×
الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية : كتاب للعلامة البزار - رحمه الله - ذكر فيه نبذة مختصرة من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وطُرَفِه، تدل العاقل المنصف على فضائله وشرفه.

 الأَعْلامُ العَلِيَّة فِي مَناقِبِ شَيْخِ الإسْلامِ ابن تيميّة

تأليف الشيخ أبي حفص عمر بن علي البزار ت (749) تحقيق علي بن محمد العمران دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(1/729)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  مقدمة التحقيق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فهذا كتاب «الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية» للإمام أبي حفص عُمر بن علي البزّار (ت 749)، وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمهما الله تعالى. وقد رأينا ضمّه إلى هذه السلسلة المباركة إن شاء الله تعالى من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال، لتكون ضمن تراجم شيخ الإسلام التي اضطلع المشروع بطباعتها، وهي: 1 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون [*]. 2 - تكملة الجامع .. [*] 3 - ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية لابن عبدالهادي، المعروف بـ «العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية». 4 - ورابعها هذا الكتاب: الأعلام العليّة في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية. فبهذه الأربعة يكتمل عقد التراجم المنثورة في كتب التواريخ والتراجم ونحوها، مع أهم كتابين في التراجم المفردة لابن تيمية. وقد كان بادئ الرأي أن تُلْتَقط الفوائد والزوائد التي يضيفها البزّار في كتابه هذا، وتضاف إلى حواشي «العقود الدرية»، أسوةَ بقيّةِ التراجم المفردة الأخرى، لكنّي رأيت ذلك قد يطيل الحواشي؛ إذ فيه معلومات جيدة، وزوائد __________ [*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وفي طبعة الأخيرة، ضُمت التكملة إلى الجامع، في مجلد واحد

(1/731)


كثيرة، ومشاهدات مباشرة. فكان من صائب الرأي أن يُطبع ملحقًا بالعقود الدرية، ليقف القارئ عليه بتمامه، ولا يفوت شيء من فوائده.

 * ترجمة المؤلف (1):

قال الحافظ ابن رجب: عمر بن علي بن موسى بن الخليل البغدادي، الأزَجيّ، البزَّار، الفقيه، المحدِّث، سراج الدين، أبو حفص. ولد سنة ثمان وثمانين وستمائة تقريبًا. وسمع من إسماعيل بن الطبَّال، وعلي بن أبي القاسم أخي الرشيد، وابن الدواليبي، وجماعة، وعُني بالحديث، وقرأ الكثير، ورحل إلى دمشق وقرأ بها «صحيح البخاري» على الحجَّار بـ «الحنبلية»، وحضر قراءته الشيخ تقيّ الدينّ ابن تيمية وخلق كثير (2)، وجالس الشيخ تقيَّ الدين، وأخذ عنه (3). وتلا ببغداد ختمةً لأبي عَمرو، على شيخنا عبد الله بن عبد المؤمن الواسطي، وقرأ عليه بعضَ تصانيفه في القراءات، وحجَّ مرارًا، وأعاد _________ (1) من كتاب «الذيل على طبقات الحنابلة»: (5/ 146 - 148 - تحقيق العثيمين) لابن رجب. وهو من تلاميذه. وله ترجمة في «المنتقى من شيوخ شهاب الدين ابن رجب» (ص 75 - 77)، و «الرد الوافر» (ص 210 - 211)، و «الدرر الكامنة»: (3/ 180)، و «المقصد الأرشد»: (2/ 304)، و «المنهج الأحمد»: (5/ 86 - 87)، و «شذرات الذهب»: (6/ 163). (2) ذكر المؤلف هذه القراءة في كتابه هذا (ص 637). وذكر الشهاب ابن رجب: أنه حضر هذه القراءة المزي والبرزالي وشيوخ الشام. (3) ذكر الشهاب ابن رجب: أنه قرأ المحرر على شيخ الإسلام ابن تيمية، وأذن له بالفتيا.

(1/732)


بـ «المستنصرية». وولي إمامة «جامع الخليفة» ببغداد مدةً يسيرة، ثم أقام بدمشق مدة، وأمَّ بها بـ «الضيائية». وكان حَسَن القراءة للقرآن والحديث، ذا عبادة وتهجّد. وصنَّف كثيرًا في الحديث وعلومه، وفي الفقه والرقائق (1). وقَدِم في آخر عمره إلى بغداد، فأقام بها يسيرًا، ثم توجَّه إلى الحجّ سنة تسع وأربعين. وحججت أنا تلك السنة أيضًا مع والدي، فقرأت على شيخنا أبي حفص عمر «ثلاثيات البخاري» بالحِلّة المزيدية. ثم توفي رحمه الله قبل وصوله إلى مكة بمنزلة حاجر، صبيحة يوم الثلاثاء حادي عشري ذي القَعْدة سنة تسعٍ وأربعين وسبعمائة، ويُقال: إنه كان نوى الإحرام، وذلك قبل الوصولِ إلى الميقات. ودُفِن بتلك المنزلة، ومعه نحوٌ من خمسين نفسًا بالطاعون، رحمهم الله تعالى.

  * نبذة عن الكتاب:

1 - إثبات نسبته للمؤلف: ذكر هذا الكتاب ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842) في «الرد الوافر» (ص 211) قال: «وجمع له ترجمةً مفردةً سماها: الأعلام العلية في مناقب _________ (1) ذكر شهاب الدين ابن رجب في «المنتقى» أنه قرأ عليه من مصنفاته «الكفاية في الجرح والتعديل»، و «الفنون [وفي طبعة أخرى: العيون] في علم الحديث» قال: وهو أكمل من كتاب ابن الصلاح. و «الرياض الناضرات» مجالس. و «ناسخ الحديث ومنسوخه»، وبعض مصنف له في الفقه.

(1/733)


الإمام ابن تيمية» ثم نَقَل فقرة منه تتعلّق برجوع بعض العلماء عن مذهب المتكلمين بعد وقوفهم على بحوث الشيخ رحمه الله (1). وذكره الشيخ مرعي الكرمي (ت 1033) في كتابه «الكواكب الدرية» (ص 51) وجعله من الكتب التي اعتمد عليها في كتابه، ونقل جلّ مباحثه. وذكره أيضًا في كتابه «الشهادة الزكية» (ص 68). وأشار إليه إسماعيل البغدادي في «إيضاح المكنون»: (1/ 103)، و «هدية العارفين»: (1/ 790). 2 - نسخ الكتاب الخطية: - النسخة الأولى: نسخة المنجد: وهي نسخة خاصة من مقتنيات الدكتور صلاح الدين المنجد. قال في وصفها: «وكنت اقتنيت من هذا الكتاب نسخة قديمة، ضمن مجموع قديم من القرن الثامن الهجري، فيه رسائل كثيرة لشيخ الإسلام، بعضها غير معروف ولا منشور ... ومخطوطتنا هي الرسالة السابعة في المجموع الذي أشرتُ إليه. وعدد ورقاتها 23 ورقة. في كل ورقة عشرون سطرًا. كتبت بخط نسخي مملوكي جميل. وهي نسخة تغلب عليها الصحة، إلا أن ناسخها كان يُهمل بعض الإعجام. وقد جاء في الورقة الأولى منها: (كتاب الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية للإمام الحافظ أبي حفص البزّار رحمه الله). _________ (1) وهذا الموضع في كتابنا (ص 622).

(1/734)


وجاء في آخرها: «علّقه لنفسه فقير رحمة ربه محمد بن علي البعلي ثم الدمشقي الحنبلي لطف الله تعالى به في الدارين، ووافق تمامه غرّة المحرم سنة ست وخمسين وسبعمئة بالمدرسة الحنبلية بباطن دمشق حرسها الله». يلي الكتاب بخط الناسخ نفسه ذيل في أسماء أصحاب شيخ الإسلام ومحبّبيه وأعوانه. ويبدو أن الكاتب جعله تذكرة لنفسه ليجمع فيه في ورقتين أسماء كثيرة، وترك بياضًا ليُضيف إليها، لكنه لم يستوف فيما ذكر أسماء المحبّين ولا المعترضين. ولم أجد ترجمة لناسخ الكتاب. على أنه يبدو أنه كان من فقهاء طلَبة المدرسة الحنبلية بدمشق. وهي المدرسة التي وقفها شرف الإسلام عبد الوهاب بن أبي الفرج الحنبلي سنة 536 بدمشق». انتهى كلام المنجد (1). - النسخة الثانية: نسخة ليدن: نسخة في مكتبة جامعة ليدن في هولندا. رقمها 1126، وهي نسخة متأخرة، ليس عليها تاريخ ولا اسم الناسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر، وهي مليئة بالأخطاء تصحيفًا وتحريفًا بخطٍّ عادي. على الورقة الأولى من النسخة: (كتاب الأعلام العليّة في مناقب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن الحليم (كذا) بن عبد السلام ابن تيمية قدس الله روحه ونوّر ضريحه تأليف الشيخ الإمام العالم العامل الفاضل الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن موسى البزّار رحمة الله تعالى عليه _________ (1) مقدمته للأعلام العلية (ص 7 - 9).

(1/735)


وغفر له بمنه وكرمه ولجميع المؤمنين آمين) (1). وقد سقطت منها كلمات كثيرة، ووجد فيها عبارات الزائدة على نسخة الأصل، مما يدل على أنها ليست منقولة منها، وأن أصلهما مختلف. وقد أشرنا إلى بعض ذلك في الحواشي، وقد رمزنا إليها بحرف (ل). - النسخة الثالثة: نسخة الكويت: نسخة محفوظة في مكتبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت رقم (2/ 317)، في 53 ورقة ضمن مجموع (ق 6 - 58)، وهي نسخة متأخرة كتبت سنة 1377 هـ. وليس عليها اسم الناسخ. 3 - طبعات الكتاب: 1 - طبعة دار الكتاب الجديد، تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجّد، ط. الأولى 1396 هـ، وقد اعتمد على نسختين، واحدة كان يملكها وسبق وصفها من كلامه، والثانية نسخة ليدن (ل). 2 - طبعة المكتب الإسلامي ببيروت، تحقيق الشيخ محمد زهير الشاويش، وقد طبع سنة 1394 هـ ثم أعيد عدة مرات. 3 - طبعة دار الكتب العلمية ببيروت، تحقيق الدكتور يحيى مراد، طبعت سنة 1426 هـ، ضمن مجموع يضم خمسة كتب. وقد سقطت منها مقدّمة المؤلف بتمامها!! ولعلها أُخذت من بعض مواقع الشبكة الإلكترونية، إذ وجَدْتُه في بعضها بلا مقدمة! _________ (1) انظر مقدمة المنجد (ص 9 ــ 10).

(1/736)


4 - منهج التحقيق: - اعتمدت في إثبات نص الكتاب على طبعتي المنجد والشاويش، واستفدت من ذكر فروق النسخ في هوامشها. وكان من المفترض أن تكون نسخ الكتاب بين أيدينا، ولكن عذرنا أن بعض نُسَخه خاصة وليست في مكتبات عامة، ونسخة ليدن حاولت الحصول عليها جاهدًا، ولكن لم أتمكّن من ذلك، مع كونها متأخرة ومليئة بالأخطاء. - قارنت نصوص الكتاب بالمصادر الناقلة، وبكتب التاريخ، وصححتُ كثيرًا من الأوهام الواقعة في الطبعات. - علقت على النص بما يزيل الإشكال، أو بما فيه استدراك على المؤلف في بعض ما ذكره، وذلك من مصادر ترجمة الشيخ، أو كتب الشيخ نفسه. وكتب علي بن محمد العمران

(1/737)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه أستعين قال الشيخ الإمام العالم الورع الفقيه المحدّث سراجُ الدين أبو حفص عمر بن علي بن موسى البغداديّ البزّار ــ رحمه الله وأثابه الجنّة ــ: الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم. أمّا بعد، فإنّي لما بلغني خبرُ حبر الأمة وربّانيها، الإمام المجتهد المجاهد، ناصر الشريعة الحنيفية، والذابّ عن السنّة المحمدية، شيخ الإسلام تقيّ الدين أبي العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، قدّس الله روحه، قال لي جماعةٌ من أهل العلم والدين، ومحبيّ الخير لكافة المسلمين: إنّك قد رأيت الشيخ وصحبته، ووقفت على أحواله وعرفته، فلو أمليت شيئًا منها وسطّرته، ممّا شاهدته وخبرته، لينتفع به من يقف عليه من هذه الأمة، إذ عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. فأجبتهم: أني إنما صحبته أيامًا معدودة قلائل، فليس ما أعرفه بالنسبة إلى مناقبه بطائل. لكن لمّا رأيت حُسن قصدهم ونيّتهم، وما دلّ من ظاهرهم على صلاح طويتهم، وأنّ الذي طلبوه مني علَيّ حقًّا واجبًا، إذ يلزم العالم بما فيه نُصْح المسلمين أن يكون على نشره مواظبًا= فذكرتُ

(1/739)


نبذةً مختصرة من مناقبه وطُرَفِه (1)، تدلّ العاقل المنصف على فضائله وشرَفه. وقد رتّبتها فصولًا، لتكون لمتأملها دليلًا. وذكرت في كلّ فصلٍ منها ما حضرني ممّا يليق بذكره فيه؛ من ذكر مولده، ومنشئه، وتوفيق الله تعالى له مدة عمره من أوله إلى آخره، وحرصه على العلوم واجتهاده، وكثرة سماعه الأحاديث وازدياده، وغزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته، وسعة نقله في فتاويه ودروسه البديهية ومنصوصاته، وثاقب بصره بأنواع أجناس المذكور والمقول والمنقول، والمتصوّر والمفهوم والمعقول، وذكر تعبّده وورعه، وزهده وتجرّده، وخلوّه عن الدنيا وتبعّده، وإيثاره مع فقره وتواضعه، وكرامته وفراسته، وثباته وكرمه، وشجاعته وصبره في ذات الله ومِحَنِه، وحِفْظ الله تعالى ورعايته له، مع تحاشد أعدائه وحُسّده، وذكر وفاته، وكثرة من صلى عليه ومشيّعي جنازته، وما ألقى الله تعالى في قلوب الخاصة والعامّة في حياته وبعد وفاته، وانتشار فضله وفضائله، وعلمه ومسائله في البلاد والآفاق. فأقول وبالله التوفيق والرشاد: الفصل الأول: في ذكر مولده ومنشئه، ومدة عمره رضي الله عنه وأرضاه. الفصل الثاني: في غزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته، وسَعَة نقله في دروسه وعلومه البديهية ومنصوصاته. الفصل الثالث: في ذكر معرفته أنواع أجناس المذكور والمقول والمنقول، والمتصوَّر والمفهوم والمعقول. _________ (1) (ط): «طُرْفة». وما أثبته أصح.

