×
شرح ثلاثة الأصول : الطبعة المعتمدة PDF من شرح ثلاثة الأصول للشيخ ابن باز - رحمه الله -، وهي رسالة نفيسة صنفها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تحتوي على الأصول الواجب على الإنسان معرفتها من معرفة العبد ربه، وأنواع العبادة التي أمر الله بها، ومعرفة العبد دينه، ومراتب الدين، وأركان كل مرتبة، ومعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في نبذة من حياته، والحكمة من بعثته، والإيمان بالبعث والنشور، وركنا التوحيد وهما الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله.

 شرح ثلاثة الأصول

 مقدمة

... بسم الله الرحمن الرحيم إجازة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله لطباعة حاشيته على هذا الكتاب من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ علي بن صالح المري والابن أحمد بن عبد العزيز بن باز وفقهما الله لكل خير آمين. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته وبعد: فلا مانع من طبع حاشيتنا على كتاب ((ثلاثة الأصول)) لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بعد أن تم عرضها عليَّ, شكر الله سعيكما وبارك في جهودكما وأعانكما على كل خير. والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته. مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء

(1/5)


بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له،ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب 71,70] . وبعد: فإن الناظر إلى واقع المسلمين في الوقت الحاضر يدرك حاجتهم إلى العلم الشرعي وخاصة أعظمها قدراً ألا وهو التوحيد الصحيح والعقيدة الصافية, حيث ترسبت في قلوب بعض المسلمين أفكار هدامة وعقائد منحرفة, ما أنزل الله بها من سلطان.

(1/7)


وقد قيض الله لهذا الدين علماء أجلاء, يُهتدى بعلمهم الموروث من الكتاب والسنة, فهم بحق نجوم يُهتدى بها, وهم قدوة الأمة وموجهوها. وقد منَّ الله على هذه البلاد أن هيأ لها قيادة علمية حكيمة, نهجت نهج سلفها الصالح, في زمن أصبح الإسلام في كثير من بقاع الأرض غريباً بين أهله. وهيأ لها من ولاة الأمر من ينصر هذه الدعوة وأهلها , منذ عهد المجدد شيخ الإسلام / محمد بن عبد الوهاب , والإمام محمد بن سعود عليهما رحمه الله تعالى. ولقد كان لوالدنا وشيخنا سماحة الشيخ /عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله ورعاه قصب السبق في نشر العلم النافع , حيث بذل نفسه ووقته للعلم وأهله. فنفع الله بعلمه , وأقبل طلبة العلم على دروسه من كل أقطار الأرض, وانهالت الرسائل والمكاتبات على سماحته من كل حدب وصوب, وكان لسماحته الأثر الواضح في تبصير الناس وإرشادهم. وقد منّ الله على سماحة شيخنا بالعلم الوافر مع استحضار الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة , والتواضع الجم , والصبر , والحلم على السائل والمتعلم , حتى أحبته القلوب , واطمأنت لعلمه النفوس , وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء , والله ذو الفضل العظيم. ولقد كان سماحته شديد الاهتمام بأصل الدين وقاعدته , ألا وهو علم التوحيد , فلا تخلو دروسه من كتاب من كتب التوحيد المختلفة وحيث إن هذه الشروح نفيسة جداً , حرصنا على كتابتها منذ أكثر من

(1/8)


عشر سنوات , ولم نخرجها إلى حيز الوجود لشدة تحري الشيخ في عدم إخراج شيء من شروحه إلا بعد عرضها عليه. وهو حفظه الله كثير المشاغل , فلا نكاد نجد وقتاً لعرضها عليه إلا بعد جهد جهيد. وقد كتبناها من أشرطة دروس سماحته مع الاعتناء بها, وتخريجها , ومن ثم عرضها على سماحته حفظه الله وها نحن نقدم للإخوة المسلمين (شرح ثلاثة الأصول) التي نسأل الله أن ينفع بشرحها كما نفع بأصلها. وإن هذا الشرح ليعد بداية لما سيلحق به من شروح مختلفة لسماحته في التوحيد والحديث والمصطلح والتفسير وغيرها من الشروح فمن ذلك: 1. شرح كشف الشبهات. 2. شرح العقيدة الواسطية. 3. تعليقات مفيدة على العقيدة الحموية. 4. حاشية على العقيدة التدمرية. 5. حاشية على العقيدة الحاوية. 6. شرح بلوغ المرام. 7. شرح الرحبية. 8. تعليقات على سور الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء. 9. حاشية على زاد المعاد. 10. تعليقات على صحيح البخاري.

(1/9)


علماً بأننا لا زلنا نقوم بتفريغ الأشرطة على حسب وصولها في كل عام وجميع هذه الشروح التي أشرنا إليها مكتوبة وجاهزة وبعضها موجود عند سماحته لعرضها عليه. فنسأل الله العون والتوفيق, وأن يصلح لنا النية والعمل, وأن يبارك في عمر شيخنا وعلمه , وأن ينفع بعلمه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1/10)


 التعريف بمؤلف ثلاثة الأصول على طريقة الاختصار

نسبه: هو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن مشرف من أوهبة بني تميم. المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر. ولادته: ولد رحمه الله في بلد العينية في السنة الخامسة عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية من البلاد النجدية. نشأته: نشأ في بيت علم وشرف ودين, فلقد كان أبوه عبد الوهاب عالماً كبيراً وكان قاضياً في بلده العيينة وجده سليمان عالم نجد في زمانه. ولهذا حفظ الشيخ القرآن قبل بلوغ عشر سنين ودرس في الفقه حتى نال حظاً وافراً. وكان حاد الفهم حتى قال أبوه عنه لقد استفدت من ابني محمد فوائد من الأحكام. وقد كان رحمه الله كثير المطالعة في كتب التفاسير والحديث والفقه ورزق مع ذلك سرعة الكتابة. فكان يكتب الكراريس في المجلس الواحد لا يمل ولا يكل.

(1/11)


رحلاته في طلب العلم: رحل الشيخ عدة رحلات بعد أن حصل كثيراً من العلم من ضواحي نجد فقد رحل إلى ـ مكة فالمدينة ـ وقرأ على الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي كما قرأ على الشيخ عبد الله بن إبراهيم الشمري كما قرأ على ابنه الفرضي الشهير إبراهيم الشمري مؤلف العذب الفائض في شرح ألفية الفرائض وعرفاه على المحدث الشهير محمد حياة السندي فقرأ عليه في علم الحديث ورجاله وأجازه بالأمهات وله حديثان مسلسلان عنه. ثم رحل إلى الإحساء والبصرة وطلب في تلك الأقطار ومنهم المجموعي في العراق وابن عبد الطيف الشافعي في الإحساء. ودرس عليهما في الحديث والفقه والنحو وغيرهما فلما تم له المقصود من الطلب رجع إلى بلده وأخذ ينشر التوحيد في ربوع نجد بالمكاتبات والمرسلات. ثم أخذ يقرأ على أبيه حتى توفي عام 1153هـ, وبعد وفاة والده طار ذكر الشيخ في الآفاق فأخذ يعلم وينشر الدعوة السلفية, ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, ويهاجم المبتدعة أهل القبور. وقد شد أزره بعد توفيق الله وعنايته ورعايته الولاة من آل سعود وانتشرت الدعوة في بلاد نجد والحجاز وأطراف اليمن وعمان وغيرهما. مؤلفاته: للشيخ مؤلفات عظيمة القدر كثيرة النفع منها: 1ـ ثلاثة الأصول.

(1/12)


2ـ كشف الشبهات. 3ـ مسائل الجاهلية. 4ـ كتاب التوحيد. 5ـ مختصر الإنصاف والشرح الكبير. 6ـ مختصر زاد المعاد. 7ـ الكبائر. وله فتاوى ورسائل جمعت باسم "مجموعة مؤلفات الأمام محمد بن عبد الوهاب" تحت إشراف جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وفاته: توفي الشيخ في عام "1206هـ " بعد عمر مديد يقارب "91سنة " عمره بالدعوة والجهاد والعلم والتعليم. فرحمه الله رحمة واسعة, وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء, ونفع بذريته وذرية أنصاره, إنه سميع مجيب.

(1/13)


ترجمة موجزة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى هو الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز. ولاته: ولد في ذي الحجة سنة 1330هـ بمدينة الرياض وكان بصيراً في أول دراسته ثم أصابه مرض في عينيه عام 1346هـ وضعفت بصره ثم فقد في مستهل محرم عام 1350هـ طلبه للعلم: بدأ الدراسة منذ الصغر وحفظ القرآن الكريم قبل البلوغ, ثم جد في طلب العلم علة العلماء في الرياض. ولما برز في العلوم الشرعية واللغة عين في القضاء عام 1357هـ ولم ينقطع عن طلب العلم حتى اليوم ولم تشغله المناصب عن البحث والتدريس. مشايخه: 1ـ الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد عبد الوهاب رحمهم الله. 2ـ الشيخ سعد بن حمد بن عتيق "قاضي الرياض.

(1/15)


3ـ حمد بن فارس "وكيل المال بالرياض " 4ـ الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب "قاضي الرياض"رحمهم الله. 5ـ سعد وقاص البخاري من علماء مكة المكرمة أخذ عنه علم التجويد, في عام 1355هـ. 6ـ سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية وقد لازم حلقاته نحواً من عشر سنوات وتلقى عنه جميع العلوم الشرعية ابتداءً من سنة 1347هـ إلى 1357هـ حيث رشح للقضاء من قبل سماحته. أعماله: تولى سماحته عدة أعمال وهي: 1ـ القضاء في منطقة الخرج مدة طويلة استمرت أربعة عشر عاماً وأشهرا وامتدت بين سنتي 1357هـ إلى عام 1371هـ. 2ـ التدريس في المعهد العلمي بالرياض عام 1372هـ ثم في كلية الشريعة بعد إنشائها عام 1373هـ في علوم الفقه والتوحيد والحديث واستمر على ذلك تسع سنوات انتهت في عام 1380هـ. 3ـ عُين في عام 1381هـ نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية؛ بالمدينة المنورة وبقي في هذا المنصب إلى عام 1390هـ. 4ـ تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في سنة 1390هـ بعد وفاة

(1/16)


رئيسها الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله وبقي في هذا المنصب إلى سنة 1395هـ. 5ـ وفي 14/10/1395هـ صدر الأمر الملكي بتعيينه في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برتبة وزير 6ـ وفي عام 1413هـ صدر الأمر الملكي بتعيينه في منصب مفتي عام المملكة العربية السعودية بالإضافة إلى رئاسة هيئة كبار العلماء ورئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء وله إلى جانب ذلك في الوقت الحاضر عضوية في كثير من المجالس العلمية والإسلامية من ذلك: 1ـ رئاسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. 2ـ عضوية ورئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي. 3ـ رئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد. 4ـ رئاسة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي. 5ـ عضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة. 6ـ عضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في المملكة. آثاره: لسماحته آثار واضحة في كثير من المجالات, ومن أهمها ملازمة سماحته للتدريس في حلقات منتظمة إلى يومنا هذا منذ تولى سماحته القضاء في الخرج عام 1357هـ, ثم مواصلته للتدريس في معهد

(1/17)


الرياض العلمي عام 1372هـ ثم في كلية الشريعة, ثم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وفي المسجد النبوي , وقد استفاد من سماحته خلق كثير من طلبة العلم في الداخل والخارج. مؤلفاته: 1ـ الفوائد الجلية في المباحث الفرضية. 2ـ التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة وتوضيح المناسك. 3ـ التحذير من البدع ويشتمل على أربع مقالات مفيدة "حكم الاحتفال بالمولد النبوي وليلة الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى الشيخ أحمد ". 4ـ رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام. 5ـ العقيدة الصحيحة وما يضادها. 6ـ وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها. 7ـ الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة. 8ـ وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه. 9ـ حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار. 10ـ نقد القومية العربية. 11ـ الجواب المفيد في حكم التصوير. 12ـ الشيخ محمد بن عبد الوهاب "دعوته وسيرته".

