمزم (7) _________ (1) في هامش (ف، ك): «خ: جود». ومثجم: من أثجمت السماء، إذا دام مطرها. (2) (ف، ك): «المجاور». المصاقب: المجاور. (3) (ف، ك، ط): «فينا». (4) (ف): «القلوب». وهذا من المبالغة غير المحمودة، فشق الجيوب منهيّ عنه. (5) (ف، ك): «كان للقبر .. »، (ف): «يومًا لسانًا». (6) (ف): «بشراء». (7) (ف، ك، ط): «تبكي له»، (ك، ط): «السبع».

(الكتاب/523)


وتعطَّل المِحْرابُ مِنْ متهجِّدٍ ... بالذِّكْر في أسْحارِهِ يترنَّمُ والخَلْقُ إن نُسبوا إليه كواحدٍ ... في أمّةٍ وهو الفريدُ المُعْلَمُ (1) أضحتْ سُطوْرُ الفَضْلِ يَصْعُبُ فَهْمُها ... كالخطِّ أصعبه الغريبُ المبهمُ فأبان مُشْكلَها وأوضحَ رمزَها ... فغدت بتنقيط الفضائل تُعْجَم (2) إن كان قد أمسى رَهين مُوَدّأ ... زَلِخ الجوانب حَدُّه متهدّم (3) فلرُبَّ عانٍ قد أعان وأكْمَهٍ ... هدَّى فأرْشَدَهُ ولا يتبرَّمُ وضريحُهُ كالمسك يَنْشَقُ عَرْفَه ... من كان مِن حَنَقٍ عليه يُسَلِّمُ إنْ كان هذا الرُّزْءُ يَعْظمُ ذكرهُ ... شرفًا ويُنْجِدُ في البلاد ويُتْهِمُ فالصبرُ أحسنُ مَلْبسٍ يختارُه ... حُرٌّ لبيبٌ ذو عفافٍ مسلمُ (4) وعلى النبيِّ من الإله صلاتُهُ ... ما أَمَّ طيبةَ مُنْجِدٌ أو مُتْهِمُ (5) تمت والحمد لله (6). _________ (1) (ف، ك، ط): «الأعلم». (2) (ف): «الفضل بل». (3) (ف): «رهين موداء [ك: مودء]»، (ف، ك): «جدره متهدم». وفي النسخ: «زنح» ولعلها ما أثبت. (4) (ف، ك، ط): «فالصبر أكرم ... حر بصير بالعواقب ... ». (5) عجزه في (ف، ك): «ما سارت الأظعان شوقًا ترزم». (6) ليست في (ف، ك). وبعده فيهما كلام عن النسخة التي نُقِلت منها هذه القصيدة ومن سمعها ووفاة ناظمها، ونصه: «قال الشيخ أبو بكر بن أحمد الدريبي رحمه الله: كان على النسخة التي نقلت منها نسختي هذه ما صورته: نقلتها من خط مؤلفها الشيخ الإمام العلامة أوحد عصره، وفريد دهره، أبي الثناء محمود ابن علي بن محمود الدقوقي البغدادي قدَّس الله روحه. وقال أيضًا: شاهدت على الأصل المنقول عنه ما صورته: سمع عليّ الولدُ السعيد أبو الخير سعيد بن عبد الله الذهلي الحريري جميعَ هذه القصيدة الموسومة بـ: مرثاة الشيخ العالم الرباني تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني، بقراءة الشيخ الإمام الأوحد الفاضل المحقق الكامل جمال الدين أبي أحمد يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد السامري، وذلك يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الأول سنة ثلاثين وسبعمائة. وكتب ناظمها محمود بن علي بن محمود الدقوقي حامدًا ومصليًا. توفي ناظم هذه المرثاة الشيخ تقي الدين الدقوقي يوم الاثنين العشرين من المحرم سنة 733 ثلاث وثلاثين وسبعمائة، ودفن يوم الثلاثاء بمقبرة الإمام أحمد، وحُمِلت جنازته على الرؤوس رحمه الله».

(الكتاب/524)


ومنها للشيخ عبد الله بن خضر بن عبد الرحمن الروميّ الأصل، الدِّمشقي الحريري، المعروف بالمتيّم، رحمه الله (1): لقد عذَّبوا قلبي بنار المَحبَّة ... وذابَ فؤادي من فِراق الأحِبّة وزاد غرامي واشْتياقي إلى الحِمَى ... وهيَّجَ بَلْبالي حنيني ولوعتي فيا عُظْم أحْزاني ووَجْدي عليهمُ ... ويا طولَ أشواقي إليهم ووَحْشَتي ملأتُ النَّواحي مِنْ نُواحي وكيف لا ... أنوحُ على قومٍ هُمُ خير جيرتي (2) فلم أنسَ أيامًا تقضَّت بقربهم ... ومِنْ عيشتي لمّا تولَّوا تولَّت _________ (1) (ف، ك، ط): «بسم الله الرحمن الرحيم. هذه القصيدة نظم الشيخ عبدالله ... بالمتيم يرثي الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وهو أحد أصحابه، رضي الله عنه وأرضاه». ولم أعثر على ترجمته. (2) البيت في (ف، ك، ط) بعد الآتي.

(الكتاب/525)


ومِنْ عَجَبي أنّي أحِنُّ إليهمُ ... وهم ساكنو قلبي ورُوحي ومُهْجتي (1) ذكرتُ فلم أنسَى زمانَ وِصالهم ... أأنْسى ليالٍ بالعقيق (2) تقضَّت [ق 160] منازلُ أحبابي مواطنُ سادتي ... مطالعُ أقماري شروقُ أهِلَّتي معاهدُ أفراحي ديارُ سعادتي ... مواسمُ أرباحي أُوَيقاتُ لَذَّتي مَضَت وانقضت عنّي كأنْ لم أكن بها ... وما ذاك إلّا من ترادُفِ غَفْلتي (3) إذا لم يَلُح لي بارقٌ من حِماهمُ ... فيا خيبةَ المسعى ويا طولَ شِقْوتي وإن لم أُقَضِّ العُمْرَ بين خيامهم ... فلا عِشْتُ في الدنيا ولا نلتُ مُنْيتي وإن لم أشاهد حُسْنهم في مَشاهدي ... فقدْ فاتني سُؤلي ومُتُّ بحسْرتي وحقِّ أياديهم وعِزِّ جمالهم ... وفَرْطِ خُضوعي في هواهم وذِلَّتي (4) لغيرِ رضاهم ما تمنَّت مَطامعي ... ولا لسِواهم ما حلالي تَلَفُّتي _________ (1) (ف، ك، ط): «وقد سكنوا». (2) (ف، ك، ط): «بالعُذيب» وبهامش (ك) نسخة كما هو مثبت. (3) بعده في (ف، ك، ط): «أعلّل روحي بالغُوَير وبانةٍ ... وما شوقها إلا لسُكَّان رامة». (4) البيت ليس في (ف، ك). وبعده في (ف، ك، ط): وإن لم أجد نورَ الهدى في خِبائهم ... يضيء به قلبي، فيا عُظم حَيرتي ... يقولون لي: لِمْ لا سلوتَ هواهمُ ... فقلت: دعوني، ما بُليتم بمحنتي ولا ذُقتمُ ما ذاق قلبي من الجوى ... ولا مسّكم ضُرّي، وناري وحُرقتي فهل لي جنان أن يهمّ بغيرهم ... وهل لي لسانٌ أن يفوه بسَلْوتي والبيت «لغير رضاهم ... » ليس في (ف).

(الكتاب/526)


وحاشاي أن أسلو هواهم وحُبُّهُم ... يُذكِّرني حفظ العهود القديمة فهم سرُّ أسراري، ونور نواظري (1) ... ورُوحي وريحاني وأُنسي وبَهْجَتي ... أتى وهم عينُ أعياني وقَلْبي وقالبي ... وهم منتهى قصدي ومشهدُ رؤيتي وهم في مغانيهم حياتي حقيقةً ... وهم في معانيهم (2) أُهيلُ مودَّتي وهم في تجلّيهم شموسي إذا بدوا ... وهم في تجنِّيهم رِياضي وجنَّتي (3) وهم أينما كانوا نِهايةُ مَقْصدي ... وهم أينما حلُّوا مُرادي وبُغْيتي وهم نورُ أنواري وسِرُّ حقائقي ... وهم أُنْسُ تأنيسي ومأمَنُ خِيفتي تُرى يشتفي قَلْبي برؤيتهم على ... رياض الهنا يومًا وتبردُ غُلَّتي وتَحْيا بهم رُوحي حياةً هنيَّةً ... مُسَرْمدةَ التَّنعِيم في غير محنةٍ (4) إذا سمحوا لي نظرةً من جمالهم ... فقد نلتُ من رضوانهم كلَّ وصلة عليهم سلامُ الله ما هبَّتِ الصَّبا ... وما ناحت الأطيارُ شوقًا وحنَّت وقد آن أن أُبدي خفايا صبابتي ... وأُظْهِرُ للعُذَّال أصلَ رَزيَّتي وأبكي على من كان يجمعُ شَمْلَنا ... على طاعة الرحمن في كل لمحة وأندُبُ أحزاني بما قد أصابني ... وأنثُرُ أشجاني بنظمِ قصيدتي فقَدْتُ إمامًا لم يزل متوكِّلًا ... على الله لا يُصْغي إلى غيرِ سنة _________ (1) (ف، ك، ط): «مناظري». (2) (ف، ك، ط): «مغانيهم». (3) (ف، ك، ط): «ونزهتي». (4) (ف، ك): «في روض جنة».

(الكتاب/527)


فقدتُ إمامًا كان بالعلم عاملًا ... وكان حقيقًا قامعًا كل بدعة أتى بكتاب الله والسُّنَّة التي ... عَلَت وارتقت حقًّا على كلِّ ملة أتى بأحاديثِ الرسولِ وشرْحِها ... وعمن رواها بالمتون الصحيحة أتى بعلوم العالمين جميعها ... بزُهدٍ وتأييْدٍ ودينٍ وقوَّة أتى بأصُول الدين والفقه مجملًا ... وفصَّلها تفصيل مِنْ غيرِ شُبهة أتانا بأحوال الرسول حقيقةً ... وسيرتُه (1) تسمو على كلِّ سيرة أتانا بأحوال الصحابة كلّهم ... وللتابعين (2) الملّةِ المستقيمة أتانا بأوصاف الأئمة كلِّها ... وصنَّفَ (3) كُتْبًا في صفات الأئمة أتانا بوصف الصالحين وحالِهم ... وما هم عليه من جميل العقيدة وعلَّمنا شرعَ الرسول ودينَه ... بأفصح ألفاظٍ وأصْدَق لهجة وأعْلَمَنا أنّ النجاةَ من الهوى ... تَمَسُّكُنا بالسنة النبوية وحذَّرنا مِن كلِّ زيغٍ وبدعةٍ ... وعن كلِّ طاغٍ خارجٍ عن محجَّة وناظرَ أربابَ العقائد كلَّهم ... وبيَّن من قد ضلَّ من كلِّ فرقة وردَّ على أهل الضلالِ جميعِهم ... بأوضح برهانٍ وأبلغ حُجَّة [ق 161] وبيَّن تكذيبَ اليهود وخُبثَهم ... وما بدَّلوا في الملّة الموسوية وأخبرهم عن سرِّ أسباب كفرهم ... فتعسًا لهم مِن أمّةٍ غَضَبيَّة _________ (1) الأصل و (ف): «وسيرتهم». (2) (ف، ك، ط): «والتابعين». (3) (ف): «وصنفها».

(الكتاب/528)


وأظهر أيضًا للنصارى ضلالَهم ... وما أحْدَثوا في المِلة العيسويَّة وباحثهم حتى تبيَّن أنهم ... سُكارى حَيارى بالطباع الخبيثة وردَّ على كُتْبِ الفلاسفة الأولى ... بمنقولِ أحكامٍ ومعقولِ حكمة وقرَّر إثباتَ النُّبواتِ عندهم ... وجال عليهم كَرَّةً بعد كرَّة وردَّ على جهمٍ وجَعْدِ بن دِرهمِ ... وبشرِ المَرِيسي عُمْدةِ الجهميَّة زنادقةٌ كم أهلكوا من عوالمٍ ... بسوءِ اعتقاداتِ النفوسِ السقيمة وجادل أهلَ الإعتزال جميعَهم ... وسلَّ عليهم سيفه بالأدلة يقولون: قولُ الله من بعض خَلْقه ... لقد كُبْكِبوا في قعرِ نارٍ حميَّة وبَاحَثَ أشياخَ الروافضِ وانْثَنَى ... يُقاتلهم بِالدِّرَّةِ العُمريَّة لأنَّهمُ عادَوا خواصَ محمَّدٍ ... وسبّوا فَهُم في الأصل شرُّ الخليقة بغوا وافتروا جَهْلًا فهم أنحسُ (1) الورى ... وأكذَبُ خَلْقِ الله من كلِّ فِرْقة فكمْ أحدثوا في ديننا من ضلالةٍ ... فلا مرحبًا بالفِرْقة القدريَّة (2) وهم خصماءُ الله تبًّا لدينهم ... وبُعدًا لهم من عُصْبةٍ ثنويَّة وردَّ على قومٍ تربَّت (3) نفوسُهم ... على النفي والتعطيل من غير حُجَّة وردَّ على أهل التناسخ عندما ... تجرَّوا وخاضوا في أمورٍ عظيمة ومزَّقهم في كلِّ وادٍ لأنهم ... يقولون لا شيء سوى البرزخيَّة _________ (1) (ف، ك، ط): «أنجس». وعلى الحاء علامة الإهمال في الأصل. (2) البيت في (ف، ك، ط) بعد الآتي. (3) (ف): «ترتب».

(الكتاب/529)


وقد أنكروا أمرَ المعاد بقولهم ... نفوسٌ نأت عنَّا وفي الغير حَلّت وجادَل (1) أهلَ الاتحاد وردَّهم ... إلى أشرف المسرى وأهدى طريقة وأنقذهم من ظُلْمة الجَهْل والعمى ... بنورٍ وبرهان ودين النصيحة وردَّ على أهل الحلول فإنهم ... يرون تجلِّي الحقّ في كلِّ صورة وقد زعموا أنَّ التجلِّي مَظاهرٌ ... ولا سيّما في صورةٍ أمْرَديَّة فمن أجْلِ هذا يرقصون ديانةً ... وفي رَقْصهم جاءوا بكلِّ قبيحة يرون شهودَ المُرْد والرقصِ قُربةً ... فيا ويلَهم من خِزْي يوم الفضيحة وردَّ على تُبّاع (2) إبليسَ عندما ... رآهم وقد مالوا إلى الجبرية وكم قد طوى في علمه من طوائفٍ ... حرورية منهم على حَشَوية مطايا بُنيَّاتِ الطريق سَرَتْ بهم ... إلى أن أناخوا في عِراص القطيعة وفي بحر آراء العقائد أُغرقوا ... رَمَتهم خيالات العقولِ السخيفة وكم قد أراهم كلَّهم سُبل الهُدى ... وكم قد نهاهم مرةً بعد مرَّة فمن كان قُطْبَ الكون في حال عصره ... سواه ومن قد فاز بالبدليَّة شجاعٌ هُمامٌ بارعٌ في صفاته ... يروم مَرامًا في المراقي العليَّة تزهَّد في كلّ الوجود وغيره ... يدور على الدنيا بنفسٍ دنيَّة يجود على المِسْكين في حال عُسْره ... بأطماره (3) في حبّ باري البريَّة _________ (1) (ف، ك، ط): «وجاهد». (2) كذا في الأصول، وفي (ط): «أتباع». (3) (ف): «بأطمان».