(1/740)


الفصل الرابع: في ذكر تعبّده. الفصل الخامس: في ذكر بعض ورعه. الفصل السادس: في ذكر بعض زُهده وتجرّده، وتقاعده عن الدنيا وتبعّده. الفصل السابع: في إيثاره مع فقره وتواضعه. الفصل الثامن: في هيئته ولباسه. الفصل التاسع: في ذكر بعض كراماته وفراسته. الفصل العاشر: في ذكر كرمه. الفصل الحادي عشر: في ذكر قوّة قلبه وشجاعته. الفصل الثاني عشر: في ذكر قوّته في مرضاة الله تعالى وصبره على الشدائد واحتماله إيّاها لله، وثبوته على الحق إلى أن توفّاه الله على ذلك. الفصل الثالث عشر: في ذكر أن الله تعالى جعله حجّة في عصره، ومعيارًا للحق والباطل، مريدًا الآجل، وغير مؤثر العاجل. الفصل الرابع عشر: في ذكر وفاته، وكثرة من صلّى عليه وشيَّعه. رضي الله عنه وأرضاه (1). _________ (1) ينبه هنا إلى أن سياقات بعض عناوين الفصول بداخل الكتاب تختلف قليلًا عما هنا بالزيادة أو بالنقص.

(1/741)


 الفصل الأول في ذكر منشئه وعمره ومدّة عمره رضي الله عنه وأرضاه

أمّا مولده فكما أخبرني به غيرُ واحد من الحُفاظ أنه ولد بحرّان في عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مائة. وبقي بها إلى أن بلغ سبع سنين، ثم انتقل به والده ــ رحمه الله ــ إلى دمشق المحروسة، فنشأ بها أتمَّ إنشاءٍ وأزكاه، وأنبته الله أحسن النبات وأوفاه. وكانت مخايل النجابة عليه في صغره لائحة، ودلائل العناية فيه واضحة. أخبرني من أثق به عن جدّته أنّ الشيخ رضي الله عنه في حال صغره، كان إذا أراد المضيّ إلى المكتب، يعترضه يهوديٌّ كان منزله بطريقه، بمسائل يسأله عنها لما يلوح عليه من الذكاء والفطنة. وكان يجيبه عنها سريعًا، حتى تعجّب منه. ثم إنه صار كلّما اجتاز يُخبره بأشياء مما يدلّ على بُطلان ما هو عليه، فلم يلبث أن أسلم وحسن إسلامه. وكان ذلك ببركة الشيخ على صغر سنّه. ولم يزل منذ أيام صغره مستغرق الأوقات في الجدّ والاجتهاد. وخَتَم القرآن صغيرًا، ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية حتى برع في ذلك، مع ملازمته مجالس الذِّكر وسماع الأحاديث والآثار. ولقد سمع غير كتابٍ على غير شيخ من ذوي الروايات الصحيحة العالية. أمّا دواوين الإسلام الكبار، كـ «مسند أحمد»، و «صحيح البخاري»، ومسلم، و «جامع الترمذي»، و «سنن أبي داود السجستاني»، والنسائي،

(1/742)


وابن ماجه، والدارقطني؛ فإنه سمع كل واحد منها مرّات عدّة. وأول كتاب حفظه في الحديث «الجمع بين الصحيحين» للإمام الحُمَيدي. وقلّ كتاب من فنون العلم إلّا وقف عليه. كأنّ الله قد خصّه بسرعة الحفظ وإبطاء النسيان. لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء غالبًا إلا ويبقى على خاطره، إمّا بلفظه أو معناه. وكان العلم كأنّه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره، فإنه لم يكن له مستعارًا، بل كان له شِعارًا ودثارًا. لم يزل آباؤه أهل الدراية التامة والنقد، والقدم الراسخة في الفضل. لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته أكبر شهادة، حتى اتفق كلُّ ذي عقل سليم أنّه ممن عنى نبينا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إنّ الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدِّد لهذه الأمة أمرَ دينها» (1). فلقد أحيا الله به ما كان قد دَرَس من شرائع الدين، وجعله حجة على أهل عصره أجمعين. والحمد لله رب العالمين. _________ (1) أخرجه أبو داود (4291)، والحاكم: (4/ 522) وصححه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر «المقاصد الحسنة» (ص 121).

(1/743)


 الفصل الثاني في غزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته، وسَعَة نقله في فتاويه ودروسه البديهية ومنصوصاته

أمّا غزارة علومه فمنها: ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنه فيه الغاية التي يُنتهى إليها، والنهاية التي يُعوَّل عليها. ولقد كان إذا قُرئ في مجلسه آياتٌ من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس بزمنه، وهو في تفسير بعض آيةٍ منها. وكان مجلسه في وقت مقدَّر بقدر ربع النهار. يفعل ذلك بديهةً من غير أن يكون له قارئٌ مُعيَّن يقرأ له شيئًا معيّنًا يُبَيّته (1) ليستعدّ لتفسيره، بل كان من حضر يقرأ ما تيسّر، ويأخذ هو في القول على تفسيره. وكان غالبًا لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضيّ الزمن المعتاد لأورد أشياء أُخر في معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظرًا في مصالح الحاضرين. ولقد أملى في تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مجلّدًا كبيرًا. وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} نحو خمس وثلاثين كرّاسة. ولقد بلغني أنّه شرع في جمع تفسير لو أتمّه لبلغ خمسين مجلدًا. _________ (1) (ط): «ببيته يستعد» والمثبت من (ك).

(1/744)


أمّا معرفته وبصره بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقواله وأفعاله وقضاياه ووقائعه وغزواته، وسراياه وبعوثه، وما خصّه الله تعالى من كراماته ومعجزاته، ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، والمنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم وأحوالهم، وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خُصوا به من بين الأمة= فإنه كان ــ رضي الله عنه ــ من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضارًا لما يريده منه. فإنه قلّ أن ذَكَر حديثًا في مصنّفٍ وفتوى، أو استشهد به، أو استدلّ به، إلا عزاه في أيّ دواوين الإسلام هو، ومن أيّ قسم من الصحيح أو الحسن أو غيرها. وذَكَر اسم راويه من الصحابة. وقلّ أن يُسأل عن أثرٍ إلا وبيّن في الحال حاله، وحال أمره (1) وذكره. ومن أعجب الأشياء في ذلك: أنه في محنته الأولى بمصر (2) لمّا أُخِذَ وسُجن، وحيل بينه وبين كتبه، صنف عدّة كتب صغارًا وكبارًا، وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وأسماء المحدِّثين والمؤلفين ومؤلفاتهم، وعزا كلَّ شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم، وذكر أسماء الكتب التي ذلك فيها، وفي أي موضع هو منها. كلُّ ذلك بديهة من حفظه؛ لأنّه لم يكن عنده حينئذٍ كتاب يُطالعه. ونُقِّبَت (3) _________ (1) كذا، ولعلها: «راويه» أو نحوه. (2) سنة (705). (3) في (ل): «نقيت» وفي (ط المنجد): «نُفِيت».

(1/745)


واعْتُبِرَت فلم يوجد فيها بحمد الله خلل ولا تغيّر. ومن جملتها كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول» (1)، وهذا من الفضل الذي خصَّه الله تعالى به. ومنها ما منحه الله تعالى من معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم، وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل، وما رُوي عن كلٍّ منهم من راجح ومرجوح، ومقبول ومردود، في كل زمان ومكان وعصر، من الصحيح الثاقب الصائب للحقّ مما قالوه ونقلوه، وعَزْوه ذلك إلى الأماكن التي بها أودعوه، حتى كان إذا سئل عن شيء من ذلك كأنّ جميع المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والعلماء فيه من الأولين والآخرين متصوَّر مسطور بإزائه. يقول ما شاء الله، ويذكر (2) ما يشاء. وهذا قد اتفق عليه كلّ من رآه، أو وقف على شيء من علمه، ممن لم يُغلِظ عقلَه الجهلُ والهوى. وأمّا مؤلفاته ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها، أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالبًا أحد؛ لأنّها كثيرة جدًّا، كبارًا وصغارًا. وهي منشورة في البلدان. فقلَّ بلدٌ نزلتُه إلا ورأيت فيه من تصانيفه. _________ (1) الراجح أن تأليف كتاب الصارم .. كان في الشام قبل سفر الشيخ إلى مصر بمدة طويلة، عقب حادثة عسَّاف النصراني، سنة (693). انظر «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (ص 406 - 407). وقد ألف الشيخ في مصر عددًا من الكتب من أهمها «منهاج السنة النبوية»، و «جواب الاعتراضات المصرية»، و «الرد على البكري»، وفتاوى جمعت فكانت نحو ست مجلدات كبار. وغير ذلك. (2) لعلها: «ويترك».

(1/746)


- فمنها ما يُبلغ اثنى عشر مجلدًا، كتخليص (1) التلبيس على أساس التقديس وغيره. - ومنها ما يبلغ سبع مجلدات، كالجمع بين العقل والنقل. - ومنها ما يبلغ خمس مجلّدات، ومنها منهاجُ الاستقامة والاعتدال ونحوه. - ومنها ما يبلغ ثلاث مجلّدات، كالرَّد على النصارى وشِبْهه. - ومنها مجلدان، كنكاح المحلّل، وإبطال الحيل (2)، وشرح العقيدة الأصبهانية. - ومنها مجلّد ودون ذلك. وهذان القِسْمان من مؤلفاته فهي كثيرة جدًّا لا يمكنني استقصاؤها، لكن أذكر بعضها استئناسًا: - كتاب تفسير سورة الإخلاص، مجلد. - كتاب الكلام على قوله عزّ وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. - كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول، مجلد. - كتاب الفرق المبين بين الطلاق واليمين. - كتاب الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. - كتاب اقتضاء الصراط المستقيم. - كتاب الكلم الطّيب. _________ (1) (ط، ك): «كتلخيص ... » وسيأتي (ص 755) كما أثبتّ، ولعله الصواب. (2) «نكاح المحلل، وإبطال الحيل» كتاب واحد، وهو المسمى «بيان الدليل على بطلان التحليل» مطبوع في مجلد واحد. وسيعيده المؤلف على أنه مجلد واحد.

(1/747)


- كتاب إثبات الكمال (1). - كتاب الردّ على تأسيس التقديس (2). - كتاب نقض أقوال المبتدعين. - كتاب الردّ على النصارى (3). - كتاب إبطال الحيل ونكاح المحلّل (4). - كتاب شرح العقيدة الأصبهانية. - كتاب الفتاوى. - كتاب الدرّ الملتقط. - كتاب أحكام الطلاق. - كتاب الرسالة (5). - كتاب اعتقاد الفرقة الناجية. - كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام. - كتاب تقرير مسائل التوحيد. - كتاب الاستغاثة والتوسّل. _________ (1) كذا في (ط)، ولعل صوابه: «إثبات الكرامات». انظر «العقود الدرية» (ص 62). (2) هو الذي سبق عنده باسم «تلخيص التلبيس على أساس التقديس». في اثني عشر مجلدًا، إلا إن وقع تصحيف في الاسم. (3) سبق للمؤلف أنه ثلاثة مجلدات. (4) سبق للمؤلف أنه والذي يليه مجلدان. (5) كذا! ولم يبيِّن أي رسالة أراد.