(1/18)


13ـ ثلاثة رسائل في الصلاة: "أ " كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. "ب " وجوب الصلاة في جماعة , "ج" أين يضع المصلي يديه حين الرفع من الركوع. 14ـ حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن أو في رسول الله صلى الله عليه وسلم. 15ـ حاشية مفيدة على فتح الباري وصل فيها إلى كتاب الحج. 16ـ رسالة الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب. 17ـ إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين. 18ـ الجهاد في سبيل الله. 19ـ الدروس المهمة لعامة الأمة. 20ـ فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة. 21ـ وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة. 22ـ مجموع فتاوى ومقالات متنوعة صدر منه الآن خمسة أجزاء. 23ـ تحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من الأدعية والأذكار. وسيلحق بهذه المؤلفات شروح لسماحته أشرنا إلى بعضها في المقدمة. وحيث أن سيرة الأعلام لا تتضح للناس إلا بعد ذكر شيء من مواقفهم المتنوعة. فهذه مواقف تدل على رسوخهم في العلم, وتلك مواقف تدل على صدعهم بالحق. ومواقف تدل على زهدهم في

(1/19)


الدنيا وزخرفها, وما نرى سماحة شيخنا إلا علماً من تلك الأعلام النادرة التي تذكر بسيرة من سلف وحيث أن من كتب عن سماحته لم يهتم بهذا الجانب اهتماماً يجلي للناس سيرة هذا العلم؛ مع ما للشيخ من مواقف كثيرة جداً لذا فقد حرصنا على جمعها, وقد جمعنا منها ما تسير لنا جمعه وستخرج هذه المواقف مجموعة في كتاب مستقل في المستقبل إن شاء الله. وصلى الله وسلم على نبيا محمد وعلى آله وصحبه. أبو صالح علي بن صالح بن عبد الهادي المري المزاحمية ـ ص. ب:147

(1/20)


 الباب الأول: المسائل الأربع

 المسألة الأولى: أول شيء يجب على المكلف هو معرفة ربه ونبيه

... سم الله الرحمن الرحيم ثلاثة الأصول 1: اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أربع مسائل 2: ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. هذه رسالة مهمة في العقيدة ألفها الشيخ أبو عبد الله الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي الإمام المشهور المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في النصف الثاني من القرن الثاني عشر رحمه الله وأكرم مثواه. وقد كان رحمة الله يلقن الطلبة والعامة هذه الأصول ليدرسوها ويحفظوها ولتستقر في قلوبهم لكونها قاعدة في العقيدة. وكانت وفاته سنة ست ومائتين وألف من الهجرة. وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة وألف من الهجرة, فقد عمر إحدى وتسعين سنة. وقد كان عمرا مليئا بالخير والدعوة إلى الله والتعليم والإرشاد والصبر على ذلك. وقد أنقذ الله به العباد والبلاد في زمانه في هذه الجزيرة وانتشرت دعوته في غير الجزيرة من الشام ومصر والعراق والهند وغيرها, بسبب الدعاة الذين حملوا عنه العلم وانتقلوا إلى تلك البلدان والدول. وبسبب المكاتيب والكتب التي انتشرت منه رحمه الله ومن أتباعه وأنصاره والدعاة التابعين له في الدعوة إلى الله. 2 هذه المسائل يجب أن يتعلمها المؤمن والمؤمنة صغارا وكبارا.

(1/21)


"الأولى": العلم 1: وهو معرفة الله. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. فعلى الإنسان أن يتعلم ويتصبر حتى يكون على بينة ويعرف دين الله الذي خلق الله من أجله وهذا العلم هو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة فهذا أول شيء. أن يتبصر العبد. من هو ربه؟.. فيعرف أن ربه الخالق الذي خلقه, ورزقه, وأسدى إليه النعم, وخلق من قبله, ويخلق من بعده, هو رب العالمين وأنه الإله الحق المعبود الذي لا يستحق العبادة سواه أبداً. لا ملك مقرب, ولا نبي مرسل, ولا جن, ولا إنس, ولا صنم, ولا غير ذلك. بل العبادة حق لله وحده, فهو المعبود بحق, وهو المستحق بأن يعبد, وهو رب العالمين, وهو ربك وخالقك وإلهك الحق سبحانه وتعالى. فتعرف هذه المسألة الأولى وهي أن تعرف ربك ونبيك ودينك بالأدلة. قال الله وقال الرسول لا بالرأي ولا بقول فلان, بل بالأدلة من الآيات والأحاديث, وذلك هو دين الإسلام الذي أنت مأمور بالدخول فيه, والالتزام به. وهو عبادة الله الذي قال فيها سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. هذه العبادة هي الإسلام, وهي طاعة الله ورسوله, والقيام بأمر الله وترك محارمه. هذه هي العبادة التي خلق الناس لأجلها وأمر الله بها الناس في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم} 2 يعني اعبدوه بطاعة أوامره واجتناب نواهيه وإسلام الوجه له وتخصيصه بالعبادة سبحانه وتعالى. __________ 1 سورة الذاريات, آية 56 2 سورة البقرة, آية 21.

(1/22)


ومعرفة نبيه1, ومعرفة دين الإسلام بالأدلة ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. ومن ذلك أن تعرف نبيك وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المطلب الهاشمي القرشي المكي ثم المدني عليه الصلاة والسلام فتعرف أنه نبيك وأن الله أرسله إليك بدين الحق يعلمك ويرشدك فتؤمن بأنه رسول الله حقاً وأن الله أرسله للعالمين جمعياً من الجن والإنس, وأن الواجب اتباعه, والسير على منهاجه. وسيأتي تفصيل هذا في الأصل الثالث من الأصول الثلاثة.

(1/23)


 المسألة الثانية: وجوب العمل بهذا الدين

... "الثانية": العمل به 2. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 2. أي أن تعمل بهذا الدين من صلاة وصوم وجهاد وحج وإيمان وتقوى فتعمل بالإسلام لأنك مخلوق له, مخلوق لعبادة الله فعليك أن تعلم وتعمل به فتعبد الله وحده, وتقيم الصلاة, وتؤدي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت, وتؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه, وباليوم الأخر, وبالقدر خيره وشره, وتأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر, وتبر والديك, وتصل الأرحام, إلى غير ذلك فتعمل بما أمرك الله به, وتنتهي عما نهاك الله عنه وتترك المعاصي التي أنت منهي عنها, وتفعل الواجبات التي أنت مأمور بها.

(1/23)


 المسألة الثالثة: الدعوة إليه

... " الثالثة": الدعوة إليه"3. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ 3. أي أن تدعو إلى هذا الدين فتنصح الناس بأن يستقيموا عليه, وترشدهم وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر. هذه هي الدعوة إلى دين الإسلام. فعلى كل مسلم أن يدعو إلى الله حسب

(1/23)


ـــــــــــــــــــــــــــــ طاقته وعلمه فكل واحد ـ رجل أو امرأة ـ عليه قسط من هذا الواجب من التبليغ والدعوة والإرشاد والنصيحة. وأن يدعو إلى توحيد الله, وإلى الصلاة والمحافظة عليها, وإلى الزكاة وأدائها, وإلى صوم رمضان, وحج البيت مع الاستطاعة, وإلى بر الوالدين, وصلة الأرحام, وترك المعاصي كلها.

(1/24)


 المسالة الرابعة: الصبر على الأذى فيه

... "الرابعة": الصبر على الأذى فيه1. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ "1" أي يصبر على الأذى في هذه الأشياء, فقد يحصل للإنسان أذى, قد يتعب من المدعو أو غيره, من أهله أو غيرهم, فالواجب الصبر واحتساب الأجر عند الله. فالمؤمن يصبر على إيمانه بالله, ويصبر على العمل بما أوجب الله عليه, وترك ما حرم الله عليه, ويصبر في الدعوة إلى الله، والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلابد من الصبر في هذه الأمور كلها. فالدين كله يحتاج إلي صبر. صبر على دعوة الله وحده وصبر على أن تصلي, وتزكي, وتصوم, وتحج, وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وصبر عن المحارم والسيئات فتحذر من قربها فالإنسان إذا لم يصبر. وقع فيما حرم الله عليه, أو ترك ما أوجب الله عليه. ولهذا قال تعالى لرسوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 1. وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} . 2 __________ 1 سورة الأحقاف , جزء من الآية: 35. 2 سورة الطور , جزء من الآية: 48.

(1/24)


 دليل هذه المسائل

... الأدلة: وَالدَّلِيلُ 1 قَوْلُهُ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} 1. وقال تعالى: {إ ِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 2. وقال تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 3. يعني اصبروا على طاعة الله وترك معصيته. واحذروا مخالفة أمره وارتكاب نهيه. "1" وهذا هو الدليل على هذه المسائل الأربعة. ففي هذه السورة العظيمة الحجة لهذه الأمور وهذا هو الدين كله. فالدين كله إيمان وعمل ودعوة وصبر. إيمان بالحق وعمل به ودعوة إليه وصبر على الأذى فيه والناس كلهم في خسارة {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 4 الآية. أي الذين استثناهم الله فجميع بني آدم في خسران وعلى طريق الهلاك إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ, وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ, وتواصوا بالصبر. فهؤلاء هم الرابحون, وهم السعداء. وقد أقسم الله على هذا بقوله: {وَالْعَصْرِ} 5 وهو __________ 1 سورة النحل, جزء من الآية: 127. 2 سورة الزمر, جزء من الآية: 10. 3 سورة الأنفال, جزء من الآية: 46. 4 سورة العصر, جزء من الآية: 3. 5 سورة العصر, آية: 1.

