×
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام للشيخ عبد الله البسام - رحمه الله - من أنفع الشروح التي قامت على خدمة كتاب عمدة الأحكام، بأسلوب سهل يعين على أخذ المسائل من أدلتها الصحيحة، واستخراج ما يدل عليه الحديث من أحكام وآداب.

تيسير العلام شرح عمدة الأحكام

 تأليف : عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام

 النية وأحكامها

عَنْ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ أبي حَفْصِ " عُمَرَ بْنِ الخَطَاب " رَضيَ الله عَنْهُ قَال: سَمِعت رسُولَ الله صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّم يَقُول:

"إنَّمَا الأعْمَالُ بَالْنيَاتِ، وَإنَّمَا لِكل امرئ مَا نَوَى، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرتُهُ لِدُنيا يُصيبُهَا، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُه إلَى مَا هَاجَرَ إليهِ ".

غريب الحديث:

1- " إنما الأعمال بالنيات " كلمة [ إنما ]، تفيد الحصر، فهو هنا قصر موصُوف على صفة، وهو إثبات حكم الأعمال بالنيات، فهو في قوة [ ما الأعمال إلا بالنيات]   وينفى الحكم عما عداه.

2- " النية " لغة: القصد. ووقع بالإفراد في أكثر الروايات. قال البيضاوي النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر ا.هـ . وشرعا : العزم على فعل العبادة تقربا إلى الله تعالى.

3- " فمن كانت هجرته... الخ " مثال يقرر ويوضح القاعدة السابقة.

4- " فمن كانت هجرته " جملة شرطية.

5- "فهجرته إلى الله ورسوله " جواب الشرط، واتحد الشرط والجواب لأنهما على تقدير " من كانت هجرته إلى الله ورسوله - نية وقصداً- فهجرته إلى الله ورسوله- ثوابا وأجراً ".

المعنى الإجمالي:

هذا حديث عظيم وقاعدة جليلة من قواعد الإسلام هي القياس الصحيح لوزن الأعمال، من حيث القَبول وعدمه، ومن حيث كثرة الثواب وقلته.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم  يخبر أن مدار الأعمال على النياتْ فإن كانت النية صالحة، والعمل خالصا لوجه الله تعالى، فالعمل مقبول. وإن كانت غير ذلك، فالعمل مردود، فإن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم  مثلاَ يوضح هذه القاعدة الجليلة بالهجرة. فمن هاجر من بلاد الـشرك، ابتغاء ثواب الله ، وطلباً للقرب من النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم الشريعة، فهجرته في سبيل الله، والله يثيبه عليها. ومن كانت هجرته لغرض من أغراض الدنيا، فليس له عليها ثواب. وإن كانت إلى معصية، فعليه العقاب.

    والنية تمييز العبادة عن العادة ، فالغسل مثلا يقصد عن الجنابة ، فيكون عبادة ، ويراد للنظافة أو التبرد ، فيكون عادة .

وللنية في الشرع حالتان:

أحدها: الإخلاص في العمل لله وحده، هو المعنى الأسمى، وهذا يتحدث عنه علماء التوحيد، والسير، والسلوك.

الثاني: تمييز العبادات بعضها عن بعض، وهذا يتحدث عنه الفقهاء.

وهذا من الأحاديث الجوامع التي يجب الاعتناء بها وتفهمها، فالكتابة القليلة لا تؤتيه حقه . وقد افتتح به الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- صحيحه لدخوله في كل مسألة من مسائل العلم  وكل باب من أبوابه.

ما يؤخذ من الحديث:

1- إن مدار الأعمال على النيات، صحة، وفَساداً، وكمالا، ونقصا، وطاعة ومعصية فمن قصد بعمله الرياء أثم، ومن قصد بالجهاد مثلا إعلاء كلمة الله فقط كمل ثوابه. ومن قصد ذلك والغنيمة معه نقص من ثوابه. ومن قصد الغنيمة وحدها لم يأثم ولكنه لا يعطى أجر المجاهد. فالحديث  مسوق لبيان أن كل عمل، طاعة كان في الصورة أو معصية يختلف باختلاف النيات.

2- أن النية شرط أساسي في العمل، ولكن بلا غُلُوّ في استحضارها يفسد على المتعبد عبادته. فإن مجرد قصد العمل يكون نِيًة له بدون تكلف استحضارها وتحقيقها.

3- أن النية مَحلُّها القلب، واللفظ بها بدعة.

4- وجوب الحذر من الرياء والسمعة والعمل لأجل الدنيا، مادام أن شيئاً من ذلك يفسد العبادة.

5- وجوب الاعتناء بأعمال القلوب ومراقبتها.

6- أن الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، من أفضل العبادات إذا قصد بها وجه الله تعالى.

فائدة: ذكر ابن رجب أن العمل لغير الله على أقسام:

فتارة يكون رياء محضا لا يقصد به سوى مراءاة المخلوقين لتحصيل غرض دنيوي، هذا لا يكاد يصدر من مؤمن ، ولا شك في أنه يحبط العمل وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.  وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فإن النصوص  الصحيحة تدل على بطلانه وإن كان  اصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء، ودفعه صاحبه فإن ذلك لا يضره بغير خلاف، وقد اختلف العلماء من السلف في الاسترسال في الرياء الطارئ : هل يحبط العمل أو لا يضر فاعله ويجازى على أصل نيته؟ أهـ بتصرف.

الحديث الأول  

عَنْ أبي هريرة رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" لا يَقْبَلُ الله صَلاةَ أحَدكُمْ إذَا أحْدَثَ حَتَى يَتَوضًأ "  .

غريب الحديث:

1- " لا يقبل اللّه " بصيغة النفي، وهو أبلغ من النهي، لأنه يتضمن النهي، وزيادة نفى حقيقة الشيء.

2- " أحدث " أي حصل منه الحَدَث ، وهو الخارج من أحد السبيلين أو غيره من نواقض الوضوء. وفي الأصل: الحدث، الإيذاء.

3- " الحدث " وصف حكمي مقدر قيامه بالأعضاء، يمنع وجوده من صحة العبادة المشروط لها الطهارة.

المعنى الإجمالي :

الشارع الحكيم أرشد من أراد الصلاة، أن لا يدخل فيها إلا على حال حسنة وهيئة جميلة، لأنها الصلة الوثيقة بين الرب وعبده، وهى الطريق إِلى مناجاته، لذا أمره بالوضوء والطهارة فيها، وأخبره أنها مردودة غير مقبولة بغير ذلك.

ما يؤخذ من الحديث :

1- أن صلاة المحدث لا تقبل حتى يتطهر من الحدثين الأكبر والأصغر.

2- أن الحدث ناقض للوضوء ومبطل للصلاة، إن كان فيها.

3- المراد بعدم القبول هنا: عدم صحة الصلاة وعدم إجزائها.

4- الحديث يدل على أن الطهارة شرط لصحة الصلاة.

الحديث الثاني

عَنْ عَبْد الله بْن عَمْرو بْنِ الْعَاص، وَأبـي هُرَيرةَ، وَعَائِشَةَ رَضِى-اللّه تَعَالَى عَنْهم قالوا: قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وسَلَّمَ:  " وَيْلٌ لِلأَعْقابِ مِنَ النَّار[1]".

غريب الحديث:

" الويل " العذاب والهلاك. والويل: مصدر لا فعل له من لفظه.

" الأعقاب " جمع " عقب " وهو مؤخر القدم، والمراد أصحابها.

و (ألـ) في " الأعقاب " للعهد، أي الأعقاب التي لا ينالها الماء، وبهذا يستقيم الوعيد.

المعنى الإجمالي:

يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التهاون بأمر الوضوء والتقصير فيه، ويحث على الاعتناء بإتمامه.

ولما كان مؤخر الرجْل- غالبا- لا يصل إليه ماء الوضوء ، فيكون الخلل في الطهارة والصلاة منه، أخبر أن العذاب مُنْصبّ عليه وعلى صاحبه المتهاون في طهارته الشرعية.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب الاعتناء بأعضاء الوضوء ، وعدم الإخلال بشيء منها. وقد نص الحديث على القدمين وبقية الأعضاء مقيسة عليهما. مع وجود نصوص لها.

2- الوعيد الشديد للمخل في وضوئه.

3- أن الواجب في الرجلين الغسل في الوضوء ، وهو ما تضافرت عليه الأدلة الصحيحة، وإجماع الأمة، خلافا لشذوذ الشيعة الذين خالفوا به جماهير الأمة، وخالفوا به الأحاديث الثابتة في فعله وتعليمه صلى الله عليه وسلم للصحابة إياه، كما خالفوا القياس المستقيم من أن الغسل للرجلين أولى وأنقى من المسح، فهو أشد مناسبة وأقرب إلى المعنى.

الحديث الثالث

عَنْ أبى هريرة رَضىَ اللَه عَنْهُ: أن رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ قَالَ: " إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أنْفِهِ مَاءً ثم ليَسْتَنْثِرْ وَمَن اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ. وَإذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم  مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِل يَدَيْهِ قبْلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا فَي الإنَاءِ ثَلاثاً[2]، فَإن أحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه".

وفي لفظ لمسلم: "فَلْيَسْتَنْشقْ بِمِنْخَرَيْهِ من الماء ".

وفي لفظ: "مَنْ تَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْشِقْ ".

 الأحكام المتعلقة باستعمال الماء الدائم

عَنْ أبى هريرة رَضي الله عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسلَّمَ قَالَ: " لا يَبولَنَّ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجْرِى، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ ".

ولمسلم " لا يَغْتَسِلْ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُب ".

غريب الحديث :

1- "لا يبولن" : (لا) ناهية، والفعل مجزوم المحل بها، وحُرِّك بالفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة.

2- "الذي لا يجرى" : تفسير للدائم، وهو المستقر في مكانه كالغُدْرَان في البرية،أو الموارد.

3- "ثم يغتسل فيه" : برفع الفعل على المشهور، والجملة خبر لمبتدأ، تقديره: هو يغتسل منه.

وجملة المبتدأ والخبر محلها الجزم. عطفا على "لا يبولن".

4- "لا يغتسل" :  مجزوم لفظا بـ (لا) الناهية.

5- "وهو جنب" : الجملة في موضع نصب على الحال.

المعنى الإجمالي :

نهى النبي صلى الله عليه وسلم  عن البول في الماء الدائم، الذي لا يجرى، كالخزانات والصهاريج، والغدران في الفلوات، والموارد التي يستسقى منها الناس لئلا يلوثها عليهم ويكرهها. لأن هذه الفضلات القذرة سبب في انتشار الأمراض الفتاكة.

كما نهى عن الاغتسال بغمس الجسم أو بعضه في الماء الذي لا يجرى، حتى لا يكرهه ويوسخه على غيره، بل يتناول منه تناولا، وإذا كان المغتسل جنباً فالنهى أشد.

فإن كان الماء جاريا، فلا بأس من الاغتسال فيه والتبول، مع أن الأحسن تجنيبه البول لعدم الفائدة في ذلك وخشية التلويث، وضرر الغير.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء، هل النهى للتحريم أو الكراهية؟.

فذهب المالكية: إلى أنه مكروه.

وذهب الحنابلة والظاهرية: إلى أنه للتحريم.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه محرم في القليل، مكروه في الكثير.

وظاهر النهى، التحريم في القليل والكثير، لكن يخصص من ذلك المياه المستبحرة باتفاق العلماء.

واختلفوا في الماء الذي يبل فيه: هل هو باق على طهوريته أو تنجس؟

فإن كان متغيراً بالنجاسة، فإن الإجماع منعقد على نجاسته، قليلا كان أو كثيراً.

وإن كان غير متغير بالنجاسة وهـو كثير[3] فالإجماع أيضا على طهوريته .

وإن كان قليلا غير متغير بالنجاسة. فذهب أبو هريرة، وابن عباس، والحسن البصري، وابن المسيب والثوري، وداود، ومالك  والبخاري : إلى عدم تنجسه. وقد سرد البخاري عدة أحاديث ردا على منْ قال إنه نجس .

وذهب ابن عمر، ومجاهد والحنفية والشافعية والحنابلة: إلى أنه تنجس بمجرد ملاقاة النجاسة ولو لم يتغير، مادام قليلا، مستدلين بأدلة، منها حديث الباب، وكلها يمكن ردُّها.

واستدل الأولون بأدلة كثيرة.

منها: ما رواه أبو داود، والترمذي وحسنه " الماء طهور لا ينجسه شيء ". وأجابوا عن حديث الباب بأن النهى لتكريهه على السقاة والواردين لا لتنجيسه. والحق ما ذهب إليه الأولون، فإن مدار التنجس على التغير بالنجاسة، قل الماء أو كثر.

هذا هو اختيار شيخ الإسلام " ابن تيمية " رحمه الله .

ومن هذا نعلم أن الراجح أيضاً طهورية الماء المغتسل فيه من الجنابة، وإن قل، خلافا للمشهور من مذهبنا، ومذهب الشافعي، من أن الاغتسال يسلبه صفة الطهورية، ما دام قليلاً.

  ما يؤخذ من الحديث:

1- النًهْىُ عن البول في الماء الذي لا يجرى وتحريمه، وأولى بالتحريم التغوط سواء أكان قليلا أم كثيرا، دون المياه المستبحرة فإن ماءها لا يتنجس بمجرد الملاقاة، بل ينتفع به لحاجات كثيرة غير التطهر به من الأحداث.

2- النهى عن الاغتسال في الماء الدائم بالانغماس فيه، لاسيما الجنب ولو لم يبُلْ فيه كما في رواية مسلم، والمشروع أن يتناول منه تناولا.

3- جواز ذلك في الماء الجاري، والأحسن اجتنابه.

4- النهى عن كل شيء من شأنه الأذى والاعتداء.

5- جاء في بعض روايات الحديث " ثم يغتسل منه " وجاء في بعضها: " ثم يغتسل فيه " ومعنياهما مختلفان، إذ أن " في " ظرفية فتفيد الانغماس في الماء المتبول فيه، و" من " للتبعيض فتفيد معنى التناول منه. وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن رواية " فيه " تدل على معنى الانغماس بالنص وتمنع معنى التناول بالاستنباط، ورواية " منه " بعكس ذلك.

 حكم الإناء الذي شرب منه الكلب وولغ فيه

عَنْ أبي هريرة رضىَ اللّه عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صَلى الله عَلَيهِ وسَلُّمَ قالَ: "إذَا شَرِبَ الكَلْبُ في إِنَاءِ أحَدكم فْليَغسِلْهُ سَبْعاً" ولمسلم " أولاهُنَ بِالتَرابِ".

وله في حديث عبد الله بنِ مُغَفَل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في الإنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَا وَعَفرُوه الثًامِنَةَ بِالتراب" .

غريب الحديث:

1- "إذا ولغ" ومضارعه يلَغ بالفتح فيهما- شرب بطرف لسانه. وهو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع، فيحركه ولو لم يشرب. فالشرب أخص من الولوغ.

2- "عفروه" التعفير، التمريغ في العفر، وهو التراب.

3- "أولاهن" تأنيث الأول، والهاء ضمير المرات.

وجاء في بعض الروايات أولهن بلفظ المذكر لأن تأنيث المرة غير حقيقي.

المعنى الإجمالي:

لما كان الكلب من الحيوانات المستكرهة التي تحمل كثيراِ من الأقذار والأمراض، أمر الشارع الحكيم بغسل الإناء الذي ولغ فيه سبـع مرات، الأولى منهن مصحوبة بالتراب ليأتي الماء بعدها، فتحصل النظافة التامة من نجاسته وضرره.

اختلاف العلماء:

هناك خلافات للعلماء في أشياء.

منها : هل يجب التسبيع والتتريب؟

ولما كان القول الحق، هو ما يستفاد من هذا الحديث الصحيح الواضح، ضربنا

عن الإطالة بذكرها صفَحاً، لأنها لا تعتمد على أدلة صحيحة واضحة.

ما يؤخذ من الحديث :

1- التغليظ في نجاسة الكلب، لشدة قذارته. ولذا فإنه ينجس: إن لم تظهر فيه آثار النجاسة   وتفسيره يأتي قريبا إن شاء الله.

2- إن ولوغ الكلب في إناء، ومثله الأكل، ينجس الإناء. وينجس ما فضل منه.

3- وجوب غسل ما ولغ فيه سبع مرات.

4- وجوب استعمال التراب مرة، والأَولى أن يكون مع الأُولى ليأتي الماء بعدها. وتكون هي الثامنة المشار إليها في الرواية الأخرى. ولا فرق بين أن يطرح الماء على التراب أو التراب على الماء أو أن يؤخذ التراب المختلط بالماء، فيغسل به أما مسح موضع النجاسة بالتراب فلا يجزئ.

5- إن ما قام مقام التراب من المنقيات يعطى حكمه في ذلك لأنه ليس القصد للتراب وإنما القصد النظافة. وهو مذهب أحمد وقول للشافعي والمشهور في مذهبه تعيين التراب. وقواه ابن دقيق العيد بأن التراب جاء به النص، وهو أحد المطهرين، ولأن المعنى المستنبط إذا عاد على النص بالإبطال فهـو مردود. قال النووي : لا يقوم الأشنان ولا الصابون أو غيرهما مقام التراب على الأصح . قلت: وقد ظهر في البحوث العلمية الحديثة أنه يحصل من التراب إنقاء لهذه النجاسة  مالا يحصل من غيره وإن صـح هذا فإنه يظهر إحدى معجزات الشرع الشريف ولفظ- عفر- يُؤَيّد اختصاص التراب لأن العفر لغة هو: وجه الأرض والتراب.

6- عظمة هذه الشريعة المطهرة ، وأنها تزيل من حكيم خبير، وأن مؤُديها صلوات الله عليه لم ينطق عن الهوى ، وذلك أن بعض العلماء حار في حكمة هذا التغليظ في هذه النجاسة، مع أنه يوجد ما هو مثلها غلظة، ولم يشدد في التطهير منها، حتى قال فريق من العلماء: إن التطهير على هذه الكيفية من ولوغ الكلب تعبدي لا تعقل حكمته، حتى جاء الطب الحديث باكتشافاته ومكبراته. فأثبت أن في لعاب الكلب مكروبات وأمراضاً فتاكة، لا يزيلها الماء وحده ..

فسبحان العليم الخبير، وهنيئا للموقنين. وويلا للجاحدين.

7- ظاهر الحديث أنه عام في جميع الكلاب، أما الكلاب التي أذنت الـشارع باتخاذها، مثل كلاب الصيد والحراسة والماشية فقد قيل: إن إيجاب الغسل على ما يحصل منها فيه حرج، فالرخصة باتخاذها قرينة تقود إلى تخصيص التسبيع بغيرها.

 كيفية الوضوء وفضيلته كما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه

عن حُمْرانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَانَ، أنه رَأى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضوء فَأفرَغ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ فَغَسَلهُمَا ثَلاثَ مَرات، ثُمَّ أدْخَلَ يَميِنَهُ في الوَضُوءِ، ثم تمضْمَضَ وَاستَنْشَق واسثتَنْثَرَ، ثُم غَسَلَ وَجهَهُ ثَلاثَاً، وَيَدَيْهِ إلَىِ الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثاً، ثُّمَ مَسَحَ برأسه ثُم غَسَل كِلْتَا رجْلَيْهِ ثَلاثاً، ثُمَ قَالَ: رَأيتُ النبي صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توَضًأ نحْوَ وضوئي هذَا وَقَالَ: "من تَوَضًأ نَحْوَ وُضُوئي هذَا ثُمَّ صَلَى رَكْعَتَين لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ".

غريب الحديث:

1- "وَضوء" :  بفتح الواو. الماء الذي يتوضأ به. قال النووي: يقال: "الوضوء والطهور -بضم أولهما- إذا أريد الفعل الذي هو المصدر وبفتح أولهما، إذا أريد الماء الذي يتطهر به". وأصل الوضوء من الوضاءة، وهى الحسن والنظافة فسمي وضوء الصلاة وضوءاً لأنه ينظف صاحبه.

2- "فأفرغ" : قلب من ماء الإناء كل يديه.

3- "لا يحدِّث فيهما نفسه" : حديث النفس، هو الوساوس والخطرات. والمراد به هنا ما كان في شؤون الدنيا.

يعنى، فلا يسترسل في ذلك ، وإلا فالأفكار يتعذر السلامة منها.

4- "إلى المرفقين" : (إلى) بمعنى (مع) يعنى مع المرفقين.

5- "ثم" : لم يقصد بها هنا التراخي كما هو الأصل في معناها، وإنما قصد بها مجرد الترتيب.  وقد أشار ابن هشام في المغنى والرضي في شرح الكافية إلى أنها قد تأتي لمجرد الترتيب.

6- "نحو وضوئي" : جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث "مثل وضوئي هذا" ومعنى "نحو" و"مثل" متفاوت: فإن لفظة "مثل"  تقتضي ظاهر المساواة من كل وجه، أما  "نحو" فما تعطى معنى المثلية إلا مجازا. والمجاز هنا متعين، لارتباط الثواب بالمماثلة.

المعنى الإجمالي:

اشتمل هذا الحديث العظيم على الصفة الكاملة لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن عثمان -رضى الله عنه- من حسن تعليمه وتفهيمه علمهم صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بطريق عملية، ليكون أبلغ تفهُّماً، وأتَمَّ تصوُّراً في أذهانهم. فإنه دعا بإناء فيه ماء، ولئلا يلوثه ، لم يغمس يده فيه. وإنما صب على يديه ثلاث مرات حتى نظفتا، بعد ذلك أدخل يده اليمنى في الإناء، وأخذ بها ماء تمضمض منه واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يديه مع المرفقين ثلاثا، ثم مسح جميع رأسه مرة واحدة، ثم غسل رجليه مع الكعبين ثلاثا.

فلما فرع رضى الله عنه من هذا التطبيق ، أخبرهم أنه رأى النبي  صلى الله عليه وسلم  توضأ مثل هذا الوضوء.

ولما فرغ صلى الله عليه وسلم   من هذا الوضوء الكامل، أخبرهم أنه من توضأ مثل وضوئه، وصلى ركعتين، مُحْضراً قلبه بين يدي ربه عز وجل فيهما، فإنه- بفضله تعالى يجازيه على هذا الوضوء الكامل، وهذه الصلاة الخالصة بغفران ما تقدم  من ذنبه.

اختلاف العلماء:

ذهب الأئمة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وسفيان ، وغيرهم، إلى أن الاستنشاق مستحب في الوضوء لا واجب.

والمشهور عند الإمام "أحمد" الوجوب، فلا يصح الوضوء بدونه وهو مذهب أبى ليلى، وإسحاق، وغيرهما.

استدل الأولونْ على قولهم بحديث: " عشر من سنن المرسلين " ومنها الاستنشاق، والسنة غير واجب واستدل الموجبون بقوله تعالى: { فاغْسِلُوا وجُوهَكُم } والأنف من الوجه، وبالأحاديث الكثيرة  الصحيحة من صفة فعله صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك.

وأجابوا عن دليل غير الموجبين بأن المراد بالسنة في الحديث الطريقة، لأن تسمية السنة غير الواجب اصطلاَح من الفقهاء المتأخرين.

ولهذا ورد في كثير من الأحاديث ومنها [ عشر من الفطرة ].

ولاشك في صحة المذهب الأخير لقوة أدلته، وعدم ما يعارضها- في علمي- والله أعلم.

وقد اتفق العلماء على وجوب مسح الرأس ، واتفقوا أيضا على استحباب مسح جميعه، ولكن اختلفوا، هل يجزئ مسح بعضه أو لابد من مسحه كله؟.

فذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، إلى  جواز الاقتصار على بعضه، على اختلافهم- في القدر المجزئ  منه.

وذهب مالك، وأحمد: إلى وجوب استيعابه كله.

استدل الأولون بقوله تعالى: { وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكم } على أن الباء للتبعيض، وبما رواه مسلم عن المغيرة بلفظ : "أنه صلى الله عليه وسلم  تَوَضَأ فَمَسَحَ بِنَاصيَتهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ ".

واستدل الموجبون لمسحه كله بأحاديث كثيرة، كلها تصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم   ، منها حديث الباب، ومنها ما رواه الجماعة: " مَسِحَ رأسه بيدَيْهِ فَاْقْبَلَ بِهِمَا وَأدْبِرَ، بَدَأ بُمَقدَّم رَأسِهِ، ثُمً ذَهَبَ بِهِمَا إِلى قَفاه، ثُم ردهما إِلَى المَكَانِ الذي بَدَأ مِنْهُ ".

وأجابوا عن أدلة المجيزين لمسح بعضه، بأن "الباء" لم ترد في اللغة للتبعيض وإنما معناها في الآية، الإلصاق. أي: ألصقوا المسح برؤوسكم والإلصاق هو المعنى الحقيقي للباء وقد سئل نفطويه وابن دريد عن معنى التبعيض في الباء فلم يعرفاه. وقال ابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض فقد جاء عن أهل العربية بما لا يعرفونه.

قال ابن القيم : "لم يصح في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأس البتة".

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية غسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما في ماء الوضوء عند التوضؤ.

2- التيامن في تناول ماء الوضوء لغسل الأعضاء.

3- مشروعية التمضمض، والاستنشاق ، والاستنثار على هذا الترتيب . ولا خلاف في مشروعيتهما، وإنما الخلاف في وجوبهما، وتقدم أنه هو الصحيح.

4- غسل الوجه ثلاثا، وحده: من منابت شعر الرأس إلى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا. وكذلك يثلث في المضمضة والاستنشاق، لأن الأنف والفم من مسمى الوجه. فالوجه عند العرب. ما حصلت به المواجهة.

5- غسل اليدين مع المرفقين ثلاثاً.

 6- مسح جميع الرأسْ مرة واحدة. يقبل بيديه عليه، ثم يدبر بهما.

7- غسل الرجلين مع الكعبين ثلاثا.

8- وجوب الترتيب في ذلك، لإدخال الشارع الممسوح ، وهو الرأس، بين المغسولات، ملاحظة للترتيب بين هذه الأعضاء.

9- إن هذه الصفة  هي صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة.

10- مشروعية الصلاة بعد الوضوء.

11- إن سبب تمام الصلاة وكمالها، حضور القلب بين يدي الله تعالى وفيه الترغيب بالإخلاص، والتحذير من عدم قبول الصلاة ممن لهى فيها بأمور الدنيا،ومن طرأت عليه الخواطر الدنيوية وهو في الصلاة فطردها يرجى له حصول هذا الثواب.

12- فضيلة الوضوء الكاملة ، إنه سبب لغفران الذنوب.

13- الثواب الموعود به يترتب على مجموع الأمرين، وهما الوضوء على النحو المذكور، وصلاة ركعتين بعده على الصفة المذكورة ولا يترتب على أحدهما فقط، إلا بدليل خارجي. وقد خص العلماء الغفران الذي هنا بصغائر الذنوب، أما الكبائر فلابد لغفرانها من التوبة منها. قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}.

 كيفية أخرى للوضوء مروي عن عمر بن يحيى المازني

 عن عَمْرِو بن يَحْيىَ  اْلمازِني عَنْ أبِيهِ قَال : شَهِدْتُ عمرْو بن أبي  اْلحَسَنِ سَألَ عَبْدَ اللّه بْنَ زيد عَن وُضُوءِ النبي صلى الله عليه وسلم ، فَدَعَاَ بِتَوْر[4] مِنْ مَاءٍ فتَوَضأ لَهُم وُضُوءَ النبي صلى الله عليه وسلم. فَأكفأ عَلَى يَدَيْهِ مَنِ التَوْرِ فَغسَل يَدَيْه ثَلاثا، ثُمَّ أدْخَل يَدَهُ في التَّور فَمضْمضَ وَاستَنْشَقَ واستَنْثَرَ ثَلاثاً بثَلاث غرْفَاتِ، ثُمَّ أدْخل يدهِ فِي التَّوْر فغَسَل وجْهَهِ ثلاثا ثمَّ أدْخَلَ يَدَه فَغَسَلهُمَا مرتين إلى المرْفقيْن ، ثُمَّ أدْخَلَ يَدَيْهِ فَمَسَحَ بهما رَأسَهُ فَأقَبَلَ بهمَا، وأدْبَرَ مَرّة وَاحِدَة، ثم غَسَلَ رجْلَيْهِ.

وفي رواية " بَدَأ بِمُقَدَّم رَأسِهِ حَتًى ذَهبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثمَ ردهما حَتَى رجع إِلَى المَكَانِ الذِي بَدَأ مِنْهُ ".

وفي رواية "أتَانَا[5] ر[6]َسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأخرَجنا لَه مَاءً في تور مِن صُفْر ". متفق عليه. " التور " شِبْهُ الطَّست.

  غريب الحديث:

1- "بتور من ماء" : بالمثناة الطست، وهو الإناء الصغير. قال الزمخشرى: وهو مذكر عند أهل اللغة.

2- "فأكفأ على يديه" : أمال وصب على يديه وفى بعض الروايات " على يده " قال ابن حجر: تحمل رواية الإفراد على إرادة الجنس .

3- "من صُفر" : بضم الصاد وسكون الفاء، نوع من النحاس.

4- "إلى المرفقين مرتين" : قال الصنعاني: كذا في نسخة العمدة لفظ " مرتين " ولفظ البخاري في هذا الحديث " مرتين مرتين" وكذا في مسلم مكررا ولم ينبه الزركشي إلى هذا.

  المعنى الإجمالي:

هذا الحديث يعرف معناه مما تقدم في شرح حديث عثمان، لأن كلا الحديثين يصف الوضوء الكامل للنبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه يوجد في هذا الحديث زيادة فوائد على الحديث السابق نجملها بما يلي:

1- صرح هنا بأن المضمضة والاستنشاق كانتا ثلاثا ثلاثا من ثلاث غرفات.

2- في الحديث السابق ذكر أن غسل اليدين كان ثلاثا، وفى هذا الحديث ذكره مرتين فقط

3- قوله: " ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا " إفراد اليد رواية مسلم وأكثر روايات البخاري. قال النووي بعد ذكره أحاديث الروايتين. هي دالة على أن ذلك سنة، ولكن المشهور الذي قطع به الجمهور أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعا لكونه أسهل وأقرب إلى الإسباغ.

4- قال في الحديث السابق: " ثم مسح برأسه " وهذا التعبير يمكن تأويله ببعض الرأس كما أولت الآية { وامْسَحُوا برؤوسِكُم }.

وفى هذا الحديث صرح بمسحه كله، وفَصل كيفية المسح، والشرع يبين بعضه بعضاً، فدل على وجوب مسحه كله كما تقدم.

5- في الحديثين يذكر عند المضمضة والاستنشاق أنه يدخل يداً واحدة.

وفى هذا الحديث، ذكر أنه أدخل يديه عند غسلهما ومسح الرأس بيديه، أقبل بهما وأدبر مرة واحدة. قال أبو داود: أحاديث الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة. قال ابن المنذر: "إن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم  في المسح مرة واحدة.

6- الحديث صرح بغسل الرجلين وهنا لم يذكره، وغسلهما من الفروض المتفق عليها، فلا يكون في ترك ذكرهما هنا، ما يدل على عدم وجوب غسلهما.

7- يؤخذ من هذا، جواز مخالفة أعضاء الوضوء بتفضيل بعضها على بعض،وأن التثليث هو الصفة الكاملة وما دونها يجزئ كما صحت بذلك الأحاديث.

8- اختلف العلماء في البداءة بالمسح فهي من المقدم إلى المؤخر عند ابن دقيق العيد والصنعاني . وفهم بعضهم من قوله :" فأقبل بهما وأدبر "  أن المسح من مؤخر الرأس إلى مقدمه. ثم يعاد باليدين إلى قفا الرأس.

 استحباب التيمن في الأمور الشريفة المستطابة

عَنْ عَائِشَةَ رضي اللّه عَنْهَا قَالَتْ: " كَاَن رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُعْجبُهُ التَيمُّن في تَنَعّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأنِهِ كُلهِ ".

غريب الحديث:

1- "يعجبه التيمن" : يفضل تقديم الأيمن على الأيسر. قال الصنعانى: كل فعل يحبه الله أو رسوله، فهو يدل على مشروعيته للشركة بين الإيجاب والندب.

 2- "في تنعله" : لبس نعله.

3- "وترجله" : تسريح شعر رأسه ولحيته بالمشط.

4- "وطهوره" : بضم الطاء، التطهر. ويشمل الوضوء والغسل وإزالة النجاسة.

5- "وفى شأنه كله" : من الأشياء المستطابة كهذه الأمثلة المذكورة. قال الشيخ تقي الدين: "(وفي شأنه كله): عام مخصوص بمثل دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما مما يبدأ فيه باليسار".

المعنى الإجمالي:

من فضل أمهات المؤمنين رضي الله عهن، لاسيما الحافظة العالمة الصديقة بنت الصديق، أنهن روين للأمة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم  ، لاسيما الأفعال المنزلية، التي لا يطلع عليها غير أهل بيته، رَوَينَ علماً كثيراً.

فهنا "عائشة" تخبرنا عن عادة النبي صلى الله عليه وسلم المحببة إليه، وهى تقديم الأيمن في ليس نعله، ومشط شعره ، وتسريحه، وتطهره من الأحداث، وفى جميع أموره، التي من نوع ما ذكر، كلبس القميص والسراويل، والنوم، والأكل والشرب ونحو ذلك.

كل هذا من باب التفاؤل الحسن وتشـريف اليمين على اليسار.

وأما الأشياء المستقذرة فالأحسن أن تقدم فيها اليسار.

ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء باليمين، ونهى عن مس الذكر باليمين، لأنها للطيبات، واليسار لما سوى ذلك.

ما يؤخذ من الحديث:

1- إن تقديم اليمين للأشياء الطيبة هو الأفضل شرعاً وعقلا وطِبُّا. قال النووي: "قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين، في كل ما كان من باب التكريم والتزين وما كان بضدها استحب فيه التياسر".

2- إن جعل اليسار للأشياء المستقذرة، هو الأليق شرعا وعقلا.

3- إن الشرع الشريف جاء لإصلاح الناس وتهذيبهم ووقايتهم من الأضرار.

4- أن الأفضل في تقديم الوضوء ميامن الأعضاء على مياسرها. قال النووي: "أجمع العلماء على أن تقديم اليمنى في الوضوء سنة، من خالفهما فاته الفضل وتم وضوءه". قال في المغنى: "لا يعلم في عدم الوجوب خلاف".

فضل إسباغ الوضوء وما يترتب على ذلك من امتياز هذه الأمة يوم القيامة على سائر الأمم

عَنْ نُعَيْمِ الْمُجْمِرِ عَنْ أبيِ هريرة رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَهُ قَالَ: "إنَّ أمتي يُدْعَون يومَ القيَامةِ غُرُّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثارِ الْوُضُوءِ، فَمن استطَاَعَ مِنْكُمْ أن يُطِيلَ غرَّتَهُ[7] فَلْيَفْعَلْ.

وفي لفظ آخر: رَأيْتُ أبَا هُريرةَ يتوضأ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيهِ حَتى كَادَ يَبْلُغُ المَنْكِبَينِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْن، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم   يَقُولُ: " إن أمتي يُدْعَوْنَ يَوْم القِيَامَةِ غرا مُحَجلِين من آثار الوُضُوءِ، فمَنِ اسْتَطَاَعَ مِنْكُمْ أنْ يُطِيل غرته وَتَحْجيلَهُ فَلْيَفْعَل ".

 وفي لفظ لمسلم: سَمِعْتُ خليلي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " تبلغ الحِلْيَةُ من الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ ".

غريب الحديث:

1- "يدعون" : مبنى للمجهول، ينادَوْن نداء تشريف وتكريم.

2- "غرّاً" : بضم الغين وتشديد الراء، جمع " أغر " أصلها لمعة بيضاء في جبهة الفرس، فأطلقت على نور وجوههم.

3- "محجلين " : من " التحجيل " وهو بياض يكون في قوائم الفرس، والمراد به هنا: النور الكائن في هذه الأعضاء يوم القيامة، تشبيها بتحجيل الفرس.

 4- "الوضوء" : بضم الواو هو الفعل .

5- "من آثار الوضوء" : علهّ للغرة، والتحجيل.

المعنى الإجمالي :

يبشر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأن الله سبحانه وتعالى يخصهم بعلامة فضل وشرف : يومَ القيامة، من بين الأمم، حيث ينادون فيأتون على رؤوس الخلائق تتلألأ وجوههم وأيديهم وأرجلهم بالنور، وذلك أثر من آثار هذه العبادة العظيمة، وهي الضوء الذي كرروه على هذه الأعضاء الشريفة ابتغاء مرضاة  الله، وطلبا لثوابه، فكان جزاؤهم هذه المحمدة العظيمة الخاصة.

ثم يقول أبو هريرة: "من قدر على إطالة هذه الغرّة فليفعل"، لأنه كلما طال مكان الغسل من العضو طالت الغرة والتحجيل، لأن حلية النور تبلغ ما بلغ ماء الوضوء.

الخلاف في إطالة الغرة:

اختلف العلماء في مجاوزة حد الفرض الوجه واليدين والرجلين للوضوء. فذهب الجمهور إلى استحباب ذلك، عملا بهذا الحديث، على اختلاف بينهم في قدر حَدَّ المستحب.

وذهب مالك ورواية عن أحمد، إلى عدم استحباب مجاوزة محل الفرض، واختاره شيخ الإسلام " ابن تيمية "، و" ابن القيم "، وشيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وأيدوا رَأيَهُم بما يأتي :

1- مجاوزة محل الفرض، على أنها عبادة، دعوى تحتاج إلى دليل.

والحديث الذي معنا لا يدل عليها، وإنما يدل على نورَ أعضاء الوضوء يوم القيامة.

وعمل أبي هريرة فَهْمْ له وحده من الحديث، ولا يصار إلى فهمه مع المعارض الراجح.

أما قوله: " فمن استطاع... الخ " فرجحوا أنها مدرجة من كلام أبي هريرة، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

2- لو سلمنا بهذا لاقتضى أن نتجاوز الوجه إلى شعر الرأس، وهو لا يسمى غرة، فيكون متناقضاً.

3- لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فهم هذا الفهم وتجاوز بوضوئه محل الفرض، بل نقل عن أبي هريرة أنه كان يستتر خشية من استغراب الناس لفعله. 

4- إن كل الواصفين لوضوء النبي   صلى الله عليه وسلم لم يذكروا إلا أنه يغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، وما كان ليترك الفاضل في كل مرة من وضوئه. وقال في الفتح: لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روي هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه.

5- الآية الكريمة تحدد محل الفرض بالمرفقين والكعبين، وهى من أواخر القرآن نزولا وإليك نص كلام "ابن القيم" في كتابه  حادي الأرواح، قال: "أخرجا في الصحيحين والسياق لـ "مسلم" عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى يبلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال يا بني فروخ [8] أنتم ههنا؟ لو علمت أنكم ههنا ما توضأت هذا الوضوء. سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم  يقول : "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".

وقد احتج بهذا من يرى استحباب غسل العضـد وإطالته. وتطويل التحجيل، وممن استحبه بعض الحنفية والشافعية والحنابلة وقد اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على غسل الوجه والمرفقين والكعبين،  ثم قال  : " فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم فهذا يرد قولهم ".

ولذا فإن الصحيح أنه لا يستحب وهو قول أهل المدينة، وورد فيه عن أحمد روايتان.

والحديث لا يدل على الإطالة، فإن الحلية إنما تكون زينة في الساعد والمعصم، لا في العضد والكتف.

وأما قوله: " فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " فهذه الزيادة مدرجة في الحديث من  كلام أبي هريرة لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم   بَين ذلك غير واحد من الحفاظ.

وفي مـسند الإمام أحمد في هذا الحديث، قال نعيم: فلا أدرى قوله : " من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو شيء قاله أبو هريرة من عنده.

وكان شيخنا[9]  [10]يقول: هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الغرة لا تكون في اليد، ولا تكون إلا في الوجه، وإطالته غير ممكنة، إذ تدخل في الرأس فلا تسمى تلك غرة. انتهىكلامه رحمه الله.

 بَـاب دخـول الخـلاءَ والاستِطَـابـة

هذا الباب يذكر فيه آداب دخول الخلاء، والجلوس فيه، والخروج منه، كما يذكر فيه كيفية الاستطابة من الأنجاس في المخرجين بحجر وما يقوم مقامه والتحرز منها ، وهذا من أبواب كتاب الطهارة المذكور سابقا.

الحديث الأول

عن أنس بن مالك  رَضي الله عَنْهُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ قَاَلَ: "اللهُمَّ إني أعُوذُ بِك من الْخُبثِ والْخَبائثِ".

الخبث -بضم الخاء والباء- جمع (خبيث)  " والخبائث " جمع خبيثة.

استعاذ من ذُكران الشياطين وإناثهم.

 غريب الحديث: 1- "إذا دخل الخلاء" : يعنى إذا أراد الدخول كقوله تعالى : { فَإذَا قرأتَ القُرْآنَ فَاستَعِذ بَالله منَ الشيْطَان الرجِيم } . يعنى: فإذا أردت قراءة القرآن.

وكما صرح البخاري في " الأدب المفرد " بهذا حيث روى عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم   إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: وذكر حديث الباب.

2- "الخلاء" : بالمد، المكان الخالي. وهنا، المكان المقصود والمعدّ لقضاء الحاجة فإن قصد فضاء كصحراء لقضاء حاجته فلا حاجة إلى تأويل الدخول بإرادة الدخول.

3- "الخبث والخبائث" : الخبث، ضبط بضم الخاء والباء كما ذكر المصنف ومعناه ذكور الشـياطين، وضبطه جماعة بإسكان الباء ومعناه على هذا يكون الشر، وهو معنى جامع حيث قد استعاذ من الـشر وأهله، وهم الخبائث، فينبغي للقائل مراعاة هذا المعنى العام.

المعنى الإجمالي:

أنس بن مالك المتشرف بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم  يذكر لنا في هذا الحديث أدب النبي صلى الله عليه وسلم  حينِ قضاء حاجته، وهو أنه صلى الله عليه وسلم  -من كثرة التجائه إلى ربه- لا يدع ذكره والاستعانة به على أية حال.

فهو صلى الله عليه وسلم إذا أراد دخول المكان الذي سيقضي فيه حاجته، استعاذ بالله، والتجأ إليه أن يقيه من الشر الذي منه النجاسة، وأن يعصمه من الخبائث، وهم الشياطين الذين يحاولون في كل حال أن يفسدوا على المسلم أمر دينه وعبادته.

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم  وهو المحفوف بالعصمة- يخاف من الـشر وأهله، فجدير بنا أن يكون خوفنا أشد  وأن نأخذ بالاحتياط لديننا من عدونا.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب هذا الدعاء عند إرادة دخول الخلاء، ليأمن من الشياطين الذين يحاولون إفساد صلاته.

2- إن من أذى الشياطين أنهم يسببِون التنجس لتفسد صلاة العبد فيستعيذ منهم، ليتقي شرهم.

3- وجوب اجتناب النجاسـات، وعمل الأسباب المنجية منها . فقد صح أن عدم التحرز من البول من أسباب عذاب القبر.

الحديث الثاني

عَنْ أبي أيّوبَ الأنصاري رَضِي الله عَنْهُ قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِذا أردتمُ الغَائِطَ فَلا تَستقْبِلوا القِبلَةَ بِغَاِئطٍ وَلا بَوْل وَلا تسْتدْبِرُوهَا وَلكنْ شَرقوا أوْ غَربُوا". قال أبو أيوب: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل"

 غريب الحديث: 1- "الغائط" : المطمئن من الأرض، وكانوا ينتابونه لقضاء الحاجة، فكنوا به عن الحدث نفسه.

2- "والمراحيض" : جمع مرحاض وهو المغتسل، وقد كنوا به أيضا عن موضع قضاء الحاجة.

3- "ولكن شرقوا أو غربوا" : اتجهوا نحو المشرق أو المغرب.

وهذا بالنسبة لأهل المدينة ومن في سَمْتهم، ممن لا يستقبلون القبلة ولا يستدبرونها إذا شرقوا أو غربوا.

المعنى الإجمالي:

يرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء من آداب قضاء الحاجة بأن لا يستقبلوا القبلة، وهى الكعبة المشرفة، ولا يستدبروها حال قضاء الحاجة لأنها قبلة الصلاة، وموضع التكريم والتقديس، وعليهم أن ينحرفوا عنها قِبَلَ المشرق أو المغرب إذا كان التشريق أو التغريب ليس موجَّها إليها، كقبلة أهل المدينة.

ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أسرع الناس قبولا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي هو الحق، ذكر أبو أيوب: أنهم لما قدموا الشام إثر الفتح وجدوا فيها المراحيض المعدة لقضاء الحاجة، قد بنيت متجهة إلى الكعبة، فكانوا ينحرفون عن القبلة، ولكن قد يقع منهم السهو فيستقبلون الكعبة، فإذا فطنوا، انحرفوا عنها، وسألوا الله الغفران عما بدر منهم سهواً.

ما يؤخذ من الحديث:

1- النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، حال قضاء الحاجة.

2- الأمر بالانحراف عن القبلة في تلك الحال.

3- إن أوامر الشرع ونواهيه تكون عامة لجميع الأمة، وهذا هو الأصل. وقد تكون خاصة لبعض الأمة، ومنها هذا الأمر فإن قوله: "ولكن شرقوا أو غربوا" هو أمر بالنسبة لأهل المدينة ومن هو في جهتهم، ممن إذا شرقوا أو غربوا لا يستقبلون القبلة.

4- الحكمة في ذلك تعظيم الكعبة المشرفة واحترامها. فقد جاء في حديث مرفوع "إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة اللَه عز وجل ولا يستقبل القبلة".

5- المراد بالاستغفار هنا : الاستغفار القلبي لا اللساني، لأن ذكر الله باللسان في حال كشف العورة وقضاء الحاجة ممنوع.

الحديث الثالث

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: رَقيِتُ[11] ي[12]َوْماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقْضى حَاجَتَهُ مُسْتَقْبلَ الشَّام مُسْتَدْبرَ الكَعْبَةِ.

المعنى الإجمالي :

ذكر ابن عمر رضي الله عنه: أنه جاء يوماً إلى بيت أخته حفصة، زوج النبي  صلى الله عليه وسلم، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم، يقضى حاجته وهو متَجه نحو الـشام، ومستدبر القبلة.

اختلاف العلماء والتوفيق بين الحديثين:

اختلف العلماء في حكمٍ استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة.

فذهب إلى التحريم مطلقا، راوي الحديث أبو أيوب، ومجاهد، والنخعي، والثوري. ونصر هذا القول "ابن حزم" وأبطل سواه من الأقوال في كتابه المحلى، وهو اختيار شيخ الإسلام "ابن تيمية" و"ابن القيم" وقواه : ورد غيره من الأقوال في كتابيه . "زاد المعاد" و"تهذيب السنن" واحتجوا بالأحاديث الصحيحة الواردة في النهى المطلق عن ذلك، ومنها حديث أبى أيوب هذا الذي معنا.

وذهب إلى جوازه مطلقاً، عروة بن الزبير، وربيعة، وداود الظاهري، محتجين بأحاديث، منها حديث ابن عمر الذي معنا.

وذهب الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد،  وإسحاق وهو مروي عن عبد الله بن عمر، والشعبي: إلى التفصيل في ذلك.

فيحرمونه في الفضاء، ويبيحونه في البناء ونحوه.

فهذا هو المذهب الحق الذي تجتمع فيه الأدلة الشرعية الصحيحة  الواضحة  فإن التحريم مطلقاً، يبطل العمل بجانب من الأحاديث، والإباحة مطلقا كذلك. والتفصيل يجمع بين الأدلة، ويعملها كلها، وهذا هو الحق. فإنه مهما أمكن الجمع بين النصوص، وجب المصير إليه قبل كل شيء وهناك قول رابع لا يقل عن هذا قوة وهو القول بالكراهة لا التحريم قال الصنعاني : لابد من التوفيق بين الأحاديث بحمل النهى على الكراهة لا التحريم، وهذا وإن كان خلافا لأصل النهي. إلا أن قرينة إرادته فعله صلى الله عليه وسلم  بخلافه للتشـريع وبيان الجواز. وحمل أحاديث الباب على هذا هو الأقرب عندي. وقد ذهب إليه جماعة وبهذا يزول تعارض أحاديث الباب.

قلت: وعلى كل ينبغي الانحـراف عن القبلة في البنـاء أيضـا، اتقاء للأحاديث الناهية في ذلك، ولما فيه من الخلاف القويِّ الذي نصره هؤلاء المحققون .

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز استدبار الكعبة عند قضاء الحاجة، ويفيد بأنه في البنيان.

2- جواز استقبال بيت المقدس عند قضاء الحاجة خلافا لمن كرهه.

الحديث الرابع

عنْ أنَس بْنِ مَالِـكٍ رَضِيَ اللّه عَنْـهُ، أنَّـهُ قَالَ: "كَانَ رَسول الله  يَدْخُلُ الخلاء فَأحْمِلُ أنَا وَغُلام نَحوِى إدَاوَةً مِنْ ماء وَعَنَزَةَ فَيَسْتَنْجِي بِاْلمَاء".

العنزة: الحربة الصغيرة.

غريب الحديث:

1- "وغلام نحوي" : الغلام،  هو المميز حتى يبلغ و"نحوي" يعنى هو مقارب لي في السن.

2- "إداوة من ماء" : بكسر الهمزة، هي الإِناء الصغير من الجلد يجـعل للماء.

3- "العَنَزة" : عصا أقصر من الرمح لها سنان.

المعنى الإجمالي:

يذكر خادم النبي صلى الله عليه وسلم  " أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يدخل موضع قضاء الحاجة كان يجيء هو وغلام معه بطهوره،. الذي يقطع به الأذى، وهـو ماء في جلد صغـير، وكذلك يأتيان بما يستتر به عن نظر النـاس. وهو عصـا قصـيرة في طرفها حديدة يغرزها في الأرض ويجعل عليها شيئا يقيه من نظر المارين.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز الاقتصار على الماء في الاستنجاء، وهو أفضل من الاقتصار على الحجارة، لأن الماء أنقى، والأفضل الجمع بين الحجارة والماء، فيقدم الحجارة، ثم يتبعها الماء، ليحصل الإنقاء الكامل. قال النووي: فالذي عليه جماعة السلف والخلف، وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجارة فيستعمل الحجر أولا  لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء. فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز الاقتصار على أيهما شاء، سواء وجد الآخر أو لم يجده، فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل من الحجر.

2- استعداد المسلم بطهوره عند قضاء الحاجة، لئلا يُحْوِجُه إلى القيام فيتلوث.

3- تَحَفظُهُ عن أن ينظر إليه أحد، لأن النظر إلى العورة محرم. فكان يركز العنزة في الأرض وينصب عليها الثوب الساتر.

4- جواز استخدام الصغار، وإن كانوا أحراراً.

الحديث الخامس

عن أبي قَتَادة الْحَارِثِ بْنِ ربعي الأنصاري رَضِيَ اللَه عَنْهُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَاَلَ: "لا يُمْسِكن[13] أحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهو يَبُولُ، وَلاَ يَتَمَسَّحْ مِنَ الخَلاَءِ بِيَمِيِنهِ، ولا يَتَنَفَس في الإنَاء".

المعنى الإجمالي:

يشتمل هذا الحديث الشريف على ثلاث جمل، من النصائح الغالية والفوائد الثمينة، التي تهذب الإنسان، وتجنبه الأقذار والأضرار والأمراض .

فالأولى والثانية:- أن لا يمس ذكره حال بوله، ولا يزيل النجاسة من  القبل أو الدبر بيمينه، لأن اليد اليمنى أعدت للأشياء الطيبة، ومباشر الأشياء المرغوب فيها كالأكل والشرب.

فإذا باشرت النجاسات وتلوثت، ثم باشرت الطعام والشـراب، والمصافحة وغير ذلك، كرهته. وربما حملت معها شيئا من الأمراض الخفية.

والثالثة:- النَّهى عن التنفس في الإناء الذي يشرب منه لما في ذلك من الأضرار الكثيرة، التي منها تكريهه للشارب بعده، كما أنه قد يخرج من أنفه بعض الأمراض التي تلوث الماء فتنقل معه العدوى، إذا كان الـشارب المتنفس مريضاً.

وقد يحصل من التنفس حال الشرب ضرر على الشارب، حينما يدخل النفس الماء ويخرج منه.

والشارع لا يأمر إلا، بما فيه الخير والصلاح، ولا ينهى إلا عما فيه الضرر والفساد.

اختلاف العلماء :

اختلف العلماء : هل النهى للتحريم، أو للكراهة؟

فذهب الظاهرية إلى التحريم، أخذا بظاهر الحديث.

وذهب الجمهور إلى الكراهة، على أنها نواه تأديبية.

ما يؤخذ من الحديث:

1- النهى عن مس الذكر باليمنى حال البول.

2- النهى عن الاستنجاء باليمين .

3- النهى عن التنفس في الإناء.

4- اجتناب الأشياء القذرة، فإذا اضطر إلى مباشرتها، فليكن باليسار.

5- بيان شرف اليمين وفضلها على اليسار.

6- الاعتناء بالنظافة عامة، لاسيما المأكولات والمشروبات التي يحصل من تلويثها ضرر في الصحة.

7- سُمُوُّ الشرع، حيث أمر بكل نافع، وحذر من كل ضار.

الحديث السادس

عن عَبد الله بن عباس رضي الله تَعَاَلَى عَنْهُما قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم   بقبرين  فَقَاَل: " إِنَهُمَا ليُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذً بانِ في كَبِير. أمًا أحَدُهُما فَكَاَن لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَول، وَأمَّا الآخر فكَاَن يمْشىِ بَالنميمَة".

فَأَخَذَ جَريدةً رَطْبَةً فَشَقَهَا نِصْفَيْنِ، فَغرزَ في كل قَبْر واحدَة.

فقالوا: يَا رَسُول الله، لم فَعَلْتَ هذَا ؟  قَال: "لعَلهُ يُخَفَفُ عَنْهمَا مَا لم يَيْبَسَا".

غريب الحديث:

1- "إنهما ليعذبان" : المراد، يعذب من فيهما. من  إطلاق اسم المحل على الحال فيه .

2- "لا يستتر من البول" : بتائين، أي لا يجعل سترة تقيه من بوله وروي  "لا يستبرئ ".

3- "يمشى بالنميمة" : ينقل كلام الغير بقصد الإِضرار.

4- "فأخذ جريدة" : عسيب النخل الذي ليس فيه سعف.

5- "فغرز" : بالزاي ، ورواه " مسلم " بالسين. أي: غرس.

قال أبو مسعود: "وموضع الغرس كان بازاء الرأس، ثبت بإسناد صحيح".

المعنى الإجمالي:

مر النبي صلى الله عليه وسلم، ومعـه بعـض أصحـابـه بقـبرين، فكشف الله سبحانه وتعالى له عنهما، فرأى من فيهما يعذبان.

فأخبر أصحابه بذلـك، تحذيراً لأمته، وتخويفاً، فإن صاحبي هذين القـبرين، يعـذب كل منهما بذنب يسير تركه والابتعاد عنه، لمن وفقه الله لذلك.

فأحَدُ المعذَّبَيْن، لا يحترز من بوله عند قضاء الحاجة، ولا يتحفّظ منه، فتصيبه النَجاسة فتلوث بدنه وثيابه.

والآخر شيطان يسعى بين الناس بالنميمة التي تسبب العداوة والبغضاء بين الناس، ولاسيما الأقارب والأصدقاء.

يأتي إلى هذا فينقـل إليـه كلام ذاك ويأتي إلى ذاك فينقـل إليه كلام هذا، فيولد بينهما القطيعة والخصام.

والإسلام إنما -جاء بالمحبة والألفة بين- الناس وقطع المنازعات والمخاصمات.

ولكن الكـريم الرحيم أدركتـه عليهما الشفقـة والرأفة، فأخذ جريدة نخل رطبة، فشقَّها نصفين، وغرز على كل قبر واحدة.

فسأل الصحـابـة النبي صلى الله عليه وسلم  عن هذا العمـل الغـريب عليهم فقال: لعل الله يخفف عنهما ما هما فيه في العذاب، ما لم تيبس هاتان الجريدتان.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في وضع الجريدة على القبر. فذهب بعضهم إلى استحباب وضع الجريدة على القبر، لأنهم جعلوا هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم تشريعاً عاماً.

والعلة عند هؤلاء مفهومة،:هي أن الجريدة تسبح عند صاحب القبر مادامت رطبة.

فلعله يناله من هذا التسبيح ما يُنَورُ عليه قبره.

وذهب بعضهم إلى عدم مشروعية ذلك، لأنه شرع عبادة، وهو يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يثبته.

أما هذه فقضية عين، حكمتها مجهولة، ولذا لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع غير صاحبي هذين القبرين.

وكذاك لم يفعله من أصحابه أحد، إلا ما روى عن بُريدة بن الحُصيب، من أنه أوصى أن يجعل على قبره جريدتان.

أما التسبيح، فلا يختص بالرطب دون اليابس، والله  تعالى يقول: { وإِنْ مِنْ شيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ}.

ثم قالوا: لو فرضنا أن الحكمة معقولة، وهى تسبيح الجريد الرطب، فنقول: تختص بمثل هذه الحال التي حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم عند هذين القبرين، وهى الكشف له من عذابهما قال القاضي عياض: "علل غرزهما على القبر بأمر مغيَب وهو قوله، " ليعذبان " فلا يتم القياس لأنا لا نعلم حصول العلة".

ما يؤخذ من الحديث:

1- إثبات عذاب القبر كما اشتهرت به الأخبار وهو مذهب أكثر الأمة.

2- عدم الاستبراء من النجاسات سبب في هذا العذاب فالواجب الاستبراء منها: فالحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية. ويؤكد ذلك ما رواه الحاكم وابن خزيمة وهو "أكثر عذاب القبر من البول" قال ابن حجر: "وهو صحيح الإسناد".

3- تحريم النميمة بين الناس وأنها من أسباب عذاب القبر.

4-  رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وحرصه على إبعاد الشـر عنهما.

5- الستر على الذنوب والعيوب. فإنه لم يصرح باسمي صاحبي القبرين، ولعله مقصود.

6- قوله: "ما يعذبان في كبير" أي بسبب ذنب كبير تركه كليهما، فإن ترك النميمة والتحرز من البول ليسا من الأمور الصعبة الشاقة. وقد كبر عذابهما لما يرّتب على فعلتيهما من المفاسد.

فائدة: اختلف العلماء في انتفاع الميت بعمل الحي حينما يجعل الحي ثواب قربته البدنية أو المالية إلى الميت، فقال الإمام أحمد: الميت يصل إليه كل خير للنصوص الواردة فيه. أما ابن تيمية فقد نقل عنه في ذلك قولان:

أحدهما: أنه ينتفع بذلك باتفاق الأئمة.

الثاني: أنه لم يكن من عادة السلف إذا فعلوا إحدى القربات تطوعا أن يهدوا ذلك لموتى المسلمين، واتباع نهج السلف أولى وقال الصنعانى: الميت يصح أن يوهب له أي قربة.. أما لحوق سائر القرب ففيها خلاف . والحق لحوقها. وذكر ابن تيمية أن الأخبار قد استفاضت بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا وسروره بالسار منها وحزنه للقبيح.

 بَـــابُ السّــوَاك

السواك: بكسر السين، اسم للعود الذي  يُتَسَوًكُ به، وللفعل الذي هو دَلك الأسنان بالعود أو نحوه، لتذهب الصفرة والأوساخ، وليطهر الفم ويحصل الثواب.

مناسبة ذكره هنا، أنه من سنن الوضوء ومن الطهارة المرغب فيها.

فهو أحد أبواب " كتاب الطهارة  " المتقدم.

وفيه من الفوائد ما يفوت الحصر من النظافة، والصحة، وقطع الرائحة الكريهة، وطيب الفم، وتحصيل الثواب، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث الأول

عن أبِي هريرة رَضِي الله عَنْهُ، عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : " لَوْلاَ[14] أنْ أشُقَّ عَلَى أمتي لأمَـرْتُهُمْ بِالسَّـوَا كِ مَعَ كُلِّ وُضـوءٍ عِنْدَ كُل صَلاةٍ " متفق عليه.

المعنى الإجمالي:

من كـمال نصـح النبي صلى الله عليه وسلم   ومحبتـه الخير لأمته، ورغبته أن يلجوا كل باب يعود عليهم بالنفع لينالوا كـمال السعادة، أن حثهم على التسوك.

فهو صلى الله عليه وسلم لما علم من كثرة فوائد السواك، وأثر منفعته عاجلا وآجلا، كاد يلزم أمته به عند كل وضوء أو صلاة.

ولكن -لكـمال شفقتـه ورحمتـه- خاف أن يفرضه الله عليهم، فلا يقوموا به، فيأثموا، فامتنع من فرضه عليهم خوفاً وإشفاقاً. ومع هذا رغبهم فيه وحضَّهم عليه.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب السواك وفضله، الذي بلغ به درجة الواجبات في الثواب .

2- تأكد مشروعية السواك عند الوضوء والصلاة قال ابن دقيق العيد: السر أنا مأمورون  وكل حالة من أحوال التقرب إلى الله عز وجل إنما تكون في حالة كمال النظافة لإظهار شرف العبادة. وقيل: إن ذلك الأمر يتعلق بالملك فإنه يتأذى بالرائحة الكريهة. قال الصنعاني : ولا يبعد أن السر مجموع الأمرين المذكورين لما أخرجه مسلم من حديث جابر " من أكل الثوم أو البصل أو الكراث، فلا  يقربن  مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم ".

3- فضل الوضوء والصلاة، المستعمل معهما السواك.

4- إنه لم يمنع من، فرض السواك إلا مخافة المشقة في القيام به.

5- كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم   بأمته،وخوفه عليهم.

6- إن الشرع يسر لا عسر فيه، ولا مشقة.

7- أن درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح.

وهذه قاعدة عظيمة نافعة جدا. فإن الشارع الحكيم ، ترك فرض السواك، على الأمة مع ما فيه من المصالح العظيمة، خشية أن يفرضه الله عليهم فلا يقوموا به فيحصل عليهم فساد كبير، بتركِ الواجبات الشـرعية.

الحديث الثاني

عن حُذَيْفَةَ بْن الْيَمانِ قَالَ: كَان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قَامَ من الليل يَشُوصُ[15]  فاه  بِالسوَاكِ.

قوله " يشوص " بفتح الياء وضم الشين المعجمة المهملة ، والشوص ذلك الأسنان بمسواك عرضا . المعنى الإجمالي:

من محبة النبي صلى الله عليه وسلم   للنظافة وكراهته للرائحة الكريهة، كان إذا قام من نوم الليل الطويل الذي هو مظنة تغير رائحة الفم، دلك أسنانه صلى الله عليه وسلم   بالسواك، ليقطع الرائحة، ولينشط بعد مغالبة النوم على القيام، لأن من خصائص السواك أيضا التنبيه والتنشيط.

ما يؤخذ من الحديث

1- تأكد مشروعية السواك بعد نوم الليل. وعلته أن النوم مقتض لتغير رائحة الفم، والسواك هو آلة تنظيفية، ولهذا فإنه يسن عند كل تغير.

2- تأكد مشروعية السواك عند كل تغير كريه للفم، أخذا من المعنى السابق.

3- مشروعية النظافة على وجه العموم، وأنها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم  ، ومن الآداب السامية.

الحديث الثالث

عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ أبي بَكْر الصديق رَضيَ الله عَنْهُمَا عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم   وَأنا مُسْنِدَتهُ إِلى صَدْري -وَمَعَ عَبْدِ الرحْمنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بهِ- فَأبَدهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَصَرَهُ، فَأخَذْتُ السوَاكَ فَقَضِمْتُهُ وَطَيبتهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم   فاستنّ به، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اسْتَنَّ اسْتِنَاناً أحْسَنَ مِنْهُ. فَمَا عَداَ أنْ فَرَغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَهُ أوْ إِصبَعَهُ- ثم قال : "في الرَّفيقِ الأعلى"  ثَلاثاً، ثُم قضى عَليهِ.

وكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتي وذاقِنَتى.

وفى لفظ: فَرَأيتهُ يَنُظُرُ إِلَيهِ، وَعَرَفْتُ أنَّهُ يُحِـب السوَاَكَ فَقُلْتُ: آخُذُه لَك؟ فَأشَارَ بِرأسِهِ: أن نَعَمْ.

هذا لفظ البخاري، ولـ "مسلم" نحوه.

 غريب الحديث:

 1- "يستن به" يُمِرُّ السواك على أسنانه، كأنه يحددها.

2- "فأبده" بتخفيف الباء الموحدة، وتشديد الدال، مدَّ إليه بصره وأطاله.

3 "بين حاقنتى وذاقنتى" "الحاقنة" ما بين الترقوتين وحبل العاتق "الذاقنة" طرف الحلقوم الأعلى.

4- "فقَضِمته" بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة كذا ضبطه ابن الأثير وغيره ، أي مضغته بأسنانها، ليلين.

و "القضم" بأطراف الأسنان و"الخصم" بالفم كله.

المعنى الإجمالي :

تذكر عائشـة رضي الله عنها قصةً تبين لنا مدى محبة النبي صلى الله عليه وسلم للسواك وتعلقه به

وذلك أن عبد الرحمن بن أبى بكر- أخا عائشة- دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في حال النزع ومعه سواك رطب، يدلك به أسنانه.

فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم السواك مع عبد الرحمن، لم يشغله عنه ما هو فيه من المرض والنزع، من محبته له، فمذَ إليه بصره، كالراغب فيه، ففطنت عائشـة رضي الله عنها فأخذت السواك من أخيها ، وقصت رأس السواك المنقوض ، ونقضت له رأساً جديداً ونظفته وطيبته، ثم ناولته النبي صلى الله عليه وسلم، فاستاك به.

فما رأت عائشـة تسوكاً أحسن من تسوكه.

فلما طهر وفرغ من التسوك، رفع إصبعه، يوحد الله تعالى، ويختار النقلة إلى ربه تعالى، ثم توفى صلى الله عليه وسلم.

فكانت عائشة رضي الله عنها مغتبطة،وحق لها ذلك، بأنه صلى الله عليه وسلم توفى ورأسه في صدرها.

ما يؤخذ من الحديث:

1- الاستياك بالسواك الرطب.

2- إصلاح السواك وتهيئته.

3- الاستياك بسواك الغير بعد تطهيره وتنظيفه.

4- العمل بما يفهم من الإشارة والدلالة.

5- الرفيق الأعلى: هم المشار إليهم في سورة النساء وهم  { الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين  }.

الحديث الرابع 

عَنْ أبِي مُوسَى الأشعري رضِىَ الله عَنْهُ قاَل : أتيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم   وهُوَ يَستَاكُ بِسِوَاكٍ رَطْبٍ[16] قَالَ وطَرَف السوَاكِ عَلى لِسَانِهِ، وَهو يَقُولُ: أُع أُع، وَالسوَاك في فِيهِ كَأنَهُ يَتَهَوَّع.

 غريب الحديث:

1- "أُع أُع" بضم الهمزة وسكون المهملة. حكاية صوت المتقىء، أصلها هع هع، فأبدلت همزة.

2- "كأنه يتهوع" التهوع، التقيؤ بصوت.

المعنى الإجمالي

يذكر أبو موسى الأشعرى: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم  ، وهو يستاك بمسواك رطب، لأن إنقاءه أكمل، فلا يتفتت في الفم، فيؤذى، وقد جعل السواك على لسانه، وبالغ في التسوك، حتى كأنه يتقيأ.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية السواك بالعود الرطب. وأن السواك من العبادات والقربات.

2- مشروعية المبالغة في التسوك. لأن  في المبالغة كمال الإنقاء.

3- أن يستعمل السواك في لسانه، في بعض الأحيان.

 بَـاب المسْـح عَلى الخـفّـين

هذا الباب يذكر فيه شيء من أدلة مشروعية المسح على الخفين، لأن المسح عليهما بدل غسلهما، فهو الطهارة الشرعية المجمع عليها بين  المعتبرين من علماء المسلمين، لما تواتر فيها من النصوص الشرعية الصحيحة الواضحة، ولله الحمد.

ولا يعتبر شذوذ بعض الطوائف في عدم شرعيتها والأخذ بأحاديثها لردهم النصوص الصحيحة الصريحة المتواترة، والمسح على الخفين من الرخص التي يحب الله أن تؤتى، ومن تسهيلات هذه الشريعة السمحة.

الحديث الأول

عَنْ المغيرة بن شعبة قال: كُنْتُ مَع النبي صلى الله عليه وسلم في سَفَر فَأهوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَيْهِ، فَقَالَ: "دَعْهُمَا، فَإنَّي أدْخَلتُهُمَا طاهِرَتَيْنِ" فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.

غريب الحديث:

1- "فأهويت لأنزع" مددت يدي لإخراجهما من رجليه لغسلهما.

المعنى الإجمالي:

كان المغيرة مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره. فلما شرع النبي صلى الله عليه وسلم   في الوضوء، وغسل وجهه ويديه، ومسح رأسه، أهوى المغيرة إلى خفي النبي صلى الله عليه وسلم   لينزعهما لغسل الرجلين.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم  دعهما ولا تنزعهما، فإني أدخلت رجلي وأنا على طهارة، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم على خفيه بدل غسل رجليه.

  اختلاف العلماء :

شذت الشيعهَ في إنكار المسح على الخفين، وروى أيضاً عن " مالك " وبعض الصحابة.

لكن قال شيخ الإسلام " ابن تيمية ": إن الرواية عنهم بإنكارهم ضعيفة.

وأما مالك، فالرواية الثابتة عنه، القول به، وأطبق أصحابه من  بعده على الجواز.

أما الشيـعة، فهم الذين خالفوا الإجماع ، مستمسكين بقراءة الجر، من "وأرجُلِكُمْ" لأن الآية  ناسخة للأحاديث عندهم.

وذهبت الأمة جمعاء إلى جواز المسح واعتقاده، محتجين بالسنة المتواترة.

والقراءة -على فرض الأخذ بها- تكون مجرورة للمجاورة، أو لتقييد المسح على الخفين وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يعجبهم حديث جرير بن عبد الله في المسح على الخفين لأن إسلامه كان بعد نزول سورة المائدة فيكون في الآية رد على من لم ير المسح أخذا بقراءة الجر في "وأرجلكم" وقال ابن دقيق العيد كلاما مؤداه أن المسح على الخفين اشتهر جوازه حتى صار شعار أهل السنة. وإنكاره شعار أهل البدعة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية المسح على الخفين عند الوضوء، والمسح يكون مرة واحدة باليد ويكون على أعلى الخف دون أسفله كما جاء في الآثار.

2- اشتراط الطهارة للمسح على الخفين. وذلك بأن تكون الرجلان على طهـارة قبل دخولهما في الخف.

3- استحباب خدمة العلماء والفضلاء.

4- جاء في بعض روايات هذا الحديث أن ذلك في غزوة تبوك لصلاة  الفجر.

الحديث الثاني

عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَان قال: كَنْتُ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم في سَفَرِ، فَبَالَ وَتَوَضَّأ وَمَسَحَ عَلَى خُفَيهِ[17] (مختصر).

المعنى الإجمالي:

ذكر حذيفة أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم  فى أحد أسفاره، فبال وتوضأ ومسح على خفيه.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية المسح على الخفين في السفر. ومدة المسح على الخفين والعمامة في السفر ثلاثة أيام بلياليها. ومدة المسح للمقيم يوم وليلة أي 24 ساعة يحسب ابتداؤها في السفر أو الحضر- من ساعة المسح على أصح الأقوال.

2- المسح على الخفين بعد الوضوء من البول وثبت المسح على الخفين وعلى العمامة من كل حدث أصغر، في أحاديث كثيرة. أما الحدث الأكبر الموجب للغسل كالجنابة فلا يكفى فيه المسح على الخفين ولا على العمامة بل لابد من الاغتسال أما الجبيرة والجروح المعصوبة فإنه يمـسح عليها من الحدثين الأصغر والأكبر. أما إذا كان المسح يضرها أو يخشى منه الضرر فلا تمسح ويتيمم عنها ولكن مع غسل سائر الأعضاء الصحيحة.

 بَــاب في المـذي وغَـيره

المذيُ: هو السائل الذي يخرج من الذكر، عند هيجان الشهوة، ويخرج بلا دفق ولا لذة. ولا يعقبه فتور، وقد لا يحس بخروجه، ويكون ذلك للرجل والمرأة. وقال الأطباء: إنه يخرج من مجرى البول مع إفراز الغدد المبالية عند الملاعبة.

والمراد هنا، بيان أحكامه من حيث النجاسة ونقض الوضوء.

وفى الباب، عدةَ من الأحاديث، تتعلق بنقض الوضوء وإزالة النجاسات.

الحديث

عَنْ عَلِىِّ بْنِ أبى طَالِب رَضِيَ الله عَنْهُ قَال: كُنْتُ رَجُلا مَذّاءً، فَاسْتَحْيَيتُ أنْ أسْألَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم   لِمَكَان ابنته منِّى، فَأمَرْتُ المِقْدادَ بْنِ الأسْوَد، فَسألهُ، فَقَاَل : " يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ويتوضأ[18]".

وللبخاري "اغْسِل ذَكَرَكَ وتَوَضأ" ولمسلم[19]: "تَوَضأ وَاْنضَحْ فَرْجَكَ"  .

غريب الحديث:

1- "مذَّاء" وزن فعّال من صيغ المبالغة، والمراد كثير المَذي.ْ

2- "انضح فرجك" يراد بالنضح، الرش وهو الأكثر، وقد يراد به الغسل، وهو المراد هنا، ليوافق الرواية الأخرى المصرّحة بالغسل.

3- "يغسلُ" برفع اللام. هكذا الرواية على صيغة الخبر، ومعناه الأمر.

4- "استحييت" بيائين هي اللغة الفصحى، ويأتي بياء واحدة كما في قراءة { إن الله لا يستحى }.

المعنى الإجمالي:

يقول على رضي الله عنه: كنت رجلا كثير المذْيِ، وكنت أغتسل منه حتى شق علىَّ الغُسل، لأني ظننت حكمه حكم المنى.

فأردت أن أتأكد من حكمه، وأردت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم.

ولكون هذه المسألة تتعلق بالفروج، وابنته تحتي، فاستحييت من سؤاله، فأمرت المقداد أن يسأله، فسأله فقال: إذا خرج منه المذي فليغسل ذَكَرَهُ حتى يتقلص الخارج الناشئ من الحرارة، برَشَّة بالماء، ويتوضأ لكونه خارجا من أحد السبيلين والخارج من أحدهما هو أحد نواقض الوضوء. فيكون صلى الله عليه وسلم   قد أرشد السائل بهذا الجواب إلى أمر شرعي وأمر طبي.

اختلاف العلماء:

ذهب الحنابلة، وبعض المالكية: إلى وجوب غسل الذكر كله، مستدلين بهذا الحديث وغيره، حيث صرحت بغسل الذكر ، وهو حقيقة يطلق عليه كله. وذهب الجمهور: إلى وجوب غسل المحلى الذي أصابه المذْىُ، لأنه الموجب للغسل فيقتصر عليه.

والقول الأول أرجح لأمور:

الأول: أن غسله هو الحقيقة من الحديث، وغسل بعضه مجاز يحتاج إلى قرينة قوية.

الثاني: أن المذْيَ فيه شبه من المَنيّ، من ناحية سبب خروجهما، وتقارب لونهما، وغير ذلك، فهو أشبه ما يكون بجنابة صغرى، يقتصر فيه عن غسل البدن كله، على غسل الفرج.

الثالث: أنه يتسرب من حرارة الشهوة فنضحه كله مناسب، ليتقلص الخارج بتبريده.

ما يؤخذ من الحديث:

1- نجاسة المَذيِ، وأنه يجب غسله. ولكن يعفى عن يسيره بسبب المشقة كما ذكر بعض العلماء.

2- أنه من نواقض الوضوء، لأنه خارج من أحد السبيلين.

3- وجوب غسل الذكر.

وقد ورد في بعض الأحاديث (وغسل الأنثيين).

4- أنه لا يوجب غسل البدن كالجنابة، وهو إجماع.

5- أنه لا يكفى في إزالة المذىِ الاستجمار بالحجارة كالبول بل لابد من الماء.

 حكـم في حصـول الحــدث

عن عَبّادٍ بنِ تَميمٍ، عَنْ عَبْدِ الله بنِ زَيد بنِ عَاصِمٍ المَازِني قال: شُكِيَ[20] إلى النبي صلى الله عليه وسلم   الرجُلُ يُخَيلُ إلَيْهِ أنَهُ يَجِدُ الشيء في الصَّلاةِ، فَقَالَ: "لا يَنْصرفْ حَتّى يَسمَعَ صَوتاً أو يَجِدَ رِيحاً.  

المعنى الإجمالي:

هذا الحديث- كما ذكر النووي رحمه الله- من قواعد الإسلام العامة وأصوله التي تبنى عليها الأحكام الكثيرة الجليلة.

وهى أن الأصل بقاء الأشياء المتيقنة على حكمها، فلا يعدل عنها لمجرد الشكوك والظنون، سواء قويت الشكوك، أو ضعفت، مادامت لم تصل إلى درجة اليقين، وأمثلة ذلك كثيرة لا تخفى. ومنها هذا الحديث.

فما دام الإنسان متيقنا للطهارة، ثم شك في الحدث فالأصل بقاء طهارته، وبالعكس فمن تيقن الحدث، وشك في الطهارة فالأصل بقاء الحدث، ومن هذا الثياب والأمكنة، فالأصل فيها الطهارة، إلا بيقين نجاستها.

ومن ذلك عدد الركعات في الصلاة، فمن تيقن ثلاثا مثلا، وشك في الرابعة، فالأصل عدمها.

ومن ذلك، من شك في طلاق زوجته. فالأصل بقاء النكاح. وهكذا من المسائل الكثيرة التي لا تخفى.

ما يؤخذ من الحديث:

1- القاعدة العامة وهي" أن" الأصل بقاء ما كان على ما كان.

2- أن مجرد الشك في الحدث، لا يبطل الوضوء، ولا الصلاة.

3- تحريم الانصراف من الصلاة لغير سبب بين.

4- أن الريح الخارجة من الدبر، بصوت أو بغير صوت، ناقضة للوضوء.

5- يراد من سماع الصوت ووجدان الريح في الحديث، التيقن من ذلك.

فلو كان لا يسمـع ولا يشتم، وتيقن بغـير هذين الطـريقـين، انتقض وضوءه.

 حكــم بـول الصـبي والصـبية

عَنْ أُم قَيْسِ بِنْتَ مِحْصَنِ اْلأسـديَـة أنها أتَتْ بِابْنِ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأكُلِ الطّعَامَ، إِلَى رَسُولِ اللّه  صلى الله عليه وسلم فأجلَسَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِـمَاء فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ.

وفي حديث عائشـةَ أًم المؤمنـين: أنَّ رَسُـولَ الله  صلى الله عليه وسلم  أُتِيَ بِصبيٍّ ،فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِـمَاء فَأتْبَعَهُ إِيَّاه. ولمسلم " فَأتْبَعَهُ بَوْلَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ ".

المعنى الإجمالي :

كان الصحابة رضي الله عنهم يأتون النبي صلى الله عليه وسلم بأطفالهم. لينالوا من بركته وبركة دعائه لهم.

وكـان صلى الله عليه وسلم من لطـافته، وكرم أخلاقه، يستقبلهم بـما جبله اللّه عليه، من البشر والسماحة.

فجاءت "أم قيس" بابن لها صغير، يتقوت اللبن، ولم يصل إلى سن التقوت بغير اللبن.

فمن رحمتـه أجلسـه في حجـره الكريم، فبال الصبي على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب ماء فرش مكان البول من ثوبه رشاً، ولم يغسله غسلا.

اختلاف العلماء:

يرى طائفة من العلماء أن الذكر والأنثى سواء في الاكتفاء بالنضح، قياسا للأنثى على الذكر.

وترى طائفة أخرى: أنهما سواء في وجوب الغسل وعدم الاكتفاء بالنضح.  

وكلا الطائفتين لم تستندا إلى دليل.

و"النضح" للذكر و"الغسل" للأنثى، هو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة وهو مذهب الأئمة "الشافعي" "وأحمد" و"إسحاق" و"الأوزاعي" و"ابن حزم" و"ابن تيمية" و "ابن القيم" واختاره شيخنا "السعدي" و كثير من المحققين.

ما يؤخذ من الحديث:

1- نجاسة بول الغلام وإن لم يأكل الطعام لشهوة..

2- كفاية الرش، الذي لا يبلغ درجة الجريان، لتطهير بول الغلام.

3- أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم   الكريمة، وتواضعه الجم.

فائدة: اختلف العلماء في السبب الذي أوجب التفريق بين بول الغلام وبول الجارية، وتلمس كل منهم حكمة، صارت- في نظره- الفارقة المناسبة.

وأحسن هذه التلمسات، أحد أمرين.

الأول: أن الغلام عنده حرارة غريزية زائدة على حرارة الجارية، تطبخ الطعام، وتلطف الفضلات الخارجة. ومع هذه الحرارة الزائدة كون الطعام الطفل لطيفاً، لأنه لبن.

والجارية ليس لديها الحرارة الملطفة، ويؤيد هذا تقييد نضح النجاسة بعدم أكل الطعام، إلا اللبن.

والثاني : أن الغلام- عادة- أرغب إلى الناس من الجارية فيكثر حمله ونقله، وتباشر نجاسته، مما يسبب المشقة والحرج، فسومح بتخفيف نجاسته، ويؤيده ما يعرف عن الشريعة من السماح واليسير.

والقاعد العامة تقول: "المشقة تجلب التيسير".

على أن بعض العلماء جعلوه من المسائل التعبدية، التي لا تعقل حكمتها والله أعلم بمراده.

 كيفية تطهـير الأرض التي أصـابـها بـول

عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضيَ اللَه عَنْهُ قال: جَاءَ أعْرَابيّ فَبَاَلَ في طَائِفَةِ المسْجدِ فَزَجَرَهُ الناس، فَنَهَاهُمُ النبي صلى الله عليه وسلم، فلَما قَضَى بَولَه، أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فأهْرِيقَ عَلَيْهِ.

غريب الحديث:

1- "أعرابي" بفتح الهمزة، نسبة إلى الأعراب، وهم سكان البادية وقد جاءت النسبة فيه إلى الجمع دون الواحد.

2- "في طائفة المسجد" في ناحية المسجد.

3- "فزجره الناس" نهروه.

4- "بذنوب من ماء" بفتح الذال المعجمة، الدلو الملأى ماءً ولا تسمى ذنوبا إلا إذا كان فيها ماء. "فأهريق عليه" أصله "أريق عليه" أبدلت الهمزة هاء، فصار "فهريق" ثم زيدت همزة أخرى، فصار "فأهريق" هو بسكون الهاء، مبنى للمجهول.

المعنى الإجمالي:

من عادة الأعراب، الجفاء والجهل، لبعدهم عن تعلم ما أنزل الله على رسوله. فبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم   في أصحابه في المسجد النبوي، إذ جاء أعرابي وبال في أحد جوانب المسجد، ظناً منه أنه كالفلاة، فعظم فعله على الصحابة لعظم حرمة المساجد، فنهروه أثناء بوله.

ولكن صاحب الخلق الكريم، الذي بعث بالتبشير والتيسير، ولما يعلمه من حال الأعراب، نهاهم عن زجره، لئلا يُلوث بقعاً كثيرة من المسجد، ولئلا يصيبه الضرر بقطع بوله عليه، وليكون أدعى لقبول النصيحة والتعليم حينما يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يطهروا مكان بوله، بصب دلو من ماء عليه.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن البول على الأرض يطهر بغمره بالماء، ولا يشترط نقل التراب من المكان بعد ذلك ولا قبله.

2- احترام المساجد وتطهيرها.

3- سماحة خلق النبي صلى الله عليه وسلم   . فقد أرشد الأعرابي برفق ولين بعد ما بال مما جعله يقول: "اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحداً " كما جاء في صحيح البخاري.

4- بُعْدُ نظره صلى الله عليه وسلم   ومعرفته لطبائع الناس.

5- عند تزاحم المفاسد، يرتكب أخفها، فقد تركه يكمل بوله، لأجل ما يترتب من الأضرار بقطعه عليه.

6- إن البعد عن الناس والمدن، يسبب الجفاء والجهل.

7- الرفق بتعليم الجاهل.

 بيان أحكام الختان  والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر

عَن أبيِ هُرَيرة رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ  الله صلى الله عليه وسلم   يَقُولُ:  " الفطرة خمس : الْخِتَانُ، والاستِحْدَادُ، وَقَصُ الشَّارب، وَتَقلِيمُ الأظَافِرِ، وَنَتْف الإبْطِ ".

 المعنى الإجمالي: يذكر أبو هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم   يقول: خمس خصال من دين  الإسلام، الذي فطر اللَه الناس عليه، فمن أتى بها، فقد قام بخصال عظام من الدين الحنيف.

وهذه الخمس المذكرة في هذا الحديث، من جملة النظافة، التي أتى بها الإسلام.

أولها- قطع قُلْفة الذكر، التي يسبب بقاؤها تراكم النجاسات والأوساخ فتحدث الأمراض والجروح.

وثانيها- حلق الشعور التي حول الفرج، سواء أكان قبلا أم دبرا ، لأن بقاءها في مكانها يجعلها معرضة للتلوث بالنجاسات، وربما أخلت بالطهارة الشرعية.

وثالثها- قص الشـارب، الذي بقاؤه، يسبب تشويه الخلقة، ويكره الشـراب بعد صاحبه، وهو من  التشبه بالمجوس.

ورابعها- تقليم الأظـافـر، التي يسبب بقاؤها تجمع الأوساخ فيها، فتخالط الطعام، فيحدث المرض.

وأيضا ربـما منعت كـمال الطهارة لسترها بعـض الفرض.

وخامسها- نتف الإبط، الذي يجلب بقاؤه الرائحة الكريهة.

وبـالجملة فإزالـة هذه الأشيـاء من محاسن الإِسلام، الذي جاء بالنظـافـة والطهـارة، والتأديب والتهذيب، ليكون المسلم على أحسن حال وأجمل صورة، فإن النظافة من الإِيـمان.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن فطرة الله تعالى تدعو إلى كل خير، وتبعد عن كل شر.

2- أن هذه الخصـال الخمس الكَـريمة، من فطرة اللّه، التي يحبها ويأمر بها.

وجبل أصحاب الأذواق السليمة عليها ونفرهم من ضدها.

3- أن الدين الإسلامي جاء بالنظافة والجـمال والكمال.

4- مشروعية تعاهد هذه الأشياء، وعدم الغفلة عنها.

5- العـدد خمسـة هنـا ليس حصـراً، فإن مفهـوم العـدد ليس بحجة، وقد جاء في صحيح مسلم: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر من أنواع الفطرة في كل موضوع ما يناسبه.

6- قال ابن حجر: يتعلق بهذه الخصال فوائد دينية ودنيوية منها تحسين الهيئة وتنظيف البدن والاحتياط للطهارة، ومخالفة شعار الكفار، وامتثال أمر الشارع. ا.هـ.

7- أن ما يفعله الآن الشبان والشابات من تطويل الأظافر، وما يفعله الـذكـور من إعفـاء الشـوارب، من الأمور الممنوعة شرعا، المستقبحة عقلا وذوقـا. وأن الـدين الإسلامي لا يأمر إلا بكل جميل ولا ينهى إلا عن كل قبيـح، غير أن التقلَيد الأعمى للفـرنجـة قد قلب الحقـائق وحسن القبيح، ونفر من الحسن ذوقا وعقلا وشرعا.

اختلاف العلماء:

اتفقت العلماء على استحباب فعل الأشياء المذكورة عدا الختان، فقد اختلفوا هل هو مـستحب أو واجب،ومتى وقت وجوبه من عمر الإنسان؟

وهل هو واجب على الرجال والنساء، أو على الرجال فقط؟

والصحيح من هذه الخلافات، أنه واجب، وأن وجوبه على الرجال دون النساء، وأن وقت وجوبه عند البلوغ، حينما تجب عليه الطهارة والصلاة.

فائدة: الختان الشرعي هو قطع القلفة الساترة لحشفة الذكر.

ويوجد في البلاد المتوحشة من يسلخون - والعياذ بالله- الجلد الذي يحيط بِالْقبُلِ كله، ويزعمون- جهلا- أن هذا ختان، وما هذا إلا تعذيب وتمثيل ومخالفة للسنة المحمدية، وهو محرم وفاعله آثم.

وفقنا الله جميعا لاتباع شرعه الطاهر.

 بَــاب الغُسْـل مِنَ الجنَـابة

الغسل -بضـم الغين- اسم الاغتسال، الذي هو تعميم البدن بالماء.

وأصل "الجنابة" البعد، وإنما قيل لمن جامع أو خرج منه المنىُ: جنب لأن ماءه باعد محله.

ويراد بهذا الباب، الأحكام التي تتعلق بالغسل وتبين أسبابه وآدابه، وغير ذلك.

وهو من جملة الطهارة المشروعة للصلاة ،ومن النظافة المرغب فيهِا.

{ وَإنْ كُنْتُم جُنُباً فَاطًهرُوا } عدا ما فيه من فوائد صحية وقلبية.

فإن المجامع حينـما تخرج منه النطفة التي تعتبر سلالة بدنه، وجوهره، يحصل له بعد خروجها شيء من الإجهاد والتعب، ، ويحصل  له فتور وكسل وتَبَلُّدُ ذهن ، وركود في حركة الدم.

ومن رحمة الحكيم الخبير، شرع هذا الغسل ، الذي  يعيد إلى الجسد قوته، وينشط دورة الدم في جسمه، فيعود إلى نشاطه.

وكم في شرع الله  من حِكم وأسرار!! وفقنا الله تعالى لفهمها، والإيمان بها.

الحديث الأول

 عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضيَ الله عَنْهُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم  لقيه في[21] بعض طرق المدينة وهُوَ جُنُبٌ ، قالَ : فَاْنخَنَسْتُ مِنْهُ. فَذَهبْتُ- فاغتسلت، ثمً جِئت، فقال : " أيْنَ كُنْتَ يَا أبا هريرة؟" قال: كُنْتُ جُنُباً، فَكَرِهتُ أنْ أجالسك وَأنَا عَلَى غَيْرِ طَهَاَرةٍ . فقَالَ: " سُبْحَانَ الله إِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ ".

غريب الحديث:

1- "انخنست": بالنون ثم بالخاء المعجمة والسين المهملة،. من الخنوس، وهو التأخر والاختفاء. يعنى انسللت واختفيت.

قال ابن فارس: "الخنس" الذهاب بخفية، "خنس" الرجال، تأخر.

2- "منه": أي من أجله، حيث رأيت نفسي نجساً بالنسبة إلى طهارته وجلالته صلى الله عليه وسلم.

3- "كنت جنبا": أي كنت ذا جنابة، وتقع هذه اللفظة على الواحد والجمع المذكر والمؤنث،كما ورد في القرآن والحديث.

قال سبحانه: { إن كنتم جنبا فاطهروا } وقالت إحدى أمهات المؤمنين: "كنت جنبا".

4- "لا ينجُس": بضم الجيم وفتحها.

5- "سبحان الله": تعجب من اعتقاد أبي هريرة التنجس من الجنابة.

المعنى الإجمالي:

لقي أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة، وصادف أنه جنب فكان من  تعظيمه للنبي صلى الله عليه وسلم  وتكريمه إياه، أن كره مجالسته ومحادثته وهو على تلك الحال.

فانسل في خفية من النبي صلى الله عليه وسلم واغتسل، ثم جاء إليه.

فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أين ذهب؟ فأخبره بحاله، وأنه كره مجالسته على غير طهارة.

فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من حال أبي هريرة حين ظن نجاسة الجنب. وذهب ليغتسل وأخبره : أن المؤمن لا ينجس على أية حال .

ما يؤخذ من الحديث:

1- كون الجنابة ليست نجاسة تحل البدن.

2- كون الإنسان لا تنجس ذاته، لا حيا، ولا ميتا. وليس معناه أن بدنه لا تصيبه النجاسة أو تحل به، فقد تكون عينه -أي ذاته- متنجسة إذا أصابته النجاسة.

3- جواز تأخير الغسل من الجنابة.

4- تعظيم أهل الفضل، والعلم، والصلاح، ومجالستهم على أحسن الهيئات.

5- مشروعية استئذان التابع للمتبوع في الانصراف، فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي هريرة ذهابه من غير علمه، وذاك أن الاستئذان من حسن الأدب.

الحديث الثاني

 عَنْ عَائِشَةَ رَضي الله عَنْهَا قَالتْ: كان رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ غَسَل يَدَيْهِ، ثُمَ تَوَضَّأ وضُوءهُ للصلاةِ، ثم يُخَلِّلُ بيَدْيَهِ شَعْره حَتَّى إِذَا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتَهُ أفَاضَ عَلَيْهِ الماءَ ثَلاثَ مَرَاتٍ ، ثُم غَسل سَائِرَ جَسَدِهِ.

وقالت: كُنْت أغْتَسل أنَا وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاء وَاحِدٍ ، نَغْتَرِف مِنْهُ جَمِيعاً.

غريب الحديث:

1- "إذا اغتسل من الجنابة": يعنى أراد ذلك. قال الزمخشرى : عبر عن إرادة الفعل بالفعل، لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له. والقصد الإِيجاز في الكلام.

2- "ثم يخلل بيديه شعره": التخليل إدخال الأصابع بين أجزاء الشعر.

3- قد أروى بشرته- أوصل الماء إلى أصول الشعر، والبشرة المرادة هنا، ظاهر الجلد المستور بالشعر.

4- "إذا ظن": الظن يراد به هنا معنى الرجحان، إذ لا دليل على أنه لابد من اليقين، والظن قد صح التعبد به في الأحكام .

5- "أفاض عليه": أسال الماء على شعره.

المعنى الإجمالي:

تصف عائشة غسل النبي صلى الله عليه وسلم   بأنه إذا أراد الغسل من الجنابة، بدأ بغسل يديه، لتكونا نظيفتين حينما يتناول بهما الماء للطهارة، وتوضأ كما يتوضأ للصلاة.

ولكونه صلى الله عليه وسلم ذا شعر كثيف، فإنه يخلله بيديه وفيهما الماء.

حتى إذا وصل الماء إلى أصول الشـعر، وأروى البشرة، أفاض الماء على رأسه ثلاث مرات ثم غسل باقي جسده.

ومع هذا الغسل الكامل، فإنه يكفيه هو وعائشة، إناء واحد، يغترفان منه جميعا.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية الغسل من الجنابة. سواء أكان ذلك لإنزال المنى أم لمجرد الإيلاج . كما سيأتي صريحا في حديث أبي هريرة.

2- أن الغسل الكامل، ما ذكر في هذا الحديث، من تقديم غسل اليدين، ثم الوضوء، ثم تخليل الشعر الكثيف، وترويته، ثم غسل بقية البدن.

3- قولها : " كان إذا اغتسل ": يدل على تكرار هذا الفعل منه عند الغسل من الجنابة.

4- جواز نظر أحد الزوجين لعورة الآخر، وغسلهما من إناء واحد.

5- تقديم غسل أعضاء الوضوء في ابتداء الغسل على الغسل منْ الجنابة، عدا غسل الرجلين فإنه مؤخر إلى بعد الانتهاء من غسل البدن كله، كما سيأتي .

6- قولها : " ثم توضأ وضوءه للصلاة... ثم غسل سائر جسده" : يدل على أن غسل أعضاء الوضوء رافع للحدثين الأكبر والأصغر، فإن الأمر الذي يوجب غسل هذه الأعضاء للجنابة ولرفع الحدث الأصغر واحد.

7- سائر الجسد: بقيته.

الحديث الثالث 

عَنْ مَيْمُونَةَ بنْتِ الْحَارثِ زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهَا قَالَتْ: وَضَعْتُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَضُوءَ الجَنَابَة فأَكفَأ بِيِمِينِهِ علَى يساره مَرًّتيْنِ أوْ ثَلاثَا، ثم غَسَلَ فرْجَهُ، ثُمٌ ضَرَبَ يدَهُ بِالأرْضِ أوْ ا اْلحَائِطِ مرًّتينَ أوْ ثَلاثَاً ثمَّ مَضْمَضَ وَاَسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وجْهَهُ وَذِراعَيْهِ، ثمَّ أفَاضَ عَلى رَأسهِ الْمَاءَ، ثمَّ غَسَلَ سَائرَ جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَل رِجْليْهِ فأتيتهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْها، فَجَعَل يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ.

غريب الحديث:

1- "أكفأ الإناء" : قلبه على وجهه. وكفأه: أماله، والحديث يفيد الإمالة بلا شك، وهذا ما يوافق رواية البخاري وهى " كفأ " وأنكر بعضهم أَن يكون "أكفأ" بمعنى قلب.

2- "ضرب يده في الأرض أو الحائط" : المراد منه مسح يده بأحدهما لإزالة اللزوجة بعد الاستنجاء. 

3- "إفاضة الماء" : على الشيء وإفراغه عليه وإسالته فوقه. 

4- "فلم يُرِدْها" : بضم الياء وكسر الراء وإسكان الدال، من الإرادة لا من الردّ- كما غلط بعضهم. 

ما يؤخذ من الحديث:

هذا الحديث نحو الحديث السابق، وفيه فوائد نجملها فيما يلي .

1- الحديث الأول ذكر فيه غسل يديه مجملا ، وفي هذا الحديث ذكر أن غسلهما مرتين  أو ثلاثا.   

2- في هذا الحديث أنه بعد غسل اليدين غسل فرجه ثم مسح يديه بالأرض مرتين أو ثلاثا وقد ذكر العلماء أنه يعفى عن بقية الرائحة بعد دلكها بالأرض أو غسلها بمطهر آخر.

 3- يتعين أن ينوي بغسل فرجه ابتداء الجنابة لئلا يحتاج إلى غسله مرة أخرى.

 4- في الحديث الأول ذكر أنه توضأ وضوء الصلاة، ويقتضي أنه غسل رجليه. وهذا الحديث صرح أنه غسل رجليه بعد غسل الجسد. 

ولعل أحسن ما يجمع بينهما أن يقال: إنه توضأ في حديث ميمونة وضوءاً كاملا، ولكنه غسل رجليه مرة ثانية بعد غسل الجسد في مكان آخر لكون المكان المغتسل فيه متلوثا.

5- في هذا الحديث أن ميمونة جاءته بخرقة لينشـف بها أعضاءه، فلم يقبلها وإنما نفض يديه من الماء. 

6- أنه لا يجب دَلكُ الجسد في الغُسل. وهو كالدلك في الوضوء سنة.

7- أنه لا يغسل أعضاء الوضوء للجنابة بعد غسلها في الوضوء. فقد صحح النووي أنه يجزئ غسلة واحدة عن الوضوء وعن الجنابة

8- أن غسل الجسد مرة واحدة وبعضهم يجعله ثلاثا، قياساً على الوضوء، ولا قياس مع النص هذا اختيار شيخ الإسلام " ابن تيمية " وشيخنا- " عبد الرحمن السعدي " وأحد الوجهين في مذهب أحمد. 

 حكم من ينام جنب

عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ أن عمر بن الخَطَّابِ رضيَ الله عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله أيَرْقُدُ أحدنا وَهُوَ جُنُب؟ قالَ: " نعم " إذَا تَوَضَأ أحَدُكُم فَلْيَرْقُد.

المعنى الإجمالي:

كان الحدث من الجنابة عندهم كبيراً، لذا أشكل عليهم هل يجوز النوم بعده أو لا؟.

فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم  : إن أصابت أحدهم الجنابة من أول الليل، فهل يرقد وهو جنب؟

فأذن لهم صلى الله عليه وسلم بذلك، على أن يخفف هذا الحدث الأكبر بالوضوء الشرعي ، وحينئذ لا بأس من النوم مع الجنابة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز نوم الجنب قبل الغسل إذا توضأ.

2- أن الكمال أن لا ينام الجنب حتى يغتسل، لأن الاكتفاء بالوضوء رخصة.

3- مشروعيهَ الوضوء قبل النوم للجنب، إذ لم يغتسل.

4- كراهة نوم الجنب بلا غسل ولا وضوء.

 حكـم احتـلام المــرأة

عَنْ أم سَلَمَةَ زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم قَالتْ: جَاءَتْ أم سُلَيْمٍ- امْرَأةُ أبي طَلحَةَ- إلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم   فَقَاَلَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِن الله لا يستحي مِنَ الْحَق هَل عَلى المَرأةِ مِنْ غُسْل إِذَا هي احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم  : "نَعَمْ، إِذاَ هِيَ رَأتِ  اْلمَاءَ ".

المعنى الإجمالي:

جاءت أم سليم الأنصارية إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتسأله.

ولما كان سؤالها مما يتعلق بالفروج، وهى مما يستحيا من ذكره عادة قدمت بين يدي سؤالها تمهيداً لالقاء سؤالها حتى يخف موقعه على السامعين، فقالت: إن الله جل وعَلا وهو الحق، لا يمتنع من ذكر الحق الذي يستحيا من ذِكره من أجل الحياء، مادام في ذكره فائدة.

فلما ذكرت أم سليم هذه المقدمة التي لطفت بها سؤالها، دخلت في صميم الموضوع، فقالت: هل على المرأة غسل إذا هي تخيلت في المنام أنها تجامع؟.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم، عليها الغسل، إذا هي رأت نزول ماء الشهوة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن المرأة عليها الغسل حين تحتلم، إذا أنزلت ورأت الماء.

2- أن المرأة تُنْزِل كما يُنْزِلُ الرجل، ومن ذاك يكون الشبه في الولد،كما أشار إلى هذا بقية الحديث.

3- إثبات صفة الحياء لله جلّ وعلا، إثباتا يليق بجلاله، على أنه لا يمتنع تعالى من قول الحق لأجل الحياء. قَال ابن القيم في البدائع: إن صفات السلب المحض لا تدخل في أوصافه تعالى، إلا إذا تضمنت ثبوتا، وكذلك الإخبار عنه بالسلب، كقوله تعالى: "لا تأخذه سنة ولا نوم" فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته.  ا.هـ.

4- أن الحياء لا ينبغي أن يمنع من تعلُّم العلم، حتى في المسائل التي يستحيا مهنا.

5- أن من الأدب وحسن المخاطبة، أن يقدم أمام الكلام الذي يستحيا منه مقدمة تناسب المقام، تمهيدا للكلام ، ليخف وقعه، ولئلا ينسب صاحبه إلى الجفاء.

 بيــان حكـم الـمني

عن عَائِشَة قَالَتْ: كنتُ أغْسِل الْجَنَابةَ مَنْ ثَوبِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاةِ وإن بُقَعَ الْمَاءِ في ثَوْبِهِ. وفِي لفظ مسلم "لقد كُنْتُ أفرُكهُ مِن ثَوْبِ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَركاً فيصَلي فِيهِ ".

المعنى الإجمالي :

تذكر عائشة رضي الله عنها: أنه كان يصيب ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَنِى من الجنابة.

فتارة يكون رَطْباً فتغسله من الثوب بالماء، فيخرج إلى الصلاة، والماء لم يجف من الثوب.

وتارة أخرى، يكون المَنِىُّ يابساً، وحينئذ تفركه من ثوبه فَركاً، فيصلى فيه.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في نجاسة المني.

فذهبت الحنفية، والمالكية إلى نجاسته. مستدلين بأحاديث غسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا الحديث الذي معنا.

وذهب الشافعي، وأحمد، وأهل الحديث، وابن حزم، وشيخ الإسلام " ابن تيمية " وغيرهم من المحققين، إلى طهارته، مستدلين بأدلة  كثيرة منها ما يأتي :

1- صحة أحاديث فرك عائشة المنى من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، بظفرها، فلو كان نجسا، لما كفى إلا الماء، كسائر النجاسات.

2- أن المني هو أصل الإنسان ومعدنه، فلا ينبغي أن يكون أصله نجساً خبيثاً، والله كرمه وطهره.

3- لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله والتحرز منه، كالبول.

4- أجابوا عن أحاديث غسله، بأن الغسل لا يدل على النجاسة، كما أن غسل المخاط ونحوه، لا يدل على نجاسته.

والنظافة من النجاسات والمستقذرات، مطلوبة شرعا.

فكيف لا يقر غسله صلى الله عليه وسلم.

ما يؤخذ من الحديث:

1- طهارة المني، وعدم وجوب غسله من البدن والثياب وغيرها.

2- استحباب إزالته عن الثوب والبدن فيغسل رطباً، ويفرك يابساً.

 بيان أن الجماع يوجب الغسل سواء حصل معه إنزال أم لم ينزل

عَنْ أبى هُريرة رضي الله عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ " إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِها الأرْبَعِ، ثم جَهَدَهَا وَجَبَ الغُسْلُ " وفي لفظ لمسلم " وَإِن لَمْ يُنْزل ".

غريب الحديث:

1- "شعبها الأربع" : يريد بذلك يديها ورجليها، وهو كناية عن الجماع.

2- "ثم جهدها" : بفتح الجيم والهاء، معناه: بلغ المشقة بكدها، وهو كناية عن الإيلاج.

المعنى الإجمالي:

يقول النبي صلى الله عليه وسلم  ما معناه: إذا جلس الرجل بين شعب المرأة الأربع اللائي هن اليدان والرجلان، ثم أولج ذَكَره في فرج المرأة، فقد وجب عليهما الغسل من الجنابة وإن لم يحصل إنزال مَنِىٍّ، لأن الإيلاج وحده، أحد موجبات الغسل.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب الغسل من إيلاج الذَّكَرِ في الفرج، وإن لم يحصل إنزال.

2- يكون هذا الحديث ناسخاً لحديث أبي سعيد (الماء من الماء) المفهوم منه بطريق الحصر، أنه لا غسل إلا من إنزال المَنى.

 بيـان مقـدار المـاء الذي يكـفي للغسل من الجنـابة

عَنْ أبي جَعْفَر مُحَمَدِ بْنِ عَلِىِّ بْنِ الْحُسيْنِ بْنِ عَلِي بْنِ أبيِ طَالِب رَضِىَ الله عَنْهُمْ أنَّهُ كَانَ هُوَ وَأبُوهُ عنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله وَعِنْدَهُ قَوْمٌ، فسألوه عَنْ الْغُسْلِ فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعة[22]

فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِيني. فَقَال جَابر: كَانَ يَكْفِى مَنْ هُوِ أوْفَرُ مِنْكَ شَعَراً وَخَير مِنْكَ- يُريدُ رَسُولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أمَّنَا في ثوْبٍ . وفي لفظ " كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم  يُفرِغ المَاءَ عَلى رَأسِهِ ثَلاثَا ".

قال المصنف: الرجل الذي قال: " مَا يَكفينِي" هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أبوه محمد بن الحنفية.

 المعنى الإجمالي : كان أبو جعفر وأبوه عند الصحابي الجليل جابر بن عبد الله وعنده قوم، فسأل القوم جابرا عما يكفى من الماء في غُسل الجنابة فقال: يكفيك صاع.

وكان الحسن بن محمد بن الحنفية مع القوم عند جابر، فقال: إن هذا القدر لا يكفيني للغسل من الجنابة.

فقال جابر: كان يكفى من هو أوفر وأكثف منك شعراً، وخير منك، فيكون أحرص منك على طهارته ودينه- يعنى النبي صلى الله عليه وسلم.   

ثم بعد أن اغتسل بهذا  الصاع أمَّنَا في الصلاة، مما يدل على أنه تطهر بهذا الصاع الطهارة الكافية.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب الغسل من الجنابة، وذلك بإفاضة الماء على العضو، وسيلانه عليه. فمتى حصل ذلك تأدى الواجب.

2- قال في بداية المجتهد، لا يستدل به على لزوم الدلك ولا على عدمه.

3- أن الصاع الذي هو أربعة أمداد، يكفى للغسل من الجنابة. قال ابن دقيق العيد: وليس ذلك على سبيل التحديد ، فقد دلت الأحاديث على مقادير مختلفة، وذلك والله أعلم- لاختلاف الأوقات أو الحالات، كقلة الماء وكثرته، والسفر والحضر.

4- استحباب التخفيف في ماء الطهارة.

5- الإنكار على من يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

 بَــابُ التيـمّم

التيمم في اللغة: القصد، قال تعالى : { وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ }.

ثم نقل -في عرف الفقهاء- إلى مسح الوجه واليدين، بشيء من الصعيد، لأن الماسح. قصد إلى الصعيد. وقد عرفه بعض العلماء بقوله : طهـارة ترابية تشتمل على مسح الوجه واليدين عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله .

وهو من خصائص هذه الأمة المحمدية التي يسر الله أمورها، وسهَّل عليها شريعتها، وجعل لها من الحرج فرجا، ومن الضيق مخرجا، وطهر باطنها وظاهرها، بركة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

فإن من عدم الماء -الذي هو أحد أصلي الحياة- تعوض عنه بالأصل الثاني الذي هو التراب، لئلا يفقد الطهارة إطلاقا، فإن طهارة الماء تطهر الظاهر والباطن.

فإذا عدمت هذه الأداة الكاملة، رجعنا إلى صورة الطهارة بأداة التراب، لتحصل الطهارة الباطنة.

فلا شك في حكمته، ولا ريب في فائدته، لمن رُزق السعادة في الفهم.

وهو ثابت في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وإجماع الأمة المحمدية المهدِيَّةِ ويقتضيه القياس الصحيح.

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَين رَضيَ الله عَنْهُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رَأى رَجُلا مُعْتَزِلا لَمْ يُصَلِّ في القَوْم فقالَ: "يَافُلان مَا مَنَعَك أنْ تُصَلِّىَ  في الْقَوْم؟" فقال يَا رَسُولَ الله أصابتني جَنَابة وَلا مَاءَ، فقال: عَلَيْكَ بالصعِيِدِ فًإنَّهُ يَكْفِيكَ " رواه البخاري[23].

غريب الحديث:

1- "معتزلا" : منفرداً عن القوم، متنحيا عنهم، وهو خلاد بن رافع رضى الله عنه، وكان ممن شهد بدراً.

2- "الصعيد" : وجه الأرض وما علا منها.

  المعنى الإجمالي :

صلّى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته رأى رجلا لم يصل معهم.

فكان من كمال لطف النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن دعوته إلى الله، أنه لم يعنفْهُ على تخلفِه عن الجماعة، حتى يعلم السبب في ذلك.

فقال: يافلان، ما منعك أن تصلى مع القوم؟.

فشرح عذره- في ظنه- للنبي صلى الله عليه وسلم   بأنه قد أصابته جنابة ولا ماء عنده، فأخر الصلاة حتى يجد الماء ويتطهر.

فقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قد جعل لك- من لطفه- ما يقوم مقام الماء في التطهر، وهو الصعيد، فعليك به، فإنه يكفيك عن الماء.

ما يؤخذ من الحديث:

1- التيمم ينوب مناب الغسل في التطهير من الجنابة.

2- أن التيمم لا يكون إلا لعادم الماء أو المتضرر باستعماله وقد بسط الرجل عذره وهو عدم الماء، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم  على ذلك.

3- لا ينبغي لمن رأى مقصرا في عمل، أن يبادره بالتعنيف أو اللوم، حتى يستوضح عن السبب في ذلك، فلعل له عذراً، وأنت تلوم.

4- جواز الاجتهاد في مسائل العلم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ظن الصحابي أن من أصابته الجنابة لا يصلى حتى يجد الماء، وانصرف ذهنه إلى أن آية التيمم خاصة بالحدث الأصغر.

 كـيفـية التيــمم

عَنْ عمار بن يَاسِر رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال: بَعَثنِي رَسُولُ اللَه صلى الله عليه وسلم في حَاجَةٍ فَأجْنَبْتُ فَلَمْ أجدِ الْمَاءَ فَتَمَرغْتُ في الصعِيدِ كمَا تَمَرَغُ الدَّابة ثمً أتيْتُ النًبيَّ صلى الله عليه وسلم   فَذَكَرْتُ ذلِكَ لَهُ فَقَالَ: " إنَّما كان يَكْفِيكَ أن تَقولَ بِيَدَيْكَ هكَذَا " ثمَّ ضَرَبَ بيَدَيْهِ الأرْض ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُم مَسَح الشِّمَالَ عَلى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَيهِ ووَجهَهُ.  

غريب الحديث:

1- "فتمرغت في الصعيد" : تقلب في الأرض حتى عمَّ بدنه التراب.

2- "أن تقول بيديك" : يراد بالقول الفعل، وهو كثير في لسان الشرع ولغة العرب.

المعنى الإجمالي:

بعث النبي صلى الله عليه وسلم   "عمار بن ياسر" في سفر لبعض حاجاته، فأصابته جنابة، فلم يجد الماء ليغتسل منه، وكان لا يعلم حكم التيمم للجنابة، وإنما يعلم حكمه للحدث الأصغر. فاجتهد وظن أنه كما مسح بالصعيد بعض أعضاء الوضوء عن الحدث الأصغر، فلابد أن يكون التيمم من الجنابة بتعميم البدن بالصعيد، قياسا على الماء، فتقلَّب في الصعيد حتى عمه البدن وصلَّى.

فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في نفسه مما عمله شيء ، لأنه عن اجتهاد منه، ذكر له ذلك، ليرى، هل هو على صواب أو لا؟.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يكفيك عن تعميم بدنك كله بالتراب أن تضرب بيديك الأرض، ضربة واحدة، ثم تمسح شمالك على يمينك، وظاهر كفيك ووجهك.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء: هل يجزئ في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين أو لابد من  ضربتين؟ وهل لابد من المسح على اليدين إلى المرفقين.

فذهب بعضهم ومنهم الشافعي إلى أنه لابد من ضربتين.، واحدة للوجه والأخرى لليدين إلى المرفقين، محتجين بأحاديث.

منها ما رواه الدارقطني عن ابن عمر "التيمم مرتان ، ضَرْبَة للوجه وَضَربة لليَدَيْن إِلَى المِرفَقَيْنِ".

وذهب الجمهور، ومنهم الإمام أحمد، والأوزاعى، وإسحاق ، وأهل الحديث : إلى أن التيمم ضربة واحدة، وأنه لا يمسح بها إلا الوجه والكفان مستدلين بأحاديث صحيحة، منها حديث. عمار هذا. قال ابن حجر: وكان عمار يفتي به بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم  والراوي  للحديث أعرف بمراده.

وأجابوا عن أحاديث الضربتين والمرفقين، بما فيها من المقال المشهور.

ولا نجعل تلك الأحاديث في صف الأحاديث الصحاح الواضحة. قال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة. وما روي من ضربتين فكلها مضطربة. وقال ابن دقيق العيد: ورد في حديث التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين، إلا أنه لا يقاوم هذا الحديث في الصحة، ولا يعارض مثله بمثله.

وقال الخطابي: ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهذا المذهب أصح في الرواية.

      ما يؤخذ من الحديث:

1- التيمم للغسل من الجنابة.

2- أنه لابد من طلب الماء قبل التيمم.

3- صفة التيمم، وهو ضرب الأرض مرة واحدة، ثم مسح الوجه واليدين إلى المرفقين وتعميمها بالمسح. قال ابن رشد: إطلاق اسم اليد على الكف أظهر من إطلاقه على الكف والساعد.

4- ذكر الصنعانى أن العطف في روايات هذا الحديث قد جاء بالواو وتفيد العطف مطلق وجاء بالفاء وثم وتفيدان الترتيب- والترتيب زيادة، والزيادة من العدل مقبولة فيحمل مجموع ما في الصحيحين على الترتيب. ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم   تقديم اليدين على الوجه لا قولا ولا فعلا.

5- أن التيمم للحدث الأكبر، كالتيمم للحدث الأصغر، في الصفة والأحكام.

6- الاجتهاد في مسائل العبادات.

7- أن المجتهد إذا أدَّاه اجتهاده إلى غير الصواب، وفعل العبادة، ثم تبين له الصواب بعد ذلك فإنه لا يعيد تلك العبادة.

 بيـان الأمـور الخمسة التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم

عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسَا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنبياء، قبلي : (1) نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْر (2) وَجُعِلَت لي الأرض مسجدا وطَهُوراً فَأيُمَا رَجُل مِنْ أمتِي أدْرَكَتْهُ الصلاةُ فَلْيُصَل. (3) وأحِلَّتْ لي الغنائمُ،َ لَمْ  تَحلَّ  لأحَد  قَبلي. (4) وَأعْطيتُ الشفَاعَةَ. (5) وَكَانَ النبيُّ يُبْعَثُ[24] إِلى قَوْمِه خَاصَّةً: بُعِثْتُ إِلى النَاس كَافّةً ".

 غريب الحديث: 1- "لم تحل" : يجوز ضم التاء وفتح الحاء، على البناء للمفعول ، ويجوز فتح التاء وكسر الحاء على البناء للفاعل، وهو أكثر، قاله الشيخ نور الدين الهاشمي.

المعنى الإجمالي :

خص نبينا صلى الله عليه وسلم   عن سائر الأنبياء بخصال شرف، ومُيّزَ بمحامد لم تكن لمن قبله من الأنبياء عليهم السلام، فنال هذه الأمة المحمدية - ببركة هذا النبي الكريم الميمون- شيء من هذه الفضائل والمكارم.

فمن ذلك : ما ثبت في هذا الحديث من هذه الخصال الخمس الكريمة :

أولها: أن الله سبحانه تعالى نصره، وأيده على أعدائه، بالرعب، الذي يحل بأعدائه، فيوهن قواهم، ويضعضع كيانهم، ويفرق صفوفهم، ويقل جمعهم،

ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم على مسيرة شهر منهم، تأييداً من الله ونصراً لنبيه و خذلانا وهزيمة لأعداء دينه، ولا شك أنها إعانة كبيرة من الله تعالى.

 ثانيها: أن الله سبحانه تعالى وسّع على هذا النبي الكريم، وأمته المرحومة بأن جعل لها الأرض مسجداً.

فأينما تدركهم الصلاة فليصلوا، فلا تتقيد بأمكنة مخصوصة،كما كان من قبلهم لا يؤدون عباداتهم إلا في الكنائس، أو البِيَع، وهكذا فإن الله رفع الحرج والضيق عن هذه الأمة، فضلا منه وإحسانا، وكرما وامتنانا.

وكذاك كان من قبل هذه الأمة، لا يطهرهم إلا الماء، وهذه الأمة جعل التراب لمن لم يجد الماء طهورا. ومثله العاجز عن استعماله لضرره.

ثالثها: أن الغنائم التي تؤخذ من الكفار والمقاتلين، حلال لهذا النبي صلى الله عليه وسلم  وأمته، يقتسمونها على ما بين الله تعالى، بعد أن كانت محرمة على الأنبياء السابقين وأممهم، حيث كانوا يجمعونها، فإن قبلت، نزلت عليها نار من السماء فأحرقتها.

رابعها: أن الله سبحانه وتعالى، خصه بالمقام المحمود، والشفاعة العظمى، يوم يتأخر عنها أولو العزم من الرسل في عرصات القيامة، فيقول: أنا لها، ويسجد تحت العرش ، ويمجد الله تعالى بما هو أهله، فيقال: اشفع تُشفع، وسل تعطَه.

حينئذ يسأل الله الشفاعة للخلائق بالفصل بينهم في هذا المقام الطويل.

فهذا هو المَقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.

خامسها: أن كل نبي من الأنبياء السابقين تختص دعوتهم بقومهم.

وقد جعل اللهْ تعالى في هذا النبي العظيم، وفى رسالته السامية الصلاحية والشمول، لأن تكون الدستور الخالد، والقانون الباقي لجميع البشر، على اختلاف أجناسهم، وتبايُن أصنافهم، وتباعد أقطارهم، فهي الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، ولما كانت بهذه الصلاحية والسمُوَ، كانت هي الأخيرة، ،لأنها لا تحتاج إلى زيادة ولا فيها نقص.

وجعلت شاملة، لما فيها من عناصر البقاء والخلود.

ما يؤخذ من الحديث :

هذا حديث عظيم، وفيه فوائد جمة، ونقتصر على البارزة منها :

1- تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم   على سائر الأنبياء، وتفضيل أمته على سائر الأمم .

2- تعديد نِعَم الله على العبد، وإن ذكرها- على وجه الشكر لله، وذكر آلائه- يُعَدُّ عبادة، شكرًا لله.

3- كونه صلى الله عليه وسلم نُصِرَ بالرعب، وأحلت له الغنائم، وبعث إلى الناس عامة، وأعطي الشفاعة، وجعلت الأرض له ولأمته مسجداً وطهوراً، كل هذا من خصائصه. وقد عدت خصائصه فكانت سبع عشرة خصلة، وهى عند الصنعاني إحدى وعشرون ومن تتبع الجامعين الصغير والكبير وجد زيادة على هذا العدد...

4- أن صحة الصلاة لا تختص ببقعة دون أخرى.

5- أن الأصل في الأرض الطهارة للصلاة والتيمم.

6- أن كل أرض صالحة ليتيمم منها.

7- سعة هذه الشريعة وعظمتها، لذا جعلت لتنظيم العالم كله في عباداته ومعاملاته، على اختلاف أمصاره، وتباعد أقطاره.

8- قوله : " أيما رجل " لا يراد به جنس الرجال وحده، وإنما يراد أمثاله من النساء أيضا، لأن النساء شقائق الرجال.

9- قال الصنعاني : إنما خص مسافة الشهر، دون مسافة أبعد منه، لأنه لم يكن بينه وبين من أظهر العداوة له أكثر من ذلك.

 بَــابُ الحَيْـض

الحيض : دم، جعله الله تعالى -من رحمته وحكمته- في رحم المرأة، غذاءً لجنينها فإذا وضعت، تحوّل إلى لبن، لغذاء طفلها.

فإذا كانت غير حامل ولا مرضع، برز الزائد منه في أوقات معلومة. لهذا يندر أن تحيض الحامل، أو المرضع.

ويتعلق بخروجه أحكام في العبادات وغيرها.

عَن عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أبي حُبَيْش سَألتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إِني أُسْتَحَاضُ فلا أطْهُرُ، أفَأدَعُ الصَّلاةَ؟

قالَ: لا، إنَّ ذَلِك عِرْق، وَلَكن دَعِي الصَّلاةَ قَدْرَ الأيام، الَّتي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغتَسِلي وَصَلي.

وفي رواية " وَلَيْسَتْ بِالْحيْضَةِ، فإذا أقْبَلَت الْحيْضَةُ فاتركي الصَلاةَ، فإذا ذَهب قَدْرُهَا فاغسلي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي"[25]

غريب الحديث:

1-  "ذلكِ " :  بكسر الكاف، خطاباً للمرأة السائلة.

2- " عِرْق " : أي عرق انفجر،كما جاء في إحدى الروايات. ويقال لهذا

العرق : العاذل. وهو في أدنى الرحم دون قعره، ودم الحيض يخرج من قعر الرحم.

3- " إذا أقبلت الحيضة "  : قال الخطابي: بكسر الحاء، وغلط من فتحها، لأن المراد الحالة.

وجوز القاضي "عياض" وغيره، الفتح، وهو أقوى، لأن المراد الحيض.

4- ذكر الصنعانى أن " فدعي الصلاة " أولى من " فاتركي الصلاة " لأنه مما اتفقا عليه.

المعنى الإجمالي:

ذكرت " فاطمة " بنت أبي حُبَيْش[26] للنبي صلى الله عليه وسلم أن دم الاستحاضة يصيبها، فلا ينقطع عنها، وسألته هل تترك الصلاة لذلك؟

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تتركي الصلاة، لأن الدم الذي تُترك لأجله الصلاة، هو دم الحيض.

وهذا الدم الذي يصيبك، ليس دم حيض ، إنما هو دم عرق منفجر.

وإذا كان الأمر،كما ذكرت من استمرار خروج الدم في أيام حيضتك المعتادة، وفي غيرها، فاتركي الصلاة أيام حيضك المعتادة فقط.

فإذا انقضت، فاغتسلي واغسلي عنك الدم، ثم صلّى، ولو كان دم الاستحاضة معك.

ما يؤخذ من الحديث:

1- الفرق بين دم الاستحاضة  وبين دم الحيض فدم الاستحاضة هو المطبق وأما دم اْلحيض فله وقت خاص.

2- أن دم الاستحاضة لا يمنع من الصلاة، وسائر العبادات.

3- أن دم الحيض، يمنع من الصلاة من غير قضاء لها، وذكر ابن دقيق العيد أن ذلك كالمجمع عليه من الخلف والسلف إلا الخوارج.

4- أن المستحاضة التي تعرف قدر عادة حيضها تحسبها، ثم تغتسل بعد انقضائها، لتقوم أيام طهرها بالعبادات التي تتجنبها الحائض.

5- أن الدم نجس يجب غسله.

6- أنه لا يجب على المستحاضة تكرار الغسل لكل دخول وقت صلاة.

7- ذكر ابن دقيق العيد أن قوله " فاغسلي عنك الدم وصلى " مشكل في ظاهره، لأنه لم يذكر الغسل، ولابد فيه بعد انقضاء أيام الحيض من الغسل - والجواب الصحيح أن هذه الرواية وإن لم يذكر فيها الغسل فهي متضمنة له لوروده في الرواية الأخرى الصحيحة التي قال فيها: "واغتسلي".

 بـاب حكـم المستحاضة

عَنْ عَائِشَة رَضي الله عَنْهَا أنَ أمَّ حَبيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنَينَ، فَسَألتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  عن ذلكَ فأمًرَهَا أنْ تَغْتَسِل فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ[27] لكل صَلاةٍ.

المعنى الإجمالي:

أصابت الاستحاضة " أم حبيبة بنت جحش" ، سبع سنين، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم  عن كيفية الطهر من ذلك، فأمرها أن تغتسل فكانت تفعل ذلك لكل صلاة .

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في غسل المستحاضة لكل صلاة، هل يجب أو لا ؟.

فذهب بعضهم إلى وجوبه، عملا بأحاديث وردت بذلك في بعض السنن.

وذهب الجمهور من السلف ومنهم علي وابن عباس وعائشة والخلف، ومنهم الأئمة أبو حنيفة، ومالك، وأحمد إلى عدم وجوبه، مستدلين بالبراءة الأصلية، وهو أن الأصل عدم الوجوب، وأجابوا عن أحاديث الأمر بالغسل أنه ليس فيها شيء ثابت.

وغسل أم حبيبة لكل صلاة، إنما هو من عندها، ليس أمراً من النبي صلى الله عليه وسلم لها في كل صلاة، وإنما أمرها بالغسل فقط،كما هو في الروايات الثابتة. وذكر ابن دقيق العيد أنه ليس في الصحيحين ولا أحدهما أنه أمرها بالاغتسال لكل صلاة.

ما يؤخذ من الحديث:

وجوب الغسل على المستحاضة عند انتهاء عدة أيام حيضها.

 حكـم مبـاشرة المـرأة الحـائض

 الحديث الأول

عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالتْ: كُنْتُ أغْتَسِل أنَا ورَسُول الله صلى الله عليه وسلم من إنَاء واحِدٍ ، كِلانَا جُنُب فَكَانَ يَأمرُني فَأتزرُ[28] فيباشرني وَأنَا حَائِض، وَكَانَ يُخرِجُ رأسه إلي  وَهُوَ معْتَكِفٌ فَأغْسِلُهُ وأنا حَائِضٌ .

 المعنى الإجمالي: اشتمل هذا الحديث على ثلاث مسائل:

الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم  وزوجته، كانا يغتسلان من الجنابة من إناء واحد، لأن الماء طاهر لا يضره غَرْفُ الجنب منه، إذا كان قد غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء.

والثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم   أراد أن يشرّع لأمته في القرب من الحائض بعد أن كان اليهود لا يؤاكلونها، ولا يضاجعونها.

فكان صلى الله عليه وسلم   يأمر عائشة أن تتَّزر، فيباشرها بما دون الجماع، وهي حائض.

الثالثة: أن الحائض لا تدخل المسجد، لئلا تلوثه.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم   يخرج إليها في بيتها رأسه، وهو في المسجد فتغسله، مما يدل على أن قرب الحائض، لا مانع منه لمثل هذه الأعمال وقد شرع توسعة بعد حرج اليهود.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز اغتسال الجنبين من إناء واحد.

2- جواز مباشرة الحائض فيما دون الفرج. وأن بدنها طاهر لم تحل فيه نجاسة بحيضها.

3- استحباب لبسها الإزار وقت المباشرة. 

4- اتخاذ الأسباب المانعة من الوقوع في المحرم. 

5- منع دخول الحائض المسجد. 

6- إباحة مباشرتها الأشياء رطبة أو يابسة، ومن ذلك غسل الشعر وترجيله.

7- أن المعتكف إذا أخرج رأسه من المسجد لا يعد خارجا منه يقاس عليه غيره من الأعضاء، إذا لم يخرج جميع بدنه. 

 الحديث الثاني

عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتَّكِئُ في حِجْري وَأنَا حَائِض فَيَقْرأ القرآن .

 غريب الحديث:

"يتكئ في حجري" "يتكئ" مهموز.

ويجوز الفتح والكسر في الحاء من "حجري": هما لغتان.

المعنى الإجمالي:

ذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن في حجرها وهي حائض، مما يدل على أن بدن الحائض طاهر، لم ينجس بالحيض.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز قراءة القرآن في حجر الحائض، لأنها طاهرة البدن والثياب .

2- تحريم قراءة القرآن على الحائض، أخذاً من توهّم امتناع القراءة في حجر الحائض. قاله ابن دقيق العيد.

 الحـائض لا تقضي الصلاة ولكـن تقضي الصـوم

عَنْ مُعَاذَةَ قالت: سَألْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا فَقُلْتُ: مَا بالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلا تَقْضِى الصلاةَ؟

فقالت: أحَرُورِيَّةٌ أنْتِ؟ فَقُلْتُ: لسْتُ بِحَرُورِيَّة.  وَلكِنْ أسْألُ.

فَقَالَتْ: كَانَ يُصيبُنَا ذلكَ فنؤمَر بِقَضَاءِ الصَّوْم وَلا نُؤمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ[29]

 غريب الحديث: "أحرورية أنت" نسبة إلى بلدة قرب الْكوفة، اسمها "حروراء" خرجت منها أول فرقة من الخوارج على عليّ بن أبي طالب، فصار الخوارج يعرفون بالحرورية.

المعنى الإجمالي:

سألت معاذة عائشة عن السبب الذي من أجله جعل الشارع أن الحائض تقضى أيام حيضها التي أفطرتها، ولا تقضى صلواتها زمن الحيض، مع اشتراك العبادتين في الفرضية، بل إن ا لصلاة أعظم من الصيام.

وكان عدم التفريق بينهما في القضاء، هو مذهب الخوارج المبنى على الشدة الحرج.

فقالت لها عائشة- رضي الله عليها-: أحرورية أنتِ تعتقدين مثل ما يعتقدون، وتشددِين كما يُشدون؟[30]

فقالت : لست حرورية، ولكنى أسأل سؤال متعلم مسترشد.

فقالت عائشة: كان الحيض يصيبنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكنا نترك الصيام والصلاة زمنه، فيأمرنا صلى الله عليه وسلم بقضاء الصوم ولا يأمرنا بقضاء الصلاة، ولو كان القضاء واجباً، لأمر به ولم يسكت عنه.

فكأنها تقول: كفى بامتثال أوامر الشارع والوقوف عند حدوده حكمة ورشداً.

  ما يؤخذ من الحديث:

1- أن الحائض تقضى الصيام ولا تقضي الصلاة، لأن الصلاة تتكرر كل يوم خمس مرات، فهي عبادة مستمرة ويحصل من إعادتها وقضائها مشقة أيضاً.

2- أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم أمته على شيء يعد من السنة.

3- الإنكار على كل من سأل سؤال تعنت ومجادلة.

4- تبيين المعلم لمن طلبه للتعلم والاسترشاد.

5- كون الحائض لا تقضي الصلاة لأجل المشقة، من الأدلة التي تقرر القاعدة الإسلامية العامة وهى (إن المشقة تجلب التيسر).

 كِتَــابُ الصـلاة

مقـدمـة

الصلاة -في اللغة- الدعاء. قال القاضي عياض: هو قول أكثر أهل العربية والفقهاء. وتسمية الدعاء صلاة معروف في كلام العرب. والعلاقة بين الدعاء والصلاة الجزئية. فإن الدعاء جزء من الصلاة، لأنها قد اشتملت عليه.

وفي الشرع: " أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم مع النية". والصلوات الخمس أحد أركان الإسلام الخمسة، بل أعظمها بعد الشهادتين.

وثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع، فمن جحدها فقد كفر.

وفي مشروعيتها من الفوائد ما يفوت الحصر من الوجهة الدينية والدنيوية، والصحية، والاجتماعية، والسياسية والنظامية.

ولو ذهب الكاتب يَعُدُّها عدًا، لطال عليه الكلام.

والله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين ، حين فرضها، فبقيامها قيام الدنيا والآخرة.

ولها فروض، وشروط، ومكملات، كما أن لها مبطلات ومنقصات.

تقدم أحد شروطها، وهو الطهارة، وتأتي بقية أحكامها في الأحاديث التالية إن شاء الله تعالى.

 بَــابُ المَـواقِـيت

المواقيت: جمع " ميقات " والمراد هنا- المواقيت الزمانية التي هي المقدار المحدد لفعل الصلوات المفروضات وغيرها.

ودخول وقت المفروضة، هو الشرط الثاني، من شروط الصلاة.

 الحديث الأول

عَن أبِى عَمْرو الشَّيْباني -واسمه " سعد بن إياس "- قال: حدثني صَاحِـبُ هذا الدَّار -وَأشَار بيده إلى دار عبد بن مسعود- قال: سَألْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أُيّ الأعمالِ أحـبُّ إِلى الله عزَّ وجل قال : " الصَّلاة عَلَى وَقْتِها ". قلت: ثم أيٌّ؟ قال " بِر الوالِدَين ". قلت: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: " الْجِهَادُ في سبِيلِ الله ".

قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني.

 غريب الحديث:

"الصلاة على وقتها" : يريد بها الصلاة المفروضة، لأنها هي المرادة عند الإطلاق.

"أيّ" : استفهامية معربة. وقيل: إنها غير منونة مع إعرابها وذلك لتقدير الإضـافة.

المعنى الإجمالي:

سأل ابن مسعود رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعات لله، أيها أحب إلى الله تعالى؟ فكلما كان العمل أحب إلى الله، كان ثوابه أكثر.

فقال صلى الله عليه وسلم  - مبيناً-: إن أحبها إلى الله تعالى، الصلاة المفروضة في وقتها، الذي حدده الشارع لأن فيه المبادرة إلى نداء اللَه تعالى وامتثال لأمره، والاعتناء بهذا الفرض العظيم.

ومن رغبته رضي الله عنه في الخير، لم يقف عند هذا، بل سأله عن الدرجة الثانية، من محبوبات الله تعالى قال : بر الوالدين.

فإن الأول محْض حق الله، وهذا محض حق الوالدين.

وحق الوالدين يأتي بعد حق الله، بل إنه سبحانه من تعظيمه له يقرن  حقهما وبرهما مـع توحيده في مواضع من القرآن الكريم، لما لهما من الحق الواجب، مقابِلَ ما بذلاه من التسبب في إيجادك وتربيتك، وتغذيتك، وشفقتهما وعطفهما عليك.

فالبر بهما، وفاء لبعض حقهما.

ثم إنه -رضي الله عنه- استزاد من لا يبخل، عن الدرجة الثانية من سلسلة هذه الأعمال الفاضلة، فقال : الجهاد في سبيل الله، فإنه ذروة سنام الإسلام وعموده ، الذي لا يقوم إلا به، وبه تعلو كلمة اللَه وينشر دينه.

وبتركه -والعياذ بالله- هدم الإسلام ، وانحطاط أهله، وذهاب عزهم، وسلب ملكهم،  وزوال سلطانهم ودولتهم.

وهو الفرض الأكيد على كل مسلم، فإن من لم يغْزُ، و لم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن أحب الأعمال إلى الله تعالى، الصلاة في أوقاتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله، وذلك بعد وجود أصل الإيمان. فإن العبادات فروعه وهو أساسها.

2- يقصد- بهذا السؤال الأعمال البدنية، بقرينة تخصيص الجواب بالصلاة وبر الوالدين والجهاد ولم يدخل في السؤال ولا جوابه شيء من أعمال القلوب التي أعلاها الإيمان.

3- أن الأعمال ليست في درجة واحدة في الأفضلية، وإنما تتفاوت حسب تقريبها من الله تعالى ، ونفعها، ومصلحتها. فسأل، عما ينبغي تقديمه منها.

4- أن الأعمال تفضل عن غيرها من أجل محبة الله لها.

5- إثبات صفة المحبة لله تعالى، إثباتا يليق بجلاله.

6- فضل السؤال عن العلم، خصوصاً الأشياء الهامة. فقد أفاد هذا السؤال نفعاً عظيماً.

7- ترك بعض السؤال عن العلم لبعض الأسباب كمخافة الإضجار والهيبة من المسؤول.

فــائـدة:

سئل النبي صلى الله عليه وسلم  عن المفاضلة في الأعمال عدة مرات.

وكان صلى الله عليه وسلم يجيب على ذلك بما يناسب المقام، ويصلح لحال السائل

ولذا فإنه، تارة يقول : الصلاة في أول وقتها. وتارة يقول: الجهاد في سبيل الله. وتارة الصدقة، وذلك على حسب حال المخاطب وما يليق به.

ولا شك أن هذه أجوبة الحكمة والسداد، وفتاوى من يريد العمل والصالح العام، فإن الدين الإسلامي دين الواقع في أحكامه وأعماله.

لذا ينبغي أن تكون المفاضلة بين الأعمال، مبنية على هذا الأساس.

فإن  لكل إنسان عملا يصلح له ولا ينجـح إِلا به، فينبغي توجيهه إليه كذلك الوقت يختلف.

فحينا تكون الصدقة أفضل من غيرها، كوقت المجاعات والحاجة.

وتارة يكون طلب العلم الشرعي أنفع للحاجة إليه، والانصراف عنه.

وكذلك وظائف اليوم والليلة، فساعة يكون الاستغفار والدعاء أولى من القراءة. وساعة أخرى تكون الصلاة، وهكذا.

 الحديث الثاني

عن عَائشَةَ قالت: لقَدْ كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يصلَيِ الْفجر فَتَشْهَد مَعَهُ نسَاء من الْمُؤْمنَات متَلَفعاتٍ بِمُروطِهِن، ثمَ يرجعن إِلَى بُيُوتِهـنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ من الْغَلَسِ.

 قال : المروط، أكسية معلمة تكون من خَزٍّ، وتكون من صوف.

"ومتلفعات" ملتحفات. و "الغلس" اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل.

غريب الحديث:

1- "معلمة" : بفتح اللام وتشـديدها.

2- "الغَلَس" : بفَتح الغين المعْجمة واللام.

3- "بمروطهن" : المرط -بكسر الميم- كساء مخطط بألوان. وزاد بعضهم أنها مربعة.

4- "متلفعات" : متلففات، أي غطين أبدانهن ورؤوسهن.

المعنى الإجمالي:

تذكر عائشة رضي الله عنها، أن نساء الصحابة، كن يلتحفن بأكسيتهن ويشهدن صلاة الفجر مـع النبي صلى الله عليه وسلم، ويرجعن بعد الصلاة إلى بيوتهن، وقد اختلط الضياء بالظلام، إِلا أن الناظر إليهن لا يعرفهن، لوجود بقية الظلام المانعة من ذلك.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في الأفضل في وقت صلاة الفجر.

فذهب الحنفية إلى أن الإسفار فيها أفضل، لحديث " أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر ". قال الترمذي : حسن صحيح.

وذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة إلى أن التغليس بها أفضل، لأحاديث كثيرة منها حديث الباب.

وأجابوا عن حديث " أسفروا بالفجر... إلخ " بأجوبة كثيرة، وأحسنها جوابان :

1-. فإما أن يراد بالأمر بالإسفار تحقق طلوع الفجر حتى لا يتعجلوا، فيوقعونها في أعقاب الليل، ويكون " أفعل التفضيل " الذي هو " أعظم " جاء على غير بابه، وهو يأتي لغير التفضيل كثيراً.

2- وإما أن يراد بالإسفار إطالة القراءة في الصلاة، فإنها مستحبة، وبإطالة القراءة، لا يفرغون من الصلاة، إلا وقت الإسفار.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب المبادرة إلى صلاة الصبح في أول وقتها.

2- جواز إتيان النساء إلى المساجد لشهود الصلاة مع الرجال، مع عدم خوف الفتنة، ومع تحفظهـن من إشهار أنفسهن بالزينة.

 الحديث الثالث

عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضِي الله عَنْهُمَا قال: كَان النَّبيُ صَلَى الله عَلَيْةِ وسَلَمَ يُصَلى الظهْرَ بالْهَاجرَةِ، وَالعَصْرَ، والشمس نَقِية، وَالمغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالعشَاءَ أحياناً وأحْيَاناً . إِذا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عجَّلَ وَإذا رآهُم أبْطَئُوا أخَرَ، والصبْحُ كَانَ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُصَليهَا بِغَلَس.

 غريب الحديث:

1- " الهاجرة " : هي شدة الحر بعد الزوال. مأخوذة من هجر الناس أعمالهم لشـدة الحر.

2- " نقية " : صافية، لم تدخلها صفرة ولا تغير.

3- " إذا وجبَت " : سقطت وغابت، يعنى الشمس.

4- " الغلس " : بفتح الغين واللام، ظلام آخر الليل مع ضياء الصبح، وتقدم.

المعنى الإجمالي:

في هذا الحديث بيان الأفضل في الوقت، لأداء الصلوات الخمس.

فصلاة الظهر: حين تميل الشمس عن كبد السماء.

والعصر: تصلى، والشمس ما تزال بيضاء نقية، لم تخالطها صفرة المغيب وقدرها: أن يكون ظل كل شيء مثله، بعد ظل الزوال.

المغرب: تصلى وقت سقوط الشمس في مغيبها.

وأن العشاء: يراعى فيها حال المؤتمين ، فإن حضروا في أول وقتها ، وهو زوال الشفق الأحمر صلوا وإن لم يحضروا أخرها إلى ما يقرب من النصف الأول من الليل، فإنه وقتها الأفضل لولا  المشقة.

وأن صلاة الصبح: تكون عند أول اختلاط الضياء بالظلام .

فــائدة:

يفهم من هذا الحديث أفضلية المبادرة بصلاة الظهر مطلقا، ولكنه مخصص بحديث أبي هريرة " إِذَا اشتَدَّ الْحَرُّ فَأبرِدُوا بِالصلاة فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ من فَيْح جَهَنمَ " متفق عليه. وفي حديث خباب عند مسلم قال: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرمضاء فلم يشكنا " يريد أنهم طلبوا تأخير الظهر عن وقت الإبراد فلم يجبهم. وذلك لخشية خروج الوقت.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أفضلية المبادرة بالصلاة في أول وقتها ماعدا العشاء.

2- أن الأفضل في العشاء، التأخير، ويكون إلى نصفَ  الليل ، كما صحت به الأحاديث، إلا إذا اجتمع المصلون فتصلى خـشية المشقة عليهم بالانتظار.

3- أن الأفضل للإمام مراعاة حال المؤتمين من التخفيف مع الإتمام والإطالة مع عدم الإضجار.

4- في الحديث دليل على التغليس في الفجر، وهو حجة على من يرى الإسفار كما تقدم.

5- في الحديث دليل على أن الصلاة في جماعة أولى من الإتيان بالصلاة في أول وقتها . وذلك لمراعاة الجماعة في صلاة العشاء.

 الحديث الرابع

عَنْ أبي الْمِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلامَةَ قالَ: " دَخَلْتُ أنَا وَأبي عَلَى أبي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ فَقَالَ لَهُ أبي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلي الْمَكْتُوبَةَ؟

فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّى الهاجرة الَّتي تَدْعُونَهَا الأوَلى، حِينَ تَدْحَضُ الشًمْسُ، وَيُصَلى الْعَصْرَ، ثُمّ يَرْجِعُ أحَدُنَا إِلى رَحْلِهِ في أقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشًمْسُ حَيّة. وَنَسِيت مَا قَال في الْمَغْرِبِ وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أنْ يُؤَخرَ مِنَ العشَاءِ التي تَدعُونَهَا الْعَتَمَةَ. وَكَانَ يَكْرَهُ النَوْمَ قبلَهَا وَاْلحدِيث بَعْدَهَا. وَكَان يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ اْلَغدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَجُلُ جَلِيسَهُ. وَكَانَ يَقْرأ بالستينَ إِلى الْمائَةِ ".

 غريب الحديث: 1- "المكتوبة" : هي الصلوات الخمس. ويريد المفروضة.

2- "الأولى" : هي الظهر، لأنها أول صلاة أقامها جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام.

3- "تَدْحَض الشمس" : تزول عن وسط السماء. إلى جهة الغرب. ويقال: دحض برجله: إذا فحص بها.

4- "والشمس حية" : مجاز عبر به عن نقاء بياضها والمراد بحياتها: قوة أثر حرارتها وإنارتها.

5- "العَتَمة" : محركة، ظلمة الليل حين يغيب الشفق، ويمضى من الليل ثلثه، ويراد هنا، صلاة العشاء.

6- "ينفتل من صلاة الغداة" : ينصرف من صلاة الصبح.

المعنى الإجمالي :

ذكر أبو برزة أوقات الصلاة المكتوبة، فابتدأ بأنه كان صلى الله عليه وسلم  يصلى الهاجرة، وهى صلاة الظهر، حين تزول الشمس نحو الغروب، وهذا أول وقتها.

ويصلى العصر، ثم يرجع أحد المصلين إلى رحله في أقصى المدينة والشمس ما تزال حية، وهذا أول وقتها.

أما " المغرب " فقد نسـي الراوي ما ورد في. وتقدم أن دخول وقتها بغروب الشمس.

وكان صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر العشاء، لأن وقتها الفاضل هو أن تصلى في آخر وقتها المختار، وكان يكره النوم قبلها خشـية أن يؤخرها عن وقتها المختار أو يفوت الجماعة فيها، ومخافة الاستغراق في النوم وترك صلاة الليل وكان يكره الحديث بعدها خشـية التأخر عن صلاة الفجر في وقتها. أو عن صلاتها جماعة. كما  ينصرف من صلاة الفجر، والرجل يعرف  من جلس بجانبه، مِع أنه يقرأ في صلاتها من ستين آية إلى المائة، مما دل على أنه كان يصليها بغَلس.

ما يؤخذ من الحديث:

1- بيان أول أوقات الصلوات الخمس وأن آخر جزء من وقت أية صلاة هو أول جزء من وقت الصلاة التي بعدها. فليس بين وقتيهما وقت فاصل.

2- بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في أول وقتها، عدا العشاء.

3- إن الأفضل في العشاء التأخير إلى آخر وقتها المختار، وهو نصف الليل لكن تقيد أفضلية تأخير العشاء بعدم المشقة على المصلين كما تقدم.

4- كراهة النوم قبل صلاة العشاء، لئلا يضيع الجماعة، أو يوقعها بعد وقتها المختار.

5- كراهة الحديث بعدها لئلا ينام عن صلاة الليل، أو عن صلاة الفجر جماعة، لكن كراهة الحديث بعد العشاء لا تنسحب على مذاكرة العلم النافع أو الاشتغال بمصالح المسلمين.

6- قوله : التي تدعونها العتمة: دليل على كراهة تسمية صلاة العشاء بالعتمة، وقد جاء في صحيح مسلم مرفرعاً "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، فإنها في كتاب الله العشاء " وكان ابن عمر يغضب من هذه التسمية.

وورد ما يدل على الجواز، وأن الغضب من التسمية للكراهة فقط، ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً " لو تعلمون ما في العتمة والفجر ".

7- أن يوقع صلاة الفجر في غلس، حيث ينصرف منها، الرجل لا يعرف إلا من بجانبه مع أنه يقرأ في صلاتها من ستين آية إلى المائة.

8- فضيلة تطويل القراءة في صلاة الصبح .

9- وفيه أنه ينبغي لمن سئل عن علم وهو لا يعلم، أن لا يستنكف من قول " لا أعلم " لأن الإفتاء عن جهل قول على الله بلا علم.

والتوقف من العالم عما لا يعلم ليس نقصا في حقه، بل شرف عظيم، حيث تورّع عن الخبط بلا علم، وحيث تواضع فوقف عند حده من العلم.

فـائدة:

يفهم من هذا الحديث أفضلية المبادرة بصلاة الظهر مطلقا، ولكنه مخصص بحديث أبي هريرة " إِذَا اشتَدَّ الْحَرُّ فَأبرِدُوا بِالصلاة فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ من فَيْح جَهَنمَ " متفق عليه. وفي حديث خباب عند مسلم قال: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرمضاء فلم يشكنا " يريد أنهم طلبوا تأخير الظهر عن وقت الإبراد فلم يجبهم. وذلك لخشية خروج الوقت.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أفضلية المبادرة بالصلاة في أول وقتها ماعدا العشاء.

2- أن الأفضل في العشاء، التأخير، ويكون إلى نصفَ  الليل ، كما صحت به الأحاديث، إلا إذا اجتمع المصلون فتصلى خـشية المشقة عليهم بالانتظار.

3- أن الأفضل للإمام مراعاة حال المؤتمين من التخفيف مع الإتمام والإطالة مع عدم الإضجار.

4- في الحديث دليل على التغليس في الفجر، وهو حجة على من يرى الإسفار كما تقدم.

5- في الحديث دليل على أن الصلاة في جماعة أولى من الإتيان بالصلاة في أول وقتها . وذلك لمراعاة الجماعة في صلاة العشاء.

 الحديث الرابع

عَنْ أبي الْمِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلامَةَ قالَ: " دَخَلْتُ أنَا وَأبي عَلَى أبي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ فَقَالَ لَهُ أبي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلي الْمَكْتُوبَةَ؟

فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّى الهاجرة الَّتي تَدْعُونَهَا الأوَلى، حِينَ تَدْحَضُ الشًمْسُ، وَيُصَلى الْعَصْرَ، ثُمّ يَرْجِعُ أحَدُنَا إِلى رَحْلِهِ في أقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشًمْسُ حَيّة. وَنَسِيت مَا قَال في الْمَغْرِبِ وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أنْ يُؤَخرَ مِنَ العشَاءِ التي تَدعُونَهَا الْعَتَمَةَ. وَكَانَ يَكْرَهُ النَوْمَ قبلَهَا وَاْلحدِيث بَعْدَهَا. وَكَان يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ اْلَغدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَجُلُ جَلِيسَهُ. وَكَانَ يَقْرأ بالستينَ إِلى الْمائَةِ ".

 غريب الحديث:

1- "المكتوبة" : هي الصلوات الخمس. ويريد المفروضة.

2- "الأولى" : هي الظهر، لأنها أول صلاة أقامها جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام.

3- "تَدْحَض الشمس" : تزول عن وسط السماء. إلى جهة الغرب. ويقال: دحض برجله: إذا فحص بها.

4- "والشمس حية" : مجاز عبر به عن نقاء بياضها والمراد بحياتها: قوة أثر حرارتها وإنارتها.

5- "العَتَمة" : محركة، ظلمة الليل حين يغيب الشفق، ويمضى من الليل ثلثه، ويراد هنا، صلاة العشاء.

6- "ينفتل من صلاة الغداة" : ينصرف من صلاة الصبح.

المعنى الإجمالي :

ذكر أبو برزة أوقات الصلاة المكتوبة، فابتدأ بأنه كان صلى الله عليه وسلم  يصلى الهاجرة، وهى صلاة الظهر، حين تزول الشمس نحو الغروب، وهذا أول وقتها.

ويصلى العصر، ثم يرجع أحد المصلين إلى رحله في أقصى المدينة والشمس ما تزال حية، وهذا أول وقتها.

أما " المغرب " فقد نسـي الراوي ما ورد في. وتقدم أن دخول وقتها بغروب الشمس.