(1/748)


- كتاب المسائل (1) الحموية. - كتاب المسائل الجزرية. - كتاب المسائل المفردة. ولا يليقُ هذا المختصر بأكثر من هذا القَدْر من مؤلفاته، وإلاّ فيمكن تعداد ما ينيفُ على المائتَين، لكن لم نَرَ الإطالة بذكره. وأما فتاويه ونصوصه وأجوبته على المسائل، فهي أكثر من أن أقدر على إحصائها، لكن دُوِّن بمصر منها على أبواب الفقه سبعة عشر مجلّدًا. وهذا ظاهر مشهور. وجمع أصحابه أكثر من أربعين ألف مسألة. وقلَّ أن وَقَعَتْ واقعةٌ وسُئل عنها، إلّا وأجابَ فيها بديهةً بما بَهَرَ واشتهر. وصار ذلك الجواب كالمصنّف الذي يحتاج فيه غيره إلى زمن طويل ومطالعة كُتُب، وقد لا يقدر مع ذلك على إبراز مثله. أخبرني الشيخ الصالح تاج الدين محمد المعروف بابن الدوري، أنّه حضر مجلس الشيخ رضي الله عنه، وقد سأله يهوديٌّ عن مسألة في القَدَر قد نظمها شعرًا في ثمانية أبيات، فلما وقف عليها فكّر لحظة يسيرة وأنشأ يكتب جوابها، وجعل يكتب ونحن نظنّ أنه يكتب نثرًا. فلما فرغ تأمّله من حضر من أصحابه، وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيتها، تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتًا (2). وقد أبرز فيها من العلوم ما لو شُرح بشرح لجاء _________ (1) كذا بالجمع، والمعروف: المسألة. وكذلك الذي يليه. (2) انظرها في «مجموع الفتاوى»: (8/ 245 - 255). وعددها فيهما مائة وخمسة وعشرون بيتًا. وهي ملحقة ببعض نسخ «العقود الدرية» وعددها هناك مئة وخمسة أبيات. وذكر الحافظ في «الدرر» أنها مائة وتسعة عشر بيتًا. انظر «شرح التائية» (ص 114) لمحمد الحمد.

(1/749)


شرحه مجلّدين كبيرين. هذا من جملة بواهره. وكم من جواب فتوى لم يُسبق إلى مثله. وأمّا ذكر دروسه؛ فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوّتها. وكان لا يهيئ شيئًا من العلم ليُلقيه ويورده، بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه، ويصلّي على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، على صفة مستحسنة مستعذبة لم أسمعها من غيره. ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض، ولطائف ودقائق، وفنون ونقول، واستدلالات بآياتٍ وأحاديث، وأقوال العلماء، ونصر (1) بعضها وتبيين صحته، أو تزييف بعضها وإيضاح (2) حجّته، واستشهادٍ بأشعار العرب، وربّما ذكر ناظمها. وهو مع ذلك يجري كما يجري السيل، ويفيض كما يفيض البحر، ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ، كالغائب عن الحاضرين، مغمضًا عينيه، وذلك كله مع عدم فكره فيه ورَوِيَّته (3)، من غير تعجرف ولا توقف ولا لحن، بل فيضٌ إلهيّ، حتى يبهر كل سامع وناظر، فلا يزالُ كذلك إلى أن يصمت. وكنتُ أراه حينئذٍ كأنّه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يُرعد القلوب ويحيّر الأبصار والعقول. _________ (1) في نسخة: «ونقد». (2) كذا، ولعلها: «وإدحاض» أو نحوها. (3) (ط): «وروايته» خطأ، والمثبت من (ل) و (ك): «فكر فيه ورويّة».

(1/750)


وكان لا يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطُّ إلّا ويصلي ويُسلِّم. ولا والله ما رأيت أحدًا أشدّ تعظيمًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه. حتى إذا كان أورد شيئًا من حديثه في مسألة، ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنًا من كان. وقال رضي الله عنه: كلُّ قائل إنّما يحتج لقوله لا به، إلا الله ورسوله. وكان إذا فرغ من درسه يفتح عينيه، ويقبل على الناس بوجه طلْقٍ بشيشٍ، وخلق دمث كأنه لقيهم حينئذ. وربّما اعتذر إلى بعضهم من التقصير في المقال مع ذلك الحال. ولقد كان درسُه الذي يورده حينئذ قدر عدة كراريس. وهذا الذي ذكرته من أحوال درسه أمرٌ مشهور يوافقني عليه كلّ حاضريه، وهم بحمد الله خلق كثير، لم يحصر عددهم: علماء ورؤساء وفضلاء من القرّاء والمحدّثين والفقهاء والأدباء وغيرهم من عوام المسلمين.

(1/751)


 الفصل الثالث في ذكر معرفته بأنواع أجناس المذكور والمقول والمنقول، والمتصوَّر والمفهوم والمعقول

أمّا معرفته بصحيح المنقول وسقيمه فإنه في ذلك من الجبال التي لا يُرتقى ذروتها، ولا يُنال سنامُها. قلَّ أن ذكر له قولٌ إلا وقد أحاط علمه بمبتكره وذاكره وناقله وآثره، أو راوٍ إلا وقد عرف حاله من جرح وتعديل بإجمالٍ وتفصيل. حكى من يوثق بنقله أنه كان يومًا بمجلس، ومحدّثٌ يقرأ عليه بعض الكتب الحديثية. وكان سريع القراءة. فعارضه الشيخ في اسم رجل من سند الحديث قد ذكره القارئ بسرعة. فذكر الشيخ أنَّ اسمه فلان، بخلاف ما قرأ، فاعتبروه فوجدوه كما قال الشيخ، فانظر إلى هذا الإدراك السريع والتنبيه (1) الدقيق العجيب. ولا يقدر على مثله إلا من اشتدت معرفته، وقوي ضبطه. وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه، من استنباط المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصّص للعام، والمقيّد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها، وما يترتب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكر آية أو حديثًا، وبيّن معانيه وما أريد به، يعجب _________ (1) لعله: «التنبّه».

(1/752)


العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه. ولقد سئل يومًا عن الحديث «لعن الله المحلَّل له ... » (1) فلم يزل يورد فيه وعليه حتى بلغ كلامه فيه مجلّدًا كبيرًا. وقلّ أن كان يُذكر له حديث أو حكم فيشاء أن يتكلّم عليه يومه أجمع إلا فعل. أو يقرأ بحضرته آيةٌ من كتاب الله تعالى ويشرع في تفسيرها إلا وقطع المجلس كلَّه فيها. وأمّا ما خصّه الله تعالى به من معارضة أهل البدع في بدعتهم، وأهل الأهواء في أهوائهم، وما ألفه في ذلك من دحض أقوالهم وتزييف أمثالهم وأشكالهم، وإظهار عوارهم وانتحالهم، وتبديد شملهم، وقطع أوصالهم، وأجوبته عن شبههم الشيطانية، ومعارضتهم النفسانيّة (2) للشريعة الحنيفية المحمدية، بما منحه الله تعالى من البصائر الرحمانية والدلائل النقلية والتوضيحات العقلية، حتى انكشف قناع الحق، وبان فيما جمعه في ذلك وألّفه الكذب من الصدق، حتى لو أن أصحابها أحياء ووُفِّقوا (3) لغير الشقاء؛ لأذعنوا له بالتصديق، ودخلوا في الدين العتيق. ولقد وجب على كلّ من وقف عليها، وفهم ما فيها أن يحمد الله تعالى على حسن توفيقه هذا الإمام لنصر الحقّ بالبراهين الواضحة العظام. حدثني غير واحدٍ من العلماء الفضلاء النبلاء الممعنين بالخوض في _________ (1) أخرجه أحمد (671)، وأبو داود (2078) وغيرهما من حديث علي رضي الله عنه. وروي عن جماعة من الصحابة. (2) كذا، ولعلها: «القياسية». (3) (ط): «ووقفوا».

(1/753)


أقاويل المتكلمين، لإصابة الثواب وتمييز القشر من اللباب: أنّ كلًّا منهم لم يزل حائرًا في تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم، وأنه لم يستقرّ في قلبه منها قولٌ ولم يَبِن له من مضمونها حقّ. بل رآها كلَّها موقعة في الحيرة والتضليل، وجُلّها مذعن بتكافؤ الأدلة والتعليل. وأنه كان خائفًا على نفسه من الوقوع بسببها في التشكيك والتعطيل، حتى منّ الله تعالى عليه بمطالعته مؤلفات هذا الإمام أحمد ابن تيمية شيخ الإسلام، مما أورده من النقليات والعقليات في هذا النظام. فما هو إلا أن وقف عليها وفهمها، فرآها موافقة للعقل السليم وعَلِمَها، حتى انجلى ما كان قد غشيه من أحوال المتكلمين من الظلام، وزال عنه ما خاف أن يقع فيه من الشكّ وظفر بالمرام (1). ومن أراد اختبار صحة ما قلته، فليقف بعين الإنصاف، العَرِيّة عن الحسد والانحراف، إن شاء على مختصراته في هذا الشأن، كـ «شرح الأصبهانية» ونحوها، وإن شاء على مطولاته، كـ «تخليص التلبيس من تأسيس التقديس»، و «الموافقة بين العقل والنقل»، و «منهاج الاستقامة والاعتدال»، فإنه والله يظفر بالحق والبيان، ويستمسك بأوضح برهان، ويزن حينئذ ذلك بأصحّ ميزان. ولقد أكثر ــ رضي الله عنه ــ التصنيف في الأصول فضلًا عن غيره من _________ (1) أظنه عنى بهذا الكلام الشيخ عبد الله بن حامد الشافعي، وقد أرسل رسالتين بهذا الخصوص لتلاميذ شيخ الإسلام يشرح فيها بالتفصيل حكايته، ويتحسر على عدم لقاء الشيخ، الرسالة الأولى إلى ابن رشيّق، وهي في «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص 241 - 245)، والثانية إلى ابن بُخيخ، وهي في «تكملة الجامع» (ص 51 - 64).

(1/754)


بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك، والتمست منه تأليف نصّ في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته، ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، فإذا قلّد المسلم فيها أحدَ العلماء المقلَّدين جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه. وأمّا الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء، كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية، والنُّصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطلة، والمجسِّمة، والمشبِّهة، والراوندية، والكُلّابية، والسالمية (1)، وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمّة الضلال، وبان لي أنّ كثيرًا منهم إنما قَصَد إبطال الشريعة المقدّسة المحمدية، الظاهرة على كلّ دين، العلية، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قلّ أن سمعت أو رأيت معرضًا عن الكتاب والسنة، مقبلًا على مقولاتهم، إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه أو اعتقاده. فلما رأيت الأمر على ذلك، بان لي أنه يجب على كلّ من يقدر على دفع شُبَههم وأباطيلهم وقطع حُجّتهم وأضاليلهم، أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، وزيف دلائلهم، ذبًّا عن الملّة الحنيفية، والسنة الصحيحة الجليّة. ولا والله ما رأيتُ فيهم أحدًا ممّن صنّف في هذا الشأن، وادعى علوّ المقام، إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام. وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح المبين، وعمّا جاءت به الرسل الكرام عن _________ (1) (ط): «السلمية»، (ك): «السليمية» ولعل الصواب ما أثبت، والسالمية هم أتباع أبي الحسن بن سالم. انظر «مجموع الفتاوى»: (5/ 483).

(1/755)


رب العالمين، واتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سمّوها بزعمهم حُكميات وعقليّات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضًا عن غيرها أصلًا ورأسًا، فغلبت عليه حتى غطَّت على عقله السليم، فتخبّط حتى خَبَط فيها خَبْط عشواء، ولم يفرّق بين الحقّ والباطل، وإلا فالله أعظم لطفًا بعباده من أن لا يجعل لهم عقلًا يقبل الحقّ ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال. وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانًا يزن به العبد الواردات، فيفرق به بين ما هو من قبيل الحقّ، وما هو من قبيل الباطل، ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟ هذا باطل قطعًا، يشهد له كل عقل سليم، لكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. قال الشيخ الإمام قدّس الله روحه: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أنّي صرفت جُلّ همّي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة العقلية والنقلية. قلت: وقد أبان بحمد الله تعالى فيما ألّف فيها لكلّ بصيرٍ الحقَّ من الباطل، وأعانه بتوفيقه حتى ردّ عليهم بِدَعهم وآراءهم، وخُدَعهم وأهواءهم، مع الدلائل النقلية بالطريقة العقلية (1)، حتى يجيب عن كل شبهة من شبههم بعدة أجوبة جليّة واضحة، يعقلها كلّ ذي عقل صحيح، _________ (1) كذا، ولعلها: «والطرائق العقلية».

