×
خطبة جمعة بالمسجد النبوي، ألقاها فضيلة الدكتور عبد المحسن القاسم أثابه الله في يوم ١١ جمادى الآخرة ١٤٤٣هـ، يتحدث فيها الشيخ عن تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصغار والشباب وأن سيرةُ نبيِّنا محمَّدٍ ﷺ مع صِغار الصَّحابةِ وشبابِهم أعظمُ سيرة؛ تَواضَعَ لهم وجَالَسهم وزَارَهُم وعَلَّمَهم ورَفَع هِمَمَهُم، فَخَرَج منهم أَعظَمُ جيل.

هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ الصِّغَارِ وَالشَّبَابِ([1])

إنَّ الحمدَ للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يَهده اللَّه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا اللَّه - عبادَ اللَّه - حقَّ التَّقوى، وراقبوه في السرِّ والنَّجوى.

أيُّها المسلمون:

جَعَل اللَّه تَعَالى في الحياةِ قوَّةً بين ضَعفَين؛ وتلك القوَّة هي العِمادُ في الحياة والثَّمرة في الآخرة، وسِنُّ الشَّبابِ هو القوة بعد الضَّعف، فيه تَوَقُّد العزيمة وعُلوُّ الهمَّة، ونَفْعُهم عبر العصور كبير، قال قومُ إبراهيمَ عليه السلام عنه: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾، وقال اللَّه عن يحيى عليه السلام: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾، قال ابنُ كثيرٍ رحمه اللَّه: «أَيِ: الفَهْمَ وَالعِلْمَ وَالجِدَّ وَالعَزْمَ، وَالإِقْبَالَ عَلَى الخَيْرِ، وَالإِكْبَابَ عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ حَدَثُ السِّنِّ»، وقال تعالى عن أصحاب الكهف: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾، قال ابن كثيرٍ رحمه اللَّه: «ذكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ - وَهُمُ الشَّبَابُ -، وَهُمْ أَقْبَلُ لِلْحَقِّ وَأَهْدَى لِلسَّبِيلِ مِنَ الشُّيُوخِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ المُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ شَبَاباً»، ومن السَّبعة الذين يظلهم اللَّه في ظلِّه يوم القيامة: «شَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ» (متفق عليه).

وسيرةُ نبيِّنا محمَّدٍ ﷺ مع صِغار الصَّحابةِ وشبابِهم أعظمُ سيرة؛ تَواضَعَ لهم وجَالَسهم وزَارَهُم وعَلَّمَهم ورَفَع هِمَمَهُم، فَخَرَج منهم أَعظَمُ جيل.

فمِن تواضُعِه عليه الصلاة والسلام: «إِذَا مَرَّ بِصِبْيَانٍ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ» (متفق عليه)، قال ابنُ بطَّالٍ رحمه اللَّه: «سَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الصِّبْيَانِ مِنْ خُلُقِهِ العَظِيمِ وَأَدَبِهِ الشَّرِيفِ وَتَوَاضُعِهِ».

وكان النَّبي ﷺ شديدَ الحرص على تعليمهم، قال جُنْدُبُ بنُ عبدِ اللَّه رضي اللَّه عنه: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ - أَيْ: قَارَبْنَا البُلُوغَ -، فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ القُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا القُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَاناً» (رواه ابن ماجه).

وكان يَغرِس العقيدةَ في نفوسهم، قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: «كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْماً، فَقَالَ: يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، » الحديثَ (رواه الترمذي).

ويتلطَّف في تعليمهم بتنوُّع طُرُقِه:

فأحياناً يأخذ بأيديهم، قال معاذٌ رضي اللَّه عنه: «أَخَذَ بِيَدِي النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ، قُلْتُ: وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ، قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهَا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاتِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» (رواه البخاري في الأدب المفرد).

وأحياناً يضع كفَّ أحدهم بين كفَّيْهِ، قال ابنُ مسعودٍ رضي اللَّه عنه: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ - وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ - التَّشَهُّدَ، كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ» (متفق عليه).