(1/25)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ الصادق سبحانه وتعالى وإن لم يقسم, ولكن أقسم لتأكيد المقام. والله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من خلقه. فلا أحد يتحجر عليه, فأقسم بالسماء ذات البروج وأقسم بالسماء والطارق وبالضحى وبالشمس وضحاها وبالليل إذا يغشى وبالنازعات. وغير ذلك. لأن المخلوقات تدل على عظمته, وعلى أنه سبحانه هو المستحق للعبادة ولبيان عظم شأن هذه المخلوقات التي تدل على وحدانيته وأنه المستحق للعبادة وحده. وأما المخلوق فليس له أن يقسم إلا بربه. فلا يقسم ولا يحلف إلا بالله ولا يجوز له أن يحلف بالأنبياء, ولا بالأصنام, ولا بالصالحين, ولا بالأمانة, ولا بالكعبة, ولا بغيرها. هذا هو الواجب على المسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بشيء دون الله فقد أشرك " 1 أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: "من كان حالفاً فليحف بالله أو ليصمت " 2. فالواجب على كل مسلم ومسلمة __________ 1 رواه أحمد 1/47 , 2/34 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وعبد الرزاق 8/468 , باب الأيمان ولا يحلف إلا بالله برقم 5926 , واللفظ لهما. وأبو داود 3/570 في كتاب الأيمان والنذور باب في كراهية الحلف بالآباء برقم 3251. والترمذي 4/93 في كتاب النذور والأيمان باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله برقم 1535 والحاكم 4/297. 2 رواه البخاري 11/538 في كتاب الأيمان والنذور باب " لا تحلفوا بآبائكم " برقم 6646. ومسلم 11/106 في كتاب الأيمان كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(1/26)


قَالَ الشَّافِعيُّ 1 ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلا هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ 2. وَقَالَ البُخَارِيُّ "3"ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ: " باب "العلم قبل القول ـــــــــــــــــــــــــــــ الحذر من الحلف بغير الله, وأن تكون أيمانهم كلها لله وحده سبحانه وتعالى. 1. الشافعي: هو الإمام المشهور, أحد العلماء الكبار, وأحد الأئمة الأربعة, وهو محمد بن إدريس الشافعي المطلبي, المولود سنة خمسين ومائة وتوفي سنة أربعة ومائتين. 2. يقول رحمة الله: لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم وفي رواية " لو فكر الناس في هذه السورة لكفتهم ". أي لو نظروا فيها وتأملوا فيها لكانت كافية في إلزامهم بالحق, وقيامهم بما أوجب الله عليهم, وترك ما حرمه عليهم, لأن الله بيّن أن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بالصبر هم الرابحون, ومن سواهم خاسر, وهذه حجة قائمة على وجوب التواصي, والتناصح, والإيمان والصبر, والصدق, وأنه لا طريق للسعادة والربح إلا بهذه الصفات الأربع.. إيمان صادق بالله ورسوله. وعمل صالح. وتواصٍ بالحق. وتواصٍ بالصبر. 3. البخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري من بخارى في الشرق الأوسط. ولد سنة أربع وتسعين ومائة في

(1/27)


وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ} . فبدأ بالعلم قبل القول والعمل". ـــــــــــــــــــــــــــــ أخر القرن الثاني, ومات سنة ست وخمسين ومائتين في وسط القرن الثالث. كان عمره اثنتين وستين سنة. وهو صاحب الصحيح. وله مؤلفات عظيمة نافعة رحمه الله يقول: باب العلم قبل القول والعمل. لقول الله سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} . فبدأ بالعلم قبل القول والعمل. فالإنسان عليه أن يتعلم أولا, ثم يعمل. فيتعلم دينه, ويعمل على بصيرة. والله أعلم.

(1/28)


 الباب الثاني: المسائل الثلاث التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمهن

 المسألة الأولى: أن الله خلقنا

... بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعْلمْ ـ رَحِمَكَ اللهُ ـ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ تَعَلُّمُ هذه المسائل1 الثلاث والْعَمَلُ بهنُّ "الأُولَى ":أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا ولم يتركنا هملاً 2,. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه المسائل الثلاث من أهم المسائل التي تتعلق بالتوحيد وحقوقه. الله خلق الخلق ليعبدوه فلم يخلقهم هملاً، ولا سداً، ولا عبثاً. لكنه خلقهم لأمر عظيم، ولحكمة عظيمة فيها سعادتهم، وفيها نجاتهم، وهي أن يعبدوا الله وحده لا شريك له كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. وهذه العبادة أمرهم الله بها في قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} 2 وفي قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 3. وفي قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 4. وفي قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 5. وفي قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 6. في آيات كثيرة أمرهم فيها بالعبادة، وهي توحيده جل وعلا, __________ 1 سورة الذاريات، آية:56. 2 سورة البقرة،جزء من آية:21. 3 سورة الإسراء، جزء من آية:23. 4 سورة النساء، جزء من آية:36. 5 سورة الزمر،جزء من آية:2. 6 سورة البينة،جزء من آية:5.

(1/29)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وتخصيصه بالعبادة من دعاء وخوف ورجاء وتوكل ورغبة ورهبة وصلاة وصوم وغير ذلك. فهو المستحق للعبادة جل وعلا، دون كل ما سواه. ويدخل في ذلك فعل الأوامر، وترك النواهي, فأداء الأوامر التي أمرك الله بها ورسوله، وترك النواهي التي نهاك الله عنها ورسوله، كل هذا داخل في العبادة. وهذا هو الإسلام. وهو الدين وهو الإيمان وهو الهدى. فلا تصل إلا لله، ولا تركع إلا له ولا تذبح إلا له، ولا تدع إلا إياه، ولا تتوكل إلا عليه، إلى غير هذا من العبادات. أما الاستعانة بحاضر قادر فيما يقدر عليه فهذا ليس بعبادة كما قال سبحانه في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1 فإن موسى قادر على أن يغيثه. أما دعاء الميت، ودعاء الغائب الذي لا يسمع كلامك, أو دعاء الصنم أو الجن, أو الأشجار, ونحوها فهذا شرك المشركين, وهو الشرك الأكبر الذي قال الله فيه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2. وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3 وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4 وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ __________ 1 سورة القصص , جزء من آية: 15. 2 سورة لقمان , آية: 13. 3 سورة الأنعام , جزء من آية: 88. 4 سورة النساء , جزء من أية: 116.

(1/30)


بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً1 , فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ 2 الجَنَّةَ, وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ, وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً؛15 فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} . ـــــــــــــــــــــــــــــ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 1 فالله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملا. بل أمرنا بتوحيده, وطاعته, وترك معصيته. 1.وأرسل رسولاً هو محمد عليه الصلاة والسلام بكل ما تقدم, وأنزل عليه القرآن بذلك, لنستقيم على ما فيه من الهدى, ونعمل بما فيه من الأوامر, وننتهي عما فيه من النواهي, وعلى يد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين. جاء ليعلم الناس دينهم. فهو خاتم الأنبياء وإمامهم وأفضلهم. 2.فمن أطاع هذا الرسول واستقام على دينه فله الجنة. ومن عصى هذا الرسول وحاد عن دينه فله النار, كما قال تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} 2. يعني: بأعمالكم.. {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} 3 فهو مرسل عليه الصلاة والسلام. {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} 4 أي أخذنا فرعون أخذاً وبيلاً في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار. __________ 1 سورة الزمر , آية: 65. 2 سورة المزمل , آية: 15. 3 سورة المزمل , آية: 15. 4 سورة المزمل , آية: 16.

(1/31)


 المسألة الثانية: أن الله لايرضى أن يشرك معه أحد في عبادته

... "الثَّانِيَةُ " 1 أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ معه في عبادته أحد, لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. وَالدَّلِيلُ قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. هذه المسالة الثانية إنما هي تحقيق للمسألة الأولى. أن تعلم أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أحد في عبادته, كما أنه الخالق الرازق المحي المميت, الذي خلقك وأعطاك النعم, فهو سبحانه لا يرضى أن يشرك معه أحد من الخلق. لا نبي مرسل, ولا ملك مقرب ولا غيرهما, لأن العبادة حق الله وحده كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 1. وكما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2. لأن الإشراك به هو أعظم الذنوب. وقد جاء في الآيات الكثيرة, الأمر بإخلاص العبادة لله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه. فتجمع بين أمرين فتؤمن بأن الله هو الخالق الرازق المحي المميت, وتؤمن بأنه سبحانه هو المستحق للعبادة من ذبح وصلاة وصوم وغير ذلك من العبادات, كما قال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3 وقال سبحانه: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4. __________ 1 سورة الإسراء , آية: 23. 2 سورة الفاتحة , آية: 5. 3 سورة البقرة , آية: 163. 4 سورة الجن , آية: 18.

(1/32)


 المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لايجوز له مولاة من حاد الله ورسوله

... "الثَّالِثَةُ"1: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ 1.وهذه هي المسألة الثالثة وهي من أهم الواجبات أن يعلم كل مسلم ومسلمة أنه لا يجوز له أن يوالي المشركين أو يحبهم. فكل من أطاع الله ورسوله ووحد الله جل وعلا يلزمه أن يعادي الكفار ويبغضهم في الله, ولا يجوز له موالاتهم ومحبتهم لقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً} 1. أي لا تجد يا محمد قوماً أهل إيمان صادق يوادون من حاد الله ورسوله. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2. وقال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 3. فلا بد من البغضاء والعداوة لأعداء الله. ومودة المؤمنين ومحبتهم, وهكذا المؤمن يحب أولياء الله, ويتعاون معهم على الخير, ويكره أعداء الله ويبغضهم ويعاديهم في الله. وإن دعاهم إلى الله. وإن أقرهم في بلاده وأخذ منهم الجزية كولي __________ 1 سورة المجادلة , جزء من آية: 22. 2 سورة المائدة , آية: 51. 3 سورة الممتحنة , آية 4.

(1/33)


قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ الأمر لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس 1 وأخذ الجزية منهم فيه عون للمسلمين لامحبة لهم. وتؤخذ الجزية منهم إذا لم يدخلوا في الإسلام ولا يقاتلون بل يقرون مع بغضهم في الله, وعدم موالاتهم. فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا مع القدرة. وهذا خاص بأهل الكتاب والمجوس. أما بقية الكفار فلا تقبل منهم الجزية, بل يقاتلون حتى يدخلوا في الإسلام كالوثنيين والشيوعيين وغيرهم من أصناف الكفرة مع القدرة على ذلك, لقول الله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2. وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3. وقوله سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد ٍ __________ 1 رواه عبد الرزاق في مصنفه 6/69 , باب أخذ الجزية من المجوس برقم 10025 من حديث عبد الرحمن بن عوف. وكذلك في 10/325 باب هل يقاتل أهل الشرك حتى يؤمنوا من غير أهل الكتاب وتؤخذ منهم الجزية برقم 19253 ولفظه "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". ورواه أبو يعلى 2/862 بلفظ "سنتهم سنة أهل الكتاب". 2 سورة الأنفال , آية:39. 3 سورة التوبة , آية 41.

(1/34)


الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . اعْلَمْ أَرْشَدَكَ 1 اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ 2 مِلَّةَ إبراهيم أن تعبد ـــــــــــــــــــــــــــــ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 والآيات في هذا المعنى كثيرة. ومراده سبحانه مع القدرة على ذلك؛ لقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} 2. وقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 3 الآية. ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتل المشركين حتى قوي على ذلك. ثم قال تعالى في أخر الآية: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 4. أي قواهم بقوة منه. 1. قال رحمه الله اعلم أرشدك الله لطاعته, جمع رحمه الله بين التعليم والدعاء. 2. الحنيفية ملة إبراهيم. وهي أن تعبد الله مخلصاً له الدين, وهي التي قال الله فيها لنبيه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيم َ __________ 1 سورة التوبة , آية: 5. 2 سورة البقرة , آية: 286. 3 سورة التغابن , آية: 16. 4 سورة المجادلة , آية: 22.