وكان صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر العشاء، لأن وقتها الفاضل هو أن تصلى في آخر وقتها المختار، وكان يكره النوم قبلها خشـية أن يؤخرها عن وقتها المختار أو يفوت الجماعة فيها، ومخافة الاستغراق في النوم وترك صلاة الليل وكان يكره الحديث بعدها خشـية التأخر عن صلاة الفجر في وقتها. أو عن صلاتها جماعة. كما  ينصرف من صلاة الفجر، والرجل يعرف  من جلس بجانبه، مِع أنه يقرأ في صلاتها من ستين آية إلى المائة، مما دل على أنه كان يصليها بغَلس.

ما يؤخذ من الحديث:

1- بيان أول أوقات الصلوات الخمس وأن آخر جزء من وقت أية صلاة هو أول جزء من وقت الصلاة التي بعدها. فليس بين وقتيهما وقت فاصل.

2- بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في أول وقتها، عدا العشاء.

3- إن الأفضل في العشاء التأخير إلى آخر وقتها المختار، وهو نصف الليل لكن تقيد أفضلية تأخير العشاء بعدم المشقة على المصلين كما تقدم.

4- كراهة النوم قبل صلاة العشاء، لئلا يضيع الجماعة، أو يوقعها بعد وقتها المختار.

5- كراهة الحديث بعدها لئلا ينام عن صلاة الليل، أو عن صلاة الفجر جماعة، لكن كراهة الحديث بعد العشاء لا تنسحب على مذاكرة العلم النافع أو الاشتغال بمصالح المسلمين.

6- قوله : التي تدعونها العتمة: دليل على كراهة تسمية صلاة العشاء بالعتمة، وقد جاء في صحيح مسلم مرفرعاً "لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، فإنها في كتاب الله العشاء " وكان ابن عمر يغضب من هذه التسمية.

وورد ما يدل على الجواز، وأن الغضب من التسمية للكراهة فقط، ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً " لو تعلمون ما في العتمة والفجر ".

7- أن يوقع صلاة الفجر في غلس، حيث ينصرف منها، الرجل لا يعرف إلا من بجانبه مع أنه يقرأ في صلاتها من ستين آية إلى المائة.

8- فضيلة تطويل القراءة في صلاة الصبح .

9- وفيه أنه ينبغي لمن سئل عن علم وهو لا يعلم، أن لا يستنكف من قول " لا أعلم " لأن الإفتاء عن جهل قول على الله بلا علم.

والتوقف من العالم عما لا يعلم ليس نقصا في حقه، بل شرف عظيم، حيث تورّع عن الخبط بلا علم، وحيث تواضع فوقف عند حده من العلم.

فـائدة:

إذا كان الحديث مكروهاً بعد العشاء وهو في الكلام المباح والسمر البريء ، فكيف حال من يحيون الليل في سماع الأغاني الخليعة، ومطالعة الصحف والروايات الفاتنة الماجنة، ومن فتنوا بالمناظر المخجلة والأفلام الآثمة، والألعاب الملهية، الصادَّة عن ذكر الله  وعن الصلاة حتى إذا قرب الفجر، وحان وقت تنزل الرحمات هجعوا، فما يوقظهم من مضاجعها إلا حر الشمس وأصوات الباعة وحركة الحياة، وقد تركوا صلاة الفجر جماعة، بل ربما أضاعوها عن وقتها.

أسف شديد وغم قاتل، على أناس سارت بهم الحياة على هذا المنوال البشـع ولعب بهم الشيطان فصدهم عما ينفعهم إلى ما يضرهم فهؤلاء يخشى عليهم أن يكونوا ممن نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فضرب عليهم حجاب الغفلة، فلا يتذكرون إلا حين لا تنفعهم الذكرى.

 الحديث الخامسعَنْ عَلِىٍّ رَضي الله عَنْهُ أنَ النَبيَّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ قالَ يَوْمَ الخَنْدَق : " مَلأ الله قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نارا، كَمَا شَغلُونَا عن الصلاةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ ".

وفي لفظ لمسلم: "شَغَلُونَا عَنِ الصلاةِ الوُسْطَى - صَلاةِ الْعصْرِ- ثم صلاها بين المغرب والعشاء".

وله عن عبد الله بن مسعود قال : حَبَس اْلمُشركُون رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن صَلاةِ العصْرِ حتَى احْمَرَّتِ الشمس أو اصْفَرَّت  فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شَغَلُونَا عن الصَّلاةِ الوُسْطَى - صَلاةِ العصَر- مَلأ الله أجْوَافَهُمْ وقبُورَهُمْ نَارا" أو "حَشـا الله أجْوَافَهُمْ وقُبُورهُمْ نَارا ".

 غريب الحديث: 1- "الخندق" : أخدود حفره الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته أحاط بشمالي المدينة المنورة من الحرة الشرقية إلى الحرة الغربية، حيث كانت جموع العدو تحاصره سنة خمس من الهجرة ، الوسطى: مؤنث أوسط. وأوسط الشيء: خياره ومن ذلك قوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي خياراً.

المعنى الإجمالي:

شغل المشـركون النبي صلى الله عليه وسلم  وأصحابه بالمرابطة وحراسة المدينة وأنفسهم عن صلاة العصر حتى غابت الشمس.

فلم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم   وأصحابُه إلا بعد الغروب.

فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يملأ أجوافهم وقبورهم ناراً، جزاء ما آذوه وصحبه،

وشغلوهم عن صلاة العصر، التي هي أفضل الصلوات.

وشغلوهم عن صلاة العصر، التي هي أفضل الصلوات.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في المراد بـ " الوسطى " التي حث الله على المحافظة عليها بقوله  { حَافِظُوا عَلَى الصلوات والصلاة اْلوُسْطَى } على أقوال كثيرة ذكرها " الشوكاني " على سبعة عشر قولاً ، وذكر أدلتهم وليس بنا حاجة إلى ذكر شيء من ذلك خشية الإطالة وقلة الفائدة المطلوبة.

والذي  تدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة، وإليه ذهب جمهور السلف والخلف. أن المراد بها "صلاة العصر" وما عدا هذا القول فهو ضعيف الدلالة وساقط الحجة

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن المراد بالصلاة الوسطى، صلاة العصر لما جاء في الصحيحين عن علي قال : كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم  يقول يوم الأحزاب " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر " وقال ابن الأثير: سميت الصلاة الوسطى ، لأنها أفضل الصلاة وأعظمها أْجرا، ولذلك خصت بالمحافظة عليها.

2- جواز تأخير الصلاة عن وقتها ، لعدم التمكن من أدائها.

ولعل هذا قبل أن تشرع  صلاة الخوف، فإنهم أمروا بعد ذلك بالصلاة رجالا وركبانا، قال القاضي عياض :أخرها قصدا ، وصلاة الخوف ناسخة لهذا.

. قال ابن حجر: هذا أقرب ولا سيما وقد وقع عند أحمد والنسائي في حديث أبي سعيد أن ذلك كان قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف " فرجالا أو ركباناً ".

3- أن من ذهل عن الصلاة في وقتها يصليها إذا ذكرها.

4- جواز الدعاء على الظالم بقدر ظلمه، لأنه قصاص.

5- قال العلماء: فيه دليل على عدم رواية الحديث بالمعنى، بل لابد من النص الوارد، فإن ابن مسعود تردد بين  قوله " ملأ الله " أو " حشـا الله " ولم يقتصر على أحد اللفظين، مع اتحادهما في المعنى.

 الحديث السادس

عن عَبدِ الله بْنِ عَبَّاس رَضيَ الله عَنْهُمَا قال :  أعْتَمَ النبي صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ عُمَرُ فَقَالَ: الصَّلاةَ يَا رَسولَ اللَه، رَقَدَ النسَاءُ وَالصبْيَانُ. فَخَرَجَ وَرَأسُه يَقْطُرُ يَقُول: لولا أنْ أشُقَّ عَلَى أمتي -أوْ عَلَي النّاس- لأمَرْتُهُمْ بِهذِه الصّلاةِ هذِهِ السّاعَةَ ".

 غريب الحديث: "أعتم" : دخل في العَتَمَةِ، وهى ظلمة الليل، المراد أنه أخر صلاة العشـاء بعد ذهاب الشفق، فصلاها في ظلمة الليل.

المعنى الإجمالي:

تأخر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة العشاء، حتى ذهب كثير من الليل ، ورقد النساء والصبيان، من ليس لهم طاقة ولا احتمال على طول الانتظار.

فجاء إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال  : الصلاَة، فقد رقد النساء والصبيان.

فخرج صلى الله عليه وسلم   من بيته إلى المسجد ورأسه يقطر ماء من الاغتسال وقال مبينا أن الأفضل في العشـاء التأخير، لولا المشقة التي تنال منتظري الصلاة-لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بهذه الصلاة في هذه الساعة المتأخرة.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في صلاة العشاء: هل الأفضل التقديم أو التأخير؟. فذهب إلى الأول جماعة من العلماء، مستدلين بأن العادة الغالبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التقديم، ولم يؤخرها إلا في أوقات قليلة، لبيان الجواز، أو للعذر، ولو كان تأخيرها أفضل لواظب عليه.

وذهب الجمهور إلى أن الأفضل التأخير، مستدلين بهذه الأحاديث الصحيحة الكثيرة.

أما كونه لم يداوم على تأخيرها، فلم يمنعه من ذلك إلا خشية المشقة على المأمومين، وقد أخرها ذات ليلة فقال: " إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي ".

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن الأفضل في العشاء التأخير، ويمنع من ذلك المشقة.

2- أن المشقة تسبب اليسر والسهولة في هذه الشريعة السمحة.

3- أنه قد يكون ارتكاب العمل المفضول أولى من الفاضل، إذا اقترن به أحوال وملابسات.

4- كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم   ورحمته بأمته.

5- كون بعض النساء والصبيان يشهدون الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

6- صراحة عمر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم، لإدلاله وثقته من خلق النبي صلى الله عليه وسلم . 

7- فيه دليل على تنبيه الأكابر لاحتمال غفلة أو تحصيل فائدة.

 بَــاب في شيء مِن مَكــرُوهَات الصَّـلاة[31]

المكروه عند الأصوليين، هو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله.

ومكروهات الصلاة أشياء تخل بكمالها ولا تبطلها، وهي كثيرة ذكر المؤلف منها ما يتضمنه هذان الحديثان.

 الحديث الأول

عن عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا أقيمت الصلاة وَحَضَرَ العشَاءُ فَابْدَأوا بِالعشَاءِ" وعن ابن عمر، نحوه.

  المعنى الإجمالي :

يطلب في الصلاة الخشوع والخضوع وحضور القلب، لأن ذلك هو روح الصلاة، وبحسب وجود هذا المعنى، يكون تمام الصلاة أو نقصها.

فإذا أقيمت الصلاة، والطعام أو الـشراب حاضر، فينبغي البداءة بالأكل والشرب حتى تنكسر نهمة المصلي، ولا يتعلق ذهنه به، وكيلا ينصرف قلبه عن الخشـوع الذي هو لبُّ الصلاة، هذا ما لم يضق عليه الوقت.

فإن ضاق، فحينئذ يقدم الصلاة في وقتها على كل شيء، لأن المستحب لا يزاحم الواجب.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن الطعام والشراب إذا حضرا وقت الصلاة، قدما عليها مالم يضق وقتها فتقدم على أية حال.

2- ظاهر الحديث : سواء أكان محتاجا للطعام أم غير محتاج.

لكن قيده كثير من العلماء بالحاجة، وأخذا من العلة التي فهموها من مقصد الشارع.

3- أن حضور الطعام للمحتاج إليه عذر في ترك الجماعة، على أن لا يجعل وقت الطعام هو وقت الصلاة دائما وعادة مستمرة.

4- أن الخشوع وترك الشواغل مطلوب في الصلاة ليحضر القلب للمناجاة.

 الحديث الثانيولمُسلِمٍ عَنْ عَائِشَة رضيَ الله عَنْهَا قَالتْ: سَمِعتُ رَسول الله صلى الله عليه يَقولُ: "لا صَلاة بِحَضْرَةِ الطعَام، ولا وَهُوَ يدَافِعُهُ الأخبَثَان "

 المعنى الإجمالي : تقدم في الحديث السابق ذكر رغبة الشارع الأكيدة في حضور القلب في الصلاة بين يدي ربه، ولا يكون ذلك إلا بقطع الشواغل، التي يسبب وجودها عدم الطمأنينة والخشوع.

لهذا، فإن الشارع ينهي عن الصلاة بحضور الطعام الذي نفس المصلي تتوق إليه، وقلبه متعلق به.

وكذلك ينهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين ، اللذين هما البول والغائط، لأن صلاة الحاقن أو الحاقب[32] غير تامة، لانشغال خاطره بمدافعة الأذى.

اختلاف العلماء:

أخذ بظاهر الحديث " الظاهرية " وشيخ الإسلام " ابن تيمية ".

فلم يصححوا الصلاة مع  وجود الطعام ، ولا مع مدافعة أحد الأخبثين، وَعَدوا الصلاة باطلة.

إلا أن شيخ الإسلام لم يصححها مع الحاجة إلى الطعام.

" الظاهرية " شذوا ، فلم يصححوها مطلقاً.

وذهب جمهور العلماء إلى صحة الصـلاة مع كراهتها على هذه الحال.

وقالوا: إن نَفْى الصلاة في هذا الحديث، نَفيٌ لكمالها، لا لصحتها.

ما يؤخذ من الحديث:

1- كراهة الصلاة عند حضور الطعام المحتاج إليه، وفي حال مدافعة الأخبثين، ما لم يضق الوقت فتقدم مطلقاً.

2- أن حضور القلب والخضوع مطلوبان في الصلاة.

3- ينبغي للمصلى إبعاد كل ما يشغله في صلاته.

4- أن الحاجة إلى الطعام أو الشراب أو التبول أو التغوط كل أولئك عذر في ترك الجمعة والجماعة، بشرط ألا يجعل أوقات الصلوات مواعيد لما ذكر ما هو في مقدور الإنسان منها.

5- قال الصنعاني واعلم أن هذا ليس في باب تقديم حق العبد على حق الله تعالى ، بل هو صيانة لحق البارئ ، لئلا يدخل في عبادته بقلب غير مقبل على مناجاته.

6- فسر بعضهم الخشوع بأنه مجموع من الخوف والسكون، فهو معنى يقوم في النفس يظهر منه سكون في الأعضاء يلائم مقصود العبادة.

فــائدة :

قال العلماء: الصلاة مناجاة الله تعالى، فكيف تكون مع الغفلة! وقد أجمع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل منها ، لقوله تعالى : " وأقم الصلاة لذكري " وقوله " ولا تكن من الغافلين" ولما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان مرفرعا : " إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له، عشرها ولا سدسها " فالصلاة إنما فرضت لإقامة ذكر الله، فإن لم يكن في قلب المصلي تعظيم وهيبة له نقصت قيمة الصلاة. وحضور القلب هو تفريغه من كل ما هو ملابس له، فيقترن إذ ذلك العلم والعمل ، ولا يجري الفكر في غيرهِما. وغفلة القلب في الصلاة عن المناجاة مالها سبب إلا الخواطر الناشئة عن حب الدنيا.

 بَــاب أوقــات[33] [34]النَّـهي

حظرت الصلاة في أوقات معينة لِحكَمٍ يعلمها الشارع، كالابتعاد عن مشابهة الكفار في وقت عبادتهم.

وأوقات النهي ثلاثة:

الأول: من صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس عن الأرض قَيد رمح.

الثاني: حين تبلغ الشمس نهايتها في الارتِفاع، حتى تبدأ في الزوال.

الثالث: من صلاة العصر إلى الغروب.

 الحديث الأول

عن عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال " شَهدَ عِنْدي رِجَال مَرْضيونَ وأرْضَاهُمْا عِنْدِي عُمَرُ: أن رَسُوَل الله صلى الله عليه وسلم   نَهَى عن الصلاةِ بَعْدَ الصبحِ حَتى تَطْلُع الشمس، وبَعْدَ العصر حَتًى تَغْرُبَ ". وما في معناه من الحديث.

 الحديث الثاني

عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِي رَضيَ الله عَنْهُ عن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وسلم  قَاَل: " لا صَلاةَ بَعدَ الصّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشمس ، وَلا صلاَةَ[35] بَعْدَ العصْرِ حَتَى تَغِيبَ الشمسُ".

قال المصنف: وفى الباب عن على بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وكعب بن مرة، وأبي أمامة الباهلي، وعمرو بن عَبَسَةَ السُلمِّي، وعائشة -رضي الله عنهم- والصُّنابحى، ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم     فحديثه مُرْسل.

المعنى الإجمالي:

في هذين الحديثين، النهي من النبي صلى الله عليه وسلم   عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تشرق الشمس وترتفع في نظر العين قدر طول رمح. (أي ما يقرب من ثلاثة أمتار).

ونهى أيضا عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس لأن في الصلاة في هذين الوقتين تشبهاً بالمشركين الذين يعبدونها عند طلوعها وغروبها وقد نهينا عن مشابهتهم في عباداتهم، لأن من تشبه بقوم فهو منهم.

اختلاف العلماء:

اختلفت العلماء في الصلاة في هذه الأوقات:

فذهب جمهور العلماء : إلى أنها مكروهة، مستدلين بهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها.

وذهبت الظاهرية إلى إباحة الصلاة فيها. أجابوا عن أحاديث النهي بأنها منسوخة.

وكل الأحاديث التي زعموها ناسخة جعلهما العلماء من باب حمْل المطلق على المقيد، أو بناء الخاص على العام.

ولا يعدل إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، وهو- هنا- ممكن بسهولة .

ثم اختلفوا: ما هي الصلاة المنهي عنها في هذه الأوقات؟.

فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنها جميع التطوعات، ماعدا ركعتي الطواف، مستدلين بعموم النهى الوارد في الأحاديث.

ومذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام "ابن تيمية" وجماعة من أصحابنا، إلى أنها النوافل المطلقة عن الأسباب أما الصلوات ذوات الأسباب كتحية المسجد لداخله، وركعتي الوضوء فجائزة عند وجود سببها في أي وقت.

ودليلهم على ذلك الأحاديث الخاصة لهذه الصلوات فإنها مخصصة لأحاديث النهي العامة.

وبهذا القول تجَتمع الأدلة كلها، ويعمل بكل من أحاديث الجانبين.

ثم اختلفوا: هل يبدأ النَّهْيُ في الصبح، من طلوع الفجر الثاني أو صلاة الصبح ؟.

فذهب الحنفية إلى أنه يبدأ من طلوع الفجر، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، مستدلين   على ذلك بأحاديث:

منها: ما رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر: أن النبي  صلى الله عليه وسلم   قال: " لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين".

فإنه يدل على تحريم النافلة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر ، لأن المراد من  النفي، النَّهْىُ.

وذهب كثير من العلماء إلى أن النهى يبتدئ من صلاة الفجر، لا من طلوع الفجر. واستدلوا على ذلك بأحاديث.

منها ما رواه البخاريِ عن أبي سعيد " لا صَلاةَ بَعْدَ صلاةِ اْلفَجْرِ حَتَّى تَطْلُع الشمس".

وبما رواه البخاري أيضاً عن عمر بن الخطاب: " أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: " لا صَلاةَ بَعْدَ صَلاةِ الصبح حَتَّى تَطْلُعَ الشمس "  وغير ذلك  من الأحاديث الكثيرة الصحيحة.

وما استدل به الأولون، فيه مقال ، وهو لا يقاوم مثل هذه الأحاديث.

ما يؤخذ من الحديثين: 

1- النهي عن نوافل الصلاة المطلقة، بعد صلاة الصبح، حتى تشرق الشمس وترتفع ما يقرب من ثلاثة أمتار.

2- النهى عن نوافل الصلاة المطلقة بعد صلاة العصر، حتى تغيب الشمس.

3- يؤخذ من حديث أبي سعيد " لا صلاة بعد صلاة الفجر " أن النفي هنا للجنس وهذا مقتضى اللغة، لكن صيغة النفي إذا دخلت على الفعل في ألفاظ الشارع فالأولى حملها على نفي الفعل الشرعي، لأن جنس الصلاة لا يمكن نفيه، فالشارع يطلق ألفاظه على عرفه وهو الشرعي .

4- فهم من بعض الأحاديث أن علة الِنهي هي خشية مشـابهة الكفار، فيؤخذ من هذا تحريم التشبه بهم وتقليدهم في عباداتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم.

فــائدة:

المؤلف لم يتعرض للثالث من أوقات النهي مع ثبوته في الأحاديث وهو وقت ضئيل قليل ، يبتدئ حين تنتهي الشمس بالارتفاع ، حتى تزول . وقد ثبت تحريم الصلاة فيه بأحاديث.

منها ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر " ثَلاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم     أنْ نُصَلّىَ فِيهنَّ، وَأن نَقبُرَ فِيهنَّ مَوْتَانَا- إحداها: حِينَ يَقُومُ قائِمُ الظَّهِيرَةِ ".

ومنها: ما رواه مسلم أيضاً عن عمرو بن عَبَسَة، ومنه "ثُمَّ صَلّ حَتى يَستقل الظل بِالرمْح، ثم أقصِرْ عَنِ الصّلاة، فَإنَه حينَئِذِ تُسْجَرُ جَهَنم".

فــائدة ثـانية:

كثير من أحكام الشـريعة، بنيت على البعد عن مشـابهة المشـركين لأن في تقليدهم والتشبه بهم تأثيرًا على النفس، يتدرج ويمتد حتى يصل إلى

استحسان أعمالهم، واحتذائهم فيها، حتى يزول ما للمسلمين من عزة، ووحدة، واستقلال، ويصبحوا تبعا لهم، قد ذابت شخصيتهم ومعنويتهم فيهم، وبهذا يدالون على المسلمين.

والإسلام يريد من المسلمين العزة والوحدة، في عباداتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأحوالهم: ويريد منهم أن يكونوا أمة مستقلة، لها صفتها الخاصة، وميزتها المعروفة.

ومع الأسف الشديد، نجد المسلين في عصرنا يجرون خلفهم بلا روية ولا بصيرة.

وكل ما ورد من الغرب فهو الحسن، وكل عمل يأتونه فهو الجميل، ولو خالف الدين، والخلق. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم أيقظ المسلمين من رقدتهم ونبههم  من غفلتهم،  واجمع على الحق والهدى كلمتهم. إنك سميع مجيب.

وليس المراد أن لا نتعلم ما علموه من صناعة واختراع ، فهذه علوم مشاعة لكل أحد، ونحن أولى بها منهم، لأننا- حين نتعلمها- نستعملها فيما يأمر به ديننا من استتباب الأمن والسلام، وإسعاد البشرية.

أما كونها بأيدي طغاة مستعمرين، فستكون أداة تخريب ودمار للعالم .

 بَـابُ قضَـاء الفوائت[36] وترتيبها

عَن جَابر بْنِ عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضي الله عَنْهُ، جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشمس فَجَعَل يَسُبّ كُفَّارَ قُرَيْش، وَقَالَ: يَا رسول الله، مَا كِدتُ أصَلي العَصر حَتَّى كَادَتِ الشمسْ تَغْرُبُ.

فَقَاَل النَبيُّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ: " والله مَا صَليْتُهَا ".

قَالَ: فَقُمْنَا إِلى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأ للصّلاةَ وتوضأنا لَهَا، فصَلّى العَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمس، ثُم صَلّى بَعْدَهَا المَغْرِبَ.

 غريب الحديث:

1- "يوم الخندق" : هو غزوة الأحزاب التي قدم فيها كفار قريش مع قبائل من نجد فحاصروا المدينة.

2- "ما كدت" : بكسر الكاف و " كاد " من أفعال المقاربة، ومعناها، قرب حصول الشيء الذي لم يحصل .

3- "غربت" : قال الزركشي بفتح الراء . وعدّ ضمها خطأ.

والمعنى -هنا- ما صليت العصر حتى قربت الشمس من الغروب.

4- "بُطْحان" : بضم الباء وسكون الطاء، وادٍ بالمدينة.

المعنى الإجمالي :

جاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم " الخندق " بعد أن غربت الشمس وهو يسب كفار قريشا، لأنهم شغلوه عن صلاة العصر فلم يصلها حتى قربت الشمس من الغروب.

فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق- أنه لم يصلها حتى الآن تطميناً لـ ". عمر " الذي شقَّ عليه الأمر.

ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم ، فتوضأ وتوضأ معه الصحابة، فصلى العصر بعد أن غربت الشمس، وبعد صلاة العصر، صلى المغرب.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب قضاء الفوائت من الصلوات الخمس.

2- الظاهر أن تأخيرها في هذه القضية ليس نسيانا، وإنما هو عمد، ولكن هذا قبل أن تشرع صلاة الخوف كما رجحه العلماء.

3- فيه دليل على تقديم الغائبة على الحاضرة في القضاء ما لم يضق وقت الحاضر فعند ذلك تقدم كيلا تكثر الفوائت.

4- جوز الدعاء على الظالم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر  ذلك.

5- مشروعية تهوين المصائب على المصابين.

 بـــاب فضْـل صَـلاة الجمـاعَةِ وَوجـوبها

من سُمُوّ هذه الشريعة: أنها تشرع في كثير من عباداتها الاجتماعات التي هي عبارة عن مؤتمرات إسلامية، يجتمع فيها المسلمون ليتواصلوا ويتعارفوا ويتشاوروا في أمورهم، ويتعاونوا على حل مشاكلها، وتداول الرأي فيها.

وهذه الاجتماعات فيها من المنافع العظيمة، والفوائد الجسيمة، ما يفوت الحصر، من تعليم الجاهل، ومساعدة العاجز، وتليين القلوب، وإظهار عِز الإسلام، والقيام بشعائره.

وأول هذه المؤتمرات، صلاة الجماعة في المسجد، فهو مؤتمر صغير بين أهل المحلة الواحدة، يجتمعون كل يوم وليلة، خمس مرات في مسجدهم، فيتواصلون ويتعارفون ويحققون نواة الوحدة الإسلامية الكبرى.

الحديث الأول

عَن عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضِيَ الله عنهمَا: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أفضَل مِنْ صَلاةِ الفذ بِسَبْع وعِشرِيِنَ دَرَجَةً "

غريب الحديث:

1- "الفذّ" : بالفاء والذال المعجمة، الفرد.

2- "درجة" : قال ابن الأثير: لم يقل جزءاً ولا نصيباً ولا نحو ذلك، لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع فالدرجات إلى جهة فوق.

المعنى الإجمالي :

يشير هذا الحديث إلى بيان فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفردِ، بأن الجماعة- لما فيها من الفوائد العظيمة والمصالح الجسيمة - تفضل وتزيد على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة من الثواب، لما بين العملين من التفاوت الكبير في القيام بالمقصود، وتحقيق المصالح .

ولاشك أن من ضيع هذا الربح الكبير محروم وأي محروم.

ما يؤخذ من الحديث:

1- فيه بيان فضل الصلاة مع الجماعة. 

2- فيه بيان قلة ثواب صلاة المنفرد بالنسبة لصلاة الجماعة. 

3- الفرق الكبير في الثواب، بين صلاتي الجماعة والانفراد. 

4- صحة صلاة المنفرد وإجزاؤها عنه، لأن لفظ " أفضل في الحديث " يدل عن أن كلا الصلاتين فيه فضل ولكن تزيد إحداهما على الأخرى ، وهذا في حق غير المعذور. أما المعذور فقد دلت النصوص على أن أجره تام.

الحديث الثاني

عَنْ أبى هريرة رضي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلّم: "صَلاةُ الرجل في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ في بَيْتهِ وَفي سُوقِهِ خَمْسَة[37] وَعِشرِينَ ضِعْفاً، وَذلِكَ أنَهُ إذا تَوَضَّأ فأحْسَنَ الوضوء. ثم خَرَجَ إِلى اْلمَسْجدِ لا يُخْرِجُهُ إِلاّ الصلاةُ. لم يَخْطُ خُطْوَةً إلاَّ رُفِعَتْ لَهُ دَرَجَةٌ، وَحُط عَنْهُ بِهَا خَطِيئَة، فَإذا صَلى لَمْ تَزَلِ اْلمَلائِكَةُ تُصَلِّى عَلَيْهِ مَا دَام في مُصلاّهُ : اللهُمَّ صَلّ عَلَيهِ، اللهم اغْفِرْ له، اللهُمَّ ارحَمْهُ، وَلا يَزَال في صَلاةٍ مَا انْتَظر الصلاةَ " متفق عليه واللفظ للبخاري .

غريب الحديث:

1- "فأحرق" : بتشديد الراء، ويروى تخفيفها، والتشديد أبلغ في المعنى.

2- "حبوا" : قال ابن الأثير: الحبو أن يمشى على يديه وركبتيه وهو منصوب لأنه خبر كان المقدرة، أي: ولو يكون الإتيان حبوا.

المعنى الإجمالي :

لما كان المنافقون يراؤون الناس ، ولا يذكرون الله إلا قليلا، كانت صلاة العشاء وصلاة الفجر بوقت ظلام فما يراهم الناس الذين يصلون لأجلهم نجدهم يقصرون في هاتين الصلاتين اللتين تقعان في وقت الراحة ولذة النوم ولا ينشط لأدائهما مع الجماعة إلا من حداه داعي الإيمان بالله تعالى، ورجاء ثواب الآخرة.

ولما كان الأمر على ما ذكر  كانت هاتان الصلاتان أشق وأثقل على المنافقين.

ولو يعلمون ما في فعلهما مع جماعة المسلمين في المسجد من الأجر والثواب- لأتوهما ولو حَبْواً كَحَبْوِ الطفل.

وأقسم صلى الله عليه وسلم  أنه قد هَم بمعاقبة المتخلفين المتكاسلين عن أدائهما مع الجماعة، وذلك بأن يأمر بالصلاة فتقام جماعة، ثم يأمر رجلا فيؤم الناس مكانه، ثم ينطلق معه برجال، معهم حُزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فيحرق عليهم بيوتهم بالنار، لشدة ما ارتكبوه في تخلفهم عن صلاة الجماعة، لولا ما في البيوت من النساء والصبيان الأبرياء، الذين لا ذنب لهم، كما ورد في بعض طرق الحديث.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة.

فذهبت طائفة من الحنفية والمالكية والشافعية: إلى أنها سنة مؤكدة.

وذهبت طائفة أخرى من هؤلاء إلى أنها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفى، سقطت عن الباقين.

وذهب الإمام أحمد وأتباعه، وأهل الحديث، إلى أنها فرض عين.

وبالغت الظاهرية، فذهبوا إلى أنها شرط لصحة الصلاة.

واختار هذا القول أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي، وشيخ الإسلام "ابن تيمية".

أدلة هذه المذاهب:

استدل الذاهبون إلى أنها سنة بحديث "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة".

ووجه استدلالهم : أن كلا من صلاة الجماعة وصلاة الانفراد، اشتركا في الأفضلية.

وتأولوا حديث الباب بتأويلات بعيدة متكلفة، مذكورة في فتح الباري، ونيل الأوطار، وغيرهما.

أما أدلة من ذهبوا إلى أنها فرض كفاية، فهي أدلة من يرونها فرض عين، وذلك لمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية.

وليس هذا دليلا مستقيماً، لأن هؤلاء هم بقتلهم، والقتل غير المقاتلة.

ولو كانت فرض كفاية، لكان وجوبها ساقطاً من هؤلاء المتخلفين بصلاة النبي، ومن معه، فلم يكونوا تركوا واجباً يعاقبون عليه إذاً .

أما أدلة الموجبين لها على الأعيان، فهي صحيحة صريحة.

فمنها: حديث أبي هريرة هذا الذي معنا، فإنه صلى الله عليه وسلم  لا يهم بتعذيبهم إلا على كبيرة من كبائر الذنوب.

ومنها: حديث الأعمى الذي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم  أن يصلي في بيته لوعورة الطريق، وعدم القائد له، فلم يرخص له.

ومنها: مشروعيتها في أشد الحالات، وهى وقت القتال.

وغير ذلك من أدلة ناصعة، لا تقبل التأويل.

أما أحاديث المفاضلة، فلا دلالة فيها على عدم الوجوب، لأننا لم نقل : إنها لا تصح بلا جماعة، ولكن نقول: إنها صحيحة ناقصة الثواب آثم فاعلها مع عدم العذر.

أما دليل الغالين في ذلك، وهم من يرون أنها شرط لصحة الصلاة، فهو ما رواه ابن ماجة، والدارقطنى عن ابن عباس: " من سَمِعَ الندَاءَ فَلَمْ يأتِ، فَلا صَلاةَ لَهُ إِلا مِن عُذْر".

والراجح أن الحديث موقوف لا مرفوع، وقد تكلم العلماء في بعض رجاله. وعلى فرض صحته، فيمكن تأويله بـ "لا صلاة كاملة إلا في المسجد" ، ليوافق الأحاديث التي هي أصح منه.

وهذا التعبير كثير في لسان الشارع، يريد بنفي الشيء نَفْيَ كماله.

وحديث: " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " صريح في صحة صلاة المنفرد، حيث جعل الشارع فيها شيئا من الثواب.

بعد أن ذكر " ابن القيم " في كتاب الصلاة " مذاهب العلماء وأدلتهم قال: " ومن تأمل السنة حق التأمُّل، تبيَّن له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار.. فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن صلاة الجماعة فرض عين، على الرجال البالغين .

2- أن من ترك الجماعة بلا عذر، آثم يستحق العقوبة.

3- أن درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح-، فإنه لم يمنعه من تعذيبهم بهذه الطريق إلا خوف تعذيب من لا يستحق العذاب.

4- أن المنافقين لم يقصدوا بعبادتهم إلا الرياء والسمعة، لأنهم لم يأتوا إلى الصلاة إلا حين يشاهدهم الناس.

5- فضل صلاتي العشاء والفجر.

6- ثقل صلاتي الفجر والعشاء: محمول على أدائهما في جماعة، وهذا ما يدل عليه السياق وإنما ثقلتا لقوة الداعي إلى التخلف عنهما وقوة الصارف عن حضورهما.

 بَابُ حضُور النساء المسْجِد[38]

عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا استَأذَنت أحَدكُمُ امرأته إلى المسجد فَلا يَمْنَعْهَا " قال: فقال بلال بْنُ عَبْدِ الله: والله لَنَمْنَعُهُنَ. قالَ: فأقبل عَلَيْهِ عَبْدُ اللّه فَسَبَهُ سَبّاً سَيّئاً، ما سَمِعْتُهُ سَبهُ مِثْلَهُ قَط، وَقال: أخْبِرُكَ عن رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم   وتقول: والله لَنمنَعُهُن؟!.

وفي لفظ لـ " لمسلم ": " لا تَمْنَعُوا إمَاءَ الله مَسَاجِدَ الله ".

   المعنى الإجمالي :

روي ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال- مبيناً حكم خروج المرأة إلى المسجد للصلاة-: إذا استأذنت أحدَكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها، لئلا يحرمها فضيلة الجماعة في المسجد.

وكان أحد[39] أبناء عبد الله بن عمر حاضراً حين حدث بهذا الحديث، وكان قد رأى الزمان قد تغير عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم بتوسع النساء في الزينة حملته الغيرة على صون النساء، على أن قال- من غير قصد الاعتراض على المشرع-: والله لنمنعهن.

ففهم أبوه من كلامه أنه يعترض- برده هذا- على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فحمله الغضب لله ورسوله، على أن سبه سباً شديداً. وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعهن.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب الإذن للمرأة بالصلاة في المسجد إذا طلبت ذلك.

2- أن جواز الإذن لها، مع عدم الزينة والأمن من الفتنة،كما صحت بذلك الأحاديث[40].

3- ويظهر أن جواز الإذن لمجرد الصلاة.

أما لسماع المواعظ وخطب الأعياد فيجب حضورهن،كما يأتي في حديث أم عطية: " أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور ".

4- شدة الإنكار على من اعترض على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

5- أنه ينبغي لمن أراد أن يوجه كلام الشارع إلى معنى يراه، أن يكون ذلك بأدب واحترام، وحسن توجيه.

 بَــابُ سنَن الــراتبة[41]

وتـأكيد ركعتي سنـة الفجـر وفضلـها

للصلوات المكتوبة سنن راتبة، صحت فيها السنة المطهرة حثّاً وفعلاً، وتقريراً من الشارع.

ولها فوائد عظيمة، وعوائد جسيمة، من زيادة الحسنات ورفعة الدرجات وتكفير السيئات، وترقيع خلل الفرائض، وجبر نقصها.

لذا ينبغي الاعتناء بها والمحافظة الشديدة عليها. هذا في الحضر.

أما في السفر، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلي شيئا من هذه الرواتب إلا ركعتي الفجر، فكان لا يدعهما، لا حضراً، ولا سفراً.

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قال: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رَكعَتَين قَبلَ الظهر، وَرَكعَتَين بَعدَهَا، وَرَكَعَتينِ بَعدَ الجُمعَة، وَرَكعتَين بَعْدَ المغرب وَرَكَعَتَين بَعْدَ العِشَاء.

 وفي لفظ: فأما المَغْرِبُ وَالعِشَاءُ وَالفَجْرُ وَالجُمعَةُ فَفي بَيْتهِ.

وفي لفظ للبخاري: " أن ابن عمر قال: حَدثَتْنِي حَفْصَةُ: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلى سَجْدَتَيْن خَفِيفتَيْن بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الفَجْرُ وكَانتْ سَاعَةً لا أدْخُلُ عَلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها.

  المعنى الإجمالي :

في هذا الحديث بيان للسنن الراتبة للصلوات الخمس. وذلك أن لصلاة الظهر أربع ركعات، ركعتين قبلها، وركعتين بعدها، وأن لصلاة الجمعة ركعتين بعدها، وأن للمغرب ركعتين بعدها، وأن لصلاة للعشاء ركعتين بعدها وأن راتبتي صلاتي الليل، المغرب والعشاء، وراتبة الفجر والجمعة كان يصليها الرسول صلى الله عليه وسلم   في بيته.

وكان لابن عمر رضي الله عنه اتصال ببيـت النبي صلى الله عليه وسلم، لمكان أخته "حفصة" من النبي صلى الله عليه وسلم فكان يدخل عليه وقت عباداته، ولكنه يتأدب فلا يدخل في بعض الساعات، التي لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، امتثالا لقوله تعالى: { يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأذِنْكُمُ الذِينَ مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ وَالذينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُم ثَلاثَ مَرات مِنْ قَبْل صَلاهَ الْفَجْرِ} الآية.

فكان لا يدخل عليه في الساعة التي قبل صلاة الفجر، ليرى كيف كان النبي يصلى.

ولكن -من حرصه على العلم- كان يسأل أخته " حفصة " عن ذلك، فتخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يصلى سجدتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر، وهما سنة صلاة الصبح.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب هذه الرواتب المذكورة، والمواظبة عليها.

2- أن " العصر" ليس لها راتبة من هذه المؤكدات.

3- أن راتب " المغرب " و " العشاء " و " الفجر" والجمعة الأفضل أن تكون في البيت .

4- التخفيف في ركعتي الفجر.

5-ورد في بعض الأحاديث الصحيحة، أن للظهـر سِتا، أربعا قبلها وركعتين بعدها. فقد جاء في الترمذي حديث أم حبيبة مرفوعا " أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها "

6- بعض هذه الرواتـب تكون قبل الفريضة لتهيئة نفس المصلي للعبادة قبل الدخول في الفريضة. وبعض الرواتب تكون بعدها لتجبر ما وقع فيها من نقصان.

الحديث الثاني

عن عائِشَةَ رضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ يَكن النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى شيء مِنَ النَّوَافِلِ أشَدَّ تعَاهُداً مِنْهُ عَلى رَكعَتي الفجْرِ.

وفي لفظ لـ "مسلم ": "رَكْعتَا الْفجْرِ خَير من الدنيَا ومَا فِيها ".  

المعنى الإجمالي :

في هذا الحديث بيان لما لركعتي الفجر من الأهمية والتأكيد، فقد ذكرت عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم  أكدهما وعظم شأنهما، بفعله. وقوله، حيث قالت: لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدا ومواظبة منه على ركعتي الفجر، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: إنهما خير من الدنيا وما فيها.

ما يؤخذ من الحديث:

1- الاستحباب المؤكد في ركعتي الفجر. فلا ينبغي إهمالهما.

2- فضلهما العظيم، حيث جعلا خيراً من الدنيا وما فيها.

3- كون النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهدهما أكثر من غيرهما.

4- أن إهمال من أهملهما -على سهولتهما وعظم أجرهما وحث الشارع عليهما- يدل على ضعف دينه، وحرمانه من الخير العظيم.

 بَــابُ الآذَان والإقـامة[42]

الأذان- لغة: الإعلام، قال الله تعالى: { وَأذَاَن مِنَ الله وَرَسُوله } أي إعلام منهما.

وهو- شرعاً-: الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة بألفاظ مخصوصة.

وهو- على اختصاره- مشتمل على مسائل العقيدة، لأن التكبير يتضمن وجود الله وإثبات صفات الجلال والعظمة له، والشهادتان تثبتان التوحيد الخالص، ورسالة ، محمد صلى الله عليه وسلم، وتنفيان الـشرك. والدعاء إلى الفلاح يشير إلى المعاد والجزاء. وذكر العلماء له حكماً عظيمة، منها إظهار شعار الإسلام، وإظهار كلمة التوحيد، وإثبات الرسالة، والإعلام بدخول وقت الصلاة. ومنها الدعوة إلى الجماعة.

وفي القيام به فضل عظيم لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : " لو يَعْلَمُ الناسُ مَا في النّدَاءِ والصف الأوٌل ثم لَمْ يَجدُوا إِلا أنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا" وغيره من الأحاديث الكثيرة .

و" الأذان " و " الإقامة " كل واحد منهما فرض كفاية على الرجال للصلوات الخمس.

وهما من شعائر الإسلام الظاهرة. يقاتل أهل بلد تركوهما.

كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى قوماً لا يعرفهم يستدل على إسلامهم بالأذان، وعلى كفرهم بتركه، فكان يأمر من يتسمع إليهم في أوقات الصلوات.

وقد شُرع في المدينة، حينما استشـار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب طريق يعرفون بها دخول الوقت، ليأتوا إلى الصلاة. في المسجد.

فرأى عبد الله بن زيد الأنصاري في المنام من أعلمه صفة الأذان، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم  برؤياه فقال : إنها رؤيا حق فألقه على بلال، لأنه رفيع الصوت. فكان أفضل وسيلة لمعرفة أوقات الصلاة.

الحديث الأول

عَنْ أنس بْنِ مَالِك رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ: أُمِر بلال أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ وَيُوترَ الإقَامَةَ.

غريب الحديث :

1- "أمر بلال" : مبنى للمجهول. والآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم المرفوع. وأختلف أهل الأصول: هل تقتضي هذه الصيغة وأمثالها، الرفع أو لا؟.

والصحيح أنها تقضيه، لأن الظاهر أن الآمر من له الأمر الشرعي وهو الرسول عليه الصلاة والسلام.

2- "أن يشفع الآذان" : يعني، يأتي بألفاظه شفعاً. أي مثنى والمثنى مرتان.

3- "ويوتر الإقامة" : يعنى، يأتي بألفاظها وتراً، وهو نقيض الشفع.

المعنى الإجمالي :

أمر النبي صلى الله عليه وسلم  مؤذنه "بلالاً" أن يشفع الآذان لأنه لإعلام الغائبين، فيأتي بألفاظه مثنى .

وهذا عدا (التكبير) فى أوله، فقد ثبت تربيعه و (كلمة التوحيد) في آخره. فقد ثبت إفرادها.

كما أمر بلالاً أيضاً أن يوتر الإقامة، لأنها لتنبيه الحاضرين .

وذلك بأن يأتي بجملها مرة مرة، وهذا عدا (التكبير) و " قد قامت الصلاة " فقد ثبت تثنيتهما فيها.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في حكم الأذان والإقامة.

فذهب الإمام "أحمد" وبعض المالكية، وبعض الشافعية، وعطاء إلى أنهما واجبان على الكفاية، للرجال البالغين، مستدلين على ذلك بأحاديث كثيرة. منها حديث الباب. لأن الأمر يقتضي الوجوب.

ومنها ما في الصحيحين عن مالك بن الحويرث: " فَاليُؤَذنْ لكم أحَدُكُمْ " وغير ذلك من الأحاديث.

ولأنه من شعائر الإسلام الظاهرة يقاتل من تركها.

وقد خص بعض هؤلاء الوجوب بالرجال دون النساء، لما روى البيهقي عن ابن عمر بإسناد صحيح: " لَيس عَلَى النسَاءِ أذَان وَلا إقامَة ".

ولأنه مطلوب منهن خفض الصوت والتستر، وَلسنَ من أهل الجماعة المطلوب لها الاجتماع.

وذهبت الحنفية والشافعية إلى أنهما سنتان وليسا بواجبين.

مستدلين بما صحح كثير من الأئمة من أن النبي صلى الله عليه وسلم  ليلة مزدلفة لم يؤذنْ، وإنما أقام فقط.

ويعارض ما نقل عن تركه الأذان بما روى البخاري عن ابن مسعود " أنه صلى الله عليه وسلم  صلاها في جمع بأذانين وإقامتين ".

على أن شيخ الإسلام " ابن تيمية " ذكر في " الاختيارات " أن طوائف من القائلين بسنية الأذان يقولون: إذا اتفق أهل بلد على تركه، قوتلوا.

فالنزاع مع هؤلاء قريب من اللفظي ، لأن كثيراً من العلماء يطلقون القول بالسنة على. ما يذم ويعاقب تاركه شرعاً.

أما من زعم أنه سنة لا إثم على تاركه فقد أخطأ. ا.هـ كلامه.

واختلفوا أيضاً في صفة الأذان والإقامة.

فذهب الإمام " أحمد " إلى جواز كل ما ورد في صفات الأذان والإقامة. لكنه اختار أذان " بلال " وإقامته، وأذان " بلال " المشار إليه خمس عشرة جملة، أربع تكبيرات، ثم أربع تشهدات، ثم أربع حيعلات، ثم تكبيرتان، ثم يختمه بـ " لا إله إلا الله ".

والإقامة المشار إليها إحدى عشرة جملة، تكبيرتان، ثم تشهدان، ثم حيعلتان، ثم (قد قامت الصلاة) مرتين، ثم تكبيرتان، ثم يختم بـ "لا إله إلا الله".

والى هذه الصفة، ذهبت الحنفية والشافعية، وجمهور العلماء.

واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد في صفة الأذان والإقامة، وبأن هذه الصفة هي عمل أهل مكة بجمع المسلمين في المواسم وغيرها، ولم ينكره أحد.

وذهب مالك، وأبو يوسف، وبعض العلماء : إلى تثنية تكبير الأذان. محتجين ببعض روايات حديث عبد الله بن زيد، وبأذان أبى محذورة وبحَديث أنس [ أمِرَ بِلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ ].

والأولى الأخذ بالزائد، لأن الزيادة التي لا تنافي، إذا كانت من ثقة فهي مقبولة.

قال ابن حزم، إنما اخترنا أذان أهل مكة: لأن فيه زيادة ذكر الله.

واختلفوا في ترجيع الأذان، ومعنى " الترجيع " أن يقول المؤذن. التشهد خافضاً به صوته، ثم يعيده، رافعاً صوته.

فذهبت المالكية والشافعية : إلى استحبابه، وهو عمل أهل الحجاز، أخذاً بحديث أبي محذورة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لقَّنه إياه في مكة.

وذهبت الحنفية إلى عدم الاستحباب، احتجاجاً بالظاهر من حديث عبد الله بن زيد.

والإمام " أحمد " يجيز الأمرين ، ولكنه يختار أذان بلال. قال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح فإن رَبع أو رَجع أو ثنى الأذان مع إفراد الإقامة أو ثناها معه أو ثنى الألفاظ كلها فإنه جائز.

ما يؤخذ من الحديث من الأحكام:

1- وجوب الأذان والإقامة، أخذاً من صيغة الأمر الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصيغة تقتضي رفع الحديث. قال ابن حجر: هو قول محققي الطائفتين، من المحدثين والأصوليين.

2- استحباب شفع الأذان وإيتار الإقامة، لأن الوجوب معارض بصفات للأذان والإقامة ثابتة، يؤخذ من مجموع الأدلة جواز جميع الوارد.

3- شدة الاهتمام بالأذان على الإقامة، لكونه نداء للبعيد .

4- المراد بشفع الأذان ماعدا التكبيرات الأربع في أوله، وكلمة التوحيد في آخره، فإنها مخصصة بأدلة أخرى.

5- المراد بوتر الإقامة ماعدا التكبيرتين في أولها و[قد قامت الصلاة]، فإنهما مشفوعتان لتخصيصهما بأدلة أخر.

الحديث الثاني

عَنْ أبي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ الله السُوَائي قالَ: أتيتُ النَّبيَ صلى الله عليه وسلم وهوَ في قُبّةٍ لَه حَمرَاءَ مِنْ أدَم، قَالَ: فخَرَج بِلالٌ بوَضُوءٍ ، فَمِنْ نَاضِح وَنائِل فَخَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  وَعَلَيهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأنّي أنْظرُ إلَى بياضِ سَاقَيهِ، قَالَ: فَتوَضأ وَأذّنَ بِلال. قال: فَجَعَلْتُ أتَتَبَّع فَاهُ ههُنَا ههُنَا، يَقُولُ يَميناً وشِمَالاً. حَي عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاح. ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَة فَتَقَدَّم وَصَلّى الظهْرَ رَكعَتَينِ. ثُم لم يزَل يُصلي رَكْعَتَين حَتَّى رَجَعَ إلَى المَدِينَةِ.

غريب الحديث:

1- "في قبة من أدَم" : جمع أديم، والأدم، بضم الهمزة وفتحها الجلد المدبوغ، القبة هي الخيمة.

2- "وضوء" : يعني الماء.

3- "حلة" : لا تكون إلا من ثوبين، إزار ورداء أو غيرهما وتكون ثوبا له بطانة.

4- "فمن ناضح ونائل" : النضح، الرش، والمراد هنا الأخذ من الماء الذي توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم للتبرك، والنائل:- الآخذ ممن أخذ من وضُوئِه عليه الصلاة والسلام.

5- "أتتبع فاه ههنا ههنا" : ظرفا مكان، والمراد يلتفت جهة اليمين وجهة الشمال ليبلغ من حوله.

6- "عَنَزَة" : رمح قصير، في طرفه حديدة دقيقة الرأس يقال لها: زُجّ و(العنزة) بفتح العين والنون والزاي ، آخره تاء مربوطة.

المعنى الإجمالي:

كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً في الأبطح في أعلىٍ مكة، فخرج بلال بفضل وَضُوءِ النبي صلى الله عليه وسلم ، وجعَلَ الناس يتبركون به، وَأذَّن بلال.

قال أبو جحيفة: فجعلت أتتبع فم بلال، وهو يلتفت يمناً وشمالا عند قوله "حي على الفلاح" ليسمع الناس حيث إن الصيغتين حث على المجيء إلى الصلاة.

ثم ركزت له رمح قصيرة لتكون سترة له في صلاته، فصلى الظهر ركعتين.

ثم لم يزل يصلى الرباعية ركعتين حتى رجع إلى المدينة، لكونه مسافراً.

ما يؤخذ من الحديث من الأحكام:

1- مشـروعية التفات المؤذن يميناً وشمالا عند قوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) والحكمة في هذا تبليغ الناس ليأتوا إلى الصلاة.

2- مشروعية قصر الرباعية إلى ركعتين في السفر، ويأتي إن شاء الله .

3- مـشروعية السترة أمام المصلى ولو في مكة،ويأتي إن شاء الله .

4- شدة محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتبركهم بآثاره.

ولكن لا يلحقه في ذلك العلماء والصالحون، فإن له خصوصيات ينفرد بها عن غيره. ومن قاس غيره عليه، في هذا وأمثاله فقد أخطأ.

5- ورد في أحاديث كثيرة النهي عن لبس الأحمر للرجال.

فمنها ما في البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم  نهى عن المياثر[43] الحمر).

فكيف ذكر هنا، أن عليه حلة حمراء؟

ذكر " ابن القيم " في " الهَدْىِ النبوي " أي (زاد المعاد) أن الحلة هنا، ليست حمراء خالصة، وإنما فيها خطوط حمر، وسود، وغلط من ظن أنها حمراء بحت، لا يخالطها غيره. والتي أكثر أعلامها حمر يقال لها: حمراء.

ورأيت نقلاً عن شيخنا "عبد الرحمن السعدي " أنه لبسها لبيان الجواز.

وعندي أن جمع " ابن القيم " أحسن، لأن النهي عن الأحمر الخالص، شديد فكيف يلبسه لبيان الجواز؟ والله أعلم.

ذكر القاضي عياض أن في الكلام تقديماً وتأخيراً "فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج بلال بوضوء" ويؤيد قوله رواية البخاري: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأتى بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به".

الحديث الثالث

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم  قَالَ: " إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ . فَكُلُوا حَتى يُؤَذن ابْنُ أم مَكْتُوم".

المعنى الإجمالي :

كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذنان، بلال بن رباح، وعبد الله بن أم مكتوم وكان ضريراً.

فكان بلال يؤذن لصلاة الفجر قبل طلوع الفجر، لأنها تقع وقت نوم ويحتاج الناس إلى الاستعداد لها قبل دخول وقتها.

فكان صلى الله عليه وسلم ينبه أصحابه إلى أن بلالا يؤذن بليل، فيأمرهم بالأكل والـشرب حتى يطلع الفجر، ويؤذن المؤذن الثاني وهو ابن أم مكتوم لأنه كان يؤذن مع طلوع الفجر الثاني . وذلك لمن أراد الصيام، فحينئذ يكف عن الطعام والشراب ويدخل وقت الصلاة.

وهو خاص بها، ولا يجوز فيما عداها أذان قبل دخول الوقت. واختلف في الأذان الأول لصلاة الصبح، هل يكتفي به أو لابد من أذان ثان لدخول الوقت؟ وجمهور العلماء على أنه مشروع ولا يكتفي به.

ما يؤخذ من الحديث من أحكام:

1- جواز الأذان لصلاة الفجر قبل دخول وقتها.

2- جواز اتخاذ مؤذنين لمسجد واحد، ويكون لأذان كل منهما وقت معلوم .

3- جواز اتخاذ المؤذن الأعمى وتقليده لأن ابن أم مكتوم، رجل أعمى.

4- وفيه استحباب تنبيه أهل البلد أو المحلة على إرادة الأذان قبل طلوع الفجر حتى يكونوا على بصيرة.

5- اتخاذ مؤذن ثان يؤذن مع طلوع الفجر.

6- وفيه استحباب عدم الكَف عن الأكل والشرب لمن أراد الصيام حتى يتحقق طلوع الفجر، وأن لا يمسك قبل ذلك والأمر في قوله : " فكلوا واشربوا " هو للإباحة، والإعلام بامتداد وقت السحور إلى هذا الوقت. وسيأتي إن شاء الله.

7- فيه جواز العمل بخبر الواحد إذا كان ثقة معروفا.

الحديث الرابع

عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدرِي رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذنَْ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُولُ ".

المعنى الإجمالي :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا سمعتم المؤذن للصلاة فأجيبوه، بأن تقولوا مثل ما يقول.

فحينما يكبر فكبروا بعده، وحينما يأتي بالشهادتين، فأتوا بهما بعده، فإنه يحصل لكم من الثواب ما فاتكم من ثواب التأذين الذي حازه المؤذن، والله واسع العطاء، مجيب الدعاء.

ما يؤخذ من الحديث من الأحكام:

1- مشروعية إجابة المؤذن بمثل ما يقول. وذلك بإجماع العلماء.

2- أن تكون إجابة المجيب بعد انتهاء المؤذن من الجملة لقوله: (فقولوا). لأن الفاء للترتيب. وقد صرح. بذلك في بعض الأحاديث.

منها ما رواه النسائي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم  " كان يقول كما يقول المؤذن حين يسكت "

3- أن يجيب المؤذن في كل أحواله ، إن لم يكن في خلاء أو على حاجته، لأن كل ذكر له سبب لا ينبغي إهماله، حتى لا يفوت بفوات سببه.

4- ظاهر الحديث أن السامع يجيب المؤذن بمثل ما يقول في كل جمل الأذان.

والذي عند جمهور العلماء أن المجيب يقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله " عند قول المؤذن: " حي على الصلاة " و" حي على الفلاح " كما ورد في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب ومنه " ثم قال: حي على الصلاة قال : لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله " .

ولأن الحيعلة[44]لا تناسب السامع: إنما الذي يناسبه الحوقلة[45] فحينما دعاهم المؤذن أجابوه بقولهم: " لا حول ولا قوة إلا بالله " أي بمعونته وتأييده يكون مجيئنا للصلاة وقيامنا بها.

فائدة:

روى البخاري في صحيحه، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يسمع النداء: " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي  وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة ".

 بَــاب استقبـال القبْـلَة

قبلة المسلمين هي الكعبة المشرفة، التي هي عنوان توحيدهم ووحدتهم ومتجه أنظارهم، وملتقى قلوبهم وأرواحهم.

وقد جعل الله هذه الكعبة قياماً للناس، في أحوال دينهم ودنياهم، وأمْناً لهم عند الشدائد، يجدون في ظلها الطمأنينة والأمن والإيمان. وبقاؤها تُحَجُ وتزَارُ هو علامة بقاء الدين وقيامه.

وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة يستقبل الكعبة وبيت المقدس معاً على المشهور.

فلما هاجر إلى المدينة وفيها اليهود، اقتصر على استقبال بيت المقدس ستة عشر شهراً، وكان يتشوق إلى استقبال الكعبة، أشرف بقعة على الأرض، وأثر أبي الأنبياء وإمام الحنفاء "إبراهيم الخليل" عليه السلام، فصرفت القبلة إلى الكعبة في السنة الثانية للهجرة.

واستقبال القبلة في الصلاة، ثابت في الكتاب والسنة والإجماع.

وهو شرط للصلاة، لا تصح بدونه إلا عند العجز أو للنافلة على الدابة، كما سيأتي في هذه الأحاديث، إن شاء الله تعالى.

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا : أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْث كَانَ وجْهُهُ، يومئ برأسه، وَكَانَ ابن عُمَرَ يَفعَلُهُ.

وفي رواية: كَانَ يُوتِرُ عَلى بَعِيرِهِ. ولـ " مسلم ": غَيْر أنّهُ لا يُصَلى عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. وللبخاري " إلا الْفَرَائِضَ ".  

غريب الحديث:

1- "يسبح على ظهر راحلته" : التسبيح هنا، يراد به صلاة النافلة، من تسمية الكل باسم البعض. وقد خصت النافلة باسم التسبيح، قال ابن حجر: وذلك عرف شرعي.

2- "المكتوبة" : يعنى الصلوات الخمس المفروضات.

3- "الراحلة" : الناقة التي تصلح لأن ترحل.

المعنى الإجمالي :

الغالب في الشريعة أن صلاة الفريضة وصلاة النافلة تشتركان في الأحكام، وهذا هو الأصل فيهما. فما ورد في إحداهما من حكم، فهو لهما سواء.

ولكنه يوجد بعض الأدلة التي تخص إحداهما بحكم دون الأخرى.

والغالب على هذه االفروق بينهما، تخفيف الأحكام في النافلة دون الفريضة، ومن ذلك، هذا الحديث الذي معنا.

فإنه لما كان المطلوب تكثير نوافل الصلاة والاشتغال بها خفف فيها.

فكان صلى الله عليه وسلم يصليها في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به ولو لم تكن تجاه القبلة ويومىء برأسه إشارة إلى الركوع والسجود.

ولا فرق بين أن تكون نفلا مطلقاً، أو من الرواتب أو من الصلوات ذوات الأسباب.

لهذا كان يصلى على الراحلة آكد النوافل وهو الوتر.

أما الصلوات الخمس المكتوبات فوقوعها قليل لا يشـغل المسافر فيها، ويجب الاعتناء بها وتكميلها، فلذا لا تصح على الراحلة إلا عند الضرورة .

أحكام الحديث:

1- جواز صلاة النافلة في السفر على الراحلة وفعل ابن عمر له أقوى من مجرد الرواية.

2- ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى استقبال القبلة حال ابتداء الصلاة، وذلك لحديث أنس من أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهه ركابه وظاهر الحديث العموم.

3- عدم جواز الفريضة على الراحلة بلا ضرورة. قال العلماء: لئلا يفوته الاستقبال، فإنه يفوته ذلك وهو راكب.

أما عند الضرورة من خوف أو سَيْل، فيصح، كما صحت به الأحاديث.

4- أن الإيماء هنا، يقوم مقام الركوع والسجود.

5- أن قبلة المتنفل على الراحلة، هي الوجهة التي هو متوجه إليها.

6- أن الوتر ليس بواجب، حيـث صلاه عليه الصلاة والسلام، على الراحلة.

7- أنه كلما احتيجت إلى شيء دخله التيسير والتسهيل.

وهذا من بعض ألطاف الله المتوالية على عباده.

8- سماحة هذه الشريعة، وترغيب العباد في الازدياد من الطاعات، بتسهيل سبلها. ولله الحمد والمنة.

9- ذكر الصنعاني أن ألفاظ هذا الحديث مجموعة من عدة روايات في البخاري ومسلم، وأنه ليس في الصحيحين رواية هكذا لفظها.

10- لا يستدل بهذا الحديث على أن الخفض في السجود أكثر من الركوع ، وإنما ذلك في حديث جابر حيث يقول: " جئت وهو يصلى على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع " وقد أخرجه الترمذى وأبو داود.

11- ذهب جمهور العلماء إلى جواز ترك الاستقبال في السفر الطويل والقصير إلا مالكا فقد خصه بالسفر الذي تقصر فيه الصـلاة ولم يوافقه أحد على ذلك .

الحديث الثاني

عَبْد الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا قالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بقُبَاءَ[46] في صَلاَةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُم آتٍ فقَالَ: إنَّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قدْ أنْزلَ عَلَيْهِ اللَّيلَة قُرْآنٌ، وقدْ أمر أنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبةِ" فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.

المعنى الإجمالي :

تقدم أنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفيها كثير من اليهود، اقتضت الحكمة الرشيدة أن تكون قبلة النبي صلى الله عليه وسلم قبلة الأنبياء السابقين " بيت المقدس " فصلوا إلى تلك القبلة ستة عشر شهراً  أو سبعة عشر شهراً[47].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشوق إلى صَرْفِهِ إلى استقبال الكعبة المشرفة. فأنزل الله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ في السمَاء فَلَنُوَليَنكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَ فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسجِد الْحَرَاَم}.

فخرج أحدُ الصحابة إلى مسجد " قُباء " بظاهر المدينة، فوجد أهله لم يبلغهم نسخ القبلة، ويصلون إلى القبلة الأولى، فأخبرهم بصرف القبلة إلى الكعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل إليه قرآن في ذلك. يـشير إلى الآية السابقة وأنه صلى الله عليه وسلم استقبل الكعبة في الصلاة.

فمن فقههم وسرعة فهمهم وصحته استداروا عن جهة بيت المقدس- قبلتهم الأولى- إلى قبلتهم الثانية، الكعبة المشرفة.

أحكام الحديث:

1- القبلة : أول الهجرة كانت إلى بيت المقدس، ثم صرفت إلى الكعبة.

2- أن قبلة المسلمين، استقرت على الكعبة المشرفة. فالواجب استقبال عينها عند مشاهدتها واستقبال جهتها عند البعد عنها.

3- أن أفضل البقاع، هو بيت الله، لأن القبلة أقرت عليه، ولا يقر هذا النبي العظيم وهذه الأمة المختارة إلا على أفضل الأشياء.

4- جواز النسخ في الشريعة، خلافا لليهود ومن شايعهم من منكري النسخ.

5- أن من استقبل جهة في الصلاة، ثم تبين له الخطأ أثناء الصلاة، استدار ولم يقطعها، وما مضى من صلاته صحيح.

6- أن الحكم لا يلزم المكلف إلا بعد بلوغه، فإن القبلة حُولت، فبعد التحويل وقبل أن يبلغ أهل " قباء " الخبر، صلوا إلى بيت المقدس، فلم يعيدوا صلاتهم.

7- أن خبر الواحد الثقة -إذا حفتْ به قرائن القبول- يصدق ويعمل به، وإن أبطل ما هو متقرر بطريق العلم.

8- وفيه أن العمل ولو كثيراً في الصلاة، إذا كان لمصلحتها، مشروع.

9- وفيه دليل على قبول خبر " الهاتف " و " اللاسلكى " في دخول شهر رمضان أو خروجه، وغير ذلك من الأخبار المتعلقة بالأحكام الشرعية، لأنه وإن كان نقل الخبر من فرد إلى فرد، إلا أنه قد حَفَ به من قرائن الصدق ، ما يجعل النفس تطمئن ولا ترتاب في صدق الخبر، ولتجربة المتكررة أيدت ذلك.

10-  قال الطحاوى: في الحديث دليل على أن من لم يعلم بفرض الله تعالى ولم تبلغه الدعوة، فالفرض غير لازم له : والحجة غير قائمة عليه، ا.هـ وزاد الأصوليون أن الفهم شرط التكليف وعن ابن تيمية في مثل هذا قولان أحدهما موافق لما ذكر.

الحديث الثالث

عَنْ أنس بْنِ سِيرينَ قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أنَساً رَضيَ الله عَنْهُ حِين قَدِمَ مِن[48] الشامِ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التمْرِ، فَرَأيتهُ يُصَلى عَلَى حِمَار وَوَجْهُهُ مِنْ ذا الجَانِبِ- يَعْنى عن يسار القبلة- فَقلْتُ: رأيتك تُصَلِّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَاَلَ: لَوْلا أني رَأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَلُه مَا فَعَلتُهُ.

المفردات:

أنس بن سيرين: أخو الإمام الكبير والتابعي الشهير محمد بن سيرين.

عين التمر: بلدة على حدود العراق الغربية، يكثر فيها التمر.

المعنى الإجمالي :

قدم أنس بن مالك الشام، ولجلالة قدره وسعة علمه، استقبله أهل الشام.

فذكر الراوي -وهو أحد المستقبلين- أنه رآه يصلى على حمار، وقد جعل القبلة عن يساره.

فسأله عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذالك، وأنه لو لم يره يفعل هذا، لم يفعله.

ما يؤخذ من الحديث:

1- الحديث لم يبين صلاة أنس هذه، أفرض هي، أم نفل؟.

ومن المعلوم أنها نفل، لأنه المعهود من فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي رآه أنس وغيره.

2- أن قبلة المصلى على الراحلة، حيث توجهت به راحلته.

3- جواز صلاة النافلة على الراحلة، في السفر، ولو حماراً.

 بَـــابُ الصّفُــوف

الحديث الأول

عن أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَْ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإنَ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تمام الصلاة ".

المعنى الإجمالي :

يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم.

فهو -هنا- يأمرهم بأن يسووا صفوفهم، بحيث يكون سمَتهم نحو القبلة واحداً، ويسد خلل الصفوف، حتى لا يكون للشياطين سبيل إلى العبث بصلاتهم .

وأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى بعض الفوائد التي ينالونها من تعديل الصف.

وذلك أن تعديلها علامة على تمام الصلاة وكمالها.

وأن اعوجاج الصف خلل ونقص فيها.

الأحكام المستنبطة من الحديث:

1-  مشروعية تعديل الصفوف في الصلاة. باعتدال القائمين بها على سمت واحد، من غير تقديم ولا تأخير.

2- أن تسويته، سبب في تمام الصلاة فيكون ذلك مستحباً، كما هو مذهب الجمهور، وقيل بوجوبه لحديث "لتسونَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم".

3- كراهة اعوجاجها، وأن ذلك نقص في الصلاة.

4- فضل صلاة الجماعة، وذلك لأن الأجر الحاصل من تعديل الصف متسبب عن صلاة الجماعة.

5- قيل: إن الحكمة في تسوية الصفوف هي موافقة الملائكة في صفوفهم فقد أخرج مسلم عن جابر قال " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ قلنا: يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف ".

الحديث الثاني

عَنِ النُعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضيَ الله عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: " لتسونَّ صُفُوفَكُم أوْ ليخَالِفَنَّ الله بَيْنَ وُجُوهِكُم ". متفق عليه

ولمسلم: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُسَوي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأنَّمَا يسَوِّى بِهَا القِدَاحَ . حَتَّى رَأىَ أن قَد عَقَلنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْماً فَقَامَ حَتَى. كَادَ أن يكَبّرَ، فَرَأىَ رَجُلا بَادِياً صَدْرُه، فقالَ : " عِبَادَ الله، لتسَوُّنَ صُفُوفَكُم، أوْ لَيُخَالِفَنَّ الله بَينَ وُجُوهِكُم ".

غريب الحديث:

1- "عقَلنا" : بفتح القاف، أي فهمنا ما أمرنا به من التسوية ومن جعله بالعين ثم أتى بالفاء، وقرأ عفلنا فإنه صحف.

2- "لتسون" : بضم التاء المثناة الفوقية وفتح السين المهملة، وضم الواو المثقلة وتشديد النون، وهى نون التوكيد الثقيلة. وفي أوله لام القسم.

3- "أو" : للتقسيم، أي أن أحد الأمرين لازم، فلا يخلو الحال من أحدهما.

4- "حتى كأنما يسوى بها القِداح" : " القداح " سهام الخشب حين تنحت وتُبْرَى، ويبالغ في تسويتها وتعديلها، يعنى أنهم يكونون- في اعتدالهم واستوائهم- على نسق واحد.

المعنى الإجمالي :

في هذا وعيد شديد لمن لا يقيمون صفوفهم في الصلاة.

فقد أكد صلى الله عليه وسلم أنه إن لم تعدل الصفوف وتسوى، فليخالفن الله بين وجوه الذين اعوجت صفوفهم فلم يعدلوها.

وذلك بأنه حينما يتقدم بعضهم على بعض في الصف، فيفتن المتقدم ويصيبه الكبر والزهو، ثم يقابله المتأخر، على كبره بالعداوة والبغضاء، فتختلف القلوب، ويتبعها اختلاف الوجوه، من شدة العداوة، وبهذا تحصل القطيعة والتفرقة، ويفوت المقصد المطلوب من الجماعة، وهو المحبة والتواصل. وذلك، لأن  "الجزاء من جنس العمل ".

وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه بالقول ويهذبهم بالفعل، فظل يقيمهم بيده.

حتى ظن صلى الله عليه وسلم أنهم قد عرفوا وفهموا، إذا بواحد قد بدا صدره في الصف من بين أصحابه، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم".

الأحكام المأخوذة:

1- ظاهر الحديث، وجوب تعديل الصفوف، وتحريم تعويجها، للوعيد الشديد.

ولكن يوجد في بعض الأحاديث الصحيحة ما يخفف من حدة هذا التأكيد فيصرفْ إلى استحباب تعديلها، والكراهة الشديدة لاعوجاجها، وذلك مأخوذ من الحديث السابق وهو " إن تسوية الصفوف من تمام الصلاة ".

2- شدة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بإقامة الصفوف، فقد كان يتولى تعديلها بيده الكريمة وهذا يدل على أن تسوية الصفوف من وظيفة الإمام.

3- أن الجزاء من جنس العمل، فقد توعد بمخالفة وجوههم مقابل مخالفة صفوفهم.

4- غضب النبي صلى الله عليه وسلم على اختلاف الصف، فيقتضي الحذر من ذلك.

5- فيه جوازَ كلامَ الإمام فيما بين الإقامة والصلاة لما يعرض من الحاجة.

الحديث الثالث

عن أنَس بنِ مَالِكٍ رضيَ الله عَنْهُ أن جَدَّتَهُ[49] مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لِطَعَام صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأكَلَ مِنْهُ، ثم قَالَ: "قُومُوا فَلأصَل بِكُم " قال أنس: فقُمْتُ إِلَى حَصِير لَنَا قَد اسْوَدَّ مِنْ طُولَ مَا لَبِثَ فَنَضَحْتُهُ بِماء، فَقَامَ عَلَيهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَصفَفْتُ أنَا وَالْيَتيمُ وَرَاءهُ، وَالعَجُوزُ مِنْ وَرَاَئِنَا فَصَلى لَنَا رَكْعَتينِ، ثُمَّ انْصَرَفَ.

ولمسلمِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم صلى بِه وَبِأمهِ فأقامني عن يَمِيِنِه وَأقَامَ الْمَرْأةَ خَلفنَا.

اليتيم: هو ضُمَيْرة جَدُّ حسين بن عبد الله بن ضميرة.

غريب الحديث:

"فنضحته بماء" : النضح الرش، وقد يراد به الغسل.

المعنى الإجمالي:

دعت مليكة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته وقد جبله الله تعالى على أعلى المكارم وأسمى الأخلاق ، ومنها التواضع الجم، فكان على جلالة قدره وعلوٌ مكانه- يجيب دعوة الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغنيً والفقير، يريد بذلك الأهداف السامية، والمقاصد الجليلة من جبر قلوب البائسين ، والتواضع للمساكين، وتعليم الجاهلين، إلى غير ذلك من مقاصده الحميدة.

فجاء إلى هذه الداعية، وأكل من طعامها.

ثم اغتنم هذه الفرصة ليعلم هؤلاء المستضعفين الذين ربما لا يزاحمون الكبار على مجالسه المباركة، فأمرهم بالقيام ليصلى بهم، حتى يتعلموا منه كيفية الصلاة. فعمد أنس إلى حصير قديم، قد اسود من طول المكث، فغسله بالماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بهم.

وصفَّ أنس، ويتيم معه، صفاً واحداً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصفَّتِ العجوز-صاحبة الدعوة- من وراء أنس واليتيم، تصلى معهم.

فصلى بهم ركعتين، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم بعد أن قام بحق الدعوة والتعليم. صلى الله عليه وسلم    ، وَمنَّ الله علينا باتباعه في أفعاله وأخلاقه.

اختلاف العلماء:

ذهب الجمهور إلى صحة مُصَافَة الصبيِّ في صلاتَي الفرض والنافلة، مستدلين بهذا الحديث الصحيح لأن أنس وصف صاحبه باليتيم.

والمشهور من مذهب الحنابلة، صحة مصافّته في النفل، عملا بهذا الحديث وعدم صحة مصافته في الفرض.

وقد تقدم أن الأحكام الواردة لإحدى الصلاتين تكون للأخرى، لأن أحكامهما واحدة.

ومن خص إحداهما بالحكم فعليه الدليل، ولا مخصص.

لذا، فالصحيح ما عليه الجمهور، وقد اختاره ابن عقيل من الحنابلة وصوبه ابن رجب في القواعد.

ما يؤخذ من الحديث:

1- صحة مصافة الذي لم يبلغ في الصلاة، لأن اليتيم يطلق على من مات أبوه ولم يبلغ.

2- أن الأفضل في موقف المأمومين، أن يكونوا خلف الإمام. 

3- أن موقف المرأة، يكون خلف الرجال. 

4- صحة موقف المرأة صفاً واحدا، مادامت واحدة. 

فإن كن أكثر من ذلك، وجـب عليهن إقامة الصف.

5- جواز الاجتماع في النوافل، وإن لم يشرع لها اجتماع، إذ لم يتخذ ذلك عادة مستمرة. 

6- جواز الصلاة، لقصد التعليم بها، أو غير ذلك من المقاصد الدينية النافعة المفيدة.

7- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وكرم خلقه. 

8- استحباب إجابة دعوة الداعي، لاسيما لمن يحصل بإجابته جبر خواطرهم ، وتطمين  قلوبهم . ما لم تكن وليمة عرس ، فعند ذلك تجب إجابة الدعوة. 

و ينبغي ملاحظة الأحوال في مثل هذه المناسبات، وتصحيح النية، فبذلك يحصل للمجيب خير كثير، خصوصاً إذا كان المجيب كبير المقام.

الحديث الرابع  

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عبَّاس رضيَ الله عَنْهُمَا قال: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَبيُّ صلى الله عليه وسلم  يُصَلى مِنَ الليْل، فَقُمْتُ عن يَسَارهِ فَأخَذ برأسي فأقامني عَنْ يَمِينه.

المعنى الإجمالي :

كان الصحابي الجليل حبر الأمة، وترجمان القرآن، ذا جِدّ واجتهاد في تحصيل العلم وتحقيقه، حتى بلغ به التحقيق أن بات عند خالته زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ليطلِعَ -بنفسه- على تهجد النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما قام صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل، قام ابن عباس ليصلي بصلاته، وصار عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم مأموماً.

ولأن اليمين هو الأشرف وهو موقف المأموم من الإمام إذا كان واحداً أخذ النبي صلى الله عليه وسلم    برأسه، فأقامه عن يمينه.

اختلاف العلماء:

المشهور من مذهب الإمام " أحمد " فساد صلاة المأموم، إذا كان واقفاً عن يسار الإمام مع خُلُو يمينه.

وذهب الجمهور من العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، إلى صحة صلاته، ولو مع خلو يمين الإمام، وهو الرواية الثانية عن الإمام " أحمد " واختارها بعض أئمة أصحابه، مستدلين بهذا الحديث وهو استدلال واضح المأخذ، مع أنهم أجمعوا على أن الموقف الفاضل للمأموم الواحد، أن يكون عن يمين الإمام.

ما يؤخذ من الحديث:

1- الأفضل للمأموم أن يقف عن يمين الإمام إذا كان واحداً.   

2- صحة وقوف المأموم عن يسار الإمام مع خُلُو يمينه، لكون النبي صلى الله عليه وسلم، لم يبطل صلاة ابن عباس. 

3- أن المأموم الواحد إذا وقف عن يسار الإمام فاستدار إلى يمينه يأتي من الخلف، كما ورد في بعض ألفاظ الحديث في البخاري. 

4- أن العمل في الصلاة إذا كان مشروعاً لصحتها، لا يضرها. 

5- صحة مصَافَة الصبي وحده، مع البالغ.

6- مشروعية صلاة الليل واستحبابها. 

7- اجتهاد ابن عباس رضي الله عنه، وحرصه على تحصيل العلم وتحقيقه.  

8- أنه لا يشترط لصحة الإمامة، أن ينوي الإمام قبل الدخول في الصلاة أنه إمام . 

 بَـــابُ الإمَــامَة

هذا باب يذكر فيه آداب الإمام والمأموم، وما يجب على كُل منهما، ويستحب وفيه بيان علاقة بعضهما ببعض.

والإمامة نظام إلهيّ، يرشدنا الله سبحانه وتعالى فيه- عَملِيّاً- إلى مقاصد سنية، وأهداف سامية، من حسن الطاعة، والاقتداء بالقُوَاد في مواطن الجهاد ومن حسن النظام والتعبئة للأعمال العسكرية، والحركات الحربية، ومن تعود على المواساة والمساواة.

حيث يقف الصغير مع الكبير، والْغَنىُّ مع الفقير،والشريف مع الوضيع، إلى غير ذلك من أسرار تفوت الحصر.

هذا والمقصد الأسمى هو عبادة اللّه تعالى، والخضوع بين يديه.

الحديث الأول

عَنْ أبي هُريرة رضيَ الله عنه أنَّ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أما يَخْشَى الَّذِي يَرفعُ رأسه قَبْلَ الإمام ، أنْ يُحَوِّلَ الله رَأسَهُ رَأسَ حِمَارٍ . أوْ يَجْعَلَ اللّه صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ ؟! ".

غريب الحديث:

1- "أما" : قال الشوكاني: " أما " مخففة- حرف استفتاح وأصلها " ما " النافية، دخلت عليها همزة الاستفهام، وهى- هنا- استفهام توبيخ.

2- "يخشى" : يخاف. والمعنى: فليخَفْ، لأن الغرض من الاستفهام هنا الإشعار بالنهي عن رفع الرأس قبل  الإمام.

المعنى الإجمالي :

إنما جعل الإمام في الصلاة ليقتدى به ويؤتم به، بحيث تقع تنقلات المأموم بعد تنقلاته، وبهذا تحقق المتابعة.

فإذا سابقه المأموم، فاتت المقاصد المطلوبة من الإمامة، لذا جاء هذا الوعيد الشديد على من يرفع رأسه قبل إمامه، بأن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار، بحيث يمـسخ رأسه من أحسن صورة إلى أقبح صورة، جزاءً لهذا العضو الذي حصل منه الرفع والإخلال بالصلاة.

اختلاف العلماء في السبق:

اتفق العلماء على تحريم مسابقة المأموم للإمام لهذا الوعيد الشديد.

 ولكن اختلفوا في بطلان صلاته، فالجمهور أنها لا تبطل .

قال الإمام أحمد في رسالته " ليس في سبق الإمام صلاة ". وأصحاب الإمام يقولون: من سبق إمامه بركن كركوع أو سجود، فعليه أن يرجع ليأتي به بعد الإمام، فإن لم يفعل عمداً حتى لحقه الإمام فيه، بطلت صلاته.

والصحيح ما ذكره في الرسالة من أن مجرد السبق عمدا يبطل الصلاة وهو اختيار شيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمه الله، لأن الوعيد يقتضي النهي، والنهي يقتضي الفساد.

الاستنباطات من الحديث:

1- تحريم رفع الرأس في السجود قبل الإمام والوعيد فيه دليل على منعه، إذ لا وعيد إلا على محرم وقد أوعد عليه بالمسخ وهو من أشد العقوبات.

2- يلحق بذلك مسابقة الإمام في كل تنقلات الصلاة وليس ذا من باب القياس وحده فزيادة على القياس الصحيح أخرج البزار من حديث أبي هريرة مرفوعاً " الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد الشيطان ".

3- وجوب متابعة المأموم للإمام في الصلاة.

4- أن الجزاء من جنس العمل، فحين كان الرفع في الرأس، جوزِيَ بالوعيد بالمسخ.

5- توعد المسابق بالمسخ إلى صورة الحمار، لما بينه وبين الحمار من المناسبة والشبه في البلادة والغباء، لأن المسابق إذا كان يعلم أنه لن ينصرف من الصلاة قبل إمامه، فليس هناك نتيجة في المسابقة، فدل على غبائه وضعف عقله.

6- تدل مسابقة الإمام على الرغبة في استعجال الخروج من الصلاة ، وذلك مرض دواؤه أن يتذكر صاحبه أنه لن يسلم قبل الإمام.

7- الوعيد بتغيير صورة من يرفع رأسه قبل الإمام إلى صورة حمار أمر ممكن  ، وهو من المسخ، ولكنه لم ينقل وقوعه .ويحتمل أن يرجع المعنى من تحويل الصورة إلى تحويل النحيزة وذلك بأن  يصبح  بليداً كالحمار.

الحديث الثاني

عَنْ أبي هريرة رضيَ الله عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّمَا جُعِل الإمام لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فإذا كَبَّرَ فَكَبروا. وإذَا رَكَعَ فَاركعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولوا: رَبَنا لَكَ الحَمْد، وإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإَذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أجْمَعُونَ ".

الحديث الثالث

عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنهَا قالَتْ: "صَلى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في بَيْتِهِ وَهُوَ شَاك فصَلًى جَالِساً، وَصلَّى وَرَاءهُ قَوم قياماً فَأشَار إلَيْهِمْ: أنِ اجْلِسُوا، فلَمَا انصرف قَال: إنَّمَا جُعِلَ الإمَام لِيؤتَمَّ بِهِ، فإذا رَكع فَاركعُوا، وَإِذَا رَفع فَارْفَعُوا، وَإِذَا قال: سمع الله لمن حَمِدَهُ، فقُولُوا: ربَنّاَ وَلَكَ الحمد، وإِذَا صَلى جَالِساً فصَلوا جُلُوساً أجْمَعُونَ ".

الغريب:

1- "الفاء الواقعة في (فكبروا) و (فاركعوا)... إلخ " : للترتيب والتعقيب، ومعنى الترتيب، أن تقع بعده ، والتعقيب بأن تليه مباشرة ، فلا تُساوِه ولا تتأخر عنه.

2- "جعل" : من أفعال التحويل تأخذ مفعولين : أحدهما نائب الفاعل ، والثاني محذوف تقديره. "إماما".

3- "أجمعون" : تأكيد لضمير الجمع.

4- "شاك" : اسم فاعل من الشكاية وهي المرض.

المعنى الإجمالي :

في هذين الحديثين بيان صفة اقتداء المأموم بالإمام، ومتابعته له.

فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المأمومين إلى الحكمة من جعل الإمام وهي أن  يقتدي  به ويتابع، فلا يختلف عليه بعمل من أعمال الصلاة، وإنما تراعى تَنَقلاته بنظام فإذا كبر للإحرام، فكبروا أنتم كذلك ، وإذا رَكع فاركعوا بعده ، وإذا ذكركم أن الله مجيب لمن حمده بقوله : " سمع الله لمن حمده " فاحمدوه تعالى بقولكم :

"ربنا لك الحمد". و إذا سجد فتابعوه. واسجدوا. وإذا صلى جالساً لعجزه، عن القيام -فتحقيقاً  للمتابعة- صلوا جلوساً، ولو كنتم على القيام قادرين . فقد ذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى من المرض فصلى جالساً وكان الصحابة يظنون أن عليهم القيام لقدرتهم عليه، فصلوا وراءه قياما فأشار إليهم ، أن اجلسوا.

فلما انصرف من الصلاة أرشدهم إلى أن الإمام لا يخالف، وإنما يوافق لتحقق المتابعة التامة والاقتداء الكامل، بحيث يصلى المأموم جالساً مع قدرته على القيام لجلوس إمامه العاجز.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في صحة ائتمام المفترض بالمتنفل .

فذهب المالكية والحنفية، والمشهور من مذهب الحنابلة: إلى عدم الصحة، مستدلين بهذا الحديث الذي معـنا "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ".

وكون المأموم مفترضاً والإمام متنفلا مخالفة بينهما في النية. وهو من أشد أنواع الاختلاف ولأن مدار العمل على النية.

وذهب الشافعي، والأوزاعى، والطبري إلى صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، وهى رواية أخرى عن الإِمام أحمد، اختارها من أصحابه : ابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم مستدلينِ بحديث معاذ المتفق عليه: " كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع فيصلى بقومه تلك الصلاة".

ويستدلون أيضاً: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه في صلاة الخوف ركعتين، ثم سلًم، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين، ثم سلم " رواه أبو داود.

والنبي عليه الصلاة والسلام -في الصلاة- الثانية متنفل .

ومعنى " فلا تختلفوا عليه " أي في أفعال الصلاة.

والقائلون بصحة الصلاة، يلزمون غير المصححين لها بأن يقولوا: أنتم أيضاً تصححون صلاة المفترض بالمتنفل مع اختلافهما في النية، كالتي تمنعونها، فيلزمكم التناقض في الاستدلال.

واختلفوا أيضاً في صلاة المأمومين جلوسا مع القدرة على القيام خلف الإمام العاجز عن القيام.

فذهبت الظاهرية، والأوزاعيٍ، وإسحاق، إلى أن المأمومين يصلون خلف الإمام العاجز عن القيام جلوسا، ولو كانوا قادرين على القيام.

واستدلوا على ذلك بهذين الحديثين ، وما ورد في معناهما.

وذهب الإمامان أبو حنيفة، والشافعي، وغيرهما، إلى أنه لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلفه القاعد إلا قائماً.

واحتجوا "بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته قاعداً، وصلى أبو بكر، والناس خلفه قياماً " متفق عليه.

وأجاب هؤلاء عن حديثي الباب ونحوهما بأجوبة ضعيفة، وأحسنها جوابان: الأول: أن حديثي الباب وما شابههما مما يُثبت صحة صلاة القاعد العاجز بالقاعد القادر منسوخة بحديث صلاته في مرض موته بالناس قاعداً وهم قائمون خلفه، ولم يأمرهم بالقعود.

وهذا الجواب للإمام الشافعي وغيره.

وأنكر الإمام " أحمد " النسخ، والأصل عدم النسخ بين النصوص الشرعية وأنه مهما أمكن الجمع بينها، وجب المصير إليه، لأنه إعمال لها جميعاً. الجواب الثاني من أجوبة المخالفين لحديثي الباب: دعوى التخصيص بالنبي صلى الله عليه وسلم    ، بأن يؤم جالساً، ولا يصح لأحد بعده.

هذا جواب الإمام " مالك " وجماعة من أتباعه.

والمخصص -عندهم- حديث للشعبي عن جابر مرفوعاً: " لا يَؤُمَّنَّ أحَدٌ بَعْدِى جالسا ".

وأجيب عن هذا الحديث بأنه لا يصح بوجه من الوجوه.

وقال ابن دقيق العيد، قد عُرف أن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل.

وقد عارض هذا الحديث الضعيف المستدل به على التخصيص حديث أصح منه، وهو ما أخرجه  أبو داود " أن أسَيْدَ بْنَ حُضَيْر كان يؤم قومه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقيل: يا رسول الله، إن إمامنا مريض.  فقال: " إذا صلى قاعداً، فصلوا قعوداً ".

وذهب الإمام " أحمد " إلى التوسط بين هذين القولين .

وهو إن ابتدأ بهم الإمام الراتب الصلاة قائماً، ثم اعتل في أثنائها فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً، عملا بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر والناس، حين مرِض مرَض الموت.

وإن ابتدأ بهم الصلاة جالساً صلوا خلفه جلوسا، استحبابا. عملا بحديثي الباب ونحوهما وهو جمع حسن، تتلاقى فيه الأحاديث الصحيحة المتعارضة. ولاشك أن الجمع بين النصوص -إذا أمكن- أولى من النسخ والتحريف.

وقد قوي هذا الجمع الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

ما يؤخذ من الحديثين:

1- وجوب متابعة المأموم للإمام في الصلاة وتحريم المسابقة.

2- تحريم مخالفته وبطلان الصلاة بها.

3- أن الأفضل في المتابعة، أن تقع أعمال المأموم بعد أعمال الإمام مباشرة. قال الفقهاء: وتكره المساواة والموافقة في هذه الأعمال.

4- أن الإمام إذا صلى جالسا -لعجزه عن القيام- صلى خلفه المأمون جلوساً ولو كانوا قادرين على القيام، تحقيقا للمتابعة والاقتداء.

5- أن المأموم يقول: " ربنا لك الحمد " حينما يقول الإمام: " سمع الله لمن حمده ". وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً في أن المنفرد يقول: "-سمع الله لمن حمده ". " ربنا ولك الحمد " وقال ابن حجر: وأما الإِمام فيستمع ويحمد، جمع بينهما فقد ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما.

6- أن من الحكمة في جعل الإمام في الصلاة، الاقتداء والمتابعة.

7- جواز الإشارة في الصلاة للحاجة.

8- في الحديث دليل على تأكيد متابعة الإمام، وأنها مقدمة على غيرها من أعمال الصلاة، فقد أسقط القيام عن المأمومين القادرين عليه، مع أنه أحد أركان الصلاة، كل ذلك لأجل كمال الاقتداء.

9- ومنه يؤخذ تَحَتمُ طاعة القادة وولاة الأمر ومراعاة النظام، وعدم المخالفة والانشقاق على الرؤساء.

فما هذه الشرائع الإلهية إلا لتعويدنا على السمع والطاعة، وحسن الاتباع والائتلاف، بجانب التعبد بها لله سبحانه وتعالى.

وما أعظم الإسلام وأسمى تشريعاته، وأجل أهدافه!!

وفق الله المسلمين إلى التبصر بدينهم واتّباعه، فيجتمع شملهم، وتتوحد صفوفهم، وتعلو كلمتهم فما الخير إلا في الاجتماع والتفاهم، وما الشر إلا بالتفرق والاختلاف، والمراء  الباطل. { وَأطِيعُوا الله ورسوله، وَلاَ تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِن اللَه مَع الصابِرِينَ }.

الحديث الرابع

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الأنْصارِيّ رضي الله عَنْهُ قَالَ: حَدَثَني الْبَراءُ بْنُ عَازِبٍ، وَهُوَ غيْرُ كَذُوبٍ[50] قَالَ: " كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: " سمِعَ الله لمَنْ حَمِدَهُ "، لَمْ يَحْنِ أحَدٌ مِنّا ظَهْرَهُ حَتَى يَقَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَاجِداً، ثُمَّ نَقَعُ سُجُوداً بَعْدَهُ".

غريب الحديث:

" ثم نقع " : بالرفع على الاستئناف، وليس معطوفاَ على " يقع " الأولى المنصوب بـ "حتى" إذْ ليس المعنى عليه.

المعنى الإجمالي :

يذكر هذا الراوي الصدوق أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤم أصحابه في الصلاة فكانت أفعال المأمومين تأتي بعد أن يتم فعله، بحيث كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع وقال: "سمع الله لمن حمده" ثم رفع أصحابه بعده هبط ساجدا، وحينئذ يقعون ساجدين.

ما يؤخذ من الحديث:

1- صفة متابعة الصحابة للرسول في الصلاة، وأنهم لا ينتقلون من القيام إلى السجود حتى يسجد.

2- أنه ينبغي أن تكون المتابعة هكذا، فلا تتقدم الإمام، فإنه محرم يبطل الصلاة، ولا توافقه، فإنه مكروه ينقص الصلاة، ولا تتأخر عنه كثيراً، بل تليه مباشرة.

3- في الحديث دليل على طول الطمأنينة بعد الركوع، هذا بالنسـبة إلى المأموم ، أما الإمام فلطمأنينته أدلة أخرى.

[ تنبيه] الموافقة في أفعال الصلاة وأقوالها للإمام مكروهة، إلا تكبيرة الإحرام، فإنها لا تنعقد معها الصلاة.

الحديث الخامس 

عَنْ أبي هُريرةَ رضيَ الله عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا أمّنَ الإمَامُ فَأمّنُوا، فَإنًهُ من وافَقَ تَأمِينُهُ تَأمين اْلملائِكَةِ، غفِرَ له مَا تَقدمَ مِنْ ذَنِبه ".

المعنى الإجمالي :

دعاء فاتحة الكتاب هو أحسن الدعاء وأنفعه، لذا شرع للمصلى- إماما كان أو مأموماً أو منفرداً- أن يُؤَمن بعده، لأن التأمين طابع الدعاء.

فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نؤمن إذا أمن الإمام، لأن ذلك هو وقت تأمين الملائكة، ومن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه.

وهذه غنيمة جليلة وفرصة ثمينة، ألا وهى غفران الذنوب بأيسر الأسباب، فلا يُفَوِّتها إلا محروم.

اختلاف العلماء:

ذهب مالك في إحدى الروايتين عنه، إلى أن التأمين لا يشرع في حق الإمام، وتأوَّل الحديث على معنى: إذا بلغ الإمام موضع التأمين ، ولم يقصد التامين نفسه.

وذهب الشافعي وأحمد، إلى استحباب التأمين لكل من الإِمام والمأموم والمنفرد، لظاهر الحديث الذي معنا، وغيره.

وذهبت الظاهرية، إلى الوجوب على كل مصل.

وهو ظاهر الحديث في حق المأمومين، لأن الأمر يقتضي الوجوب.

ما يؤخذ من الحديث من الأحكام:

1- مشروعية التأمين للإمام، والمأموم، والمنفرد.

2- أن الملائكة تؤمن على دعاء المصلين. والأظهر أن المراد منهم الذين

يشهدون تلك الصلاة من الملائكة في الأرض والسماء، واستدل لذلك بما أخرجه البخاري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال أحدكم آمين، قالت الملائكة في السماء: آمين، فوافق أحدهما الآخر، غفر الله له ما تقدم من ذنبه " .

3- فضيلة التأمين، وأنه سبب في غفران الذنوب.

لكن عند محققي العلماء أن التكفير في هذا الحديث وأمثاله، خاصُّ بصغائر الذنوب، أما الكبائر، فلا بد لها من التوبة.

4- أنه ينبغي للداعي والمؤمّن على الدعاء، أن يكون حاضر القلب.

5- استدل البخاري بهذا الحديث على مشروعية جهر الإمام بالتأمين، لأنه علق تأمين المؤتمين بتأمينه ولا يعلمونه إلا بسماعه. وهذا قول الجمهور.

6- من الأفضل للداعي أن يشابه الملائكة في كل الصفات التي تكون سبباً في الإجابة، كالتضرع والخشوع والطهارة، وحل الملبس والمشرب والمأكل، وحضور القلب، والإقبال على الله في كل حال.

الحديث السادس

عن أبي هريرة رضيَ الله عَنْهُ أنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا صَلى أحَدكُمْ لِلنَاس فَلْيُخَففْ، فَإنَّ فيهم الضعيف والسقِيمَ وَذا الحاجة[51]، وَإِذَا صَلَّى أحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَليُطَولْ مَا شَاءَ".

الحديث السابع

عَنْ أبي مَسْعُودٍ الأنصاري رَضيَ الله عَنْهُ قَال: جَاءَ رَجُل إِلى رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقَالَ: إنِّي لأتَأخَرُ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ أجْلِ فلانٍ مِمَّا يطِيلُ بِنَا.

قالَ: فَمَا رأى النَّبيَ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ غَضبَ في مَوْعِظَةٍ قطُّ أشدَّ مِمَّا غضِبَ يَوَمَئِذٍ ، فَقَالَ: "يَا أيها النَّاسُ، إِن مِنْكُمْ مُنَفرِينَ فَأيّكُمْ أمّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ، فَإن مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالصَغِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ".

المعنى الإجمالي:

جاءت هذه الشريعة السمحة، باليسر والسهولة، وَنَفْى العَنَتِ والحرج.

ولهذا " فإن الصلاة التي هي أجل الطاعات " أمر النبي صلى الله عليه وسلم الإمام التخفيف فيها، لتتيسر وتسهل على المأمومين، فيخرجوا منها وهم لها راغبون. ولأن في المأمومين من لا يطيق التطويل، إما لعجزه. أو مرضه أو حاجته.

فإن كان المصلى منفردا فليطول ما شاء. لأنه لا يضر أحداً بذلك.

ومن كراهته صلى الله عليه وسلم للتطويل، الذي يضر الناس أو يعوقهم عن أعمالهم، أنه لما جاءه رجل وأخبره أنه يتأخر عن صلاة الصبح مع الجماعة، من أجل الإمام الذي يصلى بهم، فيطيل الصلاة، غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقال : إن منكم من ينفر الناس عن طاعة الله، ويكرّه إليهم الصلاة ويثقلها عليهم فَأيّكم أمَّ الناس فليوجز، فإن منهم العاجزين وذوى الحاجات.

اختلاف العلماء:

هناك أحاديث صحيحة تصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالطول، بحيث يكبر، فيذهب الذاهب إلى البقيع، ويقضى حاجته، ثم يرجع ويتوضأ يدرك الركعة الأولى مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبأنه يقرأ في الصلاة المكتوبة بطوال السور، كالبقرة، والنساء، والأعراف، ويقرأ بطوال المفصل "ق " والطور ونحوهما.

وهناك أحاديث صحيحة تحث على التخفيف، منها هذان الحديثان اللذان معنا وأنه يقرأ بـ (قل يا أيها الكافرون) و (الإخلاص) ونحو ذلك .

والناس- تبعاً لهذه الأدلة- مختلفون.

فمنهم من يرى التطويل، عملا بهذه الأحاديث ، ومنهم من يرى التخفيف عملاً بما ورد فيها.

والحق، أنه ليس بين  هذه الأحاديث تعارض ولله الحمد، وكلها متفقة. ولكن التخفيف والتَّطْوِيل أمران نسبيان، لا يُحَدَّان بِحدّ، لأن الناس في ذلك على بَوْنٍ بعيد.

فالناقرون يرون الصلاة المتوسطة طويلة وأهل العبادة والطاعة يرونها قصيرة.

فليرجع إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإلى حال صلاته، ويطبق بعضـها على بعض، يظهر الحق الفاصل. وقد ذكر الصنعاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل صلاته لعلمه بحال المؤتمين به، وأن الأمر بتخفيف الصلاة خاص بالأمة.

ما يؤخذ من الحديثين:

1- وجوب تخفيف صلاة الجماعة مع الإئتمام.

2- غضبه صلى الله عليه وسلم على المثقلين، وعدُّه هذا من الفتنة.

3- جواز تطويل صلاة المنفرد ما شاء، وقيد بأن لا يخرج الوقت وهو في الصلاة. وذلك كيلا تصطدم مصلحة المبالغة بالتطويل من أجل كمال الصلاة مع مفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها.

4- وجوب مراعاة العاجزين وأصحاب الحاجات في الصلاة.

5- أنه لا بأس بإطالة الصلاة، إذا كان عدد المأمومين ينحصر وآثروا التطويل.

6- أنه ينبغي للإنسان أن يسهل على الناس طريق الخير، ويحببه إليهم، ويرغبهم فيه، لأن هذا من التأليف، ومن الدعاية الحسنة الإسلام.

 بَــابُ صفَـة صَلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم

يذكر المصنف في هذا الباب طرفاً من الأحاديث الصحيحة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وصلاته هي الصلاة التامة الكاملة، التي لا يتطرق إليها النقص أو الخلاف، وهو المشرع صلى الله عليه وسلم، فيجـب اتباعه، وتقديم سنته على كل قول .

وقد قال صلى الله عليه وسلم: " صَلُّوا كما رأيتموني أصَلى " فيجب علينـا معرفة صلاته ومراعاتها. ونظرا إلى أن أفعاله صلى الله عليه وسلم بيان للأوامر الموجبة لفعل الصلاة، فإن أفعاله في صلاته صلى الله عليه وسلم   تدل على الوجوب. ومن صرفها عنه إلى غيره فعلية تقديم الدليل.

الحديث الأول

عَنْ أبي هريرة رضيَ الله عَنْهُ قال: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ في الصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْل أن يَقْرَأ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ الله بأبي أنْتَ وأمي، أرَأيتُ سُكُوتَكَ بين التَكْبِيرِ وَالقِراءةِ، ما تَقُولُ؟.

 قَالَ: "أقَول: اللهم بَاعِدْ بيني وَبَيْنَ خَطايَايَ كَمَا بَاعدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، الّلهُمَّ نَقني من خَطايَايَ كَمَا يُنَقى الثًوْبُ اَلأبيض من الدنس، اللهمَّ اغْسِلني مِنْ خَطَايايَ بِالْماء والثلج والبرد".

غريب الحديث:

1- "هنيهة" : قال في القاموس (الْهِنو) بالكسر، الوقت. وفي الحديث " هُنَيَّة " مصغرة هَنة، وهي بضم الهاء، وفتح النون وتشديد الياء. بمعنى قليل من الزمان.

وأصلها " هَنْوَةٌ " أي شيء يسير، ويروى " هُنَيهَة " بإبدال الياء هاء.

قلت: المراد هنا: أن يسكت سكتة لطيفة.

2- "الثلج والبَرَد" : البرد، بالتحريك، حب الغمام.

3- "أرَأيتُ سكوتك" : بضم تاء " رأيت ". والمراد بالسكوت ضد الجهر لا ضد الكلام. ويدل عليه عبارة " ما تقول؟ ".

4- "الدنس" : بفتح الدال والنون: الوسخ.

5- "بأبي أنت وأمي" : الباء متعلقة بمحذوف، والتقدير " أنت مفديّ بأبي وأمي ".

المعنى الإجمالي:

كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة تكبيرة الإحرام، خفض صوته مدة قليلة، قبل أن يقرأ الفاتحة.

وكان الصحابة يعلمون أنه يقول شيئاً في هذه السكتة لذا قال أبو هريرة: أفديك يارسول الله بأبي وأمي، ماذا تقول في هذه السكتة التي بين التكبير والقراءة.

فقال: أقول: " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي ، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ".

وهذا دعاء في غاية المناسبة في هذا المقام الشريف، موقف المناجاة، لأن المصلى يتوجه إلى الله. تعالى في أن يمحو ذنوبه وأن يبعد بينه وبينها إبعاداً لا يحصل

معه لقاء، كما لا لقاء بين المشرق والمغرب أبداً ،وأن يزيل عنه الذنوب والخطايا وينقيه منها، كما يزال الوسخ من الثوب الأبيض الذي يظهر أثر الغسل فيه، وأن يغسله من خطاياه ويبرد لهيبها وحرها،- بهذه المنقيات الباردة الماء، والثلج، والبرد. وهـذه تشبيهات، في غاية المطابقة.

أحكام الحديث:

1- استحباب دعاء الاستفتاح في الصلاة.

2- أن مكانه بعد تكبيرة الإحرام وقبل قراءة الفاتحة في الركعة الأولى من كل صلاة.

3- أن يُسِرَّ به ولو كانت الصلاة جهرية.

4- أنه لا يطال فيه الدعاء، ولاسيما في الجماعة للصلوات المكتوبة.

5- حرص الصحابة رضي الله عنهم على أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته.

6- أنه ينبغي في مواطن الدعاء أن يُلح الإنسان ويكثر في طلب الشيء، ولو بطريق ترادف الألفاظ.

فإن هذه الدعوات تدور كلها على مَحْو الذنوب والإبعاد عنها، ومعاني الماء والثلج، والبرد، متقاربة. والمقصود منه متحد. وهو الإنقاء من حرارة الذنوب بهذه المواد الباردة.

فائدتان:

الأولى : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استفتاحات كثيرة للصلاة.

منها هذا الدعاء الذي معنا " اللهم باعد بيني وبين خطاياى.. الخ ".

ومنها: "وَجّهْت وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَر السموَاتِ والأرض... الخ ".

ومنها: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك.. الخ ".

وكلها جائزة، لأنها واردة.

ولكن الإمام أحمد اختار الأخير منها. " سبحانك اللهم..الخ " لكونه محتوياً على تمجيد الله، وتعظيمه، ووحدانيته. وكان " عمر " يجهر به ليعلمه للناس.

و ينبغي للمصلي أن لا يقتصر دائماً على واحد منها، بل يقولها كلها، ليحصل له كمال الاقتداء، وإحياء جميع السنة فيها، ويجعل القصار لصلاة الجماعة، والطوال لصلاة الليل.

الثانية: من المعلوم أن الماء الساخن أبلغ في إزالة الأوساخ والإنقاء مما هو مذكور في الدعاء المأثور.

فكيف عدل عنه إلى الثلج والبرد، مع أن المقصود طلب الإنقاء والتنظيف.

الجواب: قد حصل من العلماء تَلمّسات كثيرة في طلب المناسبة. وأحسنها ما ذكره " ابن القيم " عن شيخ الإسلام ومعناه:

لما كان للذنوب حرارة، ناسـب أن تكون المادة المزيلة هذه الباردة، لتطفئ هذه الحرارة وذاك التلهب.

الحديث الثاني

عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يسْتَفْتِحُ الصلاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءةِ بـ "الْحمْدُ لله رَب الْعَالَمِينَ ". وَكَانَ إذا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رأسه وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلكِنْ بَيْنَ ذَلكَ. وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رأسه مِنَ الركوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوي قَائِماً. وَكَانَ إذَا رَفع رَأسَهُ مِنَ السًجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَستَوِيَ قاعدا، وكانَ يقولُ في كُلّ ركْـعَتَيْن التّحيّةَ. وَكَانَ يَفْرش رجلَهُ اليُسْرَى وَيَنْصِـب رجله الْيُمْنىَ. وكان ينهى عَنْ عُقبَةٍ الَشَّيْطَان ويَنْهَى أنْ يَفتَرِش الرجُلُ ذِراعَيْهِ افتراش السبعِ، وَكان يَخْتِمُ الصّلاةَ بالتّسْلِيم" .

المعنى الإجمالي :

تصف عائشة رضي اللَه عنها بهذا الحديـث الجليل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يفتتح الصلاة بتكبيرة الإحرام، فيقول:[الله أكبر].

ويفتتح القراءة بفاتحة الكتاب، التي أولها (الحمد لله رب العالمين ).

وكان إذا ركع بعد القيام، لم يرفع رأسه ولم يخفضه، وإنما يجعله مستوياً مستقيماً.

وكان إذا رفع من الركوع انتصب واقفاً قبل أن يسجد.

وكان إذا رفع رأسه من السجدة، لم يسجد حتى يستوي قاعداً.

وكان يقول بعد كل ركعتين إذا جلس : " التحيات لله والصلوات.. الخ "

وكان إذا جلس، افترش رجله اليسرى وجلس عليها، ونصب رجله اليمنى.

وكان ينهى أن يجلس المصلى في صلاته كجلوس الشيطان ، وذلك بأن يفرش قدميه على الأرض، ويجلس على عقبيه، أو ينصب قدميه، ثم يضع أليتيه بينهما على الأرض ، كما ينهى أن يفترش المصلي ذراعيه في السجود كافتراش السبع ، وكما افتتح الصلاة بتعظيم الله وتكبيره ، ختمها بطلب السلام للحاضرين من الملائكة والمصلين ثم على جميع عباد اللَه الصالحين، والأولين والآخرين، فعلى المصلى ملاحظة هذا العموم في دعائه.

ملاحظـة:

هذا الحديث لم يخرجه إلا مسلم فقط، وله علة، وهي أنه أتى من طريق أبي الجوزاء عن عائشة.

" وأبو الجوزاء " لم يسمع من عائشة.

وأخرجه " مسلم " أيضاً من طريق الأوزاعي، مكاتبةً، لا سماعاً.

غريب الحديث:

1- "بالحمدُ لله" : الرفع على الحكاية.

2- "لم يشخِص" : بضم الياء وإسكان الشين المعجمة، ثم كسر الخاء المعجمة، ثم صاد مهملة. أي لم يرفعه، ومنه الشاخص للمرتفع.

3- "لم يُصَوِّبه" : بضم الياء، وفتح الصاد المهملة. كسر الواو المشددة. أي لم يخفضه خفضاً بليغاً.

4- "يفرُش" : بضم الراء وكسرها، والضم أشهر.

5- "عُقبة" : بضم العين. فسره أبو عبيد وغيره بالإِقعاء المنهي عنه.

6- "يستفتح" : أي يفتح فالسين للتأكيد لا للطلب.

أحكام الحديث:

1- ما ذكرته عائشة هذا من صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، هو حاله الدائمة. حيث إن التعبير بـ " كان " يفيد ذلك.

2- وجوب تكبيرة الإحرام التي تحرم كل قول وفعل ينافي أقوال الصلاة وأفعالها، وأن غير هذَه الصيغة لا يقوم مقامها للدخول في الصلاة وتعيين التكبيرة من الأمور التعبدية وهي أمور توقيفية.

3- وجوب قراءة الفاتحة بدون بسملة، ويأتي استحباب قراءتها سرّاً إن شاء الله.

4- وجوب الركوع، والأفضل فيه الاستواء، بلا رفع، ولا خفض.

5- وجوب الرفع من الركوع، ووجوب الاعتدال في القيام بعده.

6- وجوب السجود، ووجوب الرفع منه، والاعتدال قاعداً بعده.

7- وجوب التشهد بعد كل ركعتين، فإن كانت الصلاة ثنائية سلم بعده، ، وإلا قام.

8- مشروعية افتراش المصلى رجله اليسرى ونصب اليمنى في الجلوس في غير التشهد الأخير الذي فضيلته التورك. فقد وردت بذلك الأحاديث والافتراش والتورك خاص بالرجال دون النساء ، لما أخرجه أبو داود في المراسيل من أنه صلى الله عليه وسلم    مر على امرأتين تصليان فقال: إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض فإن المرأة ليست في ذلك كالرجال. رواه البيهقى موصولا.

9- النهي عن مشابهة الشيطان في جلوسه، وذلك بأن يجلس على عقبيه ويفرش قدميه على الأرض، أو ينصبهما ويجلس بينهما على الأرض، أو ينصبهما ويجلس على عقبيه. قال في شرح المنتهى: وكلتا الجلستين مكروه.

10- النهي عن مشابهة السبع في افتراشه، وذلك بأن يبسط المصلى ذراعيه في الأرض، فإنه عنوان الكسل والضعف.

11- وجوب ختم الصلاة بالتسليم، وهو دعاء للمصلين والحاضرين والغائبين الصالحين بالسلامة من كل الشرور والنقائص.

اختلاف العلماء:

الصحيح عند الأصوليين: أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لا تدل على الوجوب، وإنما تدل على الاستحباب إلا إذا ورد ما يقتضي ذلك.

وهذه الأفعال والأقوال الموصوفة في هذا الحديث، تدل على الوجوب، باقتران حديث: " صَلُّوا كَمَا رأيتموني أصَلى " متفق عليه. وهذا الأصل فيها لكن يوجد في وجوب بعضها خلاف بين العلماء، لتعارض الأدلة.

فمن ذلك التشهد الأول، والجلوس له في الصلاة ذات التشهدين.

فقد ذهب الإمام " أحمد " و" الليث " و " إسحاق " و" داود" و" أبو ثور "  و "الشافعي" في إحدى الروايتين عنه: إلى وجوبهما.

مستدلين بالأحاديث الواردة في التشهد من غير تقييد بتشهد أخر.

فمنها هذا الحديث الذي معنا، ومنها حديث عبد الله بن مسعود الذي رواه النسائي، ورواه الإمام أحمد من طرق رجالها ثقات وهو " أن محمداً صلى الله عليه وسلم قال: إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله... الخ  ".

وذهب الأئمة " أبو حنيفة " و" مالك " و" الشافعي " في الرواية الأخرى عنه، إلى استحبابها.

ودليلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم تركهما سَهْواً، ولم يرجع إليهما.

ولم ينكر على الصحابة حين تابعوه على تركهما، وإنما جبروهما بسجود السهو.

والجواب: أن الرجوع إليهما إنما يجب إذا ذكر المصلى قبل أن يعتمد قائماً.

لما روى أبو داود، عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا قام أحدكم في ركعتين، فلم يستتم قائماً، فليجلس، فإذا استتم قائماً فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو " وسجود السهو  يجبر الواجب والمسنون.

واختلفوا في الصفة المستحبة في الجلوس.

فذهبت الحنفية إلى الافتراش في جميع جلسات الصلاة، سواء بين السجدتين أو التشهدين، الأول، أو الأخير. ويقابلهم المالكية، فهم يرون مشروعية التورك في كل جلسات الصلاة سواء ما كان منها للتشهدين أو كان بين السجدتين. وذهبت الشافعية إلى الافتراش في التشهد الأول من الصلاة ذات التشهدين وإلى التورُّك في التشهد الأخير، سواء كانت الصلاة ثنائية أم اكثر من ذلك. وذهبت الحنابلة إلى الافتراش في التشهد الأول، وفي التشهد الأخير إذا كانت الصلاة ليس فيها إلا تشهد واحد، وإلى التورُك في التشهد الأخير من الصلاة، ذات التشهدين.

ودليل الحنفية، ما رواه سعيد بن منصور، عن وائل بن حُجْر قال: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قعد وتشهد، فرش قدمه اليسرى على الأرض وجلس عليها".

وما رواه أحمد عن رفاعة بن رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي : " إذا جلست، فاجلس على رجلك اليسرى ".

وبما أخرجه الترمذى وصححه، من حديث أبي حميد: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم     جلس- يعنى للتشهد- فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته.

وأما صفة الجلوس بين السجدتين فهو الافتراش عند الشافعية والحنابلة.

ووجه الدلالة: من هذه الأحاديث أن رواتها ذكروا الافتراش للتشهد، ولم يقيدوه بالأول.

واقتصارهم عليها بلا تعرض لغيرها، يشعر بأن هذه الصفة للتشهدين جميعاً.

ودليل المالكية مال روى عن عبد الله بن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وفي آخرها متوركاً ". رواه أحمد في مسنده قال " الهيثمى " : ورجاله مُوَثَّقُون.

ودليل الشافعية والحنابلة: أن الأحاديث التي وردت في الافتراش في التشهد برواتها التشهد الأول، حيث ورد في البخاري عن أبي حميد الساعدي قوله: " فإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى وقعد على مقعدته ".

وما ذكره " مسلم " من حديث عبد الله بن الزبير: " أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل رجله اليسرى بين فخذه وساقه، ويفرق قدمه اليمنى ".

وفي حديث أبي حميد أيضاً، عند أبي حاتم في صحيحه وفيه " حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم، أخرج رجله اليسرى، وجلس على شقه الأيسر متوركاً".

ولكن وقع اختلاف بين الشافعية والحنابلة، في الصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد.

فالشافعية يرون أن فيه التورك، لأن قوله في حديث أبي حميد: " فإذا جلس في الركعة الأخيرة.. الخ  " عام في الجلوس الأخير كله، سواء كان في صلاة ثنائية، أو غيرها.

والحنابلة يقولون: إن التورك خاص بالتشهد الأخير من الصلاة ذات التشهدين.

ويرون أن سياق حديث أبي حميد يدل على ذلك، لأنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وقيامه منه، ثم ذكر التورك، وقصد به التشهد الأخير.

وعللوا لذلك، بأن التورك بالصلاة ذات التشهدين، ليكون فرقاً بين الجلوسين.

وإذا كان مفترشاً في الأول صار مستعدّا للقيام، متهيئاً له، أما الثاني، فيكون فيه متوركا، لأنه مطمئن.

ورجح "ابن القيم" هذا الافتراش في "زاد المعاد" ولكن ردَّ قوله "الشوكاني" في "نيل الأوطار" والله أعلم.

وأفضل التشهد، تشهد عبد الله بن مسعود، وهو أصحها، ولذا فقد أجمع العلماء على اختياره.

 وصفته : " التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصـالحيِن، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ".

وأجمع العلماء على مشروعية التسليم، ولكن اختلفوا: هل المشروع تسليمتان أو تسليمة واحدة؟

والصحيح أن المشروع تسليمتان، لصحة أحاديثهما، وضـعف أحاديث التسليمة الواحدة.

وعلى فرض صحة أحاديث التسليمة، فإن أحاديث التسليمتين أتت بزيادة لا تنافى، والزيادة من الثقة مقبولة.

واختلفوا في وجوب التسليم.

فذهبت الحنفية إلى عدم وجوبه، مستدلين بما أخرجه الترمذي، عن ابن عُمر: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رفع الإمام رأسه من السجدة وقعد ثم أحدث قبل التسليم، فقد تمت صلاته ".

واستدلوا بحديث المسيء في صلاته، حيث لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتسليم. وأجيب بأن حديث ابن عمر، اتفق الحفاظ على ضعفه.

وقال الترمذى: " هذا حديث إسناده ليس بذاك القوى ".

أما حديث المسيء فلا ينافي الوجوب، فإن هذا زيادة،وهي مقبولة.

وذهب جمهور الصحابة والتابعين، ومن أصحاب المذاهب، الشافعية، والحنابلة إلى الوجوب، مستدلين بإدامة النبي صلى الله عليه وسلم له، مع قوله: " صلوا كما رأيتموني أصلى" وبما ثبت عند أصحاب السنن " تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ".

الحديث الثالث

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلاةَ، وَإذَا كبر لِلرُّكوعِ، وَإذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفعَهُمَاِ كَذلِك، وقَال : سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَتا وَلَكَ الْحَمْدُ. وَكَان لاَ يَفعَلُ ذلِكَ في السُّجودِ.

المعنى الإِجمالي:

الصلاة مأدبة كريمة، جمعت كل ما لذَ وطاب، فكل عضو في البدن، له فيها عبادة خاصة.

ومن ذلك، اليدان فلهما وظائف، منها رفعهما عند تكبيرة الإحرام زينة للصلاة، وإشارة إلى الدخول على الله، ورفع حجاب الغفلة، بين المصلى، وبين ربه، ويكون رفعهما إلى مقابل منكبيه، ورفعهما أيضاً للركوع في جميع الركعات، وإذا رفع رأسه من الركوع، في كل ركعة.

وفي هذا الحديث، التصريح من الراوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل ذلك في السجود.

اختلاف العلماء:

أجمع العلماء على مشروعية رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لتواتر الأحاديث في ذلك، حيث رُوِيَ عن خمسين صحابياً، منهم العشرة المبشرون بالجنة.

واختلف العلماء في رفع اليدين عند غيرها. فذهب جمهور الصحابة، والتابعين ، ومن بعدهم- ومنهم الإمامان، الشافعي وأحمد-: إلى استحباب ذاك، في هذه الثلاثة المواضع المذكور في هذا الحديث. قال ابن المديني: هذا الحديث حجة على الخلق ، ومن سمعه فعليه أن يعمل به. وقال ابن القيم روي الرفع عنه صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن الثلاثة نحو من ثلاثين نفسا، واتفق على روايتها العشرة. وقال الحاكم: لا نعلم سنة اتفق على روايتها الخلفاء الأربعة، ثم العشرة، فمن بعدهم من أكابر الصحابة غير هذه السنة.

وفي رواية عن الإمام أحمد اختارها المجد، وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحبا "الفائق" و "الفروع" واختيار شيخنا عبد الرحمن السعدي ورواية للإمام الشافعي. وطائفة من أصحابه، وجماعة من أهل الحديث: أن رفع اليدين يستحب في موضع رابع، وهو إذا قام من التشهد الأول في الصلاة ذات التشهدين .

لما روي البخاري عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.

ولما في حديث أبي حميد عند أبي داود، والترمذى وصححه: " ثم إذا قام من الركعتين، رفع يديه حتى يحاذى بهما منكبيه ".

وذهب " مالك " في أشهر الروايات عنه، وأبو حنيفة: إلى أنه لا يستحب رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام.

وحجتهم حديث البراء بن عازب عند أبي داود " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة، رفع يديه، ثم لم يعد ".

وقد اتفق الحفاظ على أنه قوله " ثم لم يعد " مدرجة من يزيد بن أبي زياد أحد رواة الحديث.

واحتجوا أيضا بما روى عن ابن مسعود، عنـد أحمد، وأبي داود، والترمذيٍ "لأصليَنَّ لَكُمْ صَلاةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَصَلى فَلَم يَرْفعْ يَدَيْهِ إِلا مَرة وَاحِدَةً " حسنه الترمذي، وصححه ابن حزم. ولكنه لم يثبت عند ابن مبارك، وعده ابن أبي حاتم خطأ، وصرح أبو داود بأنه ليس بصحيح بهذا اللفظ. فتلخص من هذا استحباب رفع اليدين في المواضع الأربعة وهي:

1: عند تكبيرة الإحرام، 

2: وعند الركوع،

3: وبعد الرفع منه،

4: وبعد القيام من التشهد الأول.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام بإجماع العلماء وعند الركوع وبعد الرفع منه عند الجمهور.

2- أن يكون الرفع إلى مقابل المنكبين.

3- أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يفعل الرفع في السجود.

4- حكم الله في ذلك كثيرة، وأجمع العلماء على أنه عبادة لليدين. وتلمسوا حكما أخرى.

فمنهم من قال: وزينة للصلاة .

ومنهم من قال: رفع لحجاب الغفلة بين العبد وربه. وقالوا بتحريك القلب بحركة الجوارح. وقال الشافعي: تعظيم الله واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

لا منافاة بين هذه الأقوال وغيرها. فلله في شرائعه حِكَمٌ وأسرار كثيرة.

والخضوع والطاعة للّه تعالى من أجل الحكم والأسرار.

الحديث الرابع

عَنْ عَبْدِ الله بن عباس رضيَ الله عَنْهُمَا قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " أمِرْت أنْ أسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أعظُمٍ : عَلَى الجبهة (وأشار بيده إلى أنفه) واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين".

المعنى الإجمالي :

أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يسجد له على سبعة أعضاء، هي أشرف أعضاء البدن وأفضلها.

الأولى منها: الجبهة مع الأنف.

والثاني والثالث: اليدين ، يباشر الأرض منهما بطونهما.

والرابع والخامس : الركبتان، والسادس والسابع: أطرا ف القدمين، موجهاً أصابعهما نحو القبلة، وأمره صلى الله عليه وسلم أمر لأمته، لأنه تشريع عام.

اختلاف العلماء:

أجمع العلماء على مشروعية السجود على هذه الأعضاء السبعة، واختلفوا في الواجب منها.

والذي يدل عليه هذا الحديث الصحيح أن السجود، واجب عليها كلها، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى:

ويرى بعض العلماء أن الواجب الجبهة، والباقي مستحب.

ويرى أبو حنيفة، أن الأنف يجزئ عن الجبهة، والصحيح القول الأول.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة جميعها وهو مذهب الإمام أحمد، والوجوب مأخوذ من الأمر. وفي السجود على هذه الأعضاء أداء لواجب السجود وتعظيم لله تعالى وإظهار للذل والمسكنة بين يديه.

2- أن الأنف تابع للجبهة، وهو متمم للسجود، وعليه فلا تكفي بدونه.

  فائدتان:

الأولى: أنه لا بأس بالسجود على حائل سوى أعضاء السجود، فإنه يحرم أن يضع جبهته على يديه أثناء ذلك، لأن يديه من الأعضاء المتصلة بالسجود. ويكره السجود على ما اتصل به من ثوب وعمامة إلا مع حاجة، كالحر، والبرد، والشوك، وخشونة الأرض، فلا يكره حينذاك. ولا يكره السجود أيضا على حائل غير متصل به، كسجادة ونحوها.

الثانية :  أن يضع أعضاء سجوده بالترتيب الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.

وهو أن يضع ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته مع أنفه، ولا يبرك كما يبرك البعير، بحيث يقدم يديه قبل ركبتيه، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن هذا.

الحديث الخامس

عَنْ أبي هُرَيرَة رضيَ الله عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قَامَ إِلى الصَّلاةِ يُكَبر حِينَ يَقومُ، ثم يُكَبر حِينَ يركعُ، ثمَ يَقولُ: " سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ " حين يَرْفعُ صُلْبهُ من الركوعِ، ثُمَ يَقُولُ -وَهُوَ قائِم-: "رَبَتا وَلَكَ الحَمْدُ"، ثمّ يُكَبر حِينَ يَهْوِي، ثمَّ يُكَبر حِينَ يَرْفَعُ رأسه، ثم يُكَبر حِنَ يَسْجُدُ، ثُم يُكَبر حِينَ يَرْفَعُ رأسه، ثمَّ يَفعَل ذلِكَ في صَلاتِهِ كُلهَا حَتَى يَقضِيَهَا. ويُكَبر حِينَ يَقُومُ مِنَ الثنتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوس.

الحديث االسادس

عَنْ مُطَرّفِ بنِ عَبْدِ الله بن الشخيرِ، قال: صَلَّيْتُ أنَا وَعِمْرَانُ بن حُصِيْن خَلْفَ عَلى بنِ أبي طَالبِ رضيَ الله عَنهُ، فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَِ رأسه كَبَّر، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الركعَتَينِ كَبَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصلاة أخَذ بيدِي عِمْرَان بنُ حُصَيْنِ فَقَالَ: قدْ ذَكَرَنَي هذَا صَلاةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أو قال: صَلى بِنَا صَلاةَ مُحَمًدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.  

المعنى الإجمالي:

في هذين الحديثين الشريفين بيان شعار الصلاة، وهو إثبات الكبرياء لله سبحانه وتعالى، والعظمة.

فما جعل هذا شعارها وسمتها، إلا لأنها شرعت لتعظيم الله وتمجيده.

فحين يدخل فيها، يكبر تكبيرة الإحرام، وهو واقف معتدل القامة.

وبعد أن يفرغ من القراءة ويهوى للركوع، يكبر.

فإذا رفع من الركوع، وقال: " سمع الله لمن حمده " واستتم قائماً، حمد الله وأثنى عليه، حيث عاد إلى أفضل الهيئات، وهي القيام.

ثم يكبر في هُوِيه إلى السجود، ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها، حتى يفرغ منها.

وإذا قام من التشهد الأول في الصلاة ذات التشهدين، كبًر في حال قيامه.

اختلاف العلماء:

أجمع العلماء على وجوب تكبيرة الإحرام، للنص عليها في حديث المسيء في صلاته.

واختلفوا فيما عداها من التكبيرات.

فذهب أكثر الفقهاء، إلى عدم وجوبها، لأن الواجب عندهم من أعمال الصلاة، ما ذكر في حديث المسيء في صلاته، وهذه التكبيرات لم تذكر فيه. قال في فتح الباري : الجمهور على ندبية ماعدا تكبيرة الإحرام.

وذهب الإمام أحمد، وداود الظاهري، إلى وجوب تكبيرات الانتقال، مستدلين بإدامة النبي صلى الله عليه وسلم لها وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلى".

ولما روى أبو داود عن على بن يحيى بن خلاد عن عمه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتم الصلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ" فذكر الحديث، وفيه ذكر التكبيرات وهو نص فيها.

وأجابوا عن حديث المسيء، بأنه أتى في طريق أبي داود، والترمذي، والنسائي، أنه قال للمسيء: " ثم يقول: الله اكبر، ثم يركع " وذكر بقية التكبيرات.

واختلفوا في جمع المصلي بين التسميع وهو قول: "سمع الله لمن حمده" والتحميد وهو قول: "ربنا ولك الحمد".

فذهب إلى وجوبه على كل مصل، من إمام، ومأموم، ومنفرد، طائفة من العلماء.

من الصحابة أبو برزة، ومن التابعين، محمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح ومن المحدثين، إسحاق، وأبو داود، ومن أئمة المذاهب، مالك، والشافعي، وداود.

وحجتهم حديث الباب، وما أخرجه الدارقطني عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بريدة ، إذا رفعت رأسك من الركوع، فقل: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا ولك الحمد .... إلخ".

واحتجوا أيضاً بما نقل من الإجماع على وجوبه، على المنفرد. وألحِقَ به المأموم، لأن ما ثبت في حق مُصل ، ثبت في حق مصل آخر بلا فرق.

 وذهب إلى عدم وجوب الجمع بين التسميع والتحميد على المأموم جماعة من الصحابة، أبو هريرة، وابن مسعود.

ومن التابعين، الشعبي، ومن المحدثين سفيان والثورى.

ومن أئمة المذاهب، أبو حنيفة، وصاحباه، والإمام أحمد، والأوزاعى، وهو مروى عن مالك أيضاً.

واحتج هؤلاء الفقهاء، على عدم الوجوب، بحديث أبي هريرة عند الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤتَم بِه" وفيه وَإِذَا قالَ: "سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ" فقولُوا: "رَبنا لك الحَمدُ".

وأجابوا عن أدلة أصحاب المذاهب الأول بما يأتي :

أما حديث الباب، فهو في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إمام أو منفرد، ومحل النزاع في المأموم.

وأما حديث بريدة، فضعيف الإسناد، ولا يحتج به.

وأما إلحاق المأموم بالإمام المنفرد، فلا قياس مع النص، والله أعلم.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية تكبيرة الإحرام، وأن تكون في حال القيام.

2- مشروعية تكبيرة الركوع، وأن يكون في حال الانتقال من القيام إلى الركوع.

3- التسميع للإمام والمنفرد، ويكون في حال الرفع من الركوع.

4- التحميد لكل من الإمام، والمأموم، والمنفرد، في حال القيام.

5- الطمأنينة بعد الرفع من الركوع.

6- التكبير في حال الهوِي من القيام إلى السجود.

7- التكبير حال الرفع من السجود إلى الجلوس بين السجدتين .

8- أن يفعل ما تقدم- عدا تكبيرة الإحرام- في جميع الركعات.

9- التكبير حيال القيام من التشهد الأول إلى القيام في الصلاة ذات التشهدين.

10- المفهوم من لفظ (حين) أن التكبير يقارن الانتقال، فلا يتقدمه، ولا يتأخر عنه، وهذا هو المشروع. قال ابن دقيق العيد: وهو الذي استمر عليه عمل الناس، وأئمة فقهاء الأمصار.

11- ذكر ناصر الدين بن المنير أن تجديد التكبير في كل ركعة وحركة بمثابة تجديد النية.

فائدة:

ورد في بعض روايات الحديث "ربنا لَكَ الحمد"، وورد في البعض الآخر "ربنا ولَكَ الحمد" بإثبات الواو، وهو أكثر الروايات، وهي أرجح وأوْلَى لأن الواو تأتي بمعنى زائد مقصود.

الحديث السابع

عَنْ البَرَاء بن عَازِبٍ رضيَ الله عَنْهُمُا قال: رَمَقْتُ الصَّلاةَ مَعَ مُحَمدٍ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدتُ قِيَامَهُ فَرَكعَتَهُ، فَاعتدَالَهُ بَعدَ رُكوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ فَجَلْسَتهُ بين السجدَتَيْن، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتهُ مَا بيِن التسْلِيمِ وَالانصِرَافِ قريباً مِنَ السّوَاءِ. وفي رواية البخاري. " مَاخَلا القِيَامَ وَالقُعُودَ. قَرِيباً مِنَ السّوَاءِ".  

المعنى الإجمالي :

يصف البراء بن عازب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكر أنها متقاربة متناسبة.

فإن قيامه للقراءة، وجلوسه للتشهد، يكونان مناسبين للركوع، والاعتدال والسجود فلا يطول القيام مثلا، ويخفف الركوع، أو يطيل السجود، ثم يخفف القيام، أو الجلوس بل كل ركن يجعله مناسبا للركن الآخر.

وليس معناه: أن القيام والجلوس للتشهد، بقدر الركوع والسجود.

وإنما معناه أنه لا يخفف واحداً ويثقل الآخر.

وإلا فَمِنَ المعَلوم أن القيام والجلوس، أطول من غيرهما، كما يدل عليه زيادة البخاري في الحديث.

ما يؤخذ من الحديث:

1- الأفضل أن يكون الركوع والاعتدال منه، والسجود والاعتدال منه، متساوية المقادير، فلا يطيل المصلى بعضها على بعض.

2- أن يكون القيام للقراءة والجلوس للتشهد الأخير، أطول من غيرهما.

3- أن تكون الصلاة في جملتها متناسبة، فيكون طول القراءة مناسباً مثلا، للركوع والسجود.

4- ثبوت الطمأنينة في الاعتدال من الركوع والسجود، خلافاً للمتلاعبين في صلاتهم ممن لا يقيمون أصلابهم في هذين الركنين.

5- زعم بعضهم أن الرفع من الركوع ركن صغير، لأنه لم يسن فيه تكرير التسبيحات كالركوع والسجود، ولكن هذا قياس فاسد، لأنه قياس في مقابلة النص فإن الذكر المشروع في الاعتدال من الركوع أطول من الذكر المشـروع في الركوع، وقد أخرج ذلك مسلم في حديث ثلاثة من الصحابة.

فائدة:

لكون المعهود من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هو تطويل قيام القراءة وقعود التشهد على غيرهما من أفعال الصلاة، فقد اختلف شراح الحديث في معنى هذه [ المناسبة ] بين أفعال صلاته عليه الصلاة والسلام، بما فيها القيام.

فالنووي جعلها صفة عارضة وليست دائمة.

وابن دقيق العيد قال: يقتضي هذا تخفيف ما العادة فيه التطويل، أو تطويل ما العادة فيه التخفيف.

وهداني الله تعالى إلى المعنى المذكور في "المعنى الإجمالي" من أنه إذا طولَ القراءة طول كلها من الأركان، فيكون قريبا من السواء تطويلا وتخفيفا.

ومثل القراءة القعود للتشهد. ثم بعد كتابته، وجدته رَأى ابن القيم في كتاب "الصلاة" و"تهذيب السنن" وهذا هو الحق، إن شاء الله تعالى.

الحديث الثامن

عَنْ ثَابِتٍ البناني، عَنْ أنَس بن مَالِك رضيَ الله عَنْهُ قال: إني لا آلو[52] أنْ أصَليَ بكم كَمَا كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلي بِنَا.

قال ثابت: فَكَانَ أنَس يَصنعُ شَيْئاً لا أرَاكُم تصْنَعُونَهُ. كَانَ إِذَا رَفَعَ رأسه مِنَ الرُكُوعِ، انتصَبَ قَائِماً، حَتى يَقُولَ الْقَائلُ: قدْ نَسيَ، وَإِذَا رَفَعَ رأسه مِنَ السجدَةِ مَكَثَ حَتَّى يَقُولَ القَائِلُ: قَدْ نَسىَ.

المعنى الإجمالي[53]:

يقول " أنس " رضي الله عنه، إني سأجتهد فلا اقَصر أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بنا، لتقتدوا به، فتصلوا مثله.

قال الراوي ثابت البناني: فكان أنس يصنع شيئا من تمام الصلاة وحسنها، لا أراكم تصنعون مثله.

كان يطيل القيَام بعد الركوع، والجلوس بعد السجود.

فكان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل -من طول قيامه- قد نَـسيَ أنه في القيام الذي بين الركوع والسجود. وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل -من طول جلوسه-: قد نسى.

ما يؤخذ من الحديث:

فيه دليل على مشروعية تطويل القيام بعد الركوع، وتطويل الجلوس بعد السجود، وأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم .

الحديث التاسع

عَنْ أنَس بن مَالِك رضيَ الله عَنْهُ قَالَ: " مَا صَليتُ وَرَاءَ إِمَام قَطّ أخَف صَلاة وَلا أتَمَّ صَلاة مِنَ النبي صَلًى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ ".

المعنى الإجمالي :

ينفي أنس بن مالك أن يكون صلى خلف أي إمام من الأئمة إلا وكانت صلاته خلف الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم أخف، بحيث لا يشـق على المأمومين، فيخرجون منها وهم فيها راغبون.

ولا أتَمَّ من صلاته، فقد كان يأتي بها صلى الله عليه وسلم كاملة، فلا يخل بها، بل يكملها بالمحافظة على واجباتها ومستحباتها، وهذا من آثار بركته صلى الله عليه وسلم.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن يأتي الإمام بالصلاة خفيفة، حتى لا يشق على المصلين، وتامة حتى لا ينقص من ثوابها شيء . فإتمامها يكون بالإتيان بواجباتها ومستحباتها من غير تطويل. وتخفيفها يكون بالاقتصار على واجباتها وبعض مستحباتها.

2- أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أكمل صلاة، فليحرص المصلى على أن يجعل صلاته مثل صلاته عليه الصلاة والسلام، ليحظى بالاقتداء، ويفوز بعظيم الأجر.

3- فيه جواز إمامة المفضول للفاضل، على تقدير أن أنسا رضي الله عنه أفضل ممن يصلى به غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فإمام المسجد مقدم على غيره وإن كان وراءه أفضل منه لأنه هو الإمام الراتب، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن ذا السلطان كالإمام الراتب.

الحديث العاشر

عَنْ أبي قِلابَةَ[54] عَبْدِ الله بنِ زَيد الجَرْمِي البَصْري قالَ: جَاءنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِى مَسْجدِنَا هذَا فَقَال: إني لأصَلى بِكُم وَمَا أريد الصَّلاةَ، أصلى كَيْفَْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلي.

فقلت لأبى قلابَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ قال : مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنَا هذَا، وَكَانَ يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رأسه مِنَ السُّجُودِ قَبْل أنْ يَنْهَضَ.

أرَادَ بشيخهم، أبا يَزِيدَ، عمرو بن سلمة الجَرمىّ.

المعنى الإجمالي:

يقول أبو قلابة: جاءنا مالك بن الحويرث أحد الصحابة في مسجدنا، فقال: إني جئت إليكم لأصلى بكم صلاةً لم أقصد التعبُّد بها، وإنما قصدت تعليمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بطريق عملية، ليكون التعليم بصورة الفعل أقرب وأبقى في أذهانكم.

فقال الراوي عن أبي قلابة: كيف كان مالك بن الحويرث الذي علمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يصلى؟

فقال: مثل صلاة شيخنا أبي يزيد عمرو بن سلمة الجرمي، وكان يجلس جلسة خفيفة إذا رفع رأسه من السجود للقيام، قبل أن ينهض قائماً.

اختلاف العلماء

الجلسة المشار إليها في هذا الحديث هي ما تسمى عند العلماء بـ " جلسة الاستراحة ".

ولا خلاف عندهم في إباحتها، وإنما الخلاف في استحبابها.

فذهب إلى استحبابها، الشافعي في المشهور من مذهبه، وأحمد في إحدى الروايات عنه، واختارها من أصحابه الخلال، لهذا الحديث الصحيح. وذهب إلى عدم استحبابها من الصحابة، عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وابن العباس.

ومن المحدثين، الثوري، وإسحاق.

ومن الأئمة، أبو حنيفة، ومالك، وهو المشـهور من مذهب أحمد وقال أكثر الأحاديث على هذا يعنى " تركها ".

قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم، وقال أبو الزناد: تلك السنة.

ومال بعض العلماء إلى فعلها عند الحاجة إليها، من كِبَر أو ضعف، جمعاً بين الأدلة.

قال ابن قدامة في "المغنى" وهذا فيه جمع بين الأخبار، وتوسُّطٌ ببن القولين.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب جلسة الاستراحة، وتقدم أن الصحيح استحبابها للحاجة.

2- أن موضعها عند النهوض من السجود إلى القيام.

3- أن القصد منها الاستراحة لبعد السجود من القيام، لذا لم يشـرع لها تكبير ولا ذكر.

4- جواز التعليم بالفعل، ليكون أبقى في ذهن المتعلم.

5- جواز فعل العبادة لأجل التعليم، وأنه ليس من التشريك في العمل فإن الأصل الباعث على هذه الصلاة هو إرادة التعليم، وهو قربة كما أن الصلاة قربة.

الحديث الحادي عشر

عَنْ عَبْدِ الله بنِ مَالِكٍ "ابن بُحَينةَ" رضيَ الله عَنْة أنَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا صَلى فرج بَيْنَ يَدَيهِ حَتَّى يَبْدُوَ[55] بَيَاضُ إبْطَيْهِ.

المعنى الإجمالي:

كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، صلاة رغبة ونشاط، وكان يعطى كل عضو حقه- من العبادة.

ولهذا كان إذا سجد فرج بين يديه، ومن شدة التفريج بينهما، يظهر بياض إبطيه.

كل ذلك عنوان النشاط في الصلاة، والرغبة في العبادة، وتباعداً عن هيئة الكسلان، الذي يضم بعض أعضائه إلى بعض، فيزيل عن بعضها عناء العبادة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- فيه دليل على استحباب هذه الهيئة في السجود، وهى مباعدة عضديه عن جنبيه، وقد تخصص ذلك في السجود بما أخرجه مسلم في حديث البراء يرفعه وهو " إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك وهو في حديث الباب مطلق، ولكنه في هذا الحديث مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، ويختص التفريج بحال السجود.

2- في ذلك حِكَم كثيرة، وفوائد جسيمة.

منها:- إظهار النشاط والرغبة في الصلاة.

ومنها:- أنه إذا اعتمد على كل أعضاء السجود، أخذ كل عضو حقه من العبادة.

فائدة:

خص بعض الفقهاء، ومنهم الحنابلة، هذا الحكم بالرجل دون المرأة، لأنه يطلب منها التجمع، والتصون، ولما روى أبو داود في مراسيله عن يزيد ابن حبيب " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأتين تصليان، فقال: إذا سجدتما، فَضُما بعض اللحم إلى بعض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل.

الحديث الثاني عشر

عَنْ أبي مَسْلَمَةَ - سَعِيدِ بْن يَزِيدَ- قال: سألتُ أنَسَ بنَ مَالِكٍ رضيَ الله عَنْهُ: أكَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى في نَعْلَيْهِ؟ قَال: نَعَمْ.

المعنى الإجمالي :

سأل سعيد بن يزيد أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أكان يصلى في نعليه ليكون له قدوة فيه؟ فأجابه أنس: نعم، كان يصلى في نعليه، وأن ذلك من سنته المطهرة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب الصلاة في النعلين، حيث كان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

2- جواز دخول المسجد بهما، بعد تنظيفهما من الأقذار والأنجاس.

3- أن غلبة الظن في نجاستهما لا تخرجهما عن أصل الطهارة فيهما.

فائدة:

الصلاة في النعال ودخول المسجد فيهما، أصبحت مسـألة مشكلة.

فسنة النبي صلى الله عليه وسلم صريحة بجواز ذلك بل باستحبابه، وأنه من السنة التي ينبغي المحافظة عليها.

فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن شداد بن أوس: " خَالِفُوا اليَهُودَ، فَإنَهُم لا يُصَلونَ في نِعَالِهِمْ وَلا خِفَافِهِمْ ".

وقال صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه أبو داود أيضاً، عن أبي سعيد الخدري : "إِذَا جَاءَ أحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُر، فَإن رَأى في نَعْله قَذَراً أوْ أذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَليُصَل  فِيهِمَا" إلى غير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة، في مشروعية الصلاة فيهما بعد تنظيفهما من الأنجاس والأقذار.

أما العامة وبعض المتعصبين من طلبة العلم، فيجادلونك في ذلك، ويرون أن إحياء هذه السـنة من الكبائر، التي لا يسكت عليها.

وإذا أوردت عليهم هذه النصوص قالوا: هذا في وقت دون وقت، وزمن دون زمن.

كأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أتى بعدها من نسخها وبدلها.

وما دَرَوْا أنها شريعة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والمناسب: أن من أراد اتباع السنة في ذلك وفي غيره، مما تركه أو فعله، لا يمس جوهر الإسلام أن ينظر، فإن كان فعله أو تركه يسبب فتنة وشرا اكبر من مصلحته فَلْيرَاع المصالح، فإن الشرع يكون حيث توجد المصلحة الخالصة، أو الراجحة على المفسدة.

الحديث الثالث عشر

عَنْ أبي قَتَادَةَ الأنصاري رضيَ الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يُصَلي وَهُوَ حَامِل أمَامَةَ بِنْتَ زَينبَ بِنْتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لأبي الْعَاص ابْن الربيع بن عَبْدِ شَمس، فَإذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإذَا قَامَ حَمَلَهَا.

المعنى الإجمالي  :

كان النبي صلى الله عليه وسلم على جانب كبير من العطف واللطف والرحمة والرأفة فكان يتودد إلى الصغار والكبار، والأغنياء والفقراء.

ولا أدل على أخلاقه الكريمة، من حمله إحدى حفيداته وهو في الصلاة، حيث يجعلها على عاتقه إذا قام، فإذا ركع أو سجد وضعها في الأرض، ففي هذا السماح الكريم، تشريع وتسهيل للأمة المحمدية.

اختلاف العلماء :

أورد " ابن دقيق العيد " تأويلات كثيرة  بعيدة لهذا الحديث،. في شرح هذا الكتاب.

منها دعوى النسخ، ودعوى الخصوصية، ودعوى الضرورة، وغير ذلك مما هو أسقط تأويلا وأضعف قيلاً.

وقال القرطبى: وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، والذي أحوجهم إلى ذلك أنه عمل كثير.

وقال النووي -بعد أن ساق هذه التأويلات-: فكل ذلك دعاوى باطلة مردودة، لا دليل عليها. تبين لنا حينئذ أن الصحيح الذي عليه المحققون أن مثل هذه الحركة جائزة في كل صلاة، من الإمام، والمأموم، والمنفرد وأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز.

كما كان يصعد وينزل على درج المنبر، ليريهم صلاته.

وكما كان يفتح الباب لعائشة وهو في الصلاة، إلى غير ذلك من الأعمال التي لا تخل في الصلاة. ويستفاد منها جواز هذه الحركة اليسيرة للحاجة.

ما يؤخذ من الحديث :

1- جواز مثل هذه الحركة في صلاة الفريضة والنافلة، من الإمام والمأموم والمنفرد ولو بلا ضرورة إليها. وهذا قول محققي العلماء.

2- جواز ملامسة وحمل من تظن نجاسته، تغليباً للأصل- وهو الطهارة- على غلبة الظن. وهو- هنا- نجاسة ثياب الأطفال وأبدانهم.

3- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، ولطف خلقه ورحمته.

فائدة:

قسم بعض العلماء الحركة في الصلاة إلى أربعة أقسام حسب الاستقراء والتتبع من نصوص الشارع.

القسم الأول: يحرم ويبطل الصلاة وهو الكثير المتوالي لغير ضرورة ولغير مصلحة الصلاة.

القسم الثاني: يكره في ولا يبطلها : وهو اليسير لغير حاجة، مما ليس لمصلحة الصلاة كالعبث اليسير بالثياب أو البدن، ونحو ذلك، لأنه مناف للخشوع المطلوب، ولا حاجة تدعو إليه.

القسم الثالث: الحركة المباحة وهي اليسيرة للحاجة : ولعل هذا القسم، هو ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله من حمل هذه الطفلة، وطلوعه على المنبر، ونزوله منه حال الصلاة، وفتحه الباب لعائشة، ونحو ذلك مما يفعله للحاجة ولبيان الجواز.

القسم الرابع: الحركة المشروعة وهي التي يتعلق بها مصلحة الصلاة، كالتقدم للمكان الفاضل، والدنو لسد خلل الصفوف.

أو تكون الحركة لفعل محمود مأمور به، كتقدم المصلين وتأخرهم، في صلاة الخوف أو الضرورة كإنقاذ من هلكة.

الحديث الرابع عشر

عَنْ أنَس بنِ مَالِكٍ رضيَ الله عَنْهُ عَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اعْتَدِلُوا في السُجُودِ، وَلا يَبسُطْ أحَدُكُم ذِرَاعَيْهِ انْبساطَ الْكَلْبِ ".

المعنى الإجمالي:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتدال في السجود، وذلك بأن يكون المصلى على هيئة حسنة في السجود، حيث يجعل كفيه على الأرض، ويرفع ذراعيه ويجافيهما عن جنبيه، لأن هذه الحال، عنوان النشاط، والرغبة المطلوبين في الصلاة، ولأن هذه الهيئة الحسنة تمكن أعضاء السجود كلها من الأخذ بحظها من العبادة.

ونهي عن بسط الذراعين في السجود، لأنه دليل الكسل والملل، وفيه تشبيه أفضل حالات العبادة بحال أخس الحيوانات، وأقذرها، وهو تشبيه بما لا يليق.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية الاعتدال في السجود، على الهيئة المشروعة.

2- النهيُ عن بسط الذراعين في السجود، لأنه دليل الكسل، وفيه تشـبيه بجلوس الكلب. فإن التشبيه بالأشياء الخسيسـة يدعو إلى تركه في الصلاة.

3- يؤخذ منه أيضا، كراهة مشابهة الحيوانات، خصوصاً في حال أداء العبادة.

فائدة جليلة:

ورد الأمر من الشارع بمخالفة الحيوانات الخسيسة والشريفة في هيئات الصلاة.

فنهي عن التفاتٍ كالتفات الثعلب، وافتراش كافتراش السبع، وإقعاء كإقعاء الكلب، ونقر كنقر الغراب وإشارة بالأيدي كأذناب الخيل الشمس[56] وبروك كبروك الجمل. وغير ذلك مما نهى عنه الشارع من مشابهة الحيوانات، لأن الصلاة مناجاة لله، فينبغي أن تكون على أحسن هيئة وأفضل صفة.

 بَابُ وجُوب الطّمَأنينة في الركوع والسجود

عَنْ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عَنْهُ أنَّ رَسُولَ- الله  صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ: " ارْجع فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ".

فَرَجَعَ فَصَلى كَمَا صَلَّى، ثُم جَاءَ فَسَلمَ عَلى النَبي صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ:" ارْجعْ فَصَلِّ، فَإنَّكَ لَمْ تُصَل" ثلاثاً.

فقال: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيره فَعَلِّمْني.

فقال: "إِذا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ، فَكَبِّرْ، ثم اقْرأ مَا تَيَسَّر مَعَكَ مِنَ الْقرْآنِ ثم اركعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثمَّ ارفَعْ حَتَى تَعْتدِلَ قَائِماً، ثمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجداً، ثم ارْفعْ حَتَى تَطْمَئِنَّ جَالِساً. وَافْعَلْ ذلِكَ في صَلاتِكَ كُلِّهَاَ.

المعنى الإجمالي:

هذا حديث جليل يسميه العلماء "حديث المسيء في صلاته" وهو عمدتهم فيما يجب في الصلاة وما لا يجب، حيث جاء من النبي  صلى الله عليه وسلم  موضع الاستقصاء في التعليم والتبييِن لأعمال الصلاة، التي يجب الإتيان بها ويعتبر ما ترك في هذا الحديث من فعلها غير واجب كما سنوضحه فيما بعد، إن شاء الله تعالى.

ومجمل هذا الحديث: أن النبي  صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل من الصحابة، اسمه ( خَلاّد بن رافع)، فصلى صلاة غير تامة الأفعال والأقوال.

فلما فرغ من صلاته، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسلم عليه فرد عليه السلام[57] ثم قال له: ارجع فَصَلِّ، فإنك لم تصل.

فرجع وعمل في صلاته الثانية كما عمل في صلاته الأولى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ارجع فَصَلِّ فإنك لم تصل ثلاث مرات.

فأقسم الرجل بقوله: و الذي بعثك بالحق، ما أحسن غير ما فعلت فعَلِّمني

فعندما اشتاق إلى العلم، وتاقت نفسه إليه، وتهيأ لقبوله بعد طول الترديد قال له النبي  صلى الله عليه وسلم ما معناه.