وأحياناً يأخذ بمَنْكِب أحدهم، قال عبدُ اللَّه بنُ عمرَ رضي اللَّه عنهما: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (رواه البخاري).

ولرأفته في التعليم كانوا يأتون إليه ويقولون له: «عَلِّمْنَا»، قال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا القَوْلِ - أَيْ: مِنَ القُرْآنِ -، قَالَ: فَمَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ» (رواه أحمد)؛ فكان أحد قراء هذه الأمة.

وكان يصبر على تعليمهم، قال جَابرٌ رضي اللَّه عنه: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ» (رواه البخاري).

ومِن تَوَدُّدِه لهم: كان يُردِفهم خَلفَه إذا رَكِب دابَّته مع وجود كِبار الصَّحابة، فأردف أسامةَ رضي اللَّه عنه مِن عرفةَ إلى المزدلفةِ، ثم أردف الفضلَ بنَ العبَّاسِ رضي اللَّه عنهما من المزدلفةِ إلى مِنًى (متفق عليه).

وكان يحثُّهم على العبادة، قال لعبدِ اللَّه بنِ عمرَ رضي اللَّه عنهما - وهو يومئذٍ غلام -: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ؛ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلاً» (متفق عليه).

وكان يُوَجِّهُهم بألطفِ عبارة، قال لخُرَيْمٍ الأَسَدِيِّ رضي اللَّه عنه: «نِعْمَ الرَّجُلُ أَنْتَ يَا خُرَيْمُ! لَوْلَا خَلَّتَانِ فِيكَ، قُلْتُ: وَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِسْبَالُكَ إِزَارَكَ، وَإِرْخَاؤُكَ شَعْرَكَ» (رواه أحمد).

وكان يُشْفِقُ عليهم ويسألهم عن أهليهم، قال مالكُ بنُ الحُوَيْرِثِ رضي اللَّه عنه: «أَتَيْنَا النَّبِيَّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ - أَيْ: شَبَابٌ - مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا؛ فَأَخْبَرْنَاهُ، وَكَانَ رَفِيقاً رَحِيماً، فَقَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (متفق عليه).

والنَّبي ﷺ وهو الرَّجل العظيم كان يُمازح الصِّبيان، قال محمود بن الرَّبِيع رضي اللَّه عنه: «عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ - أَيْ: أَدْخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَاءً فِي فَمِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَلَى وَجْهِ الصَّبِيِّ عَلَى سَبِيلِ المُمَازَحَةِ -» (متفق عليه).

بل، ويسألهم عن طيورهم ويَكْنِيهم ملاطفةً لهم، قال أنسٌ رضي اللَّه عنه: «إِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ - وَهُوَ طَيْرٌ صَغِيرٌ -» (متفق عليه)، قال ابنُ بطَّالٍ رحمه اللَّه: «كَانَ عليه الصلاة والسلام يُمَازِحُ الصِّبْيَانَ وَيُدَاعِبُهُمْ لِيُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ، وَفِي مُمَازَحَتِهِ لِلصِّبْيَانِ تَذْلِيلُ النَّفْسِ عَلَى التَّوَاضُعِ وَنَفْيُ التَّكَبُّرِ عَنْهَا».

وكان يأخذُهم معه بيده إلى بيته لإطعامهم، قال جابرُ بنُ عبدِ اللَّه رضي اللَّه عنهما: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِي ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ فِلَقاً - أَيْ: كِسَراً - مِنْ خُبْزٍ» (رواه مسلم).

وإذا دخلوا بيتَه يأذنُ لهم بسماع حديث بيتِه، قال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهُ ﷺ: إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ يُرْفَعَ الحِجَابُ - أَيْ: إِذَا رَأَيْتَ سِتَارَ البَابِ مَرْفُوعاً فَادْخُلْ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ بِالقَوْلِ -، وَأَنْ تَسْتَمِعَ سِوَادِي - أَيْ: سِرِّي - حَتَّى أَنْهَاكَ - أَيْ: عَنِ الدُّخُولِ -» (رواه مسلم).