(الكتاب/530)


ويَلْقى لمن يلقاه بالبِشْر والرضا ... بأوصافه الحُسْنى ونفسٍ زكيّة ويدعو لمن قد نال مِنْ ثَلْم عِرْضه ... ولم ينتقم ممن أتى بالأذيَّة يُسارع في الخيرات سرًّا وجَهْرةً ... ويلهو عن اللَّذات في كلِّ طَرْفة [ق 162] يجاهد في الله الكريم بجُهده ... بصِدْقٍ وإخلاصٍ وعَزْم ونيّة ويأمر بالمعروف حبًّا لربهِ ... وينهى عن الفحشاء نهيًا بهمَّة تقيٌّ نقيٌّ طاهرُ الذيل مُذْ نشا ... كريمُ السجايا ذو صفاتٍ حميدة أليس الذي قد شاع في الكون ذكرُه ... وعمَّ البرايا بالفتاوى العظيمة فمن كان تاجَ العارفين لِوقْتنا ... وشيخَ الهدى قل لي بغير حميَّة هو الحبرُّ والقطبُ الذي شاعَ ذِكْره ... وفاح شَذاهُ كالعبير المفتَّت إذا ما ذكرنا حالَه وصفاتِه ... كأنَّا حللْنا في نعيمٍ وروضة تَهَنّأ أبا العباس بالقُرْبِ والرِّضا ... لقد نلتَ ما ترجو بكلِّ مسرَّة ألا يا تقيَّ الدين يا فرْدَ عصرِهِ ... بُرُوقُك قد لا حتْ كشمسٍ مضيئة وبانت لكلّ الناس أوصافُك التي ... برَزْتَ بها مثل العيون الغزيرة ظهرتَ بأنواع العلوم وجِنْسها ... وسارتْ بها الرُّكبانُ في كلِّ بلدة وأظهرتَ (1) ما قد كان للناس خافيًا ... بكلِّ معانٍ والفُنونِ الغريبة وأوضحتَ إشكالًا وبيَّنتْ مُبْهمًا ... وأبديتَ أسرارًا بنفسٍ عليمة وكم غُصْتَ في بحر المعارف غوصةً ... ولجَّجتَ فاستخرجتَ كلّ يتيمة ظهرتَ بإحسانٍ وحُسْنِ سماحةٍ ... ودينٍ وتوحيدٍ وكلِّ فضيلة _________ (1) (ك، ط): «فأظهرت».

(الكتاب/531)


خرجتَ من السّجن الذي كان ضيِّقًا ... إلى دار فوزٍ في رياضٍ فسيحة وقد نلتَ من مولاك ما كنتَ راجيًا ... وأشْهَدكَ المعنى بعينٍ قريرة حُمِلتْ على النعش الذي كان تحته ... مئين ألوفًا في بكاءٍ وضجَّة وصلى عليك المسلمون (1) جميعُهم ... بحسنِ اعتقِادٍ فيك يا شيخَ قدوة وأمّا النساءُ المؤمناتُ فإنَّهنْ ... خرجن حَيارى فَوجةً بعد فَوجة ومَعْهُنَّ أبكارٌ تحجَّبن بالتُّقى ... يَنُحْنَ بأكبادٍ عليك حزينة صبرتَ على الأحكام طوعًا وطاعةً ... وذُقْتَ من الآلام طَعْم البليَّة وكنتَ حَمولًا للنوائب كلِّها ... صبُورًا على الأقدار في دار غُرْبَةٍ وأوسعْتَ صدرًا للمقادير عندما ... شهدتَ جمالَ الحبِّ في كلّ خلوة ولاحتْ لك الأنوارُ بالمشهدِ الذي ... تطُوفُ به الأرواح (2) في رَوض جنَّة وعاينْتَ موجودًا تعالتْ صفاتُهُ ... وشاهدْتَ محبوبًا بعين البصيرة فلا أوحشَ الرحمنُ منكَ ولا خلَتْ ... ربُوعُك من تلك العلومِ الجليلة ولا أقفَرتْ منك الطلولُ ولا نأتْ ... ديارُك من تلك الصفاتِ الجميلة ولا سكنتْ (3) يومَ الوداع دُموعُنا ... ولا اكتحلَتْ فيكَ الجفون بغَمْضَة ولا احتجبَتْ أسماعُنا عنك ساعةً (4) ... ولا أيِسَت منك العيونُ بنظرة _________ (1) (ف، ك، ط): «الحاضرون» وبهامش النسخ إشارة إلى المثبت. (2) (ف، ك، ط): «الأنوار». (3) (ف): «سكبت». (4) في هامش الأصل «دائمًا» لكنه بخط مغاير، وإن كان بعده علامة التصحيح (صح).

(الكتاب/532)


لقد كنتَ رَوحًا للقلوب وراحةً ... وقُوتًا وأُنسًا للنفوس النفيسة تمسَّكْت بالدِّين الحنيفيِّ والهدى ... وبالعُروة الوثْقَى وأصل الشريعة ظهرتَ إلى الدنيا بأحسنِ مظهرٍ ... ورُحْتَ إلى الأخرى بأكمل رَوحة وودَّعتنا توديعَ مَن غيرُ راجعٍ ... وفارقتنا والدَّارُ غيرُ بعيدة شَرِبْت بكأس العارفين مُدَامةً ... حقيقتُها من سرِّ عين الحقيقة وَجُدْتَ بكأس الفضل (1) منك تكرُّمًا ... على تابعينَ السُّنَّة الأحمديَّة فسبحان من أعطاك من فيض جودِهِ ... لقد نلتَ قُربًا لا يُنالُ بحيلة وقد (2) عِشْتَ محبوبًا ومتَّ مُكرَّمًا ... عليك من الرحمن أزكى تحيَّة [ق 163] وما برحتْ تعلوك أنوارُ أُنسِه ... وما زِلْتَ في عِزٍّ وقربٍ ورفعة ومأواك جنَّاتُ النَّعيم مع الذي ... تفرَّد من بين الورى بالوسيلة نبيُّ الهدى خيرُ الورى صاحب اللِّوا ... شفيعٌ على الإطلاقِ في كلِّ أُمَّة عليه صلاةُ الحقِّ ثمَّ سلامُهُ ... على عددِ الأنفاس في كلِّ طَرْفَة وبعدُ فلله المحامدُ كلُّها ... على ما أرانا من وضوح المحجَّة وها أنا يا ربِّي عُبيدٌ متيَّمٌ ... عساك ترى حالي وتغفرُ زلَّتي تمت، وعدَّتها مائةٌ وسبعةٌ وعشرون بيتًا (3). _________ (1) (ف، ك، ط): «بفضل الكأس». (2) (ك): «لقد». (3) هو كذلك في نسخة الأصل، أما في (ف، ك) فتزيد بأربعة أبيات على الأصل ذكرناها في الحواشي.

(الكتاب/533)


وله ــ أيضًاـ عفا الله عنهما (1): للهِ عَيشٌ (2) تقضَّى بالثنيَّاتِ ... مَعْ جيرةٍ لذَّ لي فيهم صَباباتي ما كان أهْنا زماني في رُبوعهمُ ... والسَّعْدُ يسعى بما فيه إراداتي والكأسُ تُمْلا (3) بأنواع السّرور وفي ... قُربِ الأحبَّةِ تَبْدو لي سعاداتي إذا تجلَّوا على قلبي بِحُسْنهم ... كأنَّنِي في نعيمٍ وسط روضاتي قد كنتُ في قُربهم والوصل مقترنٌ (4) ... لم يَخْطر الصَّدُّ والهِجْرانُ في ذاتي واليومَ أصبحتُ أبكي بعد بُعْدِهمُ ... لمَّا تناءوا نأتْ عنِّي مسرَّاتي وغابَ مُذ غاب عن عيني جمالهمُ ... راحي ورُوحي ورَيحاني وراحاتي ولا صفا بعدَهم عيشي بمَنْهلةٍ ... ومُذْ تولّوا تولى طِيبُ لذَّاتي يا سادةً ملكوا قلبي بِلُطْفهمُ ... ما ضرَّهم لو أعادوا لي أُوَيقاتي فهم مُرادي وهم سُؤْلي وهم أملي ... وهم نهايةُ مقصودي وغاياتي وهم سروري وهم سمعي وهم بصري ... وهم نعيمي وروضاتي وجنَّاتي وهم حياتي وهم أُنسي وهم شَرَفي ... وذِكْرُهُم لم يزل في القلب جَلْواتي (5) لما سروا وفؤادي في هوادجهم ... ناديتُ من حُرَقي: يا عُظْمَ لوعاتي _________ (1) (ف، ك، ط): «وله أيضًا رحمه الله يرثي شيخ الإسلام ابن تيمية مرة أخرى». (2) (ف، ك، ط): «عيشًا». (3) في الأصول: «يُجْلى» تصحيف والصواب ما أثبت. (4) (ك، ط): «مقترني». (5) بعده في (ف، ك، ط): لَهْفي على زمنٍ ولّى وما ظَفِرت ... روحي بما تَرْتجي يوم الأُثيلاتِ

(الكتاب/534)


ما كنتُ أعلمُ قُرْبي في محبَّتهم ... حتَّى رَمَتْنِي إلى الأبعاد راياتي فاندُبْ على ما مضى من عيشةٍ (1) وصفا ... وابكِ على ما جرى يا قلبيَ العاتي واذكُر مصارعَ قومٍ كيف قد شربوا ... بعد الزُّلال بكاساتِ (2) المنيَّات فأصْبَحُوا في الثَّرى تَبْلى وجوهُهم ... تحتَ التُّرابِ فيا عُظْمَ المُصيبات وأنتَ من بَعْدهم تَسري لسيرهمُ ... إمَّا بدارِ هوانٍ أو بجنَّات أقولُ ما قاله العبد المنيبُ وقد ... أوْدَى به السّجنُ في برٍّ وطاعات: أنا الذَّليلُ أنا المسكينُ ذو شَجَنٍ ... أنا الفقيرُ إلى ربِّ السموات أنا الكسيرُ أنا المحتاجُ يا أملي ... جُدْ لي بفَضْلك واعفُو (3) عن خطيَّاتي أنا الغريبُ فلا أهلٌ ولا وطنٌ ... أنا الوحيدُ فكُنْ لي في مُلِمَّاتي أنا العُبَيدُ الذي ما زلتُ مُفْتقرًا ... إليك يا سيِّدي في كلِّ حالاتي مالي سواك ولا لي (4) عنكَ مُنْصَرَفٌ ... ذكراك في القلب قرآني وآياتي أنتَ القديرُ على جَبْري بوَصْلِك لي ... أنتَ العليم بأسرار الخفيَّات أدْعوكَ يا سيّدي يا مُشْتَكى حَزَني ... يا جابري يا مُغيثي في مُهِمَّاتي فانظر إلى غُرْبتي (5) وارْحَمْ ضنا جسدي ... يا راحم الخلق يا باري البَرِيَّات ما زال مفتَقِرًا في باب سَيِّده ... ما زال مُبْتليًا بالامتحانات _________ (1) (ف، ك، ط): «عيشنا». (2) (ف): «بكأس». (3) كذا في الأصول. (4) (ف، ك): «وما لي». (5) (ك): «عبرتي».

(الكتاب/535)


ما زالَ مُهْتديًا ما زالَ مقتديًا ... ما زال مُجْتهدًا في كلِّ خيراتِ (1) [ق 164] ما زال يتبعُ آثارَ الرسولِ على الـ ... ـنهجِ القويمِ بأعلامِ الدَّلالات يهدي (2) لسنته يُفْتى بشِرْعتِه ... يرعى لحُرْمته في كلِّ ساعات قُطْبُ الزَّمان وتاجُ الناس كلّهم ... رُوح المعاني حوى كلَّ العبادات (3) حبرُ الوجودِ فريدٌ في معارفه ... أفنى بسيفِ الهُدى أهلَ الضلالات حوى من المصطفى عِلْمًا ومعرفةً ... وجاءه منه إمداد النوالات ما جاءه سائلٌ إلا ويَمْنحُهُ ... إما بجود وإما بالمداراة ماذا أقولُ وقولي فيه منحَصِر ... في وصف أخلاقه كلّت عباراتي في عِلْمه ما عِلْمنا من يُناسبه ... إلّا أئمتنا أهلُ العنايات في زُهدِه ما سَمِعْنا من يُشاكِله ... إلّا رجالٌ مضوا أهلُ الكرامات في جوده ما وجدنا من يماثله ... غيرُ البرامك كانوا في سعادات يجود وهو فقيرٌ إنَّ ذا عَجَبٌ ... هذا (4) الذي ما سمعنا في الحكايات تلوحُ شمسُ المعاني في شمائله ... وفي صفا وجهه نورُ الهدايات بحر المعارف تاهوا في بدايته ... أهلُ المعاني وأربابُ النهايات _________ (1) البيت من الأصل فقط. (2) الأصول: «يهوى». و (ط): «يهدي» وهو الصواب. (3) (ف): «العبارات». (4) (ف، ك، ط): «هو».

(الكتاب/536)


قُطْب الحقائق حاروا في فضائله ... أهلُ التَّصوُّف أصحابُ (1) الرِّياضات أعجوبةُ الدَّهْر فردٌ في مظاهره (2) ... علّامةُ الوقت في الماضي وفي الآتي يا لهف (3) قَلْبي على من كان يَجْمَعنا ... على فنونِ المعاني والإشارات فارقتُ من كان يُرْويني برؤيتهِ ... إذا تبدَّى بدا سِرُّ العبادات يَرْوي الأحاديث عن سُكَّانِ كاظمةٍ ... فيَطْرَبُ الكونُ من طيبِ الرِّوايات ويُطْنِبُ الذّكر في إحسانِ حُسْنِهمُ ... فيَرْقُصُ القَلْبُ شوقًا نحو ساداتِ ... أ أفْضَى إلى الله والجنَّاتُ مَسْكنُه ... عليه من ربِّه أزكى تحيَّاتي ثمَّ الصلاةُ على خيرِ الأنامِ ومَن ... قد خصَّه الله من بين البريَّات اختاره ليلة الإسرا لحضرته ... حتَّى تجلَّى له ربُّ السَّموات (4) عليه منِّي سلامُ الله ما هَمَعتْ ... سُحْبُ الغمام وجادت بالزّيادات والحمد لله حمدًا لا انقطاعَ له ... أرجو به من إلهي مَحْوَ زلّاتي آخرها (5)، وعدتها خمسةٌ وخمسون بيتًا. * * * * _________ (1) (ك): «وأصحاب». (2) (ف، ك): «فضائله» وأشار في الهامش إلى نسخة بالمثبت. (3) (ف، ك): «والهف». (4) بعده في (ف، ك): فهو الشفيع الذي تُرجى شفاعته ... عند الشدائد في يوم المجازاة (5) (ك): «تمت».

(الكتاب/537)


ومنها للقاضي الإمام العالم شهابِ الدين أبي العباس أحمد بن فضل الله، رحمه الله وسامحه (1): أهَكَذا بالدَّياجي يُحْجَبُ القمرُ ... ويُحْبَس النَّوُّ حتى يذهب المطرُ (2) أهَكذا تُمْنع الشمسُ المنيرةُ عن ... منافع الأرض أحيانًا فتَسْتترُ أهكذا الدَّهْر ليلٌ (3) كلُّه أبدًا ... فليس يُعْرفُ في أوقاته سَحَرُ أهكذا السيفُ لا تمضي مضاربُهُ ... والسيفُ في الفَتْك ما في عَزْمه خَوَرُ أهكذا القوسُ تُرْمى بالعراءِ وما ... تُصْمي الرّمايا وما في باعها قِصرُ (4) أهكذا يُتركُ البحرُ الخِضَمُّ ولا ... يُلوَى عليه وفي أصْدافه الدُّرَرُ أهكذا بتقيِّ الدِّين قد عَبِثتْ ... أيدي العِدى وتعدَّى نحوه الضَّررُ إلى ابن تيميَّة تُرْمى سِهامُ أذًى ... مِنَ الأنام ويُدْمَى النابُ (5) والظُّفُرُ _________ (1) (ف، ك): «مرثية في شيخ الإسلام تقيّ الدين أحمد بن تيمية من نظم الشيخ شهاب الدين، أحمد بن فضل الله رحمهما الله تعالى ورضي عنهما». وابن فضل الله توفي سنة (749) يعني بعد المؤلف، فلا شك أن الترحّم الواقع في النسخ لم يكتبه المؤلف؛ لأنه توفي قبله سنة (744). انظر ترجمته في «أعيان العصر»: (1/ 417 ــ 433) و «الدرر الكامنة»: (1/ 331 ــ 333). وقصيدته هذه ذكرها في تاريخه المعروف بـ «مسالك الأبصار» انظر «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص 324 ــ 328). (2) (ف، ك): «في الدياجي ... النوء». (3) الأصول: «ليلاً» خطأ. (4) الأصل: «تمضي» والمثبت من باقي النسخ. (5) (ف): «الباب».