إذا قمت إلى الصلاة فكبر تكبيرة الإحرام، ثم اقرأ ما تيسر من القرآن، بعد قراءة سورة الفاتحة[58] ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع من الركوع حتى تعتدل قائما، وتطمئن في اعتدالك[59] ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع من السجود واجلس حتى تطمئن جالساً.

    وافعل هذه الأفعال والأقوال في صلاتك كلها، ماعدا تكبيرة الإحرام، فإنها في الركعة الأولى دون غيرها من الركعات.

في الحديث ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: في خلاف العلماء.

فقد ذهبت الحنفية إلى صحة الصلاة بقراءة  أي شيء من القرآن، حتى من قادر على الفاتحة مستدلين بقوله تعالى: {فَاقرأوا مَا تَيَسَّر مِنْهُ} وبإحدى روايات هذا الحديث " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن".

وذهب الجمهور إلى عدم صحة الصلاة بدون الفاتحة لمن يحسن قراءتها. مستدلين بقوله عليه الصلاة والسلام: " لا صلاَةَ لِمَنْ لَم يَقرأْ بِفاِتحَة الكِتَاب" متفق عليه. فالتقدير: لا صلاة توجد، وعدم وجودها شرعا هو عدم صحتها وهذا هو الأصل في مثل هذا النفي.

وأدلة عدم صحة الصلاة بدونها كثيرة.

وأجابوا عن الآية بأنها جاءت لبيان القرآن في قيام الليل، يعني: اقرأوا ما تيسر من القرآن بعد قراءة الفاتحة بلا مشقة عليكم.

وأجابوا عن الحديث، بأن هذه الرواية مجملة تفسرها الروايات الأخرى عند أبي داود وابن حبان "ثم اقرَأ بِأم القُرآن وبِمَا شَاءَ الله". وقد سكت عنه أبو داود. وما سكت عنه فإنه لا قدح فيه.

ولابن حبان في حديثه "واقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت". قال ابن الهمام:" الأولى الحكم بأنه صلى الله عليه وسلم  قال للمسيء في صلاته ذلك كله.

ثم إن بعض العلماء يرى وجوب الفاتحة في الركعة الأولى دون غيرها

والجمهور يرى وجوبها في كل ركعة، ويدل له قوله: "ثم افْعَلْ ذلِكَ في صَلاَتِكَ كُلهَا".  قال الحافظ ابن حجر: وحديث أبي قتادة في البخاري من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الفاتحة في كل ركعة مع قوله "صلوا كما رأيتموني أصلي" دليل الوجوب.

ثم اختلفوا في وجوب الطمأنينة في الاعتدال من الركوع والسجود.

فذهب الحنفية إلى علم وجوبها.

وذهب الجمهور إلى وجوبها، وحجتهم هذا الحديث الصحيح الصريح، وحديث البراء بن عازب أنه "رَمَقَ صَلاةَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  فَوَجَدَ قيامَهُ، فَرَكعَتَهُ، فَاعتِدَالَهُ بَعدَ رُكُوعِهِ، فسجدتهُ، فَجَلْسَتهُ مَا بينَ التسلِيم وَالانْصِرَافِ، قَرِيباً مِنَ السَّوَاءِ " متفق عليه.

وتقدم الكلام عليه- وثبت أنه يقف في اعتداله بعد الركوع حتى يظن أنه قد نَسِىَ لإطالته- والأدلة على ذلك كثرة.

وليس لدى الحنفية، دليل على ما ذهبوا إليه، و لا جواب صحيح على أدلة الجمهور الصحيحة الصريحة.

المبحث الثاني: في كيفية الاستدلال بهذا الحديث على الواجبات في الصلاة وغير الواجبات.

قال في "سبل السلام": واعلم أن هذا حديث جليل، تكرر من العلماء الاستدلال به على وجوب كل ما ذكر فيه، وعدم وجوب كل ما لم يذكر فيه.

أما الاستدلال على أن  كل ما ذكر فيه واجب، فلأنه ساقه صلى الله عليه وسلم  بلفظ الأمر بعد قوله: "لن تتم الصلاة إلا بما ذكر فيه". فيقوى مرتبة الحصر أنه صلى الله عليه وسلم  ذكر ما تعلقت به الإساءة من عمل هذا المصلى، وما لم تتعلق به إساءته من واجبات الصلاة. وهذا يدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت فيه الإساءة فقط ولم يحدد موضع الإساءة من صلاة هذا الرجل. ولكنه عند أبي داود و الترمذي والنسائي "أنه أخف صلاته" وأئمة الحديث يجعلون هذا الحديث في باب وجوب الطمأنينة فلعل الإساءة راجعة إلى أن هذا الرجل نقر الصلاة فأخف أعمالها وأقوالها.

وأما الاستدلال على أن كل ما لم يذكر فيه لا يجب، فلأن المقام مقام تعليم الواجبات في الصلاة.

فلو ترك ذكر بعض ما يجب لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز بالإجماع، فإذا أحصيت ألفاظ الحديث الصحيح، أخذ منها بالزائد.

 ثم إن عارض الوجوب الدالة عليه ألفاظ هذا الحديث أو عدم الوجوب دليل أقوى منه عمل به. فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه، وكان مذكورا في هذا الحديث فإننا نتمسك بوجوبه. وكل موضع اختلفوا في وجوبه ولم يكن مذكوراً في هذا الحديث فإنا نتمسك بعدم وجوبه، استنادا إلى هذا الحديث لأنه موضع تعليم.

وإن جاءت صيغة أمر بشيء لم يذكر في هذا الحديث، احتمل أن يكون هذا الحديث قرينة على حمل الصيغة على الندب، واحتمل البقاء على الظاهر، فيحتاج إلى مرجح، للعمل به.

المبحث الثالث: في الأحكام المأخوذة من هذا الحديث.

    1- الأعمال المذكورة في هذا الحديث هي أركان الصلاة، التي لا تسقط سهواً ولا جهلاً.

         وهي تكبيرة الإحرام في المرة الأولى فقط، ثم قراءة الفاتحة في كل ركعة، ثم الركوع والاعتدال منه، ثم السجود والاعتدال منه، والطمأنينة في كل هذه الأفعال حتى في الرفع من الركوع والسجود، خلافا لمن لم يوجبوها في هذين الركنين مع استحبابهما عندهم.

 وبقي شيء من الأركان، كالتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم      

       قال النووي: إنها معلومة لدى السائل      

2- أن يفعل ذلك في كل ركعة، ماعدا تكبيرة الإحرام، ففي الأولى دون غيرها.

 3- دل هذا الحدث على عدم وجوب ما لم يذكر فيه من أعمال الصلاة. لكن بعد الاطلاع على طرقه، والإحاطة بجميع ألفاظه، ليعلم المذكور كله فيؤخذ به.

4- وفيه دليل على وجوب الترتيب بين هذه الأعمال، لأنه ورد بلفظ " ثم " ولأنه مقام تعليم جاهل بالأحكام.

 5- أن هذه الأركان  للصلاة، لا تسقط لا سهواً ولا جهلاً، بدليل أمر المصلى بالإعادة، ولم يكتف النبي عليه الصلاة والسلام بتعليمه.

6- يدل هذا الحديث على عدم صحة صلاة المسيء، فلولا ذلك لم يؤمر بإعادتها.

7- يدل على أن الجاهل تجزىء  منه الصلاة الناقصة، أما العالم فلا.

8- فيه دليل على مشروعية حسن التعليم والأمر بالمعروف، وأن يكون ذلك بطريق سهلة، لا عنف فيها، وأن الأحسن للمعلم أن يستعمل طريق التشويق في العلم، ليكون أبلغ في التعليم، وأبقى في الذهن.

 9- وأنه يستحب للمسئول أن يزيد في الجراب إذا اقتضت المصلحة ذلك كأن تكون قرينة الحال تدل على جهل السائل ببعض الأحكام التي يحتاجها.

10- أن الاستفتاح، والتعوذ، ورفع اليدين، وجعلهما على الصدر، وهيئات الركوع والسجود والجلوس وغير ذلك كلها مستحبة.

11- وفيه أن المعلم يبدأ في تعليمه بالأهم فالأهم، وتقدم الفروض على المستحبات.

12- قال الصنعاني: واعلم أن حديث المسيء في صلاته قد اتسع فيه نطاق الكلام، وتجاذبت معانيه الأفهام، و قد كنا حققنا أنه لايتم حمل النفي فيه على نفي الكمال، لما تقرر في علم النحو وعلم الأصول، أن كلمات النفي موضوعة لنفي الحقيقة، فقولك "لا رجل في الدار" نفي لحقيقة الرجل فيها، وهذا مما لا نزاع فيه، وأنه لا يحمل على خلافه من الكمال وغيره إلا لدليل. اهـ.

 بَابُ القِراءَة في الصَّلاة

مباحث هذا الباب، الكلام على قراءة الفاتحة في الصلاة، هل تصح الصلاة بدونها؟ والكلام على المواضع التيٍ يكتفي فيها بالفاتحة، والمواضع التي يشرع فيها بعد الفاتحة غيرها، والكلام أيضا على نوع القراءة بالنسبة للصلوات، ونحو ذلك من البحوث المتعلقة بالقراءة.

الحديث الأول

  عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضيَ الله عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صَلاةَ لِمَنْ لمْ يَقْرأ بِفَاتِحَة  الكِتَاب ".

المعنى الإجمالي:

سورة الفاتحة، هي أم القرآن وروحه، لأنها جمعت أنواع المحامد والصفات العلى لله تعالى، وإثبات الملك والقهر، والمعاد والجزاء، والعبادة والقصد، وهذه أنواع التوحيد والتكاليف.

ثم اشتملت على أفضل دعاء، وأجل مطلوب، وسؤال النجاة من سلوك طريق المعاندين والضالين، إلى طريق العالمين العاملين، كما أثبت كذلك الرسالة بطريق اللزوم.

لذا فرضت قراءتها في كل ركعة، وأنيطَت صحة الصلاة بقراءتها، ونُفِيَتْ حقيقة الصلاة الشرعية بدون قراءتها. ويؤكد نفي حقيقتها الشرعية ما أخرجه ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعاً وهو "لاتجزئ صلاة لايقرأ فيها بأم القرآن".

اختلاف العلماء :

تقدم أن مذهب الحنفية أن المشروع عندهم قراءة الفاتحة في الصلاة، ولكنهم  يجيزون الصلاة بدونها ولو من قادر عليها.

والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من تعيُّن الفاتحةَ مع القدرة عليها وتقدمت أدلة الفريقين هناك، وأجمعوا على وجوب قراءتها للإمام والمنفرد.

واختلفوا في قراءتها للمأموم، فذهبت الحنابلة والحنفية إلى سقوطها عن المأموم مطلقاً، سواء أكان في صلاة سرية أم جهرية.

وذهبت الشافعية وأهل الحديث إلى وجوب قراءتها لكل مصلٍّ، من إمام، ومأموم ومنفرد.

وذهبت المالكية إلى وجوب قراءتها على المأموم في السرية، وسقوطها عنه في الجهرية، وهى رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية " وغيره من المحققين.

استدل الحنفية بحديث "من صلى خلف إمام، فقراءة الإمام قراءة له" وقوله تعالى: {وإذَا قُرئ القرآن  فَاستِمعوا لَهُ وأنصِتُوا} وحديث "إذا قَرَأ فأنصِتوا".

واستدل الشافعية ومن وافقهم بحديث عبادة الذي معنا.

أجابوا عن حديث "من صلى  خلف الإمام  الخ..." بما قاله ابن حجر من أن طرف كلها مطولة، فلا تقوم به حجة.

وأما الآية وحديث "إذا قرأ فأنصتوا" ونحوهما، فهي عمومات في كل قراءة، وحديث عبادة خاص بالفاتحة.

قلت: ويطمئن القلب إلى التفصيل الذي ذهب إليه الإمام مالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه لأن أدلة الفريقين تجتمع فيه، فيحصل العمل بها كلها.

ولأن قراءة الفاتحة تفوت المأموم في السرية إذا لم يقرأها ولم يسمعها من الإمام ولا يكون للإمام فائدة مادام المأموم يشتغل بالقراءة عن الإنصات للإمام كما يتعين قراءة الفاتحة على المأموم الذي لا يسمعها لبعد أو لطرش، على ألا يشغل ذلك من بجانبه من المصلين المنصتين.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة، وأنه لا يجزىء غيرها مع القدرة عليها.

2- بطلان الصلاة بتركها من المتعمد والجاهل و الناسي، لأنها ركن، والأركان لا تسقط مطلقاً.

3- لكن تقدم أن الصحيح من الأقوال الثلاثة، أنها تجب على المأموم في الصلاة السرية، وتسقط عنه في الجهرية لسماع قراءة الإمام.

*  *  *

الحديث الثاني

عَنْ أبي قَتادةَ الأنصَاري رضي الله عَنْهُ قَال: كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم  يقرأ في الركعتين الأولَيَيْن مِنْ صَلاةِ الظُّهْر بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وسُورَتين، يُطَوّلُ في الأولَى ويُقَصِّرُ في الثانِيةِ يُسْمِعُنَا الآَيَةَ أَحْيَاناً. وكان يقرأ في  العصرِ بِفَاتِحَةِ الكِتَاب وسُورَتين، يطَوّلُ في الأولَى ويُقصّر في  الثانِيَةِ، وفي الركعَتين الأُخْريين بأم الكِتَابِ، وَكان يُطَوّلُ في الركعَةِ الأولَى في صَلاةِ الصُّبْحِ وَيُقصِّـرُ في الثانيةِ.

المعنى الإجمالي:

كان النبي صلى الله عليه وسلم  يراعي في صلاته المصلحة العامة للمصلين لذا كان من عادته أن يقرأ بعد سورة الفاتحة غيرها  من القرآن في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر والعصر، لكون الناس في أول العبادة أنشط، وفي الركعتين الأخريين يقتصر على الفاتحة، خشية السأم والملل من المصلين لهذه الحكمة.

وأيضا ليدرك المتخلفون كل الصلاة، كأن يطيل الركعة الأولى على الثانية في كيفية القراءة كميتها. وإن وراء هذا التشـريع الحكيم من الأسرار والحكم والمصالح ما يجعل المؤمن يطمئن وتقر عينه. والخضوع والطاعة لأحكام الله تعالى هي المقصد الأسمى من العبادة.

وكان  صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك أيضا في صلاة الصبح، فيطيل قراءة الأولى على الثانية.

وكانت قراءته في الظهر والعصر سرا، إلا أنه قد يجهر ببعض الآيات، أحيانا، ليعلموا أنه يقرأ فيقتدوا به.

ما يؤخذ من الحديث من الأحكام:

1- مشروعية القراءة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر والعصر.

2- استحباب الاقتصار على الفاتحة في الركعتين الأخريين منهما.

3- تطويل الركعة الأولى على الثانية، من صلاة الظهر والعصر.

4- استحباب الإسرار بهاتين الصلاتين.

5- جواز الجهر ببعض الآيات، وخاصة لقصد التعليم.

6- استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية، من صلاة الصبح.

7- قال النووي: الوجه الثاني أنه يستحب تطويل القراءة في الركعة الأولى قصداً. وهذا المختار، و هو الموافق لظاهر السنة.

الحديث الثالث

عن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم  يَقرأ في المَغْرِبِـ " الطورِ".

المعنى ا لإجمالي:

العادة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم  أنه كان يطيل القراءة في صلاة الصبح، ويقصرها في المغرب، ويتوسط في غيرهما من الصلوات الخمس.

ولكنه قد يترك العادة فيقصر ما حقه التطويل لبيان الجواز، ولأغراض أخرى، كما في هذا الحديث من أنه قرأ في صلاة المغرب بسورة " والطور" وهي من طوال المفصل.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن المشروع، هو الجهر في صلاة المغرب.

2- جواز إطالة القراءة فيها.

الحديث الرابع

عَنِ الْبَرَاء بْن عَازِبٍ رضي الله عَنْهُمَا: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  كانَ في سَفَرٍ، فَصَلَّى العِشَاءَ الآخِرَة فَقَرَأ في إحْدَى الركعَتَين بـ"التين والزَّيْتونِ" فَمَا سَمِعْتُ أحَداً أحْسَنَ صَوْتاً أوْ قِرَاءَةً مِنْهُ.

المعنى الإجمالي:

سورة " التين" من قصار المفصل التي تقرأ في صلاة " المغرب".

وقد قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة " العَشاء " لأنه كان في سفر، والسفر يراعى فيه التخفيف والتسهيل لمشقته وعنائه، ولهذا استحب فيه قصر الصلاة ا لرُّباعية.

ومع كون النبي صلى الله عليه وسلم  مسافراً، فإنه لم يترك ما يبعث على الخشوع، وإحضار القلب على سماع القرآن، وهو تحسين الصوت في قراءة الصلاة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز قراءة  قصار المفصل، في صلاة العشاء.  

2- أن الأحسن تخفيف الصلاة في السفر، ومراعاة حال المسافرين، ولو كان عند الإمام رغبة في التطويل.

3- استحباب تحسين الصوت في القراءة ولو في الصلاة، لاًنه يبعث على الخشوع والحضور.  

الحَديث الخامس

عَنْ عَائِشَةََ رضِيَ الله عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  بَعَث رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ ، فَكَانَ يَقْرأُ لأصْحَابِهِ في صَلاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ"قُل هُوَ الله أحَدٌ".

فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " سَلُوهُ، لأي شَيْءٍ يَصْنَعُ ذلِكَ؟ ".

فَسَألوهُ فَقَالَ: لأنَّهَا صِفَةُ الرحْمنِ عَزَّ وَجَلَّ، فأنَا اُحِبُّ أنْ أقْرَأهَا.

فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " أخبِروهُ أنَّ الله تَعَالَى يُحِبُّهُ".

المعنى الإجمالي:

أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم  بعض أصحابه على سَرِيَّة.

ومن عادة الأمراء أَنًهم هم الأئمة في الصلاة، والمفتون لفضل علمهم ودينهم، فكان يقرأ "قل هو الله أحد" في الركعة الثانية من كل صلاة.

فلما رجعوا من غزوتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكروا له ذلك فقال: سلوه لأي  شيء يصنع ذلك، أهو لمحض المصادفة أم لشيء من الدواعي؟ فقال الأمير: صنعت ذلك لاشتمالها على صفة الرحمن عز وجل، فأنا أحب تكريرها لذلك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبروه، أنه كما كرر هذه السورة لمحبته لصفة الرحمن، فإن الله يحبه. ويالها من فضيلة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز قراءة قصار المفصـل، حتى في غير صلاة المغرب من الفرائض.

2- فضل سورة الإخلاص واستحباب قراءتها.

3- أن تفضيل بعض القرآن على بعض، عائد لما يحتوى عليه المفضَّل من تمجيد الله والثناء عليه. فهذه السورة الكريمة الجليلة تشمل توحيد الاعتقاد والمعرفة وما يجب إثباته للرب من  الأحدية المنافية للشريك و الصمدية المثبتة لله تعالى جميع صفات الكمال ونفي الوالد والولد، الذي هو من لوازم غناه ونفى الكفء المتضمن نفي المشابه والمماثل والنظير ولذا فهي تعدل ثلث القرآن.

4- أن الأعمال يكتب ثوابها بسبب ما يصاحبها من نية صالحة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم  أمر بالسؤال عن القصد من تكريرها.

5- أنه ينبغي أن يكون أصحاب الولايات والقيادات من أهل العلم والفضل والدين.

6- أنه من أحب صفات الله وَتَذوَّق حلاوة مناجاته بها فالله يحبه، لأن الجزاء من جنس العمل.

7- أن إخبار الوالي الأكبر عن أعمال الأمراء والعمال لقصد الإصلاح  لا يُعَدُّ وشاية ولا نميمة.

الحديث السادس

عَنْ جَابِرٍ رضي الله عَنْهُ: أن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم  قَالَ لِمُعَاذٍ : فلَوْلا صَليْتَ بـ"سبحِ اسمَ رَبِّكَ الأعلَى"، و"الشمس وَضُحَاهَا" و "الليلِ إذا يَغْشَى". فَإنَّهُ يُصَلي وَراَءكَ الكَبِيرُ وَالضعِيفُ وَذُو الحاجة

المعنى الإجمالي:

لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في أن مُعاذاً يطيل القراءة حين يؤم قومه، أرشده إلى التخفيف مادام إماماً، وضرب له مثلا بقراءة متوسط المفصّل "سبح اسم ربك 

الأعلى"، "والشمس وضحاها"، "والليل إذا يغشى"، لأنه يأتم به الكبار المسنون، والضعفاء، وأصحاب الحاجات ممن يشق عليهم  التطويل، فيحسن الرفق بهم ش تستحب مراعاتهما بالتخفيف.

أما إذا كان المسلم يصلي وحده، فله أن يطول ما شاء.

الأحكام المأخوذة من الحديث:

1- أن المتوسط في القراءة في الصلاة هذه السور المذكورة في الحديث، وأمثالها.

2- أنه يستحب للإمام مراعاة الضعفاء، بتخفيف الصلاة في حال ائتمامهم به.

3- أن سياسة الناس بالرفق واللين، هي السياسة الرشيدة التي تحبب إليهم ولاتهم وعمالهم.

4- حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم  وملاطفته، إذ خاطب معاذاً بصيغة العرض.

5- رأفته صلى الله عليه وسلم  بأمته، لاسيما الضعفاء منهم، وأصحاب الحاجات.

الحديث السابع

عَنْ أنَسِ بن مَالِكٍ رضيَ الله عَنْهُ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  وَأبَا بَكْر وَعُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا كَانُوا يَفتَتِحُونَ الصَّلاةَ  بـ"الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ".

وفي رواية: صَلَيتُ مَع أبي بَكرٍ وَعُمَرَ وَعُثمانَ، فَلَمْ أسمَعْ أحَداً مِنْهُمْ يَقرأ "بِسْم الله الرَّحمنِ الرحِيمِ".

ولـ"مسلم": صَليْتُ خَلْفَ النَبي صلى الله عليه وسلم وَ أبي بَكرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمانَ رضيَ الله عَنْهُمْ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الصلاةَ بـ"الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ" لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم" في أوّلَ قِرَاءَةٍ وَلا في آخِرِهَا.

المعنى الإجمالي:

يذكر أنس بن مالك، رضى الله عنه: أنه- مع طول صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وملازمته له ولخلفائه الراشدين - لم يسمع أحداً منهم يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة، لا في أول القراءة، ولا في آخرها، وإنما يفتتحون الصلاة  بـ"الحمد لله رب العالمين".

اختلاف العلماء :

ذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، إلى استحباب البسملة في الصلاة.

وذهب الإمام مالك: إلى عدم مشروعيها.

واستدل مالك ببعض الروايات في حديث أنس: [لا يذكرون "بسم الله الرحمن الرجم" في أول قراءة ولا في آخرها]،  ولأنها- عنده- ليست آية من القرآن.

واستدل الأئمة الثلاثة على مشروعيتها بأحاديث كثيرة:

منها حديث أبي هريرة حيث صلى فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، حتى بلغ "ولا الضالين"، حتى إذا أتم الصلاة قال: "إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه   البخاري.

ثم اختلف الأئمة في الحكم بالجهر بها.

فذهب إلى مشروعيته، الإمام الشافعي.

وذهب إلى مشروعية الإسرار، أبو حنيفة، وأحمد.

واستدل الشافعي وأتباعه بحديث أنس، حين سئل عن كيفية قراءة النبي  صلى الله عليه وسلم فقال: " كانت مدّاً، ثمَّ قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " بمد بسم الله، وبمد الرحمن، وبمد الرحيم " رواه البخاري.

وبحديث أم سلمة حين سئلت عن قراءته أيضاً، فقالت: كان يقطع قراءته آية  آية "بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم  الْحَمدُ لله رَبِّ العالمين  الرحمن  الرَّحِيمِ  مَالِكِ يَوْم الدينِ ". رواه أحمد، وأبو داود.

ولا يتم  للشافعي بهذين الحديثين وأمثالهما، استدلال فيما ذهب إليه.

فإنهما يدلان على صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لا على أنه يجهر بالبسملة  في الصلاة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: روينا  عن الدارقطني أنه قال: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم  في الجهر (بالبسملة) حديث.

واستدل الإمامان "أبو حنيفة" و "أحمد" بأحاديث الباب قال ابن دقيق العيد: والمتيقن  من هذا الحديث عدم الجهر، فأنس- صحب النبي صلى الله عليه وسلم  عشر سنين، وصحب الخلفاء الثلاثة خمسا وعشرين (سنة) و (كان) يصلي  خلفهم الصلوات كلها.

ويحملون نَفْئَ القراءة في بعض الروايات، على عدم الجهر بها، وبهذا تجتمع الأدلة، ويحصل العمل بها جميعاً.

ما يؤخذ من الأحكام :

1- مشروعية قراءة " بسم الله الرحمن الرحيم " بعد الاستفتاح والتعوذ قبل الفاتحة.

2- أن تكون قراءتها سراً، ولو في الصلاة الجهرية.

3- أن البسملة، ليست آية من الفاتحة.

 بَابُ سُجُود السَهْو

السهو: هو النسيان، وهو الترك من غير علم، وليس على صاحبه حرج. حيث قال صلى الله عليه وسلم : " عُفِي لأمتي عن الخطأ والنسيان".

وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم  لِحِكَم كثيرة.

منها: بيان أنه بشر، يقع منه ما يقع من غيره، إلا أنه لا يُقَرُّ عليه، عصمةً لمقام النبوة.

ومنها: التشريع للأمة في مثل هذه الحوادث.

ومنها: التسلية و التعزي لمن يقع منه، فإنه حين يعلم أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، فليس عليه حزن أن يخشى الخلل في دينه، أو النقص في إيمانه، إلى غير ذلك من أسرار الله تعالى.

وأسباب السجود له ثلاثة: 1- إما زيادة في الصلاة 2- أو نقص فيها. 3- أو شك.

وشرع سجود السهو إرضاء للرحمن، وإغضاباً للشيطان، وجبراً للنقصان.

الحديث الأول

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أبي هرَيرة قَالَ: صَلَّى بَنا  رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم  إِحدَى صَلاتي العَشيِّ[60].

قال ابن سرين: وَسَمَّاهَا أبو هُريرة وَلكِنْ نَسِيْتُ أنَا قَالَ فَصَلى بنَا رَكْعَتَيْن، ثَم سَلّمَ، فَقَامَ إِلى خَشبَةٍ مَعْرُوضَةٍ في المسجِدِ فَاتَّكََأ عَلَيْهَا كَأنَّهُ غَضبانُ  وَوَضعَ يَدَهُ اليمْنَى عَلَى اليسْرَى، وَشَبَكَ بَيْن أصَابِعِهِ وَخَرَجَتِ السَّرعَان[61] مِنْ أبوَابِ المسْجدِ، فقالوا: أقُصِرَتِ الصَّلاةُ؟ وَفي القَوم، أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أن يُكلِّمَاهُ.

وَفي الْقَوْمِ رَجلٌ- فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لهُ " ذو الْيَدَيْن"- فقال: يَا رَسولَ الله، أنَسِيتَ أمْ قُصِرَتِ[62] الصلاة؟.

فقال: " لَم أنسَ وَلَم تُقْصَر " فقال: "أكَمَا يَقُولُ ذو اليَدَين[63]؟" قالوا: نعم.

فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثم سَلَّمَ ثُمَّ كَبر وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ  أو أطْوَلَ ثُمَّ رَفعَ رَأسهُ فَكَبَّرَ، ثم كبَّرَ وسَجَدَ مِثْلَ سُجُودهِ أوْ أطْوَلَ ثم رَفَعَ رَأسَهُ وَكَبَّرَ. فرُبَّمَا سألوه: ثُمَّ سَلَّمَ؟

قَالَ فَنُبِّئْتُ[64] أنَّ عِمْرانَ بنَ حُصَيْن قال: ثم سَلمَ ".

العَشيّ: ما بين زوال الشمس إلى غروبها.

المعنى الإجمالي:

يروي أبو هريرة، رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم،  صلى بأصحابه إما صلاة الظهر أو العصر[65].

فلما صلى الركعتين الأوليين سلّم.

ولما كان صلى الله عليه وسلم كاملا، لا تطمئن نفسه إلا بالعمل التام، شعر بنقص وخلل، لا يدرى ماسببه.

فقام إلى خشبة في المسجد واتكأ عليها بنفس قَلِقَة، وَشبَّك بين أصابعه. لأن نفسه الكبيرة تحس بأن هناك شيئا لم تستكمله.

وخرج المسرعون من المصلين من أبواب المسجد، وهم يتناجون بينهم، بأن أمراً حدث، وهو قصر الصلاة، وكأنهم أكبروا مقام النبوة أن يطرأ عليه النسيان.

ولهيبته صلى الله عليه وسلم في صدورهم لم يَجْرُؤ واحد منهم أن يفاتحه في هذا الموضوع الهام، بما في ذلك أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.

إلا أن رجلا من الصحابة يقال له. " ذو اليدين " قطع هذا الصمت بأن سأل النبي  صلى الله عليه وسلم بقوله: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟.

فقال صلى الله عليه وسلم - بناء على ظنه-: لم أنس ولم تقصر.

حينئذ لما علم " ذو اليدين " أن الصلاة لم تقصر، وكان متيقنا أنه لم يصلها إلا ركعتين، علم أنه صلى الله عليه وسلم  قد نَسِيَ، فقال: بل نسيت.

فأراد صلى الله عليه وسلم  أن يتأكد من صحة خبر ذي اليدين، فقال لمن حوله من أصحابه: أكما يقول ذو اليدين من أني لم أصل إلا ركعتين؟ فقالوا: نعم. حينئذ تقدم صلى الله عليه وسلم ، فصلى ما ترك من الصلاة.

وبعد التشهد، سلم، ثم كـبر وهو جالس، و سجد مثل سجود صُلْب الصلاة أو أطول، ثم رفع رأسه من السجود فكَبَّرَ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم سلم ولم يتشهد.

خلاف العلماء :

الشك  في الصلاة أحد أسباب سجود السهو:

روى مسلم عن أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، ثلاثا أم أربعاً؟ فلينظر في الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ".

فقوله: " إذا شك " هو موضع الخلاف، فذهب مالك والشافعي، وهو المشهور عند أصحاب أحمد، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، ورييعة، ويروي عن ابن عمر، وابن عباس، ذهبوا إلى أن كل من لم يقطع فهو شاك، وإن كان أحد الجانبين راجحا عنده، فجعلوا من غلب على ظنه شاكا، وأمروه أن يقطع ما شك فيه، ويبني على ما استيقن، وقالوا: الأصل عدم ماشك فيه، فرجحوا استصحاب الحال مطلقاً، وإن قامت الشواهد والدلائل على خلافه، ولم يعتبروا التحري بحال.

وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أن المنفرد يبني على اليقين، لحديث أبي سعيد. وأما الإمام فيبنى على غالب ظنه، وقد اختار ذلك الخرقي من أصحاب أحمد، والموفق، وقال الموفق: إنما خصصنا الإمام بذلك، لأن له من ينبهه بخلاف المنفرد.

والقول الثالث ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول كثير من السلف والخلف، ومروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وهذا القول هو التحري والاجتهاد. وأن البناء على غالب الظن للإمام وللمنفرد مستند إلى أصح أحاديث الباب، وهو حديث ابن مسعود، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: " إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين " فجعل ما فعله بعد التحري تماما لصلاته، وجعله هنا متما لصلاته ليس شاكا فيها، وما دل على الإثبات من أنواع الأدلة فهو راجح على مجرد استصحاب النفي، وهذا هو الصواب الذي أمر المصلى أن يتحراه ، فإن ما دل على أنه جمع أربعة من أنواع الأدلة راجح على استصحاب عدم الصلاة. وهذا حقيقة هذه المسألة. ومثل هذا يقال في عدد الطواف والسعي ورمي الجمار وغير ذلك.

الأحكام المستنبطة من الحديث:

1- جواز السهو من الأنبياء عليهم السلام في أفعالهم البلاغية، إلا أنهم لا يُقَرُّونَ عليه. أما الأقوال البلاغية فالسهو فيها ممتنع على الأنبياء، ونقل في ذلك الإجماع.

2- الحِكَمُ والأسرار التي تترب على هذا السهو، من بيان التشريع والتخفيف عن الأمة بالعفو عن النسيان منهم.

و بيان أن الأنبياء بشـر، يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من السهو في أفعالهم لا أقوالهم البلاغية.

3- أن الخروج من الصلاة قبل إتمامها- مع ظن أنها تمت- لا يقطعها، بل يجوز البناء عليها، وإتمام الناقص منها.

4- أن الكلام في صلب الصلاة من الناسي لا يبطلها، خلافاً لمن  أبطلها بذلك من العلماء. فقد تكلم فيها ذو اليدين و النبي صلى الله عليه وسلم  وبعض المصلين.

5- صحة بناء ما  ترك من الصلاة على أوَّلِهَا، ولو طال الفصل.

وكذلك لو نسي السجود، وفعل ما ينافي الصلاة من كلام وغيره، فقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي  صلى الله عليه وسلم  أنه سجد بعد السلام والكلام.

- أن الحركة التي من غير جنس الصلاة، لا تبطل الصلاة ولو كثرت، إذا وقعت من الجاهل والناسي.

7- وجوب سَجْدَتَي السهْوِ لمن سها في الصلاة، فزاد فيها، أو نقص منها ليجبر به الصلاة، ويرغم به الشيطان.

8- أن سجود السهو لا يتعدد، ولو تعددت أسبابه.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم  سلَّم ونقص الصلاة، ومع ذلك اكتفى بسجدتين.

9- أن سجود السهو يكون بعد  السلام، إذا سلم المصلى عن نقص في  الصلاة وماعداه يكون قبل السلام، وهو مذهب الحنابلة، و هو تفصيل يجمع الأدلة، خلافا لمن قال: السجود كله بعد السلام، وهو مذهب الحنفية، أوكله قبل السلام وهو مذهب الشافعية.

10- أن سهو الإمام لاحِقٌ للمأمومين لتمام  المتابعة والاقتداء، ولأن ما طرأ على صلاة الإمام من النقص يلحق من خلفه من المصلين.

11- أما التشهد بعد سجدتي السهو فقد قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس في شيء من أقواله صلى الله عليه وسلم  أمر بالتشهد بعد  السجود، ولا في الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول أن يتشهد بعد السجود، فلو كان تشهد لذكر ذلك  من ذكر أنه تشهد. وعمدة من أثبت التشهد حديث عمران، وهو غريب، ليس لمن رواه متابع، وهذا يوهي الحديث.

الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ الله بْن بُحَيْنَةَ- وكانَ مِنْ أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهمُ الظهْرَ، فَقَامَ فِي الركعَتَينِ الأوليين ولم  يَجْلس[66] فَقَامَ الناسُ مَعَهُ، حتى  إِذَا قضَى الصَّلاةَ وانتظَرَ الناسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّر وهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْل أنْ يُسَلِّم ثمَّ سَلَّم.

المعنى الإجمالي:

صلى النبي صلى الله عليه وسلم  بأصحابه صلاة الظهر، فلما صلى الركعتين الأوليين، قام بعدهما، ولم يجلس للتشهد الأول، فتابعه المأمومون على ذلك.

حتى إذا صلى الركعتين الأخريين، وجلس للتشهد الأخير، وفرغ منه، وانتظر الناس تسليمه، كبَّر وهو في جلوسه، فسجد بهم سجدتين قبل أن يسلم مثل سجود صُلْبِ الصلاة، ثم سلم.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب سجود السَّهْو لمن سها في الصلاة وترك التشهد الأول.

2- أن التشهد الأول، ليس بركن، ولو كان ركناً، لما جبر النقص  به سجودُ السَّهْوِ ويؤخذ وجوبه من أدلة أخرى.

3- أن تعدد السهو يكفي له  في سجدتان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم  ترك     -هنا- الجلوس والتشهد معاً.

4- أهمية متابعة الإمام، حيث أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم  على متابعته وتركهم  الجلوس مع علمهم بذلك. فقد زاد النسائي وابن خزيمة  والحاكم: "فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته".

5- أن سهو الإمام لاحق للمأمومين، لأنهم تركوا التشهد عمداً، والمتعمد ليس عليه سهو لترك الواجب، وإنما تبطل صلاته في غير مثل هذه الصورة.

6- أن السجود في مثل هذه الحال، يكون قبل السلام.

7- أن  السلام يلي سَجْدَتي السهو، فلا يفصل بينهما بتشهد أو دعاء.

 بَابُ المرُور بَيْن يَدَي المصَلّي

الحديث الأول

عَنْ أبي جُهَيْم بنِ الصِّمَّةِ الأنصَارِي رضيَ  الله تَعَالَي عَنْهُ قال:

قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِِ الْمُصلِّى مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ[67] لَكَانَ أنْ يَقِفَ أربَعِينَ خَيْراً[68] لَهُ من أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَي الْمُصلي".

قال أبو النضر: لا أدْرِي قَالَ أرْبَعِينَ يَوماً أوْ شَهْراً أوْ سَنَةً.

لمعنى الإجمالي

المصلي واقف بين يدي ربه يناجيه ويناديه.

فإذا مرَّ بين يديه في هذه الحال مارّ، قطع هذه المناجاة وشوّش عليه عبادته.

لذا عظم ذنب من تسبب في الإخلال بصلاة المصلى، بمروره.

فأخبر الشارع: أنه لو علم ما الذي ترتب على مروره، من الإثم والذنب، لفضل أن يقف مكانه الآماد الطويلة على أن يمر بين  يدي المصلى، مما يوجب الحذر من ذلك، والابتعاد منه.

ما يؤخذ من الحديث:

1- تحريم المرور بين يدي المصلي، إذا لم يكن له سترة، أو المرور بينه وبينها إذا كان له سترة.

2- وجوب الابتعاد عن المرور بين  يديه، لهذا الوعيد الشديد.

3- أن الأولى للمصلى أن لا يصلي في طرق الناس، وفي الأمكنة التي  لابُدَّ لهم من المرور بها، لئلا يُعَرِّض صلاته للنقص، ويُعَرض المارَّة للإثم.

4- شك الراوي في الأربعين: هل يراد بها اليوم أو الشهر أو العام؟

ولكن ليس المراد بهذا العدد المذكور الحصر، وإنما المراد المبالغة في النَّهْى.

 فقد كانت العرب تُجْرِى ذَلِك مُجْرَى المثل في كلامها، عند إرادة التكثير كقوله تعالى. {إنْ تَسْتَغْفِرْ لهم سبعين  مَرَّة فَلَنْ يَغْفِرَ الله لهم }.

ولهذا ورد في صحيح  ابن حبان،  وسنن ابن ماجه،  من حديث أبي هريرة " لكان أن يقف مائة عام خيراً من الخطوة التي خطاها ".

5- أما في  مكة، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لو صلى المصلى في المسجد والناس يطوفون  أمامه لم يكره سواء  من مر أمامه رجل أو امرأة".

الحديث الثاني

عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضيَ الله عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

" إِذا صَلَّى أحَدُكُمْ إلى شَيءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَاس فَأرَادَ أحَدٌ أنْ يَجْتازَ بَيْنَ يَدَيهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإنْ أبى  فلْيُقَاتِلْهُ،- فَإنَّما هُوَ شَيْطَان ".

المعنى الإجمالي:

إذا دخلَ المصلي في صلاته، وقد وضع أمامه سترة لتستره من الناس، حتى لا ينقصوا صلاته بمرورهم بين  يديه، وأقبل يناجي ربه، فأراد أحد  أن يجتاز بين يديه، فليدفع بالأسهل فالأسهل.

فإن لم يندفع بسهولة ويسر، فقد أسقط حرمته، وأصبح معتدياً.

والطريق  لوقف عدوانه، المقاتلة بدفعه  باليد، فإن عمله هذا من أعمال الشياطين، الذين يريدون  إفساد عبادات الناس، والتلبيس  عليهم في صلاتهم.

الأحكام التي في الحديث:

1- مشروعة السترة للمصلى لِيَقيَ صلاته من النقص أو القطع.

2- مشروعية قربها منها، ليتمكن من رَدّ من يمر بينه وبينها، ولئلا يضيق على المارَّة.

3- تحريم المرور بين المصلى وبين سترته، لأنه من عمل الشيطان.

4- منع من يريد المرور بين المصلى وبين سترته، ويكون بإشارة أو تسبيح أوَّلاً، فإن لم- يندفع، منع ولو بِدَفعه، لأنه معتدٍ . قال القاضي عياض: والاتفاق على أنه لا يجوز له المشي  في مقامه إلى رده، لأن ذلك في صلاته أشد من مروره عليه.

5- أن المدفوع لو تسبب موته من الدفع، فليس على الدافع ذنب ولا قوَدّ.

لأن دفعه مأذون فيه، وما ترتب على المأذون فيه، غير مضمون.

6- الحكمة في رَدَّة ألا يقع في الصلاة خلل، ولئلا يقع المار في الإثم.

7- ما تقدم من دفع المارة  ومقاتلته، وعدم الضمان في ذلك لمن جعل أمامه سترة.

فأما من لم يجعل سترة، فليس  له حرمة، لأنه المفرِّط في ذلك، كما هو مفهوم الحديث.

8- أن مدافعة كل صائل، تكون بالأسهل فالأسهل.

فلا يجوز مبادرته بالشدة، حتى تنفد وسائل اللِّين.

9- ذهب الجمهور إلي أنه لو مر ولم يدفعه فلا ينبغي له أن يرده، لأن فيه إعادة للمرور.

10- و ذكر ابن دقيق العيد أن المصلى يختص بالإثم دون المار إذا لم يكن للمار مندوحة  عن المرور، وقال: يشتركان في الإثم إذا كان للمار مندوحة وتعرض له المصلى.

11- إذا كان العمل في الصلاة لمصلحتها فإنه لا ينقصها ولا يبطلها: لأنه شيء  جائز.

الحديث الثالث

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاس ورَضىَ الله عَنْهُمَا قال: أقْبَلْتُ رَاكِبا عَلَى حِمَارٍ أتَانٍ[69]، وَأنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ، وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم  يُصَلّي بالْنَّاس بـ"مِنىً" إِلى غيْر جِدَارٍ ، فَمَرَرتُ  بيْنَ بَعْض الصَّف فَنَزَلْتُ وَأرْسَلْتُ الأتانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ في الصَّفَ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذلِكَ عَليَّ أحَدٌ.

غريب الحديث:

الأتَان: أنثى الحمير، وهو بفتح الهمزة وكسرها، والفتح أشهر، وبعدها تاء مثناة وهى نعت للحمار.

ناهزت الحلم: قاربت البلوغ، مراده في تلك المدة.

ترتعُ: بضم العين، يعنى ترعى.

قال في " الصحاح ": رتعت الماشية، أكلت ما شاءت.

المعنى الإجمالي :

أخبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه لما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في " منى " في حجة الوداع، أقبل راكباً على أتان، فمر على بعض الصف، والنبي صلى الله عليه وسلم  يصلى بأصحابه، فنزل عن الأتان وتركها ترعي، ودخل هو في الصف.

وأخبر رضى الله عنه أنه في  ذلك الوقت قد قارب البلوغ، يعنى في السن التي ينكر عليه فيها لو كان  قد أتى منكراً يفسد على المصلين صلاتهم، ومع هذا فلم ينكر عليه أحد، لا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من أصحابه.

 ما يؤخذ من الحديث:

1- أن مرور الحمار بين يدي المصلى لا ينقص صلاته ولا يقطعها. ويأتي  الخلاف في هذا، في الحديث الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى.

2- أن عبد الله بن عباس حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد بلغ أو قارب البلوغ، لأن هذه القضية وقعت في" حجة الوداع " قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بنحو ثمانين يوماً.

3- أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم من سنته، لأنه لا يقر أحدا كل باطل.

فعدم الإنكار على ابن عباس يدل على أمرين ، صحة الصلاة، وعـدم إتيانه بما ينكر عليه.

4- استدل بالحديث على أن سترة الإمام هي سترة للمأموم، وقد عنون له الإمام البخاري بقوله: " باب سترة الإمام سترة من خلفه".

الحديث الرابع

عَنْ عَائِشَةَ رضىَ الله عَنْهَا قالَتْ: كُنْتُ أنامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم  وَرِجْلاي في قِبْلَتِهِ، فإذا سَجَدَ غَمَزَني  فَقَبَضْتُ رِجْليَّ وإذَا قَامَ بَسَطْتُهُما، وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ.

المعنى الإجمالي:

كانت عائشة  رضى الله عنها إذا أورد عليها حديث قطع الصلاة بالحمار والكلب والمرأة، تنكر عليهم وتقول: كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولضيق بيوتنا، تكون رِجْلاي في قبلته فما دام واقفاً يتهجد بسطتهما، فإذا سجد، غمزني فَقبضتهما ليسجد.

ولو كنت أراه إذا سجد لقبضتهما بلا غمز منه، ولكن ليس في بيوتنا مصابيح، فكيف تقرنوننا - معشر النساء- مع الحمير والكلاب، في قطع الصلاة، وهذه قصتي مع النبي صلى الله عليه وسلم .

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز اعتراض النائم بين  يدي المصلى إذا كان بحاجة كضيق المكان.

2- أن اعتراض المرأة أمام المصلى، لا يقطع الصلاة و لا ينقصها.

3- أن مس المرأة ولو بلا حائل لا ينقض الوضوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يغمزها بظلام، فلا يعلم، أيمسها من وراء حائل، أم لا؟

ولا يعرض صلاته للإبطال لو كان مسها بلا حائل ينقض الوضوء، ولكن قيده العلماء بأن لا يكون لشهوة.

4- ما كان النبي صلى الله عليه وسلم  وأهله عليه  من ضيق الحياة، رغبة   فيما عند الله، وزهداً في هذه الحياة الفانية.

5- جواز مثل هذه الحركة في الصلاة، وأنهَا لا تخِلُّ بها.

اختلاف العلماء

اختلف العلماء، في المرأة، والحمار، والكلب الأسود، أتقطع الصلاة أم لا؟.

فذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم القطع، و تأوَّلوا حديث أبي ذر، الذي  في صحيح مسلم: " يَقطَعُ  صلاةَ الرَّجُلِ المسلم  إذا لم  يِكُنْ بَيْنَ يَدَيه  مثلُ مؤخرة الرحل: المرأة، والحمار، والكلب الأسود" تأولوا "القطع" هنا، بمعنى نقص الصلاة بما يشغل القلب بهذه الأشياء:

أما الإمام " أحمد " فعنده روايتان، والمشهور من مذهبه أنه لا يقطع، إلا الكلب الأسود البهيم.

وقال: في قلبي شيء من المرأة والحمار.

أما المرأة، فلحديث عائشة الذي تقدم.

وأما الحمار، فلحديث ابن عباس الذي قبله، فالحديثان عارضا حديث أبي ذر.

وأما الكلب، فلم يتوقف فيه، لأنه ليس له  معارض.

والرواية الثانية عن الإمام " أحمد " أن الثلاثة كلها تقطع الصلاة لحديث أبي  ذر المذكور.

وإلى قطع الثلاثة : ذهب ابن حزم ، واختاره الشيخ تقي الدين وقال : إنه مذهب الإمام أحمد.

فائدة:

إنما خص الكلب الأسود بذلك دون سائر الكلاب، لأنه شيطان، كما  في الحديث.

قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، ما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟.

فقال: " الكلب الأسود شيطان ".

 بَابٌ جَامع

ذكر المؤلف في هذا الباب أنواعاً من أعمال الصلاة، فرأيت أن أجعل كل نوع تحت "باب" يبين مقصودها، ويشير إلى المعنى المراد منها.

ولذا فإني قدمت حديث أنس في السجود على الثوب من الحر، ليكون مع حديث أبي هريرة "إذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة... الخ"، لتناسبهما مع أن المؤلف فصل بينهما بحديثين غير مناسبين لهما.

 بَابُ تحيَّة المسْجِد [70]

عَنْ أبي قَتَادَةَ الْحَارِثِ بْنِ رَبعِيٍّ الأنصَاري رضىَ الله عَنْهُ قال:

قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَل أحَدُكُم الْمَسْجدَ فَلاَ يَجْلِسْ حتَّى يُصلِّيَ رَكْعَتْينِ".

المعنى الإجمالي:

دخل سُلَيك الغطَفَانيُّ المسجد النبوي، يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس.

فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم و يأتي بركعتين.

م أخبره صلى الله عليه وسلم أن للمساجد حرمة وتقديرا ، فإن لها على داخلها تحية، وهي أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين.

ولذا فإنه لم يعذر، و لاهذا الذي جلس لسماع خطبة الجمعة من لسانه صلى الله عليه وسلم.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في جواز فعل الصلوات ذوات الأسباب كـ" تحية المسجد" أو " صلاة الكسوف " و " الجنازة " و" قضاء الفائتة " في أوقات النَّهْى. فذهبت الحنفية والمالكية والحنابلة: إلى المنع من ذلك لأحاديث النَّهْى. كحديث " لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس ".

وحديث " ثلاث ساعات كان رسول الله ينهانا أن نصلى فيهن ".

وذهب الإمام الشافعي، وطائفة من العلماء إلى جواز ذلك بلا كراهية، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية " مستدلين بهذا الحديث الذي معنا وأمثاله، كحديث " مَنْ نَامَ عَنْ وتْرِهِ أوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلهِ إِذَا ذَكَرَ5ُ".

وحديث: " إِنَ الشمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله، فَإذَا رَأيتمُوهما فَصَلوا".

وكل من أدلة الطرفين عام من وجه، وخاص من وجه آخر، إلا أنَّ في إباحة الصلوات ذوات الأسباب في هذه الأوقات إعمالا للأدلة كلها، فيحمل كل منها على محمل، وإن في تلك الإباحة تكثيراً للعبادة التي لها سند قوي من الشرع.

وقد تقدم هذا الخلاف في حديث ابن عباس رقم (52). ولكنا نزيده هنا وضوحا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فقد ذكر أنه كان متوقفا في الصلوات ذوات الأسباب لبعض الأدلة التي احتج بها المانعون، وبعد البحث وجد أنها إما ضعيفة أو غير دالة، كقوله: " إذا دخل أحد كم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين " فإنه عام لا خصوص فيه، وأحاديث النهى كلها مخصوصة، فوجب تقديم العام الذي لا خصوص فيه، لأنه حجة باتفاق السلف، وقد ثبت أن النبي صلى اله عليه وسلم أمر بصلاة تحية المسجد للداخل عند الخطبة، وأما حديث ابن عمر في الصحيحين " لا تتحروا لصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها" وهذا إنما يكون في التطوع المطلق، وقد ثبت جواز بعض ذوات الأسباب بالنص كركعتي الطواف والصلاة المعادة مع إمام الحي، وبعضها بالنص و الإجماع كالجنازة بعد العصر، وإذا نظر في مقتضى الجواز لم توجد له علة إلا كون الصلاة ذات سبب. وقد استقر الشرع على أن الصلاة تفعل حسب الإمكان عند خشية فوات الوقت، وإن أمكن فعلها بعد الوقت على وجه الكمال. وكذلك صلوات التطوع ذوات الأسباب.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية تحية المسجد لداخله، وذهب إلى وجوبها الظاهرية، لظاهر هذا الحديث.

والجمهور ذهبوا إلى استحبابها.

2- أنها مشروعة لداخل المسجد في كل وقت، ولو كان وقت نَهْي لعموم الحديث. وقد تقدم الخلاف فيها وفي غيرها، من ذوات الأسباب.

3- استحباب الوضوء لداخل المسجد، لئلا تفوته هذه الصلاة المأمور بها.

4- قيد العلماء المسجد الحرام بأن تحيته الطواف. لكن من لم يُرِدِ الطواف أو يشق عليه، فلا ينبغي أن يدع الصلاة، بل يصلى ركعتين.

 بَابُ النّهي عَن الكَلام في الصَّلاة[71]

عَنْ زَيد بْنِ أرقَمَ رَضيَ الله عَنْهُ قال: "كُنَا نَتَكَلَّمُ في الصَّلاةِ يُكَلِّم الرَّجُلُ مِنَّا صَاحبَهُ وهُوَ إِلى جَنْبِهِ في الصلاةِ حَتى نَزَلَتْ {وقُومُوا لله قَانِتِينَ} فأُمِرْنَا بالسُّكوتِ ونُهيِنَا عَنِ الْكَلام"[72]

غريب الحديث:

قانتين: للقنوت عدة معان، منها:- الطاعة، والخشوع، والدعاء وطول القيام والسكوت، وهو المراد هنا، فقد فهم منه الصحابة نهيهم عن الكَلام في الصلاة، وأمرهم بالسكوت. واللام في قوله " عن الكلام " للعهد إذ يقصد بها الكلام الذي كانوا يتحدثون به.

المعنى الإجمالي :

ذكر زيد بن أرقم رضي الله عنه أن المسلمين كانوا في بدء أمرهم يتكلمون في الصلاد بقدر حاجتهم إلى الكلام، فقد كان أحدهم يكلم صاحبه بجانبه في حاجته، وكان على مسمع من  النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليهم.

ولما كان في الصلاة شغل بمناجاة الله عن الكلام مع المخلوقين، أمرهم الله تبارك وتعالى بالمحافظة على الصلاة وأمرهم بالسكوت ونهاهم عن الكلام، فأنزل الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصّلاةِ الوُسطى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ}. فعرف الصحابة منها نهيهم عن الكلام في الصلاة فانتهوا، رضى الله عنهم.

اختلاف العلماء:

أجمع العلماء على بطلان صلاة من تكلم فيها عامداً لغير مصلحتها، عالما بالتحريم.

واختلفوا في الساهي، والجاهل والمكره، والنائم، والمحذر للضرير، والمتكلم لمصلحتها.

فذهب الحنابلة إلى بطلان الصلاة في كل هذا، عملا بهذا الحديث الذي معنا، وحديث "كُنَّا نُسَلم عَلَيكَ في الصَّلاةِ فَتَرُدّ عَلَيْنَا، قَالَ: إِن في الصَّلاةِ لَشُغْلا " متفق عليه- وغيرهما. من الأدلة.

وذهب الإمامان " مالك " و " الشافعي " إلى صحة صلاة المتكلم جاهلاً، أو ناسياً أنه في الصلاة، أو ظانًّا أن صلاته تمت فسلم وتكلم، سواء كان الكلام في شأن الصلاة، أو لم يكن في شأنها، وسواء كان المتكلم إماماً أو مأموماً، فإن الصلاة صحيحة تامة، يبنى آخرها على أولها.

وما ذهب إليه الإمامان، مالك، والشافعي، من عدم قطع الصلاة بكلام الجاهل، والساهى، والمحذر، والمتكلم لمصلحتها بعد السلام قبل إتمامها، ذهب إليه- أيضاً- الإمام أحمد في روايات قوية صحيحة عنه، وهو اختيار شيخ الإسلام " ابن تيمية ".

وأدلة ذلك قوية واضحة.

منها: حديث " ذي اليدين " وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وذي اليدين وأبى بكر وعمر، وسرعان الناس الذين خرجوا من المسجد، يرددون بينهم "قصرت الصلاة ".

وما رواه مسلم عن معاوية بن الحكم: بَيْنَما أنَا أُصَلي مَعَ النَبيِّ صلى الله عليه وسلم إِذ عَطسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْم، فَقُلْتُ: "يَرحَمُك الله" فَرَمَاني الْقَومُ بِأبصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلاهُ، مَا شَأنُكُمْ تَنْظُرُونَ؟ فَجَعَلُوا يَضْرُبون بِأيْدِيهِمْ عَلَى أفْخَاذِهِمْ فَمَا رَأيتهُم يُصْمِتُوني لكِنِّىِ سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى[73] رَسُول الله صلى الله عليه وسلم… قال: " إن هذِهِ  الصلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلام الناسِ" فلم يأمره بالإعادة.

وحديث: " عُفِي لأمّتِي عنِ  الخَطَأِ والنسْيَانِ ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" إلى غير ذلك من  الأدلة، الصريحة الصحيحة.

وحديث الباب، ونحوه، محمول على العامد  العالم  بالتحريم. واختلف العلماء في النفخ و النحنحة، والتأوُّه، ، والأنين، والانتحاب ونحو ذلك .

فذهب بعضهم- وهو المشهور من مذهب الحنابلة والشافعية- إلى أنه يبطل- الصلاة إذا انتظم منه حرفان.

فإن لم ينتظم منه حرفان، أو كان الانتحاب من خشية الله، أو التنحنح لحاجة، فمذهب الحنابلة أنه لا يبطل  الصلاة واختار الشيخ " تقي الدين " عدم الإبطال بهذه الأشياء، ولو بان منه حرفان، لأنها ليست من جنس الكلام، فلا يمكن قياسها على  الكلام.

وحكى عدم البطلان رواية عن الإمامين مالك وأحمد. مستدلين بحديث على رضي الله عنه " كَانَ لي مِنْ رَسُولِ الله مَدخْلانِ باللَيل وَالنَّهَارِ. فَإذَا دَخَلْتُ عَلَيْةِ وَهُوَ يُصَلِّي تَنَحْنَحَ " رواه أحمد، وابن ماجه.

وقد نفخ صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف. وقال مهنا: رأيت أبا عبد الله يتنحنح في الصلاة.

وهذه الأشياء ليست كلاماً، ولا تنافي الصلاة. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا المبحـث ينقسم إلى ثلاثة أقسام، فهناك  الكلمات التي تدل على معنى فيها مثل "يد" و "فم" وغير ذلك. وهناك كلمات تدل على معنى في غيرها مثل "عن" و "من" و "في" و ما هو بسبيلها.

وهذان النوعان من الكلام يدلان على معنى بالوضع وقد أجمع أهل  العلم على إفساد هذا القسم للصلاة إن لم يكن له عذر شرعي. أما القسم  الثاني  في الكلام فهو ماله معنى بالطبع كالتأوه والبكاء والأنين والأظهر أنه لا يبطل  الصلاة، لأنه ليس كلاما في اللغة التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما القسم الثالث وهو النحنحة فقد ورد من حديث علي قال: " كنت إذا دخلت عليه وهو يصلى تنحنح لي" ونقل عن الإمام أحمد روايتان فيه، إحداهما الإبطال، واختيار الشيخ تقي الدين عدم الإبطال بحال.

قال شيخ الإسلام في "الاختيارات": والأظهر أن الصلاة تبطل بالقهقهة إذا كان فيها أصوات عالية تنافي الخشوع الواجب في الصلاة.

وفيها من الاستخفاف والتلاعب ما يناقض المقصود من الصلاة. فأبطلت لذلك، لا لكونها كلاماً.

قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- كان الكلام في الصلاة أول الإسلام مباحا بقدر الحاجة إليه.

2- تحريم الكلام في الصلاة بعد نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لله قَانِتِينَ}. من العامد، وهو الذي يعلم أنه في صلاة، وأن الكلام فيها محرم.

3- أن الكلام- مع حرمته- مفسد للصلاة، لأن النهي يقتضي الفساد.

4- أن القنوت المذكور في هذه الآية، مراد به السكوت، كما فهمه الصحابة، وعملوا بمقتضاه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

5- أن المعنى الذي حرم من أجله  الكلام، هو طلب الإقبال على الله في هذه العبادة، والتلذذ بمناجاته فَليُحْرَصْ على هذا المعنى السامي.

6- صراحة النسخ في مثل هذا الحديث الذي جمع بين الناسخ والمنسوخ.

 بَابُ الإبراد في الظهر من شدّة الحَر

الحديث الأول

عَنْ عَبدِ الله بنِ عُمَرَ، وَأبي هُرَيرةَ رَضيَ الله عَنْهُم عَنْ رَسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إذَا اشتدَّ الحَرُّ فَأبردُوا عنِ الصلاةِ، فَإن شِدة الحَرِّ مِنْ فيحِ جَهَنَّمَ ".

غريب الحديث:

أبردوا: يقال "أبرد " إذا دخل في وقت البرد كـ" أنجد" لمن دخل " نجداً " و " أتهم- " لمن دخل تهامة.

من فيح جهنم: انتشار حرها وغليانها، و " من " هنا، للجنس لا للتبعيض أي من جنس فيح جهنم.

قال المِزِّى: وهو مثل ما روى عن عائشة بإسناد جيد "من أراد أن يسمع خرير الكوثر، فليجعل إصبعيه في أذنيه" أي من أراد أن يسمع مثل خرير الكوثر.

المعنى الإجمالي:

روح الصلاة ولُبُّهَا، الخشوع وإحضار القلب فيها.

لذا ندب للمصلي أن يدخل فيها، وقد فرغ من الأعمال الشاغلة عنها. وعمل الوسائل المعينة على الاستحضار فيها.

ولذلك فضل الشارع أن يؤخر صلاة الظهر عند اشتداد الحر إلى وقت البرد لئلا يشغله الحر والغم، عن الخشوع.

مع ما في ذاك من التسهيل والتيسير، في حق الذين يخرجون يؤدونها في المساجد تحت وهج الشمس.

لهذه المعاني الجليلة، شرع تأخير هذه الصلاة عن أول وقتها، وصار هذا الحديث مخصصاً للأحاديث الواردة في فضل أول الوقت.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب تأخير صلاة الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت. وتنكسر الحرارة. قال العلماء: ليس للإبراد في الشريعة تحديد، وبين الصنعاني أن الأقَرب في الاستدلال على بيان مقدارها ما أخرجه الشيخان من حديث أبي ذر قال: " كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال: أبرد؟ ثم أراد أن يؤذن، فقال له أبرد، حتى رأينا فيء التلول " فهو يرشد إلى قدر الإبراد وأنه ظهور الفيء للجدران ونحوها.

2- أن الحكمة في ذلك، هو طلب راحة المصلى، ليكون أحضر لقلبه وأبعد له عن القلق.

3- أن الحكم يدور مع علته، فمتى وجد الحر في بلد، وجدت فضيلة التأخير.

وأما البلاد الباردة- فلفقدها هذه العلة- لا يستحب تأخير الصلاة فيها.

4- ظاهر الحديث، والمفهوم من الحكمة في هذا التأخير، أن الحكم عام في حق من يؤدى الصلاة جماعة فِي المسجد، ومن يؤديها منفرداً في البيت، لأنهم يشتركون في حصول القلق من الحر.

5- أنه يشرع للمصلى أن يؤدي الصلاة بعيدا عن كل شاغل عنها ومُلْهٍ فيها.

فائدة:

قال شيخنا "عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي" عند كلام له على هذا الحديث:

ولا منافاة بين هذا وبين الأسباب المحسوسة، فإنها كلها من أسباب الحر والبرد كما في الكسوف وغيره.

فينبغي للإنسان أن يثبت الأسباب. الغيبية التي ذكرها الشارع، ويؤمن بها ويثبت الأسباب المشاهدة المحسوسة.

فمن كذب أحدهما، فقد أخطأ.

الحديث الثاني

عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضيَ الله عَنْهُ قَالَ: كنا نُصَلي مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في شِدّةِ الْحَرِّ، فإذا لَمْ يَسْتَطِعْ أحَدُنَا أنْ يُمَكِّنَ جبهتَهُ مِنَ الأرْض بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ.

المعنى الإجمالي:

كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلى بأصحابه صلاة الظهر من أيام الحر، وحرارة الأرض ما تزال باقية، مما يحمل المصلين على أنهم إذا لم يستطيعوا أن يمكنوا جباههم في الأرض بسطوا ثيابهم، فسجدوا عليها، لتقيهم حَرَّ الأرضِ.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر في أيام الحر، هو بعد انكسار حرارة الشمس وبقاء آثارها في الأرض.

2- جواز السجود على حائل من ثوب غيره عند الحاجة إليه، من حر، وبرد، وشوك، ونحو ذلك.

وبعض العلماء فصل في السجود على الحائل فقال: إن كان منفصلا عن المصلى كالسجادة ونحوها جاز ولو بلا حاجة، بلا كراهة، و إن كان متصلا به كطرف ثوبه فيكره إلا مع الحاجة.

التوفيق بين الحديثين:

ظاهر هذين الحديثين المتقدمين التعارض، ولذا حاول العلماء التوفيق بينهما.

وأحسن ما قيل في ذلك، ما ذهب إليه الجمهور أن الأفضل في شدة الحر الإبراد كما في حديث أنس : أنهم كانوا يُبْرِدُوْنَ بالصلاة ، ولكن حرارة الأرض باقية لأن بردها يتأخر في شدة الحر كثيرا فيحتاجون إلى السجود على حائل .

وليس المراد بالإبراد المطلوب، أن تبرد الأرض، بل المراد أن تنكسر حدَّةُ حرارة الشمس ، وتبرد الأجسام.

 بَابُ قضَــاء الصَّـلاة الفــائتة وتعجيلها

عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضيَ الله عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:

" مَنْ نَسىَ صَلاةً فَلْيصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلاّ ذلكَ وَتَلا قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِى} ولـ" مسلم" "من نَسىَ صَلاةً أوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا".

المعنى الإجمالي:

الصلاة لها وقت محدد في أوله وآخره، لا يجوز تقديم الصلاة قبله، كما لا يجوز تأخيرها عنه في حق العامد.

فإذا نام عن الصلاة، أو نسيها حتى خرج وقتها، فقد سقط عنه الإثم لعذره.

وعليه أن يبادر إلى قضائها عند ذكره لها و لا يجوز تأخيرها فإن كفارة ما وقع لها من التأخير، المبادرة في قضائها ولذا قال تعالى:{وَأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِى} فتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية عند ذكر هذا الحكم، يفيد أن المراد من معناها أن تقام الصلاة عند تذكرها[74].

ختلاف العلماء:

اختلف العلماء: هل تجب المبادرة إلى فعلها عند ذكرها، أو يجوز تأخيرها؟ فذهب الجمهور من العلماء: إلى وجوب المبادرة ومنهم الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وأتباعهم.

وذهب الشافعي إلى استحباب قضائها على الفور ويجوز تأخيرها.

واستدل الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم -حين نام هو وأصحابه- لم يصلوها في المكان الذي ناموا فيه، بل أمرهم، فاقتادوا رواحلهم إلى مكان آخر، فصلَّى فيه، ولو كان القضاء واجبا على الفور، لصلوه في مكانهم.

واحتج الجمهور بحديث الباب، حيث رتب الصلاة على الذكر.

وأجابوا عن استدلال الشافعي بأنه ليس معنى الفورية عدم التأخر قليلا لبعض الأغراض التي تكمل الصلاة وتزكيها، فإنه يجوز التأخير اليسير لانتظار الجماعة، أو تكثيرها ونحو ذلك.

هذا وقد أطال في هذا " ابن القيم " رحمه الله في كتاب " الصلاة " وفنَّد الرأي القائل بجواز التأخير.

واختلفوا في تاركها عمداً حتى خرج وقتها: هل يقضيها أو لا؟

وسألخص هذا الموضوع من كلام " ابن القيم " في كتاب " الصلاة " فقد أطال الكلام فيه.

قد اتفق العلماء على حصول الإثم العظيم الذي يلحق من أخرها لغير عذر حتى خرج وقتها.

ولكن ذهب الأئمة الأربعة إلى وجوب القضاء عليه مع استحقاقه العقوبة إلا أن يعفو الله عنه.

وقالت طائفة من السلف والخلف: من تعمد تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر، فلا سبيل له إلى قضائها أبداً، ولا يقبل منه، وعليه أن يتوب توبة نصوحا، فيكثر من الاستغفار ونوافل الصلوات.

استدل موجبو القضاء، بأنه إذا كان القضاء واجبا على الناسي والنائم، وهما معذوران، فإيجابه على غير المعذور العاصي من باب أولى.

وأيضاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى العصر بعد المغرب يوم الخندق هو وأصحابه، ومعلوم أنهم كانوا غير نائمين لا ساهين، ولو حصل السهو من بعضهم، ما حصل منهم جميعاً.

وانتصر لوجوب القضاء أبو عمر بن عبد البر.

ومن الذاهبين إلى عدم القضاء، الظاهرية، وشيخ الإسلام "ابن تيمية "و" ابن القيم" وقد أطال في كتاب " الصلاة " في سَوْق الأدلة، وردّ حجج المخالفين.

ومن تلك الأدلة، المفهوم من هذا الحديث، فإن منطوقه وجوب القضاء على النائم والناسي، ومفهومه أنه لا يجب على غيرهما، وأن أوامر الشرع على قسمين: 1- مطلقة. 2- ومؤقتة، كالجمعة، ويوم عرفة.

فمثل هذه العبادات، لا تقبل إلا في أوقاتها، ومنها: الصلاة المؤخرة عن وقتها بلا عذر.

وقوله صلى الله عليه وسلم" مَنْ أدرَكَ ركعةً مِنَ العَصرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشمسُ فَقَدْ أدرَكَ العَصرَ" ولو كان فعلها بعد المغرب صحيحاً مطلقاً، لكان مُدرِكاً، سواء أدرك ركعة أو أقل من ركعة، أم لم يدرك شيئاً، والمقاتلون أُمِرُوا بالصلاة في شدة القتال، كل ذلك حرصا على فعلها في وقتها، ولو كان هناك رخصة لأخرُوها، ليؤدوها بشروطها وأركانها، التي لا يمكن القيام بها مع قيام القتال، مما دل على تقديم الوقت على جميع ما يجب للصلاة، وما يشترط فيها.

وأما عدم قبول قضائها من المفرط في تأخيرها بعد الوقت، فليس لأنه أخف من المعذورين، فإن المعذورين ليس عليهم لائمة.

وإنما لم تقبل منه، عقوبة وتغليظاً عليه.

قد بسط -رحمه الله- القول فيها، فمن أراد استقصاء ذلك، فَلْيَرْجعْ إليه.

وأما كلام شيخ الإسلام في الموضوع، فقد قال في " الاختيارات ": (وتارك الصلاة عمداً، لا يشرع له قضائها، ولاتصح منه، بل يكثر من التطوع وهو قول طائفة من السلف كأبي عبد الرحمن صاحب الشافعي، وداود وأتباعه، وليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه. وقد مال إلى هذا القول الشيخ صديق حسن في كتابه " الروضة الندية ".

وهذا ما أردت تلخيصه في هذه المسألة والله أعلم بالصواب.

ما يؤخذ من الحديث من الأحكام

1- وجوب قضاء الصلاة على الناسي والنائم عند ذكرها.

2- وجوب المبادرة إلى فعلها، لأن تأخيرها بعد تذكرها، تفريط فيها.

3- عدم الإثم على من أخرها لعذر من نحو نسيان ونوم، ما لم يفرط في ذلك

بأن ينام بعد دخول الوقت، أو أن يعلم من نفسه عدم الانتباه في الوقت فلا يتخذ له سبباً يوقظه في وقتها.

والكفارة المذكورة، ليست عن ذنب ارتكب، وإنما معنى هذه الكفارة أنه لا يجْزىء عن تركها فعل غيرها، من إطعام، وعتق ونحو ذلك، فلابد من الإتيان بها.

 بَابُ جَــواز إمَــامة[75]المتنفّل بالمفتــرض

عن جَابِر ِبن عَبْدِ الله رَضي الله عَنْهُمَا: أنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَل كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم الْعشَاءَ الآَخِرَةَ. ثم يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فيُصلي بهم تِلْكَ الصلاةَ.

المعنى الإجمالي:

كانت منازل بني سلمة، جماعة معاذ بن جبل الأنصاري خارج المدينة.

وكان معاذ رضي الله عنه شديد الرغبة في الخير، فكان يحرص على شهود الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن يؤدي الفريضة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، يَخرج إلى قومه فيصلي- بهم تلك الصلاة، فتكون نافلة بحقه، فريضة بحق قومه، وكان ذلك بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقره عليه.

اختلاف العلماء:

اختلف في صحة إمامة المتنفل بالمفترض.

فذهب الزهري، ومالك، والحنفية، إلى عدم صحة ذلك، وهو المشهور عن الإمام أحمد، واختاره أكثر أصحابه، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيؤتمّ بِهِ فَلا تَختلِفُوا عَلَيهِ" متفق عليه، واختلاف نية المأموم عنه، اختلاف عليه.

وذهب عطاء، و الأوزاعي، والشافعي، وأبو ثور، وهو رواية قوية عن الإمام أحمد: أنها تصح، واختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية "، مستدلين بحديث معاذ الذي معنا، فإنه كان يصلى الفريضة خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، ثم يخرج إلى قومه فيصلى بهم.

ومن المعلوم أن إحدى صلاتيه نفل، فلا بد أن تكون الأخيرة لوجوه كثيرة .

منها أن الأولى التي برئت بها الذمة، هي صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم

ومنها: أنه ما كان ليجعل صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي مسجده هي النافلة، وصلاته مع قومه في مسجدهم هي الفريضة.

وقد أطال " ابن حزم " في نصر هذا القول، ودحض حجج أصحاب الرأي الأول بما ليس عليه من مزيد.

ومن أدلة مصححي صلاة المفترض خلف المتنفل: أن النبي صلى الله عليه وسلم " صلى بطائفة من أصحابه في صلاة الخوف ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين، ثم سلم ". رواه أبو داود. وهو في صلاته الثانية متنفل.

وليس في هذا مخالفة للإمام، لأن المخالفة المنهي عنها في الحديث، أن لا يقتدي به في تنقلاته ورفعه وخفضه، فإنه- بعد أن قال: " إنما جعل الإمام ليؤتم به "- قال: " فإذا كبر فكبروا و لا تكبروا حتى يكبر. إلخ".

ومن المؤيدين لهذا القول، شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، رحمه الله..

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز إمامة المتنفل بالمفترض، وأنه ليس من المخالفة المنهي عنها.

2- جواز إمامة المفترض بالمتنفل بطريق الأولى.

3- جواز إعادة الصلاة المكتوبة، لاسيما إذا كان هناك مصلحة، بأن يكون قارئاً فيؤم غير قارىء، أو يدخل المسجد بعد أن صلى منفرداً فيجد جماعة فصلاته معهم تكمل نقص صلاته الأولى وحده.

 باَب حكم ستر أحد العَاتقين في الصلاة

عَنْ أبي هُريرة رضيَ الله عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا يُصَلِّ أحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيءٌ ".

المعنى الإجمالي:

المطلوب من المصلى أن يكون على أحسن هيئة، فقد قال تعالى:{يا بني آدم خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كل مَسجدٍ}.

ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ المصلي أن لا يصلى وعاتقاه مكشوفان مع وجود ما يسترهما أو أحدهما به، ونهى عن الصلاة في هذه الحال وهو واقف بين يدي الله يناجيه.

اختلاف العلماء:

ذهب الإمام " أحمد " في المشهور عنه، إلى وجوب ستر أحد العاتقين في الصلاة، مع وجوب السترة، أخذاً بظاهر هذا الحديث الذي معنا.

وبعض أصحابه خص ذلك بالفرض دون النافلة، فإن صلى بلا سترة لعاتقه أو أحدهما لم تصح صلاته.

وذهب الجمهور- ومنهم الأئمة الثلاثة- إلى الاستحباب، وأن النهي في الحديث ليس للتحريم، مستدلين بما في الصحيحين عن جابر " وإن كان ضيقاً اتَزرَ به " وحملوا النَّهْيَ على التنزيه والكراهة.

الأحكام:

1- النهى عن الصلاة بدون ستر العاتق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ستر العاتق لحق الصلاة، فيجوز له، كشف منكبيه خارج الصلاة، وحينئذ فقد يستر المصلى في الصلاة ما يجوز إبداؤه في غير الصلاة.

2- استحباب سترهما أو أحدهما في الصلاة مع وجود السترة.

3- استحباب كون المصلى على هيئة حسنة.

 بَاب ما جَاء في الثوم والبصل ونحوهما

الحديث الأول

عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضىَ الله عَنْهُمَا عَنْ النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ قالَ:

"مَنْ أكَل ثُوماً أوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلنا - أوْ ليعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا- ليْقْعُدْ في بَيتهِ".

وَأُتي بقِدْرٍ فيه خَضِراتٌ من بُقُولٍ فَوَجَدَ لها ريحاً، فسأل، فَأُخْبِرَ بِمَاَ فِيهَا من البُقُولِ، فَقَال: " قرِّبُوهَا " إِلى بَعْض أصحَابِهِ

كان معه- فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أكلهَا قال: "كُل فإنّي أنَاجي من لا تُنَاجى ".

غريب الحديث:

قدر: هو الوعاء الذي يطبخ فيه.

خضرات: واحدته "خضرة " وهي البقلة الخضـراء.

البقول: جمع بقل، وهو كل نبات اخضرت به الأرض. عن ابن فارس.

أناجى: قال ابن فارس اللغوي: النحوي : السر بين اثنين. وناجيته: اختصصته بمناجاتي. ويريد بذلك صلى الله عليه وسلم مناجاته مع ربه، إختصاصه ربه بذلك.

الحديث الثاني

عَن جَابِر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:

" مَنْ أكلَ البُصَلَ أو الثُّومَ أو الْكُرَّاثَ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجدَنَا فَإنَّ الْمَلاِئكَةَ تَتَأَذّى ممَّا يَتَأذّى مِنْهُ بَنوُ الإنْسَانِ " وفي روَاية " بَنُو آدَمَ ".

المعنى الإجمالي:

المطلوب أن يكون المصلى على أحسن رائحة وأطيبها، لاسيما إذا كان يريد أداء صلاته في المجامع العامة.

ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، من أكل ثوياً أو بصلاً نيئين أن يتجنب مساجد المسلمين، ويؤدى صلاته في بيته، حتى تذهب عنه الرائحة الكريهة، التي يتأذى منها المصلون والملائكة المقربون.

ولما جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدر من خضروات وبقول، فوجد لها ريحاً كريهة، أمر أن تفرب إلى من حضر عنده من أصحابه، فلما رأى الحاضر كراهته صلى الله عليه وسلم لها، ظن أنها محرمة، فتردد في أَكلها، فأخبره أنها ليست بمحرمة، وأنه لم يكرهها لأجل حرمتها.

وأمره بالأكل وأخبره أنها المانع له من أكلها أنه صلى الله عليه وسلم له اتصال مع ربه، ومناجاة لا يصل إليها أحد، فيجب أن يكون على أحسن حال، لدى القرب من ربه، جل وعلا.

الأحكام من الحديثين:

1- النهي عن إتيان المساجد لمن أكل ثوماً، أو بصلاً، أو كراثاً.

2- يلحق بهذه الأشياء، كل ذي رائحة كريهة تتأذى منها الملائكة أو المصلون. كرائحة التبغ الذي يتعاطاه المدخنون، فعلى من ابتلى به ألا يتعاطاه عند ذهابه إلى المسجد وأن ينظف أسنانه وفمه حتى يقطع رائحته أو يخففها.

3- كراهة أكل هذه الأشياء لمن عليه حضور الصلاة في المسجد، لئلا تفوته الجماعة في المسجد، ما لم يأكلها حيلة على إسقاط الحضور، فيحرم.

4- حكمة النهي عن إتيان المساجد، ألا يتأذى بها الملائكة والمصلون.

5- النهي عن الإيذاء بكل وسيلة. هذه وسيلة منصوص عليها، فالإلحاق بها صحيح مقيس.

6- أن الامتناع عن أكل الثوم ونحوه، ليس لتحريمه، بدليل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكلها، فامتناعه عن أكلها لا يدل على التحريم.

فائدة:

قد استدل بعض العلماء على إباحة أكل هذه الأشياء، بأن صلاة الجماعة فرض كفاية.

ووجه الدلالة، أنها لو كانت فرض عين، لوجب اجتناب هذه الأشياء المانعة من حضور الجماعة في المساجد.

والحق أنه لا وجه لاستدلالهم، لأن فعل المباحات، التي يترتب عليها سقوط واجب لا بأس بها، ما لم يتخذ حيلة لإسقاط ذلك الواجب، كالسفر المباح في رمضان، فإنه يبيح الفطر في نهار رمضان، ولا حرج في ذلك مادام أنه لم يسافر ليتوصل به إلى الإفطار.

 بَابُ التشهد

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عَنْهُْ قال: "عَلَّمَني رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ- كَفِّى بَيْنَ كفيْهِ- كَما يُعَلِّمُني السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ"

التَّحِيَّاتُ لله وَالصلَوَاتُ وَالطيباتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ الله وَأشْهَدُ أنَ مُحمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولهُ".

وفي لفظ: إِذَا قَعَدَ أحَدُكُمْ لِلصَّلاَةِ فَلْيَقُلْ: " التَّحَيَّاتُ لله " وذكره إلى آخره.

وفيه "فَإنَّكْم إِذَا فَعَلْتُمْ ذلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ على كُل عَبْدٍ صالح في السَّمَاءِ وَالأرْض. "

وفيه " فَلْيَتَخَيَّرْ مِنَ الْمَسْألةِ ما شَاءَ. "

المعنى الإجمالي:

يذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد، الذي يقال في جلوس الصلاة الأول والأخير في جلوس الصلاة الأول والأخير في الصلاة الرباعية، والثلاثية ، وفى الجلوس الأخير في الصلاة الثنائية، وأنه عُنىَ صلى الله عليه وسلم بتعليمه إياه، فجعل يده في يده، وفهّمه إياه تكريرا وتلقينا، كإحدى سور القرآن، وذلك لأهمية هذه التمجيدات والدعوات المباركات.

فقد ابتدأت بتعظيم الله تعالى، التعظيم المطلق، وأنه المستحق للصلوات وسائر العبادات، والطيبات من الأقوال والأعمال والأوصاف.

وبعد أن أثنى على الله تعالى ثنّى بالدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة من النقائص والآَفات، وسأل الله له الرحمة والخير، والزيادة الكاملة من ذلك.

ثم دعا لنفسه والحاضرين من الآدميين والملائكة.

ثم عم بدعائه عباد الله الصالحين كلهم، من الإنس، والجن، والملائكة أهل السماء والأرض، من السابقين واللاحقين، فهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.

ثم شهد الشهادة الجازمة بأنه لا معبود بحق إلا الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم له صفتان.

إحداهما: أنه متصف بصفة العبودية.

والثانية: صفة الرسالة. وكلا الصفتين، صفة تكريم وتشريف، وتوسط بين العُلُوِّ والجفاء.

فائدة:

ورد للتشهد صفات متعددة، ولكن أفضلها وأجملها، تشهد ابن مسعود الذي ساقه المصنف. وقد اختاره الإمام أحمد وأبو حنيفة.

وقال الترمذي: عليه العمل عند أكثر أهل العلم، من الصحابة والتابعين. وقال البزار: أصح حديث في التشهد هو حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقا، و لا يعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالا، ولا أشد تضافرا بكثرة الأسانيد و الطرق.أ هـ وقال ابن حجر: لا خلاف بين أهل الحديث في ذلك. وممن جزم بذلك البغوي، و من مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره، فإن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره .أهـ.

وفي وجوب التشهدين خلاف بين العلماء، تقدم الكلام على التشهد الأوسط في حديث عائشة رقم (80)

فائدة ثانية:

قال السبكي: إن في الصلاة حقا للعباد مع حق الله، وإن من تركها أخل بحق جميع المؤمنين، من مضى ومن يجىء إلى يوم القيامة، لقوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".

 بَابُ كَيفية الصَّلاَة على النبي صلى الله عليه وسلم[76]

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أبي لَيْلَى قال: لَقِيَني كَعبُ بنُ عُجْرَة فَقَالَ:

ألا أُهْدِي[77]، لَكَ هَدِيَّةً؟ إِنَّ النَّبيَّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلم خَرجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، قَدْ عَلِمْنَا كَيفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟.

قَال: " قُولُوا: الَّلهُمَّ صَلّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَما صَلَّيْتَ عَلَى إبراهِيمِ وَعَلى آل إبراهيمَ إنّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ. وَباركْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحمَّدٍ كَما بَاركْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ".

المعنى الإجمالي:

تقابل عبد الرحمن بن أبي ليلى، أحد أفاضل التابعين وعلمائهم بكعب بن عجرة أحد الصحابة رضى الله عنه، فقال كعب: ألا أهدى إليك هدية؟ وكان أفضل ما يتهادونه- وهو الحق- مسائل العلم الشرعي.

ففرح عبد الرحمن بهذه الهدية الثمينة. وقال: بلى، أهدها لي[78].

فقال كعب: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا يا رسول الله علمتنا كيف نسلم عليك، ولكن كيف نصلى عليك؟ فقال: قولوا، وذكر لهم صفة الصلاة المطلوبة والتي معناها الطلب من الله تعالى أن يصلى على نبيه محمد وعلى آله، وهم أتباعه على دينه، وأن تكون هذه الصلاة في بركتها وكثرتها، كالصلاة على أبي الأنبياء إبراهيم وآل إبراهيم، الذين هم الأنبياء والصالحون من بعده، وأن يزيد في الخير لمحمد واله، كالبركة التي حصلت، لآل إبراهيم.

فإن الله كثير المحامد ، صاحب المجد، ومن هذه صفاته، فهو قريب العطاء، واسع النوال.

اختلاف العلماء:

ذهب الإمامان، الشافعي، وأحمد، إلى وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير من الصلاة، ولو تركت لم تصح الصلاة، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم حين سألوه: كيف نصلى عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد. الحديث.

وأصرح من ذلك ما أخرجه الحاكم، وأبو حاتم في صحيحهما: " كيف نصلى عليك في صلاتنا" الحديث.

وذهب الإمامان، أبو حنيفة، ومالك، وكثير من العلماء: إلى أنها سنة. لقول النبي صلى الله عليه وسلم- بعد أن ساق التشهد-: "إذا فعلت هذا، فقد قضيت صلاتك".

الأحكام:

1- وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير في الصلاة قال أبو العالية: صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه.

2- أن من حق النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو ونصلى عليه، لأنه لم يصلنا هذا الدين العظيم إلا على يديه.

3- أنه صلى الله عليه وسلم ، علم أصحابه السلام والصلاة عليه.

4- أن من أسباب عُلُوِّ شأن النبي صلى الله عله وسلم . ورفع درجاته، دعاء أمته له صلى الله عليه وسلم.

5- أن السلف كانوا يتهادَوْن مسائل العلم، ويجعلونها تُحَفاً قيمة، وهى أفضل التحف والهدايا.

6- حميد مجيد: الحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فإن الحمد مستلزم للعظمة والإجلال، والمجد دال على صفة العظمة والجلال والحمد يدل على صفة الإكرام، فهذان الوصفان الكريمان إليهما مرجع أسماء الله الحسنى.

7- البركة: النماء والزيادة، والتبريك الدعاء بهما، فبارك على محمد وآله يتضمن سؤال الله أن يعطي رسوله صلى الله عليه وسلم ما قد أًعطاه لإبراهيم وآله، من الخير وسعته ودوامه.

فائدة:

من المتفق عليه، أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق. وعند علماء البيان أن المشبه أقل رتبةً من المشبَّه به، لأن الغرض من التشبيه إلحاقه به في الصفة عند النبيين، فكيف يطلب من الله تعالى أن يصلى على محمد وآله، صلاة كصلاته على إبراهيم وآله؟

حاول الإجابة عن هذا الإشكال، العلماء بعدة أجوبة.

وأحسنها أن آل إبراهيم عليه السلام، هم جميع الأنبياء من بعده، ومنهم نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.

فالمعنى أنه يطلب للنبي وآله، صلاة كالصلاة التي لجميع الأنبياء من لدن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.

ومن المعلوم أنها كلها تكون أفضل من الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وحده. والله أعلم.

فائدة ثانية:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 22/ 456 الأحاديث التي في الصحاح لم أجد فيها ولا فيما نقل لفظ "إبراهيم وآل إبراهيم" بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ "إبراهيم" وفي بعضها لفظ "آل إبراهيم" وقد روى لفظ "إبراهيم وآل إبراهيم" في حديث رواه البيهقي. ولم يبلغني إلى الساعة حديث مسند بإسناد ثابت " كما صليت على إبراهيم وكما باركت على إِبراهيم وآل إبراهيم".

وتابعه ابن القيم في كتابه جلاء الأفهام فقال: إن أكثر الأحاديث الصحاح والحسان، بل كلها صريحة في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ذكـر آله، وأما ما جاء في حق إبراهيم وآله فإنما جاءت بذكر آل إبراهيم فقط دون ذكر إبراهيِم، أو بذكره فقط دون ذكر آله. ولم يجيء حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم. أهـ.

ومع جلالة قدر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وكونهما محل الثقة في الرواية والدراية فإننا ننبه القراء إلى أن ما قالاه في كتبهما وهي متداولة مقروءة قد وقع فيه وهم في هذا المبحث، وذلك أن الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم في الصلاة وفي

التبريك قد جاء في الصحيحين، ومن ذلك حدث كعب بن عجرة الذي ساقه مؤلف عمدة الأحكام والذي نحن بصدده.

وبعد تتبعي لأحاديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الأمهات وشروحها وجدت الشيخ ناصر الدين الألباني قد نقد الشيخين، ابن تيمية وصاحبه بمثل ما قلته.

الفائدة الثالثة:

لما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الأحاديث والطرق التي وردت في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظها المختلفة ورواياتها المتنوعة قال رحمه الله: من المتأخرين من سلك في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها. ويعملها بألفاظ متنوعة، سلك فيها بعض المتأخرين طريقة محدثة بان جمع تلك الألفاظ، واستحب ذلك، ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها.

وطرد هذه الطريقة أن يذكر التشهد بجميع هذه الألفاظ المأثورة، وأن يقال الاستفتاح بجميع الألفاظ المأثورة، وهذا مع أنه خلاف عمل المسلمين، لم يستحبه أحد من أئمتهم، بل عمل بخلافه، فهو بدعة في الشرع فاسد في العقل. فإن تنوع ألفاظ الذكر والدعاء كتنوع ألفاظ القرآن، ومعلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب للقارىء أن يجمع بين حروف القرآن في الصلاة وفي التعبد بالتلاوة، ولكن إذا قرأ بهذه تارة، وبهذا تارة أخرى كان حسنا. كذلك الأذكار والدعاء، فإذا تشهد تارة بتشهد ابن مسعود، وتارة بتشهد ابن عباس، وتارة بتشهد عمر، كان حسنا. وفي الاستفتاح إذا استفتح تارة باستفتاح عمر، وتارة باستفتاح علي، وتارة باستفتاح أبي هريرة ونحو ذلك كان حسناً.

 بَابُ الدّعاء بعد التشهد الأخير[79]

الحديث الأول

َنْ أبي هُريرة رضيَ الله عَنْهُ قال: كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدْعُو:

" اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّار وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمسِيحِ الدَّجَّالِ".

وفي لفظ لمسلم "إذَا تَشَهَّدَ أحَدُكمْ فَلْيَسْتَعِذْ بالله مِنْ أرْبَع، يقول: اللهُمَّ إِني أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ثم ذكر نحوه.

المعنى الإجمالي :

هذه أدعية عظيمة هامة، لأنها طلب الإعادة من أعظم الشرور وأسبابها. ولهذا عُنىَ بها النبي صلى الله عليه وسلم عناية خاصة.

فكان يدعو بها، ويأمر بالدعاء بها، وجعل موضع الدعاء بها، دُبُر الصلوات، لأته موطن إجابة.

وهى تشمل الاستعاذة، من عذاب القبر، وعذاب النار، ومن شهوات الدنيا وشبهاتها، ومن إغواء الشياطين عند الاحتضار، وفتن القبر التي هي سبب عذابه، ومن فتن الدجالين الذين يظهرون على الناس بصورة الحق، وهم متلبسون بالباطل.

وأعظمهم فتنة، الذي صحت الأخبار بخروجه في آخر الزمان، أعاذنا الله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

الأحكام المأخوذة من الحديث:

1- استحباب هذا الدعاء عقب التشهد الأخير كما هو صريح بتقييده بهذا المكان في صحيح مسلم.

2- أن هذه الاستعاذة من مهمات الأدعية وجوامعها، لكون النبي صلى الله عليه وسلم عُنِيَ بها، ولاشتمالها على الاستعاذة من شرور الدنيا والآخرة وأسبابها، ولذا أمر بتكريرها في هذه المواطن الفاضلة لرجاء الإجابة فيها.

3- ثبوت عذاب القبر وأنه حق، و الإيمان به واجب، لاستفاضة الأخبار عنه بل تواترها.

4- التحفظ من شبهات الحياة وشهواتها الآثمة، فإنها سبب الشرور.

5- التبصر بدعاة السوء، وناشرى الإلحاد والفساد.

فإنهم يخرجون على الناس باسم المصلحين المجددين، وهم- في الحقيقة- الهادمون للفضيلة والدين.

6- المسيحِ مطلقا هو عيسى بن مريم عليه السلام، وإذا قيد بكلمة الدجال فهو رجل آخر.

7- فتنة المحيا: ما يتعرض له الإنسان مدة حياته من الانشغال بالدنيا والشهوات، وأعظمها سوء الخاتمة.

8- فتنة الممات: هي فتنة القبر كما ورد في البخاري عن أسماء بنت أبي بكر "وإنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة الدجال".

الحديث الثاني

عَنْ عبدِ الله بن عَمْرو بن العاص عَنْ أبي بَكْر الصدِّيقِ رضىَ الله تَعَالَي عَنْهُمْ: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَلِّمْني دُعَاءً أدْعُو بِهِ في صَلاَتي. قَالَ: " قُلْ: اللَّهُم إني ظَلَمْتُ نَفْسي ظُلْما كَثِيراً، وَلاَ يَغْفرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ، فَاغْفِر لي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْني إِنَّك أنْتَ الغَفُور الرَّحِيمُ ".

المعنى الإجمالي:

طلب أبو بكر الصديق من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء ليدعو به في صلاته

فأرشده صلى الله عليه وسلم أن يدعو بهذا الدعاء النافع، لأنه اشتمل على الأسباب النافعة لحصول الإجابة.

فقد افتتح بالاعتراف بالظلم الكثير لنفسه والتقصير منها في جانب حق الله تعالى، ثم إفراد الله تعالى بإسداء المغفرة والستر والإحسان. وهذا يتضمن صدق الالتجاء وحرارة الطلب.

بعد هذه التوسلات النافعة، طلب منه المغفرة وحده، لأنه لا يقدر عليها غيره، ولا يجزل بهبتها سراه.

وفي هذا طلب ستر الذنوب، والسماح عن الزلات.

بعد هذه سأله الرحمة، التي هي الخير الكثير، وختم هذا الدعاء بالتوسل إليه بصفاته الكريمة، فإنه ما اتصف بالعفو والرحمة إلا ليجود بهما على عباده، لاسيما المقبلين عليه، الملتجئين إليه.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب هذا الدعاء في الصلاة.

2- حسن الدعاء وتناسبه. قال الصنعاني : ولا يخفى حسن هذا الترتيب في الدعاء، فإنه قدم نداء الرب واستعانته، من الاعتراف بالذنب، والاعتراف به أقرب إلى محوه. ثم الإقرار بالتوحيد لله، وحصر قضاء هذه الحاجة و هي غفران الذنب عليه، وقصر الطلب عليه أقرب إلى الإجابة، ثم سؤال غفران الذنوب والرحمة التي لا يخرج فيها شيء من أمور الدنيا والآخرة، ثم الختم لهذا الدعاء بهذين الاسمين .

3- أنه ينبغي لكل داع أن يفتتح دعاءه بالاعتراف بالعجز والتقصير والظلم، ثم يثنى على الله تعالى بأنه صاحب الطول والحول، ثم يقدم حاجته، ثم يختم دعاءه بشيء مناسب لدعائه من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، و أن يكون تعرضه لله تعالى يناسب المقام الذي يريده.

4- فقه الصديق رضى الله عنه، إذ علم أن الصلاة موطن الإجابة، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار له دعاء لهذا المقام الكريم.

5- قال ابن دقيق العيد: لعل الأولى أن يكون موطن هذا الدعاء في السجود أو بعد التشهد، فإنهما الموضعان اللذان أمرنا فيهما بالدعاء. قال عليه السلام: " وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء "وقال في التشهد: ويستخير بعد ذلك من المسألة (أي الدعاء) ما شاء. وذكر الفاكهاني أن الأولى الجمع بينهما.

6- ولا يغفر الذنوب إلا أنت: قال ابن دقيق العيد: إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها من عند الله تعالى لا يقتضيها سبب من عمل حسن أو غيره. أهـ.

الحديث الثالث

عَنْ عَاِئشَةَ رضيَ الله عنْهَا قَالت: مَا صَلَّى النبيُّ صَلَّى الله عَلْيهِ وَسَلّمَ صَلاَةً بَعْدَ أن نَزَلَت عَلَيْهِ "إِذَا جاء نَصر الله وَالْفَتحُ"، إلا يَقُولُ فِيهَا:ْ " سُبْحَانَكَ اللهم رَبّنَا وَبَحمْدِكَ، الَلهُم اغفر ْلي". وفي لفظ: كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكْثِر ُأنْ يَقُولَ في رُكوعِهِ وَسجُودِهِ.: " سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبّنا وَبِحَمْدِك، اللهُمَّ اغْفِرْ لي ".

المعنى الإجمالي:

سورة "النصر" نزلت قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

فكان نزولها مؤذنا بوفاته، ولهذا ذكرت عائشة رضى الله عنها، أنها حينما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم. أخذ يتأولها بالعمل فإن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها أنه إذا حصل فتح مكة، وصارت بلاداً إسلامية، وعرف الناس دين الله وشرائعه، وأقبلوا عليه راغبين فيه، غير مكرهين، فإنك أيها الرسول تكون قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونفذت ما أمرك الله به.

فلم يبق إلا أن تختم هذه العبادة الجليلة بالاستغفار، والتسبيح، و الاستعداد للقاء الله تعالى.

فكان صلى الله عليه وسلم يكثر ذلك في سجوده وركوعه فيقول: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي".

فهذه الكلمات، جمعت تنزيه الله تعالى عن النقائص، مع ذكر محامده.

وبعد هذه التوسلات بهذه النعوت الجليلة، يطلب منه المغفرة، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

الأحكام المستنبطة من الحديث:

1- استحباب الإكثار من هذا الدعاء، في الركوع والسجود.

2- أن تختم العبادات- وخصوصاً الصلاة- بالاستغفار، ليتدارك ما حصل فيها من النقص.

3- أن أحسن ما يتوسل به إلى الله في قبول الدعاء، هو ذكر محامده وتنزيهه عن النقائص والعيوب.

4- أن المتعبد بهما، حرص على حفظ عباداته، فلا ينبغي أن يأمن من الزلل والنقص فيها.

5- فضيلة الاستغفار، وطلبه في كل حال.

6- ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المشهور عن الإمام أحمد أنه لايدعو في الصلاة إلا بالأدعية المأثورة، وصرف التخير في قوله " ثم ليختر من الدعاء ما شاء" إن أن يختار من الأدعية التي وردت في الخبر، حينئذ فالدعاء المستحب هو الدعاء المشـروع، أما إذا دعا بدعاء لا يعلم أنه مستحب، أو على أنه جائز غير مستحب فإنه لا تبطل صلاته بذاك وقد حصل مثل هذا من بعض الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه، وإنما نفى ماله فيه من الأجر.

فائدة:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعا عقب الصلاة، فلم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفعله في أعقاب الصلوات المكتوبات، كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه. ومن استحبه من العلماء المتأخرين في أدبار الصلوات فليس معهم في ذلك سنة، إلا مجرد كون الدعاء مشروعاً، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة، وهذا الذي ذكروه قد اعتبره الشارع في صلب الصلاة، فالدعاء في آخرها قبل الخروج منها مشروع مـنون بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين، والمصلي يناجي ربه فالدعاء حينئذ

مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس فليس موطن مناجاة له ودعاء، وإنما هو موطن ذكر له وثناء عليه. أهـ ملخصاً.

فائدة أخرى:

بناء على ما رجح من عدم مشروعية الدعاء بعد السلام من الصلاة، يظهر عدم مشروعية رفع اليدين في هذا الموطن. أما رفع اليدين في الدعاء في مواطن أخرى فهو مما جاءت به الأخبار والأحاديث الصحيحة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة. وقد ذكر البخاري طائفة من أحاديث رفع اليدين عند الدعاء في كتابه "الأدب المفرد" وقال الصنعاني: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلا منه رفع اليدين في الاستسقاء وفي الحج وفي غير ذلك، وحديث " إن الله يستحي أن يرفع العبد يديه إليه فيردهما خائبتين" فمشروعية رفع اليدين عند الدعاء ثابتة بلا شك.

 بَابُ الوِتر

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضىَ الله عَنْهُمَا قال: سَألَ رَجُلٌ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَرَى في صَلاَةِ اللَّيْلِ؟ قال: "مَثْنَى مَثْنَى  فَإذا خَشِيَ أحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً فَأوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلى".

وأنه كان يقول: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ باللَّيْلِ وِتْراً".

غريب الحديث:

- "مثنى مثنى" تأكيدٌ  لفظيٌّ، لا لقصد التكرار، فإن ذلك مستفاد من الصيغة. أي اثنتين اثنتين، وهو غير منصرف للعدل والوصفية قال الزمخشري: وإعادة مثنى للمبالغة في التأكيد.

- الوتر: بكسر الراء أو فتحها يعنى الفرد.

المعنى الإجمالي:

سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب على المنبر، عن عدد ركعات صلاة الليل، والفصل فيها، أو الوصل.

فمن حرصه صلى الله عليه وسلم على نفع الناس، ونشر العلم فيهم، أجابه وهو في ذاك المكان. فقال: صلاة الليل مثنى مثنى، يسلم من كل ركعتين، فإذا خشي المصلى طلوع الصبح، صلى ركعة واحدة  فأوترت  له ما صلى قبلها من الليل.

ولكون الوتر خاتمة صلاة الليل، فالأحسن  أن يكون صلاة آخر الليل، هي الوتر.

اختلاف العلماء:

ظاهر الحديث يقتضي عدم الزيادة في صلاة  النافلة على ركعتين، عدم النقص عنهما، فإن مقادير العبادات أمر يغلب عليه التعبد، فالصلاة أمرها توقيفى، لايُتجاوز فيها ما أورده الشرع.

ولكن ورد أن الوتر قد يكون بركعة واحدة ثم  يسبقها شيء، فقد روى الأربعة إلا الترمذي، و صححه الحاكم وابن حبان من حديث أبي أيوب أن النبي صلى الله عيه وسلم  قال: " من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاَث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" ورجح النسائي وقف هذا الحديث.

كما صح  عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بركعة واحدة لم يتقدمها صلاة شفع، فهذا تخصيص للحديث في نقص النافلة عن ركعتين في ركعة الوتر. أما الاقتصار على ركعة  واحدة في النافلة في غير الوتر  فعن أحمد فيه روايتان، والرواية التي عليها المذهب هي الجواز، أما الرواية الأخرى فهي المنع في  التنفل بركعة واحدة، وهذا ظاهر ما يراه الخرقي وقد قواه ابن قدامة في المغنى بقوله صلى الله عليه وسلم: " صلاة الليل مثنى مثنى " أما الزيادة على ركعتين في النافلةَ، فعلى الوتر من الليل جاء في الصحيحيِن حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرهن " وأخرج أصحاب السنن من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" لكن قال الصنعاني: أكثر الأئمة أعلوا زيادة " والنهار " وقالوا: إن الحفاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه، وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها، وهي من رواية علي الأزدي،  قال ابن معين: مَن عَلى الأزدي ؟

أما الزيادة في صلاة النهار فقد ورد "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى عند زوال الشمس أربعا ثم أربعا " أخرجه الترمذي.

أما أقوال الأئمة في ذلك، فالإمام أحمد أجاز الزيادة في النافلة إلى أربع لهذا الحديث. والشافعي أجاز الزيادة بلا حد، ومالك لم يجز الزيادة على ركعتين عملا بحديث " صلاة الليل مثنى مثنى " وقد جمع العلماء بين حديث عائشة الذي في الصحيحين وحديث ابن عمر الوارد في الصحيحين أيضاً، وذلك بالفصل بين كل ركعتين بتشهد وسلام.  ويجوز الزيادة إلى القدر الوارد فقط.

ما يؤخذ من الحديث:

1- يستدل به على أن صلاة الليل ركعتان ركعتان، بلا زيادة ولا نقصان.

2- أن الوتر يكون آخر صلاة الليل  لمن وثق من نفسه بالقيام.

3- أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الفجر.

4- الأفضل أن الوتر يكون بعد صلاة شفع. فتقديم شفع قبل الوتر هو السنة. والاقتصار في الوتر على ركعة واحدة  لم يتقدمها شفع جائز، فقد جاء في حديث أبي أيوب مرفوعاً "ومن شاء أوتر بواحدة" رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. وصح عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها.

5- إجابة السائل على مشهد من الناس لتعميم الفائدة.

6- استحباب الوتر، وقد قيل بوجوبه، الراجح أنه ليس بواجب، لكنه من أفضل التطوعات، لكثرة النصوص في الأمر به وفضله، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه في حضر ولا سفر.

الحديث الثاني

عَنْ عَائِشَةَ رضيَ الله عَنْهَا قالَتْ: مِنْ كُل الليل قَدْ أوتَر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، مِنْ أوَّلِ الليلِ، وَأوْسَطِهِ وَآخِرِهِ فانتهَى وترهُ إِلى السَّحَرِ.

المعنى الإِجمالي:

يدخل وقت الوتر من  الفراغ من صلاة العشاء، وينتهي بطلوع الفجر، ولذا فإن النبي صلى اله عليه وسلم، قد أوتر أول الليل، وأوسطه، وآخره.

ولكون إيقاعه في آخر الليل أفضل، استقر وتره في السحر، ليختم به صلاة الليل.

الأحكام:

1- جواز صلاة الوتر في أول الليل، وأوسطه، وآخره، لأن الجميع وقتها.

2- أن الأفضل أن يكون وتره في آخر الليل، لمن وثق من نفسه بالقيام.

اختلاف العلماء:

اتفق العلماء أن ابتداء وقته بعد صلاة العشاء، واختلفوا في نهايته فذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد، إلى أن نهايته صلاة الصبح. وذهب الإمام أحمد في المشهور من مذهبه إلى أن وقته ينتهي بطلوع الفجر، وجزم بها في المغنى، وعليها الحنابلة المتأخرون، و قال في المغنى: إنه يكون بعد الفجر قضاء، وممن ذهب إلى هذا صاحبا أبي حنيفة، والثوري، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من نام عن صلاة وتره يصليه ما بين طلوع الفجر وصلاة الصبح، كما فعل ذلك ابن عمر وعائشة وغيرهما. وقد روى أبو داود بسنده عن أبي سعيد قال: قال رسول الله: " من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكر".

الحديث الثاني

عَنْ عَائِشَةَ رضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِن الَّليل ثلاثَ عَشْرَةَ رَكْعةً، يُوتِرُ مِنْ ذلِكَ بِخَمس، لاَ يَجْلِس في شَيءٍ إِلا في آخِرِهَا.

المعنى الإجمالي :

تصف عائشة رضى الله عنها، صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، بأنه يصلي ثلاث عشرة ركعة.

فيصلى الثمان الأول ركعتين ركعتين، ثم يصلي خمساً في سلام واحد، لايجلس إلا في آخرها، ويجعلها وتره.

فائدة :

اختلفت الروايات عن عائشة في كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

فقد روى: سبعاً، وتسعا، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وغير ذلك. وروي عنها في الصحيحين أنه " ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة ". وأحسن ما يجمع بينهن، أن  الرواية بعدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة هو الأغلب من صلاته، وقد يزيد وقد ينقص، حسب النشاط وعدمه، أو لقصد التعليم وبيان الجواز.

الأحكام المستنبطة من الحديث :

1- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يجعل صلاته في الليل ثلاث عشرة ركعة، من دون ركعتي الفجر.

2- وأنه يوتر في بعض الأحيان من صلاته، بخمس ركعات، لا يجلس إلا في آخر ركعة منها.

3- أن المراد، بكون صلاة الليل مثنى مثنى في غير الوتر.

فإنه صلى الله عليه وسلم، قد يصلى سبعاً، لا يجلس إلا في آخرها، وقد يصلى خمساً، لا يجلس إلا في آخرها، وقد يصلى تسعاً يتشهد في الثامنة منها بلا سلام، ثم يصلى التاسعة، ويتشهد، و يسلم.

4- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، وأوكد ذلك الوتر وركعتا الفجر.

5- وقال بعد أن ذكر وجوه الوتر الواردة في السنة. والصواب أن الإمام إذا فعل شيئا مما جاءت به السنة، وأوتر على وجه من الوجوه المذكورة يتبعه المأموم في ذلك.

6- قال المحاملى: صلاته صلى الله عليه وسلم ستة أنواع:

أ- ركعة واحدة.                      ب- ثلاث ركعات مفصولة.

جـ- خمس ركعات لا يقعد إلا في آخرهن ويسلم.

د- سبع  ركعات يقعد في السادسة ولا يسلم ثم يقوم إلى السابعة ويتمها.

هـ- تسع ركعات يتشهد في الثامنة ولا يتمها، ثم يقوم إِلى التاسعة فيتمها.

 و- إحدى عشرة ركعة، يسلم في كل ركعتين. ثم يأتي   بواحدة.

 بَابُ الذكر عَقب الصَّلاة

للدعاء والاستغفار بعد الصلاة، حِكَمٌ عظيمة، وفوائد جليلة من إظهار التقصير والعجز عن إكمالها، وترقيع الخلل الواقع فيها، وعقب الصلاة من مواطن استجابة الدعاء.

كما أنه دليل على الرغبة في الطاعة وعدم الملل، لأن المتعبد كالحالِّ المرتحل بين العبادات، مع مافي الدعاء من زيادة الحسنات، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات.

الحديث الأول

عَنْ ابْن عَبَّاس رضيَ الله عَنْهُمَا أنَّ رَفْعَ الصوت بالذِّكْرِ حِين يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ- كان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.

قَالَ ابنُ عبَّاس: كُنْتُ أعْلَمُ إِذَا انصَرَفُوا بِذلك إِذَا سَمِعْتُهُ.

وفي لفظ: "مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقضَاءَ صَلاةِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتَّكبِير" متفق عليه.

المعنى الإجمالي:

يذكر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير وذكر الله تعالى بعد انصرافهم من الصلوات الخمس المفروضة، ولذا فإنه كان يعرف انقضاء صلاتهم برفع أصواتهم به.

ما يؤخذ من الحديث :

1- استحباب الذكر بعد الصلاة، لما فيه من الفوائد الجليلة والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.

2- أن يرفع الذاكر صوته بالذكر، لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعل أصحابه معه.

3- يحتمل أن يكون ابن عباس صغيراً لم يحضر الجماعة، فسمع صوتهم بالتهليل وهو خارج المسجد.

ويحتمل أنه يحضر الجماعة، ولكن الصفوف بعيدة، وليس هناك مُبلِّغ، فكان لا يعلم بانقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بسماع التهليل من الصفوف الأوَلى.

الحديث الثاني

عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرةِ بْنِ شُعْبَةَ قال: أمْلَى عَلَىَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ في كِتَاب إِلَى مُعَاوِيَةَ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صلاَةٍ مَكتُوبَةٍ :

" لاَ إلهَ إِلاَّ الله وَحدَهُ لاَشَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ ولهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير: الَّلهُمَّ لاَمَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِى لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الَجْدُّ ".

ثمَّ وَفَدتُ بَعْدَ ذلِكَ عَلَى مُعاوِيَةَ،. فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذلِكَ.

وفي لفظ " كانَ يَنْهَى عَنْ قِيل وَقَالَ. وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالَ"

وكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأمَّهَاتِ، وَوَأد البَنَاتِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ.

غريب الحديث:

دبر كل صلاة : بضم الدال أو فتحها مع إسكان الباء أي آخرها، والمراد بعد السلام.

مكتوبة : أي مفروضة، والمراد الصلوات الخمس. ومكتوبة قيد للرواية المطلقة.

ولا ينفع ذا الجد منك الجد: الجد- بفتح الجيم- ومعناه، الحظ والغنى. أي لا ينفع صاحبَ الحظ والغنى منك غناه وحظه.

ووأد البنات: دفنهن وهن على قيد الحياة. وكان بعض العرب يفعل ذلك في الجاهلية إما خوفاً من العار، أو الفقر.

ومنع وهات- أي بخل بالمال عن الإنفاق في وجوهه المشروعة وحرص شديد على جمعه.

وعقوق الأمهات : قال في " المحكم " عقِّ والده يعقه عقًّا وعقوقاً، شق طاعته، وقد يعم بلفظ العقوق، جميع الرحم. والمراد صدور ما يتأذى به الوالد من ولده، وذلك بالقول أو الفعل.

عن قيل وقال: الأشهر فتح اللام في " قيل " على الحكاية.

مانع ومعطى- الرواية فيهما الفتح، وحقهما النصب، كحكم المضاف. ولكن خرج على إجراء الشبيه بالمضاف إجراء المفرد.

المعنى الإجمالي:

كتب معاوية بن أبى سفيان إلى المغيرة بن شعبة- وكان أميره على الكوفة- أن اكتب لي بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه المغيرة رضى الله عنهما بهذا الحديث، الذي جمع أنواع التوحيد والثناء على الله، وإثبات التصرف والقهر بيد الله. كما اشتمل على حكم نبوية جليلة.

فذكر المغيرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم- بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة- يوحد الله بِنَفْي كل معبود سواه، ويثبت العبادة لله وحده، لأنه الواحد الذي ليس له شريك في ملكه وعبادته، وأسمائه وصفاته، وأن التدبير كله بيده. فلا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، ولا يغني صاحب الحظ، والغنى، حظه وغناه، منه شيئاً.

ثم أخبر المغيرة معاوية رضى الله عنهما، بأنه ينهى عن هذه الخصال الذميمة. فينهى عن لَغو الحديث، والكلام فيما لا ينفع، وعن إضاعة المال الذي جعله الله قياما للناس في الطرق التي لا تعود بفائدة دينية أو دنيوية، وعن كثرة السؤال لمن عنده من المال مايكفيه. وكذلك التعنت والجدل في المسائل العلمية.

كما ينهى عن عقوق الأمهات، اللاتي يجب بِرُّهُنَّ وإكرامهن، لما لهن من الفضل الكبير.

وعن هذه العادة السيئة التي هي دفن البنات وهن حيَّات، لسوء الظن بالله تعالى، وخشية الفقر إذا شاركنهم في طعامهم.

وهذه عادة تدل على القسوة والشح، وعدم الثقة بالله الرزاق لكافة المخلوقات.

وينهى عن الشح والبخل بما عنده في طرق الخير، والحرص الشديد على جمع المال، والنهي في تحصيله من أي طريق.

ما يؤخذ من الحديث:

1- استحباب هذا الدعاء عقب الصلوات المكتوبات.

2- اشتمل هذا الدعاء على توحيد الله ونَفْى الشريك معه، وإثبات الملك المطلق، والحمد الكامل والقدرة التامة له سبحانه وتعالى، كما أن فيه توحده بالتصرف والقهر، وأن كل شيء بيده، فقد جمع توحيد الألوهية والربوبية، والأسماء والصفات.

3- النهى عن هذه الخصال الذميمة، لما تشتمل عليه من مفاسد دينية ودنيوية.

4- إذا عرف المؤمن أن الله هو المعطى المانع، تعلق قلبه بالله تعلقا تاما، وصرف النظر عن غيره.

5- مسارعة الصحابة رضى الله عنه إلى تنفيذ سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن معاوية رضى الله عنه لما بلغه هذا الدعاء، أمر الناس بالعمل به.

6- فيه العمل بالحظ المعروف، وهو مسألة اتفاقية في جميع الأغراض وأن الله لم يأمر بالعمل بها إلا ليعمل بها.

7- قبول خبر الواحد.

8- النهى عن إضاعة المال، أي إنفاقه في غير الطرق المشروعة، فقد جعل الله الأموال لقيام مصالح الناس، في تبذيرها تفويت لتلك المصالح، وطرق الإنفاق ثلاث، فهناك الإنفاق المذموم هو بذل المال في الأمور المذمومة شرعا سواء أكان قليلا أم كثيرا. والإنفاق المحمود هو بذله في الخير والبر، ما لم يفوت حقا آخر أهم منه، أما الثالث فهو الأنفاق في المباحات وملاذ النفس المباحة، فالجائز أن ينفق كل على قدر حاله بدون إسراف.

الحديث الثالث

عَنْ سُمَىّ مَولى أبى بَكر عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الحارثِ بْنِ هِشَامِ عَنْ أبى صَالِح السَّمّانِ عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِىَ الله عَنْهُ أنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرينَ أتُوْا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله ذَهَبَ أهْلُ الدُّثور[80] بالدَّرَجَاتِ الْعُلى، و َالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.

قَالَ: وَمَا ذَاَكَ؟ قَالُوا: يُصَلّونَ كَما نُصَلِّى، وَيَصُومُونَ كمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ ولا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلاَ نُعْتِقُ.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَفَلاَ أعَلِّمُكمْ شَيْئَاً تُدْركونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكْم وَتَسْبِقُونَ مَن بَعْدَكُمْ وَلاَ يَكُونُ أحَد أفضَلَ مِنْكُمْ إلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعتُمْ ؟ " قَالوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله.

قال: " تُسَبِّحُونَ وَتُكِّبرونَ، وَتَحْمَدُونَ، دُبُرَ[81] كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ مَرَّة ".

قال أبو صالح: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إلَى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالوا: يَا رَسُولَ الله، سَمِعَ إخْوَانُنَا[82] أهْل الأمْوَالِ بِماَ فَعَلنَا فَفَعَلوا مِثْلَهُ.-.

فَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ".

قَالَ سُمَىّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أهْلِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: وَهَمْتَ إِنَّمَا قَالَ: تُسبِّحُ الله ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَتُكَبِّرُ الله ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ وَتَحْمَدُ الله ثَلاَثاً وَثلاَثِينَ.

فَرَجَعْت إٍلى أبي صَالِح فَذَكَرتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: قُلْ: "الله أكْبَرُ وَسُبْحَان الله والْحَمدُ لله، حَتَّى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلاَثَاً وَثَلاثِينَ " رواه مسلم.

المعنى الإجمالي :

معنى هذا الحديث الجليل هو أن فقراء الصحابة رضى الله عنهم، شعروا بسبق إخوانهم الأغنياء بالأعمال الصالحة، بفضل قيامهم بحقوق أموالهم الشـرعية فغبطوهم وتَمَنَوا لو كان لهم من العمل مثل مالأولئك الأغنياء.

فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون مصيبتهم في فقد الأجر، فأرشدهم إلى هذا الذكر، الذي ينالون به أكثر مما فاتهم من العبادات المالية.

لما قاموا- بهذا الذكر، سمعهم الأغنياء ففعلوا مثلهم.

فجاء الفقراء مرة أخرى، يشكون حالهم، بأن الفضيلة التي اختصوا بها وأرادوا أن يعوّضوا بها نقص العبادات المالية فعلها الأغنياء، فأصبحوا يشاركونهم في العبادات القلبية والبدنية، ويمتازون عليهم في العبادات المالية.

فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فهو الذي يقسم الأرزاق والهداية، حسب حكمته، وهو الحكيم العليم.

ما يؤخذ من الحديث:

1- رغبة الصحابة رضى الله عنهم الشديدة في الخير، وتنافسهم بالأعمال الصالحة.

فالفقراء، شق عليهم حرمانهم من العبادات المالية ، والأغنياء لم يكتفوا بغناهم عن مشاركة الفقراء في كل أبواب الخير. ولعل الله يعطى الفقراء بفضله وكرمه من الأجر على نيتهم الطيبة.

2- الحديث يدل على فضل الغنى الشاكر على الفقير الصابر، لما له من الأعمال.

وهذه مسألة طويلة الخلاف، بين العلماء.

3- أن الإنفاق: في سبيل الخير سبب رفع الدرجات. قال ابن القيم : فالغنى إذا اتقى الله في ماله، وأنفقه في وجوهه، وليس مقصورا على الزكاة بل مما حقه اشباع الجائع وكسوة العاري وإغاثة الملهوف، ورعاية المحتاج- والمخطر، فطريقه طريق الغنيمة، وهي فوق السلامة فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر الفقراء على ماللأغنياء من هذه الرفعة بسبب إنفاقهم .

4- فضل هذا الذكر المذكور في هذا الحديث . حيث كان سبباً في سبق من يقوله في أدبار الصلوات في الثوب، وأنه لا يلحقه أحد، إلا من عمل مثل عمله . لما يحصل لنفسه من تطهير ولأخلاقه من رياضة .

5- أن الهداية والرزق بيد الله ، فهو الذي يقسمها بين عباده ، فينبغي أن يرضى بقسمة الله تعالى .

6- مشروعية هذا الذكر، بعد الصلوات المكتوبات، كما ورد في بعض الروايات تقييده بالمكتوبة، وأن يكون بهذه الصيغة. فالتسبيح يتضمن نفي النقائص عن الله تعالى، ثم التحميد المثبت له الكمال ثم التكبير المثبت له صفات العظمة. واستظهر ابن القيم أن تكون الثلاث والثلاثون من جميع كلمات التسبيح والتحميد والتكبير.

الذكر بعد الصلاة

وهو فقرات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله تعالى: في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن ينصرف يستعيذ ثلاثا، ويقول: " اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباكـت ياذا الجلال والإكرام " وفي الصحيح أنه كان يقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، و لا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، و لا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " ويعلمهم أن يسبحوا ثلاثا وثلاثين، ويحمدوا ثلاثا وثلاثين، ويكبروا ثلاثا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" و لاريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء، وما سواها من الأذكار قد يكون مكروها، وقد يكون محرما، وقد يكون فيه شرك لا يهتدي إليه أكثر الناس.

والذكر من أفضل العبادات، ولذا قالت عائشة: " الذكر بعد الانصراف من الصلاة هو مثل مسح المرآة بعد صقالها" فإن الصلاة تصقل القلب. وليس الذكر عقب الصلاة بواجب، فمن أراد أن يقوم قبله فلا ينكر عليه، ولكن ينبغي للمأموم ألا يقوم حتى ينصرف الإمام عن القبلة، ولا ينبغي للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة إلا بمقدار ما يستغفر ثلاثا: ويقول: " اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباكـت ياذا الجلال والإكرام " وعد التسبيح بالأصابع سنة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: " سبحن واعقدن بالأصابع، فإنهن مسؤولات مستنطقات ".

 بَابُ الخشُوع في الصَّلاةِ

الخشوع في الصلاة، هو روحها وَلُبُّهَا ويكثر ثوابها أو يقل، حسبما عقله المصلى منها، ولذا أثنى الله تعالى على الذين هم في صلاتهم خاشعون بأنهم الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون.

ولإحضار القلب في الصلاة، أسباب:

منها: الاستعاذة من الشيطان، وتدبر قراءة الصلاة، وأنواع الذكر فيها.

ومنها: جعل السترة، وجعل  النظرة موضع السجود، كما أن دخول الإنسان فيها بعد الفراغ من الشاغلات عنها، كالنوم، وشهوة الطعام والشراب، من أقوى أسباب إحضار القلب.

ولذا نهى عن الصلاة حال حضور الطعام، أو مدافعة الأخبثين . لأن في ذلك مشغلة عن الصلاة.

وذهب الجمهور من العلماء إلى  صحة صلاة من  غلبت على صلاته  الوساوس  ولكن مع نقص ثوابها.

وذهب أبو حامد الغزالي ،  وابن الجوزي،  إلى بطلانها.

الحديث[83]

عَنْ عَائِشَةَ رضيَ الله عَنْهَا أنَ النَّبَّي صلى الله عليه وسلم صَلَّىِ في خَمِيصةٍ، لَهَا أعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إِلى أعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَف قالَ: " اذهبوا بخَمِيصتي هذه  إِلى أبي جَهْمٍ ، وَأْتُوني  بِأنْبِجَانيَّة ِ أبي  جَهْمٍ ، فإنهَا أَلْهَتْني  آنِفاً عَن صَلاتي.

غريب الحديث:

1- خميصة لها أعلام : كساء مربع مخطط بألوان مختلفة. وقال ابن الأثير:

هي ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة.

2- الأنْبِجانيّة: كساء غليظ، ليس له أعلام، وهي بفتح الهمزة وسكون النون، وكسر الباء الموحدة، وبعد الألف نون مكسورة، بعدها ياء مشددة، ثم تاء  التأنيث. منسوبة  إلى بلد تسمى أنبجان. وقد وردت هذه  الكلمة بفتح الباء وهي نسبة على غير قياس إلى منبج  البلد المعروف في بلاد الشام. ومثلها منبجاني. وهى كساء من الصوف له  خمل وليس له علم وتعد من أدون الثياب  الغليظة.

3- آنفاً:- يعنى الآن.

المعنى الإجمالي :

أهدى " أبو جهم " إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، خميصة لها أعلام.

وكان من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم  أنه يقبل الهدية جبراً لخاطر المهدى، فقبلها صلى الله عليه وسلم منه، وصلى بها.

ولكونها ذات أعلام يتعلق بها النظر، ألهَتْه صلى الله عليه وسلم عن كامل الحضور في صلاته، وهو صلى الله عليه وسلم  كامل، لا يصدر عنه من الأعمال إلا الكامل.

فأمرهم أن يعيدوا هذه الخميصة المعلمة إلى المهدى " أبى جهم ".

وحتى لا يكون في قلب " أبي جهم " شيء من رد الهدية، وليطمئن قلبه، أمرهم أن يأتوه بكساء أبي جهم، الذي لم يعلم.

وهذا من كمال هديه صلى الله عليه وسلم.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية الخشوع في الصلاة، وفعل الأسباب الجالبة له، والابتعاد عن كل ما يشغل في الصلاة.

2- أن اشتغال القلب  اليسير، لا يقدح في الصلاة.

3- كراهة تزويق المساجد، ونقشها، والكتابة فيها، لما يجلبه من اشتغال المصلين في النظر إليها.

4- فيه جواز لبس الملابس المعلمة للرجال.

5- وفيه استحباب قبول الهدية، جبراً لقلب المهدي، وتودُّداً إليه.

6- وفيه أنه لا بأس من رد الهدية لسبب، ولكن مع بيان السبب لصاحبها، حتى لا يقع في قلبه شيء.

7- وفيه حسن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث ردَّ عليه الكساء المعلم، وطلب الكساء الذي ليس فيه أعلام، ليعلمه أنه غير مترفع عن هديته.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

ولاريب أن  الوسواس كلما قل في الصلاة كان أكمل، والذي يعين على ذلك شيئان: قوة المقتضي، وضعف الشاغل.

أما الأول: فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، ويتدبر القراءة والذكر والدعاء، ويستحضر أنه مناج لله  تعالى كأنه يراه، فإن المصلى يناجي ربه، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن  تراه فإنه يراك، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة:

فإن مافي القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه والتصديق بأخباره وغير ذلك مما يتباين الناس فيه ويتفاضلون تفاضلا عظيما. ويقوي ذلك كلما  ازداد العبد تدبرا للقرآن، وفهما ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته، وأظهر فقره إليه  في عبادته، اشتغاله  به، فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي  يطمئن  إليه، ويأنس به، ويلتذ بذكره، ولاحصول لهذا إلا بإعانة الله، ومتى لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الثاني: زوال العوارض، وهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يفيده في عبادته، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة ، وهذا في كل عبد بحسبه، فإن كثرة الوساوس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والعبد الكيس يجتهد في كمال الحضور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 بَابُ الجَمْع بين الصلاتين في السفر

لما كان السفر مظنة المشقة، رخص فيه الشارع بعض الرخص في العبادات، تيسيراً على عباده ورحمة بهم.

ومن تلك الرخص، إباحة الجمع للمسافر، الذي ربما أدركه وقت الصلاة وهُو جادُّ في سفره.

فأبيح له أن يجمع بين صلاتي الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين  صلاتي المغرب والعشاء، في وقت إحداهما أيضا.

وهذا كله من  سماحة الشريعة المحمدية ويسرها وهو فضل من الله تعالى، لئلا يجعل علينا في الدين  من حرج.

عَنْ عَبْدِ الله بن عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهَما قال : كَان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم

يَجْمَعُ بَيْن صَلاَةِ الظُّْهرِ وَالعَصْرِ إذَا كان عَلى ظَهْر سَيْر، وَيَجْمَعُ بينَ الْمَغْرِب وَالعِشَاء[84]

المعنى الإِجمالي:

كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم  إذا سافر وجدَّ به السير في سفره، الجمع بين الظهر والعصر، إما تقديماً، أو تأخيراً، والجمع بين المغرب والعشاء، إما تقديماً أو تأخيراً، يراعى في ذاك الأرفق به وبمن معه من المسافرين، فيكون سفره سبباً في جمعه الصلاتين، في وقت إحداهما، لأن الوقت صار وقتاً للصلاتين كلتيهما.

 اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في الجمع. فذهب كثير من الصحابة والتابعين إلى جواز الجمع تقديماً أو تأخيراً وهو مذهب الشافعي، وأحمد، والثوري، مستدلين  بأحاديث عن ابن عباس، وابن عمر، ومنها حديث معاذ " أن النبي صلى الله عليه وسلم  إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر صلاة  الظهر حتى يجمعها إلى العصر، يصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، صلى  الظهر و العصر جميعاً ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل المغرب، أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب يعجل العشاء فصلاها مع المغرب " رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي.

و قد صحح بعض  الأئمة هذا الحديث، وتكلم فيه بعضهم الآَخر، وأصله في مسلم بدون جمع التقديم.

وذهب أبو حنيفة وصاحباه، والحسن، والنخعي: إلى عدم جواز الجمع. فتأولوا أحاديث الجمع بأنه جمع صُورِيٌّ.

وصفته- عندهم- أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها فيصليها، ثم يصلى بعدها  العصر في أول وقتها، وكذلك المغرب والعشاء.

وهذا تعسُّف وخلاف المفهوم من لفظ الجمع، الذي معناه جعل الصلاتين في وقت إحداهما، ويعكر عليه أيضا ثبوت جمع  التقديم وهو ينافي هذه  الطرق

في التأويل. ذكر الخطابي وابن عبد البر أن الجمع رخصة، والإتيان بالصلاتين إحداهما في آخر وقتها، والثانية في أول وفتها فيه ضيق، إذ لا يدركه أكثر الخاصة، فما رأيك بالعامة؟.

وذهب ابن حزم، ورواية عن مالك: أنه يجوز جمع التأخير دون التقديم. وأجابوا عن الأحاديث، بما قاله بعض العلماء من المقال فيها.

واختلفوا أيضاً في حكم الجمع.

فذهب الشافعي وأحمد والجمهور، إلى أن السفر سبب في جمع التقديم والتأخير، وهو رواية عن مالك.

وذهب مالك في المشهور عنه إلى اختصاص الجمع بوقت الحاجة، وهى إذا جدَّ به السير، واختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية " وقرى ذلك " ابن القيم" في" الهدى ": قال الباجي: كراهة مالك للجمع خشية أن يفعله من يقدر عليه دون مشقة وأما إباحته إذا جد به السفر فلحديث ابن عمر. وذهب أبو حنيفة إلى عدم جواز الجمع إلا في عرفة و مزدلفة، للنسك  لا للسفر.

واستدل الجمهور بأحاديث الجمع المطلقة عن تقييد السفر بنازل أو جادّ في السَّيْر، ومنها ما جاء في الموطأ عن معاذ بن جبل من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوما في غزوة تبوك ، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء. قال ابن عبد البر: هذا الحديث ثابت الإسناد وذكر الشافعي في الأم وابن عبد البر والباجي أن دخوله وخروجه صلى الله عليه وسلم  لا يكون إلا وهو نازل غير جاد في السفر وفي هذا رد قاطع على من قال: لا يجمع إلا من جد به  السفر. أما دليل الإمام مالك، وشيخ الإسلام، وابن القيم، فحديث ابن عمر أنه كان إذا جدَّ به السير، جمع بين المغرب والعشاء ويقول: " إن النبي صلى الله عليه وسلم  كان إذا جد به السير جع بينهما ".

ولكن  عند الجمهور زيادة دلالة في  أحاديثها يحسن قبولها.

ولأن السفر موطن مشقة في النزول والسير، ولأن رخصة الجمع ما جعلت  إلا للتسهيل فيه.

" وابن القيم " في " الهدى " جعل حديث معاذ و نحوه من أدلته، على أن رخصة الجمع لا تكون إلا في وقت الجِدِّ في السير.

أما رأى أبي حنيفة فمردود بالسنن الصحيحة الصريحة .

فوائد :

الأولى : ما ذكره المؤلف في الجمع لأجل  السفر وهناك أعذار غير  السفر تبيح الجمع.

منها: المطر، فقد روى " البخاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم  "- جمع بين المغرب و العشاء في ليلة  مطيرة ".  وخص  الجمع هناك  بالمغرب والعشاء  فقط دون الظهر والعصر، وجوزه جماعة منهم الإمام أحمد وأصحابه.

وكذلك المرض، فقد روى " مسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم  " جمع بين   الظهر والعصر والمغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر " وفي رواية " من غير خوف ولا سفر ". وليس  هناك إلا المرض. وقد جوزه كثير من العلماء، منهم مالك وأحمد و إسحاق والحسن. وقال به جماعة من الشافعية فمنهم الخطابي، واختاره  النووي في صحيح مسلم، وذكر ابن  تيمية أن الإمام أحمد نص على جواز الجمع  للحرج وللشغل بحديث روى في ذلك.

وقد ثبت جواز الجمع للمستحاضة، و هو نوع من المرض.

الفائدة الثانية :

أن السفر الذي يباح فيه الجمع، قد اختلف العلماء في تحديده. فجعله الإمامان، الشافعى، وأحمد، يومين قاصدين، يعنى ستة عشر فرسخاً[85].

واختار الشيخ تقي الدين  أن كل ما يسمى سفرا، طال أو قصر، أبيح فيه الجمع، وأنه لا يتقدر بمدة، وقال: إن نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير، فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ماجمع الله بينه فرقاً لا أصل له. وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو مذهب الظاهرية. ونصره صاحب المغنى.

وقال " ابن القيم " في " الهدى " : " وأما مايروي عنه من التحديد باليوم.

أو اليومين، أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة ".

الفائدة الثالثة:

عند جمهور العلماء، أن ترك الجمع أفضل من الجمع، إلا في جَمْعَيْ عرفة ومزدلفة، لما في ذلك من المصلحة.

ما يؤخذ من الحديث:

1-  جواز الجمع بين صلاتي  الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء.

2- عموم الحديث يفيد جواز جمع التقديم والتأخير، بين الصلاتين، وقد دلت عليه الأدلة كما تقدم.

- ظاهره أنه خاص بما إذا جدَّ به السَّيْر، وتقدم الخلاف في ذلك وأدلة   العلماء فيه. قال ابن دقيق العيد: والحديث يدل على الجمع إذا كان على ظهر سير، ولولا ورود غيره من الأحاديث بالجمع في غير هذه الحالة لكان الدليل يقتضي امتناع الجمع في غيره، فجواز الجمع في هذا الحديث قد علق بصفة لم يكن ليجوز إلغاؤها، لكن إذا صح الجمع في حالة النزول فالعمل به أولى، لقيام دليل آخر على الجواز في غير هذه الصورة، أعنى السير، وقيام ذلك الدليل يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف، و لا يمكن أن يعارض ذلك الدليِل بالمفهوم من هذا الحديث، لأن في  دلالة ذلك المنطوق على الجواز في تلك الصورة بخصوصها  أرجح. أهـ.

4- يدل الحديث وغيره من الأحاديث أن الجمع يختص بالظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، وأن الفجر لا تجمع إلى شيء منها.

 بَابُ قصْر الصَّلاة في السفر

القصر: هو للصلوات الرباعية، وهي الظهر، والعصر والعشاء. ونقل ابن المنذر الإجماع على أنه لا قصر في المغرب والفجر.

وليس له سبب إلا السفر، لأنه من رخصه التي  شرعت رحمة بالمسافر. شفقة عليه.

عَنْ عَبْدِ الله بْن عُمَرَ رضىَ الله عَنْهُمَا قال: صَحِبْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَكانَ لاَ يَزِيدُ في السَّفَرِ عَلىَ رَكْعَتَيْن، وَأبا  بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمانَ كَذلِكَ .المعنى الإجمالي:

يذكر عبد الله بن عمر أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم  في أسفاره، وكذلك صحب أبا بكر وعمر وعثمان في  أسفارهم.

فكان كل منهم يقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، ولا يزيد عليهما.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في القصر: هل هو واجب أو رخصة، يستحب إتيانها؟ فذهب الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأحمد إلى جواز الإتمام، والقصر أفضل.

وذهب أبو حنيفة، إلى وجوب القصر، ونصره ابن حزم وقال: إن فرض المسافر ركعتان.

وأدلة الموجبين للقصر، مداومة النبي صلى الله عليه وسلم  عليه في أسفاره. وأجيب بأن الفعل لا يدل على الوجوب عند الجمهور.

واستدلوا أيضاً بحديث عائشة في الصحيحين " فُرِضتِ الصلاَةُ رَكْعَتَيْن فأُْقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَأْتِمَّتْ صَلاَةُ الْحَضَرِ ".

وأجيب عنه بأجوبة، أحسنها أن هذا من كلام عائشة، ولم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة لم تشهد زمان فرض الصلاة.

أما أدلة الجمهور على عدم وجوب القصر فقوله تعالى: {لَيْسَ عَليكُمْ جُنَاحٌ أن تَقصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} فَنًَفْيُ الجناح يفيد أنه رخصة، وليس عزيمة. وبأن الأصل الإتمام، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه.

وبحديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم " رواه الدارقطني وقال: إسناده حسن.

وقد أجيب عن أدلة الجمهور بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف، وبأن الحديث متكلم فيه، حتى قال شيخ الإسلام " ابن تيمية "،  هذا حديث كذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: الأولى للمسافر أن لايدع القصر، اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وخروجاً من خلاف من أوجبه، ولأنه الأفضل عند عامة العلماء.

وشيخ الإسلام " ابن تيمية " نقل عنه في " الاختيارات " كراهة الإتمام، وذكر أنه نفل عن الإمام أحمد التوقف في صحة صلاة المُتِمِّ. وقال الشيخ تقي الدين أيضاً: قد علم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلى في السفر ركعتين. وكذلك أبو بكر وعمر بعده، وهذا يدل على أن الركعتين أفضل، كما عليه جماهير العلماء.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية قصر الصلاة الرباعية في السفر إلى ركعتين.

2- أن القصر هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، و سنة خلفائه الراشدين في أسفارهم.

3- أن القصر عام في سفر الحج والجهاد، وكل سفر طاعة.

وقد ألحق العلماء الأسفار المباحة قال النووي: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح. وبعضهم لم يجز القصر في سفر المعصية والصحيح أن الرخصة عامة، يستوي فيها كل أحد.

4- لطف المولى بخلقه، وسماحة هذه الشريعة المحمدية، حيث سهَّل عبادته على خلقه.

فإنه لما كان السفر مظنة المشقة، رخّص لهم في نقص الصلاة.

وإذا زادت المشقة بقتال العدو، خفف عنهم بعض الصلاة أيضاً.

5- السفر في هذا الحديث مطلق، لم يقيد بالطويل، والأحسن أن يبقى على إطلاقه فيترخص في كل ما سُمِّي سفراً.

أما تقييده بمدة معينة، أو بفراسخ محدودة، فلم يثبت فيه شيء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : السفر لم يحده الشارع، وليس له حد في اللغة فيرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، فما كان عندهم سفراً فهو سفر. اهـ.

 بَابُ الجُمعَة

يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وقد خص الله به المسلمين، وأضل عنه من قبلهم من الأمم، كرماً منه وفضلا على هذه الأمة.

ولهذا اليوم خصائص من العبادات، وأعظمها هذه الصلاة التي هي آكد الفروض وكذا استحباب قراءة سورتي " السجدة " و " الإنسان " في صلاة فجرها، وسورة " الكهف " في يومها، وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب التي يقدر عليها. والذهاب إليها مبكراً، والاشتغال بالذكر والدعاء إلى حضور الخطب ثم الإنصات لخطبته لأن في ذلك اليوم ساعة استجابة، لا يرد فيها الداعي وقد اختلف في تعيينها العلماء فمنهم من قال: إنها من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة. ومنهم من قال: إنها آخر ساعة بعد العصر. وهذا قول جمهور الصحابة والتابعين واختاره الإمام أحمد. كما أن للصلاة فيه خصائص لا توجد في غيرها من الاجتماع، والتأكيد على إتيانها، وشرط الاستيطان والإقامة في صلاتها، وتقدم الخطبتين عليها، والجهر في قراءتها، وتحريم البيع والشراء بعد النداء لها. وقد جاء من التشديد في التخلف عنها مالم يأت في صلاة العصر. لذا أجمع المسلمون أنها فرض عين، وقالوا إنها أفضل مجامع المسلمين سوى مجمع عرفة.

وقد أفرد لها الشيخ " ابن القيم " فَصْلاً مطولا في كتابه " زاد المعاد في هدي خير العباد ".

الحديث الأول

عَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدي رضيَ الله عَنْهُ : أنَّ رِجَالاً تَماروا في مِنْبر ِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم  مِن أيِّ عُودٍ هُوَ؟

فقال سَهْلٌ: من طَرْفاء الْغَابَةِ، وَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  قَامَ عليهِ فَكبَّرَ وَكبَّرَ النَّاسُ  وَرَاءَهُ وَهو عَلَى  المِنْبَرِ ، ثُمَّ  ركَع فنزل  القَهْقَري  حَتَّى سَجَدَ في أصلِ الْمِنبرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاَتِهِ[86] ثم أَقْبَلَ عَلَى النَّاس فَقَالَ: " يَا أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا صَنَعْتُ هذَا لِتَأتمُّوا بي  وَلِتَعلَّمُوا صَلاَتي ".

وفي لفظ: " فَصَلَّى وَهُوَ عَليْها ثَم كَبَّر عَلَيْهَا، ثُمَّ رَفَعَ وَهُوَ عَليْهَا ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرى ".

غريب الحديث:

1- تماروا: أي تجادلوا، من أي  شيء المنبر؟ أو يكون من " المِرية "، وهي الشك.

2- طرفاء الغابة- الطرفاء شجر يشبه الأثل، إلا أن الأثل أعظم منه، ومنابته الأرض السبخة، كأرض المدينة المنورة.

الغابة: الشجر الملتف: والمراد به هنا، موضع في عوالي المدينة، يقع منها غرباً.

3- القهقرى: أي رجع إلى الخلف من غير أن يجعل وجهه إلى جهة مشيه و" القهقرى " اسم مقصور.

4- ولتعلموا صلاتي – هو بكسر اللام الأولى وبتشديد اللام الثانية، وأصله "تتعلموا"، بتائين.

المعنى الإجمالي :

تباحث أناس في منبر النبي صلى الله عليه وسلم، من أي عود هو؟

فكان سهل بن سعد أعلم أهل زمانه، لأنه آخر من مات من الصحابة بالمدينة فجاؤوا إليه ليبين لهم، ويزيل مشكلهم فأخبرهم أنه من طرفاء الغابة.

وتثبيتاً[87] لخبره قال لهم: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم  قام عليه للصلاة، فكبر وكبر الناس وراءه، وهو على المنبر، ثم ركع ونزل منه، ورجع إلى خلف حتى سجد في  أصل المنبر، ثم عاد فطلع عليه، ومازال هكذا يطلع عند القيام وينزل منه عند السجود حتى فرغ من صلاته، ثم انصرف وأقبل على الناس فقال صلى الله عليه وسلم ما قاله مرشداً لهم إلى أنه ما فعل هذا الفعل من الطلوع على المنبر والنزول، إلا ليروا صلاته فيتعلموا منه ويقتدوا به.

ما يؤخذ من الحديث:

1- تباحث التابعين في العلم، وأدبهم في الرجوع إلى العلماء الذين أخذوه من قبلهم.

2- جواز ارتفاع الإمام عن المأمومين في الصلاة  للحاجة، كتعليمهم كيفية الصلاة.

فإن لم يكن لحاجة، فيكره، لما روى أبو داود عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال" إذا أمّ الرجل القوم، فلا يقومَنَّ في مقام أرفع من مكانهم ".

3- جواز الحركة اليسيرة للحاجة فإنها لا تضر الصلاة.

4- وجوب اتِّباع النبي  صلى الله عليه وسلم ، وأن أفعاله ، من سنته التي  تتبع، و يحافظ عليها.

5- وفيه حسن   تعليمه صلى الله عليه وسلم ، فإنه جمع بين القول والفعل، الذي  يصور لهم به حقائق الأشياء.

6- فيه دليل على جواز إقامة الصلاة لأجل التعليم، وأنه لا ينافى الإخلاص والخشوع، بل هو زيادة عبادة إلى عبادة.

الحديث الثاني

عَنْ عَبدِ الله بْن عُمَرَ رضيَ الله عنه: أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال " مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ ".

المعنى الإجمالي:

الاجتماع لصلاة الجمعة، مشهد عظيم، ومجمع كبير من مجامع المسلمين، حيث يأتون لأدائها من أنحاء البلد، التي  يسكنونها.

ومثل هذا المحفل، الذي يظهر فيه شعار الإسلام، وأَبَّهة المسلمين، يكون الآتي  إليه على أحسن هيئة، وأطيب رائحة، وأنظف جسم.

لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسلوا عند الإتيان لها، ولئلا يكون فيهم أوساخ وروائح يؤذون بها المصلين والملائكة الحاضرين لسماع الخطبة والذكر.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في غسل الجمعة.

فذهب الظاهرية إلى أنه واجب، مستدلين بحديث " غُسْلُ يوم  الجُمعُةَ وَاجِـب عَلَى كُلِّ مُحْتَلِم " متفق عليه.

وذهب الجمهور إلى استحبابه، وأنه غير واجب، مستدلين بحديث الحسن،

عن سمرة: أن النبي  صلى الله عليه وسلم، قال: " مَنْ تَوَضَّأ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَن اغتَسَلَ فالغُسلُ أفضَلُ " رواه الخمسة. قال ابن دقيق العيد: ولايقاوم سند هذا الحديث الأحاديث الموجبة، وإن كان المشهور في سنده صحيحاً.

وأجابوا عن الحديث الذي استدل به الظاهرية، بأنه يفيد تأكيد السنية.

وأن معنى " الواجب " في الحديث، الحق، كما يقول أحد لأحد: لك عليّ حق واجب.

أو أن ذلك في أول الإسلام، يوم كان الصحابة يلبسون الثياب الثقيلة الخشنة، ويعرقون، فتظهر منهم الرائحة الكريهة.

فلما وسع الله عليهم، ولبسوا خفيف الثياب، نسخ الحكم من الوجوب إلى الاستحباب. أخرج أبو عوانة عن ابن عمر: كان الناس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة جاؤوا وعليهم ثياب متغيرة، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل ".

والحق أن هذه أجوبة غير ناهضة لتأويل الحديث عن ظاهره.

ولذا قال " ابن القيم " في " الهدى ": " ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مس النساء ومس الذَّكَر. ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير". أهـ.

وقال شيخ الإسلام " ابن تيمية ": " ويجب الغسل على من له عرق، أو له  ريح يتأذى به غيره "  وقال البغوي في شرح السنة: اختلف العلماء في وجوب غسل الجمعة مع اتفاقهم على أن الصلاة جائزة من غير غسل.

فالأولى لمن ذهب إلى الجمعة أن لايدع الغسل، لأنه قد اتفق على مشروعيته وأدلة وجوبه قوية، والاحتياط أحسن وأولى. قال الصنعاني : وهؤلاء (أي الذين أولوا الحديث) داروا مع المعنى وأغفلوا المحافظة على التعبد. وذكر أن الجمع بين المعنى والتعبد متعين.

الأحكام المأخوذة من الحديث:

1- ظاهر الحديث، وجوب الغسل لصلاة الجمعة والأصل حمل الحديث على ظاهره، وتقدم الخلاف في ذلك وأدلته.

2- وفيه دليل على أن الغسل يكون للصلاة، ويقدم عليها وهو الصحيح، لأنه مقصود لها، لا ليومها، خلافاً للظاهرية الذين يرون أن الغسل يكفي، ولو بعد الصلاة.

3- فيه دليل على أن الأفضل أن يكون الغسل قبيل الذهاب إلى صلاتها.

4- من حكمة مشروعية هذا الاغتسال، يستدل على أنه ينبغي للإنسان أن يأتي إلى مواطن العبادة والصلاة على أحسن حال وأجل هيئة {يا بَني آدَمَ خُذُوا زينتكُم عِنْدَ كلِّ مَسجدٍ}.

5- أن مشروعية الغَسل لمن أراد إتيان الصلاة، أما غيره، فلا يشرع له الغسل، وقد صرح بذلك لفظ الحديث عند ابن خزيمة، وهو" ومن لم يأتها فليس عليه غسل ".

الحديث الثالث

عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا قََالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنّبيُ صلى الله عليه وسلم يَخطبُ النَّاسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَقَالَ: أصَلَّيْتَ يَا فلاَنُ؟  قال: لا، قَالَ: "قُمْ فَارْكَع رَكْعَتَيْن". وفي رواية "فَصَلِّ رَكْعَتَين ".

المعنى الإجمالي:

دخل سليك الغطفاني  المسجد النبوي والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فجلس ليسمع الخطبة، ولم يصل تحية المسجد، فما منعه تذكيره واشتغاله بالخطبة عن تعليمه، بل خاطبه بقوله: " أصليت يا فلان " في طرف المسجد قبل أن أراك؟

قال: لا. فقال : " قم فاركع ركعتين ".

قال ذلك بمشهد عظيم ليُعَلِّمَ الرجل في وقت الحاجة، و ليكون التعليم عامًّا مشاعاً بين الحاضرين.

اختلاف العلماء :

اختلف العلماء فيمن دخل المسجد والخطيب يخطب : هل يصلى تحية المسجد، أو يجلس وينصت للإمام؟.

فذهب الشافعي، وأحمد، وأصحاب الحديث إلى أن المشروع له الصلاة. مستدلين بهذا الحدث، وبحديث: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين ".

وذهب مالك، وأبو حنيفة، إلى أنه يجلس ولا يصلي.

مستدلين  بقوله تعالى : {وإذَا قُرِئ  القُرآن فَاستمِعُوا لَهُ وأنصِتُوا } وحديث: " إذا قلت لصاحبك : أنصت يوم الجمعة فقد لغوت ".

 وأجاب المستحبون للصلاة عن الآية بأجوبة:

منها: أًن هذين الحديثين مخصصان لها، على فرض إرادة الخطبة بها، وكذلك مخصصان للحديث الآمر بالإنصات.

وأجاب أبو حنيفة، ومالك عن حديث الباب بأجوبة واهية، لا يركن إليها في عدم الأخذ بهذين الحديثين الصحيحين الصريحين. ولذا قال النووي في شرح مسلم عند قوله صلى الله عليه وسلم:     " إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " قال: هذا نص لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحا فيخالفه.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية  خطبتَي الجمعة، وأن هذا من شعارها الذي يلزم الإتيان به.

2- استحباب ركعتي تحية المسجد وتأكُّدُها، لكون النبي صلى الله عليه وسلم  أمر بالإتيان بها حتى في هذه الحال.

3- أن الجلوس الخفيف لا يذهب وقتها وسنيتها ،  لأن  الرجل جلس، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم ويصلى.

4- جواز الكلام حال الخطبة للخطيب، ومن يخاطبه.

5- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت عن خطأ يراه في  أي حال.

6- أن لا يزيد في الصلاة على ركعتين، لأنه لابد من الإنصات للخطيب.

الحديث الرابع

عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رضيَ الله عَنهُمَا قَالَ: كَانَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم  يَخْطُبُ خُطْبَتَيْن وَهُرَ قَائِمٌ ، يَفصِلُ بينهُمَا بِجلوس.

المعنى الإجمالي :

كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة خطبتين، يوجههم فيهما إلى الخير، ويزجرهم عن الشر.

وكان يأتي بالخطبتين وهو قائم على المنبر، ليكون أبلغ في  تعليمهم ووعظهم، ولما في القيام من إظهار قوة الإسلام وأبهته.