وكان يأكلُ معهم، ويعلِّمُهم آداب الطَّعام، قال عمرُ بنُ أَبِي سَلَمَةَ رضي اللَّه عنهما: «كُنْتُ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ - أَيْ: فِي حَضَانَتِهِ -، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ - أَيْ: تَتَحَرَّكُ وَتَمْتَدُّ إِلَى نَوَاحِيهَا -، فَقَالَ لِي: يَا غُلَامُ! سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» (متفق عليه).

ويُجيبُ دعوةَ صِغار أصحابِه وشبابهم، قال عبدُ اللَّه بنُ بُسْرٍ المَازِنِيُّ رضي اللَّه عنهما: «بَعَثَنِي أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَدْعُوهُ إِلَى طَعَامٍ؛ فَجَاءَ مَعِي، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنَ المَنْزِلِ أَسْرَعْتُ، فَأَعْلَمْتُ أَبَوَيَّ، فَخَرَجَا، فَتَلَقَّيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَرَحَّبَا بِهِ» (رواه أحمد).

وإذا بلغه مرضُ أحدِ صِغار أصحابه عاده، قال زيدُ بن أرقمَ رضي اللَّه عنه: «أَصَابَنِي رَمَدٌ - وَهُوَ دَاءٌ يُصِيبُ العَيْنَ -؛ فَعَادَنِي النَّبِيُّ ﷺ» (رواه أحمد).

وكان عليه الصلاة والسلام يستشرف نبوغَ كلِّ واحدٍ منهم، فيوجِّهه بما ينفع نفسَه وأُمَّتَه؛ لَمَّا قَدِم ﷺ المدينةَ رأى زيدَ بنَ ثابت رضي اللَّه عنه - وهو دون الخامسةَ عشْرة - يُحسِن الكتابةَ، فجعله من كُتَّاب الوحي، وأبصر فيه ذكاءً فطلب منه تعلُّمَ لغةِ اليهود؛ لِيُتَرْجِم له ما يُكتَب بلسانهم، قال زيدٌ رضي اللَّه عنه: «فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ» (رواه أحمد).

وحثَّ على تعلُّم كتاب اللَّه مِن صِغار أصحابه، فقال: «خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ - أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ -، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ» (متفق عليه).

وكان يُثْنِي عليهم ويُظهِر مكانتَهم؛ سمِع قراءةَ سالمٍ مولى أبي حُذيفةَ رضي اللَّه عنه - وهو غلامٌ صغيرٌ، حَسَنُ الصَّوت بالقرآن -، فقال: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا!» (رواه ابن ماجه)، ورأى مِن مُعاذٍ رضي اللَّه عنه فقهاً، فقال: «وَأَعْلَمُهُمْ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» (رواه أحمد).

وكان يُظهر محبَّته لصِغار أصحابه وشبابِهم، ويُخاطبهم بذلك ليُبَيِّن لهم ولغيرهم منزلَتَهم عنده، قال عن زيدِ بنِ حارثةَ رضي اللَّه عنه: «إِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا - أَيِ: ابْنَهُ أُسَامَةَ - لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ» (متفق عليه)، ورأى صبيانَ الأنصارِ ونساءَهم مقبِلين فقال: «اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ» (متفق عليه).

وكان يدعو لصِغار الصحابة بخيرَيِ الدُّنيا والآخرة محبةً لهم وإكراماً، قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: «ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ» (رواه البخاري)، ودعا لأنسٍ رضي اللَّه عنه بقوله: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ» (متفق عليه).

وكان يَخُصُّهُم بأسرارٍ دون غيرهم ثِقَةً فيهم، قال أنسٌ رضي اللَّه عنه: «أَسَرَّ إِلَيَّ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ سِرّاً، فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَداً بَعْدُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي عَنْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ - وَهِيَ أُمُّهُ - فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ» (متفق عليه).

