<ul><li><a href="#t1">المثُل
العُليا في الإسْلام</a>
</li>
</ul><div class="rtl start"><div class="rtl start"><h1 class="rtl start" id="p1"><a id="t1" class="anchor"> </a><a href="#t1">المثُل
العُليا في الإسْلام</a></h1><p class="rtl right" id="p2">
__________
قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أفاد المحقق في المقدمة: أن هذه المحاضرة ألقاها
الشيخ في مفتتح الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية عام 1385.</p><p class="rtl left" id="p3"><span class="c2">(1/125)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p4">الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
النبي الكريم وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.<span class="c6">
"المُثُلُ العُلْيا في الإسلام"
تعريف العنوان:</span> اعلم أولًا أن المُثُل -بضمتين-
جمع مثال، وهو من جموع الكثرة المطردة. قال في "الخلاصة".
وفُعُلُ الاسم رباعي بمد ... قد زيد قبل لام اعلالًا فقد
ما لم يضاعف في الأعم ذو الألف .. إلخ.<span class="c6">
والمثال يُطلق لغةً على عدة معان منها:</span> القصاص، المقدار، وصفة الشيء، والقالب الذي
يقدر عليه مثله كالمثل في الأخيرين وهما المراد هنا.<span class="c6">
والعليا:</span> تأنيث الأعلى وهو ما له فضل على غيره في العلو مع مشاركته له في ذلك،<span class="c6">
ووجه كون المنعوت جمعًا والنعت مفردًا مع أن النعت الحقيقي أعني غير السببي يلزم
مطابقته للمنعوت إفرادًا وجمعًا وتثنية وتذكيرًا وتأنيثًا هو ما تقرر في النحو من
أن الجمع المكسر بنوعيه والسالم من جموع التأنيث كلها يجوز إجراؤها مجرى الواحدة
المؤنثة التي هي غير حقيقة التأنيث قال في "الخلاصة":</span>
والتاء مع جمع سوى السالم من ... مُذَكَّر كالتاء مع احدى اللبن</p><p class="rtl left" id="p5"><span class="c2">(1/127)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p6">وقال بذلك بعض الكوفيين أيضًا في الجمع
المذكر السالم،<span class="c6"> وعليه قول الزمخشري:</span>
لا أبالي بجمعهم ...<span class="c6"> كل جمع مؤنث
والتأنيث بالألف كالتأنيث بالتاء الساكنة في الأفعال المتحركة في الأسماء قال في
"الخلاصة":</span>
علامة التأنيث تاء وألف
فنعت الجمع المفرد في "المثل العليا" كقوله تعالى: <span class="c4">{وَلِيَ فِيهَا
مَآرِبُ أُخْرَى}</span> <span class="c5">[طه / 18]</span> وقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى <span class="c2">(23)</span>}
<span class="c5">[طه / 23]</span> وقوله: <span class="c4">{فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}</span> <span class="c5">[طه / 51]</span> وقوله: <span class="c4">{وَلِلَّهِ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}</span> <span class="c5">[الأعراف / 180]</span> وقوله: <span class="c4">{لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ
اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}</span> <span class="c5">[الأنعام / 19]</span> ونحو ذلك. والمَثَل -بفتحتين أيضًا- يطلق
على الصفة، ويطلق على الشيء الذي يُضرب لشيء مثلًا فيُجْعل مثله.
وإذا علمتَ ذلك فاعلم أن المثل العليا التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله - صلى
الله عليه وسلم -<span class="c6"> بالتقسيم الأول إنما هي قسمان:</span>
قسم منها: وهو القسم الأعلى الذي لا يُماثل إنما هو لله جل وعلا وحده،<span class="c6"> كما بين ذلك
بقوله:</span> {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ <span class="c2">(60)</span>}
<span class="c5">[النحل / 60]</span>.<span class="c6"> قال ابن جرير رحمه الله:</span> يقول: ولله المثل الأعلى، وهو الأفضل
والأطيب والأحسن والأجمل، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره.<span class="c6">
والتحقيق:</span> أن المثل الأعلى المذكور شامل للتوحيد، والإذعان</p><p class="rtl left" id="p7"><span class="c2">(1/128)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p8">له جل وعلا بأنه لا إله غيره ولما هو متصف
به من صفات الكمال والجلال مما لا شبيه له ولا نظير،<span class="c6"> كما قال تعالى:</span> <span class="c4">{فَلَا
تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال}</span> <span class="c5">[النحل / 74]</span> وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا
أَحَدٌ <span class="c2">(4)</span>} <span class="c5">[الإخلاص: 4]</span>،<span class="c6"> وقوله:</span> {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ <span class="c2">(11)</span>} <span class="c5">[الشورى / 11]</span>.<span class="c6"> وقال تعالى:</span> {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ
كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ <span class="c2">(104)</span> وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ <span class="c2">(105)</span> وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا
لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ
الظَّالِمِينَ <span class="c2">(106)</span> وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلا
هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ <span class="c2">(107)</span>} <span class="c5">[يونس / 104 - 157]</span>، {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ <span class="c2">(73)</span>} <span class="c5">[الحج / 73]</span>. {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ لَبَيتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ <span class="c2">(41)</span>} <span class="c5">[العنكبوت:
41]</span>.