(الكتاب/538)


بذَّ (1) السّوابق مُمتد العبادة لا ... ينالُه مَللٌ فيها ولا ضَجَرُ ولم يكن مثلُه بعد الصحابة في ... علمٍ عظيمٍ (2) وزهدٍ ماله خطرُ [ق 165] طريقُهُ كان يمشي قبل مِشْيته ... بها أبو بكرٍ الصديقُ أو عمرُ فَرْدُ المذاهب في أقوال أربعة ... جاءوا على أثَرِ السُّبَّاق وابتدروا لمَّا بَنوا قبلَه عُليا مذاهبهم ... بنى وعمَّر منها مثلَ ما عمروا مثل الأئمة قد أحيا زمانَهم ... كأنه كان فيهم وهو مُنْتَظرُ إن يرفعوهم جميعًا رفعَ مبتدأ ... فحقُّه الرفعُ أيضًا إنه خبرُ أمثلُه بينكم يُلقى بمَضْيَعةٍ ... حتى يطيحُ له عمدًا دمٌ هَدَرُ يكون وهو أمانيٌّ لغيركمُ ... تنوبُه منكمُ الأحداثُ والغِيَر والله لو أنّه في أرض غيركمُ (3) ... لكان مِنْكم على أبوابه زُمَرُ مثل ابن تيميّة يُنْسى بمَحْبِسه ... حتى يموتَ، ولم يُكْحَل به بَصرُ مثل ابن تيميَّة تَرْضى حواسدهُ ... بِحَبْسه، أولكم في حَبْسه عُذَرُ مثل ابن تيميّة في السِّجْن معتقلٌ ... والسِّجن كالغِمْد وهو الصارمُ الذَّكَرُ مثل ابن تيميّةٍ يُرْمى بكلِّ أذًى ... وليس يُجْلى قَذًى منه ولا نَظَرُ مثل ابن تيمية تُذْوَى (4) خمائلُه ... وليس يُلْقطُ من أفنانه الزَّهَرُ _________ (1) الأصل: «يدا». (2) سقطت من (ف). (3) (ك، ط، س): «غير أرضكم». (4) (ف): «تروى» وأشار في الهامش إلى نسخة بالمثبت.

(الكتاب/539)


مثل ابن تيميةٍ شمسٌ تغيب سُدًى ... وما تَروق بها (1) الآصالُ والبُكَرُ مثل ابن تيميّةٍ يمضي وما نَهكَت ... له سيوفٌ ولا خَطِّيّةٌ سُمُر (2) مثل ابن تيميّةٍ يمضي وما عَبِقَت ... بمِسْكه العاطر (3) الأرْدانُ والطُّرَرُ ولا تُجارى له خيلٌ مسوَّمة ... وجوه فُرْسانها الأوضاح والغُرَرُ ولا تَحُفُّ به الأبطالُ دائرةً ... كأنّهم أنجمٌ (4) في وَسْطها قمرُ ولا تُعبِّسُ حَرْبٌ في مواقفه ... يومًا ويضْحَكُ في أرجائها (5) الظَّفَرُ حتى يقوَّم هذا الدين مِن مَيَلٍ ... ويستقيمَ على مِنْهاجه البَشَرُ بل هكذا السلفُ الأبرارُ ما بَرِحوا ... يُبلَى اصطبارُهم جهدًا وهم صُبُرُ تأسَّ بالأنبياء الطُّهْرِ كم بلغت ... فيهم مضرَّةُ أقوامٍ وكم هُجِروا في يوسفٍ في دُخول السِّجن مَنْقَبةٌ ... لمن يُكابدُ ما يَلْقى وَيصْطبرُ أَيذْهبُ المنهل الصّافي وما نَقَعَتْ ... به الظِّماءُ (6) وتبقى الحَمْأةُ الكَدَرُ مضى حميدًا ولم يَعْلق به وَضَرٌ ... وكلّهم وضَرٌ في الناس أو وَذَرُ (7) _________ (1) الأصل و (س): «ترق» ومعنى «تروق بها» أي: تغيب سدًى، ولم يصفُ بسببها صباح ولا مساء. (2) هذا البيت متقدم على سابقه في الأصل، وما في النسخ أنسب. وفي الأصول «نهكت» ولعلها: «نهلَت». (3) (ك، ط): «العطر». (4) (ف): «نجم». (5) (س): «أرجائه». (6) الأصول: «نفعت» ولعله ما أثبت، و (ك): «الظماة». (7) الأصل: «وطر» بالطاء، والمثبت من باقي النسخ. والوضر: الوسخ. والوَذْرة: = = ... القطعة من اللحم، والمرأة الوَذِرة: الكريهة الرائحة، ويقال: يا ابن شامة الوَذْر، كلمة قذف وسب. «القاموس» (وذر).

(الكتاب/540)


طَوْد من الحلم لا يُرقى له قُنن (1) ... كأنما الطَّودُ من أحْجاره حَجَرُ بَحْرٌ من العلم قد فاضت بقيّتُه ... فغاضَت الأبْحُرُ العُظمَى وما شَعَروا يا ليت شِعْريَ هل في الحاسدين له ... نظيرهُ في جميع القومِ إن ذُكِروا هل فيهمُ لحديث المُصْطَفى أحدٌ ... يميِّز النَّقْد أو يُروى له خبرُ (2) هل فيهمُ من يضُمُّ البحثَ في نَظَرٍ ... أو مِثْله من يضمُّ البَحْثُ والنظرُ هلّا جَمَعْتم له من قومكُم ملأً ... كَفِعل فرعونَ مَعْ موسى لِيَعْتبروا (3) قولوا لهم: قال هذا فابْحثوا معه ... بجمعِكُم (4) وانظروا الجهَّال إن قدروا تُلقي الأباطيلَ أسحارٌ لها دَهَش ... فيلقفُ الحقُّ ما قالوا وما سحروا فليتهم مثل ذاك الرَّهْطِ من ملأٍ ... حتَّى يكون لكم في شأنهم عِبَرُ وليتهم أذْعنوا للحقّ مثلَهم ... وآمنوا (5) كلّهم من بعدِ ما كفروا يا طالما نَفَروا عنه مجانَبَةً (6) ... وليتهم نَفَعوا في الضّيم أو نَفَروا هل فيهمُ صادعٌ للحقِّ مِقْوَلُه ... أو خائضٌ للوغى والحَرْبُ تَسْتعرُ _________ (1) الأصل: «لا نوعًا ... »، وفي الأصول: «فنن» بالفاء، والمثبت من (س). (2) البيت ليس في (ف). (3) (ك، ط): «ليعتذروا». (4) بقية النسخ: «قدامنا». (5) بقية النسخ: «فآمنوا». (6) (ف): «مجانية».

(الكتاب/541)


[ق 166] رمى إلى نحر غازانٍ مواجهةً ... سِهامهُ من دُعاءٍ عَوْنُه القَدَرُ بتلِّ راهطَ والأعداءُ قد غَلَبوا ... على الشآم وطال (1) الشَّرُّ والشررُ وشقَّ في المرْج والأسيافُ مُصْلَتةٌ ... طوائفًا كُلّها أو بعضها التترُ هذا وأعداؤه في الدُّور أشْجَعهم ... مثلُ النّساء بظلِّ الباب مُسْتترُ وبعْدَها كِسْروانٌ والجبال وقَدْ ... أقامَ أطوادَها والطَّود مُنْفطرُ واسْتحصَد القومَ بالأسياف جُهْدهمُ ... فطالما بطلوا طغوى وما بَطِروا قالوا: قبرناهُ، قلنا: إن ذا عجبٌ ... ححقًّا ألِلْكوكبِ (2) الدُّرِّيّ قد قَبَروا وليس يَذْهب معنًى مِنه مُتَّقدٌ ... وإنما تَذْهبُ الأجسامُ والصُّوَرُ لم يَبْكه نَدَمًا من لا يَصبّ دمًا ... يَجْري به دِيَمًا يَهْمِي وينهمرُ (3) لَهْفي عليك أبا العبَّاس كم كرمٍ ... لما قَضَيتَ قَضَى من عمره العُمُرُ سَقَى ثَراك من الوَسْميِّ صَيِّبُهُ ... وزان مغناك (4) قَطْر كُلَّه قَطَرُ ولا يزالُ له برقٌ يُغازله ... حُلوُ المراشِف في أجْفانه حَوَرُ لِفَقْد مِثلك يا مَنْ لا لَهُ (5) مَثَلٌ ... تأسى المحاريبُ والآياتُ والسورُ يا وارثًا من علوم الأنبياء نُهًى ... أوْرَثتَ قلبيَ نارًا وَقْدُها الفِكَرُ _________ (1) (ف): «وطار». (2) الأصل: «إلى الكوكب»، (ف): «أحقا للكوكب»، (ك): «حقا وللكوكب». والمثبت من (س). (3) الأصل: «يصيب» خطأ، و (ك): «به وبما .. وتنهمر». (4) (ف): «معناك». ووقع في النسخ «وزار». والمثبت من (س). (5) (ك، ط، س): «ماله».

(الكتاب/542)


[يا واحدًا لستُ أستثني به أحدًا ... من الأنام ولا أُبقي ولا أذَرُ] (1) يا عالمًا بنقولِ الفقه أجْمعِها ... أعنكَ تُحْفَظُ زلّاتٌ كما ذكروا يا قامع البِدَع اللّاتي تجنَّبها ... أهْلُ الزَّمان وهذا البدو والحَضَرُ (2) ومُرْشدَ الفِرْقة الضُّلّال نهجَهُمُ ... إلى الطريق فما حاروا ولا سَهِروا ألمْ تَكُن للنصارى واليهودِ معًا ... مُجادِلًا وهم في البَحْث قد حَصِروا وكم فتًى جاهلٍ غِرّ أبَنْتَ له ... رُشدَ المقالِ فزال الجَهْلُ والغَرَرُ ما أنكروا منك إلّا أنهم جهلوا ... عظيم قَدْرك لكن ساعدَ القَدَرُ قالوا بأنَّك قد أخطأتَ مسألةً ... وقد يكونُ فهلّا منكَ تُغْتَفَرُ (3) غَلِطْت في الدَّهْر أو أخطأتَ واحدةً ... أما أَجَدْتَ إصاباتٍ فَتعْتذرُ ومن يكونُ على التحقيق مُجْتهدًا ... له الثوابُ على الحالَين لا الوَزَرُ ألم تكن بأحاديثِ النبيِّ إذا ... سُئلتَ تَعْرفُ ما تأتي وما تَذَرُ حاشاكِ من شُبَهٍ فيها ومِنْ شَبَهٍ ... كلاهما منك لا يَبْقى له أثرُ (4) عليكَ في البحث أن تُبْدي غوامضَهُ ... «وما عليك إذا لم تفهم البَقَرُ» قدّمتَ لله ما قدّمتَ مِن عملٍ ... وما عليكَ بهم، ذمّوك أو شكروا هل كان مثلُك من يَخْفَى عليه هُدًى ... ومن سمائك تَبْدو الأنْجُمُ الزُّهُرُ _________ (1) هذا البيت من باقي الأصول. (2) (ف): «اللاتي تحببها». (ك): «وأهل البدو» وبهامشه: «نسخه: وهذا». (3) (ف): «فهلّا لا ... »! (4) البيت ليس في (ف). وصدره في (ك، ط): «حاشاك ما شُبه فيها وما شُبه».

(الكتاب/543)


وكيف تحذرُ من شيءٍ تزلُّ به ... أنتَ التَّقيُّ فماذا الخوفُ والحَذَرُ *** ثم الصلاةُ على المُخْتارِ من مُضَرٍ ... من تَسْكبُ المُزْنُ توسيلًا به مطرُ (1) تمت، وهذا البيت الأخير لغير قائلها، وهو الفقير إلى الله تعالى زين الدين عبد الرحمن بن عبد الهادي، غفر الله له ولسلفه ولسائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين. وهي تسعة وسبعون بيتًا. وقد رُثِي الشيخ ــ رحمة الله عليه ــ بقصائدَ كثيرة غير هذه، وفيما ذُكِر كفايةٌ. آخر ما اخْتُصِرَ من المناقب، والحمد لله ربّ العالمين، وصلواته على محمد وآله وصحبه أجمعين. _________ (1) هذا البيت ليس في (ف، ك، ط، س) ولا ما بعده من الكلام. وقد بيَّن ناسخ الأصل أنه ليس من قصيدة ابن فضل الله. وكأن ناسخ الأصل نقل نسخته من نسخة بخط عبد الرحمن بن عبد الهادي أخي المؤلف، فنقل عباراته بحروفها «الفقير إلى الله ... ».

(الكتاب/544)


مراثي ومدائح شيخ الإسلام من نسخ الكتاب مما ليس في نسخة الأصل

(الكتاب/545)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) قال الشيخ الفقيه أمين الدين عبد الوهاب بن سلّار الشافعي (2) رضي الله عنه يرثي الشيخ تقي الدين الإمام أحمد ابن تيمية: كلُّ حيّ له الممات ورودُ ... ليس في [ذي] الدُّنا لمرءٍ خلود كلّ خِلٍّ مفارق لخليل ... كلّ وصل إلى انفصالٍ (3) يعود ليس يبقى إلا إلاه البرايا ... دائم الملك والبقا، لا يبيد عينُ سحِّي بمدمعٍ ليس يرقا ... وسهادٍ دائمْ والاجفانُ جُودُ (4) يالجرح بمهجتي، ليس يبرى ... أو يجودوا بطيفهم، أو يعودوا هل لما بي من مسعدٍ أو معين ... عزَّ صبري، وفَرْط حُزْني يزيد ويْكَ نفسي، تعاملي باصطبارٍ ... فالذي قد قضى بهذا مُريد قد رُزئنا إمامَ عِلْم ودين ... عَدِمَ المثل في الزمان فريد يالحُزْن عليه، عمَّ البرايا ... يا لنارٍ لها بقلبي وقود كان شيخَ الإسلام عقلًا ونقلًا ... سَنن البِدْع عنده (5) مردود كان في العلم والشجاعة فذًّا ... وهو في الزّهد والعفاف يسود _________ (1) البسملة من (ك). (2) هو: عبد الوهاب بن يوسف بن إبراهيم بن السلام أبو محمد الإمام المقرئ (ت 782). ذكر قصيدته هذه ابن ناصر الدين. انظر «انباء الغمر»: (2/ 29)، و «الرد الوافر» (ص 195). (3) (ف): «الفصال». (4) البيت في (ف، ك): «دائمًا وأجفان جود» محرف، ولعله ما أثبت. (5) في «الرد الوافر»: «باب ذي البدع ... ».

