×
محاضرة مفرغة للشيخ: محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - ألقاها في مفتتح الموسم الثقافي لعام 1385هـ.

 المثُل العُليا في الإسْلام

__________ قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أفاد المحقق في المقدمة: أن هذه المحاضرة ألقاها الشيخ في مفتتح الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية عام 1385.

(1/125)


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. "المُثُلُ العُلْيا في الإسلام" تعريف العنوان: اعلم أولًا أن المُثُل -بضمتين- جمع مثال، وهو من جموع الكثرة المطردة. قال في "الخلاصة". وفُعُلُ الاسم رباعي بمد ... قد زيد قبل لام اعلالًا فقد ما لم يضاعف في الأعم ذو الألف .. إلخ. والمثال يُطلق لغةً على عدة معان منها: القصاص، المقدار، وصفة الشيء، والقالب الذي يقدر عليه مثله كالمثل في الأخيرين وهما المراد هنا. والعليا: تأنيث الأعلى وهو ما له فضل على غيره في العلو مع مشاركته له في ذلك، ووجه كون المنعوت جمعًا والنعت مفردًا مع أن النعت الحقيقي أعني غير السببي يلزم مطابقته للمنعوت إفرادًا وجمعًا وتثنية وتذكيرًا وتأنيثًا هو ما تقرر في النحو من أن الجمع المكسر بنوعيه والسالم من جموع التأنيث كلها يجوز إجراؤها مجرى الواحدة المؤنثة التي هي غير حقيقة التأنيث قال في "الخلاصة": والتاء مع جمع سوى السالم من ... مُذَكَّر كالتاء مع احدى اللبن

(1/127)


وقال بذلك بعض الكوفيين أيضًا في الجمع المذكر السالم، وعليه قول الزمخشري: لا أبالي بجمعهم ... كل جمع مؤنث والتأنيث بالألف كالتأنيث بالتاء الساكنة في الأفعال المتحركة في الأسماء قال في "الخلاصة": علامة التأنيث تاء وألف فنعت الجمع المفرد في "المثل العليا" كقوله تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه / 18] وقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)} [طه / 23] وقوله: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه / 51] وقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف / 180] وقوله: {لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام / 19] ونحو ذلك. والمَثَل -بفتحتين أيضًا- يطلق على الصفة، ويطلق على الشيء الذي يُضرب لشيء مثلًا فيُجْعل مثله. وإذا علمتَ ذلك فاعلم أن المثل العليا التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتقسيم الأول إنما هي قسمان: قسم منها: وهو القسم الأعلى الذي لا يُماثل إنما هو لله جل وعلا وحده، كما بين ذلك بقوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} [النحل / 60]. قال ابن جرير رحمه الله: يقول: ولله المثل الأعلى، وهو الأفضل والأطيب والأحسن والأجمل، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره. والتحقيق: أن المثل الأعلى المذكور شامل للتوحيد، والإذعان

(1/128)


له جل وعلا بأنه لا إله غيره ولما هو متصف به من صفات الكمال والجلال مما لا شبيه له ولا نظير، كما قال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} [النحل / 74] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4]، وقوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى / 11]. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس / 104 - 157]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} [الحج / 73]. {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} [العنكبوت: 41]. فهذه الآيات وأمثالها الكثيرة في القرآن مما يوضح المثل الأعلى الذي هو الله جل وعلا وحده. والقسم الثاني: من المثل العليا في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وينقسم بالاستقراء إلى ثلاث أقسام: الأول منها: المثل العليا في التشريع بحيث يكون النظام التشريعي جاريًا على أكمل الوجوه وأحسنها.

(1/129)


الثاني منها: المثل العليا في أعمال وأخلاق العاملين بمثل التشريع العليا. الثالث منها: المثل العليا أعني الصفات الكاملة في جزاء أولئك العاملين بمثل التشريع العليا يوم القيامة. وسنمثل لكل واحد منها بأمثلة يُعْلَم منها نظائرها. أما الأول منها: وهو التشريع، فلا يخفى أن تشريع خالق السموات والأرض جارٍ على أكمل الوجوه وأبدعها وأحسنها وأتمها، ومعلوم أن المصالح التي يدور حولها التشريع السماوي ثلاث وهي: 1 - درء المفاسد، المعبَّر عنه في الأصول بالضروريات. 2 - وجلب المصالح، المعبَّر عنه في الأصول بالحاجيات. 3 - والجري على مكارم الأخلاق وأحسن العادات، المعبَّر عنه في الأصول بالتحسينات والتتميمات. ومعلوم أن الضروريات ست، وهي: دَفْع الضر عن الدين، وعن النفس، وعن العقل، وعن النسب، وعن العرض، وعن المال. ولا شك أن صيانة دين الإسلام لهذه الست بما شَرَع فيه من الزواجر الرادعة عن انتهاك حرمتها صيانة واقعة موقعها جارية على أكمل الوجوه وأتمها، وقد فصلنا الآيات الموضحة لذلك في بعض المحاضرات السابقة وسنلم بذلك هنا إلمامة خفيفة. أما الدين: فقد جاءت آيات وأحاديث بالمحافظة عليه، كقوله:

(1/130)


{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ... } [البقرة / 193] وفي آية الأنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال / 39]، وقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح / 16]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله" الحديث، وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه". وأما النفس: فالمحافظة عليها بشرع القصاص معروفة قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة / 179] الآية، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة / 178] الآية، وقال سبحانه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء / 33] الآية. أما العقل: فقد جاء الكتاب والسنة بالمحافظة عليه وذلك بتحريم كل مسكر قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] إلى قوله سبحانه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة / 95، 91]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام"، وقال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وللمحافظة على العقل شرع حد شارب الخمر. وأما النسب: فقد جاءت في القرآن آيات تقتضي المحافظة عليه، والمحافظة عليه من حِكَم تحريم الزنا لئلا تختلط أنساب المجتمع قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} الآية [النور / 2]. وحُكْم الرَّجْم معروف. ومن حِكَم ذلك: المحافظة على أنساب المجتمع من الاختلاط والضياع. وقال تعالى؛ {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32].

(1/131)


ولأجل المحافظة على النسب أوجب الله سبحانه العدة على التي فارقها زوجُها بطلاق أو موت لئلا يختلط ماءُ رجلٍ بماء آخر في رحم امرأة، قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} الآية [البقرة / 228]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة / 234]. وللمحافظة على النسب مَنَع سَقْي زرع الرجل بماءِ غيره، ومن أجل ذلك مَنَع تزويج الحامل حتى تضع حملها، قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق / 4]. وأما العِرْض: فقد جاءت آيات بالمحافظة عليه، كقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} الآية [الحجرات / 12]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات / 11]. وقد أوجب الله جلد ثمانين في القذف صيانةً لأعْراض المجتمع الإسلامي، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إلا الَّذِينَ تَابُوا} الآية [النور: 4 - 5]. وأما المال: فقد جاء القرآن العظيم بالمحافظة عليه وباحترام ملك الفرد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء / 29]، وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ

(1/132)


لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [البقرة / 188]. ولأجل المحافظة على المال أوجب قطع يد السارق، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} الآية [المائدة / 38]. وأما جلب المصالح: فقد فُتِحَت له أبواب كثيرة في الكتاب والسنة، ومن المعلوم أن الشرع الكريم جاء بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع ليستجلب كل منهم مصلحته من الآخر، كالبيوع والإجارات والأكرية والمساقات والمضاربة ونحو ذلك، فكل التشريع السماوي يتضمن المثل العليا بأنواعها الثلاثة المذكورة. ومن مثله العليا: أنه يشرع فيه الحَسَن ثم يرشد فيه أيضًا إلى ما هو أحسن منه، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل: 126] فالانتقام من الظالم حَسَن بين تعالى حُسْنه بقوله: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ}. ومعلوم أن انتصاف المظلوم من الظالم حَسَن، ثم أرشد إلى ما هو أحسن بقوله: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)}. فالعفو والتجاوز أحسن من الانتقام. وكقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى/ 40] فهذا حَسَن ثم أرشد إلى ما هو أحسن منه بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الآية. وكقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)}

(1/133)


[الشورى: 41] فهذا حَسَن، ثم أرشد إلى ما هو أحسن منه بقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43]. وكقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء / 148] ثم أرشد إلى ما هو أحسن منه وهو العفو عن السوء بقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء: 149]. وكقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة/ 45] ثم أرشد إلى ما هو أحسن بقوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} على أصح التفسيرين. وكقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ} [البقرة / 280] ثم أرشد إلى ما هو أحسن بقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} فإنظار المعسر إلى الميسرة حَسَن وإبراؤه من الدَّين أحسن منه. وكقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة / 237] ثم أرشد إلى ما هو أحسن بقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} هو فأَخْذ كلِّ واحد من الزوجين نصف المهر في حالة الطلاق من قبل الدخول حَسَن، وعفو كل واحد منهما عن الآخر في نصفه حسن، وقد أرشد الله إليه بقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، ثم نهى عن نسيان هذا الفعل الكريم بقوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَينَكُمْ}.