فهذه الآيات وأمثالها الكثيرة في القرآن مما يوضح المثل الأعلى الذي هو الله جل
وعلا وحده.<span class="c6">
والقسم الثاني:</span> من المثل العليا في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -،<span class="c6">
وينقسم بالاستقراء إلى ثلاث أقسام:</span>
الأول منها: المثل العليا في التشريع بحيث يكون النظام التشريعي جاريًا على أكمل
الوجوه وأحسنها.</p><p class="rtl left" id="p9"><span class="c2">(1/129)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p10">الثاني منها: المثل العليا في أعمال وأخلاق
العاملين بمثل التشريع العليا.<span class="c6">
الثالث منها:</span> المثل العليا أعني الصفات الكاملة في جزاء أولئك العاملين بمثل
التشريع العليا يوم القيامة. وسنمثل لكل واحد منها بأمثلة يُعْلَم منها نظائرها.<span class="c6">
أما الأول منها:</span> وهو التشريع، فلا يخفى أن
تشريع خالق السموات والأرض جارٍ على أكمل الوجوه وأبدعها وأحسنها وأتمها،<span class="c6"> ومعلوم
أن المصالح التي يدور حولها التشريع السماوي ثلاث وهي:</span>
1 - درء المفاسد، المعبَّر عنه في الأصول بالضروريات.
2 - وجلب المصالح، المعبَّر عنه في الأصول بالحاجيات.
3 - والجري على مكارم الأخلاق وأحسن العادات، المعبَّر عنه في الأصول بالتحسينات
والتتميمات.
ومعلوم أن الضروريات ست،<span class="c6"> وهي:</span> دَفْع الضر عن الدين، وعن النفس، وعن العقل، وعن
النسب، وعن العرض، وعن المال.
ولا شك أن صيانة دين الإسلام لهذه الست بما شَرَع فيه من الزواجر الرادعة عن
انتهاك حرمتها صيانة واقعة موقعها جارية على أكمل الوجوه وأتمها، وقد فصلنا الآيات
الموضحة لذلك في بعض المحاضرات السابقة وسنلم بذلك هنا إلمامة خفيفة.<span class="c6">
أما الدين:</span> فقد جاءت آيات وأحاديث بالمحافظة عليه،<span class="c6"> كقوله:</span></p><p class="rtl left" id="p11"><span class="c2">(1/130)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p12"><span class="c4">{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ... }</span> <span class="c5">[البقرة / 193]</span> وفي آية الأنفال:
<span class="c4">{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}</span> <span class="c5">[الأنفال / 39]</span>،<span class="c6"> وقوله تعالى:</span>
<span class="c4">{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}</span> <span class="c5">[الفتح / 16]</span>، وقول النبي - صلى الله عليه
وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله" الحديث،<span class="c6">
وقوله:</span> "من بدل دينه فاقتلوه".<span class="c6">
وأما النفس:</span> فالمحافظة عليها بشرع القصاص معروفة قال تعالى: <span class="c4">{وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}</span> <span class="c5">[البقرة / 179]</span> الآية،<span class="c6"> وقال تعالى:</span>
<span class="c4">{كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}</span> <span class="c5">[البقرة / 178]</span> الآية،<span class="c6"> وقال سبحانه:</span>
<span class="c4">{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}</span> <span class="c5">[الإسراء /
33]</span> الآية.<span class="c6">
أما العقل:</span> فقد جاء الكتاب والسنة بالمحافظة عليه وذلك بتحريم كل مسكر قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ <span class="c2">(90)</span>} <span class="c5">[المائدة: 90]</span> إلى قوله سبحانه: <span class="c4">{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}</span>
<span class="c5">[المائدة / 95، 91]</span>. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام"،<span class="c6">
وقال:</span> "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وللمحافظة على العقل شرع حد شارب
الخمر.<span class="c6">
وأما النسب:</span> فقد جاءت في القرآن آيات تقتضي المحافظة عليه،<span class="c6"> والمحافظة عليه من
حِكَم تحريم الزنا لئلا تختلط أنساب المجتمع قال تعالى:</span> <span class="c4">{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}</span> الآية <span class="c5">[النور / 2]</span>. وحُكْم
الرَّجْم معروف.<span class="c6"> ومن حِكَم ذلك:</span> المحافظة على أنساب المجتمع من الاختلاط والضياع.