وكان يعهَد إليهم الأمورَ العِظام، وَلَّى عَتَّابَ بنَ أَسِيد رضي اللَّه عنه مكةَ، فأقام المَوْسِمَ وحجَّ بالمسلمين سنةَ ثمانٍ، وهو دون العشرين عاماً.

وأكثرُ مَن روى حديث النَّبيِّ ﷺ بعدَ أبي هريرة رضي اللَّه عنه خمسةٌ: أنسٌ وجابرٌ وابنُ عبَّاسٍ وابنُ عمرَ وعائشةُ رضي اللَّه عنهم، وكلُّهم من صِغار الصحابة.

وكان عليه الصلاة والسلام يستشير صِغارهم فيما يخصُّه من الأمور العِظام؛ ففي حادثة الإفك أرسل إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأُسامةَ بنِ زيدٍ رضي اللَّه عنهم حين استلبث الوحيُ يستشيرهما (متفق عليه).

وفي مجلسه ﷺ يُوَقِّرهم ويُعْلِي من شأنهم مع وجود كِبار الصحابة؛ «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَرَابٍ؛ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ! لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَداً، فَتَلَّهُ - أَيْ: وَضَعَهُ - رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي يَدِهِ» (متفق عليه).

وكان ﷺ يستعظِم المصيبةَ إذا كانت في الصِّغار والشباب، قال أنسٌ رضي اللَّه عنه: «كَانَ شَبَابٌ مِنَ الأَنْصَارِ سَبْعِينَ رَجُلاً يُسَمَّوْنَ القُرَّاءَ، كَانُوا يَكُونُونَ فِي المَسْجِدِ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ جَمِيعاً؛ فَأُصِيبُوا يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى قَتَلَتِهِمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً فِي صَلَاةِ الغَدَاةِ» (رواه أحمد، وأصله في الصحيحَين).

وعامةُ مَن تقدَّم إسلامُه ونصَر النَبيَّ ﷺ في أول أمره أعمارُهم ما بين الثامنةِ إلى الثلاثةَ عشَر عاماً؛ كعليٍّ وطلحةَ والزُّبيرِ رضي اللَّه عنهم.

ولَمَّا همَّت قريشٌ إخراجَ النَّبيِّ ﷺ من مكةَ جاءَه الأنصار من المدينةِ - ونصفُهم مِن الصِّغار -؛ فبايَعوه عند العَقَبة مرتين.

وأرسل ﷺ إلى المدينةِ - شاباً صغيراً بين يدَي هجرته، يُعلِّم أهلَها القرآنَ ويفقِّهُهم في الدِّين - مصعبَ بنَ عمير، فنزل على - شابٍّ مثلِه - أسعدَ بنِ زُرَارة؛ فآواه.

ولَمَّا عزم النَّبيُّ ﷺ على الهجرة أمرَ عليَّ بنَ أبي طالب رضي اللَّه عنه - وهو شابٌّ - أن يتخلَّف عن الهجرة حتَّى يُؤَدِّيَ عن رسول اللَّه ﷺ الودائعَ التي كانت عنده للنَّاس.

وفي طريق هجرته ﷺ آزره الصِّغار والشَّباب؛ فكان يأتيه وهو في الغار مع صاحبِه عبدُ اللَّه بنُ أبي بكر رضي اللَّه عنهما، ينقُل إليهما خَبَرَ أهلِ مكةَ، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: «وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ - أَيْ: فَطِنٌ سَرِيعُ الفَهْمِ -» (رواه البخاري)، وأسماءُ رضي اللَّه عنها كانت جاريةً صغيرة تحمل إليهما الطعامَ والشَّراب.

ولَمَّا وصل إلى المدينةِ استقبله غِلمانُها فَرَحاً به، قال البراءُ رضي اللَّه عنه: «وَتَفَرَّقَ الغِلْمَانُ وَالخَدَمُ فِي الطُّرُقِ، يُنَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّهِ!» (رواه مسلم).