(1/756)


ويشهد لصحتها كلّ عاقل رجيح. فالحمد لله الذي منّ علينا برؤيته وصحبته، فلقد جعله الله حجةً على أهل هذا العصر، المعرض غالب أهله عن قليله وكثيره؛ لاشتغالهم بفاني الدنيا عما يحصَّل به باقي الآخرة. فلا حول ولا قوة إلا بالله، لكن الله ذو القوة المتين ضمن حفظ هذا الدين إلى يوم الدين، وأظهره على كل دين، فالحمد لله رب العالمين.

(1/757)


 الفصل الرابع في ذكر تعبّده

أمّا تعبّده ــ رضي الله عنه ــ فإنه قلّ أن سُمِع بمثله؛ لأنّه كان قد قطع جُلّ وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى ما يُراد (1) له من أهل ولا من مال. وكان في ليله متفرِّدًا عن الناس كلهم، خاليًا بربه عز وجل، ضارعًا، مواظبًا على تلاوة القرآن العظيم، مكرّرًا لأنواع التعبدات الليلية والنهارية. وكان إذا ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر، يأتي بسنّتها قبل إتيانه إليهم، وكان إذا أحرم بالصلاة يكاد يخلع القلوبَ لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام، فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميد يمنةً ويسرة، وكان إذا قرأ يمدّ قراءته مدًّا كما صحَّ في قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ركوعه وسجوده وانتصابه عنهما من أكمل ما ورد في صلاة الفرض، وكان يُخفُّ جلوسه للتشهد الأول خفَّة شديدة، ويجهر بالتسليمة الأولى حتى يسمع كلُّ من حضر، فإذا فرغ من الصلاة أثنى على الله عزّ وجلّ هو ومن حضر بما ورد من قوله: «اللهم أنت السلام ومنك السلام ... » (2) الحديث، ثم يُقبل على الجماعة، ثم يأتي بالتهليلات الواردات حينئذ، ثم يسبح الله ويحمده ويكبّره ثلاثًا وثلاثين، ويختم المائة بالتهليل، كما ورد، وكذا _________ (1) كذا العبارة في النسخ. (2) أخرجه مسلم (591) من حديث ثوبان رضي الله عنه.

(1/758)


الجماعة، ثم يدعو الله تعالى له ولهم وللمسلمين أجناس ما ورد (1). وكان غالب دعائه: «اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسّر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، إليك راغبين، لك مخبتين، إليك راهبين، لك مطاويع، ربنا تقبّل توباتنا، واغسل حَوباتنا، وثبّت حُجَجَنا، واهد قلوبنا، واسلل سَخيمة صدورنا» (2). _________ (1) ما ذكره المؤلف هنا فيه نظر؛ لأنه يخالف فتوى شيخ الإسلام في هذه المسألة، فقد سُئل عن الدعاء عقب الصلاة فأجاب: «لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس كما يفعله بعض الناس عقيب الفجر والعصر، ولا نُقل ذلك عن أحد ولا استحب ذلك أحدٌ من الأئمة. ومَن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه. ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك. وكذلك أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا ذلك. ولكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر. قالوا: لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما فتعوض بالدعاء عن الصلاة. واستحب طائفة أخرى من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس. وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه، ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء، فإن هذا ليس مأمورًا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب في هذا الموطن، والمنكر على التارك أحق بالإنكار منه؛ بل الفاعل أحق بالإنكار، فإن المداومة على ما لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعًا؛ بل مكروه كما لو داوم على الدعاء قبل الدخول في الصلوات .. فإنه مكروه ... والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام ويأمر بذلك». «مجموع الفتاوى»: (22/ 513 ــ 512). وانظر «مجموع الفتاوى»: (22/ 492). (2) ورد هذا الدعاء بألفاظٍ مختلفة عند أحمد (1997)، وأبو داود (1510، 1511)، والترمذي (3551)، وابن ماجه (3830)، وابن حبان (947، 948)، وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(1/759)


يفتتحه ويختمه بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم يشر ع في الذّكر، وكان قد عُرفت عادتُه لا يُكلّمه أحدٌ بغير ضرورة بعد صلاة الفجر، فلا يزال في الذكر يُسمع نفسه، وربما يسمع ذكره من الروحانية مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء، هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس، ويزول وقتُ النهي عن الصلاة. وكنت مدّة إقامتي بدمشق ملازمه جلَّ النهار وكثيرًا من الليل، وكان يدنيني منه حتى يجلسني إلى جانبه، وكنت أسمع ما يتلو وما يذكر حينئذ، فرأيته يقرأ الفاتحة ويكررها، ويقطع ذلك الوقت كله، أعني من الفجر إلى ارتفاع الشمس في تكرير تلاوتها، ففكّرت في ذلك لِمَ قد لزم هذه السورة دون غيرها؟ فبان لي، والله أعلم، أن قصده بذلك أن يجمع بتلاوتها حينئذ بين ما ورد في الأحاديث وما ذكره العلماء، هل يستحب تقديم الأذكار الواردة على تلاوة القرآن أو العكس؟ فرأى رضي الله عنه أنّ في الفاتحة وتكرارها حينئذ جمعًا بين القولين وتحصيلًا للفضيلتين، وهذا من قوة فطنته وثاقب بصيرته. ثم إنه كان يركع، فإذا أراد سماع حديث في مكان آخر سارع إليه من فوره، مع من يصحبه، فقلَّ أن يراه أحدٌ ممن له بصيرة إلا وانكبَّ على يديه فيقبلهما، حتى إنه كان إذا رآه أرباب المعايش يتخَطّون (1) من حوانيتهم للسلام عليه والتبرّك به، وهو مع هذا يُعطي كُلًّا منهم نصيبًا وافرًا من السلام وغيره، وإذا رأى منكرًا في طريقه أزاله، أو سمع بجنازة سارع إلى _________ (1) (ط): «يتخبطون»، والمثبت من (ك).

(1/760)


الصلاة عليها، أو تأسّف على فواتها، وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث، فصلى عليه، ثم يعود إلى مسجده، فلا يزال تارة في إفتاء الناس، وتارة في قضاء حوائجهم، حتى يصلّي الظهر مع (1) الجماعة، ثم كذلك بقية يومه. وكان مجلسه عامًّا للكبير والصغير، والجليل والحقير، والحرّ والعبد، والذكر والأنثى، قد وسع كل من يَرِدُ عليه من الناس، يرى كلٌّ منهم في نفسه أن لم يكرم أحدًا بقدره. ثم يصلي المغرب، ثم يتطوع بما يسَّره الله، ثم أقرأ عليه من مؤلفاته أنا أو غيري، فيفيدنا بالطرائف، ويمدُّنا باللطائف، حتى يصلّي العشاء، ثم بعدها كما كنا وكان من الإقبال على العلوم إلى أن يذهب هَوِيٌّ من الليل طويل، وهو في خلال ذلك كلّه في النهار والليل، لا يزال يذكر الله تعالى ويوحّده ويستغفره. وكان رضي الله عنه كثيرًا ما يرفع طَرْفَه إلى السماء، لا يكاد يفتر عن ذلك، كأنّه يرى شيئًا يثْبِته بنظره، فكان هذا دأبه مدّة إقامتي بحضرته، فسبحان الله ما أقصر ما كانت! يا ليتها كانت طالت. ما مرَّ على عمري إلى الآن زمانٌ كان أحبَّ إليَّ من ذلك الحين، ولا رأيتني في وقت أحسن حالًا منّي حينئذ، وما كان إلا ببركة الشيخ رضي الله عنه. وكان في كلّ أسبوع يعود المرضى، خصوصًا الذين بالمارستان. وأخبرني غير واحد ممن لا يُشكُّ في عدالته أن جميع زمن الشيخ ينقضي _________ (1) (ط): «من».

(1/761)


على ما رأيته. فأيُّ عبادة واجتهاد أفضل من ذلك؟ فسبحان الموفق من يشاء لما يشاء!

(1/762)


 الفصل الخامس في ذكر بعض وَرَعه

كان رضي الله عنه في الغاية التي يُنتهى إليها في الوَرَع؛ لأنّ الله تعالى أجراه مدة عمره كلّها عليه، فإنه ما خالط الناس في بيع ولا شراء ولا معاملة ولا تجارة ولا مشاركة ولا زراعة ولا عمارة، ولا كان ناظرًا مباشرًا لمال وقف، ولم يكن يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مُدَّخرًا دينارًا ولا درهمًا ولا متاعًا ولا طعامًا، وإنما كانت بضاعته مدّة حياته، وميراثه بعد وفاته ــ رضي الله عنه ــ العلم، اقتداءً بسيّد المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين، فإنه قال: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورّثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظٍّ وافر» (1). وكان ينبّه العاقل بحسن الملاطفة ورقيق المخاطبة ليختار لنفسه طريقتهم، ويسلك سبيلهم، وإن كان دونها من الطرائق من اتخاذ المباحات جائز، لكن العاقل يدلّه عقله على طلب الأعلى. فانظر بعين الإنصاف إلى ما وفّق الله له هذا الإمام وأجرى، ممّا أقعد عنه غيره وخذله عن طلبه، لكن لكل شيء سبب، وعلامة عدم التوفيق سلب الأسباب، ومن أعظم الأسباب: تركُ فضول الدنيا [و] التخلّي (2) عن غير الضروري منها. فلما _________ (1) أخرجه أبوداود (3643)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. صححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (7/ 587). (2) العبارة في (ط): «لترك ... التخلي» ولعلّها ما أثبت.

(1/763)


وفّق الله هذا الإمام لرفض غير الضروري منها انصبّت عليه العواطف الإلهية، فحصل بها كلَّ فضيلة جليلة، بخلاف غيره من علماء الدنيا، مختاريها وطالبيها والساعين لتحصيلها، فإنهم لمّا اختاروا ملاذّها وزينتها ورياستها= انسدّت عليهم غالبًا طُرُق الرشاد، فوقعوا في شَرَكها يخبطون خبط عشواء، ويحطبونها كحاطب ليل، لا يُبالون ما يأكلون ولا ما يلبسون ولا ما يتأولون (1) إلا ما يُحصّل لهم أغراضَهم الدنيئة، ومقاصدهم الخبيثة الخسيسة، فهم متعاضدون على طلبها، متحاسدون بسببها، أجسامهم ميتة، وقلوبهم من غيرها فارغة، وظواهرهم مزخرفة معمورة، وقلوبهم خربة مأبورة. ولم يكفهم ما هم عليه حتى أصبحوا قالين رافضها، معادين باغضها، ولمّا رأوا هذا الإمام عالم الآخرة، تاركًا ما هم عليه من تحصيل الحطام من المشتبه الحرام، رافضًا الفضل المباح فضلًا عن الحرام، تحقّقوا أنّ أحواله تفضح أحوالهم، وتوضح خفيّ انفعالهم، وأخذتهم الغيرة النفسانية على صفاتهم الشيطانية، المباينة لصفاته الروحانية، فحرصوا على الفتك به أين ما وَجدوا، وأُنْسوا أنهم ثعالب وهو أسد. فحماه الله تعالى منهم بحراسته، وصنع له غير مرّة كما صنع لخاصّته، وحفظه مُدّة حياته وحماه، ونشر له عند وفاته علمًا في الأقطار بما والاه. _________ (1) كذا في (ط، ك)، ولعلها: «يتناولون».