وقال تعالى؛ {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا
<span class="c2">(32)</span>} <span class="c5">[الإسراء: 32]</span>.</p><p class="rtl left" id="p13"><span class="c2">(1/131)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p14">ولأجل المحافظة على النسب أوجب الله سبحانه
العدة على التي فارقها زوجُها بطلاق أو موت لئلا يختلط ماءُ رجلٍ بماء آخر في رحم
امرأة،<span class="c6"> قال تعالى:</span> <span class="c4">{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ}</span> الآية <span class="c5">[البقرة / 228]</span>،<span class="c6"> وقال تعالى:</span> <span class="c4">{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا}</span> <span class="c5">[البقرة / 234]</span>.
وللمحافظة على النسب مَنَع سَقْي زرع الرجل بماءِ غيره، ومن أجل ذلك مَنَع تزويج
الحامل حتى تضع حملها،<span class="c6"> قال تعالى:</span> <span class="c4">{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}</span> <span class="c5">[الطلاق / 4]</span>.<span class="c6">
وأما العِرْض:</span> فقد جاءت آيات بالمحافظة عليه،<span class="c6"> كقوله تعالى:</span> <span class="c4">{وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ}</span> الآية <span class="c5">[الحجرات / 12]</span>،<span class="c6"> وقال تعالى:</span> <span class="c4">{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيرًا مِنْهُمْ
وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ
الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}</span> <span class="c5">[الحجرات / 11]</span>.
وقد أوجب الله جلد ثمانين في القذف صيانةً لأعْراض المجتمع الإسلامي،<span class="c6"> قال تعالى:</span>
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ <span class="c2">(4)</span> إلا الَّذِينَ تَابُوا} الآية <span class="c5">[النور:
4 - 5]</span>.<span class="c6">
وأما المال:</span> فقد جاء القرآن العظيم بالمحافظة عليه وباحترام ملك الفرد،<span class="c6"> قال الله
تعالى:</span> <span class="c4">{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}</span> <span class="c5">[النساء / 29]</span>،<span class="c6">
وقال تعالى:</span> {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا
بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ</p><p class="rtl left" id="p15"><span class="c2">(1/132)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p16">لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ
النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ <span class="c2">(188)</span>} <span class="c5">[البقرة / 188]</span>.