(الكتاب/547)


كان بالعرف آمرًا، لا لحظٍّ (1) ... وعن النُّكر للعباد يذود كان لله ذاكرًا كلَّ وقتٍ ... وعن اللهو والضلال بعيد مات لله صابرًا وسط سجن ... يوم الاثنين، سِرُّه مشهود وتولاه الأبرار غسلًا ودفنًا ... أبيض الوجه، في الثرى ملحود حين وافى على الرؤوس مُسَجًّى ... والبرايا من كلّ حيّ وُفُود صِحْتُ من فَرْط ما بدا لي: مهلًا ... لك في جنة الخلودِ خلود يا لها من رَزِيَّةٍ طاش فيها ... كلّ لبّ وتقشَعِرّ الجلود يا ابن تيميّة، عليكَ سلامي ... كلّ وقت يمضي، ووقت يعود يا ابن عبد الحليم، حِلْمك يسمو ... يا ابن عبد السلام، سلمك جود يا إمام العلوم، مَن للفتاوى؟ ... ولحلّ الإشكال حبر تفيد (2) ولفهم الكتاب والنقل بحرٌ ... في معانيهما مصيب سديد يا بشوشًا (3) لكلِّ من رام نفعًا ... إنَّ من نال من جناك سعيد كلّ وقتٍ مضى لديك سماعًا ... ذاك عند التحقيق عُمْرٌ جديد ليت شعري، أيامنا باجتماع ... بك، هل تَبْدُوَنْ (4) لنا أو تعود؟ طبت تربًا، وقُدِّسَتْ منك روحٌ ... ومُنِحْت النعيم مهما تريد والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. _________ (1) (ك): «للحظ». (2) (ف): «يفيد». وفي نسخة «خبرًا» كما في هامش (د). (3) (ك): «بشوش». (4) (ف، ك): «تبدو» ولعله ما أثبت.

(الكتاب/548)


للإمام المحدِّث الفقيه الفاضل تقيّ الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن عبد الله بن سالم الجعبري (1) مرثاة في شيخ الإسلام تقيّ الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية رحمة الله عليه: جلَّ رُزئي وقلَّ مني (2) اصطباري ... يا لقومي من قاصم الأعمار مَنْ مُعيني على نوائب دهري ... ومُلمَّاته، ومَنْ أنصاري؟ قد سقتني الأيامُ جُرعة صبرٍ ... عزَّ صبري لها، وبان اصطباري فدموعي مثل الغمام انسجامًا ... ونُواحي في الليل مثل القَماري يا عَذُولي، أقصِرْ، فإنك خِلْوٌ ... من شجوني فلا احترقت بناري طاب كأسُ المنون صِرفًا أدِرْها ... لا كؤوسًا ممزوجة مِن عُقار لست أبغي الحياةَ بعدُ، ولكن ... بُغيتي أن أموت في الأبرار بعد سبعٍ من المئين وعشريـ ... ـن خريفًا من هجرة المختار مع ثمان للعَقْد عشرون إذ ذاكْ ... يوم الاثنين بعد نصف النهار (3) مدفن الحَبرِ محرزِ العلم حقًّا ... تَرْجُمانِ الكتاب والآثار أحمدٍ، أحمدِ المناقب والوصـ ... ـف ابن تيميّةِ الكريم النِّجار التقي النقي، ذي المجد والسؤ ... دَدِ والمكرُمات، والإيثار _________ (1) (ت 745) ترجمته في «أعيان العصر»: (4/ 462)، و «البداية والنهاية»: (18/ 474). (2) سقطت من (ف). (3) البيت في (ف): وثامن عشرين قعدة كانت ... يوم الاثنين بعد نصف النهارِ

(الكتاب/549)


إن يكن جسمه تغيَّب في التُّرْ ... ب فمعناه نشرُه كالعَرار (1) كان قطبًا، وعالمًا وإمامًا ... [كان] (2) شيخًا لوحده بالفخار جابرًا لليتيم، برًّا، رحيمًا ... علمه مشرقٌ على الأمصار لم أجد بعده مُعينًا على الدهـ ... ـر معينًا سوى عيون جواري فنهاري من فَقْده مثل ليلي ... بعد ليلٍ بوصله كالنهار يا ابن تيميّة، ويا أوحدَ العصـ ... ـر، ويا سيدًا غريبَ الديار كنت كالكهف ملجأً لمخيف ... من ضلال، وناصرًا (3) باقتدار إن دعوتُ البكاء بعدك والصبـ ... ـر أجاب البكا، وولَّى اصطباري فرجائي إن ينقطع مِن وصال ... سوف يبقى حزني مدى الأعمار كنت حِبًّا للمتقين إمامًا ... فَالْقَ ما قد وُعِدْتَ من سَتَّار غافرِ الذنب قابل التوب ذي الطو ... ل، العزيز المهيمن الغفَّار وعلى نفسك الزكية منِّي ... يا منائي ومنتهى أوطاري كلّ وقت: تحيّة وسَلام ... ما أضاءت كواكبُ الأسحار تمت، والحمد لله وحده. * * * * _________ (1) العرار: نبت طيب الرائحة. (2) زيادة لازمة يستقيم بها السياق، وفي النسخ: «وشيخًا». (3) كذا في الأصول «مخيف» ولعلها محرفة عن «مخوف». و (ف): «وناصر».

(الكتاب/550)


للإمام نجم الدين إسحق بن ألمى التركي (1)، يجيب صدر الدين ابن الوكيل، في قصيدة هجا بها شيخ الإسلام أحمد ابن تيميّة، وزَعَم أنه لما خرج من دمشق في محنته الأولى مُطِرت السماء: مَن مبلغٌ عنّي الخبيثَ مقالةً ... كالسيف أَقْصَمَ ظهرَه بفرِنْدِه أزَعَمْت إذ غاب الإمام همى الغما ... مُ؟ كذبتَ، بل بكت السماءُ لفقده أوَ ما ترى شمسَ الضحى في مأتم ... والجوّ قد لبس الحداد لبعده فَلَيَدْخُلَنَّ لأرض مصرٍ آمِنًا (2) ... بسكينةٍ حفَّت به من عنده ولَيْرجِعَنَّ إلى دمشق مؤيَّدًا ... حقًّا، كما عاد الحسامُ لغِمْده وترى بعينك ما يسؤوك من عُلًا ... يفنى الزمانُ، ولا نفادَ لمجده أظللتَ من حمقٍ به متشبهًا ... أين الثعالب في الشَّرَى من أُسْدِه مَخَضَتْكما أيدي الزمان، فكنت كالز ... بد الجفاء، وكان خالص زبده فاستر معايبَك التي سارت بها الرّ ... كبان في غَور الوجود ونجده فكفاك مقتًا أن تكون محارِبًا ... لوليّ ربِّ العالمين وعبده تمت، وهي عشرة أبيات. * * * * _________ (1) تقدمت ترجمته (ص 452). (2) (ك) غير محررة ورسمها «أمامنا».

(الكتاب/551)


للشيخ شمس الدين الذَّهبي مرثية في الشيخ رحمه الله (1): يا موتُ خذ من أردت، أو فَدَعِ ... محوتَ رسمَ العلوم والورع أخذت شيخ الإسلام وانفصمت ... عُرى التُّقَى، واشتفى أولو البدع غيَّبْت بحرًا مفسِّرًا، جبلًا ... حَبرًا، تقيًّا، مجانب الشبع فإن يُحَدِّث، فمسلمٌ ثقةٌ ... وإن يناظر، فصاحبُ اللّمع وإن يخُضْ نحوَ سيبويه يفُهْ ... بكلّ معنًى في الفنّ مخترع وصار عالي الإسناد حافِظَهُ ... كشعبةٍ، أو سعيدٍ الضبعي والفقه فيه، فكان مجتهدًا ... وذا جهاد، عارٍ من الجَزَع وجوده الحاتميّ مُشتهر ... وزهده القادريّ في الطمع أسكنه الله في الجنان ولا ... زال علينا في أجمل الخِلَع مَعْ مالك، والإمام أحمد، والنْـ ... ـنُعمان، والشافعيّ، والنخعي (2) مضى ابن تيميّة، وموعده ... مَعْ خَصْمه يوم نفخة الفَزَع تمت، وعدّتها أحد عشر بيتًا. * * * * _________ (1) وهي بتمامها في «الرد الوافر» (ص 73)، و «التبيان لبديعة البيان ــ ضمن الجامع» (ص 494). (2) (ك): «والخلعي»، وكتب في الهامش: «لعله النخعي».

(الكتاب/552)


وقال بعضهم في شيخ الإسلام تقيّ الدين ــ قدَّس الله روحه ــ: الحمد لله حمدًا دائمًا أبدَا ... مباركًا طيِّبًا يستغرق العددا ثم الصلاة على الهادي وعِتْرته ... وصحبه وذويه الصفوة السُّعَدا بهم وهم خير مأمول وأكرم مَرْ ... جُوٍّ وأعظم مقصود لمن قَصَدا (1) قد أنجز الله للأبرار ما وُعدوا ... من رَفْع نازلة مَسَّت إمام هدى وأصلح الله ذاتَ البين وانفرجت ... شدائدٌ فكَّكت أهوالُها الزردا وأغمد الله سيفًا كان مُشتهرًا ... وأطفأ الله جمرًا كان قد وَقَدا وألَّف الله ما بين القلوب على التْـ ... ـتَقوى، وعرَّفها طُرْق الهدى وهدى فأصبح الناس في صفوٍ بلا كدَرٍ ... من بعدما كان كلٌّ عَيشُه نَكِدا وَعْدًا على الله حقًّا نصرُ ناصره ... كذا عليه به القرآن قد شهدا ولم تكن محنة، بل منحة جمعت ... لُطْفًا خفيًّا، ولطفًا للعيون بدا فيها بصائر للمستبصرين بها ... يُنْبي لمن غاب عنها مَنْ لها شهدا فداوِموا شكر نُعْمَى كالحيا وكَفَتْ ... على الورى وكَفَت كلّ الأنام ردى فيا لها نعمة عمّت سلامة من ... بالروح يُفدى وقلَّت أن تكون فدا فهو الإمام الذي ما زال عند ذوي الـ ... أحكام في سائر الأحكام مجتهدا إن قيل من هو؟ فاطرَبْ عند ذاك وقل: ... نَجْل ابن تيميَّة فاشدد به عضدا _________ (1) في هامش (ك): «هذا البيت فيه إطراء فتأمله. كذا في المنقول عنه. أبو إسماعيل يوسف حسين عفي عنه».

(الكتاب/553)


أو قيل: مِنْ وُلْدِ مَنْ هذا الكريم؟ فقل: ... من وُلْدِ مجدٍ علا، أكْرِم به ولدا مولًى له في جلادٍ أو مجادلة ... لواء نصر وتوفيق قد انعقدا تهاب مجلسَه العالي الملوكُ، ومَن ... يُخشى سَطاه، ومن لم يَرْهَبِ الأسدا من أجل تعظيمه للحقّ لو وقف الْـ ... ـلَيثُ الهصور لديه راح مرتعدا وكونه تَرَك الدنيا وزينتها ... زهدًا ولا سَبَدًا أبقى ولا لَبَدا تصغى المسامِعُ ليتًا (1) عند منطقه ... كأنما السمع بالألفاظ قد عُقدا وتُذْكِرُ (2) اللهَ ذكراهُ ورؤيتُه ... تذكار واجد ما قد كان قد فُقِدا ترى ازدحامًا على أبوابه أبدًا ... إما لكسب علوم، أو لنيل جَدا لم يَدْعُ يومًا على من خاض في دمه ... بغيًا، ولا لام ذا لومٍ ولا حَقَدا وربما استغفر الله العظيم لمن ... عمدًا عليه اعتدى، أو قَتْله اعتمدا كذا يكون فتى الفتيان، لا رجل ... يكون (3) كالنّمر الضاري إذا حَرَدا «هذي المكارم لا قَعبان من لَبَنٍ» ... لا يكفيان لبعض الجائعين غدا له صفات كنَشْر الروض تالدةً ... غِبَّ العهاد (4) عليك الريح مفتقدا أو كالنجوم التي تهدي أخا سَفَرٍ ... ليلًا، إذا ظل في الظلماء منفردا _________ (1) (ف): «لينًا». وفي هامش (ك) ما نصه: «لعله (ليتًا) بالتاء المثناة. والليت: صفحة العنق، وفي الحديث: «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا»، والله أعلم». (2) (ف): «وبذكر». (3) سقطت من (ف). (4) النسخ: «العماد» ولعلها مصحفة عن «العهاد».

(الكتاب/554)


عليه ألبابُ أربابِ التّقَى عكفت ... ومجتنى الشهد لم يُعْكَف عليه سُدَى مَن للمسائل، إن أعيت غوامضها ... يحلّ مشكلها المستصعب العقدا؟ ومن إذا رُصَّ بالسادات مجلسُه ... يكون في صدره صدرًا إذا قعدا يكاد يسلبُ ألبابَ الرّجال بما ... يرويه مما يزيد المهتدين هدى مِنَ العلوم التي عن ربّه صدرت ... ومِن حديثٍ عن المختار قد وردا وعن صحابته والتابعين، وعن ... أئمة ساد مَنْ عنهم روى سندا أم من يشنّف أسماعَ الأنام بما ... يربو على الدرِّ منثورًا ومنتضدا سوى الإمام تقيِّ الدين أحمد تا ... ج العارفين، وقاه الله كلَّ ردى ومن يحدِّث عن بحر، فلا حرج ... عليه، بل هو مأثوم إذا اقتصدا وكم بمصر وبالشام الشريف فتًى؟ ... لكن بمجموع هذا الحَبر ما وُجِدا كفاه آيةَ تأييدٍ سِعايةُ من ... سعى، ولم يستطع يؤذي له جسدا لكنه حين حاز السّبْق من صغر ... وفاق كلَّ كبيرٍ فاق (1) وانفردا وحاز علمًا لَدُنيًّا، ومنقبةً ... تفتتت منه أكباد العِدَى حسدا فأجمعوا كيدَهم يبغون فتنته ... فما أعان عليه ربُّه أحدا ولم يطق حاسد (2) في الأرض قاطبةً ... بأن يَمُدَّ بمكروهٍ إليه يدا وكان سيفًا على الأضداد مشتهرًا ... فحاولوا أن يكون السيفُ منغمدا _________ (1) كذا في الأصول، ولعلها «فات». و (ف): «لما حاز». (2) (ف): «حاسدًا».

(الكتاب/555)


ومن يصدُّ سنا شمس إذا طلعت ... أو يحجب البدر إن شقّ الدّجى وبدا ونور ربّك لا يُطفى، وإن (1) حرص الـ ... خِبُّ اللئيمُ على الإطفاء واجتهدا وقد درى كلّ ذي خُبْرٍ بأنَّ له ... من فيض بحر عطايا ربّه مددا وقد علمتم به لمّا ادّعاه إلى ... مصر الذين علمتم ما بها وُجِدا فاسترشَدَ اللهَ في الإصدار (2) عن بلدٍ ... نَبَا بِه، واستخار الله، ثم غدا فاختار مسراه مولاه ووفّقه ... فيه، وهيَّا له من أمره رشدا وسار والله يكلؤه ويحرسه ... وكيف لا وعليه كان معتمِدا والشمس ما حُجبت بالغيم عن بلد ... إلا أنار سناها غيره بلدا فالدرّ لو لزم الأصداف ما ارتفع الْـ ... ـلَبّات، وارتكب التيجانَ واقتعدا (3) لم يُبْقِ توديعه يوم الرحيل لذي ... صبرٍ وذي جَلَد صبرًا ولا جَلَدا كأنّ حاديه يومَ استقلّ به ... مسيره نحو مصرٍ بالقلوب حدا فاستعبرتْ أعْيُنٌ كادت لفُرْقته ... تَبْيَضُّ حزنًا وأولاها البكا رمدا (4) هذا، وكم قد قضى ظامٍ إليه ولم ... يُقْضى له قبل وَشْك البين أن يردا _________ (1) (ف): «ولو». (2) النسختين: «الاضداد»، ولعل الصواب ما أثبت. (3) البيت في (ف): فالدر لوازم .......... اللبـ ... ـاب، ........... وانعقدا و«ارتفخ» كذا في النسخ. ولعله محرف عن «ارتفع» أو نحوها .. (4) سقط قوله: «حزنًا وأولاها ... يقضى له» من (ف) وهو انتقال نظر.