(1/764)


 الفصل السادس في ذكر بعض زُهده وتجرده وتقاعده عن الدنيا وتبعّده

أمّا زهده في الدنيا ومتاعها، فإنّ الله تعالى جعل ذلك له شعارًا من صغره. حدّثني من أثق به عن شيخه الذي علّمه القرآن المجيد قال: قال لي أبوه وهو صبي ــ يعني الشيخ ــ: أحبُّ إليك أن توصيه وتَعِده بأنك إذا لم تنقطع عن القراءة والتلقين أدفع إليك كلّ شهر أربعين درهمًا. قال: ودفع إليّ أربعين درهمًا، وقال: أعطه إيّاها، فإنه صغير وربّما يفرح بها فيزداد حرصه على الاشتغال بحفظ القرآن ودرسه، وقل له: لك في كلّ شهر مثلها. فامتنع من قبولها وقال: يا سيدي، إنّي عاهدت الله تعالى أن لا آخذ على القرآن أجرًا، ولم يأخذها، فرأيت أن هذا لا يقع من صبي إلّا لما لله فيه من العناية. قلتُ: وصدق شيخه، فإنّ عناية الله هي التي أوصلته إلى ما وصل من كل خير من صغره، ولقد اتفق كلُّ من رآه ــ خصوصًا من أطال ملازمته ــ أنه ما رأى مثله في زهده في الدنيا، حتى لقد صار ذلك مشهورًا، بحيث قد استقرّ في قلب القريب والبعيد من كلّ من سمع بصفاته على وجهها، بل لو سُئل عامي من أهل بلد بعيد من الشيخ: من كان أزهد أهل هذا العصر وأكملهم في رفض فضول الدنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية. وما اشتهر له ذلك إلا لمبالغته فيه، مع تصحيح النية، وإلاّ فمَن رأينا

(1/765)


من العلماء قنع من الدنيا بمثل ما قنع هو منها، أو رضي بمثل حالته التي كان عليها؟ لم يُسمع أنه رغب في زوجةٍ حسناء ولا سرية حوراء، ولا دار قوراء، ولا جَوَارٍ، ولا بساتين ولا عَقار، ولا شدّ على دينار ولا درهم، ولا رغب في دواب ولا نَعَم، ولا ثياب ناعمة فاخرة ولا حَشَم، ولا زاحم في طلب الرياسات، ولا راءى ساعيًا في تحصيل المباحات، مع أنّ الملوك والأمراء والتجّار والكبار كانوا طَوعَ أمرِه، خاضعين لقوله وفعله، وادّين أن يتقربوا إلى قلبه مهما أمكنهم، مظهرين لإجلاله، أو أن يؤهل كلًا منهم (1) في بذل ماله. فأين حاله هذه من أحوال بعض المنتسبين إلى العلم وليسوا من أهله، ممّن قد أغراه الشيطان بالوقيعة فيه بقوله وفعله؟ أتُرى ما نظروا ببصائرهم إلى صفاتهم وصفاته، وسِماتهم وسماته، وتحاسدهم في طلب الدنيا وفراغه عنها، وتحاشدهم في الاستكثار منها، ومبالغته في الهرب منها، وخدمتهم الأمراء واختلافهم إلى أبوابهم، وذلّ الأمراء بين يديه، وعدم اكتراثه بكبرائهم وأترابهم ومداجاتهم وتعبداتهم، وصدعه إيّاهم بالحق، وقوّة جأشه في محاورتهم؟ بلى والله! ولكن قتَلَتْهم الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، وغطّى على أحلامهم حبّ الدنيا السارقة، سارقة العقل لا سارقة البدن، حتى أصبحوا قاطعين من بايَنَهم (2) في طلبها، واصلين مَن واصلهم في جلبها. _________ (1) كذا العبارة في (ط، ك). (2) (ط، ك): «يأتيهم» ولعلها ما أثبت ويدل عليها السياق بعدها.

(1/766)


 الفصل السابع في إيثاره مع فقره، وتواضعه

كان رضي الله عنه مع شدّة تركه للدنيا ورفضه لها وفقره فيها وتقلّله منها= مؤثِرًا بما عساه يجده منها، قليلًا كان أو كثيرًا، جليلًا أو حقيرًا، لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدّق به، ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به. فقد كان يتصدّق حتى إذا لم يجد شيئًا نزع بعض ثيابه ممّا يحتاج إليه فيَصِل به الفقير، وكان يستفضل من قوته القليل الرغيف والرغيفين فيؤثر بذلك على نفسه، وربّما خبأهما في كمّه ويمضي ونحن معه لسماع الحديث، فيراه بعضنا وقد دفعه إلى الفقير مستخفيًا، يحرص أن لا يراه أحد، وكان إذا ورد عليه فقير، وآثر المقام عنده يؤثره عند الأكل بالأكثر من قوته الذي جُعِل برسمه. حدّثني الشيخ الصالح العارف زين الدين علي الواسطيّ ما معناه: أنّه أقام بحضرة الشيخ مدة طويلة. قال: فكان قوتنا في غالبها أنه كان في بكرة النهار يأتيني ومعه قدر نصف رطل خبزًا بالعراقي، فيكسره بيده لُقمًا ونأكُل منه أنا وهو جميعًا، ثم يرفع يده قَبْلي، ولا يفرغ باقي القُرْص من بين يديّ حتى أشبع، بحيثُ أنّي لا أحتاجُ إلى الطعام إلى الليل. وكنتُ أرى ذلك من بركة الشيخ. ثم يَبْقى إلى بعد العشاء الآخرة حتى يفرغ من جميع عوائده التي يفيدُ الناسَ بها في كلّ يوم من أصناف القُرَب. فيؤتى بعشائنا، فيأكل هو معي لُقَيْمات، ثم يؤثرني بالباقي. وكنتُ أسأله أن يزيدَ على أكْلِه فلا يفعل، حتى إنّي كنتُ في نفسي أتوجّعُ له من قلّة أكله.

(1/767)


وكان هذا دأبُنا (1) في غالب مدّة إقامتي عنده، وما رأيتُ نفسي أغنى منها في تلك المدة، ولا رأيتُني أجمع (2) همًّا مني فيها. وحكى غيرُ واحد ما اشتهر عنه من كثرة الإيثار، وتفقّد المحتاجين والغُرَباء، ورقيقي الحال من الفُقهاء والقُرّاء، واجتهاده في مصالحهم وصِلاتهم، ومساعدته لهم. بل لكلّ أحدٍ من العامّةِ والخاصّة ممن يمكنه فعل الخير معه، وإسداء المعروف إليه بقوله وفِعْله، ووجهه وجاهه. وأمّا تواضعه؛ فما رأيتُ ولا سمعتُ بأحدٍ من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والغني الصالح والفقير. وكان يُدْني الفقيرَ الصالح ويُكرمُه ويؤنسه ويُباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله من الأغنياء، حتى إنّه ربما خدمه بنفسه؛ وأعانه بحَمْل حاجته، جَبْرًا لقَلْبه، وتقرُّبًا بذلك إلى ربّه. وكان لا يسأمُ ممّن يَسْتَفْتِيه أو يسأله، بل يُقبل عليه ببشارة وجْه ولين عريكة، ويقفُ معه حتى يكون هو الذي يُفارقه، كبيرًا كان أو صغيرًا، رجلًا أو امرأةً، حُرًّا أو عبْدًا، عالمًا أو عامِيًّا، حاضرًا أو باديًا، ولا يجبهه ولا يُحرِجهُ ولا يُنفِّرُه بكلام يوحشُه، بل يُجيبُه ويُفهِّمُهُ ويُعَرِّفُه الخطأَ من الصواب، بلطف وانبساط. وكان يلزم التواضع في حضوره مع الناس ومغيبه عنهم، في قيامه وقعوده ومَشْيه، ومجلسه ومجلس غيره. _________ (1) (ط، ك): «رأينا» والصواب ما أثبت. (2) في (ط، ك): «أفقر» والمثبت من (ل).

(1/768)


ولقد بالغ معي حال إقامتي بحضرته في التواضع والإكرام، حتى إنه لا يذكرني باسمي، بل يُلَقِّبني بأحسن الألقاب، ويُظهِرُ لي خصوصًا بين أصحابي من الإكرام والتبجيل والإدناء منه، بحيث لا يتركني أجلس إلّا إلى جانبه، قصيرًا كان مجلسُه أو طويلًا، خاصًّا أو عامًّا. ولازمني في حال قراءتي «صحيح البخاري». وكان قَصْدي قراءته على راويه منفردًا، لاستصغاري نفسي عن القراءة هُناك بمحضر من الناس، ولقصدي تعجيل فراغي منه انتهازًا للفُرْصة، وخَوْفًا من فوات ذلك الشيخ الراوي، لكونه تفرّد بروايته سماعًا على أصحاب أبي الوقت السِّجْزي. فلما سمع الشيخ بذلك ألزمني قراءته بمجْمَع كثير من الناس رجالًا ونساءً وصبيانًا. وقال: ما ينبغي إلّا على صِفةٍ يكون نفعُها متعديًا إلى المسلمين. فتجرّد لي بحيث حصل لي مُرادي وفوقه من تحصيل قراءتي له في عشرين مجلسًا متوالية، لم يتخللها سوى الجمعة. ولازمني فيها، وحضر القراءة كلّها يضبطها بنسخة كانت بيده هي أصلُ ابن ناصر الحافظ يُعارض بها نسخة القراءة، وكانت أصلَ الشيخ المُسْمع (1). وَأظهر لي من حسن الأخلاق والمبالغة في التواضع، بحيث إنه كان إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة يحمل هو بنفسه النسخة ولا يَدَعُ أحدًا منّا يحملها عنه. وكنتُ أعتذرُ إليه من ذلك خَوْفًا من سوء الأدب، فيقول: لو حملْتُه على رأسي لكان ينبغي. ألا أحمل ما فيه كلامُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ _________ (1) ذكر هذه القراءة ابن ناصر الدين في «الرد الوافر» (ص 211). وكانت القراءة على المسند المعمّر أبي العباس الحجار (ت 730).

(1/769)


وكان يجلس تحت الكرسي ويَدَعُ صَدْر المجالس، حتى إنّي لأستحي من مجلسه هناك، وأعجب من شدّة تواضعه، ومبالغته في إكرامي بما لا أستحق وتقديمي عليه في المجلس. ولولا قراءتي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعِظَم حُرْمتها لما كان ينبغي لي ذلك. وكان هذا حاله في التواضع والتنازل والإكرام لكلّ مَنْ يَرِدُ عليه، أو يصحبه، أو يلقاه. حتى إنّ كلّ مَنْ لقيه يحكي عنه من المبالغة في التواضع نحوًا مما حكيتُه وأكثر من ذلك. فسبحان مَنْ وفّقه وأعطاه، وأجراه على خلال الخير وأمضاه.

(1/770)


 الفصل الثامن في هيئته ولباسه

كان رضي الله عنه متوسّطًا في لباسه وهيئته، لا يلبس فاخر الثياب بحيثُ يُرْمق ويمدّ إليه النظر فيها، ولا أطمارًا، ولا غليظةً تُشهر حال لابسها ويُميَّز من عامّة الناس بصفةٍ خاصة يراه الناسُ فيها (1). بل كان لباسُه وهيئتُه كغالب الناس ومتوسّطهم. ولم يكن يلزم نوعًا واحدًا من اللباس فلا يَلْبَسُ غيرَه. كان يلبس ما اتفق وحصل ويأكل ما حضر. وكانت بذاذة الإيمان (2) عليه ظاهرة. لا يُرَى مُتَصَنِّعًا في عمامة ولا لباس ولا مِشية ولا قيام ولا جلوس، ولا يتهيّأ لأحدٍ يلقاه، ولا لمَنْ يَرِدُ عليه من بلد. ومن العجب أنّي كنتُ قد رأيتُه قبل لُقِيِّه بمدّةٍ فيما يرى النائم، ونحن جلوس نأكلُ طعامًا على صفة مُعيّنة. فحالَ لقائي له ودخولي عليه وجدتُه يأكلُ مثل ذلك الطعام على نحوٍ من الصفة التي رأيت. فأجلسني، وأكلنا جميعًا كما رأيت في المنام. وأخبرني غير واحد أنه ما رآه ولا سمع أنه طلب طعامًا قطُّ ولا غداء ولا عشاء، ولو بقي مهما بقي؛ لشدّة اشتغاله بما هو فيه من العلم والعمل، بل كان يؤتى بالطعام، وربما يُترك عنده زمانًا حتى يلتفت إليه، وإذا أكل _________ (1) في (ل، ك) زيادة: «من عالم وعابد». (2) البذاذة: رثاثة الهيئة. والمراد: ترك الترفُّه والتنطع في اللباس والتواضع فيه. انظر «فتح الباري»: (10/ 368).

(1/771)


أكل شيئًا يسيرًا. قال: وما رأيناه يذكر شيئًا من ملاذّ الدنيا ونعيمها، ولا كان يخوض في شيء من حديثها، ولا يُسألُ عن شيء من معيشتها، بل جلُّ همّته وحديثه في طلب الآخرة، وما يقرّب إلى الله تعالى. وهكذا كان في لباسه، لم يُسمع أنه أمر أن يُتَّخذ له ثوب بعينه، بل كان أهله يأتون بلباسه وقت علمهم باحتياجه إلى بدل ثيابه التي عليه، وربّما بقيت عليه مدّة حتى تتّسخ ولا يأمر بغسلها حتى يكون أهله هم الذين يسألونه ذلك. وأخبر أخوه (1) الذي كان ينظر في مصالحه الدنيوية أنّ هذا حاله في طعامه وشرابه ولباسه وما يحتاج إليه ممّا لا بدّ منه من أمور الدنيا، وما رأيت أحدًا كان أشدَّ تعظيمًا للشيخ من أخيه هذا ــ أعني القائم بأوَدِه (2) ــ وكان يجلس بحضرته كأنّ على رأسه الطير، وكان يهابه كما يهاب سلطانًا، وكنا نعجب منه في ذلك ونقول له: إنّ من العرف والعادة أنّ أهل الرجل لا يحتشمونه كالأجانب، بل يكون انبساطهم معه فضلًا عن الأجنبي، ونحن نراك مع الشيخ كتلميذ مبالغ في احتشامه واحترامه، فيقول: إني أرى منه أشياء لا يراها غيري، أوجبَتْ أن أكون معه ما ترون. وكان يُسأل عن ذلك فلا يذكر منه شيئًا لما يعلم من عدم إيثار الشيخ لذلك. _________ (1) هو زين الدين عبد الرحمن بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 747). ترجمته في «البداية والنهاية»: (18/ 490) و «الدرر الكامنة»: (2/ 329). (2) كذا، ولعلها: «بأموره».