ولأجل المحافظة على المال أوجب قطع يد السارق،<span class="c6"> قال تعالى:</span> <span class="c4">{وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ
اللَّهِ}</span> الآية <span class="c5">[المائدة / 38]</span>.<span class="c6">
وأما جلب المصالح:</span> فقد فُتِحَت له أبواب كثيرة في الكتاب والسنة، ومن المعلوم أن
الشرع الكريم جاء بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع ليستجلب كل منهم
مصلحته من الآخر، كالبيوع والإجارات والأكرية والمساقات والمضاربة ونحو ذلك، فكل
التشريع السماوي يتضمن المثل العليا بأنواعها الثلاثة المذكورة.<span class="c6">
ومن مثله العليا:</span> أنه يشرع فيه الحَسَن ثم يرشد فيه أيضًا إلى ما هو أحسن منه،<span class="c6"> ومن
أمثلة ذلك قوله تعالى:</span> {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ <span class="c2">(126)</span>} <span class="c5">[النحل: 126]</span>
فالانتقام من الظالم حَسَن بين تعالى حُسْنه بقوله: <span class="c4">{فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ}</span>. ومعلوم أن انتصاف المظلوم من الظالم حَسَن،<span class="c6"> ثم أرشد إلى ما هو أحسن
بقوله:</span> {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ <span class="c2">(126)</span>}. فالعفو والتجاوز
أحسن من الانتقام.<span class="c6">
وكقوله:</span> <span class="c4">{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}</span> <span class="c5">[الشورى/ 40]</span> فهذا حَسَن ثم
أرشد إلى ما هو أحسن منه بقوله: <span class="c4">{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ}</span> الآية.<span class="c6">
وكقوله:</span> {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهِمْ مِنْ
سَبِيلٍ <span class="c2">(41)</span>}</p><p class="rtl left" id="p17"><span class="c2">(1/133)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p18"><span class="c5">[الشورى: 41]</span> فهذا حَسَن،<span class="c6"> ثم أرشد إلى ما هو
أحسن منه بقوله:</span> {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
<span class="c2">(43)</span>} <span class="c5">[الشورى: 43]</span>.<span class="c6">
وكقوله تعالى:</span> <span class="c4">{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلا مَنْ
ظُلِمَ}</span> <span class="c5">[النساء / 148]</span> ثم أرشد إلى ما هو أحسن منه وهو العفو عن السوء بقوله:
{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا <span class="c2">(149)</span>} <span class="c5">[النساء: 149]</span>.<span class="c6">
وكقوله:</span> <span class="c4">{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}</span> <span class="c5">[المائدة/ 45]</span> ثم أرشد إلى ما هو أحسن بقوله:
<span class="c4">{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}</span> على أصح التفسيرين.<span class="c6">
وكقوله:</span> <span class="c4">{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ}</span> <span class="c5">[البقرة / 280]</span>
ثم أرشد إلى ما هو أحسن بقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ <span class="c2">(280)</span>} فإنظار المعسر إلى الميسرة حَسَن وإبراؤه من الدَّين أحسن منه.<span class="c6">
وكقوله تعالى:</span> <span class="c4">{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ
يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}</span> <span class="c5">[البقرة / 237]</span> ثم أرشد إلى ما هو
أحسن بقوله: <span class="c4">{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}</span> هو فأَخْذ كلِّ واحد من
الزوجين نصف المهر في حالة الطلاق من قبل الدخول حَسَن، وعفو كل واحد منهما عن
الآخر في نصفه حسن،<span class="c6"> وقد أرشد الله إليه بقوله:</span> <span class="c4">{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى}</span>،<span class="c6"> ثم نهى عن نسيان هذا الفعل الكريم بقوله:</span> <span class="c4">{وَلَا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَينَكُمْ}</span>.</p><p class="rtl left" id="p19"><span class="c2">(1/134)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p20">ومما يوضح العدالة التامة والإنصاف الكامل
في التشريع السماوي، وأنه يأمر المسلمين بالعدالة في أعدائهم،<span class="c6"> وينهاهم عن أن
يحملهم بُغْضُهم وعداوتهم على العدوان عليهم أو عدم العدالة فيهم كقوله تعالى:</span>
<span class="c4">{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}</span> الآية <span class="c5">[المائدة / 2]</span>.<span class="c6"> وقوله:</span> <span class="c4">{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}</span>
<span class="c5">[المائدة / 8]</span>.<span class="c6">
ومما يوضح ذلك أيضًا:</span> أنه يأمر بالقسط والعدالة ولو كان ذلك على نفس الإنسان أو
والديه أو قرابته، وينهى عن اتباع الهوى في ذلك،<span class="c6"> ويبين أن كون هذا غنيًّا وهذا
فقيرًا لا يجوز أن تُتَّخَذ منه طريق إلى ظلم الناس بدعوى الأخذ من الغني للفقير
وذلك في قوله عز وجل:</span> {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَو الْوَالِدَينِ
وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا
تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا <span class="c2">(135)</span>} <span class="c5">[النساء: 135]</span>.<span class="c6">
ومما يوضح ذلك:</span> أنه يأمر باحترام ملك الفرد، وبَيَّن ما في عدم احترامه مما لا
ينبغي كإخراج الأضغان،<span class="c6"> قال تعالى:</span> {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالكُمْ <span class="c2">(36)</span> إِنْ
يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ <span class="c2">(37)</span>} <span class="c5">[محمد /
36 - 37]</span>،<span class="c6"> وقال تعالى:</span> <span class="c4">{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ}</span> <span class="c5">[النساء / 29]</span>،<span class="c6"> وقال تعالى:</span> {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَينَكُمْ
بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ
أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ <span class="c2">(188)</span>}</p><p class="rtl left" id="p21"><span class="c2">(1/135)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p22"><span class="c5">[البقرة: 188]</span>،<span class="c6"> وقال تعالى:</span> <span class="c4">{وَاللَّهُ
فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}</span> الآية <span class="c5">[النحل / 71]</span>،<span class="c6"> وقال تعالى:</span>
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَينَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ <span class="c2">(32)</span>} <span class="c5">[الزخرف: 32]</span>.<span class="c6">
وإذا تأملت قوله تعالى:</span> {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ <span class="c2">(90)</span> وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا
عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ
اللَّهَ عَلَيكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} <span class="c5">[النحل / 90
- 91]</span> = علمتَ أن التشريعَ السماوي مُثل عُلْيا لا نظير لها مشتملة على العدل
والإنصاف والإحسان ومكارم الأخلاق، والآيات القرآنية الدالة على ذلك كثيرة.