(1/134)


ومما يوضح العدالة التامة والإنصاف الكامل في التشريع السماوي، وأنه يأمر المسلمين بالعدالة في أعدائهم، وينهاهم عن أن يحملهم بُغْضُهم وعداوتهم على العدوان عليهم أو عدم العدالة فيهم كقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} الآية [المائدة / 2]. وقوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة / 8]. ومما يوضح ذلك أيضًا: أنه يأمر بالقسط والعدالة ولو كان ذلك على نفس الإنسان أو والديه أو قرابته، وينهى عن اتباع الهوى في ذلك، ويبين أن كون هذا غنيًّا وهذا فقيرًا لا يجوز أن تُتَّخَذ منه طريق إلى ظلم الناس بدعوى الأخذ من الغني للفقير وذلك في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَينِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135]. ومما يوضح ذلك: أنه يأمر باحترام ملك الفرد، وبَيَّن ما في عدم احترامه مما لا ينبغي كإخراج الأضغان، قال تعالى: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)} [محمد / 36 - 37]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء / 29]، وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}

(1/135)


[البقرة: 188]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} الآية [النحل / 71]، وقال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَينَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32]. وإذا تأملت قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل / 90 - 91] = علمتَ أن التشريعَ السماوي مُثل عُلْيا لا نظير لها مشتملة على العدل والإنصاف والإحسان ومكارم الأخلاق، والآيات القرآنية الدالة على ذلك كثيرة. وقد ضرب الله أمثالًا لكلمة الإسلام وكلمة الكفر، وللإسلام والكفر، وللمسلم والكافر. أ- كلمة الإسلام والكفر، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم / 24 - 26]. ب- ومثل الإسلام والكفر، قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ

(1/136)


لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور / 35]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور / 39 - 40]. وكقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة / 257]. وقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الآية [الأنعام / 122]. ج- ومثل المسلم والكافر، قال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَينِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَويَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)} [هود: 24]، وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)} [النحل: 75 - 76]، وكقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر / 19 - 22] إلى غير ذلك.

(1/137)


المُثُل العليا في أخلاق العاملين وأما الثاني الذي هو المثل العليا في أخلاق العاملين بِمُثُل التشريع العليا: فقد دل الوحي على أن العامل بالقرآن تكون أَخلاقه مثالًا أعلى، قال تعالى في نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، ولما سُئِلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقه - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكر الله أنه عظيم قالت: "كان خلقه القرآن" فدل ذلك على أن العامل بالقرآن يكون خُلُقه مثلًا أعلى. وقد بَيَّن تعالى في كتابه كثِيرًا من الآثار الحميدة الناشئة عن العمل بما أنزل الله على نبيه حتى أنه ضَرَب لذلك الأمثال في الكتب السابقة، فبين أن مثل العاملين بالقرآن في التوراة أن صفتهم الكريمة التي وُصِفوا بها فيها أنهم أشداء على الكفار بالله رحماء بينهم، ركوعهم وسجودهم كثير في صلاتهم وابتغاؤهم فضل ربهم ورضوانه، وأن آثار السجود ظاهرة علاماتها في وجوههم، وأن مثلهم في الإنجيل في كثرتهم بعد القِلَّة وقوتهم بعد الضعف وشدة مؤازرة بعضهم لبعض كمثل الزرع يَنْبت قليلًا ضعيفًا ثم يقويه النابت من شطئه فيستغلظ ويستوي على سوقه حتى يكون كثيرًا قويًّا متماسكًا. قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} ثم قال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح / 29]. وقال بعض أهل العلم: إن المثلين في التوراة والإنجيل معًا، وهو

(1/138)


خلاف الظاهر. وصفاتهم هذه في التوراة والإنجيل كفيلة بصلاح الدنيا والآخرة وكفيلة بالقوة الروحية والقوة الجسمية، وكل ذلك من آثار العمل بنظام السماء الذي نَظَّمه خالق السماوات والأرض وأنزله على لسان سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، فبين تعالى من صفاتهم الكريمة أنهم يشتدون في الحال المناسبة للشدة ويلينون في الحال المناسبة لِلِّين لأن الشدة في محل اللين حُمْق وخَرَق واللين في محل الشدة ضعف وخَوَر. قال الشاعر: إذا قيل حلم قل فللحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل وقال آخر: وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمد وقال آخر: وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحد المشرفيِّ المهند وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية [آل عمران / 159]. وقد أَثنى الله على قوم مؤمنين بهذا الثناء الجميل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ... } الآية [المائدة / 54]. وقد أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بذلك ليشرع ذلك على لسانه بقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}