(الكتاب/556)


وما يَضُرُّ فتًى حالت منيتُه ... دون الأماني إذا ما عُدَّ في الشهدا فحلَّ مصرَ عزيزًا عند مالكها ... وفي مهمَّاته أضحى له عَضُدا لتُشْرق الدولة الغَرّا بِهِ، وإذا ... أضلّ جهلُ جَهولٍ بالعلوم هَدى ويأمر الناسَ بالتقوى ويخبرهم ... بسنة المصطفى، فعلًا ومعتقدا ولا يزال بأعلى فرق منبره ... منزَّهًا أحدًا في ملكه صمدا وفي مجالسه اللاتي يحفّ بها ... ملائكُ الذِّكْر تُحصي مَن لها شهدا يدعو لسيدنا السلطان ناصر ديـ ... ـن الله نجل قلاوون الفتى أبدا بأن يدومَ له في الملك أربعة: ... عزّ، ونصر، وتأييد، وكَبْت عِدَى حتى يُمَلِّكه الله العراق فيمـ ... ـحو الشركَ، والرفضَ منها، والذي مردا وعاد مِنْ مصر نحو الشام في دَعَة ... مصالحًا، مصلحًا ما كان قد فسدا فحين وافى دمشق الشام محترزًا ... من حَلِّ عقد ودادٍ للورى عقدا رَوّى صَدَى مهجٍ قد طالما ظَمِئت ... إليه شوقًا، وجلَّى للقلوب صدا وجاءنا بعد يأس مثل عافية ... جاءت عليلًا، فلما لابسته هدى ولاح شمسٌ على روض وسحَّ ندًى ... والشمس عادتها في الروض رفع ندى واخضرَّ روضُ الأماني ثم فاح شذًا ... بانُ الحمى، وتغنَّى وُرْقه، وشدا وصفّق النهر، والأغصان قد رقصت ... مَسَرَّة بفتًى من مصر قد وردا وسُرّ أهلُ التقى من كلِّ طائفة ... أن عادَ أكرمَ مما كان حين بدا وأنجح الله في الدنيا مقاصدَه ... وسوف يؤتيه أجرَ الصابرين غدا

(الكتاب/557)


فادعوا له، ولمن (1) كان السفير له ... حتى ألمَّ بكم مِنْ بعد ما بَعُدا وحقَّقَ الله ما أمَّلتموه له ... وصار كلٌّ بكلٍّ عيشه رغدا فقل لقوم شقوا: زال الشقاء إلى ... أعدائكم، وبقيتم أنتم السُّعَدا عين أصابت، ولكن عين عائنه ... ألا تروه رقاد الموت قد رقدا والله ما خيَّب الله الدعاة له ... من كلِّ عبدٍ له يدعو إذا سجدا لكن أجابَ وأعطى فوقَ ما طلبوا ... فالحمد لله حمدًا دائمًا أبدا تمت بحمد الله وعونه (2) وحسن توفيقه. * * * * أنشد هذه القصيدة الشيخ الأجل شمس الدين أبو الثناء محمود بن خليفة بن محمد بن خلف المنبجي: قال: أنشدنا لنفسه جميع هذه القصائد: الشيخ الإمام سعد الدين أبو محمد سعد الله بن بُخَيخ (3) في مدح شيخ الإسلام تقيّ الدين ابن تيمية ــ قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه، ورحمه وعفا عنه ــ: أيها الماجدُ الذي فاق فخرًا ... وسما رِفْعة على الأقران يا إمامًا أقامه الله للعا ... لَمِ هادٍ باللطف والإحسان (4) _________ (1) (ف): «وإن». (2) من (ف). (3) في (ف، ك): «نجيح» تحريف، والتصحيح من (ح). وانظر (ص 359). (4) (ك): «للعالمين» وعلق في هامشها: «لعله: للعالم».

(الكتاب/558)


يا غريب المثال، يا موضح الإشـ ... ـكال بالبيّنات والبرهان يا تقيّ الدنيا مع الدين، يا مَن ... خُصَّ بالفضل واكتمال المعاني لا تملّ العُوَّاد إن أكثروا التّرْ ... داد أو أقدموا (1) بلا استئذان أنت روح الوجود في عصرك الآ ... ن وقلب الورى، وعين الزمان والبرايا إذا اعتبرت جميعًا ... منك أضحوا بمنزل الجثمان وإذا الداء خامر الروحَ والقلـ ... ـب تعدّى الدّا إلى الأبدان فجديرٌ بسائر الصّحْب إن هم (2) ... أطنبوا في السؤال للرحمن أن يُدِمْ (3) ظلَّك الظليل عليهم ... سالمًا من طوارق الحَدَثان بالنبيّ الهادي محمدٍ المبـ ... ـعوث بالمعجزات والقرآن وبأصحابه مع الآل والأز ... واج والتابعين بالإحسان (4) صلوات الإلاه تترى عليهم ... وعليه ما أشرق النيِّران تمت و (5) عدتها ثلاثة عشر بيتًا. * * * * _________ (1) (ف): «وأقدموا». (2) (ف): «إنهم». (3) أشار في هامش (ك) إلى نسخة بـ «يديم» لكن ينكسر الوزن بها. (4) (ف): «لهم بالإحسان» ولا يستقيم البيت بها. (5) «تمت و» من (ف).

(الكتاب/559)


وله رحمه الله: يا من له فِطْنة فاقت ذوي الفطن ... يا ذا المناقب (1) والأفضال والمنن يا من أواليه في سِرّي وفي عَلَني ... لا تَلْحُني في انخزالي عن (2) بني الزّمن ولا اغترابي عن الأهلين والوطن يا من لدين هواه بتُّ معتقدَا ... ومَن بذيل هواه ظَلْت معتضدا كن لي عذيرًا فلا نلتُ العداة غدا ... ولا تلمني إذا أصبحتُ منفردا عن الوجود بلا خِلّ ولا سكن كم جهد مثلي أن يُخفي تمَلْمُلَه (3) ... عن الوشاة، وأن يُخفي تحمّله إن نمَّ دمعي بأسراري يحقّ له ... فبي من الوجد ما إنْ لو تحمّله رَضوى لذاب جوى، أو يَذْبُل لفني (4) لكنّ قلبي، وإن ضاقت مسارحه ... لما حوته من البلوى جوارحه به غريمُ غرامٍ لا يبارحه ... ولي من الفكر ندمان أطارحه ما بي، فأفهم ما أشكو (5) ويفهمني شُغِلت فيه به عمّن سواه فما ... أُلْوِي على صَرْف دهرٍ جار أو رَحِما _________ (1) (ف): «يا ذ لمناقب» وكتب فوقها: كذا. (2) (ك): «تلجني». (ك، ف): «انجذابي من» و (ط): «في انخذالي»، والمثبت من (د). (3) (ف): «تملله». (4) تحرف «رضوى» في (ف): «رضى». و «رَضْوى، ويَذْبُل» جبلان مشهوران. «معجم البلدان: (3/ 51، 5/ 433). (5) (ف): «أشكر» وكتب فوقها: كذا.

(الكتاب/560)


ولا أبالي أُذيع السّرُّ أو كُتما ... وكيف أصبح بالأغيار ملتئما (1) وبعض ما بيَ عن إيَّاي يشغلني هذا ولو أُضْرِمت في القلب نار غضًى ... ما ازددتُ إلا ابتهاجًا بالهوى ورضا لكنّ جوهر صبري مذ غدا عَرَضًا ... أنشدت قولَ الفتى الجِيليّ متَّعِظا به ومن مثل قول السيد الحسن (2) مخاطبًا لجهول بات يؤلمه ... عَذْلًا، ويلحاه فيما ليس يعلمه عَنّي ملامك إني لست أفهمه ... وربّ وقت وجودي فيه أسأمه دع الأجانب بل روحي تزاحمني تمت. * * * * وله فيه أيضًا ــ رحمه الله ورضي عنه ــ: يا عالمًا جلَّ عن ضدٍّ يضاهيه ... وفاق أقرانه فيما يعانيه يا ذا الفضائل، يا زين الأماثل، يا ... مُردي المماثل، يا مُوهي مُناويه إيضاح فضلك لا يحتاج تكملةً ... لكن مفصَّله عن ذاك مجزيه يا من إذا رُمْتُ أن أحصي مناقبه ... نظمًا ونثرًا وأنشيه وأرويه حصرت لولا سجاياه تهذّبني ... لما ظفرت بمعنًى من معانيه _________ (1) (ف): «بالاعبار ملتهمًا». وفي هامش (ك): «منقول عنه: ملتهمًا». و (د): «ملتهمًا» وفي نسخة كما هو مثبت. (2) (ف): «به ومن قول سيد الحسني».

(الكتاب/561)


مُحرّر المجد في مدحيك لخّص (1) لي ... هدايةً أرْشَدَت إرشاد تنبيه يا عمدة المُقْتدي حقًّا ومقنعه ... فيما يروم، وكافيه ومُغْنيه ويا نهاية طلّاب الرعاية من ... وسيط علم وخيرٍ أنت حاويه يا غُنية المبتغين الرّشْد مانحهم ... فتوحَ غيبٍ أتى من عند باريه أبديت تعجيز أهل النظم فاعترفوا ... بالعجز عن كُنه ما أصْبَحْت تُبديه (2) لله كم مَيْتِ علمٍ أنت تنشره ... من بعد ما كادت الأيامُ تطويه وكم حصون ضلال أنت هادمها ... قهرًا، وكم قول غاوٍ أنت موهيه بَيّنتَ إفسادَ ما قد حللوه لهم ... تبيينَ تحريمٍ لا تبيينَ تنزيه من الدياثة (3)، حيث الجُعْل يبذله الـ ... ـمسكين من كفِّه، كيما يكافيه وقمت بالحقّ في ذا العصر مجتهدًا ... في نَصْره مُبطلًا دعوى أعاديه يا حجةَ الله في هذا الزمان على الـ ... ـوجود ما بين قاصيه ودانيه يا من براه إلاه العرش داعية ... إلى الهدى بلطيف من تأتِّيه يا كاشف المشكلات المعضلات لنا ... بأبلجٍ مُستنيرٍ من فتاويه _________ (1) (ف): «أخص». (2) كتب أمام هذا البيت في (ف) في طرّة الصفحة (178): «تمت، وله أيضًا يذكر ذلّ الخصوم رحمه الله». وصواب مكانها قبل قوله: «لئن نافقوه ... » كما سيأتي. (3) (ف، ك): «الديانة». و (ط) كما هو مثبت ولعله الصواب. ويشير في هذين البيتين إلى مسألة نكاح المحلل، وصنَّف شيخ الإسلام في بيان المسألة كتاب «بيان الدليل على بطلان التحليل».

(الكتاب/562)


يا مَن أبى مِقْوَلي إلا مدائحه ... ولو مدحت سواه كنت أعنيه ومن حداني إلى أني أخاطبه ... بالمدح، حتى كأني لا أناجيه إلا مخافة ذي جَهْل (1) وذي حسد ... يلحى، فيعرب عمّا فيه مِنْ فيه وإن تعرَّض ذو ضِغْن تلوتُ له ... «فذلكنّ الذي لُمتنّني فيه» تمت (2). * * * * وله أيضًا يذكر ذلّ الخصوم رحمه الله: لئن نافقوه، وهو في السجن، وابتغوا ... رضاه، وأبدوا رِقَّةً، وتودّدا فلا غَرْو أن ذلّ الخصومُ لبأسه ... ولا عجبٌ إن هاب سَطْوته العِدا فمِن شيمة العضب المهنَّد أنه ... يُخاف ويُرجى، مغمدًا ومجرَّدا * * * * وله أيضًا فيه يمدحه رحمه الله تعالى: أيا مَن مناقبه فاخرهْ ... ويا مَن مواهبه غامره (3) ويا من سحائب إفضاله ... بآمال آمالها ماطره ويا من له همة لم تزل ... بُنْجح مقاصده ظافره ويا مَن عزائمه لا تَنِي ... إلى درجات العُلا سائره _________ (1) (ك): «مَحْل». (2) ليست في (ف). (3) (ف، ك): «عامرة»، والمثبت من (ح).

(الكتاب/563)


ويا ليث حرب إذا ما سطا ... تذلّ له الأُسُدُ الكاسره ويا طود حِلْم إذا ما جنى ... عليه امرؤ ينثني عاذره وإن نال منه بسوء المقالِ ... وقُبْح الفعال غدا غافره ويا بحر علم تكاد البحارُ ... تفيض بأمواجه الزاخره (1) ويا مَن أدِلَّته بالنصوص ... لأخصامه أبدًا قاهره ويا مَن براهين أقواله ... كشمس الضحى إذْ بدت سافره ويا مَن عوارف عرفانه ... تفوقُ على الأنجم الزاهره ويا مَن صوارمُ آرائه ... لأعناق أعدائه باتره ويا قدوةً يقتدي العارفون ... بنور هدايته الوافره ومَن قَصْده بهدى الطالبينَ ... يؤيّد باطنُه ظاهرَه ويا داعي الخلق في عصره ... إلى الحقّ بالحُجَج الباهره ويا مَن مكارمُ أخلاقه ... زكت بعناصره الطاهره ويا مَن بدائع أوصافه ... تُعين على مدحه شاعره وماذا عسى يَبْلغ المادحون ... من القول بالفِطَن القاصره (2) ومجدك قد أعْجَز (3) الواصفيـ ... ـن وصيَّر آذانهم حائره ولكنّ ذلك جهد المقِلّ ... فكن بالقبول له جابره _________ (1) (ف، ك): «الزاهرة»، و (ط) كما هو مثبت، وهو الصواب. (2) (ف): «القاهرة»، (ك): «الطاهرة»، وكتب في الهامش: «بدله: القاصرة». (3) (ف) ونسخة في هامش (ك): «أعز»، و (ك): «أعيى»، وما أثبته من (ح).

(الكتاب/564)


أيا مَن دعائي ويا مَن ولائي ... وفائح أثنيتي العاطره (1) لعلياء حضرته دائمًا ... تردّد واردة صادره لعمرك إن كان حظِّي غدًا ... مِنَ الله في داره الآخره كما هو عندك في هذه ... «فتلك إذًا كرَّة خاسره» * * * * وله أيضًا فيه يمدحه رحمه الله تعالى: اللهَ نشكُر مخلصين، ونحمد ... وله نعظِّم دائمًا، ونُوَحِّد وبفضله (2) الضافي نلوذُ ونلتجي ... وإليه نسعى مُخبتين ونَحْفِد وبه نصول ونستعين على العِدى ... إذ لا سواه لنا إلاه نَعْبُد فله الثنا والمجد، إذ هو أهله ... وله الجلالة والبقاء السرمد مولًى حبانا في فتور زماننا ... بفتًى يثقِّف ديننا ويسدّد أعني تقيّ الدين، أكمل سيّد ... لدعائم الشرع الشريف يشيّد العالم الوَرِ ع المحقّق، والذي ... من دون رتبته السُّهى والفرقد من جاد بالنفس (3) النفيسة منه في ... ذات الإلاه ولم يَرُعْه تهدّد _________ (1) (ف): «وفاتح ... العاصره». (2) (ك، ح): «وبذيله» وكتب في هامش (ك) ما نصه: «ظ: بفضله، كذا في هامش الأصل، ولكن الظاهر عندي في متن الأصل. والله أعلم. أبو إسماعيل يوسف حسين. وفي (ف) كتب في الطرّة مقابل البيتين الأولين رمز (ظ) مرتين. (3) (ف): «في النفس».