(1/772)


 الفصل التاسع في ذكر بعض كرامته وفراسته

أخبرني غير واحد من الثقات ببعض ما شاهده من كراماته، وأنا أذكر بعضها على سبيل الاختصار، وأبدأ من ذلك ببعض ما شاهدته. فمنها: أنه جرى بيني وبين بعض الفضلاء منازعة في عدة مسائل، وطال كلامنا فيها، وجعلنا نقطع الكلام في كل مسألة بأن نرجع إلى الشيخ وما يُرجحه من القول فيها. ثم إن الشيخ رضي الله عنه حضر، فلما هممنا بسؤاله عن ذلك سَبَقنا هو وشرع يذكر لنا مسألة مسألة كما كنا فيه، وجعل يذكر غالب ما أوردناه في كل مسألة، ويذكر أقوال العلماء، ثم يرجح منها ما يُرجحه الدليل، حتى أتى على آخر ما أردنا أن نسأل عنه، وبيَّن لنا ما قصدنا أن نستعمله منه، فبقيتُ أنا وصاحبي ومَن حَضَرَنا مبهوتين متعجبين ممّا كاشَفَنا به، وأظهره الله عليه ممّا كان في خواطرنا. وكنت في خلال الأيام التي صحِبْته فيها إذا بحث مسألةً يحضر لي إيرادٌ، فما يستتمُّ خاطري به، حتى يشرع فيورده ويذكر الجواب من عدّة وجوه. وحدّثني الشيخ الصالح المقرئ أحمد بن الحريمي أنّه سافر إلى دمشق، قال: فاتفق أنّي لمّا قدمتها لم يكن معي شيء من النفقة البتة، وأنا لا أعرف أحدًا من أهلها، فجعلت أمشي في زقاق منها كالحائر، فإذا بشيخ قد

(1/773)


أقبل نحوي مسرعًا فسلَّم، وهشَّ في وجهي، ووضع في يدي صُرَّة فيها دراهم صالحة، وقال لي: أنفق هذه الآن فيما أنت فيه، فإن الله لا يضيعك، ثم رُدَّ على أثره كأنه ما جاء إلا من أجلي، فدعوت له وفرحت بذلك، وقلت لبعض من رأيته من الناس: من هذا الشيخ؟ فقال: وكأنك لا تعرفه، هذا ابن تيمية، لي مدة طويلة لم أره اجتاز بهذا الدرب. وكان جُلُّ قصدي من سفري إلى دمشق لقاءه، فتحقَّقتُ أنّ الله أظهره عليّ وعلى حالي، فما احتجت بعدها إلى أحد مدّة إقامتي بدمشق، بل فتح الله عليّ من حيث لا أحتسب، واستدللت فيما بعد عليه، وقصدت زيارته والسلام عليه، فكان يكرمني ويسألني عن حالي، فأحمد الله تعالى إليه. وحدّثني الشيخ العالم المقرئ تقي الدين عبد الله ابن الشيخ الصالح المقرئ أحمد بن سعيد قال: سافرت إلى مصر حين كان الشيخ مقيمًا بها، فاتّفق أنّي قدمتها ليلًا وأنا مُثقل مريض، فأُنزلت في بعض الأمكنة، فلم ألبث أن سمعت من ينادي باسمي وكنيتي، فأجبته وأنا ضعيف، فدخل إليّ جماعة من أصحاب الشيخ ممّن كنت قد اجتمعت ببعضهم في دمشق، فقلت: كيف عرفتم بقدومي، وأنا قدمتُ هذه الساعة؟ فذكروا أنّ الشيخ أخبرنا أنّك قدمت وأنت مريض، وأمرنا أن نسرع بنقلك، وما رأينا أحدًا جاء، ولا أخبرنا بشيء، فعلمت أنّ ذلك من كرامات الشيخ رضي الله عنه. وحدثني أيضًا قال: مرضت بدمشق ــ إذ كنت بها ــ مرضةً شديدة منعتني حتى من الجلوس، فلم أشعر إلا والشيخ عند رأسي وأنا مثقل بالحُمّى والمرض، فدعا لي وقال: جاءت العافية، فما هو إلا أن فارقني وجاءت العافية وشُفيت من وقتي.

(1/774)


وحدّثني أيضًا: قد كنتُ أستكتب شعرًا لبعض من انحرف عن الشيخ قد تنقصَّه فيه. وكان سبب قوله ذلك الشعر أنه نُسب إلى قائله شعر وكلام يدلُّ على الرفض، فأُخذ الرجل وأُثبت ذلك عليه في وجهه عند حاكم من حُكام الشرع المطهر، فأمر به فشُهِّر حاله بين الناس، فتوهم أن الذي كان سبب ذلك الشيخ، فحمله ذلك على أن قال فيه ذلك الشعر، وبقي عندي، وكنت ربما أورد بعضَه في بعض الأحيان، فوقعت في عدّة أشياء من المكروه والخوف متواترة، ولولا لطف الله تعالى بي فيها لأتت على نفسي، فنظرت من أين دُهيتُ، فلم أر لذلك سببًا إلا إيرادي لبعض ذلك الشعر، فعاهدت الله أن لا أنوّه بشيء منه، فزال عني أكثر ما كنت فيه من المكاره، وبقي بعضه، وكان ذلك الشعر عندي فأخذته وحرقته وغسلته، حتى لم يبق له أثر، واستغفرت الله تعالى من ذلك، فأذهب الله عني جميع ما كنت فيه من المكروه والخوف، وأبدلني الله به عكسه، ولم أزل بعد ذلك في خير وعافية، ورأيت ذلك حالًا من أحوال الشيخ ومن كرامته على الله. وحدثني أيضًا قال: أخبرني الشيخ ابن عماد الدين المقرئ المطرّز قال: قدمت على الشيخ ومعي حينئذ نفقة، فسلّمت عليه، فردّ عليّ ورحّب بي، وأدناني ولم يسألني هل معك نفقة أم لا. فلما كان بعد أيّام وقد نفِدَت نفقتي أردت أن أخرج من مجلسه بعد أن صليت مع الناس وراءه، فمنعني وأجلسني دونهم، فلما خلا المجلس دفع إليَّ جملة دراهم، وقال: أنت الآن بغير نفقة، فارتفق بهذه، فعجبت من ذلك، وعلمت أنّ الله كشَفَه على حالي أوّلًا لما كان معي نفقة، وآخرًا لما نفِدَت واحتجت إلى نفقة. وحدّثني من لا أتهمه أنّ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ حين نزل المُغل

(1/775)


بالشام لأخذ دمشق وغيرها، رجَفَ أهلُها وخافوا خوفًا شديدًا، وجاء إليه جماعةٌ منهم وسألوه الدعاء للمسلمين، فتوجه إلى الله، ثم قال: أبشروا، فإن الله يأتيكم بالنصر في اليوم الفلاني بعد ثالثة، حتى ترون الرؤوس معبّأة بعضها فوق بعض. قال الذي حدثني: فوالذي نفسي بيده ــ أو كما حلف ــ ما مضى إلّا ثلاثٌ ــ مثل قوله ــ حتى رأينا رؤوسهم كما قال الشيخ، على ظاهر دمشق، معبأة بعضها فوق بعض (1). وحدّثني الشيخ الصالح الورع عثمان بن أحمد بن عيسى النسّاج أنّ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ كان يعود المرضى بالبيمارستان بدمشق، في كل يوم، فجاء على عادته فعادهم، فوصل إلى شاب منهم فدعا له، فشُفي سريعًا، وجاء إلى الشيخ يقصد السلام عليه، فلما رآه هشَّ له وأدناه، ثم دفع إليه نفقةً وقال: قد شفاك الله، فعاهد الله أن تعجل الرجوع إلى بلدك، أيجوز أن تترك زوجتك وبناتٍ لك أربعًا بلا نفقة وتقيم هاهنا، فقال الفتى: فقبّلت يده وقلت: يا سيدي أنا تائب إلى الله على يدك، وعجبت مما كاشفني به، وكنت قد تركتهم بلا نفقة، ولم يكن قد عرف بحالي أحدٌ من أهل دمشق. وحدثني مَن أثق به: أنّ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ أُخبر عن بعض القضاة أنه قد مضى متوجّهًا إلى مصر المحروسة ليُقلَّد القضاء، وأنه سمعه يقول: حالما أصل إلى البلد قاضيًا أحكم بقتل فلان، رجل معيّن من فضلاء أهل العلم والدين، قد أجمع الناس على علمه وزهده وورعه، ولكن حصل في _________ (1) وذلك في معركة شقحب سنة (702 هـ).

(1/776)


قلب القاضي منه من الشحناء والعداوة ما صوَّب له الحكم بقتله، فعظُم ذلك على من سمعه خوفًا من وقوع ما عَزَم عليه من القتل بمثل هذا الرجل الصالح، وحذرًا على القاضي أن يوقعه الهوى والشيطان في ذلك، فيلقى الله متلبِّسًا بدم حرام، وفتْكٍ بمسلم معصوم الدم بيقين، وكرهوا وقوع مثل ذلك لما فيه من عظيم المفاسد. فأبلغ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ هذا الخبر بصفته، فقال: إن الله لا يُمكِّنه ممّا قصد، ولا يصل إلى مصر حيًّا، فبقي بين القاضي وبين مصر قدرٌ يسير، وأدركه الموت، فمات قبل وصولها، كما أجرى الله تعالى على لسان الشيخ رضي الله عنه. قلت: وكرامات الشيخ رضي الله عنه كثيرةٌ جدًّا، لا يليق بهذا المختصر أكثر مِن ذكر هذا القدر منها. ومن أظهر كراماته أنه ما سُمِع بأحدٍ عاداه أو غضّ منه إلا وابتُلي بعدّة بلايا غالبها في دينه، وهذا ظاهر مشهور لا يُحتاج فيه إلى شرح صفته.

(1/777)


 الفصل العاشر في ذكر كرمه رضي الله عنه

كان ــ رضي الله عنه ــ مجبولًا على الكرم، لا يتطبّعه ولا يتصنّعه، بل هو له سجيّة، وقد ذكرت فيما تقدم أنه ما شدَّ على دينار ولا درهم قطُّ، بل كان مهما قدر على شيء من ذلك يجود به كلّه، وكان لا يردُّ من يسأله شيئًا يقدر عليه من دراهم ولا دنانير، ولا ثياب ولا كتب، ولا غير ذلك، بل ربما كان يسأله بعض الفقراء شيئًا من النفقة، فإن كان حينئذٍ متعذّرًا لا يدعه يذهب بلا شيء، بل كان يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إليه، وكان ذلك المشهور عند الناس من حاله. حدثني الشيخ العالم الفاضل المقرئ أبومحمد عبد الله ابن الشيخ الصالح المقرئ أحمد بن سعيد قال: كنت يومًا جالسًا بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، فجاء إنسان فسلَّم عليه، فرآه الشيخ محتاجًا إلى ما يعتمّ به، فنزع الشيخ عمامته من غير أن يسأله الرجل ذلك، فقطعها نصفين واعتمّ بنصفها، ودفع النصف الآخر إلى ذلك الرجل، ولم يحتشم للحاضرين عنده. قلت: وربّما توهم بعض من يحتاج إلى التفهيم أنّ هذا الفعل من الشيخ فيه إضاعة المال، أو نوع من التبذّل الذي يشين المروءة، وليس الأمر كذلك، فإنه لم يكن عنده حينئذ معلوم غير ثيابه، ورأى أنّ قطع العمامة من بقية لباسه ممّا يفسده ولا يحصل به المقصود، ولم يكن عليه ولا عنده حينئذ ثوبٌ صحيح لا يحتاج إليه حتى يدفعه إليه، فسارع إلى

(1/778)


قطع ما يستغني ببعضه عن كلِّه فيما وُضع له، وهو العمامة، فنفع أخاه المسلم وسدّ حاجته حينئذ ببعضها، واستغنى هو بباقيها. وهذا هو أكمل التصرف الصالح والرُّشد التام، والجود المذكور المشهور، والإيثار بالميسور. وأما التبذُّل الذي فيه نوع من إسقاط المروءة فليس من هذا القبيل في شيء، بل هذا من المبالغة في التواضع، وعدم رؤية النفس في محل الاحتشام، ورفض إرادة المرء تعظيم نفسه بحضرة الحاضرين، وهذه خصال محمودة مطلوبة شرعًا وعقلًا. وقد روي مثل ذلك عن سيد الأنام وأكمل الخلق مروءةً وعقلًا وعلمًا محمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : أنه لبس يومًا شملة سوداء لها حواش بيض، وخرج إلى المسجد، وجماعة من المسلمين حضور، فرآه إنسان فقال: يا رسول الله! أعطني هذه الشملة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع سائلًا يسأله، فنزعها - صلى الله عليه وسلم - عن كريمه المكرّم ودفعها إلى ذلك الرجل، وطفق الناس يلومون ذلك الرجل على ما فعل، وكونه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان محتاجًا إلى ما يلبس، وقد علم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع شيئًا يُسأله، فقال الرجل معتذرًا إليهم: إنّي لم أطلبها لألبسها، لكن لأجعلها لي كفنًا عند موتي، قال الراوي: فأمسكها عنده حتى كانت كفنه. وهذا حديث مشهور قد رواه غير واحد من الحفاظ الثقات (1). وهو من أوضح الدليل على ما قلناه، بل أبلغ في الجود والتواضع وكسر النفس وكرم الأخلاق. وحدثني من أثق به أنّ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ كان مارًّا يومًا في بعض _________ (1) بنحو القصة أخرجه البخاري (1277) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