(1/139)


[الحجر / 88] وقوله تعالى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215]. وقوله تعالى في الجانب الآخر: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ} [التوبة: 73] وبين أيضًا أنهم يرون رُكَعًا وسُجدًا لله يبتغون فضله ورضوانه، وذلك يهذِّب أرواحهم ويقويّ نفوسهم ويقوِّي صلتهم بخالقهم جل وعلا وأنهم متماسكون يقوِّي بعضهم بعضًا ويؤازر بعضهم بعضًا كمؤازرة الشَّطء للزرع وفي ذلك قوتهم الجسمية، فدلَّ ذلك على إصلاح التشريع السماوي للبشر من الناحيتين: الناحية الجسمية والناحية الروحية؛ لأن الإنسان مركَّب من روح وجسد ولكن منهما متطلبات لا تغني عنها متطلبات الآخر. وهذه الصفات التي هي مُثلُ العامِلين بهذا القرآن في التوراة والإنجيل مستلزمة لتهذيب الروح وطاعة خالق هذا الكون جل وعلا، ولسياسة المجتمع الخارجية والداخلية لأن السياسة الخارجية تَقْوَى وتستحكم بحصول أصلين. أحدهما: إعداد القوة الكافية لردِّ كلِّ هجوم مسلح. الثاني: الاتحاد الصحيح حول تلك القوة. وقد أشار في الآية المذكورة إلى قوتهم الكافية بقوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ} إلى قوله {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح / 29] أي من شدة قوتهم. وأشار إلى اتحادهم وعدم الفشل بينهم بقوله {رُحَمَاءُ بَينَهُمْ} [الفتح / 29] فكل منهم رحيم بالآخر يحب له كما يحب

(1/140)


لنفسه، فأخُوَّتهم صادقة وكلمتهم مجتمعة. وما تضمنته هذه الآية من الأصلين المذكورين جاء مصرَّحًا به في آيات أخرى، كقوله في الأول {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية [الأنفال / 60]. ونص هذه الآية مساير للتطور مهما بلغ، صريح في الأمر بإعداد المستطاع من القوة بالغةً ما بلغت من التطور. ومعلوم من دلالة هذه الآية الكريمة: أن التواكل والضعف والإخلاد إلى الأرض والاستسلام للعجز = كلُّ ذلك مخالف للأمر السماوي في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال / 60] والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]. وكقوله تعالى في الثاني التضامن {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} الآية [الأنفال / 46]، وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ... } الآية [آل عمران / 103]. وقد بين تعالى أن سبب اختلاف القلوب ضعف العقول في قوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر / 14] ثم بين العلة الموجهة لذلك بقوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} [الحشر / 14]. أما السياسة الداخلية: فمدارها على الضروريات الست أعني: الدين، والنفس، والعقل، والنسَب، والمال، والعِرْض. وكلها يستلزمها ما ذُكِر من مُثلهم؛ لأن قوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح / 29] يشير إلى قوَّتهم في دينهم، وقوله: {رُحَمَاءُ بَينَهُمْ} [الفتح / 29] يستلزم الإنصاف بينهم وعدم الظلم فيما ذكر لمحبة بعضهم بعضًا وقوة دينهم،

(1/141)


وإذا اجتمعت قوة الدين وصدق المحبة انتفى الظلم. وقد بين في آيات أخرى أن عدم الاتصاف بتلك الصفات يستلزم الفتنة والفساد الكبير وذلك مشاهد اليوم. وإيضاح ذلك: أنه تعالى لما بين في أخريات الأنفال أنه لا موالاة بين المؤمنين والكافرين، وأن المؤمن ولي المؤمن، والكافر ولي الكافر، صرح بأنهم إن لم يفعلوا ذلك تكن الفتنة في الأرض والفساد الكبير، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى أن قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال / 72، 73] ثم أتْبَع ذلك بقوله: {إلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)} [الأنفال / 73]. وقد بَيَّن جل وعلا أن المؤمن إن اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين أنه ليس من الله في شيء، إلا لضرورة الخوف فيرخَّص في قدر ما يدفع الضرر ولا يدفع بغض القلب للكافرين. قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءٍ إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} الآية [آل عمران/ 28]، وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة/ 22]. وقد علمت أن مما ذكرنا أن من المُثلُ العُلْيا في دين الإسلام: مراعاة الروح والجسم معًا، وبه تعلم أن إهمال المسلمين للناحية الجسمية من عنصري الإنسان، وتكاسلهم وتواكلهم وإخلادهم إلى