وقد ضرب الله أمثالًا لكلمة الإسلام وكلمة الكفر، وللإسلام والكفر، وللمسلم
والكافر.
أ- كلمة الإسلام والكفر،<span class="c6"> قال تعالى:</span> {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ <span class="c2">(24)</span> تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ <span class="c2">(25)</span> وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}
<span class="c5">[إبراهيم / 24 - 26]</span>.
ب- ومثل الإسلام والكفر،<span class="c6"> قال تعالى:</span> {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ
مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ
زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ</p><p class="rtl left" id="p23"><span class="c2">(1/136)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p24">لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ
الْأَمْثَال لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ <span class="c2">(35)</span>} <span class="c5">[النور / 35]</span>.<span class="c6"> وقال
تعالى:</span> {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئًا وَوَجَدَ اللَّهَ
عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ <span class="c2">(39)</span> أَوْ
كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ
يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}
<span class="c5">[النور / 39 - 40]</span>.<span class="c6">
وكقوله:</span> <span class="c4">{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}</span> <span class="c5">[البقرة / 257]</span>.<span class="c6"> وقوله:</span> <span class="c4">{أَوَمَنْ كَانَ مَيتًا
فَأَحْيَينَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}</span> الآية <span class="c5">[الأنعام / 122]</span>.
ج- ومثل المسلم والكافر،<span class="c6"> قال تعالى:</span> {مَثَلُ الْفَرِيقَينِ كَالْأَعْمَى
وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَويَانِ مَثَلًا أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ <span class="c2">(24)</span>} <span class="c5">[هود: 24]</span>،<span class="c6"> وقوله تعالى:</span> {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا
مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا
فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ <span class="c2">(75)</span>} <span class="c5">[النحل: 75 - 76]</span>،<span class="c6"> وكقوله تعالى:</span> {وَمَا
يَسْتَوي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ <span class="c2">(19)</span> وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ <span class="c2">(20)</span>
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ <span class="c2">(21)</span> وَمَا يَسْتَوي الْأَحْيَاءُ وَلَا
الْأَمْوَاتُ} <span class="c5">[فاطر / 19 - 22]</span> إلى غير ذلك.</p><p class="rtl left" id="p25"><span class="c2">(1/137)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p26">المُثُل العليا في أخلاق العاملين
وأما الثاني الذي هو المثل العليا في أخلاق العاملين
بِمُثُل التشريع العليا: فقد دل الوحي على أن العامل بالقرآن تكون أَخلاقه مثالًا
أعلى، قال تعالى في نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
عَظِيمٍ <span class="c2">(4)</span>} <span class="c5">[القلم: 4]</span>، ولما سُئِلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقه - صلى الله
عليه وسلم -<span class="c6"> الذي ذكر الله أنه عظيم قالت:</span> "كان خلقه القرآن" فدل ذلك
على أن العامل بالقرآن يكون خُلُقه مثلًا أعلى.