فإذا فرغ من الخطبة الأولى، جلس جلسة خفيفة ليستريح، فيفصل الأولى عن الثانية، ثم يقوم فيخطب الثانية.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب الخطبتين في الجمعة قبل الصلاة، وأنهما شرطان لصحتها، قال الحلبي: لم ينقل أنه صلاها بلا خطبة. ولو كان جائزا لفعله ولو مرة لبيان الجواز، والوجوب هو مذهب عامة العلماء.

2- استحباب قيام الخطيب في الخطبتين- ومذهب الشافعي وجوب القيام مع القدرة.

3- استحباب الجلوس اليسير بين الخطبتين للفصل بينهما، وأوجبه بعض العلماء، والجمهور على أنه سنة لا واجب.

فائدة :

قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف لم أقف عليه بهذه الصيغة في الصحيحين.

وقال ابن حجر في " فتحٍ الباري " : وللنسائي والدارقطني من هذا الوجه "كان يخطب خطبتين قائماً، يفصل بجلوس". وغفل صاحب " العمدة " فعزا هذا اللفظ للصحيحين.

قلت: وبهذا تبين أن الحديث لم يرد في الصحيحين بهذا اللفظ، وإنما ورد بلفظ آخر، وهو من حديث ابن عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً، يجلس ثم  يقوم، كما يفعلون الآَن ".

فائدة ثانية:

قال ابن القيم ما خلاصته : كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، وكان يقصر الخطة ليطيل الصلاة، ويكثر الذكر، ويقصد الكلمات الجوامع، ويعلم أصحابه قواعد الإسلام، وكان يشير بالسبابة عند ذكر الله ودعائه، وكان يأمرهم بالدنو والإنصات، وينهى عن تخطى رقاب الناس، وكان إذا فرغ  بلا ل من الأذان شرع  صلى الله عليه وسلم في الخطبة.

الحديث الخامس

عَنْ أبي  هُرَيرة رضيَ الله عَنْهُ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أنصِتْ يَومَ الجُمُعَةِ وَالإمَامُ يَخطبُ فقدْ لَغَوتَ ".

غريب الحديث:

لغا: كغزا، أتى  بقول ساقط، ليس فيه فائدة. وفسره  النضر بن شميل بالخلو من الأجر.

المعنى الإجمالي:

من أعظم شعار الجمعة الخطبتان، ومن آداب المستمع الإنصات فيهما للخطيب، ليدبر المواعظ، ويؤمّن على الدعاء.

ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام، ولو بأقل شيء فإن من نهي صاحبه عن الكلام ولو بقوله: " أنصت " والإمام يخطب فقد لغا لأنه أتى بمنافٍ لسماع الخطبة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب الإنصات للخطيب يوم  الجمعة، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على وجوب ذلك.

2- تحريم الكلام حال سماع الخطبة وأنه منافٍ للمقام.

3- يستثنى من هذا من يخاطب الإمام أو يخاطبه الإمام، كما تقدم في قصة الذي دخل المسجد ولم يصل، وكما في قصة الأعرابي  الذي شكا إلى النبي  صلى الله عليه وسلم  القحط.

4- استثنى بعضِ العلماء من كان لايسمع الخطيب لِبُعْد، فإنه لاينبغي له السكوت بل يشتغل بالقراءة أو الذكر، وهو وجيه.

أما من لا يسمعه لصمم، فلا ينبغي أن يشغل من حوله بالجهر بالقراءة، ويكون ذلك بينه وبين نفسه.

الحديث السادس

عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عَنْهُ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ ثم رَاحَ في السَّاعَةِ الأوٍلَى فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بدَنَةَ، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَة الثانِيَةِ فَكَأنَّمَا قرَّبَ بَقَرَة، وَمَنْ رَاحَ في الساعَةِ الثالِثَةِ فَكَأنَّما قَرَّبَ كَبشاً أقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ في السَاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأنَّمَا قَرّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الخامِسَةِ فَكأنَّمَا قرَّبَ بَيْضَةً، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكرَ".

غريب الحديث:

راح: تأتي بمعنى السير في آخر النهار، كما تأتي بمعنى مطلق الذهابِ، وهو المراد هنا، ولذا أريد بها الذهاب في أول النهار لصلاة الجمعة. وما يزال  هذا مستعملا في نجد والحجاز وبعض بلاد الشام.

دجاجة: بفتح الدال وكسرها، يقع على الذكر والأنثى، والجمع دجاج، ودجادج. " حضرت الملائكة" : بفتح الضاد كسرها، لغتان. وقد جزم  المازري في  شرح مسلم أن وظيفة هؤلاء كتابة من حضر يوم الجمعة.

 البدنة: تطلق على الناقة والجمل والبقرة، ولكنها في الإبل أغلب، وهو المراد منها بهذا الحدث.

المعنى الإجمالي   :

يبين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الاغتسال والتبكير إلى الجمعة، ودرجات الفضل في ذلك.

فذكر أن من اغتسل يوم الجمعة قبل الذهاب إلى الصلاة، ثم ذهب إليها في الساعة الأولى، فله أجر من قرب بدنة وتقبلت منه.

ومن راح بعده في  الساعة الثانية فكأنما أهدى بقرة.

ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً ذا قرنين، وغالباً يكون أفضل الأكباش وأحسنها.

ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة.

ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة.

فإذا خرج الإمام للخطبة والصلاة، انصرفت الملائكة الموكلون بكتابة القادمين إلى سماع الذكر، فمن أتى بعد انصرافهم، لم يكتب من المقَرِّبين.

ما يؤخذ من الحديث:

1- فيه فضل الغسل يوم الجمعة، وأن يكون قبل الذهاب إلى الصلاة .

2- وفيه فضل التبكير إليها من أول ساعات النهار.

3- الفضل المذكور في هذا، مترتب على الاغتسال والتبكير جميعاً.

4- أن ترتيب الثواب، على المجيء إليها.

5- أن البدنة أفضل من البقرة في الهَدْي، وكذلك البقرة أفضل من الشاة.

 6- أن الكبش الأقرن  أفضل من غيره من سائر الغنم في الهَدْي والأضحية.

7- أن الصدقة مقبولة وإن قلَّتْ، لأنه جعل إهداء البيضة مقياساً في الثواب.

 8- أن الملائكة على أبواب المساجد، يكتبون القادمين، الأول فالأول، في المجيء إلى صلاة الجمعة.

9- وأنهم ينصرفون بعد دخول الإمام لسماع الذكر، فلا يكون للآتى بعد انصرافهم ثواب التكبير.

10- تقسيم هذه الساعات الخمس من طلوع الشمس إلى دخول الإمام بنسبة متساوية. وذكر الصنعاني  أن الساعة هنا لا يراد بها مقدار معين متفق عليه.

 11- القادمون في ساعة من هذه الساعات الخمس، يتفاوتون في السبق أيضاً فيختلف فضل قربانهم باختلاف صفاته.

12- أن فضل الناس عند الصنعاني  مرتب على أعمالهم بالجمعة وغيرها {إنَّ أكرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتقاكُم}  فلا حَسَب وَلاَ نسَبَ و لاَ نَشَبَ.

13- الهدي  الذي يراد به النسك فيما يتعلق بالحج والإحرام لا يكون إلا من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. أما الدجاجة والبيضة وغير ذلك فلا يجزئ في ذلك المقام، لأنه أراد في هذا الحديث مطلق الصدقة.

الحديث السابع

عن : سَلَمَةَ بن الأكوع - وكان من أصحاب الشجرة رضى الله عنه- قال : " كُنَّا نُصَلي مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم صَلاَةِ الجُمُعَةِ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيس َ لِلحِيطانِ ظِلّّ نستظِلُّ بِهِ ".

وفي لفظ: كُنَّا نجِّمع[88] مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم  إِذَا زَالَتِ الشمس، ثم نَرجِعُ فَنّتَتَبَّعُ الفيءَ[89].

المعنى الإجمالي :

يذكر " سلمة بن الأكوع "  رضىَ الله عنه أنه كان من عادة صلاتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة: أنهم كانوا يصلون مبكرين، بحيث إنهم يفرغون من الخطبتين والصلاة، ثم ينصرفون إلى منازلهم، وليس للحيطان ظل يكفي لأن يستظلوا به.

 والرواية الثانية: أنهم كانوا يصلون الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم يرجعون.

اختلاف العلماء:

اتفق العلماء على أن آخر وقت صلاة الجمعة هو آخر وقت صلاة الظهر. واختلفوا في ابتداء وقتها.

فذهب الأئمة الثلاثة: إلى أن وقتها يبتدئ  بزوال الشمس كالظهر. مستدلين  على ذلك بأدلة.

منها: ما رواه البخاري عن أن أنس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الجمعة حين تميل الشمس".

وذهب الإمام أحمد في  المشهور عنه: إلى دخول وقتها بقدر وقت دخول صلاة العيد، واستدل على ذلك بأدلة.

منها: الرواية الأولى في حديث الباب.

ومن أدلته  ما أخرجه مسلم وأحمد من حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها، حين تزول  الشمس ".

 وللجمهور تأويلات لهذه الأحاديث بعيدة.

والحق ما قاله " الشوكاني " في " نيل الأوطار": " ولا ملجىء إلى  التأويلات المتعسفة، التي ارتكبها الجمهور.

واستدلالهم بالأحاديث القاطعة، بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بعد الزوال، لا ينفي الجواز قبله ".

قلت: الأولى والأفضل، الصلاة بعد الزوال، لأنه الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه الوقت المجمع عليه بين العلماء، إلا أن يكون ثَمَّ حاجة، من حر شديد، وليس عندهم ما يستظلون به، أو يريدون الخروج لجهاد قبل الزوال، فلا بأس من صلاتها قبل الزوال.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية التبكير في الجمعة مطلقاً، سواء أكانوا في شتاء، أم صيف ويكون " حديث الإبراد " خاصًّا بالظهر.

2- ظاهر الحديث، جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، حيث كانوا يصلون، ثم ينصرفون، وليس هناك ظل يستظلون به، وهو الصحيح كما تقدم.

الحديث الثامن

عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم  يَقْرأُ في صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ " آلم تنزيل  " السجدة، وفي الثانية،- " هَل أتَى عَلَى الإنسَانِ ".

المعنى الإجمالي :

كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم  أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة " آلم تنزيل " و "هل أتى على الإنسان " لما اشتملت عليه من ذكر خلق آدم، وذكر المعاد وحشر العباد، وأحوال القيامة الذي كان وسيكون في يوم الجمعة، تذكيراً بتلك الحال عند مناسبتها.

وهكذا ينبغي أن يذكر كل شيء عند مناسبته، ليكون أعلق بالأذهان، وأحضر للقلوب، وأوعى للأسماع.

الأحكام :

1- استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة فجر يوم الجمعة.

2- ظاهر الحديث، المداومة عليهما من النبي صلى الله عليه وسلم، لإتيان الراوي بصيغة " كان ". قال ابن دقيق العيد: وفي  المواظبة على ذلك دائماً أمر آخر، وهو أنه ربما أدى الجهال  إلى اعتقاد أن ذلك فرض في  هذه الصلاة، فإذا انتهى الحال إلى أن تقع هذه المفسدة فينبغي أن تترك في بعض الأوقات دفعا هذه المفسدة.

ولكن تعقبه الصنعاني  فقال: إنه يتعين إشاعة السنن  وتعريف الجاهل لما يجهله، وإعلامه بالشريعة، ولا تترك السنة مخافة جهله، وما ماتت السنن إلا خيفة العلماء من  الجهال، وليس بعذر، فإن الله أمر بإبلاغ الشرائع. قلت: وكلام الصنعاني  وجيه جداً.

 بَابُ صَلاَةِ العيدَين

سمي عيداً لأنه يعود ويتكرر، والأعياد قديمة في الأمم، لكل مناسبة كبيرة يجعلون عيداً يُعِيدُون فيه تلك الذكرى، ويظهرون فيه أنواع الفرح والسرور. ولكونها أعياداً من تلقاء أنفسهم، فإن مظهرها يكون مادياً بحتاً.

وأمد الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعيد الفطر، وعيد الأضحى. يتوسعون فيهما بالمباحات، ويتقربون إلى ربهم بالطاعات، شكراً لله تعالى على ما أنعم عليهم به، من تسهيل صيام رمضان في الفطر، وسؤال قبوله، وعلى ما يسر لهم من أداء المناسك، والتقرب ببهيمة الأنعام في عيد الأضحى.

وشرع لهم الاجتماع للصلاة في هذين العيدين، ليتعارفوا ويتواصلوا، ويُنهَنِّئ بعضهم بعضاً، فيتحابوا، ويتآلفوا.

وتحقق هذه الاجتماعات الإسلامية من المصالح الدينية والدنيوية ما يدل على أن الإسلام هو الدستور الإلهي ، الذي أنزل الله لإسعاد البشرية.

قال ابن القيم في الهدى ما خلاصته: كان يصلي العيدين في المصلى دائماً ولم يصل في المسجد إلا مرة لما أصابهم مطر، وكان يلبس للخروج إلى صلاتي العيد أجمل ثيابه، كان يأكل قبل خروجه في عيد الفطر تمرات وترا، أما في الأضحى فلا يطعم حتى يعود من المصلى فيأكل من أضحيته، وكان يغتسل للعيد ويخرج إليهما ماشياً وقال: إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة بلا أذان ولا إقامة ولا " الصلاة جامعة " فإذا صلى قام مقابل الناس والناس جلوس فوعظهم، ويفتتح الخطبة بالحمد لله.

ورخص لمن يشهد صلاة العيد أن يجلس للخطبة أو أن يذهب، وكان يذهب من طريق ويعود من طريق آخر.

قال ابن دقيق العيد لا خلاف في أن صلاة العيدين من الشعائر المطلوبة شرعاً وقد تواتر بها النقل الذي يقطع العذر، ويغنى عن الأخبار الآَحاد، وأول صلاة عيد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة.

الحديث الأول

عَنْ عَبدِ الله بن عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَال: كَانَ النَبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأبُو بَكْرٍ وَعُمَر يُصَلُّونَ الْعِيدَين قَبْلَ الْخُطْبَةِ.

المعنى الإجمالي :

كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أن يصلوا بالناس صلاة العيد، في الفطر والأضحى، ويخطبوا، ويقدموا الصلاة على الخطبة.

ففيه تقديم الصلاة على الخطبتين، وتأتي بقية أحكامه في الأحاديث بعده.

الحديث الثاني

عَن البَرَاءِ بن عَازبٍ رَضيَ الله عَنهمَا قَالَ: خَطَبَنَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأضْحَى بَعْدَ الصَّلاة فَقَال : " من صَلَّى صَلاَتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصلاةِ فَلاَ نُسُكَ لَه.

فقال أبو بُرْدَةَ بن نِيَار - خال البراء بن عازب: يا رسول الله إني نَسَكتُ شاتي قَبلَ الصَّلاَةِ، وَعَرَفْتُ أنَّ اليوم يَومُ أكل وَشُرب وَأحْبَبْتُ أن تكُون شَاتي أوَّلَ مَا يُذْبَحُ في بَيْتي، فَذَبَحْتُ شَاتي وتغدَّيْتُ قبل أن آتي الصَّلاَةَ. قال: " شَاتُكَ شَاَةُ لَحمٍ ".

قال: يَا رَسُولَ الله، فَإنَّ عِنْدَنَا عَنَاقاً وَهِيَ أحَبُّ إِلَينا مِنْ شَاتَيْنِ، أفتجْزِى عَنى؟ قَالَ: " نَعَمْ وَلَن تُجزِيَ عَنْ أحَدٍ بَعْدَكَ ".

غريب الحديث:

نسك: النسك، الذبح، " والنسيكة " الذبيحة، ويأتيْ لمعان مجازية. ولكن المراد هنا ما ذكرنا.

وجمع "النسيكة " نسك، بضم السين. وأما سكونها فهو للعبادة.

عناقاً: العناق، الأنثى من ولد المعزى إذا قويت ولم تتم الحول، وهو بفتح العين وتخفيف النون.

المعنى الإجمالي :

خطب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد الأضحى بعد صلاتها .

فأخذ يبين لهم أحكام الذبح ووقته في ذلك اليوم، فذكر لهم أنه من صلى مثل هذه الصلاة، ونسـك مثل هذا النسك، اللذين هما هديه صلى الله عليه وسلم، فقد أصاب النسك المشروع.

أما من ذبح قبل صلاة العيد، فقد ذبح قبل دخول وقت الذبح فتكون ذبيحته لحماً، لا نُسُكاً مشروعاً مقبولا.

فلما سمع أبو بردة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله: إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي، فذبحت شاتي ، وتغديت قبل أن آتي إلى الصلاة.

فقال صلى الله عليه وسلم : ليست نسيكتك مشروعة، وإنما هي شاة لحم.

قال يا رسول الله : إن عندي عَنَاقا مُرَبّاة في البيت، وغالية في نفسي، وهي أحب إلينا من شاتين، أفتجزئ عنى إذا أرخصتها في طاعة الله ونسكتها؟

قال صلى الله عليه وسلم: " نعم " ولكن هذا الحكم لك وحدك من سائر الأمة، فلا تجزئ عنهم عناق من المعزى ما لم تُتم سنة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- فيه تقديم الصلاة على الخطبة في صلاة العيد، وأن هذا هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

2- وفيه أن من حضر الصلاة والذكر، ثم ذبح بعد الصلاة، فقد أصاب السنة، و حظى بالاتباع.

3- وفيه أن حضور الصلاة من علامات قبول النسك.

وأما من ذبح قبل الصلاة، فإن نسكه غير مقبول وغير مجزىء.

4- وأن وقت الذبح يدخل بانتهاء الصلاة. قال ابن دقيق العيد: ولاشك أن الظاهرمن اللفظ أن المراد فعل الصلاة، وإرادة وقتها خلاف الظاهر، فالحديث نص على اعتبار الصلاة، ولم يعترض لاعتبار الخطبتين. اهـ فمن ذبح قبله فلا يجزئ عنه ولو كان جاهلا قبل دخول وقتها.

5- وفيه أن يوم العيد يوم فرح وسرور، وأكل، وشرب، إذا أريد بذلك إظهار معنى العيد، فهو عبادة.

6- أنه لا يجزئ في الهدى والأضاحي من المعزى، إلا ما تم له سنة.

7- تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم أبا بردة بإجزاء العناق، فهو له من دون سائر الأمة.

8- قال ابن دقيق العيد: وفيه دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر فيها بالجهل، بخلاف المنهيات، فقد فرقوا في ذلك. فعذروا في المنهيات بالنسيان والجهل وقال الصنعاني: ويدل على ذلك أمره صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته بإعادتها مع تصريحه بأنه لا يحسن سواها، وكذلك أمر من نحر قبل الصلاة بالإعادة، وهذه قاعدة نافعة .

الحديث الثالث

عَنْ جُنْدُب بن عَبْدِ الله البجَليِّ رضيَ الله عَنْهُما قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ النَّحْرِ ثم خَطبَ ثُم ذَبَح وَقالَ: " مَنْ ذَبَح قَبلَ- أن يُصَلِّيَ فَلْيَذبح أخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذبَح فَلْيَذبَحْ بِاسمِ الله.

الغريب :

البجلي: بفتح الباء والجيم منسوب إلى قبيلته (بَجِيلة(.

فليذبح بسم الله : أي قائلاً: بسم الله، بدليل رواية ( فَلْيذْبَحْ على اسْم الله).

المعنى الإجمالي :

ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالصلاة، ثم ثنى بالخطبة، ثم ثلث بالذبح وقال مبيناً لهم:

من ذبح قبل أن يصلى، فاٍن ذبيحته لم تجزئ، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح بسم الله. مما دل على مشروعية هذا الترتيب الذي لا يجزئ غيره. وهذا الحديث أظهر وأدل من الحديث الذي قبله باعتبار دخول وقت الذبح بانتهاء صلاة العيد، لا بوقت الصلاة كما هو مذهب الشافعي، ولا بنحر الإمام كما هو مذهب مالك، وإنما بانتهاء الصلاة كما هو مذهب الحنفية والحنابلة. كما أن الحديث يدل على مشروعية ذكر اسم الله عند الذبح. ومعنى الحديث تقدم.

خلاف العلماء:

ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى أن الأضحية واجبة على الموسر لقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} وذهب الجمهور إلى أنها سنة مؤكدة. والأولى عدم تركها لمن قدر عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا ".

الحديث الرابع

عَنْ جَابر رَضَي الله عَنْهُ قال: " شَهِدْتُ مَع رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ العيد ، فَبَدَأَ بالصلاة قَبْل الخُطْبَةِ بِلاَ أذَانٍ وَلاَ إقَامَةٍ ، ثم قَامَ متَوَكِّئاً على بِلا ل، فَأمَرَ بِتَقوى الله وحَثَّ عَلىِ طَاعَتِهِ، ووَعَظَ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النِّساء فوعظهنَّ فقال يا معشر النِّساء : "تَصدَّقْنَ فإنَّكُنَّ أكثر حطب جهنَّم".

فَقَامَتِ امْرَأة من سطة النِّسَاء سَفْعاءُ الخَدَّين فَقَالتْ: لمَ يا رَسُول الله؟

قال : " لأنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاة وتكفرن العشير ".

قَال: فَجَعَلْن يَتَصَدَّقْن من حُليِّهِنَّ: يُلْقِينَ في ثَوْب بلاَل من أقْراطِهـنَّ وخَواتِيمِهِنَّ. رواه مسلم.

الغريب :

سِطَة النساء: بكسر السين وفتح الطاء المخففة، أي جالسة وسطهن.

سفعاء الخدين : قال في المحكم: السفَع السواد والشحوب.

الشَّكاة: هي بفتح الشين والقصر، بمعنى الشكاية، وهي الشكوى.

أقراطهن: هو جمع " قُرط " بضم القاف وهو ما يعلق بشحمة الأذن.

متوكئا: متحاملاً. حث: حرض. لم: أصله لما وحذفت الألف من ما، الاستفهامية بسبب اللام. الحُلِىّ: جمعُ حَلي: وهو ما يتخذ للزينة من المعادن الكريمة.

المعنى الإِجمالي :

صلي النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة العيد بلا أذان لها ولا إقامة فلما فرغ من الصلاة خطبهم فأمرهم بتقوى الله بفعل الأوامر واجتناب النواهي ولزوم طاعة الله في السر والعلانية، وأن يتذكروا وعد الله ووعيده ليتعظوا بالرهبة والرغبة، ولكون النساء في معزل عن الرجال بحيث لا يسمعن الخطبة. وكان حريصاً على الكبير والصغير، رؤوفا بهم، مشفقاً عليهم.

اتجه إلى النساء، و معه بلال، فوعظهن، وذكرهن، وخصهن بزيادة موعظة وَبَيَّنَ لهن أنهن أكثر أهل النار، وأن طريق نجاتهن منها الصدقة لأنها تطفىء غضب الرب .

فقامت امرأة جالسة في وسطهن وسألته عن سبب كونهن أكثر أهل النار ليتداركن ذلك بتركه فقال:

لأنكن تكثرن الشكاة والكلام المكروه، وتجحدن الخير الكثير إذا قصر عليكن المحسن مرة واحدة.

ولما كان نساء الصحابة رضى الله عنهم سبَّاقات إٍلي الخير وإلى الابتعاد عما يغضب الله أخذن يتصدقن بحليهن التي في أيديهن ، وآذانهن، من الخواتم و القروط، يلقين ذلك في حجر بلال، محبة في رضوان الله وابتغاء ما عنده.

ما يؤخذ من الحديث:

1- البداءة بصلاة العيد قبل الخطبة، وتقدم.

2- أنه ليس لصلاة العيد أذان ولا إقامة.

3- استحباب كون الخطيب قائماً.

4- أن يأمر الخطيب بتقوى الله تعالى، التي هي جماع فعل الأوامر وترك والنواهي مجملاً. ثم يفصّل من ذلك ما يناسب المقام.

5- تذكريهم بلزوم التقوى والطاعة لله، بذكر الوعد والوعيد فالمقاصد التي ذكرت في الحديث من الأمر بتقوى الله والحث على طاعته والموعظة والتذكير هي مقاصد الخطبة، وقد عدها بعض العلماء أركان الخطبة الواجبة .

6-  إفراد النساء بموعظة ، إذا كنّ بعيدات لا يسمعن الوعظ، أو كنَّ محتاجات لتذكير يخصهن .

7- أن النساء كن يخرجن إلى صلاة العيد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .

8- أن يتنحَّيْنَ عن الرجال ولا يخالطهم في المساجد ولا غيرها.

9- كون النساء أكثر الناس دخولا في النار بسبب شكواهن، وبسبب كفرهن نِعمَ الأزواج والمحسنين إليهن .

10- أن كلام الفاحش وكفر النعم سبب من دخول النار .

11- أن الصدقة من أسباب النجاة من عذاب الله تعالى.

12- مخاطبة نساء الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يهمهن أمره .

13- فقه نساء الصحابة و فهمهن، لأن هذه المتكلمة لما قال لهن النبي صلى الله عليه وسلم " إنهن أكثر أهل النار" فهمت أن هذا ليس ظلما من الله وحاشاه، وإنما بسبب الذنوب، فسألت عن هذا السبب الموجب لهن ذلك .

14- مبادرتهن إلى فعل الخير، إذ أسرعن إلى الصدقة رغبة ورهبة من الله .

15- أن المرأة الرشيدة تتصدق من مالها بغير إذن زوجها، وهو قول جمهور العلماء .

16- أخذ منه جواز ثقب الأذن المرأة .

الحديث الخامس

عَنْ أمِّ عَطِيَّة نُسيبة الأنصاريَّة رضي الله عنها قالت : أمرنا تعني النبي صلى الله عليه وسلم أن نُخْرِجَ في العيدين العواتق وذوات الخدورِ وأمر الحُيَّضَ أن يعتزلن مصلى المسلمين .

وفي لفظ : كنا نُؤْمَرُ أن نخرج يوم العيد، حتى نخرج البكر من خِدْرها، وحتى نخرج الحُيَّض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته.

غريب الحديث :

العواتق: جمع " عاتق " المرأة الشابة أول ما تبلغ.

ذوات الخدور: جمع " خدر " بكسر الخاء المعجمة أى سترها. وهو جانب من البيت، يجعل عليه سترة، يكون للجارية البكر.

يدعون ويرجون : الواو في هذين الفعلين من أصل الفعل، وليست واو جماعة ، حتى نخرج ، حتى الأولى للغاية ، وحتى الثانية للمبالغة .

طهرته : أي حصول تطهير الذنوب فيه .

المعنى الإجمالي:

يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى من الأيام المفضلة، التي يظهر فيها شعار الإسلام وتتجلى أخوة المسلمين باجتماعهم وتراصِّهم، كل أهل بلد يلتمون في صعيد واحد إظهاراً لوحدتهم، وتألفِ قلوبهم، واجتماع كلمتهم على نصرة الإسلام، وإعلاء كلمة الله. وإقامة ذكر الله وإظهار شعائره.

فيحل بهم من ألطاف الله وينزل عليهم من بركاته، ويشملهم من رحمته ما يليق بلطفه وجوده وإحسانه.

لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وحضّ على الخروج، حتى على الفتيات المخدرات، والنساء الحيض، على أن يكن في ناحية بعيده عن المصلين، ليشهدن الخير ودعوة المسلمين فَيَنَلْنَ مِن خير ذلك المشهد، ويصيبهن من بركته، ما هن في أمسِّ الحاجة إليه، من رحمة الله ورضوانه.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في حكم صلاة العيد.

فذهب الإمام " أحمد " في المشهور عنه إلى أنها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفى سقطت عن الباقين.

ودليله على هذا القول: أنها صلاة لم يشرع لها أذان ولا إقامة، فلم تجب على الأعيان.

وحديث الأعرابي الآتي، يدل على أنه لا يجب فرض عين إلا الصلوات الخمس.

وذهب " مالك" و" الشافعي" في المشهور عند أصحابه إلى أنها سنة مؤكدة.

ودليلهم كل هذا، حديث الأعرابي الذي ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أن عليه خمس صلوات فقال: هل عَلَيَّ غيرهن؟ " قال: لا، إلا أن تطوع ".

و ذهب " أبو حنيفة " وروى عن الإمام " أحمد" واختاره شيخ الإسلام " ابن تيمية " إلى أنها فرض عين.

واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِربِّكَ وَانْحَرْ} {قد أفلحَ من تزكى . وَذَكَر اسْمَ ربِّهَ فَصلى} في بعض أقوال المفسرين أن المراد بالصلاة في هاتين الآيتين، صلاة العيد. ولأمره بخروج العواتق والمخدرات، وأمرهم بصلاتها من الغد حين لم يعلموا برؤية الهلال إلا بعد انتهاء وقتها.

والأمر في كل هذه الأدلة يقتضي الوجوب، وكذلك مداومته عليها وخلفاؤه من بعده.

أما حديث الأعرابي، فليس فيه ما يدل على عدم وجوبها لأن سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم وإجابته إياه بصدد ما يتكرر في اليوم والليلة من الصلوات المفروضات، لا ما يكون عارضا لسبب، كصلاتي العيدين اللتين هما شكر لله تعالى على توالى نعمه الخاصة، بصيام رمضان وقيامه، ونحر البدن، أداء المناسك.

وشيخ الإسلام " ابن تيمية " يميل إلى وجوبها على النساء لظاهر حديث هذا الباب.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب صلاة العيد حتى على النساء في ظاهر الحديث. على شرط ألا يخرجن متبرجات متعطرات لورود النهي عن ذلك. ولعله مستحب في حقهن ويكون أمرهن من باب الحضِّ على فعل الخير.

2- وجوب اجتناب الحائض المسجد لئلا تلوثه.

3-  أن مصلى العيد له حكم المساجد.

4- أن الحائض غير ممنوعة من الدعاء وذكر الله تعالى.

5- فضل يوم العيد وكونه مرجوًّا لإجابة الدعاء، وسماع النداء من العَلِيِّ الأعلى.

التكبير في العيدين

وهو ملخص من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

وقته: أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والخلف والأئمة أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، عقب كل صلاة مفروضة، وعند خروجه إلى العيد. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة.

صفته: وصفة التكبير المنقول عن أكثر الصحابة ما روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر. الله أكبر، ولله الحمد"، ومن الفقهاء من يكبر ثلاثا فقط، ومنهم من يكبر ثلاثا ويقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" وهو مروي عن ابن عمر. واختار الأول أبو حنيفة وأحمد وغيرهما. ومن الناس من يثلثه أول مرة، ويشفعه ثاني مرة، ويعمل به طائفة من الناس.

وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد، وهي أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف ونوعى الأذان ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها وأنواع التشهدات وأنواع الاستفتاحات وأنواع الاستعاذات وأنواع تكبيرات العيد الزوائد وأنواع صلاة الجنازة والقنوت بعد الركوع وقبله وغير ذلك، ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن يجمع في العبادات المتنوعة في الوقت الواحد والجمع بينها في مقام واحد من العبادة بدعة، وكذلك التلفيق والجمع بينها لا يشرع، والصواب التنويع في ذلك متابعة للنبي وإحياء لجميع سننه بعمل هذا مرة، وعمل الآخر مرة أخرى، ففيه تأليف قلوب الأمة وإحياء للسنة ومتابعة له صلى الله عليه وسلم.

التكبير عند الأمور الهامة

قال رحمه الله : إذا كانت السنة قد جاءت بالتكبير في عيد النحر في صلاته وخطبته ودبر صلواته وعند رمي الجمار وعند الفراغ من الصيام وعند هدايته، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال : " الله أكبر خرجت خيبر " وكان يكبر إذا أشرف على محل، وإذا ركب دابته، وإذا صعد الصفا والمروة، وجاء التكبير في الأذان والإقامة للصلاة وعند الدخول في الصلاة، وعند إطفاء الحريق، وشرع التكبير الدفع العدو ودفع الشياطين .

وهذا كله يبين أن التكبير مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال، أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة، ليبين أن الله أكبر وتستولي كبرياؤه على القلوب، فيكون الدين كله لله، ويكون العباد له مكبرين، فيحصل لهم مقصودان : مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه، ولهذا شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر، لأن هذه الثلاث أكبر ما يطلبه العبد، وهي مصالحه، فخض بصريح التكبير، لأنه أكبر نعمة الحق . فجماع هذا أن التكبير مشروع عند كل أمر كبير أهـ.

ولهذا فإني أهيب بجميع المسلمين أن يفزعوا إلى التكبير عندما يعجبهم أمر، فهذا سنة نبيهم، وليس التصفيق الذي جاءنا من أعدائنا المستعمرين، وخاصة في اجتماعاتهم و مؤتمراتهم .

 بَابُ صَلاَة الكسوف

الكسوف والخسوف، يطلق الأول على ذهاب ضوء الشمس أو بعضه والثاني  على ذهاب ضوء القمر أو بعضه في  الغالب والفصيح.

وللكسوف والخسوف أسباب عادية حسية، تدرك بعلم حساب سير الشمس والقمر، كما أن لهما أسباباً معنوية خفية، وكل من هذه الأسباب الحسية والمعنوية إلهي.

فعندما تقتضي الحكمة الإلهية تغير شيء  من آيات الله الكونية، كالكسوف والخسوف والزلازل، ليوقظ الناس من الغفلة من عبادته، أو يزجرهم عن ارتكاب مناهيه، يقدر الأسباب الحسية العادية لتغيير هذا النظام الكوني، من ذهاب نور أحد النورين. أو ثوران البراكين. وهبوب الرياح أو قصف الصواعق أو غير ذلك من آيات كونه.

ليعلم العباد أن وراء هذه  الأكوان العظيمة مدبراً قديراً، بيده كل شيء، وهو محيط بكل شيء.

فهو قادر على أن يعاقبهم بآية من آياته الكونية، أهلك الأمم السابقة بالصواعق والرياح والطوفان والزلازل والخسوْف.

كما  أنه قادر على أن يسلبهم نور الشمس  والقمر، فيظلوا في أرضهم يعمهون أو يصيبهم بالقحط، فتذوى أشجارهم، وتجف أنهارهم، ولينبههم على أن الكون في قبضته، فيرهبوا جنابه، ويخافوا عقابه.

ولكننا قد أصبحنا في  زمن المادة وطغيانها، فصار الناس لا يدركون من تغير  هذه الآيات إلا المعاني المادية، ونسوا أو جهلوا، المعاني المعنوية من التحذير من عقاب الله، وتذكير نعمه فإنا لله وإنا إليه راجعون .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ما خلاصته:

الخسوف والكسوف لهما أوقات مقدرة  كما لطلوع الهلال وقت مقدر وذلك ما أجرى الله عليه أمره بالليل والنهار والشتاء والصيف وسائر ما يتبع جريان  الشمس والقمر وذلك من آيات الله تعالى {وهو الذي جعل الشمس ضياء وجعل القمر نورا وقدره منازل} وقال : {الشمس والقمر بحسبان} وكما أن العادة التي أجراها الله تعالى أن الهلال لا يستهل إلا ليلة ثلاثين أو إحدى وثلاثين فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الإسرار وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار. لكن العلم  في العادة في الهلال علم عام يشترك فيه جميع الناس وأما العلم بالعادة بالكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانها، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب ولا من باب ما يخبر به الذي يكون كذبه به فيها أعظم من صدقه فإن ذلك قول بلا علم ثابت الذي نهى عن إتيانهم ومسألتهم .

والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكنا لكن المخبر المعين قد يكون عالما بحسابه و قد لا يكون، فإذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شوهد ذلك، وإذا جوز الإنسان صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنه فنوي أن أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته فإن الصلاة عند الكسوف متفق عليها بين المسلمين وقد تواترت بها السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم .

الحديث الأول

عَنْ عَاِئشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ الشَّمس خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ مُنَادياً يُنَادِي: الصلاَةَ جَامِعَة، فَاجتَمَعُوا. وَتَقَدَّمَ فَكَبرَّ وَصلَّى أربَعَ رَكَعَاتٍ في ركعَتَين  وَأربعَ سَجَدَاتٍ.

الغريب :

خسفت: جوز فيه فتح الخاء والسين وضم الخاء وكسر السين.

الصلاة جامعة: نصب الأول على الإغراء، والثاني  على الحال، وفيها  غير هذا الإعراب، ولكن هذا هو الأولى.

المعنى الإجمالي :

خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً في  الشوارع والأسواق ينادى الناس (الصلاة جامعة) ليصلوا ويدعو الله تبارك وتعالى أن يغفر لهم ويرحمهم وأن يديم عليهم نعمه الظاهرة والباطنة.

واجتمعوا في مسجده صلى الله عليه وسلم  وتقدم بلا إقامة، فكبر وصلى ركعتين في سجدتين، وركعتين في  سجدتين كما يأتي  تفصيل ذلك في  حديث عائشة رضي الله عنها.

ما يؤخذ من الحديث :

1- وجود خسوف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

2- استحباب الصلاة  عند الخسوف، ونقل النووي الإجماع على أنها سنة.

3- مشروعية الاجتماع لها لأجل التضرع والدعاء، والمبادرة بالتوبة والاستغفار لأن سبب ذلك الذنوب.

4- أنه ليس  لها  أذان، وإنما ينادى لها بـ"الصلاة جامعة".

5- أن صلاة الكسوف أربع ركعات، وأريع سجدات، ويأتي تفصيل ذلك وكيفيته  إن شاء الله تعالى.

الحديث الثاني

عن أبي  مسَعُودٍ، عُقْبَةَ بن عَامِر الأنصَارِيِّ رضيَ الله عَنْهُ قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الشَّمسَ وَالقَمَرَ آيتان مِنْ آيات الله، يُخَوِّفُ الله بِهمَا عِبادَهُ، وَإِنَّهُمَا لا ينكَسِفَانِ لمَوْتِ أحَدٍ مِنَ النَّاسَ وَلاَ لحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأيتم ْ مِنْهُمَا شَيْئَاً فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَابكم.

المعنى الإجمالي :

بين صلى الله عليه وسلم  أن الشمس والقمر من آيات الله الدالة على قدرته وحكمته، وأن  تغيُّر  نظامهما الطبيعي، لا يكون لحياة العظماء أو موتهم كما  يعتقد أهل الجاهلية .

 وإنما يكون ذلك لأجل تخويف العباد، فيجددوا التوبة والإنابة إلى الله  تعالى.

ولذا أرشدهم أن يفزعوا إلى الصلاة و الدعاء، حتى ينكشف ذلك عنهم وينجلي . ولله في كونه أسرار وتدبير.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية الصلاة والدعاء عند الكسوف والخسوف، رجوعاً إلى الله.

2- أن انتهاء الصلاة يكون بالتجلي فإن انتهت قبل التجلي تضرعوا ودعوا، حتى يزول ذلك، فإنه لم يرد في إعادتها شيء.

3- ظاهر الحديث أنهم يصلون، ولو صادف وقت نَهْي وهو الصحيح. لأنها من ذوات الأسباب التي تصلي عند وجود سببها  مطلقا.

وتقدم الخلاف في  هذه الصلاة ونظائرها في " باب المواقيت".

4- أن الحكمة في إيجاد الكسوف أو الخسوف، هو تخويف العباد، وإنذارهم بعقاب الله تعالى، وإزعاج القلوب الساكنة بالغفلة وإيقاظها وإطلاع الناس على نموذج مما يقع يوم القيامة، والإعلام أنه يؤخذ بالذنب من لا ذنب له، ليحذر المذنب من ذنبه، و يحذّر المطيعُ العاصيَ، وكل هذه المعاني  الروحية لا تنافي وجود الأسباب المادية العادية. وقد تقدم شرح ذلك.

الحديث الثالث

عَنْ عَائِشةَ رَضي الله عَنْهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشمسُ عَلَى عَهدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فَقَامَ فَصَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بالنَّاس فَأطَالَ القِيَام، ثُمَّ رَكَعَ فَأطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأطَالَ القيَامَ وَهو دُونَ القِيَام الأوَّلِ، ثم  رَكَعَ فَأطَالَ الرُّكوعَ وهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُم سَجَدَ فَأطَالَ  السُّجُودَ، ثم فَعَلَ في الركعَةِ الأخْرَى مِثْل مَا فَعَل في الركْعَةِ الأولى، ثُمَّ انصرَفَ وَقَدْ انجَلتِ الشَّمْسُ، فَخَطبَ الناسَ فَحَمِدَ الله وأثنَى عَليهِ ثم  قالَ:

" إن الشَّمس و القَمَر آيتانِ مِنْ آيَاتِ الله لاَ تنْخَسِفَانِ لِمَوتِ أحد. وَلاَ لِحَيَاتِهِ. فَإذَا رَأيتمْ ذلك  فَادعُوا الله وَكبروا وَصَلُّوا وَتَصَدَّ قوا".

ثم قال: " يَا أمةَ مُحمَّد " : والله مَا مِنْ أحَد أغَْيَرُ مِنَ الله سُبْحَانَهُ من أن يَزْنَي عَبْدُهُ أوْ تَزني أمَتُهُ. يَا أمةَ مُحَمد، وَالله لو تَعْلمُونَ مَا أعلم  لضَحكْتُمْ قَليلاً وَلَبَكَيتم كثِيراً ".

و في لفظ: فَاستكْمَلَ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأرْبَع سَجَدات.

الغريب :

أغير: يجوز فيه الرفع على أن (ما) تميمية، والنصب على جعلها حجازية. وهو الأولى.

و (من) زائدة مؤكدة في الوجهين.

و " أغير" أفعل تفضيل من " الغيرة "- بالفتح- وهى في الأصل، تغير يحصل من الحمية والأنفة، ونثبتها لله  إثباتاً يليق بجلاله.

المعنى الإجمالي :

خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فصلى بالناس فأطال القيام، بحيث قدر بقراءة سورة " البقرة " ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فقال: " سمع الله لمن حمده، رَبنا ولك الحمد" فقرأ قراءة طويلة دون القراءة الأولى.

ثم ركع فأطال الركوع، وهو أخف من الركوع الأول ثم سمَّع وحمَّد، ثم سجد وأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثالثة مثل الأولى، حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، ثم انصرف من الصلاة، وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه.

وحدث أن صادف ذلك اليوم الذي حصل فيه الخسوف موت ابنه " إبراهيم " فقال بعضهم: كسفت لموت إبراهيم، جرياً على عادتهم في الجاهلية من أنها لا تكسف إلا لموت عظيم أو حياة عظيم.

أراد النبي  صلى الله عليه وسلم  من نصحه وإخلاصه في  أداء رسالته، ونفع الخلق- أن يزيل ما علق بأذهانهم من هذه  الخرافات، التي لا تستند لا إلى نقل صحيح، ولا عقل سليم.

فقال في خطبته: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يجريهما الله تعالى بقدرته لِيخوفَ بهما عباده، ويذكرهم نعَمَه.

فإذا رأيتم  ذلك فافزعوا إلى الله  تعالى تائبين منيبين، وادعوا، وصلوا، وكبروا، و تصد قوا.

ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يفصل لهم شيئاً من معاصي الله الكبار، التي توجب غضبه وعقابه.

ويقسم في هذه الموعظة- وهو  الصادق المصدوق- يا أمة محمد، والله، ما من أحد أغير من الله سبحانه أن يزني  عبده، أو تزني  أمته.

ثم بين أنهم لا يعلمون عن عذاب الله إلا قليلاً، ولو علموا ما علمه صلى الله عليه وسلم  لأخذهم الخوف والفرق، ولضحكوا سروراً قليلا، وليبكوا واغتموا كثيراً.

ربنا أجرنا من عذابك، وارحمنا برحمتك، التي  وسعت كل  شيء، ووالدينا، ومشايخنا ، وأقاربنا، والمسلمين أجمعين، آمين.

تنبيه :

تلاحظ أن في صفة صلاة الكسوف تفصيلاً لا يوجد في الحديث الذي معنا، وقد أخذته من الرواية  الأخرى عن عائشة الموجودة في الصحيحين أيضا لتكمل الفائدة.

تنبيه آخر:

وردت صلاة الكسوف  على كيفيات متعددة.

منها الأمر بالصلاة مجملا.

ومنها ركعتان، ومنها أربع ركعات، ومنها ست ركعات، ومنها ثمان ركعات، ومنها عشر ركعات.

وفي كل هذه الوجوه، لم يرد إلا أربع سجدات رويت هذه الأوجه المتعددة مع أن الخسوف لم يقع إلا مرة واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لذا رجح الأئمة الكبار والمحققون، حديث عائشة الذي معنا على غيره من الروايات وهو أربع ركعات، وأربع سجدات، وماعداها فقد ضعفه الأئمة "أحمد" و" البخاري " و " الشافعي "، وكذلك شيخ الإسلام " ابن تيمية ".

 اختلاف العلماء :

اختلف العلماء: هل لصلاة الكسوف خطبة مستحبة أو لا؟.

فذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة إلى أنه ليس لها خطبة.

وذهب الشافعي، وإسحاق، وكثير من أهل الحديث : إلى استحبابها لهذه الأحاديث.

والأرجح، التفصيل. وهو أنه، إن احتيج إلى الخطبة وإلى موعظة الناس وتبيين أمر لهم استحبت كفعل النبي صلى الله عليه وسلم  لما قال الناس: كسفت الشمس  لموت إبراهيم.

وان لم يكن ثَمَّ  حاجة، فليس هناك إلا الدعاء، والاستغفار، والصلاة.

ما يؤخذ من الحديث :

1- وجود خسوف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- مشروعية الصلاة، والجمهور على أنها سنة مؤكدة.

3- الإتيان بالصلاة على الوصف المذكور في هذا الحديث وقد فصلناها بالشرح مستمدين بعض التفصيلات من الرواية الأخرى في  الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها.

4- مشروعية التطويل بقيامها، وركوعها، وسجودها.

5- كون كل ركعة أقل من التي  قبلها، دفعا للضجر والسآَمة.

6- أن يكون ابتداء وقت الصلاة من الكسوف، وانتهاؤها بالتجلي.

7- مشروعية الخطبة إذا دعت الحاجة إليها.

8- ابتداء الخطبة بحمد الله ، والثناء عليه، لأنه من الأدب.

9- بيان أن الشمس والقمر من آيات الله الكونية، الدالة على قدرته وحكمته.

10- كون الكسوف يحدث لتخويف العباد، وتحذيرهم عقاب الله تعالى. وقد قلنا: إن هذا لا ينافي  الأسباب العادية.

11- إزالة ما علق بأذهان أهل الجاهلية من أن الكسوف والخسوف، أو انقضاض الكواكب، إنما هو لموت العظماء أو لحياتهم.

12- الأمر بالدعاء، والصلاة، والصدقة، عند حدوث الكسوف أو الخسوف.

13- أن فعل هذه العبادات، يقي من عذاب الله وعقابه.

14- تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الزنا، وأنه من الكبائر، التي  يغار الله تعالى عند ارتكابها.

15- إثبات صفة الغيرة لله  تعالى، إثباتا يليق بجلاله- بلا تعطيل ولا تأويل. ولا تشبيه. قال الصنعاني  رحمه الله تعالى: إذا وردت صفة من  صفات الله تعالى موهمة بمشابهة المخلوقين كورود لفظ اليد والعين ونحوهما، ومنه الغيرة فقد اختلف العلماء في تلك الصفة هل يؤمن بها مع القطع بأنه تعالى ليس كمثله شيء  في صفاته ولا ذاته، ويوكل معرفة كيفيتها وكيفية تعلقها بالله تعالى إلى الله ونجريها على ما أجراه الله تعالى ورسوله من غير تأويل ولا تكييف؟ وهو مذهب سلف هذه الأمة، والتأويل طريقة المتأخرين، والحق أن الأولى بالمؤمن اتباع الطبقة الأولى، فإنه لا يحيط بالصفة وكيفيتها إلا من أحاط بكيفية ذات الموصوف، فكل صفاته يجب الإيمان بها من غير تكييف ولا تشبيه ولا  تأويل. اهـ بتصرف يسير.

16- شدة ما أعده الله من العذاب لأهل المعاصي، مما لا يعلمه الناس، ولو علموه لاشتد خوفهم وقلقهم فقد رجح ما يوجب الخوف على ما يوجب الرجاء، لما جبلت عليه النفوس من الميل والإخلاد إلى  الشهوات، وهو مرض خطير، لابد أن يقابل بما يضاده من التحذير والتخويف.

17- أن الله سبحانه وتعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على علوم من الغيب، لا تحتمل الأمة علمها.

الحديث الرابع

عن  أبي  مُوسى  الأشْعَرِي رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشمس عَلَى زَمَانِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  فَقَامَ فزعاً يَخْشىَ أن تكون الساعَةُ، حَتى أتى المَسْجِدَ فَقَامَ فَصَلَّى بأطْوَلِ قيام ، وَرُكُوع و سُجُوِدٍ ، مَا رَأيتُهُ يَفْعَلهُ في صَلاَةٍ قَطُّ، ثم قال:

" إنَّ هذهِ الآيات التي يُرْسِلها الله تَعَالى لا تَكون لموتِ أحد وَلا لحَيَاتِهِ، وَلكنَّ الله يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بهَا عِبَادَهُ، فَإذَا رَأيتم مِنْهَا شَيْئا فَافزعُوا إلى ذِكر الله وَدعَائِهِ واسْتِغْفَارهِ ".

الغريب :

1- أن تكون الساعة:- يجوز في " الساعة " الرفع، على أن " تكون " تامة، والنصب على أنها  ناقضة.

2- فزعا: منصوب على الحال، ووجه فزعه أن تكون الساعة.

3- " فافزعوا" بفتح الزاى. قال في "المجمل": فزعت، وافزعني  أي لجأت وأغاثني.

وقال المبرد في  " الكامل ": الفزع في كلام العرب على وجهين: أحدهما ما تستعمله العامة، يريد ون به الذعر. والآخر، الالتجاء والاستصراخ.

المعنى الإجمالي :

كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا حصل تغيُّرٌ في العوالم الكونية، من ريح شديدة، أو رَعْد قاصف، أو كسوف أو خسوف، حصل عنده خوف من عذاب الله تعالى أن يحل  بهذه الأمة ما حل بالأمم السابقة ممن أهلك بالصواعق أو الريح أو الطوفان.

ولذا لما حصل خسوف الشمس، قام فزعاً، لأن معرفته الكاملة بربه، أوجبت له أن يصير منه كثير الخوف وشديد المراقبة.

فدخل المسجد، فصلى بالناس صلاة الكسوف، فأطال فيهم إطالة لم تعهد من قبلُ إظهاراً للتوبة والإنابة.

فلما فرغ المصطفى من  مناشدته ربه ومناجاته، توجه إلى الناس يعظهم، ويبين لهم أن هذه الآيات يرسلها الله عبرة لعباده، وتذكيراً وتخويفاً، ليبادروا إلى الدعاء، والاستغفار، والذكر، والصلاة.

وتقدمت أحكام هذا الحديث بالذي قبله.

قال ابن دقيق العيد: قوله: " فافزعوا " إشارة إلى المبادرة إلى ما أمر به، وتنبيِه على الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء والاستغفار وإشارة إلى أن الذنوب  تسبب البلايا والعقوبات العاجلة والآجلة، إشارة إلى أن الاستغفار والتوبة سببان لمحو الذنوب، وسبب لزوال المخاوف.

 بَابُ الاستِسقَاء

هو لغة: طلبك السقيا لنفسك أو لغيرك.

وشرعا  : طلبها من الله تعالى عند حصول الجدب على وجه مخصوص.

صلاة الاستسقاء من ذوات الأسباب التي  تشرع عند وجود سببها كالكسوف، وصلاة الجنازة.

وسببها: تضرر الناس بالقحط من انقطاع الأمطار، أو تغَوُّر الآبار، أو جفاف الأنهار.

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بن عَاصِم المَازنيِّ  قال: خَرَج النبي صلى الله   يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلى القِبلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَين جَهَرَ فِيهِمَا بالقِرَاءَةِ، وفي لفظ: أتَى المُصَلَّى[90].

المعنى الإجمالي :

لما أجدبت الأرض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، خرج بالناس إلى الصحراء، ليطلب السقيا من الله تعالى.

فتوجه إلى القبلة، مظنة قبول الدعاء، وأخذ يدعو الله أن يغيث المسلمين، ويزيل ما بهم من قحط.

وتفاؤلا بتحول حالهم من الجدب إلى الخصب، ومن الضيق إلى السعة، حوَّل رداءه من جانب إلى آخر، ثم صلى بهم صلاة الاستسقاء ركعتين، جهر فيهما بالقراءة لأنها  صلاة جامعة.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية صلاة الاستسقاء، وأجمع العلماء على استحبابها اٍلا أبا حنيفة فإنه يرى أن الاستسقاء يشرع بمجرد الدعاء، وخالفه أصحابه .

2- أنه يشرع لها خطبة، تشتمل على ما يناسب الحال، من الاستغفار، والتضرع ، والدعاء ، والزجر عن المظالم والأمر بالتوبة.

3- أن تكون الخطبة قبل الصلاة، وقد ورد في بعض الأحاديث.

ففي مسند الإمام أحمد أنه يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وهو مذهب  جمهور العلماء  من الشافعية والحنابلة وغيرهم .

وعن الإمام أحمد في ذلك ثلاث روايات :

       أ- تقديم الصلاة.       ب-  عكسها.        جـ- وجواز الأمرين.

4- استقبال القبلة عند الدعاء، لأنها مظنة الإجابة.

5- مشروعية تحويل الرداء أثناء الدعاء، تفاؤلاً بتحول حالهم من القحط والجدب إلى الرخاء والخصب.

6- الجهر في صلاة الاستسقاء بالقراءة، وهذا شأن كل صلاة تكون جامعة، كالجمعة، والعيدين، والكسوف .

7- أن تكون صلاتها في الصحراء، لتتسع للناس، وليبرزوا بضعفهم، وعجزهم أمام الله  تعالى ، مادِّين يدَ الافتقار والذلِّ.

الحديث الثاني

عَن أنس بن مَالِك: أنَّ رَجُلا دَخَلَ المَسْجِدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَاِئمٌ يَخطبُ.

فاستقْبَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  قَاِئماَ ثمَّ قَال: يَا رسُولَ الله، هَلَكَتِ الأموَالُ وَانقَطعتِ السُّبُلُ فادع الله يُغِثْنَا.

قال: فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم  يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ: " اللهُمَّ  أًغِثنا، الّلهُمَّ أغِثنا، اللهُم  أغثنا ".

قال أنس: فَلاَ وَالله مَا نَرَى في السمَاءِ مِنْ سَحَاب وَلاَ قزَعةٍ  وَمَا بيننَا وَبَين  سَلع مِنْ بَبْتِ وَلاَ دَارٍ.

قال: فَطَلَعَت مِنْ وَرَاَئِهِ سَحَابَة مِثلُ التُّرس، فَلمَّا تَوَسطَتِ السمَاءَ، انتشرَتْ ثُمَّ أمطَرَتْ.

قَال: فَلا والله مَا رأينا  الشمسَ سَبْتاَ.

قال: ثم دَخَلَ رَجل  مِنْ ذلِكَ البَابِ في الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ الله قائم يخطبُ فَاستقْبَلَهُ قَاِئما فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكتِ الأموَالُ وَانقَطَعَتِ السبلُ، فَادعُ الله  يُمسِكْهَا عَنَّا.

قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم  يَدَيْهِ ثم  قَالَ: " الَلهُم  حوَالينا وَلا عَلَينا، الّلهُم عَلى الآكام وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأوْدِية وَمَنَابِتِ الشجَرِ " قال: فاقلعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشى في الشَّمس.

قال شَريك: فَسَألتُ اُنسَ بنَ مَالكٍ أهُوَ الرجُلُ الأول ؟ قال: لاَ أدرِى.

الظِّراب: الجبال الصغار. و "والآكام " جمع " أكمة " وهي أعلى من الرابية ودون الهضبة و " دار القضاء ": دار عمر بن الخطاب رضي الله عنه سميت بذلك، لأنها بيعت في قضاء دينه.

الغريب :

دار القضاء: دار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، بيعت لقضاء دينه بعد وفاته، غربي  المسجد.

يغثنا : هو بالجزم  لأنه جواب الطلب.

ولا قزعة: " القزعة " القطعة الرقيقة من السحاب، بفتح القاف والزاى  والعين.

سَلْع: بفتح السين وسكون اللام، جبل قرب المدينة وهو في الجهة الغربية الشمالية منها، وقد دخل الآن في العمران.

الترسْ: صفيحة  مستديرة  من حديد، يتَّقُونَ بها في الحرب ضربَ السيوف.

الآكام والظراب : " الآكام " التلون المرتفعة من الأرض " والظراب " الروابي والجبال الصغار، ومفرد  " الآكام " أكمه. و" الظراب " جمع "ظَرِب" بفتح الظاء وكسر الراء .

ما رأينا الشمس سبتاً بكسر السين وفتحها: يعنى أسبوعا، من باب تسمية الشيء ببعضه.

يمسكها: يجوز فيه  الرفع، ويجوز الجزم في جواب الطلب.

المعنى الإجمالي:

كان النبي صلى الله عليه وسلم  قائما يخطب  في مسجده يوم  الجمعة، ودخل رجل، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم  ثم قال: يا رسول الله - مبيناً للنبي  عليه الصلاة والسلام، ما فيهم من الشدة والضيق، بسبب انحباس المطر الذي جُلُّ معيشتهم عليه، وطلب منه الدعاء لهم بتفريج  هذه الكربة - هلكت الحيوانات من عدم الكلأ، وانقطعت الطرق، فهزلت الإبل التي نسافر ونحمل عليها.

ولكونك القريب من الله  تعالى، مستجاب الدعاء، ادعُ الله أن يغيثنا، فبالغيث يزول عنا الضرر، ويرتفع  القحط.

فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا" ثلاث مرات، كعادته في الدعاء، والتفهيم في الأمر المهم.

ومع أنهم لم يروا في تلك الساعة في السماء من سحاب ولا ضباب إلا أنه في أثر دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم ، طلعت من وراء جبل " سلع " قطعة صغيرة،  فأخذت ترتفع.

فلما توسطت السماء، توسعت وانتشرت، ثم أمطرت، ودام المطر عليهم سبعة أيام.

حتى إذا كانت الجمعة الثانية، دخل رجل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم  قائم  يخطب الناس، فقال- مبيناً أن دوام المطر، حَبسَ الحيوانات في أماكنها عن الرَّعْي، حتى هلكت، وحبس الناس عن الضرب في الأرض والذهاب والإياب في طلب الرزق- فادع الله أن يمسكها عنا.

فرفع يديه  ثم قال ما معناه: اللهم إذا قدرت بحكمتك استمرار هذا المطر، فليكن حول المدينة لا عليها، لئلا يضطرب الناس في معاشهم، وتسير بهائمهم إلى مراعيها، وليكون نزول هذا المطر في الأمكنة التي ينفعها نزوله، من الجبال، والروابي، والأودية، والمراعي .

وأقلعت السماء عن المطر فخرجوا من المسجد يمشون، وليس عليهم مطر. فصلوات الله وسلامه عليه.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية الخطبة قائماً وإباحة مكالمة الخطيب، وتقدم في الجمعة هذا البحث.

2- مشروعية الاستسقاء في الخطبة، واقتصر عليها أبو حنيفة، بدون  صلاة والجمهور على أن الاستسقاء يكون بصلاة خاصة، وخطبة الجمعة وفي الدعاء وحده.

3- رفع اليدين في الدعاء، لأن فيه معنى الافتقار، وتحرِّي معنى الإعطاء فيهما، وقد أجمع العلماء على رفعهما في هذا الموقف واختلفوا فيما عداه، فبعضهم عدّاه إلى كل حالة دعاء، وبعضهم قصره على المواطن الوارد فيها. فال الحافظ ابن حجر: إن في رفع اليدين في الدعاء مطلقاً أحاديث كثيرة. عند البخاري والمنذريّ والنووي .

4- معجز من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم  وكراماته، الدالة على نبوته، فقد استجيب دعاؤه في الحال، في جلب المطر ورفعه.

5- أن فعل الأسباب لطلب الرزق، من الدعاء، والضرب في الأرض، لا ينافي التوكل  على  الله تعالى.

6- استحباب الدعاء بهذا الدعاء النبوي لطلب الغيث.

7- جواز الاستصحاء عند الضرر بالمطر. وخص بقاء المطر على الآكام والظراب وبطون الأودية لأنها أوفق للزراعة والرعي في  شواهق الجبال التي  لا تنال إلا بمشقة.

8- جواز طلب الدعاء ممَّن يظن فيهم  الصلاح والتقى، وهذا التوسل الجائز. وقد قسم شيخ الإسلام " ابن تيمية " التوسل إلى ثلاثة أقسام، اثنان جائزان .

الأول: طلب دعاء الله من الحيِّ  الذي يظن فيه الخير.

والثاني : التوسل بفعل الأعمال الصالحة فهذان القسمان مشروعان.

أما الثالث فممنوع، وهو التوسل بجاه أحد من المخلوقين، حياً أو ميتاً، فهذا لايجوز، لأنه من وسائل الشرك.

 بَابُ صَلاَة الخوف

ليس لها سبب إلا الخوف حضراً أو سفراً، و هي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. وقد وردت بصفات متعددة، كلها جائزة.

وبما أنها شرعت رحمة بالمصلين في هذه الشدة وتخفيفاً عنهم فإن الأنسب للمصلين أن يختاروا من هذه الوجوه الواردة أنسبها للمقام.

ويختلف ذلك باختلاف جهة العدو وقربه، وبعده، وشدة الخوف، أو خفته.

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ بن الخَطَّابِ رضيَ الله عَنْهُمَا قَال: صَلَّى بنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاَةَ الخَوْفِ في بعض أيامه التي  لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، فَقَامت طَاَئِفَة مَعَه، وَطَائفَة بإزَاء العَدُوِّ، فَصَلَّى بالذين مَعه رَكْعَةً ثمَّ ذَهَبُوا، وَجَاءَ الآَخَرُون  فَصَلَّى بهمْ رَكْعَةً، وَقضت  الطَّاِئفَتَانِ رَكعَةً رَكعَةً.

المعنى الإجمالي :

صلى النبي صلى الله عليه وسلم  صلاة الخوف بأصحابه في  بعض حروبه مع المشركين حينما التقى المسلمون بعدوهم من الكفار وخافوا من شَنِّ الغارة عليهم عند اشتغالهم بالصلاة.

فقسم النبي صلى الله عليه وسلم  الصحابة طائفتين، طائفة قامت معه في الصلاة، وطائفة وجاه العدو، يحرسون المصلين.

فصلى بالتي معه ركعة، ثم ذهبوا وهم في صلاتهم.

وجاءت الطائفة التي لم تصل، فصلى بها ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم.

فقامت الطائفة التي معه أخيراً فقضت الركعة الباقية عليها، ثم ذهبوا للحراسة، وقضت الطائفة الأولى الركعة التي عليها أيضا.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية صلاة الخوف عند وجود سببها، حضرا أو سفرا، تخفيفا على الأمة ومعونة لهم عل جهاد الأعداء، وأداءً للصلاة في جماعة وفى وقتها المحدد.

2- الإتيان بها على هذه الكيفية التي ذكرت في الحديث، مع زيادة تفصيلات في هذه الوجهة ذكرتها في الشرح الإجمالي، استزدتها من بعض طرق هذا الحديث.

3- أن الحركة الكثيرة لمصلحة الصلاة، اً و للضرورة، لا تبطل الصلاة.

4- الحرص الشديد على الإتيان بالصلاة في وقتها ومع الجماعة، فقد سمح  بأدائها على هذه الصفة محافظة على ذلك.

5- أخذ الأهبة، و شدة الحذر من أعداء الدين، الذين يبغون الغوائل للمسلمين.

الحديث الثاني

عَنْ يَزيدَ بن رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بن خَوَّاتِ بن جُبَيْرٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ ذَاتَ الرِّقَاعِ صَلاَةَ الخَوْفِ : أنَّ طَاِئفة صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةً وجَاهَ العَدُوِّ، فصَلَّى بِالذين مَعَهُ رَكْعَةً، ثُم ثَبَتَ قَاِئماً  فَأتموا لأنفُسِهِمْ، ثم انصَرفوا فَصَفُّوا وِجَاهَ العَدو، وَجَاءَتِ الطاِئفَةُ الأخْرَى فَصَلّى بِهِمُ الركعَةَ التي بَقِيتْ ثمَّ ثبت جالِساً وَأَتمُّوا لأنفُسِهمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهم.

الرجل الذي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو سهل بن أبي حَثْمَة.

الغريب :

ذات الرقاع: هي غزوة غزا النبي  صلى الله عليه وسلم  فيها "غطفان " ومنازلهم بعالية " نجد " بين المدينة و " القصيم " و تواقفوا ولم يحصل قتال.

قيل: سميت بذلك، لانتقاب أرجلهم من الحفى، فلفوها بالخرق.

المعنى الإجمالي :

في هذا الحديث يكون العدو في غير جهة القبلة، لأن منازله في شرق المدينة، ولذا صفت طائفة، ووقفت الأخرى في وجه العدو الذي جعله المصلون خلفهم.

فصلى النبي صلى الله عليه وسلم  ركعة بالذين  معه، ثم قام بهم إلى الثانية فثبت فيهما قائماً، وأتموا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، وانصرفوا وِجَاهَ العدو. وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة الباقية، ثم ثبت جالساً وقاموا فأتموا لأنفسهم ركعة، ثم سلم بهم.

اختلاف العلماء :

رويت صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم بأوجه متعددة قال ابن حزم صح منها أربعة عشر وجها وأفرد لها جزءا وقال النووي : يبلغ وجوهها ستة عشـر وجها وقال ابن العربي  أربعا وعشرين – أما ابن القيم في كتابه- الهدى- فقال: إنها ستة أو سبعة أوجه. وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجوها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي من اختلاف الرواة.

أما الإمام مالك فذهب إلى الصفة التي  ذكرت في حديث سهل بن أبي  حثمة:

وأما الإمام الشافعي فاختار حديث صالح  بن خوات.

وأما الإمام أبو حنيفة وطائفة من الفقهاء فتارة يرجحون ما وافق ظاهر الصفة المذكورة في القرآن وتارة يختارون ما كثرت  رواته من الأحاديث.

أما الإمام أحمد فقد سأله تلميذه الأثرم فقال: قلت لأبي عبد الله تقول بالأحاديث كلها فكل حديث بموضعه أو تختار واحدا منها فقال: أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن وأما حديث سهل فأنا أختاره.

قال الصنعاني: وكلام أحمد حسن مع صحة الصفات وتعدد فعله صلى الله عليه وسلم  لتلك الصفات.

أما ابن القيم في الهدى فصح عنده ستة أو سبعة وجوه وسردها حسب حال العدو وكأنه يختار الأخذ بها كلها تبعاً لاختلاف حال العدو.

وقال السهيلي في كتابه- الروض الأنف- اختلف العلماء في الترجيع فقالت طائفة يعمل بما كان أشبه بظاهر القرآن. وقالت طائفة يجتهد في طلب الآخر منها فإنه الناسخ لما قبله. وقالت طائفة: يؤخذ بأصحها نقلاً. وقالت طائفة: يؤخذ بجميعها على حسب اختلاف أحوال الخوف. اهـ منه.

وما اختاره الإمام أحمد ورجحه ابن القيم وذكره السهيلي هو الذي تميل إليه النفس عملاً بالأحاديث كلها وتيسيرا على المصلين عند تبدل أحوال العدو. والله أعلم.

ما يؤخذ فن الحديث :

1- فيه ما تقدم من مشروعية صلاة الخوف وتأكد صلاة الجماعة، وأخذ الحذر من أعداء الدين.

2- الإتيان بالصلاة على هذه الكيفية وهى مناسبة، حيث العدو في غير جهة القبلة، كالتي قبلها، فكلاهما في " ذات الرقاع " إلا أنهما في  وقتين، فاختلفا.

3- وفيه مخالفة لصلاة الأمن، وهي تطويل الركعة الأخيرة على الأولى، وأن المأمومين الذي فاتهم شيء من الصلاة أتموه قبل سلام الإمام.

4- وفيه مفارقة المأموم لإمامه لمثل هذا العذر.

وقد وردت المفارقة فيما هو أخف من ذلك كالذي  صلى مع " معاذ " فلما أطال القراءة، انفرد وأتم لنفسه، لكونه صاحب حاجة، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم  بالإعادة.

الحديث الثالث

عن جَابِرِ بن عَبْدِ الله الأنصَارِي رَضي الله عَنْهُما قال: شَهِدتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الخَوفِ، فصَففنَا صَفَّيْن خَلْفَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالعَدُوُّ بيننَا وَبَيْنِ القِبلَةِ، فَكَبَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم وكبَّْرْنا  جَمَيعاً ثُم رَكَعَ وَرَكَعنَا جَميعا، ثُمَّ رَفَعَ رَأسهُ مِنَ الركُوعِ وَرَفَعنَا جَمِيعا، ثُمَّ انحَدَرَ بالسُّجُودِ وَالصف الَّذِي يلِيهِ، وَقَامَ الصَّف المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدوِّ، فَلما قَضَى النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلمَ السُّجُودَ وَقَامَ الصف الذِي يلِيهِ، انحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بالسجُودِ وَقامُوا، ثُم تَقَدَّمَ الصف المُؤَخَّرُ وَتَأخَّرَ الصَّف المُقَدمُ ثم رَكَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم  وَرَكعنَا جَمِيعاَ، ثمَّ رَفَعََ رَأسَهُ مِنَ الركُوعِ فَرَفَعْنَا جَمِيعاً، ثمَّ انْحَدَرَ بِالسجُودِ وَالصَّفُّ الذي يلِيِهِ- الّذِي كَانَ مُؤَخَّراً في الركْعَةِ الأولَى- فَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العدو.

فَلما قَضى النبي صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ وَالصَّفُّ الًذِي يليهِ، انْحَدرَ الصف المُؤَخرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدوا، ثم  سَلَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم  وَسَلَّمْنَا جَمِيعاً.

قال جابر: كَمَا يَصنعُ حَرَسُكُم هؤُلاَءِ بِأمَرَائكُم.

ذكره "مسلم " بتمامه.

وذكر البخاري طرفاَ منه، وأنه صلى صلاة الخوف مع النبي صلى الله عليه وسلم  في الغزوة السابعة، غزوة " ذات الرقاع[91]"

المعنى الإجمالي :

هذه الكيفية المفصلة في هذا الحديث عن صلاة الخوف، مناسبة للحال التي  كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين ذاك، من كون العدو في جهة القبلة. ويرونه في حال القيام والركوع، وقد أمنوا من كمين يأتي  من خلفهم.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- صلاة الخوف على هذه الصفة المذكورة، لوجود الحال المناسبة، وانتفاء المحاذير المنافية.

2- الحراسة- هنا- وقعت في حال السجود فقط، لأنهما في غيره  يرون العَدوَّ كلهم.

3- قوله: " والعلو بيننا وبين  القبلة " مفهومه أنه لو كان العلو في غير القبلة، لصلوا على غير هذه الصفة، كما تقدم في  صفتها في الحديثين السابقين وغيرهما.

وتقدم أن لتعدد وجوهها فوائد، منها مراعاة حال العدو، وجهاته.

4- وفيه بيان حسن القيادة، وتدبير الجيوش وإبعادها عن المخاوف، ومفاجآت الأعداء، واتخاذ الاحتياطات في ذلك.

5- وفيه بيان العدل، وأنه مما تحلى به النبي  صلى الله عليه وسلم  في جميع أحواله.

فقد عدل بينهم بالصلاة ، فجعلهم يتناوبون فيها.

وعدل بينهم بالصلاة، فكل من الطائفتين صلت معه ركعة.

وعدل بينهم في قيامهم في الصف الذي يليه. وهكذا شأنه  في جميع أموره صلى الله عليه وسلم .

6- وفيه أن الحركة المطلوبة ولو كثرت، لا تُخِلُّ في الصلاة كالتقدم إلى المكان الفاضل ونحو  ذلك.

وتقدم حكم الحركة وأقسامها في حديث قصة حمل النبي صلى الله عليه وسلم " أمامة " في الصلاة، وهو الحديث (الواحد والتسعون).

فائدة هامة :

قال الصنعاني عند اختلاف العلماء في صلاة الخوف : هذا القول (وهو) الحديث إذا صح فهو مذهبي، صح عن الإمام  الشافعي، وصح أيضاً عن أبي  حنيفة ومالك  وأحمد، بل هذا معلوم أنه لسان حال كل  مؤمن، فإنه إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، وقد قال من جهله قولا يخالفه، فإن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقدم على كل ما سواه بنص " وما آتاكم الرسول فخذوه و مانهاكم عنه فانهوا " بل ذلك معنى الإيمان بالرسالة والنبوة ، و في كلام الأئمة الأربعة وغيرهم دليل على أنهم لم  يحيطوا بما جاء عن رسول  الله صلى الله عليه وسلم، و هو معلوم قطعاً، إلا أن جهلةِ المقلدين  يأنفون من  أن يقال: إن إمامهم ما وصل إليهم  الحديث الذي  يخالف  مذهبهم، بل يقولون : قد عرفه وعرف أنه منسوخ أو مؤول أو نحو ذلك من الأعذار التي  لا تنفق عند النقاد . ولهذا أمور: إن من  تبع إمامه في مسألة  قد ثبت النص بخلاف ما قاله إمامه فيها فإنه غير تابع لإمامه، لأنه قد صرح بأنه لا يتابع في قوله إذا خالف النص . اهـ.

 كِتاب الجَنَائز

الجنائز: جمع " جنازة " بالفتح، والكسر أفصح. اسم يطلق على الميت وعلى السرير  مع الميت.

وللميت أحكام كثيرة، ذكروا هنا منها، الصلاة وما يتعلق بها، من التغسيل والتكفين، والدفن وغير ذلك.

أما الحقوق المالية، فتأتي في الوصايا والفرائض.

وبما أن الكتاب مختصر، فإن المصنف لم يأت بكل ما تدعو الحاجة إليه من الأحاديث المتعلقة بالميت، ولذا فإننا نذكر نبذة من الفوائد التي  صحت بها الأحاديث.

فمن حق المريض على إخوانه المسلمين عيادته، وإدخال السرور عليه.

فإذا كان في حال خطره، يذكر بالتوبة، وقضاء الديون، والوصية، لاسيما فيما يجب عليه بيانه، ويكون ذلك بلطف، لا يشعر معه بالخوف من دُنُوٍّ أجله، ويتأكد على المريض ذلك، وأن يخرج من المظالم، ويستغفر عن المعاصي وأن يحسن ظنه بالله  تعالى.

فإذا حضره الموت، سُنَّ  لمن حضره تلقينه الشهادتين بلطف، وتوجيه إلى القبلة.

فإذا مات غمضت عيناه، ولينت مفاصله، وأسرع بتجهيزه، ما لم يكن في تأخيره مصلحة.

وتغسيل الميت، وتكفينه، وحمله، والصلاة عليه، ودفنه. فروض كفاية، إذا قام بها من يكفي، تسقط عن الباقين، شأن كل فرض كفاية.

فإن ترك، صار الإثم على من علم حاله، وقدر على ذلك، ثم تركه. وصفة الصلاة عليه أربع تكبيرات، بعد الأولى الفاتحة، وبعد الثانية الصلاة على النبي صلى الله صلى الله عليه  وسلم ، وبعد الثالثة الدعاء للميت، وبعد الرابعة سكتة لطيفة، ثم السلام.

قال شيخ الإسلام : الذي ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم على قبر الرجل من أصحابه إذا دفن، ويقول: سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل. وقد ثبت أن المقبور يسأل ويمتحن. وأنه يؤمر بالدعاء له.

 بَابٌ في الصَّلاَة على الغائب وعلى القبر[92]

الحديث الأول

عَنْ أبي هُريرة رَضِي الله عَنْهُ قال: نَعَىِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم النجَاشي في اليَوْم الذي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ إِلى الْمُصَلَّى فصَفَّ بِهمْ وَكَبَّرَ أرْبَعَاً.

الحديث الثاني

عن جَابر رَضِي الله عَنْهُ أنَّ النَبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على النَّجَاشِيِّ، فَكُنْتُ في الصَّفِّ الثاني أو الثالِث.

الغريب :

نعى: نعاه ينعاه بفتح أوله. والنعي: الإخبار بالموت.

النجاشي: بفتح النون على المشهور، قال في النهاية: والصواب تخفيف الياء - اسمه "أصحمة" توفى في رجب، سنة تسع، رضي الله عنه.

المعنى الإجمالي :

النجاشي ملك الحبشة له يد كريمة على المهاجرين إليه من الصحابة، حين ضيِّقت عليهم قريش في مكة، ولم يسلم أهل المدينة بعد فأكرم وفادتهم.

ثم قاده حسن نيته، واتباعه الحق، وطرحه الكبر إلى أن أسلم، فمات بأرضه، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم .

فلإحسانه إلى المسلمين، وكبر مقامه، وكونه بأرض لم يصَلَّ عليه فيها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بموته في ذلك اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلَّى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات، شفاعة له عند الله تعالى.

اختلاف العلماء :

اختلف العلماء في الصلاة على الغائب.

ذهب أبو حنيفة ومالك : إلى أنها لا تشرع. وجوابهم على هذه الأحاديث أنها خاصة بالنبي صلى الله صلى الله عليه وسلم .

وذهب الشافعي وذلك المشهور عند أصحاب الإمام " أحمد " إلى أنها مشروعة لهذه الأحاديث الصحيحة، والخصوصية تحتاج إلى دليل، وليس هنا دليل.

وتوسط شيخ الإسلام " ابن تيمية " فقال: إن كان الغائب لم يصل عليه، صُلِّىَ عليه كهذه القضية، وإن كان قد صُلِّىَ عليه، فقد سقط الفرض بذلك عن المسلمين.

وهو مروي عن الإمام أحمد، وصححه " ابن القيم " في الهدى، لأنه توفى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أناس من أصحابه غائبين، ولم يثبت أنه صلى على أحد منهم.

ونقل شيخ الإسلام " ابن تيمية " عن الإمام أحمد أنه قال: إذا مات رجل صالح، صُلِّىَ عليه، واحتج بقضية " النجاشي ".

وقد رجح هذا التفصيل شيخنا " عبد الرحمن آل سعدى " وعليه العمل في " نجد" فإنهم يصلون على من له فضل على المسلمين، ويتركون من عداه. وقال ابن القيم: أصح الأقوال هذا التفصيل.

ما يؤخذ من الحديث

1- مشروعية الصلاة على الميت، لأنها شفاعة ودعاء من إخوانه المصلين .

2- مشروعية الصلاة على الغائب، وتقدم أن الحديث ليس على إطلاقه، بل يخص بها من له فضل وإحسان عامٌّ على الإسلام والمسلمين.

3- الصلاة على الميتِ في مصلَّى العيد إذا كان الجمع كثيرا.

4- التكبير في صلاة الجنازة أربع، وتقدم في أول الباب ما يقال بعد كل واحدة منهن.

5- فضيلة كثرة المصلين وكونهم ثلاثة صفوف.

لما روى أصحاب السنن أيضا " ما من مؤمن يموت فيصلى عليه أمة من المسلمين ، يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف، إلا غُفِرَ له ".

6- الإخبار بموت الميت للمصلحة في ذلك، من تكثير المصلين، وإخبار أقاربه فإن ذلك ليس من النعي المنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والنعي، فإن النعي عمل الجاهلية "

وذلك أنهم يأخذون ينادون عليه في المحلات العالية بأنواعه المدائح الصحيحة والمكذوبة ، وفيه مفاسد من وجوه كثيرة .

الحديث الثالث

عن ابنِ عَبَّاس رَضي الله عَنْهُمَا: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ صَلَّى عَلى قَبْر بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَكَبَّر عَلَيْهِ أرْبَعاً.

المعنى الإَجمالي :

قد جُبلَ النبي صلى الله عليه وسلم على محاسن الأخلاق، ومن ذلك ما اتصف به من الرحمة والرأفة، فما يَفْقِدُ أحداً من أصحابه حتى يسأل عنه، ويتفقد أحواله.

فقد سأل عن صاحب هذا القبر، فأخبروه بوفاته، فأحب أنهم أخبروه ليصلى عليه، فإن صلاته سكنُ للميت، ونور يزيل الظلمة التي هو فيها، فصلى على قبره كما يصلى على الميت الحاضر.

الأحكام :

1- مشروعية الصلاة على القبر، ولا يلتفت إلى من منعه، لرَدِّه النصوص بلا حجة.

وقيده بعض العلماء، بمدة شهر، وبعضهم حتى يَبْلَى جسده، وبعضهم جوَّزه أبداً. وقد جاء في البخاري أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر دفن ليلا فقال: متى دفِن هذا؟ قالوا: البارحة. قال ابن القيم: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا فاتته الصلاة على الجنازة صلى- على القبر" في ستة أوجه حسان.

2- أن الصلاة على القبر، مثل الصلاة على الميت الحاضر.

3-َ ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة والرأفة، وتفقد الواحد من أصحابه.

مهما كانت منزلته، فقد ذكر الحافظ ابن حجر أن صاحب هذا القبر امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أي تكنسه.

 بَابٌ في الكفن

عَنْ عَائِشةَ رضي الله عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثَلاَثَةِ أثوَاب يَمانيَّةٍ بِيض سَحولية ، لَيْسَ فيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَة.

الغريب :

أثواب يمانية: نسجت في اليمن، فنسبت إليه، مفتوح الياء في الأفصح،

 سحولية: بيض نقية، ولا تكون إلا من قطن، والنسبة إلى السحل. إما إلى البياض والنقاء، وإما إلى القصّار الذي يبيضها بغسله.

وبعضهم جعلها نسبة إلى قرية في اليمن.

المعنى الإجمالي :

سترة  الميت أعظم من سترة الحيّ وأولى بالعناية، ولذا  فإن النبي صلى الله عليه  أدرج في  ثلاث لفائف بيض، ولم يجعل له قميص ولا عمامة.

ما يؤخذ من الحديث :

1- كفن النبي صلى الله عليه وسلم  بثلاثة أثواب ليس  معها قميص ولا عمامة. قال النووي: معناه: لم  يكفن في قميص ولا عمامة، وإنما كفن في ثلاثة أثواب غيرها، ولم يكن مع الثلاثة شيء. هكذا فسره  الشافعي.

2- استحباب البياض والنظافة في الكفن.

3- أن هذه الحال هي أكمل حال لتكفين الميت، لأن الله تعالى. هدى أصحاب نبيه إلى أكمل حال يريدها له، وكما عرفوا ذلك من سنته أيضاً.

 4- وفيه جواز الزيادة في الكفن، على اللفافة الواحدة، ولو وجد من يعارض في ذلك من وارثٍ أو غَرِيمٍ .

فائدة :

المستحب في كفن الرجل أن يكون ثلاث لفائف، والمرأة في خمسة أثواب، إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين . والواجب  أن يستر جميع بدن الميت.

 بَاب في صفة تغسيل الميّت وتشييع الجنازة

الحديث الأول

عَنْ أمّ عَطِيةَ الأنصَاريَّةِ قَالَتْ: دَخَل عَلَيْنَا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم  حِينَ تُوُفيَتْ ابنتُهُ زَينبُ، فَقَالَ :

"اغْسِلْنَهَا بثَلاَثٍ أوْ خَمس  أوْ أكْثرَ مِنْ ذلِكَ، إنْ رَأيتُنَّ ذلِكَ، بمَاء وَسِدْر، وَاجْعَلْنَ في الآخِرَةِ كافُوراً أوْ شَيْئاً مِنْ كافُور فَإذا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَني ".

فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ. فَأعطَانَا حِقْوَهُ فقال: " أشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ، تعني إزاره ".

وفِى رواية " أوْ سَبْعا " وقال: إِبْدأنَ بِميَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوضُوء مِنْهَا " وَأنَّ أمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: وَجَعَلنَا رَأسَهَا ثَلاَثةَ قرونٍ .

الغريب :

رأيتن ذلك: بكسر الكاف، لأن المخاطبة أنثى.

سدر: هو شجر النبق، والذي يغسل به ورقه بعد طحنه.

كافور: نوع من الطيب، من خواصه  أنه يصلب الجسد.

آذنني : أي أعلمني.

حقوه: بفتح الحاء وكسرها. موضع شد الإزار، توسعوا فيه فأطلقوه على الإزار نفسه.

أشعرنها إياه: الشعار، بالكسر، ما في الجسد من الثياب، ومعناه: اجعلن إزاري مما في  جسدها.

بميامنها: الميامن:- جمع " ميمنة " بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى: {وَأصحَابُ الميمَنَةِ}

المعنى الإجمالي :

لما توفيت " زينب " بنت النبي صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها، دخل النبي  صلى الله عليه وسلم على غاسلاتها، وفيهن " أم عطية الأنصارية " ليعلمهن صفة غسلها، لتخرج من هذه الدنيا إلى ربها ، طاهرة نقية فقال:

اغسلنها ثلاثاً، أو خمسا، ليكون قطع غسلهن على وتر أو  أكثر من ذلك، إن رَأيْتُنَّ  أنها تحتاج  إلى الزيادة على الخمس .

وليكون الغسل أنقى، والجسد أصلب، اجعلن مع الماء سدراً، وفي الأخيرة كافورا، لتكون مطيبة بطيب يبعد عنها الهوام، ويشد جسدها.

ووصاهن أن يبدأن بأشرف أعضائها، من الميامن، وأعضاء الوضوء.

 وأمرهن- إذا فرغن من غسلها على هذه الكيفية- أن يعلمنه.

فلما فرغن وأعلمنه، أعطاهن إزاره  الذي باشر جسده الطاهر، ليشعرنها إياه، فيكون بركة عليها في قبرها.

ما يؤخذ من الحديث :

1- وجوب غسل الميت المسلم، وأنه فرض كفاية.

2- أن المرأة لا يغسلها إلا النساء، وبالعكس، إلا ما استثنى من المرأة مع زوجها، والأمة مع سيدها، فلكل منهما غسل صاحبه.

3- أن يكون بثلاث غسلات، فإن لم يكف، فخمس، فإن لم يكف، زيد على ذلك، وقيد بعض العلماء الزيادة إلى السبع. ولكن المفهوم من قوله: " إن رأيتن ذلك " التفويض إلى رأيهن بحسب المصلحة والحاجة، ففي رواية الصحيحين " أو سبعا أو أكثر من ذلك ".

وبعد ذلك إن كان ثَمَّ خارج، سد المحل الذي يخرج منه الأذى.

4- أن يقطع الغاسل  غسلاته على وتر، ثلاث، أو خمس، أو سبع.

5- أن يكون مع الماء سدر، لأنه ينقى، ويصلب جسد الميت وأن الماء المتغير بالطاهر باق على طهوريته.

6- أن يطيب الميت مع آخر غسلاته، لئلا يذهب الماء.

ويكون الطيب من كافور، لأنه- مع طيب رائحته- يشد الجسد، فلا يسرع إليه الفساد.

7- البداءة بغسل الأعضاء الشريفة، وهي: الميامن، وأعضاء الوضوء.

 8- ضفر الشعر ثلاث ضفائر، وجعله خلف الميت.

9- التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء خاص به، فلا يتعداه إلى غيره  من العلماء والصالحين، لأمور كثيرة .

منها: أن هذا الأمر لا يلحقه أحد فيه، لما بينه  وبين غيره  من الْبَوْنِِ الشاسع.

ثانيا: أن هذه الأشياء توقيفية، لا تشرع إلا بشرع، ولا يوجد من الأدلة ما يُعَدِّيها إلى غيره.

ثالثاً: أن الصحابة يعلمون أن أبا بكر أفضل الأمة، ولم يرد أنهم فعلوا معه ما يفعلونه مع النبي  صلى الله عليه وسلم ، من التسابق على مَاء وَضُوئِهِ، وغيره .

   رابعاً: أن التبرك بغيره صلى الله عليه وسلم  من الغُلُوِّ الذي  هو وسيلة الشرك.

   خامساً: أنه فتنة لمن تُبرك به، وطريق إلى تعظيمه نفسه، الذي فيه هلاكه.

الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال: بَيْنَما رَجُل وَاقِف بِعَرَفَةَ إذْ وَقََعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ- أوْ قَالَ: فَأوْقَصَتْهُ- فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : "اِغْسِلُوهُ بِمَاء وَسِدْر، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأسَهُ فَإنَّهُ يُبْعَث يَوْمَ القِيَامَةِ مُلبِّياً ".

وفي رواية: " وَلاَ تُخَمرُوا وَجْهَهُ وَلاَ رَأسَهُ "

قال المصنف رضى الله عنه: الوقص ، كسر العنق[93].

غريب الحديث:

وقصته: صرعته فكسرت عنقه.

لا تحنطوه: لا تجعلوا في شيء من غسله أو كفنه حنوطا وهو أخلاط من الطيب تجمع للميت.

لا تخمروا: لا تغطوا يبعث ملبيا: أي يبعث وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، وذلك شعار الإحرام.

المعنى الإِجمالي   :

بينما كان رجل من الصحابة واقفاً في عرفة على راحلته في حجة الوداع محرما إذ وقع منها، فانكسرت عنقه فمات.

فأمرهم النبي  صلى الله عليه وسلم  أن يغسلوه كغيره من سائر الموتى، بماء، وسدر. ويكفنوه في إزاره  وردائه، اللذين أحرم بهما.

وبما أنه محرم بالحج وآثار العبادة باقية عليه، فقد نهاهم النبي  صلى الله عليه وسلم أن يُطيبوه وأن يغطوا  رأسه.

وذكر لهم الحكمة في ذلك، وهى أنه يبعثه الله على ما مات عليه، وهو التلبية، التي هي شعار الحج.

ما يؤخذ من الحديث :

1- وجوب تغسيل الميت، وأنه فرض كفاية.

2- جواز اغتسال المحرم، كما ثبت ذلك في حديث أبي  أيوب.

3- الاعتناء بنظافة الميت وتنقيته، إذ أمرهم أن يجعلوا مع الماء سدراً .

4- أن تغير الماء بالطاهرات، لا يخرج الماء عن كونه مطهرا  لغيره، إلى كونه طاهراً بذاته غير مطهر لغيره، كما هو المشهور في مذهب " أحمد ".

بل الصحيح أنه يبقى طاهراً بذاته مطهراً لغيره كما هو مذهب الجمهور، وإحدى الروايتين عن الإمام " أحمد ".

5- وجوب تكفين الميت، وأن الكفن مقدم على حق الغريم، والوصيِّ، والوارث.

6- تحريم تغطية رأس الميت المحربم، والوجه للأنثى.

ويؤخذ من قوله: " يبعث ملبيا " بقياس الأولوية، أن ذلك يحرم في حق المحرم الحي. قال ابن دقيق العيد: الحديث دليل على أن المحرم إذا مات يبقى في  حقه حكم الاحرام، وهو مذهب الشافعي وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك وهو مقتضى القياس لانقطاع العبادة وزوال محل التكليف ولكن اتباع الحديث مقدم على القياس.

7- تحريم الطيب على المحرم، حياْ أو ميتا ، ذكرا  أو أنثى، لأنه ترفُّه، وهو منافٍ للإحرام.

8- أن المحرم غير ممنوع من مباشرة الأشياء التي  ليس فيها طيب كالسِّدْرِ، والأشنان، والصابون غير  المطيّب،  ونحوها.

9- جواز الاقتصار في الكفن على الإزار والرداء.

وبهذا يعلم أنه يكفي للميت لفافة واحدة، لأن الإزار والرداء بقدر اللفافة.

10- فضل من مات محرماً، وأن عمله لا ينقطع إلى يوم القيامة، حين يبعث عليه.

11- أن من شرع في  عمل صالح - من طلب علم أو جهاد، أو غيرهما ومن نيته أن يكمله، فمات قبل ذلك- بلغت نيته الطيبة، وجرى عليه ثمرته إلى يوم القيامة.

الحديث الثالث

عَنْ أبي  هُريرة رضىَ الله عَنْهُ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم  قال: "أسْرِعُوا بالْجَنَازَةِ فَإن تَكُ صَالِحَةً فَخْيرٌ تُقَدمُونَهَا إِليهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذلِكَ فشَرٌّ تضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ ".

المعنى الإجمالي :

الإنسان من روح وجسد، وفضله وشرفه، ونفعه، وثمرته في روحه.

فإذا ما فارقت روحه جسده، بقي بلا نفع، ولا فائدة في بقائه بين  ظَهْرانَيْ أهله جيفة بل كلما مكثت تشوه منظرها وتعفن ريحها.

لذا أمر الشارع الحكيم بالإسراع  في تجهيزها، من التغسيل، والصلاة، والحمل، والدفن.

وأرشدهم إلى حكمة الإسراع بها، وذلك أنها إذا كانت صالحة، فإنها ستقدم إلى الخير والفلاح، و لا ينبغي تعويقها عنه، وهي تقول: قَدِّموني  قدموني، وإن كانت سوى ذلك، فهي شر بينكم، فينبغي أن تفارقوه، وتريحوا أنفسكم من عنائه ومشاهدته، فتخففوا منه بوضعه في قبره.

ما يؤخذ من الحديث :

1- استحباب الإسراع بتجهيز الميت وفي حمله، لكن بغير سرعة يحصل معها ضرر على الجنازة، أو على المشيعين.

2- يقيد الإسراع بما إذا لم يكن الموت فجأة يخشى أن يكون إغماء.

فينبغي أن لا يدفن حتى يتحقق موته، أو يكون في  تأخيره مصلحة، من كثرة المصلين، أو حضور أقاربه. ولم يُخش عليه الفساد.

3- فيه طلب مصاحبة الأخيار، والابتعاد عن الأشرار.

4- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من كان مظهراً للإسلام فإنه تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة من المناكحة والموارثة وتغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ونحو ذلك.

الحديث الرابع

عَن أم عطيةَ الأنصارية  رضيَ الله عنها قالَتْ: نُهينا عن اتّباع الجنائزِ ولم يُعْزَمْ علينا.

المعنى الإجمالي :

أم عطية الأنصارية من الصحابيات الجليلات تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء عن اتباع الجنائز، لما فيهن من شدة الرقة والرأفة، فليس لديهن صبر الرجال وتحملهم للمصائب. ولكن مع هذا فهمت من قرائن الأحوال أن هذا النهي  ليس  على سبيل العزم والتأكيد، فكأنه لا يفيد تحريم ذلك عليهن.

ما يؤخذ من الحديث :

1- نهي النساء عن اتباع الجنائز، وهو عام في اتباعها إلى حيث تجهيز ويصلى عليها وإلى المقبرة  حيث تدفن.

2- علة النهي  أن النساء لا يطقن مثل هذه المشاهد المحزنة والمواقف المؤثرة، فربما ظهر منهن من التسخط والجزع ما ينافي الصبر الواجب.

3- الأصل في النهي التحريم إلا أن أم عطية فهمت من قرينة الحال أن نهيهن عن اتباع الجنائز ليس جازما مؤكدا.

4- لكن قال ابن دقيق العيد: قد وردت أحاديث أدل على التشديد في اتباع الجنائز أكثر مما يدل عليه هذا الحديث.

 بَابٌ في مَوقِف الإمام من الميت

عَنْ سمرة  بنِ جُنْدَب رضيَ الله عنْهُ قال: صَليتُ وَرَاءَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم  عَلَى امرَأةٍ مَاتَتْ في نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسطهَا.

الغريب :

وسطها: بإسكان السينِ في الرواية.

والفرق ببن ما سكنت سينه، وما حركت، ما قاله " الجوهري " وهو أن ما صلحت فيه " بين " يسكن ومالا تصلح فيه، يفتح.

يقال: جلست وسط القوم. بالسكون، وجلست وسَط الدار، بالفتح.

نفاسها: بكسر النون، أي ماتت في مدته أو بسببه.

المعنى الإجمالي :

صَلَّى " سمرة  بن جندب" وراء النبي صلى الله عليه وسلم يخش حين  صلى على امرأة ماتت في  نفاسها، فقام صلى الله عليه وسلم  إزاء وسطها وذلك ليسترها عن أعين  المصلين أثناء وضعها أمامهم، قبل أن يتخذ لهن المحفة فوق السرير. والله أعلم.

ما يؤخذ من الحديث :

1- الصلاة على الجنازة ومشروعيتها.

2- أن موقف الإمام من المرأة يكون وسطها، سواء ماتت من نفاس أو غيره.

فالعبرة من الحديث وصفها بأنها امرأة، لا بكونها نفساء. فإنه وصف غير معتبر بالاتفاق.

3- أن النفساء- وإن حازت الشهادة بموتها في نفاسها- يصلى عليها فلا تأخذ حكم شهيد المعركة.

4- علل بعضهم الحكمة في الوقوف وسط المرأة بأنه أستر لها من الناس.

فائدة :

موقف الإمام من الرجل إزاء رأسه، لما روى الترمذي وحسنه "أن أنساً صَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْد رأسِهِ ثُم صَلَّى عَلَى امرَأةٍ فَقامَ حيَالَ وَسطِ السَّرير .

فَقَال العلاَءُ بنُ زَياد: هكَذَا رَأيتَ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم  قَامَ عَلَى الجَنَازَةِ مقَامَك مِنْهَا، وَمِنَ الرجل مَقَامكَ مِنْه؟.

قَالَ: نَعَمْ ".

وإذا اجتمع جنائز، فيكفيهن صلاة واحدة.

فإن كانوا نوعاً واحدا، قدم إلى  الأمام أفضلهم بعلم أو تُقىً، أو سن.

وإن كانوا رجالا ونساءً، قدم الرجال على النساء.

والصلاة على الجنازة شفاعة من المصلين للميت.

فينبغي إخلاص الدعاء، وإحضار القلب لعل الله  أن يتجاوز عنه ويمحو عنه ذنوبه، عند خروجه من الدنيا.

 باب  في تحْريم التسخط بالفعل والقول

الحديث الأول

عَنْ أبي[94] مُوسَى- عَبْدِ الله بن قَيْس- رضيَ الله عَنْهُ أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  بَرِيء مِنَ الصَّالِقَةِ وَ الحَالِقةِ وَالشَّاقَّةِ.

قال المصنف: الصالقة، التي ترفع صوتها عند المصيبة.

الحديث الثاني

عَنْ أبي  عَبدِ الله بن مَسعُوُد رَضىَ الله عَنْهُ عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:" ليس  مِنَّا مَنَ ضَرَبَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجيُوبَ وَدَعَا بِدَعوى الجَاهِليةِ".

الغريب :

1- الصالقة: التي  ترفع صوتها عند المصيبة، بالنَّوْح والعويل.

2- الحالقة: التي  تحلق شعرها، أو تنتفه من شدة الجزع والهلع.

3- الشاقة: التي  تشق جيبها أو ثوبها  تَسَخُّطاً في  قضاء الله.

4- دعوى الجاهلية: وذلك بالتفجع كل الميت والنياحة عليه بأنه قاتل النفوس وكهف العشيرة وكافل الأيتام.. إلى غير ذلك من المناقب التي كانوا يعددونها، ومثله الندبة كـ" ياسنداه " و " انقطاع ظهراه " وكل قول ينبيء عن السخط والجزع من قدر الله تعالى وحكمته.

5- ضرب الخدود لطمها، وقد جاء بالجمع مناسبة لما بعده.

6- الجيب: ما شق من الثوب لإدخال الرأس.

المعنى الإجمالي :

لله  ما أخذ، وله ما أعطى وفي ذلك الحكمة التامة، والتصرف الرشيد.

ومن عارض في هذا ومانعه فكأنما يعترض على قضاء الله وقدره الذي هو عين المصلحة والحكمة وأساس العدل والصلاح.

ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم  ذكر أنه من تسخطَ وجزع من قضاء الله فهو على غير  طريقته المحمودة، وسنته المنشودة، إذ قد انحرفت به الطريق إلى ناحية الذين إذا مسهم الشر  جزعوا وهلعوا، لأنهم متعلقون بهذه الحياة الدنيا فلا يرجون بصبرهم على مصيبتهم ثواب الله ورضوانه .

فهو بريء ممن ضعف إيمانهم فلم يحتلوا وَقّعَ المصيبة حتى أخرجهم ذلك إلى التسخط القولى بالنياحة والندب، أو الفعلي، كنتف الشعور، وشق الجيوب، إحياءً لعادة الجاهلية.

وإنما أولياؤه الذين إذا أصابتهم مصيبة سلَّموا بقضاء الله تعالى، ويقالوا: {إِنَّا لله و إِنا إليه  رَاجعُونَ . أولئِكَ عَلَيهِم صَلَوات مِنْ رَبِّهِم وَرَحمَة وَأولئِكَ هُمُ المُهتدُونَ}.

ما يؤخذ من الحديث :

1- تحريم التسخط من أقدار الله المؤلمة، وإظهار ذلك بالنياحة أو الندب أو الحلق أو الشق أو غير ذلك كَحَثي التراب على الرأس.

2- تحريم تقليد الجاهلية بأمورهم التي  لم يقرهم الشارع عليها، ومن جملتها دعاويهم الباطلة عند المصائب.

3- أن هذا الفعل وهذا القول من الكبائر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم  تَبَرَّأ ممن عمل ذلك، ولا يتبرأ إلا من فعل كبيرة.

4- لا بأس من الحزن والبكاء، فهو لا ينافي الصبر على قضاء الله. وإنما هو رحمة جعلها الله في قلوب الأقارب والأحِبَّاء.

والنبي صلى الله عليه وسلم  حزن وذرفت عيناه وقال: لا نقول إلا ما يرضى الرب. وبعضهم استحب البكاء.

وللعلماء والعارفين في هذا الباب، آراء يذهبون فيها حسبما تُوحِى إليهم نزعاتهم الدينية.

فائدتان:

الأولى: الإيمان بالله تعالى، وحسن رجاء العبد بره ومثوبته، ظل ظليل يأوي إليه كل من لفحته سمائم  الحياة المحرقة، فإنه يجد فيه  الراحة والأنس والأمن، لما  يرجوه  من ثواب الله تعالى وجزيل عطائه للصابرين.

فترخص عنده الحياة وتسهل عليه الأمور ولذا قيل: " من عرف الله هانت عليه مصيبته ".

والنبي  صلى الله عليه وسلم  قال: " عجباً للمؤمن، إن أمره كله عجب، إن أصابته سراء فشكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضراء، فصبر، كان خيراً له، وليس  ذلك إلا للمؤمن ". ولما فقد الناس هذا الظل الوارف من الإيمان بربهم والرجاء لحسن جزائه والأمل في  كريم مثوبته صرنا في  هذا الزمن نرى. والعياذ بالله – كثرة حوادث الانتحار  ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، فيقتلون أنفسهم ويعجلون بأرواحهم إلى النار، لأنهم لم يستروحوا هذا الظل الذي يجده المؤمن بربه، الواثق بوعده.

بل عند أتْفَهِ الأسباب يئدون أعمارهم، ولا يدرون بأنهم بتعجلهم المزرى- ينتقلون إلى عذاب أشد مما هم فيه، وأنهم كالمستنجد من الرمضاء بالنار.

فليس  لديهم قلب المؤمن الراضي الذي تهون عنده المصائب بجانب ما عند الله من الجزاء الكريم.

الثانية : مذهب أهل السنة والجماعة، أن المسلم لا يخرج من دائرة الإسلام بمجرد فعل المعاصي وإن كبرت، كقتل النفس بغير حق.

ويوجد كثير من النصوص الصحيحة تفيد بظاهرها خروج المسلم من الإسلام لفعله بعض الكبائر، وذلك كهذين الحديثين " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب " الخ.

وأن النبي  صلى الله عليه وسلم  (بريء من الصالقة والحالقة) ومثل " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه  ما يحب لنفسه " كحديث " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه " وحديث " لا يزني  الزاني  حين  يزني  وهو مؤمن" وغير هذا كثير.

وقد اختلف العلماء في المراد منها .

فمنهم من رأى السكوت عنها، وأن تمر كما جاءت، وذلك أنه يراد بها الزجر والتخويف، فتبقى على تهويلها وتخويفها. ومنهم من أوَّلَهَا.

وأحسن تأويلاتهم ما قاله شيخ الإسلام " ابن تيمية " من أن الإيمان نوعان:

 أ- نوع يمنع من دخول النار.    ب- ونوع لا يمنع من الدخول، ولكن يمنع من الخلود فيها.

فمن كمل إيمانه وسار على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه الكامل، فهو الذي يمنعه إيمانه من دخول النار.

وقال رحمه الله: إنّ الأشياء لها شروط وموانع، فلا يتم الشيء إلا باجتماع شروطه وانتفاء موانعه.

مثال ذلك إذا رتب العذاب على عمل، كان ذلك العمل موجباً لحصول العذاب ما لم يوجد مانع يمنع من حصوله.

وأكبر الموانع، وجود الإيمان، الذي يمنع من الخلود في  النار.

الحديث الثالث

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قالت : لَمَّا اشتَكَى النَبي صلى الله عليه وسلم  ذَكَرَ بعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَة رَأتْهَا بأرض الحَبَشةِ يُقَالُ لَهَا " مَارِيَةُ " وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأمُّ حَبيبَةَ أتتا أرْضَ الحَبَشَةَ فَذَكَرَتَا من حُسْنِهَا وَتَصَاوير َ[95] فِيهَا، فَرَفَعَ رَأسَهُ صلى الله عليه وسلم وَقالَ:

" أولئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصالح  بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً ثُمَّ صَورُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَ، أولئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ الله.

الغريب :

اشتكى: من الشكوى، أي المرض.

الكنيسة: متعبد النصارى وتجمع على كنائس.

شرار: جع شر وهى صفة مشبهة مثل بر.

المعنى الإجمالي :

كانت " أم سلمة " و " أم حبيبة " من  المهاجرات إلى أرض الحبشة، قبل أن يتزوج بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما كان في مرضه الذي توفى فيه صلى الله عليه وسلم، ذكرتا له ما رأتاه من كنيسة في مهاجرهما الأول، وما فيها من حسن الزخرفة والتصاوير، فلم يشغله مرضه عليه الصلاة والسلام عن أن يبين ما في عملهم في كنائسهم، وفي موتاهم من المحاذير .

لذا رفع رأسه وقال: إن هؤلاء الذين تذكران من كنائسهم و تصاويرهم كانوا يتعدون الحدود، ويغلون في موتاهم، فإذا مات الرجل الصالح  بنوا على قبره مسجدا، وصورُوا تلك الصور.

وبما أن عملهم هذا منافٍ للتوحيد، الذي هو أوجب الواجبات، وضرره لا يقتصر على من هم عليه بل يتعداهم إلى غيرهم من المغرورين الجاهلين، فإن فاعليه شر  الخالق  عند الله تعالى.

ما يؤخذ من الحديث :

1- تحريم البناء على القبور، وأنه من التشبه بالمشركين ،ومن وسائل الشرك .

2-  تحريم التصوير لذي الروح، لاسيما لأهل الصلاح الذين يخشى من صورهم الفتنة.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل، وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال : إن ذلك محمول على الكراهة ، وأن هذا التشديد كان في ذلك الزمان ، لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان، وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى، فلا يساويه في التشديد. وهذا القول عندنا باطل قطعا. وصوب الصنعاني قول ابن دقيق العيد.

وقال النووي : تصوير الحيوان من الكبائر، لأنه توعد هذا الوعيد الشديد . إلا أن الممنوع ما كان له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتحاده . قال الصنعاني : وهو مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم  كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك. وأيد ابن حجر القول بتحريم ماله ظل  وما ليس له  ظل أخذاً بحديث أخرجه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال: " أيكم  ينطلق إلى  المدينة فلا يدع فيها صورة إلا انتزعها".

3- أن من عمل هذا، فهو من  شر خلق الله لما في عمله من المحاذير الكثيرة والعواقب الوخيمة عليه وعلى غيره.

4- فيه كمال  نصح النبي صلى الله عليه وسلم  إذ لم يصرفه عن الموعظة ما يقاسيه من الألم.

الحديث الرابع

عن  عَائشة رَضي الله عَنْهَا قالت  قَالَ رَسول الله  صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه:

" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

قالت : ولولا ذلك لأبرز قبره . غير أنه خُشي أن يُتَّخذ مسجداً .

المعنى الإجمالي :

كانت عائشة رضي الله عنها، هي التي  مَرَّضت النبي  صلى الله عليه وسلم، مرضه الذي توفى فيه، وهى الحاضرة وقت قبض روحه الكريم.

فذكرت أنه في هذا المرض الذي لم يقم منه، خشي أن  يتخذ قبره مسجداً، يصلى عنده، فتجر الحال إلى عبادته من دون الله  تعالى. فقال:

" لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور  أنبيائهم مساجد"، يحذر من عملهم.

ولذا علم الصحابة رضي الله عنهم مراده، فجعلوه في داخل حجرة عائشة.

ولم ينقل عنهم، ولا عن من بعدهم من السلف، أنهم قصدوا قبره الشريف ليدخلوا إليه فيصلوا ويدعوا عنده.

حتى إذا تبدلت السنة بالبدعة، وصارت الرحلة إلى القبور، حفظ الله نبيه مما يكره أن يفعل عند قبره، فصانه بثلاثة حجب متينة، لا يتسنى لأي مبتدع أن ينفذ خلالها.

ما يؤخذ من الحديث :

1- النهي  الأكيد، والتحريم الشديد، من اتخاذ القبور مساجد، وقصد الصلاة عندها. قال الصنعاني  رحمه الله تعالى: إن ذلك ذريعة إلى تعظيم الميت والطواف بقبره والتمسح بأركانه والنداء باسمه، وهذه بدعة عظيمة عمت الدنيا وعبد الناس القبور وعظموها بالمشاهد والقباب، وزادوا على فعل الجاهلية فأسرجوها وجعلوا لها نصيبا من أموالهم؟ كما قال تعالى: {ويجعلون لمالا يعلمون نصيبا مما رزقناهم}.

وذكر أنه قد وردت بعض الأحاديث التي  تدل على أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم  لم يفعل به السلف شيئا من هذا القبيل فقد أخرج أبو داود عن القاسم بن محمد أنه دخل على عائشة فكشفت له عن  ثلاثة قبور " لا مشرفة ولا لاطئة " أي قبره وقبر صاجيه، وذكر الصنعاني  أن ذلك غير جائز سواء أكان القبر  في  قبلة المسجد أم غيرها.

2- أن هذا من فعل اليهود والنصارى، فمن فعله فقد اقتفى أثرهم، وترك سنة محمد عليه  الصلاة والسلام.

3- أن الصلاة عند القبر، سواء كانت بمسجد أو بغير مسجد، من وسائل الشرك الأكبر.

4- أن الله تعالى صان نبيه عليه الصلاة والسلام عن أن يُعْمَلَ الشرك عنده، فألهم أصحابه ومن بعدهم، أن يصونوه.

5- أن هذا من وصاياه الأخيرة  التي  أعدها لآخر أيامه لتحفظ.

الحديث الخامس

عَنْ أبي  هُريرة رَضِيَ الله عَنْهُ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

من  شَهدَ  الْجَنَازَةَ حَتًى يُصَلَى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاط، وَمن  شَهدَهَا حَتَّى تُدْفَن فَلَهُ قيرَاطَانِ ".

قيل : وَمَا القيرَاطَانِ؟ قالْ: "مِثل  الْجَبَلين  العظيمَين".

ولـ "مسلم " "أصْغَرُهمَا مِثْل جَبل أحُدٍ".

المعنى الإجمالي :

الله تبارك وتعالى لطيف بعباده، ويريد أن يهيىء لهم أسباب الغفران، لاسيما عند مفارقتهم الدنيا، التي  هي دار العمل، إلى  دار يطوى فيها سجِلُّ أعمالهم.

 ولذا فإنه حضَّ على الصلاة على الجنازة وشهودها، لأن ذلك شفاعة تكون سبباً للرحمة.

فجعل لمن  صلَّى عليها قيراطا من الثواب، ولمن  شهدها حتى تدفن قيراطاً آخر. وهذا مقدار من الثواب عظيم ومعلوم قدره  عند الله تعالى.

فلما خَفِي على الصحابة- رَضي الله  عنهم- مقداره، قرَّبه النبي صلى الله عليه وسلم  إلى أفهامهم، بأن كل قيراط مثل الجبل العظيم.

ما يؤخذ من الحديث :

1- الفضل العظيم في الصلاة  على الجنازة وتشييعها حتى تدفن. وقد  ذهب جمهور العلماء إلى أن المشي أمامها أفضل. قال ابن المنذر: إنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم  وأبا بكر وعمر رضى الله عنهما كانوا يمشون أمام الجنازة.

2- أنه يحصل للمصلى والمشيع حتى تدفن، ثواب لا يعلم قدره إلا الله تعالى .

3- أن في الصلاة على الميت، وتشييع جنازته، إحساناً إلى الميت، وإلى المصلى والمشيع.

4- فضل الله تعالى على الميت، حيث حض على تكثير الشفعاء له بأجر من عنده.

5- أن نسبة الثواب بنسبة الأعمال التي يقوم بها العبد.

حيث إنه جعل للمصلى قيراطاً، وللمصلي والمشيِّع، قيراطين.

زيارة القبور :

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الزيارة تنقسم إلى قسمين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية، فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام على الميت والدعاء له بمنزلة الصلاة على جنازته كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المسلين والمؤمنين، وإنا- إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منكم و المستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا  ولهم.

وأما الزيارة البدعية فمثل قصد قبر بعض الأنبياء والصالحين للصلاة عنده، أو الدعاء عنده، أو الدعاء به، أو طلب الحوائج منه أو طلبها من الله تعالى  عند قبره، أو الاستغاثة به ونحو ذلك. فهذا من البدع التي  لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، بل قد نهى عن ذلك أئمة المسلمين الكبار.


 كتاب الزكاة

الزكاة- في اللغة، النماء  والتطهر بمعنى الزيادة والطهارة .

وفي الشرع- حق واجب في مال خاص:- وهو بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والنقدان، وعروض التجارة، لطائفة مخصوصة، وهم الأقسام الثمانية المذكورون في سورة " التوبة "، في وقت خاص، وهو تمام الحَول.

وسميت في الشرع زكاة، لوجود المعنى اللغوي فيها، وهو تنمية المال، وتطهيره وتطهير صاحبه.

وهي أحد أركان الدين، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح يقتضيها.

ولوجوبها شروط، أهمها الإسلام، فلا تجب على كافر، وإن كان يخاطب عنها في  الآخرة، ويعذب على تركها.

وثانيها- ملك النصاب، ويأتي  بيان مقداره إن شاء الله تعالى.

وثالثها- مُضى الحَول إلا في الخارج من الأرض، فحوله حصوله، كما يأتي:

وهي من محاسن الإسلام، الذي جاء بالمساواة، والتراحم، والتعاطف، والتعاون، وقطع دابر كل شرٍّ يهدد  الفضيلة والأمن والرخاء، وغير ذلك من  مقومات البقاء لصلاح الدنيا والآخرة.

فقد جعلها الله طهرة  لصاحبها من رذيلة البخل، وتنمية حسية ومعنوية من آفة النقص، ومساواة بين خلقه بما خوَّلهم من مال، وإعانة من الأغنياء لإخوانهم الفقراء، الذين لا يقدرون على ما يقيم أودهم من مال، ولا قوة لهم على عمل . وتحقيقا للسلام، الذي لا يستقر بوجود طائفة جائعة، ترى المال المحرومة منه، وتأليفا للقلوب، وجمعاً للكلمة حينما يجود الأغنياء على الفقراء بنصيب من أموالهم . وبمثل هذه الفريضة الكريمة يُِعْلَمُ :

أن الإسلام هو دين  العدالة الاجتماعية، الذي يكفل للفقير العاجز العيش  والقوت، وَلِلغني حرية التملك مقابل سعيه وكدحه.

وهذا هو المذهب المستقيم الذي به عمارة الكون، وصلاح الدين  والدنيا.

فلا شيوعية متطرفة، ولا رأسمالية ممسكة شحيحة. وقد حذر الله من منع الزكاة في نصوص كثيرة، وتوعد على ذلك بالعذاب الشديد، فمن ذلك  قوله  تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، يطوقون ما بخلوا به يوم القيامة}.

وجاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: " من  آتاه الله مالا فلم يؤد  زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع ، يطوقه يوم القيامة ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ".

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بن  عباس رَضيَ الله عَنْهمَا قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لمُعَاذِ بن  جَبَل حِينَ بَعَثَهُ إلى اليمَنِ:

" إنك ستأتي قوْما أهل الكتاب، فَإذَا جئتهم فادعُهم إِلى أنْ يشهدوا أنْ لاَ إله  إلا الله وَأن محمدا رسولُ الله ".

فَإن هُم أطَاعُوا لَكَ بِذلِكَ فأخْبِرْهُم أن الله قد فَرَض عَلَيهم خمس صَلَوَاتٍ في كل يَوم  وليلة .

فَإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذلك ، فَأخبِرهُمْ أن الله قَدْ فَرَضَ عَليهم صَدَقَةً تُؤخَذُ مِنْ أغنِيَاِئهمْ فترَدُّ عَلَى فُقَرَائِهمْ.

فَإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذَلكَ، فَإيَّاكَ و كرَائمَ  أمْوَالِهم.

وَاتقِ دَعْوَةَ المَظْلُوم، فَإنهُ لَيْسَ بينهَا وَبينَ الله حِجَابٌ".

المعنى الإجمالي :

بعث النبي صلى الله عليه وسلم  " معاذ بن جبل " رضى الله عنه إلى اليمن، داعياً ومعلما، وقاضياً، فبين له صلى الله عليه وسلم  صفة الدعوة والحكمة الرشيدة.

فأخبره- أولا- عن حال من سيقدم عليهم، لأن لكل أناس خطابا  يلائمهم.

فأخبره أنهم  أهل الكتاب، عندهم علم وحجج يجادلون بها، ليأخذ لهم الأهبة.

ثم أمره  أن يدعوهم بالأهم  فالأهم.

فأهم شيء، الشهادتان، لأنهما الأساس، الذي لا يقوم بناء بدونه.

فلا تصح العبادات إن لم يوجد  الإقرار قلباً وقالبا بهما .

ثم أمره إذا أطاعوه بهما، أن يدعوهم إلى أهم العبادات وهى الصلوات الخمس المكتوبة.

ثم يبين لهم- بعد التزام الصلاة- فريضة، "الزكاة " التي هي قرينة الصلاة، وهي العبادة المالية بعد العبادة البدنية، وأن القصد منها، المواساة بين  المسلمين، ولذا فإنها تؤخذ من الأغنياء، فترد على الفقراء.

ثم يبين له  مالهم من حق الإنصاف والعدل. بعد التزامهم بأداء الزكاة.

وهي أن لا يأخذ الزكاة من الكرام الطيبات، بل يأخذ من الوسط، لأن مبناها على المواساة.

وبما أن للساعي سلطة، يخشى أن يستغلها في ظلم الرعية فقد حذره من الظلم، لئلا يدعو عليه المظلوم الذي تجد دعوته أبواب السماء مفتحة، فتلج حتى تصل إلى الحكم العدل، فينتصف لصاحبها الذي طلب حقه منه، وهو مجيب دعوة المضطرين.

الأحكام المأخوذة من الحديث :

1- قوله " إنك ستأتي قوماً أهل كتاب" هو توطئة وتمهيد للوصية باستجماع همته في دعوتهم، فإن أهل الكتاب لديهم علم، ولا يخاطبون كما يخاطب جهال المشركين.

2- الاستعداد بالحجج والعلم، لمجادلة أعداء الدين، ورد شبههم الباطلة.

3- تعلم وتعليم حسن الدعوة إلى الله تعالى، لتكون الدعوة بالحكمة.

4- الدعوة إلى الله، تكون بالأهم فالأهم.

5- أن أهم شيء هو التوحيد، لأنه الأساس الذي لا تصح العبادات بدونه. وهذا هو المراد من تقديم الدعوة أولا إلى التوحيد والإيمان.

6- أن الصلوات الخمس تأتي  في المرتبة  الثانية، لأنها  عمود الدين .

7- أن الزكاة تأتى في الدرجة الثالثة. ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الأركان إلا ثلاثة مع أنه بعث معاذا بعد فرض الصوم والحج وفى هذا نكتة أجاب عنها العلماء بأن قوله تعالى {فإن  تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}  هو من سورة براءة التي  نزلت بعد فرض الصوم والحج قطعا، فكأن الحديث مساوقة لهذه  اللفتة القرآنية. هذا مع إجماع العلماء على أن أركان الإسلام خمسة لا يتم  إلا بها كلها.

 8- أنه لا ينتقل من دعوة إلى أخرى، حتى يطاع في الأولى.

9- أن الزكاة مواساة، لأنها تؤخذ من الأغنياء لتعطى الفقراء.

10- أنه لا يحل للساعي أن يأخذ من الجيد العالي، بل يأخذ الوسط إلا إذا سمح  بذلك رب المال، بلا حياء ولا إكراه، فالحق له  وقد بذله.

11- أن يخشى  الساعي من ظلم الناس، فإن ظلمهم سبب في دعائهم عليه الذي لا يرده الله تعالى، لأنه طلب العدل والحكم، والله أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين. وفي الحديث دليل على فداحة الظلم.

12- مشروعية بعث الإمام السعاة  لجبى الزكاة. وأن الذمة  تبرأ بدفعها للإمام أو سعاته.

13- في الاقتصار على الصلوات الخمس، دليل على عدم وجوب الوتر.

14- جواز صرف الزكاة لصنف واحد من الأصناف الثمانية.

15- قوله  " على فقرائهم " استدل به على عدم جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر.

والصحيح جواز نقلها، لاسيما مع المصلحة، بأن يكون له أقارب فقراء في غير بلد المال، أو إعانة على جهاد أو علم.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم  يبعث عماله على الصدقة فيأتون بها المدينة ليفرقها فيها وهو إحدى الروايات عن  الإمام أحمد. والمشهور من مذهبه القول الأول .

16- ومما يضعف القول بعدم نقلها أن أعيان الأشخاص المخاطبين في  قواعد الشرع  الكلية لا تعتبر، فقد وردت مخاطبتهم بالصلاة، لا يختص  بهم الحكم  قطعاً.

الحديث الثاني

عَنْ أبى سَعِيدٍ الخُذري  رضيَ الله عَنْهُ قَالَ: قالَ رسُولُ الله :

"ليسَ فِيمَا دُونَ خَمْس أوَاقٍ صَدَقَة، وَلاَ فَيما دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَة، وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَة" .

الغريب :

أواق: مفردها أوقية. والأوقية تعادل أربعين درهماً، ويأتي ضبط النصاب بالعملة الحاضرة إن شاء الله.

ذَوْد: الذود، ليس له مفرد من لفظه، ويطلق على الثلاث من الإبل إلى  العشر.

أوسق: " الوسق " بفتح الواو على المشهور. وأصله في  اللغة الحمل.

والمراد به هنا، ستون صاعا بالصاع النبوى، ويأتي تحديد النصاب في  مكيالنا  الحاضر.

دون: أقل. وقد بينتها رواية مسلم "ليس  في  حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق".

المعنى الإجمالي :

الزكاة، مواساة بين الأغنياء والفقراء، ولذا فإنها لا تؤخذ ممن ماله قليل لا يعد به غنيا.

فالشارع بين  أدنى  حد لمن تجب عليه. وأما من يملك دون الحد الأدنى. فإنه فقير لا يؤخذ منه شيء.

فصاحب الفضة، لا تجب عليه حتى يكون عنده خمس أواق، وكل أوقية أربعون درهماً، فيكون نصابه منها مائتى درهم.

وصاحب الإبل لا تجب عليه الزكاة حتى يكون عنده خمس  فصاعداً، ومادون ذلك  ليس  فيها زكاة.

وصاحب الحبوب والثمار، لا تجب عليه حتى يكون ما عنده خمسة أوسق، و" الوسق " ستون صاعاً، فيكون نصابه ثلاثمائة صاع.

ما يؤخذ من الحديث :

1- وجوب الزكاة على من عنده  الأنصبة المذكورة، أو شيء منها وتحديد الأنصبة مواساة بين  الأغنياء والفقراء.

2- عدم وجوبها، على من قصر ماله عن هذه التحديدات. وحكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما تنبت الأرض. والإمام مالك يسامح بالنقص اليسير.

3- إذا بلغت  الفضة مئتى درهم، ففيها ربع عشرها، و إذا بلغت الإبل - خمساً، ففيها شاة، والعشر شاتان، والخسة عشر، ثلاث شياه، والعشرون أربع شياه.

فإذا بلغت خمسا وعشرين ، ففيها بنت مخاض من الإبل، وما بين ذلك وقص، ليس فيه زكاة، ثم تؤخذ في  أسنان الإبل كما فصل في حديث أنس. وإذا بلغت الحبوب أو الثمار خمسة أوسق، وهو ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي.

فإن كانت تسقى بكلفة ، كالسواني  والمكائن، ففيها نصف العشر.

وإن كانت تسقى بلا كلفة كالأنهار والعيون الجارية على وجه الأرض، ومثله "الأرتوازي" الذي يفيض ماؤه  على وجه الأرض، ففيها العشر . لقوله صلى الله عليه وسلم : "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالسانية  نصف العشر" أخرجه مسلم من حديث جابر.

4- لم يذكر  في  الحديث الذهب لأن غالب عملتهم الفضة وأخرج أبو داود عن على مرفوعاً " ليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون دينارا"  قال ابن حجر: هو حسن وقال ابن عبد البر: الإجماع على أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً.

5- الزكاة تجب  في  الحبوب والثمار التي  تكال وتدخر عن الأئمة، مالك  والشافعي وأحمد. أما أبو حنيفة فأوجبها حتى في الخضروات. والقول الأول  أرجح، لأن ما يكال ويدخر هو الذي كملت فيه النعمة ولما روى الدارقطني  مرفوعا " لا زكاة في  الخضروات " وهو حديث ضعيف. إلا أن له ما يعضده.

بيان مقدار زكاة النقدين

في عملتنا الحاضرة

نصاب الذهب عشرون مثقالا إسلاميا، والمثقال وثلثا المثقال، بوزن، " جنيه إنجليزي" أو "جنيه سعودي".

فيكون نصاب الذهب فيهما اثنى عشر جنيها سعودياً أو إنجليزياً لأن وزنهما واحد.

ونصاب الفضة، مئتا درهم، وبالريال "الفرنسى" اثنان وعشرون ريالا، وبالريال العربي السعودي، خمسة وخمسون ريالا.

بيان مقدار زكاة الحبوب والثمار

في  مكيالنا الحاضر

نصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً نبوياً. فيكون النصاب بالصاع النبوي ثلاثمائة صاع.

والصاع النبوي أقل من الكيلة الحجازية والصاع النجدي بالخمس وخمس  الخمس.

فيكون مقدار نصاب زكاة الحبوب والثمار بالصاع النجدي والكيلة الحجازية، مِئَتيْ صاع وثمانية وعشرين  صاعا، ومثاله الكيلة. والله أعلم.

لحديث الأول

عَنْ أبي  هريرة رضيَ الله عنهُ أن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم  قال:

"ليس عَلَى المسلم في عبدِهِ وَلاَ فَرَسهِ صَدَقَة". وفي لفظ[96] إِلا زكاة الفطر في الرقيق".

المعنى الإجمالي :

تقدم أن الزكاة، مبناها على المساواة والعدل، لذا أوجبها الله تعالى في أموال الأغنياء النامية والمعدة للنماء، كالخارج من الأرض، وعروض التجارة.

أما الأموال التي لا تنمو- وهي باقية للقنية والاستعمال- فهذه ليس فيها زكاة على أصحابها.

وذلك كمركبه، من فرس، وبعير، وسيارة، وكذلك عبده المعد للخدمة، وفرشه وأوانيه المعدة للاستعمال.

لكن يستثنى من ذلك زكاة الفطر للعبد، فإنها تجب وإن لم يعدّ للتجارة، لأنها متعلقة بالبدن لا بالمال.

ما يؤخذ من الحديث :

1- أن الزكاة لا تجب في العبد الذي للخدمة والفرس المعدة للركوب قال ابن القيم في تهذيب السنن. إنما سقطت الصدقة عن الخيل والرقيق إذا كانت للخدمة والركوب. فأما ما  كان منها للتجارة ففيه الزكاة في قيمتها.

2- أن زكاة الفطر واجبة للعبد مطلقا، سواء أكان للخدمة أم للتجارة. لأنها متعلقة بعينه لا بقيمته كأموال العروض.

3- أن كل ما أعد للاستعمال والاقتناء، لا تجب فيه الزكاة، لأنها مبنية على المساواة وإذا لم ينم المال، أكلته الزكاة فيتضرر صاحبه.

4- ما تقدم من كون الزكاة لا تجب إلا في المال النامي، هو مأخذ الذين لا يوجبون الزكاة في  الحُلي  المعد للاستعمال، وهو مأخذ جيد.

ولكن ورد في  الذهب والفضة نصوص توجب قوة القول بوجوب الزكاة في  الحُلي مطلقا، لذا فالاحتياط إخراج الزكاة عنه.

5- بمثل هذه المقارنات الشرعية بين حق الفقير والغنى، تعلم سماحة هذه الشريعة وعدل أحكامها، ونظرها في  أحوال الناس بعين المصلحة العامة {وَمَنْ أحْسَنُ مِن الله حُكْماً لِقَوم يوقنُونَ}.

الحديث الثاني

عَنْ أبي  هريرة  رضي الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله قَال:

"العَجمَاءُ جُبَار، وَالبِئْرُ جُبار، والمَعْدِنُ جُبَار، وفي الركَازِ الخمس".

الجبار: الهدر الذي لاشيء فيه. و العجماء: الدابة البهيم.

الغريب :

العَجماء: بفتح العين، وإسكان الجيم، ممدودة- وهى البهيمة.

سميت" عجماء " لأنها  لا تتكلم.

المعدن: هو المكان الذي تستخرج منه الجواهر وأمثالها.

جبار: بضم الجيم، يعني  هدر، لا ضمان فيه.

الركاز: بكسر الراء، وتخفيف الكاف، آخره زاى، أي المركوز (المغروز) في  الأرض وهو دفن الجاهلية.

المعنى الإجمالي :

يبين النبي  صلى الله عليه وسلم  الأشياء التي  يحصل فيها تلف خارج عن قدرة الإنسان وتسببه وإهماله، وأنه ليس عليه- من جراء إتلافها- شيء.

وذلك كالبهيمة التي  لم يفرط في إرسالها، ولم يكن متصرفا فيها فتتلف زرعاً أو تضر أحداً بعضٍّ أو ضرب بيدها، أو رَمْح برجلها.

وكذلك لو أمر إنسانا بدون إكراه  له، أو تغرير به، بنزول في  بئر، أو عمل، فلا ضمان على الآمر، لأنه لم يحصل  منه تَعَد ولا تفريط.

أما لو أكرهه على ذلك، أو كان يعلم أن في هذه الأشياء ونحوها خطراً فغره ولم يعلم بذلك، فإن عليه الضمان.

ثم ذكر أن من وجد كنزا قليلا أو كثيرا، فعليه إخراج خمسه، لأنه حصله بلا كلفة ولا تعب.

فشكرا لله  تعالى ومواساةً لإخوانه المسلمين، يجب عليه  أن يخرج منه الخمس، لأنه كالفيء الذي يحصل من مال الكفار بلا كلفة. وهكذا تلاحظ الشريعة العدل والإنصاف في  أحكامها، فتقدم قدر الزكاة فيما  يحتاج إلى كلفة ومشقة ومؤنة، واختلافه حسب ذلك.

ما يؤخذ من الحديث

1- أنه لا ضمان في  البهيمة إذا لم يكن صاحبها متصرفا فيها، أو لم يرسلها  ليلا.

فإن تسبب صاحبها بما أتلفت، أو أرسلها ليلا  فأفسدت على الناس زرعهم، فعليه الضمان.

فقد قيد العلماء إطلاق هذا الحديث بأدلة أخرى، بضمان المتسبب، وهو مذهب الجمهور. وذكر ابن دقيق العيد اختلاف العلماء في عموم الهدر، ووصل إلى القول بأن جناية البهيمة هدر إذا لم يكن ثمة تقصير من المالك أو ممن هي تحت يده. وقال: وينزل الحديث على ذلك.

2- أنه لا ضمان فيما أتلفت بئره أو معدنه إذا لم يكن مكرها النازل أو العامل  أو عالماً بأن في ذلك خطراً فغره ولم يعلمه.

فإن أكره أحدا على النزول في  بئر، أو الصعود لشجرة أو نحو ذلك، أو لم يكرهه، ولكن فيه خطر ولم يعلمه، فعليه الضمان، لأن التلف حصل بسبب إكراهه، أو من تغريره.

3- أنه يجب إخراج الخمس  مما وجد من الكنوز، قليلا كان الموجود، أو كثيرا.

4- خصه بعض العلماء بما عليه علامة كفار، بأن يكون من زمن الجاهلية وذكر الصنعاني  قيدا ثانيا هو أن يكون  في  أرض موات أو ملك أحياه الواجد،  فإن كان في  أرض مملوكة فليس  بركاز، وإنما هو لقطة.

5- أن يخرج  الخمس من حين  يجده، كما هو ظاهر الحديث فإن النماء فيه متكامل. وما تكامل فيه النماء لا يعتبر فيه الحول، فإن الحول مدة مضروبة لتحصيل النماء. قال النووي: وعدم اشتراط الحول بالركاز إجماع.

6- الظاهر من  الحديث، أنه يخرج منه لا من  قيمته، سواء كان من ذهب، أو فضة، أو نحاس، أو حديد، أو غير ذلك.

7- بهذه الميزات يعلم أن شبهه بالفيء أقرب من شبهه بالزكاة.

ولذا قال كثير من العلماء: إن مصرفه مصرف الفيء، يصرف في  المصالح العامة، لا مصرف الزكاة الذي يجعل في  الأقسام الثمانية. لأن الزكاة قد فارق الزكاة بالأمور الآتية:

1- الزكاة لا تخرج إلا من نصاب محدود، فما فوقه، أما الركاز فيخرج الخمس من قليله أو كثيره.

2- الركاز يخرج من عينه، أما العروض فتخرج زكاتها نقوداً.

3- الركاز حوله وجوده، أما الزكاة فلها حول محدد معلوم لا تجب قبله.

4- مصرف الركاز مصرف الفيء في المصالح العامة، والزكاة تصرف في  الأوجه الثمانية المعروفة.

5- الركاز فيه الخمس ، والزكاة أكثر ما فيها العشر وأقل ما فيها ربع العشر.

الحديث الثالث

عَنْ أبي  هُريرةَ رضي الله عَنْهُ قالَ: بَعَثَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلى الصَدَقةِ فَقِيلَ[97] منع  ابنُ جَمِيل، وَخَالِدُ بن الوَليدِ، وَالعبَّاسُ عمُّ النبي  صلى الله عليه وسلم .

فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " مَا يَنْقِمُ ابنُ جَمِيل إلا أنْ كَانَ فَقِيراً فَأغنَاهُ الله تَعَالى.

وَأمَّا خَالِد فَإنّكُم تَظْلِمُونَ خالداً، فَقَدِ احْتبسَ  أدرَاعَهُ وأعْتَادَهُ في سَبِيلِ الله.

وَأمَّا العَبَّاسُ فَهيَ عَلى وَمِثلُهَا ".

ثم قال: " يَا عُمَرُ، أمَا عَلِمتَ أنَّ عَمَّ الرجل صِنْوُ أبيهِ ".

الغريب :

ما ينقم إلا أن كان فقيرا  فأغناه الله " ينقم " بكسر القاف: معناه، ما ينكر وهذا السياق معناه عند البلاغيين، تأكيد الذم بما يشبـه المدح وهو من لطيف الكلام.

أعتاده: مفرده "عتاد" بفتح العين و" الأعتاد " آلات الحرب من السلاح وغيره. "صنو أبيه ": هذا تشبيه  للأخوين فأكثر من أب واحد، وهم فروعه، كالنخلتين فأكثر، تفترقان من أصل واحد، و" الصنو " بكسر الصاد، هو المثل.

ابن جميل: بالجيم المفتوحة بعدها ميم مكسورة سماه بعضهم " حسـيناً" وبعضهم "عبد الله ".

المعنى  الإجمالي :

بعث النبي صلى الله عليه سلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجباية الزكاة كعادته في بعث السُّعاة، فجاء عمر إلى العباس بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وابن جميل،. يريد منهم الزكاة، فمنعوا أدائها.

فجاء عمر إلى النبي  صلى الله عليه وسلم يشتكى  هؤلاء الثلاثة.

فقال صلى الله عليه وسلم : أما ابن جيل، فليس  له من العذر في  منعها إلا أنة كان فقيراً فأغناه الله  فقابل نعمة الله كفراً، وشكر نكراً.

وأما خالد فإنكم تظلمونه بقولكم منع الزكاة وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، فكيف يقع منع الزكاة من رجل تقرب إلى الله تعالى بإنفاق ما لا يجب عليه ثم هو يمنع ما أوجبه الله عليه فإن هذا بعيد.

وإما لأنه جعلها أدوات قنية يستعملها في الجهاد والأشياء التي  للقنية ليس  فيها  زكاة، لأنها ليست من الأموال النامية  بالتجارة وغيرها.

وأما العباس، فقد تحملها صلى الله عليه وسلم  عنه.

ويحتمل أن ذلك لمقامه ومنزلته. ويدل عليه قوله: " أما علمت أن عَمَّ الرجل صنوُ أبيه؟ ".

وإما  لأنه قدم زكاته لعامين فقد تسلمها النبي  صلى الله عليه وسلم .

ويدل عليه ما ورد بسند ضعيف عن ابن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم  تعجل  مِنَ العَباس صَدَقَتَهُ سَنتيْن ".

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية بعث الإمام ا لسعاة لجباية الزكاة.

2- جواز شكوى من امتنع من الزكاة إلى من يجبره على أدائها.

ومثله في  الشكوى كل ممتنع عن واجب، أو فاعل محرماً.

3- قبح من جحد نعمة الله عليه شرعا، وعقلا.

4- أن الأشياء الموقوفة في سبيل الله، أو المعدة للاستعمال، ليس فيها زكاة. وذلك على أن عذره في  منع الزكاة هو جعلها وقفا في  سبيل الله  أو على معنى أنه جعلها معدة للاستعمال والقنية.

5- جواز جعل الأشياء المنقولة وقفا لله تعالى وفى سبيله.

6- أما الاعتذار عن العباس، فيحتمل إفادة جواز تعجيل الزكاة، ويحتمل إفادة جواز تحمل الزكاة عمن وجبت عليه.

ويبعد أن يمنع العباس الزكاة لغير عذر.

7- تعظيم العم، كبير حقه لأنه بمنزلة الأب.

الحديث الرابع

عَنْ عَبْدِ الله بن زَيد بن عَاصِمٍ المَازِني  رضيَ الله عَنْهُ قال: لما  أفَاء الله عَلَى نَبِيهِ صلى الله عليه وسلم  يَوْمَ "حُنَيْن " قسَمَ في الناس وَفي الْمُؤَلَّفةِ قُلُوُبهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأنْصَار شَيْئاً. فَكَأنَّهم وَجَدُوا في أنْفُسِهِمْ، إِذْ لَم يَصِبْهُمْ مَا أصَابَ الناسَ، فَخَطَبَهُمْ فقال: يَا مَعْشَرَ الأنصَارِ، ألم أجِدكم  ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ الله بي؟ وَكُنْتُمْ متَفَرقِينَ فَألَّفَكُمُ الله بي؟ وَعَالَةً فَأغنَاكُمُ الله؟.

كُلمَا قالَ شَيئاً، قَالوا: الله وَرَسُولُهُ أمَنُّ.

قال: "مَا يَمنَعُكم  أنْ تُجِيبُوا رَسولَ الله ؟ "

قالوا: الله وَرَسُولُهُ أمَنُّ.

قال: لَو شئْتمْ لقلْتم: جئتَنَا بِكَذَا وَبكَذَا، ألا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ الناسُ بالشاةِ والبعيِرِ، وَتَذْهَبُونَ بالنبيِّ  إِلى رِحَالِكُم؟ لَولاَ الهجرة  لَكُنتُ أمرأ  مِنَ الأنصَارِ، وَلو  سَلَكَ النَاسُ وَاديا أو شعْبا، لَسَلَكتُ وادِيَ الأنصَارِ وَشِعْبَهَا.

الأنصَارُ شِعَارٌ. والناس  دِثَار. إِنَّكُم  ستَلْقَونَ بَعْدِي أثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْني  عَلى  الحَوض".

الغريب  :

حنين: واد في  طريِق مكة- الطائف- المتجه مع السيل الكبير وحنين واقع بين الشرائع وقرية الزيمة ويسمى الآن وادي يدعان. وقد وقعت فيه معركة ضارية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين " هوازن "  ومعهم " ثقيف " في شوال من السنة الثامنة من الهجرة .

المؤلفة قلوبهم : هم قوة يتألفون على الإسلام، بإعطائهم من الغنائم أو الصدقات، ليتمكن الإسلام من قلوبهم، أو لكونهم زعماء ذوى نفوذ وأتباع يسلمون بإسلامهم، أو ليدفعوا بجاههم وقوتهم عن الإسلام.

عالة : فقراء.

أمن : أفعل تفضيل من المنّ : معناه أكثر منة علينا وأعظم. وما أظن التفضيل مقصودا، وإنما هو صفة مشبهة باسم الفاعل.

شعار: هو الثوب الذي يلي  الجسـد، وهو بكسر السين المعجمة.

دثار: هو الثوب الذي فوق الشعار، وهو بكسر الدال المهملة.

أثرة : بفتح الهمزة والثاء، والأثرة الاستئثار بالشيء المشترك.

ومعناه: أنه سيأتي من يستأثر بالدنيا عنكم مع حقكم فيها، فاصبروا.

 الشَّعْب: اسم لما انفرج بين جبلين.

المعنى الإجمالي :

التقى المسلمون بالمشركين في "حنين " فكانت الهزيمة على المشركين، فغنم المسلمون أموالهم.

وكان قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم  في هذه الغزاة، قوم من سادات العرب، الذين  أسلموا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم.

فأعطاهم صلى الله عليه وسلم من الغنيمة عطية جزلة  ليتألفهم على  الإسلام فينكف- بسبب ذلك شر كبير عن المسلمين وليرغبوا في الإسلام، فيدخل معهم عشائرهم.

ولم يعط الأنصار شيئا منها، اتكالا إلى ما زين الله به قلوبهم من الإيمان، الذي لا يزيده عطاء الدنيا، ولا ينقصه الحرمان منها.

ولكن محبة ما أبيح لهم منها، وما حصلوه بسيوفهم وجهادهم، أوجد في قلوبهم شيئاً، إذ رأوا غنائمهم تقسم على غيرهم، ولا يعطون منها، ولم يفطنوا للحكمة الرشيدة المقصودة.

فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم  ما في نفوسهم جمعهم فخطبهم وقال:

يا معشر الأنصار، ألم أجدكم  ضلالا فهداكم  الله بي؟ وكنتم  متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم  الله بي؟.

وكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ.

فلما ذكرهم نعمته التي جاءتهم على  يده  من الهداية التي هي أعظم مطلوب، والألفة بعد حروبهم الطاحنة، ومشاجراتهم المهلكة، ونعمة الغنى بعد الفقر،

وذلك بالغنائم، وعمار أسواق المدينة ذلك بالتجارة والزراعة لأنها صارت عاصمة الإسلام وذلك بعد الفقر، الذي كانوا فيه أيام الجاهلية..

ومن كرم  خلقه صلى الله عليه وسلم  وحبه للعدل، ذكرهم بما لهم من أياد بيض على الإسلام والمسلمين، إذ آووا المهاجرين، ونصروهم بعد أن عاداهم وتجهَّـم لهم أقرب الناس إليهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، فوجدوا عندهم المأوى والنصرة، وكرم الضيافة، حتى أنسوهم- بمواساتهم- بلادهم وأهليهم.

ثم أراد صلى الله عليه وسلم  أن يسليهم عن حطام الدنيا، بما فيه خير الدنيا والآخرة فقال:

ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبوا برسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى رحالكم؟.

فما كان منهم " رضى الله عنهم " إلا أن رضوا وأعينهم مغرورقة بدموع الفرح بهذا الفضل الكبير والبشارة العظمى، وبدموع الندم والعتب على أنفسهم وتلاقت أرواحهم الصافية بروح نبيهم الطاهرة.

ثم أراد النبي  صلى الله عليه وسلم أن يطمئن قلوبهم، ويشرح صدورهم، ويعلن على الناس فضائلهم و مناقبهم الكريمة، لِمَا لهم من فضل السَّبْقِ بالإيمان والإيواء والنصرة لرسول الله ودين الله فقال:

لولا الهجرة لكنتُ امْرَأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا أو شعْبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار بالنسبة للرسول والدين، والناس من ورائهم، دثار، فهم أولى به.

وبهذه الموعظة البليغة، والشرف العظيم، الذي نوّه به في حق الأنصار، علموا وعلم غيرهم من الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمهم من الغنائم ويُعطهَا من هو دونهم إيمانا وسابقة وفضلا، إلا اتكالا على ماوقر في قلوبهم من الإيمان الراسخ، وإيثار الآخرة على الدنيا.

ثم ذكر علامة من علامات النبوة، وهي أنه سيستأثر بالدنيا عليهم غيرهم ، فلا يهيجهم ذلك، ويثير حفائظ نفوسهم، فإن متاع الدنيا قليل وليصبروا حتى يلاقوه على الحوض، فإن الصبر الجميل من أسباب وروده مع النبي صلى الله عليه وسلم  وقد تحققت هذه المعجزة النبوية  بعد انتهاء عهد الراشدين .

اللهم ألحقنا بهم ووالدينا ومشايخنا  وأقاربنا والمسلمين. برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين ويا أكرم  الأكرمين.

ما يؤخذ من الحديث :

1- إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنيمة، بحسب رأى الإمام واجتهاده.

2- جواز حرمان من وثق بدينه، تبعاً للمصلحة العامة.

3- أن الرغبة في الأشياء الدنيوية لاتخل بإيمان الراغب وإخلاصه، إذا كان لم يعمل لأجل الدنيا فقط. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤنبهم  على رغبتهم.

4- مشروعية الموعظة والخطبة في المناسبات وتبيين الحق.

5- أن القائد، والأمير، وأصحاب الولايات، لا يتصرفون في الشؤون العامة، من  غير أن يبينوا للرعية مقصدهم فيها.

6- كون النبي صلى الله عليه وسلم  رحمة وبركة على الأمة، لاسيما الأنصار.

7- ما للأنصار رضي الله عنهم من فضل الإيمان والنصرة لله  ورسوله، أوجبت استئثارهم بالنبي عليه السلام، كما أوجبت محبته لهم وتقديمهم على غيرهم .

 8- علامة من علامات النبوّة، فإٍن ما ذكره  مما سيقع على الأنصار، وقع من بعض الملوك الذين  لم يعرفوا لهم حرمة وسابقة .

9- أن الصبر الجميل على  المصائب، من أسباب ورود  الحوض مع النبي صلى الله عليه وسلم .

فائدة :

لم يظهر لي  مناسبة واضحة لإيراد المؤلف هذا  الحديث في كتاب  الزكاة. ولعل ذلك متابعة لمسلم حيث أخرجه في باب الزكاة من صحيحه.

أو لعله أراد أن يبينَ أن النبي صلى الله عليه وسلم  في  آخر أيام رسالته، وبعد ما أعز الله الإسلام وقواه، أعطى المؤلفة قلوبهم  من الغنيمة.

فيقاس على الغنيمة أن يعطوا  من الزكاة  خلافا  لمن يرى من العلماء سقوط نصيبهم من الزكاة بعد أن أعز الله  الإسلام، كأبي حنيفة وأصحابه.

 والصحيح، جواز إعطائهم تأليفا لهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك وهو المشهور من مذهب الإمام " أحمد " وهو من مفردات مذهبه.

وليس عند المسقطين لسهمهم ما يعارضون به فعل النبي صلى الله عليه وسلم  وآية " براءة " التي هي من آخر القرآن نزولا.

 بَابُ صدقة الفِطر

نسبت إلى "الفطر" من باب نسبة المسبب إلى سببه، وقد أجمع العلماء على وجوبها، وشرعها الله تعالى لحكم عظيمة وفوائد كثيرة.

منها:- أنها طهرة  للصائم. وشكر لله  تعالى على أن منّ عليه بتكميل صيام شهر رمضان، وشكراً له أيضاً على أن متعه بدوران الحول عليه، ونعمه تتوالى عليه، التي أعظمها نعمة الإسلام والإيمان.

ومنها:- أنها  مواساة دين الفقراء والأغنياء، إذا أعطوهم شيئاً من أموالهم اغتنوا في ذلك اليوم عن الاشتغال بطلب قوتهم، وترفعوا  عن مذلة السؤال في يوم يحب كل الناس فيه التظاهر بالغني، ويشاركونهم في الأفراح المباحة- والله لطيف بعباده وهو الحكيم الخبير.

 الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا: قال فَرَضَ النبي صلى الله عليه وسلم  صَدَقةَ الفِطرِ- أو قال: رمضان- عَلَى الذَّكر وَالأنثى وَالحُرِّ والمملوك ، صَاعاً من  تمر ، أوْ صَاعا مِن شَعِير.

قال: فَعدَلَ الناسُ بِهِ نِصْفَ صَاع من بُرٍّ  عَلَى الصغِيرِ وَالكبَير.

وفي لفظ: أنْ تؤَدَّى قبْلَ خُرُوج الناس إلَى الصلاَة،

  الحديث الثاني

عَنْ أبي  سَعِد الخدْرِيِّ رضي الله عَنْة قال: كُنا نعطيهَا في  زَمَن النبي صلى الله عليه وسلم، صَاعاً مِنْ طَعَام  أو صَاعاً مِنْ تَمر، أو صَاعا مِنْ شَعِير، أو صَاعاً مِنْ أقطٍ ، أوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ .

فَلِمَّا جَاءََ معاوِية وَجَاءت السَّمْرَاءُ قال: أرَى مُدّاً مِنْ ِ هذه  يعدل مُدَّيْنِ. (1)

قال أبو سعيد: أما أنا فَلاَ أزَال أخْرجُهُ كَمَا كُنْتُ أخْرجُهُ عَلى عَهدِ رَسول الله صلى الله عليه وسلم.

الغريب :

الأقط : مثلث  الهمزة، وهو  يعمل من اللبن المخيض يطبخ حتى يتبخر ماؤه ثم يجفف، وأحسنه ما كان من لبن الغنم.

السمراء: يريد بها الحنطة.

المعنى الإجمالي :

أوجب النبي صلى الله عليه وسلم صدقة  الفطر على جميع  المسلمين الذين  تفضل الصدقة عن قوتهم في ذلك اليوم، كبيرهم، وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، حر هم وعبدهم، أن يخرجوا صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير.

فلما وردت على المدينة الحنطة السمراء في زمن معاوية، وقدم المدينة حاجاً، قال: أرى أن مُدّاً من الحنطة عن مدين  من غيرها يغنى لجودتها ونفعها.

فأما أبو سعيد الخدري  رضى الله عنه فهو يقول: كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم  صاعاً من طعام، والطعام- عندهم- هو الحنطة، وكذلك صاعاً من أقط، وصاعاً من زبيب  فلا أزال أخرج الصاع من الحنطة وغيرها كما  كنت أخرجه في  عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إيثاراً للاتِّباع.

وليحصل بالصدقة الإغناء المطلوب، أمر أن تؤدى إلى الفقير قبل خروج الناس إلى الصلاة.

ما يؤخذ من الحديث :

1- وجوب زكاة " الفطر " وهو إجماع المسلمين لقوله: (فرض).

2- أن تخرج عن كل مسلم صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد.

3- أنها لا تجب عن الجنين، واستحب كثير من العلماء إخراجها عنه.

فقد ورد عن الصحابة أنه كان يعجبهم إخراجها عن الحمل. وكان عثمان يخرجها عن الحمل أيضاً.

4- ظاهر الحديث، تحديد الإخراج من الأشياء المذكورة.

والمشهور من مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجزئ غير هذه الأشياء مع وجود شيء منها.

واختار شيخ الإسلام " ابن تيمية " جواز إخراجها من قوت بلده، ولو قدر على الأصناف المذكورة، وهو رواية عن الإمام أحمد وقول أكثر العلماء. وأفضل هذه الأصناف وغيرها من أنواع الأطعمة، أنفعها للمتصدَّق عليه، لأنه الذي يحصل به الإغناء المطلوب في ذلك اليوم.