(1/142)


الأرض في عَجْز وضعف حتى احتقرهم عدوهم وأهانهم وصار لا يحسب لهم حسابًا مَثل سُوء لا مَثَل أعلى؛ لأنه مخالف لنظام السماء كما بينا. وأن إهمال الذين برعوا في خدمة الجسم للناحية الروحية من عنصري الإنسانَ مَثَل سوءٍ أيضًا، بل هو الويلة العظمى والداهية الكبرى عليهم، ولذا تراهم في قلقٍ دائم يعقدون المؤتمر بعد المؤتمر ليتخلصوا من شر تلك القوة التي بذلوا في تحصيلها كل إمكانياتهم، ولو كان كل من الطرفين يعلم أنه إن دَمَّر ما لديه منها أن الآخر يفعل ذلك لبادروا كلهم إلى تدميرها، وما ذلك إلا لأن تلك القوة الهائلة لم تدبرها روح مهذَّبة مرباة على ضوء نورٍ سماوي. فالقوة المادية إذا طغت ولم تدبرها روح مهذبة لم يتزن اتجاهها بل قد تتوجه إلى ما فيه الويل والهلاك لبني الإنسان، فأنياب الأسد وأظفاره قوة حيوانية، ولكن الروح التي تديرها روح بهيمية طبيعتها الافتراس والابتزاز والغشم، وبهذا تعلم أن كلًّا من المسلمين اليوم وأعدائهم محتاجون إلى مُثلُ الإسلام العليا. فالكفار محتاجون إلى تربية أرواحهم على ضوء النور السماوي ليوجِّهوا القوة التي حصَّلوها توجيهًا سديدًا في ضوء إرشاد الحليم الخبير بما أوحي على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - مما فيه صلاح الدنيا والآخرة. والمسلمون محتاجون إلى ذلك أيضًا وإلى مواصلة العمل بجد واجتهاد ليقوموا بمتطلباتهم الجسمية ولو كانوا يأخذون ذلك عمن برعوا فيه من الكفار، وهذا العمل المزدوج للروح والجسم مثالٌ أعلى من مُثُل الإسلام العليا ولو كان حظُّ الجسم مأخوذًا من استنتاج

(1/143)


الكافرين، وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل، ونحن دائمًا في المناسبات نذكر من ذلك أمثلة. منها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما تظاهر عليه كفار مكة وهاجر عنهم ودخل هو وصاحبه الغار كما حكى الله عنهما في قوله: {إلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة / 45] وجد خبيرًا كافرًا له خبرة بالطريق ومعرفة بالأرض، وهو عبد الله بن الأُرَيقط الدؤلي فانتفع - صلى الله عليه وسلم - بخبرة هذا الخبير الكافر وكان دليله حتى أوصله المدينة بسلام، ولم يمنعه كفره أن ينتفع بخبرته الدنيوية. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما حاصره وأصحابه الأحزابُ ذلك الحصار العسكري التاريخي المشهور المنصوص في سورة الأحزاب بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب / 10 - 11] وقال له سلمان: كنا إذا خضنا خَنْدَقْنا (1) أخذ تلك الخطة العسكرية فانتفع بها، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من المجوس الكفرة. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - يمنع الغيلة التي هي وطء المرضع، لأن العرب كانوا يظنون أنها تضر بالولد وتضعف عظمه كما قال شاعرهم: فوارس لم يُغالوا في رضاع ... فثبتوا في أكفهم السيوف __________ (1) في المصادر: إذا حُوصِرْنا.