ولَمَّا استقرَّ عليه الصلاة السلام في المدينةِ هاجر أصحابُ النَّبيِّ ﷺ من مكة إلى المدينة وكانوا شباباً، قال أنسٌ رضي اللَّه عنه: «قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ - أَيِ: المَدِينَةَ - وَلَيْسَ فِي أَصْحَابِهِ أَشْمَطُ - أَيْ: مَنْ شَابَ شَعْرُهُ - غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ» (رواه البخاري).

وفي غزوة بدر نَدَب النَّبيُّ ﷺ أصحابَه إلى القتال، قال ابنُ عبَّاس رضي اللَّه عنهما: «فَتَسَارَعَ إِلَيْهِ الشُّبَّانُ» (رواه ابن حِبَّان)، ويوم حُنَيْن خرج شُبَّانُ الصَّحابةِ من غير سلاح.

وقبل موته عليه الصلاة السلام جيَّش جيشاً عظيماً لغزو الروم في الشَّام، وأمَّر عليهم أسامةَ بنَ زيد رضي اللَّه عنهما وعُمُرُه سبعةَ عشَر عاماً.

ولمعاملةِ النَّبيِّ ﷺ الفريدةِ للصِّغار أحبُّوه حُبّاً جَمّاً؛ فكان إذا قَدِم من سفر خرجوا من المدينة لاستقباله، قال السَّائبُ رضي اللَّه عنه: «خَرَجْتُ مَعَ الصِّبْيَانِ نَتَلَقَّى النَّبيَّ ﷺ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ مَقْدَمَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ» (رواه البخاري)، وكانوا يبيتون مع النَّبي ﷺ في بيته، قال رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ رضي اللَّه عنه: «كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: سَلْ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ» (رواه مسلم).

وإذا ناموا في بيتِه يضع أحدُهم رأسَه عند رأس النَّبي ﷺ على وِسادته، «بَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ - أُمِّ المُؤْمِنِينَ -، وَهِيَ خَالَتُهُ، قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا» (متفق عليه).

وبعدُ، أيُّها المسلمون:

فكلَّما عَلَت أخلاقُ العُظماء تواضَعَت للصِّبيان.

والصَّغيرُ مجبولٌ على محبة مَن دنا منه وعلَّمه، وَإِدْراكُهم في الحِفظِ والفَهْمِ قد يَفُوق الكِبارَ.

ودينُ الإسلام موافق لِفِطْرتهم؛ يُحبُّونه ويحبُّون آدابَه وشرائعَه، وهدي النَّبي ﷺ تَنْشِئَتُهم عليه، واحتقارُهم والإعراضُ عنهم لا يُوَافق شِيَم العُقلاء.

أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.

بارك اللَّه لي ولكم في القرآن العظيم …


الخطبة الثانية

الحمد للَّهِ على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسوله، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليماً مزيداً.

أيُّها المسلمون:

هديُ رسول اللَّه ﷺ أكملُ الهديِ، وطريقتُه أكملُ الطُّرق، ومُعَامَلته أَرْفَعُ المعاملة، وصِغار اليوم هُمْ أملُ الأُمَّةِ وعِمَادُها، ومَنِ ابتغى الخير للنَّاشئة فَلْيَلزم هديَ النَّبي ﷺ في تعامله معهم.

وبعنايته عليه الصلاة والسلام بصِغار أصحابه وشبابهم آلَ إليهم العلمُ، وانتفعت الأُمَّة بهم.

ومِن توفيق اللَّه للصِّبيان تيسيرُ عالمٍ لهم يعلِّمهم دينَهم، ويؤدِّبُهم بأخلاقِ الأنبياء عليهم السلام، وعلى أوليائهم أَنْ يسعَوا لهم بذلك.

ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّه أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه …


([1]) أُلقيت يوم الجمعة، الحادي عشَر من شهر جمادى الآخرة، سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النَّبويِّ.