5- ظاهر حديث أبي  سعيد، أن الواجب صاع، سواء أكان من الحنطة أم من غيرها.

وهو مذهب " مالك "  و " الشافعي " و" أحمد " والجمهور.

وذهب أبو حنيفة، إلى أنه يجزيء  من الحنطة نصف صاع، و" ابن القيم " يميل في " الهدى " إلى تقوية أدلته. واختار هذا القول شيخ الإسلام " ابن تيمية " وقال: " هو قياس قول أحمد في الكفارات".

قلت: والأحوط، المذهب الأول.

6- والأفضل إخراجها فجر يوم العيد قبل الصلاة، وهو قول فقهاء المذاهب الأربعة.

فإن أخرجها بعد الصلاة فعند الحنابلة يكره يوم العيد ويحرم بعده عند الحنابلة، وعند غيرهم من جماهير الفقهاء.

وعند " ابن حزم " تحريم تأخيرها عن الصلاة لما روي  البخاري:-

" وَأمَرَ بِهَا أن تؤَدَّى قبْل خُرُوج الناس إِلَى الصَّلاَةِ ".

ولما روى  أبو داود وابن ماجه " فَمنْ أدَّاها قبل الصلاة، فَهِيَ زَكاة مَقْبُولَة وَمَنْ أدَّاهَا بَعدَ الصَّلاَة فَهيَ صَدَقَة مِنَ الصدَقاتِ، والحق أن أبا محمد أسعدهم بإصابة الدليل والقول به.

7- وهل يجوز تقديمها قبل صلاة  العيد؟.

ذهب أبو حنيفة : إلى جواز تقديمها لِحَول أو حولين، قياسا على زكاة المال.

وذهب " الشافعي " إلى جواز تقديمها من أول رمضان.

وذهب " مالك" إلى أنه لا يجوز  تعجيلها مطلقا، كالصلاة قبل وقتها.

وذهب الحنابلة إلى جواز  تعجيلها قبل العيد بيومين. لما روى البخاري: (كَانوا يُعطُونَ قبلَ الفِطر بيوم  أو يومين ) يريد  بذلك الصحابة. ولأنه لا يحصل الإغناء في ذلك اليوم إلا إذا قدمت للفقير بنحو يوم أو يومين، ليعدها ليوم  العيد، ولأنه إذا أخرها إلى قبيل الصلاة  يخشى أن لا يجد صاحبها الذي يستحقها  فيفوت وقتها المطلوب.

ولهذه الاعتبارات  الصحيحة فإن شيخنا  العلامة " عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي" رحمه الله  تعالى، يرى استحباب تقديمها بيوم أو يومين.

 كِتاب الصيَام

 أصله في اللغة : الإمساك.

 وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات مع النية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

 وصيام شهر رمضان، هو الركن الثالث من أركان الإسلام.

 والصيام من أفضل العبادات، لأنه تجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة:

 1- الصبر على طاعة الله   2- والصبر عن معاصي الله   3- والصبر على أقدار الله المؤلمة.

 ولأن الله تعالى نسب الصوم إلى نفسه، ووعد بالجزاء عليه من قِبَلِه سبحانه.

 ولأنه سرٌّ بين الرب وببن عبده، فهو من أعظم الأمانات.

 أما حِكَمه وأسراره فليس في مقدور هذه النبذة المختصرة أن تبين ذلك.

 وإنما أشير إلى قليل من كثير، ليعلم القارئ شيئاً من أسرار الله في شرعه، فيزداد إيماناً ويقيناً في وقت تزعزعت فيه العقائد، وتضعضع فيه الإيمان. فإنا لله، وإنا إليه راجعون.

 فمن تلك الحكم السامية عبادة الله، والخضوع  له، ليكون الصائم مُقْبلاً على الله تعالى، خاضعاً خاشعاً بين يديه، حينما ينكر سلطان الشهوة.

 فإن القوة تغرى بالطغيان والبطر{كَلاَّ إِنَّ الإنسانَ لَيَطْغَى أنْ رآهُ استغنى}.

 فليعلم أنه ضعيف فقير، بين يدي الله حينما يرى ضعفه وعجزه فينكر في نفسه الكبر والعظمة، فيستكين لربه، ويلين لخلقه.

 ومنها، حكم اجتماعية، من اجتماعهم على عبادة واحدة، في وقت واحد، وصبرهم جميعاً، قويهم وضعيفهم، شريفهم ووضيعهم، غنيهم وفقيرهم، على معاناتها وتحملها، مما يسبب ربْطَ قلوبهم وتآلف أرواحهم، وَلَمِّ كلمتهم.

  وليس شيء أقوى من هذه الإرادة المتينة، التي لا تحكمها أقوى الدعايات.

 كما أنه سبب عطف بعضهم على بعض، ورحمة بعضهم بعضاً، حينما يُحِس الغنَي ألم الجوع ولَدْغَ الظَّمأ.

 فيتذكر أن أخاه الفقير يعاني هذه الآلام دَهْرَه كله، فيجود عليه من ماله بشيء يزيل الضغائن والأحقاد، ويحل محلها المحبة والوئام، وبهذا يتم السِّلْمُ بين الطبقات.

 ومنها، حكم أخلاقية تَربوِية، فهو يعلِّم الصبر والتحمل، ويقوي العزيمة والإرادة، ويُمَرِّن على ملاقاة الشـدائد وتذليلها، والصعاب وتهوينها.

 ومنها حكم صِحَّيَّة، فإن المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء.

 ولابد للمعدة أن تأخذ فترة استراحة واستجمام، بعد تعب توالي الطعام عليها، واشتغالها بإصلاحه.

 هذه نبَذة يسيرة إلى شيء من حكم الله تعالى وأسراره.

 واستقصاء ما يحيط به العقل البشري يحتاج إلى تصانيف مستقلة، وفضلاً عما لا يعلمه إلا الله تعالى من الأسرار الحكيمة الرشيدة.

الحديث الأول

عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:

"لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان بِصَومْ يوم أوْ يَوْمَئن، إِلا رَجلاً كانَ يَصُومُ صَوماً فَلْيَصُمْهُ".

 الغريب :

 لا تَقَدَّموا : بفتح التاء والدال، على حذف تاء المضارعة، لأن أصله لا تتقدموا..

 المعنى الإجمالي :

 الشارع الحكيم يريد التمييز بين العبادات والعادات، ويريد أن يميز بين فروض العبادات ونوافلها ليحصل الفرق ببن هذا وذاك.

 لذا فإنه نهى عن تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين أو نحو ذلك ليكون مفطراً مستعداً لصيام شهر رمضان، إلا من كان له عادة من صوم كيوم الخميس أو الاثنين أو قضاء تضايق وقته، أو نذر لزمه، فليصمه لأنه تعلق بسببه. بخلاف نفل الصيام المطلق فأقل ما فيه الكراهة.

ما يؤخذ من الحديث :

1- النهي عن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين.

2- الرخصة في ذلك لمن صادف قبل رمضان له عادة صيام، كيوم الخميس والاثنين.

3- من حكمة ذلك- والله أعلم- تمييز فرائض العبادات من نوافلها، والاستعداد لرمضان بنشاط ورغبة، وليكون الصيام شعار ذلك الـشهر الفاضل المميز به.

الحديث الثاني 

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضي الله عنهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله  صلى الله عليه وسلم يقول :

" إذا رَأَيْتمُوه فَصُومُوا، وَإذا رَأَيْتُمُوه فَأفْطِروُا، فَإنْ غُمَّ عَليْكم فاقْدُرُوا لَهُ".

 الغريب :

 غم عيكم: بالبناء للمجهول استتر عليكم بحاجب، من غيم وغيره (غم) بضم الغين المعجمة، وتشديد الميم.

 فاقدروا له: يعني قدروا له في الحساب، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً.

  وقيل : معناه "اقدروا" ضيقوا، بأن يضيق على شعبان، فيجعل تسعاً وعشرين يوماً.

 وعلى هذين التفسيرين، حصل الخلاف الآتي:

 ويجوز الضم والكسر في (دال)- اقدروا له.

 قوله: "فصوموا" يريد أن ينوى الصـيام وتبيت تلك النية إلى الغد. وكذلك في قوله : "فأفطروا".

 المعنى الإجمالي :

 أحكام الـشرع الشريف تبني على الأصل، فلا يعدل عنه إلا بيقين.

 ومن ذلك أن الأصل بقاء شعبان، وأن الذمة بريئة من وجوب الصيام، مادام أن شعبان لم تكمل عدته ثلاثين يوماً، فيعلم أنه انتهى، أو يرى هلال رمضان، فيعلم أنه دخل.

 ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أناط صيام شهر رمضان، وفطره برؤية الهلال.

 فإن كان هناك مانع من غيم، أو قتر، أو نحوهما، أمرهم أن يقدـروا حسابه.

 وذلك بأن يتموا شعبان ثلاثين، ثم يصوموا. لأن هذا بناء على أصل "بقاء ما كان على ما كان".

 اختلاف العلماء :

 اختلف العلماء في حكم صيام يوم الثلاثين من شعبان إذا كان في مغيب الهلال غيم، أو قتر، أو نحوهما من الأشياء المانعة لرؤيته.

 فالمشهور في مذهب الإمام "أحمد" الذي قال كثير من أصحابه: إنه مذهبه- هو وجوب صومه من باب الظن والاحتياط، واستدلوا على ذلك بقوله: "فاقدروا له" وفسروها بمعنى: ضيقوا على شعبان، فقدروه تسعة وعشرين يوماً.

 وهذه الرواية عن الإمام  "أحمد" من المفردات، وهي مروية عن جملة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء.

 وذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة "أبو حنيفة " و"مالك" و"الشافعي" إلى أنه لا يجب صومه، ولو صامه عن رمضان لم يجزئه.

 واختار هذا القول، شيخ الإسلام "ابن تيمية" وقال: المنقولات الكثيرة المستفيضة عن أحمد، على هذا.

 وقال صاحب "الفروع": لم أجد عن أحمد صريح الوجوب ولا أمر به ولا يتوجه إضافته إليه.

 واختار هذه الرواية من كبار أئمة المذهب "أبو الخطاب"، و"ابن عقيل".

 ودليل هذا القول ما رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً : " صُومُوا لِرُؤيتهِ، وأفْطِروُا لِرؤيتهِ، فَإن غُمَّ عَلَيكم فَأكْمِلوا عِدَّةَ شعْبَانَ ثَلاِثين يَوماً".

 وهذا الحديث وأمثاله يبين أن معنى " فاقدروا له، يعني قدروا حسابه بجعل شعبان ثلاثين يوماً.

 وقد حقق " ابن القيم" هذا الموضوع في كتابه "الهدي" ونصر قول الجمهور، ورد غيره، وبين أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة قول صريح، إلا عن ابن عمر الذي مذهبه الاحتياط والتشديد. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن إيجاب صوم يوم الشك لا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه وإن كان بعضهم قد اعتقد أن من مذهبه إيجاب صومه. ومذهبه الصريح المنصوص عليه هو جواز فطره وجواز صومه وهو مذهب أبي حنيفة ومذهب كثير من الصحابة والتابعين. وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب ولا محرم.

 واختلفوا فيما إذا رُئي الهلال ببلد، فهل يلزم الناس جميعاً الصيام أم لا؟.

فالمشهور عن الإمام، "أحمد" وأتباعه، وجوب الصوم على عموم المسلمين في أقطار الأرض، لأن رمضان ثبت دخوله، وثبتت أحكامه، فوجب صيامه، وهو من مفردات مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة أيضاً.

 وذهب بعضهم إلى عدم وجوبه، وأن لكل أهل بلد رؤيتهم، وهو مذهب القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وإسحاق.

 لما روى كريب: قال قدمت الشام، واستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة.

 ثم قدمت المدينة في آخر الشهر. فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فأخبرته.

 فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه.

 فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟.

 فقال: لا. "هكذا أمرنا رسول صلى الله عليه وسلم" رواه مسلم.

 وذهب الشافعي في المشهور عنه إلى التفصيل.

 وهو أنه، إن اختلفت المطالع، فلكل قوم حكم مطلعهم. وإن اتفقت المطالع، فحكمهم واحد في الصيام والإفطار، وهذا اختيار شيخ الإسلام "ابن تيمية". وذكر الشيخ محمد بن عبد الواهب ابن المراكشي في كتابه "العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال" أنه إذا كان البعد بين البلدين أقل من 2226 من الكيلو مترات فهلالهما واحد، وإن كان أكثر فلا.

ما يؤخذ من الحديث :

 1- أن صيام شهر رمضان معلق برؤية الناس أو بعضهم للهلال، وردَّ ابن دقيق العيد تعليق الحكم به على حساب المنجمين وبين الصنعاني أنه لو توقف الأمر على حسابهم لم يعرفه إلا قليل من الناس. والشرع مبني على ما يعرفه الجماهير.

2- وكذلك الفطر معلق بذاك.

3-  أنه إن لم يُرَ الهلال لم يصوموا إلا بتكميل شعبان ثلاثين يوماًً. وكذلك لم يفطروا إلا بتكميل رمضان ثلاثين يوماً.

4- إنه إن حصل غيم أو قتر، قدروا عدة شعبان تمام ثلاثين يوماً. وقال الصنعاني: جمهور الفقهاء وأهل الحديث على أن المراد من "فاقدروا له"، إكمال عدة شعبان ثلانين يوماً كما فسره في حديث آخر.

5- أنه يجب الصيام يوم الثلاثين من شعبان، مع الغيم ونحوه.

الحديث الثالث 

عَنْ أنس ْبنِ مَالِكٍ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمْ :

"تَسَحًرُوا فَإن في السَّحُور بَرَكَةً"

 الغريب :

 سحور بفتح السين، ما يتسحر به، وبضمها الفعل.

 والبركة مضافة إلى كل من الفعل وما يتسحر به جميعاً.

 المعنى الإجمالي :

 يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسحر، الذي هو الأكل والشرب وقت السحر، استعداداً للصيام، ويذكر الحكمة الإلهية فيه، وهى حلول البركة، والبركة تشمل منافع الدنيا والآخرة.

 فمن بركة السحور، ما يحصل به من الإعانة على طاعة الله تعالى في النهار.

 فإن الجائع والظامئ، يكسل عن العبادة.

 ومن بركة السحور أن الصائم إذا تسحر لا يمل إعادة الصيام، خلافاً لمن لم يتسحر، فإنه يجد حرجاً ومشقة يثقلان عليه العودة إليه.

 ومن بركة السحور، الثواب الحاصل من متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام.

 ومن بركته أيضاً، أن المتسحر يقوم في آخر الليل، فيذكر الله تعالى، ويستغفره، ثم يصلي صلاة الفجر جماعة.

 بخلاف من لم يتسحر. وهذا مشاهد.

 فإن عدد المصلين في صلاة الصبح مع الجماعة في رمضان أكثر من غيره من أجل السحور.

 ومن بركة السحور، أنه عبادة، إذا نوي به الاستعانة على طاعة الله تعالى، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم،  ولله في شرعه حكم وأسرار.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- استحباب السحور وامتثال الأمر الشرعي بفعله.

2- لما يحصل فيه من البركة، فلا ينبغي تركه، والبركة تُحْمَلُ على الفعل وعلى المتسحر به. ولا يعدُّ هذا من باب حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين وإنما يستفاد من صيغتي الفتح والضم.

3- ظاهر الأمر الوجوب، ولكن ثبوت الوصال عن النبي  صلى الله عليه وسلم يصرف الأمر إلى الاستحباب.

4- يرى الصوفية أن مدة تناول السحور كمدة لإفطار، وهذا مخل بالحكمة من الصوم وهي كسر شهوتي الطعام والنكاح، ولا يمكن ذلك إلا بتقليل الغذاء. وأجاب عليهم الآخرون بأن حكمة الصوم ليست منوطة بتقليل الطعام والشراب بل بامتثال أمر الله تعالى.

الحديث الرابع

عَنْ انس بْنِ مَالِكٍ عَنْ زيْد بْن ثَابِتٍ رَضَي الله عَنْهُمَا قال: تَسَحَّرْنَا مَع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إلى الصَّلاةِ.

قال أنس: قُلْتُ لِزيْدٍ : كَمْ كَانَ بَيْنَ الأذَانِ وَالسُّحُورِ؟ قال: قَدْرُ خَمْسِينَ آيةٍ .

 الغريب :

 الأذان : يريد به. الإقامة.

 ويبين ذلك ما في الصحيحين عن أنس عن زيد قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة.

 قلت: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسين آية.

 المعنى الإجمالي :

 يروي أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما: أن زيداً تسحر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من سنته صلى الله عليه وسلم أن يتسحر قبيل الصبح.

 ولذا فإنه ـ لما تسحر- قام إلى صلاة الصبح، فسأل أنس زيداً: كم كان بين الإقامة والسحور؟ قال: قدر خمسين آية.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- أفضلية تأخير السحور إلى قبيل الفجر.

2- المبادرة بصلاة الصباح، حيث قربت من وقت الإمساك.

3- أن وقت الإمساك هو طلوع الفجر، كما قال الله تعالى: {كُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لكُمُ الخَيْطٌ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}

 بهذا نعلم أن ما يجعله الناس من وقتين، وقت للإمساك، ووقت لطلوع الفجر، بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي وسوسة من الشيطان، ليلبس عليهم دينهم، وإلا فإن السنة المحمدية أن الإمساك يكون على أول طلوع الفجر.

الحديث الخامس

عَنْ عَائِشَةَ وَأمُّ سَلَمَةَ رَضْيَ الله عَنْهُمَا:

أنً رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُدْركُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنٌبٌ مِنْ أهلِهِ. ثُمَّ     يَغتَسِلُ وَيصُومُ.

 المعنى الإجمالي :

 كان النبي صلى الله عليه وسلم بجامع في الليل، وربما أدركه الفجر وهو جنب لم يغتسل،

 ويتم صومه ولا يقضي.

 وهذا الحكم في رمضان وغيره، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولم يخالفهم إلا قليل ممن لا يعتد بخلافهم، وقد حكى بعضهم الإجماع على هذا القول.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- صحة صوم من أصبح جنباً، من جماع في الليل.

2- يقاس على الجماع الاحتلام بطريق الأولى، لأنه إذا كان مرخصاً فيه من المختار، فغيره أولى.

3-  أنه لا فرق بين الصوم الواجب والنفل ، ولا بين رمضان وغيره.

4- جواز الجماع في ليالي رمضان، ولو كان قبيل طلوع الفجر.

وأخذ بعضهم جواز الصيام من الجنب من قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِيَامِ الرَفَثُ إلى نِسَائِكم} لأن الآية تقتضي جواز الجماع في ليل الصيام كله. ومن جملته، الجزء الذي قبيل الفجر. بحيث لا يتسع للغسل، فمن ضرورته الإصباح جنباً، وهذه دلالة الإشارة عند الأصوليين.

5- فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانهن إلى الأمة.

 فقد نقلن عن النبي صلى الله عليه وسلم من العلم الشيء الكثير النافع، لا سيما الأحكام الشرعية المنزلية التي لا يطلع عليها إلا هن من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنهن وأرضاهن.

الحديث السادس

عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عَنْهُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

"مَنْ نَسيَ وهُوَ صَاِئمٌ فَأكَلَ أوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فإنَّمَا أطعَمَهُ الله وَسَقَاهُ ".

 المعنى الإجمالي :

 بنيت هذه الشريعة على اليسر والسهولة، والتكليف بقدر الطاقة، وعدم المؤاخذة بما يخرج عن الاستطاعة أو الاختيار.

 ومن ذلك أن من أكل أو شرب. أو فعل مفطراً غيرهما في نهار رمضان أو غيره من الصيام، فليتم صومه، فإنه صحيح، لأن هذا ليس من فعله المختار، وإنما هو من الله الذي أطعمه وسقاه.

 اختلاف العلماء :

 الجمهور من العلماء على أن الأكل والشرب من الناسي لا يفسد الصيام.

 والخلاف بينهم في الجماع: هل له حكم الأكل والشرب بعدم الإفساد أم لا؟.

 فذهب الإمام " أحمد" وأتباعه إلى أن الجماع مفسد للصيام، ولو كان من الجاهل أو الناسي.

 وإذا كان في نهار رمضان فهو موجب للكفارة، وهو من مفردات مذهب أحمد.

 ودليلهم على ذلك مفهوم الحديث الذي اقتصر على الأكل والشرب دون الجماع، مما يدل على مخالفته لهما.

 ولأن النسيان في الجماع بعيد، بخلاف الأكل والشرب.

 وذهب الأئمة، أبو حنيفة، والشافعي، وداود، وابن تيمية وغيرهم، إلى أنه لا يفسد الصيام. واستدلوا على ذلك بما يأتي:

 أولاً: لما روى الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : "من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة"

 قال ابن حجر: "وهو صحيح". والإفطار عام في الجماع وغيره.

 ثانياً: العمومات الواردة في مثل قوله تعالى: {ربَّنَا لا تُؤاخِذْنَا إن نسينا أو أخطأنا} "وعفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"

ثالثاً: أن المخالفين في صحة الصوم يوافقون على سقوط الإثم عنه.

وإذا كان معذوراً فإن العذر شامل، ولا وجه للتفريق.

وأجابوا عن دليل الحنابلة بأن تعليق الحكم في الأكل والشرب من باب تعليق الحكم باللقب، فلا يدل على نفيه عما عداه.

ما يؤخذ من الحديث :

1- صحة صوم من أكل أو شرب أو جامع ناسياً.

2- أنه ليس عليه إثم في أكله وشرابه، لأنه ليس له اختيار.

3- معنى إطعامه من الله تعالى وسقيه، أنه وقع من غير اختيار، وإنما الله الذي قدر له ذلك بنسيانه صيامه.

الحديث السابع

عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قَال : بَينماَ نَحن جُلُوسْ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم إذ

جَاءه رَجلٌ فقَالَ: يَا رَسولَ الله، هَلَكتُ. فقال: "ما أهلَكَكَ؟" أو مَالكً؟.

قال: وَقَعْتُ على امْرَأْتِي، وأنا صائمٌ " وفي رواية: أصبتُ أهلي في رَمَضَانَ".

فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :"هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تعتقها؟" قال: لا.

قال: "فهل تستطِعُ أن تصوم شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعْين؟" قال: لا .

قال : "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟" قال : لا. 

قال: فَسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم .

فبينما نَحْنُ على ذلك إذْ أُتي النبي صلى الله عليه وسلم  بِعَرَق فيهِ تَمرٌ" والعرق: المَكْتَلُ..

قال: "أَيْنَ السَّائِلُ؟" قالَ: أنا. قال: " خُذْ هذَا فتصَدَّق بِهِ، فقال: أعلى أفقَرَ منِّي يَا

رَسُولَ اللّه؟ فَوَ الله مَا بَيْنَ لا بَتَيْها ـ يريد الحَرَّتَيْنِ ـ أهْلُ بَيْتٍ أفْقَر مِنْ أهل بَيْتي.

فَضَحِكَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ أنيابُهُ، ثمَّ قَالَ: "أطْعِمْهُ أهْلَكَ" .

الحَرَّةُ: الأرْضُ، َتَرْكَبُهَا حجارة سود.

الغريب :

بينما: ظرف زمان يغلب أن يضاف إلى جملة اسمية.

بعرق: "العرق" بفتحتين: هو الزنبيل، يعمل من سعف النخل، وقدروها- هنا- بما يسع خـمسة عشر صاعاً.

اللابة: هي الحرة : وهي الأرض التي تعلوها حجارة سود.

والمدينة النبوية بين حرتين، شرقية وغربية.

المِكْتَل: القفة من الخوص وهي قفص من ورق النخل.

المعنى الإجمالي:

جاء سلمة بن صخر البياضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم خائفاً فقال: هلكت.

فقال له: ما أهلكك؟ قال: إنه وقع على امرأته وهو صائم في نهار رمضان فلم يعنِّفْه رسول الله  صلى الله عليه وسلم. وقال: هل تجد رقبة تعتقها كفارة لما وقع منك؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟ قال: لا، وهل أصابني ما أصابني إلا من صيام[98]، لأن به شبقاً لا يقدر معه على ترك الجماع وهو نوع مرض.

 قال: فهلِ تجد طعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مُدٌّ مِنْ بُرٍّ أو غيره؟

 قال : لا.

 فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ومكث، وإذا بأحد من الصحابة - على عادتهم ـ

 جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بزنبيل من تمر، يسع خسة عشر صاعاً ليتصدَّق به النبي صلى الله عليه وسلم : فقال أين السائل؟ فقال: أنا.

 فقال: خذ هذا التمر فتصدق به ليكون كفارة على ما اقترفت من الإثم.

 فما كان من الرجل الذي جاء خائفاً مبهوتاً- بعد أن وجد عند رسول الله الأمن والطمأنينة - إلا أن طمع في فضل الله تعالى، على يد أرحم الناس بالناس، فقال: أأتصدق به على أفقر مني يا رسول الله؟.

 ثم أقسم أنه ليس في المدينة أحد أفقر منه لما يراه من شدة الضيق عليه.

 عند ذلك تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من حاله، كيف جاء خائفاً يلتمس السلامة فرجع آمناً، معه ما يطعمه أهله، ثم أذن له بإنفاقه على أهله.

 فصلوات الله وسلامه عليه.

 اختلاف العلماء :

 يرى عامة العلماء، وجوب الكفارة على من جامع متعمداً.

 واختلفوا في الناسي، وتقدم أن الصحيح أنه ليس عليه كفارة.

 واختلفوا : هل وجوب الكفارة على التخيير أو الترتيب؟.

 فذهب مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنهما: إلى أنها على التخيير لما في الصحيحين عن أبي هريرة : "أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً" وأوجب تخييره.

 وذهب الجمهور من العلماء، كالشافعي وأبي حنيفة، والمشهور من مذهب أحمد، والثوري والأوزاعي: إلى أنها على الترتيب، مستدلين بحديث الباب وجعلوا حديث التخيير مجملاً، يبينه حديث الترتيب ليحصل العمل بهما جميعاً.

 ولو أخذ بحديث التخيير لم يمكن العمل بحديث الترتيب مع أن كليهما صحيح.

 واختلفوا هل تسقط الكفارة مع العجز عنها، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو أحد قَولي الشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرجل أن يطعم التمر أهله. ولو كان كفارة عنه ما جاز ذلك.

 وذهب الجمهور إلى أنها لا تسقط بالإعسار، لأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل ظاهره عدم سقوطها لأنه لما سأله عن أنزل درجات الكفارة ـ وهي الإطعام وقال : لا أجد- سكت ولم يبرئ ذمته منها، والأصل أنها باقية وقياساً لهذه الكفارة على سائر الكفارات والديون، من أنها لا تسقط بالإعسار.

 أما الترخيص له في إطعامه أهله، فقد قال بعض العلماء: إن المكفر إذا كفر عنه غيره، جاز أن يأكل منه ويطعم أهله.

لأحكام المأخوذة من الحديث :

1- أن الوطء في نهار رمضان من الفواحش المهلكات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه على قوله : "هلكت" و لم يكن كذلك، لهوَّن عليه الأمر.

2- أن الواطئ عمداً يجب عليه الكفارة، وهي على الترتيب، عتق رقبة فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكيناً.

3- أن الكفارة لا تسقط مع الإعسار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقطها عنه بفقره، وليس في الحديث ما يدل على السقوط.

4- جواز التكفير عن الغير ولو من أجنبي.

5-  أن له الأكل منها وإطعامها أهله ما دامت مخرجة من غيره.

6- ظاهر الحديث أنه لا فرق في الرقبة بين الكافرة والمؤمنة، وبهذا أخذ الحنفية.

والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لابد من إيمانها، ويكون الحديث مقيَّداً بالنصوص التي فيها كفارة القتل، فإنه ذكر فيها الإيمان.

7- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وكرم الوفادة عليه فقد جاءه هذا الرجل خائفاً وجلاً، فراح فرحاً، معه ما يطعم منه أهله.

8- أن من ارتكب معصية لا حدَّ فيها، ثم جاء تائباً نادماً، فإنه لا يعزر.

خلاصة فوائد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

قال:

 يُفطِّر بالنص والإجماع الأكلُ والشربُ والجماعُ. وثبت بالسنة والإجماع أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، ولكن تقضي الصيام. وقال صلى الله عليه وسلم : "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" فدل على أن نزول الماء من الأنف يفطر الصائم. فال الخطابي : لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وفي أن من استقاء عامداً فعليه القضاء، ومن احتلم بغير اختياره، كالنائم لم يفطر بالاتفاق، وأما من استمنى فأنزل فإنه يفطر. قد ثبت بدلالة الكتاب السنة أن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، ويكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومثل هذا لا تبطل عبادته، فالصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئاً  فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف.

 وأما الكحل والحقنة وما يقطر في الإحليل، ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم: فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع. والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويُفْسَدُ الصوم بها لكان هذا مما يجب بيانه على الرسول، ولو ذكر ذلك لعلِمَهُ الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلا علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك والحديث المروي في الكحل ضعيف. والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر لم يكن معهم حجة إلا القياس، وأقوى ما احتجوا به "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" وهو قياس ضعيف، وذلك أن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه، ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزيل العطش، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب. فالصائم نهي عن الأكل والشرب لأن ذلك سبب التقوِي، وليس كذلك الكحل والحقنة، ومداواة الجائفة والمأمومة، فإنها لا تغذي البتة.

 أما الجماع فإنه إحدى الشهوتين، فجرى مجرى الأكل والشرب، وقد قال تعالى في الحديث القدسي : "يدع شهوته وطعامه من أجلى" فترك الإنسان شهوته عبادة مقصودة يثاب عليها، وإنزال المني يجري مجرى الاستفراغ،  فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب ، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وكونه يضعف البدن يجعل إفساده للصوم أعظم من إفساده الأكل.

 والعلماء متنازعون في الحجامة هل تفطر أو لا؟ والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "أفطر الحاجم والمحجوم" كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ.  وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، والقول بأنها تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث، وهؤلاء أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم. وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة وهي قوله : "وهو صائم" وقالوا : الثابت أنه احتجم وهو محرم، وبأنه بأي وجه أراد إخراج الدم فقد أفطر.

 والسواك جائز بلا نزاع، لكن اختلف العلماء في كراهيته بعد الزوال، ولكن لم يقم على تلك الكـراهية دليل شرعي يصلح أن يخصص عموم نصوص السواك.

وذوق الطعام يكره لغير حاجة، لكن لا يفطر. وأما للحاجة فلا يكره.

 بَاب الصَّوم في السَّفر

جاءت هذه الشريعة بالأحكام الميسرة السمحة تحقيقاً لقوله تعالى:{مَا جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّيْنِ مِنْ حَرَج} وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُم اليسر ولا يُريِدُ بِكُمُ العُسْرَ}.

فلما كان السفر- غالباً- فيه مشقة وصعوبة، وأنه قطعة من العذاب، خفف فيه.    

ومن تلك التخفيفات، الرخصة في الفطر في نهار رمضان.    

وهي رخصة مستحبة، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ".

وهى رخصة، تعم الذي يناله بالسفر مشقة، وغيره ممن تكون أسفارهم راحة ومتعة، لأن الحكم للغالب.

وبمثل هذه الأحكام اللطيفة نعلم مدى ما تراعيه هذه الشريعة الكريمة من تخفيف ورحمة وملاءمة للأوقات والظروف، بمطالبة الناس بقدر ما يستطيعون.       

 رضينا بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم  نبياً. 

الحديث الأول

عَنْ عَائِشَةَ رَضْيَ الله عَنْهَا: أنَ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرو الأسلمي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :

أأصُوْمُ في السًفَرِ (وكان كثير الصيام).

قال : " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإنْ شِئْتَ فَأَفْطِر" .

المعنى الإجمالي :

علم الصحابة رضي الله عنهم أن الشارع الرحيم، ما رخص في الفطر في السفر إلا رحمة بهم وإشفاقاً عليهم.

فكان حمزة الأسلمي عنده جَلَدٌ وقوة على الصيام، وكان محباً للخير، كثير الصيام رضي الله عنه.  

فسأل رسول الله : "أيصوم في السـفر؟".   

فخيَّره النبي صلى الله عليه وسلم بين الصيام والفطر، فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر.

ما يؤخذ من الحديث :  

1-الرخصة في الفطر في السفر، لأنه مظنة المشقة.    

2- التخيير بين الصيام والفطر، لمن عنده  قوة على الصيام. والمراد بذلك صوم رمضان، ويوضحه ما أخرجه أبو داود والحاكم من أن حمزة بن عمرو، قال: يا رسـول الله إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر وأكريه، وربما صادفني هذا الشهر ـ يعني رمضان – وأنا أجد القوة علـيه وأجدني أن أصوم أهون على من أن أؤخره، فيكون ديناً على. فقال: "أي ذلك شئت يا حمزة".

الحديث الثاني

عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عَنْهُ قال:

كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم  فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفطِرِ، وَلا الْمُفطِرُ

عَلَى الصًائِمِ .

 المعنى الإجمالي :

كان الصحابة يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم  فيفطر بعضهم، ويصوم بعضهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم على ذلك، لأن الصيام هو الأصل والفطر رخصة، والرخصة ليس في تركها إنكار، ولذا فإنه لا يعيب بعضهم على بعض في الصيام أو الفطر.   

ما يؤخذ من الحديث :

1- جواز الفطر في السفر.

2- إقرار النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه على الصيام والفطر في السفر، مما يدل على إباحة الأمرين.

الحديث الثالث

عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رضيَ الله عَنْهُ قال:

خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في شَهْرِ رَمضَانَ في حَرِّ شَدِيدٍ ، حَتَّى إنْ كَانَ

أحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَه عَلَى رَأسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، ومَا فِيْنَا  صَائِمٌ  إلا رَسُولُ الله صلى الله عليه

وسلم، وعبْدُ الله بْنُ رَوَاحَة.

المعنى الإجمالي:

خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في رمضان، في أيام شديدة الحر.   

فمن شدة الحر، لم يصم منهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم ،  وعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه.

فهما تحمَّلا الشدة وصاما، مما يدل على جواز الصيام في السفر وإن كان ذلك مع المشقة التي لا تصل إلى حَدِّ التهلكة.     

الحديث الرابع

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَه رَضْيَ الله عَنْهُ قال:

كانَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فرَأى زِحَاماً، ورَجُلاً قَدْ ظُلِّل عَلَيْهِ، فَقَالَ:

"ما هذا؟" قالوا: صائم. قال: لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصيامُ في السَّفَرِ".

وفي لفظٍ لمسلم "عَلَيْكُم بِرُخْصَةِ الله الَّتي رَخَصَ لَكُمْ".

المعنى الإجمالي :      

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره، فرأى الناس متزاحمين ورجلا قد ظلل عليه، فسألهم عن أمره. قالوا : إنه صائم وبلغ به الظمأ هذا الحد.    

فقال الرحيم الكريم صلى الله عليه وسلم : إن الصيام في السفر ليس من البر، ولكن عليكم برخصة الله التي رخص لكم. 

فهو لم يرد منكم بعبادته تعذيب أنفسكم.    

ما يؤخذ من الحديث :      

1-   جواز الصيام في السفر. وجواز الأخذ بالرخصة بالفطر. 

2-   أن الصيام في السفر ليس براً، وإنما يجزئ ويسقط الواجب.     

3-   أن الأفضل إتيان رخص اللَه تعالى، التي خفف بها على عباده.   

اختلاف العلماء :

اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر.   

فـشدد بعض السلف، كالزهري، والنخعي : وذهبوا إلى أن صيام المسافر لا يجزئ عنه، وهو مروي عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وابن عمر، وهو مذهب الظاهرية.     

وذهب جماهير العلماء ، ومنهم الأئمة الأربعة، إلى جواز الصيام والفطر.     

 واحتج الأولون بقوله تعالى :{ فَمّنْ شَهِدَ مِنكُمُ الْشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيْضَاً أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .  

وَوَجْهُـهُ : أن الله لم يفرض الصوم إلا على من شهده، وفرض على المريض والمسافر، في أيام أخر. 

وما رواه مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم ، فصام الناس ، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ، ثم شرب ، فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام، فقال : "أؤلئك العصاة ، أؤلئك العصاة" فنسخ قوله : "أؤلئك العصاة" لصيامه.

وما رواه البخاري عن جابر : "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ" .    

واحتج الجمهور بحجج قوية، منها أحاديث الباب.   

الأول: حديث حمزة الأسلمى: "إن شِئْتَ فَصُم، وَإنْ شِئْتَ فَأفْطِر".  

 الثاني: حديث أنس: ثم كُنًا نُسَافِر مَعَ رَسُول الله فَلَمْ يَعِبِ الصَّائمُ عَلَى الُمُفطِرِ ولا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّاِئمِ".

الثالث: حديث أبي الدر داء،  فيه صيام رسول الله، وعبد الله بن رواحة.    

 وأجابوا عن أدلة الأولين بما يأتي:    

أما الآية: فالذي أُنْزِلَتْ عليه، صام بعد نزولها، وهو أعلم الخلق بمعناها فيتحتم أن معناها غير ما ذكرتم.    

وأكثر العلماء ذكروا أن فيها مُقَدَّراً تقديره : "فأَفْطَرَ".

أما قول: "أولئك العصاة" فهي واقعة عين لأناس شقَّ عليهم الصيام، فأفطر هو عليه الصلاة والسلام ليقتدوا به، فلم يفعلوا فقال: "أولئك العصاة" لعدم اقتدائهم به عليه الصلاة  والسلام.

وأما حديث "ليس من البر الصيام في السفر" فمعناه أن الصيام في السفر ليس من البر الذي يتسابق إليه ويتنافس فيه.     

فقد يكون الفطر أفضل منه، إذا كان هناك مشقة، أو كان  الفطر يساعد على الجهاد، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتي معاصيه.   

والجمهور الذين يرون جواز الصيام في السفر، اختلفوا، أيهما أفضل، الصيام أم الفطر؟.     

فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي،: إلى أن الصوم أفضل لمن لا يلحقه مشقة.

وذهب الإمام أحمد إلى أن الفطر في رمضان أفضل ولو لم يلحق الصائم مشقة.      

ويقول باستحباب الفطر أيضاً، سعيد بن المسيب، والأوزاعي وإسحاق.      

 استدل الأئمة الثلاثة بأحاديث:     

منها ما رواه أبو داود عن سلمة بن المحبق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:      

"من كانت له حُمُوْلَةٌ يأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه"   

 "والحمولة" بالضم : الأحمال التي يسافر بها صاحبها.

أما أدلة الحنابلة، فمنها حديث "ليس من البر الصيام في السفر" متفق عليه.   

وحديث " إن الله يحب أن تؤتى رخصه ".   

 فائدة :     

أما مقدار السفر الذي يباح فيه الفطر وقصر الصلاة، فقد اختلف العلماء في تحديده. 

والصحيح أنه لا يفيد بهذه التحديدات التي ذكروها، لأنه لم يرد فيه شيء عن الشارع.     

فالمشرع أطلق السفر، فنطلقه كما أطلقه.    

فما عُدَّ سفراً، أبيح فيه الرخص السفرية ، وتقدم بأبسط من هذا في "صلاة أهل الأعذار".  

الحديث الخامس

عَن أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضْي الله عَنْهُ قال: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في سَفر،

 فمِنَا الصَّائِمُ وَمِنَا الْمُفْطِرُ.  

قال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً في يَوْمٍ حَارٍّ وَأكْثَرُنَا ظِلاَّ صَاحِبُ الكساء وَمِنًا مَنْ يَتقى الشَّمْسَ بِيَدِه.  

قال: فَسَقَطَ الصُّوَّمُ وَقَامَ الْمُفْطِرُون، فَضَرَبوُا الأَبْنَيَة وَسَقُوا الركابَ.

فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " ذَهَبَ المفْطِرُون اليوْمَ بالأجر"

المعنى الإجمالي :

كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره، فبعضهم مفطر، وبعضهم صائم.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقر كلا منهم على حاله. 

فنزلوا في يوم حار ليستريحوا من عناء السفر وحر الهاجرة.   

وكانوا ـ رضي الله عنهم- متقشفين، لا يجد أكثرهم ما يظله عن الشمس إلا أن يضع يده على رأسه أو أن يضع كساء فوق عود أو شجرة فيستظل به.  

فلما نزلوا في هذه الهاجرة، سقط الصائمون من الحر والظمأ فلم يستطيعوا العمل.    

وقام المفطرون، فضربوا الأبنية بنصب الخيام والأخبية، وسقوا الإبل، وخدموا إخوانهم الصائمين.    

فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم وما قاموا به من خدمة الجيش شجعهم، وبين فضلهم وقال: " ذهب المفطرون اليم بالأجر" 

ما يؤخذ من الحديث : 

1-جواز الإفطار والصيام في السفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر كلاً على ما هو عليه.  

2-ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من رقة الحال في الدنيا، ومع ذلك لم تمنعهم رقة الحال من ارتكاب الصعاب في الجهاد في سبيل الله تعالى.   

3-فضل خدمة الإخوان والأهل، وأنها من الدين ومن الرجولة التي سبقنا فيها صفوة هذه الأمة، خلافاً لفعل كثير من المترفعين المتكبرين.

4-أن الفطر في السفر أفضل لا سيما إذا اقترن بذلك مصلحة من التقوي على الأعداء ونحوه. فإن فائدة  الصوم تلزم صاحبها، أما فائدة الإفطار في مثل ذلك اليوم فإنها تتعدى المفطر إلى غيره. ومن هنا كان الإفطار أولى.

5-حث الإسلام على العمل وترك الكسل، فقد جعل للعامل نصيباً كبيراً من الأجر، وفضله على المنقطع للعبادة

وأين هذه من الناعقين الذين يرونه ديناً عائقاً عن العمل والتقدم والرقي؟ قبحهم الله، فإنهم يهرفون بما لا يعرفون.

الحديث السادس

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: كانَ يَكُونُ عَلَيَّ الْصَّوْمُ في رَمَضَان فَمَا أسْتَطِيعُ أَنْ أقْضِيَ

إلا في شَعْبَانَ[99].    

 المعنى الإجمالي :

تذكر عائشة رَضيَ اللَه عنها أنه يكون عليها الصوم قضاءً من رمضان.      

ولمحبة النبي لها وحسن أدبها في مراعاته ومعاشرته، تؤخر صيامها إلى شعبان، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصيام فيه، فيعلم ذلك ويقرها عليه.   

ما يؤخذ من الحديث : 

1-   جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان مع العذر. 

2-   أن الأفضل التعجيل مع غير العذر. فعائشة رضي الله عنها قد بيَّنت عذرها في ذلك.    

3-   أنه لا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان التالي.     

      واختلف العلماء في وجوب الكفارة مع التأخير إلى دخول رمضان الآخر.    

      ومذهب الحنابلة أن عليه الكفارة إذَا أخر لغير عذر. 

4-   حسن عشرة عائشة رضي الله عنها. رزق الله نساءنا القدوة بها.

الحديث السابع

عَنْ عَاِئشَةَ رضي الله عَنْهَا: أنَّ رَسُوْلَ الله قال :  

"مَنَ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام صَامَ عَنْه وَلِيُّه".

وأخرجه أبو داود وقال: هذَا في النًذْر خاصَّة، وهو قول أحمد بن حنبل[100].

    المعنى الإجمالي :

الديون التي على الأموات يجب قضاؤها، سواء أكانت لله تعالى كالزكاة والصيام، أم للآدميين، كالديون المالية.    

وأولى من يتولى ذلك، ورثتهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:       

"من مات وعليه صيام، صام عنه وليه ".     

ما يؤخذ من الحديث :

1- ظاهر الحديث وجوب قضاء الصيام عن الميت سواء أكان نذراً، أم واجباً بأصل الشرع، خلافاً لتقييد أبي داود. وذكر ابن دقيق العيد أن إلحاق غير الصوم به هو من باب القياس وليس في هذا الحديث نص عليه.

2- أن الذي يتولى الصيام، هو وليُّه

والمراد به الوارث الذي انتفع بمخلفاته.

فمن مقتضى القيام بواجبه قضاء ديون الله عنه.

اختلاف العلماء :

اختلف العلماء فيمن مات وعليه صوم هل يقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال أحدها: لا يقضى عنه بحال، لا في النذر ولا في الواجب بأصل الشرع.

وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي في الجديد.

الثاني : يصام عنه النذر دون الواجب بأصل الشرع. 

وهذا مذهب الإمام أحمد، وأبي عبيد، والليث، وإسحاق، ونصره ابن القيم.  

الثالث: أنه يصام عن الميت النذر والواجب بأصل الشرع.   

وهو قول أبي ثور وأصحاب الحديث، ونصره ابن حزم، ورد قول من خالفه، وجماعة من محدثي الشافعية، وهو قول الشافعي في القديم، وعلق القول به على صحة الحديث.  

قال البيهقي: ولو وقف الشافعي على جميع طرق الأحاديث وتظاهرها لم يخالفها إن شاء الله.

واختار هذا القول شيخنا "عبد الرحمن السعدي" وقال : إنه اختيار شيخ الإسلام "ابن تيمية" في جميع الديون التي على الميت لله، أو للآدميين، أوجبها على نفسه، أو وجبت بأصل الشرع. 

استدل المانعون- مطلقاً- بأدلة.      

منها:- قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى}

وبما روي عن ابن عباس : "لا يُصَلِّ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد".

وروي عن عائشة، نحو ما روي عن ابن عباس، وهما راويان لِحدِيثَي الصيام عن الميت، وخالفاها، فاتبع رأيهما لا روايتهما، لأنهما أعلم بمعنى الحديث.       

واستدل المجيزون للقضاء- مطلقاً- بحديث الباب، فإنه عام في الواجب بأصل الشرع والواجب بالنذر، وبحديث ابن عباس الآتي بعد هذا الحديث وهو : "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟."    

فقال:، لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم. قال: " فدين الله أحق أن يقضى" قال ابن حجر: إن أحمد ومن معه حملوا العموم في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس، وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة منفصلة يسأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة. 

أما المفصلون وهم الذين يرون القضاء في النذر دون الواجب بأصل الشرع، فيرون أن حديث الباب، وحديث ابن عباس الذي بعده، مقيدان بالرواية الثانية عن ابن عباس المذكورة في هذا الباب.

ونصر "ابن القيم" هذا القول في كتابه "إعلام الموقعين" "وتهذيب السنن" وقال: إنه أعدل الأقوال، وعليه يدل كلام الصحابة.  

وقال: وتعليل حديث ابن عباس الذي قال فيه: "لا يصوم أحد عن أحد ويطعم عنه" مراده في الفرض الأصلي.  

وأما النذر فيصام عنه، وما روي عن عائشة في إفتائها في التي ماتت وعليها صوم: أنه يطعم عنها، إنما هو في الفرض لا في النذر. 

وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأن النذر ليس واجباً بأصل الشرع. وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّيْنِ الذي استدانه.

ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدَّيْنِ في حديث ابن عباس.   

ثم قال أيضاً: وسر الفرق أن النذر التزام المكلف لما شغل به ذمته لا أن الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكماً مما جعله الشارع حقاً له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه، والمعجوز عنه.  

بخلاف واجبات الشرع فإنها على قدر طاقة البدن ا.هـ. ملخصاً منه.

 فائدة :      

قضاء وَلِيِّه عنه من باب الاستحباب عند جماهير العلماء ماعدا الظاهرية فقد أوجبوه. 

وقالت الحنابلة: إن كان الميت خلف تركة، وجب القضاء، وإلا استحب وقالوا : إن صام غير الوارث أجزأه. 

الحديث الثامن

عَنْ عَبْدِ الله بِنِ عَبَّاس رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال:  

جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أمي مَاتَت وَعَلَنهَا صَوْمُ

شَهْرٍ: أفأَقضِيهِ عَنْهَا؟

قال: " لَوْ كانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْن أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟".

قال: نعم: قال: " فَدَيْنُ الله أحَقُّ أنْ يُقْضَى".

وفي رواية: جَاءَتْ امْرَأة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إن أُمِّي

 مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذرٍ، أَفَأَصُوْمُ عَنْهَا؟

قال: "أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتيِهِ، أَكَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا؟

قالت: نعم. قال: " فَصُومِي عَنْ أُمِّك".

     المعنى الإجمالي :

وقع في هذا الحديث روايتان، والظاهر من السياق، أنهما واقعتان لا واقعة واحدة.   

فالأولى :- أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أمه ماتت وعليها صوم شهر فهل يقضيه عنها.

والرواية الثانية : أن امرأة جاءت إليه صلى الله عليه وسلم  فأخبرته أن أمها ماتت وعليها صوم نذر: فهل تصوم عنها؟  

فأفتاهما جميعاً بقضاء ما على والديهما من الصوم، ثم ضرب لهما مثلاً يقرب لهما المعنى؛ ويزيد في التوضيح.  

وهو: أنه لو كان على والديهما دين لآدمي، فهل يقضيانه عنهما؟ فقالا: نعم.

فأخبرهما أن هذا الصوم دين لله على أبويهما، فإذا كان دين الآدمي يقضى، فدين الله أحق بالقضاء.     

ما يؤخذ من الحديث :      

1- عموم الرواية الأولى تفيد أن الصيام يقضى عن الميت، سواء أكان نذراً. أم واجباً أصلياً.

2- الرواية الثانية تدل على قضاء الصيام المنذور عن الميت.  

3- الظاهر أنهما واقعتان لرجل وامرأة، فتبقى كل منهما على مدلولها، ولا تقيد الأولى بالثانية، بل تبقى على عمومها.

4- عموم التعليل الذي في الحديث يشمل الديون التي لله ، والتي للخلق، والواجبة بنذر، والواجبة بأصل الشرع، بأنها كلها تقضى عن الميت، وهذا ما حكاه شيخنا "عبد الرحمن آل سعدي" عن "تقي الدين ابن تيمية " رحمهما الله تعالى.

5- فيه إثبات القياس، الذي هو أحد أصول الجمهور في الاستدلال. وقد ضرب لهما النبي عليه الصلاة والسلام المثل بما هو معهود لهما، ليكون الفهم أبلغ، وليقربه من أذهانهما، فإن تشبيه البعيد بالقريب، يسهل إدراكه وفهمه.  

6- قوله: " فدين الله أحق بالقضاء" فيه دليل على تقديم الزكاة وحقوق الله المالية إذا تزاحمت حقوقه وحقوق الآدميين في تركة المتوفى. وبعضهم قال بالمساواة ببن الحقوق.

الحديث التاسع

عَنْ سَهْلِ بِنْ سَعْدٍ السَّاعِدِي رَضْيَ الله عَنْهُ:  

 أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَزَالُ النَّاسُ بَخَيْر مَا عَجَّلُوْا الفِطْرَ

وَأَخَّرُّوا السُّحُوْر".

المعنى الإجمالي:

الشارع الحكيم يحث على تمييز العبادة ووقتها عن غيره، ليتبين النظام والطاعة، في امتثال أوامره، والوقوف بها عند حدودها.  

ولذا فإنه لما جعل غروب الشمس هو وقت إفطار الصائم، حثَّه على مبادرة الفطر عند أول ذلك الوقت، وأخبر: أن الناس لا يزالون بخير، ما عجلوا الفطر، لأنهم ـ بذلك- يحافظون على السنة.   

فإذا أخروا الفطر فهو دليل على زوال الخير عنهم لأنهم تركوا السنة التي تعود عليهم بالنفع الديني وهو المتابعة، والدنيوي الذي هو حفظ أجسامهم وتقويتها بالطعام والشراب، اللذين تتوق أنفسهم إليهما.  

ما يؤخذ من الحديث :  

1- استحباب تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس برؤية، أو خبر ثقة.      

2- أن تعجيل الفطر، دليل على بقاء الخير عند من عجله، وزوال الخير عمن أجله. 

3- الخير المشار إليه في الحديث، هو اتباع السنة، مع أنه من محبوبات النفوس.      

4- الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.       

فاٍن تأخير الإفطار عمل به الشيعة، الذين هم إحدى الفرق الضالة.  

وليس لهم قدوة في ذلك إلا اليهود، الذين لا يفطرون إلا عند ظهور النجم.   

الحديث العاشر

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَابِ رَضْيَ الله عَنْهُ قال:  

 قال رَسُولُ الله : "إذَا أَقْبَلَ الْلَيْلُ مِنْ ههُنَا، وَأَدْبَرَ الْنَّهَارُ مِنْ هَهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ  الصَّائِمُ".

 المعنى الإجمالي :

تقدم أن وقت الصيام الشرعي، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

ولذا فقد أفاد النبي صلى الله عليه وسلم أمته: أنه إذا أقبل الليل من قبل المشرق، وأدبر النهار من قبل المغرب- بغروب الشمس - فقد دخل الصائم في وقت الإفطار الذي لا ينبغي له تأخيره عنه، بل يعاب بذلك، امتثالاً لأمر الشارع، وتحقيقاً للطاعة، وتمييزاً لوقت العبادة عن غيره، وإعطاء للنفس حقها، من مُتَعِ الحياة المباحة.   

ما يؤخذ من الحديث :

1-استحباب تعجيل الفطر، إذا تحقق غروب الشمس.       

2-أنه لابد من وجود إقبال الليل الذي يقارنه إدبار النهار للإفطار. 

فإن مجرد الظُلمة من قبل المشرق مع وجود الشمس، ليس معناه إقبال الليل.  

فاٍن إقبال الليل حقيقة، مقارن لإدبار النهار، فهما متلازمان. 

3-قوله: " فقد أفطر الصائم " يحتمل معنيين:  

أ- إما أنه أفطر حكماً بدخول الإفطار ولو لم يتناول مفطراً، ويكون الحث على تعجيل الفطر في بعض الأحاديث معناه الحث على فعل الإفطار حساً ليوافق المعنى الشرعي.

ب- وإما أن يكون دخل في وقت الإفطار، كما تقول: أنْجَدَ، لمن دخل  "نجد" وأتهمَ لمن دخل "تهامة" ويكون الحث على تعجيل الفطر على بابه وهذا أولى. ويؤيده رواية البخاري "فقد حلَّ الإفطار".

4-ينبني على هذين المعنيين حكم الوصال.    

فإن قلنا: معنى " فقد أفطر الصائم" أفطر حكماً ، فالوصال باطل، لأنه لا يمكن     

وإن قلنا: معناه فقد دخل في وقت الفطر، فيكره مع اقترانه بالنَّهي عن الوصال.     

 بَابُ أفضَل الصِّيامِ وَغَيرِه

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا قال: نَهَى رَسُولُ الله عَن الْوِصَالِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ

الله إنَكَ تُوَاصِلُ.

قال: "إنِّي لَسْتُ كهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى".

ورواه أبو هريرة، وعائشة، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.

ولـ"مسلم" عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ رضي الله عَنْهُ: " فأَيُّكُمْ أرادَ أَنْ يُواصِلَ فَلْيُوَاصِل

 إلَى السَّحَرِ[101]"

المعنى الإجمالي :

الشريعة الإسلامية سمحة مُيَسَّرة لا عَنَتَ فيها ولا مشقة.

ومشرعها الحكيم، يكره الغٌلُوُّ والتعمق، لأن في ذلك تعذيباً للنفس وإرهاقاً لها، واللَه لا يكلف نفساً إلا وسعها.

ولأن التيسر والتسهيل أبقى للعمل وأسلم من السأم والملل، وفيه العدل الذي وضعه الله في الأرض، وهو إعطاء الله ما طلبه من العبادة، وإعطاء النفس حاجتها من مقوماتها.

لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصيام، وهو ترك ما يفطر بالنهار عمداً، في ليالي الصيام.

وكان صلى الله عليه وسلم ـ لما أعطاه الله ما لم يعطه غيره – يواصل الصيام.

فقال الصحابة: إنك تواصل، ولنا فيك قدوة. وذلك قبل أن يعلمهم بميزته عليهم.

فقال: إني لست مثلكم، لأني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، وليس لكم هذا، فتقوون على الوصال.

وما دمتم راغبين في الوصال، فمن وجد من نفسه قوة عليه، ورغبة فيه فَلْيُوَاصِلْ إلى السحر، لأنه تأخير لعشائه، فيكون طعامه في ليالي الصيام وجْبَة واحدة، ومن حِكَمْ الصيام، التخفف من الطعام.

اختلاف العلماء :

اختلفوا في الطعام والشراب المذكورين على قولين:

أحدهما:- أنه طعام وشراب حسِّيٌ تمسُّكاً باللفظ.

والثاني:- أنه ما يفيض على قلبه من لذيذ المناجاة والمعارف، فإنَّ توارد هذه المعاني الجليلة على القلب، يشغله عن الطعام والشراب فيستغني عنهما.

ولو كان طعاماً حسِياً لم يكن مواصلاً، ولم يقل: "لست كهيئتكم" وقد بسط القول فيه "ابن القيم" في الهدي.

واختلفوا في حكم الوصال على ثلاثة أقوال: محرم، ومكروه، وجائز مع القدرة.

فذهب إلى جوازه مع القدرة، عبد الله بن الزبير وبعض السلف كعبد الرحمن بن أبي نعم، وإبراهيم بن زيد التيمي وأبي الجوزاء.

وذهب إلى تحريمه، الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.

وذهب إلى التفصيل في ذلك، الإمام أحمد، وإسحاق. وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية، فهو عندهم جائز إلى السحر، مع أن الأولى تركه تحقيقاً لتعجيل الإفطار، ومكروه بأكثر من يوم وليلة.

استدل المجيزون بأنه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه يومين، فهو تقرير لهم عليه، ولو كان حراماً، لم يقرهم، وبأن عائشة قالت : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة بهم".

فنهيهم عنه كنهيهم عن قيام الليل، خشية أن يفرض عليهم، ولم ينكر على من بلغه أنه فعله، ممن لم يشق عليه.

فإذا كان المواصل لم يرد التشبه بأهل الكتاب، ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال.

واستدل المحرمون بنهيه صلى الله عليه وسلم، والنَّهْيُ يقتضي التحريم.

وأما مواصلته بهم، فلم يقصد به التقرير، وإنما قصد به التنكيل، كما هو مبين في بعض ألفاظ الحديث.

فحين نهاهم فلم ينتهوا بل ألحُّوا في الطلب، واصل بهم لتأكيد النَّهي والزجر، وبيان الحكمة في نهيهم، وظهور المفسدة التي نهاهم لأجلها، فبعد بيان هذا يحصل منهم الإقلاع عنه، وهو المطلوب.

وأما قول عائشة: "نهى عن الوصال رحمة بهم" فلا يمنع أن يكون النهي للتحريم، بل يؤكده، فإن من رحمته بهم أن حرمه عليهم، وكل الأوامر والنواهي الشرعية مبنية على الرحمة والشفقة.

وأما التفصيل الذي اختاره "أحمد" فذكر "ابن القيم" أنه أعدل الأقوال، لحديث أبي سعيد " لا تواصلوا، وأيكم أراد أن يواصل، فلْيُوَاصِل إلى السحر" رواه البخاري.

فهو أعدل الوصال وأسهله، لأنه - في الحقيقة- أخَّر عشاءه.

والصائم له ـ في اليوم والليلة- أكلة، ولكن الأحسن والأولى ترك الوصال مطلقاً، ولو لم يكن فيه إلا ترك تعجيل الإفطار المرغب فيه لكفى.

ما يؤخذ من  الحديث :

1- تحريم الوصال.

2- جوازه للقادر عليه إلى السحر، وتركه أولى.

3- رحمة الشارع الحكيم الرحيم بالأمة، إذ حرَّم عليهم ما يضرهم.

4-  النهي عن الغلو في الدين، فإن هذه الشريعة سمحة مقسطة، تعطي الربَّ حقه، والبدن حقهفإن الواجبات الشرعية وجبت لمصالح تعود إلى العبد في دينه ودنياه، وإن ملاحظة الشارع لتلك المصلحة هي السبب في الإيجاب على العبد.

5- أن الوصال من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الذي يقدر عليه وحده، ولا يلحقه أحد في هذا المقام.  

6- أن معنى الطعام والشراب بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، هو لذة المناجاة وسرور النفس الكبيرة بلقاء محبوبها، وله شواهد في الناس، وهذا المعنى الذي يحصل لخليل الرحمن وحبيبه، محمد صلوات الله وسلامه عليه لا يلحقه فيه أحد.

7- أن غروب الشمس وقت للإفطار، ولا يحصل به الإفطار- كما تقدم - وإلا لما كان للوصال معنى إذا صار مفطراً بغروب الشمس.

8- فيه ثبوت الخصائص للنبي صلى الله عليه وسلم، وتكون مخصصة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاص رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال:  أُخْبِرَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم أنِّي

 أقُوْلُ  والله لأَصُوْمَنَّ النًهَارَ ولأَقُوْمَنَّ اللَيْلَ مَا عِشْتُ.

فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : أنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ؟"

فقلت لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أنْتَ وَأُمِي.

قال: " فَإنَكَ لا تَسْتَطِيْعُ ذلِكَ فَصُمْ وأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشًهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فإنَّ

الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَهْرِ".

قُلْتُ : إنِّي لأُطِيْقُ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.

 قال: " فَصُمْ يَوْماً وَافطِرْ يَوْمَيْن " قُلْتُ : إنِّي لأُطِيْق أفْضَلَ مِن ذلِكَ.

 قَالَ: فَصُمْ يَؤماً وَأفْطِر يَؤماً فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ علَيْه السَّلامُ، وَهُوَ أفضَلُ الصِّيَامِ".

فَقُلْت: إنِّي لأُطِيْقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ. فقال: لا أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ".

وفي رواية قال: لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ شَطْرِ الدَّهْرِ فصُمْ يوماً

وَأفطِر يَوْمَاً".  

المعنى الإجمالي :

مجمل معنى هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ أن عبد الله بن عمرو أقسم على أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام كل عمره، فسأله: هل قال ذلك؟ فقال: نعم.

فقال: إن هذا يشق عليك ولا تحتمله، وأرشده إلى الطريق المثلى وهو أن يصوم بعض الأيام، ويفطر بعضها، ويقوم بعض الليل، وينام بعضه، وأن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ليكون كمن صام الدهر.

فأخبره أنه يطيق أكثر من ذلك، ومازال يطلب الزيادة من الصيام حتى انتهى إلى أفضل الصيام، وهو صيام داود عليه السلام، وذلك أن يصوم يوماً، ويفطر يوماً.

فطلب المزيد لرغبته في الخير رضي الله عنه. فقال. لا صوم أفضل من ذلك.

ما يؤخذ من الحديث :

1- رغبة عبد الله بن عمرو بن العاص في الخير وقوتِهِ فيه، إذ أقسم على صيام الدهر وقيام كل الليل.

2- معرفة النبي صلى الله عليه وسلم مَدَى القدرة على العمل وعاقبته، إذ أخبره أنه لا يستطيع ذلك، بمعنى أنه سيشق عليه، وقد كان.

فإن عبد الله تمنى في آخر أيامه أنه لو قام مع النبي صلى الله عليه وسلم على عمل يديمه ويقدر عليه.

3- تقدير النبي صلى الله عليه وسلم العمل بقدرة صاحبه، إذ قصر عبد الله أولاً على ثلاثة أيام من كل شهر، فلما طلب المزيد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه الرغبة والقدرة، قال: "فصم يوماَ وأفطر يومين".

فلما أظهر الرغبة في طلب الزيادة، أرشده إلى أفضل الصيام فقال: "فصم يوماً وأفطر يوماً".

4- أن آخر حد للصيام الفاضل، هو صيام يوم، وفطر يوم، وهو صيام داود عليه السلام.

5- كراهة صيام الدهر، لأنه مخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام " فصم وأفطر" ولحديث "لا صام من صام الأبد[102]"

6- سماحة هذه الشريعة، حيث يكره فيها التعمق والتنطع، ويطلب فيها السهولة واليسر، لأنه أنشط على العمل، وأدوم عليه.

الحديث الثالث

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْن العَاصْ رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال:

 قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : "إنَ أحَبَّ الصِّيَامِ إلى الله صِيَامُ دَاوُدَ، وَأحَبَّ

الصَّلاةِ إلَى الله صلاةَ دَاوُدَ، كانَ يَنَامُ نِصْـفَ الْلَيْلِ وَيَقوُمُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُـدُسَهُ، وكانَ

يَصُومُ يَوْماً ويُفطِرُ يَؤماً".

المعنى الإجمالي:

تقدم ذكر سماحة هذه الشريعة ويسرها، فإن الذي خلق الثقلين لعبادته أحب أن يعبدوه بما يسهل عليهم بلا كُلفَةٍ ولا مشقة.

فإن أحب الصيام إليه والصلاة ، ما كان النبي داود عليه الصلاة والسلام يتعبد بهما، وذلك أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام النصف الأول من الليل، ليقوم نشيطاً خفيفاً على العبادة، فيصلي ثلثه، ثم ينام سدسه الأخير ليكون نشيطا لعبادة أول النهار، وهذه الكيفية هي التي رغبها المشرع الحكيم.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن صيام يوم وفطر يوم ، هو أفضل الصيام بما فيه صيام الدهر.

2- أن نوم النصف الأول من الليل، وقيام ثلثه، ثم نوم سدسه، أفضل القيام، لما فيه من أخذ النفس حاجتها من الراحة أولا، ثم القيام وقت النـزول الإلهي، ثم نوم السدس الأخير ليكون أنشط لصلاة الصبح وأذكاره .

3- أن العبادة قسط وعدل، فلا يغفل عن عبادته، لا يغلو فيها ؛لأن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرع جاء بالعدل في كل شيء والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع، وأمر بالاقتصاد في العبادات، ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ونهى عن الوصال، فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشرع، والأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها.

4- أن الله تبارك وتعالى يتعبدك بأنواع كثيرة من العبادات.

فإذا أوغلت في نوع منها، تركت الباقي، فينبغي إبقاء شيء من القوة لسائر العبادات.

كما أن العبادات التي على الإنسان من معاشرة أهله، وزيارة أصدقائه، وطلبه الرزق في الدنيا، ومحادثة أولاده ونومه، إذا نوى بذلك الأجر وأداء الحقوق، كانت هذه العادات عبادات. ففضل الله واسع، وبِرِّه كبير.

الحديث الرابع

عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ قَالَ:

أوْصَانِي خليلي بثلاث  صيام ثلاثة أَيَّام مِنْ كُل شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأن أوْتِرَ قَبْلَ أن أنَامَ.

المعنى الإجمالي:

اشتمل هذا الحديث الشريف على ثلاث وصايا نبوية كريمة:

 الأولى : الحث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فيصير صيام ثلاثة الأيام كصيام الشهر كله.

والأفضل أن تكون الثلاثة، الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر.

كما ورد في بعض الأحاديث، وفي تخصيصها بهذه الأيام فوائد طبية.

الثانية: أن يصلي الضحى، وأقلها ركعتان، لاسيما في حق من لا يصلي من الليل، كأبي هريرة الذي اشتغل بدراسة العلم أول الليل.

وأفضل وقتهما، ارتفاع الضحى حين ترمض الفصال[103] كما جاء في حديث آخر.

الثالثة: أن من لا يقوم آخر الليل، فليوتر قبل أن ينام، كيلا يفوت وقته وكانت هذه الوصية في حق أبي هريرة وأمثاله، ممن ينامون عن الوتر آخر الليل.

ما يؤخذ من الحديث :

1- استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. والأولى أن تكون الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. وقد ورد في تعيينها حديث قتادة بن ملحان الذي أخرجه أهل السنن قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم أيام البيض ثالث عشرة ورابع عشرة وخامس عشرة، وقال: هي كهيئة الدهر".

2- استحباب صلاة الضحى والمواظبة عليها لمن لم يقم لصلاة الليل، لئلا تفوته صلاة الليل والنهار.

3- الوتر قبل النوم في حق من يغلب على ظنه أنه لا يقوم آخر الليل. آما من غلب على ظنه القيام، فيؤخره إليه، وإن فاته بنوم أو نسيان، فالمستحب أن يقضيه.

4- أن هذه الأحكام الثلاثة المذكورة، من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الغالية، التي ينبغي أن يعتنى بها ويحرص عليها، لأنها عظيمة النفع، جليلة القدر.

الحديث الخامس

عَنْ محمَّد بْنِ عبَّاد بن جَعْفَر قال:

 سَألتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله: أنَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن صَوْم الجُمُعَةِ؟ قال: نَعَمْ.

وزاد مسلم (وَرَبِّ الْكَعْبَة).

الحديث السادس

عَنْ أبي هُريرة رَضْيَ الله عَنْهُ قَالَ:

 سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُول: "لا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلاَّ أنْ

 يَصُومَ يَوْماً قَبْلَهُ أو يَوْمَاً بَعْدَهُ".

المعنى الإجمالي:

لما كان يوم الجمعة عيد الأسبوع ،  كما أن عيد الفطر وعيد الأضحى ،  عيد السنة والعيد  فيه الفرح  وإظهار السرور ،  وفيه إعلان  شكر الله على نعمه ، وطلب المزيد، كان الأولى في هذا اليوم أن يكون الإنسان مفطرا ،  ليقوى على أدائها.

 فشرع إفطار يوم الجمعة ، ولكن يبيحه ، ويزيل كراهة صومه ، أن يقرن به صوم  يوم قبله أو بعده  ، أو يكون ضمن صوم  معتاد  ، لئلا يظن العامة أيضاً تخصيص يوم الجمعة بزيادة عبادة على غيره، فيعتقدوها ـ لفضل  ذلك اليوم - واجبة.

ما يؤخذ من الحديثين :

1- النهى عن صوم يوم الجمعة.

2- جواز صومه إذا قرن بصيامٍ قبله أو بعده، أو كان في صوم معتاد.

3- يحمل النهي في صومه على التنزيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه في جملة صومه الذي يصوم.

ورخص بصومه إذا قرن بغيره، ولو كان حراماً ما صيم، كعيد الفطر والنحر.

الحديث السابع

عَنْ أبي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أزْهَرَ، وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبيْدِ، قَال:

 شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْن الْخطَّابِ رَضْيَ الله عَنْهُ فَقَالَ: هذَانِ يَوْمَانِ[104] نَهَى رَسُوْل الله

صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْم فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَاليَوْم الآخَرُ اَّلذي تَأكُلُوْنَ

فِيهِ مِنْ نسُكِكُمْ[105].

المعنى الإجمالي:

عيد الفطر وعيد النحر، هما العيدان الإسلاميان، اللذان جعلهما الشارع الحكيم الكريم يوْمَيْ فرح وسرور، وبهجة وحبور، يأتي فيهما المسلمون أنواع المتع المباحة من الأكل والشراب واللباس والزينة وغيرهما.

وقد حرم صومهما، لأن الفطر هو تحليل الصيام، كالسلام للصلاة، ولأن الأضحى يوم الأكل من الضحايا والهدايا، التي أمر الله تعالى بالأكل منهما.

فالخلق في هذين اليومين أضياف الله، فلْيقبلوا ضيافته، وليفطروا فيهما.

ما يؤخذ من الحديث:

1- تحريم صوم يَوْمَيْ الفطر والأضحى.

2- أن الصوم فيهما لا ينعقد، فلا يصح، سواء كان لقضاء أو نفل أو نذر.

3- حكمة النهي عن صومهما، ما أشار إليه في الحديث، من أن عيد الفطر هو اليوم الذي انتهى بدخوله شهر رمضان، فلتميز ولتعرف حدود الصوم الواجب بالفطر.

كما نهى عن صيام يوم أو يومين قبله، تمييزاً له عن غيره.

وأما الأضحى، فلأنه يوم النسك الذي أمر بالأكل منه، فليبادر إلى امتثال أمره، بالتناول من طيبات رزقه، فليس من الأدب واللياقة، الإعراض عن ضيافة الكريم.

4- أنه يستحب للخطيب أن يذكر في خطبته ما يتعلق بوقته من الأحكام ويتحرى المناسبات.

الحديث الثامن

عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضيَ الله عَنْه قَالَ:

نَهَى رَسُولُ الله عَنْ صَوم يوْمَيْن : النَّحْرِ، والْفِطْرِ وَعَن اشْتِمَالِ الصَّمَّاء وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ

في الْثَّوْبِ الوَاحِدِ وَعَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ والْعَصْرِ.  

أخرجه "مسلم " بتمامه، وأخرج "البخاري" الصوم فقط[106].

الغريب :

الاحتباء: هو أن يقعد الرجل على إليتيه وينصب ساقيه يدير عليهما ثوباً واحداً.

الصماء: هو أن يرد الرجل الكساء من قبل ميمنته على يده اليسرى، وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعاً بثوب ليس له منافذ.

المعنى الإجمالي :

نهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، عن صيام يومين، وعن لبستين، وعن صلاتين.

فأما اليومان المحرم صومهما، فيوم الفطر، ويوم النحر وتقدم شيء منْ حكمة تحريم الصيام فيهما.

وأما اللبستان، فاشتمال الثوب الأصم، الذي ليس له منافذ، فإن لبسه يضر بالصحة، لعدم المنافذ المهوية فيه، ولأنه عنوان الكسل والبطالة، فلبسه يشل الحركة والعمل المطلوبين.

وأما الاحتباء بثوب واحد، فلأنه يخشى معه انكشاف العورة.

وأما الصلاتان، فالصلاة بعد صلاة الصبح، والصلاة بعد صلاة العصر.

فإن الوقتين اللذين بعدهما، وقتا عبادة المشركين، وقد تقدم الكلام عليهما.

 ما يؤخذ من الحديث :

1-   النهي عن هذه الأشياء المعدودة في الحديث.

2-   النهي عن صيام العيدين، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر، من باب التحريم.

   والنهي عن اللبستين، للكراهة، ما لم يغلب على الظن انكشاف العورة، فيحرم.

3-   مراعاة الشارع مصالح العباد في كل شيء.

الحديث التاسع

عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضْيَ الله عَنْهُ قال:  قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :

" مَنْ صَامَ يَوْماً في سبيل اللّه بَعَّدَ اللّه وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً".

المعنى الإجمالي:

الصيام من العبادات البدنية الشاقة، والجهاد من العبادات المالية والبدنية الصعبة.

فمن قوي عليهما جميعأ، فقام بهما في آن واحد ، فهذا من الذين تركوا راحة الحياة والتلذذ بنعيمها، رغبة فيما عند اللَه تعالى من النعيم، وهرباً من عذابه الأليم، فجزاؤه عند الله تعالى أن يبعده بصوم اليوم الواحد في سبيل اللَه عن النار سبعين سنة.

 وإبعاده عن النار، يقتضي تقريبه من الجنة، إذ ليس هناك إلا طريق للجنة وطريق للسعير.

ما يؤخذ من الحديث:

1-  فضل الصيام إبَّانَ الجهاد في سبيل الله تعالى، وما يترتب عليه من الثواب العظيم.

2-  يقيد استحباب الصيام في سبيل الله بعدم الإضعاف عن الجهاد.

فإن أضعفه فالمستحب له تركه، لأن الجهاد من المصالح العامة، والصوم مصلحة مقصورة على الصائم، وكلما عمت مصلحة العبادة، كانت أولى.

 بَابُ لَيلَة القَدْرِ

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عمَرَ رَضْيَ اللَه عَنْهُمَا:

أنً رِجَالاً مِنْ أصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المنام. في السْبعِ

الأوَاخِرِ. فقال رَسُـوْلُ الله صلى الله عليه وسـلم : "أرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأًتْ في

السَّـبْعِ الأوَاخِرِ، فمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَحَرِّيَها فَلْيَتَحَرًهَا في السَّبْع الأوَاخِرِ".

الحديث الثاني

عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أَنَّ رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

"تَحَّرَُوْا ليْلَةََ الْقَدْرِ فَي الوِتْرِ[107] مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ" .

الغريب :

1- أروا فعل ماضٍ مبني للمجهول من الرؤية.

2- ليلة القدر ليلة مباركة من ليالي رمضان سميت "ليلة القدر" لعظيم قدرها وشرفها. وقيل: لأن للطاعات فيها قدراً، والمعنيان متلازمان.  

3- العشر الأواخر: يعني الليالي العشر الأخيرة  من شهر رمضان، لأن لها فضلاً ومزية.  

5- قد تواطأت: أصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطئه من قبْله فنقلت هنا إلى معنى موافقة رؤيا الرجل، لرؤيا الآخر.  

فتواطأت: مثل توافقت لفظاً ومعنى.

المعنى الإجمالي :

ليلة القدر، ليلة شريفة عظيمة، فيها تضاعف الحسنات وتكفر السيئات، وتقدر الأمور.

ولما علم الصحابة رضي الله عنهم فضلها وكبير منزلتها، أحبوا الاطلاع على وقتها.

ولكن الله سبحانه وتعالى - بحكمته ورحمته بخلقه - أخفاها عنهم ليطول تلمسهم لها في الليالي، فيكثروا من العبادة التي تعود عليهم بالنفع.

فكان الصحابة يرونها في المنام، واتفقت رؤاهم على أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر، فمن كان متحرياً فليتحرها في العشر الأواخر، خصوصاً في أوتار تلك العشر، فإنها أرجى.

وأرجاها وأكثرها علامات ودلالات هي ليلة سبع وعشرين من رمضان.

 فليحرص على رمضان، وعشره الأخير أكثر، وليلة سبع وعشرين أبلغ. وفقنا الله لنفحاته الكريمة.

 اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في تعيين ليلة القدر، وحكى فيها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" سبعة وأربعين قولاً.

وقد قصد بذلك المشاركة في إبهامها وتعميقها، ولكنه رجح منها أنها في أوتار العشر الأخيرة من رمضان.

وقال الإمام أحمد: أرجاها ليلهَ سبع وعشرين. وهذا القول أرجحها دليلاً.

ما يؤخذ من الحديث :

1- فضل ليلة القدر، لما ميزها الله تعالى من ابتداء نزول القرآن، وتقدير الأمور، وتنزيل الملائكة الكرام فيها.  

فصارت في العبادة عن ألف شهر، لمزيد المضاعفة.

2- أن الله تبارك وتعالى- من حكمته ورحمته- أخفاها لِيَجِدَّ الناس في العبادة، طلباً لها، فيكثر ثوابهم.  

3- أنها في رمضان وفي العشر الأخير أقرب. خصوصاً، ليلة سبع وعشرين.  

1- أن الرؤيا الصالحة حقٌّ، يعمل بها إذا لم تخالف القواعد الشرعية.  

فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل تواطؤ رؤياهم على أنها في العشر الأخير، دليلاً على كونها فيها.

5- استحباب طلبها، والتعرض فيها لنفحات الله تعالى.  

فهذه ليلة مباركة تضاعف فيها الأعمال، ويستجاب فيها الدعاء، ويسمع النداء.

والمحروم، من حرم طلبها والتعرض لرحمة الله في مظانها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان والليالي العشر إلا واحداً من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة. قال ابن القيم: إذ تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا فإنه ليس من أيامٍ العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة. وأما ليالي عشر رمضان فهي الليالي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحييها كلها. فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.

الحديث الثالث

عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضْيَ الله عَنْهُ: أَنَّ رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسـلم كَانَ يَعْتَكِفُ

فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فاعْتَكَفََ عَاماً حَتَّى[108] إِذا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ -

وَهِيَ الْلَيْلَةُ الْتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيْحَتِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ- قَالَ:

مَنِ اعْتَكَفَ معِي فَلْيَعْتَكِفْ في العَشْـرِ الأوَاخِرِ. فَقَدْ أُرِيْتُ هذِهِ الْليْلةَ ثُمَّ أنْسِـيتهَا، وَقَدْ

رَأَيْتُنِي أَسْـجُدُ فِي مَاءٍ وَطِيْنٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ، والْتَمِسُوهَا فِي

كُل وِتْرٍ.

قَال: فَمَطَرَتِ السَّـمَاءُ تِلكَ الْلَيْـلَةَ، وَكَانَ الْمَسْـجِدُ عَلى عَرِيشٍ فَوَكَفَ الْمَسْـجِدُ،

فَأبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُـولِ الله صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ المَاءِ وَالطِّين مِنْ صُبْحِِ

إحْدَى وَعشْرِيْنَ.

 الغريب :

في العشر الأوسط : قياسه "الوسطى" لأن العشر مؤنثة، وتوجيه صحته أنه أراد اليوم.

فوكف المسجد: أي قطر من سقفه، ومنه: وكف الدمع.

أريت هذه الليلة ثم أنسيتها: معناه أخبرت في موضعها ثم نسيت كيف أخبرت لحكمة إلهيَّةٍ لا أنه رآها عياناً.

المعنى الإجمالي :

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الوسطى من شهر رمضان ابتغاء ليلة القدر وتحرياً لمصادفتها لأنه يظن أنها في تلك العشر.

فاعتكف عاماً- كعادته- حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه، علم أن لليلة القدر في العشر الأواخر، فقال لأصحابه:

من اعتكف معي في العشر الوسطى، فليواصل اعتكافه وليعتكف العشر الأواخر.

فقد رأيت في المنام هذه الليلة وأنسيتها وقد رأيتني فيها في المنام أسجد في ماء وطين، وهي رؤيا حق ولم يأت تأويلها، فلابد أنها أمامكم في العشر الأواخر فالتمسوها فيها.

فصدق الله رؤيا نبيه صلى الله عليه وسلم . فمطرت  السماء تلك الليلة.

وكان مسجده صلى الله عليه وسلم مبنيا كهيئة العريش، عمده من جذوع النخل، وسقفه من جريدها، فوكف المسجد من أثر المطر، فسجد صلى الله عليه وسلم صبيحة إحدى وعشرين، في ماء وطين.

ما يؤخذ هن الحديث:

1-كون النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسطى، طلباً لليلة القدر، قبل علمه أن وقتها في العشر الأواخر.  

2- هذا الحديث من أدلة الذين يرونها في ليلة إحدى وعشرين.  

3- يدل هذا الحديث على أنها في العشر الأواخر، وفي أوتارها آكد.  

4- أن الرؤيا حق لا سيما رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.  

5- صفة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه، وكونه عريشاً قد سقف بالجريد الملبد بالطينِ، وحيطانه بعسبان النخل، وسواريه بجذوع النخل. فعمارتهم المساجد، بالطاعة فيها، لا بالتشييد والزخرفة.

 بَاب الاعتِكَاف

الاعتكاف: في اللغة، لزوم الشيء وحبس النفس عليه، ومنه قوله تعالى: {يَعْكُفُوْنَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ} أي يلازمونها ويقيمون عليها.

وهو في الشرع: "المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة لطاعة الله".

أما حكمه: فقد أجمع العلماء على مشروعيته، وأجمعوا أيضاً على أنه مستحب ليس بواجب.

وأما حكمته وفائدته:- فقد قال "ابن القيم " في "الهدى" لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، شرع الاعتكاف الذي مقصوده وروحه، عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله، بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه. فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

وذكر عقيب الصيام لمناسبتين:

الأولى: أن جملة الكلام على الصيام سيتناول صيام شهر رمضان، وهو الذي يتأكد استحباب الاعتكاف فيه، لما يرجى فيه من ليلة القدر.

الثانية : اتفاق العلماء على مشروعية الصيام مع الاعتكاف لأن تمام قطع العلائق عن الدنيا يكون بالصيام.

وقد اشترط الحنفية والمالكية لصحة الاعتكاف، الصيام. ورد عليهم الصنعاني بأنه لا دليل لهم إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا صائماً. والفعل المجرد لا يكون دالاً على الشرطية. وقد اعتكف في شوال ولم ينقل أنه صام أيام اعتكافه.

الحديث الأول

عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ اللَه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ في الْعَشْرِ

الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتًى تَوَفَّاهُ الله تَعَالى. ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدَهُ.

وفي لفظٍ : "كَانَ رَسُـولُ الله يَعْتَكِفُ في كلِّ رَمَضَانَ، فَإذَا صلَّى الْغَدَاةَ، جَاءَ مَكَانَهُ

 الَّذِي اعْتَكَفَ فِيْهِ".

المعنى الإجمالي :

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، طلباً لليلة القدر، بعد أن علم أنها في تلك العشر، واستمر يعتكفهن كل سنة، حتى توفاه الله تعالى.

ثم اعتكف أزواجه رضي الله عنهن، من بعده يطلبن ما طلب.

وإذا صلى الصبح دخل معتكفه، وهو ما يحتجزه من المسجد للخلوة وقطع العلائق عن الخلائق.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية الاعتكاف، وأنه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، التي يحرص عليها.

2- فائدته وثمرته: هي أن يقطع المعتكِف علائقه عن الدنيا وما فيها، ويخلو بربه، ويتلذذ بمناجاته وجمعه نفسه وخواطره وأفكاره، عليه وعلى عبادته.

3- أن اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم استقر- أخيراً- على العشر الأواخر من رمضان، لما يُرجَى فيهن من ليلة القدر.

4- أن الاعتكاف سنة مستمرة لم تنسخ إذ اعتكف أزواجه صلى الله عليه وسلم بعده.

5- أن وقت دخول المعتكِف مكان اعتكافه، يكون بعد صلاة الصبح.

6- أنه لا بأس من أن يحتجز المعتكف ما يخلو به إذا لم يضيق على المصلين. لما أخرج الشيخانْ عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف أمر بضرب خبائه فضرب.

7- يؤخذ من معنى الاعتكاف، ومن مقصده أن المعتكف يجتنب الجماع ودواعيه، والخروج من معتكفه لغير حاجة، ويجتنب أعمال الدنيا من المعاوضات والصنائع ونحوها، وأن يُقِلَّ من مخالطة الناس لغير اجتماع في ذكر أو قرآن، لأن هذه الأشياء وأشباهها، منافية للاعتكاف.

8- أن شرط الاعتكاف أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة لقوله تعالى : {وأنتم عاكفون في المساجد} لئلا يفضي اعتكافه إلى ترك الجماعة، أو إلى تكرار الخروج إليها كثيراً.

الحديث الثاني

عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّها كَانَتْ ترَجِّلُ النَّبِي صلى الله عليه وسـلم وَهِيَ حَائِضٌ،

 وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ، وهِيَ فِي حُجْرَتِهَا، يُنَاوِلُهَا رَأسَهُ.

وفي رواية: "وَكَانَ لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلاَّ لِحَاجَةِ الإنْسَانِ".

وفي رواية: " أنَ عَائِشَةَ قَالَتْ: إني كُنْت لا أدْخُلُ الْبَيْتَ إلاَّ لِلْحَاجَةِ والْمَرِيضُ فِيهِ، فَمَا

 أَسْأَلُ عَنْهُ إلاَّ وَأَنَا مَارَّة.

الترجيل: تسريح الشعر.

المعنى الإجمالي:

اليهود يتشددون في أمر الحائض فيجتنبون منها ما أباحه الله، من المباشرة والمضاجعة، بل يعتزلونها ويرونها رجساً نجساً.

والنصارى على نقيضيهم، فلا يتحاشون عنها، بل يعاملونها معاملة الطاهرة.

أما الإسلام دين السماح واليسر، ودين العدل والتوسط، فيراها طاهرة في بدنها وعرقها وثوبها. فالمؤمن لا ينجس، لا حيا ولا ميتاً

فلا بأس من مباشرتها للأشياء الرطبة واليابسة. بل لا بأس من أن يباشرها زوجها بما دون الفرج.

أما الجماع فيحرمه لما فيه من الخبث، الذي يعود بالضرر على المجامع وعلى الولد إن قُدِّر في ذاك الجماع.

لذا كانت عائشة رضي الله عنها تصلح رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهى حائض.

فكان اعتكافه لا يمنعه من ترجيل شعره، وتنظيف بدنه، وكان لا يخرج من المسجد لذلك، بل يناولها رأسه وهو في المسجد وهي في بيتها.

فقد كان اعتكافه يمنعه من الخروج إلا لما فيه حاجته من طعام أو شراب، أو قضاء حاجة ونحو ذلك.

فالاعتكاف لزوم المسجد. والخروج ينافيه، لذا حكت عائشة عن نفسها أنها لا تدخل البيت إلا لحاجةٍ إذا اعتكفت.

ومن اهتمامها بسرعة الرجوع، يكون المريض في طريقها فلا تقف لتواسيه، بل تسأل عنه وهي في طريقها بالذهاب أو الإياب إلى المسجد.

ما يؤخذ من الحديث :

1-   أن الاعتكاف لا يمنع من ترجيل الشعر وغسله وأنواع التنظيف.

2-   أنه لا بأس من ملامسة الحائض ومباشرتها للأشياء.

3-   أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد.

4-   أن المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لحاجة، كالطعام والشراب.

5-   أن إخراج بعض البدن من المسجد، لا يعد خروجا.

6-   أن الحائض لا تمكث في المسجد، لئلا تلوثه.

7-   أن من خرج لقضاء حاجة فَلْيَعُدْ إليه سريعاً، ولا يشتغل بغير حاجته التي أباحت له الخروج.

8-   أن لمس المرأة لغير شهوة، لا يضر في الاعتكاف.

الحديث الثالث

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطًابِ رَضيَ الله عَنْهُ قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ في الجَاهِلية

ِ أَنْ أعْتَكِفََ لَيْلَةً "وفي رواية: يَوْمَاً فِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ".

قال: " فَأوْفِ بِنَذْرِكَ " ولم يذكر بعض الرواة "يوماً" ولا "ليلة".

المعنى الإجمالي :

نذر عمر بن الخطاب في الجاهلية أن يعتكف يوماً وليلة في المسجد الحرام، فسأل النبي عن حكم نذره.

فلما كان مطالباً بوفائه، سواء عقده في حال كفره أو إسلامه، أمره أن يوفي بنذره، لأنه وإن كان عقده مكروهاً إلا أن الوفاء به واجب.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب الوفاء بالنذر، ولو عقد في حال الكفر.

2- إذا عيَّن لاعتكافه المسجد الحرام تعيَّن، فإن عيَّن ما دونه من المساجد أجزأه عنها، وكل مسجد فاضل يجزئ عما دونه بالفضل.

3- أن الاعتكاف يجب بالنذر، ويلزم الوفاء به.

4-ورد في الحديث نذر " ليلة " وورد "يوماً" وورد مطلقاً. فمن أخذ برواية الليل أجزأه الاعتكاف بدون صوم.

ومن جعل المراد بالليل أو اليوم ما يشملهما جميعاً، اشترط الصوم في الاعتكاف، وهما قولان للعلماء، والأحوط الصيام معه.

الحديث الرابع

عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُييٍّ رضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفاً

في المَسْـجِدِ، فَأَتَيْتُهُ أَزُورَهُ لَيْـلاً، فَحَدَّثْتُهُ. ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ

مَسْكَنُهَا فِي بَيْتِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.

فَمَرّ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَلَمَّا رأَيَا رَسُـوْلَ اللّه صلى الله عليه وسلم أسْرَعَا في المَشْي.

فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : (عَلَى رِسْلِكُمَا، إنًهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ).

فَقَالا: سُبْحَانَ الله يَا رَسُولَ الله.

فَقَالَ:"إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإنِّي خِفْتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا

شَرَّاً (أو قال: شَيْئاً).

وفي رواية: أنَّـهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ في اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْـجِدِ، فِي العَشْـرِ الأوَاخِرِ مِنْ

رَمَضَانَ، فتَحدََّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَعَهَا

 يَقْلِبُهَا. حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عَنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَة" ثُمَّ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.

الغريب :

حُيي : بضم الحاء. هو ابن أخطب اليهودي زعيم بني النضير قتل مع بني قريظة صبراً.

ليقلبني: بفتح الياء وسكون القاف، ليردني ويرجعني إلى منزلي.

في بيت أسامة: نسب البيت إلى أسامة بن زيد، فإنه صار له بعد ذلك.

على رسلكما: بكسر الراء: أي على هينتكما، أي تمهلا  ولا تسرعا.

فقالا: سبحان الله، تسبيحٌ وردَ مورد التعجب.

المعنى الإجمالي :

كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً في العشر الأواخر من رمضان.

وكان ينقطع في معتكفه عن الناس إلا قليلاً للمصلحة.

ولذا فإن زوجه صفية رضي الله عنها زارته في إحدى الليالي فحدثته ساعة، ثم قامت إلى بيتها.

فلِمَا جبله الله عليه من كرم الأخلاق واللطف العظيم، وجبر القلوب، قام معها ليشيعها ويؤنسها من وحشة الليل.

وفي أثناء سيره معها، مرَّ رجلان من الأنصار، فاستحييا أن يسايرا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أهله، فأسرعا في مشيهما.

فقال لهما: تمهلا ولا تسرعا، فإن التي معي زوجي صفية.

فتعجبا وكبر عليهما ذلك وقالا: سبحان الله! كيف تظن يا رسول الله أننا نظن شيئاً؟!

فأخبرهما أنه لم يظن بهما ذلك، وإنما أخبرهما أن الشيطان حريص على إغواء بني آدم، وله قدرة عليهم عظيمة فإنه يجري منهم مجرى الدم من لطف مداخله، وخَفِيِّ مسالكه. أعاذنا الله منه، بحمايته آمين.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية الاعتكاف، لاسيما في العشر الأواخر من رمضان.

2- أن المحادثة اليسيرة لا تنافي الاعتكاف، خصوصاً لمصلحة، كمؤانسة الأهل مثلاً.

3- وفيه حسن خلقه ولطفه صلى الله عليه وسلم، إذ آنسها، ثم قام ليشيعها إلى بيتها.

فكذا ينبغي أن يتحلَّى المسلمون بمثل هذه الأخلاق النبوية الكريمة.

4- وفيه أنه ينبغي أن يريل الإنسان ما يلحقه من تهمة، لئلا يظن به شيء هو بريء منه، أي ينبغي التحرز مما يسبب التهمة.

5- أن الشيطان له قدرة وتمكن قَوِيٌّ من إغواء بني آدم، فهو يجري منهم مجرى الدم.

قال "ابن دقيق العيد": وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدى بهم.

6- وفيه شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته:

فإنه يعلم من ظاهر الحال أن الرجلين لم يظنا شيئا، وإنما علم كيد الشيطان الشديد، فخاف عليهما أن يوسوس لهما بشيء يكون سبب هلاكهما

7- قال بعض العلماء: ومنه ينبغي للحاكم أن يبيِّن للمحكوم عليه وجه الحكم، إذا كان خافياً عليه، نفياً للتهمة.

8- جواز خلوة المعتكف بزوجه ومحادثتها، إذا لم يُثِرْ ذلك شهوته المنافية للاعتكاف.

9- قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس. وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه لا يؤاخذ به لقوله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}. قال الصنعاني: الوساوس تطرق القلب، فإن استرسل العبد معها قادته إلى الشك، وإن قطعها بالذكر والاستعاذة ذهبت عنه.

 كِتَابِ الحَجّ

الحج: لغة، القصد: وشرعاً: القصد إلى البيت الحرام، لأعمال مخصوصة، في زمن مخصوص.

وابتدأ المصنف بـ "الصلاة" لأنها أهم أركان الدين بعد الشهادتين.

وثَنَّى بـ "الزكاة" لأنها قرينتها في آيات القرآن الكريم.

وثلَّث بـ "الصيام"، لكونه يجب كل سنة، ويطيقه ويقوم به الجمهور من المسلمين.

وأخَّر "الحج"، لأنه لا يجب إلا مرة في العمر، ولا يجب إلا على القادرين، وهم أقل من العاجزين.

وقد ثبت بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، فوجوبه معلوم من الدين بالضرورة.

وفرض سنة تسع من الهجرة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، سنة عشر، بعد أن طهَّر البيت من آثار الشرك.

أما فضله فقد وردت فيه النصوص الكثيرة الصحيحة ومنها "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"[109].

أما حِكَمُهُ وأسراره، فأكثر من أن تحصى، ولا يوفيها -بياناً- إلا التصانيف المستقلة في الأسفار المطولة.

وَلْنُلِمَّ بنُبْذَةٍ منها ليقف القارئ على قُلٍّ من كُثْرٍ من أسرار شريعته الرشيدة وأهدافها الحميدة، فيرى أن له ديناً يهدف – بعباداته - إلى صلاح الدين والدنيا.

فهذا المؤتمر الإسلامي العظيم، وهذا الاجتماع الحاشد، فيه من المنافع الدينية والدنيوية والثقافية والاجتماعية والسياسية، ما يفوت الحصر والعدِّ.

أما الدينية، فما يقوم به الحاج من هذه العبادة الجليلة، التي تشتمل على أنواع من التذلل والخضوع، بين يدي الله تعالى.

فمنها تقحُّم الأسفار وإنفاق الأموال، والخروج من ملاذ الحياة، بخلع الثياب واستبدالها بإزار ورداء، حاسر الرأس، وترك الطيب والنساء، وترك الترفُّه بأخذ الشعور والأظفار ثم التنقل بين هذه المشاعر.

كل هذا بقلوب خاشعة، وأعين دامعة، وألسنة مكبرة ملبية.

قد حدا بهم الشوق إلى بيت ربهم، ناسين- في سبيل ذلك ـ الأهل والأوطان والأموال، والنفس والنفيس، فما ترى ثوابهم عند ربهم؟

أما الثقافية، فقد أمر الله بالسير في الأرض، للاستبصار والاعتبار.

ففيه من معرفة أحوال الناس، والاتصال بهم، والتعرف على شئون الوفود، التي تمثل أصقاع العالم كله، ما يزيد الإنسان بصيرة وعلماً، إذا تحاكَّ بعلمائهم، واتصل بنبهائهم، فيجد لكل علمٍ  وفنٍ طائفة تمثله.

أما الاجتماعية والسياسية، فإن الحج مؤتمر عظيم، يضم وفوداً متنوعة العلوم، مختلفة الثقافات، متباينة الاتجاهات والنزعات، فإذا اجتمع كل حزب بحزبه، وكل طائفة بشبيهتها، ومثلوا "لجان الحكومة الواحدة" ودرسوا وضعهم الغابر والحاضر والمستقبل، ورأوا ما الذي أخرهم، وما الذي يقدمهم، وما هي أسباب الفرقة بينهم، وما أسباب الائتلاف والاجتماع، وتوحيد الكلمة.

وبحثوا شئونهم الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، على أساس المحبة والوئام، وبروح الوحدة والالتئام.

أصبحوا يداً واحدة ضد عدوهم، وقوة مرهوبة في وجه المعتدي عليهم.

وبهذا يصير لهم كيان مستقل خاص، له مميزاته وأهدافه ومقاصده.

يسمع صوته ويصغى إلى كلمته، ويحسب له ألف حساب.

وبهذا يعود للمسلمين عزَّهم، ويرجع إليهم سؤددهم، ويبنون دولة إسلامية، دستورها كتاب الله وسنة رسوله، وشعارها العدل والمساواة، وهدفها الصالح العام، وغايتها الأمن والسلام.

حينئذٍ تتجه إليهم أنظار الدنيا، وتسلم الزمام إليهم، فيمسكونه بأيديهم، ويُقَوِّضُونَ مجالس بُنِيتْ على الظلم والبَغْي، ويبنون على أنقاضها العدل والإحسان.

وبهذا يقر السلام، ويستتب الأمن، وتتجه المصانع التي تصنع للموت الذريع أسلحة الدمار والخراب، إلى أن تخترع المعدات التي تساعد على التثمير والتصنيع، وإخراج خيرات الأرض، فتحقق حكمة الله بخلقه، ويحل الخصب والرخاء، والأمن والسلام مكان الجدب والغلاء، والخوف والدماء.

ولكن لابد لكمال تحقق أعمال هذا "المؤتمر" من لغة موحدة، يتفاهمون بها.

وأولى اللغات بذلك "لغة القرآن".

كما أنه لابد من التنظيم، والتنسيق، والرعايا من الحاكمين.

وإذا علمت ثمرات هذه الاجتماعات الإسلامية، فهمت جيداً - أيها المسلم المؤمن - أن لك ديناً عظيماً، جليل القدر، يقصد منه - بعد عبادة الله - صلاح الكون واتساقه، لأن الاجتماع هو أعظم وسيلة لجمع الأمة وتوحيد الكلمة.

ولذا فإنه عُنِيَ بالاجتماعات عناية عظيمة، تحقيقاً للمقاصد الكريمة.

ففرض على أهل المحلة الاجتماع في مسجدهم كل يوم خمس مرات.

وفرض على أهل البلد عامة الاجتماع للجمعة في كل أسبوع.

وفرض على المسلمين الاجتماع في كل عام.

وهذا موضوع خطير طويل، نكتفي منه بهذه الإشارة.

نسأل اللَه تعالى أن يُعْلِيَ كلمته، ويظهر دينه، وينصر أولياءه، ويذل

أعداءه. إنه قوي عزيز.

 باب المواقيت

المواقيت: جمع ميقات. وهي زمانية ومكانية.

فالزمانية، أشهر الحج : شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. والمكانية: ما ذكرت في هذين الحديثين.

وجعلت هذه المواقيت تعظيماً للبيت الحرام، وتكريماً، ليأتي إليه الحجاج والزوار من هذه الحدود، معظمين خاضعين خاشعين.

ولذا حرم ما حوله من الصيد، وقطع الشجر، لأن في ذلك استخفافاً بحرمته، وحطاً من كرامته.

والله سبحانه وتعالى، جعله مثابة للناس وأمناً، ورزق أهله من الثمرات، لعلهم يشكرون.

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بْن عَبَّاس رَضي اللّه عَنْهُمَا:

أنَ رَسُـولَ اللّه وَقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينةِ "ذا الْحُـلَيْفَةِ"، ولأهلِ الشـام "الجُحْفَة" ولأهلِ

 نَجْدٍ "قَرْنَ الْمَنَازِلِ"، ولأهل الْيَمَن "يَلَمْلَمَ" وقال: " هُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أتَي عَلَيْهِنَ مِنْ

غَيْرِ أهْلِهِنَّ لِمَن أرَادَ الحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ وَمَنْ كَان دُوْنَ ذلِكَ فمِنْ حَيْثُ أنْشَأ، حَتَى أهْلُ مَكَّةَ

مِنْ مَكَّةَ".

الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضْيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ رَسُـولَ الله صلى الله عليه وسـلم قَالَ:

"يُهِلُّ أهْلُ المدِيِنَةِ مِنْ "ذِي الْحُلَـيْفَة" وأهْلُ الشـام مِنَ"الجُحْفَةِ" وأهْلُ نجدٍ مِنْ

"قَرْن الْمَنَازِلِ".

قال عبد الله : وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُـولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَيُهِلُّ أهْلُ الْيَمَنِ

مِنْ يَلَمْلَم".

المواقيت المكانية :

ذو الحليفة : بضم الحاء وفتح اللام تصغير الحلفاء نبت معروف ينبت بتلك المنطقة. وتسمى الآن – آبار علي – ويكاد عمران المدينة المنورة – الآن - يصل إليها وتبلغ المسافة من ضفة وادي الحليفة إلى المسجد النبوي ثلاثة عشر كيلاً. ومن تلك الضفة إلى مكة المكرمة عن طريق- وادي الجموم – أربعمائة وثمانية وعشرين كيلاً والحليفة ميقات أهل المدينة ومن أتى عن طريقهم.

الجحفة : بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الفاء بعدها هاء قرية بينها وبين البحر الأحمر عشرة أكيال. وهـي الآن خراب ويحرم الناس من:

رابغ : مدينة كبيرة فيها الدوائر والمرافق والمدارس الحكومية وتبعد عن مكة المكرمة عن طريق وادي الجموم- مائة وستة ثمانين كيلاً. ويحرم من رابغ أهل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر والسودان وحكومات المغرب الأربع وبلدان أفريقيا وبعض المنطقة الشمالية في المملكة العربية السعودية.

يلملم: بفتح الياء المثناة التحتية فلام فميم فلام أخرى بعدها ميم أخرى ويقال ألملم - وسكان تلك المنطقة الآن يقولون لملم ولما سفلتت حكومتنا الطريق الآتي من ساحل المملكة العربية الجنوبي إلى مكة المكرمة والمار بوادي يلملم من غير مكان الإحرام القديم المسمى – السعدية - كنت أحد أعضاء لجنة شكلت لمعرفة مكان الإحرام مع الطريق الجديد فذهبنا إليه ومعنا أهل الخبرة والعارفون بالمسيات واجتمعنا بأعيان وكبار السن من سكان تلك المنطقة وسألناهم عن مسمى يلملم هل هو جبل أم واد فقالوا إن يلملم هو هذا الوادي الذي أمامكم وإننا لا نعرف جبلاً يسمى بهذا الاسم وإنما الاسم خاص بهذا الوادي، وسيوله تنزل من جبال السداة ثم تمده الأودية في جانبيه وهو يعظم حتى صار هذا الوادي الفحل الذي تشاهدونه وإن مجراه ممتد من الشرق إلى الغرب حتى يصب في البحر الأحمر عند مكان في الساحل يسمى- المجيرمة.

وإنه من سفوح جبال السداة حتى مصبه في البحر الأحمر يقدر بنحو مائة وخمسين كيلاً ونحن الاَن في السعدية في نحو نصف مجراه وبعد التجول في المنطقة والمشاهدة وتطبيق كلام العلماء وسؤال أهل الخبرة والسكان تقرر لدينا أن مسمى يلملم الوارد في الحديث الشريف ميقاتاً لأهل اليمن ومن أتى عن طريقهم هو كل هذا الوادي المعترض لجميع طرق اليمن الساحلي وساحل المملكة العربية السعودية وأن الاسم عليه من فروعه في سفوح جبال السداة إلى مصبه في البحر الأحمر وأنه لا يحل لمن أراد نسكاً ومرَّ به أن يتجاوزه بلا إحرام من أي جهة من جهاته وطريق من طرقه.

وقد كان الطريق يمر بالسعدية وهي قرية فيها بئر السعدية وفيها إمارة ومدرسة ومسجد قديم جدد الآن ينسب إلى معاذ بن جبل. والسعدية تبعد عن مكة المكرمة اثنين وتسعين كيلاً. أما الطريق الذي سفلتته حكومتنا فهو يقع عن السعدية غرباً بنحو عشرين كيلاً يمر على وادي يلملم وعند ممره إلى يلملم يكون وادي يلملم عن مكة مائة وعشرين كيلاً.

ونحن بينا للمسئولين جواز الإحرام من الطريق القديم والطريق الجديد وغيرهما مما يمر في هذا وذلك حج عام 1401هـ وأنا الآن اكتب هذه الأسطر في ربيع

ثاني من عام 1402هـ فلا أدري هل يعاد الطريق من السعدية حيث الممر الأول أو يبقى هذا الطريق الجديد ويعد على ضفة الوادي أمكنة للإحرام، ودورات مياه للمحرمين.

ويحرم من يلملم اليمن الساحلي وسواحل المملكة السعودية وإندونيسيا وماليزيا والصين والهند وغيرهم من حجاج جنوب آسيا والآَن أصبح الحج غالبه عن طريق الطائرات أو البواخر التي لا ترسو إلا على مواني جدة.

قرن المنازل: بفتح القاف وسكون الراء وقد يقال قرن الثعالب لوجود أربع روابي صغار تسكنها الثعالب وقد أزيلت إحدى تلك الروابي لتوسعة طريق مكة – الطائف،  وبقي الآن منها ثلاث أما الثعالب فمع توسع العمران هربت عن المنطقة. والقرن هو الجبل الصغير.

وهذا الميقات اشتهر اسمه الآن بالسيل الكبير ومسافته من بطن الوادي إلى مكة المكرمة ثمانية وسبعون كيلاً ومن المقاهي والأمكنة التي اعتاد الناس أن يحرموا منها خمسة وسبعون كيلاً - والسيل الكبير الآن قرية كبيرة فيها محكمة وإمارة وجميع الدوائر والمرافق والخدمات والمدارس المنوعة.

ويحرم من قرن المنازل- أهل نجد وحاج الشرق كله من أهل الخليج والعراق وإيران وغيرهم.

وادي محرم : هذا هو أعلى "قرن المنازل" وهو قرية عامرة فيها مدرسة وكان لا يحرم منه إلا قلة حتى فتحت حكومتنا طريق الطائف - مكة المار بالهدا وجبل الكرى فصار محرماً هاماً مزدحماً فبنت فيه الحكومة مسجداً كبيراً جداً له طرقه المسفلتة الداخلة والخارجة ومواقف السيارات ومكان الراحة وأمكنة الاغتسال ودورات المياه بأحدث تصميم وبناء لهذا المحرم الهام.

وهو لا يعتبر ميقاتاً مستقلاً من حيث الاسم لأنه فرع قرن المنازل ويبعد عن مكة بخمسة وسبعين كيلاً. ولولا كثرة تعرجات جبل كرا لكان عن مكة نحو ستين كيلاً فقط.

ويحرم منه من يحرم من الميقات الذي في أسفله ويزيد بحجاج الطائف وحجاج جنوب المملكة الحجازي وحجاج اليمن الحجازي.

تكميل :

ذات عرق: بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف سمي بذلك لأن فيه عرقاً وهو الجبل الصغير.

ويسمى الآن- الضريبة - قال ياقوت : الضريبة وادي حجازي يدفع سيله في - ذات عرق- والضريبة بفتح الضاد المعجمة بعدها راء مكسورة ثم ياء مثناة تحتية ثم باء موحدة تحتية ثم هاء واحدة الضراب وهى الجبال الصغار وهذا الميقات لم يرد في حديث الصحيحين ولكن ورد في بعض السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. وقد ضعف بعض أهل العلم هذا الحديث.

قال في فتح الباري. والذي في البخاري عن ابن عمر قال لما فتحت الكوفة والبصرة أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله حدَّ لأهل نجد قرناً وهو جور عن طريقنا قال: فانظروا حذوها في طريقكم فحدَّ لهم - ذات عرق - قال الشافعي: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حد ذات عرق وإنما أجمع عليه الناس وهذا يدل على أن ذات عرق ليس منصوصاً عليه وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم وكذا وقع في المدونة لمالك.

وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية أنه منصوص وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه. وقد وقع في حديث عائشة

 وحديث الحارس السهمي كلاهما عند أحمد وأبي داود والنسائي وهذا يدل على أن للحديث أصلاً فلعل من قال إنه غير منصوص عليه لم يبلغه أو رأى ضعف

الحديث اهـ ملخصاً من فتح الباري. قلت: وعلى كل فقد صح توقيته عن عمر رضي الله عنه فإن كان منصوصاً عليه وجهله فهو من موافقاته المعروفة وإن لم يكن نُصَّ عليه فقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". وقد أجمع المسلمون على أنه أحد مواقيت الحج ولله الحمد.

وقد قمت بشهر محرم في عام 1402 هـ من مكة المكرمة إلى هذا الميقات ومعي الشريف: محمد بن فوزان الحارثي وهو من العارفين بتلك المنطقة ومن المطلعين على التاريخ وقصدي بحث طريق الحج من الضريبة إلى مكة على الإبل فوجدت الميقات المذكور شعباً بين هضاب طوله من الشرق إلى الغرب ثلاثة أكيال وعرضه من الجنوب إلى الشمال نصف كيلاً ويحده من جانبيه الشمالي والجنوبي هضابه ويحده من الشرق – ريع انخل- ويحده من الغرب وادي الضريبة الذي يصب في وادي مرّ ويعتبر هذا الميقات من الحجاز فلا هو من نجد ولا من تهامة ولكنه حجاز منخفض يكاد يكون حرة فليس فيه جبال عالية. ويقع عنه شرقاً بنحو عشرة أكيال  وادي العقيق ثم يلي العقيق شرقاً ـ صحراء ركبة - الواسعة حيث تبتدئ بلاد نجد. ويحرم من العقيق- الشيعة - مخالفة لعمر رضي الله عنه الذي جعل ذات عرق ميقاتاً.

والمسافة من ميقات ذات عرق حتى مكة مائة كيلاً. وأشهر الأمكنة التي يمر بها الطريق- مكة الرقة - وفيها آثار وبِرْكَة عظيمة قديمة من آثار بني العباس ثمَّ وادي نخلة الشامية - ثم المضيق - ثم البرود ثم شرائع المجاهدية ثم العدل وهذا الميقات مهجور الآن فلا يحرم منه أحد لأن الطرق المسفلتة في نجد وفي الشرق لا تمر عليه وإنما تمر على الطائف والسيل الكبير ـ قرن المنازل.

 ملاحظة : جميع مواقيت الإحرام أودية عظام ولذا فإن الاحتياط أن يحرم الحاج أو المعتمر من الضفة التي لا تلي مكة من الوادي لئلا يعتبر متجاوزاً للميقات.

فائدة :

جاء في قرار مجلس كبار العلماء رقم 5730 تاريخ 21/10/1399 هـ وهو ما خلاصته: بعث الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر إلى الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود رسالة تتضمن جواز جعل جدة ميقاتاً لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية. وقد أحيلت إلى المجلس فاستعرض تلك الفتوى وأصدر ما يلي: أن المجلس بعد دراسة الأمور التي وردت في الرسالة يرى أن المسوغات التي استند إليها مردودة بالنصوص الشرعية وإجماع سلف الأمة وأنه بعد الرجوع إلى الأدلة وما ذكر أهل العلم عن المواقيت المكانية ومناقشة الموضوع من جميع جوانبه فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي:

أولاً : أن الفتوى الصادرة من فضيلة الشيخ عبد اللّه بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر الخاصة بجواز جعل جدة ميقاتاً لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية فتوى باطلة لعدم استنادها إلى نص من كتاب الله أو سنة رسوله وإجماع سلف الأمة ولم يسبقه إليها أحد من علماء المسلمين الذين يعتد بأقوالهم.

ثانياً : لا يجوز لمن مر بميقات من المواقيت المكانية أو حاذى واحداً منها جواً أو بحراً أن يتجاوزه من غير إحرام كما تشهد لذلك الأدلة وكما قرره أهل العلم رحمهم اللّه تعالى هذا وباللّه التوفيق وصلى الله على نبينا محمد. اهـ الخلاصة من القرار وبهذا انتهى بحثي عن المواقيت المكانية وهو بحث قل أن تجده في غير هذا الكتاب لأنه كتب عن مشاهدة وتطبيق وتحديد على الطبيعة ونسأل الله تعالى التوفيق والعصمة وهو حسبنا ونعم الوكيل.

المعنى الإجمالي :

لهذا البيت الحرام، التكريم، والتعظيم، والتقديس، والإجلال.

ومن ذلك أن جُعِل له حدود، لا يتجاوزها قاصده، بحج، أو عمرة إلا وقد أحرم وأتى في حال خشوع وخضوع، وتقديس وإجلال، عبادة لله واحتراماً لهذا البيت المطهر.

ومن رحمة الله بخلقه، أنه لم يجعل لهم ميقاتاً واحداً في إحدى جهاته، بل جعل لكل جهة محرماً وميقاتاً، لئلا تلحقهم المشقة بقصدهم ميقاتاً ليس في طريقهم، حتى جعل ميقات مَنْ داره دون المواقيت مكانه الذي هو فيه، حتى أهل مكة يحرمون بالحج من مكة، فلا يلزمهم الخروج إلى الحل كفعلهم بالعمرة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جعل هذه الأمكنة المذكورة مواقيت، لا يحل لمن أراد نسكاً تجاوزها بدون إحرام.

2- أن ميقات من دون المواقيت من مكانه الذي هو ساكن فيه.

3- أن ميقات أهل مكة منها، وهذا في الحج.

أما العمرة، فلا بد من الخروج إلى الحل وهو قول الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة.

وقال المحب الطبري: "لا أعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة".

وقصة عائشة مشهورة ثابتة فلا  يقاومها مفهوم الحديث.

4- يدل قوله: "ممن أراد الحج والعمرة" أن من أراد دخول مكة لغير حج أو عمرة، بل لتجارة أو زيارة قريب ونحوه، أنه لا يجب عليه الإحرام. ثم إن تجدد له عزم على الإحرام أحرم من حيث عزم على أداء النسك ولو داخل المواقيت أو من مكة في الحج.

وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء، ويأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى.

 رحمة من الله تعالى بخلقه، حيث جعل لكل جهة ميقاتاً يكون في طريق سالكه إلى مكة، سواء أكان من أهل تلك الجهة أم لا.

ولو جعل الميقات في جهة واحدة، لَشقَّ على من لم يأت منه مشقة كبيرة.

6- في تقدير النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت وتحديدها، معجزة من معجزاته الدالة على صدق نبوته.

فقد حددها، ووقتها، وأهلها لم يسلموا، إشعاراً منه بأن أهل تلك الجهات سيسلمون، ويحجون، ويحرمون منها، وقد كان، وللّه الحمد والمنة.

7- تعظيم هذا البيت وتقديسه، إذ جعل له هذا الحمى، الذي لا يتجاوزه من قصده بنسك، إلا وجاء منه معظماً، مكرماً، خاشعاً، خاضعاً، بهذه الهيئة الخاصة.

اختلاف العلماء :

أجمع العلماء على مشروعية الإحرام لمن أراد دخول الحرم، سواء أكان دخوله لنسك أم غيره.

وأجمعوا على وجوب الإحرام لمن أراد دخوله للنسك.

واختلفوا في وجوبه على من أراد الدخول لغير نسك، كدخوله لتجارة، أو سكن، أو غير ذلك.

فذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: إلى وجوب الإحرام على من دخله، سواء أكان لنسك أم غيره، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم في مكة: "إنَّهَا حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وَلا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ كَحُرمَتِهَا بِالأمْسِ".

 واستدلوا بحديث ابن عباس عند البيهقي بلفظ: "لا يَدْخُلُ أحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ مُحْرِماً". قال ابن حجر: إسناده جيد.

وذهب الإمام الشافعي في المشهور عنه : إلى جواز الدخول بلا إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة، وهو مذهب الظاهرية، ونصره ابن حزم في "المحلى" وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام "ابن تيمية"، وأبو الوفاء بن عقيل، قال ابن مفلح، في الفروع : وهي ظاهرة.

واستدلوا على ذلك بقوله في هذا الحديث: "ممن أراد الحج والعمرة".

 وأجابوا عن الدليل الأول للموجبين بأن الحديث ليس له دخل في الإحرام، وإنما هو في تحريم القتال في مكة.

وأجابوا عن حديث ابن عباس، بأنه موقوف من طريق البيهقي ولا يحتج به فيما عداها من الطرق. والموقوف ليس بحجة.

ولم يوجب الله الحج والعمرة إلا مرة واحدة في العمر، والأصل براءة الذمة إلا بدليل موجب.  

فائدة:

ما ذكر من الخلاف، في حق غير المتردد إلى الحرم لجلب الحطب أو الفاكهة ونحوهما، أو له بستان في الحل يتردد عليه، أو له وظيفة أو عمل في مكة، وأهله في "جدة" أو بالعكس.

فهؤلاء ونحوهم، لا يجب عليهم الإحرام عند عامة العلماء، فيما اطَّلَعْتُ عليه من كلام فقهاء المذاهب، إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من التحريم على كل داخل إلى مكة بغير إحرام. والعمل على خلافه.

 بَابُ مَا يَلبسُه المحْرم من الثياب

ذكر المؤلف رحمه اللَه تعالى في هذا الباب أربعة أحاديث.

الأول والثاني: في بيان ما يلبسه المحرم من الثياب، وما يجتنبه.

والثالث: في بيان التلبية، وسأُفْرِدُهُ بباب.

والرابع: في بيان حكم سفر المرأة بلا محرم، وسأفرده بباب أيضاً، ليتبين من تعدد التراجم ما في الأحاديث من الأحكام.

والمؤلف أخذ الترجمة من السؤال، الذي في الحديث.

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عُمَرَ رَضْيَ اللّه عَنْهُمَا: أنَّ رَجُلاً قالَ: يَا رَسُـولَ اللّه. مَا يَلْبَـسُ الْمُحْرِمُ

مِنَ الثيابِ؟.

قال صلى الله عليه وسـلم : "لا يَلْبَسُ القَمِيصَ، وَلا العَمَائِمِ، وَلا السَّـرَاوِيلاتِ،  وَلا

الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ إلا أحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْن فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ،

وَلا يَلْبَسْ مِنَ الثيابِ شيئاً مَسَّهُ زَعْفَران أوْ وَرْسٌ".

وللبخاري: " وَلا تَنْتَقِبُ الْمَرأةُ، وَلا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ".

الغريب:

السراويل: يذكر ويؤنث، وهو مفرد على صيغة الجمع، وجمعه السراويلات، وهي لفظة أعجمية عُربَتْ.

البرانس: جمع بُرْنس، ثوب رأسه منه، ملتزق به، لباس للنساك في صدر الإسلام. ويلبسه المغاربة الآن.

الخفاف: بكسر الخاء جمع "خف" بضم الخاء، وهو ما يلبس في الرجل، ويكون إلى نصف الساق.

أما الجوارب، فما غطى الكعبين، وحكمهما واحد، ويأتي إنشاء الله. مسه: أصابه.

ورس: بفتح الواو، وإسكان الراء، نبت أصفر، يصبغ به الثياب، وله. رائحة طيِّبة.

الزعفران: نبات بصلي معمر من الفصيلة السوسنية يصبغ به أيضا.

ولا تنتقب: الانتقاب: هو أن تُخَمِّر المرأة وجهها- أي تغطيه بالخمار- وتجعل لعينيها خرقين تنظر منهما.

القفازين: تثنية قُفَّاز وهو شيء يعمل لليدين، من خرق، أو جلود، أو غيرها. يقيها من البرد وغيره، على هيئة ما يجعله حاملو البزاة والصقور.

الكعبين: العظمان الناتئان عند مفصل الساق.

المعنى الإجمالي :

قد عرف الصحابة رضي الله عنهم أن للإحرام هيئة تخالف هيئة الإحلال. ولذا سأل رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء المباحة، التي يلبسها المحرم.

ولمّا كان من اللائق أن يكون السؤال عن الأشياء التي يجتنبها، لأنها معدودة قليلة وقد أعْطِي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم أجابه ببيان الأشياء التي يجتنبها المحرم ويبقى ما عداها على أصل الحل، وبهذا يحصل العلم الكثير.

فأخذ صلى الله عليه وسلم يَعُدُّ عليه ما يحرم على الرجل المحرم من اللباس منها بكل نوع منه، على ما شابهه من أفراده، فقال:

لا يلبس القميص، وكل ما فُصِّل وَخِيطَ على قدر البدن، ولا العمائم، والبرانس، وكل ما يغطى به الرأس، ملاصقاً له، ولا السراويل، وكل ما غطي به ـ ولو عضواً- كالقفازين ونحوهما، مخيطاً أو مُحِيطاً، ولا الخفاف ونحوهما، مما يجعل بالرجلين ساترين للكعبين، من قطن أو صوف، أو جلد أو غير ذلك.

فمن لم يجد وقت إحرامه نعلين، فَلْيَلْبَسْ الخفين ولْيَقْطَعْهُما من أسفل الكعبيِن، ليكونا على هيئة النعلين.

ثم زاد صلى الله عليه وسلم فوائد لم تكن في السؤال، وإنما المقام يقتضيها. فَبيَّن ما يحرم على المحرم مطلقاً من ذكر وأنثى، فقال:

ولا يلبس شيئاً من الثياب، أو غيرها مَخِيطاً أو غير مخيط، إذا كان مطيباً بالزعفران أو الورس، منبهاً بذلك على اجتناب أنواع الطيب.

ثم بيَّن ما يجب على المرأة، من تحريم تغطية وجهها وإدخال كفيها فيما يسترهما، فقال:

"ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين".

ما يؤخذ من الحديث :

1- أن السؤال ينبغي أن يكون متوجهاً إلى المقصود علمه.

2- أنه ينبغي للمسئول إذا رأى السؤال غير ملائم أن يعدله ويقيمه إلى المعنى المطلوب، ويضرب صفحاً عن السؤال، كقوله تعالى: }يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قل هِيَ مَوَاقِيْتَ لِلنَّاسِ والْحَجِّ. {

3- أن الأشياء التي يجتنبها المحرم من الملابس، قليلة معدودة.

وأما الأشياء المباحة فهي الكثيرة، التي تعرف بالجد لأنها على أصل الإباحة.

ولهذا المعنى صرف النبي صلى الله عليه وسلم، سؤال السائل عن ما يلبسه المحرم، إلى بيان ما لا يلبسه.

4- تحريم هذه الأشياء الملبوسة خاصة بالرجل.

وأمَّا المرأة، فيباح لها لبس المخيط وتغطية الرأس.

5- منها القميص: وَنَبَّه به على ما في معناه، من كل ما لبس على قدر البدن، مخيطاً أو محِيطاً.

6- ومنها "البرانس" و"العمائم" ونبه بهما على كل ما يُغَطَّى به الرأس أو بعضه، من مَخِيطٍ أو مُحِيطٍ ، من معتاد ونادر. فيدخل القلانس،  والطواقي ونحوهما.

7- ومنها "الْخُفَّان" وما في معناهما من كل ساتر للكعبين، من مخيط أو محيط، سواء كان من جلد، أو صوف، أو قطن، أو غيرها.

8- إذا لم يجد نعلين ونحوهما مما لا يستر الكعبين، فَليَتَرَخَّصْ بلبس الخفين ولكن لِيَقْطَعْهُمَا من أسفل الكعبين، ليكونا في معنى النعلين.

ويأتي في الحديث الذي بعد هذا، اختلاف العلماء في ذلك، وبيان الراجح منه، إن شاء الله. قال المجد بن تيمية واتفقوا على أن التحريم هنا على الرجل.

9- تحريم "الورس"، و"الزعفران" وما في معناهما من أنواع الطيب، لكل محرم من ذكر وأنثى.

10- تحريم تغطية المرأة وجهها، لأن إحرامها فيه. وتحريم لبس القفازين، على الذكر والأنثى.

11- هذه الفائدة والتي قبلها، لم تكن في سؤال السائل.

ولكن لما ظن النبي صلى الله عليه وسلم جهل السائل بها، بقرينة السؤال، زاده النبي صلى الله عليه وسلم لبيان العلم وقتَ الحاجة إليه، وعند مناسبته.

12- لهذا اللباس الخاص بالمحرم، حِكَمٌ وأسرار كثيرة.

منها:- أن يكون في حال خشوع وخضوع، بعيداً عن الترفُّه وزينة الدنيا، وليتذكر بهذا اللباس حال الموت، فيكون أقرب إلى المراقبة. قال ابن دقيق العيد: فيه تنبيه النفس على التلبس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها، وذلك موجب للإقبال عليها والمحافظة على قوانينها وأركانها وشروطها وآدابها.

13- قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبه بالسراويل والقميص على المخيط، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطى به الرأس، مخيطاً كان أو غيره، وبالخفاف على ما يستر الرجلين.

14- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس للمحرم أن يلبس شيئا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا لحاجة، والحاجة مثل البرد الذي يخاف أن يمرضه إذا لم يغط رأسه، فيلبس قدر الحاجة، فإذا استغنى عنه نزعه، وعليه أن يفدي إما بصيام ثلاثة أيام أو نسك شاة أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو مدِّ برٍّ. ويجوز أن يفدي قبل فعل المحظور وبعده.

فائدة :

المراد بالنهي عن لبس المخيط والمحيط، هو اللبس المعتاد. أما ارتداؤه ونحوه، فلا بأس.

الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عَبَّاس رضيَ اللّه عَنْهُما قال:

سَمِعْتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بعَرَفَاتٍ : مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَس خُفَّيْن.

وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارَاً فَلْيَلْبَسْ سَراوِيلَ (للمحرم).

المعنى الإجمالي :

كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الحجيج بعرفات في حجة الوداع، ويبين أحكام المناسك.

وكان المسلمون في ذلك الوقت، في ضيق من الدنيا.

فَبَيَّن لهم أن من لا يجد نعلين يلبسهما في إحرامه، فليلبس بدلهما خفين ولو سترا الكعبين.

ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ولا يشقه، تخفيفاً من الشارع، ورخصةً من الله تعالى، الذي لا يكلف نفساً إلا وسعها.

ما يؤخذ من الحديث :

1- الخطبةْ في عرفة لبيان أحكام الحج وآداب المناسك.

2- أنه ينبغي تذكير الناس في كل وقت بما يناسبهم.

3- أن من لم يجد نعلين، فليلبس الخفين.

ظاهره، بلا قطع لهما، ويأتي الخلاف فيه.

4- أن من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل.

ولا فدية مع لبس الخفين والسراويل في هذه الحال.

5- سماحة هذه الشريعة ويسرها، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

اختلاف العلماء، والتوفيق بين الحديثين :

اختلف العلماء. في حكم المحرم، الذي لا يجد نعلين ووجد خُفَّيْنِ.

فهل يجب عليه قطعهما من أسفل الكعبين؟ وإن لم يفعل أثم وفدى، أو أنه يباح له لبسهما بلا قطع وليس عليه فدية؟

فذهب الجمهور من العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافي، والثوري وإسحاق: إلى الأول. مستدلين بحديث ابن عمر السابق. " فإن لم يجد نعلين فليقطعهما من أسفل الكعبين" لأنه أمر يقتضي الوجوب، فيحمل عليه حديث ابن عباس، على قاعدة "حمل المطلق على المقيد".

 وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه إلى الثاني، ويروى أيضاً عن عليٍّ، وقال به عطاء وعكرمة. مستدلين بحديث ابن عباس الذي معنا.

وأجابوا عن حديث ابن عمر بأجوبة، أحسنها أنه منسوخ بحديث ابن عباس، الذي خطب به في عرفات بينما حديث ابن عمر قاله في المدينة قبل حجة الوداع.

وأيدوا قولهم في النسخ بما يأتي :

1- أنه أطلق لبس الخفين بلا قطع بـ"عرفات"، على مشهد من أمم لم تحضر كلامه في المدينة، فليس عندهم علم من الحديث الأول ليحملوا هذا عليه، فما كان ليسكت عما يجهلون.

2- أن حديث ابن عباس في عرفات وهـو وقت الحاجة، وتأخير البيان عنها ممتنع.

3- لم يذكر في حديث ابن عمر السراويل، وذكره في حديث ابن عباس ولم يأمر بفتقه مع أنه لا يوجد شيء يحمل عليه، مما دل على أنه أراد من الخفين والسراويل، مطلق اللبس بلا قطع ولا فتق.

4- أن القطع نسخ تخفيفاً وإصلاحاً عن الإفساد بإتلاف المال.

ونظائر هذه التخفيفات كثيرة في الشرع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أولاً أمرهم بقطعهما ثم رخص لهم في لبسهما مطلقاً من غير قطع، وهذا هو الذي يجب حمل الحديث عليه. اهـ.

 بَابُ التلبيَة

الحديث الأول

َعنْ عَبْدِ اللّه بْن عُمَرَ رَضيَ اللّه عَنْهُمَا: أنَّ تَلْبيَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم "لَبَّيْكَ

الّلهُمَّ لَبَّيْكَ. لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لبًّيْكَ. إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ. لا شَرِيكَ لكَ".

قال: وَكَانَ عَـبْدُ اللّه بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ[110] فيها: لَبَّيْكَ. لّبَّيْكَ وَسَـعْدَيكَ وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ

وَالرَّغْبَاءُ إلَيْكَ وَالْعَمَلُ.

 الغريب:

لبيك: مصدر محذوف العامل، جاء على صيغة التثنية، ولم يقصد به التثنية وإنما قصد به التكثير.

واختلفوا في معناه، لاختلافهم في مأخذه.

فهل هي الإجابة بعد الإجابة، أو الانقياد، أو الإقامة في المكان وملازمته أو الحب بعد الحب... الخ. ولا منافاة بينها بل هي متلازمة لأنها تفيد معنى الإقبال على الشيء والتوجه إليه، فمعنى ألبّ بالمكان: أقام فيه ولزمه.

إن الحمد: بكسر الهمزة وفتحها، والكسر أجود وأشمل معنى، لأن الفتح معناه تعليل الإجابة بسبب الحمد والنعمة فقط، والكسر للاستئناف، فيفيد الإجابة المطلقة عن الأسباب. قال ثعلب: من كسر (الهمزة) كان معناه: الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال لبيك لهذا السبب.

سعديك، القول في تصريف لفظه، مثل القول في "لبيك" ومعناه مساعدة في طاعتك بعد مساعدة.

الرغباء: تقال بالمد والقصر، فإن مدت فُتِحَتِ الراء وإن قصرت ضُمَّتْ. وهما من الرغبة كالنعمى والنعماء من النعمة. وقيل: الرغباء: الضراعة والمسألة.

المعنى الإجمالي :

التلبية: شعار الحج وعنوان الطاعة والمحبة، والإقامة والاستجابة الدائمة إلى داعي الله تعالى.

وهي تحتوي على أفضل الذكر من التزام عبادة الله وإجابة دعوته، ومطاوعته في كل الأحوال مقترناً ذلك بمحبته، والخضوع والتذلُّل ببن يديه، ومن إفراده بالوحدانية المطلقة: عن كل شريك في إلهيته وربوبيته وسلطانه، كما تحتوي على إثبات كل المحامد له.

وبإثباتها تنتفي عنه النقائص مع إسناد النعم كلها إليه، دقيقها وجليلها، ظاهرها وباطنها، كما تحتوي على إثبات الملك المطلق.

فهو المتصرف القاهر الذي بقبضته كل شيء، ولا ينازعه أحد في ملكه، بل الجميع خاضع له، ذليل بين يديه.

وإثبات هذه الصفات العُلي، التي فيها الثناء على الله، وإثبات المحامد والوحدانية والتصرف، تفيد وصفه - جل وعلا - بها مفردة، كما أن اجتماعها يفيد معنى زائداً يليق بجلاله الذي هو أهله، وذلك كمال ناشئ عن اقتران صفة بصفة.

فكونه مالكاً، كمال، وكونه الحمد له، كمال. واجتماعهما، كمال زائد على الكمالين. فله الصفات العلي والمحامد الكاملة.

وإثبات هذه الصفات، يوجب للعبد إفراده بالعبادة والمحبة، والتوجه والإقبال، والخوف والرجاء، وغير ذلك من متعلقات العبد بربه ومولاه.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية التلبية في الحج والعمرة، وتأكدها فيه لأنها شعاره الخاص ويأتي الخلاف: هل هي واجبة أو مستحبة؟ إن شاء اللّه.

2- الأفضل أن تكون بهذه الصيغة فقط للاتِّباع، ولما تحتويه هذه الجمل من المعاني العظيمة، ولما فيها من صفات الله تعالى الجليلة. فإن زاد فلا بأس.

3-  أن التلبية شعار الحج كالتكبير شعار الصلاة فيستحب الإكثار منها، لاسيما عند الانتقال من منسك إلى آخر، وارتفاع على نشز، أو هبوط في منخفض، أو التقاء الحجيج، أو فعل محظور. لأن فيها التذكير على الإقامة على طاعة الله والاستجابة لداعيه. قال شيخ الإسلام: لا يزال يلبي في ذهابه من مشعر إلى مشعر حتى يرمي جمرة العقبة، فإذا شرع في الرمي قطع التلبية فإنه حينئذ يشرع في التحلل.

4- تقدم في المعنى الإجمالي ما تحتويه التلبية من أنواع الذكر، من الإقامة على طاعته، وإثبات الوحدانية المطلقة له، وإثبات المحامد وإسناد النعم إليه،

والإقرار بملكه وقهره وسلطانه المطلق. فهي محتوية على توحيد الإلهية والربوبية، والأسماء والصفات.

5- مادامت التلبية شعار الحج، فينبغي رفع الصوت بها للرجال.

أما المرأة فتخفض صوتها خشية الفتنة بهذه العبادة الجليلة.

اختلاف العلماء :

أجمع العلماء على مشروعية التلبية في الحج، لأنها شعاره.

واختلفوا هل هي ركن، أو واجب، أو سنة؟.

فذهب إلى أنها سنة، الإمامان، الشافعي، وأحمد. ودليلهم أنها ذكر كسائر الأذكار، لا يجب بتركها شيء.

وذهب مالك وأصحابه، إلى أنها واجبة، يأثم تاركها، ويصح حجه، وعليه دم لتركه إياها.

وذهب أبو حنيفة، والثوري، وأهل الظاهر، وعطاء، وطاوس، وعكرمة إلى أنها رُكْن، لا يصح الحج بدونها.

ودليل هؤلاء، أنها شعار الحج، كما أن تكبيرة الإحرام، وتكبير الانتقالات، شعار الصلاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخِلَّ بها، وكان يقول :" خذوا عني مناسككم"، وهى من أعظم المناسك، وفي الحديث: "أتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أن آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعوا أَصْوَاتَهُمْ بالإهْلالِ" وهي التلبية. والأمر يقتضي الوجوب.

قلت: وهذا قول جيد، وحجته قوية، وقد التزمها – ولله الحمد - المسلمون جميعاً، فلا تجد محرماً إلا وهو يقولها في نسكه مرات، فمِنْ مُقِلٍ وَمُكثِرِ.

فائدة :

قال شيخ الإسلام ما خلاصته: النية في الحج والعمرة: لا خلاف بين المسلمين في أن الحج والعمرة لا يصحان بدونها. وأصل ذلك أن النية المعهودة في العبادات تشتمل على أمرين هما: قصد العبادة وقصد المعبود، وهو الأصل الذي دل عليه قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين} وأما قصد العبادة فهو قصد عمل خاص يرضي به ربَّه من صيام أو حج أو غيرهما، وهذه النية التي تذكر في كتب الفقه المتأخرة، فالنية الأولى يتميز بها من يريد حرث الآخرة ممن يريد حرث الدنيا ويتميز بها المسلم من الكافر أما الثانية فهي تميز أنواع العبادات.

وقال رحمه الله: ولا يكون الرجل محرماً بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته فإن القصد مازال في القلب منذ خرج من بلده، ولا بد من قول أو عمل يصير به محرماً، والتجرد من الثياب واجب في الإحرام وليس شرطاً فيه، فلو أحرم وعليه ثيابه صح ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وباتفاق أئمة أهل العلم وعليه أن ينزع اللباس المحظور.

 بَاب سَفر المَرأة بدُون محْرم

الحديث الأول

عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ رَضيَ الله عَنْة قَالَ: قَالَ رَسُـولُ الله صلى الله عليه وسـلم: "لا يَحِلُّ

لامْرَأةٍ تُؤمِنُ بِاللّه وَالْيـَوْمِ الآخِرِ أنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلةٍ إلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ".

وفي لفظ[111] للبخاري: "لا تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلا مَعَ ذي مَحْرَم".

المعنى الإجمالي:

المرأة مظنة الشهوة والطمع، وهي لا تكاد تقي نفسها لضعفها ونقصها.

ولا يغار عليها مثل محارمها، الذين يرون أن النَّيْلَ منها نَيْلٌ من شرفهم وعرضهم.

والرجل الأجنبي حينما يخلو بالأجنبية، يكون معرضاً لفتن الشيطان ووساوسه.

لهذه المحاذير، التي هي وسيلة في وقوعٍ الفاحشة وانتهاك الأعراض، حرَّم الشارع على المرأة أن تسافر يوماً، أو يوماً وليلة، إلا ومعها ذو محرم، وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب، كأب، وابن، وأخ، وعم، وخال. أو والد زوجها أو ابنه وإن نزل. أو رضاع. كأبيها، وأخيها منه.

 وناشدها الشارع في إيمانها بالله واليوم الآخر.

إن كانت تحافظ على هذا الإيمان وتنفذ مقتضياته، أن لا تسافر إلا مع ذي محرم.

اختلاف العلماء :

وهي تكفي عن الاستنباطات، لأنها تشتمل عليها :

هذه خلافات نجملها ولا نطيل بتفصيلها، لمخالفتها نص الحديث الصحيح.

فقد اختلفوا: هل المرأة مستطيعة الحج بدون المحرم، إذا كانت ذات مال؟ أو أن وجود المحرم شرط في الاستطاعة؟.

الصحيح: أنه لا يحل خروجها بدون محرم لأي سفر، فتكون معذورة غير مستطيعة.

واختلفوا في الكبيرة، التي لا تميل إليها النفس: هل تسافر بدون محرم، أو لابد من المحرم؟.

الصحيح الأخير. لأن الحديث عام في كل امرأة، ولا يخلو الأمر من محذور، فلكل ساقطة لاقطة.

واختلفوا هل يكفي أن تكون مع رفقة أمينة، أو تسافر مع امرأة مسلمة ثقة أم لا؟.

ظاهر الحديث أنه لابد من المحرم، لأن غيرة المحرم ونظره مفقودان.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا كانت المرأة من القواعد اللائي لم يحضن، وقد يئست من النكاح، ولا محرم لها فإنه يجوز في أحد قولي العلماء أن تحج مع من تأمنه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومذهب مالك والشافعي.

وقد أجمع المسلمون أنه لا يجوز السفر للمرأة بدون محرم، إلا على وجه تأمن فيه. ثمَّ ذكر كل منهم الأمر الذي اعتقده صائناً لها وحافظاً، من نسوة ثقات، أو رجال مأمونين، ومنعها أن تسافر بدون ذلك، فاشتراط ما اشترطه اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحق وأوجب وحكمته ظاهرة، فالذين خالفوا ظاهر الأحاديث، وأباحوا لها السفر حين تكون آمنة نظروا إلى المعنى المراد وقالوا: إنها مأمورة بالحج على وجه العموم بقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سيلا).

والذين أخذوا بظاهر حديث المنع من السفر قالوا: إن الحديث مخصص للآية وله نظائر كحديث الغازي الذي خرجت امرأته حاجة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يدع الجهاد ويحج مع امرأته، وغيره من الأحاديث.

واختلفوا في تحديد السفر، تبعاً لاختلاف الأحاديث.

فمنها "يوم" و" يومان" و"ثلاث ليال" و"ليلة"، و"بريد".

 والأحوط أن يؤخذ بأقلها، لأنه لا ينافي ما فوقه، ويكون ما فوقه قضايا عين، حسب حال السائل. والله أعلم.

ظاهرة محزنة :

إذا قارنت حال المسلمين اليوم بهذه النصوص الصحيحة، والآداب العالية، والغيرة الكريمة، والشهامة النبيلة، والمحافظة على الفروج والأعراض وحفظ الأنساب، وجدت كثيراً من المسلمين قد نبذوا دينهم وراءهم ظهرياً، ومرقوا منه، وصار التَّصَوُّنُ والحياء ضرباً من الرجعية والجمود.

أما الانحلال الخُلُقيُّ، وخلع رداء الحياء والعفاف، فهو التقدُّم والرُّقيُّ. فإنا لله وإنا إليه راجعون

 بَاب الفِديَة

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ اللّه بْن مَعْقِلٍ، قال: جَلَسْتُ إلى كَعْب بْنِ عُجْرَةَ فَسَألتُهُ عَنِ الفِدْيَةِ فقال: نَزَلَتْ

فِيَّ خَاصَّة، وَهِي لَكُمْ عَامَّة:

حُمِلْتُ إلى رَسُولِ اللّه وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلى وَجْهي فقال:

"مَا كُنْتُ أرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أرى - أو: مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أرَى:-

 أتَجدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لا، قَالَ: فَصُمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ، أَوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِيْنَ، لِكُلِّ مِسْـكِينٍ

نِصْفُ صَاعٍ.

وفي رواية: أمَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسـلم أنْ يُطْعِمَ فَرَقاً بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أوْ

يُهْدِي شَاةً، أوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أيامٍ.

لغريب :

 نزلت فيَّ: يعني الآية وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَرِيضَاً أوْ به أذَىً مِنْ رَأسِه فَفِدْية مِنْ صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ} .

 حملت: بالبناء للمجهول.

 ما كنت أُرَى:- بضم الهمزة، بمعنى "أظن".

 ما أرى:- بفتح الهمزة، بمعنى "أشاهد".

 الجَهد: بفتح الجيم "المشقة" وبضمها بمعنى "الوسع" و"الطاقة" والمراد ـ هنا – الأول.

 الفَرَق: بفتح الفاء والراء، مكيال يسع ثلاثة آصع نبوية.

 وتقدم في الزكاة تحرير الصاع النبوي ومكاييلنا الحاضرة والمقارنة بينهما.

 المعنى الإجمالي:

 رأى النب[112]ي صلى الله عليه وسلم "كعب بن عجرة" في الحديبية[113] وهو محرم.

 وإذا القمل يتناثر على وجهه من المرض، والأوساخ المتسببة من المرض.

 وكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فَرَقَّ لحاله وقال: ما كنت أظن أن المشقة بلغت منك هذا المبلغ، الذي أراه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أوْ بِهِ أذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية.

 فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجد أفضل ما يفدي به وهو الشاة؟.

 فقال: لا، فقال: إذا لم تجد الشاة فأنت مخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر، أو غيره، ويكون ذلك كفارة عن حلق رأسه، الذي اضطر إليه في إحرامه، من أجل ما فيه من هوام، وفي الرواية الأخرى، خيَّره بين الثلاثة.

ما يؤخذ من الحديث :

1- جواز حلق الشعر للمحرم مع التضرر ببقائه، ويفدي.

2- تحريم أخذ الشعر للمحرم بلا ضرر، ولو فدى.

3- أن الأفضل في الفدية، ذبح شاة، وتقسيمها على الفقراء. فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.

 وفي الرواية الأخرى التخيير بين الثلاثة ويأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله

4- كون السنة مفسرة، ومبينة للقرآن.

 فإن "الصدقة " المذكورة في الآية مجملة، بيَّنها الحديث.

5-  ظاهر الحديث أن نصف الصاع يخرج، سواء أكان من بر أم غيره.

 وهو مذهب مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، وهو الصحيح، لظاهر الحديث.

 أما المشهور من مذهب أحمد، فيجزئ مُدٌّ من بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره.

6- ظاهر النصوص، نزول الآية بعد فتوى النبي صلى الله عليه وسلم.

 فتكون الآية مؤيدة للوحي الذي لا يتلى.

7- وفيه رأفة النبي صلى الله عليه وسلم.

8- وفيه تفقد الأمير والقائد أحوال رعيته.

9- ألحق العلماء بحلق الرأس تقليم الأظفار، والطيب، واللبس، بجامع الترفُّه في كل منها، وتسمى "فدية الأذى".

10- ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بكعب، وبعضها: أنه حمل إليه.

 وجمع بينهما العلماء، بأنه مرَّ به أولاً ثم طلبه فحمل إليه.

11-  يجوز الحلق قبل التكفير وبعده، ككفارة اليمين، تجوز قبل الحنث وبعده.

12-  سبب نزول الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً…} الخ قضية كعب بن عجرة.

 ولكنها عامة، لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

تحقيق التخيير في الكفارة :

 ظاهر الحديث الذي معنا يفيد تقديم الشاة، فإنْ لم يجدهـا، فهو مخير بين الصيام والإطعام.

 أما الآية وبقية الروايات، فتفيد التخيير بين الثلاثة.

 ومنها ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعله آذَاكَ هَوَامُّكَ؟".

 قال: نَعَمْ.

فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : "احْلِقْ رَأسَكَ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَةَ مَسَاكِينَ، أوِ انْسُكْ شَاةً" فهذا وأمثاله، صريح في التخيير.

وقد جمع العلماء بينها، فقال ابن عبد البر: قدم الشاة، إشارةً إلى ترجيح الترتيب، لا إلى إيجابه.

قال النووي: قصد بسؤاله عن الشاة، أن يخبره إن كان عنده شاة، فهو مخير بين الثلاثة، لا أنه لا بجزيء مع وجودها غيرها.  

وقال بعضهم: إنه أفتاه في الشاة اجتهاداً، وبعد ذلك نزلت الآية في التخيير بين الثلاثة.  

ويؤيد هذا القول ما رواه  مسلم عن عبد اللَه بن معقل، عن كعب قال: "أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية".  

والأحاديث الواردة في هذا المعنى، وردت من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، ومن طريق عبد الله بن معقل، عن كعب أيضاً.  

 وما روي من طريق عبد الرحمن، موافق لمعنى الآية، من إفادة التخيير بين الثلاثة.  

وما ورد من طريق عبد الله بن معقل، يفيد الترتيب.  

لهذا فإن ابن حزم، حكم على رواية عبد الله بالاضطراب، وقال في طريق عبد الرحمن: "هذا أكمل الأحاديث وأبينها".

والذي أرى: أن ما ذهب إليه "أبو محمد" هو أحسن جمع، لأن القصة واحدة. فلا يمكن أن يقع فيها إلا صفة واحدة، فلا يمكن الجمع إلا بهذا؛ ولذا قال ابن حجر: وأقرب ما وقفت عليه من طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئت فانسك شاة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم".

ورواية مالك في الموطأ "أي ذلك فعلت أجزأ "والله أعلم.

 بَابُ حرمَة مَكة

حرمة "مكة" المكرمة مستمدة من هذا البيت المعظم، الذي هو أول بيت وُضِعَ في الأرض لِيَؤمَّه الناس لعبادة الله تعالى كما قال تعِالى {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًىً لِلعَالَمِينَ}. وقد بناه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.

ومازال معظماً مكرماً محجوجاً منذ بُنيَ حتى يفسد الزمان، ويذهب الإيمان.

فما دام الدين قائماً فقد جعله الله {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَاً}.

وقد عظمه العرب في جاهليتهم، وجاءوا إليه من أقطار الجزيرة ومن ورائها، فأكرمهم سدنته وخدامه من قريش ومن قبلهم.

وجاء الإسلام فزاد من تعظيمه وتقديسه - وقد حماه الله من كل مُعْتَدٍ، وأكبر دليل، قصة أصحاب الفيل المشهورة.

والمجاورة فيه من أفضل العبادات لمن رزق الاستقامة، لأن العمل عنده مضاعف إلى مائة ألف ضعف كما أنَّ المعاصي عنده وفيه، مغلظة لحرمة المكان. رزقنا الله العمل الصالح المرضي وجهه الكريم، وجنَّبَنَا الزَّيْغَ والضلالَ والْمِحَنَ والفتن، ما ظهر منها وما بطن. آمين.

وتقدم في أول الكتاب شيء من حِكَمِ الحج وأسرارِه.

وكون الحج إلى هذا البيت له حِكَم ومناسبات أخرى، منها أن هذا البيت ومناسكه، هي آثار أبي الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وهي ذكريات، وأعياد إسلامية دينية.

ومنها أن هذه البقعة هي مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه، ومنها شَعَّ نور الإسلام.

فالمسلمون يجددون بها عهداً وهي عاصمتهم الأولى ومُتَوَجَّه وجوههم ومهوى أفئدتهم.

جمع الله المسلمين على التُّقَى ولَمَّ كلمتهم فيما يُعْلي دينهم، ويرفع شأنهم. آمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

الحديث الأول

عَنْ أبِي شُرَيْحٍ خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرو الْخُزَاعِي الْعَدَوِي رَضيَ الله عَنْة:

أَنهُ قَالَ لِعَمْرِو بْن سَعِيدِ بْنِ الْعَاص – وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِيْ أُيُّهَا الأمِيرُ

أنْ أُحَدِّثَكَ قَوْلاً قَالَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسـلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ

أُذُنَايَ وَوَعَـاهُ قَلْبِي وَأبصَرَتْهُ عَينايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ. أنَّهُ حَمِدَ اللّه وَأثْنَى عَلَـيْهِ ثُمَّ قالَ:

"إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا الله تعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ

لامْرِئ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْـفِكَ بِهَا دَماً ولا يَعْضِدَ بِهَا شَـجَرَةً. فَإنْ أحَدٌ

تَرَخَّصَ بِقِتَال رَسُوْلِ الله  صلى الله عليه وسـلم فَقُوْلُوا: إنَّ الله أذِن لِرسُولِهِ وَلَمْ يَأذَنْ

 لَكُمْ، وإنِّمَا أذِنَ لِرَسُـولِهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرمَتِهَا بالأمْسِ.

فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.

فقيل لأبي شريح: مَا قَالَ لَكَ عَمْروٌ؟ قَالَ: قَالَ أنَا أعْلَمُ بِذلِكَ مِنْكَ يَا أبَا شُرَيْح، إنَ الْحَرَمَ لا يُعِيْذُ عَاصِياً وَلا فَارَّاً بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخَرَبَةٍ.

الخربة: بالخاء المعجمة، والراء المهملة. قيل: الخيانة، وقيل: البلية. وقيل: التهمة.

وأصلها في سرقة الإبل قال الشاعر:

والخارِبُ الِّلصُّ يُحِبُّ الخارِبا

الغريب:

ايذن لي: أصله "إأذن لي" بهمزتين فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.