(1/35)


الله وحده له. وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ 1 جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى ـ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . ـــــــــــــــــــــــــــــ حنيفاً} 1 فالحنيفية هي الملة التي فيها الإخلاص لله وموالاته, وترك الإشراك به سبحانه. والحنيف هو الذي أقبل على الله وأعرض عما سواه, وأخلص له العبادة, كإبراهيم وأتباعه وهكذا الأنبياء وأتباعهم. 1.قال وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا, فأمرهم بالتوحيد والإخلاص, وخلقهم ليعبدوه, وأمرهم بأن يعبدوه وحده في صلاتهم وصومهم ودعائهم وخوفهم ورجائهم وذبحهم ونذرهم وغير ذلك من أنواع العبادة. كله لله كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 2 , وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3. وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 4 ,وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} 5. هذه العبادة هي التي خلق لها الناس. خلق الثقلان وهي توحيد الله, وطاعة أوامره, واجتناب نواهيه, قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ __________ 1 سورة النحل , آية: 123. 2 سورة الإسراء , جزء من آية: 23. 3 سورة الفاتحة , آية: 5. 4 سورة الزمر , جزء من آية: 2. 5 سورة البقرة , جزء من آية: 21.

(1/36)


ومعنى يعبدون: يوحدوني. وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ: التَّوْحيِدُ, وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ. وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْه الشرك, وهو دعوة غيره ـــــــــــــــــــــــــــــ إِ لَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. يعني يوحدوني في العبادة , ويخصوني بها, بفعل الأوامر وترك النواهي إلى غير ذلك من الآيات. 1. وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ. وَهُوَ إفراد الله بالعبادة فتقصده بالعبادة دون كل من سواه, فلا تعبد معه صنماً ولا نبياً ولا ملكاً ولا حجراً ولا جنياً ولا غير ذلك. 2. الشرك دعوة غيره معه, وقد قال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2 , وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3 , وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قيل ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قيل ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك "4, فبين صلى الله عليه وسلم أن الشرك أعظم الذنوب وأشدها وأخطرها. وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك __________ 1 سورة الذاريات , آية: 56. 2 سورة الأنعام , جزء من آية: 88. 3 سورة الزمر , آية: 65. 4 رواه البخاري 8/13 في كتاب التفسير. في تفسير سورة البقرة باب قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} "22". برقم 4477. ورواه مسلم 2/80 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(1/37)


مَعَهُ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . ـــــــــــــــــــــــــــــ بالله". الحديث متفق عليه 1. فالتوحيد إفراد الله بالعبادة. والشرك: هو دعوة غير الله مع الله. تدعوه أو تخافه أو ترجوه أو تذبح له أو تنذر له أو غير ذلك من أنواع العبادة. هذا الشرك الأكبر سواء كان المدعو نبياً أو جنياً, أو شجراً أو حجراً أو غير ذلك, ولهذا قال تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2 "فشيئاً" نكره في سياق النهي, فتعم كل شيء, وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3 , فأعظم مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ وَهُوَ إِفْرَادُ الله بالعبادة. وأعظم ما نهى الله عنه هو الشرك بالله عز وجل, كما تقدم. ولهذا أكثر سبحانه وتعالى في القرآن من الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك. __________ 1 رواه البخاري 10/419 في كتاب الأدب باب "عقوق الوالدين من الكبائر " برقم 5976. ورواه مسلم 2/81 في كتاب الإيمان "باب الكبائر وأكبرها". من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. 2 سورة النساء , آية: 36. 3. سورة البينة , آية: 5.

(1/38)


 الباب الثالث: الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا

  الأصل الأول: معرفة العبد ربه

... فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثَّلاثَةُ1 التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ ربه ودينه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ "1"هذه الأصول الثلاثة تجمع الدين كله من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وهي التي يسأل عنها العبد في قبره.

(1/38)


فَإِذَا قِيلَ لَكَ 1 مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ2: رَبِّيَ الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته, وَهُوَ مَعْبُودِي لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ. وَالدَّلِيلُ"3" قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ2} وكل من ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. فإذا سأل سائل فقال: مَنْ رَبُّكَ؟ 2. فَقُلْ رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي وربى جميع العالمين بنعمته. وهو معبودي ليس لي معبود سواه. هذا رب الجميع كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ2} 1. والعالمون جميع المخلوقات كلهم عالمون ـ الجن والإنس والبهائم والجبال والأشجارـ كلها عالم. قال تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2, فهو رب الجميع له الخلق وله الأمر وهو المستحق بأن يعبد ولهذا قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} 3 الآية.. وَهُوَ مَعْبُودِي لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ. 3. وَالدَّلِيلُ قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ2} 4 يعني الثناء كله لله والعبادة من الثناء ومن الحمد. __________ 1 سورة الفاتحة , أية: 2. 2 سورة الأعراف , آية: 54. 3 سورة البقرة , آية: 21. 4 سورة الفاتحة , جزء من آية: 2.

(1/39)


سِوَى اللهِ 1 عَالَمٌ, وَأَنَا وَاحِدٌ2 مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ. فَإِذَا قِيلَ لَكَ "3": بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ, فَقُلْ"4": بِآيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ, وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ والنهار والشمس والقمر, ومن مخلوقاته ـــــــــــــــــــــــــــــ وكل ما سوى الله عالم، من الجن والإنس والحيوانات والجبال كلها عوالم. وأنا واحد من ذلك العالم الذي خلقه الله وأوجده وأوجب عليه طاعته. فعلى جميع العالمين من المكلفين من الجن والإنس أن يطيعوا الله ورسوله ويوحدوه جل وعلا. وهكذا الملائكة عليهم أن يعبدوا الله وحده، ولهذا قال تعالى عن الملائكة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 1 وقال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ "27" {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 2.. إذا قيل لك أيها المسلم بم عرفت ربك الذي أنت تعبده؟. فقل عرفته بآياته ومخلوقاته –أي بآياته الكثيرة، وبمخلوقاته العظيمة، التي تدل على أنه الرب العظيم، وأنه الخلاق العليم، وأنه المستحق لأن يعبد، وأنه الذي يخلق ما يشاء، ويعطى ويمنع، وينفع ويضر، بيده كل شيء سبحانه وتعالى. فهو المستحق بأن نعبده بطاعته ودعائه واستغاثته وسائر أعمالنا وعباداتنا؛ لأن الله خلقنا لهذا. __________ 1 سورة التحريم آية:6. 2 سورة الأنبياء، الآيتان:27- 28.

(1/40)


السموات السبع والأرضون السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . ـــــــــــــــــــــــــــــ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1، وهذه العبادة هي توحيده، وطاعته, واتباع شريعته، وتعظيم أمره ونهيه قولاً وعملاً. "1" {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} كل هذه تدل على أنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم. يأتي الليل بظلامه، ويذهب النهار بضيائه، ثم يجيء النهار، ويذهب الليل، وهذه الشمس تطلع على الناس في الدنيا كلها، وينتفعون بها، وهذا القمر كذلك وغير هذه من الآيات العظيمة, كالأرض وما فيها من جبال وأنهار وبحار وأشجار وحيوانات. وهذه السموات التي يراها الناس، كلها من آياته الدالة على عظمته وأنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم وأنه المستحق للعبادة ولهذا قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2،يعني لا تعبدوا __________ 1 سورة الذاريات،آية:56. 2 سورة فصلت،آية:37.

(1/41)


وَقَوْلُهُ تَعَالَى1: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــ هذه المخلوقات، بل اعبدوا الذي خلقها وأوجدها سبحانه وتعالى، فهو المستحق بأن يذل له العبد ويخضع له، ويطيع أوامره وينتهي عن نواهيه سبحانه وتعالى؛ تعظيماً وتقدسياً له؛ وخوفا منه؛ ورغبة فيما عنده. وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} 1يعني إن ربكم أيها العباد من الجن والإنس هو الله. وربكم يعني خالقكم, وهو معبودكم الحق وحده لا شريك له: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2. أي ثم ارتفع على العرش, وعلا فوقه سبحانه وتعالى. فعلمه في كل مكان وهو فوق العرش. فوق جميع المخلوقات. والعرش سقف المخلوقات وهو أعلى المخلوقات, والله فوقه جل وعلا. استوى عليه استواءً يليق بجلاله لا يشابه خلقه في شيء من صفاته. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3. وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 4. وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} 5، أي يغطي هذا بهذا. __________ 1 سورة الأعراف، آية: 54. 2 سورة الأعراف، آية:54. 3 سورة الشورى , آية: 11. 4 سورة الإخلاص, آية: 4. 5 سورة الأعراف, آية: 54.

(1/42)


سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . ـــــــــــــــــــــــــــــ وهذا بهذا. {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} . أي سريعاً وكل واحد يطلب الآخر. إذا انتهى هذا دخل هذا. وهكذا.. حتى تقوم الساعة. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} 1, أي وخلق الشمس والقمر والنجوم, خلقها مسخرات بأمره, ومطيعات مذللات لأمره سبحانه. ثم قال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 2, فالخلق له والأمر له هو الخلاق الذي لا يخالف أمره الكوني الذي هو نافذ في الناس, كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3. وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} 4 فأمر الله الكوني القدري لا راد له ولهذا قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 5. {فتبارك} يعني بلغ في البركة النهاية, وهي لاتصلح إلا لله __________ 1 سورة الأعراف , آية:54. 2 سورة الأعراف , آية: 54. 3 سورة يس , آية: 82. 4 سورة القمر , آية: 55. 5 سورة الأعراف , آية: 54 ,

(1/43)


وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ1. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى 2: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ـــــــــــــــــــــــــــــ فلا يقال للعبد تباركت يا فلان. هذا لا يصلح. وإنما هو خاص بالله كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} 1 , وإنما يقال للمخلوق بارك الله في. فلان. أو فلان مبارك, أما تباركت فإنها لا تصلح إلا لله وحده. 1. والرب هو المعبود "والعالمين" المخلوقات كلها من الجن والإنس والسماء والأرض, وهو ربها سبحانه وتعالى, وهو رب الجميع, وخالق الجميع, وخالق الجميع جل وعلا. 2. قال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2 خلق الجميع الذين قبلنا, والذين بعدنا من آدم وما قبله وما بعده. ثم قال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} 3 الآية فهو خلق الجميع ليتقوه ويعبدوه كما قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 4 ثم بين سبحانه بعض أفعاله فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} 5, فجعل الأرض فراشاً للناس, ومهاداً لهم. عليها يسكنون, وعليها يبنون , وعليها ينامون. وعليها يمشون, وأرساها بالجبال, ثم __________ 1 سورة الملك , جزء من آية: 1. 2 سورة البقرة , آية: 21. 3 سورة البقرة , آية: 22. 4 سورة البقرة , آية: 22. 5 سورة البقرة , آية: 22.