(1/779)


الأزقّة، فدعا له بعض الفقراء، وعرف الشيخ حاجتَه، ولم يكن مع الشيخ ما يعطيه، فنزع ثوبًا من على جلده ودفعه إليه وقال: بعه بما تيسّر وأنفقه، واعتذر إليه من كونه لم يكن معه شيء (1) من النفقة. وهذا أيضًا من المبالغة في عدم إكثاره بغير ما يقرِّب إلى الله تعالى، وجوده بالميسور كائنًا ما كان، وهذا من أبلغ إخلاص العمل لله سبحانه، فسبحان الموفّق من شاء لما شاء. وحدّثني من أثق به ــ أيضًا ــ أنّ الشيخ رضي الله عنه كان لا يردُّ أحدًا يسأله شيئًا من كتبه، بل يأمره أن يأخذ هو بنفسه ما شاء منها، وأخبرني أنه جاءه يومًا إنسان فسأله كتابًا ينتفع به، فأمره أن يأخذ كتابًا يختاره (2)، فرأى ذلك الرجل بين كتب الشيخ مصحفًا قد اشتُري بدراهم كثيرة، فأخذه ومضى، فلام بعضُ الجماعة الشيخَ في ذلك، فقال: لا يحسن بي أن أمنعه بعدما سأله، دعه، فلينتفع به. وكان الشيخ ينكر إنكارًا شديدًا على من يُسأل شيئًا من كتب العلم التي يملكها ويمنعها من السائل، ويقول: ما ينبغي أن يُمنع العلم ممّن يطلبه. ومن كرمه: أنه كان لا ينظر أبدًا إلى جهة الملك والتموّل. وهذا القدر من كرمه يُغني المقتدي. _________ (1) في (ل): «كونه لم يحضر عنده شيء». (2) وقع تكرار في العبارة في (ط).

(1/780)


 الفصل الحادي عشر في ذكر قوة قلبه وشجاعته

كان ــ رضي الله عنه ــ من أشجع الناس وأقواهم قلبًا، ما رأيت أحدًا أثبت جأشًا منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدوّ منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم. أخبر غيرُ واحد: أنّ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهادٍ يكون بينهم واقِيَتَهم (1) وقُطْبَ ثَباتِهم، إن رأى من بعضهم هلعًا أو رقّةً وجبانةً، شجّعه وثبّته وبشّره ووعده بالنصر والظَّفَر والغنيمة، وبيّن له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة. وكان إذا ركب الخيل يتحنّك ويجول في العدوّ كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبّر تكبيرًا أنكى في العدوّ من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت. وحدّثوا أنهم رأوا منه في فتح عكّة أمورًا من الشجاعة يعجزُ الواصف عن وصفها، قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره. ولمّا ظهر السلطان غازان على دمشق المحروسة، جاءه ملك الكَرْج وبذل له أموالًا جزيلة على أن يمكِّنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق، ووصل الخبر إلى الشيخ، فقام من فوره وشجّع المسلمين ورَغَّبهم في _________ (1) في (ط): «أوقفهم»، والمثبت من (ك).

(1/781)


الشهادة، ووعدهم على قيامهم النصر والظفر والأمن وزوال الخوف، فانْتُدِب منهم رجال من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم، فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان، فلمّا رآهم السلطان قال: من هؤلاء؟ فقيل: هم رؤساء دمشق، فأذن لهم، فحضروا بين يديه، فتقدم الشيخ رضي الله عنه أوّلًا، فلمّا أن رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة رضي الله عنه، حتى أدناه وأجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام معه أوّلًا في عكس رأيه عن تسليط المخذول (1) ملك الكرج على المسلمين، وضمن له أموالًا، وأخبره بحرمة دماء المسلمين، وذكَّره ووعظه. فأجابه إلى ذلك طائعًا، وحُقِنت بسببه دماء المسلمين، وحُميت ذراريهم، وصين حريمهم. وحدّثني مَن أثق به عن الشيخ كمال الدين ابن المنجّا (2) قدّس الله روحه قال: كنت حاضرًا مع الشيخ حينئذ، فجعل ــ يعني الشيخ ــ، يُحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره، ويرفع صوته على السلطان حتى جثا على ركبتيه، وجعل يقرب منه في أثناء حديثه، حتى لقد قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان، والسلطان مع ذلك مقبلٌ عليه بكُلّيته، مُصْغٍ لما يقول، شاخص إليه لا يعرض عنه. وأن السلطان من شدّة ما أوقع الله له في قلبه من المحبة والهيبة سأل من يخصه من أهل حضرته: من هذا الشيخ؟ وقال ما معناه: إني لم أر مثله ولا أثبت قلبًا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقيادًا مني لأحد منه، فأخبر بحاله، وما هو عليه من العلم والعمل، وسأله إن أحببت أن أعمر لك بلد آبائك حرّان، _________ (1) (ط، ك): «المخزول». (2) في «ذيل مرآة الزمان»: (1/ 255) وغيره: «وجيه الدين بن المنجا».

(1/782)


وتنتقل إليه، ويكون برسمك، فقال: لا والله، لا أرغب عن مهاجر إبراهيم، وأستبدل به غيره، فخرج من بين يديه مكرّمًا مُعزّزًا، قد صنع له الله بما طوى عليه نيّته الصالحة من بذله نفسه في طلب حقن دماء المسلمين، فبلغه ما أراده، وكان ذلك أيضًا سببًا لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم، وردّهم على أهلهم وحفظ حريمهم، وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوّة الجأش. وأخبرني من لا أتهمه أنّ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ حين وُشي به إلى السلطان المعظّم الملك الناصر، أحضره بين يديه، فكان من جملة كلامه: إنّني أُخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ المُلك، فلم يكترث به، بل قال له بنفس مطمئنة وقلبٍ ثابت وصوتٍ عالٍ سمعه كثير ممّن حضر: أنا أفعلُ ذلك؟ والله إنّ مُلكك وملك المُغْل لا يساوي عندي فلسين، فتبسّم السلطان لذلك، وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك إليّ كاذبٌ، واستقرّ له في قلبه من المحبة الدينية ما لولاه لكان قد فتك به منذ دهر طويل؛ من كثرة ما يُلقى إليه في حقّه من الأقاويل الزور والبُهتان، ممّن ظاهر حاله للطّغَام العدالة، وباطنه مشحون بالفسق والجهالة. ولم يزل المبتدعون أهل الأهواء وآكلو الدنيا بالدين، متعاضدين متناصرين في عدوانه، باذلين وسعهم بالسعي في الفتك به، متخرّصين عليه الكذب الصُراح، مختلقين عليه، وناسبين إليه ما لم يقله ولم ينقله، ولم يوجد له به خط، ولا وجد له في تصنيف ولا فتوى، ولا سُمع منه في مجلس. أتراهم ما علموا أنّ الله سائلهم عن ذلك ومحاسبهم عليه؟ أوَ ما

(1/783)


سمعوا قولَ الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 16 - 18]. بلى والله، ولكن غلب عليهم ما هم فيه من إيثار الدنيا على الآخرة، والعمل للعاجلة دون الآجلة، فلهذا حسدوه وأبغضوه، لكونه مباينهم ومخالفهم، لبغضه ورفضه ما أحبوا، وطلبه ومحبته ما باينوا ورفضوا. ولمّا علم الله نياته ونيّاتهم أبى أن يُظفرهم فيه بما راموا، حتى إنه لم يحضر معه منهم أحد في عقد مجلس إلا وصنع الله له ونصره عليهم بما يظهره على لسانه من دحض حججهم الواهية وكشف مكيدتهم الداهية للخاصة والعامة.

(1/784)


 الفصل الثاني عشر من ذكر قوّته في مرضاة الله وصبره على الشدائد،

واحتماله إياها وثبوته على الحق كان ــ رضي الله عنه ــ من أعظم أهل عصره قوّة ومقامًا وثبوتًا على الحق، ولتحقيق توحيد الحقّ، لا يصدُّه عن ذلك لوم لائم ولا قول قائل، ولا يرجع عنه لحجة محتجّ، بل كان إذا وضح له الحقّ يعضُّ عليه بالنواجذ، ولا يلتفت إلى مباين معاند، فاتفق غالب الناس على معاداته، وجُلُّ من عاداه قد تستروا باسم العلماء والزمرة الفاخرة، وهم أقبل الناس في الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة. وسبب عداوتهم له: أنّ مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرياسة، وإقبال الخلق وراءه، قد رقّاه الله إلى ذروة السنام من ذلك بما أوقع له في قلوب الخاصّة والعامة من المواهب التي منحه بها، وهم عنها بمعزل، فنصبوا عداوته، وامتلأت قلوبهم محاسدة، وأرادوا ستر ذلك عن الناس، حتى لا يفطن بهم، فعمدوا إلى اختلاق الباطل والبُهتان عليه، والوقوع فيه خصوصًا عند الأمراء والحكام، وإظهارهم الإنكار عليه فيما يُفتي به من الحلال والحرام، فشقّقوا قلوب الطّغام بما اجترحوه (1) من زور الكلام، ونسوا أنّ لكلّ قول مقامًا (2) بين يدي أحكم الحُكام، يسأله هل قلته بحقٍّ _________ (1) (ط): «اخترصوه». والمثبت من (ك). (2) (ك): «مقامًا أي مقام ... ».

(1/785)


أو بذام؟ فيجازي المحقَّ دار السلام، والمبطل دار الانتقام. فبعضهم صَبَا إلى أقوالهم تقليدًا، وصار في حقّ هذا الإمام جبّارًا عنيدًا، وأحسّ بذلك من العامّة قوم قد أصبحوا للحكام عبيدًا، وتصوروا أن أخذهم بزمام حصول المال يكون شديدًا، فأصبحوا وهم لهم مصدِّقين، وفي طاعتهم سابقين (1)، فاجتمع من هذا التركيب العديد، بحيث عاداه أكثر السادات والعبيد، كلٌّ بحسب غرضه الفاسد، وهو مع ذلك كلّما رأى تحاشدهم في مباينته وتعاضدهم في مناقضته، لا يزداد للحقّ إلا انتصارًا، ولكثرة حججه وبراهينه إلا إظهارًا. ولقد سُجن أزمانًا وأعصارًا، ولم يولّهم دُبُره فرارًا. ولقد قصد أعداؤه الفتكَ به مرارًا، وأوسعوا حيلهم عليه إعلانًا وإسرارًا، فجعل الله حفظه منهم له شعارًا ودثارًا، ولقد ظنُّوا أن في حبسه مشينة، فجعله الله له فضيلة وزينة، وظهر له يوم موته ما لو رآه وادُّه أقرَّ به عينيه، فإن الله تعالى لعلمه بقرب أجله، ألبسه من الفراغ عن الخلق للقدوم على الحق أجمل حلله، كونه حُبِس على غير جريرة ولا جريمة، بل على قوّة في الحقّ وعزيمة، هذا مع ما نشر الله له من علومه في الآفاق، وبهر بفنونه البصائرَ والأحداق، وملأ بمحاسن مؤلفاته الصُّحف والأوراق، كبتًا ورغمًا للأعداء أهل البدع المضلة والأهواء. _________ (1) كذا وصوابها: «مصدقون ... سابقون».

(1/786)


 الفصل الثالث عشر في أنّ الله جعله حُجّة في عصره ومعيارًا للحق والباطل

وهذا أمرٌ قد اشتهر وظهر، فإنه ــ رضي الله عنه ــ ليس له مُصنَّف ولا نصٌّ في مسألة ولا إفتاء إلّا وقد اختار فيه ما رجّحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرّى قول الحق المحض فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة، بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة يثلج قلبه بها، ويجزم بأنها الحق المبين. وتراه في جميع مؤلفاته إذا صحّ الحديث عنده يأخذ به ويعمل بمقتضاه، ويقدّمه على قول كل قائل من عالم ومجتهد، وإذا نظر المنصف إليه بعين العدل يراه واقفًا مع الكتاب والسنة لا يُميله عنهما قولُ أحد كائنًا من كان، ولا يرائي في الأخذ بعلومهما أحدًا، ولا يخاف في ذلك أميرًا ولا سلطانًا ولا سوطًا ولا سيفًا، ولا يرجع عنهما لقول أحد، وهو متمسّك بالعروة الوثقى، واليد الطولى، وعاملٌ بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] وبقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. وما سمعت أنه اشتهر عن أحد منذ دهر طويل ما اشتهر عنه من كثرة متابعته للكتاب والسنة، والإمعان في تتبّع معانيهما، والعمل بمقتضاهما. ولهذا لا يُرى في مسألة أقوال العلماء إلا وقد أفتى بأبلغها موافقةً للكتاب والسنة، وتحرّى الأخذ بأقومها من جهة المنقول والمعقول.