أن يسفك بها دماً:- بكسر الفاء وضمها - قال الهروي:

لا يستعمل السفك إلا في الدم

ساعة من نهار: هي ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر.

لا يعيذ: لا يجير ولا يعصم.

لا يعضد بها شجرة: هو مثل ضرب يضرب - بكسر الضاد ـ ومعناه يقطع.

المعنى الإجمالي :

لما أراد عمرو بن سعيد بن العاص، المعروف بالأشدق، أن يجهز جيشاً إلى مكة المكرمة وهو – يومئذ - أمير ليزيد بن معاوية على المدينة المنورة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، جاءه أبو شريح، خويلد بن عمرو الخزاعي، لينصحه عن ذلك.

ولكون المنصوح كبيراً في نفسه، تلطَّف أبو شريح معه في الخطاب، حكمة منه ورشداً، ليكون أدعى إلى قبول النصيحة وسلامة العاقبة، فاستأذنه ليلقي إليه نصيحة في شأن بعثه الذي هو ساعٍ فيه، وأخبره أنه متأكد من صحة هذا الحديث الذي سيلقيه عليه، وواثق من صدقه إذ قد سمعته أذناه ووعاه قلبه، وأبصرته عيناه حين تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له عمرو بن سعيد في الكلام.

فقال أبو شريح: إن النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة فتح مكة "حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض" فهي عريقة بالتعظيم والتقديس، ولم يحرمها الناس كتحريم الحمى المؤقت والمراعي والمياه، وإنما الله الذي تولَّى تحريمها، ليكون أعظم وأبلغ.

فإذا كان تحريمها قديماً ومن الله "فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر - إن كان يحافظ على إيمانه - أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة.

فإن أحد ترخص بقتالي يوم الفتح، فقولوا : إنك لست كهيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أُذِنَ له ولم يُؤذن لك.

على أنه لم يحل القتال بها دائماً، وإنما هي ساعة من نهار، بقدر تلك الحاجة، وقد عادت حرمتها كما كانت، فليبلغ الشاهد الغائب.

لهذا بلغتك أيها الأمير، لكوني شاهداً هذا الكلام، صبيحة الفتح، وأنت لم تشهده.

فقال الناس لأبي شريح: بماذا أجابك عمرو؟ فقال: أجابني بقوله: " أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارًا بخربة"

وهذه محاولة منه باطلة، فإنه متوجه لقتال من هو أفضل منه وأولى بالخلافة.

وقد سلط عليه عبد الملك بن مروان، فقد قتله غدراً صبراً. وقد هزم جيشه وقتل أميره عليه، وسيأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

ما يؤخذ من الحديث :

1- إفادة العلم وقت الحاجة إليه، وهي مناسباته، لأنه أبلغ.

2- نصح ولاة الأمور، وأن يكون ذلك بلطف ولين، لأنه أنجح في المقصود.

3-  تأكيد الخبر بما يثبته ويؤيده، من بيان الطرق الوثيقة، التي وصل منها، لكونه سمعه بنفسه، أو تكرر عليه، أو شاهد الحادث، أو نقله عن ثقة، ونحو ذلك.

4- البداءة بالحمد والثناء على الله تعالى، في الخطب والمخاطبات، والرسائل وغيرها، من الكلام المهم.

5- تحريم الله لمكة منذ خلق السماوات والأرض، مما يدل على أنها لم تفضل لمناسبات مؤقتة. وإنما هي عريقة أصيلة في التعظيم والتقديس.

أما تحريم إبراهيم عليه السلام، فهو إظهار لتحريم اللّه.

6- أن الإيمان الصحيح هو الرادع عن محارم الله وتعدِّي حدوده.

7- تحريم سفك الدماء في مكة، وظاهره التحريم مطلقاً. ويأتي بحثه إن شاء الله تعالى في الحديث الذي بعد هذا.

8- تحريم قطع شجرها، ظاهره سواء أن يكون قد نبت بنفسه أو غرسه آدمي. ويأتي بحثه إن شاء الله، في الحديث الذي بعد هذا.

9- أنه لا يحل لأحد أن يترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم،  فيقاتل في مكة.

10- أنها أبيحت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة، لم تبح قبلها، ولن تباح بعدها.

11- أن النبي فتح مكة عَنْوَةً لقوله" فإن أحد ترخص بقتال رسول الله".

12- وجوب تبليغ العلم لمن يعلمه، لاسيما عند الحاجة إليه. وهذا ما حمل أبا شريح على نصيحة عمرو بن سعيد.

13- قال ابن جرير: وفيه دليل على قبول خبر الواحد لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ.

تنبيه :

بحوث هذا الحديث الخلافية، أخرناها إلى الحديث الذي بعد هذا، لأن معنى الحديثين متقارب.

تنبيه آخر :

قال شيخ الإسلام: ولا يقطع شيء من شجر الحرم ولا من نباته، إلا الإزخر وما غرسه الناس أو زرعوه، فهو لهم.

ثم قال رحمه الله : وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام: كمسجد الصفا، وكمسجد المولد، وغيره، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة. وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة كجبل حراء فإنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة.

تنبيه ثالث :

حينما هم عمرو بن سعيد بمحاربة عبد الله بن الزبير بأمر من يزيد بن معاوية وجه إليه من المدينة جيشاً بقيادة عمرو بن الزبير ـ أخي عبد الله ـ وكانت بين الأخوين عداوة. فسار الجيش من المدينة ، وحينما اقترب من مكة أخرج له عبد الله بن الزبير فرقتين من الجيش المرابط معه في مكة، فصارت الهزيمة على الجيش الأموي، وأسر عمرو بن الزبير، فحبسه أخوه وضربه بالسياط إلى أن مات.

الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عَبَّاسٍ رضيَ الله عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُـولُ الله صلى الله عليه وسـلم يَوْمَ

فَتْحِ مَكَّةََ.

"لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلكِنْ جِهَاد وَنِيَّة. وَإذَا اسْتُنْفِرْتُم فَانْفِرُوا".

وقال يوم فتح مكة: " إنَّ هذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّـماواتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ

بحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحدٍ قَبْلِي، ولم يَحِلَّ لِي إلاَّ سَـاعَةً مِنْ

نَهَار ـ وهي سـاعتي هذه - فَهُوَ حَرَامٌ  بِحُرْمَةِ الله إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولا

 يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، ولا يُخْتَلَى خَلاهُ"

فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُـولَ الله إلاَّ الإذْخِرَ فَإنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبيـُوتِهِمْ، فَقَال: " إلاَّ الإذْخِرَ". 

القين: الحدّاد.

الغريب :

استنفرتم فانفروا: "نفر" خرج بسرعة. يعني إذا طلب خروجكم للحرب بسرعة فاخرجوا كما طلب منكم.

لا يعضد شوكه: العضد: القطع.

لا ينفر صيده: لا يزعج من مكانه ويذعر.

لا يختلى خلاه: "الخلا" بالقصر هو الرطب من الكلأ واختلاؤه قطعه.

الإذخر: يجوز فيه الرفع بدلاً مما قبله، ونصبه لكونه مستثنى بعد النفي.

 واختار ابن مالك النصب، لكون الاستثناء وقع متراخياً عن المستثنى منه.

و"الإذخر" نبت أصله ماضٍ في الأرض، وقضبانه دقاق، ورائحته طيبة.

وهو كثير في أرض الحجاز، وكانوا يسقفون به، فيجعلونه تحت الطين، وفوق الخشب ليسد الخلل، فلا يسقط الطين، وكذا يجعلونه في القبور.

لقينهم: بفتح القاف وسكون الياء، بعدها نون: هو الحداد، وحاجته لها، ليوقد بها النار.

المعنى الإجمالي :

بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، ودعا أهلها إلى الإسلام، فآمن به قليل منم فآذاهم المشركون في مكة فوسَّع الله لهم بالهجرة منها إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم  وهـاجر معه أصحابه، وصارت الهجرة وَاجَبة منها، لأن المسلم لا يتمكن أن يظهر فيها إسلامه.

فلما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم وصارت بلدة إسلامية، انقطعت الهجرة منها، لأنه زال موجبها، وبقي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، ونصر دينه قائماً، إلي يوم القيامة، باللسان، والسلاح، والنية الصالحة، بإخلاص الأعمال لله تعالى.

ثم ذكر صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الجهاد، وجوب الخروج بسرعة ونشاط إذا استنفرهم وَلِيُّ الأمر للقتال.

ثم ذكر تحريم الله تعالى لمكة، أنه قديم بقدم خلق السماوات والأرض.

لأن الله هو الذي حرمها، ومن تلك المدة فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل فيها القتال تأسِّياً بقتال النبي صلى الله عليه وسلم فيها.

فقد أحلت له خاصة، ساعة من نهار، ثم رجعت حرمتها إليها مطلقاً إلى يوم القيامة.

ثم ذكر أن حرمة هذا البيت، شملت ما حوله من شجر، فلا يقطع، ومن صيد فلا يزعج وَيُنفَّر من مكانه، فما بالك بقتله؟ كما حرَّم لقطة الحرم إلا من أخذها لِيُعَرِّفها دائماً.

فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم قطع النبات، قال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فهم في حاجة إليه لتسقيف بيوتهم وسَدِّ خلل قبورهم، وَإيقاد نيرانهم.

فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر، فإنه مباح.

ما يؤخذ من الحديث :

1- انقطاع الهجرة من مكة إلى غيرها، لأنها ـ ولله الحمد- بلاد إسلامية.

أما الهجرة من غيرها، فهي باقية، من كل بلد لا يقيم الإنسان فيه دينه.

2- أن الجهاد باقٍ، واجب عند وجوده، ونيته عند عدمه.

وكذلك النية الصالحة، ركن أساسي في قبول الأعمال، وعليها المدار.

3-  قوله "وإذا استنفرتم فانفروا" أي: إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ففيه وجوب النفر من المسلم إذا طلبه الإمام لقتال عدو، إما بتنفير عام، أو تعيين. فمن عَيَّنه الإمام، خرج.

4- تحريم القتال في مكة، فلا يحل لأحد إلى يوم القيامة.

5- أن حلها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة من خصائصه، وأنها أحلت له ساعة، ثم عادت حرمتها كما كانت منذ خلقت السماوات والأرض.

6- تحريم قطع الشوك في حَرَمِهَا، وتحريم قطع الشجر الذي ليس فيه شوك من باب أولى، وكذلك الكلأ.

7- تحريم تنفير صيده، وحبسه وقتله أشد حرمة بطريق الأولى. والصيد، هو الحيوان المأكول، المتوحش أصلاً.

8- تحريم أخذ اللقطة فيها، إلا لمن أخذها لِيُعَرِّفها دائماً.

9- استثناء "الإذخر" من الكلأ، للحاجة الشديدة إليه. فيجوز أخذه رطباً أو يابساً.

10- أن بعض السُنَّة، تكون بفهم يلقيه الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.

كما قال تعالى: {وأَنْزَلْنَا إلَيْكَ  الذكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَاسِ ما نُزِّل إلَيْهِمْ}.

11- أن الفصل اليسير الذي لا يُعَدُّ قاطعاً للكلام، لا يضر بين المستثنى والمستثنى منه.

12- أن مكة فتحها النبي صلى الله عليه وسلم عَنْوَةً، ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

اختلاف العلماء :

أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم وَكَلَئِهِ الْبَرِّيِّ الذي لم ينبته الآدمي.

كما أجمعوا على إباحة أخذ "الإذخر" وما أنبته الآدمي، من الزروع والبقول، أخذاً بالأحاديث الصحيحة المتقدمة وغيرها.

واختلفوا في قطع الشجر الذي أنبته الآدمي، فالجمهور على جواز قطعه، كالزرع الذي ينبته الآدمي.

وذهب الشافعية إلى تحريمه، أخذاً بعموم الحديث، ومال الشيخ "الموفق ابن قدامة" في "المغني" إلى هذا.

واختلفوا في جواز قتل من وجب عليه القتل فلجأ إلى الحرم.

فذهب إلى تحريمه جمهور التابعين، والإمام أبو حنيفة، وأصحابه من الفقهاء، والإمام أحمد، وبعض المحدِّثين وقالوا: يعالج حتى يخرج منه من وجب عليه حَدُّ القتل في غيره ثمَّ لجأ إليه.

وذهب مالك، والشافعي: إلى أنه يستوفى منه الْحَدُّ في الحرم.

ودليل مالك، والشافعي، ومن تبعهم، عمومات النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان. وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو معلق بأستار الكعبة، وقاسوه أيضاً على من أتى في الحرم بما يوجب القتل.

واستدل الأولون بمثل قوله تعالى: {ومَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنَاً}، {أوَ لَمُ نُمكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِنَاً} ونحوهما من الآيات، ولو لم يكن للتخصيص فائدة،  لما ذكر.

وأجابوا عن أدلة المعارضين، بأنَّ العمومات لا تتناوله، لأن لفظها لا يدل عليه، لا بالوضع، ولا بالتضمن، فهو مطلق بالنسبة إليها.

ولو فرض تناولها له، لكانت مخصصة بالأدلة الواردة  في وضع إقامة الحد فيه؟ لئلا يبطل موجبها.

أما قتل "ابن خطل" فليس فيه دليل لأنه قتل في الساعة التي أحل فيها الحرم للنبي عليه الصلاة والسلام.

وأما قياسه على من فعل ما يوجب القتل في الحرم، فلا يستقيم، لأن الجاني فيه هتك حرمته، وحرمة الله تعالى، فهما مفسدتان، ولو لم يقم الحد على الجناة فيه، لَعَمَّ الفساد، وعظم الشر في حرم الله.

بخلاف الذي أتى ما يوجب القتل خارجه، فذنبه أخف كثيراً، وهو - بلجوئه إلى الحرم – كالتائب من الذنب، النادم على فعله، فلا يناسب حاجته.

 قال ابن حجر في "فتح الباري" فأما القتل، فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف بمن قتل في الحل، ثم لجأ إلى الحرم.

وممن نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر.

قلت: نصر ابن حزم في "المحلى" أن القصاص وأنواع الحدود، لا تقام في الحرم مطلقاً.

وقال: من أتى فيه بما يوجب القتل والحد، فليُخْرَج، ثم يقام عليه.

ونقل عمومات عن بعض الصحابة، ظاهرها معه.

واختلفوا: هل فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة صلحاً أو عنوة؟.

ذهب الأكثرون من العلماء – ومنهم الإمامان أبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه ـ إلى أنها عنوة.

وذهب الشافعي إلى أنها فتحت صلحاً، واستدلوا على ذلك بأنها لو فتحت عَنْوَةً لقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الغانمين كـ"خيبر" ولملك الغانمون دورها، وكانوا أحق بها من أهلها، ولو كانت عنوة لم يؤمِّن أهلها.

واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم : "إن الله أحلها ليِ ساعة من نهار".

وبقوله: " فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لك".

واستدلوا أيضاً، بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في حالة حرب وتعبئة.

فقد جعل للجيش ميمنة، وميسرةً، ومقدمة، ومؤخرة، وَقَلْباً، ودخلها، وعلى رأسه المغفر غير محرم، وحصل القتال بين خالد بن الوليد وبينهم، حتى قتل منهم جماعة.

وقال صلى الله عليه وسلم للأنصار: "أترون أوباش قريش وأتباعهم، احصدوهم حصداً" حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم.

 فقال: "من أغلق بابه فهو آمن" وغير ذلك من الأدلة الواضحة الصحيحة.

وأجابوا عن أدلة المعارضين :

فأما كونه لم يقسِّم أرضها بين الغانمين، فلأن الأرض غير داخلة في الغنائم التي تقسم، وهذا عمل الخلفاء الراشدين في الأرض العنوة التي يأخذونها، لا يقسمونها، وإنما يجعلونها فيئاً على المسلمين أولهم وآخرهم.

على أن النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ على أهل مكة، فَأمَّنَهمْ، ومِنْ تأمينهم، ترك ما بأيديهم.

مع أن هناك خلافاً بين العلماء : هل تملك رباع مكة ودورها؟.

وقد رجح كثير من العلماء عدم تملكها. وقالوا: إنه يستوي فيها المسلمون كالمساجد.

وأما تأمينه أهلها، فبعد القتال مَنَّ عليهم بذلك لكونهم جيران بيت الله تعالى. وبعد أن رأوا أن لا طاقة لهم في القتال طلبوا الأمان، فأجابهم لطفاً بهم ورحمة.

 بَابُ مَا يجُوز قَتْله

هذه الترجمة فيها بيان ما يجوز قتله، بعد ذكر تحريم القتل، وتنفير الصيد.  فهي كالاستثناء مما قبلها، أو دفع ما يتوهم دخوله.

الحديث الأول  

عَنْ عَائِشَةَ رضيَ الله عَنْهَا: أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

"خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتلْنَ فِي الحَرَم :

1:- الْغُرَابُ، 2:- والحِدَأَةُ، 3:- والعَقْرَبُ 4:- والفَأْرَة، :- وَالْكَلْبُ العَقُورُ".

ولمسلمٍ :" يُقْتَلُ خَمْسُ فَوَاسِقَ في الحِلِّ وَالُحَرَم[114]"

المعنى الإجمالي:

من الحيوان ما هو مؤذ بطبعه، فهذا يقتل في الحل، والحرم، والإحرام.

ومنها هذه المؤذيات الخمس، التي نبه بها الشارع على ما شابهها من الفواسق.

وهن، "الغراب" الذي يفسد الثمار، و"الحدأة" التي تخطف الثياب والحلي، و"العقرب" التي تلسع، و"الفأرة" التي تثقب وتخرب، و"الكلب العقور" الذي يعتدي على الناس.

فهذه خمسة أنواع من الحيوانات، وصفت بالفسق، وهـو خروجها بطبعها عن سائر الحيوانات، بالتعدي والأذى.

ونبه بها معدودة، لاختلاف أذاها، فيلحق بها ماشاكلها في فسقها من سائر الحيوانات، فتقتل لأذيتها واعتدائها، فإن الحرم لا يجيرها والإحرام لا يعيذها.

اختلاف العلماء :

اختلف العلماء: هل يتعدى القتل من هذه المذكورة إلى غيرها من الحيوانات أو لا؟.

فـ"أبو خيفة" يرى أن حكمها لا يتعداها إلى غيرها ، وذلك أن حكمها عُلِّقَ بألقابها، واللقب لا يقتضي مفهوماً عند جمهور الأصوليين.

وذهب الجمهور إلى تعديتها إلى غيرها.

واختلفوا في المعنى الذي لأجله يُعدَّى حكمها إلى غيرها.

فالشافعي يرى أنه كونهن مما لا يؤكل، فكل مالا يؤكل يجوز قتله بلا فدية.

وذهب الإمامان، مالك، وأحمد : إلى أن المعنى الجامع لهن ولغيرهـن هو طبيعة الإيذاء.

وهذا قياس جيد، لأنه تعليل مفهوم من نص الشارع، وهو وصف الأصل بالفسق فإذا وجِدَ بالفرع، تم القياس، والحكم يدور مع علته، وجوداً وعدماً.

وأما تعديدها- مع أن الأذى واحد- فلينبه به الشارع على أنواعه ومفرداته الموجودة في كل نوع من هذه الفواسق ومثيلاتها.

 تكميل:

الحيوانات على أربعة أقسام:

1- الحيوان المستأنس، كبهيمة الأنعام، والدجاج، يباح تذكيته في كل حال.

2- الحيوان الذي لا يؤكل وليس فيه أذى، فيكره قتله، وإن قتل فليس فيه فداء.

3- الحيوان المؤذي، كهذه المذكورة في الحديث وما في معناها، فيشرع قتلها في الحل، والإحرام، والحرم. وليس في قتلها شيء.

4- الحيوان الْبَرِّيُ المأكول؛ فهذا هو الصيد. في قتله في الحرم وفي الإحرام، الجزاء.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية قتل هذه الحيوانات المعدودة في الحديث، في الحل والحرم.

2- أن قتلها لما فيها من الفسق والأذى، فيلحق بها ما شابهها من الحيوان.

3- أن الأذى ليس نوعاً واحداً، فكل ما فيه مضرة على النفس أو المال أو غير ذلك، فهو الأذى الذي ليس لصاحبه حرمة، لذا نَبَّهَ على تعدد الأذى بتعديد هذه الحيوانات. والله هو الحكيم في خلقه، العدل في حكمه.

بَاب دُخول مَكةَ والبيت[115]

الحديث الأول

عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ رضيَ الله عَنْهُ:  أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسـلم دَخَلَ مَكَةَ عَامَ

الْفَتْحِ وَعَلَى رَأسِهِ الْمِغفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأسْتَارِ الْكَعْبَةِ.

فقال: "اقْتُلُوهُ".

الغريب :

المغفر: بوزن مِنْبَر، زرد ينسج من حديد على قدر الرأس، وقاية له من وقع السيف.

"ابن خطل" بالخاء المعجمة والطاء المهملة المفتوحتين، اختلف في اسمه. قيل: هلال، وقيل غير ذلك، وقاتله أبو برزة الأسلمي.

 المعنى الإجمالي :

كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش حروب كثيرة مما أوغر صدورهم.

فلما كان فتح مكة، دخلها صلى الله عليه وسلم في حالة حيطة وحذر، فوضع على رأسه المغفر.

وكان صلى الله عليه وسلم قد حض على أناس من المشركين أن يُقْتَلُوا، ولو وُجِدُوا في أستار الكعبة، وسمى منهم "ابن خطل" الذي أسلم، ثم قتل مسلماً وارتد عن الإسلام وذهب إلى الكفار، فجعل جواريه يغنين بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما وضعت الحرب أوزارها ذلك اليوم، وأمَّن أهل مكة، واستأمن منهم ووضع المغفر، وجد بعض الصحابة "ابن خطل" متعلقاً بأستار الكعبة، عائذاً بحرمتها من القتل، لما يعلم من سوء صنيعه، وقبح سابقته، فتحرجوا من قتله قبل مراجعة النبي صلى الله عليه. فلما راجعوه قال: اقتلوه، فقتل بين الحجر والمقام.

ما يؤخذ من الحديث :

1- كون النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة غير محرم، إذ دخل وعلى رأسه المغفر، وعليه أيضاً عمامة سوداء، كما في صحيح مسلم، فيجوز دخولها في مثل هذه الحال بلا إحرام.

2- تقديم الجهاد على النسك، لأن مصالح الأَوَل أعم وأنفع.

3- كون مكة فتحت عنوة، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة، لا صلحاً كما هو مذهب الشافعي.

4- جواز فعل الأسباب المباحة الواقية، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله تعالى. 5- فيه جواز إقامة الحدود في الحرم ولو بالقتل، لأن قتل ابن خطل، كان بعد انتهاء القتال الذي أبيح في ساعة الدخول. والله أعلم.

الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  دَخَلَ مَكَّةَ

مِنْ كَدَاء مِنْ الثَّنِيَّة الْعُلْيَا التي بِالْبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلى.

 الغريب :

كداء: بفتح الكاف والمد، اسم للثنية، التي في أعلى مكة وهي (ريع الحجون) وتقول العامة: (الحجول) وهو تحريف.

الثنية السفلى: الثَّنِيَّة، هي الطريق بين الجبلين.

والمراد بها، الطريق الذي خرج من المحلة المسماة (حارة الباب) وتسمى الثنية الآن (ريع الرسام). وتسمى الثنية السفلى: كُدى - بضم القاف وقصر الألف.

المعنى الإجمالي:

حِج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فبات ليلة دخوله بـ"ذي طوى"لأربع خَلوْنَ من ذي الحجة.

وفي الصباح دخل مكة من الثنية العليا، التي تأتي من بيت مقابر مكة، لأنه أسهل لدخوله، إذ أتى من المدينة.

فلما فرغ من مناسكه خرج من مكة إلى المدينة من أسفل مكة، وهي الطريق التي تأتي على "جرول".

ولعل في مخالفة الطريقين تكثيراً لمواضع العبادة، كما فعل صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى عرفة والإياب منها، ولصلاة العيد والنفل، في غير موضع الصلاة المكتوبة، لتشهد الأرض على عمله عليها يوم تحدث أخبارها. أو لكون مدخله ومخرجه مناسبين لمن جاء من المدينة، وذهب إليها. والله أعلم.

الحديث التاسع عشر بعد المائتين

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا:

دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسـلم الْبَيْتَ وَأسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلالُ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ

فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَلَمَّا فَتَحُوا البَابَ كُنْتُ أوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلالاً فَسَألتُهُ: هَلْ

صَلَّى فِيهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِييْنِ.

 المعنى الإجمالي :

لما فتح الله تبارك وتعالى مكة، وطهر بيته من الأصنام والتماثيل والصُّوَرِ، دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة المشرفة، ومعه خادماه، بلال، وأسامة، وحاجب البيت، عثمان بن طلحة.

فأغلقوا عليهم الباب لئلا يتزاحم الناس عند دخول النبي صلى الله عليه وسلم فيها ليروا كيف يتعبد، فيشغلوه عن مقصده في هذا الموطن، وهو مناجاة ربِّه وشكره على نعمه؛ فلما مكثوا فيها طويلاً، فتحوا الباب.

وكان عبد الله بن عمر حريصاً على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، والأمكنة التي يأتيها ولو لغير عبادة، ولذا فإنه كان أول داخل لما فتح الباب.

فسأل بلالاً: هل صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين.

وكانت الكعبة المشرفة – إذ ذاك – على ستة أعمدة، فجعل ثلاثة خلف ظهره، واثنين عن يمينه، وواحداً عن يساره، وجعل بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع، فصلى ركعتين، ودعا في نواحيها الأربع.

ما يؤخذ من الحديث :

1- استحباب دخول الكعبة المشرفة، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها. وذكر ابن تيمية أن دخولها ليس فرضاً ولا سنة، ولكنه حسن.

2- أن دخولها ليس من مناسك الحج، وإنما هي فضيلة في ذاتها.

ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها في حجته، وإنما دخلها في عام الفتح.

وهذا هو التحقيق، في أنه لم يدخلها إلا مرة واحدة.

اختلاف العلماء :

الجمهور على جواز صلاة النافلة في الكعبة المشرفة وفوقها، إلا ما حكي عن ابن عباس.

وإنما الخلاف في جواز الفرض فيها. وفوق سطحها، ومثلها الحِجْر.

فذهب الإمام أحمد، ومالك في المشهور عنه إلى أنها لا تصح، مستدلين بقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} والمصلي فيها أو على سطحها، غير مستقبل لجهتها. وأما النافلة فمبناها على التخفيف. فتجوز فيها وعليها.

وبما روي عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع:

1- المزبلة      2- والمجزرة           3- والمقبرة        4- وقارعة الطريق.

5- والحمام    6- ومعاطن الإبل     7- وفوق ظهر بيت الله..

رواه الترمذي.

وذهب الإمامان، أبو حنيفة، والشافعي: إلى صحة الفريضة فيها وفوقها، وكذلك في الحِجْر. ودليلهم على ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيها.

وما ثبت في حق النفل، يثبت في حق الفرض بلا فرق إلا بدليل، ولا دليل.

ولو سلم استدلالهم بالآية، على عدم صحة الفرض، لكان دليلاً على عدم النافلة أيضا.

وأما حديث ابن عمر، فلو صح، لكان عاماً للفريضة والنافلة، ولكن ضعفه مخرجه، وهو الترمذي. وقال البخاري: فيه رجل متروك.

واستدلوا بحديث "جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وَطَهوُراً"، والكعبة المشرفة أولى الأرض بذلك. والله أعلم.

 بَابُ الطَّواف وأدَبه[116]

الحديث الأول

عَنْ عُمَرَ رَضي الله عَنْهُ:  أَنَّهُ جَاءَ إلى الحَجَرِ الأسْوَدِ وَقبَّلَهُ وَقَالَ: إنِّي لأعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لا

تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أنِّي رَأَيْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قبَّلْتُك.

المعنى الإجمالي :

الأمكنة والأزمنة وغيرها من الأشياء، لا تكون مقدسة معظمة تعظيم عبادة الله لذاتها، وإنما يكون لها ذلك بشرع.

ولهذا جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الحجر الأسود وقبَّله بين الحجيج، الذين هم حديثو عهد بعبادة الأصنام وتعظيمها، وبيَّن أنه ما قَبَّلَ هذا الحجر وعظمه من تلقاء نفسه، أو لأن الحجر يحصل منه نفع أو مضرة، وإنما هي عبادة تلقاها من المشرع صلى الله عليه وسلم  فقد رآه يُقبِّله فَقَبَّله، تأسِّياً واتِّباعاً، لا رأياً وابتداعاً.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعيه تقبيل الحجر الأسود للطائفين عندما يحاذونه، إن أمكن بسهولة. 

2- أن تقبيله ليس لنفعه أو ضرره، وإنما هو عبادة لله تعالى، تلقيناها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

3- أن العبادات توقيفية، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله.

ومعنى هذا أن العبادات لا تكون بالرأي والاستحسان، وإنما تتلقى عن المشرع، وهذه قاعدة عظيمة نافعة، تؤخذ من كلام المحدَّث الملهم، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

4- تبيين ما يوهم العامة من مشاكل العلم، حتى لا يعتقدوا غير الصواب.

5- أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم من سنته المتبعة، فليس هناك خصوصية إلا بدليل

6- أنه إذا صح عن الشارع عبادة، عمل بها ولو لم تعلم حكمتها، على أن إذعان الناس وطاعتهم في القيام بها من الحكم المقصودة.

7- قال شيخ الإسلام: ويستحب للطائف أن يذكر الله تعالى ويدعوه بما يشرع من الأدعية والأذكار، وإن قرأ سراً فلا بأس. وليس للطواف ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية. وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له. وكان صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بين الركنين بـ"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".

الحديث الثاني

عَنْ عَبْـدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُـولُ الله صلى الله عليه وسـلم

وَأصْحَابُهُ مَكَّةَ، فقَالَ المشركون: إنِّهُ يَقْدِمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأمَرَهُمْ

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسـلم أن يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ الثّلاثَةََ، وَأن يَمْشُـوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ،

وَلَمْ يَمْنَعْهُم أنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كلَّهَا إلا الإبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.

 الغريب :

وَهَنَتهم: بتخفيف ا لهاء، أي أضعفتهم.

يثرب: من أسماء المدينة النبوية في الجاهلية.

أن يرملوا: بضم الميم "الرَّمَل" هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطا.

الأشواط: بفتح الهمزة، جمع شوط بفتح الشين، وهو الجرية الواحدة إلى الغاية. والمراد هنا، الطوفة حول الكعبة.

الإبقاء عليهم: بكسر الهمزة والمد، الرفق بهم، والشفقة عليهم.

المعنى الإجمالي :

جاء النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة إلى مكة معتمراً، ومعه كثير من أصحابه.

فخرج لقتاله وصده عن البيت كفار قريش، فحصل بينهم صلح، من مواده أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرجعون هذا العام، ويأتون في العام القابل معتمرين، ويقيمون في مكة ثلاثة أيام.

فجاءوا في السنة السابعة   لعمرة القضاء.

فقال المشركون، بعضهم لبعض - تَشَفِّيَاً وشماتة ـ: إنه سيقدم عليكم قوم، وقد وهنتهم وأضعفتهم حُمَّى يثرب.

فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قالتهم، أراد أن يرد قولهم ويغيظهم.

فأمر أصحابه أن يسرعوا إلا فيما بين الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود فيمشوا، رفقاً بهم وشفقة عليهم، حين يكونون بين الركنين لا يراهم المشركون، الذين تسلقوا جبل" قعيقعان[117] " لينظروا إلى المسلمين وهم يطوفون فغاظهم ذلك حتى قالا: إن هم إلا كالغزلان.

فكان هذا الرمل سنة متبعة في طواف القادم إلى مكة، تذكراً لواقع سلفنا الماضين، وتأسِّياً بهم في مواقفهم الحميدة، ومصابرتهم الشديدة، وما قاموا به من جليل الأعمال، لنصرة الدين، وإعلاء كلمة الله. رزقنا الله اتباعهم واقتفاء أثرهم.

ما يؤخذ من الحديث :

1-  أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رملوا في الأشواط الثلاثة الأول ماعدا ما بين الركنين، فقد رخص لهم في تركه، إبقاء عليهم، وذلك في عمرة القضاء.

ويأتي استحبابه في كل الثلاثة وتحقيق البحث في الحديث الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى.

2- استحباب الرمل في كل طواف وقع بعد قدوم، سواء أكان لنسك أم لا ففي صحيح مسلم: "كان ذلك إذا طاف الطواف الأول".

3-  إظهار القوة والجلد أمام أعداء الدين، إغاظة لهم، وتوهيناً لعزمهم، وفتَّاً في أعضادهم.

4- أن من الحكمة في الرمل الآن تذكر حال سلفنا الصالح، في كثير من مناسك الحج، كالسعي، وَرَمْي الجمار والهَدْي وغيرها.

5- الرمل مختص بالرجال دون النساء، لأنه مطلوب منهن الستر.

6- لو فات الرمل في الثلاثة الأول، فإنه لا يقضيه، لأن المطلوب في الأربعة الباقية، المشي. فلا يخلف هيئتهن، فتكون سنة فات محلها.

الحديث الثالث

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ

يَقْدَمَ مَكَّة إذَا اسْتَلَمَ الرُكْنَ الأَسْوَدَ أوَّلَ مَا يَطُوفُ، يَخُبُّ ثَلاثَةَ أشْوَاطٍ".  

الغريب :

يَخُبُّ- الخَبَب: نوع من الْعَدْوِ، وقيل، هو الرَّمَلُ، وعلى هذا فهما مترادفان.

المعنى الإجمالي:

كان ابن عمر رضي الله عنهما من الحريصين على تتبع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفتها، والبحث عنها، ولذا فإنه يصف طواف النبي صلى الله عليه وسلم الذي يكون بعد قدومه بأنه يرمل في الأشواط الثلاثة كلها بعد أن يستلم الحجر الأسود، الذي هو مبتدأ كل طواف، تذكراً لحالهم السابقة، يوم كانوا يفعلونه إغاظَةً للمشركين.

ما يؤخذ من الحديث :

1- استحباب الخبب، وهو الرمل، في الأشواط الثلاثة الأولِ كلها، في طواف القدوم.

2- المشي في الأربعة الباقية منها، ولو فاته بعض الرمل أو كله في الثلاثة الأول، لأنها سنة فات محلها. فالأربعة الأخيرة لا رمل فيها.

3- الخبب في الأشواط الثلاثة الأول كلها، هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد عمرة القضاء، فيكون ناسخاً للمشي بين الركنين في عمرة القضاء، لأنه متأخر، ولأن الضعف المانع من الرمل فيها، قد زال.

4- رمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال سببه، لتذكر تلك الحال التي كانوا عليها.

 فنحن نرمل إحياء لتلك الذكرى.

5- استلام الحجر الأسود في ابتداء كل طواف، وعند محاذاته في كل طوفة لمن سهل عليه ذلك، وتقدم مشروعية تقبيله.

الحديث الرابع

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قال: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في حَجةِ

الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنْ.   

والمحجن : "عَصا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ".

الغريب:

المِحْجَن. بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم، عصاً محنية الرأس.

المعنى الإجمالي :

طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد تكاثر عليه الناس.

منهم :- من يريد النظر إلى صفة طوافه.

ومنهم:- من يريد النظر إلى شخصه الكريم، فازدحموا عليه.

ومن كمال رأفته بأمته ومساواته بينهم: أن ركب على بعير فأخذ يطوف عليه ليتساوى الناس في رؤيته، وكان معه عصاً محنية الرأس، فكان يستلم بها الركن ويقبل الحجر كما جاء في رواية مسلم لهذا الحديث.

ما يؤخذ من الحديث :

1- جواز الطواف راكباً مع العذر لأن المشي أفضل، وإنما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة. قال ابن دقيق العيد: وهو أن الشيء قد يكون راجحاً بالنظر.

إلى محله، فإذا عارضه أمر آخر أرجح منه قدم على الأول من غير أن تزول فضيلة الأول. فإذا زال المعارض الراجح عاد الحكم الأول.

2- استحباب استلام الركن باليد إن أمكن، وإلا فَبِعَصَا ونحوها، بشرط ألا يؤذي به الناس.

3- جاء في مسلم زيادة "ويقبل المحجن" وأخرج مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: "أنه استلم الحجر بيده ثم قبلها" قال في فتح الباري: وبهذا قال الجمهور إن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده وإذا لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء وقبل ذلك الشيء.

4- إظهار العالم أفعاله مع أقواله لتحصل به القدوة الكاملة والتعليم النافع.

5- قال ابن دقيق العيد: واستدل بالحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، من حيث إنه لا يؤمن بول البعير في أثناء الطواف في المسجد.

ولو كان نجساً، لم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم المسجد للنجاسة، وقد منع - لتعظيم المساجد – ما هو أخف من هذا. والأصل الطهارة إلا بدليل، والدليل هنا أيد الأصل.

6- قال شيخ الإسلام: والإكثار من الطواف بالبيت من الأعمال الصالحة فهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرم ويأتي بعمرة مكية فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ولا رغَّب فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث الخامس

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا قال: لَمْ أَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ

الْبَيْتِ إلا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِييْنِ.

 الغريب :

اليمانيين: نسبة إلى اليمن تغليباً، كالقمرين، للشمس، والقمر، والعمرين لأبي بكر وعمر، والأبوين للأب والأم.

والمراد بهما، الركن اليماني، والركن الشرقي، الذي فيه الحجر الأسود.

المعنى الإجمالي :

للبيت أربعة أركان، فللركن الشرقي منها فضيلتان:

1- كونه على قواعد إبراهيم عليه السلام         2- وكون الحجر الأسود فيه.

والركن اليماني له فضيلة واحدة، وهو كونه على قواعد إبراهيم.

وليس للشامي والعراقي شيء من هذا، فإن تأسيسهما داخل عن أساس إبراهيم حيث أخرج الحجر من الكعبة من جهتهما.

ولهذا فإنه يشرع استلام الحجر الأسود وتقبيله، ويشرع استلام الركن اليماني بلا تقبيل.

ولا يشرع في حق الركنين الباقيين، استلام ولا تقبيل.

والشرع مبناه على الاتباع، لا على الإحداث والابتداع. ولله في شرعه حكم وأسرار.

ما يؤخذ من الحديث :

1- استحباب استلام الركنين اليمانيين.

والمستحب في حق الطائف، استلام وتقبيل الحجر الأسود إن أمكن بلا مشقة، فإن لم يمكن، استلمه فقط بيده، وَقَبَّلَ يَده، وإن لم يمكن استلمه بعَصاً ونحوها، وقبَّل ما استلمه به.

فإن آذى وشقَّ على نفسه أو غيره، أشار إليه ولم يُقَبِّل يده.

والركن اليماني إن تمكن من استلامه استلمه، وإن لم يتمكن لم يُشِرْ إليه لأنه لم يرد، والشرع في العبادات نقل وسماع.

قال شيخ الإسلام: أما الركن اليماني فلا يقبل على الصحيح. وأما سائر جوانب البيت والركنان الشاميان ومقام إبراهيم فلا يقبل ولا يتمسح به باتفاق المسلمين المتبعين للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أنه لا تقبل الحجرة النبوية ولا يتمسح بها لئلا يضاهي بيت المخلوق بيت الخالق. فإذا كان هذا في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقبر غيره أولى لا يقبل ولا يستلم، وأما الطواف بشيء من ذلك فهو من أعظم البدع المحرمة.

2- عدم مشروعية استلام غير الركنين اليمانيين من أركان الكعبة ولا غيرها من المقدسات، كمقام إبراهيم، وجبل الرحمة في "عرفة" والمشعر الحرام في "مزدلفة" وروضة النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وصخرة بيت المقدس وغيرها.

فإن الشرع يؤخذ عن الشارع بلا زيادة ولا غُلُوّ، ولا نقصان ولا جفاء.

ومن شرع عبادة لم يشرعها الله ورسوله، فقد كذَّب الله سبحانه في قوله {الْيَوْمَ أكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} واستدرك على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها".

وإننا لنرى من يُخِلُّ بصلاة الفرض، فيسلم مع الإمام أو قبله ليكون الأول في تقبيل الحجر الأسود. وكل هذا من آثار الجهل وقلة الناصحين والمرشدين.

فلقد انصرفنا إلى حب الدنيا، الذي هو رأس كل خطيئة، وتركنا أوامر الله تعالى وراء ظهورنا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 بَابُ التمتّع

الأنساك ثلاثة : 1- تمتع         2- وقران          3- وإفراد

أما التمتع فهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يفرغ منها، ويحرم بالحج في عامه.

وأما القران: فهو أن يحرم بهما جميعاً، أو يدخل الحج على العمرة، فتتداخل أفعالهما.

وأما الإفراد فهو أن يحرم بالحج مُفْرِداً له عن العمرة.

واختلف العلماء في أفضلها، ويأتي - إن شاء الله - في الأحاديث القادمة.

الحديث الأول

عَنْ أبي جَمْرة نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضَّبْعِيِّ، قال: سَألتُ ابْنَ عَبَّاس عَنِ الْمُتْعَةِ فَأمَرَنِي بِهَا.

وَسَألتُهُ عَنْ الْهَدْيِ، قال: فِيهِ جَزُورٌ أوْ بَقَرَةٌ ، أوْ شَاةٌ ، أوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ.

قَالَ: وَكَأنَّ أُنَاساً كَرِهُوهَا فَنِمْتُ، فَرَأيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إنْسَاناً يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ،

وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلةٌ.

 فأتَيْتُ ابْنَ عَبَّاس، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: الله أَكْبَرُ، سُنَّة أَبِي القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم.

الغريب :

الجزور: هو الذكر أو الأنثى من الإبل.

الشاة: هي الذكر أو الأنثى من الضأن أو المعزى.

شِرْك: أي مشاركة في ذبيحة من البقر أو الإبل.

المعنى الإجمالي :

كان العرب في الجاهلية، يَعُدُّونَ العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ويقولون: إذا عفا[118] الأثر، وبرئ الدبر[119] وانسلخ صفر[120] حلت العمرة لمن اعتمر، حتى جاء الإسلام فأبطل هذه العقيدة بقوله تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.

وألغاها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذ اعتمر في أشهر الحج بعمرة مفردة، وجمع بينها وبين حجته، لأنه أحرم قارناً.

ومع هذا فقد بقيت بقية من تلك العقيدة في نفوس بعض المسلمين، من أهل الصدر الأول.

ولهذا سأل أبو حمزة ابن عباس عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فأمره بها، ثم سأله عن الهدي المقرون معها في الآية، فاخبره أنه جزور، وهي أفضله، ثمَّ بقرة، ثم شاة، أو سُبع البدنة أو البقرة مع من اشتركوا فيها للهدي أو الأضحية.

فكأنَّ أحداً عارض أبا حمزة في تمتعه، فرأى هاتفاً يناديه في المنام "حج مبرور، ومتعه متقبلة".

فأتى ابْنَ عباس ليبشره بهذه الرؤيا الجميلة.

ولما كانت الرؤيا الصالحة جزءاً من أجزاء النبوة، فرح ابن عاس بها، واستبشر أن وفقه الله تعالى للصواب، فقال: الله أكبر هي سنة أبى القاسم صلى الله عليه وسلم.

ما يؤخذ من الحديث:

1- جواز التمتع والإتيان بالعمرة في أشهر الحج، كما انعقد عليه الإجماع فيما بعد.

2- أن المراد بالهدي  المذكور في قوله تعالى: {فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} البدنة أو البقرة، أو الشرك فيهما أو الشاة.

3-  الاستئناس بالرؤيا فيما يقوم عليه الدليل الشرعي، تأييداً بها، لأنها عظيمة القدر في الشرع، وجزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. قال ابن دقيق العيد: هذا الاستئناس والترجيح لا ينافي الأصول.

4- الفرح بإصابة الحق، والاغتباط به، لأنه علامة التوفيق.

الحديث الثاني

عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّها قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، مَا شَأْنُ النَّاس حَلُّوا

مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟

فقال : إنِّي لَبَّدْتُ  رَأْسِي، وقَلَّدْتُ هَدْيي، فلا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ".

المعنى الإجمالي :

أحرم النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة والحج، وساق الهدي وَلَبَّدَ رأسه بما يمسكه عن الانتشار، لأن إحرامه سيطول وأحرم بعض أصحابه كإحرامه، وبعضهم أحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، وأكثرهم لم يسق الهدي، وبعضهم ساقه.

فلما وصلوا إلى مكة، وطافوا، وسعوا، أمر من لم يسق الهدي من المفردين والقارنين، أن يفسخوا حجهم ويجعلوها عمرة، ويتحللوا.

أما هو صلى الله عليه وسلم، ومن ساق الهدي منهم، فبقوا على إحرامهم ولم يحلوا.

فسألته زوجه "حفصة" لم حل الناس ولم تحل؟ قال: لأني لَبَّدْتُ رأسي، وَقلَّدْتُ هَدْيي وسُقْتُهُ، وهذا مانع لي من التحلل حتى يبلغ الهدي محله، وهو يوم انقضاء الحج يوم النحر.

ما يؤخذ من الحديث :

1- كون النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، كما تقدم تحقيقه.

2- مشروعية سَوْقِ الهدي من الأماكن البعيدة، وأنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

3- مشروعية تقليد الهدي، وذلك بأن يوضع في رقابها قلائد من الأشياء التي لم يجر عادة بتقليدها بها، والحكمة في ذلك إعلامها لتحترم فلا يتعرض لها.

4- مشروعية تلبيد الشعر المرسل في الإحرام، كما هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن يجعل في الشعر ما يمسكه من الانتفاش.

5- أن سوق الْهَدْي من الحل، يمنع المحرم من التحلل حتى ينحر هديه يوم النحر.

6- إذا لم يَسُق الْهَدْيَ، فَيُشرع له فسْخَ حجه إلى عمرة، ويحل منها، ثمَّ يحرم بالحج في وقته.

الحديث الثالث[121]

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عَنْهُ، قال: أُنْزِلَتْ آيةُ الْمُتْعَةِ في كِـتَابِ الله فَفَعَلْنَاهَا مَعَ

رَسُـولِ الله صلى الله عليه وسـلم، وَلمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ بِحُرْمَتِهَا، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ،

فَقالَ رَجُلٌ بِرأْيِهِ مَا شَاءَ.

قالَ البخاري: يُقَالُ: إنَّه عُمَرُ.

ولمسلم: نَزَلَتْ آيةُ الْمُتعَةِ - يعنِي متعةً الحج - وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم،

ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الحَجِّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ. ولهما بمعناه.

 المعنى الإجمالي :

ذكر" عمران بن حصين" رضي الله عنه المتعة بالعمرة إلى الحج.

فقال : إنها شرعت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم  وإجماع أصحابه.

وهذه هي الأصول العظام في الدلالة على الأحكام الشرعية.

فأما الكتاب، فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْي}.

وأما السنة، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، وإقراره عليها.

وأما الإجماع، فقد فعلها بعضهم، مع علم من لم يفعلها وسكوته.

وبعد هذا لم ينزِل ما ينسخها، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم، وهي باقية لم تنسخ بعد هذا، فكيف يقول رجل برأيه وينهى عنها؟.

يشير بذلك إلى نَهْي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنها في أشهر الحج، اجتهاداً منه ليكثر زوار البيت في جميع العام، لأنهم إذا جاءوا بها مع الحج، لم يعودوا إليه في غير موسم الحج.

وكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أولى بالاتباع من قول كل أحد، مهما كان.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية التمتع وثبوته في الكتاب والسنة.

2- أنه قد توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وحكمها باقٍ لم ينسخ.

3- أنه لا يحل الأخذ برأي أحد يخالف ما ورد عن الله تعالى، أو عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

4- قوله: "لم ينزل قرآن يحرمها" دليل على ثبوت النسخ في الشريعة وأن القرآن ينسخ بالقرآن.

5- قوله: ولم ينه عنها دليل على جواز نسخ القرآن بالسنة.

ووجهته أنه لو لم يكن النسخ ممكناً، لما احتاج إلى الاحتراز في رفع حكم التمتع، الثابت بالقران، من نهي النبي صلى الله عليه وسلم.

6- قوله: "قال رجل برأيه ما شاء" فسره البخاري بعمر بن الخطاب. وروي أيضا عن عثمان ومعاوية رضي الله عنهم.

وقصدهم أن لا يقتصر الناس على زيارة البيت في أشهر الحج فقط، بل ليقصد في جميع العام.

ولكن كتاب الله تعالى وسنة رسوله مقدمان على كل اجتهاد. والله أعلم بأسرار شرعه.

والآن مع إجماع الناس على جواز التمتع وإتيانهم بالعمرة في أشهر الحج، لَم يَخْلُ البيت من الزوار في كل وقت.

نسأل الله تعالى أن يُعْلِيَ كلمته، وينشر دينه، ويقيم شعائره. آمين.

الحديث الرابع

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُـولُ الله صلى الله عليه وسـلم فِي

حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِيْ الحُلَيْفَةَ، وَبَدَأَ رَسُولُ

الله صلى الله عليه وسلم، فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أهَلَّ بِالْحَجِّ.

فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَهَلُّ بالْعُمْرَةِ إلَى الْحجِّ.

فَكَانَ مِنَ النَّاس مَنْ تَمَتَّعَ، فَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ.

فَلَمَّا قَدِمَ النَّبيُ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَالَ للنَّاسِ : "مَنْ كَانَ مِنْكمْ قَدْ أهْدَى فإنَّهُ

لا يُـحِلُّ مِنْ شَـيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْـكُمْ أهْدَى فَلْيَطُفْ

بِالْبَيْتِ وبِالصَّفَا  والْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيُـحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، وَمـَنْ لَمْ يَـجِدْ

هَدْيَاً، فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وسَبَعْةَ إِذا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ".  

فَطَافَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسـلم حِيْنَ قَدِمَ إلى مَكَّة وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، أَوَّلَ شيءٍ ،

ثُمَّ خَبَّ ثَلاثَة أشْـوَاطٍ مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَـىَ أرْبَعة، وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بالْبَيْت عِنْدَ

الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَأتَى الصَّفَا، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا والمرْوَةِ سَـبْعَةَ أشْواطٍ ثُمَّ لَمْ

يُحِلَّ مِن شَيءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى قَضَى حَجَّهُ.

وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كلِّ شَيء حَرُمَ عليه.

وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم،مَنْ أهْدَى فَسَاق الهَدْيَ مِنَ النَّاس.

 المعنى الإجمالي :

لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة "ميقات أهل المدينة" ليحج حجته التي ودع فيها البيت ومناسك الحج، وودع فيها الناس، وبلَّغهم برسالته وأشهدهم على ذلك، أحرم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة والحج، فكان قارناً. والقِرَانُ تمتع.

فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فبعضهم أحرم بالنسكين جميعاً.

وبعضهم أحرم بالعمرة، ناوياً الحج بعد فراغه منها.

وبعضهم أفرد الحج فقط. فقد خيًرهم بين الأنساك الثلاثة.

وساق صلى الله عليه وسلم  وبعض أصحابه الْهَدْيَ معهم من ذي الحليفة، وبعضهم لم يسقه.

فلما دَنَوْا من مكة حضَّ من لم يَسُق الهدي من المفردين والقارنين إلى فسخ الحج وجَعْلهَا عمرة.

فلما طافوا وسعوا، أكد عليهم أن يقصروا من شعورهم، وليتحللوا من عمرتهم ثم يحرموا بالحج ويهدوا، لإتيانهم بنسكين بسفر واحد.

فمن لم يجد الهدي، فعليه صيام عشرة أيامٍ، ثلاثة في أيام الحج، يدخل وقتها بإحرامه بالعمرة، وسبعة إذا رجع إلى أهله.

فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة، استلم الركن، وطاف سبعة، خب ثلاثة، لكونه الطواف الذي بعد القدوم، ومشى أربعة، ثم صلى ركعتين عند مقام إبراهيم، ثم أتى إلى الصفا، فطاف بينه وبين المروة سبعا، يسعى بين العلمين، ويمشي فيما عداهما، ثم لم يحل من إحرامه حتى قضى حجه، ونحر هَدْيَه يوم النحر.

فلما خلص من حجه ورمى جمرة العقبة، ونحر هديه وحلق رأسه يوم النحر، وهذا هو التحلل الأول، أفاض في ضحوته إلى البيت، فطاف به، ثم حلَّ من كل شيء حرم عليه حتى النساء، وفعل مثله من ساق الهدي من أصحابه.

ما يؤخذ من الحديث :

1- كون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم متمتعاً، وهو القران، ويأتي تحقيق الخلاف إن شاء اللّه تعالى.

2- مشروعية سوق الهدي من الحل، فهو من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

3-  جواز الأنساك الثلاثة: 1- التمتع 2- والقران 3- والإفراد، إذ أقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها كلها، ويأتي الخلاف في بيان أفضلها.

4- مشروعية فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يَسُقِ الهدي، وتحلله، وبقاء من ساقه على إحرامه حتى ينتهي من حجه يوم النحر، فيحل. وقال شيخ الإسلام: وهكذا يقولون في كل متمتع ضاق عليه الوقت، فلم يتمكن من الطواف قبل الوقوف بعرفة فإنهم يأمرونه بإدخال الحج على العمرة ويصير قارناً.

ويأتي تحقيق الفسخ : هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ إن شاء الله تعالى.

5- أن فسخ الحج لمن لم يسق الهدي، يكون ولو بعد طواف القدوم والسعي، وينقلبان للعمرة.

6- أن على من لم يجد الهدي، صيام عشرة أيام، ثلاثة في الحج، وسبعة بعد الرجوع إلى أهله.

فأما الثلاثة، فلا تصح قبل الإحرام بالعمرة بالإجماع، واتفقوا على مشروعيتها بعد الإحرام بالحج.

وهل يجزيء قبله أو لا؟ قولان.

ومذهبنا جوازه، لوجود سببه وهو الإحرام بالعمرة لأن موجب الفدية هنا هو الإتيان بالعمرة والحج في سفر واحد.

والصيام بعد الإحرام بالعمرة شبيه بإخراج كفارة اليمين بعد عقده وقبل الْحِنْث.

7- مشروعية طواف القدوم لغير المتمتع، الذي لم يسق الهدي، وهو سنة، لأنه تحية المسجد الحرام.

8- استلام الحجر الأسود في أول الطواف، وتقدم مشروعية ذلك، في كل طوافه، إن سهل.

9- الرمل في الثلاثة، من طواف القدوم، والمشي في الأربعة الباقية.

10- مشروعية ركعتي الطواف، عند مقام إبراهيم.

11- السعي بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم سبعاً، وهو أحد أركان الحج على الصحيح. ورجح الموفق ابن قدامة أنه واجب، وليس بركن.

12- المولاة بين الطواف والسعي مستحب، وقيل: شرط.

13- أن سائق الهدي يتحلل من حجه يوم النحر بعد الرمي، والنحر للتحلل الأول.

14- طواف الإفاضة هو الركن الأعظم للحج.

والسنة والأفضل، أن يكون يوم النحر، بعد الرَّمْي وَالنَّحرِ.

15- التحلل الكامل بعد طواف الإفاضة من كل شيء حرم عليه بإحرامه.

16- أن هذه الأفعال من النبي صلى الله عليه وسلم،  تشريع لأمته.

فكل من أحرم كإحرامه، فعليه مثل ما عليه لحديث "خذوا عني مناسككم".

اختلاف العلماء :

اختلف العلماء[122]: هل حج النبي صلى الله عليه وسلم مُفْرِداً، أو قارناً، أو معتمراً؟

 فأما من يرى أنه حج مفرداً، فقد تمسك بأدلة.

منها- ما في الصحيحين عن عائشة: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهلَّ رسول الله بالحج". وتقسيمها صريح في أن إهلاله بالحج وحده ثم ساق "ابن القيم" أحاديث في الصحيحين وغيرهما كلها تدور على أنه حج "مفرداً" وأنه أهل "بالْحج" وأن حجه لم يكن عمرة.

وذهبت طائفة من العلماء: إلى أنه حج [متمتعاً] فحُجتُهم أنهم سمعوا [أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع] و[المتمتع] عندهم من أهل بعمرة مفردة في أشهر الحج، ناوياً الإحرام بعد الفراغ منها بالحج.

وما روي عن معاوية [أنه قصَّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص في العشر[123]].

وذهبت طائفة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم حج [قارناً]، وهذا هو الصحيح الذي يسهل رد الأدلة الصحيحة إليه.

وقد ساق له "ابن القيم" من الأدلة ما يزيد على عشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك، كثير منها في الصحيحين أو أحدهما.

منها : - ما رواه مسلم من حديث ابن عمر "أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وما أخرجاه في الصحيحين عن حفصة : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم "ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني قلدت هَدْيِي ولبَّدتُ رأسي، فلا أحل حتى أحل من الحج". وهـذا يدل على أنه كان في عمرة معها حج.

 وقال صلى الله عليه وسلم: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولحللت معكم". وهذا صريح في أنه استمر في حجه "ولم يتحلل إلا يوم النحر"، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "سقت الهدي وقرنت".

وقد قال الإمام أحمد: لاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً.

وشيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمه الله من الذين يرون أنه حج قارناً،:ويوفق بين الروايات التي ظاهرها الاختلاف فيقول:

والصواب أن الأحاديث في هذا الباب متفقة، إلا باختلاف يسير، يقع مثله في غير ذلك.

فإن الصحابة ثبت عنهم "أنه تمتع" والتمتع عندهم، يتناول القران.

والذين روي عنهم "أنه أفرد" رُوِيَ عنهم أنه تمتع، ويريدون به إفراد أعمال الحج، بحيث لم يسافر للنسكين سفرين، ولم يطف لهما طوافين، وَلَم يَسْعَ لهما سعيين.

فيقال تمتع تَمَتُّعَ قران، وأفرد أعمال الحج، وقرن بين النسكين.

وقد فسر التمتع المذكور في الآية، بما يشمل الأمرين، القران، والتمتع المعروف لدى الفقهاء بشرطه.

واختلفوا : أي الأنساك الثلاثة أفضل.

فالمشهور في مذهب الإمام أحمد، أن التمتع أفضل الثلاثة.

وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً والمتعة أحب إِليَّ، وهو آخر الأمرين من رسول الله قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولحللت معكم".

فهو تأسف على فواته، وأكد على أصحابه أن يفسخوا حجهم إليه.

وممن اختار التمتع، ابن عمر، وابن عباس، وابن  الزبير، وعائشة، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وهو أحد قَوْلَي الشافعي.

وذهب الثوري، وأهل الرأي : إلى اختيار القران، لما في الصحيحين عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ بهما جميعاً "لبيك عمرة وحجاً".

فهو نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان الله ليختار لنبيه، إلا أفضل الأنساك.

وهناك مسلك وسط، تجتمع فيه الأدلة، وهو أن التمتع أفضل لمن لم يسق الهدي، كالذين أكد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا حجهم إلى عمرة.

والقران أفضل في حق من ساق الهدي، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا القول، رواية عن الإمام "أحمد".

قال "ابن القيم" رحمه الله : وهذه طريقة شيخنا. يعنى "ابن تيمية" رحمه الله. وقال: هي التي تليق بأصول أحمد.

أما مذهب مالك، وظاهر مذهب الشافعي، فالإفراد.

ودليلهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج" متفق عليه.

وتقدم أن معنى الإفراد في هذا الحديث وأمثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن، فدخلت أفعال العمرة في الحج، فقيل: مفرد، والحق أنه قارن، كما صحت بذلك الأحاديث.

 بَابُ الهَدْي

الهدي : ما أُهدي إلى البيت الحرام من الإبل، والبقر، والغنم وغيرها.

ويراد بتقديمه إلى البيت، التوسعة والإحسان إلى جيرانه وزائريه، من الفقراء، والمساكين. وهو من أفضل القرب عند الله تعالى.

لأن الصدقة، والإنفاق من أفضل العبادات.

لاسيما إذا كان في البلد الحرام، وعلى المنقطعين لعبادة الله تعالى فيه، والمجاورين لبيته.

الحديث الأول

عَنْ عَائِشَةَ رَضْيَ الله عَنْهَا قَالَت:  فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِي،

ثُمَّ أشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا - أو قَلَّدْتُهَا – ثمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ، وَأقَامَ بِالْمَدِينَةِ.

فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيءٌ كَانَ لَهُ حَلالاً.

الغريب :

القلائد: جمع قلادة، وهي ما يحاط به العنق، وتكون من الخيوط، والحديد.

والمراد هنا، قلائد الهدي، وتوضع على خلاف العادة.

وكانوا يجعلونها من القِرب، والنعال، وخيوط الصوف، ليعلم أنها هَدْيٌ فتحترم.

أشعرتها: الإشعار، معناه، الإعلام، والعبادات شعائر الله لأنها علامات طاعته.

والشعيرة : - هنا- ما يهدى إلى البيت من بهيمة الأنعام، فتُعَلَّمُ، وذلك بإزالة شعر أحد جانِبَيْ سنام البدنة أو البقرة، وكشطه حتى يسيل منه الدم، ليعلم الناس أنها مُهْدَاة إلى البيت فلا يتعرضوا لها.

فتلت: لويت.

المعنى الإجمالي :

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظم البيت العتيق ويقدسه.

فكان إذا لم يصل إليه بنفسه، بعث إليه الهدي، تعظيماً له، وتوسعة على جيرانه.

وكان إذا بعث الْهَدْيَ أشعرها وقلَّدها، ليعلم الناس أنها هدي إلى البيت الحرام، فيحترموها، ولا يتعرضوا لها بسوء.

فذكرت عائشة رضي الله عنها – تأكيداً للخبر-: أنها كانت تفتل قلائدها.

وكان إذا بعث بها - وهو مقيم في المدينة - لا يجتنب الأشياء التي يجتنبها المحرم من النساء، والطيب، ولبس المخيط ونحو ذلك، بل يبقى محلاً لنفسه كل شيء كان حلالاً له.

ما يؤخذ من الحديث :

1- استحباب بعث الهدي إلى البيت الحرام من البلاد البعيدة ولو لم يصحبها المُهْدِي، لأن الإهداء إلى البيت صدقة على مساكين الحرم، وتعظيم للبيت، وتقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء في طاعته.

2- استحباب إشعار الهدي وتقليده، بالقرب، والنعال، ولحاء الشجر، مما هو خلاف عادة الناس، ليعرفوه فيحترموه.

3- أن المُهْدِي لا يكون محرماً ببعث الهدي، لأن الإحرام هو نية النسك.

4-  أن المُهْدِي لا يحرم عليه أيضا ما يحرم على المحرم من محظورات الإحرام. قال ابن المنذر: قال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرماً، ولا يجب عليه شيء. وقال بعض العلماء: وإلى ذلك ذهب فقهاء الأمصار.

5- جواز التوكيل في سوقها إلى الحرم، وذبحها وتفريقها.

6- أن الشرع يكون حيث المصلحة المحضة، أو المصلحة الراجحة. فإن إشعار الإبل والبقر المهداة، فيه تعذيب لها.

ولكن مصلحة إشعارها، لتعظيمها، وإظهار طاعة الله في إهدائها، راجح على هذه المفسدة اليسيرة.

7- أن الأفضل بعثها مقلدة، من أمكنتها، لا تقليدها عند الإحرام، لتكون محترمة على من تمر به في طريقها، وليحصل التنافس في أنواع هذه القرب المتعدِّي نفعها.

الحديث الثاني

عَنْ عَائِشَةَ رَضْيَ الله عَنْهَا قَالَت: أهْدَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً غنَما ً[124].

المعنى الإجمالي :

أكثر ما كان يهديه النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت، الإبل، لكونها أعظم نفعاً، وأكثر أجراً.

وذكرت عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم، أهدى مرةً غنماً.

والإهداء من بهيمة الأنعام ومن غيرها، جائز، ولكن الأنعام فيها إظهار شعائر الله تعالى، وإراقة الدماء في مرضاته، فهو عبادتان، صدقة، وسفك دم لوجهه الكريم، بعد أن كان يسفك للأصنام والطواغيت.

ما يؤخذ من الحديث :

1-   جواز إهداء الغنم إلى البيت الشريف.

2-   أن الأكثر من هديه صلى الله عليه وسلم أفضل الهدايا والأموال عند العرب، وهي الإبل.

الحديث الثالث

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ الله عَنْهُ: أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسـلم رَأىَ رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً،

قال: "ارْكَبْهَا" قال: إنَّهَا بَدَنَةٌ، قال: "ارْكبْهَا" فَرَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيِّ صلى الله

عليه وسلم.

 وفي لفظ : "قَالَ فِي الثَّانِيَةِ أوِ الثَّالِثَةِ: "ارْكبْهَا، وَيْلَكَ"، أو "وَيْحَكَ".

الغريب :

بدنة: بفتح الباء والدال، تطلق على الإبل، والبقر، لعظم أبدانها وضخامتها.

والمراد هنا، الناقة المهداة إلى البيت، ليستقيم الجواب.

ويلك: من الويل، وهو الهلاك.

وهي كلمة تستعمل للتغليظ على المخاطب، بدون قصد معناها، وإنما تجرى على ألسنة العرب في الخطاب، لمن وقع في مصيبة فغضب عليه.

ويحك: كلمة يؤتى بها للرحمة، والرثاء لحال المخاطب الواقع في مصيبة.

[ويل] و[ويح]، مصدران، يقدر فاعلهما دائماً.

 المعنى الإجمالي :

ما أهدي إلى البيت لا ينتفع منه بشيء مع عدم الحاجة إليه، لأنه أخرج لوجه الله، فلا يرجع إليه.

فإن كان ثَمَّ حاجة إلى ركوبه، أو حلبه، فلا بأس، مادام ذلك لا يضره.

ولهذا لما رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً يسوق بدنة، هو في حاجة إلى ركوبها، رخص له في ذلك، وأمره به.

ولكون الهدي معظماً عندهم، لا يتعرض له، قال: إنها بدنة مهداة إلى البيت فقال: اركبها وإن كانت مهداة إلى البيت.

فعاوده الثانية والثالثة، فقال: اركبها، مغلظاً له الخطاب.

ما يؤخذ من الحديث :

1- تعظيم العرب لِلْهَدْيِ، واحترامه في قلوبهم. ثم جاء الإسلام فزاد من احترامه.

2- جواز ركوبه وحَلْبِه مع الحاجة إلى ذلك، بما لا يضره.

وهذا أعدل المذاهب، وفيه تجتمع الأدلة.

3- إنما قيدناه (بالحاجة وعدم الضرر) لما روى مسلم عن جابر قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً".

4- أخذ من هذا الحديث البخاري رحمه اللّه تعالى، جواز انتفاع الواقف بوقفه.

الحديث الرابع

عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضيَ الله عَنْهُ قَال: أمَرَنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى

بُدْنِهِ وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُـلُودِهَا، وأَجِلَّتِهَا، وأَنْ لا أُعْطِيَ الجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئاً، وَقَالَ:

"نَحْنُ نُعطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا".

الغريب :

بُذنه: جمع بدنة وتقدم تعريفها وضبطها و"البدن" بالجمع، فيها لغتان، 1- ضم الباء والدال. 2- وضم الباء، وسكون الدال.

أجلتها: المفرد "جُلٌّ" بضم الجيم، وجمعه "جِلال" بكسرها و"أجلة" جمع الجمع.

و"الجل"هو ما يطرح على ظهر البعير، من كساء ونحوه.

أن لا يعطي الجزار منها شيئا: أي من لحمها عوضاً عن جزارته والجزارة أطراف البعير، كالرأس واليدين والرجلين ثم نقلت إلى ما يأخذه الجزار من الأجرة لأنه كان يأخذ تلك الأطراف عن أجرته.

المعنى الإجمالي :

قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة في حجة الوداع ومعه هديه وقدم على بن أبى طالب رضي الله عنه من اليمن، ومعه هَدْيٌ.

فكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، فنحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، وأمر علياً أن يقوم على نحر الباقي، وأن يتصدق بلحمها.

ولكونها قدمت لله تعالى، فلم يحب صلى الله عليه وسلم استرجاع شيءٍ منها.

ولذا أمره بالتصدق بلحمها، وجلودها وأجلتها.

وبما أنها صدقة للفقراء والمساكين، فليس لمهديها حق التصرف بها، أو بشيء منها على طريقة المعاوضة.

فقد نهاه أن يعطي  جازرها منها، معاوضة له على عمله.

وإنما وعده أن يعطيه أجرته من غير لحمها، وجلودها، وأجلتها.

ما يؤخذ من الحديث:

1- مشروعية الهدي، وأنه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

2- الأفضل كونه كثيراً، عظيم النفع.

فقد أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة.

3- أن يتصدق بها، وبما يتبعها، من جلود وأجلة.

وله أن يأكل من هدي التطوع والتمتع والقران الثلث فأقل.

4- أن لا يعطي جازرها شيئاً منها، على وجه المعاوضة، بل يتصدق عليه ويهدي إليه منها. قال ابن دقيق العيد: والذي يخشى منه في هذا أن تقع المسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه الجازر من اللحم، فيعود إلى المعاوضة في نفس الأمر. قال البغوي: أما إذا أعطي أجرته كاملة، ثم تصدق عليه - إذا كان فقيراً - فلا بأس.

5- جواز التوكيل في ذبحها والتصدق بها.

الحديث الخامس

عَنْ زَيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ قَدْ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتهُ يَنْحَرُهَا فقال:

ابْعَثْهَا قِيَاماً مُقَيَّدَةً، سُنَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

المعنى الإجمالي :

السنة في البقر والغنم وغيرهما – ماعدا الإبل - ذبحها من الحلق مضجعة على جانبها الأيسر، ومستقبلة القبلة.

وأما الإبل، فالسنة نحرها في لبتها، قائمة معقولة يدها اليسرى، لأن في هذا راحة لها، بسرعة إزهاق روحها.

ولذا لمَّا مَرَّ عبد الله بن عمر، على رجل يريد نحر بدنة مناخة، قال: ابعثها قياماً، مقيدة، فهي سنة النبي  صلى الله عليه وسلم، الذي نهج أدب القرآن في نحرها بقوله (فَإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهُا) يعنِي، سقطت، والسقوط لا يكون إلا من قيام.

ما يؤخذ من الحديث :

1- سنة النبي صلى الله عليه وسلم نَحْرُ الإبل قائمة مقيدة لأنه من إحسان الذبحة، والرفق بالحيوان. وتشير إلى ذلك الآية الكريمة التي سبق ذكرها. وقد أخرج البخاري عن ابن عباس: "صوافَّ قياماً".

قال سفيان بن عيينة: الصواف – بالتشديد - جمع "صافة" أي مصطفة في قيامها.

2- كراهة ذبحها باركة، لأن فيه تطويلاً في إزهاق روحها.

3- عادة الناس الآن نحرها باركة معقولة، فإذا كانوا غير قادرين على نحرها قائمة، ويخشى من عدم التمكن من إحسان ذبحها وتطعينها بما يعذبها ولا يريحها، فالأحسن أن تكون باركة حسب القدرة والمستطاع.

4- رحمة الله تعالى ورأفته بخلقه، حتى في حال إزهاق أرواحه.

وبمثل هذه الأحكام الرحيمة، والحنان العظيم، يعلم أنه دين عطف وشفقة، لا دين وحشية وعسف

فمن ينبئ الذين رَمَوْه بذلك، وهم يقتلون أبرياء بني آدم في عُقْرِ دارهم، لعلهم يفقهون؟.

 بَابُ الغسْل لِلمُحرم

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ حُنَيْنِ:  أنَّ عَبْـدَ الله بْن عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا وَالْمِسْـوَرَ بْنَ مَخرَمَةَ

اخْتَلَفا بِالأبْوَاء

فَقَالَ ابْنُ عَبَّـاسٍ: يَغْسِـلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَـهُ، وَقَالَ الْمِسْـوَرُ: لا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأسَهُ.

قَالَ: فَأرْسَلَنٍي ابْنُ عَبَّاسِ إلَى أَبِي أيّوبَ الأَنْصَارِيِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِـلُ بَيْنَ القَرْنَيْنِ وَهُوَ

يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ  فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هذَا؟.

فَقُلْتُ: أَنَا عَبْد الله بْنُ حُنَيْنُ أرْسَلَنِي إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْأَلَكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُـولُ الله

صلى الله عليه وسلم  يَغْسِلُ رَأْسَه وَهُوَ مُحْرِمٌ؟.

فَوَضَعَ أَبُو أيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثّوْبِ فَطَأطَأهُ حَتَّى بَدَا لِيَ رَأْسُهُ.

ثُمَّ قَالَ لإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ: أُصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسهِ ثُمَّ حَرَّك رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقبَلَ

 بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُم قَالَ: هكَذَا رَأْيْتُه صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ.

وفي رواية: فَقَالَ الْمِسْوَر لابْنِ عَبَّاسٍ: لا أُمَارِيكَ بَعْدَهَا أبَدَاً.

القرنان: العمودان اللذان تشد فيهما الخشبة، التي تعلق عليها بكرة البئر.

 الغريب :

الأبواء: بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة ممدوداً، موضع بين مكة والمدينة. يقع شرقي قرية مستورة بنحو ثلاثة كيلو مترات. وسيل الأبواء ومستورة واحد. وما تزال الأبواء معروفة بهذا الاسم حتى الآن.

القرنان: بفتح القاف تثنية قرن وهما الخشبتان القائمتان على رأس البر وتمد بينهما خشبة تعلق عليها البكرة أو يجر عليها المستقي الحبل إذا لم يوجد بكرة وتسمى هاتان الخشبتان في نجد الآن "القامة".

طأطأه: أي طامنه يعني الثوب ليرى الرسول رأسه من ورائه.

أماريك: أجادلك.

المعنى الإجمالي :

اختلف عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم، في جواز غسل المحرم رأسه.

فذهب المسور إلى المنع، خشية سقوط الشعر من أثر الغسل، ولأن في الغسل ترفُّهاً وينبغي للمحرم أن يكون أشعث أغبر.

وذهب ابن عباس إلى الجواز، استصحاباً للأصل، وهو الإباحة، إلا بدليل "وهذا هو الفقه".

فأرسلا عبد الله بن حنين إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وهم في طريق مكة ليسأله فوجده عبد الله بن حنين – من تسهيل الله وتبيينه الأحكام لخلقه - يغتسل عند فم البئر، ومستتراً بثوب وهو محرم.

فسلم عليه وأخبره أنه رسول ابن عباس ليسأله: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم.

فمن حسن تعليم أبي أيوب رضي الله عنه، واجتهاده في تقرير العلم، أرخى الثوب وأبرز رأسه، وأمر إنساناً عنده أن يصب الماء على رأسه، فصبه عليه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر.

وقال لعبد الله بن حنين: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل.

فلما جاء الرسول وأخبرهما بتصويب ما رآه عبد الله بن عباس - وكان رائدهم الحق، وبغيتهم الصواب -، رجعٍ المسور رضي الله عنه، واعترف بالفضل لصاحبه، فقال: لا أماريك أبداً.

ما يؤخذ من الحديث :

1- جواز غسل المحرم رأسه، ويستوي فيه أن يكون ترفهاً أو تنظفاً أو تبرداً أو عن جنابة.

2- جواز إمرار اليد على شعر الرأس بالغسل إذا لم ينتف شعراً، ويسقطه.

3- في الحديث دليل على جواز المناظرة في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها، والرجوع إلى من   يظن عنده العلم بها.

4- قبول خبر الواحد في المسائل الدينية. وأن العمل به سائغ شائع عند الصحابة.

5- الرجوع إلى النصوص الشرعية عند الاختلاف، وترك الاجتهاد والقياس عندها.

6- جواز السلام على المتطهر في وضوء أو غسل، ومحادثته عند الحاجة.

7- استحباب التستر وقت الغسل، فإن خاف من ينظر إليه وجب.

8- جواز الاستعانة في الطهارة بالغير.

9- سؤال ابن عباس أبا أيوب، يفيد أن عنده علماً نقلياً عن غسل المحرم، وأن أبا أيوب يعرف ذلك، فقد سأله عن كيفية الغسل، لا عن أصله.

10- قال شيخٍ الإسلام: ويستحب الغسل للإحرام، ولو كانت (المحرمة) نفساء أو حائضاً. وإن احتاج (المحرم) إلى التنظيف كتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك، فعل ذلك.

وهذا ليس من خصائص الإحرام، ولكنه مشروع بحسب الحاجة، وهكذا يشرع للجمعة والعيد على هذا الوجه.

قلت: والغسل الذي تجادل فيه ابن عباس والمسور ليس الغسل من أجل الإحرام، وإنما هو الغسل أثناء الإحرام، وهو الذي فعله أبو أيوب.

 بَابُ فَسخ الحَج إلى العمْرة

الحديث الأول

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْـدِ الله قالَ: أَهَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسـلم  وَأصْحَابُهُ بالحَجِّ وَلَيْس مَعَ

أحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ.

وَقَدِمَ عَلِيٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَال : أهَلَلْتُ بما أهَلَّ بهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمرَ النَّبِيُّ صلى

الله علـيه وسـلم أَصْحَابَهُ أن يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَيَـطُوفُوا ثمَّ يُقَصِّرُوا وَيُحِلُّوا إلاَّ مَنْ كانَ

مَعَهُ الْهدْيُ.

فَقالُوا: نَنْطَلِقُ إلَى "مِنىً" وَذَكَرُ أحَدِنَا يَقْطُرُ؟

فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسـلم فقال: "لَوِ اسْتَقْـبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا استَدْبَرْتُ مَا

أهْدَيْت، وَلَوْلا أَنَّ مَعِي الْهدْيَ لأحَلَلْتُ ". وَحَاضَتْ عَائِشَةُ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ

أنَّـهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ. فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ قالت: يَا رَسُـولَ الله تنْطَلِقونَ بِحجَّةٍ

وَعُمْـرةٍ وَأنْطَلِقُ بِحَجِّ!‍‍‌‌ فَأمَرَ عَبْـدَ الرَّحْمنِ بْنِ أبِى بَكْرٍ بِأن يَخْـرُجَ مَعَهَا إلى التَنْعِيـمِ،

فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ.  

المعنى الإجمالي :

يصف "جابر بن عبد الله" رضيَ الله عنهما حجة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وأصحابه أهلُّوا بالحج، ولم يَسُقِ الْهَدْيَ إلا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة بن عبيد الله. وكان على بن أبي طالب في اليمن، فقدم، ومن فقهه أحرم وعلَّق إحرامه بإحرام النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما قدموا مكة، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا إحرامهم من الحج إلى العمرة، ويكون طوافهم وسعيهم للعمرة، ثم يقصروا ويُحِلُّوا التحلل الكامل. هذا في حق من لم يسق الهدي.

أما من ساقه - ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم فبقوا - بعد طوافهم وسعيهم - على إحرامهم.

فقال الذين أُمِرُوا بفسخ حجهم إلى عمرة - متعجبين ومستعظمين -: كيف ننطلق إلى "مِنى" مُهِلين بالحج، ونحن حديثو عهد بجماع نسائنا؟.

 فبلغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مقَالَتَهم واستعظام ذلك في نفوسهم، فطمأن أنفسهم بما هو الحق وقال:

لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سُقْتُ الهَدْىَ الذي منعني من التحلل، ولأحللت معكم. فرضيت أنفسهم واطمأنت قلوبهم.

وحاضت عائشة قُرْبَ دخولهم مكة، فصارت قارنة، لاًن حيضها منعها من الطواف بالبيت، وفعلت المناسك كلها غير الطواف والسعي.

فلما طهرت وطافت بالبيت طواف حجها، صار في نفسها شيء، إذ كان أغلب الصحابة – ومنهم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ـ قد فعلوا أعمال العمرة وحدها وأعمال الحج. وهي قد دخلت عمرتها في حجها.

فقالت: يا رسول الله، تنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟.

فطيَّب خاطرها، وأمر أخاها عبد الرحمن أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- كون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم ومعه الهدي، فهو أفضل وأكمل.

2- أن ترك سوق الهدي جائز، لأن أكثر الصحابة لم يسقه.

ويأتي تَمَنِّيهِ صلى الله عليه وسلم عدم سَوْقِهِ الهدي، وتوجيه ذلك إن شاء الله تعالى.

3- فقه علي رضي الله عنه، فإنه حين لم يعرف أيّ الأنساك أفضل، علَّقه بإحرام النبي صلى الله عليه وسلم.

4- جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير.

5- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يفسخوا حجهم إلى عمرة.

فإذا فرغوا من أعمال العمرة حلُّوا، ليحرموا بالحج فيقتضي الأمر فعل ما فعلوه ويأتي الخلاف في ذلك وتحقيقه، إن شاء اللّه تعالى.

6- أن من ساق الهدي، منعه ذلك من الإحلال، وبقي على إحرامه، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم.

7- جواز المبالغة في الكلام، لاستيضاح الحقائق، وتبيين الأمور.

8- تَمنِّي النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لم يسق الهدي، وأنه فسخ حجه إلى عمرة منها، وأنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم.

9- جواز تمني الأمور الفائتة إذا كانت من مصالح الدين، لأنه رغبة في الخير، وندم عليه. فهو من أنواع التوبة.

10- جواز فعل المناسك للحائض، ماعدا الطواف بالبيت، فممنوع. إما لاشتراط الطهارة في الطواف، وإما خشية تلويث المسجد.

11- أن السعي من شرطه أن يقع بعد طواف نسك. ولذا لم يصح من الحائض السعي، لا لاشتراط الطهارة فيه، ولكن لأنه لابد أن يقع بعد طواف نسك وهو معدوم في حق الحائض.

12- جواز الإتيان بالعمرة من أدنى الحل بعد الحج ولا تسنُّ لأنه لم يقع من الصحابة إلا هذه المرة من عائشة. ولم ينقل عن عائشة أنها فعلتها بعد ذلك.

 ولو كانت العمرة المشروعة، لما تركوها وهم في مكة، سهلة عليهم، ميسرة لهم.

13- أن الإحرام بالعمرة لابد أن يكون من خارج الحرم، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ولم يخالف إلا قلة بخلاف الحج، فإنه من مكة لمن هو فيها.

والفرق بين الحج والعمرة، أن العمرة جميع أعمالها في الحرم، فيخرج للحل للجمع فيها بين الحل والحرم.

وأما الحج فبعض أعماله في الحرم، وبعضها في الحل، وهو الوقوف بعرفة.

14- قوله: "أهل بالحج" ظاهره أنه مُفرِد.

وتقدم الجمع بين روايات ما يوهم الإفراد أو التمتع، وأن الصحيح أنه قارن.

اختلاف العلماء، في فسخ الحج إلى عمرة :

أجمع العلماء على أن الصحابة الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، قد فسخوا حجهم إلى عمرة، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم .

واختلفوا: هل هذا الفسخ لمن بعدهم أيضاً، أم لهم خاصة في تلك الواقعة؟.

فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وجمهور العلماء إلى أن هذا الفسخ خاص بالصحابة في تلك السنة، ولا يتعدَّاهم إلى غيرهم.

وذهب الإمام أحمد، وأهل الحديث، والظاهرية. ومن الصحابة ابن عباس وأبو موسى الأشعري:ـ إلى الفسخ.

استدل الأولون بما رواه أبو داود عن "أبي ذر" كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة : "لم يكن ذلك إلا للركب، الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"  ولـ"مسلم" عن "أبي ذر" كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

  وبما رواه الخمسة عن الحارث بن بلال، عن أبيه بلال بن الحارث قال: قلت يا رسول الله : فسخ الحج لنا خاصة، أم للناس عامة؟ قال: بل لنا خاصة.

 فعند الجمهور أن حديث بلال ناسخ لأحاديث الفسخ، فهو للصحابة خاصة في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية، من تحريم العمرة في أشهر الحج، ويؤيد ذلك الأثر السابق عن أبي ذر رضي الله عنه.

واستدل الآخرون على فسخ الحج بأحاديث صحيحة جيدة قربت من حَدِّ التواتر عن بضعة عشر من الصحابة.

 منها حديث جابر، وسراقة بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وعَلِيًّ، وابن عباس، وأنس، وابن عمر، والربيع بن سبرة، والبراء بن عازب، وأبي موسى، وعائشة، وفاطمة، وحفصة، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.

كل هؤلاء رَوَوْا أحاديث كثيرة ـ وبعضها في الصحيحين – تنص على فسخ الحج إلى العمرة.

ولهذا، لما قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد: يا أبا عبد الله، كل شيء منك حسن جميل، إلا خصلة واحدة. فقال: وما هي؟.

قال: تقول بفسخ الحج.

فقال الإمام أحمد: كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً، كلها في فسخ الحج، أتركها لقولك؟

وقد أورد المصنف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب، منها حديثين:

1- حديث جابر، الذي نحن نتكلم عليه الآن

2- وحديث ابن عباس؛ سيأتي، ونورد معهما

 حديثين من تلك الأحاديث المتكاثرة.

الأول : ما رواه  "مسلم" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "خرجنا

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً.

فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة، إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية، وَرُحْنَا إلى "منى" أهللنا بالحج".

والثاني : ما رواه "مسلم" و"ابن ماجه" عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: "خرجنا محرمين، فقال رسول الله : من كان معه هَدْيٌ فَلْيُقِمْ على إحرامه، ومن لم يكن معه هديٌ، فليحلل، فلم يكن معي هدي، فحللت. وكان مع الزبير هدي، فلم يحلل".

وهذه أحاديث عامة للصحابة ولمن بعدهم، إلى الأبد.

فإن الأحكام الشرعية، لا تكون لجيل دون جيل، ولا لطائفة دون أخرى.

فمن ادّعى الخصوصية، فعليه الدليل.

وكيف ولما سأل سراقة بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفسخ "هل هي للصحابة خاصة؟" فقال: "بل للأمة عامَّة؟".

وقد وردت هذه الأحاديث في واقعة متأخرة، لم يأت بعدها ما ينسخها. ومن ادَّعى النسخ، فعليه الدليل.

بل ورد ما يبعد دعوى النسخ، حين قيل للنبي صلى الله عليه وسلم "عمرتنا هذه : لعامنا هذا أم للأبد؟" فقال: "لا. بل لأبد الأبد، ودخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" .

أما دعوى الجمهور النسخ، بحديث بلال بن الحارث، فبعيد كل البعد.

لأن الإمام أحمد قال في حديثه: حديث بلال بن الحارث عندي، ليس بثبت، ولا أقول به. وأحد رواة سنده الحارث بن بلال لا يعرف.

وقال أيضاً: أرأيت لو عرف الحارث بن بلال؟ إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون ما يرون من الفسخ: أين يقع الحارث بن بلال منهم؟!

وأما أثر أبي ذر، فهو رَأيٌ له، وقد خالفه غيره فيه، فلا يكون حجة، لاسيما مع معارضته للأحاديث الصحاح.

وممن اختار الفسخ، شيخ الإسلام "ابن تيمية"  قدس اللّه روحه، وتلميذه "ابن القيم".

وقد أطال "ابن القيم" البحث في الموضوع في كتابه [زاد المعاد] وبيَّن حجج الطرفين، ونصر الفسخ نصراً مؤزراً مبيناً، وردَّ غيره، وفنَّد أدلته بطريقته المقنعة، وعارضته القوية.

ثم اختلف القائلون بالفسخ: أهو للوجوب أم للاستحباب؟

فذهب الإمام أحمد: إلى استحباب الفسخ. قال شيخ الإسلام: أهل مكة وبنو هاشم وعلماء الحديث يستحبونها، فاستحبها علماء سنته، وأهل سنته، وأهل بلدته التي بقربها المناسك وهؤلاء أخص الناس به.

ولعل قصر الإمام "أحمد" لأحاديث الأمر بالفسخ مع التغليظ فيه على الاستحباب، حمله على عدم مبادرة الصحابة إلى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم.

وذهب ابن عباس في المفهوم من كلامه: إلى أنه فرض من لم يَسُقْ هدي التمتع، حيث قال: " من جاء مُهلاًّ بالحج، فإن الطواف باليت يغيره إلى عمرة، شاء أم أبى".

وذهب "ابن حزم" إلى ما ذهب إليه ابن عباس، حيث يقول في كتابه المحلى : 

ومن أراد الحج، فإنه إذا جاء إلى الميقات، فإن كان لا هدي معه، ففرض عليه أن يحرم بعمرة مفردة ولابد، ولا يجوز له غير ذلك.

فإن أحرم بحج أو بقران حج وعمرة، ففرض عليه أن يفسخ إهلاله ذلك، بعمرة يحل إذا أتمها، لا يجزئه غير ذلك.

وذهب ابن القيم إلى هذا الرأي حيث قال في كتابه زاد المعاد بعد أن ساق حديث البراء بن عازب، ونحن نشهد الله علينا، أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة، تفادياً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لأمره.

 فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صح حرف واحد يعارضه، ولا خص به أصحابه، دون مَنْ بعده، بل أجرى الله سبحانه وتعالى على لسان سراقة أن يسأله : هل ذلك مختص بهم؟ فأجاب: بأن ذلك كائن لأبد الأبد.

فما ندري ما تقدم على هذه الأحاديث وهذا الأمر المؤكد، الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه.

فهؤلاء، لما رأوا تكاثر الأحاديث في الأمر به، وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله، لم يقنعوا إلا بالقول بوجوبه وفريضته.

وحديث البراء المشار إليه هو ما أخرجه ابن ماجه، والإمام أحمد وصححه، عن البراء بن عازب قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: اجعلوا حجكم عمرة".

قال: فقال الناس: يا رسول الله  قد أحرمنا بالحج، كيف نجعلها عمرة.

 قال: "انظروا ما آمركم به فافعلوا" فردوا عليه القول فغضب.

ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان، فرأت الغضب في وجهه فقالت : "من أغضبك أغضبه الله؟".

قال : "ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يُتَّبعُ".

فهذا وأمثاله، متمسك من أوجبوا الفسخ.

الحديث الثاني

عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضِي الله  عَنْهُمَا قالَ: قدِمْنَا مَعَ سُـولِ الله صلى الله عليه وسلم

وَنَحْنُ نَقُولُ " لَبَّيْكَ بالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً.

المعنى الإجمالي:

يقول جابر: قدمنا في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهلِّين بالحج ومُلبِّينَ به، لأن بعضهم أفرد الحج، وبعضهم قرن، وكأنه مُفْرِد وسكت عن المتمتعين، وفيهم قسم متمتع.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي منهم أن يفسخ حجه إلى عمرة متمتعاً بها إلى الحج.

وهذا الحديث، أحد أدلة من يرون فسخ الحج إلى عمرة.

الحديث الثالث

عَنْ عَبْـدِ اللّهِ بْنِ عبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَال: قَدِمَ رَسُـول الله صلى الله عليه وسـلم

وَأصحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، فَأمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَقَالُوا :

يَا رَسُولَ الله أيُّ الْحِلِّ؟ قال: "الحِلُّ كُلُّهُ".

المعنى الإجمالي :

يذكر ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا مكة  في حجة الوداع، صبيحة اليوم الرابع من ذي الحجة، وكان بعضهم محرماً بالحج، ومنهم القارن بين الحج والعمرة.

فأمر من لم يَسُقِ الْهَدْيَ من هاتين الطائفتين بأن يحلوا من حجهم، ويجعلوا إحرامهم بالعمرة.

فكبُر عليهم ذلك ورأوا أنه عظيم أن يتحللوا التحلل الكامل، الذي يبيح الجماع، ثم يحرمون بالحج، ولذا سألوه فقالوا: يا رسول الله: أي الحل؟ فقال صلى الله عليه وسلم الحل كله، فيباح لكم ما حرم عليكم قبل الإحرام فامتثلوا رضي الله عنهم

وهذا من أدلة القائلين بالفسخ أيضاً.

الحديث الرابع

عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّيَيْرِ قال: سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَنَا جَالِس: كَيْفَ كانَ رَسُولُ الله صلى الله

عليه وسلم يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ؟

فقال: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ.

العنق: انبساط السير، و"النص" فوق ذلك.

الغريب :

العنق والنص: " العنق" بفتح العين والنون. و"النص" بفتح النون وتشديد الصاد. وهما ضربان من السير، والنص أسرعهما.

الفجوة: بفتح الفاء، المكان المتسع.

 المعنى الإجمالي :

كان أسامة بن زيد رضى الله عنهما رديف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة.

 فكان أعلم الناس بسير النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن صفته فقال:

كان يسير العنق، وهو انبساط السير ويسره في زحمة الناس، لئلا يؤذي به، وليكون بعد انصرافه من هذا الموقف العظيم وإقباله على المشعر الحرام

خاشعاً خاضعاً، عليه السكينة والوقار، راجياً قبول عمله، شاكراً على نعمه التي من أجلها عزَّ الإسلام، وذلَّ الشرك. فإذا وجد فرجة ليس فيها أحد من الناس حرك دابته، فأسرع قليلاً، وخشوعه وخضوعه لا يفارقانه صلى الله عليه وسلم في كل حركة وسكون.

ما يؤخذ من الحديث :

1- كون أسامة بن زيد رديف النبي صلى الله عليه وسلم، من دفع عرفة إلى مزدلفة، فهو أعلم الناس بسيره.

2- كان سيره صلى الله عليه وسلم انبساطاً لا تباطُؤَ فيه، ولا خفة ولا سرعة، فيؤذي بهما، ويذهب معهما خشوعه.

3- إذا وجد فجوة ليس فيها أحد، حرك دابته مع ما هو فيه من الخشوع والخضوع لله تعالى، ومراقبته الله، وتعظيمه لمناسكه ومشاعره.

4- أن ما عليه الناس اليوم من الطيش، والخفة، والسرعة، والسباق على السيارات مناف للسنة، وهيبة الحج، وسكينته ووقاره.

ويحدث من جراء هذه السرعة ما ينافي الشرع من المبادرة بالخروج من حدود عرفة قبل الغروب، فيحصل التشبه بالمشركين، ويحصل أضرار تلحق الراكبين ومراكبهم، ويحصل من الشجار والنزاع ما ينافي آداب الحج. إلى غير ذلك من المفاسد المترتبة على هذه العجلة، التي في غير موضعها.

 باب حكم تقديم الرمي [125]

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله[126] بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضَي الله عَنْهُمَا:  أنَّ رَسُـولَ الله صلى الله عليه

وسلم وَقَفَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلونَهُ.  

فَقَالَ رَجُلٌ : لَمْ أشْعُرْ، فحَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ، قالَ: اذْبَحْ ولا حَرَجَ. وَقَالَ الآخَرُ: لَمْ

أشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِي، فقال: "اِرْمِ، ولا حَرَجَ".

فَمَا سئلَ- يَوْمَئِذٍ - عَنْ شيءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: "افْعَلْ وَلا حَرَجَ".

المعنى الإجمالي :

اليوم العاشر من ذي الحجة هو يوم النحر ويوم الحج الأكبر، وهو من أفضل الأيام وأسعدها، لما يقع فيه من الأعمال الجليلة، لاسيما من الحاج الذي يؤدي فيه أربع عبادات جليلات وهن:

1- الرمي 2- والنحر 3- والحلق أو التقصير 4- والطواف بالبيت العتيق.

والمشروع أن يأتي بهن على هذا الترتيب، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وإتيانا بأعمال المناسك على النسق اللائق.

فيبدأ برمي جمرة العقبة، لأن رميها تحية "منى"، ثم ينحر هديه، مبادرةً بإراقة الدماء، لما فيه من الخضوع والطاعة، ولما فيه من نفع الفقراء والمساكين، ومشاركتهم الناس في فرحهم عيدهم.

ثم يحلق، أو يقصر ابتداء بالتحلل من الإحرام، وتأهباً بالزينة والهيئة الحسنهَ للطواف بالبيت.

هذا ما يشرع للحاج، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعده: "خذوا عني مناسككم".

ولكن الشارع رحيم عليم.

فإذا قدم أحد بعض هذه اْلأعمال على بعض، جهلاً بالحكم أو نسياناً، فلا يلحقه شيء من إثم أو جزاء.

ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه.

فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح. قال: اذبح ولا حرج.

وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج.

قال الراوي: فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" سماحة في هذا الدين ويسراً.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- وقوف العالم في أيام المناسك لإفتاء الناس وإرشادهم في أمر حجهم.

2- جواز تقديم كل من الرمي، والنحر، والحلق أو التقصير، والإفاضة بعضها على بعض من الناسي والجاهل.

ويأتي الخلاف في العامد إن شاء الله.

3- بدء يوم النحر برمي جمرة العقبة. ومن حكمة الرمي طرد الشيطان، فهو شبيه بتقديم الاستعاذة في الصلاة، وهـذه مقارنة عنت لي ولم أر أحداً من العلماء قد ذكرها. وربما قالها أحدهم ولم أطلع على ذلك. فإذا كانت صوابا فهي من الله، وإذا كانت خطأ فهي مني.

اختلاف العلماء :

أجمع العلماء على مشروعية ترتيب الرمي والنحر والحلق أو التقصير والإفاضة هكذا، كما رتبها النبي صلى الله عليه وسلم.

 فيبدأ بالرمي، ثم ينحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير، ثم الإفاضة إلى البيت.

واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض بالنسبة للعامد.

فذهب الشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه : إلى جواز ذلك مستدلين بما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح. قال: "اذبح ولا حرج" وقال آخر: ذبحت قبل أن ارمي. قال: "ارمي ولا حرج".

وهذا أحد طرق الحديث الذي معنا في الباب، وفي بعض طرقه "فما سئل عن شئ قُدِّم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج".

قال الطبري: لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزئ، لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المكلف الحكم الذي يلزمه في الحج.

كما لو ترك الرمي ونحوه، فإنه لم يأثم بتركه ناسياً أو جاهلاً، ولكن تجب عليه الإعادة.

وما ذهب إليه الإمامان، الشافعي، وأحمد، هو مذهب الجمهور من التابعين والسلف، وفقهاء الحديث لما تقدم من الأدلة وغيرها.

وذهب بعض العلماء: إلى أن رفع الإثم يكون بحال النسيان والجهل، لقول السائل في الحديث: "لم أشعر" فيختص الحكم بهذه الحال ويبقى العامد على أصل وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج لحديث "خذوا عني مناسككم" هذا  هو الخلاف المتقدم في الإثم وعدمه.

أما الإجزاء فقد قال الشيخ "ابن قدامة" في كتابه "المغني" : "ولا نعلم خلافاً بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الإجزاء ولا يمنع وقوعها موقعها" ا.هـ.

واختلفوا في وجوب الدم على من قدم المؤخر من هذه المناسك الأربعة.

فذهب الجمهور من السلف، وفقهاء الحديث، ومنهم الإمامان الشافعي وأحمد، وعطاء، وإسحاق: إلى عدم وجوب الدم من العامد وغيره، بناء على جواز الفعل وسقوط الإثم، ولقوله صلى الله عليه وسلم للسائل "لا حرج" فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معاً، لأن اسم الضيق يشملهما.

ووجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجباً حينئذ لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة، وتأخيره عنها لا يجوز.

وذهب بعض العلماء - ومنهم سعيد بن جبير وقتادة - إلى وجوب الدم على العامد بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه}.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها وقال: خذوا عني مناسككم، وهو رواية عن الإمام أحمد.

فقد قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل حلق قبل أن يذبح. فقال: إن كان جاهلاً، فليس عليه دم، فأما مع التعمد، فلا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال "لم أشعر".

وقال ابن دقيق العيد - بعد أن نقل كلام الإمام أحمد: وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي، دون العامد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج بقوله: "خذوا عني مناسككم".

 وهذه الأحاديث المرخصة في التقديم لما وقع السؤال عنه، إنما قرنت بقول السائل: "لم أشعر" فيخصص الحكم بهذه الحال وتبقى حالة العمد على أصل وجوب اتباع الرسول في أعمال الحج. ا.هـ.

قال الصنعاني: هذا حسن إلا أن إيجاب الدم لم ينهض دليله. وقال أيضاً : اعلم أن إيجاب الدم في هذه الأفعال والتروك في الحج، لم يأت به نص نبوي، وإنما روي عن ابن عباس، ولم يثبت عنه : أن من قدم شيئاً على شئ فعليه دم. وبه قال سعيد بن جبير والحسن والنخعي وأصحاب الرأي. وقال الصنعانى أيضاً: والعجب إطباق المفرعين على إيجاب الدم في محلات كثيرة، والدليل كلام ابن عباس، وعلى أنه لم يثبت عنه.

باب كيف ترمى جمرة العقبة

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الرحْمَنِ بْنِ يَزِيِدَ النَّخَعِي أنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْـعُودٍ فَرَآهُ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى

بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، فَجَعَل البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، و"مِنىً" عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: هذَا مَقَامُ الَّذِي

أُنْزلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صلى الله عليه وسلم.

المعنى الإجمالي :

رمي الجمار في يوم النحر وأيام التشريق عبادة جليلة، فيها معنى الخضوع لله تعالى، وامتثال أوامره والاقتداء بإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، واستعادة ذكريات قصته الرائعة مع ابنه في صدق الإيمان وطاعة الرحمن حين عرض له الشيطان محاولاً وسوسته عن طاعة ربه فحصبه في تلك المواقف، بقلب المؤمن وعزيمة الصابر ونفس الراضي بقضاء ربه.

فنحن نرمى الشيطان متمثلاً في تلك المواقف إحياء للذكرى وإرغاماً للشيطان الذي يحاول صدنا عن عبادة ربنا.

وأول ما يبدأ به الحاج يوم النحر هو رمي الجمرة الكبرى لتكون فاتحة أعمال ذلك اليوم الجليلة.

فيقف منها موقف النبي صلى الله عليه وسلم حيث الكعبة المشرفة عن يساره  ومني عن يمينه واستقبلها ورماها بسبع حصيات يكبر مع كل واحدة كما وقف ابن مسعود رضي الله عنه هكذا وأقسم أن هذا هو مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، صلى الله عليه وسلم.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية رمي جمرة العقبة[127] وحدها يوم النحر.

2- أن يرميها بسبع حصيات، واحدة بعد أخرى، ولا يجزئ رميها دفعة واحدة، وهو مفهوم من الحديث.

3- يجوز رميها من أي مكان بإجماع العلماء.

ولكن الأفضل أن يجعل البيت عن يساره و"منى" عن يمينه، ويستقبلها.

4- أن هذا هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن مسعود سورة البقرة، لأن فيها كثيراً من أحكام الحج.

5- جواز إضافة السورة إلى البقرة، خلافاً لمن منع ذلك.

فابن مسعود أعلم الناس بالقرآن.

6- تسمية هذه المواقف بـ"الجمرات" لا ما يفوه به جهال العامة من تسميتها بـ"الشيطان الكبير" أو" الشيطان الصغير".

فهذا حرام، لأن هذه مشاعر مقدسة محترمة، تعبدنا الله تعالى برميها، والذكر عندها.

وأعظم من ذلك ما يسبونها به من ألفاظ قبيحة منكرة، وما يأتون عندها مما ينافي الخشوع والخضوع والوقار، من رميها بأحجار كبيرة، أو رصاص، أو نعال.

كل هذا حرام مناف للشرع، لما فيه من الغلو والجفاء، ومخالفة الشارع.

 باب فضل الحلق وجواز التقصير

الحديث الأول

عَنْ عَبْـدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ رَسُـولَ الله صلى الله علـيه وسـلم قَال :

"اللَّهُمَّ ارْحَـمِ الْمُحَلِّقِيـنَ. قالوا: وَالْمُقَصِّـرِينَ يَا رَسُـول الله؟ قال :  "الَّلهُمَّ ارْحَم

الْمحَلِّقِينَ. قالوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: الَّلهُمَّ ارْحَمِ المُحلِّقِينَ، قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ

يَا رَسُولَ الله قال: "وَالمُقَصِّرِينَ".

المعنى الإجمالي :

الحلق والتقصير من مناسك الحج والعمرة الجليلة.

والحلق أفضل من التقصير لأنه أبلغ في التعبد، والتذلل لله تعالى، باستئصال شعر الرأس في طاعة الله تعالى.

ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين بالرحمة ثلاثاً[128].

والحاضرون يذكرونه بالمقصرين فيعرض عنهم، وفي الثالثة أو الرابعة أدخل المقصرين معهم في الدعاء، مما يدل على أن الحلق في حق الرجال هو الأفضل.

هذا ما لم يكن في عمرة  التمتع، ويضيق الوقت بحيث لا ينبت الشعر لحلق الحج، فليقصر، فهو في حقه أفضل.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية الحلق أو التقصير. والصحيح أنَّ أحدهما واجب للحج والعمرة.

2- فضل الحلق على التقصير في حق الرجال، وهو مجمع عليه.

وهذا ما لم يكن في عمرة متمتعاً بها إلى الحج، ويضيق الوقت، بحيث لا ينبت قبل حلق الحج، فحينئذ يكون التقصير أولى.

3- المراد بالحلق استئصال شعر الرأس بأي شي، والتقصير الأخذ من أطرافه، بقدر أنملة.

4- المشروع، هو الاكتفاء بالحلق أو التقصير، لا الإتيان بهما جميعاً.

5- استدل بتفضيل الحلق على التقصير، بأنهما نسكان من مناسك الحج، وليسا لاستباحة المحظور فقط. وإلا لما فضل أحدهما على الآخر.

وهذا هو الأصحّ من قولي العلماء، وهو ما ذهب إِليه الجمهور، وهو مذهب الأئمة الأربعة

6- الذي يفهم من الحلق في هذا الحديث، هو أخذ جميع شعر الرأس.

وهو الصحيح الذي يدل عليه الكتاب والسنة من قول النبي صلى الله عليه وسلم  وفعله، وهو مذهب الإمامين، مالك، وأحمد.

 باب طواف الإفاضة والوداع

الحديث الأول

عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فأراد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أهْلِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إنَّهَا حَائِضٌ، فقالَ: " أحَابِسَتُنَا هِي؟" فقالوا: يَا رَسُولَ الله، إنَّهَا قَدْ أفَاضَتْ يَوْمَ النَحْرِ. قال "اخْرُجُوا".

وفي لفظ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "عَقْرَى حَلْقَى، أَطافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قيل: نَعَمْ. قال "فَانْفِرِي".

 الغريب :

أفضنا يوم النحر: فاض الماء، سال.  وسمي طواف الزيارة بطواف الإفاضة لزحف الناس ودفعهم بكثرة في بطاح مكة، إلى البيت الحرام.

أحابستنا: الاستفهام للإنكار والإشفاق مما يتوقع.

عقري حلقي: بفتح الأول منهما وسكون الثاني، والقصر بغير تنونين. هكذا يرويه الأكثرون بوزن غضبى لأنه جاء على المؤنث. والمعروف في اللغة التنوين مثل سقياً ورعياً هكذا قال سيبويه وأبو عبيد. ومعناه الدعاء علها بالعقر وهو مثل الجرح في جسدها. والدعاء عليها بوجع الحلق أيضاً. وخرج الزمخشري معناه على أنهما صفتان للمرأة المشؤومة أي أنها تعقر قومها وتستأصلهم ويحتمل أن يكونا مصدرين مثل الشكوى. ولم يقصد منهما حقيقة الدعاء وإنما هما لفظان يجريان على لسان العرب، كـ"تربت يداك" و" ثكلتك أمك".

فانفري: بكسر الفاء وضمها، والكسر أفصح، وبه جاء القرآن "انْفِرُوا خفافاً وَثِقَالاً" ومعناه: اخرجي.

 المعنى الإجمالي :

ذكرت عائشة رضي الله عنها: أنهم حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.

فلما قضوا مناسكهم أفاضوا ليطوفوا بالبيت العتيق، ومعهم زوجه صفية رضي الله عنها.

فلما كان ليلة النفر، حاضت "صفية" فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يريد منها ما يريد الرجل من أهله، فأخبرته عائشة أنها حاضت.

فظن صلى الله عليه وسلم أنه أدركها الحيض فلم تطف طواف الإفاضة.

لأن هذا الطواف ركن لا يتم الحج بدونه، قال صلى الله عليه وسلم:

أحابستنا هي هنا حتى تنتهي حيضتهاْ وتطوف لحجها؟.

فأخبروه أنها قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضها.

فقال: فلتنفر، إذ لم يبق عليها إلا طواف الوداع، وهي معذورة في تركه.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، لا يسقط بحال.

2- أن على أمير الحج ورئيس الرفقة ونحوهما انتظار من حاضت حتى ينتهي حيضها، وتطوف طواف الحج.

3- أن طواف الوداع غير واجب على الحائض، وأنها تخرج، وليس عليها فداء، لتركها الطواف.

الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: أُمِر النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ،إلاَّ أَنَّهُ خففَ عَنِ الْمَرأةِ الْحَائِض.

 المعنى الإجمالي :

لهذا البيت الشريف تعظيم وتكريم، فهو رمز لعبادة الله والخضوع والخشوع بين يديه فكان له في الصدور مهابة، وفِى القلوب إجلال وتعلق، ومودة.

 ولذا شرع للقادم عليه أن يحييه بالطواف به قبل كل عبادة، لأن الطواف ميزته، ولدى السفر أن يكون آخر عهده به ليتفرغ لتلك الساعة الرهيبة، التي تتقطع فيها القلوب، وتذرف فيها الدموعٍ ، عند مفارقة هذا البيت الذي تهفو إليه الأفئدة وتحن للقرب منه القلوب شوقاً إلى رحابه المقدسة، ومشاعره المعظمة، حيث تنزلت وحلَّت البركات، وهبطت الرحمات، وشعَّت الأنوار.

وهذا الطواف الأخير، وتلك الوقفة الحزينة بين الركن والباب في حق كل راحل من مقام هذا البيت، سواء كان حاجَّا أو غيره. إلا المرأة الحائض، فلكونها تلوث المسجد بدخولها سقط عنها الطواف بلا فداء.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- وجوب طواف الوداع في حق كل مسافر من مكة، سواء كان حاجَّاً أم غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وطواف الوداع ليس من تمام الحج، ولكن كل من خرج مِن مكة عليه أن يودع، ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح، فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت.

2- أن الحائض ليس عليها طواف للوداع، ولا دم بتركه.

3- أن طواف الوداع يكون آخر شئون المسافر، لأن هذا معنى الوداع، ومثل شراء بعض الأشياء في طريقه إلى السفر، أو انتظار الرفقة، أو نحو ذلك من التأخر اليسير، لا يضر.

 اختلاف العلماء :

ذهب مالك إلى استحباب طواف الوداع دون وجوبه على كل أحد لسقوطه عن الحائض. ولو كان واجباً لما سقط بحال.

وذهب الجمهور- ومنهم الأئمة الثلاثة - إلى وجوبه على غير الحائض. لظاهر الأمر به. قال ابن المنذر: قال عامة فقهاء الأمصار: ليس على الحائض التي أفاضت طواف وداع.

باب وجوب المبيت بمنى[129]

 الحديث الأول

 عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قال: اسْتأذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب رَسُـولَ الله

صلى الله عليه وسلم أنْ يَبِيْتَ بِمكَةَ لَيَالِي "مِنَىً" مِنْ أَجْلِ سِقَايَتهِ، فًأذِنَ لَهُ.

الغريب :

سقايته: المراد بها سقاية الحجيج؛ فخدمة الحجاج، والبيت مقسمة بين قريش.

فكان لعبد مناف، السقاية.

فكانوا قبل حفر زمزم يأتون بالماء بالقرب ونحوها، فلما حفرها عبد المطلب،

أخذ يسقي الحاج منها، فوصلت بالوراثة إلى ابنه العباس، فأقَّره النبي صلى الله عليه وسلم عليها.

 المعنى الإجمالي :

المبيت بـ"منى" ليالي التشريق، أحد واجبات الحج التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن الإقامة بـ"منى" تلك الليالي والأيام، من المرابطة على طاعة الله تعالى، في تلك الفجاج المباركة.

ولما كانت سقاية الحجيج من القُرَبِ المفضلة، لأنها خدمة لحجاج ببيته وأضيافه؟ رخص لعمه العباس ـ لكونه قائماً عليها – بترك المبيت بـ"منى" ليقوم بِسَقْي الحجاج، مما دلَّ على أن غيره، ممن لا يعمل مثل عمله، ليس له هذه الرخصة.

ما يؤخذ من الحديث :

1- وجوب المبيت بـ"منى" ليالي أيام التشريق.

2- المراد بالمبيت، الإقامة بـ"منى" أكثر الليل.

3- الرخصة في ترك المبيت لسقاة الحاج، وألحقوا بهم الرعاة.

وبعضهم ألحق أيضاً أصحاب الحاجات الضرورية، كمن له مال يخاف ضياعه، أو مريض ليس عنده من يمرضه.

4- ما كان عليه أهل مكة في جاهليتهم من إكرام الحجاج والقيام بخدمتهم

وتسهيل أمورهم. ويعتبرون هذا من المفاخر الجليلة فجاء الإسلام فزاد من

إكرامهم فعسى أن نحتذي هذه الآداب ونقدم لضيوف الرحمن ما يكون في الدنيا

ذكراً حسناً، وللآخرة ذخراً طيباً.

اختلاف العلماء :

اختلف العلماء: هل المبيت واجب، أو مستحب؟.

فذهب الجمهور – ومنهم الأئمة، مالك، والشافعي، وأحمد - إلى الوجوب.

ووجهه أن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم العباس بترك المبيت للسقاية، دليل على عدم الرخصة لغيره، ممن لا يعمل مثل عمله.

والدليل الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم بات فيها وقال:  " خذوا عني مناسككم".

وذهب أبو حنيفة، والحسن: إلى أنه مستحب.

واختلفوا في وجوب الدم في تركه وهو مبنيٌّ على الخلاف السابق.

فمن أوجبه، أوجب الدم بتركه، ومن استحبه،  لم يوجبه.

 باب جمع المغرب والعشاء في مزدلفة

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا : قال: جَمَع النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَ

الْمَغرِب وَالْعِشَاءِ، بـ"جَمْعٍ" لِكُلٌ وَاحِدَةٍ مِنهُمَا إقَامَة، وَلَمْ يُسَبِّحْ بينهُمَا وَلا عَلَى

أثر وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا[130].

الغريب :

"جمع" بفتح الجيم، وسكون الميم. هي "مزدلفة" سميت جمعاً لاجتماع الناس فيها ليلة يوم النحر.

و"الازدلاف" التقرب، فسميت "مزدلفة" أيضاً، لأن الحاج يتزلفون فيها من "عرفة" إلى "منى" وتسمى "المشعر الحرام" لأنها في داخل حدود الحرم لتقابل تسمية عرفة بالمشعر الحلال، لأنها خارج الحرم.

لم يسبح بينهما: يراد بالتسبيح – هنا - صلاة النافلة، كما جاء في بعض الأحاديث تسمية صلاة الضحى بـ" سبحة الضحى" لاشتمال الصلاة على التسبيح من تسمية الكل باسم البعض.

المعنى الإجمالي :

لما غربت الشمس منٍ يوم عرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف يشاهد فيها انصرف منها إلى "مزدلفة"، ولم يُصَلِّ المغرب.

فلما وصل إلى "مزدلفة"  إذا بوقت العشاء قد دخل، فصلَّى بها المغرب والعشاء، جمع تأخير، بإقامة لكل صلاة، ولم يُصَلِّ نافلة بينهما، تحقيقاً لمعنى الجمع ولا بعدهما، ليأخذ حظه من الراحة، استعداداً لأذكار تلك الليلة، ومناسك غدٍ ، من الوقوف عند المشعر الحرام، والدفع إلى "منى" وأعمال ذلك اليوم.

فإن أداء تلك المناسك في وقتها، أفضل من نوافل العبادات التي ستدرك في غير هذا الوقت.

ما يؤخذ من الحديث :

1- مشروعية جمع التأخير بين المغرب والعشاء في "مزدلفة" في ليلتها.

2- الحكمة في هذا - والله أعلم - التخفيف والتيسير على الحاج، فهم في مشقة من التنقل، والقيام بمناسكهم.

3- فيؤخذ منه يسر الشريعة وسهولتها، رحمةً من الشارع، الذي علم قدرة الناس وطاقتهم وما يلائمها.

4- أن يقام لكل صلاة من المغرب والعشاء، إقامة واحدة.

5- لم يذكر في هذا الحديث، الأذان لهما، وقد صح من حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم "جمع بينهما بأذان وإقامتين" ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

6- أنه لا يشرع التنفل بين المجموعتين ولا بعدهما، فهو من باب التيسير والتخفيف، والاستعداد للمناسك بنشاط، لأن هذه المناسك، ليس لها وقت تشرع فيه إلا هذا، فينبغي التفرغ لها، والاعتناء بها قبل فواتها.

7- قال شيخ الإسلام: والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر فيصلي بها الفجر في أول الوقت ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر جداً قبل طلوع الشمس، فإن كان في الضعفة كالنساء والصبيان فإنه يتعجل في مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر، ولا ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في سبب الجمع بين المغرب والعشاء في "مزدلفة".

فبعضهم يرى أنه لعذر السفر، وهم الشافعية والحنابلة.

وعلى هذا، فلا يباح لمن لا يباح له الجمع، كأهل مكة.

والحنفية والمالكية، يرون أنه لعذر النسك. وهؤلاء يستحبونه لكل أحدٍ سواء كان مسافراً لنسكه أم لا.

والأولى، اتباع السنة، وهو الجمع لكل حاج، سواء أكان لهذا أم لغيره.

على أنه تقدم لنا أن الصحيح أن السفر لا يقدر بمدة ولا مسافة، وإنما هو كل سفر حُمِلَ له الزاد والمزاد فهو سفر .

ولا شك أن الحاج – سواء أكان آفاقيَّاً، أم مكياً - متحمل في حجه ما يتحمله المسافر من المتاعب والمشاق.

واختلفوا في الأذان والإقامة لهاتين الصلاتين.

فذهب بعضهم- ومنهم سفيان - إلى أنهما تصليان جميعاً، بإقامة واحدة.

 وذهب بعضهم - ومنهم مالك - إلى أنهما تصليان بأذانين وإقامتين.

وذهب بعضهم- ومنهم إسحاق- إلى أنهما تصليان بإقامتين فقط.

والصحيح ما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأحمد وغيرهما، من أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين.

وحجتهم في ذلك ما ذكره جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل، الذي وصف به حجة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها لأنه حرص على معرفة أحواله، وتتبع أقواله وأفعاله، فحفظ من هذه الحجة ما لم يحفظ غيره.

أما سبب اختلاف العلماء في الأذان والإقامة، فهو تعدد الروايات.

فقد صح عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين بالمزدلفة بإقامة واحدة".

وروي عن ابن عمر ثلاث روايات، إحداهن:- أنه جمع بينهما فقط، وهي حديث الباب الذي معنا.

والثانية:- أنه جمع بينهما بإقامة واحدة لهما.

والثالثة:- أنه صلاهما بلا أذان ولا إقامة.

وكلها روايات صحيحة الإسناد، وبعضها في الصحيحين، وبعضها في السنن.

بما أن القضية واحدة فلا يمكن حمل كل رواية على حال، ولا يمكن النسخ ولا الجمع بين الروايات.

فالأحسن الأخذ بما تقدم من رواية جابر الذي نقل حجته صلى الله عليه وسلم بلا اضطراب.

وتُعَدُّ باقي الروايات مضطربة المتون، فتطرح. وهذا رأي "ابن القيم" رحمه الله تعالى.

 باب المحرم يأكل من صيد الحلال

الحديث الأول

عَنْ أبي قَتَادَةَ الأنْصَارِي رَضـي الله عَنْهُ: أنَ رَسُـولَ الله صلى الله عليه وسـلم خَرَجَ

حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ - وَقَالَ : خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْر

حَتَّى نَلْتَقِي. فَأخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انصَرَفُوا أحْرَمُوا كُلُّهُم إلاَّ أبَا قَتَادَةَ لمْ يُحْرِمْ.

فَبَيْنَـمَا هُمْ يَسِـيرُونَ إذْ رَأوْاِ حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أبو قتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أتَاناً،

فنَزَلْنَا وَأكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أنَأكُلُ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُون؟!.

 فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لحْمِهَا، فَأدْرَكَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَألنَاهُ عَنْ ذلِكَ.

فَقَالَ: "مِنْكُمْ أحَدٌ أمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أوْ أشَاَرَ إلَيْهَا؟".

قَالُوا: لا. قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :"فكُلوا مَا بَقِيَ مِنْ لحْمِهَا".

وفي رواية " هَلْ مَعَكُم منْهُ شَـيءٌ؟" فقلتُ: نَعَمْ. فَنَاوَلتُهُ الْعَضُـدَ، فَأكَلَ مِنْهَا، أو

"فَأكَلَهَا".

الغريب :

خرج حاجاً: من المعتمد أن ذلك في "عمرة الحديبية" فأطلق على العمرة الجج، وهو جائز.

فإن الحج – لغة القصد، والمعتمر قاصد البيت.

حُمر وحش: نوع من الصيد على صفة الحمار الأهلي، ومفردها حمار.

 ونسبت إلى الوحش، لتوحشها، وعدم استئناسها.

أتاناً: هي الأنثى من الحمر.

المعنى الإجمالي :

خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، يريد العمرة.

وقبل أن يصل إلى محرم المدينة، القريب منها، وهو "ذو الحليفة" بلغه أنَّ عَدُوُّاً أتى من قِبَل ساحل البحر يريده، فأمر طائفة من أصحابه - فيهم أبو قتادة - أن يأخذوا ذات اليمين، على طريق الساحل، ليصدوه، فساروا نحوه.

فلما انصرفوا لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم في ميعاده، أحرموا إلا أبا قتادة فلم يحرم[131].

وفي أثناء سيرهم، أبصروا حمر وحش، وتمنوا بأنفسهم لو أبصرها أبو قتادة لأنه حلال.

فلما رآها حمل عليهاْ فعقر منها أتاناً، فأكلوا من لحمها.

ثم وقع عندهم شك في جواز أكلهم منها وهم محرمون، فحملوا ما بقي من لحمها حتى لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

فسألوه عن ذلك فاستفسر منهم: هل أمره أحد منهم، أو أعانه بدلالة، أو إشارة؟ قالوا : لم يحصل شيء من ذلك.

فَطَمْأَن قلوبهم بأنها حلال، إذ أمرهم بأكل ما بقي منها، وأكل هو صلى الله عليه وسلم منها.

الحديث الثاني

عَن الصَّعْبِ بْنٍ جَثامَةَ  الَّلَيْثِيِّ رَضيَ الله عَنْهُ أنَّهُ أَهْدَى إلى النَّبِيِّ صلى الله عليـه وسـلم

حِمَاراً وَحْشِيَّاً وَهُوَ بِالأبْوَاءِ - أوْبـ "ودَّان " – فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَأى مَا في وَجْهِهِ قَالَ:

"إنَا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلا أَنَّا حُرُم".

وفي لفظ لـ"مسلم" : رِجلَ حِمَار. وفي لفظ "شِقَ حِمَار" وفي لفظ: "عَجُزَ حِمَارٍ".

قال المصنف: وجه هذا الحديث: أنه ظنّ أنه صِيدَ لأجله، والمحرم لا يأكل ما صِيدَ لأجله.

الغريب :

الصعب: بفتح الصاد المهملة، وسكون العين المهملة.

جثامة: بفتح الجيم والميم، وتشديد الثاء المثلثة.

الأبواء، ودان: تقدم ضبط الأبواء، وأنه المكان المعروف بـ"مستورة[132]".

وأما "ودان" فموضع قريب منه، وهو بفتح الواو، وتثقيل الدال المهملة، بعدها ألف ونون.

لم نرده: استعمل بفتح الدال، ويجوز ضمها.

إنا حرم: بكسر الهمزة وفتحها.

فالكسر، على أنها ابتدائية لاستئناف الكلام.

والفتح، على حذف لام التعليل.

والأصل: "إنا لم نرده عليك إلا لأننا حرم".

"وحرم" بضم الحاء، والراء المهملتين، أي محرمون.

المعنى الإجمالي :

لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وبلغ إما الأبواء أو ودان، وأحدهما قريب من الثاني، أهدى إليه "الصعب بن جثامة"  حماراً وحشياً.

وكان من عادته الكريمة، وتواضعه المعروف، قبول الهدية، مهما قلَّتْ، ومن أيِّ أحد.

وقد رده عليه لأنه ظن أنه صاده لأجله، وهو أولى من تورَّع عن المشتبه، وما صاده الحلال للمحرم، فإنه لا يحل له.

وأخبره بسبب ردِّه عليه، وهو أنهم محرمون، والمحرمون لا يأكلون مما صيد لهم، لئلا يقع في نفسه شيء من ردِّ هديته.

ما يؤخذ من الحديث :

1-   قبوله صلى الله عليه وسلم الهدية، جبراً لقلوب أصحابها.

2-   رد الهدية إذا وُجد مانع من قبولها، وإخبار المُهْدِي بسبب الرد لتطمئن نفسه، وتزول وساوسه.

3-   تحريم صيد الحلال على المحرم، إذا كان قد صيد من أجله.

اختلاف العلماء :

اختلف العلماء في أكل الصيد المصيد للمحرم.

فمذهب أبي حنيفة، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، جواز أكل المحرم

لما صاده الحلال من الصيد، سواء أصاده لأجله أم لا.

وهو مرويٌّ عن جملة من الصحابة، منم عمر بن الخطاب، والزير، وأبو هريرة.

وحجة هؤلاء، حديث أبي قتادة المذكور في هذا الباب.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، وأقر رفقة أبي قتادة على أكلهم قبل أن يأتوا إليه، وأمرهم بالأكل منه أيضاً.

وذهب طائفة إلى تحريم لحم الصيد على المحرم مطلقاً، سواء صيد لأجله أم لم يصد لأجله..

ومن هؤلاء، على بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، ومَرْوِيٌّ عن طاوس، وسفيان الثوري.

وحجة هؤلاء عموم قوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَادُمْتُمْ حُرُمَاً}.

وحديث "الصعب بن جثامة" الذي معنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم  رده وعلَّل الرد بمجرد الإحرام.

وذهب جمهور العلماء - ومنهم الأئمة، مالك، والشافعي، وأحمد،. وإسحاق وأبو ثور- إلى التوسط بين القولين.

فما صاده الحلال لأجل المحرم، حرم على المحرم، وما لم يصده لأجله، حل له. وقد صح هذا التفصيل، عن عثمان بن عفان.

وأراد بهذا التفصيل، الجمع بين حديث أبي قتادة، وحديث الصعب بن جثامة، لأن كليهما صحيح، لا يمكن رده.

ومما يؤيد هذا الرأي، ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم، مالم تصيدوه أو يُصَدْ لكم".

وبهذا تجتمع الأدلة، وإعمالها أحسن من إهمال بعضها مع صحتها.

وهو جمع مستقيم، ليس فيه تكلُّف أو تعسُّف.

قد يستبعد أن يصيد أبو قتادة الحمار الوحشي لأجله وحده، دون رفقته، وهو إشكال في موضعه.

والذي يزيل هذا الإشكال هو أن نفهم أن الصيد عند العرب هواية محببة لديهم، وظرف يتعشقه ملوكهم وكبارهم.

فلا يبعد أن أبا قتادة، لما رأى حمر الوحش، شاقه طرادها قبل أن يفكر في أنه سيصيدها ليأكل لحمها هو وأصحابه.

أدب الزيارة

المسافر إلى المدينة المنورة لقصد العبادة يشرع له أن يقصد بسفره إليها زيارة المسجد النبوي الشريف، وعبادة الله تعالى فيه لأنه المسجد الثاني في الفضل ومضاعفة العبادة، والدليل على ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إذ قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان.

هذا هو القصد المسنون شرعاً، وليس زيارة قبره الشريف، لأنه نص في الحديث الذي رواه البخاري على أن الزيارة للمسجد، وذلك في قوله: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام. ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" وقد روى مسلم هذا الحديث أيضاً. وليس النهي عن شد الرحل إلى قبره الشريف استخفافاً بحقه صلى الله عليه وسلم،  فإن محبته مقدمة على محبة كل شئ بعد الله.

ولكنه امتثال لأمره، وقد قال الله تعالى في حقه: {ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا}.

فإذا وصل الزائر إلى المسجد النبوي الشريف استحب له عند الدخول أن يقدم رجله اليمنى، ويقول: " بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم يصلي ركعتين، والأفضل أن يكونا في الروضة الشريفة لقوله صلى الله عليه وسلم : "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" ويزور بعد الصلاة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيقف تجاه القبر مما يلي وجهة الكريم بأدب وخفض صوت ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". وذلك لما جاء في سنن أبي داو د عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" ولا بأس أن يزيد في السلام بقوله : "السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وإمام المتقين، أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في اللّه حق جهاده، فجزاك الله عن أمتك خير الجزاء " ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد".

ثم يمضي الزائر إلى يمينه، قليلاً فيسلم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ثم إلى يمينه أيضاً، فيسلم على عمر بن الخطاب رضى الله عنه. ثم يتوجه إلى القبلة ويدعو الله بما أحب، ولكن الأفضل أن يدعو بالأدعية الشرعية المأثورة، وأن يقدم من الدعاء ما فيه نصر دين الله وإعلاء كلمته، ويدعو لنفسه ولوالديه، ولمشايخه وأقاربه والمسلمين عامة. ويدعوا الله أن يشفع به محمداً صلى الله عليه وسلم وبوالديه وذريته وأقاربه ومن له حق عليه من المسلمين.

وإذا أراد العودة من المدينة المنورة فعل وقال مثلما تقدم. وتستحب زيارة البقيع والدعاء فيه للموتى بالدعاء المأثور، وهو خاص بالرجال. وكذلك تستحب زيارة مسجد قباء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره، ويحسن الذهاب إلى أحد لمشاهدة مكان المعركة والدعاء للشهداء والترضي عنهم، ومنهم حمزة بن عبد المطب رضي الله عنه.

أشياء يجب على الزائر اجتنابها

بما أن الزائر قد جاء إلى المدينة المنورة لغاية دينية ـ وهي العبادة – فعليه أن يلتزم باتباع ما شرعه الله ورسوله، وذلك باجتناب ما نهيا عنه. ومن ذلك:-

1- الابتعاد عن التفوه بمطالب توجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والله وحده هو القادر عليها، كتفريج الكربات وإبراء المرضى وزيادة الرزق وغير ذلك. أما الشفاعة فتكون بدعاء الله أن يشفع به نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم. فإن طلب مالا يقدر عليه إلا الله من غيره لشرك وضلال.

2- الاتجاه وقت الدعاء إلى القبلة لا إلى القبر الشريف، فإن ذلك أقرب للإجابة.

3- عدم الطواف والتمسح بالقبر الشريف، فقد أجمع العلماء الأئمة وسلف الأمة على أن الطواف بغير الكعبة لا يجوز بحال. وأنه لا يتمسح إلا بالركن اليماني والحجر الأسود من الكعبة المشرفة.

4-عدم الإكثار من التردد على القبر الشريف للسلام والزيارةَ، فإن الإكثار غير مشروع، لأنه لم يكن من عادة الصحابة رضي الله عنهم ولا من مذهب السلف الصالح. ويكفي المسلم أن يصلي ويسلم على الرسول في أي مكان كان، لأن الصلاة والسلام يبلغانه ولو كان فاعل ذلك في أقصى المعمورة.

5- ألا يقف الزائر عند القبر أو بعيدا عنه وقد اتخذ هيئة الوقوف في الصلاة جاعلاً يديه على صدره، مسبلاً عينيه، ومرخياً حاجبيه، والرسول عليه الصلاة والسلام أهل للاحترام ولكن بغير هذه الوقفة التي هي من خصائص الوقوف بين يدي الله تعالى.

6- يكره عنده رفع الصوت بالسلام والترحم والدعاء، فقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.

 كِتَابُ البيوع

البيوع  : جمع للبيع. والبيع مصدر، والمصادر لا تجمع. لكن جمع لملاحظة اختلاف أنواعه.

وتعريفه: لغة- أخذ شيء وإعطاء شيء، فقد أخذوه من البائع الذي يُمَدُّ، إما لقصد الصفقة، أو للتقابض على المعقود عليها من الثمن والمثمن.

ولفظ " البيع" ، يطلق على الشراء أيضاً، فهو من الأضداد وكذلك (الشراء) فهو من الأضداد.

لكن إذا أطلق البائع، فالمتبادر إلى الذهن أنه باذل السلعة.

أما تعريفه شرعا: فهو: مبادلة مال بمال، لقصد التملك، بما يدل عليه من صِيَغ القول والفعل.

وجوازه ثابت بأصول الأدلة الأربعة:

 1- الكتاب {وأحَلَّ الله البَيْعَ }.

 2- والسنة " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " ونصوص الكتاب والسنة فيه كثيرة.

 3- وأجمع المسلمون على جوازه

 4- ويقتضيه القياس، لأن الحاجة داعية إليه، فلا يحصل الإنسان على ما يحتاجه إذا كان بيده غيره، إلا بطريقه.

أما الصيغة التي ينعقد بها فالصواب في ذلك ما قاله شيخ الإسلام " ابن تيمية " من أنه ينعقد بكل قول أو فعل، عده الناس بيعا، سواء أكان متعاقباً أم متراخياً لأن الله تعالى لم يُرد أن يتعبدنا بألفاظ معينة، وإنما القصد الدلالة على معناه، وبأي لفظ دل عليه، حصل المقصود.

والناس يختلفون في مخاطبتهم واصطلاحاتهم، تبعا لاختلاف الزمان والمكان.

فكل زمان ومكان، له لغته واصطلاحاته، والمراد من ذلك المعنى.

وينفعنا في هذه (الأبواب منٍ المعاملات) أن نفهم قاعدة جليلة، تحد لنا المعاملات المباحة، وأن نفهم أيضا ضوابط تحيط بجميع المعاملات المحرمة، وترد إليها جميع جزئياتها، وهذه القاعدة هي :

أن الأصل في المعاملات، وأنواع التجارات والمكاسب، الحل والإباحة. فلا يمنع منها إلا ما حرمه الله ورسوله.

فهذا أصل عظيم، يستند إليه في المعاملات والعادات.

فمن حرم شيئاً من ذلك، فهو مطالب بالدليل، لأنه على خلاف الأصل. وبهذا يعلم سماحة الشريعة وسعتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتطورها حسب مقتضيات البشر، ومصالح الناس.

وهي قاعدة مطردة، مبناها العدل والقسط، ومراعاة مصالح الطرفين.

ولا تخرج المعاملة عن هذا الأصل العظيم، من الإباحة إلى التحريم، إلا لما يقترن بها من محذور، يرجع إلى ظلم أحد الطرفين، كالربا، والغرر، والجهالة، والخداع، و التغرير.

فهذه معاملات- عند تأملها- نجدها تعود إلى ظلم أحد العاقدين.

والمعاملات المحرمة ترجع إلى هذه الضوابط وما حرمت إلا لمفاسدها وظلمها.

فإن الشارع الحكيم الرحيم، جاء بكل ما فيه صلاح، وحذر عن كل ما فيه فساد.

الحاصل: أن المعاملات المحرمة ترجع إلى ضوابط، أعظمها الثلاثة الآتية :-

الأول: الربا بأنواعه الثلاثة، ربا الفضل، وربا النسيئة، وربا القرض.

الثاني: الجهالة والغرر، ويدخل فيها جزئيات كثيرة، وصوره متعددة.

الثالث: الخداع والتغرير، ويشمل أنواعاً متعددة.

هذا مجملها وسيأتي- إن شاء الله تعالى- تفصيلها في الأحاديث الآتية.

 الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضىَ عنهما عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ:

" إذَا تَبَايَعَ الرجُلانِ فَكُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفرقَا وَكَانا جَمِيعاً، أو يُخَيَر أحَدُهُمَا الآخر قال: فَإِن خَيّرَ أحَدُهُمَا الآخر فَتَبَايَعَا عَلَى ذلِكَ وَجَبَ البيع ".

الحديث الثاني

وفي معناه من حديث حَكِيم بن حزام قال: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :

" البيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لمْ يَتَفَرَّقَا- أو قال: حَتًى يَتَفرَقَا- فَإنْ صدَقا وبَينا، بُورِكَ لَهُمَا في بَيعِهِمَا- وَإن كَتَمَا وَكَذبَا مُحِقتْ بَرَكة بَيْعِهمَا".

الغريب:

بالخيار: بكسر الخاء، اسم مصدر " اختار " من الاختيار أي طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الرد.

البيعان: بتشديد الياء، يعنى البائع والمشتري أطلق عليهما من باب التغليب. وقد تقدم أن كل واحد من اللفظين يطلق على معنى الآخر.

محقت: مبنى للمجهول، معناه : ذهبت وزالت زيادة كسبهما وربحهما أو يخير أحدهما الآخر: أي يقول له: اختر إمضاء البيع.

المعنى الإجمالي:

لما كان البيع قد يقع بلا تفكر ولا ترو، فيحصل للبائع أو المشترى ندم على فوات بعض مقاصده، جعل له الشارع الحكيم أمداً يتمكن فيه، من فسخ العقد. وهذا الأمد هي مدة مجلس العقد.

فما دام العاقدان في مجلس العقد، فلكل منهما الخيار في إمضاء العقد أوفسخه

فإذا افترقا بأبدانهما، افتراقا يتعارف الناس عليه، أو عقد البيع على أن لا خيار بينهما، فقد تم العقد، ولا يجوز لواحد منهما الفسخ، إلا بطريق الإقالة.

ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من أسباب البركة والنماء، وشيئاً من أسباب الخسارة والهلاك.

فأسباب البركة والربح والنماء، هي الصدق في المعاملة، وتبين ما في المعقود عليه من عيب أو نقص أو غير ذلك.

وأما اً سباب المحق والخسارة، فهي كَتم العيوب، والكذب في المعاملة، والتدليس.

وهى أسباب حقيقية لبركة الدنيا بالزيادة والشهرة بحسن المعاملة، وفي الآخرة بالأجر والثواب، وحقيقة لمحق كسب الحياة، من سيئ المعاملة والابتعاد عنه، حتى يفقد ثقة الناس وإقبالهم، وخسارة في الآخرة، لغشه الناس. و " من غشنا، فليس منا "

ما يؤخذ من الحديث:

1- إثبات خيار المجلس لكل من البائع والمشترى، من إمضاء البيع أو فسخه.

2- أن مدته من حين العقد إلى أن يتفرقا من مجلس العقد.

3- أن البيع يلزم بالتفرق بأبدانهما من مجلس العقد.

4- أن البائع والمشترى لو اتفقا على إسقاطه بعد العقد وقبل التفرق، أو تبايعا على أن لا خيار لهما، لزم العقد، لأن الحق لهما، وكيفما اتفقا جاز.

5- الفرق بين حق الله تعالى ومحض حق الآدمي.

فما كان لله، لا يكفى لجوازه رضا الآدمي، كعقود الربا.

وما كان للآدمي، جاز برضاه المعتبر، لأن الحق لا يعدوه.

 6- لم يحد الشارع للتفرق حداً، فمرجعه إلى العرف. فما عده الناس مفرقا ، لزم البيع به.

فالخروج من البيت الصغير، أو الصعود إلى أعلاه، والتنحي في الصحراء ونحو ذلك، يعد تفرقاً منها لمدة الخيار، وملزماً للعقد.

7- حرم العلماء التفرق، خشية الفسخ، لما روى أهل السنن من أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال و" ولا يحل له أن يفارقه صاحبه، خشية أن يستقيله "، ولأنه تحايل لإسقاط حق الغير.

8- أن الصدق في المعاملة وبيان ما في السلعة سبب للبركة في الدنيا والآخرة. كما أن الغش والكذب والكتمان، سبب محق البركة وزوالها.

وهذا شيء محسوس في الدنيا، فإن الذين تنجح تَجارتهم،وتروج سلعهم هم أهل الصدق والمعاملة الحسنة.

ما خسرت تجارة وفلست، إلا بسبب الخيانة. و ما عند الله لأولئك وهؤلاء أعظم.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس :

فذهب جمهور العلماء، من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ثبوته.  ومن هؤلاء، على بن أبي طالب، و ابن عباس، وأبو هريرة، وأبو برزة، و طاوس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن البصري،و الشعبي، و الزهري، والأوزاعى، والليث، و سفيان بن عيينة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، والبخاري، و سائر المحققين المجتهدين.

ودليلهم هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، كحديثي الباب وغيرهما. قال ابن عبد البر وحديث عبد الله بن عمر أثبت ما نقل الآحاد.

وذهب أبو حنيفة، ومالك وأكثر أصحابهما إلى عدم ثبوت خيار المجلس.

واعتذروا عن العمل بهذه الأحاديث بأعذار ضعيفة، أجاب عنها الجمهور بما أوهاها.

ومن تلك الاعتذارات.

أولاً: أن الحديث على خلاف عمل أهل المدينة، وعملهم حجة.

وردّ بأن كثيراً من أهل المدينة ، يرون الخيار، ومنهم الصحابة المتقدم ذكرهم، وسعيد بن المسيب. قال ابن عبد البر ولا تصح دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة، لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب- وهما من أجل فقهاء المدينة- روى عنهما منصوصاً العمل به، وقد كان ابن أبى ذئب- وهو من فقهاء المدينة... معاصر لمالك- ينكر عليه ترك العمل به، فكيف يصح لأحد أن يدعى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة؟ هذا لا يصح القول به. أهـ. وعلى فرض أنهم مجمعون، فليس إجماعهم بحجة، لأن الحجة إجماع الأمة، التي ثبتت لها العصمة. قال ابن دقيق العيد : فالحق الذي لا شك فيه أن عمل أهل المدينة وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم ولا مستند للعصمة سواه. ا.هـ.

ثانياْ : أن المراد بـ " المتبايعان " في الحديث، المتساومان.

والمراد، بالخيار، قبول المشترى أو رده.

وردَ بأن تسمية السائم بائعا مجاز، والأصل الحقيقة.

وأيضاً لا يمكن تطبيق الحديث الذي ذكر فيه التفرق ، على حال السائمين. قال ابن عبد البر : إذا حمل على المتساومين لا يكون حينئذ في الكلام فائدة إذ من المعلوم أن كل واحد من المتساومين بالخيار على صاحبه ما لم يقع إيجاب بالبيع والعقد والتراضي ، فكيف يرد الخبر بما لا يفيد فائدة ! وهذا ما لا يظنه ذو لب على رسول اللَه صلى الله عليه وسلم .

ثالثا : أن المراد بالتفرق، تفرق الأقوال بين البائع والمشترى عند الإيجاب و القبول.

ورد بأنه خلاف الظاهر من الحديث، بل خلاف نص بعض الأحاديث وهو " أيمَا رَجل ابتاعَ مِنْ رَجل بيعة، فإنَ كل وَاحدٍ مِنْهُمَا بَالخِيَار، حتى يَتَفَرقا مِنْ مَكانِهِما " .

وأيضاً الإيجاب والقبول، لم يحصل بهما افتراق، وإنما حصل بهما إجماع و التئام.

وهذه نماذج من محاولتهم رد الحديث، سقت منها هذه الثلاثة ليعلم القاري أنهم لم يستندوا على شيء. وهم المالكيون والحنفيون.

كما قال ابن عبد البر.

وقد بالغ العلماء بالرد عليهم. حتى نقل عن بعضهم الخشونة على مالك، لرده الحديث الصحيح، وهو من رواته. وقد روى هذا الحديث من وجوه كثيرة عن جماعة من الصحابة، وإن خالف الحكم في هذين الحديثين بعض ظواهر النصوص من تمام البيع بالعقد بدون ذكر التفرق فإن الشرع قد يخرج بعض الجزئيات عن الكليات تعبدا أو لمصلحة تخصها.

 بَابُ مَا نهى اللّه عنه من البيوع

الحديث الأول

عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضَي اللّه عَنْهُ أن رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم  نهى عَن الْمُنَابَذَةِ  وَهِي طَرْحُ الرجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ قبْلَ أنْ يُقَلبَهُ أو يَنْظُرَ إلَيهِ  وَنَهى عَنِ الْمُلامَسَةِ وَالْمُلامَسَةِ: لمس الرَّجُلِ الثَّوْبَ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِ ".

المعنى الإجمالي:

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغَرَر، لما يحصل فيه من مضرة لأحد المتعاقدين، بأن يغبن في بيعه أو شرائه.

وذلك كأن يكون المبيع مجهولا للبائع، أو للمشترى، أو لهما جميعاً.

ومنه بيع المنابذة، بحيث يطرح البائع الثوب مثلاً، على المشترى، " يعقدان البيع قبل النظر إليه أو تقليبه.

و مثله بيع الملامسة، كأن يجعلا العقد على لمس الثوب، مثلا، قبل النظر إليه أو تقليبه.

وهذان العقدان يفضيان إلى الجهل والغرر في المعقود عليه.

فأحد العاقدين تحت الخطر إما غانما أو غارماً، فيدخلان في (باب الميسر)  المنهي عنه.

ما يستفاد من الحديث:

1- النهى عن بيع الملامسة: فسرت بتفاسير، الصحيح منها، ما ذكر في هذا الحديث وأشباهه من التفاسير التي تعود إلى جهالة المبيع والغرر فيه.

ومن ذلك تفسير الشافعي أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة، فيلمسه المستام فيقول صاحبه: بعتكه بكذا، بشرط أن يقوم لَمسُكَ مقام نظرك .

2- النهي عن بيع المنابذة وفسرت أيضاً بتفاسير، الصحيح منها ما ذكر في هذا الحديث وأشباهه، مما يعود إلى الجهالة في المبيع .

ومنه بيع الحصاة كأن يقول: اً ي ثوب وقعت عليه الحصاة، فعليك بكذا.

3- أما جعل اللمس أو النبذ بيعاً، أو يجعل البيع معلقاً باللمس أو النبذ مع معرفة المبيع في هذه الصور، فالصحيح أن البيع صحيح، لأنه لا يترتب عليه محذور شرعي ، كالبيع بالمعاطاة.

4- اًن هذين البيعين غير صحيحين، لأن النهى يقتضي الفساد.

5- المراد بالنهى، المبيعات المختلفة: بصفاتها أو قيمتها .

أما ما كان متفقاً، متساوى القيم، فيصح ، لأنه لا تحصل بشرائه على هذه الطرق، الجهالة المحذورة

6- استدل بذلك على عدم صحة شراء المجهول وعدم صحة شراء الأعمى فيما طريق العلم به النظر، لأن ذلك يفض إلى الغرر.

7- وأما البيع الغائب فإنه يصح بيعه إذا كان الوصف يحيط به وإذا وصف وصفاً تنتفي معه جهالته كوصف بيع السلم، فإذا لم يجده المشتري على الصفة المشروطة، فإن كان موصوفاً معينا بطل العقد. وإن كان موصوفا في الذمة فالعقد صحيح ويلزم البائع إحضار ما تتم به الصفات المشروطة في العقد.

8- قال النووي : اعلم أن الملامسة والمنابذة ونحوهما، مما نص عليه، هي داخلة في النهى عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر، لكونها من بيعات الجاهلية المشهورة.

قال: والنهى عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة. وقال ابن عبد البر: الأصل في هذا الباب كله النهي عن القمار والمخاطرة، وذلك للميسر المنهي عنه.

9- بهذا تبين أن ما نهى عنه في هذا الحديث، مرجعه إلى الضابط الثاني المتقدم.

الحديث الثاني[133]

عَن أبي هُرَيرةَ رَضىَ الله عَنْهُ: أنً رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم  قال: " لا تَلَقًوُا الركْبَان، وَلا يَبع بَغضُكُم عَلى بَيْعِ بَعْض، وَلا تَنَاجَشُوا،  ولا يبع حَاضرٌ لِبَاد ، وَلا تُصَروا[134] الغَنَمَ، وَمَن ابتاعَهَا فهو بخْيَرِ النّظَرَيْن بَعْدَ أن يَحْلُبَهَا: إنْ رَضِيَهَا، أمسَكَهَا، وإنْ سَخِطَهَا، رَدَّهَا وصاعا مِنْ تمر"

وفي لفظ " هُو بِالخِيَارِ ثَلاثاً".

الحديث الثالث

عَنْ عَبْدِ اللّه بنِ عَبَّاس رَضي الله عَنْهُمَا قال: نَهى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَأنْ يَبِيَع حَاضِر لِبَاد .

قال: فقلت، لابن عباس ما قوله: " حَاضِر لِبَادٍ "؟ قال: لا يَكُونُ لَهُ سِمْسَاراً.

الغريب:

لا تلقوا الركبان: جمع " راكب "  ويراد تلقى القادمين إلى البلاد لبيع سلعهم، فيشتريها منهم قبل وصولهم إلى السوق.

وأطلق على الركبان، تغليبا. وإلا فهو شامل للمشاة.

ولا تناجشوا : النجش ، بفتح النون وإسكان الجيم، وهو الزيادة في السلعة

ممن لا يريد شراءها، بل لنفع البائع بزيادة الثمن، أو مضرة المشترى بإغلائها عليه.

مأخوذ من " نجش الصيد " وهو استثارته لأن الزائد يثير الرغبة في السلعة، ويرفع ثمنها. قال ابن قتيبة: النجش: الختل والخديعة، ومنه قيل للصائد:  ناجش، لأنه يختل الصيد.

ولا يبع حاضر لباد  والحاضر: هو البلدي المقيم " والبادي " نسبة إلى البادية .

والمراد به القادم لبيع سلعته بسعر وقتها. سواء أكان بدويا أم حضرياً، فيقصده الحاضر ليبيع له سلعته بأغلى من سعرها لو كانت مع صاحبها. والسمسار هو البائع أو المشترى لغيره.

ولا تُصَروا الغنم: بضم التاء وفتح الصاد، بعدها راء مثقلة مضمومة، ثم واو الجماعة، والفعل مجزوم بلا الناهية، " والغنم " منصوب على المفعولية ، من التصرية ، وهى الجمع. قال ابن دقيق العيد: تقول : صرّيت الماء في الحوض وصريته- بالتخفيف- إذا جمعته[135].

وتصرية البهائم، حبس اللبن في ضروعها حتى يجتمع. والمنهى عنه، إذا قصد به تغرير المشترى بكثرة لبنها.

 المعنى الإجمالي :

في هذين الحديثين الجليلين، ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خمسة أنواع من البيع المحرم، لما فيها من الأضرار العائدة على البائع أو المشتري أو غيرهما.

1 - فنهى عن تلقى القادمين لبيع سلعهم من طعام وحيوان، فيقصدهم قبل أن يصلوا إلى السوق، فيشترى منهم جَلَبَهمْ.

فلجهلهم بالسعر، ربما غبنهم في بيعهم، وحرمهم من باقي رزقهم الذي تعبوا فيه وَطَووْا لأجله المفازات، وتجشموا المخاطر، فصار طعمة باردة لمن لم يكد فيه.

2- كما نهى أن يبيع أحد على بيع أحد، ومثله في الشراء على شرائه.

وذلك بأن يقول في خيار المجلس أو الشرط: أعطيك أحسن من هذه السلعة أو بأرخص من هذا الثمن، إن كان مشتريا، أو أشتريها منك بأكثر من ثمنها، إن كان بائعا، ليفسخ البيع، ويعقد معه.

وكذا بعد الخيارين، نهى عن ذلك، لما يسببه هذا التحريش من التشاحن والعداوة والبغضاء ؛ ولما فيه من قطع رزق صاحبه.

3- ثم نهى عن النجش، الذي هو الزيادة في السلعة لغير قصد الشراء، وإنما لنفع البائع بزيادة الثمن، أو ضرر المشترى بإغلاء السلعة عليه ونهى عنه، لما يترتب عليه من الكذب والتغرير بالمشترين، ورفع ثمن السلع عن طريق المكر والخداع.

4- وكذلك نهى أن يبيع الحاضر للبادي سلعته لأنه يكون محيطاً بسعرها ؛ فلا يبقى منه شيئاً ينتفع به المشترون. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض" . وإذا باعها صاحبا ، حصل فيها شيء من السعة على المشترين. فالنهى عن بيع الحاضر للبادي، فيه التضييق على المقيمين.

5- ثم نهى عن بيع التغرير والتدليس، وهو ترك اللبن في ضروع بهيمة[136] الأنعام، ليجتمع عند بيعها فيظن المشترى أن هذا عادة لها فيشتريها زائداً في ثمنها مالا تستحقه، فيكون قد نهَى المشترى وظلمه.