(الكتاب/565)


مَن لم يخف في الله لومةَ لائم ... كلّا، ولم يرجعه عنه مُفَنّد حَبر حباه الله جلّ جلاله ... بصفات مجدٍ في عُلاه تخلّد هو بحر علم، طود حلم راسخ ... في الحقّ لا وانٍ ولا متردّد صدرٌ لديه تحبّب وتألّف ... للمؤمنين ورأفة وتودّد وكذاك فيه على المنافق غِلْظة ... وتمنّع، وتصَعّب، وتشَدّد هو قائم لله يهدي خلقَه ... أبدًا إلى سُبل النجاة ويرشد فلذاك أصبح للبريّة قدوةً ... في العصر إذ هو فيه قُطْب مفرد لك يا أبا العباس، أذْعَنَ فرقةٌ ... من قبل قد كانت لحقّك تجحَد ضاقت بهم سَعةُ الفضا مذ عاينوا ... لك كلّ يوم رفعة تتجدّد ورأوك ممتازًا بحسن مناقب ... ليست لغيرك في زمانك توجد فعراهم الحسدُ المضلّ فأصبحوا ... ولديهمُ منه المقيم المُقْعِد إن يحسدوك فغير بِدْعٍ منهمُ ... جَمُّ الفضائل لا محالة يُحْسَد راموا بلوغَ مقامك العالي، وما ... علموا بأنّك في المعالي أوحد فدعا بهم داعي قصورهم: اخْلُدوا ... ومع الخوالف ما حييتم فاقعدوا (1) لما نأت عَزَماتهم عن شأوك السْـ ... سَامي (2)، وصُدّوا عن حِماهُ وأُبْعِدوا همّوا بأمر لم ينالوا منه ما ... طلبوا، لقد ضلوا ولمَّا يهتدوا ورموك بالإفك الفظيع، وأطنبوا ... بالقول فيما زوَّروا، وتقلّدوا _________ (1) (ف): «فاقعد». (2) (ف): «الشامي».

(الكتاب/566)


وبغوا عليك بما افتروه تعمّدًا ... وسجيّةُ الباغين أن يتعمّدوا لم يتركوا شيئًا به يتوصّلوا ... طَمَعًا إلى ما قرَّروه وأكَّدوا إلا نَحَوه، وبالغوا في جهدهم ... لكن سعدتَ وإنهم لن يسعدوا حتى إذا ما استيأسوا من نيل ما ... كانوا جميعًا حاولوا وتقصَّدوا خافوا سطاك فأجمعوا آراءهم ... أن يودعوك السّجن، ثم يخلِّدوا فابى إلاهك أن ينالوا منك ما ... راموا، وهل يزكو لباغٍ مقصد ما ذاك إلا حال يوسف حُزته ... إرثًا حباك به الكريم المرفد (1) فبلغتَ فيه من الرياضة فوق ما ... تختاره، وَصَفا لديك المورد ثم انقضت أيامُ خَلْوتك التي ... كَمُل العلاءُ بها وتمَّ السّؤدد وبرزتَ كالإبريز فارق كِيْرَه ... فاحتار فيه الجِهْبِذ المستنقد وظهرتَ كالصبح المنير إذا بدا ... في الأفق فانقشع الظلامُ الأسود وشُهرت كالعَضْب المجرّد مقسمًا ... في غير هامِ عِداته لا يغْمَد فهناك أُعْقِد للجدال مجالس ... كانوا أرادوا أنها لا تعْقَد فرأوا نكولًا عن جدالك خيفة (2) ... وتذبْذَبتْ آراؤهم وتفنَّدوا حتى إذا أُمِروا بذاك وأيقنوا ... أنَّ الخميس، ولا خلاف الموعد حشدوا عليك جموعَهم وتحزَّبوا ... وتواثبوا وتحفَّلوا وتجرّدوا _________ (1) (ف): «إربًا حباك» وفوق الأخيرة رمز (ظ). (2) (ف): «خفية».

(الكتاب/567)


وحموا عصابتك الحضور وحاولوا ... [أن يغلبوك] (1) إذا هُمُ لك أفردوا فنهضتَ معتصمًا بربّك واثقًا ... متوكّلًا تثني عليه وتَحْمد وإليه أخلصتَ التوكّل موقنًا ... أن ليس يُخْذَل من به يَسْتنجد ثم استخرت الله واستفتحته ... فيما تروم من الأمور وتقصد فحباك منه عواطفًا ولواطفًا ... يفنى الزمانُ وذكرُها لا يَنْفَد وأتاك نصر الله والفتح الذي ... بهما جميعًا كنتَ منه توعَد فوثبتَ وثْبَة ثائرٍ لله لم ... تحفل بما حشدوا، ولا ما جنَّدوا أبديتَ من كنز العلوم غوامضًا ... مكنونةً لولاك كانت تُفْقَد أسْمَعْتهم (2) منها لِمَا لم يسمعوا ... وأتيتهم منها بما لم يَعْهدوا أسندتها ورَوَيتها نصًّا كما ... جاءت معنعنةً، فيالك مُسند حَصِرت صدورُهم عن استفهامها ... وتحيَّروا لسماعها وتبلَّدوا وبدا لهم ما لم يكونوا يحسبوا ... مما يسوؤهمُ ومما يُكمِدُ فاسعد بها من مِحْنة في طيِّها ... مِنَح أقرَّ لها الجَحُود الملحد نِلْت الفَخار بها وحزتَ مآثرًا ... سُرّ الصِّحابُ بها وغُمَّ الحُسَّد وغدوتَ فيها كابن حنبل تاليًا ... تقفو جميلَ جماله وتجدّد أخمدت نار جهالة، ما خِلتُها ... لولا جهادك واجتهادك تُخْمَد _________ (1) (ك): «وجادلوا». والشطر الثاني أوله بياض في النسخ. وكتب في هامش (ك): «كذا في الأصل بياض» أبو إسماعيل يوسف حسين. وفي هامش (د): «لعله: أن يغلبوك» ومنها أثبتناه بين معكوفين. (2) (ك): «أسمعته».

(الكتاب/568)


أرْضَيتَ ربّك إذ أضفتَ كلامَه ... حقًّا إليه، وليس فيه تردُّد وكذاك أثبتَّ العلوَّ والاستوا ... من غير تكييفٍ وحصرٍ يوجد ونزول خالقنا إلى أدنى سما (1) ... ليلًا، كما صحّ الحديثُ المُسْنَد وذكرتَ أسماء الإلاه، ولم تَزِغ ... ميلًا إلى ما حرَّفوه وألحدوا ورويتَ أخبار الصفات وآيها ... مَرًّا، كما نقل الثقاتُ وجوَّدوا ونصرتَ ملّة أحمد الهادي، وقد ... أيّدت سنته، فأنت مؤيّد وأقمت مذهب أحمد الثبت الصبو ... ر على الأذى، فلك الهنا يا أحمد أوضحتَ منهجه السويّ (2) وأنه ... مُذ كان فهو المستقيم الأرْشَد وأثرتَ محنته وقمت مقامه ... في العصر تُرْغم شانئيك وتُكْمِد فاحمد إلاهك، إنّه لك ناصر ... وابشر فعاضدك النبيّ محمّد المصطفى الطَّهِر الزكيّ المجتبى ... الهاشميّ الأبطحيّ السيّد خير الورى وأجلّ مَن وطئ الثرى ... وأبرّ مبعوثٍ به يُسْترشد صلى عليه الله ما سَجَعت ضحًى ... وُرْقٌ على أعلا الغصون تغرِّد وعلى صحابته الكرام وآله ... والتابعين لهديه وبه هُدوا والحمدُ لله العميم نواله ... والحمدُ [أفضل] (3) ما يقال وأوكد تمت، والحمد لله وحده. _________ (1) (ف، د): «هذي السما». وأشار في هامش (د) إلى نسخة بما هو مثبت. (2) (ف): «النبي»، (ح): «النبوي». (3) بياض في الأصول، وتركه بياضًا في (ك) وأشار في الهامش أنه كذلك في الأصل. وقدر البياض في (ط): «أفضل». وفي هامش (د): «لعله: أحق ما يقال. وكتب تحتها: أفضل».

(الكتاب/569)


وله أيضًا يمدحه (1) ــ رحمه الله ورضى عنه ــ: الحقُّ حصحص لا عذرٌ لمعتذرِ ... وقد تحقَّقه من كان ذا بَصَر وفاح عَرْفُ شذاه في الوجود فظلْـ ... ـلَ الكون في أَرَجٍ من نشره العَطِر ولاح لألاؤه في الأفق، فانقشعت ... غياهبُ الإفك من خوفٍ ومن حَذَر وفَرَّ يُدْبِرُ يمشي القهقرى، واهتكوه ... له تبع تسعون في الأثر (2) مذبذبين لضعف العزم تحسبهم ... سفرًا [أعَاقَهُمُ] (3) جبنٌ عن السفر ضاقت بهم سَعَةُ الأقطار حين سما ... سموّ قَدْر تقيِّ الدين في البشر وفاق أنداده في العصر قاطبةً ... بالعلم والحلم، والتفسير، والنظر وامتاز بالدرجات العاليات على ... شيوخ أشياخهم في سالف الدَّهَر كانوا يظنون أنّ العلم منحصرٌ ... فيهم إلى أن أتاهم أحمد الأثر ركن الشريعة محيي العدل ناصر ديـ ... ـن الحق، مستنصر بالآي والخبر ففلَّ بالنصِّ والإجماع جَمْعهم ... فأصبحوا بعد ذاك (4) الحصر في حَصَر _________ (1) (ف): «يمدحه بها». (2) كذا البيت في النسختين، وفي هامش (ك): «كذا في الأصل». وأصلح البيت في (ط) وعنها في (د) إلى: ...................... هنا ... له توابع تسعى منه في الأثر ويمكن إصلاحه هكذا: ........... القهقرى (وَهَنًا) ... (وكم) له تبع يسعون في الأثر (3) في (ف، ك): «قد أضافهم» ولا يستقيم. و (ح): «قد اعناقهم». وهي الأقرب إلى ما أثبت، وفي هامش (ك): «كذا في الأصل، أبو إسماعيل يوسف حسين عُفي عنه. وأصلحها في (ط): «أصابهم». (4) سقطت من (ف).

(الكتاب/570)


لا يهتدون إلى رشدٍ، وإنهمُ ... لفي ضلال، وفي غَيٍّ، وفي سُعُر قد حُمِّلوا حسدًا من عند أنفسهم ... له فهم منه، في همٍّ (1)، وفي فِكَر تبًّا لهم، ما الذي نالوا بسعيهم؟ ... وما عسى بَلَغوا في ذاك من وطر؟ أيستطيعون أن يمحون ما كَتَبتْ ... يدُ المهيمن بعد الذِّكر في الزُّبُر؟ أم يقدرون على تبديل ما نفذت ... به نوافذ أمر الله من قدر؟ بل كلما أوقدوا للحرب نار غَضًى ... بالكيد منهم طفاها مُنْزِل السّور وردّ كيدهمُ فيهم وأرجعهم (2) ... بالتَّعس والنَّكْس والخذلان والدّبر واختاره للورى داعٍ إلى سبل الـ ... خيرات، والنفع نَهَّاءً عن الضَّرر واختصَّه منه بالزُّلفى وثَبّته ... بالحزم، والعزم، والتأييد، والظَّفَر وكم مناقب مجدٍ قد حباه بها ... وزاده بسطةً في العلم والعمر وكم له في ذُرى العَلْياء مرتبةٌ ... منيفة نالها من بارئ الصور وكم له من أيادٍ في العطاء غدت ... تُربي على العارضِ الهطّال بالمطر وهمة في المعالي غير وانية ... تُزري إذا ابتدئت بالصارم الذّكَر وكم له من كرامات مبينة ... سنَاؤها كضياء الشمس والقمر وحسبنا عود أهل العُودِ معجزةً ... ما مثلها عبرة تبقى لمعتبر رؤوس كلّ ضلالات ومحدثة ... وبدعة نشأت في البدو والحضر _________ (1) سقطت من (ف). (2) في هامش (ك) ما نصه: «نسخة: «فيه» وهو الصواب، كذا في هامش الأصل. والصواب عندي أن كليهما سواء لا مزية لأحدهما على الآخر» أبو إسماعيل يوسف حسين. و (ف): «وراجعهم».

(الكتاب/571)


لما استقرَّ لديهم عُلْوُ هِمّته ... وأن سيرته من أكمل السير وأنّ دعوته للناس كلهم ... إلى الهدى باجتهاد غير محتصر وأنّه قائم لله منتصبٌ ... في نُصرة الدين لا يخشى من الخطر خافوا سَطاه، فمذ حلّوا بساحته ... وشاهدوا مَخْبرًا يوفي على الخبر وعاينوا وجهَه الهادي، وقابلهم ... منصور عزم بربّ العرش مقتدر وجاءهم بأسانيد مُعنعنةٍ ... عن الهُداة الثقات القادة الغُرَر وقام بالحجج المقبول شاهِدُها ... مميزًا بين عُرْف القول والنُّكُر مبرهنًا بدلالات منوّرة ... يُهْدَى لعرفانها من كان ذا نظر فأذعنوا عَنوةً للأمر حين رأوا ... نورَ الحقيقة بادٍ غير مستتر ولم يسعهم مُماراةٌ، ولا جدل ... لكنهم سلَّموا تسليمَ مُنْقهر وهذه شيمةٌ بين الورى عُرفت ... فيمن يخالفه من سائر البشر إذ قلَّما فاء منهم للهدى أحدٌ ... حتى يُرى فيه أنواعٌ من العِبَر فالحمد لله كالِيْه وناصِره ... ومجتبيه وواقيه مِن الغِيَر وأكمل الصلوات الزاكيات على ... رسوله (1) المصطفى المختار من مضر محمد السيد الهادي وعترته ... وصحبه الأكرمين الأنجم الزُّهُر صلى الإلاه عليهم كلما سجعت ... حمائمُ الدَّوح بالألحان في السَّحَر تمت والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه (2). _________ (1) سقطت من (ف). (2) «وحده» من (ك)، و «صحبه» من (ف).

(الكتاب/572)


وله أيضًا في تبيين عدم قيام الأصحاب مع الشيخ، حين يَعْظُم الخَطْب، ويقع الحرب: سبرتُ خلالَ الأصفياء تدبّرًا ... وميّزتُ أحوالَ الصِّحاب تأمّلا فشاهدتهم في السلم مَن تَلْقَ منهمُ ... تجده محبًّا يدّعي صحّة الوَلا وعند نزول الخَطْب حاولتُ أن أرى ... أخا ثقةٍ إن أدبر الحظُّ (1) أقبلا فلم ألق إلا لائمًا مُتبرِّمًا ... ولم أر إلا شاتمًا متعقِّلًا فلما تحقَّقْتُ التخلّفَ منهمُ ... شطبتُ عليهم شَطْبة الضب: «لا إلى» (2) تمت. * * * * وله أيضًا فيمن أبدى عذلًا في حبّه ومتابعته جهلًا: سيّان إن عَذَل الواشون أو عذروا ... لا خُبْر عندهمُ منه ولا خَبَر لاموا على حبّه جهلًا، وما عقلوا ... وعنَّفوا فيه عدوانًا، وما شعروا ولو رأوا حُسْنَه الزاهي بأعينهم ... كما أراه أقلّوا اللومَ واقتصروا ولو تجلَّت معانيه الحِسانُ لهم ... وشاهدوها كما شاهدتها بُهِروا لكنه مُذْ بدا لألاؤه غَشِيت ... أبصارُهم، فانثنوا منه وما نظروا تمت، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله. _________ (1) غيرها في (ط): «الحرب». (2) في (ف، ك): «الصب». يشير إلى اصطلاح المحدثين في الضرب على الكلمة أو الكلمات بوضع «لا» في أول الكلمة و «إلى» في آخره.