(1/44)


اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ1 ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ الخَالِقُ لهذه الأشياء هو ـــــــــــــــــــــــــــــ قال: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} 1 فجعلها بناءً وسقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون. وزينها بالنجوم والشمس والقمر {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي من السحاب: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} أنواع الأرزاق في كل مكان ويحي الله به الأرض بعد موتها ثم قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2 أي أشباهاً ونظراء تعبدونها معه. لا صنماً ولا جناً ولاملكاً ولا غير ذلك. فالعبادة حق الله وحده. ليس له نديد ولا نظير ولا مثيل. بل هو الإله الحق وكان المشركون يتخذون له الأنداد والنظائر والأمثال من الأصنام والجن والملائكة ويعبدونهم من دون الله. ويستغيثون بهم فأنكر الله عليهم ذلك وبين أن هذه المخلوقات ليس لها حق في العبادة ولا قدرة لها على شيء إلا بإذنه سبحانه وتقديره. "1" قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: الخالق لهذه الأشياء من سماء وأرض وثمار وأشجار ومطر وغير ذلك هو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى, وأن يطاع؛ لأنه رب الجميع, وخالق الجميع, كما __________ 1 سورة البقرة , آية: 21. 2 سورة البقرة , آية: 22.

(1/45)


الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ. وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ1 الَّتِي أَمَرَ اللهُ بها, مثل الإسلام ـــــــــــــــــــــــــــــ قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1. 1. العبادة أنواع: فمنها الإسلام بأركانه. فكل ما أمر الله به من أعمال الإسلام عبادة, من صلاة وصوم وغير ذلك, وهكذا الإيمان بأعماله الباطنة, كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره, وكذلك الخوف والمحبة والرجاء إلى غير ذلك. فكل ما يتعلق بالقلوب داخل في العبادة بل هو أعلى أنواع العبادة وأعظمها. فالواجب على كل مكلف إخلاص العبادة لله وحده. فلا يدعو مع الله الأنبياء ولا الأولياء ولا الأصنام ولا الأشجار ولا الأحجار ولا النجوم لأن العبادة حق لله وحده. قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 2. وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3 , وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 4. وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 5. وقال عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ __________ 1 سورة البقرة , آية: 163. 2 سورة الجن , آية: 18. 3 سورة الفاتحة , آية: 5. 4 سورة يونس , آية: 106. 5 سورة المؤمنون , آية: 117.

(1/46)


وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ وَمِنْهُ الدُّعَاءُ, وَالْخَوْفُ1. وَالرَّجَاءُ, وَالتَّوَكُّلُ, ـــــــــــــــــــــــــــــ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1 فسمى سبحانه دعاءهم شركا. فالواجب على جميع المكلفين إخلاص العبادة لله وحده, رجاء وخوفا واستعانة واستغاثة وذبحا ونذرا وخشية لله وصلاة وصوما إلى غير ذلك, كله لله وحده فمن تقرب لغير الله من ولي أو نبي أو صنم أو شجر أو حجر بالدعاء أو بالذبح أو بالنذر أو بالصلاة أو بالصوم ونحو ذلك, فهو مشرك كافر أشرك بالله وعبد معه سواه, كفعل المشركين الأولين: من عباد القبور وعباد الأشجار والأحجار والأصنام, ولهذا قال عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ65بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 4. 1. فكل هذه العبادات يجب إخلاصها لله. ومن صرف منها شيئاً لغير الله من صنم أو شجر أو حجر أو قبر فهو مشرك بالله. __________ 1 سورة فاطر, الآيتان: 13 ـ 14. 2 سورة الأنعام , آية: 88. 3 سورة المائدة , آية: 72. 4 سورة الزمر , الآيتان: 65 ـ 66.

(1/47)


وَالرَّغْبَةُ, وَالرَّهْبَةُ, وَالْخُشُوعُ, وَالْخَشْيَةُ, وَالإِنَابَةُ, وَالاسْتِعَانَةُ, وَالاسْتِعَاذَةُ, والاستغاثة, والذبح, والنذر, وغير ذلك من الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا, كُلُّهَا للهِ, وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى 1: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . وفي الحديث:" الدعاء مُخّ ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. لقوله تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . ولغيرها من الآيات السابقات. وهذا دليل على ما تقدم. 2. وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة " , وفي لفظ آخر "الدعاء هو العبادة , وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ __________ 1.سورة المؤمنون, آية: 117. 2. رواه الترمذي 5/425 في كتاب الدعوات باب ما جاء في فضل الدعاء ببرقم 3371 من حديث أنس والحديث فيه ابن لهيعة وهو ضعيف إلا أن هذا الحديث يشهد له ما بعده. 3. رواه أحمد 4/267, 271, 276. ورواه أبو داود 2/161 في كتاب الصلاة باب الدعاء برقم 1479. ورواه الترمذي 5/426 في كتاب الدعوات باب ما جاء في فضل الدعاء برقم 3372. وأخرجه أيضاً 5/426 في كتاب الدعوات باب ما جاء في فضل الدعاء برقم 3372. وأخرجه النسائي في الكبرى 9/3 تحفة الأشراف للمزي. ورواه ابن ماجه 2/1258 في كتاب الدعاء باب فضل الدعاء برقم 3828 من حديث النعمان بن بشير والحديث صحيح. فقد صححه الحافظ بن حجر انظر الفتح 1/64 =

(1/48)


الْعِبَادَةِ". وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . ـــــــــــــــــــــــــــــ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1, فسمى الدعاء عبادة في قوله: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ} يعني عن دعائي. فالدعاء هو أن يضرع إلى الله يدعوه, ويسأله النجاة, ويسأله الرزق, كل هذا عبادة, فإذا صرفها للصنم أو للشجر أو للحجر أو لميت, صار مشركا بالله عز وجل فيجب الحذر من الشرك كله, دقيقه وجليله, وأن تكون العبادة لله وحده, لكن دعاء الحي الحاضر القادر, والاستعانة به في الشيء المقدور عليه, لا بأس به ولا يعتبر داخلا في الشرك فلو قلت لأخيك الحاضر يا عبد الله أعني على قطع هذه الشجرة أو على حفر هذه البئر فلا بأس بذلك كما قال سبحانه في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2 الآية. استغاثة الإسرائيلي على القطبي؛ لأن موسى قادر على إغاثته. يتكلم ويسمع. أما إذا اعتمد على المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله حاضراً أو غائباً أو ميتا, واعتقد أنه ينفع من دعاه أو يضر لا بالأسباب الحسية من الشرك بالله. كما قال تعالى عنهم أنهم قالوا: __________ حيث فال: أخرجه أصحاب السنن بسند جيد. 1 سورة غافر , آية: 60. 2 سورة القصص , آية: 15.

(1/49)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. فيظنون أنهم يستطيعون بعبادتهم إياهم أن يشفعوا لهم عند الله في حصول مطالبهم أو أنهم يقربونهم إلى الله زلفى. كما قال الله سبحانه عنهم في الآية الأخرى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. وهذا من جهلهم وضلالهم بالشافع والمشفوع إليه. والله سبحانه له الشفاعة جمعياً, وهو الذي يتصرف في عباده كيف يشاء, فلا يأذن بالشفاعة إلا فيمن يرضى الله عمله. ولا يشفع أحد عنده إلا بعد إذنه. كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 3, وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 4, فالشفاعة لا تكون إلا بإذنه للشافع, ورضاه عن المشفوع فيه. وهو سبحانه لا يرضى بالشفاعة إلا لأهل التوحيد, كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لما سأله أبو هريرة قائلاً: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ . قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه " 5, أخرجه __________ 1 سورة يونس , آية: 18. 2 سورة الزمر , آية: 3 3 سورة البقرة , آية: 255. 4 سورة الأنبياء , آية: 28. 5 رواه البخاري 1/233 في كتاب العلم باب الحرص على الحديث برقم 99 ورواه أيضا في 11/426 في كتاب الرقائق "باب صفة الجنة والنار " برقم 6570 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/50)


وَدَلِيلُ الْخَوْفِ 1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . ـــــــــــــــــــــــــــــ البخاري في صحيحه. ولا تكون الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله من أهل التوحيد والإيمان. 1. ومن ذلك الخوف وهو أقسام ثلاثة:ـ الأول: خوف السر وهذا خاص بالله لأنه القادر على كل شيء وهو الذي يخاف ويخشي. كما قال تَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. وقال تعالى: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 2. وقال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشوني} 3. فالواجب خشية الله وخوفه؛ لأنه مصرف القلوب ومقلبها والقادر على كل شيء, وهو الذي ينفع ويضر, ويعطي ويمنع, فالواجب تخصيصه بالخوف وألا يخاف هذا الخوف إلا الله في كل الأمور. ولكن خوف السر يختص به سبحانه وهو كون الإنسان يخاف من أجل قدرة خاصة سرية ليست حسب الحس. ولذلك يعتقد عباد القبور أن بعض الناس له القدرة على التصرف في الكون __________ 1 سورة آل عمران , آية: 175. 2 سورة التوبة , آية: 18. 3 سورة المائدة , آية: 44.

(1/51)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ مع الله جل وعلا. ويعتقدون ذلك أيضاً في الأصنام والجن وغيرها, وهذا هو الشرك الأكبر. ويعتقد فيهم أيضاً أن لهم القدرة على العطاء والمنع, وزيغ القلوب, وموت النفوس دون أسباب حسية. الثاني: خوف الأسباب الحسية كما قال تعالى في قصة أحد لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن المشركين قد جمعوا لكم وسيرجعون إليكم فأنزل الله في ذلك: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 , فالشيطان يخوف الناس من أوليائه, ويعظمهم في صدور الناس حتى يخافوهم, والله يقول: {فَلا تَخَافُوهُمْ} , بل اعتمدوا عليَّّ, وأعدوا العدة ولا تبالوا بهم, كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} 2. وهذا الخوف الحسي لا بأس به لكن الخوف القلبي خوف السر هذا هو المنهي عنه أما الخوف الحسي, مثل أن يخاف من اللص أو السارق أو العدو, فيعد العدة من السلاح اللازم كل هذا لابد منه ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} 3 وقال سبحانه في قصة موسى لما خرج من مصر خائفاً من فرعون وقومه: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 4 فإن هذا الخوف خوف حسي لا بأس به لكن لا يجوز __________ 1 سورة آل عمرن , آية: 175. 2 سورة الأنفال , آية: 60. 3 سورة النساء , آية: 71. 4 سورة القصص , آية: 21.

(1/52)


ودليل الرجاء1 قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . ـــــــــــــــــــــــــــــ خوف العدو خوفا يمنع من جهاده، ونصر الحق، وإنما يحمله هذا الخوف على الإعداد للعدو وأخذ الحذر. الثالث: الخوف الطبيعي الذي جبل عليه الإنسان وهذا لا حرج فيه مثل خوف الإنسان الحية والعقرب والسبع، فيتباعد عنها ويقتلها ويتباعد عن مظنة السباع حتى لا يتأذى بها. هذا أمر لابد منه والله جبل الناس على الخوف مما يؤذي حتى يتحرز منه يخاف البرد فيلبس الثياب الغليظة، ويخاف من الجوع فيأكل، ويخاف العطش فيشرب. هذه أمور طبيعية لا بأس بها. 1. وهكذا الرجاء عبادة لله فيرجو الله ويحسن به الظن كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1 فالرغبة إليه، ورجاء ما عنده، عبادة له سبحانه وتعالى: قال تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 2 فالرغب: الرجاء. والرهب: الخوف. وكلاهما عبادة. وعلى العبد أن يحسن ظنه بربه، ويعمل بالأسباب الشرعية. وإن الظن الحسن مع الأخذ بالأسباب يعود على العبد بالخير، وبالرحمة، وبدخول الجنة، وبمغفرة الذنوب. __________ 1 سورة الكهف. آية: 110. 2 سورة الأنبياء , آية: 90.