(1/144)


فأخبرته فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر أَولادهم، فأخذ تلك الخطة الطبية منهم، ولم يمنعه من ذلك كفرهم. ولما أوضحنا أن من مُثلُ الإسلام العُليا: السعي المزدوج للروح والجسم وللدين والدنيا، وكان في طريق طبيعية ذلك في الظروف الراهنة مشكلة عُظمى وعقبة كؤود أردنا أن نكشف عنها القناع ونبرزها ليتسنَّى علاجُها. وإيضاح ذلك: أن جميع الطرق والميادين إلى الحصول على ما يتطلَّبه الجسم من المادِّيات بحسب تطوُّر الحياة في أحوالها الراهنة كلها إنما نَظَّمها ومَهَّدها قومٌ غير مسلمين ملأوا كل الطرق إليها من الألغام؛ من العقائد الفاسدة، والنظريات الملحدة، وتصوير الإسلام ورجاله بصورة مشوَّهة منفِّرَة بعيدة عن الحقيقة والواقع بُعْد الشمس عن اللمس، فعلى المسلمين أن يجتهدوا في نزع الألغام من طرق الحياة ليمكنهم أن يعلموا أبناءهم ما يقدرون معه على سدِّ الفراغ المادِّي الذي لا بد من سده في الظروف الراهنة لتطور الحياة البشرية، فيستجلبون بأموالهم الرجال البارعين في العلوم المادية ويجعلون على مناهج تعليمها وفي تطبيق تلك المناهج رقباء من رجال الدين العالمين لكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يحصل لهم ما تتطلبه الأجسام البشرية مع المحافظة على التراث الروحي الذي هو علامة الاصطفاء من خالق السموات والأرض، المنوَّه عنه بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32] آية

(1/145)


فاطر هذه من عجائب هذا التراث الروحي لأن الله بَيَّن فيها أن إيراثه إياه يختص بالذين اصطفاهم من عباده وقسَّمهم إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. ثم يبين أن ذلك الإيراث لهذا الكتاب الذي هو أساس دين الإسلام هو الفضل الكبير منه جل وعلا على الذين أورثهم إياه، ثم وعد الجميعَ دخول جناته وهو لا يخلف الميعاد. قال تعالى. {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاورَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر/ 32 - 35] وكان بعض أهل العلم يقول حق لهذا الواو أن تكتب بماء العينين، يعني واو {يَدْخُلُونَهَا} لأنها شاملة للظالم والمقتصد والسابق. ومن الأدلة على شمولها لجميع المسلمين مطيعهم وعاصيهم: أنه قال بعدها: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} الآية [فاطر/ 36] فدلَّ ذلك على شمولها لغير الكفار من عامة المسلمين. وتقديمه تعالى في هذه الآية الظالم لنفسه على المقتصد والسابق في الوعد بالجنة فيه سؤال معروف وهو: ما وَجْه تقديم الظالم؟ وللعلماء عنه أجوبة منها: أن المقام مقام إظهار الكَرَم والرحمة، فقدَّم الظالم لئلا يقنط وأخَّر السابق بالخيرات لئلا يُعجب بعمله

(1/146)


فيحبطه، ومنوِّهًا أن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم، فقدَّم الظالم اعتناءً بكثرة العدد. كذا يقولون والله تعالى أعلم.

(1/147)


النوع الثالث في جزاء العاملين وأما النوع الثالث وهو المُثل العُلْيا في جزاء العاملين بمُثُل التشريع العليا فهي كثيرة واضحة كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} الآية [الرعد: 35]، وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15]، وقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]، فهذه أمثلة للمثل العليا من نظام الإسلام، والمثل العليا من آثار العمل بنظام الإسلام، والمثل العليا من جزاء العمل بنظام الإسلام. واعلم أن المسلمين ليس لهم مَثَل سوء، وقد روى البخاري في "صحيحه" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس لنا مَثَل السوء الذي يعود في هِبته كالكلب يرجع في قيئه" هذا لفظ البخاري في "صحيحه". ولما تناظر الإمام الشافعي وأحمد في رجوع الواهب في هبته، والشافعي يرى إباحة ذلك وأحمد يرى منعه فاستدل أحمد لمنعه بحديث العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه، فقال للشافعي: نعم ولكن الكلب لا يحرم عليه الرجوع في قيئه، فقال الإمام أحمد: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الحديث: ليس لنا مَثَل السوء والعود في القيء مَثَل سوء، وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - العود في الهبة فهو أيضًا كمثل السوء وقد نفى عَنَّا - صلى الله عليه وسلم - مثل السوء فليس لأحد إتيانه لنا.

(1/148)


وهو مما يدل على أنه ليس للإسلام ولا المسلمين مَثَل سوء بخلاف الكافرين فلهم مثل السوء بأنواعه الثلاثة قال تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ .. } الآية [النحل: 60]، وقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} إلى قوله: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} [الأعراف: 176] وكقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة: 5]. وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)} [الروم: 10] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنهم ليس لهم إلا مثل السوء في نظامهم الذي يسيرون عليه وفي جزاء أعمالهم يوم القيامة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(1/149)