(الكتاب/573)


مرثاة أخرى لغيره: فقدَ الأنامُ فوائدًا وفضائلًا ... فقدوا من العلم الشريف جلائلا في موت بحر العلم والحَبر الذي ... سلك العلوم مذاهبًا ودلائلا أعني تقيَّ الدين أوحدَ عصره ... قد كان حقًّا بالفضائل عاملا قد أُوْدِع القبرُ الشريفُ علومَه ... عجبًا لوسع القبر بحرًا سائلا قد كان لا يحتاج طالب علمه ... كثر (1) السؤال، وليس يلقى سائلا قد كان ركنًا في المواعظ جملة ... بحرًا عميقًا إن أردت مُسائلا وإذا رآك يكون حقًّا بادئًا ... لك بالسلام مُوادِدًا ومُسائلا يا ربّ، فارحمه وبُلَّ ثراه بالـ ... ـغيث الكريم، معاودًا ومواصلا يا ربّ وافعل ذا بكلِّ موادِدٍ ... ومجاورٍ قبرَ الإمام مؤمّلًا يا رب وارحمنا، وكلّ مشيِّع ... صلى عليه، أو أتاه مُقَبِّلا من كان مسرورًا به وبعلمه ... من بعده، فالحزن أضحى عاجلا زكّى الإلاه ثراه، فضلًا منه في ... كلّ الزمان، وزاد غيثًا هاطلا بعد السلام على النبيِّ المصطفى ... أعلى البرية في المعاد منازلا وعلى الصحابة والقرابة كلّهم ... والتابعين أواخرًا وأوائلا تمت. * * * * _________ (1) (في): «كثير».

(الكتاب/574)


وقال بعضهم في شيخ الإسلام ــ رحمه الله ورضي عنه وجعل الجنة مأواه ــ: دموعي على صحن الخدود تسيلُ ... وصبري قصير والغرام طويل على فَقْد مَنْ قد كان للدين ناصحًا ... وكافح أهلَ الشرك وهو فضيل لفقد تقيّ الدين ضاقت مذاهبي ... وفي كبدي نار الفِراق تجول إمامٌ كريم، كان لله عابدًا ... وفي زهده شرحٌ هناك يطول وقد كان للإسلام كهفًا ومسعدًا ... إذا ما أصاب المسلمين نزول وكان على حكم المهيمن صابرًا ... وفي كلّ ما يُلْقى إليه حَمُول بشرع رسول الله قد كان قائمًا ... وعن سنة الرحمن ليس يحول وجاهد في الرحمن حقَّ جهاده ... وكان له صبر عليه جميل لقد بكت الدنيا حقيقًا لفقده ... ويبكيه علمٌ نافعٌ وأصول وفي أرض مصر يالها من عجائب ... لديه جرت، وهو الصبور الحمول ألا يوم الاثنين الذي كان قبضُه ... ففيه عزاء المسلمين جزيل وفي سجنه يتلو ثمانين خَتمةً ... قراءةَ ترتيل وقصد سبيل وفي موته دقّت بشائر رحمةٍ ... أتاه من المولى رضًى وقبول وسار إلى ربٍّ قديم مهيمن ... عظيم كريم ليس ذاك قليل عليه سلام الله ما لاح بارقٌ ... وما سار غيث بالسماء هطول * * * *

(الكتاب/575)


بسم الله الرحمن الرحيم، هذا نظمه العبد الفقير إلى رحمة ربه ومغفرته بدر الدين حسن بن محمد النحوي المارداني (1)، في الشيخ الإمام العالم العلامة (2) الأوحد، شيخ الإسلام، وقدوة الأنام تقي الدين أحمد ابن تيمية ــ تغمده الله برحمته ورضي عنه ــ: ألا أيها القلب الذي عدم الصبرا ... أفِقْ طالما جرعت من لوعة صبرا ويا عبرات الجفن أظهرتِ بالأسى ... لنا عبرًا بالدّمع أسطرها تُقرا (3) أيأمن مِنْ خَطْب الليالي مُخَاطبٌ ... وشيمتها في الناس أن تظْهِر الغدرا (4) وهل خالد في الدَّهر عمرو وخالد ... لعمرك لا يبقى، ولو أمَّل العمرا قضى ماجدٌ، ما مثله اليوم واحد ... وأبقى جميل الفعل من بعده ذكرا دمًا لو بكته دِمْنَةُ الربع والدُّمى ... وأمطرت الشِّعرى العبور لها العبرا أو اغبرَّ وجهُ الروض (5) يوم مُصابه ... لقلّ، وجلَّ الخَطْب من فقده قدرا فتًى ألِفَ المعروف والجود عادة ... تعوَّدها طفلًا، وكان بها أحرى كأن لم يقل يومًا مقالًا، فتنثني ... إلى قوله الأسماع طائفة قهرا ولا ظهرَتْ بين الأنام علومُه ... ولا طَرَّزت شامًا ولا جَمَّلت مصرا _________ (1) لم أقف على ترجمته. (2) من (ف)، و (ح): «العامل». (3) (ك): «سطرًا»، وفي هامشها نسخة بما هو مثبت. (4) (ف): «العذرا»، خطأ. (5) غيرها في (ط): «الأرض».

(الكتاب/576)


دعاني ظلال الصبر في صبر فقده ... فأرسل رُسْل الدمع من مقلتي تترا سننتَ تقيّ الدين أحمد سُنةً ... وأوسعت في كَسْب العلا بالندى صدرا أيا شافعيَّ الوقت في ضبط نقله ... نثرتَ على الأيام من لفظك الدرّا قنعتَ وفي الدنيا زهدت ديانةً ... وفارقتها واخترت ضَرَّتها الأخرى أفضتَ على الايام بحرَ مكارمٍ ... وعلم، فأربحت المتاجرَ والأجرا عجبتُ لقبرٍ ضمّ جسمك تُربُه ... أيحوي الثرى في تربه الشمس والبحرا! نُقِلت من الدنيا إلى ظلِّ روضة ... وحُزت الذي أمَّلت بالمقلة السَّهْرا وشاهدت في حُسْن الزيادة نَضْرة ... وألْبِسْت وشيًا عند نظرتها نظرا تدرَّعتَ أثوابَ المحامد والتقى ... كعرضك بيضًا وابتدلت بها خَضْرا (1) لئن نقلَ الأعداءُ عنك ضلالةً ... رواية نقلٍ ما أحاطت بها خُبْرا وإن أودعوك السجن منهم جهالةً ... فقد زدت قدرًا عندما نقصوا قدرا فما يختفي إلا الجواهرُ في الورى ... ومن ظُلَم الأصداف يستخرج الدرّا أيا سائلي، عن علمه وصفاته ... هو البحر فاعجب فيه (2) من يصف البحرا هو الغيث يثني (3) عنه كلّ لطيمة ... من الروض بل تزكو لأوصافه نَشْرا سما حاتمًا جودًا، وفاخر عاصمًا ... ففاق لمن يقري الضيوف ومن يقرا _________ (1) (ف): «بعرضك ... حضرا». (2) سقطت من (ف). (3) (ف، ح): «ينثني».

(الكتاب/577)


أيا بطَلٌ، يوم الجدال مجدِّلٌ (1) ... فوارسَ علم من فواضله قهرا إذا قال في علياك أمعنُ قائلٍ ... فما حاط من معشار ما نلته العُشْرا وماذا يقول المادحون بوصفه ... وقدرك فوق الشِّعْر جلّ عن الشِّعرى تفرّدت في عِلْم وزهد وفطنة ... فضلت بها في الفضل بين الورى ذكرا أعدت نهار الجهل ليلًا مسوَّدًا ... وكافر ليل الكفر صيّرته فجرا نظمت على جيد الزمان قلائدًا ... بفضلك نظمًا من علومك أو نثرا لقد كنت في يوم الفَخَار وفي الوغى ... شجاعًا يردّ الليث عن سبله قهرا سيوفك بيض مثل عِرْضك في الورى ... إذا اسودّ ليل النقع، صيَّرتها حُمرا كأنك قد أُفْرِغْتَ في فرد قالب ... تلاشى فلم يصبر على قلبة أخرى فجئت على الأيام فردًا ومن رأى ... مثالك (2) من كنز المكارم قد أثرى فأقسم بالقرآن في العصر صادقًا ... بأنك قد شرّفْتَ من دهرك العصرا سقاك حيًا من وابل الغيث ثَجَّةٌ (3) ... وحيّا ندًى قد ضمّ مِن كفِّك البحرا ونوّر نوّارُ الربيع ربوعَه ... وأطلع في أرجائه الزّهر والزهرا تمت بحمد الله وحسن توفيقه. * * * * _________ (1) (د): «مجندل»، وفي هامش (ف) كتب: «لعله: مجندل». (2) (ف، د): «مثلك». (3) (ف): «شجره»، (ك): «سحرة»، والمثبت من (د). والثج: الصب الكثير. انظر «اللسان» (ثجج).

(الكتاب/578)


وله أيضًا فيه ــ رحمه الله ورضي عنه ــ آمين: أبى اليومَ سرُّ الكون أن يتكتَّما ... وصبغ مشيب (1) الدّمع أن يتكلَّما وكلُّ مصون من شجون ولوعة ... به تمَّ فَرْط الحزن والدمع قد نما قضى ومضى مولى سما كلَّ ماجد ... فأوحش رَبْع المكرمات وأظلما غمامة جود أقلعت بعد صوبها ... وبدرُ سُعودٍ غاب لمَّا تتمّما وبحرُ علوم غاض زاخرُ يمِّه ... وركن معالٍ قد وهى وتهدّما عيوني مصاب الخطب لما تحققت ... بها الدمع (2) من جفني تَعَنْدَم عندما أيا فاضل العصر الذي في صفاته ... تأخّر من في الفضل عنه تقدَّما قضيت جميلَ الفعل أوحد ملّة ... حمى الدين والإسلام عزمًا وسلّما ليهْنِكَ كم جدّلت يومًا مجادلًا ... وكلمته باللفظ منه تكلّما نثرت على فرق الزمان جواهرًا ... ودُرًّا على جيد الليالي تنظّما بفضل صلاة مع صلاتك في الدُّجى ... وجودك والإحسان أربحت مَغْنما سبقت إلى الغايات في الفضل للورى ... على قدم، مقدامها قد تقدَّما مضى عَلَم في الناس حَبْر معلّم ... فأوحش من رَبْع المدارس مَعْلما فأصبح درس الفضل والعلم دارسًا ... يودّ بأن يشكو الجَوَى ويُكلَّما فتًى لو قُلامات الأنامل قلّما ... لكان شبيه مثله اليوم قلّما (3) _________ (1) كذا في النسخ ولعله: «وصُنْع مُسِيل الدمع ... ». (2) (ف): «للدمع». (3) (ف): «قلامات الأمامل»، و (ط): «قلامات الأظافر» والمثبت من (ك). و (ف، ح، د): «شبيه مثلها».

(الكتاب/579)


فلو أنصفته الباكياتُ لفقده ... بكته دمًا من فيض أجفانها الدَّمّا (1) فتًى صيَّر المعراج للخلد في الدّجى ... بأوراده، لما تسلَّم سلما فكم جادلَتْ أقوالُه من معاند ... تقاصر عنه، حين أقدم أحجما وكم ردعت أراؤه من مخالفٍ ... عن الدين بحثًا، حين سلّم أسْلَما لبست تقيَّ الدين ثوبَ نقاوة ... من الفضل عن مولى سواك تحرما تخيرت ما يبقى على كلِّ هالك ... فأرْبَحت من تلك التجارة مَغْنما لقيت الذي قدَّمته من صنائع ... من الخير أو ما جُدْتَ منك تكرُّما وفي الحشر تلقى كلُّ نفس نفائسًا ... ويُجْزَى الذي في الناس أجرم أجرما تأخَّرت عن نيل المناصب رفعةً ... ومثلك في أيامنا ما (2) تقدَّما بنيتَ على الإسلام ركنًا ومَعْصَمًا ... يقبّل منه المجد كفًّا ومِعْصَما أقمتَ قناةَ الدين منك بعزمةٍ ... وأطفأتَ نار الشرك منك فأظلما صبرت على حمل الأذى منك راضيًا ... وأعرضت عن فعل الأعادي تكرُّما شهرت على أهل البدائع في الورى ... صوارم شِرْكُ الكفرِ منها تصرّما وقفتَ على يوم الجلاد شجاعة ... بعزمٍ يردّ المشرفيّ مُثَلَّما إذا بكت الأبطال خوف قبيلةٍ ... ضحكت بثغرٍ في الوغى قد تبسَّما ولما تبدّى نورُ نعشك لامعًا ... تمنَّت بنات النعش أن تتحطَّما وودّت بأن تدنو الثريّا إلى الثرى ... نثارًا عليه، رِفْعة وتعظّما _________ (1) (ف، د): «دما». (2) (ك): «قد» وفي هامشها إشارة بما هو مثبت في نسخة.

(الكتاب/580)


نزلتَ على أهل المقابر رحمة ... وأنقذتهم من ظلمة الظلم والظّما (1) سقى قبرك الوسمي في كلّ سَحْرة ... سحائبُ رضوان به الروض وسّما (2) ورفّ عليه الأقحوان مفلّجا ... وأطلع فيه الروض نجمًا وأنجما تمت، والحمد لله ربِّ العالمين. * * * * بسم الله الرحمن الرحيم، مرثاة في شيخ الإسلام العالم الرباني أحمد ابن تيمية الحرَّاني، للشيخ شمس الدين الحنبلي، من أهل الصالحية، ومولده قريبًا من سنة إحدى وسبعمائة بسفح قاسيون: خَطْب جسيم [عَرانا] هائل جَلَل ... قد عزَّ منه العزا، وابيضّت المقل والوقت قبض، فلا صبر ولا جَلَد ... أتى وصَرْف الليالي سابق عَجِل والأمر يَعْظُم (3)، والأفكار حائرة ... وقد أحاطت بنا الأهوال والوجل كأنما الشمس في جوِّ السما كسفت ... وضوؤها بائن عنها ومنفصل والجوّ في مأتم، كالليل منظره ... كأنَّ جنح الدّجى في الليل مُنْسَبل (4) فدمعتي بدمي يا سعد قد مُزِجت ... كأنما في فؤادي النار تشتعل أُمسي وأصبح والأحزان تكمدني ... وحسرتي بدوام الدّهر تتصل (5) _________ (1) هذا من المبالغات غير المحمودة. (2) «في» سقطت من (ف)، و (د): «الوسمي كل سحيرة ... ... بها الروض قد سما». (3) النسخ: «معظم» وما أثبت يستقيم به الوزن. (4) (ف): «منبسل» خطأ. (5) في هامش (ك): «لعله: متصل».

(الكتاب/581)


قد زادني أسفي، واشتدّ بي جزعي ... وأيقنتُ أنْ حياتي حثَّها الأجل وارَحْمتا لقلوب فُطّرت أسفًا ... لقد عراها مصابٌ حادثٌ جَلَل وساءها فَقْدُ من كان الأنيس لها ... وخاب عند رجاها القصدُ والأمل يا باكيًا طول [هذا] (1) الليل منتحبًا ... لا يعتريه على طول البكا ملل زد في البكاء بدمعٍ هاطل هَمِل ... عسى بدمعك حرّ الوجه ينغسل واعلم بأنّ السما والأرض باكية ... على ابن تيميّة، والسهل والجبل هذا الإمام التقيّ السيد الألمعي (2) ... البارع، اللوذعيّ الجامع الوجل حَبرٌ، إمامٌ، تقيٌّ، زاهدٌ، ورع ... ليث، همام، حصور، أوحد، بطل العلم، والحلم، والآداب: شيمتُه ... واللطف، والجود، والإحسان مكتمل ماذا يقول فصيحٌ في مناقبه ... والزهد منهجه، والعلم والعملُ لقد حبا الله أيّام الزمان به ... علومه أبحر، والخلقُ تنتهل قد كان كالشمس للدنيا إذا طلعت ... واليوم، لا عِوَض عنه، ولا بَدَل نال الهداية في مبدا هدايته ... وفي نهايته الإرشاد والجمل قد كان معتصمًا بالله منتصرًا ... وواثقًا، مكتفٍ بالله، مُتَّكل لله درّ أبي العباس مِنْ رجل ... ما إن يُرى في البرايا مثله رجل تالله لا عاذل بالعذل يعدلني (3) ... عنه، وحاشاي أنْ يُلْهِيني العذل _________ (1) (ف): «بطول». والزيادة يستقيم بها الوزن. (2) في هامش (ك): «كذا في الأصل، ولعله: اللمعي». (3) (ف): «بعذلني» خطأ.