(1/53)


َودَلِيلُ التَّوَكُلِ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} . وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخُشُوعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} . وَدَلِيلُ الْخَشْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} الآية. ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. وهكذا التوكل عبادة. وهو التفويض إلى الله, والاعتماد عليه في كل الأمور مع الأخذ بالأسباب. فتعتمد على الله في السلامة من الشر, والعافية من الفتن, وحصول الرزق, وفي دخول الجنة, والنجاة من النار, مع الأخذ بالأسباب المشروعة قال تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1, وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2, يعني كافيه. 2. وهكذا الرغبة والرهبة والخشية من الله كل هذه عبادات. قال تعالى: عن الأنبياء والصالحين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 3 يعني خائفين يخشون الله, ويخشعون لعظمته أي يذلون. __________ 1سورة المائدة , آية: 23. 2 سورة الطلاق , آية: 3. 3 سورة الأنبياء , آية: 90.

(1/54)


وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} الآية. وَدَلِيلُ الاسْتِعَانَةِ2 قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وفي الحديث: "إذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ". وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ"3" قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وقوله ـــــــــــــــــــــــــــــ "1" وهكذا الإنابة عبادة: قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} 1, والإنابة معناها: الرجوع إلى الله, والتوبة إليه, والاستقامة على طاعته, فهذه عبادة لله. يجب على الإنسان أن ينيبوا إلى الله, ويرجعوا إليه, ويتوبوا إليه, ويستقيموا على طاعته. "2" وهكذا الاستعانة عبادة كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 وفي الحديث "إذا استعنت فاستعن بالله" 3. فيستعين العبد بالله فتقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك. اللهم أعني على طاعتك. اللهم أعني على كل خير, إلى غير هذا تستعين بالله في كل المهمات. "3" وهكذا الاستعاذة عبادة: أن تستعيذ بالله من الشرور, وتلجأ إليه, __________ 1 سورة الزمر , آية: 54. 2 سورة الفاتحة , آية: 5. 3 رواه أحمد , 1/307. ورواه الترمذي 4/576 في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع باب 59 برقم 2516 , من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(1/55)


تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ 1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية. ودليل الذبح2 قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . وَمِنَ السُنَّةِ: "لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله". ـــــــــــــــــــــــــــــ كما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 1, وقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 2, فالاستعاذة بالله من الشيطان, ومن كل مؤذ, ومن كل عدو, أمر مأمور به, كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 3. "1" وهكذا الاستغاثة عبادة أن تستغيث بالله في الشدائد من عدد, أو تطلبه إنزال الغيث المبارك, أو بكشف الضر, كما قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 4. "2" وهكذا الذبح عبادة: قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} أي ذبحي: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5. __________ 1 سورة الفلق , آية: 1. 2 سورة الناس , آية: 1. 3 سورة الأعراف , آية: 200. 4 سورة الأنفال , آية: 9. 5 سورة الأنعام , آية: 162.

(1/56)


وَدَلِيلُ النَّذْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} ـــــــــــــــــــــــــــــ وهكذا النذر عبادة قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} 1. وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 2, الآية وقال صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" 3. فالنذر عبادة وطاعة لله. فإذا فعل الإنسان لزمه الوفاء, والنذر مكروه؛ لأن فيه التزاما؛ وفيه مشقة, ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: "إن النذر لا يأتي بخير" 4, ولكن إذا نذر طاعة لزمه الوفاء. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من نذر أن يطيع الله فليطعه". فإذا نذر عبادة من صلاة أو صوم أو غيرهما لزمه الوفاء لما تقدم. __________ 1 سورة الإنسان , آية: 7. 2 سورة البقرة , آية: 270. 3 البخاري 11/589 في كتاب الأيمان والنذر "باب النذر في الطاعة " برقم 6696 وفي 11/594 في باب النذر فيما لا يملك وفي معصية برقم 7600 من حديث عائشة رضي الله عنهما. 4 رواه البخاري 11/508 في كتاب القدر "باب القاء العبد النذر إلى القدر " برقم 6608. ورواه أيضاً في 11/584 في كتاب الأيمان والنذر "باب الوفاء بالنذر " برقم 6693. ورواه مسلم 11/98 في كتاب النذر من حديث ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ لمسلم.

(1/57)


 الأصل الثاني: معرفة العبد دينه

... "الأَصْلُ الثَّانِي" مَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ1 بِالأَدِلَّةِ. وَهُوَ الاسْتِسْلامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ, وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ, وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ. وَهُوَ ثَلاثُ مَرَاتِبَ: "الإسْلامُ" و"الإيمان" و"الإحسان". وكل مرتبة لها أركان. فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ2: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ, وَإِقَامُ الصلاة,. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ "1"هذا هو الأصل الثاني. وهو دين الإسلام. وهو ثلاث مراتب بينها الرسول صلى الله عليه وسلم. فأولها الإسلام وهو الإخلاص لله وحده: يعني الاستسلام لله بالعبادة, وتخصيصه بها دون كل ما سواه. والبراءة من الشرك وأهله. فإذا فعل ذلك فقد أسلم يعني: إنقاد وذل وخضع لله وحده بالعبادة دون كل ماسواه. وتبرأ من الشرك وأهله. قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1, والكفر بالطاغوت معناه: البراءة من الشرك وأهله, وإنكار ذلك, واعتقاد بطلانه. وهناك مرتبة الإيمان, ومرتبة الإحسان, وكلها داخلة في دين الإسلام, الدين الذي شرعه الله لعباده وأرسل به الرسل جميعاً. ومرتبة الإسلام تشمل الأعمال الظاهرة. "2" وأركانه خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ, وأن محمداً رسول الله, __________ 1 سورة البقرة , آية: 256.

(1/58)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وَإِقَامُ الصَّلاةِ, وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ, وَصَوْمُ رَمَضَانَ, وَحَجُّ البيت لمن استطاع إليه سبيلا. كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قولة: "بني السلام على خمس: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وصوم رمضان وحج البيت" 1. فأول أركان الإسلام: شهادة أن لا اله إلا الله. وبها يدخل العبد في الإسلام فيشهد أن لا اله إلا الله: أي لا معبود حق إلا الله. وهي نفي واثبات, فلا إله نفي, وإلا الله إثبات قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 وقال: {مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 3 الآية. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 4, أما قولها بدون العمل بها, فلا تنفع كأن يقول لا اله إلا الله, ولا يخص الله بالعبادة فإن شهادته لا تنفع, كالمنافقين فإنهم يقولونها ولا يعتقدونها فهم في الدرك الأسفل من النار. فالذي يقول لا اله إلا الله ويعبد القبور والأصنام لا تنفعه بل هي باطلة. __________ 1 رواه البخاري 1 / 64 في كتاب الإيمان " باب دعاؤكم وإيمانكم " برقم 2. ورواه مسلم 1 / 176, 177 في كتاب الإيمان باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام كلاهما من حديث ابن عمرو رضي الله عنهم. 2 سورة الفاتحة , آية: 5. 3 سورة البينة , آية: 5. 4 سورة الحج , آية: 62.

(1/59)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ وأما الشهادة الثانية وهي: أن محمداً رسول فدليلها قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 1. يعني: محمداً عليه الصلاة والسلام تعرفونه؛ لأنه من أنفسكم وهو من أشرف قبائلكم من بني هاشم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} 2: أي يشق عليه ما يشق عليكم: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} 3. يعني: على هدايتكم, وإنقاذكم من النار. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 4 وبعد هذه الشهادة, على العبد أن يطيعه فيما أمر, وأن يصدقه فيما أخبر, وأن يجتنب ما عنه نهى وَزَجَرَ, وأَلا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شَرَعَ. فلا بد من هذه الأمور الأربعة. الأول: طاعته فيما أمر من الصلاة والزكاة وغيرها. الثاني: تصديقه فيما أخبر عن الآخرة والجنة والنار وغير ذلك. الثالث: واجتناب ما عنه نهى وزجر, كالزنا والربا وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله. الرابع: وأن لا يعبد الله بما شرع فلا يبتدع في الدين مما لم __________ 1 سورة التوبة , آية: 128. 2 سورة التوبة , آية: 128. 3 سورة التوبة , آية: 128. 4 سورة الفتح , آية: 29.

(1/60)


وإيتاءُ الزكاة1 وصوم رمضان2 ,. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــ يشرعه الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " 1. وفي رواية "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ " 2 أي:هو مردود. وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 3. وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 4, وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 5. َودَلِيلُ الصِّيَامِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 6. إلى قوله تعالى سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ} 7, أي أن الصيام واجب __________ 1 رواه مسلم 12/16في كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة. ورد محدثات الأمور من حديث عائشة رضي الله عنها. 2 رواه البخاري 5/355 في كتاب الصلح باب " إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود " برقم 2697. ورواه مسلم 12/16, في كتاب الأقضية في باب الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور كلاهما من حديث عائشة رضي تعالى عنها. 3 سورة البينة , آية:5. 4 سورة التوبة , آية: 11. 5 سورة التوبة , آية: 5. 6 سورة البقرة , آية: 183. 7 سورة البقرة , آية: 158.

(1/61)


وَحَجُّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ" 1. فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ 2: قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . ومعناها: لا معبود بحق إلا الله وحده. "لا اله" نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ. "إِلا اللهُ" مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ, لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ, كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ. وَتَفْسِيرُهَا الَّذِي يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ, إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ, وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . ـــــــــــــــــــــــــــــ عليكم كل عام في شهر رمضان. "1"ودليل الحج قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1 الآية وهو مرة في العمر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج مرة فمن زاد فهو تطوع" 2 , "2" هذه الصفحة والتالية، تابعة للمتن وقد تقدم شرحها فيما مضى. __________ 1 سورة آل عمران، آية: 97. 2 رواه أبو داود 2/344 في كتاب المناسك باب فرض الحج برقم 1721 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه النسائي 5/110 في كتاب مناسك الحج " باب وجوب الحج " برقم 2619. ورواه ابن ماجه 2/963 في كتاب المناسك " باب فرض الحج " برقم 2886.

(1/62)


وقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ, وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ, واجْتِنَابُ مَا نهى عنه وزجر, وأن لا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شَرَعَ. وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . َودَلِيلُ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . َودَلِيلُ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .

(1/63)


(الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ) "الإِيمَانُ 1. وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, فَأَعْلاهَا قَوْلُ: لا اله إِلا اللهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإيمان". ـــــــــــــــــــــــــــــ الإيمان: هو ما يتعلق بالقلوب, من التصديق بالله, وأنه رب العالمين, وأنه هو المستحق للعبادة, والتصديق بالملائكة وبالكتب وبالرسل وبالبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره. كل هذا يتعلق بالقلوب. فهو أصل من الأصول التي لا بد منها. فلا إسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام. فلا بد من هذا وهذا. لا بد من إسلام الجوارح, ولابد من إسلام القلوب وإيمانها. ولهذا جمع الله بين الأمرين في كتابه العظيم. وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم. ذكرهما جميعاً. فالإسلام هو الانقياد الظاهر بطاعة الله وترك معصيته. والإيمان يشمل الأعمال الباطنة مما يتعلق بالقلوب وتصديقها, ويطلق الإسلام على الإيمان ويطلق الإيمان على الإسلام. فإذا قيل الإيمان عم جميع وإذا قيل الإسلام عم الجميع قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} 1 فيعم ما يتعلق بالباطن والظاهر. وهكذا الإيمان إذا أطلق عم الجميع لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأضلها قَوْلُ لا اله إِلا اللهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأذى عن الطريق" 2 , فالإيمان هنا يعم الجميع فيعم أركان __________ 1 سورة آل عمران , آية: 19. 2 رواه مسلم 2/3 في كتاب الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/64)


وأركانه ستة: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر وبالقدر خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية. ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} . " المرتبة الثالثة" الإحسان 1. ركن واحد. وهو أن تعبد الله كأنك تراه, فإن ـــــــــــــــــــــــــــــ الإسلام, ويعم جميع الأعمال الظاهرة, كما يعم الباطنة. كما أنه يشمل الإحسان. "1" أما الإحسان فهو إكمال العبادة ظاهراً وباطناً وهو أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك,1 فمن عبد الله على هذا الاستحضار فقد أدرك مرتبة الإحسان, واجتمع له الخير كله, كما قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 2, وقال عز وجل: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 3 __________ 1 انظر إلى حديث جبريل الطويل وقد رواه البخاري 1/140 في كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإحسان وعلم الساعة برقم 50 ورواه مسلم 1/161 في كتاب الإيمان كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه مسلم أيضاً في 1/157 في كتاب الإيمان من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. 2 سورة النحل , آية: 128. 3 سورة الأعراف , آية: 56.

(1/65)


لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية. وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ ـرَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ, لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ, فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ, وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ, أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ, فَقَالَ: "أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ استطع إِلَيْهِ سَبِيلا", قَالَ: صَدَقْتَ, فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ, قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ, قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وبالقدر خيره وشره", قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ, قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فَإِنَّهُ يَرَاكَ", قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ, قَالَ: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" قال: أخبرني عَنْ أَمَارَاتِهَا, قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ والآيات في هذا المعنى كثيرة..

(1/66)


وأن ترى الحفاة العالة رعاة الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ" قَالَ: فَمَضَى فَلَبِثْنَا مَلِيَّا, فَقَالَ: يَا عُمَرُ أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟ "قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ هَذَا: جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم".

(1/67)


 الأصل الثالث: معرفة العبد نبيه

... " الأَصْلُ الثَّالِثُ" 1 مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَمَّدُ 2 بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ, وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ, وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ, وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ, عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا ـــــــــــــــــــــــــــــ 1 هذا هو الأصل الثالث وهو معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فعلى الإنسان أن يعرف نبيه الذي أرسله الله إليه، وبلغه الرسالة, وبين له الشرائع التي أمره الله بها، وأوضح له العبادة التي خلقنا الله لها. 2 هذا النبي هو محمد عليه الصلاة والسلام، خاتم الأنبياء، ورسول الله لهذه الأمة من الجن والإنس. أرسله الله للناس جميعا قال تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1 وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 2. فاسمه محمد، واسمه أحمد، واسمه الحاشر, والماحي , والمقفي 3؛ لأنه خاتم الأنبياء, وهو نبي التوبة, ونبي الرحمة, ونبي الملحمة. هذه كلها أسماؤه عليه الصلاة والسلام لكن أشهرها وأفضلها وأعظمها محمد الذي سماه به أهله وجاء به القرآن قال تعالى: __________ 1 سورة الأعراف , آية: 158. 2 سورة سبأ , آية: 28. 3 انظر إلى الحديث الذي رواه البخاري 8 / 509 في كتاب التفسير في تفسير سورة الصف باب يأتي من بعدي اسمه أحمد برقم 4896. ورواه مسلم 15/104 في كتاب الفضائل باب في أسمائه صل الله عليه وسلم كلاهما من حديث جبير بن مطعم.

(1/68)


أفضل الصلاة والسلام. وَلَهُ مِنَ الِعُمُرِ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْهَا أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولا، نُبيء بـ "اقرأ"1، ـــــــــــــــــــــــــــــ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 1. وهكذا أحمد كما بشر به عيسى: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 2 فهو محمد وأبوه عبد الله وجده اسمه عبد المطلب. وعبد المطلب لقب , وإلا فاسمه شيبة وأبو جده اسمه هاشم وهو سيد من سادات قريش كما أن عبد المطلب كذلك. وهاشم من قريش قبيلة عظمية وهي أفضل العرب. والنبي صلى الله عليه وسلم من خاصتهم من بني هاشم وهم أفضل قريش. واسمه فهر بن مالك, وقيل قريش هو النضر بن كنانة جد فهر بن مالك, وقريش من العرب المستعربة التي استعرب لسانها فصار لها لسان عربي واضح , فهي أكثر عروبة من قحطان. ولهذا يقال لهم العرب العاربة والعرب المستعربة, وهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل. 1. وهذا النبي العظيم وهو محمد صلى الله عليه وسلم نبيء باقرأ3 فأول ما نزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} 4 وصار بها نبياً. وقال أتاه جبريل وهو في الغار. غار حراء فأقرأه هذه السورة. __________ 1 سورة الفتح , آية: 29. 2 سورة الصف , آية 6. 3 انظر إلى الحديث الذي رواه البخاري 1/30 في كتاب بدء الوحي. برقم 3. ورواه مسلم 2/197 في كتاب الإيمان باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاهما من حديث عائشة رضي الله عنها. 4 سورة العلق , آية: 1.

(1/69)


وَأُرْسِلَ بـ " الْمُدَّثِّرْ"1. وَبَلَدُهُ مَكَّةُ, بَعَثَهُ اللهُ بالنذارة عن الشرك ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. ثم بعد مدة يسيرة جاءه بالمدثر1 فصار رسولاً بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} 2. "والمدثر" الملتحف. لأنه بعد ما جاءه الوحي, اشتد عليه الأمر وقال: زملوني زملوني ... دثروني دثروني من شدة ما أصابه من الخوف لما ضغط عليه جبرائيل عليه الصلاة السلام مرات. ثم قال: اقرأ تمهيداً لأعباء الرسالة وعظمتها ثم قال الله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} 3, أي: قم فأنذر الناس. فصار رسولاً بأمره بالنذرة: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} 4 أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 5 أي طهر أعمالك من الشرك؛ لأن تطهير الملابس غير مراده في هذه الآية، لأن الصلاة لم تفرض في ذلك الوقت, فالمراد هنا الأعمال كما قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} 6 ... فالعمل يسمى لباساً: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 7 فالرجز: الأصنام. وهجرها تركها, والبراءة منها وأهلها. __________ 1 انظر إلى الحديث الذي رواه البخاري 1/37 في كتاب بدء الوحي برقم 4. ورواه مسلم 2/ 207 في كتاب الإيمان باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاهما من حديث جابر رضي الله عنه تعالى عنه. 2 سورة المدثر , الآيتان: 2,1. 3 سورة المدثر , آية: 2. 4 سورة المدثر , آية: 3. 5 سورة المدثر , آية: 4. 6 سورة الأعراف , آية: 26. 7سورة المدثر , آية: 5.

(1/70)


ويدعو إِلَى التَّوْحِيدِ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} . وَمَعْنَى "قُمْ فَأَنذِرْ":يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ وَيَدْعُو إلى التوحيد, "وربك فكبر" عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ, "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ" أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ, "وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ" الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ, وَهَجْرُهَا تركها وأهلها وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلُهَا. أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ1 سنين يدعو إلى التوحيد, وبعد العشر2 ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. أخذ على هذا الأمر عشر سنين. يدعو إلى التوحيد ويحذر من الشرك, ويأمر بخلع عبادة ما سوى الله سبحانه, وترك عبادة الأصنام والأوثان , ويأمرهم أن يخصوا الله بالعبادة في دعائهم ونذرهم وذبائحهم وغير ذلك. 2. ثم بعد العشر عرج 1 به صلى الله عليه وسلم إلى السماء مع جبرائيل وفتحت له السموات إلى موضع رفيع فوق السماء السابعة. حتى سمع فيه صريف الأقلام. ثم ناداه الله جل وعلا وكلمه وفرض عليه الصلوات الخمس. فرضها خمسين صلاة ثم لم يزل يطلبه التخفيف حتى جعلها الله خمساً. __________ 1 انظر إلى حديث الذي رواه البخاري 1/546 في كتاب الصلاة باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء برقم 349 من حديث أبي ذر رضي الله عنه. ورواه مسلم 2/209 في كتاب الإيمان باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات من حديث أنس رضي الله تعالى عنه.

(1/71)


عرج به السَّمَاءِ وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ. وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بالْهِجْرَةِ1 إِلَى المدينة. والهجرة: الانتقال من الشِّرْكِ إِلَى بلد الإِسْلامِ, وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ, وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــ فقال الله سبحانه: هي خمس في العدد وهي خمسون في أم الكتاب. فمن حافظ على الصلوات الخمس وأداها, كتب الله له أجر خمسين. فالحسنة بعشر أمثالها. فنزل بذلك عليه الصلاة والسلام فاستقرت الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. صلاهما في مكة ثلاث سنين قبل أن يهاجر. 1. ثم هاجر إلى المدينة بعد ما اشتد عليه أذى قريش له ولأصحابه, فأذن الله له بالهجرة من مكة؛ لأجل أذى وظلم قريش, إلى المدينة إلى الأنصار وقد بايعوه 1 في موسم الحج على أن ينتقل إليهم وينصروه رضي الله عنهم وأرضاهم. فلما تمت البيعة وأذن __________ 1 انظر إلى الحديث الذي رواه البخاري 7/260,259 في كتاب مناقب الأنصار باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة برقم 3889 إلى 3893. وانظر ما قاله الحافظ في الفتح 7/261. وانظر البداية والنهاية لابن كثير المجلد الثاني الجزء الثالث صفحة 144.