فجعل الشارع له مدة يتدارك بها ظلامته ، وهي الخيار ثلاثة أيام له أن يمسكها، وله أن يردها على البائع بعد أن يعلم[137] أنها مصراة.

فإن كان قد حلب اللبن ردها ورد معها صاع تمر بدلا منه.

ما يؤخذ من الحديث:

1- النهي عن تلقى القادمين، لبيع سلعتهم، والشراء منهم، قبل أن يصلوا إلى السوق.

فالنهى يفيد التحريم.

وسيأتي قريباً أن البيع صحيح أو باطل.

2- الحكمة في النهي لئلا يخدعوا، فيشترى منهم سلعهم بأقل من قيمتها بكثير[138].

3- تحريم البيع على بيع المسلم وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة : عندى مثلها بتسعة.

ومثله الشراء على شرائه، كأن يقول لمن باع سلعته بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ العقد مع الأول، ويعقد معه.

ومحل التحريم في زمن خيار المجلس أو خيار الشرط، وكذلك بعد الخيارين لأن فيه ضررا أيضاً من تأسيف العاقد، مما يحمله على محاولة الفسخ، بانتحال بعض الأعذار، أو اضطغانه على البائع أو المشترى منه، وغير ذلك من المفاسد.

ومثل المسلم في ذلك، الذمي وإنما خرج مخرج الغالب.

وقد قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز دخول المسلم على الذمي في سومه، إلا الأوزاعى وحده.

4- مثل البيع في التحريم، خطبة النكاح على الخاطب قبله.

وكذلك الوظائف والأعمال، كالمقاولات والإجارات، وغير ذلك من العقود لأن المعنى الموجود في البيع- وهو إثارة العداوة والبغضاء- موجود في الكل.

5- النهي عن بيع الحاضر للبادي وصفته " أن يقدم من يريد بيع سلعته من غير أهل البلد، فيتولى بيعها له أحد المقيمين في البلد " فتحريمه مخصص لحديث " الدين النصيحة ".

6- والحكمة في النهى، إغلاء السلعة على المقيمين إذا باعها عليهم أحد منهم بخلاف ما إذا كانت مع القادم، فلجهله بالسعر، لا يستقصي جميع قيمتها، فيحصل بذلك سعة على المشترين.

7- قيد بعض العلماء التحريم بشروط، أهمها أن يقدم البادي لبيع سلعته، وأن يكون جاهلا بسعر البلد، وأن يكون بالناس حاجة إليها.

8- النهى عن تصرية اللبن في ضروع بهيمة الأنعام عند البيع.

9- تحريم ذلك لما فيه من التدليس والتغرير بالمشترى، فهو من الكذب، وأكل أموال الناس بالباطل. وإن كان قد صراها لحاجته أو لغير قصد البيع فذلك جائز على ألا يضر بالحيوان، وإلا فحرام.

10- أن البيع صحيح لقوله: " إن رضيها أمسكها " ولكن له الخيار بين الإمساك والرد، إذا علم بالتصرية، سواء أعلمه قبل الحلب، أم بالحلب.

11- أن خياره يمتد ثلاثة أيام، منذ علم التصرية.

12- يفيد هذا الحديث، أن كل بيع يقع فيه التدليس فهو محرم، وأن المدلس عليه بالخيار.

13- إذا علم التصرية، وردها بعد حلبها، رد معها صاعاً من تمر بدلاً من اللبن. سواء كانت المصراة من الغنم، أو الإبل، أو البقر، قل اللبن أو كثر. وتقديره من الشارع بمقدار من التمر لا يزيد ولا ينقص روعي فيه قطع الخصام والنزاع لو ترك تقدير ذلك إليهما، بادعاء زيادة اللبن أو نقصه أو اختلاطه باللبن الحادث في الضرع. وتقدير ذلك بالتمر أفضل لأن كلا من التمر والحليب قوت ذلك الزمان، ولأن كليهما مكيل.

وهذا التمر مقابل اللبن الذي اشتريت وهو في ضرعها.

أما الحادث بعد ، فلا يرد عنه شيئاً، لأن الخراج بالضمان.

14- النهى عن النجش، وهو زيادة من لا يريد شراء السلعة في ثمنا، وذلك لنفع البائع أو الإضرار بالمشترى، وربما قصد الإضرار بكليهما، وهو محرم، لأن النهي يقتض التحريم. وإذا كان قد تواطأ مع البائع على النجش فهما شريكان في الإثم وهو مثبت للخيار في البيع.

اختلاف العلماء:

مذهب جمهور العلماء صحة شراء مُتلَفي الركبان، بل حكى عن جميع العلماء.

والدليل على ذلك ما رواه مسلم وغيره " لا تَلَقوا الجلب، فمن تَلَقى فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار" .

كما أن النهي في الحديث لا يعود إلى نفس العقد، ولا إلى ركن أو شرط منه، وإنما هو، لأجل الإضرار بالركبان، ولا يقدح في نفس البيع، بل يمكن تداركه.

واختلفوا في ثبوت الخيار، فذهب الشافعي، وأحمد: إلى ثبوته، إذا غبن البائع غَبْناً خارجاً عن العادة والعرف عند التجار.

ودليلهم، الحديث المتقدم، ولأن هذا ضرر نزل بالبائع، ولا يمكن تداركه بغير الخيار.

وذهب الحنفية إلى عدم الخيار، والقول الأول هو الصحيح.

واختلفوا في صحة بيع من باع على بيع أخيه.

فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، والظاهرية: إلى أن البيع غير صحيح، فلا ينعقد، للنهي عنه، والنهي يقتض الفساد.

وذهب الأئمة " الثلاثة " إلى صحة البيع لأن النهى لا يعود إلى نفس العقد، بل إلى أمر خارج عنه.

وما يقال في البيع على البيع، يقال مثله في الشراء على الشراء لأن المعنى واحد فيهما، ولأن الشراء يسمى بيعا أيْضاً.

واختلفوا في صحة بيع الحاضر للبادي.

فالمشهور في مذهب الإمام أحمد، البطلان بشروط أربعة:

1- أن يكون بالناس حاجة إلى السلعة.

2- وأن يقدم البائع، لبيع سلعته بسعر يومها.

3- وأن يكون جاهلا بسعرها.

4- وأن يقصده الحاضر لبيعها له.

فإن اختل شرط منها صح البيع. ودليلهم أن النهى يقتضي الفساد.

وذهب الجمهور إلى صحة البيع مع التحريم، لمخالفته النهي.

وذهب جمهور العلماء- ومنم الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأحمد: إلى رد صاع من تمر، عن لبن المصراة عند ردها إلى البائع، كما هو نص الحديث الصحيح.

وذهب الحنفية: إلى أنه لا يرد شيئا، وللمشترى اللبن بدل علفها. وحاولوا رد نص الحديث بدعوى النسخ بقوله تعالى : { وَإن عَاقَبتمْ فَعَاقِبُوا بمثْل ما عُوقِبْتم به }

وإن فرضنا تأخر الآية عن الحديث، فما فيها حجة، لأنها في باب العقوبات، وليس موضوعنا منها.

واعتذارهم الثاني عن الأخذ بالحديث، أنه مخالف لقياس الأصول، وهو " أن اللبن مثلى، فيقتضى الضمان بمثله، والضمان يكون بقدر المثل، وهذا ضمن بصاع مطلقاً، قلّ أو كَثُرَ ".

وما أشبه ذلك من اعتراضات، أجاب عنها العلماء. ويكفى للجواب عنها أن نقول: إن خبر الشارع الثابت مقدم على قياس الأصول، لأنه أصل بنفسه، واجب الاعتبار بل إن الأصول لا تستند ولا تؤصل، إلا من نصوص الشارع. فلا يمكن أن ندع حديثا صحيحاً واضحا بلا معارض راجح، يقدم عليه. قال الخطابي في (معالم السنن): والأصل أن الحديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب القول به، وصار أصلا في نفسه.

والأصول إنما صارت أصولا لمجيء الشريعة بها وخبر المصراة قد جاء به الشرع من طرق جياد، فالقول به واجب، وليس تركه لسائر الأصول بأولى من تركها له- ا.هـ كلامه.

فائدتان:

الأولى: إذا تأملت ما تقدم من " الاستنباطات" و "خلاف العلماء" وجدت أن بعضهم مستمسك بظاهر الحديث، وآخذ بما دل عليه لفظه وبعضهم الآخر قد قيده ببعض القيود، تخصيصاً أو تعميماً.

وهذا- كما قال تقي الدين " ابن دقيق العيد ": دائر بين اتباع المعنى، واتباع اللفظ. والأحسن أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورا كثراً، فلا بأس باتباعه.

وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياس، وحيث يخفى أو لا يظهر ظهوراً قوياً، فاتباع اللفظ أولى

على أني لم أذكر إلا قليلا مما لم يدل عليه ظاهر الحديث، وذلك حين يقوى الأخذ بالمعنى جدا، كتقييد إطلاق بيع البائع للبادي بتلك الشروط الثلاثة، فإنها- عند تأمل معنى الحديث، ومقصود النهى منه- معتبرة، وكذلك تعمل الحكم في تصرية بهيمة الأنعام مع أن الوارد في هذا الحديث الغنم، لأن المعنى مفهوم وظاهر عمومه في جميعها.

وكذلك تقييد " خيار الجالب " بالغبن عادة، رجوعاً إلى المعنى الواضح في ذلك، وهو إزالة الضرر عنه. وأعرضت عن شيئين هما:

1- إما تمسك حرفي متقيد باللفظ، كمن جمد على قصر حكم التصرية في الغنم خاصة، لأنها المنصوص عليها، وغفل عن المعنى الواضح المقصود.

2- وإما ابتعاد عن ظاهر الحديث إلى معنى بعيد، كمن شرط في بطلان بيع الحاضر للبادي، أن يقصده الحاضر، فإن لم يقصده بل قصده البادي، فلا تحريم، والبيع صحيح، على أني ذكرته عن مذهب الحنابلة لبيان المذهب فقط.

وبهذا أرى أني توسطت بين الوجهتين، وسلكت طريقاْ متوسطة مرضية.

الثانية: في تحريم تَلَقِّي الركبان، وبيع الحاضر للبادي يعلم كيف أن الإسلام يراعى المصالح العامة على المصالح الخاصة، كما هو مقتضى العقل الصحيح.

فإن انتفاع أهل البلد بشرائهم السلع رخيصة، قُدمَ على انتفاع الواحد ببيعه سلعته غالية.

كذلك منعت مصلحة فرد، يتلقى الركبان، لأجل مصلحة أهل البلد الذين لهم الحق في أن ينتفعوا جميعاً بالشراء من الجالب مباشرة، مع ما فيه من دفع الضرر عن الجالب أيضاً.

الحديث الرابع

عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضَي الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَهى عن بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلةِ. وَكَان بَيْعاً يَتَبَايَعُهُ أهْلُ الْجَاهِلِيةِ. كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَايَعُ الْجزُورَ إلَى أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تنتج التي في بَطْنِهَا.

قيل: إنه كان يبيع الشارِفَ- وهي الكبيرة الْمُسِنَّةُ بنتاج الجنينِ، الذي في بطنِ نَاقَتِهِ.

الغريب:

حَبَل الحَبَلة: بفتح الحاء والباء فيهما. و" الحبلة " جمع " حابل " كظالم وظلمة، وكاتب وكَتبة، واكثر استعمال الحبَل للنساء خاصة، والحمل لهن ولغيرهن، من إناث الحيوان.

الجزور: هو البعير ذكراً كان أو أنثى، وجمعه، جزر، وجزائر.

تنتج: بضم التاء الأولى وإسكان النون وفتح التاء الثانية، وبعدها جيم معناه، تلد. وهو آت على صيغة المبنى للمجهول دائما. وقد أسند إلى الناقة.

الجاهلية: يطلق هذا الاسم، على الزمن الذي قبل الإسلام وأهله، مشتق من الجهل، لغلبته عليهم تنتج التي في بطنها: يريد بيع نتاج النتاج، أي بيع أولاد أولادها. وذلك بأن ينتظر أن تلد الناقة، فإذا ولدت أنثى ينتظر حتى تشب، ثم يرسل عليها الفحل، فتلقح فله ما في بطنا.

المعنى الإجمالي :

أشهر تفاسير هذا البيع تفسيران[139]

1- فإما أن يكون معناه التعليق، وذلك بأن يبيعه الشيء بثمن مؤجل بمدة تنتهي بولادة الناقة، ثم ولادة الذي في بطنها، ونُهيَ عنه لما فيه من جهالة أجل الثمن ، والأجل له وقع في الثمن في طوله وقصره.

2- وإما أن يكون معناه بيع المعدوم المجهول، وذلك بأن يبيعه نتاج الحمل الذي في بطن الناقة المسنة، ونُهي عنه لما فيه من الضرر الكبير والغرر، فلا

يعلم: هل يكون أنثى، وهل هو واحد أو اثنان، وهل هو حي أو ميت؟ ومجهولة مدة حصوله-

وهذه من البيعات المجهولة، التي يكثر ضررها وعذرها، فتفضي إلى المنازعات.

ما يؤخذ من الحديث:

1- النهى عن هذا البيع على كلا التفسيرين، لأنه إن كان على الأول، فَلِمَا فيه من جهالة الأجل وإن كان على الثاني، فَلِمَا فيه، من فقدان المبيع، وجهالته.

2- النص على هذا النوع من البيع، لأنه من بيعات الجاهلية، وإلا فهو عام في كل بيع يحصل فيه جهالة وغرر.

3- حكمة النهى، أنه من بيع الغرر المفضي إلى الميسر والقمار، وأكل المال بالباطل، مع ما يحصل في ذلك من الشجار والخصام، والعداوة والبغضاء.

قاعدة في المعاملات المحرمة ملخصة

من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية

الأصل في ذلك أن اللّه حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل، وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضا المستحق.

وأكل أموال الناس بالباطل في المعاوضات نوعان ذكرهما الله في كتابه هما: الربا والميسر. فقد تحرم الربا الذي هو ضد الصدقة في سورة البقرة وآل عمران والروم والمدثر والنساء، وذكر تحريم الميسر في سورة المائدة.

ثم إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم  فصل ما أجمله الله في كتابه، فنهى عن بيع الغرر، وهو المجهول العاقبة، لاًن بيعه من الميسر، وذلك مثل بيع العبد إذا أبق، أو الفرس والبعير إذا شرد.

أما الربا فتحريمه في القرآن أشد، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم  في الكبائر، لأنه لا يضطر إليه إلا المحتاج، فيأخذ ألفا معجلة ليدفع ألفا ومائتينِ مؤجلات، والموسر لا يفعل ذلك، فيكون في هذه الزيادة ظلم للمحتاج.

وقد حرم الرسول صلى الله عليه وسلم أشياء يخفي فيها الفساد، لأنها مفضية إلى الفساد المحقق، مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى. ومفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه. كبيع العقار ولم تعلم الأساسات، وبيع الدابة الحامل والمرضع. وإن لم يعلم الحمل واللبن، وبيع الثمرة بعد بدو صلاحها، وإن كانت الأجزاء التي يكمل بها الصلاح لم تتحقق بعد، فظهرا أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز في غيره.

أما الربا فإنه لما احتاج الناس إلى العرايا أرخص في بيعها بالخرص، ولم يجوز المفاضلة المتيقنة، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب، أي خمسة أوسق ومادون. وأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، والإمام أحمد موافق لمالك في الغالب منها، فإنهما يحرمان الربا، ويشددان فيه حق التشديد، حتى يسدا الذرائع المفضية إليه وإن لم تكن حيلة.

 وفي الجملة فإن أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعاً محكما مراعون لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر فعله عن الصحابة وتدل عليه معاني الكتاب والسنة.

وأما الغرر فمن أشد ما قيل فيه قولا أبي حنيفة والشافعي ، فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء. مثل الحب والثمر في قشره، كالباقلاء والجوز واللوز في قشره، وكالحب في سنبله، فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز.

وأما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز عنده بيع هذه الأشياء وبيع جميع ما تدعو الحاجة إليه أو يقل غرره، حتى إنه يجوز عنده بيع المقاثي جملة وبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل.

وأحمد قريب منه، فقد خرج ابن عقيل عنه وجهين فيها، الثاني منهما أنه يجوز كمذهب مالك ، وهذا القول هو قياس أصول أحمد.

باب النهي عن بيع الثمرة

قبل بُدُوِّ صلاحها[140]

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ اللَه بْن عُمَرَ رَضىَ الله عَنْهُمَا: ان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم  نهى عَنْ بَيْعِ الثًمَرَةِ حَتَى يَبدو صَلاحُهَا، نَفى البَاِئعَ وَالمُشتَرِيَ.

الحديث الثاني

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الثمار حتى تُزْهَى. قِيلَ: وَمَا تُزْهَى؟ قال: حَتَى تَحْمَرًا أوْ تَصْفر. قال: " أرَأيتَ إذَا مَنَعَ الله الثًمَرَةَ بمَ يَسْتَحِق أحَدُكمْ مَال أخِيهِ؟.

الغريب:

تزهى: بضم التاء من " أزهى يزهى " والإزهاء في الثمر، أن يحمر أو يصفر، لبدء الطيب فيه.

حتى يبدو: قال النووي: هو بمعنى يظهر، وهو بلا همز.

المعنى الإجمالي :

كانت الثمار مُعَرضة لكثير من الآفات قبل بُدُو صلاحها، وليس في بيعها مصلحة للمشترى في ذلك الوقت.

فنهى النبي البائع والمشترى عن بيعها حتى تزهى، وذلك بُدُو الصلاح، الذي دليله في تمر النخل، الاحمرار أو الاصفرار.

ثم علل الشارع المنع من تبايعها، بأنه لو أتت عليها آفة، أو على بعضها، فبماذا يحل لك- أيها البائع- مال أخيك المشترى، كيف تأخذه بلا عوض ينتفع به ؟

ما يؤخذ من الحديثين:

1- النهْيُ عن بيع الثمار قبل بُدُو صلاحها.

2- النهى يقتضي الفساد، فيكون بيعها غير صحيح.

3- جواز بيعها بعد بُدُو صلاحها. وكذلك لو باعها قبل بدو صلاحها بشرط القطع في الحال. وهو قول الجمهور.

4- أن دليل الصلاح في ثمر النحل، الاحمرار أو الاصفرار ، ولو في بعض الثمرة. فصلاح بعض الثمرة في شجرة دليل على صلاحها جميعها، و ينسحب هذا على سائر ذلك النوع في البستان الواحد وقد ذكر في التمر الاحمرار أو الاصفرار أما غيره من الثمر فصلاحه أن يطيب كله ويظهر نضجه والصلاح في الحب اًن يشتد.

5- الحكمة في النهى، هو أنها قبل بُدو الصلاح، معرضة لكثر من الآفات. فإذا تلفت، أو تضررت صار ذلك في ملك المشترى، الذي لم ينتفع منها، فيكون من أكل الأموال بالباطل.

كما أن بيعها قبل بُدوِّ الصلاح، ليس له فائدة لعدم الانتفاع بها.

وكذلك فيه قطع للتخاصم والتنازع بين المتعاملين، وإزالة لأسباب العداوة والبغضاء بينهم.

6- فيه تحريم أكل أموال الناس بغير حق، ولو بما فيه صورة رضا من الطرفين.

الحديث الثالث

عَنْ عَيْدِ الله بن عُمَرَ رَضي اللَه عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَن الْمُزَابَنَةِ. وهي أن يَبِيعَ ثمَرَ حَائِطِهِ إنْ كان نَخْلا بِتَمْر كَيْلًا، وَإنْ كان كَرْماً أنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيب كيْلا ، وإنْ كَانَ زَرْعا  أنْ يَبِيعَهُ بِكَيلِ طَعَاما ، نَهَى عَنْ ذلِكَ كُلهِ.

الغريب:

المزابنة: بضم الميم، وفتح الزاى، والباء، والنون ، على وزن المفاعلة. وهى مأخوذة من " الزبن " وهو: الدفع الشديد، كأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه.

المعنى الإجمالي :

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، التي هي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه، لما في هذا البيع من الضرر، ولما فيه من الجهالة بتساوي المبيعين المفضية إلى الربا وقد ضربت لها أمثلة توضحها وتبينها.

وذلك، كأن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا، بتمر كيلا، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلا. أو زرعاً، أن يبيعه بكيل طعام من جنسه، نهى عن ذلك كله، لما فيه من المفاسد، والأضرار.

الاختلاف في معنى المزابنة:

أجمع العلماء على أن هذه الصورة المذكورة في الحديث مزابنة.

ولكن الإمام الشافعي، جعل هذه الصور، أصل المزابنة، وألحق بها كل بيع مجهول بمجهول، أو بمعلوم يجرى فيه الربا، بناء منه على أن تفاسير المزابنة في أحاديثها، مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وعلى فرض أنها تفاسير رواتها من الصحابة، فهم أعلم بما رووا، فقولهم مقدَّمٌ على قول غيرهم.

أما الإمام مالك، فمعنى المزابنة عنده، أنها بيع كل شيء، لا يعلم كيله، أو وزنه، أو عدده، بشيء من جنسه. سواء أكان ربوياً أم غيره، لأن سبب النهى، ما فيه من المخاطرة.

وقد رجع في تفسيرها إلى أصلها اللغوي، وقد تقدمت الإشارة إليه في  [ الغريب ].

ويترجح- عندي- تفسير مالك، لأنه جامع لكثير من المنهيات تحت أصل واحد.

وأما التفاسير المذكورة، فلا تنافي، لأن عادة السلف، اً نهم يفسرون الشيء بمثاله، وهو جزء منه. ولا يريدون به حصره في هذا النوع، وإنما يريدون به المثال.

 ما يؤخذ من الحديث:

1- النهى عن المزابنة.

2- تعريفها بهذه الصور، التي توضح أصلها.

3- أن بيوعاتها فاسدة، لأن النهي يقتضي الفساد.

4- حكمة النهي عنها، ما فيها من المخاطرة والقمار، لأنها بيع معلوم بمجهول.  ولما فيها من بيع النوعين الربويين المجهولين، لأنه لابد في صحة بيعهما من العلم بالتساوي.  فأما مع الجهل بتساويهما، فهو مظنة الربا الراجحة، فيحرم.

5- فيه دليل على تحريم بيع الرطب بادر، لعدم العلم بالتساوي ولو تحرى في تساويهما، بل يدل على تحريم بيع كل نوعين ربويين، جهل تساويهما  إما لكونهما اختلفا في الرطوبة، أو اليبوسة، و إما لكون أحدهما حبا و الآخر طحيناً، أو أحدهما مطبوخا، والآخر نيئا ، أو غير ذلك مما لا يعلم معه التساوي بينهما.

 الحديث الرابع

عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّه رَضي اللّه عنهما قال: نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُخَابَرَةِ، والْمُحَاقَلَةِ، وَعِنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، وَأنْ لا تُبُاعَ إلا بِالدينَارِ وَالدِّرْهَمِ، إلا الْعَرايَا ".

المحاقلة:- بيع الحنطة في سنبلها.

الغريب:

المخابرة: على وزن المفاعلة، مأخوذة من " الخبار " وهي الأرض اللينة القابلة للزرع، أو من " الخبير " وهو من يحسن حرث الأرض.

المحاقلة: مأخوذة من " الحقل" وهو الزرع وموضعه، فاشتقت منه. والمراد بها- هنا- ييع الحنطة بسنبلها، بحنطة صافية من التبن. المزابنة، تقدمت، و" العرايا " : ويأتي الكلام عليها مفصلا في موضعه، إن شاء الله تعالى .

المعنى الإجمالي:

تقدم أن الأصل في المعاملات الحل والجواز، وأنها باقية على أصل الإباحة والبراءة الأصلية.

وما ورد عن الشارع الحكيم، من النهى عن بعض المعاملات التي يرجع إلى قاعدة الربا المحرمة المستقبحة شرعاً وعقلا وغير هاتين من قواعد الفساد الذي حاربه الشارع يشمله النهى من باب أولى.

ومن تلك المعاملات الراجعة إلى الجهالة وإلى الربا أيضا، المخابرة، والمحاقله، التي هي عبارة عن بيع الحب في سنبله، بحب من جنسه.

فهنا جهل أحد العوضين، لأنه مستور بأوراقه وتبنه، والجهل بذلك يوقعنا في ربا الفضل، لأن الجهل بالتماثل، كالعلم بالتفاضل في الحكم.

ومثل المحاقلة، المزابنة : التي هي بيع التمر على رؤوس النخل بتمر مثله .

فما يقال في الأول، يقال في هذا.

واستثنى من ذلك، مسألة " العرايا "  بشروطها، للحاجة إليها. وتأتي إن شاء الله تعالى.

كما نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، حفظا للحقوق ، ولئلا يأخذ البائع الثمن بلا مقابل ينتفع به المشترى.

ما يستفاد من الحديث:

1- النهى عن المخابرة، والمحاقلة، والمزابنة.

2- استثنى من المزابنة، العرايا، للحاجة.

3- النهى عن هذه. لما فيها من الجهل بتساوي العوضين، والجهل بذلك يفضي بنا إلى الربا.

4- من باب أولى يحرم البيع إذا علم التفاضل بين العوضين، الربويين من جنس واحد.

5- النهي عن بيع الثمر قبل بُدو صلاحه، لأمن العاهة.

الحديث الخامس

عَنْ أبي مَسْعُودٍ الأنصاري رَضىَ الله عَنْهُ: أنً رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، ومَهْرِ البَغِي، وَحُلْوانِ الْكَاهِنِ.

 الغريب:

مهر البغي: البغي : بفتح الباء الموحدة، وكسر الغين المعجمة، وتشديد الياء. وهو فعيل، بمعنى فاعلة، يعنى الباغية، والبغاء : الطلب، وكثرة استعماله في الفساد. ومهرها، ما تعطاه على الزنا، سمى مهراً، من باب التوسع.

حُلوان الكاهن: الحُلوان بضم الحاء، مصدر " حلوته " إذا أعطيته.

قال في فتح الباري : وأصله من " الحلاوة " شبه بالشيء الحلو، من حيث إنه يؤخذ سهلا بلا مشقة.

وأما الكاهن: فهو الذي يدعى علم الأشياء المغيبة المستقبلة. وفي معناه " العراف" و " المنجم " ونحوهما من المشعوذين والدجالين.

المعنى الإجمالي :

لطلب الرزق طرق كريمة شريفة طيبة، جعلها الله عوضا عن الرزق الخبيثة الدنيئة.

فلما كان في الطرق الأولى كفاية عن الثانية، ولما كانت مفاسد الثانية عظيمة لا يقابلها ما فيها من منفعة، حرم الشرع الطرق الخبيثة التي من جملتها، هذه المعاملات الثلاث.

1- بيع الكلب: فإنه خبيث رجس، ثمنه خبيث لا يحوز أكله واستحلاله.

2- وكذلك ما تأخذه الزانية مقابل فجورها، الذي به فساد الدين والدنيا.

3- ومثله ما يأخذه أهل الدجل والتضليل، ممن يدعون معرفة الغيب والتصرف في الكائنات، ويخيلون على الناس- بباطلهم- ليسلبوا أموالهم، فيأكلوها بالباطل.

كل هذه طرق خبيثة محرمة، لا يجوز فعلها، ولا تسليم العوض فيها، وقد أبدلها اللَه بطرق مباحة شريفة.

ما يستفاد من الحديث

1- النهى عن بيع الكلب، تحريم ثمنه، ولا فرق بين المعلم وغيره، وكلب الزرع والماضية وغيره، وإنما يجوز اقتناؤه فقط بهذه الأشياء الثلاثة.

2- تحريم البغاء وتحريم ما يؤخذ عليه، سواء كان من حُرَةٍ أو أمة ، فهو خبيث من عمل خبيث في جميع طرقه.

3- تحريم " الكهانة " ونحوها من العرافة، والتنجيم، وضرب الحصى، وتحضير الجن، وتحريم أخذ شيء على هذه الأعمال الخرافية الشيطانية.

4- من هذه المنهيات وغيرها، يعلم أن الشريعة نهى عن كل ما فيه مضرة وما يترتب عليه من مكاسب.

الحديث السادس

عَنْ رَافِعِ بْن خَديج: أنً رسُولَ اللَه صَلًى الله عَلَيْهِ وَسَلًمَ قَالَ : " ثَمَنُ الْكَلب خبيثٌ ، وَمَهْرُ الْبَغي خبِيثٌ ، وَكَسْبُ الَحجّام خَبِيثُ[141]

المعنى الإجمالي :

يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم المكاسب الخبيثة والدنيئة لتجنبها، إلى المكاسب الطيبة الشريفة. ومنها ثمن الكلب، وأجرة الزانية على زناها، وكسب الحجام، فهي مكاسب دنيئة كريهة سافلة، يجتنبها ذو الكرامة والمروءة.

ما يستفاد من الحديث:

1- النهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي ، واجتناب ما يؤدى إليهما.

2- النهى عن كسب الحجام، لأنها مهنه زرية، مخلة بالكرامة والشرف، فمكسبها خبيث.

3- قال شيخ الإسلام إذا عرف الحرام بعينه لم يؤكل حتما، وإن لم يعرف عينه لم يحرم الأكل منه، لكن إذا كثر الحرام يترك ورعا.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في كسب الحجام.

فذهبت طائفة من العلماء إلى أنه محرم لهذا الحديث ، ولما روى أبو هريرة من أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن كسب الحجام " رواه أحمد.

وروى أحمد أيضا عن مُحَيصَة بن مسعود: " أنه كان له غلام حجام، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم عن كسبه فقال: ألا أطعمه أيتاما لي ؟ قال: لا. قال: أفلا أتصدق به؟ قال: لا فرخص له أن يعلفه ناضحه "[142]

ذهب بعض العلماء: إلى أنه حلال، لأن أحاديث النهى منسوخة بإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم أجره، ولكن النسخ يحتاج إلى معرفة المتأخر من الأدلة. وأحسن ما يجمع به أدلة الفريقين، أن يقال: إن لفظ " الخبيث " كما يطلق على المحرم، يطلق أيضا على الشيء الرديء والكسب الدنيء ، كقوله تعالى: { ولا تَيَمّموا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقون } وسمى الشارع الثوم والبصل خبيثين . فتسمية كسب الحجام خبيثا من هذا الباب، لأنه مكسب دنيء ، من مهنة زرية.

والشارع يرغب في معالي الأمور، والمكاسب الطيبة الشريفة. فيكون كسب الحجام خبيثا من جانب الآخذ، مع أنه حلال له.

 باَب الْعرَايا[143]

هذا الباب يذكر فيه ما جاء في جواز بيع العارية- ويأتي تعريفها-: وهى مسألة مستثناة من تحريم "بيع المزابنة " الذي تقدم الكلام عليه في الحديث رقم [257] ، ويأتي توضيح ذلك وتوجيهه إن شاء الله تعالى.

الحديث الأول

عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ رَضي الله عَنْهُ: أن رَسولَ الله صَلًى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ رَخَصَ لصاَحب الْعَريَّةِ أنْ يَبيعَها بخَرْصِهَا.

ولـ " مسلم " بِخَرْصِهَا تمْراً، يَأكُلُونَهَا رُطباً.

الغريب:

العرية: فعيلة بمعنى مفعولة. وجمعها عرايا مثل مطية ومطايا. قال في مختار الصحاح : وإنما أدخلت فيها الهاء، لأنها أفردت فصارت في عداد الأسماء، كالنطيحة، والأكيلة. وسميت " عرية " لانفرادها بالرخصة عن أخواتها.

المعنى الإجمالي :

تقدم أن بيع التمر على رؤوس النخيل بتمر مثله محرم، لأنه بيع المزابنة

المنهي عنه، لما فيه من الجهل بتساوي النوعين الربويين.

وأشد حالاته إذا باعه على رؤوسه وهو رطب، بتمر جاف، فقد خفى تساويه من وجهتين 1:- كونهما بيعاً خرصا 2: - وكون أحدهما رطبا، والآخر جافاً، فهذا البيع أحد صور " ربا الفضل " .

كانت الأثمان قليلة في الزمن الأول، فيأتي الرطب في المدينة والتفكه به، والناس محتاجون إليه، وليس عند بعضهم ما يشترى به من النقود، فرخص لهم أن يشتروا مايتفكهون به من الرطب بالتمر الجاف ليأكلوها رطبة مراعين في ذلك تساويهما لو آلت ثمار النخل إلى الجفاف.

ما يستفاد من الحديث:

1- تحريم بيع التمر على النخل بتمر مثله، لأنه بيع المزابنة المنهي عنه، ومأخذه في هذا الحديث لفظ " رخص ".

2- جواز بيع العرية- وتقدم شرحها لغة وشرعا-: هو مستثنى من التحريم السابق في المزابنة.

3- أن الرخصة لمن احتاج إلى أكل الرطب خاصة.

4- أن يقدر الرطب على النخلة تمرا بقدر التمر الذي جعل ثمنا له.

فائدتان:

الأولى: تقدم التحريم في بيع المزابنة الذي هو إحدى صور الربا المحرم، واستثنى من هذا التحريم مسألة " العرايا " .

فلما جاءت على خلاف الأصل، اشترط العلماء للرخصة فيها شروطا ، بعضها مأخوذ من أحاديثها، وبعضها باق على أصل معاملة الربا.

1- أن تخرص النخلة بما تؤول إليه تمراً لطلب المماثلة.

2- أن تكون لمحتاج إلى الرطب ليأكله رطبا.

والمشهور من مذهبنا المنع في عكس هذه المسألة: وهو أن يشترى المحتاج إلى التمر برطبة تمراً وفى وجه يجوز ، لأنه إذا جاز لمن يريد التفكه بالرطب، فكيف لا يجوز لمن احتاج إلى التمر ليأكل؟!

3- أن لا يكون معه نقود يشترى بها.

4- أن يتقابضا قبل التفرق، فالتمر بكيله، والنخلة بتخليتها.

5- أن لا تزيد عن خمسة أوسق، ويأتي في الحديث الذي بعد هذا.

6- إذا اشترى اثنان فأكثر من الرطب لكل واحد خمسة أوسق من رجل واحد صح، ولو اشترى شخص من بائعين فأكثر خمسة أوسق صح أيضاً. أما إذا اشترى من اثنين فأكثر أزيد من خمسة أوسق فلا يصح.

الفائدة الثانية:

الجمهور من العلماء يقصرون الجواز على النخل خاصة، ورخص به طائفة من العلماء ومنهم شيخ الإسلام في سائر الثمار، لأن الرطب فاكهة المدينة ولكل بلد فاكهة، والحكمة المرخصة موجودة فيها كلها، والرخصة عامة.

الحديث الثاني

عَنْ أبي هريرةَ رَضي الله عَنْهُ: أنَ النبي صَلى الله عَلَيْهِ وَسلمَ رَخَّصَ في بَيْع العَرَايَا في خَمْسَةِ أوْسُق ، أو دون خَمْسَةِ أوْسقٍ .

المعنى الإجمالي :

لما كانت مسألة "العرايا" مباحة للحاجة من أصل محرم، اقتصر على القدر المحتاج إليه غالباً، فرخص فيما قدره خمسة أوسق فقط أو ما دون ذلك، لأنه في هذا القدر تحصل الكفاية للتفكه بالرطب.

ما يستفاد من الحديث:

1- الرخصة في بيع العرايا للحاجة إلى التفكه بالرطب.

2- أن تكون الرخصة بقدر الكفاية، لأن الرخصة لا يتجاوز بها قدر الحاجة.

3- الوسق بسكون السين- ستون صاعا نبويا ، فيكون ثلاثمائة صاع. وتقدم أن الصاع النبوي، ينقص عن صاعنا الحاضر (وكيلتنا) الخمس وخمس الخمس، وهذا هو الحد الأعلى للجواز.

اختلاف العلماء:

ذهب كثير من العلماء، ومنهم الشافعية والحنابلة والظاهرية: إلى أنه لا يجوز بيع العرايا إلا فيما دون خمسة أوسق ، لأن الأصل التحريم، وبيع العرايا رخصة، فيؤخذ بما يتحقق فيه الجواز ، ويلغى الشك الذي وقع في الحديث [ خمسة أوسق أو دون خسة أوسق] وهو شك وقع لأحد رواة الحديث. وهو داود بن الحصين، فلذلك جوزنا " دون خمسة أوسق " لأنه متفق عليها ومنعنا " الخمسة " للشك فيها. والأصل التحريم للنهى عن المزابنة.

وذهب بعضهم- ومنهم المالكية- إلى الجواز في الخمسة عملا برواية الشك، وبما روى عن سهل بن أبي حَثْمة [ أن العرية ثلاثة أوسق أو أربعة أو خمسة] وهو رواية عن الإمام أحمد، نظر فيها إلى عموم الرخصة، فلا يضر الشك في الزيادة القليلة، واختارها شيخنا " عبد الرحمن آل سعدي " رحمه الله تعالى.

باب بيع النخل بعد التأبير

 الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عُمَرَ رَضي اللّه عَنْهُما: أن رَسولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَنْ بَاعَ نَخْلا قَدْ أبرت فَثَمَرَتُهَا للْبَائِع، إلا أنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ"

ولـ " مسلم "[144] و" مَنْ ابتَاعَ عَبْدا فَمَالُهُ للَّذِي بَاعَهُ إلا أن يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ".

الغريب:

أبرت: بتخفيف الباء وتشديدها.

فالأول : أبرت النخل أبراً، بوزن أكلت أكلا.

والثاني : أبرت النخل تأبيراً، بوزن علمته أعلمه تعليماً.

والتأبير:التلقيح، وهو وضع شيء من طلع ذكر النخل، في طلع إناثه.

المبتاع: هو المشترى، بقرينة الإشارة إلى البائع ويأتي اللفظ للبائع والمشترى، فهو من الأضداد.

المعنى الإجمالي:

أول العمل في ثمرة النخل هو تلقيحه، ولهذا فإن الشارع أناط به الحكم. فمن باع أصول نخل، فإن كانت الثمرة مؤبرة قد عمل بها صاحبها واستشرفت نفسه لها، فهي للبائع مبقاة على أصولها إلى أوان جذاذها. وإن لم تؤبر فهي داخلة في بيع الأصول، فتكون للمشترى. هذا ما لم يشترط المشترى في الصورة الأولى، دخول الثمرة أو بعضها في البيع، أو يستثنى البائع الثمرة أو بعضها في الصورة الثانية، فتكون باقية على أصولها إلى أوان جذاذها، لاًن المسلمين على شروطهم الصحيحة، وهذا منها. وكذلك العبد الذي جعل سيده بيده مالا، فإن باعه فماله لسيده الذي باعه لأن العقد لا يتناوله، إلا أن يشترطه المشترى، أو يشترط بعضه، فيدخل في البيع.. ولو كان المال الذي معه مما يجرى فيه الربا مع الثمن فإنه جائز لأنه تابع غير مقصود لذاته والتابع لا حكم له، لأنه في حكم المتبوع.

ما يؤخذ من الحديث:

1- أن من باع نخلا قد أُبّر، فثمرته للبائع، وهذا منطوق الحديث.

2- أن من باع نخلا لم يؤبر، فثمرته للمشترى، وهذا مفهوم الحديث.

3- إن استثنى البائع الثمرة التي لم تؤبر، أو بعضها فهي له بشرطه.

4- إن اشرط المشترى دخول الثمرة المؤبرة بالعقد، فهي له بشرطه.

5- صحة اشتراط بعض الثمرة مأخوذ من حذف المفعول به من قوله [ إلا أن يشترط المبتاع ] ، فهو صادق عليه كله، وعلى بعضه.

6- إن كان بعض ثمره مؤبرا ، وبعضه غير مؤبر، فالصحيح أن لكل حكمه، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدماً. إلا إذا كان التأبير في نخلة واحدة فتكون كل ثمرتها للبائع، لأن باقيها تبع لأولها.

7- ألحق الفقهاء بالبيع جميع التصرفات: كأن يكون النخل عوض صلح. أو صداقا، أو جعله صاحبه أجرة، أو هبة أو غير ذلك مما فيه نقل الملك .

8- دخول الثمرة في البيع إذا اشتريت قبل التأبير ، أو اشترطها المشترى وهي مؤبرة ، يُعَدّ بيعاً للثمر قبل بُدُو صلاحه، لكن رخص فيه لأنه تابع

لأصله. ليس مستقلا. والقاعدة العامة " يثبت تبعاً، ما لا يثبت استقلالا " وهذه الصورة منها وبهذا يجمع بين النصين.

9- أن من باع عبداً، وقد جعل بين يديه مالا يتصرف به، فالمال للبائع إلا أن يشترطه المشترى مع الصفقة، أو يشترط بعضه، فيدخل مع المبيع. وحينئذ يشترط فيه ما يشترط غيره من المبيعات.

10- لا يضر أن يكون مع العبد المبيع ما يدخله الربا مع الثمن، كأن يتبعه فضة والثمن ريالات فضية، لأنه تابع.

11- قال شيخ الإسلام: بيع الزرع بشرط التبقية لا يجوز باتفاق العلماء. وإن اشتراه بشرط القطع جاز بالاتفاق. وإن باعه مطلقا لم يجز عند جماهير العلماء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد.

 بَابُ نهي المشتري عن بيع الطعام قبل قبضه

 الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  قال:

" مَنِ ابتاعَ طَعَاماً فَلا يَبِعْهُ حَتَى يَسْتَوْفِيَهُ ".

وفي لفظ: " حَتَّى يَقْبِضَهُ " وعن ابن عباس.. مثله.

الغريب:

من ابتاع : يعنى من اشترى. طعاماً- لغة- كل مطعوم، من مأكول ومشروب . وفي الصدر الأول، إذا أطلق الطعام في الحجاز، انصرف إلى الْبُر خاصة.

المعنى الإجمالي :

لما كان قبض الطعام من متممات العقد، ومكملات الملك، نهى الشارع الحكيم، المشترى عن بيعه حتى يقبضه ويستوفيه، ويكون تحت يده وتصرفه،

لأنه- قبل القبض- عرضة للتلف في ضمان البائع، ولأن العقد عليه قبل القبض، ربما سبب فسخ العقد الأول.

فاٍن كان بخسارة، حاول المشترى الفسخ، وإن كان بربح، حاوله البائع.

ما يستفاد من الحديث:

1- النهى عن بيع الطعام قبل قبضه.

2- في لفظ [ حتى يستوفيه ] ما يشعر بأنه خاص بما يحتاج إلى حق توفية، وهو المكيل والموزون.

وفي لفظ [ حتى يقبض ] ما يفيد عموم النهي عن البيع، في الجزاف والمكيل ، والموزون، ويأتي الخلاف في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

3- جواز بيعه بعد القبض والاستيفاء.

4- النهى ورد في الحديث بالتصرف فيه بالبيع، ولكن ألحق كثير من العلماء- ومنهم الشافعية، والحنابلة- بعض عقود تدخل تحت مسمى البيع، أو تكون وسيلة إليه كالإجارة، والهبة على عوض، والرهن، والحوالة.

5- أما ماعدا البيع وما يجرى مجراه، فيجوز التصرف فيه، لأنها عقود يتسامح فيها بالغرر اليسير، ولأنها لم تقصد للربح فمحذور محاولة فسخ العقد المشار إليها خفية.

اختلاف العلماء:

ذهبت الحنفية والشافعية، إلى المنع من بيع أي شيء قبل قبضه، وهو رواية قوية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه " ابن عقيل " والشيخ تقي الدين. وقال الشيخ: وعليه تدل أصول أحمد، واختارها " ابن القيم " وصححها، وذكر أن أحاديثها لا تنافي أحاديث الطعام، وأطال القول فيها. لكن الحنفية استثنوا بيع العقار، فيجوز- عندهم- ولو قبل قبضه.

وذهبت المالكية في المشهور عنهم، إلى منع ما بيع من الطعام بالكيل والوزن خاصة.

وذهبت الحنابلة، في المشهور من مذهبهم: إلى منع ما بيع بكيل، أو وزن أو عد ، أو بصفة، أو رؤية متقدمة للعقد. ولا فرق في ذلك بين المطعوم وغيره. وذهب بعض المالكية إلى اختصاص ذلك بالمطعوم، ويستوي في ذلك أن يكون جزافا، أو مكيلا، أو موزوناً أو غيرها.

وفي هذا القدر من البيع تجتمع آراء جميع العلماء، ولم ينفرد من فقهاء المذاهب إلا المتقيدون بمشهور مذهب الحنابلة، الذين قصروا المنع على المبيع بالكيل أو الوزن، أو العد، أو الذرع[145]، مع أنه- هنا- رواية عن الإمام أحمد منع بيع الطعام مطلقاً. مشى عليها " الخِرَقي " وصاحب المغنى، وشارح المقنع.

أدلة هذه الأقوال:

استدل الحنفية والشافعية ومن وافقهم، بما رواه أحمد، والنسائي، عن حكيم ابن حزام قال: "  قُلْتُ: يَا رَسولَ الله، إني اشتَرِى بيوعا ، فَما يَحِل لي منهَا وَمَا يَحرُمُ؟  فقال: إذا اشتريت بيعاً فلا تبْعهُ حَتى تقْبِضَهُ "  وفي إسناده مقال للعلماء.

وما رواه أبو داود، والدارقطنى، وصححه الحاكم، وابن حبان، عن زيد بن ثابت: " أن النَبي صلى الله عليه وسلم  نَهَى أن تباع السلَعُ حَيْث تُبتاع حَتى يَحُوزَها التجارُ إلَى رِحَالِهِم " ، وظاهر هذين الحديثين ، عامُ في كل مبيع.

واستدل المالكية، الذين يرون أن المنع في مكيل الطعام وموزونه، بما رواه" مسلمِ " و " أحمد " عن جابر قال: " قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : إذَا ابتعْتَ طَعَامَا فَلا تَبِعْه حَتَى تَستوْفِيَهُ ". والاستيفاء، إنما يكون في الكيل أو الوزن.

ومثله في " مسلم " و  " أحمد " أيضا عن أبى هريرة:  " نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : أنْ يُشْتَرى الطَّعَامُ ثُمً يُبَاع حَتَّى يُسْتَوْفَى " .

ولـ" مسلم " : ثم أنَ النبِي صلى الله عليه وسلم  قَالَ: "مَنِ اشْترَى طَعَاماً فَلا يَبعْهُ حَتًى يَكْتَالَهُ ".

أما الذين لا يفرقون في المطعوم، بين الجزاف وغيرِه، فيستدلون، بما رواه " البخاري، و " مسلم " و  " أبو داود " و  " النسائي " عن ابن عمر قال :

" كانُوا يَبْتَاعُونَ الطعَامَ جُزَافاً بأعْلَى السُّوق فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم  أن يَبِيعُوهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ ".

وفي أحد ألفاظ هذا الحديث:  " مَن ابتاعَ طَعَاماً فَلا يَبِعْهُ حتَى يَقْبِضَهُ " .

وهذه أحاديث تعُمُّ الجزاف وغيره، مع أن حديث ابن عمر، نص صريح بالجزاف.

وهذه الأدلة لا تنافي حديثي ابن عمر، وأبي هريرة، اللذين استدل بهما المالكية، لأن ثبوت وجوب القبض في المكيل والموزون، لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره.

وأدلة هاتين الطائفتين تدل- بمفهومها- على اختصاص منع البيع في الطعام سواء أكان مكيلا أم موزوناً، كما هو مذهب المالكية، أو هما والجزاف أيضاً،كما هو مذهب الذين بعدهم،: لكنه  " مفهوم لقب " وليس بحجة، ولو فرضنا مجيئه، فإنه لا يقاوم منطوق الأحاديث التي استدل بها الحنفية والشافعية.

أما أدلة المشهور من مذهب الحنابلة، فهي مفاهيم أحاديث الطعام، أيضا ، لأنها نصَّتْ عليه، فدل على أن هذا الحكم مقصور على الطعام، وأن قصره على ما يباع بالكيل والوزن، لأنه هو الجاري- غالباً- في بيعه.

ولما روى عن ابن عمر " مَضَتِ السنةُ أن مَا أدرَكهُ الصفْقَةُ حَبا مَجْمُوعا فَهُوَ مِنْ مَال المُبتاعِ " رَواه البخاري تعليقا والمبتاع، هو المشترى.

ثم عَدَّوِا هذا الحكم، إلى كل ما يحتاج إلى حق توفية، مما يبيع بكيل، أو وزن، أو عَدد أو ذرْع، أو بيع بصفة، أو رؤية متقدمة على العقد، لأن هذا كله يحتاج إلى حق توفية.

فائدتان:

الأولى: فقهاء المذاهب يجعلون ضمان التلف في الآفة السماوية-: هي مالا صُنْع لآدمي فيها، كالحر، والبرد، والجراد، ونحو ذلك من الحوادث. فما يصح عندهم تَصرفُ المشترى فيه قبل القبض بالبيع، يكون ضمانه عليه، إذا تلف أو تعيّب. وما لا يصح تصرفه فيه، فمن ضمان البائع على حسب اختلافهم المتقدم في ذلك.

الثانية: في صفة قبض المبيعات: يحصل قبض ما يبيع بكيل، بكيله. وما بيع بوزن، بوزنه. وما بيع بعد بعده. وما بيع بذرع بذرعه. وما ينقل بنقله، وما يتناول بتناوله.

والعقار والثمر على الشجر، بتخليته ، بأن يرفع البائع يده ويضعها المشترى.

 بَابُ تحْريم بَيْع الخبائث

من صفات النبي صلى الله عليه وسلم  في الكتب السابقة وعلى ألسنة الأنبياء عليم الصلاة والسلام: أنه الذي يحل الطيبات، ويحرم الخبائث.

وهذا تشريع عام في المآكل والمشارب، والملابس، والعادات وغير ذلك.

وهذه قاعدة كبيرة تحافظ على كل طيب، وتنفي كل خبيث، كما أنها معتمد لكل ما جدّ وطرأ، ليقاس بمقياسها الصحيح.

وهذا من كمال هذه الشريعة، ومن عناصر البقاء والخلود فيها.

وتأمل الحديث الآتي تجدْ أن المحرمات فيه عُددَتْ، إشارة إلى أنها نماذج لما يفسد الأديان، والأبدان، والعقول. فيراد بذكرها، التنبيه على أنواعها وأشباهها. والله حكيم عليم.

 الحديث الأول

عَنْ جَابرِ رَضَ الله عَنْهُ: أنَهُ سَمِعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم  يقُول عَامَ الفَتْح: " إن الله وَرَسُولَهُ حَرمَ بيعَ الخَمر، وَالمَيتَةِ، وَالخِنزِير ، والأصنام "  .

فقيل: يَا رَسُول الله، أرَأيْتَ شحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإنَّهَا يُطْلَى بِهَا السَّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبحُ بِهَا النَّاسُ؟.

فقال: " لَا. هُوَ حَرَام ".

ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللّه على عنْدَ ذلِكَ: " قَاتَلَ اللّه الْيَهُودَ، إنَّ الله لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوه فَأكلُوا ثَمَنَهُ ". جَمَلُوهُ: أذَابُوهُ.

الغريب:

عام الفتح: هو فتح مكة، وكان في السنة الثامنة من الهجرة في شهر رمضان.

حرَّم: بإعادة الضمير إلى الواحد، تأدباً مع الله تعالت عظمته، وتفرد بالإجلال.

الميتة: بفتح الميم، ما ماتت حتف أنفها، أو ذُكتْ ذكاة غير شرعية.

الأصنام: مفرده " صنم " وهو " الوثن " المتخذ من الأحجار وغيرها، على هيئة مخصوصة للعبادة.

أرأيت شحوم الميتة: أخبرني عن حكم بيع شحوم الميتة : فهل يحل مع وجود هذه المنافع فيها؟.

يستصبح بها الناس: أي يستضيئون به، حين يجعلونه في المصابيح وهي السرج. هو حرام: الضمير يعود على البيع .

قاتل الله اليهود: لعنهم الله، لما ارتكبوه من هذه الحيلة الباطلة. وفيه تنبيه على علة تحريم بيع هذه الأشياء.

جملوه: بفتح الجيم والميم المخففة. أي أذابوه. و " الجميل " الشحم المذاب.

المعنى الإجمالي :

جاءت هذه الشريعة الإسلامية السامية، بكل ما فيه صلاح للبشر، وحذّرت من كل ما فيه مضرة تعود على العقول والأبدان والأديان.

فأباحت الطيبات- وهى أغلب ما خلق الله في الأرض لنا. وحرمت الخبائث.

ومن تلك الخبائث المحرمة هذه الأشياء الأربعة المعدودة في هذا الحديث. فكل واحدا منها يشار به إلى نوع من المضار.

فالخمر- وهي كل ما أسكر وخامر العقل- هي أم الخبائث، التي بها تزول عن الإنسان نعمة العقل التي كرَّمهْ الله بها.

ويأتي في حال سكره ولهوه بأنواع المنكرات والعظائم، وإشاعة العداوة والبغضاء بين المسلمين، والصد عن الخير وعن ذكر الله .

ثم ذكر الميتة، التي لم تمت- غالباً- إلا بعد أن تسممت بالمكروبات والأمراض أو احتقن دمها في لحمها، فأفسده، فأكلها مضرة كبيرة على البدن، وهدم للصحة. ومع هذا، فهي جيفة خبيثة نتنة نجسة، تعافها النفوس، ولو أكلت مع إكراهها والتقزز منها، لصارت مرضاً على مرض، وبلاء مع بلاء.

ثم ذكر أخبث الحيوانات وأكرهها وأبشعها، وهو الخنزير الذي يحتوى على أمراض وميكروبات، لا تكاد النار تقتلها وتزيلها. فضرره عظيم، ومفاسده متعددة، ومع هذا فهو قذر نجس.

ثم ذكر ما فيه الضرر أكبر والمفسدة العظمى، وهى الأصنام التي هي ضلال البشرية وفتنتهم، وهي التي بها حورب الله تعالى وأشركت في عبادته وحقه على خلقه، فهي مصدر الضلال، ومحط الفتنة.

وما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب إلا لمحاربتها، وإنقاذ الناس من شرها. فكم فتن بها من خلائق، وكم ضل بها من أمم، وكم استوْجبَتْ النار بها.

فهذه الخبائث، عناوين المفاسد والمضار، التي تعود على العقل والبدن والدين.

فهي أمثلة لاجتناب كل خبيث، وصيانة لما يفسد العقول والأبدان والأديان. فاجتنابها وقاية من أنواع المفاسد.

ما يستفاد من الحديث:

1- تحريم بيع الخمر وعمله وما يعينها عليه وشربه، أو التداوي به.

ويدخل في مسمى الخمر، كل مسكر، سائلا أو جامداَ أُخذَ من أي شيء ، سواء أكان من عنب، أم تمر أم شعير، ومثله الحشيش ، والأفيون، والدخان، والقات، فكلها خبائث محرمة.

2- حرمت لما فيها من المضار الكبيرة والمفاسد العظيمة على العقل، والدين، والبدن، والمال، وما تجره من الشرور والعداوات والجنايات، إلى غير ذلك من مفاسد لا تخفى.

3- تحريم الميتة، لحمها، وشحمها، ودمها، وعصبها، وكل ما تسري الحياة فيه من أجزائها.

وحُرمت، لما فيها من المضرة على البدن، ولما. فيها من الخبث والقذارة والنجاسة، فهي كريهة خبيثة، ومن أجل هذه المضار وانتفاء المصالح ، حَرُمَ بيعها.

4- استثنى جمهور العلماء، الشعر، والوبر، والصوف، والريش من الميتة، لأنه ليس له صلة بها ولا تحله الحياة، فلا يكسب من خبثها.

أما جلدها، فهو نجس قبل الدبغ، لكن بعد أن يدبغ دبغا جيدا ، ويزيل الدباغ فضلاته الخبيثة، فإنه يحل ويطهر عند الجمهور. وبعضهم يقصر استعماله على اليابسات.

والأول أولى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: " يطهره الماء والقرَظ[146] "

5- تحريم بيع الخنزير:- ويحرم أكله وملامسته وقربه، فهو من الخبائث التي هي مفسدة محضة، لا مصلحة فيها، فضرره على البدن والعقل عظيم، لأنه يسمم الجسد بأمراضه، ويورث آكله من طباعه الخبيثة، وهو مشاهد في الأمم التي تأكله، فقد عرفوا بالبرودة.

6- تحريم بيع الأصنام، لما تجره من شر كبير على العقل، والدين ، باتخاذها وترويجها، محادة لله تعالى.

ومن ذلك الصليب، الذي هو شعار النصارى. والتماثيل التي تصنع للزعماء والوزراء.

ومنها أيضا هذه الصور التي تظهر في المجلات والصحف وغطها، لا سيما الصور الخليعة العارية الماجنة، التي فتنت الشباب وأثارت غرائزهم الجنسية.

ومنها الأفلام السينمائية، خصوصا المناظر الماجنة السافرة عن الدعارة و الفجور.

فهذه كلها شر لا خير فيه، ومفسدة لا مصلحة فيها، ولكن ألف الناس المنكر، حتى صار معروفا. فالله المستعان.

7- أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. لا سيما إذا كانت المفاسد أرجح من المصالح.

فإن مصالح شحوم الميتة، لم تبح بيعها، والمعاملة به، ولذا- لما عددوا له منافعها، لعلها تسوغ بيعها- قال: لا، هو حرام.

8- استعمال النجاسة على وجه لا يتعدى لا بأس به، فإنه لم ينههم عنه لما أعلموه به.

والضمير في قوله: " هو حرام " راجع إلى البيع، لا إلى الاستعمال.

9- أن التحيل على محارم الله، سبب لغضبه  ولعنه، فإن من يأتي الأمر، عالما تحريمه، أخف ممن يأتيه متذرعاً إليه بالحيل.

لأن الأول معترف بالاعتداء على حدود الله ويرج له الرجوع والاستغفار.

وأما الثاني، فهو مخادع لله تعالى، وبحيلته هذه سيصر على آثامه، فلا يتوب، فيكون محجوبا عن الله تعالى.

10- أن الحيل هي سنة اليهود، المغضوب عليهم.

11- أن حبهم للمادة قديم، حملهم على الحيل ونقض العهود وغشيان المحرمات، ولا يزالون في غيهم يعمهون ، شتت الله شملهم .

قلما ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم  تحريم هذه الأشياء، ذكروا له منافع في شحم الميتة يأتونها، لعله يستثنى تحريمها من هذه الأشياء المحرمة، لهذه المنافع المقصودة ، فقال: لا تبيعوها فإن بيعها حرام، لا تسوغه هذه المنافع. ولم ينههم عن استعمالها فيما ذكروه.

ثم من كان رأفته ونصحه بأمته، حذرهم مما وقع فيه اليهود من استحلال المحرمات بالحيل الدنيئة السافرة، لئلا يقعوا مثلهم فيما يشبهها، فدعا على اليهود باللعن ليشعر أمته عظيم جريمتهم بارتكاب الحيل.

وبين لهم أنه تعالى لما حرم على اليهود الشحوم، عمدوا- من مخادعتهم الله تعالى وعبادتهم للمادة- إلى أن أذابوا الشحم المحرم عليهم كله وباعوه، وأكلوا ثمنه، وزعموا بهذا، أنهم لم ارتكبوا معصية، فهم لم يأكلوا الشحم، وإنما أكلوا ثمن الشحم، وهذا هو التلاعب بأوامر الله تعالى ونواهيه، والاستخفاف بأحكامه وحدوده.

ولقد أصابنا ما أصابهم من ارتكاب الحيل، ومخادعة الله تعالى، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم : " لَتَركبُن سنن مَنْ كَان قبلكُم حَذوَ القُذةِ يالقُذةِ[147].  حَتى لَو دخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلتُمُوهُ " فالله المستعان.

ونسأل الله تعالى العصمة والهداية، وأن يرينا الحق حقا وارزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

12- تحريم الحيل، وأنها لا تغير الحقائق، ولو سميت الأشياء بغير أسمائها وأزيلت بعض صفاتها.

13- أن الشرع جاء. بكل ما فيه الخير والحذر من كل ما فيه شر أو رجح شره على خيره.

14- أن المحرمات المعدودة في الحديث نماذج لأنواع الخبائث المحرمة، التي يعود ضررها على الدين، أو العقل، أو البدن، أو الطباع والأخلاق.

فكأن هذا الحديث سيق لبيان أنواع الخبائث[148].

 بابُ السَّلَم

السلم:- هو السلف، وزنا ومعنى، وسمى سلما، لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفا، لتقديمه.

وتعريفه شرعا: عقد على موصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد. وبهذا التعريف يعلم أنه نوع من البيع.

والأصل في جوازه، الكتاب، والسنة، والإجماعِ، والقياس الصحيح. فأما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أيهَا الذي آمَنُوا إذا تداينتم بدين إلَى أجَل مُسَمى فَاكْتُبُوهُ } قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مُسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية.

وأما السنة، فمنها حديث الباب الآتي. وإما الإجماع، فلم ينقل عن أحد من العلماء منعه. قال الشافعي: أجمعت الأمة على جواز السلم فيما علمت.

وهو على وفق القياس والمصلحة للبائع والمشترى.

فالبائع ينتفع بشراء السلعة بأقل من قيمتها حاضرة. والمشترى ينتفع بتوسعه بالثمن. وقد اشترطت فيه الشروط، التي تحقق فيه المصلحة، وتبعده عن الضرر والغرر. حيث شرط قبض الثمن بالمجلس لتحصل الفائدة من التوسعة، وشرطه العلم بالعوضين والأجل، وضبط المسلم فيه بمعايير الشرعية، لإبعاد النزاع والمخاصمات. ولا فرق بين تأجيل الثمن وتأجيل المثمن، فكلاهما وفق القياس والمصلحة، والشرع لا يأتي إلا بالخير.

وقد ظن بعض العلماء خروجه عن القياس، وعدوه من " باب بيع ما ليس عندك " المنهي عنه في حديث حكيم بن حزام، وليس منه في شيء.

فإن حديث حكيم يحمل على بيع عين معينة ليست في ملكه، وإنما ليشتريها من صاحبها فيعطيها المشترى، فهذا غرر، وعقد على غير مقدور عليه.

أو يحمل على السلم، الذي يظن المسلم أنه لا يتمكن من تحصيله وقت حلول الأجل.

فأما السلم الذي استوفى شروطه، فليس من الحديث في شيء ، لأن متعلقه الذمم لا الأعيان. فهو على وفق القياس. والحاجة داعية إليه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم  أن ثلاثا فيهن البركة، ذكر منها [ البيع إلى أجل] والسلم منه.

 الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عَبَّاسِ رَضىَ اللّه عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللّه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ الْمَدِينة وَهمْ يُسْلِفون في الثّمَارِ السنةَ والسنتين وَ ا لثَّلاثَ.

فقال: " مَنْ أسلَفَ في شَيءٍ فَلْيُسْلِفْ في كَيْل مَعْلُوم، وَوَزْنٍ مَعْلُوم، إلَى أجل مَعْلُوم ".

المعنى الإجمالي:

قدم النبي صلى الله عليه وسلم  مهاجرا، فوجد أهل المدينة- لأنهم أهل زروع وثمار- يسلفون. وذلك بأن يقدموا الثمن ويؤجلوا المثمن في الثمار، مدة سنة، أو سنتين، أو ثلاث سنين، فأقرهم صلى الله عليه وسلم على هذه المعاملة ولم يجعلها من باب بيع ما ليس عند البائع المفضي إلى الغرر، لأن السلف متعلقه الذمم لا الأعيان. ولكن بين صلى الله عليه وسلم لهم في المعاملة أحكاما تبعدهم عن المنازعات والمخاصمات التي ربما يجرها طول المدة في الأجل فقال: من أسلف في شيء فليضبط قدره بمكياله وميزانه، الشرعيين المعلومين، وليربطه بأجل معلوم، حتى إذا عرف قدره وأجله، انقطعت الخصومة والمشاجرة، واستوفى المشترى حقه بسلام.

ما يستفاد من الحديث:

يشترط في السلم ما يشترط في البيع، لأنه أحد أنواعه.

فلابد أن يكون العقد من جائز التصرف، مالك للمعقود عليه، أو مأذون

له فيه، ولابد فيه من الرضا، وأن يكون المسلم فيه مما يصح بيعه، ولابد فيه من القدرة عليه وقت حلوله، وأن يكون الثمن والمثمن معلومين.

ويزيد السلم على هذه الشروط شروطاً ترجع إلى زيادة ضبطه وتحريره، لئلا تفضي المعاملة إلى الشجار والمخاصمة ، ونأخذ أهم هذه الشروط من الحديث الذي معنا.

1- أن يبين قدر المسلم فيه بمكياله أو ميزانه الشرعيين، إن كان مكيلا أو موزوناً، أو بذرعه، إن كان مما يُذْرَعُ، أو بِعَدّهِ إن كان مما يُعَد، ولا يختلف المعدود بالكبر أو الصغر أو غيرهما، اختلافاً ظاهراً.

2- أن يكون مؤجلا، ولابد في الأجل أن يكون معلوما، فلا يصح حالاُّ، ولا إلى أجل مجهول.

3- أن يقبض الثمن بمجلس العقد، وهذا مأخوذ من قوله: "فَلْيُسْلِفْ " لأن السلف هو البيع، الذي عُجلَ ثمنه وأجلِ مثمنه.

4- أن يسلم في الذمة لا في الأعيان، وهذا هو الذي سوَغ العقد، وإن كان وفاؤه من شيء غير موجود عند البائع، وإنما يستوفى من ثمار أو زروع لم توجد وقت العقد.

وبهذا تبين أن السلم لم يتناوله النهى في قوله " ولا تبع ما ليس عندك " وأن العقد عليه وفق القياس. هذه أهم شروطه المعتبرة.

وقد شدد فيه بعض الفقهاء بذكر قيود وحدود، ليس عليها دليل واضح .

 بَابُ الشروط في البَيْع

والأصل في الشروط، الصحة، والتزامها لمن شرطت عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:  " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إلا شَرْطاً أحَلَّ حَرَاماً أوْ حَرّمَ حَلالا ".

 الحديث الأول

عَنْ عَائِشَةَ رَضِ اللّه عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْني بَريرةُ فَقَالَت:  كاتَبْتُ أهلي عَلَى تِسْعِ أوَاقٍ . في كُل عَام أوقيةٌ ، فَأعِينِيِي.

فَقُلْتُ: إنْ أحَبَّ أهْلُكِ أنْ أعُدّهَا لَهُمْ وَوَلاؤكِ لي، فَعَلْتُ.

 فَذَهَبَتْ بَرِيرَة إلى أهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأبَوْا علَيْهَا.

فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم  جَالِس.

فَقَالَتْ: إني عَرَضْتُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأبَوْا إلا أنْ يَكُونَ لَهُم الْوَلاءُ.

فَأخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبي صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ: " خُذِيهَا واشتَرِطِي لَهُمُ الوَلاء، فَإنمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ ".

فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ. ثُم قَامَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم  فِي الناس. فَحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أمّا بَعْدُ، فَمَا بَال رِجَال يَشترِطُونَ شرُوطاً لَيسَتْ فِي كِتَابِ اللّه؟ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيسَ فِي كِتَاب الله فَهُوَ بَاطِل، وإن كانَ مِائَةَ شرْط. قَضَاءُ الله أحَق، وَشرْط الله أوْثقُ، وَإنَمَا الوَلاءُ لمَنْ أعْتَقَ.

الغريب:

كاتبت: مشتقة من الكتب، وهو الجمع، لأن نجوم أقساطها جمعت على العبد

أواق: الأوقية أربعون درهماً، وتقدم ضبطها بالعملة الحاضرة في الزكاة.

وولاؤك لي: الولاء، هو النصرة، لكن خص في الشرع بالعتق الذي هو تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق.

فما بال: حال.

في كتاب الله: أي في شرعه الذي كتبه على العباد وحكمه العام.

وإن كان مائة شرط: لم يقصد بالمائة التحديد، وإنما قصد التوكيد والمبالغة للعموم، ويدل على ذلك قوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، قضاء اللَه أحق وشرط الله أوثق " .

أحق وأوثق: جاءا على صيغة التفضيل وليسا علىٍ بابهما بمعنى أن في كل من  الجانبين حقاً ووثاقه ، وإنما جاءت الصيغتان مرادا بهما "أن قضاء اللَه هو الحق، وشرط الله هو القوى". فهما صفتان مشبهتان .

المعنى الإجمالي:

هذا حديث جليل عظيم، لما اشتمل عليه من الأحكام، ولما حوى من الفوائد.

ولقد أفرده بعض العلماء بالتصنيف، واستخرجوا منه ما يزيد على أربعمائة حكم وفائدة.

ونحن نجمل أهم الأحكام التي يدل عليها.

فملخص القصة، أن أمة لأحد بيوت أهل المدينة يقال لها (بريرة) كاتبت أهلها، بمعنى اشترت نفسها من سادتها بتسع أواق من فضة، تسلم لهم كل عام أوقية واحدة، وكانت تخدم عائشة، ولها بها صلة ومعرفة.

فجاءتها تستعينها على وفاء كتابتها لتخلص من الرق، لأن المكاتب رقيق، ما بقى عليه درهم واحد.

فمن رغبة عائشة رضى اللَه عنها في الخير، وكبير مساعدتها في طرق البر، قالت لبريرة : اذهبي إلى سادتك فأخبريهم أني مستعدة أن أدفع لهم أقساط كتابتهم مرة واحدة ليكون ولاؤك لي خالصاً.

فأخبرت بريرة سادتها بما قالته عائشة، فأبوا ذلك إلا أن يكون لهم الولاء، لينالوا به الفخر حينما انتسب إليهم الجارية وربما حصلوا به نفعا مادياَ، من إرث ونصرة وغيرهما.

فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم  باشتراطهم ، فقال: اشتريها منهم، واشترطي لهم الولاء ، فهذا اشتراط باطل لن ينفعهم، فإنما الولاء لمن أعتق.

وهم قد أقدموا على هذا الاشتراط طمعا في حطام الحياة الدنيا غير مبالين بالحدود والأحكام الشرعية. فاشترتها عائشة على هذا.

فقام النبي صلى الله عليه وسلم  فخطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه- كعادته في الأمور الهامة والخطب- ثم انتقل من الثناء على الله تعالى بقوله: " أما بعد " إلى زجر الناس عن الشروط المحرمة المخالفة لكتاب الله تعالى فقال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست من أحكام الله وشرعه، وإنما هي من دافع الطمع والجشع، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، مهما كثر وَأكد ووُثق، فإن قضاء اللَه تعالى أحق بالاتباع، لأنه الذي على وفق الحق والعدل، وهو يأتي بمصالح العباد ويدفع مضارهم، وشرط اللَه الذي ارتضاه لخلقه هو القوىُ، وما سواه واه ضعيف، وإنما الولاء لمن أعتق، وليس للبائع ولا لغيره .

ما يستفاد من الحديث:

1- مشروعية مكاتبة العبد، لأنها طريق إلى تخليصه من الرق وفك رقبته، خصوصاً مع قوة العبد على الكسب وصلاحه، وحسن تصرفه، ففيها أجر كبير. قال تعالى: {فَكاتبوهم إنْ عَلِمتُم فيهم خَيْراً } .

2- أن الكتابة تكون مؤجلة على أقساط يدفعها العبد شيئا فشيئا.

لأنه حين عقد الكتابة- لا يملك شيئا، فصار التأجيل فيها لازما، ومن هنا أخذ بعض العلماء معناها.

3- جواز تعجيل تسليم الأقساط المؤجلة لتخليص المكاتب من الرق عاجلا، وهو مأخوذ من استعانة " بريرة " بعائشة على ذلك.

4- جاز بيع المكاتب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم  أذن لعائشة في شرائها، وبريرة لم تأت عائشة إلا لطلب العون.

وقد منعه بعض العلماء، ويحتاجون إلى جواب عن هذا الحديث، ولا جواب عندهم يكفي للعدول عنه.

وممن قال بجواز بيعه، الإمام أحمد رحمه الله تعالى

5- أن شرط الولاء في البيع باطل،لأن الولاء للمعتق لا للبائع، فهو لحمة كلحمة النسب، يعد نفعه على من أنعم على العتيق بالعتق، لا على من باعه وأحذ ثمنه، فهذا من تمام عدل الله في أحكامه. وأما البيع فصحت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يبطل العقد بما اشترطه أولياء بريرة على عائشة، وإنما أفاد أن الشرط باطل.

6- أخذ العلماء من هذا الحديث أن البائع إذا اشترط على المشترى عتق العبد الجميع فإن الشرط صحيح، ويجب على المشتري أن يعتقه فإن لم يفعل أعتقه الحاكم، لأن العتق حق الله تعالى، وهو متشوف إلى عتق الرقاب.

7- أشكل على العلماء إذْنُ النبي صلى الله عليه وسلم  لعائشة بشراء بريرة من أهلها، مع موافقتهم على اشتراط الولاء لهم وهو شرط باطل مع اتفاق العلماء على تكريم النبي صلى الله عليه وسلم عن قصد تغريرهم، فذهبت في تأويل ذلك مذاهب كثيرة .

وأحسنها أن يقال: إن سياق القصة يفهم منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم  قد بين هذا الحكم، وأن الولاء للمعتق لا لغيره . فأراد هؤلاء البائعون أن يشترطوا الولاء طمعاً به، لما يعود به عليهم من النفع.

ولعل الذي سوَّغ لهم الإقدام عليه ، أن عقد الكتابة قد تم، وقد سلم بعض نجومه.

فتوهموا أن هذا يُخَوّل لهم اشتراط الولاء ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم  غضب أن يُتَلاعَبَ بكتاب الله وأحكامه بأدنى الشبهِ.

فقام ووعظ الناس، وبين لهم أن كل شرط ليس في شرع الله، فهو باطل مهما كَثُرَ، ومهما أكد، لأن الخير والعدل في اتباع شرعه، والشر والظلم في الابتعاد عنه. وفقنا الله لاتباعه.

اعتراض : قد يرد على هذا التخريج فيقال: إذا كان هذا شرطا باطلا معلوم البطلان، قد غضب النبي صلى الله عليه وسلم  من اشتراطه، فكيف اشترطت عليهم عائشة أن الولاء لها؟.

ولعَل الجواب أن الحكم قد اشتبه عليها مع وجود الكتابة وتسليم بعض الأقساط، فأرادت أن تحتاط لنفسها باشتراط ما تظن أن الشارع ملكها إياه.

وحين أبوا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإبائهم ، فكان الغضب منصبا على الذين يريدون شرطا مخالفا لحكم الله ، مع أنه ربما كان قد وقع منهم بتأويل بعيد .

ولم أر هذا الاعتراض وجوابه لأحد ، فالله أعلم .

8- استحباب تبيين الأحكام عند المناسبات،وأن يكون في المجامع الحافلة.

9- افتتاح الخطب، بحمد الله، والثناء عليه، لتحل بها البركة، ولتكون أولى بالقبول، من إيرادها جافة.

10- استحباب إتيان الخطيب" أما بعد" لأنها  تشعر بانتقال الخطيب من موضوع إلى آخر، وتزيد الكلام حلاوة وطلاوة

11- أنه يراد بكتاب الله ، أحكامه وشرعه .

12- أن كل شرط لم يأذن الله به فهو باطل مردود، وإن كثرَ وأكدَ.

13- ليس المقصود بالمائة الشرط، التحديد فإن زيد عليها جازت الشروط.

وإنما المراد المبالغة والتعظيم كقوله تعالى في حق المنافقين الذين لن يغفر لهم { استغفرْ لَهم أولا تَستغفرْ لَهُم إنْ تَستغفِرْ لَهُم سَبْعِينَ مَرة فَلن يَغفِرَ الله لهُم }.

14- أن أقضية الله وأحكامه، وشروطه، وحدوده، هي المتبعة.

وما عداها فلا يتبع ولا يركن إليه، لأنه على خلاف الحق والعدل.

15- أن الولاء للمعتق خاصة، فهو لحمة كلحمة النسب، يحصل بها التوارث والتناصر والتقارب.

16- أن العتق سبب الولاء بأي طريق كان، سواء أكان لمكاتبة،أم لكفارة أم مقصودا به البر الإحسان.

17- أن الشروط التي على خلاف مقتضى العقد، فاسدة بنفسها، غير مفسدة للعقد. فإن عقد البيع يقتضي أن يكون الولاء للمشترى الذي أعتق، فشرط الولاء لغير المعتق خلاف مقتضى العقد، فيكون فاسدا.

ملخص من كلام ابن تيمية حول الشروط الصحيحة، والفاسدة :

ذكر رحمه الله أن الذي يمكن ضبطه منها قولان:

 أحدهما أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته، وهو قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا، كثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل. أما أهل الظاهر فلم يصححه لا عقداً ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع. وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي ألا يصح في العقود شروط يخالف مقتضاها في المطلق. والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثنى مواضع للدليل الخاص، وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي .

وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ويوسعون في الشروط أكثر منهم، لقولهم بالقياس، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي يتفردون بها عن أهل الظاهر وحجة هؤلاء ما جاء في قصة بريرة " ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"  فكل شرط ليس في القرآن ولا في الإجماع فهو مردود.

والحجة الثانية أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء، لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد، لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع.

فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات، وهذه نكتة القاعدة : وهى أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغير للمشروع.

والقول الثاني : أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا، ونصوص أحمد المنصوص عنه أكثرها تجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط منه. وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، ولا يعارض بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص، وكان قد بلغه من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم و الصحابة ما تجده عند غيره من الأئمة بهذا الخصوص.

وقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق والشروط والعقود وأداء الأمانة ورعاية ذلك، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به، وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَه صلى الله عليه وسلم " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم " قال الترمذى: حديث حسن صحيح.

وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب. والمشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، فما كان مباحا بدون الشرط فالشرط يوجبه، والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن اشتراط الزيادة على مطلق القيد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع.

  الحديث الثاني

عَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنهُ كَانَ يَسِيُر عَلَى جَمَل فَأعْيَا، فأرَادَ أن يُسَيبهُ.

قال: فَلَحَقَني النبي صَلى الله عليه وَسِلمَ فَدعَا لي ، وَضَرَبهُ فَسارَ سيْراً لَم يَسِرْ مِثلَهُ قَطْ، فقالَ: " بعْنِيهَ بأوقِية " قُلْتُ: لا. ثم قال: " بعْنِيه " فَبِعْتُهُ بأوقِيةٍ ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إلَى أهلي.

فَلَما بَلَغْتُ، أتَيتهُ بَالجَمَلِ، فَنَقَدَني ثمَنَهُ. ثُم رَجَعْتُ. فَأرْسل في أثرِي فَقَالَ: " أتراَني مَاكَستكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ خذْ جَمَلَكَ وَدرَاهِمَكَ، فهُوَ لَكَ" .

الغريب:

فأعيا: أعيا الرجل أو البعير، إذا تعب وَكَل من الَمشي، يستعمل لازما ومتعدياً، تقول: أعيا الرجل، وأعياه اللّه.

أن يسيبه: أن يطلقه، ليذهب على وجهه.

حُمْلانه: بضم الحاء وسكون الميم، أي حمله البائع.

أتراني: بضم التاء، أي أتظنني .

ماكستك: المماكسة:- المكالمة في البيع والشراء، لطلب الزيادة، أو النقص في الثمن.

المعنى الإجمالي :

كان جابر بن عبد اللّه رضى الله عنهما مع النبي صلى الله عليه وسلم  في إحدى غزواته، وكان راكباً على جمل قد هزل فأعيا عن السير ومسايرة الجيش حتى إنه أراد أن يطلقه فيذهب لوجهه، لعدم نفعه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم  من رأفته بأصحابه وبأمته- يمشى في مؤخرة الجيوش، رِفْقاً بالضعيف، والعاجز، والمنقطع. فلحق جابراً وهو على بعيره الهزيل، فدعا له وضرب جمله، فصار ضربه الكريم الرحيم قوةً وعوناً للجمل العاجز، فسار سيراً لم يسر مثله. فأراد صلى الله عليه وسلم  من كرم خلقه ولطفه- تطييب نفس جابر ومجاذبته الحديث المعين على قطع السفر، فقال: بعنيه بأوقية.

فطمع جابر رضى الله عنه بفضل الله وعلم أن لا نقص على دينه من الامتناع من بيعه للنبي صلى الله عليه وسلم  لأن هذا لم يدخل في الطاعة الواجبة، إذ لم يكن الأمر على وجه الإلزام . ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم  أعاد عليه الطلب فباعه إياه بالأوقية واشترط أن يركبه إلى أهله في المدينة، فقبل صلى الله عليه وسلم  شرطه. فلما

وصلوا، أتاه بالجمل، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم  الثمن. فلما رجع أرسل في أثره فرجع إليه وقال له: أتظنني بايعتك طمعا في جملك لآخذه منك؟ خذ جملك  ودراهمك فهما لك. وليس هذا بغريب على كرمه وخلقه ولطفه، فله المواقف العظيمة صلى الله عليه وسلم .

ما يستفاد من الحديث:

1- أن الأحسن للقائد والأمير أن يكون في مؤخرة الجيش والقافلة، انتظارا للعاجزين والمنقطعين. وكما في الحديث " الضعيف أمير الركب ".

2- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأفته بأمته.

فحين رأى جابراً على هذه الحال، أعانه بالدعاء ، وضَرْبِ الجمل الذي صار قوة له على السير بإذن الله تعالى.

3- معجزة كبرى من معجزاته صلى الله عليه وسلم  ناطقة بأنه رسول اللّه حقا، إذ يأتي على هذا الجمل العاجز المتخلف، فيضربه فيسير على إثر الضرب هذا السير الحسن ويلحق بالجيش.

4- جواز البيع والشراء من الإمام لرعيته.

5- أن الامتناع على النبي صلى الله عليه وسلم  في مثل هذه القصة، لا يُعَد إثما وعقوقاً وتركا لطاعته، فإن هذه عنه، ليست على وجه الإلزام والتحتيم، وإنما على وجه التخيير والترغيب.

ومثلها قصة بريرة، حين شفع إليها أن ترجع إلى زوجها " مغيث " فقد سألته: أتأمرني بذلك؟ فقال: بل شافع. فقالت: لا حاجة لي به. فقد فهم الصحابة رضى الله عنهم أن مثل هذه الأشياء لا تلزم الإجابة، وإلًا لكانوا أسرع الناس إلى الامتثال.

6- أخذ من هذا الحديث " ابن رجب " رحمه الله، قاعدة عامة وهى: أنه يجوز للإنسان نقل الملك في شيء، واستثناء نفعه، المعلوم، مدة معلومة. وهذا يعم كل شيء من إجارة، وهبة، ووقف، ووصية، إلا بُضْعَ الأًمَة فلا يجوز استثناؤه، لأنها منفعة لا تحل إلا بالزوجية أو ملك اليمين.

7- جواز البيع واستثناء نفع المبيع، إذا كان النفع المستثنى معلوما.

وهذه المسألة جزء من القاعدة السابقة. وفى هذا خلاف يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء:- هل يجوز للبائع أن يشترط نفعا معلوما في المبيع- كسكنى الدار المبيعة شهراً؟ وهل يجوز- أيضا- للمشترى أن يشترط على البائع نفعه المعلوم في المبيع، كأن يشترط عليه حمل ما اشتراه منه إلى موضع معين، أو خياطة الثوب المبيع ونحو ذلك؟

فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي. إلى عدم صحة العقد والشرط- إلا أن " مالكا " أجاز شرط الحمل على الدابة إلى المكان القريب.

وذهب الإمام " أحمد " إلى جواز شرط واحد فقط، ووافقه على رأيه إسحاق، وابن المنذر، والأوزاعى، وإن جمع في العقدين شرطين بطل البيع.

وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن البيع صحيح مع الشروط العائدة للبائع من منافع معلومة في المبيع، أو عائدة للمشترى من منافع معلومة في المبيع من البائع.

واختار هذه الرواية شيخ الإسلام والمسلمين أبو العباس (ابن تيمية)، وتلميذه شمس الدين " ابن القيم ".

ونصرها وأكدها شيخنا العلامة المحقق " عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي" ، رحمهم الله جميعاً والمسلمين.

وهذا ما أعتقد صحته، كما يأتي تبيين أدلة العلماء، رحمهم الله تعالى، ومآخذهم.

 أدلة المذاهب السابقة:

استدل الأئمة الثلاثة على ما ذهبوا إليه، بما رواه الخمسة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم  " نهى عن الثنيَا إلا أن يعلم " . وبما رواه الترمذى وصححه، والنسائي، وابن ماجة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل شرطان في بيع ". وقد روى أبو حنيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم  " نهى عن بيع وشرط " وفسروا الشرطين في البيع، والشرط فيه بمثل هذه الشروط، التي يشترطها البائع أو المشترى على الآخر مما فيه مصلحة المبيع، أو منفعة البائع، كاشتراط خياطة الثوب، أو تفصيله، أو تكسير المشترى الحطب، أو حمله، أو استثناء نفع معلوم في المبيع للبائع، كسكنى الدار المبيعة، أو حمل الدابة ونحو ذلك.

 وأجابوا عن حديث جابر الذي معنا، بأن المبايعة ليست حقيقية، وإنما أراد كلية أن ينفع جابراً بالهبة، فاتخذ بيع الجمل ذريعة إلى ذلك بدليل ذلك قوله: " أتراني ماكستك لاَخذ جملك؟ " وأجاب بعضهم إلى أن اختلاف الرواة في ألفاظ حديث جابر، مما يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب، فإن بعض ألفاظه " بعته واشترطت حملانه إلى أهلي " وفى لفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم  أعاره ظهره إلى المدينة ". وفى لفظ قال: " بعت النبي صلى الله عليه وسلم  جملا فأفقرني ظهره إلى المدينة " والإفقار إعارة الظهر.

أما أدلة الذين يرون جواز اشتراط البائع المنافع المعلومة في البيع، أو اشتراط المشترى على البائع المنافع العائدة على المبيع، فكثيرة .

منها: قوله عليه الصلاة والسلام: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحلَّ حراماً، أو حرم حلالا " وهذه ليست مما يحل حراماً، ولا مما يحرم حلالا.

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن الثنيا إلا أن يعلم " ، وهذه شروط واستثناءات معلومة، فتكون غير داخلة في النهى.

ومنها- حديث جابر، الذي معنا، إذ شرط على النبي صلى الله عليه وسلم  ظهر جمله إلى المدينة. وليس في هذه الشروط شيء من المحاذير، كالربا، والغرر، والضرر، والظلم. فكيف تكون محرمة والأصل في المعاملات الإباحة،والسعة؟ وكما أنه لا مفسدة فيها، فليست- أيضا- وسيلة إلى المفسدة .

وأجابه عن أدلة المفسدين للعقد مع الشرط، بأن حديث " نهى النبي عن الثنيا إلا أن يعلم" مفهومه دليل من أدلتنا، فهو رد عليكم. وأما حديث نهى عن بيع وشرط، فلم يصح، وإنما الوارد " لا يحل شرطان في بيع ".

  اختلاف العلماء:

واختلف العلماء في تفسير الشرطين. وأحسن ما فُسرا به، أن المراد بذلك "مسألة العينة". وهى أن يقول:" خذ هذه السلعة بعشرة نقداً، وآخذها منك بعشرين نسيئة ".

فهذا هو المعنى المطابق لمعنى الحديث، وهو نظير البيعتين في ييعة، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : " من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسُهُماَ، أو الربا " وقد فسر ببيع العينة. ولا يحتمل حديث الشرطين في بيع، غير هذا المعنى. والمراد بالشرطين : الأول: العقد نفسه، فإنه عهد تشارطا على الوفاء به. والثاني:- ما صحبه من شرط العقد مرة أخرى بأزيد من الثمن الأول.

وأما حديث جابر، فلا يرد عليه أنه قصد به الهبة، لا البيع حقيقة. فإننا لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يقصد البيع حقيقة، فلم يكن معلوما لـ" جابر " وهو الذي ابتدأ شرط ظهر الجمل، فكأن هذا الشيء معلوم جوازه لديهم.

وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم  أقره على شرطه، وهو لا يقر على باطل، لا في جد، ولا في هَزْلٍ . وأما الاعتراض على الحديث باختلاف الرواة في ألفاظه، فقد أجاب عن ذلك العلامة " ابن دقيق العيد " بما نصه: " هذا صحيح لكن بشرط تكافؤ الروايات أو تقاربها. أما إذا كان الترجيح واقعا لبعضها- لأن رواته أكثر وأحفظ- فينبغي العمل بها، إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل بالاًقوى، والمرجوح لا يدفع التمسك بالراجح. فتمسك بهذا الأصل، فإنه نافع في مواضيع عديدة" ا.هـ.

وأما دليل مشهور مذهب الحنابلة، فالاقتصار في الاستدلال بحديث [ ولا شرطان في بيع ] .

والصحيح الذي تطمئن إليه النفس، ويرتاح له الضمير، الرواية التي اختارها شيخا الإسلام، ورجحها شيخنا "السعدي" لقوة أدلتها النقلية والقياسية، وعدم ما يعارضها. والله الموفق للصواب.

فائدة:

الشروط في البيع قسمان. أحدهما: ما هو منفعة في المبيع يستثنيها البائع، أو نفع من البائع في المبيع، يشترطه المشترى. وهذه هي مواطن الخلاف بين العَلماء، يتقدم الكلام فيها. والقسم الثاني: ما هو من مقتضى العقد، كالتقابض، وحلول الثمن. أو من مصلحة العقد، كاشتراط تأجيل الثمن، أو الرهن، أو الضمين. أو صفة في المبيع مقصودة، ككون العبد كاتباً أو صانعاً، أو الأمة بكراً، أو خياطة ونحو ذلك. فهذه الشروط لا خلاف في جوازها، كثرت أو قَلتْ.

 الحديث الثالث

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عَنْهُ قالَ: نَهَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يبيع حَاضِر لِبَادٍ ، وَلا تَنَاَجَشُوا ، وَلا يَبع الرجُلُ عَلَى بيع أخيه. وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ، وَلا تَسْأل المَرأة طَلاقَ أخْتِهَا لِتُكفِىءَ مَا في إنَاِئهَا[149] "

ما يستفاد من الحديث:

الكلام على بيع الحاضر للبادي، والنجش، وبيع الرجل على بيع أخيه، تقدم مفصلا في الحديثين رقم [252 و 253] ، بما أغنى عن إعادتها ههنا. وفيه من الفوائد الزوائد ما يأتي :

1- تحريم خطبة النكاح على خطبة أخيه، حتى يعلم أن الخاطب رُد عن طلبه، ولم يُجَبْ، لما تسبب الخِطْبة على خِطبةْ الغير من العداوة والبغضاء، والتعرض لقطع الرزق.

2- تحريم سؤال المرأة زوجها أن يطلق ضرتها، أو توغير صدره عليها، أو الفتنة بينهما، ليحصل بينهما الشر، فيفارقها، فهذا حرام، لما يحتوى عليه من المفاسد الكبيرة، من توريث العداوات، وجلب الإحن ، وقطع رزق المطلقة، الذي كنى عنه بِكَفْءِ ما في إنائها من الخير، الذي سببه النكاح، وما يوجبه من نفقة وكسوة وغيرها من الحقوق الزوجية. فهذه أحكام جليلة وآداب سامية، لتنظيم حال المجتمع، وإبعاده عما يسبب الشر والعداوة والبغضاء، ليحل محل ذلك المحبة والمودة والوئام والسلام.

 بَابُ الرِّبا والصَّرْف

الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {فإذا أنزلنَا عَلْيَها المَاءَ اهتزت وَرَبَتْ } يعنى زادت.

وفى الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح. فأما الكتاب فمثل قوله تعالى {وَحرّمَ الربا } والسنة، في مثل الحديث، الذي لعن به صلى الله عليه وسلم [ آكل الربا وموكله، وشاهده، وكاتبه] وهو متفق عليه. وقد أجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة[150] لما استندت عليه من النصوص.

وتحريمه:- مقتضى العدل والقياس، لأن التعامل به ظلم أو ذريعة إليه.  والكون لا يقوم إلا بالعدل، الذي أوجبه المولى على نفسه، وألزم به خلقه ومضار الرِّبا ومفاسده لا تحصى.

منها:- تضخم المال بطريق غير مشروعة، لأنه تضخم على حساب سلب مال الفقير وضمه إلى كنوز الَغنى، وحسبك بهذا داء فتاكا في المجتمعات، وسبباً في الخصومات والعداوات، وهو أداة هدامة للنشاط والعمل الشريف، واستثمار الأرض، وإخراج طيباتها. وحدث لدينا معاملات في البنوك، وصناديق البريد، تجاسروا فيها على تعاطى الربا، وسموه بغير اسمه.

وهذا مصداق للحديث النبوي الشريف "يأتي على الناس زمان يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها".

وبسط هذه البحوث والرد عليها، له كتب غير هذا.

أما الصرف: فمادته تدور على التقلب والتغير في الأشياء.

قال في اللسان: "الصرف بيع الذهب بالفضة وبالعكس، أنه يتصرف به عن جوهر إلى جوهر" فهو بيع الأثمان بعضها ببعض.

الحديث الأول

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطَابِ رَضىَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم   :

" الذًهَبُ بالذًهَبِ رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالفِضةُ بِالفِضةِ رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُر بِالبُر رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشعِيرُ بِالشعِير رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ."

الغريب :

إلا هاء وهاء: فيهما لغات، أشهرها المد وفتح الهمزة فيهما، ومعناه التقابض.

المعنى الإجمالي :

يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، كيفية البيع الصحيح بين هذه الأنواع، التي يجرى فيها الربا، وهو أنه من باع ذهبا بفضة أو بالعكس، فلا بد من الحلول والتقابض في مجلس العقد، وإلا لما صح العقد، لأن هذه مصارفة، يشترط لدوام صحتها التقابض.

كما أن من باع- برا بِبُر، أو شعيرا بشعير، فلابد من التقابض بينهما، في مجلس العقد لما بين هذه الأنواع من علة الربا المفسدة للعقد، إذا حصل التفرق قبل القبض.

ما يستفاد من الحديث:

1- تحريم بيع الذهب بالفضة أو العكس، وفساده إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد، وهذه هي المصارفة.

2- تحريم بيع البر بالبر، أو الشعير بالشعير. وفساده، إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد.

3- صحة العقد إذا حصل القبض في المصارفة. أو بيع البر بالبر، أو الشعير بالشعير، في مجلس العقد.

4- يراد بمجلس العقد مكان التبايع، سواء أكانا جالسين، أم ماضيين، أم راكبين. ويراد بالتفرق ما يُعَد تفرقا عرفا، بين الناس.

الحديث الثاني

عَنْ أبي سَعيد الخُدرِىّ رَضيَ الله عَنهُ: أنَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:

" لا تَبِيعُوا الذهَبَ بالذهَبِ، إلا مِثْلا بمثل ، وَلا تُشِفوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْض. وَلا تَبِيعُوا الورِقِ بِالوَرِقِ إلا مِثْلا بِمِثْلٍ وَلا تُشفوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْض وَلَا تَبِيعُوا مِنْها غَائباً بنَاجِز " .

وفى لفظ: " إلا يَداً بيدٍ ". وفي لفظ: " إلا[151] وَزْناً بِوَزْنٍ مِثلا بِمثْلى سَواءً بِسَواء”.

 الغريب:

1- الورق: هو الفضة مضروبة أو غير مضروبة.

2- ولا تُشفُّوا بعضها على بعض: بضم أوله، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الفاء. أي لا تفضلوا بعضها على بعض. وهو رباعي من " أشف " و " الشف " بالكسر، الزيادة، ويطلق على النقص أيضاً، فهو من الأضداد.

المعنى الإجمالي:

في هذا الحديث الشريف ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا بنوعيه: الفضل، والنسيئة.

فهو ينهى عن بيع الذهب بالذهب، سواء أكانا مضروبين، أم غير مضروبين، إلا إذا تماثلا وزناً بوزنْ، وأن يحصل التقابض فيهما، في مجلس العقد، إذ لا يجوز بيع أحدهما حاضراً، والآخر غائبا.

كما نهى عن بيع الفضة بالفضة، سواء أكانت مضروبة أم غير مضروبة، إلا أن تكون متماثلة وزناً بوزن، وأن يتقابضا بمجلس العقد.

فلا يجوز زيادة أحدهما عن الآخر، ولا التفرُّق قبل التقابض.

ما يستفاد من الحديث:

1- النهى عن بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، سواء أكانت مضروبة، أم غير مضروبة، أم مختلفة، ما لم تكن مماثلة بمعيارها الشرعي وهو الوزن، وما لم يحصل التقابض من الطرفين في مجلس العقد.

2- النهى عن ذلك يقتضي تحريمه وفساد العقد.

3- التماثل والتقابض بمجلس العقد، مشروط بين جميع الأموال الربوية، ويأتي بيان ما يجمعها إن شاء الله.

4- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رجل يداين الناس كل مائة بمائة وأربعين ويجعل سلفا على حرير: هذا هو عين الربا الذي أنزل فيه القرآن، وذكر أنه لا يستحق إلا ما أعطاهم أو نظيره أما الزيادة فلا يستحق شيئا منها. أما ما قبضه بتأول فيعفى عنه: وأما ما بقى في الذمم فهو ساقط لقوله تعالى: {  وذروا ما بقى من الربا } .

اختلاف العلماء:

أجمع العلماء على تحريم التفاضل[152] والنساء في جنس واحد من الأجناس ، التي نص عليها حديث عبادة بن الصامت قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فمن زاد، أو ازداد، فقد أربى " . رواه مسلم.

فهو نص في منع التفاضل في الجنس الواحد من هذه الأعيان المذكورة.

وأما منع النسيئة، فيستفاد من مثل حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللَه صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب رباً، إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً، إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً، إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً، إلا هاء وهاء".

ويجوز بيع الجنس الواحد من هذه الستة بالجنس الآخر نَساء لبقية حديث عبادة " فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " وكل هذا مجمع عليه عند العلماء، إلا في الشعير مع البر، فقد رأى بعضهم أنَهما جنس واحد، والصحيح أنهما جنسان.

وقد ذهبت الظاهرية إلى أن الربا لا يتعدى هذه الأجناس الستة لنفيهمُ القياس .

وأما جمهور العلماء فقد عَدّوا الحكم إلى غيرها من الأشياء. واختلفوا في الأشياء الملحقة، تبعاً لاختلافهم في فهم العلة المانعة من التفاضل والنِّساء،

وقد اتفق العلماء على أن العلة في الذهب والفضة، غير العلة في الأربعة الباقية وأن لكل منهما علة واحدة. ثم اختلفوا في العلة.

فالرواية المشهورة عن الإمام أحمد، في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس وفى الأربعة الباقية، كونها مكيلة جنس، فيلحق بهما ما شابهما في العلة.

وبهذا القول قال النخعي، والزهري، والثوري، وإسحاق والحنفية. فعلى هذا يجرى الربَا في كل موزون، أو مكيل بيع بجنسه، سواء أكان مطعوماً، كالحبوب، والسكر، والأدهان. أم غير مطعوم، كالحديد، والصفر والنحاس، والأشنان ونحو ذلك. وغير المكيل أو الموزون

لا يجرى فيه، وأن كان مطعوما، كالفواكه المعدودة.

ويستدلون على ثبوت هذا التعليل عندهم، بما رواه أحمد عن ابن عمر:  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين ".

وما رواه الدارقطنى عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: " ما وُزِنَ مثلا بمثل، نوعاً واحدا. وما كيل ، فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان، فلا بأس به " . فاعتبر، هنا، الكيل، أو الوزن في الجنس الواحد، لتحقق العلة.

وذهب الشافعي إلى أن العلة، الطعم والجنس، والعلة في الذهب والفضة، كونهما ثمنين للأشياء، فيختص الحكم بهما. والدليل على ذلك، ما رواه مسلم، عن معمر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم  " نهى عن بيع الطعام بالطعام، إلا مثلا بمثل ".

فقد علَّق الحكم باسم الطعام، فدل على العلة واشتقاقها. ووافق الإمام مالك الشافعي في النقدين، أم غيرهما، فالعلة عنده فيه ترجع إلى الجنس والادخار، والاقتيات. وكذلك ما يصلح الطعام من التوابل. ويرون أن الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث جاءت للتنبيه على ما في معناها، ويجمعها كلها الاقتيات والادخار .

فالبر، والشعير، لأنواعْ الحبوب. والتمر لأنواع الحلويات، كالسكر والعسل، والملح، لأنواع التوابل.

وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد هي مذهب الإمام الشافعي في القديم، وقال بها سعيد بن المسيب. وهى أن العلة في الأربعة المذكورة في الحديث: الطعم، والكيل أو الوزن فلا يجرى الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالرمان والحض، والبطيخ.

كما لا يجرى في مكيل أو موزون لا يطعم. فلابد من اعتبار الأمرين ، لأن الكيل وحده، أو الوزن وحده، لا يقتضي وجوب المماثلة، كما أن الطعم

وحده لا تتحقق به المماثلة، لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تتحقق المماثلة في المعيار الشرعي الذي هو الكيل والوزن.

وبهذا القول تجتمع الأحاديث الواردة في هذه المسألة، ويقيد كل حديث منها بالآخر.

وقد اختار هذا القول [ صاحب المغنى] والشارح عبد الرحمن بن أبي  عمر، وشيخ الإسلام " ابن تيمية " رحمهم الله تعالى.

تلخيص:

قال في المغنى: فالحاصل إن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد، ففيه الربا. رواية واحدة كالأرز، والدخن والقطنيات، والدهن.

وهذا قول أكثر أهل العلم وعلماء الأمصار في القديم والحديث. وما يعدم فيه الكيل، والوزن والطعم، واختلف جنسه، فلا ربا فيه رواية واحدة. وهو قول أكثر العلماء، وذلك كالتين والنوى. وما وجد فيه الطعم وحده، أو الكيل والوزن من جنس واحد، فيه روايتان.

واختلف أهل العلم فيه، والأولى- إن شاء الله- حِله، إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يقوى التمسك به، وهى- مع ضعفها- يعارض بعضها بعضا. فوجب إخراجها، أو الجمع بينها، والرجوع إلى أصل الحل، الذي يقتضيه الكتاب، والسنة، والاعتبار .

الحديث الثالث

عَن أبي سَعِيدٍ الخُدري رَضىَ الله عَنْهُ قَالَ: جَاءَ بلال إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم بِتَمْر بَرْنى، فَقَالَ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم : " مِنْ أين هذَا؟ ".

قَالَ بلال: كانَ عِنْدَنَا تَمْر رَدِيء، فَبِعتُ مِنْهُ صَاعَيْن بصَاع، لِيَطْعَمَ النًّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ.

فَقَالَ النَّبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلمَ عِنْدَ ذِلكَ " أوّهِ أوَّه، عَينُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ، وَلكِنْ إذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فبعِ التَّمْرَ بِبَيْع آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بهِ ".

الغريب:

بَرْني : من تمر المدينة الجيد، وهو معروف بها إلى الآن، بسره أصفر، فيه طول.

أوه أوه: كلمة يؤتى بها للتوجع، أو التفجع.

المعنى الإجمالي:

جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم  بتمر برني جيد، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم  من جودته وقال: من أين هذا؟

قال بلال: كان عندنا تمر، فبعت الصاعين من الردي بصاع من هذا الجيد، ليكون مطعم النبي صلى الله عليه وسلم منه.

فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم  وتأوه، لأن المعصية عنده هي أعظم المصائب.

وقال: عملك هذا، هو عين الربا المحرم ، فلا تفعل ، ولكن إذا أردت استبدال رديء، فبع الرديء بدراهم، ثم اِشتر بالدراهم تمرا جيدا. فهذه طريق مباحة تعملها، لاجتناب الوقوع في المحرم .

ما يستفاد من الحديث :

1- تحريم ربا الفضل بالتمر، بأن يباع بعضه ببعض، وأحدهما أكثر من الأخر.

2- استدل بالحديث على جواز [مسألة العينة] وهى أن يبيع سلعة نسيئة، ثم يشتريها من المشترى بنقد أقل من ثمنها الأول، ويأتي الخلاف في ذلك وتحقيقه إنْ شاء اللّه تعالى.

3- استدل بالحديث على جواز [ مسألة التورق ]، وهى أن يشترى ما يساوى مائة ريال، بمائة وعشرين مؤجلة لا لينتفع به بل ليبيعه وينتفع بثمنه، ويأتي تحقيق ذلك، إن شاء الله تعالى.

4- عظم المعصية، كيف بلغت من نفس النبي صلى الله عليه وسلم .

5- لم يذكر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره برد البيع. والسكوت عن الرد، لا يدل على عدمه.

وقد ورد في بعض الطرق أنه قال: [ هذا الربا فرِده] وقد قال تعالى: {فإنْ تُبتم فَلَكُم رُؤوس أمْوَاِلكُم لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون } .

6- جواز الترفه في المأكل والمشرب، ما لم يصل إلى حد التبذير، والسرف المنهي عنه، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرمَ زِينَةَ الله التي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَيباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنيا} .

7- فيه بيان شيء من أدب المفتى.

وهو أنه إذا سئل عن مسألة محرمة، ونهى عنها المستفتى، أن يفتح أمامه أبواب الطرق المباحة، التي تغنيه عنها.

اختلاف العلماء:

اختلف العلماء في حكم المسألة العينة، التي تقدم شرحها.

فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، وأحمد وأتباعهم: إلى تحريمها. وهو مروى عن ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سنين، والشعبي، والنخعى، وهو مذهب الثوري، والاوزاعى.

لما روى أحمد، وأبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول:

" إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ ، وَأخَذتُمْ أذنابَ البَقَرِ، ورَضيتُمْ بِالزَرعِ ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلطَ الله عَلَيْكُم ذُلا لا يَنْزِعُهُ عنكم حَتى تَرْجِعُوا إلَى دِينكُم " .

وما رواه أحمد أيضاً [ أن أم ولد زيد بن أرقم، أخبرت عائشة: أنها باعت غلاما من زيد، بثمانمائة إلى العطاء، ثم اشترته منه بستمائة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا بن أرقم أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلا أن يتوب] .

والظاهر أنها لا تقول مثل هذا باجتهاد منها، لأن هذا التغليظ لا يكون إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم .

وأجاز الشافعي بيع العينة، أخذاً بعموم ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي سعيد، وأبى هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب [ طيب] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكُلَ تَمْرِ خَيبرَ هكَذَا؟ فَقالَ: لا واللّه، إنّا لَنَأخذُ الصَّاعَ مَن هذَا بِالصاعَيْن، وَالصَّاعَيْن بِالثَّلَاثَةِ].

فقال النبي صلى الله عليه وسلم  : " لا تَفْعَلْ، بع الجَمعَ [التمر الرديء ] ثُم ابتعْ بالدراهم جنيباً " .

فعموم هذا الحديث يدل على أنه لا بأس أن يكون الذي اشترى منه التمر الرديء بدراهمه، هو الذي باع عليه التمر الطيب فعادت دراهمه إليه ، لأنه لم يفعل .

وعند الأصوليين [ أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال].

أما [ مسألة التورق ] التي معناها، أن يشتري السلعة نسيئة لغير قصد الانتفاع بها، وإنما ليبيعها بثمنها، فالمشهور عند أصحابنا جوازها.

وكان شيخنا " عبد الرحمن السعدي " يجيزها، ويرى عموم هذا الحديث يتناولها بالحل.

وقال في أحد كتبه: "لأن المشترى لم يبعها على البائع عليه، وعموم النصوص تدل على جوازها، وكذلك المعنى لأنه لا فرق بين أن يشتريها ليستعملها في أكل أو شرب، أو استعمال، أو يشتريها لينتفع بثمنها، وليس فيها تحيل على الربا بوجه من الوجوه، مع دعاء الحاجة إليها، وما دعت إليها الحاجة، وليس فيه محذور شرعي، لم يحرمه الشارع على العباد".

والرواية الثانية عن الإمام أحمد، التحريم، واختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية " .

وقال ابن القيم "وكان شيخنا- ابن تيمية- رحمه الله يمنع من مسألة التورق وسئل عنها مراراً وأنا حاضر فلم يرخص فيها.

وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا، موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بالشراء والبيع والخسارة فيها".

والمانعون من "العينة" جعلوها من باب الذرائع المحرمة، وجعلوا الحديث من باب المطلق الذي يقيد بِصُوَر البيع الصحيح، وليس من باب العام، الذي يشمل كل صورة للبيع، حتى ولو كانت مع البائع.

وهكذا إطلاقات الشارع تدل على ما أذن فيه وأباح.

فإن قوله: "بع الجمع" مطلق، يقيد بالعقود الصحيحة، وليس بعام ليدخل فيه الصورة التي تعقد مع مشترى "الجمع" في هذا الحديث.

وبهذا تبين فساد قول الذين يحاولون الاستدلال على وجود الحيل في الشرع فإن الشارع لما نهاه عن معاملة محرمة، فتح أمامه الباب إلى معاملة غيرها مباحة، لا علاقة بينهما بوجه من الوجوه.

ومن أراد بسط هذا، فعليه ب " إعلام الموقعين " لابن القيم، رحمه لله تعالى.

 الحديث الرابع

عَنْ أبي المِنْهَالِ قال: سَالتُ البَرَاءَ بنَ عازِب وَزَيْدَ بنَ أرْقمَ عَنِ الصرفِ، فَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: هذَا خَير مِنىٍ وَكِلاهُما يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عَنْ بيع الذَهَبِ بِالوَرِقِ دَيْنا.

المعنى الإجمالي:

سأل أبو المنهال، البراء بن عازب، وزيد ين أرقم، عن حكم الصرف، الذي هو بيع الأثمان بعضها ببعض.

فمن ورعهما رضى الله عنهما، أخذا يتدافعان الفتوى، ويحتقر كل واحد منهما نفسه بجانب صاحبه.

ولكنهما اتفقا على حفظهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالفضة دَيناً، لاجتماعهما في علة الربا، فحينئذ لابد فيهما من التقابض في مجلس العقد، وإلا لما صح الصرف، وصار ربا بالنسيئة.

ما يستفاد من الحديث:

1- النهى عن بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، وهما أو أحدهما غائب، فلابد من التقابض في مجلس العقد.

2- صحة البيع مع التقابض في مجلس العقد، لأنه صرف.

3- المفسد للعقد إذا لم يحمل تقابض في المجلس، هو ما اجتمع فيه النقدان، من علة الربا.

4- ما كان عليه السلف رضى الله عنهم من الورع، وتفضيل بعضهم بعضا.

 الحديث الخميس

عَنْ أبي بَكْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفِضةِ بِالْفِضَّةِ. وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ: إِلا سَوَاءً بِسَواءٍ .

وَأمرَنَا أنْ نَشْتَريَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كيف شِئْنَا وَنَشْتَرِيَ الذًهَبَ بِالْفِضةِ كَيْفَ شِئْنَا.

قال: فسأله رَجل فَقَالَ: يَداً بيد ؟ فَقَالَ: هكَذَا سَمِعْتُ

المعنى الإجمالي:

لما كان بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، متفاضلا رباً، نهى عنه ما لم يكونا متساويين، وزناً بوزن

أما بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، فلا بأس به، وإن كانا متفاضلين

على أنه لابد في صحة ذلك من التقابض في مجلس العقد، وإلا كان ربا النسيئة المحرم، لأنه لما اختلف الجنس جاز التفاضل، وبقى شرط التقابض، لعلة الربا الجامعة بينهما.

 ما يستفاد من الحديث:

1- تحريم بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، متفاضلين، لاجتماع الثمن والمثمن، في جنس واحد من الاجناس الربوية

2- إباحة بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، بشرطين:

الأول: التماثل منهما، فلا يزيد أحدهما على الآخر.

والثاني : التقابض في مجلس العقد بينهما.

وما يقال في الذهب والفضة، يقال في جنس واحد من الأجناس الربوية ، حينما يباع بعضه ببعض، كالبر بالشعير.

3- جواز بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب متفاضلين،ْ لكون كل واحد منهما من جنس غر جنس الآخر.

وكذا يقال في كل جنس بيع بغير جنسه من الأجناس الربوية، فلا بأس من التفاضل بينهما.

4- لابد في بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، من التقابض بينهما في مجلس العقد.

فإن تفرقا قبل القبض، بطل العقد، لاجتماعهما في العلة الربوية.

وكذا كل جنسين اتفقا فى العلة الربوية، وهى الكيل، أو الوزن مع الطعم، فلابد من التقابض بينهما في مجلس العقد.

اختلاف العلماء في (الأوراق البنكية):

في هذه الأزمان الأخيرة، أخذ الناس يتعاملون بدل الذهب والفضة  بالأوراق البنكية ( الأنواط).

فجعلوا لكل نقد (فئة) تقابلها، تحمل اسمها وقيمتها.

فاختلف الناس في حكمها وإليك الإشارة إلى أقوالهم،بطريق الإيجاز و الاختصار.

فمنهم: من يرى أنها من بيع السندات والديون والصكوك، فحرم المعاملات بها إطلاقاً.

ومنهم: من يرى أنها عروض من عروض التجارة، فلا يجرى فيها الربا بنوعيه.

وهذا القول بتساهله مقابل للقول الذي قبله بشدته، الثاني يرى جواز بيع بعضها ببعض، وبيعها بأحد النقدين متفاضلة ونسيئة، وأنه لا مانع من ذلك، لأنه لا يجرى فيها الربا.

وهذان القولان في غاية الضعف.

فأما الأول: ففيه تشديد، وحرج وضيق، وطبع ديننا السماح، واليسر، خصوصاً في العادات والمعاملات.

والثاني: فيه فتح لباب شر كبير، وهو الربا بأنواعه، مع أنه لا يستند إلى شيء من تعليل صحيح.

ومنهم: من يرى أن حكمها، حكم النقدين، يجرى فيها ما يجرى فيهما من الأحكام.

وهذا له وجه من الصحة، لقوة مأخذه، ويستدلون على ذلك بأن البدل له حكم المبدل في كل شئ.

وأحسن الأقوال في ذلك وأعدلها وأقربها للصواب، هو أن نجعل حكمها حكم الفلوس.

فنجرى فيها ربا النسيئة، ولا نجرى عليها ربا الفضل.

فيجوز بيع بعضها ببعض، أو بأحد النقدين متفاضلة والمفاضلة هنا فيما تمثل من القيمة النقدية، أما المفاضلة في ذاتها فأمر لا يتضرر، ولا يجوز ذلك نسيئة.

وهذا قول وسط في الموضوع، وفيه توسعة على الناس، الذين اضطروا إلى التعامل بها، كما أن فيه أيضا سدا لباب ربا النسيئة، الذي هو أعظم أنواع الربا.

وبسط الموضوع يحتاج إلى بحث مستقل، لأنه حصل بها مجادلات طويلة .

ولشيخنا " عبد الرحمنٍ بن ناصر آل سعدي " رسالة في هذا البحث، نشرت في الصحف، ونشرت أيضا وحدها برسالة مستقلة، وهو يرجح القول الأخير.

 بَابُ الرَّهن[153]

الرهن: بفتح الراء وسكون الهاء، وهو، لغة:- الثبوت والدوام.

فأخذ معناه الشرعي من هذا، لبقائه واستقراره عند المرتهن.

"تعريفه شرعا: جَعْلُ مال، توثقةً، بدين يستوفى منه، أو من ثمنه، إن تعذر الاستيفاء من ذمة الغريم.

وهو جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح.

أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنْ كنْتُمْ عَلَى سَفَر ولَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فِرِهَان مَقْبوضَةٌ} .

"أما السنة، فكثيرة، ومنها ما في البخاري عن أنس قال: " ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم  درعه بشعير " وفيها حديث الباب، وغيرهما كثير.

وأجمع المسلمون على جوازه، وإن اختلفوا في بعض مسائله.

كما أن الحاجة داعية إليه في كثير من المعاملات، إذ به يحصل التوثقة والاستيفاء..

أما فائدته، فكبيرة. لأنه من الوثائق التي يحصل منها الاستيفاء عند تعذر ذلك من الذٌمم، ويؤمن به من غدر المدين، ويحصل به الاطمئنان للدائن من مدينه.

وأكمل التوثق إذا قبض الرهن عند المرتهن، أو العدل الذي يرضى الراهن والمرتهن بقاءه بيده.

فإن لم يحصل قبضه، فالرهن صحيح لازم، ولكنه ناقص الفائدة، قليل الثمرة.

وقد أرشد الله إلى أكمل الحالات وأوثقها فقال: {فَرِهَان مقبوضة }.

 الحديث الأول

عَنْ عَاِئشةَ رَضىٍ الله عَنْها: أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  اشْتَرَى مِنْ يَهُوِدي طَعَاماً، وَرَهَنَهُ دِرْعا مِنْ حَدِيدٍ .

المعنى الإجمالي :

زهادة النبي صلى الله عليه وسلم  في الحياة الدنيا، وتقللهُ منها، وكرمه الذي يبارى الرياح، لم يُبْقِ ما يدخره لقوت نفسه، وقوت أهله، الأيام اليسيرة.

ولهذا فقد آل به الأمر أن اشترى من يهودي طعاماً من شعير، ورهنه ما هو محتاج إليه للجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمته، وهو درعه الذي يلبسه في الحروب، وقاية- بعد الله تعالى- من سلاح العدو، وكيدهم.

ما يستفاد من الحديث:

1- جواز الرهن مع ثبوته في الكتاب العزيز أيضاً.

2- جواز معاملة الكفار، وأنها ليست من الركون إليهم المنهي عنه. قال الصنعاني : وهو معلوم من الدين ضرورة، فإنه صلى الله عليه وسلم  وأصحابه أقاموا بمكة ثلاث عشرة سنة يعاملون المشركين، وأقام في المدينة عشراً يعامل هو وأصحابه أهل الكتاب وينزلون أسواقهم.

3- وفيه جواز معاملة مَنْ أكثر ماله حرام، ما لم يعلم أن عين المتعامل به حرام. قال الصنعاني : وفيه دليل إلى عدم النظر إلى كيفية معاملتهم في أنفسهم، فإنه من المعلوم أنهم يبيعون الخمور ويأكلون السحت ويقبضونه، ولكن  ليس لنا البحث عن معاملتهم وعن كيفية دخول المال إلى أيديهم، بل نعاملهم معاملة من في يده ملكه الحلال حتى يتبين لنا خلافه. ومثله الظلمة.

4- وليس في الحديث دليل على جواز بيع السلاح على الكفار، لأن الدرع ليس من السلاح ولأن الرهن ليس بيعا أيضاً، ولأن الذي رهن عنده النبي صلى الله عليه وسلم  درعه، في حساب المستأمنين الذين تحت الحماية والحراسة، فلا يُخْشَى منهم سطوة أو خيانة. فإن إعانة الكفار والأعداء بالأسلحة، محرمة وخيانة كبرى.

5- فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم  من الإقلال والزهد، رغبة فيما عند الله وكرما، فَلا يَدَع مالاً يقر عنده.

6- فيه تسمية الشعير بالطعام، خلافاً لمن قصر التسمية على الحنطة فقد ثبت من بعض الطرق، أنه عشرون أو ثلاثون صاعاً من شعير.

7- وفيه جواز الرهن في الحضر، فتكون الآية مخرجة مخرج الغالب حينما يعوز الكاتب والشاهد في السفر، وهذا مذهب جمهور العلماء، خلافا لما نقل عن مجاهد، والضحاك، ومذهب الظاهرية : من أن الرهن خاصة في السفر دون الحضر، لمفهوم الآية.

 بَابُ الحَوَالة[154]

الحوالة: بفتى الحاء، مأخوذة من التحول، وهو الانتقال.

" فهي نقل دَيْن من ذمة إلى ذمة " فتنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.

وهي ثابتة بالسنة كهذا الحديث، وبإجماع العلماء، وبالقياس الصحيح، فإن الحاجة داعية إليها، قال بعضهم: هي من بيع الدين بالدين.

وجاز فيها تأخر القبض من باب الرخصة، فتكون على خلاف القياس، والصحيح خلاف ذاك وأنها من جنس إيفاء الحق، ولهـذا أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم  في معرض الوفاء، وأداء الدين.

أما فائدتها، فتسهيل المعاملات بين الناس، لاسيما إذا كان الغريم في بلد، والمحال عليه في بلد آخر، ويسهل على المحال الاستيفاء منه.

وإذا أحال المدين غريمه على من لا دَيْن له عليه، فهو توكيل في الاستقراض والاستيفاء ، وليس من الحوالة، وليس له أحكامها.

ومثله: إحالة من لا دين له عليه على من عليه له الدين، فليس بحوالة، وإنما هو توكيل في القبض من المدين.

ولهذا قيد قبولها بكون المحال عليه مليئا. ولو كان الديْن باقياً في ذمة المحيل، لما ضَر كون المحال عليه معسراً.

وانتقال الدين وبراءة ذمة المحيل هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.

11- ولكن هل يرجع المحال لو تبين أن المحال عليه مفلس أو مات أو جحد؟ فيه خلاف وتفصيل يأتي إن شاء الله تعالى.

اختلاف العلماء:

أجمع العلماء على اعتبار رضا المحيل في الحوالة، واختلفوا في اعتبار رضا المحال والمحال عليه.

فذهب " أبو حنيفة " إلى اعتبار رضاهما، لأنها معاوضة، يشترط لها الرضا من الطرفين فهما طرف، والمحيل هو الطرف الآخر.

ولكون الرضا معتبراً عندهم، فإنهم لا يرون الحديث على ظاهره، فيفيد الوجوب. وإنما يرون أن الاتباع مستحب ومندوب.

وذهب الإمام أحمد وأتباعه، والظاهرية، وأبو ثور، وابن جرير: إلى أن الأمر للوجوب، إبقاء للحديث على ظاهره، وأنه يتحتم على من أحيل بحقه على مليء أن يحتال.

فإن كانت الحوالة على غير مليء فعند الظاهرية أنها حوالة فاسدة لا تصح، لأنها لم توافق محلها الذي ارتضاه الشارع وهو الملاءة.

وعند الحنابلة تصح، لأن الحق للمحال وقد رضى بذلك.

واختلفوا: هل يرجع المحال على المحيل في ذلك؟ خلافات وتفاصيل .

الحديث الأول

عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضي الله عَنْهُ: أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم  قَالَ :" مَطل الغني ظُلْم، وَإذَا اتْبعَ أحدكم عَلى مليء فَليَتْبع ".

الغريب:

مطل الغنى: أصل " المطل " المد. تقول: مطلت الحديدة أمطلها، إذا مددتها لتطول. و المراد تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر. و" مطل " مصدر مضاف. إلى فاعله، والتقدير: مطل الغنى غريمه، ظلم.

اتبع: بضم الهمزة وسكون التاء وكسر الباء مبنياً للمجهول، بمعنى أحيل..

مليء: بتسكين الياء المهموزة. فأما تعريفه- لغة- فهو الغنى المقتدر على الوفاء . "أما تعريفه عند الفقهاء، فهو المليء بماله، وبدنه، وقوله.

بماله: القدرة على الوفاء.

وبدنه: إمكان إحضاره بمجلس الحكم.

وقوله: أن لا يكون مماطلا .

فليتبع: بفتح الياء التحتية وسكون التاء الفوقية، بمعنى فليحتل.

المعنى الإجمالي :

في هذا الحديث الشريف أدب من آداب المعاملة الحسنة.

فهو صلى الله عليه وسلم  يأمر المدين بحسن القضاء، كما يرشد الغريم إلى حسن الاقتضاء.

فبين صلى الله عليه وسلم  أن الغريم إذا طلب حقه، أو فهم منه الطلب بإشارة أو قرينة، فإن تأخير حقه عند الغنى القادر على الوفاء، ظلم له، للحيلولة دون حقه بلا عذر.

وهذا الظلم يزول إذا أحال المدين الغريم على مليء يسهل عليه أخذ حقه منه، فَلْيَقْبَل الغريم الحوالة حينئذ.

ففي هذا حسن الاقتضاء منه، وتسهيل الوفاء، كما أن فيه إزالة الظلم بما لو بقي الدين بذمة المدين المماطل .

ما يستفاد من الحديث:

1- تحريم مطل الغنىّ، ووجوب وفاء الدين الذي عليه لغريمه.

2- لفظ " المطل " ، يشعر بأنه لا يحرم عليه التأخير ويجب عليه الوفاء، إلا عند طلب الغريم ، أو ما يشعر برغبته في الاستيفاء.

3- التحريم خاص بالغنى المتمكن من الأداء.

أما الفقير، أو العاجز لشيء من الموانع، فهو معذور  .

4- تحريم مطالبة المعسر، ووجوب إنظاره إلى الميسرة، لأن تحريم المطل ووجوب الوفاء، منوطان بالغنى القادر.

أما المعسر فيحرم التضييق عليه، لأنه معذور، و ملاحقته بالدين حرام .

5 - في الحديث حسن القضاء من المدين. بأن لا يماطل الغريم.

وفيه حسن الاقتضاء من الغريم بأن يقبل الحوالة إذا أحاله المدين على مليء.

6- ظاهر الحديث أنه إذا أحال المدين الغريم على مليء، وجب عليه قبول الحوالة. ويأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.

7- مفهومه أنه لا يجب على المحال قبول الحوالة إذا أحاله على غير مليء .

8- فسر العلماء " المليء " بأنه ما اجتمع فيه ثلاث صفات:

(1) أن يكون قادراً على الوفاء، فليس بفقير.

(2) صادقا بوعده، فليس بمماطل.

(3) يمكن جلبه إلى مجلس الحكم، فلا يكون صاحب جاه، أو يكون أباً للمحال، فلا يمكنه الحاكم من مرافعته.

9- قال العلماء: إن مناسبة الجمع بين هاتين الجملتين أنه لما كان المطل ظلماً من المدين، طلب من الغريم إزالة هذا الظلم بقبول الحوالة على من لا يلحقه منه ضرر وهو المليء .

10- ظاهر الحديث، انتقال الديْن من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.

والصحيح الذي تطمئن إليه النفس: أن المحال إن احتال برضاه، عالماً بإفلاس المحال عليه، أو موته، أو مماطلته ونحو ذلك من العيوب التي في المحال عليه، ولم يشترط على المحيل الرجوع عند تعذر أو تعسُّر الاستيفاء، أنه  لا يرجع، لأنه رضى بإحالة حقه من ذمة إلى ذمة يعلم مصيره فيها، فهو شبيه بما لو اشترى مبيعاً معيباً يعلم عيبه.

وإن لم يكن راضياً بالحوالة على المعسر ونحوه، أو كان راضيا بالحوالة عليه، لكن يجهل عسره ونحوه أو غرر فيه، شرط الرجوع عند تعذر الاستيفاء، أو تعسره، فالحق أن له الرجوع ، لأن عسر المحال عليه عيب لم يعلم به ولم يرض به، فله الرجوع، كما أن له الرجوع عند الشرط لأن المسلمين على شروطهم، والله أعلم.

 بَابُ مَنْ وَجَد سلْعَته عند رجل قد أفلس

 الحديث الأول

عَنْ أَبي هُرَيْرة رَضِىَ اللّه عَنْة قالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم [ أَوْ قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول ] : منْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِه عِندَ رَجُلٍ- أَوْ إنْسَانٍ - قَدْ أَفْلَس  فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ".

المعنى الإجمالي :

من باع متاعه لأحد، أو أودعه، أو أقرضه إياه ونحوه، فأفلس المشترىَ ونحوه، بأن كان ماله لا يفي بديونه، فله أن يأخذ متاعه إذا وجد عينه، بأن كان بحاله لم تتغير فيها صفاته بما يخرجه عن اسمه، ولى يقبض من ثمنه شيئا، ولم يتعلق به حق أحد من مشتر ، أو مُتَّهب[155] . أو رهن، أو  شفعة أو غير ذلك من عقود المعاوضات.

فحينئذ يكون أحق به من الغرماء المتحاصي[156] المال، لأنه وجد متاعه بعينه فلا ينازعه فيه أحد.

فإن كان المبيع ونحوه قد تغير بما يخرجه عن اسمه ومسماه، أو كان البائع قد قبض ثمنه أو بعضه، أو قد تصرف فيه المفلس بما تعلق به حق أحد، فلصاحب المتاع- حينئذ أسوة بالغرماء.

ما يستفاد من الحديث:

1- أن من وجد متاعه عند أحد قد أفلس فله الرجوع فيه بشروط أخذها العلماء من الأحاديث، وأخذوا بعضها من فهمهم لمراد الشارع الحكيم. قال ابن دقيق العيد: دلالته قوية. قال الإصطخري من أصحاب الشافعي: لو قضى القاضي بخلافه نقض حكمه.

2- يراد " بصاحب المتاع" في الحديث، البائع وغيره، من مُقْرِض ومودع ونحوهم من أصحاب عقود المعاوضات. فعموم الحديث يشملهم.

ولا ينافي العموم أن يصرح باسم [ البائع]  في بعض الأحاديث.

3- أن تكون موجودات المفلس لا تفي بديونه، وهذا الشرط مأخوذ من اسم [ المفلس] شرعا.

4- أن تكون عين المتاع موجودة عند المشترى، هذا الشرط هو نص الحديث الذي معنا وغيره.

5- أن يكون الثمن غير مقبوض من المشترى. فإن قبض كله أو بعضه، فلا رجوع بعين المتاع .

وهذا الشرط مأخوذ من المعنى المفهوم ، ومن بعض ألفاظ الأحاديث.

6- الذي يفهم من عموم لفظ الحديث، أن الغرماء لو قدموا صاحب المتاع بثمن متاعه، فلا يسقط حقه من الرجوعَ بمتاعه.

قلت: وأرى أننا إذا رجعنا إلى مراد الشارع وهو [ حفظ حق صاحب المتاع] فإننا نلزمه بأخذ الثمن، الذي باعه به إذا قدمه الغرماء، خصوصاً إذا كان في أخذه مصلحة لعموم الغرماء، وللمفلس الذي يتشوف الشارع إلى التخفيف من ديونه.

قال " ابن رشد " : تقدر السلعة.

فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه، قضى بها للبائع .

وإن كانت أكثر، دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصُون الباقي وبهذاْ القول قال جماعة من أهل الأثر

7- أن تكون السلعة بحالها لم يتلف منها شيء، ولم تتغير صفاتها بما يزيل اسمها، كنسج الغزاة،وخبز الحب، وجعل الخشب باباً ونحو ذلك.

فإن تغيرت صفاتها، أو تلف بعضها فهو أسوة بالغرماء.

8- أن لا يتعلق بها حق من شفعة، أو رهن، وأولى من ذلك أن لاتباعَ أو توهب، أو توقف ونحو ذلك، فلا رجوع فيها ما لم يكن التصرف فيها حيلة على إبطال الرجوع، فإن الحيل محرمة، وليس لها اعتبار.

هذه هي الشروط المعتبرة للرجوع في عين المتاع عند المفلس.

و بعضها أخذ من لفظ الأحاديث،وبعضها من المعنى المفهوم. والله أعلم .

اختلاف العلماء:

ذهبت الحنفية إلى أن البائع غير مستحق لأخذ عين ماله حين يجده عند المفلس ، وأن المفلس أحق به. لأن السلعة صارت بالبيع ملكا للمشتري ، ومن ضمانه ،واستحقاق البائع أخذها منه ، نقض لملكه.

وتأولوا الحديث بأنه خبر واحد مخالف للأصول، وحملوه على صورة وهي أن يكون المتاع وديعة، أو عارية أو لقطة عند المفلس وهو حمل مردود.

ولو كان كذلك لما قيد بالإفلاس، فإنه يرجع بهذه الأشياء مع الإفلاس ودونه .

والحق ما ذهب إليه جمهور العلماء من العمل بالحديث.

قال الشوكاني : " والاعتذار بأنه الحديث، مخالف للأصول، اعتذار فاسد، حيث أن السنة الصحيحة من جملة الأصول، فلا يترك العمل بها إلا بما هو أنهض منها، ولم يرد في المقام ما هو كذلك، ا.هـ منه.

قال بعض العلماء: لو حكم الحاكم بخلاف هذا الحديث، نقض حكمه، لأنه لا يقبل التأويل.

ولولا شهرة هذا الخلاف للحنفية ما ذكرته، ولكنى قصدت بذكره التنبيه على ضعفه، وأنه من الآراء التي صودمت بها النصوص.

وقد أذكر في هذا الكتاب بعض الخلافات الضعيفة، لشهرة من يقول بها، وضعف ما تسند إليه، خشية الوقوع فيها تقليدا وثقة بأصحابها، والعصمة لأصحاب الرسالات عليهم الصلاة والسلام.

 باَبُ الشفعَة

الشفعة: بضم الشين وسكون الفاء.

والشفع: لغة، الزوج، قسيم الفرد، فإذا ضمت فرداً إلى فرد، فأنت شفعته. ومن هنا اشتقت الشفعة، لأن الشافع يضم حصة شريكه إلى حصته.

والشفعة: تطلق على التملك وعلى الحصة المملوكة فتعريفها- شرعاً- على المعنى الأول: [ استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض]. وهى ثابتة بالسنة، بحديث الباب، وبإجماع العلماء. ولما كان موضوعها، العقارات المشتركة.

- وبطبيعة الشراكة والخلطة يحصل أضرار عظيمة ومشاكل جسيمة. وكثير من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض. إلا من آتى الشركة حقها، وقليل ما هم- لما كان الأمر هكذا صارت الشفعة على وفق القياس الصحيح أيضا. فإن انتزاع حصة الشريك بثمنه من المشترى، منفعة عظيمة للشريك المنتزع، ودفع للضرر الكبير عنه، بلا مضرة تلحق البائع والمشترى فكل قد أخذ حقه كاملا غير منقوص.

وبهذا تعلم أنها جاءت على الأصل وفق القياس والحكمة ، والشرع كله، خير وبركة. فلا يأمر إلا بما تتمحض مصلحته أو تزيد على مفسدته، لا ينهى إلا عما تتمحض مضرته أو تزيد على مصلحته.

ولم يستحق الشفيع[157] نزع الشقص[158] من يد المشترى بغير رضاه إلا للمصلحة الخالية من المضرة .

فحينئذ تكون ثابتة بالسنة، والإجماع، والقياس، خلافاً لمن توهموا ثبوتها على خلاف الأصل والقياس.

الحديث الأول

عَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ الله رَضي الله عَنْهُماَ قَالَ. جَعَلَ[159] (وفي لفظ:- قضى) النبي صلى الله عليه وسلم بالشُّفعَةِ فيِ كُل مَال لَم يقسم . فَإذَا وقَعَتِ الحُدودُ وَصرفَتِ الطرقُ فَلا شُفعَة.

الغريب :

وقعت الحدود : عينت . و" الحدود " جمع " حد " وهو _ هنا _ ما تميز به الأملاك بعد القسمة.

صرفت الطرق : بضم الصاد وكسر الراء المثقلة، يتخفف. بمعنى بينت مصارفها وشوارعها.

المعنى الإجمالي :

هذه الشريعة الحكيمة جاءت لإحقاق الحق والعدل ودفع الشر والضر ولها النظم المستقيمة والأحكام العادلة للغايات الحميدة والمقاصد الشريفة، فتصرفاتها حسب المصلحة وفق الحكمة والسداد.

ولهذا فإنه لما كانت الشركة في العقارات يكثر ضررها ويمتد شررها وتشق القسمة فيها، أثبت الشارع الحكيم الشفعة للشريك .

بمعنى أنه إذا باع[160] أحد الشريكين[161] نصيبه من العقار المشترك بينهما، فللشريك الذي لم يبع أخذ النصيب من المشترى بمثل ثمنه، دفعاً لضرره بالشراكة.

هذا الحق، ثابت للشريك ما لم يكن العقار المشترك قد قسم وعرفت حدوده وصرفت طرقه.

أما بعد معرفة الحدود وتميزها بين النصيبين، وبعد تصريف شوارعها وتشقيقها فلا شفعة، لزوال ضرر الشراكة والاختلاط الذي ثبت من أجله استحقاق انتزاع المبيع من المشترى.

ما يستفاد من الحديث:

1- هذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة وهو مستند الإجماع عليها.

2- صدر الحديث يشعر بثبوت الشفعة في المنقولات وسياقه يخصها بالعقار، ولكن يتبعها الشجر والبناء إذا كانا في الأرض.

3- تكون الشفعة في العقار المشترك، الذي لم تميز حدوده، ولم تصرف طرقه، لضرر الشراكة التي تلحق الشريك الشفيع.

4- إذا ميزت حدوده، وصرفت طرقه، فلا شفعة لزوال الضرر بالقسمة، وعدم الاختلاط.

5- بهذا يعلم أنها لا تثبت للجار، لقيام الحدود وتمييزها.

ويأتي الكلام على الشفعة فيما فيه منفعة مشتركة بين الجارين إن شاء الله تعالى.

6- استدل بعضهم بالحديث: على أن الشفعة لا تكون إلا في العقار الذي تمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته، أخذاً من قوله: " في كل ما لم يقسم " لأن الذي لا يقبل القسمة، لا يحتاج إلى نفيه. ويأتي الخلاف فيه إن شاء الله.

7- تثبت الشفعة إزالةً لضرر الشريك، ولذا اختصت بالعقارات لطول مدة الشراكة فيها.

وأما غير العقار، فضرره يسير. يمكن التخلص منه بوسائل كثيرة، من المقاسمة التي لا تحتاج إلى كلفة، أو بالبيع ونحو ذلك.

فائدة:

يرى بعض العلماء- ومنهم الفقهاء المتابعون للمشهور من مذهب الحنابلة- سقوطها إن علم الشفيع ببيع الشقص ولم يشفع على الفور، ولم يجعلوا له مهلة إلا لعمل الأشياء الضرورية، من أكل ، وشرب، وصلاة ونحو ذلك، بناء منهم على أن الأصل في المعاملات الرضا.

والشفيع يريد انتزاع الشقص بغير رضا المشترى فحاربوه، واستأنسوا على ذلك بأحاديث ضعيفة كحديث " الشفعة كَحل العِقَال " .

والحق أنه يرجع في ذلك إلى العرف في التحديد، ويعطى مهلة متعارفة للتفكير والمشاورة.

فائدة ثانية:

يحرم التحيل لإسقاط الشفعة ولإبطال حق مسلم،كما قال ذلك الإمام أحمد رحمه الله.

وقد يعمد من لا يراعى حدود دينه وحقوق إخوانه، إلى محاولة إسقاطها بشيء من الحيل، كأن يعطى الشقص بصورة من الصور، التي لا تثبت فيها،

أو لا يثبتها الحكام فيها، أو يضر الشفيع بإظهار زيادة في الثمن، أو بوقف الشقص، حيلة لإسقاطها.

فهذه حيل لا تسقط فيها الشفعة عند الأئمة الأربعة، كما قال ذلك صاحب الفائق رحمه الله تعالى.

وقال شيخ الإسلام: الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق. وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها وبعد انعقاد السبب، وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع مع أن الصواب أنه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم، وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرم فهو باطل.

اختلاف العلماء:

أجمع العلماء على ثبوت الشفعة في العقارات التي تقسم قسمة إجبار[162] واختلفوا فيما سوى ذلك.

فذهب أبو حنيفة وأصحابه، إلى ثبوتها في كل شيء من العقارات والمنقولات.

مستدلين على ذلك بصدر الحديث الذي معنا، قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم .

وبما رواه الطحاوى عن جابر قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم  بالشفعة في كل شيء " .

وعندهم، أن الشفعة جاءت لإزالة الضرر الحاصل بالشركة والقسمة، ولذلك كلفة ومؤنة.

وبعض العلماء- كالقاضي عياض وابن دقيق العيد- عَدوا هذا القول من الشواذ.

وذهب مالك، وأهل المدينة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: إلى أنه لا شفعة للجار، ولا للشريك المقاسم، بل تثبت بالعقار الذي لم يقسم.

فإذا وقعت حدوده، وصُرِّفت طرقه، فلا شفعة عندهم.

وهو مروىُ عن عمر، وعثمان، وعلىّ رضى اللّه عنهم.

واستدلوا على ذلك بحديث الباب " فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة".

قال الإمام أحمد: إنه أصح ما روى في الشفعة.

وفي البخاري عن جابر " إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم  الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة " .

وفي سنن أبي داود عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :  إذا قسمت الأرض وَحُدَّتْ فلا شفعة فيها " إلى غير ذلك من الأحاديث.

ولأن الشفعة إنما أثبتها الشارع لإزالة الضرر اللاحق بشراكة العقارات التي تطول ويصعب التخلص منها بالقسمة، وتستوجب أعمالا وتغييرات، ولها

مرافق وحقوق، وكل هذا مدعاة إلى جلب الخصام والشجار، فثبتت لإزالة هذه الأضرار.

أما غير العقارات المشتركة، فلا توجد فيها إلا نسبة قليلة من الضرر يمكن التخلص منها بالقسمة، أو البيع، أو التأجير.

والجار ليس عنده هذه الأضرار مادام غير مشارك، ولو أثبتنا للجار لشاعت القضية فما من أحد إلا وله جار.

وذهب بعض العلماء- ومنهم الحنفية- إلى ثبوتها للجار مطلقاً، سواء كان له مع جاره شركة في زقاق، أو حوش، أو بئر ونحو ذلك، أو لم يكن.

ويستدلون على ذلك بما رواه البخاري عن أبي رافع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: " الجار أحق بصقبِه " .

وبما رواه أبو داود، والنسائي، والترمذى عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جار الدار أحق بالدار ".

وروى أصحاب السنن الأربعة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحدا " وهذا حديث صحيح.

وقالوا: إن الضرر الذي قصد الشارع رفعه، هو ضرر الجوار، فإن الجار قد يسيء إلى جاره بِتَعْلِيَةِ جداره وتَتَبُعِ عوراته والتطلَع على أحواله، فجعل له الشارع هذا الحق، ليزيل به الضرر عن نفسه وحرمه وماله.

وللجار حرمة وحق، حث الله عليهما ورسوله.

فأمر بإكرامه، ونَفَى الإيمان عمن أساء إليه.

فنظر قوم إلى أدلة كل من الفريقين. فرأوا أن كلا منهما معه أثر لا يُرَدُّ، ونظر لا يُصَد. فمع كل منهما أحاديث صحيحة وتعليلات قويه مقبولة. وقد علموا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم  لا تتضارب، بل ينظر بعضها إلى بعض وتتلاحظ بعين التوافق والالتئام، لأنها من عند من { لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }.

لذا فقد توسطوا بين القولين، وجمعوا بين الدليلين فقالوا:

إن منطوق حديث " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق " ونحوه، انتفاء الشفعة عند معرفة كل واحد حده واختصاصه بطريقه.

وإن منطوق حديث: " الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها، وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً " إثبات الشفعة بالجوار عند الاشتراك في الطريق وانتفائها عند تصريف الطريق، فتوافق المفهوم والمنطوق.

وممن يرى هذا الرأي، علماء البصرة، وفقهاء المحدثين. وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية " " وابن القيم " وشيخنا عبد الرحمن آل سعدي . قال شيخ الإسلام: وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال، أعدلها القول بأنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا ا.هـ

قلت: وهو قول وسط، تجمع فيه الأدلة، ويزول به كثير من الأضرار الكبيرة الطويلة.

أما إثباتها في المنقول أو للجار الذي ليس له شركة في مرفق، فلا يعتضد بشيء من الأدلة، ولا يكفى أنه يوجد في ذلك قليل من الضرر، الذي يمكن إزالته بسهولة ويسر. والله أعلم .

 بَابُ أحْكام الجوَار[163]

المؤلف رحمه اللَه ذكر بعد هذا الحديث المتعلق بـ " الشفعة " أربعهَ أحاديث تتعلق ب " الوقف " و " الهبة ".

ثم ذكر بعدهن ثلاثة أحاديث تتعلق ب " المزارعة ". ثم ذكر بعدهن حديثاً في " الهبة " أيضاً.

ثم ذكر أحاديث تتعلق " بالغصب " و " أحكام الجوار "، ثم ذكر أحاديث " الوصايا ".

فلا أعلم، ما وجه هذا الترتيب عنده؟.

وبما أن أحاديث " الوقف" و " الهبة "و " الوصايا " كلها من جنس واحد ، لأنها عقود تبرعات، وأحكامها متقاربة، ومسائلها متناظرة، عمدت إلى جعلها متوالية، وأخرتها ليكون بعدها " باب الفرائض " لوجود المناسبة بينها أيضاً.

وقدمت هذه الأحاديث المتعلقة ب " المزارعة " ، و " والغصب " و" أحكام الجوار " ليحسن الترتيب، وتجتمع المسائل المتناسبة.

الحديث الأول[164]

عَن أبي هُرَيرةَ رضىَ الله عَنْهُ: أن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم  قال: " لا يَمْنَعَن جَار جَارَهُ أن يَغْرزَ خَشَبَةً في جدَارهِ " .

ثم يقول أبو هريرة: مَا لي أراكم عَنْهَا مُعْرضِينَ؟ والله لأرْمِيَن بِهَا بَين أكتافكم .

الغريب:

لا يمنعن: لا:- ناهية، والفعل بعدها مجزوم بها، وحرك بالفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة.

خشبة: بالإفراد، وقد روى بالجمع، والمعنى واحد، لأن المراد بالواحد الجنس

عنها، بها: الضمير فيهما راجع إلى السنة المذكورة في مقالته .

بين أكتافكم: بالتاء المثناة الفوقية جمع " كتف ". وقد ورد في بعض الروايات بالنون. و " أكناف " جمع " كنف " بفتح الكاف والنون، هو الجانب.

المعنى الإجمالي:

للجار على جاره حقوق تجب مراعاتها، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم  على صلة الجار، وذكر أن جبريل مازال يوصيه به حتى ظن أنه سيورثه من جاره، لعظم حقه، وواجب بره.

فلهذا تجب بينهم العشرة الحسنهَ، والسيرة الحميدة، ومراعاة حقوق الجيزة، وأن يكف بعضهم عن بعض الشر القولي والفعلي. فلا يؤمن بالله تعالى من لا يأمن جاره بوائقه.

ومن حسن الجوار، ومراعاة حقوقه، أن يبذل بعضهم لبعض، المنافع التي لا تعود عليهم بالضرر الكبير مع نفعها للجار.

ومن ذلك أن يريد الجار، أن يضع خشبة في جدار جاره.

فإن لم يكن ثَم حاجة إلى ذلك، ينبغ لصاحب الجدار أن يأذن له، مراعاة لحق الجار.

وإن كان ثَم حاجة لصاحب الخشب، وليس على صاحب الجدار ضرر من وضع الخشب، فيجب على صاحب الجدار أن يأذن له في هذا الانتفاع ، الذي ليس عليه منه ضرر مع حاجة جاره إليه. ويجبره الحاكم على ذلك إن لم يأذن.

فإن كان ثَم ضرر، أو ليس هناك حاجة، فالضرر لا يزال بالضرر.

والأصل في حق المسلم المنع، ولذا فإن أبا هريرة رضى الله عنه، لما علم مراد المشرع الأعظم من هذه السنة الأكيدة، استنكر منهم إعراضهم في العمل بها، وتوعدهم بأن يلزمهم بالقيام بها، فإن للجار حقوقا فرضها اللَه تعالى تجب مراعاتها والقيام بها.

ما يستفاد من الحديث:

1- النهْىُ عن منع الجار أن يضع خشبة على جدار جاره، إذا لم يكن عليه ضرر من وضعها، وكان في الجار حاجة إلى ذلك.

2- قيد وضع الخشب بعدم الضرر على صاحب الجدار، وبحاجة صاحب الخشب، لأن التصرف في مال الغير ممنوع إلا بإذنه.

فلا يجوز إلا لحاجة من عليه له الحق وهو الجار،كما أنه لا يوضع مع تضرره لأًن الضرر لا يزال بالضرر.

3- هل النَهْىُ على وجه التحريم أو الكراهة ؟ يأتي بيان ذلك إن شاء الله.

4- فهم أبو هريرة رضى اللَه عنه أن الجار متحتم عليه بَذْلُ ذلك لجاره، ولذلك فإنه استنكر عليهم إعراضهم عن هذه السنة. وتهددهم بالأخذ بها.

5- هذا من حقوق الجار الذي حضً الشارع على بره والإحسان إليه، فنعلم من هذا عِظَمَ حقوقه ووجوب مراعاتها.

ولهذا فإنه يقاس على وضع الخشب غيره، من الانتفاعات، التي يكون في الجيران حاجة إليها، وليس على مالك نفعها مضرة كبيرة في بذلها، فيجب بذلها ويحرم منعها.

اختلاف العلماء:

أجمع العلماء على المنع من وضع خشب الجار على جدار جاره مع وجود الضرر إلا بإذنه لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا ضرر ولا ضرار ".

واختلفوا فيما إذا لم يكن على صاحب الجدار ضرر، وكان بصاحب الخشب حاجة إلى ذلك ، بأن لا يمكنه التسقيف إلا به.

ذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة،: مالك، والشافعي في المشهور عنهم إلى أنه لا يجوز وضع الخشب على حائط الجار إلا بإذن صاحب الجدار وإن لم يأذن، فلا يجبر عليه.

مستدلين على ذلك بأصل المنع من حق الغير إلا برضاه كحديث " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " وحديث " إن أموالكم وأعراضكم عليكم حرام " ونحو ذلك من الأدلة.

وذهب الإمام أحمد، وإسحاق وأهل الحديث إلى وجوب بذل الجدار لصاحب الخشب مع حاجة الجار إليه وقلة الضرر على صاحب الجدار وإجباره على ذلك مع الامتناع.

وقال بهذا القول، بعض المالكية، وهو قول لأبي حنيفة، ومذهب الشافعي في القديم. والدليل على ذلك ما يأتي:

1- ظاهر هذاَ الحديث الذي معنا، فإنه ورد بصيغة النهي ، والنهي يقتضي التحريم، وإذا كان المنع حراماً، فإن البذل واجب.

2- أبو هريرة الذي روى الحديث، استنكر عدم الأخذ به، وتوعد على ذلك، وهذا يقتضي فهمه لوجوب البذل وتحريم المنع، وراوي الحديث، أعرف بمعناه.

3- ورد مثل هذه القضية في زمن عمر فقد روى مالك بسند صحيح أن الضحاك بن خليفة، سأله محمد بن مسلمة أن يسوق خليجا له فيجريه في أرض محمد بن مسلمة، فامتنع.

فكلمه عمر في ذلك فأبى. فقال: والله ليمرن به ولو على بطنك.

ولم يعلم لعمر مخالف في هذه القضية من الصحابة، فكان اتفاقاً منهم على ذلك.

4- أن الشارع عظم حقوق الجار وأكد حرمته، فله على جاره حقوق فإذا لم يبذل له ما ليس عليه فيه مضرة، فأين رَعْىُ الحقوق والحرمة؟

أما العمومات التي يستدلون بها على عدم الوجوب، فلا يبعد أن تكون مخصصة بهذا الحديث، للمصالح

 بَابُ الغصْبِ

مصدر " غصبه يغصبه " أخذه ظلماً.

والغصب شرعاً: هو الاستيلاء على مال غيره بغير حق.

وهو من الظلم المحرم في الكتاب، والسنة، والإجماع .

ويجب على الغاصب رد ما غصبه، لأنه من رد المظالم إلى أهلها.

 الحديث الأول

عَنْ عَائِشَةَ رَضى الله عَنْهَا: أنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  قَالَ: " من ظَلَمَ قِيدَ شِبْر مِنَ الأرْض طُوقَهُ مِنْ سَبْعِ أرْضِينَ ".

الغريب:

قيد شبر: بكسر القاف وسكون الياء ، أي قدر. وذكر " الشبر" ، إشارة إلى استواء القليل والكثير.

طوقه: بضم الطاء وتشديد الواو المكسورة، مبنى للمجهول، بمعنى أن يجعل طوقاً في عنقه.

أرضين: بفتح الراء ويجوز إسكانها.

الظلم: لغة وضع الشيء في غير محله. وشرعا التصرف في حق الغير بدون إذنه.

المعنى الإجمالي :

مال الإنسان على الإنسان حرام، فلا يحل لأحد أخذ شيء من حق أحد، إلا بطيبة نفسه، وأشد ما يكون ذلك، ظلم الأرض، لطول مدة استمرار الاستيلاء عليها- ظلماً.

ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من ظلم قليلا أو كثيراً من الأرض جاء يوم القيامة بأشد ما يكون من العذاب، بحيث تغلظ رقبته، وتطول، ثم يطوق الأرض التي غصبها وما تحتها، إلى سبع أرضين، جزاء له على ظلمه صاحب الأرض بالاستيلاء عليها.