(الكتاب/582)


يا سيَّد العصر كم خلَّفت من كبدٍ ... حرَّى عليك، وعينٍ دمعها هَطِلُ ليبكينَّ عليك العلمُ مِن أسفٍ ... ليبكينّ عليك الفقهُ والجَدَل ليبكينَّك أقوامٌ إذا وفدوا ... من البلاد بعلم أمره شَكِل لتبكينّك دارٌ كنت تسكنها ... وتشتكي فقدَك الأسحارُ والأُصُل فازوا بعلمك أقوام، وقد سُعِدوا ... إذ عن جناب حماك الرّحْب ما عدلوا وشاع ذكرُك في الدنيا بأجمعها ... فأنت في الناس مضروبٌ بك المثل دانت لعلمك أهلُ الأرض قاطبةً ... فأنت مفتي الورى في كلِّ ما جهلوا شبَّهت علمك بالبحر المحيط كما الـ ... ـبحر المحيط بكلِّ الأرض مشتمل وإن تكن في مجال الدرس كنت به ... ليثًا تصول، ومن ألفاظك الأسَل تروي الخلاف وتأتي بالأصول وعن ... أهل الحديث بما قالوا وما نقلوا وذكر (1) علمك في الآفاق منتشر ... على ممرّ الليالي، ليس ينفصل كم قد أتتك فتاوى لا عِداد لها ... أجبتَ أربابَها عن كلّ ما سألوا وكم أجبت النصارى عن مسائلهم ... بمُخْرِقات (2) علوم عنك تنتقل وكم قمعت ـ فدتك النفسُ ـ من بدع ... وكنت فيها بأمر الله تستطل وكم تواضعت عن علمٍ ومعرفة ... تقًى، وقدرك بالجوزاء منتعل (3) لقد رويت من الآثار أوضحها ... كما روَتْها الثقاتُ السادة الأُوَل من ذا يضاهيك فيما قد خُصِصْت به ... وبحر علمك منه العارض الهَطِل _________ (1) (ف، د): «فذكر». (2) «مُخرِقات» من «أخرق» أي: مُدْهشات. (3) (ف، د): «متصل».

(الكتاب/583)


قد كنت أعجوبةً في الدّهر مدهشة ... وكان درسك فيه العقل ينذهل وكان يومك يومًا أمره عجبٌ (1) ... والناس للنعش بالهامات قد حَمَلوا والخلق لا يهتدوا من عُظْم ما ازدحموا ... فكم دموع تراها وهي تنهمل يا رحمةً نزلت في الأرض وانتشرت ... على جميع الذي في تُرْبه نزلوا سَقتْ ثراك الغوادي طِيْبَ وابلها ... كما ضريحك من تحت الرضا (2) خَضِل كما حُبيت بدار الخلد منزلةً ... حللتها، وعليك الحَلْي والحُلَل وتاجك النور والنعلان من ذهب ... وهكذا عن فتى شيبان (3) قد نقلوا قل للذي سَرَّه موتُ الإمام: لقد ... يكفيك جهلك يا مَن غرَّه الأمل أما علمت بأنَّ الموتَ ما سَلِمت ... منه ملوك بني الدنيا ولا الرسل أين الملوكُ وأبناءُ الملوك، لقد ... صالت عليهم صروفُ الدّهر فارتحلوا وعن قليل ترى الدنيا وقد رَحَلت ... فليس يغني ولاياتٌ ولا دُوَل وليس يغني المُسِيْ يوم اللقا نَدَم ... إذ أثقلَتْ ظهرَه الأوزارُ والزلل وإنما المتقي تُرْجى النجاةُ له ... لأنه خائف من ربِّه وَجِل ولم يزل في قيام الدين مجتهدًا ... وإن خلا في الدياجي فهو مبتهل قل للذي كتبوا (4) علياه واجتهدوا ... إنّ الذي علموا بعض الذي جهلوا _________ (1) (ك): «آمنًا عجبًا». (2) غيرها في (ط): «الثرى». (3) يعني: الإمام أحمد بن حنبل الشيباني. (4) (ف): «كتموا». و (ط): «للأولى كتبوا».

(الكتاب/584)


والله، لستُ بمُحْصٍ مدحه أبدًا ... ولو أتيتُ بما ضاقت به السبل عليه منّي سلام الله ما صدحت ... وُرْقٌ (1) على فَنَن، في نَوحِها زجل تمت، وهي سبعة وخمسون بيتًا. * * * * [مرثيّة أخرى] (2): يا قوم توبوا إلى الرحمن وابتهلوا ... فقد قضى رجل ما مثله رجل يا قوم [و] استغفروا الرحمن خالقنا ... قد غار بحر علوم موجه العمل روى أحاديث الصحيح وعنه (3) ... سائر أخبار رُسْل الله تنتقل الحلم والعلم والزهد المكين ومن ... ما في مقالاته ريب ولا زلل كم بدعة قد محاها ثم أبطلها ... وكم أزاح لنا مِنْ منكر عملوا كم قام في أمر دين الله مجتهدًا ... ولم يكن عنده في أمره ملل كم نار شرٍّ طفاها وهو مبتسم ... ......... (4) ولا خوف ولا وجل؟ كم أظهر الحقَّ لما قلَّ ناصره ... وكم أبان لهم أمرًا له جهلوا كم طوَّقَ الناسَ في أعناقهم مِننًا ... ما ليس يحمله سَهْل ولا جبل قد كان ذا موردٍ عَذْبٍ لقاصده ... والناس تصدر منه ثمّ ترتحل _________ (1) (ف): «ورقًا» خطأ. (2) في هامش (ك): «كذا وجدت في الأصل لم يعز هذه القصيدة». ونحوه في (ح). (3) كذا في الأصلين! وفي هامش (ك): «لا يستقيم وزن البيت، والله أعلم». (4) بياض في النسخ بمقدار كلمتين، وأكمله في (ط): «لم يَعْر أينٌ».

(الكتاب/585)


من قبله جا إلى غازان مبتسمًا ... على الجواد وكلّ الخلق قد نزلوا حتى إذا جاءه والخلق تنظره ... قامَ الجميعُ ولم يأخذهم كسلُ فقال جهرًا له والخلق تسمعه: ... هل أنت محمودُ بالإسلام متصل؟ فقال له: الشام يا محمودُ دارُ تقًى ... ومعقل الأنبياء عنه (1) فارتحلوا يكفيكم ما رأيتم مِنْ جنازته ... ونعشه فوق رؤوس الخلق يَنتقل إن كان فوق رؤوس حملوه فقد ... أولاهمُ نعمًا ما ليس تنحمل (2) قد كنت أرجوه لي ذخرًا وآمله ... وأرتجيه إذا ضاقت بي الحِيَل قد كان ذا رجل للناس كلّهم ... يا أيها الناس كفّوا قد قضى الأجل (3) تمت وهي ثمانية عشر بيتًا. * * * * رثاء (4) في الشيخ تقيّ الدين أبي العباس، أحمد ابن تيمية ــ قدَّس الله روحه ــ: لما نُعي الشيخ الإمام المتّقي ... نجل رئيس فاضل حَبر تقي فاضت محاجر مقلتي، يا حسرتي ... لفراقه فرقًا، وزاد تقلّقي _________ (1) كذا في النسخ: «فقال له». وفي هامش (ك): «لا يستقيم البيت، والله أعلم» أبو إسماعيل يوسف حسين عُفي عنه. وفي (ط): «وقال». ولعله: «وقال الشآم ... » وفي النسخ: «عنها». (2) (ف): «ينخمل». (3) (ف): «يا أيها كفوا ... الرجل». (4) (ف، د): «مديح»، (ط): «مرثية».

(الكتاب/586)


زفرات أشواقي أكاد لحرّها ... تنقض مني مهجتي (1) بتحرُّقي وتركت من بعد التقيّ بلَوعَةٍ ... ومدامعي مِنْ بعده لا ترتقي متهتّك الأستار وَلْهَان الحشا ... أبكي الدماءَ عليه حتّى نلتقي حَزَني عليه مدى الزمان تأسّفًا ... يا مقلتي سُحّي دمًا وترقرقي يا قلب ذُبْ أسفًا عليه وحسرًة ... فقليل ما لاقيت شَيَّب مَفْرقي يا مهجتي ذوبي عليه صبابةً ... وتقطَّعي لفراقه وتمزَّقي يا مقلتي سُحّي بدمعٍ هاطل ... متحدّر سحّ السحاب المطبق يا ليتني يوم الفراق حضرته ... حتى أجدّد ما مضى من موثقي وأودِّع الوجه المليح بنظرةٍ ... يحيا بها قلب الكئيب المُشْفق ما كان أهنا عيشَنا بحياته ... يا ليت يوم فراقه لم نُخْلَق لو كان يُفْدى ما بخلت بمهجتي ... في حقِّه، ولكنتُ أوَّل من يقي يا أهله، لا تجزعوا لفراقه ... ولأجل كأسٍ من حمام قد سُقي فله جنان الخلد يسكنها غدًا ... وعلى مناصبها العليَّة يرتقي هو شيخنا، ورئيسنا، وإمامنا ... لله درّ الطاهر الحبر التقي إن قلتُ: طود العلم فهو حقيقة ... فاسمع بهذا القول فيه وحقِّق يفتي بجمع مذاهب عن أربع ... لكنه في الفضل آخر من بقي هو في القراءة أوحدٌ في عصره ... هو في الأصول مفيدنا والمنطقي _________ (1) سقطت من (ف).

(الكتاب/587)


شيخ الطريقة والحقيقة عارف ... ورث الإمامة والعلوم، فحَقِّق متصدّق، متفضّل، متطوِّل ... لله ما أجزاه من متصدِّق قد كان فينا وابلًا نحيا به ... وثناؤه فينا كمسكٍ معبق قد كان فينا جنّة أنهارها ... تجري لنا من علمه المتدفِّق قد كان فينا سيّدًا مِنْ سيد ... فاقطع بهذا القول فيه وصدِّق يا قبره يهنيك ما قد حُزْتَه ... من زاهد برٍّ زكيّ متَّقي قد صرت جنّةَ روضة بحلوله ... فلَكَ الفَخَار بسيّدٍ وموفّق فالله يرحمه ويجبر كسره ... ويغيثنا من فضله المغدودق واجبر بعفوك ناظمًا لقريضها ... حسنًا أعنه تفضّلًا وتصدَّق ثمّ الصلاة على النبيّ محمد ... خير الأنام ومن لعرشك يرتقي والحِقْ به الآل الكرام وصحبه ... بكرامة فلأنت أكرم مُلْحِق تمت، والحمد لله ربّ العالمين. * * * * وقال الشيخ الصالح العابد محمد أبو طاهر البعلي الحنبلي (1)، يمدح شيخ الإسلام والمسلمين الإمام أحمد ابن تيمية ــ رحمه الله ورضي عنه ــ: يا ابن تيميّة يا أفصح العلما ... يا مَن لأسرار دين الله قد فهما _________ (1) ذكره الذهبي في «المعجم المختص» (ص 9)، لكن سماه: أحمد بن عبد الله شهاب الدين أبو طاهر البعلي الحنبلي (ت 735).

(الكتاب/588)


يا آيةً ظهرت في الكون باهرةً ... لا زلت في سِلْك دين الله منتظما وكنت واسطة في عقده أبدًا ... تزيل منه الأذى والفُحْشَ والسَّقَما جمعتَ منه الذي قد كان فَرَّقه ... قومٌ رأوه هدًى منه، وكان عمى وكنت أحرص خلقِ الله كلّهم ... على التآلف، تعطي الفضلَ والنِّعَما ولست خِبًّا لئيمًا باخلًا شَرِهًا ... لكن تقيًّا، نقيًّا، سيد الكُرَما تعفو عن الجاهل الجاني فترحمه ... وتكثر العدل والإنصاف للخُصَما ما زلت تغضبُ في ذات الإلاه ولم ... تكن لنفسك يا ذا الحِلْم منتقما فأنت حَبر هدًى أحيا الإلاه به ... من دينه سننًا أماته الغُشَما في رأس سبع مئين كنت قد وجبت ... لك الإمامةُ يا خلاصة العلما (1) وكلّ شيء به جُلّ الورى هلكوا ... فشيخنا ذو التقى (2) مِنْ شرِّه سَلِما وكلّ وصفِ كمالٍ في نظائره ... له خصائصه لا تقتضي العَدَما كان المبرِّز في كلّ العلوم، وقد ... أضْحَت له في ذرى أسنامها عَلَما وكان حاوي صفات الخير أجمعها ... قد حلَّ في كلّ حالات التقى قَدَما لما أراد عِداه دَحْضه دُحِضوا ... وزاده الله عزًّا دائمًا، وسما أضحت عوائده تبدي فوائده ... على موائده في حضرة الحُكَما فهو التقيّ به أهلُ التقى ألفوا ... وأبعد الله عنه المجرمَ الزّنما _________ (1) في النسخ: «يا مربي خلاصة». وفي هامش (ك): «كذا في الأصل، ولا يستقيم الوزن» أبو إسماعيل يوسف حسين. أقول: وبحذف «مربي» يستقيم الوزن. (2) (ك): «السخا» وعلق في الهامش: «بدله: التقى».

(الكتاب/589)


وهو المحكّ الذي بان العبادُ به ... إما كرامًا وإما خُيّبًا لُؤما فإن أردتَ معايير العباد به ... عَرّض بذكراه مدحًا وانظر السيما (1) ترى الغويّ حزينًا ثم منقبضًا ... وتنظر المتقي قد سُرّ مبتسمًا فحبّه نعمة فاز السعيدُ بها ... وبغضه نقمة بها الشقيْ وُسِما فالحمد لله، أهل الحمد، خالقنا ... كم قد أفاض علينا في الورى نِعَما عافى القلوبَ من الأسقام أجمعها ... وعمَّ بالجود مَن وفّى ومَن ظَلَما كم أفرجت كربة عنَّا بمِنّته ... وكم أعان وكم عفا (2) وكم رحما لا ترتجى غيره في رفع نازلةٍ ... يبقى الهدى عنك والإحسان منصرمًا ولا تكن بسواه عنه مشتغلًا ... لكي تنال التُّقى والفوزَ والكرما وكن محبًّا له ساعٍ بطاعته ... فالسعي في غير هذا يورِثُ النَّدَما تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا (3). _________ (1) (ف): «الشيما» أو «الشهما». (2) (ف): «عافا». (3) العبارة في (ف): «تمت بحمد الله وحسن توفيقه، بمنه وكرمه. والحمد لله رب العالمين، وصلى .... وصحبه أجمعين». وبه انتهت نسخة (ف، د). وبعده في (ك) قصيدة لأبي حفص عمر بن الوردي في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلعها: قلبٌ كواه البين حتى أنضجا ... ما زال في بحر الغرام ملجلجا ولا علاقة لها بالكتاب. وبعدها قال ناسخها: «وقع الفراغ التام من نسخة الكتاب المستطاب ... ».

(الكتاب/590)