(1/72)


وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . قال البغوي ـ رحمه الله ـ سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يُهَاجِرُوا, نَادَاهُمُ اللهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ, وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مغربها". فَلَمَّا اسْتَقَرَّ1 فِي الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإسلام, مثل ـــــــــــــــــــــــــــــ الله له بالهجرة هاجر إليهم. وكان بعض أصحابه قد هاجر قبل ذلك إلى الحبشة ومكثوا عند النجاشي مدة. ثم هاجر بقيتهم إلى المدينة فلما استقر بالمدينة جاء الذين في الحبشة إلى المدينة واستقر الجميع في المدينة والحمد لله. 1. فلما استقر في المدينة بعد الهجرة أمره الله ببقية شرائع الإسلام من الزكاة وصيام رمضان وحج البيت والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن المدينة صارت دار إسلام وهي العاصمة الأولى للمسلمين، فلهذا أمروا بهذه الأمور؛ لأنهم يتمكنون حينئذ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا من رحمه الله عز وجل أن أجل هذه الواجبات إلى أن هاجر إلى المدينة وكان أصل الزكاة

(1/73)


الزَّكَاةِ, وَالصَّوْمِ, وَالْحَجِّ, وَالأَذَانِ, وَالْجِهَادِ, وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ. أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ, وَتُوُفِّيَ1 , صلاة الله وسلامه عليه, ـــــــــــــــــــــــــــــ مشروعاً في مكة كما قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1, ولكن أنصباؤها ومصارفها وتفاصيل أحكامها, كل هذا صار في المدينة وهكذا صيام رمضان شرع في السنة الثانية من الهجرة, وهكذا الحج شرع في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة وأنزل الله فيه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 2, في سورة آل عمران وهي مدنية. وهكذا الجهاد أمر به في المدينة, وكان في أول الأمر يجاهد من جاهده, ويكف عمن كف عنه, ثم أمر بأن يبدأهم بالقتال, وأن يجاهد الكفار وإن لم يبدأوا, فيدعوهم إلى الله يرشدهم إليه, فإن أجابوا وإلا قاتلهم؛ حتى يستجيبوا للحق إلا أهل الكتاب فإنه يقبل منهم الجزية. وسن الله في المجوس 3 سنة أهل الكتاب. إما إسلام وأما جزية. وأما بقية الكفرة إما الإسلام وإما السيف مع القدرة. 1. وبعدما أكمل الله به الدين توفاه الله إليه بعد عشر سنين من الهجرة قال الله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ __________ 1 سورة الأنعام , آية: 141. 2 سورة آل عمران , آية: 97. 3 سبق تخريجه ص 33.

(1/74)


وَدِينُهُ بَاقٍ, وَهَذَا دِينُهُ: لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ, وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ. وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ, وَالشَّرُ الَّذِي حَذَّرَهَا عنه الشرك وجميع ما يكرهه اللهُ وَيَأْبَاهُ. بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً, وَافْتَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ, الْجِنِّ وَالإِنْسِ, وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وَكَمَّلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ, وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ30ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . والناس إذا ماتوا يبعثوا 1 , والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا ـــــــــــــــــــــــــــــ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1. وقال جل وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} 2. 1. والناس إذا ماتوا يبعثون كما قال تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} 3. __________ 1 سورة المائدة , آية: 3. 2 سورة الزمر , الآيتان: 31,30. 3 سورة النوح , الآيتان: 18,17.

(1/75)


خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} . وَبَعْدَ الْبَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــ وقال سبحانه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1. وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 2, فهم محاسبون ومجزيون يوم القيامة, ويعطون كتبهم بأيمانهم وشمائلهم فالسعيد يعطى كتابه بيمينه, والشقي يعطى كتابه بشماله. السعيد يرجح ميزانه والكافر يخف ميزانه, وأصحاب المعاصي على خطر فقد يرجح ميزانهم بالتوبة, أو بعفو الله, أو بالحسنات, وقد يخف ميزانهم فيكونوا من أهل النار, فيعذبون فيها ما شاء الله, ثم يخرجهم الله من النار بسبب موتهم على الإسلام. فالواجب على كل مكلف أن __________ 1 سورة التغابن , آية: 7. 2 سورة النجم , آية: 31.

(1/76)


لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . وَأَرْسَلَ اللهُ1 جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . ـــــــــــــــــــــــــــــ يحذر سيئات العمل, وأن يلزم التوبة والاستقامة؛ لأنه لا يدري متى يهجم عليه الأجل. فالحزم كل الحزم أن يأخذ المسلم بالعزيمة؛ ويجاهد نفسه حتى يستقيم على الحق, والتوبة النصوح من جميع الذنوب, حتى إذا هجم عليه الأجل إذا هو على خير عمل وعلى استقامة فيفوز بالسعادة والنجاة يوم القيامة. 1. والرسول صلى الله عليه وسلم مرسل إلى جميع الناس إلى الجن والإنس, كما قال تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1 وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 2 فهو خاتم الأنبياء ليس بعده نبي, وهكذا الرسل جميعاً أرسلوا إلى أممهم مبشرين ومنذرين, من أولهم إلى آخرهم, فأولهم نوح 3 بعثه لما وقع الشرك في قومه. وقبله آدم فإنه نبي رسول مكلف. أرسله الله إلى ذريته؛ __________ 1 سورة الأعراف , آية: 158. 2 سورة سبأ , آية: 28. 3 البخاري 11/425 في كتاب الرقائق باب صفة الجنة والنار برقم 6565. ومسلم 3/55 في كتاب الإيمان كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(1/77)


َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ ـ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــ ليعبدوا الله بالشريعة التي جاء بها أبوهم آدم عليه الصلاة والسلام, واستمروا على الإسلام والاستقامة, حتى وقع الشرك في قوم نوح, فلما وقع الشرك في قوم نوح, أرسل الله إليهم نوحاً عليه الصلاة والسلام, وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد وقوع الشرك. وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً. فعاد أرسل الله إليهم هودا, ثم أرسل الله صالحاً إلى قومه ثمود, ثم أرسل إبراهيم ولوطاً وشعيباً في زمان متقارب, ثم جاءت الرسل بعد ذلك تترى, ففيهم موسى وهارون وعيسى وأيوب وداود وسليمان, ثم ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام. 1. ثم ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام, وهو خاتمهم وآخرهم وأفضلهم عليه الصلاة والسلام, قال الله جل وعلا: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1, فقوله مبشرين يعني: يبشرون من أطاعهم بالجنة. ومنذرين: يعني ينذرون الناس من الشرك بالله, ومن النار والعذاب الأليم, إذا خالفوا أمر الله. وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله بشيراً ونذيراً, كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه __________ 1 سورة النساء , آية: 165.

(1/78)


إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً من نوح إلى محمد يأمرهم 1 ـــــــــــــــــــــــــــــ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 1, وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2, فالواجب على جميع الأمم اتباع رسلهم. فكل أمة يجب عليها أن تتبع رسولها, وتنقاد لما جاء به من الهدى, وقد وعدها الله على ذلك السعادة في الدنيا والآخرة, وأكثر الخلق قد عصوا رسلهم وخالفوا ما جاءت به الرسل قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 3,وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4 وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 5, وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 6. 1. وكل رسول يدعو أمته إلى توحيد الله, وطاعته, وترك الشرك به ومعصيته. قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} , اعبدوا الله يعني: أطيعوه ووحدوه واستقيموا على دينه, واجتنبوا الطاغوت. __________ 1 سورة الأحزاب , الآيتان: 46,45. 2 سورة الأحزاب , آية: 40. 3 سورة يوسف , آية: 103. 4 سورة الأنعام , آية 116. 5 سورة سبأ , آية: 13. 6 سورة سبأ , آية: 20.

(1/79)


بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ, وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ. والدليل قوله ـــــــــــــــــــــــــــــ 1. والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله وهو راض. وكل من حكم بغير ما أنزل الله أو دعا ذلك. والطاغوت هو الذي يتجاوز الحد إما بشركه وكفره, وإما بدعوته إلى ذلك, وشرهم ورأسهم إبليس لعنه الله. وهكذا كل من دعا إلى عبادة نفسه, أو رضي أن يعبد من دون الله, كفرعون والنمرود, أو ادعي شيئاً من علم الغيب, كالكهنة والعرافين والسحرة في الجاهلية وفي الإسلام. وكذلك من حكم بغير ما أنزل الله متعمداً, فهؤلاء رؤوس الطواغيت, وكل من جاوز الحد, وخرج عن طاعته الله, يسمى طاغوت. قال تَعَالَى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1 فالرشد: الإسلام وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم والغي: الكفر بالله والضلال. قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2. فيكفر بالطاغوت, يعني: يتبرأ منه, ويعتقد بطلانه, فيتبرأ من الشرك: {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} يعني: يصدق أن الله معبوده , وإلهه الحق , ويؤمن بالشريعة وبمحمد عليه الصلاة والسلام وينقاد لذلك. هذا هو المؤمن. ثم قال: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} . يعني:استعصم: {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} وهي لا إله إلا الله كلمة التوحيد. يعني: فقد __________ 1 سورة النحل , آية: 36. 2 سورة البقرة , آية: 256.

(1/80)


تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . ـــــــــــــــــــــــــــــ استمسك بالعروة التي لا انقطاع لها. بل من استمسك بها صادقاً, واستقام عليها, وصل إلى الجنة والكرامة، لأن لها حقوقاً, وهي توحيد الله, وطاعته واتباع شريعته. ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين, وهو رسول الله إلى جميع أهل الأرض. من الجن والإنس. فيجب على جميع المكلفين, طاعته واتباع شريعته. ولا يجوز لأحد الخروج عنها, وجميع الشرائع الماضية كلها نسخت بشريعته عليه الصلاة والسلام كما قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1 الآية وقال قبلها سبحانه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2 وقال سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 3, وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار " 4, أخرجه مسلم في صحيحه. والآيات __________ 1 سورة الأعراف , آية: 158. 2 سورة الأعراف , آية: 157. 3 سورة هود , آية: 17. 4 رواه مسلم 2/186 في كتاب الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة نبيينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/81)


وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ, وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ, وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ: إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ, وَمَنْ عُبِدَ وَهُوَ رَاضٍ, وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ, وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ, وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لا اله إِلا اللهُ, وفي الحديث: "رأس الأمر1 ـــــــــــــــــــــــــــــ والأحاديث في ذلك كثيرة, وقد أجمع أهل العلم رحمهم الله على أنه لا يسمع أحداً من هذه الأمة الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأن من اعتقد ذلك فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة. 1. وَفِي الْحَدِيثِ: "رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ, وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ, وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" 1. __________ 1 رواه أحمد 5/237,231 من حديث معاذ رضي الله عنه. ورواه الطبراني في الكبير 20/96. ورواه النسائي في الكبير 6/428 في كتاب التفسير باب " تتجافى جنوبهم عن المضاجع وقوله: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ". ورواه الترمذي 5/13 في كتاب الإيمان باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم 2616. ورواه ابن ماجة 2/1394 في كتاب الفتن باب كف اللسان في الفتنة برقم 3973.

(1/82)


الإِسْلامِ, وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ, وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سبيل الله". والله أعلم. ـــــــــــــــــــــــــــــ فعلى جميع المكلفين أن يوحدوا الله, ويعبدوه دون كل ما سواه, وأن يكفروا بالطاغوت, وينكروا عبادته, ويلتزموا بالتوحيد, واتباع شريعته سبحانه وتعالى, وتعظيم أمره ونهيه. ورأس الأمر يعني: رأس الدين هو الإسلام. يعني: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمداً رسول الله. فمن التزم بها دخل الإسلام, وعموده الصلاة وهي الركن الثاني وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين, ثم يلي ذلك الزكاة والصيام والحج وبقية أوامر الله. وذروة سنامه, الجهاد في سبيل الله، لأن به صيانة الدين وحمايته, وبه دعوة الناس إلى دين الله وإلزامهم بالحق. فهو ذروة سنامه، من جهة ما تضمنه من حماية الدين، والدعوة إلى الحق. والله أعلم. __________ ورواه البيهقي في السنن الكبرى9/20 في كتاب السير باب أصل فرض الجهاد, والحديث: لا تخلو طرقه من الضعف ولكن بجموعها يتقوى الحديث. وقد سألنا شيخنا عبد العزيز بن باز عن الحديث فقال: الحديث صحيح. رواه أحمد وغيره.

(1/83)