ما يؤخذ من الحديث:

1- تحريم الغصب، لأنه من الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وجعله بيننا محرماً.

2- أن الظلم حرام، في القليل والكثير، وهنا فائدة ذكر الشبر

3- أن العقار يكون مغصوبا بوضع اليد، ويكون مستولى عليه. قال القرطبي: ومن الحديث إمكان غصب الأرض وأنه من الكبائر.

4- أن من ملك ظاهر أرض، ملك باطنها إلى تخومها.

فلا يجوز أن ينقب أحد من تحته، أو يجعل نفقا أو سرباً ونحو ذلك إلا بإذنه، ويكون مالكا لما فيها من أحجار مدفونة، أو معادن ، وله أن يحفر ما شاء. كما أن العلماء قالوا: إن الهواء تابع للقرار، فمن ملك أرضا ملك ما فوقها.

5- قال شيخ الإسلام: إذا اختلط الحرام بالحلال، كالمقبوض غصبا والربا والميسر، فإذا اشتبه بغيره واختلط لم يحرم الجمع، فإذا علم أن في البلد شيئاً من هذا لا يعلم عينه لم يحرم على الناس الشراء من ذلك البلد. لكن إذا كان كثر مال الرجل حراما هل تحرم معاملته أو تكره؟ (فالجواب) على وجهين، وإن كان الغالب على ماله الحلال لم تحرم معاملته.

6َ وقال أيضاً: المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين عند جماهير العلماء، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواريّ أو ودائع أو رهون قد يئس من معرفة أصحابها فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها إلى عدل يصرفها في مصالح المسلمين.

فائدة:

قال في المغني: وما كان في الشوارع والطرقات والرحبات بين العمران فليس لأحد إحياؤه ، سواء كان واسعا أو ضيقا، وسواء ضيق على الناس بذلك أو لم يضيق، لأن ذلك يشترك فيه المسلمون، وتتعلق به مصلحتهم، فأشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد، ولا يضر بالمارة، لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار، ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار، فلم يمنع، كالاجتياز.

بَابُ المساقاة والمزارعة

المساقاة: مأخوذة من أهم أعمالها، وهو السقي.

وهى شرعاً: دفع شجر لمن يسقيه ويعمل عليه، بجزء معلوم من ثمره.

و " المزارعة " مأخوذة من الزراعة: وهي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم مما يخرج منها

و " المساقاة " و " المزارعَة " من عقود المشاركات، التي مبناها العدل بين الشريكين، فإن صاحبى الشجر والأرض، كصاحب النقود، التي دفعها للمضارب في التجارة.

والمساقي، والمزارع، كالتاجر الذي يتجر بالمال ، فهما داخلتان في أبواب المشاركات، فالغنم بينهما، والغرم عليهما.

وبهذا يعلم، أنهما أبعد عن الغرر والجهالة، من الإجارة، وأقرب منها إلى القياس والعدل، ولذا فإنهما جاءتا على الأصل.

لا كما قال بعضهم: أنهما على خلاف القياس لظنهم أنهما من باب الاجارات، التي يشترط فيها العلم بالعمل والأجرة، فهذا وهم منهم.

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ اللّه بنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا: أنَّ النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أهْلَ خَيْبَرَ عَلى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أو زَرْع.

الغريب:

شطر ما يخرج منها: الشطر، يطلق على معان، منها النصف، وهو المراد هنا.

من ثمر: بالثاء المثلثة، عام لثمر النخل والكرم وغيرهما.

المعنى الإجمالي :

بلدة " خيبر " بلدة زراعية، كان يسكنها طائفة من اليهود.

فلما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم  في السنة السابعة من الهجرة، وقسم أراضيها ومزارعها بين الغانمين، وكانوا مشتغلين عن الحراثة والزراعة بالجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله تعالى، وكان يهود " خيبر " أبصر منهم بأمور الفلاحة أيضاً، لطول معاناتهم وخبرتهم فيها، لهذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم  أهلها السابقين على زراعة الأرض وسقْي الشجر، ويكون لهم النصف، مما يخرج من ثمرها وزرعها، مقابل عملهم ونفقتهم، وللمسلمين النصف الآخر، لكونهم أصحاب الأصل.

فما زالت هذه المعاملة سائرة بينهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم  وخلافة أبي بكر الصديق، حتى جاء عمر بن الخطاب وأجلاهم عن بلدة خيبر.

ما يستفاد من الحديث:

1- جواز المزارعة والمساقاة، بجزء مما يخرج من الزرع: الثمر.

2- ظاهر الحديث، أنه لا يشترط أن يكون البذر من رب الأرض، وهو الصحيح، خلافا للمشهور من مذهبنا في اشتراطه .

3- أنه إذا علم نصيب العامل، أغنى عن ذكر نصيب صاحب الأرض أو الشجر، لأنه بينهما.

4- جواز الجمع بين المساقاة والمزارعة في بستان واحد، بأن يساقيه على الشجر، بجزء معلوم وزراعة الأرض بجزء معلوم.

5- جواز معاملة الكفار بالفلاحة، والتجارة، والمقاولات على البناء والصنائع، ونحو ذلك من أنواع المعاملات.

اختلاف العلماء في المساقاة والمزارعة:

تقدم أن طائفة من العلماء يرون أن المساقاة والمزارعة جاءتا على خلاف الأصل والقياس، لهذا اختلف العلماء في حكمهما، مع ورود النص فيهما. فأما " المساقاة " فذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تجوز بحال، لأنها إجارة بثمرة لم تخلق، أو بثمرة مجهولة، فهي راجعة إلى التصرف بالثمرة قبل بدو صلاحها أو راجعة إلى جهالة العوض، وكلاهما ممنوع.

فعمدته في رد النص فيها، مخالفتها للأصول.

وذهب الظاهرية، إلى أنها لا تجوز إلا في النخل خاصة، لورود الخبر فيها.

وذهب الشافعي إلى جوازها في النخل والكرم خاصة، لاشتراكهما في كثير من الأحكام، ومنها وجوب الزكاة فيهما خاصة من سائر الثمار وذلك عنده.

وهؤلاء تحرزوا من امتداد الحكم إلى سائر الشجر المقصود. المنتفع به، بناء منهم على أن هذا الحكم الثابت في هذا الخبر، إنما جاء على خلاف الأصل فلا يتعدى به محل النص.

وذهب الإمام " أحمد " إلى جوازها في كل ماله ثمر مأكول، بل ألحق كثير من أصحابه، ما له ورق أو زهر منتفع به مقصود.

وذهب " مالك " إلى جوازها في كل ما له أصل ثابت، فهي رخصة عنده عامة في كل ذلك.

والحق الذي لأشك فيه أن الحكم شامل لكل ما فيه نفع مقصود من الأشجار، لأن الحديث ورد بالثمر، وهو عام في كل ثمر، ومن خصصه فعليه الدليل، ولأن هذين العقدين من عقود المشاركة التي جاءت على الأصل المقيس، فهي معلومة العمل والجزاء عليه.

وتقدم أن رد النصوص الصحيحة بدعوى مخالفتها للأصول، دعوى باطلة لأن الحديث هو الأصل في الأحكام، فكيف يمكن لأحد يعظم نبيه صلى الله عليه وسلم  أن يبيح لنفسه رد كلامه لأصل يدعيه، وهذا عمله وعمل خلفائه من بعده، لم ينسخ ولم يغير حكم الله فيه؟!.

واختلفوا في " المزارعة " فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، إلى عدم جوازها.

ودليلهم على ذلك. أحاديث رويت عن رافع بن خديج .

منها كنا نخابر[165] علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  فذكر أن بعض عمومته أتاه، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن أمر كان لنا نافعاً، وطواعية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنفع.

قال: قلنا: ما ذاك؟ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : من كانت له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى].

وعن ابن عمر قال: [ ما كنا نرى بالمزارعة بأسا، حتى سمعنا رافع بن خديج يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ] متفق عليما.

ولمسلم عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات[166] والجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا، ولذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به.

وكذلك صح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليزُرِعْها أخاه].

وما روى أحمد ومسلم عن جابر أيضاً قال: [ كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القِصرى[167] ومن كذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه وإلا فليدعها].

فهذه الأحاديث هي حجة الذين يذهبون إلى عدم جواز المزارعة، ويرون أنها محرمة باطلة.

وهذه الأحاديث تؤيد أصلهم الذي استندوا عليه في الحرمة، وهو أن المزارعة من نوع الإجارة، والإجارة لابد أن يكون الأجر فيها معلوما، لأنها كالثمن، والمزارعة عوضها مجهول، فتحرم ولا تصح.

وذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى جوازها وأنها من العقود الصحيحة الثابتة.

وسبق الإمام أحمد إلى القول بجوازها، طائفةْ من الصحابة، عملوا بها.

منهم على بن أبي طالب ، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهم.

كما سبقه طائفة كبيرة من أئمة التابعين، منهم عمر بن عبد العزيز، والقاسم ابن محمد، وعروة بن الزبير، وابن سرين، وسعيد بن المسيب، وطاوس، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. كما وافق الإمام فقهاء المحدثين، ومنهم أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبا أبي حنيفة، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وسفيان الثوري، والإمام البخاري، وأبو داود.

ومن المحدثين المتأخرين، ابن المنذر، وابن خزيمة، وابن سريج، والخطابي، كما ذهب إلى هذا القول من ذوى المذاهب المستقلة، الظاهرية، وأصحاب أبى حنيفة. قال النووي : وهو الراجح المختار. والمسلمون في جميع الأمصار والأعصار جارون على العمل بالمزارعة. وقد صنف ابن خزيمة كتابا في جواز المزارعة وأجاد.

وتابع الإمام أحمد على جوازها، فقهاءُ الحنابلة، المحققون منهم والمقلدون.

وتمسك هؤلاء بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم  ليهود خيبر، فإنها قضية مشهورة لا تقبل الرد ولا التأويل.

ولذا فقد استمرت هذه المعاملة منذ عقدت، حتى أجلاهم عمر عن خيبر في خلافته، وبهذا يتحقق أنها لم تنسخ ولم تبدل.

أما أحاديث رافع بن خَديج ، التي استدل بها المانعون، فقد تكلم فيها العلماء، وذلك لاضطرابها وتلونها فإنه تارة يروى المنع عن عمومته، وتارة أخرى عن رافع بن ظهير، وثالثة عن سماعه هو ثم يروى النهى عن [ كراء الأرض] .

وحينا [ينهى عن الجعل]. ورابعة [عن الثلث والربع والطعام المسمى ]

وبهذا حصل الاضطراب، وشك فيها، حتى قال الإمام أحمد .[ حديث رافع، ألوان وضروب]، وقد أنكره الصحابة، ولم يعلم به عبد الله بن عمر، إلا في خلافة معاوية .

فكيف مثل هذا الحكم يخفى عليهم وهم يتعاطونه؟!.

وعلى فرض انسجامها وصحة الأخذ بها، فقد أجاب العلماء عنها، وعن حديث جابر بأجوبة مقنعة.

وأحسنها الجمع بينها وبين أحاديث خيبر، وذلك بأن تحمل أحاديث النهي عن المزارعة، على المزارعة الفاسدة التي دخلها شيء من الغرر والجهالة، وصار فيها شبه من الميسر والمغالبات.

وهو حمل وجيه، بل قد صرح بذلك في بعض طرق أحاديثه.

ولهذا قال شمس الدين " ابن القيم " : [ إن من تأمل حديث رافع بن خديج وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمل مجملها على مفسرها، ومطلقها على مقيدها، علم أن الذي نهى عنه النبي  صلى الله عليه وسلم من ذلك، أمر بين الفساد وهو المزارعة الظالمة الجائرة فإنه قال [ كنا نكرى الأرض، على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ] .

وفي لفظ له [ كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع ].

وقوله: [ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه . أما بشيء معلوم مضمون، فلا باًس ] وهذا من أبين ما في حديث رافع وأصحه وما فيه من مجمل أو مطلق أو مختصر، فيحمل على هذا المفسر المبين المتفق عليه لفظاْ وحكماً، ا.هـ كلام " ابن القيم "  رحمه الله تعالى.

وقال الليث بن سعد: " الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم  أمر إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز، لما فيه من المخاطرة ".

وقال ابن المنذر: قد جاءت أخبار رافع بعلل تدل على أن النهى كان لتلك العلل.

قال الخطابي: إنما صار هؤلاء (أبو حنيفة ومالك والشافعي) إلى ظاهر الحديث من رواية رافع بن خديج ولم يقفوا على علته كما وقف عليها أحمد.

ثم قال الخطابي أيضاً: فالمزارعة على النصف والثلث والربع، وعلى ما تراضى عليه الشريكان جائزة ، إذا كانت الحصص معلومة، والشروط الفاسدة معدومة. وهى عمل المسلمين في بلدان الإسلام وأقطار الأرض، شرقها وغربها، لا أعلم أني رأيت أو سمعت أهل بلد أو صقع من نواحي الأرض التي يسكنها المسلمون يبطلون العمل بها.

ثم قال الخطابي رحمه الله عن حديث رافع في الإجارة بالماذيانات وأقبال الجداول قال: فقد أعلمك رافع في هذا الحديث: أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم، وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا شروطاً فاسدة وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقى والجداول، فيكون خاصاً لرب المال.

والمزارعة شركة، وحصة الشريك لا يجوز أن تكون مجهولة وقد يسلم ما على السواقى ويهلك سائر الزرع، فيبقى المزارع لا شيء له، وهذا غرر وخطر.

وإذا اشترط رب المال على المضارب دراهم لنفسه زيادة على حصة الربح المعلومة، فسدت المضاربة، وهذا وذاك مواء.

وأصل المضاربة في السنة المزارعة والمساقاة، فكيف يجوز أن يصح الفرع، ويبطل الأصل؟! ا.هـ. كلام الخطابي قدس الله روحه. وهو توجيه جليل، بلفظ قليل. وقال شيخ الإسلام والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم  نهى عن المشاركة التي هي كراء الأرض بالمعنى العام إذا اشترط لرب الأرض منها زرع مكان بعينه. والأمر في ذلك كما قال الليث بن سعد ؛ فقد بين أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم شيء إذا نظر فيه ذو بصيرة بالحلال والحرام علم أنه حرام.

وبهذا تبين أن المزارعة والمساقاة، عقدان صحيحان جائزان ، وأن القول بجوازهما هو مذهب جمهور الأمة، سلفا وخلفا، وأنه عمل المسلمين، قديماً وحديثاً.

فائدة:

قال شيخ الإسلام:

الجمهور يقولون: الشركة نوعان: شركة أملاك، وشركة عقود. وشركة العقود أصلا لا تفتقر إلى شركة الأملاك، كما أن شركة الأملاك لا تفتقر إلى شركة العقود، وإن كانا قد يجتمعان.

والمضاربة شركة عقود بالإجماع، والمساقاة والمزارعة. وإن كان من الفقهاء من يزعم أنهما من باب الإجارة، وأنهما على خلاف القياس- فالصواب أنهما أصل مستقل ، وهو من باب المشاركة، لا من باب الإجارة وهي على وفق قياس المشاركات.

 بَاب في جَواز كراء الأرض بالشيء المعْلوم والنهي عن الشروط الفاسدة

 الحديث الأول[168]

عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيج قَالَ: كُنَّا أكثرَ الأنصار حَقْلا، وَكُنَّا نَكْرِي الأرض عَلى أن لَنَا هذِه وَلَهُمْ هَذِهِ، وَرُبَّمَا أخْرَجَتْ هذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هذِهِ، فَنَهانَا عَنْ ذلِكَ. فأما الوَرقُ فَلَمْ يَنْهَنَا.

 الحديث الثاني

ولـ " مسلم " عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْس قال: سَالتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيج عَنْ كِرَاءِ الأرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِق، فقال: لا بَأسَ بِهِ، إنَّمَا كَان النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلى عَهْدِ النَّبي صلى الله عليه وسلم  بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأشْيَاءَ مِنَ الزَرْعِ، فَيهْلِكُ هذَا، وَيَسْلَمُ هذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاء إلا هذَا، فَلِذلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأمَّا شَيء مَعْلُوم مَضْمُون فَلا بَأسَ بِهِ..

الماذيانات : اْلأنهار الكبار. والجدول: النهر الصغير.

الغريب:

حقلا: بفتح الحاء المهملة، وسكون القاف، منصوب على التمييز. الأصل في الحقل القراح الطيب، ثم أطلق على الزرع، واشتق منه المحاقلة.

الماذيانات: بذال معجمة مكسورة، ثم ياء مثناة، ثم ألف ونون، ثم بعدها ألف أيضاً. قال الخطابي: هي من كلام العجم[169] فصارت دخيلا في كلام العرب.

أقبال الجداول: بفتْح الهمزة، فقاف فباء. و الأقبال، الأوائل. والجداول جمع "جدول" وهو النهر الصغير.

المعنى الإجمالي:

في هذين الحديثين، بيان وتفصيل لإجارة الأرض الصحيحة، وإجارتها الفاسدة.

فقد ذكر رافع بن خديج أن أ هله كانوا أكثر أهل المدينة مزارع وبساتين.

فكانوا يكارون الأرض كراء جاهلياً، فيعطون الأرض لتزرع، على أن لهم جانباً من الزرع، وللمزارع، الجانب الآخر، فربما جاء هذا، وتلف ذاك.

وقد يجعلون لصاحب الأرض، أطايب الزرع، كالذي ينبت على الأنهار والجداول، فيهلك هذا، ويسلم ذاك، أو بالعكس.

فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المعاملة، لما فيها من الغرر والجهالة والمخاطرة، فإنها باب من أبواب الميسر، وهو محرم لا يجوز، فلابد من العلم بالعوض، كما لابد من التساوي في المغنم والمغرم.

فإن كانت جزء منها، فهي شركة مبناها العدل والتساوي في غنْمِهَا وغُرْمِهَا.

وإن كانت بعوض، فهي إجارة لابد فيها من العلم بالعوض.

وهى جائزة سواء أكانت بالذهب والفضة، أم بالطعام مما يخرج من الأرض[170] أو من جنسه أو من جنس آخر، لأنها إيجار للأرض ولعموم الحديث [ فأما شيء معلوم مضمون، فلا بأس به].

ما يستفاد من الحديث:

1- جواز إجارة الأرض للزراعة، وقد أجمع عليه العلماء في الجملة.

2- أنه لابد أن تكون الأجرة معلومة، فلا تصح بالمجهول.

3- عموم الحديث يفيد أنه لا بأس أن تكون الأجرة ذهباً أو فضة أو غيرهما، حتى ولو كان من جنس ما أخرجته الأرض، أو مما أخرجته بعينه.

4- النهى عن إدخال شروط فاسدة فيها : "ذلك كاشتراط جانب معين من الزرع وتخصيص ما على الأنهار ونحوها لصاحب الأرض أو الزرع ، فهي

مزارعة أو إجارة فاسدة، لما فيها من الغرر والجهالة والظلم لأحد الجانبين، يجب أنْ تكون مبنية على العدالة والمواساة.

فإما أن تكون بأجر معلوم للأرض، وإما أن تكون مزارعة يتساويان فيها مغنما ومغرماً.

5- بهذا يعلم أن جميع أنواعَ الغرر والجهالات والمغالبات، كلها محرمة باطلة، فهي من القمار والميسر، وفيهما ظلم أحد الطرفين.

والشرع إنما جاء بالعدل والقسط والمساواة بين الناس، لإبعاد العداوة والبغضاء، وجلب المحبة والمودة.

اختلاف العلماء:

ذهب عامة العلماء إلى جواز الإجارة بالذهب والفضة والعروض غير الطعوم.

واختلفوا في جوازها في الطعام.

فإن كان معلوماً غير خارج منها، فذهب إلى جوازها أكثر أهل العلم، ومنهم الشافعية، والحنفية، والحنابلة. سواء أكان الطعام من جنس الخارج منها، أم من غير جنسه، للحديث العام، ولأنه ليس فيه ذريعة إلى الربا، فجاز، كالنقود.

ومنعه الإمام مالك، محتجاً بحديث [ فلا يكريها بطعام].

وإن كان بجزء مما يخرج منها، فلا يجوز عند الأئمة الثلاثة.

وما نقل عن الإمام أحمد في جوازها، فمحمول على إرادته للمزارعة، بلفظ الإجارة.

 بَابُ الوَقف

قال ابن فارس في [ مقاييس اللغة ] : الواو والقاف والفاء، أصل يدل على تمكث ثم يقاس عليه. ثم قال: ولا يقال: أوقف.

قلت: ومن أصل التمكث يؤخذ الوقف الشرعي فإنه ماكث الأصل.

وتعريفه شرعاً: حبس مالكٍ مالَهُ المنتفع به مع بقاء عينه عن التصرفات برقبته، وتسبيل منفعته على شيء من أنواع القُرب ابتغاء وجه الله تعالى .

وحكمه: الاستحباب. وقد ثبت بالسنة، لأحاديث كثيرة.

منهاِ حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثلاثٍ ، صدقة جارية.. الخ ".

وإجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين على جوازه ولزومه.

قال الشافعي: ولم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته. وإنما حبس أهل الإسلام وهذا إشارة إلى أنه حقيقة شرعية.

وقال الترمذي: " لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافاً في جواز وقف الأرضين "  إلا أنه نقل عن شريح القاضي أنه أنكر الْحُبُسَ.

ومثل هذا لا يعطى حكم الوقف من اللزوم والثواب والفضل والأحكام.

وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه.

قال جابر بن عبد الله : " لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة ، إلا وقف ".

وبهذا يعلم إجماع القرن المفضل عليه، فلا يلتفت إلى خلاف بعدَه.

أما فضله، فهو من أفضل الصدقات التي حث الله عليها، ووعد عليها، بالثواب الجزيل، لأنه صدقة ثابتة دائمة في وجوه الخير.

وقد ورد في فضله آثار خاصة، لحديث عمر، وخالد، وعمل الصحابة رضى الله عنهم أجمعين.

وهذه الأحاديث الواردة في أصله وفضله.

وهذا الفضل الجزيل المترتب عليه، هو إذا كان وقفاً شرعياً حقيقياً واقعاً في موقعه، مقصوداً به وجه الله تعالى، موجهة مصارفه إلى وجوه القرب وأبواب البر والإحسان، من بناء المساجد والمدارس النافعة، والمشاريع الخيرية وصرفه إلى أهله من ذوى القرب والرحم، والفقراء والمساكين، والعاجزين، والمنقطعين، ومساعدة أهل الخير والصلاح، ونحو ذلك.

أما أن يحجر على أولاده وورثته باسم الوقف حتى لا يبيعوه، أو تكثر عليه الديون فيقف عقارَه خشية أن يباع لأصحاب الحقوق، أو يقفه على أولاده، فيحرم بعضهم ويحابى بعضهم، كأن يجعل نصيب البنات لهن ما دمن على قيد الحياة، أو يفضل بعض الأولاد على بعض لغير قصد صحيح أو يقفه على جهة من الجهات التي لا بِر فيها ولا قربة، ونحو ذلك. فهذا كله ليس بوقف صحيح، بل هو تحجير باسم الوقف.

وبهذا يدخل في أبواب الظلم، بدلا من أبواب البر، لأنه ليس على مراد الله، وكل ما أحدث في غير أمر الله فهو رد. أي مردود.

وبما تقدم تعرف الحكمة الجليلة من الوقف ، فهو إحسان إلى الموقوف عليهم وبِرّ بهم، وهم أولى الناس بالبر والإحسان، وذلك إما لحاجتهم كالفقراء والأيتام والأرامل والمنقطعين، أو للحاجة إليهم كالمجاهدين والمعلمين والمتعلمين والعاملين- تبرعاً- في خدمة الصالح العام.

وفيه إحسان كبير وبِرّ عظيم للواقف إذ يتصدق بهذه الصدقة المؤبدة التي يجرى عليه ثوابها بعد انقطاع أعماله وانتهاء آماله، بخروجه من دنياه إلى أخراه .

الحديث الأول[171]

عَنْ عَبْدِ الله بنٍ عُمَرَ قال: أصاب عُمَرُ أرضا بِخَيْبَرَ فأتى النَبي  صَلًى الله عَلَيْهِ ومسَلّمَ يَسْتَأمِرُهُ فِيهاَ، فقال: يَا رَسَوُلَ الله، إني أصبت أرْضاً بِخَيْبَرَ لَمْ أصِبْ مَالا قَط هُوَ أنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَماَ تَأمُرُني بِهِ؟

قال: " إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أصْلَهَا وَتَصَدقْتَ بِهَا ".

قال: فَتَصَدقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أنَهُ لا يُباعُ أصلُهَا وَلا يُورَث.

قال: فَتَصَدقَ بهَا عُمَرُ في الفُقَرَاء، وفي القُربَى، وَفي الرقَابِ، وَفي سَبيلِ الله، وَابن السبيلِ، وَالضيفِ ، لا جُنَاح عَلَى مَن وَلِيَهَا أن يَأكلَ مِنْهَا بالمعرُوفِ، أوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً، غيرَ مُتَمَول فِيهِ.  وفي. لفظ: غيْرَ مُتَأثل.

الغريب:

أرضا بخيبر : بلاد شمالي المدينة تبعد عنها 160كم لا تزال عامرة بالمزارع والسكان، وكانت مسكنا لليهود حتى فتحها النبي صلى الله عليه وسلم  عام سبع فأقرهم على فلاحتها حتى أجلاهم عمر في خلافته. وأرض عمر هذه، اسمها " تَمغ " بفتح فسكون اشتراها من أرض خيبر.

يستأمره: يستشيره في التصرف بها.

قط: ظرف زمان للماضي، مشدد الطاء، مبنى على الضم:

أنفس منه: يعني أجود منه، والنفيس: الشيء الكريم الجيد المغتبط به.

لا جناح : لا حرج ولا إثم.

غرِ متمول، غير متأثل : المتمول: اتخاذ المال أخذا أكثر من حاجته. و" التأثل " اتخاذ أصل المال وجمعه حتى كأنه قديم عنده.

المعنى الإجمالي:

أصاب عمر بن الخطاب رضى الله عنه أرضا بخيبر، قدرها مائة سهم، هي أغلى أمواله عنده، لطيبها وجودتها: كانوا- رضى الله عنهم- يتسابقون إلى الباقيات الصالحات.

- فجاء رضي اللَه عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم  طمعاً في البر المذكور في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالوا البِرً حَتًى تُنْفِقُوا مِمًا تُحِبونَ } - يستشيره في صفة الصدقة بها لوجه الله تعالى . لثقته بكمال نصحه.

فأشار عليه بأحسن طرق الصدقات، وذلك بأن يحبس أصلها ويقفه فلا يتصرف به ببيع، أو إهداء، أو إرث أو غير ذلك من أنواع التصرفات، التي

من شأنها أن تنقل الملك ، أو تكون سببا في نقله، ويصدق بها في الفقراء والمساكين، وفى الأقارب والأرحام، وأن يَفُكً منها الرقاب بالعتق من الرق، أو بتسليم الديات عن المستوجبين، وأن يساعد بها المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمته ونصر دينه، وأن يطعم المسافر الذي انقطعت به نفقته في غير بلده، ويطعم منها الضيف أيضا، فإكرام الضيف من الإيمان بالله تعالى.

بما أنها في حاجة إلى من يقوم عليها ويتعاهدها بالري والإصلاح، فقد رفع الحرج والإثم عمن وليها أن يأكل منها بالمعروف، فيأكل ما يحتاجه، ويطعم منها صديقا غير متخذ منها مالا زائدا عن حاجته، فهي لم تجعل إلا للإنفاق في طرق الخير والإحسان، لا للتمول والثراء.

ما يستفاد من الحديث:

1- يؤخذ من قوله: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" معنى الوقف الذي هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.

2- يؤخذ من قوله: "غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث" حكم التصرف في الوقفة، فإنه لا يجوز نقل الملك فيه، ولا التصرف الذي يسبب نقل الملك، بل يظل باقيا لازما، يعمل به حسب شرط الواقف الذي لا حيف فيه ولا جنف.

3- مكان الوقف، وأنه العين التي تبقى بعد الانتفاع بها.

فأما ما يذهب بالانتفاع به، فهو صدقة، وليس له موضوع الوقف ولا حكمه.

4- يؤخذ من قوله: "فتصدق بها عمر في الفقراء.. الخ" مصرف الوقف الشرعي، وأنه الذي يكون في وجوه البر والإحسان العام أو الخاص، كقرابة الإنسان. وفك الرقاب، والجهاد في سبيل الله، والضيف، والفقراء، والمساكين وبناء المدارس والملاجئ والمستشفيات ونحو ذلك.

5- يؤخذ من قوله: " لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف" صحة شرط الواقف الشروط التي لا تنافى مقتضى الوقف وغايته، والتي ليس فيها إثم ولا ظلم.

فمثل هذه الشروط لا بأس بها لأن للواقف فيها منفعة بلا جور على أحد. فإذا شرطت مثل هذه الشروط نفذت، ولولا أنها تنفذ، لم يكن في اشتراط عمر فائدة.

6- في قوله: " لا جناح على من وليها.. الخ" جواز أكل ناظر الوقف منه بالمعروف بحيث يأكل قدر كفايته وحاجته، غير متخذ منه مالا، وكذلك له أن يطعم منه الصديق بالمعروف.

7- فيه فضيلة الوقف، وأنه من الصدقات الجارية والإحسان المستمر.

8- وفيه أن الأفضل أن يكون من أطيب المال وأنفسه، طمعاً في بر الله وإحسانه الذي جعله للذين ينفقون مما يحبون.

9- وفيه مشاورة ذوى الفضل. وهم أهل الدين والعلم، وكل عمل له أرباب يعلمونه.

10- وفيه أن الواجب على المستشار أن ينصح بما يراه الأفضل والأحسن، فالدين النصيحة.

11- وفيه فضيلة الإحسان والبر بذوي الأرحام، فإن الصدقة عليهم، صدقة وصلة.

12- يؤخذ من الحديث أن الشروط في الوقف لابد أن تكون صحيحة على مقتضى الشرع ؛ فلا تكون مما يخالف مقتضى الوقف من البر والإحسان، ومن العدل والبعد عن الجور والجنف والظلم.

ونسوق هنا خلاصة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك فقد ذكر حديث عائشة " من نذر أن يطع الله فليطعه... " وحديث بريدة " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل... والمسلمون على شروطهم..." ثم قال:

من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة اً و البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطا تخالف ما كتبه اللّه على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر اللّه به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود، الوقف وغيره، ولكن تنازعوا في العقود والمباحات كالبيع والإجارة والنكاح هل معنى الحديث من اشترط شرطاً لم يثبت أنه خالف فيه الشرع، أو من اشترط شرطاً يعلم أنه مخالفا لما شرعه الله.

هذا فيه تنازع، لأن قوله آخر الحديث " كتاب الله أحق وشرط الله أوثق " يدل على أن الشرط الباطل ما خالف ذلك.

وقوله: " من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل " قد يفهم منه ما ليس بمشروع، وصاحب القول الأول يقول: ما لم ينه عنه من المباحات فهو ما أذن فيه فيكون مشروعاً بكتاب اللّه، وأما ما كان من العقود التي يقصد بها الطاعات كالنذر، فلا بد أن يكون المنذور طاعة، فمتى كان مباحا لم يجب الوفاء به.

ثم تحدث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن البدعة، وبين أنها جميعاً مذمومة في الشرع، وبين أن ما فعل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم  من جمع المصحف، وجمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان، وطرد اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ليس بدعة، وإنما هو شرعة، لأن أقل ما يقال فيه أنه من سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.

وعقب على ذلك بقوله: وبالجملة فلا خلاف بين العلماء أن من وقف على صلاة أو صيام أو نحو ذلك من غير الشرعي لم يصح وقفه والخلاف في

المباحات. وهذا أصل عظيم وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة، فمن جعل ما ليس مشروعا دينا وقربة، كان ذلك حراما باتفاق المسلمين.

ثم قال رحمه الله تعالى: القسم الثالث عمل مباح مستوى الطرفين فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به، والجمهور من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أن شرطه باطل، فلا يصح عندهم أن يشرط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى، وذلك لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما له فيه منفعة في الدين والدنيا، فما دام الإنسان حياً فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة،- لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه أو أهدى إليه ونحو ذلك، فأما الأعمال التي ليست طاعة للّه ورسوله فلا ينتفع بها الميت فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملا أو صفة لا ثواب فيها كان السعي في تحصيلها سعياً فيما لا ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ومثل هذا لا يجوز.

اختلاف العلماء:

شذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله فأجاز بيع الوقف ورجوع الواقف فيه.

ومذهبه مخالف لنص الحديث ولذا قال صاحبه أبو يوسف: لو بلغ أبا حنيفة هذا الحديث (حديث عمر) لقال به، ورجع عن بيع الوقف.

وقال القرطبي: الرجوع في الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه.

وذهب مالك والشافعي: إلى لزوم الوقف وعدم جوازه وصحة بيعه بحال، أخذاً بعموم الحديث " غير أنه لا يباع أصلها. الخ " .

وذهب الإمام أحمد إلى قول وسط، وهو أنه لا يجوز بيعه ولا الاستبدال به إلا أن تتعطل منافعه بالكلية، ولم يمكن الانتفاع به، ولا تعميره وإصلاحه،

فإن تعطلت منافعه، جاز بيعه واستبداله بغيره. استدل على ذلك بفعل عمر حينما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب.

فكتب إلى سعد: " أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلى".

وكان هذا العمل بمشهد من الصحابة، فلم يُنْكَر. فهو كالإجماع .

وشبهه بالهَدْىِ الذي يعطب قبل بلوغه مَحله، فإنه يذبح بالحال، وتترك مراعاة المَحِل، لافضائها إلى فوات الانتفاع بالكلية.

قال ابن عقيل رحمة الله : "الوقف مؤبد، فإذا لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه، استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى ، وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض"

 قال شيخ الإسلام " ابن تيميهَ " رحمه الله: "ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه، لظهور المصلحة".

وذكر رحمه الله أنه يجوز إبدال الوقف، ولو كان مسجدا بمثله أو خير منه، وكذلك إبدال الهدي والأضحية والمنذور، وذلك بأن يعوض فيها بالبدل، أو تباع ويشترى بثمنها، إلا المساجد الثلاثة فما يجوز تغيير عرصتها وإنما يجوز الزيادة فيها، وإبدال البناء بغيره، كما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة.

وذكر شيخنا عبد الرحمن آل سعدي رحمه الله أنه إذا نقص الموقوف أو قلت منافعه، وكان غيره أصلح منه وأنفع للموقوف عليهم ففيه عن الإمام أحمد روايتان، أشهرهما المنع، أي منع بيعه واستبداله

والثانية، الجواز، وهى اختيار شيخ الإسلام. وعليها العمل في محاكم المملكة العربية السعودية فإذا ثبت عند القاضي أن في بيعه واستبدال غبطة أو مصلحة أجازه، وأذن لناظره بذلك. وإلا فلا .

ولكن في هذه الحال لا ينبغي أن يستقل الناظر في بيعه، بل يرفع الأمر للحاكم ، ويجتهد في الأصلح ، لأنه في هذه الحال يدخلها من الهدى والخطأ، ما يحتاج إلى رفعه، ورفع المسئولية عنه بالحاكم . والله أعلم- ا.هـ.

وهذا هو الجاري في محاكم المملكة، فإنه لا يباع وقف إلا بإذن من الحاكم الشرعي، بل حتى تطلع هيئة القضاء في محكمة التمييز على حكم القاضي وتراه موافقا للوجهة الشرعية، فتجيزه، وبدون هذا فإن الوقف لا يُتَصرف فيه بما ينقل الملك.

 باَبُ الهِبَة

الهبة:- بكسر الهاء وتخفيف الباء. وهى- شرعا- تمليك في الحياة بلا عوض. ولفظ الهبة يشمل أنواعا كثيرة:

منها:- الهدية المطلقة، والإبراء من الدين، والصدقة، والعطية، وهبة الثواب. ولكنْ بينها فروق.

فالهبة المطلقة:- ما قصد بها التودد إلى الموهوب له.

والصدقة:- ما قصد بها محض ثواب الآخرة.

والعطية:- هي الهبة في مرض الموت المخوف، وتشارك الوصية في أكثر أحكامها.

وهبة الدين:- هي إبراء المدين من الدين .

وهبة الثواب:- وهى ما قصد بها أخذ عوضها، وهى من أنواع البيع ولها أحكامه.

ولكن إذا أطلقت الهبة، فالمراد بها الأولى من هذه الأنواع.

ولها فوائد وحكم كثيرة، من إسداء المعروف، والتعاون، والتودد، وجلب المحبة، ففي الحديث " تهادوا تحابوا " لا سيما إذا كانت على قريب، أو جار، أو من بينك وبينه عداوة.

فهنا تحقق من المصالح والمنافع الشيء الكثير، وتكون من أنواع العبادات الجليلة التي أزالت ما في الصدور، ووثقت عرى القرابة والجوار. والشرع يهدف إلى كل ما فيه الخير والصلاح.

الحديث الأول

عَنْ عُمَرَ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: حَمَلْت عَلَى فَرس فِي سَبيلِ الله، فَأضَاعَهُ الذي كان عِنْدَهُ، فَأرَدْتُ أن أشْتَريَهُ وَظَنَنتُ أنَهُ يَبيعُهُ بِرُخْص ، فَسألتُ النَبي صلى الله عليه وسلم  فقال: "لا تَشترِهِ ولا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ وَإن أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ ، فَإنَ العَائِدَ في هِبَتِهِ كالعَائِدِ فِي قيئهِ ".

وفي لفظ: " فَإنَّ الذِي يَعُودُ فِي صَدَقتِهِ كالكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قيْئِهِ " .

 الحديث الثاني

وَعَنِ ابْن عَباس رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :

" العائِدُ في هِبَتِهِ كالعَائِد فِي قيئهِ " .

المعنى الإجمالي:

أعان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا على الجهاد في سبيل الله.

فأعطاه فرسا يغزو عليه، فقصر الرجل في نفقة ذلك الفرس، ولم يحسن القيام عليه، وأتعبه حتى هزل وضعف.

فأراد عمر أن يشتريه منه وعلم أنه سيكون رخيصاً لهزاله وضعفه، فلم يقدم على شرائه حتى استشار النبي صلى الله عليه وسلم  عن ذلك، ففي نفسه من ذلك شيء لكونه من الملهَمين.

فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائه ولو بأقل ثمن، لأن هذا شيء خرج لله تعالى فلا تتبعه نفسك ولا تعلق به، ولئلا يحابيك الموهوب له في ثمنه، فتكون راجعاً ببعض صدقتك. ولأن هذا خرج منك، وكفر ذنوبك، وأخرج منك الخبائث والفضلات، فلا ينبغي أن يعود إليك. ولهذا سمى شراءه عوداً في الصدقة.

ثم ضرب مثلا للتنفير من العود في الصدقة بأبشع صورة وهى أن العائد فيها، كالكلب الذي يقىء ثم يعود إلى قيئه فيأكله مما يدل على بشاعة هذه الحال وخستها، ودناءة مرتكبها.

ما يستفاد من الحديثين:

1- استحباب الإعانة على الجهاد في سبيل اللّه، وأن ذلك من أجل الصدقات، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم صدقة.

2- أن عمر تصدت على ذلك المجاهد بالفرس ولم يجعلها وقفا عليه، أو وقفا في سبيل الله على الجهاد، وإلا لما جاز للرجل بيعه. فالمراد حمل تمليك لا حمل توقيف.

3- النهى عن شراء الصدقة، لأنها خرجت لله، فلا ينبغي أن تتعلق بها النفس. وشراؤها دليل على تعلقه بها، ولئلا يحابيه البائع فيعود عليه شيء من صدقته.

4- يحرم العود في الصدقة، وهو مذهب جمهور العلماء.

5- التنفير من ذلك بهذا المثل الذي هو الغاية في البشاعة والدناءة.

6- استثنى جمهور العلماء من تحريم العودة في الهبة ما يهبه الوالد لولده، فإن له الرجوع في ذلك، عملا بما رواه أحمد وأصحاب السنن، عن ابن عمر، وابن عَباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحل لرجل مسلم أن يعطى العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده " صححه الترمذي والحاكم.

 بَابُ العَدل بَيْن الأولاد في العطِية[172]

 الحديث الأول

عَن النَعْمَانِ بْنِ بَشِير قال : تَصَدق عَليَّ أبي بِبعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أمي عَمرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أرضى حَتًى يَشْهَدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم .

فَانطَلَقَ أبى إلى رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم  لِيُشْهِدَهُ عَلَى صدَقَتي.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم  :أفَعَلْتَ هذا بوَلَدِك كُلهِمْ " ؟ قال:  لا. قَالَ: " اتقوا الله وَاعْدِلُوا بَينَ أولادكم ".

فَرَجَع أبي، فَرَدَّ تِلْكَ الصًدَقَةَ.

وفي لفظ قال: " فَلا تُشْهِدْني إذاً، فإني لا أشْهَدُ عَلَى جَورٍ".

وفي لفظ: " فَأشْهِد عَلَى هذَا غَيْرِي ".

المعنى الإجمالي:

ذكر النعمان بن بشير الأنصاري: أن أباه خصه بصدقة من بعض ماله فأرادت أمه أن توثقها بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم  إذ طلبت من أبيه أن يشهد النبي صلى الله عليه وسلم عليها.

فلما أتى به أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم  ليتحمل الشهادة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتصدقت مثل هذه الصدقة على ولدك كلهم ؟ قال: لا.

وبما أن تخصيص بعض الأولاد دون بعض، أو تفضيل بعضهم على بعض عمل مناف للتقوى وأنه من الجور والظلم، لما فيه من المفاسد، إذ يسبب قطيعة المفضل عليهم لأبيهم وابتعادهم عنه، ويسبب عداوتهم وبغضهم لإخوانهم المفضلين.

لما كانت هذه بعض مفاسده قال النبي صلى الله عليه وسلم  له: " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ولا تشهدني على جور وظلم " ووبخه ونفَّره عن هذا الفعل بقوله: أشهد على هذا غيري.

فما كان من بشير رضى اللَه عنه إلا أن رجع بتلك الصدقة كعادتهم في الوقوف عند حدود الله تعالى.

اختلاف العلماء

أجمع العلماء على مشروعية التسوية بين الأولاد في الهبة، حتى كان السلف يسوون بينهم في القبل[173] لما في ذلك من العدل وإشعارهم جميعاْ بالمودة، وتصفية قلوبهم وإبعاد البغض والحقد والحسد عنهم.

ولكن اختلف العلماء في وجوب المساواة بينهم في الهبة.

فذهب الإمام أحمد، والبخاري، وإسحاق، والثوري، وجماعة إلى وجوبها وتحريم التفضيل بينهم، أو تخصيص بعضهم دون بعض ، أخذاً بظاهر الحديث.

وذهب الجمهور إلى أنها مستحبة فقط، وأطالوا الاعتذار عن هذا الحديث بما لا مقنع فيه.

والحق الذي لاشك فيه، وجوب المساواة، لظاهر الحديث، ولما فيه من المصالح، وما في ضده من المضار.

كما أن ظاهر الحديث، التسوية بين الذكر والأنثى، لقوله لبشير " سَوِّ بينهم " وهو قول الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة، ورواية عن ا الإمام أحمد، اختارها من أصحابه " ابن عقيل " والحارثي .

وأما المشهور من مذهب الإمام أحمد، فهو أن يقسم بينهم على قدر إرثهم للذكر مثل حظ الأنثيين وهو اختيار شيح الإسلام " ابن تيمية ".

فائدة:

ذكر وجوِب العدل بين الأولاد في الهبة، وتحريم التخصيص أو التفضيل، ما لم يكن ثَمَ سبب موجب لذلك.

فإن كان هناك ما يدعو إلى التفضيل أو التخصيص، فلا بأس، كأن يكون أحدهم مريضاً، أو أعمى، أو زمنا[174]، أو كان ذا أسرة كبيرة أو طالب علم، ونحو ذلك من الأسباب، فلا بأس، بتفضيله لشيء من هذه المقاصد.

وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد بقوله- في تخصيص بعضهم بالوقف-: لا بأس إذا كان لحاجة، وكرهه إذا كان على سبيل الأثرة.

وقال شيخ الإسلام " ابن تيمية ": والحديث والآثار تدل على وجوب العدل... ثم هنا نوعان.

1- نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك، فالعدل فيه أن يعطى كل واحد ما يحتاج إليه، ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير.

2- ونوع تشترك حاجتهم إليه، من عطية، أو نفقة، أو تزويج . فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه.

وينشأ من بينهما نوع ثالث، وهو أن ينفرد أحدهم بحاجة غير معتادة، مثل أن يقضى عن أحدهم دينا وجب عليه من أرش[175] جناية، أو يعطى عنه المهر، أو يعطيه نفقة الزوجة، ونحو ذلك، ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر" ا.هـ من الاختيارات.

ما يؤخذ من الأحاديث:

1- وجوب العدل بين الأولاد، وتحريم التفضيل أو التخصيص. ذكرهم وأنثاهم سواء.

2- أن ذلك من الجور والظلم، الذي لا تجوز فيه الشهادة تحملا وأداء.

3- وجوب رد الزائد أو إعطاء الآخرين، حتى يتساووا.

4- أن الأحكام التي تقع على خلاف الشرع تبطل، ولا تنفذ، ولا يعتبر عقدها الصوري، لأنه على خلاف المقتضى الشرعي.

 بَابُ هِبَة العمرى

 الحديث الأول

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضىَ الله عَنْهُمَا قال: قَضَى النَّبي صلى الله عليه وسلم بالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ.

وفي لفظ: "مَنْ اعمِرَ عُمْرَى فَهِي لَهُ وَلِعَقبِهِ فإنَّهَا لِلَّذِي أعْطِيَها، لا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أعْطاهَا لأنَّهُ عَطَاءٌ وَقَعَتْ فِيهِ الموَارِيثُ".

وقال جابر: إنَّمَا الْعُمْرَى التي أجَازَهَا رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم  أنْ يَقُولَ: هِي لَكَ وَلِعَقِبِكَ. فَأمَّا إذا قَالَ: هِي لك مَا عِشتَ، فإنَّهَا تَرجِعُ إلَى صَاحِبهَا.

في لفظ لمسلمِ: " امسِكُوا عَلَيْكُمْ أموَالَكمْ وَلا تُفْسِدُوهَا فَإنَّهُ مَنْ أعْمَرَ عُمْرَى فهِي لِلَّذِي اعْمِرَهَا حَيّاً وَمَيْتاً وَلِعَقِبِهِ ".

الغريب:

العمرى: بضم العين المهملة، وسكون الميم، وألف مقصورة. مشتقة من العمر، وهو الحياة. سميت بذلك، لأنهم كانوا في الجاهلية يعطى الرجلُ الرجلَ الدار أو غيرها ويقول : أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك

أعمر: بضم أوله، وكسر الميم. مبنى للمجهول.

المعنى الإجمالي:

العمرى :- ومثلها " الرقبى " نوعان من الهبة، كانوا يتعاطونهما في الجاهلية، فكان الرجل يعطى الرجل الدار أو غيرها بقوله: أعمرتك إياها أو أعطيتكها عمرك أو عمري .

فكانوا يرقبون موت الموهوب له، ليرجعوا في هبتهم.

فأقر الشرع الهبة، وأبطل الشرط المعتاد لها، وهو الرجوع، لأن العائد في هبته، كالكلب، يقيئ ثم يعود في قيئه، ولذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم  بالعمرى لمن وهبت له ولعقبه من بعده.

ونبههم صلى الله عليه وسلم  إلى حفظ أموالهم بظنهم عدم لزوم هذا الشرط وإباحة الرجوع فيها فقال: " أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي اعمِرَها، حياً وميتا، ولعقبها " .

هذا ما لم يصرح الواهب بأنها للموهوب له ما عاش فقط، فالمسلمون على شروطهم، ويكون حكمها، حكم العارية.

لكن لا يرجع الواهب فيها ولا بعد وفاة الموهوب له، لأن الوفاء بالوعد واجب، والإخلاف من صفات المنافقين المحرمة.

اختلاف العلماء:

العمرى ثلاثة أنواع:

1- إما أن تؤبد كقوله: لك: لعقبك من بعدك.

2- أو تطلق كقوله: هي لك عمرك أو عمري.

وجمهور العلماء على صحة هذين النوعين وتأبيدهما وهو مذهب بعض الحنابلة

3- والنوع الثالث أن يشترط الواهب الرجوع فيها بعد موت أحدهما. فهل يصح الشرط أو يلغى وتكون مؤبدة أيضاً ؟

ذهب إلى صحة الشرط، جماعة من العلماء، منهم الزهري، ومالك، وأبو ثور، وداود. وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام وغيره من الأصحاب، لحديث " المسلمون على شروطهم " .

والمشهور من مذهب الإمام أحمد، إلغاء الشرط ولزوم الهبة وتأبيدها.

وشرط الرجوع فيها المختلف في صحته، غير هبتها مدة الحياة فهذه لها حكم العارية بإجماع العلماء.

ما يؤخذ من الحديث:

1- صحة هبة " العمرى " وأنها من منح الجاهلية، التي أقرها الإسلام وهذبها ، بمنع الرجوع فيها، لما في الرجوع من الدناءة والبشاعة.

2- أنها تكون للموهوب له ولعقبه، سواء أكانت مؤبدة أم مطلقة.

أما إذا شرط الواهب الرجوع فيها، فقد تقدم الخلاف في ذلك بين العلماء.

3- أما إذا كانت الهبة لمدة الحياة فقط، بأن قال : هي لك ما دمت حيا، أو ما عشت، فهذه لها حكم العارية.

4- إن الشروط الفاسدة غير لازمة في العقد، ولو ظنها العاقد لازمة نافعة له. لكن. قال الفقهاء: ويثبت الخيار في إمضاء البيع أورده لمشتر ظن ما ليس له ضمن عقده.

باَبُ اللُّقَطَة

اللُّقَطَة:- بضم اللام وفتح القاف على المشهور. وهي المال الضائع من ربِّه يلتقطه غيره. وَالمُلْتَقَطُ على ثلاثة أقسام:-

1- فقسم تافِه لا تتبعه همة أوساط الناس، كالسَّوط، والرغيف ونحوهما، فهذا يملك بالالتقاط ولا يلزم تعريفه.

2- والثاني، ما لا يجوز التقاطه، وهى الأشياء التي تمنع نفسها من صغار السباع لِعَدْوهاَ، كالظباء، أو بقوتها وتحملها، كالإبل، والبقر ونحو ذلك. فهذا يحرم التقاطه.

3- والنوع الثالث ما عدا ذلك، فهذا هو الذي يشرع التقاطه بقصد الحفظ لصاحبه وفيه الأحكام الآتية:-

الحديث الأول

عَنْ زَيْد بنِ خَالِدٍ الجُهَنيّ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: سُئل رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلًمَ فَيْ لقَطَةِ الذَهَب أوِ الورِقِ، فقال اعْرِفْ وِكَاءها وَعِفَاصَهَا ثُمً عَرفها سَنةً، فإن لَم تُعْرَف فَاسْتنْفقهَا وَلتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإن جَاءَ طَالبُهَا يَوْماً منَ الدهْرِ فَأدهَا إلَيهِ " .

وَسألهُ عَنْ ضَالةِ الإبِلِ فَقَالَ: مَالَكَ وَلَها؟ دَعْهَا، فِإن مَعَهَا حِذَاءهـا وَسِقَاءها، تَرِدُ المَاءَ وَتَأكُلُ الشجَرَ، حَتى يَجدَهَا رَبُهَا".

وَسَألهُ عَنِ الشاة فَقَالَ: خُذها، فَإنَما هِيَ لَكَ، أوْ لأخِيكَ أوْ لِلذئبِ.

الغريب:

وِكاءها : بكسر الواو ممدود " الوكاء " ما يربط به الشيء.

عفاصها: بكسر العين المهملة، ففاء، وبعد الألف صاد مهملة. هو وعاؤها .

حِذَاءها :  بكسر الحاء المهملة، فذال معجمة، هو خفها، لمتانته وصلابته.

سقاءها: بكسر السين، هو جوفها الذي حمل كثيراً من الماء والطعام.

ربها: هو صاحبها الذي ضاعت منه.

المعنى الإجمالي :

سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم  عن حكم المال الضال عن ربه، من الذهب، و الفضة، والإبل، والغنم.

فبين له صلى الله عليه وسلم  حكم هذه الأشياء لتكون مثالا لأشباهها، من الأموال الضائعة، فتأخذ حكمها.

فقال عن الذهب والفضة: اعرف وكاءها الذي شدت به، ووعاءها الذي جعلت فيه، لتميزها من بين مالك، ولتخبر بعلمك بها من ادعاها.

فإن طابق وصفه صفاتها، أعطيه إياها، وإلا تبين لك عدم صحة دعواه .

وأمره أن يعرفها سنة كاملة بعد التقاطه إياها.

ويكون التعريف في مجامع الناس كالأسواق ، وأبواب المساجد. والمجمعات العامة، وفي مكان التقاطها.

ثم أباح له- بعد تعريفها سنة، وعدم العثور على صاحبا- أن يستنفقها، فإذا جاء صاحبها في أي يوم من أيام الدهر، أداها إليه.

وأما ضالة الإبل ونحوها، مما يمتنع بنفسه، فنهاه عن التقاطها.

لأنها ليست بحاجة إلى الحفظ، فلها من طبيعتها حافظ، لأن فيها القوة على صيانة نفسها من صغار السباع، ولها من أخفافها ما تقطع به المفاوز، ومن عنقها ما تتناول به الشجر والماء، ومن جوفها ما تحمل به الغذاء، فهي حافظة نفسها حتى يجدها ربها الذي سيبحث عنها في مكان ضياعها.

وأما ضالة الغنم ونحوها من صغار الحيوان، فأمره أن يأخذها حفظا لها من الهلاك وافتراس السباع، وبعد أخذها يأتي صاحبها فيأخذها، أو يمضي عليها حول التعريف فتكون لواجدها  .

ما يستفاد من الحديث:

1- أن من وجد مالا ضائعاْ عن ربه لا يمتنع من حفظ نفسه، استحب له أخذه بقصد الحفظ والصيانة عن الهلاك، والاستحباب هو أرجح الأقوال .

2- أن يعرف الواجد وكاءها ووعاءها وجنسها ليميزها عن ماله وليعرف صفاتها فيختبر من ادعى ضياعها منه، فذلك من تمام حفظها وأدائها إلى ربها.

3- أن يعرفها سنة في مجامع الناس كأبواب المساجد والمحافل والأسواق، وفي مكان وجدانها، لأنه مكان بحث صاحبها، ويبلغ الجهات المسؤولة عنها، كدوائر الشرطة .

وفي زمننا يكون نشدانها في الصحف والإذاعات والتلفاز، إذا كانت لقطة خطيرة.

4- إن لم تعرف في مدة العام، جاز له إنفاقها وبقى مستعدا لإعطاء صاحبها عوضها مثلها، إن كانت مثلية، أو قيمتها إن كانت متقومة.

5- فإن مضى عليها الحول ولم تعرف، ملكها ملتقطها ملكا قهريا من غير اختيار كالإرث وإذا جاء صاحبها بعد الحول فله عوضها، أو هي بعينها إن كانت موجودة.

6- إن جاء صاحبها ولو بعد أمد طويل ووصفها. دفعت إليه.

ويكفى وصفها بينة على أنها له، فلا يحتاج إلى شهود ولا إلى يمين، لأن وصفها هو بينتها، فبينة كل شيء بحسبه، فإن البينة ما أبان الحق وأظهره، ووصفها كاف في ذلك.

وهذه قاعدة عامة في كل الأحوال، التي يدعيها أحد ولا يكون له فيها منازع، فيكتفي بوصفه إياها.

7- أما ضالة الإبل ونحوها مما يمتنع بقوته أو بعَدْوه أو بطيرانه، فلا يجوز التقاطها، لأن لها من طبيعتها وتركيب الله إياها، ما يحفظها ويمنعها.

لكن إن وجدت في مهلكة رُدتْ بقصد الإنقاذ، لا التقاط.

8- أما الشاة، فالأحسن- بعد أخذها- أن يعمل فيها الأصلح من أكلها مقدرا قيمتها، أو بيعها وحفظ ثمنها، أو إبقائها مدة التعريف.

وتركها بدون أخذها، تعريض لها للهلاك.

فإن جاء صاحبها، رجع بها أو بقيمها أو ثمنها، وإن لم يأت، فهي لمن وجدها.

 بَابُ الوَصَايَا

الوصايا: جمع وصية مثل هدايا: جع هدية. قال الأزهري: مأخوذة من" وصيتُ الشيء أصِيه " إذا وصلته. سميت وصية لأن الموصي وصل ما كان له في حياته بما كان بعد مماته. ويقال: وصّى- بالتشديد- وأوصى يوصى أيضاً. وهي- لغة- الأمر قال الله تعالى: {وَوَصّى بها إبراهِيمُ بَنيهِ وَيَعْقُوبُ}.

وشرعاً: عهد خاص بالتصرف بالمال، أو التبرع به بعد الموت.

وهى مشروعة بالكتاب، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكم إذَا حَضَرَ أحَدَكُم المَوتُ إن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيّة} .

ومشروعة بالسنة لهذه الأحاديث الآتية وإجماع المسلمين في جميع الأعصار والأمصار.

وهى من محاسن الإسلام، إذ جعل لصاحب المال جزءاً من ماله، يعود عليه ثوابه وأجره بعد موته.

وهي من لطف الله بعباده ورحمته بهم، حينما أباح لهم من أموالهم عند خروجهم من الدنيا أن يتزودوا لآخرتهم بنصيب منها.

لهذا جاء في بعض الأحاديث القُدسيةِ قول الله تعالى: " يا ابن آدم جعلت لك نصيباً من مالك حين أخذت بكظمك[176] لأطهِّرَكَ به وأزكِّيَكَ ".

 الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضي الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم  قَالَ: " مَاحَق امرئ مسلم لَهُ شَيء يُوصي بهِ، يَبِيتُ لَيلَة أو لَيلَتَين إلا وَوَصيتهُ مَكْتُوبَة عنده " .

زاد " مسلم " قال ابن عمر: فَوَ الله مَا مَرتْ عَلَي لَيلَة مُنْذُ سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ ذلِكَ إلا وعندي وَصِيتي .

المعنى الإجمالي :

يحض الني صلى الله عليه وسلم  أمته على المبادرة إلى فعل الخير واغتنام الفرصة قبل فواتها، فأفادهم أنه ليس من الحق والصواب والحزم لمن عنده شيء يريد أن يوصي به ويبينه، أن يهمله حتى تمضى عليه المدة الطويلة.

بل يبادر إلى كتابته وبيانه، وغاية ما يسامح فيه الليلة والليلتان.

فإن المبادرة إلى ذلك، من المسابقة إلى الخيرات والأخذ بالحزم.

فإن الإنسان لا يدري ما مقامه في هذه الحياة ؟ كما أن فيه امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم .

ولذا فإن ابن عمر رضي الله عنهما- بعد أن سمع هذه النصيحة النبوية- كان يتعاهد وصيته كل ليلة، امتثالا لأمر الشارع، وبيانا للحق، وتأهبا للنقلة إلى دار القرار.

ما يستفاد من الحديث:

1- مشروعية الوصية وعليها إجماع العلماء، وعمدة الإجماع، الكتاب والسنة

2- أنها قسمان :     أ- مستحب       ب- وواجب.

فالمستحب، ما كان للتطوعات والقربات .

والواجب في الحقوق الواجبة، التي ليس بينة تثبتها بعد وفاته لأن " ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب " . وذكر ابن دقيق العيد أن هذا الحديث محمول على النوع الواجب.

3- مشروعية المبادرة إليها، بيانا لها، وامتثالا لأمر الشارع فيها، واستعداداً للموت. وتبصُّراً بها وبمصرفها، قبل أن يشغله عنها شاغل.

4- أن الكتابة المعروفة تكفى لإثبات الوصية والعمل بها، لأنه لم يذكر شهوداً لها.

والخط إذا عرف، بينة ووثيقة قوية.

5- فضل ابن عمر رضي الله عنه، ومبادرته إلى فعل الخير، واتباع الشارع الحكيم.

6- قال ابن دقيق العيد: والترخيص في الليلتين والثلاث دفع للحرج والعسر.

 الحديث الثاني

عَنْ سَعْدِ بنِ أبي وَقاص رَضي الله عَنْهُ قَال جَاءَني رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُني- عَامَ حَجةِ الوَدَاع منْ وَجَع اشْتَد بي .

فَقُلْتُْ: يَا رسول الله، قَدْ بَلَغَ بي مِن الوَجَعِ مَا تَرى، وَأنَا ذو مال، وَلا يَرِثُني إلا ابنة، أفَأتَصَدق بثُلُثَي مالي ؟

قَالَ: " لا " قلْتُ: فَالشطْرُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: " لا "

قُلْتُ: فَالثلُثُ؟.

قَالَ: " الثُّلُثُ " وَالثلثُ كَثِير. إنَكَ أنْ تَذَرَْ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءٍ خَير مِنْ أن تَترَكهُم عَالَةً يَتَكَففُونَ النَّاسَ، وَإنكَ لن تُنْفِقَ نَفَقَة تَبتَغِي بهَا وَجْهَ الله إلا أجرت بِهَا، حَتى مَا تَجْعَلُ في فيّ امْرَأتِكَ " .

قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رسول الله اخَلفُ بَعْدَ أصْحَابي ؟

قَالَ: " إنَكَ لَئنْ تخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلا تَبْتَغِي بِهِ وجْهَ الله إلا ازْدَدتَ بِهِ درَجَة وَرفعَةً، وَلَعَلًكَ أن تُخَلَّفَ حتَى ينتَفِعَ بِكَ أقْوَام وَيُضَر بكَ آخَرُونَ. اللهُم أمْض لأصْحَابي هِجْرَتَهُمُ، وَلا تَرُدهُم عَلَى أعقابهم لكِنَّ البَائسَ سَعدُ بنُ خَوْلَةَ " يَرثي لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ مَاتَ بِمَكةَ.

الغريب:

الشطر: يجوز جره بالعطف على " ثلثي " وبين الزمخشري أنه يجوز نصبه على تقدير فعل محذوف هو عامل نصبه أي " أعين " ويطلق على معان، منها النصف وهو المراد هنا.

كثير : بالثاء المثلثة في أكثر روايات الحديث وهو المحفوظ.

أن تذر: بفتح الهمزة على التعليل، وبكسرها على الشرطية. قال النووي: هما صحيحان، ورد بعضهم الكسر لعدم صلاحية " خير " جواباً، إذ لا فاء فيها. وابن مالك يرى أن " خير " هي الجواب، والفاء مقدرة. والمعنى فهو خير .

عالة: جمع " عائل " و " العالة " الفقراء من " عال يعيل " إذا افتقر. " والعيلة " الفقر.

يتكففون الناس: مأخوذ من الكف " اليد " أي يسألون الناس بأكفهم.

سعد ابن خولة: نسب إلى أمه وهو قريشي عامري من جماعة أبي عبيدة ابن الجراح. وقيل: فارسي من اليمن حالف بني عامر. بدري من فضلاء الصحابة توفى بمكة في حجة الوداع، كانت تحته سبيعة بنت الحارث، فتوفي عنها وهي حامل. وقد رثى له النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توفي في البلد التي هاجر منها، فدعا صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يتم لهم هجرتهم.

المعنى الإجمالي :

مرض سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه في حجة الوداع مرضاً شديداً خاف من شدته الموت.

فعاده النبي صلى الله عليه وسلم كعادته في تفقد أصحابه ومواساته إياهم.

فذكر سعد للنبي صلى الله عليه وسلم من الدواعي، ما يعتقد أنها تسوغ له التصدق بالكثير من ماله.

 بَاب الفرائض

جمع (فريضة) بمعنى مفروضة و (المفروض) المقدر، لأن (الفرض) التقدير، فكاًن اسمها ملاحظ فيه قوله تعالى : { نصيباً مفروضا } أي مقدراً معلوماً.

وتعريفها شرعا : العلم بقسمة المواريث بين مستحقيها.

والأصل فيها، الكتاب لقوله تعالى : { يوصيِكم الله في أولادِكُمُ } الآيتين.

والسنة، لحديث ابن عباس الآتي : وإجماع الأمة على أحكامها، في الجملة.

ولما كانت الأموال وقسمتها، محطَّ الأطماع، وكان الميراث في معظم الأحيان لضعفاء وقاصرين، تَولى الله -تبارك وتعالى- قسمتها بنفسه في كتابه مبينة، مفصلة، حتى لا يكون فيها مجال للآراء والأهواء، وسواها بين الورثة على مقتضى العدل والمصلحة والمنفعة التي يعلمها.

وأشار إليها بقوله تعالى : { لا تَدْرُون أيُّهُمْ أقْرَبُ لَكُم نَفْعا } فهذه قسمة عادلة مبينة على مقْتضى العدل والمصالح  العامة. والإشارة إلى شيء مما فهم من العدل.

والقياس يخرج بنا عن موضوع الكتاب ويطيله علينا.

وتدبر كتاب الله مع الأوضاع البشرية، بهداية ونور، يبين شيئا من أسرار الله الحكيمة.

بعد قسمة (الحكيم الخبير) يأتي دعاة [التجديد] من المستغربين، ليغيروا حكم اللّه تعالى، ويبدلوا قسمته، بعد أن تمت كلماته صدقا وعدلا، زاعمين أنها أعدل وأحسن من أحكام الله {وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهّ حُكْماً لِقَوم يُوقِنُون }.

والحق: أنَّ هؤلاء المهووسين، جهلوا القوانين السماوية، والأوضاع الأرضية فنعقوا بما لم يسمعوا.

وهم - في نعيقهم - بين امرأة أحست بمركب نقصها، فأرادت أن تخرج على شريعة اللّه، وبين متظرف يريد التزين بالإلحاد والزندقة، وبين ناعق بما لا يسمع إن هو إلا دعاء ونداء، فهم لا يعقلون.

وهذا العلم علم شريف جليل.

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم ، على تعلمه وتعليمه في أحاديث.

منها : حديث ابن مسعود مرفوعا " تعلموا الفرائض، وعلموها الناس " وقد يراد بالفرائض- هنا - الأحكام عامة.

وقد أفرده العلماء بالتصانيف الكثيرة، من النظم والنثر، وأطالوا الكلام عليه.

ويكفى في تعلم أحكامه فهم الآيات الثلاث من سورة النساء، وحديث ابن عباس الآتي، فقد أحاطت بأمهات مسائله، ولم يخرج عنها إلا النادر.

ونورد هنا مقدمات تتعلق بهذا المقام، لتكمل الفائدة في هذا الكتاب، فيغني عن المطولات.

فللإرث أسباب ثلاثة :

الأول : النسب، وهي القرابة لقوله تعالى : { وَأولُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولَى ببعض }.

الثاني : النكاح الصحيح لقوله : { وَلَكُم نِصْفُ مَا تَرَكَ أزوَاجُكُم } الآية.

الثالث : الولاء، لحديث ابن عمر مرفوعاً "الولاء لحمة كلحمة النسب".

وأما غير هذه الثلاثة، فلا تكون سبباً للإرث على المشهور عند العلماء. فمتى وجد شيء من هذه الثلاثة، حصل التوارث بين الطرفين، حتى في الولاء على الصحيح.

وللإرث موانع، إذا وجدت أو وجد شيء منها، امتنع الإرث، وإن وجد سببه، لأن الأشياء لا تتم إلا باجتماع شروطها وانتفاء موانعها.

وموانع الإرث ثلاثة :

الأول : القتل، فمن قتل مورثه، أو تسبب لقتله بغير حق، فلا يرثه، ولو بغير قصد، من باب (من تعجل شيئا قبل أوانه، عوقب بحرمانه) في حق العامد، ومن باب ( سد الذرائع ) في حق غيره، لحديث عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول : " ليس للقاتل شيء " رواه مالك في الموطأ.

الثاني : الرق. فلا يرث العبد قريبه، لأنه لو ورث لكان لسيده. وكذلك المملوك،يورث لأنه لا يملك، إذ إن ماله لسيِّده.

الثالث : اختلاف الدين. ويأتي بيانه في حديث أسامة، إن شاء الله تعالى.

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ اللّه بن عَباس رضي اللّه عَنْهُمَا عَن الَّنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَـلمَ قَالَ: " ألِحقُوا الفراَئِض بأهْلِهَا، فَمَا بَقِي فَلأوْلَى رَجُل  ذَكَر".

وفي رواية :"اقسِمُوا المَالَ بَيْنَ أهْلِ الفَرَائِض عَلَى كِتَابِ الله، فَمَا تَرَكَت الفَرَائِضُ فَلأِوْلَى رَجُل ذَكَر[177]".  

المعنى الإجمالي:

يأمر النبي صلى الله عليه وسلم القائمين على قسمة تركة أن يوزعوها على مستحقيها بالقسمة العادلة الشرعية كما أراد الله تعالى.

فيعطى أصحاب الفروض المقدرة فروضهم في كتاب الله. وهى الثلثان، والثلث، والسدس، و النصف، والربع، والثمن.

فما بقى بعدها، فإنه يعطى إلى من هو أقرب إلى الميت من الرجال لأنهم الأصل في التعصيب. فيقدمون على ترتيب منازلهم وقربهم من الميت كما يأتي بيانهم قريبا- بعد بيان أصحاب الفروض، إن شاء الله تعالى.

" خلاصة عن الإرث وكيفيته، مسبقاة من القرآن الكريم، ومن هذا الحديث الجليل "

نبدأ بما بدأ الله به من توريث ذوي الفروض الذين نص الله تعالى توريثهم وقدر فرضهم.

حتى إذا علمنا ما لهم، ذكرنا الذين يأخذون ما أبقت الفروض، وهم العصبات.

فالفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ستة : 1- النصف 2- والربع 3- والثمن 4- والثلثان 5- والثلث 6- والسدس. ولكل فرض صاحبه أو أصحابه.

1- النصف : ويكون للبنت، ولبنت الابن وإن نزل، لقوله تعالى : { وإن كانت واحدة فلها النصف } وبنت الابن بنت.

وهذا التوريث بالإجماع، بشرط أن لا يكون معهن غيرهن من الأولاد.

وهو (أي النصف) فرض الزوج أيضا، بشرط أن لا يكون للزوجة ولد من ذكر أو أنثى، لقوله تعالى : " ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد ".

وهو (أي النصف) فرض الأخت الشقيقة، وإن لم توجد، فالأخت لأب مع عدم الفرع الوارث، لقوله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} وهذه في ولد الأبوين أو لأب بالإجماع.

2- الربع : ويكون للزوج مع وجود الفرع الوارث، لقوله تعالى : { فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن } وهو (أي الربع) فرض الزوجة فأكثر، مع عدم الفرع الوارث لقوله تعالى : { ولهنَّ الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد }

3- الثمن : للزوجة فأكثر، مع وجود الفرع الوارث، لقوله تعالى : { فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم }

4- الثلثان : للبنتين ولبنتي الابن، إذا لم يعصَّبن.

ودليل توريثهما الثلثين، حديث امرأة سعد بن الربيع، حين جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما معك يوم (أحد) شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما،فلم يدع لهما شيئا من ماله، ولا ينكحان إلا بمال. فقال : يقضى الله في ذلك، ونزلت آية المواريث.

فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عمهما فقال : " أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك " رواه أبو داود، وصححه الترمذي.

وتأخذان الثلثين بالقياس على الأختين المنصوص عليهما في قوله تعالى : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } فالبنتان، وبنتا الابن، أولى بالثلثين من الأختين.

وأما الثلاث من البنات، وبنات الابن فلهن الثلثان بنص قوله تعالى : {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} والثلثان فرض الأختين الشقيقتين فأكثر، وفي حال فقدهما يكون للأختين لأب فأكثر، لقوله تعالى : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك }

وبإجماع العلماء، والمراد بالثنتين، بنتا الأبوين، وبنتا الأب. وقاسوا ما زاد على الأختين، عليهما.

5- والثلث : فرض الأم مع عدم الفرع الوارث للميت، وعدم الجمع من الإخوة.

فدليل الشرط الأول، قوله تعالى : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث}

ودليل الشرط الثاني، قوله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس }

وهو فرض الإخوة لأم، من الاثنين فصاعدا، يستوي ذكرهم وأنثاهم، لقوله تعالى : { وإن كان رحل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث }

وأجمع العلماء على أن المراد بالأخ والأخت، ولد الأم.

وقرأ ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص { وله أخ أو أخت من أم }

وقد ورد في إرثهم آثار، وشرط إرثهن عدم الأم ويشتركن إذا تساوين ويحجب بعضهن بعضا بالقرب من الميت.

وهو (أي السدس) فرض ولد الأم الواحد، ذكرا كان أو أنثى بإجماع العلماء لقوله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منها السدس } وتقدمت قراءة عبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص.

وهو (أي السدس) فرض بنت الابن فأكثر مع بنت الصلب بإجماع العلماء، لحديث ابن مسعود، وقد سئل عن بنت وبنت ابن فقال : أقضى فيهما قضاء رسول اللَه صلى الله عليه وسلم، للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقى فللأخت. رواه البخاري.

وكذا حكم بنت ابن ابن، مع بنت ابن، وهكذا.

ومثل بنت الابن مع البنت، الأخت لأب مع الشقيقة، قياساً عليها.

والسدس : للأب أو للجد عند عدم الأب، ومع وجود الفرع الوارث.

هذه هي الفروض الستة المذكورة في القرآن الكريم، وهؤلاء هم أصحابها وكيفية أخذهم لها.

فإن بقي بعد أصحابها شيء أخذه العاصب عملا بقوله تعالى: { فَإنْ لَم يَكُنْ له وَلَد ووَرثَهُ أبَوَاهُ فَلأمهِ الثلُث } يعنى والباقي لأبيه تعصيباً. ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديثنا هذا: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فَلأِولى رجل ذكر". وفي إرث أخي سعد بن الربيع "وما بقى فهو لك".

وللتعصيب، جهات بعضها أقرب من بعض، فيرثون الميت بحسب قربهم  منه.

وجهات العصوبة، بُنوُّة، ثم أبُوُّة، ثم أخُوُّة وبنوهم، ثم أعمام وبنوهم  ثم الولاء، وهو المعتق، وعصباته.

فيقدم الأقرب جهة، كالابن فإنه مقدم على الأب.

فإن كانوا في جهة واحدة، قدم الأقرب منزلة على الميت، كالابن فإنه يقدم على ابن الابن.

فإن كانوا في جهة واحدة واستوت منزلهم من الميت، قدم الأقوى مهم وهو الشقيق على من لأب من إخوة وأبنائهم، أو أعمام، وأبنائهم.

ويحجب الورثة بعضهم بعضا حرماناً ونقصانا.

فالنقصان يدخل على جميعهم. والحرمان لا يدخل على الزوجين والأبوين والولدين لأنهم يدْلون بلا واسطة.

والأب يسقط الجد، والجد يسقط الجد الأعلى منه.

والأم تسقط الجدات، وكل جدة تسقط الجدة التي فوقها.

والابن يسقط ابن الابن وكل ابن ابن أعلى يسقط من تحته من أبناء الأبناء.

ويسقط الإخوة الأشقاء، بالابن، وبالأب، وبالجد على الصحيح.

والإخوة لأب يسقطون بمن تسقط به الأشقاء وبالأخ الشقيق.

وبنو الإخوة يسقطون بالأب، وبكل جد لأب، وبالإخوة. والأعمام  يسقطون بالإخوة وأبنائهم.

وأولاد الأم، يسقطون بالفروع مطلقا، وبالأصول من الذكور.

وبنت الابن، تسقط ببنت الصلب فأكثر.

وكل بنت ابن نازل تسقط باثنتين فأكثر ممن فوقها، ما لم يكن مع بنات الابن أو من نزل منهن من يعصبهن، من ولد ابن.

وتسقط الأخوات لأب بالشقيقتين فأكثر، ما لم يكن معهن من يعصبهن من إخوانهن.

هذه خلاصة سقناها لبيان المواريث بمناسبة شرح هذا الحديث الجامع، وقد أطال العلماء الكلام على هذا الباب من أبواب الفقه, وأفردوه بالتصانيف الكثيرة. والله ولي التوفيق.

الحديث الثاني

عن أسامة بن زيد قال :  قلت يا رسول الله, أتنزل غدا في دارك بمكة ؟

فقال : "هل ترك لنا عقيل من رباع أو دورٍ ؟" .

ثم قال : "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم".

الغريب :

الرباع : محلات الإقامة، والمراد هنا الدور. والرباع : بكسر الراء.

المعنى الإجمالي :

لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة سأله أسامة بن زيد : هل سينزل صبيحة دخوله فيها داره ؟

فقال صلى الله عليه وسلم : وهل ترك لنا عقيل بن أبي طالب من رباع نسكنها ؟

وذلك أن أبا طالب توفي على الشرك، وخلف أربعة أبناء، طالبا، وعقيلا، وجعفر، وعليا.

فجعفر وعلى، أسلما قبل وفاته، فلم يرثاه، وطالب وعقيل بقيا على دين قومهما فورثاه، ففقد طالب في غزوة بدر، فرجعت الدور كلها لعقيل فباعها.

ثم بيَّن حكماً عامًّا يين المسلم والكافر فقال :"لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم".

لأن الإرث مبناه على الصلة والقربى والنفع، وهي منقطعة ما دام الدين مختلفاً لأنه الصلة المتينة، والعروة الوثقى.

فإذا فقدت هذه الصلة، فقد معها كل شيء حتى القرابة، وانقطعت علاقة التوارث بين الطرفين، لأن فصمها أقوى من وصل النسب والقرابة.

جمع الله المسلمين على التقوى، وقوى صلاتهم وعلاقاتهم بالإيمان. إنه سميع الدعاء.

ما يؤخذ من الحديث :

1- جواز بيع بيوت مكة، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم العقد على حاله. وقد يقال : إنه لم يتعرض لعقود المشركين السابقة، فلا يكون في الحدث دلالة على هذه المسألة.

2- أن المسلم لا يرث الكافر، ولا الكافر يرث المسلم.

3- أن الإسلام هو أقوى الروابط، وأن اختلاف الدين، هو السبب في حَل العلاقات والصلات.

4- قال النووي كلاما مؤداه أن التوارث بين المسلمين والكفار غير جائز عند جماهير العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا معاذ لن جبل وسعيد بن المسيب فقد أجازا توريث المسلم من الكافر واحتجا بحديث "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" وليس فيه دليل على ما أرادا لأنه في عموم فضل الإسلام وحديث أسامة نص واضح في هذه المسألة، ولعله لم يبلغ معاذًا وسعيدا.

الحديث الثالث

عَنْ عَبْدِ اللّه بن عُمَرَ رَضيَ اللّه عَنْهُمَا :  أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  نَهَىَ عَنْ بَيع الولاءِ وَهِبتِهِ.

المعنى الإجمالي :

الوَلاء لحمَة كلحمَةِ النسب، من حيث إن كلا منهما لا يكتسب ببيع ولا هبة ولا غير هما، لهذا لا يجوز التصرف فيه ببيع ولا غيره.

وإنما هو صلة ورابطة بين المعتق والعتيق يحصل بها إرث الأول من الثاني، بسبب نعمته عليه بالعتق الذي هو فَكُّ رَقبته من أسْرِ الرِّقٌ ، إلى ظلال الحرية الفسيحة.

 ما يستفاد من الحديث :

1- قال ابن دقيق العيد: الولاء حق ثبت بوصف، وهو الإعتاق، فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه، لأن ما ثبت بوصف يدوم بدوامه، ولا يستحقه إلا من قام به ذلك الوصف.

2- النهي عن بيع الولاء، وعن هبته، وعن غيرهما من أنواع التمليكات.

3- أن العقد باطل لأن النَّفي يقتضي الفساد.

4- أن هذه العلاقة الباقية التي لا تنفصم، كما لا تنفصم علاقة النسب تسبب الإرث، فيرث المعتق عن عتقه، وكذلك عصبته المتعصبون بأنفسهم، لنعمة العتق عليه.

الحديث الرابع

عَنْ عَاِئشَةَ رضي اللّه عَنْهَا قالت : كانت في بريرةَ ثَلاثُ سنن : خيرتْ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ. وأهْديِ لَهَا لَحم، فَدَخَل عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالبرْمَة عَلَى النارِ، فدَعَا بِطَعَام فَأتَى بِخُبْز وأدم مِن أدم ا لبَيْتِ. 

فَقَال :"ألم أرَ البرمة عَلَى النارِ فِيهَا لَحم"؟

فَقَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ الله ذلِكَ لحم تصدقَ بِهِ عَلَى بَرِيرةَ فكَرِهْنَا  أن نطْعِمَكَ مِنهُ.

فقال :"هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة، وَهوَ لَنَا مِنْهَا هَدية".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم فِيهَا : "الولاء لِمَنْ أعْتَقَ".

 الغريب :

برمة: قال في القاموس : البرمة- بالضم- قِدْر من حجارة، جمعه برم، بالضم في الباء، وبالفتح في الراء.

 المعنى الإجمالى :

تذكر عائشة رضي الله عنها من بركة مولاتها بريرة متيمنة بتلك الصفقة، التي قربتها منها، إذ أجرى الله تعالى من أحكامه الرشيدة في أمرها ثلاث سنن، بقيت تشريعاً عاماً على مر الدهور.

فالأولى : أنها عتقت تحت زوجها الرقيق (مغيث) فخيرت يين الإقامة معه على نكاحهما الأول، وبين مفارقته واختيارها نفسها لأنه أصبح لايكافئها في الدرجة، إذ هي حرة وهو رقيق، والكفائة هنا معتبرة، فاختارت نفسها، وفسخت نكاحها، فصارت سنة لغيرها.

والثانية : أنه تُصدقَ عليها بلحم وهي في بيت مولاتها عائشة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم واللحم يطبخ في البرمة، فدعا بطعام فأتوه بخبز وأدم من أدم البيت الذي كانوا يستعملونه في عادتهم الدائمة، ولم يأتوه بشيء من اللحم الذي تصدق به على بريرة، لعلمهم أنه لا يأكل الصدقة فقال : ألم أر البرمة على النار فيها لحم، فقالوا : بلى، ولكنه قد تصدق به على بريرة، وكرهنا إطعامك منه.

فقال : هو عليها صدقة، وهو منها لنا هدية.

والثالثة : أن أهلها لما أرادوا بيعها من عائشة، اشترطوا أن يكون ولاؤها لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(إنما الولاء لمن أعتق).

ما يستفاد من الحديث :

1- أن الأمة إذا عتقت تحت عبد يكون لها الخيار يين البقاء معه ويين الفسخ من عصمة نكاحه، وجواز ذلك بإجماع العلماء. أما إذا عتقت تحت حر فلا خيار لها عند جهور العلماء، ومنهم الأئمة : مالك والشافعي وأحمد.

2- فيه يبان اعتبار الكفاءة في النسب بين الزوجين. وأن في موانع التكافؤ بين الزوجين الحرية والرق.

3- أن الفقر إذا تصدق عليه فأهدى من صدقته إلى من لا تحل له الصدقة، من غنى وغيره، فإهداؤه جائز، لأنه قد ملك الصدقة، فيتصرف بها كيف شاء.

4- فيه دليل على سؤال صاحب البيت أهله عن شؤون منزله وأحواله.

5- وفيه انحصار الولاء بالمعتق، فلا يكون لغيره، ولا يخرج عن أحقيته  بحال.

6- أنه ما دام بهذه الصفة من اللصوق، إذ عُدَّ لحمة كلحمة النسب يحصل به إرث المعتق وعصبته من عتيقه، وهذا هو المقصود من ذكر الحديث هنا.

 كِتَاب الّنَكَاح[178]

النكاح حقيقته -لغَة- الوطء. ويطلق -مجازاً- على العقد، من إطلاق المسبب على السبب.

وكل ما ورد في القران من لفظ (النكاح)، فالمراد به العقد إلا قوله تعالى : {فَلا تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَه} فالمراد به الوطء.

والأصل في مشروعيته، الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النسَاءِ} وغيرها من الآيات.

وأما السنة، فآثار كثيرة، قولية، وفعلية، وتقريرية، ومنها حديث الباب "يا معشر الشباب ... إلخ" .

وأجمع المسلمون على مشروعيته وقد حث عليه الشارع، الحكيم لما يترتب عليه من الفوائد الجليلة، ويدفع به من المفاسد الجسيمة، فقد قال الله تعالى {وانكحوا الأيَامَى مِنْكُم} وهذا أمر، وقال: {فَلا تَعْضُلوهُنَّ أن يَنْكحنَ أزْوَاجَهُن} وهذا نَهْي.

وقال صلى الله عليه وسلم :"النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني" وقال:"تناكحوا تكثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة"، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.

كل هذا لما يترتب عليه من المنافع العظيمة، التي تعود على الزوجين، والأولاد، والمجتمع، والدين، بالمصالح الكثيرة.

فمن ذلك، ما فيه من تحصين فرجي الزوجين : وقصر كل منهما بهذا العهد نظره على صاحبه عن الخلان والخليلات.

ومن ذلك ما في النكاح من تكثير الأمة بالتناسل ليكثر عباد الله تعالى، وأتباع نبيه صلى الله عليه وسلم فتتحقق المباهاة ويتساعدوا على أعمال الحياة.

ومنها : حفظ الأنساب، التي يحصل بها التعارف، والتآلف،والتعاون، والتناصر.

ولولا عقد النكاح وحفظ الفروج به، لضاعت الأنساب ولأصبحت الحياة فوضى، لا وراثة، ولا حقوق، ولا أصول، لا فروع.

ومنها : ما يحصل بالزواج من الألفة والمودة والرحمة بين الزوجين.

فإن الإنسان لا بد له من شريك في حياته، يشاطره همومه وغمومه، ويشاركه في أفراحه وسروره.

وفي عقد الزواج سر إلهي عظيم يتم عند عقده- إذا قدّر الله الألفة فيحصل بين الزوجين من معاني الود والرحمة مالا يحصل بين الصديقين أو القريبين إلا بعد الخلطة الطويلة.

وإلى هذا المعنى أشار تبارك وتعالى بقوله :{وَمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَق لَكُمْ مِن أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةَ وَرَحْمَةً إِن فِي ذلِكَ لآيات لِقومٍ يتفكرون}.

ومنها : ما يحصل في اجتماع الزوجين من قيام البيت والأسرة، الذي هو نواة قيام المجتمع وصلاحه.

فالزوج يَكِدُّ ويكدح ويتكسب، فينفق ويعول.

والمرأة، تدبر المنزل، وتنظم المعيشة وتربي الأطفال، وتقوم بشئونهم.

وبهذا تستقيم الأحوال، وتنتظم الأمور.

وبهذا تعلم أن للمرأة في بيتها عملا كبيرا، لا يقل عن عمل الرجل في خارجه، وأنها إذا أحست القيام بما نيط بها فقد أدت للمجتمع كله خدمات كبيرة جليلة.

فتبين أن الذين يريدون إخراجها من بياتها ومقر عملها، لتشارك الرجل في عمله، قد ضلوا عن معرفة مصالح الدين والدنيا، ضلالا بعيداً.

وفوائد النكاح، لا تحصيها الأقلام ولا تحيط بها الإفهام، لأنه نظام شرعي إلهي، سُن ليحقق مصالح الآخرة والأولى.

ولكن له آداب وحدود، لابد من مراعاتها والقيام بها من الجانبين، لتتم به النعمة، وتتحق السعادة، ويصفو العيش، وهي أن يقوم كل واحد من الزوجين بما لصاحبه من حقوق، ويراعى ماله من واجبات.

فمن الزوج، القيام بالإنفاق، وما يستحق من كسوة ومسكن بالمعروف، وأن يكون طيب النفس، وأن يحسن العشرة باللطف واللين، والبشاشة والأنس، وحسن الصحبة.

وعليها أن تقوم بخدمته وإصلاح بيته، وتدبير منزله ونفقته، وتحسن إلى أبنائه وتربيهم، وتحفظه في نفسها وبيته وماله، وأن تقابله بالطلاقة والبشاشة

وتهيئ له أسباب راحته، وتدخل على نفسه السرور، ليجد فى بيته السعادة والانشراح والراحة، بعد نَصبَ العمل وتعبه.

فإذا قام كل من الزوجين بما لصاحبه من الحقوق والواجبات، صارت حياتهما سعيدة، واجتماعهما حميداً. ورفرف على بيتهما السرور والحبور، ونشأ الأطفال فى هذا الجو الهادئ الوادع، فشبوا على كرم الطباع، وحسن الشمائل، ولطيف الأخلاق.

وهذا النكاح الذى أتينا على شيء من فوائده، ثم ذكرنا ما يحقق من السعادة، هو النكاح الشرعي الإسلامي الذى يكفل صلاح البشر، وعمار الكون، وسعادة الدارين.

فإن لم يحقق المطلوب، فإن النظم الإلهية التي أمر بها وحث عليها لم تراع فيه، وبهذا تدرك سُمُّو الدين، وجليل أهدافه ومقاصده.

الحديث الأول

عَنْ عَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ :  قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "يَا مَعْشَرَ الشباب ، مَن استطاع مِنْكُمُ البَاعَةَ فلْيَتزَوج، فَإنه أغض لِلبَصَرِ، وَأحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يستطع فعَليهِ بالصوم، فَإنَّهُ لَهُ وِجَاء".

الغريب :

معشر الشباب : المعشر، هم الطائفة الذين يشملهم وصف.

الباءة: فيها لغات، أشهرها بالمد والهاء، اشتقت للنكاح من المباءة " وهى المنزل للملازمة بينهما، لأن من تزوج امرأة بَوّأها منزلا.

فعليه بالصوم: قيل إنه من قبيل إغراء الغائب وسهل ذلك فيه أن المُغْرى به تقدم ذكره في قوله: "من استطاع منكم الباءة" فصارَ كالحاضر. وقيل: إن الباء زائدة، ويكون معنى الحديث، الخبر، لا الأمر.

الوِجاء: بكسر الواو والمد هو رض عروق الخصيتين حتى تنفضخا، فتذهب بذهابهما شهوة الجماع، وكذلك الصوم، فهو مُضعِف لشهوة الجماع، ومن هنا تكون بينهما المشابهة.

 المعنى الاجمالي:

بما أن التحصن والتعفف واجب، وضدهما محرم، وهو آتٍ من قبل شدة الشهوة مع ضعف الإيمان، والشباب أشد شهوة، خاطبهم النبى صلى الله عليه وسلم مرشدا لهم إلى طريق العفاف، وذلك أن من يجد منهم مؤنة النكاح من المهر والنفقة والسكن، فليتزوج لأن الزواج يغض البصر عن النظر المحرم ويحصن الفرج عن الفواح!ق وأغرى من لم يستطع منهم مؤنة النكاح وهو تائق إليه- بالصوم، ففيه الأجر، وقمع شهوة الجماع وإضعافها بترك الطعام والشراب، فتضعف النفس وتنسد مجارى الدم التي ينفذ معها الشيطان، فالصوم يكسر الشهوة كالوجاء للبيضتين اللتين تصلحان المنى فتهيج الشهوة.

ما يؤخذ من الحديث:

1- حث الشباب القادر على مؤنة النكاح [المهر والنفقة] حثه على النكاح لأنه مظنة القوة وشدة الشهوة.

2- قال شيخ الإسلام: واستطاعة النكاح هو القدرة على المؤنة وليس هو القدرة على الوطء، فإن الخطاب إنما جاء للقادر على الوطء, ولذا أمر من لم يستطع بالصوم، فإنه له وجاء.

3- من المعنى الذي خوطب لأجله الشباب، يكون الأمر بالنكاح لكل مستطيع لمؤنته  وقد غلبته الشهوة، من الكهول والشيوخ.

4- التعليل في ذلك أنه أغض للبصر وأحصن للفرج عن المحرمات.

5- إغراء من لم يستطع مؤنة النكاح بالصوم، لأنه يضعف الشهوة، لأن الشهوة تكون من الأكل، فتركه يضعفها.

6- قال شيخ الإسلام : ومن لا مال له هل يستحب له أن يقترض  ويتزوج فه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره، وقد قال تعالى : {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله}.

 الحديث الثاني

عن أنس بن مَالِكٍ رَضي الله عَنْهُ  أن  نَفَرا مِنْ أصحَابِ النَبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزوَاجَ النَبي صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ في السِّرِّ.

فَقالَ بَعضُهُم : لا أتَزَوجُ النسَاءَ، وقَالَ بعضهم : لا آكل اللحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُم ْ: لا أنَام عَلَى فِرَاش.

فَبَلَغَ النَبي صلى الله عليه وسلم ذلِكَ، فَحَمِدَ الله وأثنى عليه وقَالَ : "مَا بَالُ أقواَم قالُوا: كَذَا  وكَذا ؟ وَلكني أصَلي وأنَامُ،  وَأصُومُ وأفْطر،  وأتَزَوجُ النسَاء،  فَمَن رَغِبَ عَنْ سنتي فَليسَ مِني[179]}.

 المعنى  الإجمالي :

بنيت هذه الشريعة السامية على السماح واليسر، وإرضاء النفوس بطيبات الحياة وملاذِّها المباحة به، وكرهها للعنت والشدة والمشقة على الفس، وحرمانها من خيرات هذه الدنيا.

ولذا فإن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حملهم حب الخير والرغبة فيه إلى أن يذهبوا فيسألوا عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في السر الذي لا يطلع عليه غير أزواجه فلما أعلمنهم به استقلوه، وذلك من نشاطهم على الخير وَجَدهم فيه.

فقالوا : وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟! فهو- في ظنهم- غير محتاج إلى الاجتهاد في العبادة.

فعول بعضهم على ترك النساء، ليفرغ للعبادة.

وعول بعضهم على ترك أكل اللحم، زهادةً في ملاذ الحياة

وصمم بعضهم على أنه سيقوم الليل كله، تَهَجُّدا أو عبادة.

فبلغت مقالتهم من هو أعظمهم تقوى، وأشدهم خشية، وأعرف منهم بالأحوال والشرائع.

فخطب الناس، وحمد الله، وجعل الوعظ والإرشاد عاما، جريا على عادته الكريمة.

فأخبرهم أنه يعطى كل ذي حق حقه، فيعبد الله تعالى، ويتناول ملاذ الحياة المباحة، فهو ينام ويصلى، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، فمن رغب عن سنته السامية، فليس من أتباعه، وإنما سلك سبيل المبتدعين.

 ما يؤخذ من الحديث :

1- حب الصحابة رضي الله عنهم للخير، ورغبتهم فيه وفى الإقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم.

2- سماح هذه الشريعة ويسرها، أخذاً من عمل نبيها صلى الله عليه وسلم وهديه.

3- أن الخير والبركة فى الإقتداء به، وإتباع أحواله الشريفة.

4- أن أخذ النفس بالعنت والمشقة والحرمان، ليس من الدين في شيء، بل هو من سنن المبتدعين المتنطعين، المخالفين لسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

5- أن ترك ملاذ الحياة المباحة، زهادة وعبادةً، خروج عن السنة المطهرة واتباع لغير سبيل المؤمنين.

6- في مثل هذا الحديث الشريف بيان أن الإسلام ليس رهبانية وحرمانا، وإنما هو الدين الذي جاء لإصلاح الدين والدنيا، وأنه أعطى كل ذي حق حقه.

فلله تبارك وتعالى حق العبادة والطاعة بلا غُلُو ولا تنطع.

وللبدن حقه من ملاذ الحياة والراحة.

بهذا تعلم أن الدين أنزل من لدن حكيم عليم، أحاط بكل شيء علما.

علم أن للإنسان ميولا، وفيه غرائز ظامئة، فلم يحرمه من الطيبات، وعلم طاقته في العبادة، فلم يكلفه شططاً وعسرا.

7- السنة هنا تعنى الطريقة، ولا يلزم من الرغبة عن السنة- بهذا المعنى- الخروج من الملة لمن كانت رغبته عنها لضرب من التأويل يعذر فيه صاحبه.

8- الرغبة عن الشيء تعني الإعراض عنه. والممنوع أن يترك ذلك تنطعا ورهبانية، فهذا مخالف للشرع. وإذا كان تركه من باب التورع لقيام شبهة فى حله، ونحو ذلك من المقاصد المحمودة لم يكن ممنوعا.

الحديث الثالث

عَنْ سَعد بْنِ أبى وَقاص رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ : رَدّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمانَ بْنِ مَظعُون التَبَتلَ، وَلَوْ أذنَ لَهُ لاخْتَصيْنَا.

التبتل : ترك النكاح، ومنه قيل لمريم عليها السلام : البتول.

 الغريب :

التبتل : أصل التبتل القطع والإبانة، والمراد- هنا- الانقطاع عن النساء للعبادة.

المعنى الاجمالى:

روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أن عثمان بن مظعون من شدة رغبته في الإقبال على العبادة، أراد أن يتفرغ لها ويهجر ملاذَ الحياة.

فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن ينقطع عن النساء ويقبل على طاعة الله تعالى فلا يأذن له، لأن ترك ملاذ الحياة والانقطاع للعبادة، من الغُلو في الدين والرهبانية المذمومة.

وإنما الدين الصحيح هو القيام بما لله من العبادة مع إعطاء النفس حظها من الطيبات.

ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو أذن لعثمان، لاتبعه كثير من المُجدّين في العبادة. وتقدم معنى الحديث، في الذي قبله.

فائدة :

في حاشية الصنعاني على شرح العمدة ما يلي :

أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك، فصار يشتتهي ألا يتناول. وللنفس في هذا مكر خفي رياء دقيق، فإن سلمت من الرياء للخلق كانت إلى خير.

ولقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من إظهار التخشع الزائد عن الحد، وتخشين الملبس، وأشياء صار العوام يستحسنونها، وصارت لأقوام كالمعاش، يجتنون من ثمراتها تقبيل اليد والتوقير، وأكثر في خلوته على غير حالته في جلوته، يتناول في خلوته الشهوات، ويعكف على اللذات ويرى الناس أنه متزهد، وما تزهد إلا القميص، وإذا نظرت إلى أحواله فعنده كبر فرعون.

 باب المحرمات من النكاح

المحرمات من النكاح قسمان :

1- قسم يحرم إلى الأبد           2- وقسم يحرم إلى أمد.

فالأول : سبع من النسب هن :

1- الأمهات وإن علون.

2- والبنات وإن نزلن.

3- والأخوات من أبوين، أو أب، أو أم.

4- وبناتهن.

5- وبنات الإخوة.

6- والعمات.

7- والخالات.

ودليل تحريم هؤلاء قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم... إلخ}.

ويحرم ما يماثلهن من الرضاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم : "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".

ويحرم أربع بالمصاهرة وهن :

1- أمهات الزوجات وإن علون.

2- وبناتهن وإن نزلن إن كان قد دخل بهن.

3- و زوجات الآباء والأجداد وإن عَلَوا.

4- وزوجات الأبناء وإن نزلوا.

ويحرم ما يماثلهن من الرضاع ، ودليل هذا قوله تعالى: { وَأمهَاتُ نِسَائِكُم .... } الخ.

أما المحرمات إلى أمد، فهن أخت الزوجة، وعمتها وخالتها،والخامسة للحر الذي عنده أربع زوجات، والزانية حتى تتوب، ومطلقته ثلاثا حتى تنكح زوجاً غيره، والمُحْرمة بنسك حتى تحل، والمعتدة من غيره. حتى تنقضي عدتها.

وماعدا هؤلاء فهو حلال، كما قال تعالى- حين عدد المحرمات- { وأحِل لَكُم ما وراء ذلِكُم }.

وفي هذين الحديثين الآتيين في هذا الباب، الإشارة إلى بعض ما تقدم

الحديث الأول

عَنْ أم حَبِيبَةَ بنْتِ أبي سُفْيَانَ رَضي الله عَنْهُمَا  أنَهَا قَالَتْ: يا رسول الله، أنكح أختي ابنةَ أبي سُفيَانَ، فقال: " أوَ تُحِبينَ ذلِكَ " ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ، لَسْـتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ ، وَأحَبُ مَنْ شَارَكَنِي في خَيْر، أختي.

فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : "إن ذلِكَ لاَ يَحِلُّ لي ".

قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: "بنت أم سلمة" ؟ قلت: نعم، فقال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن".

قال[180] عروة: وثوبية مولاة لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها،  فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر حيبة، فقال له: ماذا لقيت ؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثوبية.

الحيبة، بكسر الحاء: الحالة.

الغريب:

بمخلية : بضم الميم، وسكون الخاء المعجمة، وكسر اللام. اسم فاعل من "أخلى يخلى" أي لست بمنفردة بك، ولا خالية من ضرة.

نحدث : بضم النون وفتح الخاء، بالبناء للمجهول.

بنت أم سلمة : استفهام قصد به التثبت لرفع  الاحتمال في إرادة غيرها.

ربيبتي في حجري : الربيبة مشتقة من الرب وهو الإصلاح، لأنه يقوم بأمرها.

والحجر بفتح الحاء وكسرها، وليس له مفهوم، بل لمجرد مراعاة- لفظ الآية.

ثويبة : بالمثلثة المضمومة، ثم واو مفتوحة، ثم ياء التصغير، ثم باء موحدة ثم هاء.

بشر حيبة : بكسر الحاء المهملة، وسكون الياء التحتية، ثم باء موحدة. أي بسوء حال. ووقع مضبوطاً في بعض نسخ البخاري بالخاء المعجمة.

المعنى الإجمالي:

 أم حبيبة[181] بنت أبي سفيان هي إحدى أمهات المؤمنات رضى الله عنهن وكانت حظية وسعيدة بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحق لها ذلك- فالتمست من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها.

فعجب صلى الله عليه وسلم، كيف سمحت أن ينكح ضرة[182] لها، لما عند النساء من الغيرة الشديدة في ذلك، ولذا قال -مستفهما متعجبا-: أو تحبين ذلك؟ فقالت: نعم أحب ذلك.

ثم شرحت له السبب الذي من أجله طابت نفسها بزواجه من أختها، وهو أنه لابد لها من مشارك فيه من النساء، ولن تنفرد به وحدها، فإذا فليكن المشارك لها في هذا الخير العظيم هو أختها.

وكأنها غير عالمة بتحريم الجمع بين الأختين، ولذا فإنه أخبرها صلى الله عليه وسلم  أن أختها لا تحل له[183].

فأخبرته أنها حدثت أنه سيتزوج بنت أبي سلمة.

فاستفهم منها متثبتاً : تريدين بنت أم سلمة؟ قالت: نعم.

فقال : مبينا كذب هذه الشائعة:- إن بنت أم سلمة لا تحل لي لسببين.

أحدهما: أنها ربيبتي التي قمت على مصالحها في حجري، فهي بنت زوجتي.

والثاني: أنها بنت أخي من الرضاعة، فقد أرضعتني، وأباها أبا سلمة، ثويبة -وهي مولاة لأبي لهب- فأنا عمها أيضاً، فلا تعرضْنَ علي بناتِكن وأخواتكن، فأنا أدرى وأولى منكن بتدبير شأني في مثل هذا.

ما يؤخذ من الحديث:

1- تحريم نكاح أخت الزوجة، وأنه لا يصح.

2- تحريم نكاح الربيبة، وهى بنت زوجته التي دخل بها. و المراد بالدخول- هنا- الوطء، فلا يكفي مجرد الخلوة.

3- ليس ( الحجر ) -هنا- مرادا، وإنما ذكر لقصد التبشيع والتنفير.

4- تحريم بنت الأخ من الرضاعة، لأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.

5- أنه ينبغي للمفتي- إذا سئل عن مسألة يختلف حكمها باختلاف أوجهها- أن يستفصل عن ذلك.

6- أنه ينبغي توجيه السائل ببيان ما ينبغي له أن يعرض عنه وما يقبل عليه، لاسيما إذا كان ممن تجب تربيته وتعليمه، كالولد والزوجة.

7- الظاهر أن أم حبيبة فهمت إباحة أخت الزوجة للرسول صلى الله عليه وسلم من باب الخصوصية له. ذلك أنه لا قياس بين أخت الزوجة والربيبة، وإنما- لما سمعت أنه سيتزوج بربيبته وهي محرمة عليه بنص الآية التي حرم فيها الجمع بين الأختين- ظننت الخصوصية من هذا العموم.

الحديث الثاني

عَنْ أبي هريرة رَضي اللَه عَنْهُ قَالَ:  قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يُجْمَعُ بين المرأة و عمتها، ولا بَيْنَ المرأة وَخَالتِهَا ".

المعنى الإجمالي:

جاءت هذه الشريعة المطهرة بكل ما فيه الخير والصلاح وحاربت كل  فيه الضرر والفساد ومن ذلك أنها حثت على الألفة والمحبة والمودة، ونهت عن التباعد، والتقاطع، والبغضاء.

فلما أباح الشارع تعدد الزوجات لما قد يدعو إليه من المصالح، وكان- غالبا- جمع الزوجات عند رجل، يورث بينهن العداوة والبغضاء، لما يحصل من الغيرَةِ، نهى أن يكون التعدد بين القريبات، خشية أن تكون القطيعة بين الأقارب.

فنهى أن تنكح الأخت على الأخت، وأن تنكح العمة على بنت الأخ وابنة الأخت على الخالة وغيرهن، مما لو قدر إحداهما ذكرا والأخرى أنثى، حرم عليه نكاحها في النسب. فإنه لا يجوز الجمع والحال هذه.

وهذا الحديث يخصص عموم قوله تعالى: {وأحِلَّ لكم ما وَرَاءَ ذلِكم} وأدمجنا أحكامه، فلا حاجة إلى تفصيلها، لوضوحها من المعنى الإجمالي.

فائدة:

الجمع بين الأختين، و بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، قال ابن المنذر. لست أعلم في ذلك خلافا اليوم، واتفق أهل العلم على القول به، ونقل ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي الإجماع. قال ابن دقيق العيد. وهو مما أخذ من السنة، وإن كان إطلاق الكتاب يقتضي الإباحة لقوله تعالى. { وأحل لكم ما وراء ذلكم } إلا أن الأئمة من علماء الأمصار خصصوا ذلك العموم بهذا الحديث، وهو دليل على جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد،  وهو مذهب الأئمة الأربعة.

قال الصنعاني: ليس المراد بالواحد الفرد، بل ماعدا المتواتر، فالحافظ ابن حجر ذكر أن هذا الحديث رواه من الصحابة ثلاثة عشر نفراً، وعدهم، ففيه رد على من زعم أنه لم يروه إلا أبو هريرة.

 فائدة ثانية:

نكاح الكتابية جائز بآية المائدة، وهو مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن قيل:فقد وصفهم (أي أهل الكتاب) بالشرك بقوله: {اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله... } قيل: إن أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، وحيث وصفوا بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوا من الشرك. فأصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد لا بالشرك ا هـ من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه.

 بَابُ الشروط في النكاح

الشروط في النكاح قسمان:

1- صحيح وهو: مالا يخالف مقتضى العقد، وأن يكون للمشترط من الزوجين غرض صحيح، ويأتي شيء من أمثلته.

2- وباطل وهو: ما كان مخالفا لمقتضي العقد.

والميزان في هذه الشروط ونحوها، قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالا أو أحل حراماً" ولا فرق بين أن يقع اشتراطها قبل العقد أو معه.

الحديث الأول

عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن تُوفُوا بِهِ مَا استحللتم بِهِ الفرُوج".

المعنى الإجمالي:

لكل واحد من الزوجين مقاصد و أغراض في إقدامه على عقد النكاح.

فيشترط على صاحبه شروطاً ليتمسك بها ويطلب تنفيذها، عدا ما هناك من شروط هي من مقتضيات عقد النكاح.

لأن شروط النكاح عظيمة الحرمة، قوية اللزوم -لكونها استحق بها استحلال الاستمتاع بالفروج- فقد حث الشارع الحكيم العادل على الوفاء بها، فقال: إن أحق شرط يجب الوفاء به وأولاه، هو ما اسْتحِل به الفرج- وبُذِلَ من أجله البضع.

ما يؤخذ من الحديث:

1- وجوب الوفاء بالشروط التي التزم بها أحد الزوجين لصاحبه، وذلك كاشتراط زيادة في المهر أو السكنى بمكان معين من جانب المرأة، وكاشتراط البكارة والنسب، من جانب الزوج.

2- أ ن وجوب الوفاء، شامل للشروط التي هي من مقتضى العقد، والتي من مصلحة أحد الزوجين.

3- يقيد عموم هذا الحديث بوجوب الوفاء بالشروط، بمثل حديث [لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها].

4- أن الوفاء بشروط النكاح آكد من الوفاء بغيرها، لأن عوضها استحلال الفروج.

5- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح الذي عليه أكثر نصوص أحمد و عليه أكثر السلف أن ما يوجب العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" وإذا تنازع الزوجان فرضه الحاكم باجتهاده.

الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا:  أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهى عَنْ نِكاحِ الشغَارِ.

وَالشغَارُ: أنْ يُزَوجَ الرَّجُلُ ابنتَهُ عَلى أنْ يُزَوجَهُ الآخر ابنتهُ وَلَيس بيَنَهُمَا صَدَاقٌ .

الغريب:

الشغار: بكسر الشين المعجمة والغين المعجمة، أصله -في اللغة- الرفع، فأخذ منه صورة هذا النكاح لرفع كل واحد من الولييِن عن موليته لصاحبه بلا صداق ولا نفع يعود عليها.

المعنى الإجمالي:

الأصل في عقد النكاح أنه لا يتم إلا بصداق للمرأة، يقابل ما تبذله من بضعها.

ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا النكاح الجاهلي، الذي يظلم به الأولياء مولياتهم، إذ يزوجونهن بلا صداق يعود نفعه عليهن، وإنما يبذلونهن بما يرضى رغباتهم وشهواتهم، فيقدمونهن إلى الأزواج، على أن يزوجوهم مولياتهم بلا صداق.

فهذا ظلم وتصرف في أبضاعهن بغير ما أنزل الله. وما كان كذلك فهو محرم باطل.

 ما يؤخذ من الحديث:

1- النهى عن نكاح الشغار، والنهى يقتضي الفساد، فهو غير صحيح.

2- أن العلة في تحريمه وفساده، هو خلوه من الصداق المسمى، ومن صداق المثل، وأشار إليه بقوله: [وليس بينهما صداق].

3- وجوب النصح للمولية. فلا يجوز تزويجها بغر كفء، لغرض الوَلي ومقصده.

4- بما أنهم جعلوا العلة في إبطال هذا النكاح، هي خُلُوُّهُ من الصداق، فإنه يجوز أن يزوجه موليته على أن يزوجه الآخر موليته بصداق غير قليل مع الكفاءة بين الزوجين والرضا منهما.

5- قوله: [والشغار: أن يزوج الرجل.. إلخ] قال ابن حجر: اختلفت الروايات عن مالك فيمن ينسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، وبهذا قال الشافعي، فقد قال: لا أدرى التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك وجعله بعضهم من تفسير نافع وليس خاصا بالابنة، بل كل مولية. وقال القرطبي: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكر أهل اللغة، فإن كان مرفوعا فهو المقصود. و إن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأفقه بالحال.

6- أجمع العلماء على تحريم هذا النكاح، واختلفوا في بطلانه. فعند أبي حنيفة أن النكاح يصح ويفرض لها مهر مثلها.

وعند الشافعي وأحمد. أن النكاح غير صحيح، لأن النهيَ يقتضي الفساد.

وحكى في الجامع رواية عن الإمام أحمد بطلانه ولو مع صداق، اختارها (الخِرَقي) لعموم ما روى الشيخان عن ابن عمر. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار" ومثله في مسلم عن أبي هريرة.

ولأن أبا داود جعل التفسير وهو قوله " وليس بينهما صداقط من كلام نافع.

واختار هذا القول العلامة الأثري ( الشيخ عبد العزيز بن باز ) حفظه الله في رسالة له في الأنكحة  الباطلة. و الله أعلم.

الحديث الثالث

عَنْ عَلى بْنِ أبي طالب رَضيَ الله عَنْهُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية. 

 المعنى الإجمالي:

سَن الشارع النكاح لقصد الاجتماع و الدوام، والألفة، وبناء الأسرة، وتكوينها.

ولذا كان أبغض الحلال إلى الله الطلاق، لكونه هدما لهذا البناء الشريف.

وكل قصد أو شرط يخالف هذه الحكمة من النكاح، فهو باطل.

و من هنا حرم نكاح (المتعة)، وهو أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل، بعد أن كان مباحا في أول الإسلام لداعي الضرورة.

ولكن ما في هذا النكاح من المفاسد، من اختلاط في الأنساب؛ واستئجار للفروج، ومجافاة للذوق السليم والطبيعة المستقيمة، هذه المفاسد ربَتْ على ما فيه من لذة قضاء الشهوة.

 ما يؤخذ من الحديث:

1- تحريم نكاح المتعة وبطلانه، وعليه أجمع العلماء. قال ابن دقيق العيد: وفقهاء الأمصار كلهم على المنع، وأكثر الفقهاء على الاقتصار في التحريم على العقد المؤقت.

2- كان مباحا في أول الإسلام للضرورة فقط، ثم جاء التأكيد والتأبيد لتحريمه ولو عند الضرورة.

3- نهى الشارع الحكيم عنه، لما يترتب عليه من المفاسد، منها:اختلاط الأنساب، واستباحة الفروج بغير نكاح صحيح.

4- النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية فهي رجس، بخلاف الحمر الوحشية، فهي حلال بالإجماع.

 فائدة:

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل يسير في البلاد، ويخاف أن يقع في المعصية، فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلدة فإذا سافر طلق من تزوجها؟

فأجاب بأن له أن يتزوج، ولكن على أن ينكح نكاحا مطلقا، يمكنه من إمساكها أو تطليقها إن شاء، وإن نوى طلاقها حتما عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك، وفي صحة النكاح نزاع.

ثم ببن رحمه الله رأيه في نكاح المنعة، فقال: إن قصد أن يستمتع بها إلى مدة ثم يفارقها، مثل المسافر إلى بلد يقيم به مدة  فيتزوج وفي نيته إذا عاد إلى وطنه أن يطلقها، ولكن النكاح عقده عقداً مطلقا فهذا فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد.

1- قيل: هو نكاح جائز، وهو اختيار الموفق وقول الجمهور.

2- وقيل: إنه نكاح تحليل لا يجوز، وروى عن الأوزاعي ونصر القاضي و أصحابه.

3- وقيل مكروه وليس بمحرم.

والصحيح أن هذا ليس بنكاح متعة ولا يحرم، وذلك أنه قاصد للنكاح وراغب فيه، بخلاف المحلل، لكن لا يريد دوام المرأة معه وهذا ليس بشرط، فإن دوام المرأة معه ليس بواجب، بل له أن يطلقها، فإذا قصد أن يطلقها بعد مدة فقد قصد أمرا جائزا بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة تنقضي فيه بانقضاء المدة، ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا فملكه ثابت مطلق، وقد تتغير بنية فيمسكها دائما، وذلك جائز له، كما لو تزوج بنية إمساكها دائماً، ثم بدا له طلاقها جاز ذلك.

 اختلاف العلماء:

أجمع العلماء على تحريم هذا النكاح وبطلانه.

واختلفوا في الوقت الذي حرم فيه، تبعا للآثار التي وردت في تحريمه.

فبعضهم يرى أن التحريم كان يوم (خيبر) مستدلا بحديث الباب، ثم أنها أبيحت، ثم حرمت يوم فتح مكة.

وبعضهم يرى أنها لم تحرم إلا يوم الفتح، وقبله كانت مباحة، ويقولون: إن علياً رضي الله عنه لم يرد في هذا الحديث أن تحريم المتعة وقع مع تحريم لحوم الحمر الأهلية يوم (خيبر) وإنما قرنهما جميعا ردا على ابن عباس الذي يجيز المتعة للضرورة ويبيح لحوم الحمر الأهلية. وهذا القول أولى.

قال النووي: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر، ثم حرمت فيها، ثم أبيحت عام الفتح، وهو عام أوطاس، ثم حرت تحريما مؤبدا. قال: ولا مانع من تكرير الإباحة[184].

 بَابُ ما جاء في الاستئمار وَالاستئذان

عَنْ أبي هريرة رَضيَ الله عَنْهُ  أنَ رَسُولَ الله صلى لله عليه وسلم قَال: "لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتى تستأمر، وَلا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتًى تُستأذَن ، قالُوا: يا رسول الله، وَكيفَ إذنها ؟ قَال: أن تسكت".

 الغريب:

الأيم : بفتح الهمزة وتشديد الياء التحتية المثناة، بعدها ميم، أشهر وأكثر ما تستعمل، في المرأة المفارقة من زوجها، وهو متعين هنا، لمقابلتها للبكر.

تستأمر : أصل الاستئمار: طلب الأمر. فالمعنى لا يعقد عليها إلا بعد طلب الأمر منها، وأمرها به.

لا تنكح : برفع الفعل المضارع بعد لا النافية، وإن كان الغرض النهي وهذا أسلوب معروف من أساليب البلاغة العربية.

المعنى الإجمالي:

عقد النكاح عقد خطير، يستبيح به الزوج أشد ما تحافظ عليه المرأة،: هو بضعها.

وتكون بهذا العقد أسيرة عند زوجها، يوجهها حيث يشاء ويريد، لهذا جعل لها الشارع العادل الرحيم الحكيم الأمر، في أن تختار شريك حياتها، وأن تصطفيه بنظرها. فهي التي تريد أن تعاشره، وهى أعلم بميولها ورغبتها.

فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تزوج الثيب حتى يؤخذ أمرها فتأمر.

كما نهى عن تزويج البكر حتى تستأذن في ذلك أيضا فتأذن.

بما أنه يغلب الحياء على البكر، اكتفى منها بما هو أخف من الأمر، وهو الإذن، كما اكتفى بسكوتها، دليلا على رضاها.

ما يؤخذ من الحديث:

1-  النهي عن نكاح الثيب قبل استئمارها وطلبها ذلك وقد ورد النهى بصيغة النفي، ليكون أبلغ، فيكون النكاح بدونه باطلا.

2- النهْيُ عن نكاح البكر قبل استئذانها، ومقتضى طلب إذنها، أن نكاحها بدونه باطل أيضا.

3- يفيد طلب إذنها: أن المراد بها البالغة، وإلا لم يكن لاستئذانها فائدة، لو كان المراد الصغيرة. قال ابن دقيق العيد: الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن، ولا إذن للصغيرة فلا تكون داخلة تحت الإرادة، و يختص الحديث بالبوالغ، فيكون أقرب إلى التأكد وقال الشافعي في القديم: أستحب ألا تزوج البكر الصغيرة حتى تبلغ و تستأذن

4- عبر عن البكر بالاستئذان لغلبة الحياء عليها، فلا تكون موافقتها بأمر كالثيب. يكفى في إذنها السكوت لحيائها -غالبا- عن النطق. و الأحسن أن يجعل لموافقتها بالسكوت أجلا، تعلم به أنها بعد انتهاء مدته يعتبر سكوتها إذنا منها وموافقة.



[1] حديث عائشة تفرد به مسلم.

[2] هذا لفظ مسلم ولم يذكره البخاري التثليث

[3] للعلماء تحديدات للقليل والكثير " مختلفة التقادير.

[4] قال الزركشي : لفظه " التور " ليست في شيء من مرويات البخاري وإنما هي من مفردات " مسلم ". وهذا وهم منه ، فقد جاءت في صحيح البخاري ، في حديث عبد الله بن زيد ، في باب غسل الرجلين إلى الكعبين . وقال الصنعاني : إني تتبعت رواية مسلم لهذا الحديث فلم أجد " التور".

من قوله: "أتانا   " الخ ، من أفراد " مسلم " .

[7] هذه رواية أحمد، وفى الصحيحين أيضاً وتحجيله.

[8] قال الليث: بلغنا أن فروخ كان من ولد إبراهيم عليه السلام، بعد إسحاق و إسماعيل، فكثر نسله ونما عدده، فولد العجم الذين في وسط البلاد . هكذا حكاه الأزهري عنه .

يعني بشيخه ، شيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمهما الله تعالى .

رقيتْ بكسر القاف أي (صعدت).

[13] لا يمسكن  : بضم الياء.

[14] "لولا" تفيد امتـناع الثاني لوجود الأول نحو لولا زيد لأكرمتك أي لولا مخافة أن أشق. لأمرتهم أمرا.

[15] قوله " يشوص " بفتح الياء وضم الشين المعجمة المهملة ، والشوص ذلك الأسنان بمسواك عرضا .

[16] هذا لفظ البخاري ولفظ  (مسلم). دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم  وطرف السواك على لسانه هـ، يذكر الصفة، وكذا حرره عبد الحق في كتابه (الجمع بين الصحيحين)

[17] لفظ هذا الحديث في الصحيحين عن حذيفة قال :كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم  فانتهى إلى سباطة (مزبلة ) قوم فبال قائما فتنحيت ، فقال : أدنه ، فدنوت منه حتى قمت عند عقبه ، فتوضأ ، زاد مسلم " فمسح على خفيه " .  قال عبد الحق في ( الجمع بين الصحيحين : ولم يذكر البخاري في روايته ، هذه الزيادة . وعلى هذا فلا يحسن من المصنف عد هذا الحديث في هذا الباب من المتفق عليه .

[18] أورده البخاري بلفظ : " توضأ واغسل ذكرك ".

[19] هذه الرواية لمسلم : قد استدركها عليه الدارقطني ، بأن فيها انقطاعاً. قال النووي : وكيف كان فمتن الحديث صحيح ، من الطرق الأخرى التي ذكرها مسلم قبل هذه الطريق .

[20] شكي: بضم الـشين وضم الكاف، مبنى للمجهول،: " الرجل " قائم مقام الفاعل. واِلشـاكي هو الراوي عبد الله بن زيد، كذا جاء في الصحيح.

[21] في أول هذا الحديث ، انقطاع في رواية " مسلم " ذكره المازري في ( المعلم ) ووصله البخاري وغيره .

[22] المراد- هنـا- بالصـاع، الصاع الـنبوي وهو أقل من كيلة الحجاز، وصاع نحد بالخمس وخمس الخمس لأن زنة الصاع النبوي ثمانون ريلا  فرنسياَ، والكيلة الحجازية والصاع النجدي، مائهَ وأربع ريلات اهـ شارح.

[23] قال الصنعاني: لم أره في مسلم، ولا نبه عليه الزركشي ، ولا ابن حجر. ا.هـ.

[24] قوله : وبعثت إلى الناس كافة ، هذا اللفظ للبخاري ولم يروه مسلم كذلك وإنما رواه بلفظ ( وبعثت إلى كل أحمر وأسود )

[25] قال الصنعانى: لفق الشيـخ عبد الغنى رحمه الله هذا الحديث من أبواب في البخاري يعسر على الناظر تتبعها.

[26] أبو حبيش هو ابن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، قرشي أسدي .

[27] غسلها لكل صلاة لم يقع بأمره صلى الله عليه وسلم  كما بين في رواية مسلم.

     ولفظه : "أمرها أن تغتسل ، فكانت تغتسل لكل صلاة" . وكذا ذكره الحميدي في "الجمع بين الصحيحين".

[28] فأتزر :  هكذا في النسخ بألف وتاء مشـددة، وهو الدائر على الألسنة

قال المطرزىْ وهو عامي، والصواب "أأتزر" بهمزتين، الأولى للوصل والثانية (فاء) افتعل

وهكذا نص الزمخشري على خطأ من قال . "أتزر" بالإدغـام، لأن الفـاء التي تدغم في الأفعـال هي الأصلية، لا المـنقلة عن الهمزة.

[29] هذا سياق " مسلم " وأما سياق " البخاري " فبلفظ : " قد كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يأمرنا به، أو  قالت: فلا يفعله ".

وليس عند البخاري "فنؤمر بقضاء الصوم " .

ولم يذكر " البخاري "  أن السائلة: "معاذة"، بل ساقه من جهة قتادة عن معاذة أن امرأةْ... الخ .

[30] الخوارج عرفوا بالشدة والتنطع في الدين.

ومن شدتهم أنهم يوجبـون على المرأة قضاء الصلاة المتروكة في حيضها ا.هـ شارح

[31] هذه  ترجمة و ضعتها لأن هذين موضوع مستقل ، يحسن إفراده شارح.

[32] الحاقنْ من احتَبس بوله والحاقب من احتبـس غائطه.

[34] هذا الباب من وضعي ، جعلته لكون أحاديثه بحثاً مستقلاً.

[35] هذا اللفظ للبخاري وأما لفظ "مسلم " فهو بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس . ورواية البخاري محمولة على هذه، فلو ذكر المصنف رواية مسلم ، لكان أولى.

ليست أحاديث كل هؤلاء في الصحيحين ، كما قد وهم المصنف، فقد اتفقا عل حديث ابن عمر وأبي هريرة ، وانفرد مسلم بحديث عائشة وعمرو بن عبسة، وأخرج الطبراني أحاديث ابن العاص وكعب بن مرة ، وأخرج  الطحاوي حديث سمرة .

[36] أنا الذي وضعت هذه الترجمة، لأن مناسبتها ظاهرة . وضع التراجم يـساعد على فهم الحديث، ويبين المراد منه ا. هـ. المصنف.

[37] جاء في بعض الروايات " خمسا وعشرين " ولفظ البخاري،"خمسـة وعشرون "وقال ابن حجر: " إن خمسة. " هو الذي في الروايات التي وقعت عليها.

[38] هذه الترجمة من عندي، وضعتها لمنـاسبتها لهذين الحديثين.

[39] إنـما عبرت بلفظ (أحـد أبنـاء) لأنه ورد في بعض الأحـاديث الصحيحـة أنه واقد وفى بعضها أنه بلال، وفي بعضها ابن لعبد الله.

[40] كيف لو شاهد الـسلف ما عليه النساء في زماننا من تهتك وتخلع، حيث يعمدن إلى أحسن لباس وأطيب ريح ، ثم يخرجن كاسيات عاريات، قد لبسن من الثياب ما يصف أجـسامهن، ويبين مقاطعهن وغشين وجوههن بغطاء رقيق، يشف عن جمالهن ومسـاحيقهن. ثمّ يأخذن بمزاحمة الرجال والتعرض لفتنتهم .

لو رأوا شيئا من هذا ، لعلموا أن خروجهن محض مفسـدة، وأنه قد آن حجبهن  في البيوت. ومن المؤسف أن تذهب الغيرة الإسلامية والعربية من أولياء أمورهن ، فلا يرفعون في ذلك طرفاً، ولا يحركون لساناً. فإنا لله وإنا إليه راجعون إ.هـ. المصنف.

[41] هذه الترجمة من عندي ، وضعتها لمناسبتها لهذين لحديثين.

[42] لفظ الإقامة زيادة مني في الترجمة، ألحقتها، لأني رأيت الأحاديث محتملة على الأذان والإقامة.

[43] المياثر: جمع ميثرة، والميثرة الثوب الذي بحلل به الثياب فيعلوها ، وكانوا يصبغونها بالأرجوان وهو لون أحمر.

[44] الحيعلة: هي قول حي على الصلاة، حي على الفلاح.

[45] الحوقلة: هي قول لا حول ولا قوة إلا بالله.

واللفظان مأخوذان من الجملتين بطريق " النحت".

[46] قبـاء.- يجوز فيه المد والقصر وقصره أشهر .

[47] فيه أقوال أخر غير هذين القولين، ولكنهما أصح تلك الأقوال، لأنهما في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب.

[48] هذه رواية ا البخاري، ورواية " مسلم " حين قدم الشام، بإسقاط " من " قال القاضي عياض : وقيل إنه وهم وأن الصواب إثباتها كما رواه البخاري، وخالفه النووي وقال: رواية ( مسلم) صحيحة، ومعناها: تلقيناه في رجوعه حين قدم الشام.

[49] ما صرح به من أنها جدة أنس خلاف المشهور، وذلك أن هذا الحديث يرويه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس . فالضمير من جدته، يعود إلى إسحاق بن عبد الله، وهي أم أبيه، قال ابن عبد البر، وعياض والنووي: فكان ينبغي للمصنف أن يذكر إسحاق ، فيعود الضمير عليه، فتكون أم أنس لأن إسحاق ابن أخي أنس لأمه، نعم، ذكر بعضهم أنه جدة أنس أم أمه وهي جدة لإسحاق أم أبيه، وينبغي ذكر إسحاق للخروج من الخلاف.

[50] اختلف العلماء في الذي نفى عنه الكذب ، فبعضهم يرى أنه " البراِء" ، قاله فيه عبد الله بن يزيد، تقوية للحديث لا تزكية، فهو صحابي.

وبعضهم يرى أنه " عبد الله " قاله فيه أبو إسحاق تقوية وتزكية، وهو محتمل. وقد اختلف في صحبة عبد الله بن يزيد .

[51]  ليس في البخاري "وذا الحاجة".

[52] "لا آلو" بالمد في أوله، وضم اللام. أي لا أقصر.

[53] تنبيه : سيأتي الكلام على الطمأنينة في حديث المسيء في صلاته، إن شاء الله تعالى.

[54] هذا الحديث هو من أفراد البخاري، قال عبد الحق في " الجمع بين الصحيحين ": لم يخرج "مسلم " هذا الحديث، وسها المصنف في إيراده  من المتفق عليه .

[55] بدو: منصوب بـ "أن المضمرة" فهو مفتوح الواو .

[56] لشمس: جمع شموس وهو النفور من الدواب الذي لا يستقر لشغبه وحدته .

[57] جاء في البخاري ومسلم أن النبيصلى الله عليه وسلم ، رد عليه السلام.

[58] كما جاء في روية أبي داود (( ثم اقر بأم القرن وبما شاء الله)) وروية ابن حبان "بما شئت  ".

[59] كما جاء في ذكر الاطمئنان في  هذا الحديث عند الإمام أحمد، ء جاد بقوله: حتى تطمئن قائماْ ولفظ أحمد: فأقم صلبك حتى ترجع العظام

[60] إما العصر و الظهر. وفي البخاري من حديث عمران بن حصين الجزم بأنها العصر.

[61] بفتح السين والراء جمع سريع ، وهم المسرعون في الخروج من المسجد.

[62] بالبناء للمجهول. وقد جاء في الرواية للبخاري بهمزة الاستفهام، وجاء بغيرها في رواية أخرى له، وكذلك عند مسلم.

[63] جاء في بعض طرق هذا الحديث من البخاري أن ذا اليدين قال له "بل نسيت".

[64] نبئت إلخ من قول ابن سرين.

[65] الشك من محمد بن سرين كما بينه المصنف.

[66] رواية مسلم بالفاء ، فلم يجلس، استدل بها عياض  على أنه لم يرجع إلى الجلوس بعد التنبيه له.

[67] قال الصنعاني : لفظ " من الإثم " ليس من ألفاظ البخاري ولا مسلم ، وقد عيب على الطبري نسبته هذا اللفظ إلى البخاري، وكذلك عيب على صاحب العمدة نسبته هذا اللفظ إلى الشيخين معا.

[68] نصب، على أنه خبر لـ" كان".

[69] قوله : على حمار أتان ، هي رواية البخاري و " لمسلم روايتان، إحداهما أتان والأخرى حمار".

[70] هذه الترجمة من وضعي اهـ " الشارح "

[71] هذه الترجمة من وضعي اهـ "الشارح".

[72] زاد مسلم في رواية " ونهينا عن الكلام " ولم تقع هذه الزيادة في البخاري اهـ " فتح الباري".

[73] صلى: يريد أي أتم  صلاته.

[74] وهذا وجه مناسبة تلاوة الآية بعد ذكر هذه الحال.

[75] هذه الترجمة من وضعي : شارح .

[76] هذه الترجمة ما وضعته أنا أ.هـ. الشارح

[77] يجوز ضم الهمزة وفتحها لأنه يقال " هديتك وأهديت .

[78] جاء الجواب من عبد الرحمن صريحا في صحيح البخاري.

[79] هذه الترجمة من وضعي: ا. هـ.

[80] الدثور :- جمع " دثر" وهو المال الكثير.

[81] دبر: ظرف، وثلاثا مصدر. وقد تنازعهما كلمن " تسبحون  " و " تكبرون " و تحمدون ".

[82] من قوله : قال أبو صالح إلى آخر الحديث ، لم يذكره البخاري ، وقد روى " مسلم " هذه الزيادة مرسلة لم يسندها أبو صالح . لكن جاءت متصلة في " مسلم " مع سائر الحديث من وجه آخر .

[83] تنبيه : ذكر البرماوي في مناسبة هذا الحديث لباب الذكر أن الذكر نوعان لساني وقلبي ، فلما ذكر المؤلف ما ورد باللسان عقب الصلاة ذكر بعد الذكر الذي ينبغي للقلب، وهو ألا يشغل عن الصلاة بشيء .

[84] هذا لفظ البخاري دون مسلم ، كما قاله عبد الحق في الجمع بين الصحيحين ونبه عليه ابن دقيق العيد، وأطلق المصنف إخراجه عليهما نظرا إلى أصل الحديث على عادة المحدثين، فإن مسلما أخرج من رواية ابن عباس الجمع بين الصلاتين في الجملة من غير اعتبار لفظ بعينه ، وهو المتفق عليه . وقال الصنعاني : لم يخرجه البخاري إلا تعليقا، إلا أنه علقه بصيغة الجز م .

[85] الفرسخ أربعة  أميال و " الميل " كيلو ونصف كيلو متر. فتكون مسافة القصر بالفرسخ ستة عشر، وبالأميال أربعة وستين ميلا ، و بـ" الكيلو " ستة وتسعين  كيلو متراً "

[86] قوله " ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته" قال الزركشي هذا من أفراد مسلم وليس عند البخاري.

[87]  ويحتمل أنه أراد بتعليمهم كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنه لم يأت لها ذكر لا في الجدال ولا في السؤال، أراد أن يبين أنه ينبغي لهم أن يتباحثوا ويتنافسون في مثل هذه المواضيع النافعة، ولا يكون نقاشهم وجدالهم فيما ليس به فائدة ، كـ" من " أي شيء كان المنبر ؟ " اهـ الشارح

[88] كنا نجمع : بفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة ، أي نقيم الجمعة .

[89] الفىء : أخص من الظل ولا يكون إلا بعد الزوال .

[90] هذا من أفراد البخاري . كما قاله النووي في شرح  مسلم .

[91] في هذا الحديث وهمان : الأول : أن البخاري لم يخرجه ولا شيئا منه ، وإنما أخرج عن جابر في غزوة " ذات الرقاع " وليس فيه صفة الصلاة . وصفة الصلاة ذات الرقاع مخالفة لهذه الكيفية ، فتبين أنه ليس طرفا منه ، وإنما حمله على ذلك ، كونه من حديث جابر في الجملة . فظهر أن هذا الحديث ملفق في الصحيحين ، فصفة الصلاة في صحيح مسلم وذكر حديث جابر في غزوة ذات الرقاع من صحيح البخاري . والصفة المذكورة للصلاة في غزوة ذات الرقاع لا تناسب هذه . الوهم الثاني قوله : " في الغزوة السابعة " ولفظ البخاري " في غزوة السابعة " يعني في غزوة السنة السابعة وقصد البخاري الاستشهاد به على أن " ذات الرقاع " بعد خيبر، لكن جمهور أهل السيرة خالفوه.

[92] المؤلف لم يفصل كاتب الجنائز ، وإنما أنا الذي فصلته في هذه الأبواب الآتية لمزيد الفائدة ا.هـ شارح.

[93] هذه الرواية لـ " مسلم " فقط ، فكان ينبغي التنبيه  عليها . قال البيهقي : وذكر الوجه وهم من بعض الرواة في الإسناد والمتن الصحيح  " لا تغطوا رأسه " كذا أخرجه البخاري، وذكر " الوجه " غريب.

[94] كان الحديث رقم 162 حسب ترتيب المصنف هو 164 ولكن قدمناه إلى هنا، لأن معناه هو معنى الحديث الذي معه وشرحناهما جميعا – اهـ الشارح .

[95] وتصاوير : معطوف على  " حسنها " مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع  من الصرف لصيغة منتهى الجموع.

[96] هذا اللفظ من أفراد مسلم.

[97] الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم . قال ابن الملقن : لم أقف على تعيين القائل، وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم " إنكم تظلمون خالدا " أن القائل جماعة، ووجه الخطاب إلى عمر بقوله : أما علمت يا عمر، لشرفه ولكونه الرسول.

[98] جاء في بعض روايات الحديث لفظ : "وهل أتيت إلا من الصوم".

[99] زاد "مسلم" في صحيحه :وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم

[100] قال ابن دقيق العيد ليس هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان.

وليس  كما قال ابن دقيق العيد ، فقد أخرجه البخاري ومسلم جميعاً ، كما نبه عليه عبد الحق في    ((الجمع بين الصحيحين)) والمجد في ((المنتقى))

[101] حديث أبي سعيد من أفراد البخاري،ووهم المصنف حيث نسبه إلى مسلم كما نبه عليه "عبد الحق" و"المجد" و"الحافظ". وأحاديث كل من ابن عمر ، وأبي هريرة، وعائشة في الصحيحين.

رواه الشيخان والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر.

[102] رواه الشيخان والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر.

[103] الفصال : جمع فصيل، وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، ورمضها : هو أن نحمي الرمضاء، أي الرمل، فتترك الفصال من شدة وإحراقها أخفافها.

[104] هذا كلام عمر في أحد العيدين، ولكنه جاء بالإشارة إلى الحاضر  من العيدين تغليباً على الغائب منهما.

[105] نسككم : هو النسيكة ، وهي الذبيحة.

[106] الحق أن البخاري أخرجه بتمامه في هذا الباب، وكأن المصنف لم ينظره إلا في باب سترة العورة، فإنه ذكر طرفاً منه بدون ذكر الصوم والصلاة.

[107] لفظة الوتر ليست متفقاً عليها، كما يوهم صنيع المصنف، بل هي من أفراد البخاري .

[108] قوله : حتى إذا كانت .. إلخ : لم يخرجه "مسلم" وإنما هو في بعض روايات البخاري.

[109] رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:العمرة  إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.

[110] زيادة (ابن عمر) ليست في البخاري، بل أخرجها  مسلم خاصة كما نبه عليه ابن عبد الحق.

[111] قوله: (وفي لفظ البخاري).. إلخ يوهم انفراد البخاري به، وليس كذلك بل أخرجه مسلم أيضاً.

[112] عبرت بلفظ "رأى" لأنه ورد في بعض ألفاظ الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به، وفي بعضها : أنه حمل إليه. والقضية واحدة.  

[113] رد في بعض ألفاظ الحديث، أن ذلك في "الحديبية"

[114] اعلم أن اللفظ الأول للبخاري، ولِـ"مسلم" مثله، إلا أنه قال : فواسق بدل "فاسق". وأما اللفظ الذي عزاه لـ"مسلم"، فليس فيه كذلك، وإنما لفظه "خمس فواسق، يقتلن في الحل والحرم".

وفي رواية لـ"مسلم"، قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق، في الحل والحرم.

لعل المصنف أراده، لكن ليس هو لفظ النبي عليه السلام، وإنما هو لفظ الراوي.

[115] أصل ترجمة المؤلف. [باب دخول مكة وغيره] وجعلها شاملة لأحاديث الدخول وأحاديث آداب الطواف فتصرفت بإفراد حديثي دخول مكة، وحديث دخول البيت بهذه الترجمة، وجعلت لأحاديث الطواف ترجمة أخرى.

[116]  وضعت هذه الترجمة، لاشتمالها على أحاديث متفرقة في أحكام الطواف.

[117]  هو الجبل الذي أصله "المروة" فلعلهم تسلقوا جانبه الغربي الشمالي فمن كان هناك، لا يرى الذي بين الركنين. اهـ الشارح.

[118] عفا : زال .

[119] الدبر : القروح التي تصيب جلد الدابة .

[120] صفر : هو الشهر المعروف .

[121] هذا الحديث حسب وضع المصنف وترتيبه هو رقم 228، ولكني  قدمته إلى هنا لمناسبة الحديث الذي قبله، فكلاهما في مشروعية المتعة. اهـ الشارح .

[122] لخصت هذه الخلافات وأدلتها من كتاب "زاد المعاد" لابن القيم رحمه الله، وزدت فيها بعض التوضيحات .

[123] الحديث بهذا اللفظ مما أنكره الناس، والحديث الذي في البخاري عن معاوية لم يذكر فيه [في العشر] . اهـ. الشارح.

[124] هذا اللفظ للبخاري ورواه "مسلم" كذلك، وزاد "إلى البيت فقلدها" .

[125] من هنا إلى [باب المحرم يأكل من صيد الحلال] فيه سبعة أحاديث، كل واحد منها يدل على مسألة من مناسك الحج، ليس لها تعلق بالأخرى إلا حديثي طواف الزيارة والوداع. ولذا فإني وضعت لها ستة أبواب تبين موضع الفائدة منها- اهـ. شارح.

[126] وقع في بعض نسخ [العمدة]، أن راوي هذا الحديث هو [عبد الله بن عمر الخطاب] والحق أنه كما وضعناه [عبد الله بن عمرو بن العاص] كما نبه على دلك الحافظ في فتح الباري اهـ. شارح .

[127] العقبة التي تنسب إليها الجمرة، أزيلت في عام 1377 هـ لقصد توسعة شوارع "منى" وأظنه بعد استشارة بعض قضاة مكة- اهـ. شارح .

[128] روى البخاري ومسلم بإحدى طرق هذا الحديث : "إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاَ، وفي الرابعة قال: "والمقصرين" اهـ ـ شارح .

[129] لم يراع المصنف - رحمه الله تعالى - في ترتب هذه الأحاديث طريق الفقهاء، ولا  أعمال المناسك. فجعل - بعد الوداع - المبيت بـ"منى" وجمع الصلاة في مزدلفة. وجزاء الصيد.

ولم يتبين لي وجه المناسبة من هذا الترتيب- اهـ- شارح.

[130] هدا لفظ البخاري بزيادة وإسقاط، فأما الزيادة فهي لفظ "كل" بعد قوله "أثر".

وأما الإسقاط، فهو من قوله "لكل" واحدة منها ـ ومسلم ذكره ألفاظ.

[131] اختلف في السبب الذي من أجله لم يحرم" أبو قتادة".  مثل أصحابه.

والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه  وسلم لما بعثه ليكون ردءاً له دون عدوه وعيناً يستطلع له أخبار الأعداء، كان يظن أنه لا يتمكن من دخول مكة، فلم يحرم.

وفي أثناء تجواله وحله يستطلع أخبار العدو أحرم أصحابه - ا.هـ  شارح.

[132] تقدم التحقيق عن أهل تلك الجهة أن الأبواء يقع عن مستورة شرقاً بنحو ثلاثة كيلوات ـ ا.هـ الشارح

[133] الحديث رقم [ 252 ] حسب ترتيب المؤلف هو رقم ( 256) قدمته إلى هنا لأنه كالقطعة من الحديث الذي معه - ا.هـ شارح .

[134] التصرية : ربط أحلاف الماشية مدة ، ليجتمع فيها اللبن فيخدع بها الشاري .

[135] ما يزال أهل نجد حتى الآن يقولون : " بئر صارية " للتي تجمع ماؤها لعدم الأخذ منه .

[136] إنما عبرت ببهيمة الأنعام مع أن الذي في الحديث الغنم فقط ، لورود الإبل في بعض طرق الحديث    وأما ترك البقر ، فلقلتها في بلاد العرب العدنانيين ، والحكم فيها واحد ، لاتحاد المعنى .

[137] قيدت بالعلم ،مع أن الحديث قيده بالحلب ، لأن الحلب طريق للعلم ، فإذا حصل بطريق أخرى كشهادة عدل أو اعتراف البائع ، خير المشتري بين الإمساك والرد ، ولو لم يحلبها .

[138] عبرت بلفظة ( بكثير ) لتتفق حكمة هذا النهي مع حكمة النهي عن بيع الحاضر للبادي -ا.هـ - شارح .

[139] اشتهر التفسير الأول عن راوي الحديث ابن عمر فأخذ به مالك والشافعي ، لأن الراوي أعلم بمعنى ما روى .

      وأما التفسير الثاني ، فلبعض أئمة اللغة ، كأبي عبيدة ، وأبي عبيد ، وابن الأنباري والجوهري .

      قال النووي : هذا أقرب إلى اللغة -ا.هـ - شارح . ولحبل الحبلة معنى آخر عند علماء اللغة وهو حمل الكرمة قبل أن تبلغ . ومثله النهي عن بيع ثمر النحل قبل أن يزهي . انظر لسان العرب (حبل)

[140] وضعت هذه الترجمة ، لتفصيل المقام -أه- شارح

[141] هذا الحديث من أفراد مسلم كما نبه عليه " عبد الحق " وغيره .

[142] ورد في رواية " اعلفه نضاحك " والناضحة هي الناقة التي تخرج الماء من البئر ، والنضاح : الرقيق الذي يعملون في ذلك .

[143] كانت ترجمة المؤلف [ باب العرايا وغير ذلك ] فرأيت أن أجعل العرايا في باب ، وباقي أحاديث الباب في ثلاثة أبواب تناسبها للأحكام . ا.هـ شارح

[144] قول المصنف : ولـ " مسلم" يوهم أن هذه الزيادة لم يذكرها البخاري في صحيحه ، وليس كذلك ، بل هي في الصحيحين كما نبه عليه في فتح الباري ، وقد ذكرها البخاري في [ باب الرجل يكون له ثمر أو شرك في حائط أو نخل ] والذي أوقع المصنف في الوهم ، هو عدم ذكر البخاري لها في ( باب البيع ) واقتصاره على القطعة الأولى - ا. هـ .

[145] الذرع : القياس بالذراع .

[146] القرظ : ورق السلم ، كانوا يدبغون به .

[147] القذة : الريشة التي توضع في مؤخرة السهم الذي يرمى به ، وقد كانوا يلائمون ما بين الريش الذي يكون في آخره...

[148] من هذا المعنى أخذت الترجمة ، التي جعلناها مقدمة لهذا الحديث ا.هـ شارح   .

[149] هذا لفظ البخاري ولـ " مسلم " نحوه ا.هـ شارح

[150] إذا قيل بالجملة، فالمراد كل الصور. وإذا قيل: في الجملة، فيراد بعض الصور ونحن عبرنا ب "في الجملة  " إشارة إلى ما ورد من خلاف ضعيف في بعض صوره- ا.هـ. شارح.

[151] وله وفى لفظ "إلا وزنا بوزن " ذكر الوزن من أفراد "مسلم " نبه عليه عبد الحق في كتابه "الجمع بين الصحيحين " ا.هـ شارح

[152] إلا ما نقل عن ابن عباس في ربا الفضل ، إن لم يكن رجع عنه كما قيل - ا.هـ شارح .

[153] لترجمة التي وضعها المصنف " باب الرهن وغيره " ويشير بلفظ "غيره " إلى عدة أبواب من أبواب الفقه ، ذكر لكل باب منها حديث أو حديثين .

فمنها " الحوالة " و " الإفلاس " و " الشفعة " ، فهو لم يعقد ترجمة من هنا إلى أن وصل إلى أحكام " اللقطة " فوضع لها ترجمة .

فرأيت تفصيل هذه المباحث ، وتبين أحكام أحاديثها ، بوضع تراجم ، تعين على البيان والفهم وفقنا الله جميعا لكل خير . ا.هـ شارح

[154] هذه الترجمة وما بعدها من التراجم إلى باب اللقطة كلها من وضعي .

[155] متهب : اسم فاعل من الهبة ، ويريد الموهوب له .

[156] المتحاصي المال : الغرماء المقتسمون لحصص المال ، والمال مفعول به وقد أضيف إلى " المتحاصي " إضافة لفظية .

[157] الشفيع : صاحب الشفعة المنتزع حصة شريكه بعوض

[158] الشقص : السهم والنصيب والشرك .

[159] أخرجه " ابن الجوزي " في " تحقيقه " عن طريق أبي سلمة عن جابر بلفظ : " إنما جعل " وقال : انفرد لإخراجه البخاري ، ثم أخرجه عن أبي الزبير عن جابر بلفظ " قضى "

[160] عبرت بلفظ " باع " حيث الحديث ورد في البيع ، وهو المشهور من مذهب الحنابلة ، والوجه الثاني : يثبت بما انتقل بتصرف غير مالي ، اختاره بعض الأصحاب وهو مذهب مالك والشافعي .

[161] لا فرق بين شريك أو شركاء ، وإذا كان الشفعاء أكثر من واحد ، فالشفعة بينهم على قدر أملاكهم ، فإن أسقط بعضهم شفعته أخذ باقي الشركاء كل الشقص أو تركه ، لئلا يضر بالمشتري ، فالشرع جاء لمحاربة الضرر عن الطرفين ا.هـ شارح

[162] العقارات قسمان :

القسم الأول : عقار كبير واسع لا تميز بين أجزائه كالدور الكبار ، والأرض الواسعة ، فهذه تجب قسمتها إذا طلب أحد الشريكين ، لأنه لا ضرر قي قسمتها ، وتسمى هذه " قسمة إجبار " .

والقسم الثاني : صغير كحمام ، ودكان ضيق ، فهذه لا تقسم غلا برضا الشريكين أو الشركاء جميعا لوجود الضرر في قسمتها ، وهذه لها أحكام البيع ، أما الأولى فهي إفراز لا بيع ا.هـ شارح

[163] أحكام الجوار تناسب أن تقع بعد الشفعة ، فبينهما شيء من الصلة ، لأن كليهما من حقوق الجوار المرعية ا.هـ شارح

[164] هذا الحديث حسب ترتيب المصنف رقم " 287" .

[165] نخابر بمعنى نزارع ، فالمخابرة هي المزارعة ، مأخوذة من الخبار وهي الأرض اللينة أو من الخبير الزراعي .

[166] أعجمية معربة بمعنى الأنهار الكبار .

[167] القصرى : بكسر القاف وسكون الصاد وكسر الراء المهملة ، هو ما يبقى في المنخل بعد الإنتخال ، أو ما يبقى من الحب في السنبل مما لا يتخلص منه بعد ما يداس ، وتسمى القصارة ، وهذا أسمها إلى الآن عند أهل نجد .

[168] رقم هذين الحديثين [ 284] و[285] حسب ترتيب المصنف رحمه الله تعالى.

[169] قال ابن الأثير : إنها سوادية معربة .

[170] بشرط أن لا يكون بجزء منها ، فلا تصح إجارة ، وإنما تصح مزارعة إذا كان الجزء معلوما كما تقدم .

[171] رقم هذا الحديث حسب ترتيب المصنف [279] أخرجناه لنضمه إلى الأحاديث المناسبة له.

[172] وضعت هذه الترجمة، لتفصيل المقام- ا.هـ. شارح.

[173] بضم القاف ، فتح الباء ، جمع قبلة .

[174] زمن : ذو عاهة .

[175] الأرش : هو عقوبة مالية تدفع مقابل كل جناية بدنية ليس لها مقدر من الشرع ويسمى باصطلاح الفقهاء  [ حكومة ] وطريقة الفقهاء في تقدير الجناية إذا كانت حكومة هوان تفرض أن المجني عليه عبدا رقيقا فيقدر له قيمة وهو سليم في الجناية ثم يقدر له قيمة وبه الجناية فما بين القيمتين هو الأرش ( الحكومة  ) ا.هـ شارح  .

[176] الكظم : مخرج النفس من الحلق ويريد : عند خروج نفسه وانقطاع نفسه .

[177] ذكر الذكر بعد الرجل للتأكيد ولإدخال الصبي ليزول الوهم.

[178] من هنا إلى باب الصداق، لم يجعل المؤلف بين أحاديثه ترجمة : بما أن أحاديثه متثعبة البحوث، فقد جعلت لها تراجم تناسبها- اهـ. شارح.

[179] هذا اللفظ لمسلم خاصة، وللبخاري نحوه، ولهذا قال المصنف في (عمدته الكبرى) متفق عليه.

[180] قوله: [قال عروة... الخ]  يوهم أنه من المتفق عليه، وليس كذلك، فهو من أفراد البخاري خاصة، كما قاله (عبد الحق) في جمعه بين الصحيحين.

[181] قيل اسمها: (رمله) وقيل: عزة.

[182] ضرة المرأة، هي امرأة زوجها.

[183] يعني لا تحل له أختها مادامت هي زوجة، فهي من المحرمات إلى أمد.

[184] أي في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم لا بعد التحريم المؤبد.