(1/787)


ولمّا منّ الله عليه بذلك جعله حجّة في عصره لأهله، حتى إنّ أهل البلد البعيدة عنه كانوا يرسلون إليه بالاستفتاء عن وقائعهم، ويعوِّلون عليه في كشف ما التبس عليهم حكمه، فيشفي غلّتهم بأجوبته المسدّدة، ويبرهن على الحق من أقوال العلماء المتعددة، حتى إذا وقف عليها كلُّ محقّ ذو بصيرة وقوى، ممن قد وُفّق لترك الهوى، أذعن بقبولها، وبان له حقّ مدلولها، وإن سمع عن أحد من أهل وقته مخالفته في حقه المشهور، يكون ممن قد ظهر عليه عند الخاصة والعامة فعل الشرور، والاشتغال بترّهات الغرور. ومن أراد تحقيق ما ذكرته فليُمعن النظر ببصيرته، فإنه حينئذ لا يرى عالمًا من أهل أيّ بلد شاء موافقًا لهذا الإمام، معترفًا بما منحه الله تعالى من صنوف الإلهام، مثنيًا عليه في كل محفل ومقام، إلّا وراءه من اتّبع من علماء بلده الكتاب والسنة، واشتغل بطلب الآخرة ورغب فيها، وبالغ في الإعراض عنها وأهملها. ولا يرى عالمًا مخالفًا له، منحرفًا عنه، ملتبسًا بالشحناء له، إلا وهو من أكبرهم نَهَمًا في جمع الدنيا، وأوسعهم حيلًا في تحصيلها، وأكثرهم رياءً، وأطلبهم سمعةً، وأشهرهم عند ذي الُّلب أحوالًا رديّة، وأشدّهم على ذوي الحكم والظلم دهاءً ومكرًا، وأبسطهم في الكذب لسانًا، وإن نظر إلى محبّيه ومبغضيه من العوام، رآهم كما وصفت من اختلاف القبيلين الأولين. ولقد أمعنت فكري ونظري، فرأيته كما وصفته، لا والله ما أتحرّج في أحدٍ منهما، ومن ارتاب في ذلك فليعتبر هو بنفسه فإنه يراه كذلك، إن أزاح عنه غطاء الهوى، وما كان ذلك كذلك إلّا لما علم الله سبحانه من حسن

(1/788)


طوية هذا الإمام، وإخلاص قصده، وبذل وسعه في طلب مرضاة ربّه، ومتابعة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

(1/789)


 الفصل الرابع عشر في ذكر وفاته وكثرة من صلى عليه وشَيَّعه

أخبرني غيرُ واحد ممن كان حاضرًا بدمشق حين وفاته ــ رضي الله عنه ـ قال: إنّ الشيخ ــ قدّس الله روحه ــ مرض أيامًا يسيرة، وكان إذ ذاك الكاتب شمس الدين الوزير (1) بدمشق المحروسة، فلما علم بمرضه استأذن في الدخول عليه لعيادته، فأذن الشيخ له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحلّه مما عساه أن يكون قد وقع منه في حقّه من تقصير أو غيره، فأجابه الشيخ ــ رضي الله عنه ــ بأني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أنّي على الحقّ، وقال ما معناه: إني قد أحللت السلطان المعظّم الملك الناصر من حبسه إيّاي؛ كونه فعل ذلك مقلِّدًا غيره معذورًا، ولم يفعله لحظّ نفسه، بل لما بلغه ممّا ظنّه حقًّا من مُبلِّغه، والله يعلم أنه بخلافه، وقد أحللتُ كلَّ واحد مما بيني وبينه، إلا من كان عدوًّا لله ورسوله. قال: ثم إن الشيخ بقي إلى ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة الحرام، وتوفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه في بكرة ذلك اليوم، وذلك من سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مائة، وهو على حاله، مجاهدًا في ذات الله تعالى، صابرًا، محتسبًا، لم يجبن، ولم يهلع، ولم يضعف، ولم يتتعتع، بل _________ (1) في (ط): «الملك» والمثبت من (ك). والذي كان نائب الشام هو: سيف الدين تنكز وكان خارج البلد للصيد، وكان والي دمشق: شهاب الدين بن برق، وكاتب السر: شمس الدين بن شهاب الدين بن محمود. ولعل هذا الأخير هو المعنيّ.

(1/790)


كان إلى حين وفاته مشتغلًا بالله عن جميع ما سواه. قال: فما هو إلا أن سمع الناس بموته حتى لم يبق في دمشق من يستطيع المجيء إلى الصلاة عليه وأراده إلا حضر لذلك وتفرّغ له، حتى غلّقت الأسواق بدمشق، وعُطِّلت معايشها حينئذ، وحصل للناس بمصابه أمرٌ شغلهم عن غالب أمورهم وأسبابهم، وخرج الأمراء والرؤساء، والعلماء والفقهاء، والأتراك والأجناد، والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام. قال: ولم يتخلَّف أحدٌ من الناس فيما أعلم إلا ثلاثة أنفس كانوا قد اشتهروا بمعاندته (1)، فاختفوا من الناس خوفًا على أنفسهم، بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس فأهلكوهم (2). فغُسِّل رضي الله عنه وكُفِّن. قال: وازدحم من حضر غسله من الخاصة والعامة على الماء المنفصل عن غسله، حتى حصل لكلّ واحدٍ منهم شيء قليل (3). ثم أخرجت جنازته، فما هو إلا أن رآها الناس حتى أكبّوا عليها من كلّ جانب، كُلٌّ منهم يقصد التبرّك بها، حتى خُشي على النعش أن يُحطَّم قبل وصوله إلى القبر، فأحدق بها الأمراء والأجناد، واجتمع الأتراك فمنعوا _________ (1) عند ابن كثير: «بمعاداته». (2) ذكرهم ابن كثير عن البرزالي، وهم: ابن جملة، والصدر، والقحفازي. انظر «البداية والنهاية»: (14/ 146 - ط الريان)، وهذه الأسماء ليست في ط دار هجر. (3) هذا من التبرّك غير المشروع.

(1/791)


الناس من الزحام عليها خشية من سقوطها عليهم (1) من اختناق بعضهم، وجعلوا يردّونهم عن الجنازة بكلّ ما يمكنهم، وهم لا يزدادون إلا ازدحامًا وكثرة، حتى أدخلت جامع بني أمية المحروس، ظنًّا منهم أنه يسع الناس، فبقي كثير من الناس خارج الجامع، وصُلّي عليه ــ رضي الله عنه ــ في الجامع، ثم حُمل على أيدي الكبراء والأشراف ومن حصل له ذلك من جميع الناس إلى ظاهر دمشق، ووضع بأرض فسيحة متّسعة الأطراف، وصلّى عليه الناس. قال: وكنت أنا قد صليت عليه في الجامع، وكان لي مستشرف على المكان الذي صُلّي فيه عليه بظاهر دمشق، فأحببت أن أنظر إلى الناس وكثرتهم، فأشرفت عليهم حال الصلاة، وجعلت أنظر يمينًا وشمالًا ولا أرى أواخرهم، بل رأيت الناس قد طبقوا تلك الأرض كلّها. واتفق جماعة ممّن حضر حينئذ وشاهد الناس والمصلّين عليه، على أنّهم يزيدون على خمسمائة ألف، وقال العارفون بالنقل والتاريخ: لم يُسمع في جنازة بمثل هذا الجمع إلا جنازة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. ثم حمل بعد ذلك إلى قبره فوُضع، وقد جاء الكاتب (2) شمس الدين الوزير، ولم يكن حاضرًا قبل ذلك، فصلّى عليه أيضًا ومن معه من الأمراء والكبراء ومن شاء الله من الناس. _________ (1) (ط، ك): «وعليهم» ولعله ما أثبت. (2) (ط): «الملك»، والمثبت من (ك) وانظر ما سبق (ص 58).

(1/792)


ولم يُر لجنازة أحدٍ ما رئُي لجنازته من الوقار والهيبة، والعظمة والجلالة، وتعظيم الناس لها، وتوقيرهم إيّاها، وتفخيمهم أمر صاحبها، وثنائهم عليه بما كان عليه من العلم والعمل، والزهادة والعبادة، والإعراض عن الدنيا، والاشتغال بالآخرة، والفقر والإيثار، والكرم والمروءة، والصبر والبشارة (1)، والشجاعة والفروسية والإقدام، والصدع بالحقّ، والإغلاظ على أعداء الله وأعداء رسوله، والمنحرفين عن دينه، والنصر لله ولرسوله ولدينه ولأهله، والتواضع لأولياء الله والتذلل لهم، والإكرام والإعزاز والاحترام لجنابهم، وعدم الاكتراث بالدنيا وزخرفها ونعيمها ولذّاتها، وشدة الرغبة في الآخرة والمواظبة على طلبها، حتى لتسمع ذلك ونحوه من الرجال والنساء والصبيان، وكلّ منهم يثني عليه بما يعلمه من ذلك. قال: ودُفن في ذلك اليوم ــ رضي الله عنه وأعاد علينا من بركاته ــ ثم جعل الناس ينتابون (2) قبره للصلاة عليه من القُرى والأطراف والأماكن والبلاد، مُشاة وركبانًا، وما وصل خبر موته إلى بلد ــ فيما نعلم ــ إلا وصُلِّي عليه في جميع جوامعه ومجامعه، خصوصًا أرض مصر والشام والعراق وتبريز والبصرة وقراها وغيرها، وخُتِمت له الختمات الكثيرة في الليالي والأيام، في أماكن كثيرة لم يضبط عددها، خصوصًا بدمشق المحروسة ومصر والعراق وتبريز والبصرة وغيرها، حتى جعل كثير من الناس القراءة له ديدنًا لهم، وأديرت الرَّبْعَة الشريفة على الناس لقراءة القرآن المجيد وإهدائه له. _________ (1) كذا، ولعلها: «الثبات». (2) (ط، ك): «يتناوبون» ولعل الصواب ما أثبت.

(1/793)


وقد رثاه كثير من الفضلاء بقصائد متعددة، ولا يسع هذا المختصر ذكرها، وذلك لما وجب للشيخ ــ رضي الله عنه ــ عليهم من الحق في إرشادهم إلى الحقّ، والمنهج المستقيم بالأدلة الواضحة الجلية النقلية والعقلية، خصوصًا في أصول الدين، فإن الله أنعم على الناس في هذا الزمان الذي قد ظهرت فيه البدع وأُميتت السنن، وصار أغلب أهله مُمْرِجين في البدع والحرام من حيث لا يشعرون، ومن حيث لا يعلمون، ومنّ الله عليهم بما وفقه له من إيضاح أصول الدين، وتبيين الحقّ المحض، والاعتقاد العدل، وإفراده عن غيره من البدع والضلالات بأمور لم يسبق إلى مثلها، وإظهارها على لسانه بما أورده من ذلك من مؤلفاته ومصنفاته وقواعده المطابقة للحق، وتقريراته، وما أبرزه من الحجج والبراهين الظاهرة، الموافقة للمعقول والمنقول، ممّا لم يتمكّن أحدٌ من المتكلمين والمناظرين الإتيان بمثله، وما أظهره وأورده من كثرة الدلائل العقلية بعد النقلية حتى قطع به جميع المبتدعين، وكشف به عوار حجج الشاكِّين المُشكّكين. فجزاه الله أحسن الجزاء عن الإسلام والمسلمين، وسبحان من أعطاه ما أولاه، ومدّه بحسن التوفيق إلى ما هداه، وأعانه بالصبر الجميل إلى أن توفاه، ورضي عنه وأرضاه، ورزقنا والمسلمين كافة الحياة والموت على الكتاب والسنة حتى نلقاه، والاعتصام بهما جميعًا في جميع ما نلقاه. والحمد لله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام الأكملان الأطيبان على سيدنا

(1/794)


محمد المصطفى، خاتم الأنبياء وصاحب اللواء، وعلى آله وصحبه أجمعين آمين (1). _________ (1) جاء في خاتمة نسخة المنجد: «علّقه لنفسه فقير رحمة ربه محمد بن علي البعلي ثم الدمشقي الحنبلي، لطف الله تعالى به في الدارين. ووافق تمامه غرة المحرم سنة ست وخمسين وسبعمائة بالمدرسة الحنبلية بباطن دمشق حرسها الله. والحمد لله وحده، وصلواته على نبيه محمد وآله وصحبه، وحسبنا الله ونعم الوكيل». وبعدها بغير خط الناسخ: «رحم الله من قرأ هذا الكتاب أو نظر فيه أو نسخه وأفاد منه، فدعا لشيخ الإسلام ولمؤلفه وكاتبه، عليهم الرحمة والرضوان أجمعين».

(1/795)