وقد بَيَّن تعالى في كتابه كثِيرًا من الآثار الحميدة الناشئة عن العمل بما أنزل
الله على نبيه حتى أنه ضَرَب لذلك الأمثال في الكتب السابقة، فبين أن مثل العاملين
بالقرآن في التوراة أن صفتهم الكريمة التي وُصِفوا بها فيها أنهم أشداء على الكفار
بالله رحماء بينهم، ركوعهم وسجودهم كثير في صلاتهم وابتغاؤهم فضل ربهم ورضوانه،
وأن آثار السجود ظاهرة علاماتها في وجوههم، وأن مثلهم في الإنجيل في كثرتهم بعد
القِلَّة وقوتهم بعد الضعف وشدة مؤازرة بعضهم لبعض كمثل الزرع يَنْبت قليلًا
ضعيفًا ثم يقويه النابت من شطئه فيستغلظ ويستوي على سوقه حتى يكون كثيرًا قويًّا
متماسكًا.<span class="c6"> قال تعالى:</span> <span class="c4">{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}</span> ثم قال تعالى: <span class="c4">{وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى
عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}</span> <span class="c5">[الفتح / 29]</span>.<span class="c6">
وقال بعض أهل العلم:</span> إن المثلين في التوراة والإنجيل معًا، وهو</p><p class="rtl left" id="p27"><span class="c2">(1/138)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p28">خلاف الظاهر. وصفاتهم هذه في التوراة
والإنجيل كفيلة بصلاح الدنيا والآخرة وكفيلة بالقوة الروحية والقوة الجسمية، وكل
ذلك من آثار العمل بنظام السماء الذي نَظَّمه خالق السماوات والأرض وأنزله على
لسان سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، فبين تعالى من صفاتهم الكريمة أنهم
يشتدون في الحال المناسبة للشدة ويلينون في الحال المناسبة لِلِّين لأن الشدة في
محل اللين حُمْق وخَرَق واللين في محل الشدة ضعف وخَوَر.<span class="c6"> قال الشاعر:</span>
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع ...<span class="c6"> وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وقال آخر:</span>
وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ...<span class="c6"> أشد على أعدائه من محمد
وقال آخر:</span>
وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ...<span class="c6"> وأمضى بحد المشرفيِّ المهند
وقال تعالى:</span> <span class="c4">{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}</span> الآية <span class="c5">[آل عمران / 159]</span>.<span class="c6">
وقد أَثنى الله على قوم مؤمنين بهذا الثناء الجميل في قوله تعالى:</span> <span class="c4">{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكَافِرِينَ ... }</span> الآية <span class="c5">[المائدة / 54]</span>. وقد أمر نبيه - صلى الله عليه
وسلم -<span class="c6"> بذلك ليشرع ذلك على لسانه بقوله تعالى:</span> {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ <span class="c2">(88)</span>}</p><p class="rtl left" id="p29"><span class="c2">(1/139)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p30"><span class="c5">[الحجر / 88]</span> وقوله تعالى {وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ <span class="c2">(215)</span>} <span class="c5">[الشعراء: 215]</span>.<span class="c6">
وقوله تعالى في الجانب الآخر:</span> <span class="c4">{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ}</span> <span class="c5">[التوبة: 73]</span> وبين أيضًا أنهم يرون
رُكَعًا وسُجدًا لله يبتغون فضله ورضوانه، وذلك يهذِّب أرواحهم ويقويّ نفوسهم
ويقوِّي صلتهم بخالقهم جل وعلا وأنهم متماسكون يقوِّي بعضهم بعضًا ويؤازر بعضهم
بعضًا كمؤازرة الشَّطء للزرع وفي ذلك قوتهم الجسمية،<span class="c6"> فدلَّ ذلك على إصلاح التشريع
السماوي للبشر من الناحيتين:</span> الناحية الجسمية والناحية الروحية؛ لأن الإنسان
مركَّب من روح وجسد ولكن منهما متطلبات لا تغني عنها متطلبات الآخر.
وهذه الصفات التي هي مُثلُ العامِلين بهذا القرآن في التوراة والإنجيل مستلزمة
لتهذيب الروح وطاعة خالق هذا الكون جل وعلا، ولسياسة المجتمع الخارجية والداخلية
لأن السياسة الخارجية تَقْوَى وتستحكم بحصول أصلين.<span class="c6">
أحدهما:</span> إعداد القوة الكافية لردِّ كلِّ هجوم مسلح.<span class="c6">
الثاني:</span> الاتحاد الصحيح حول تلك القوة.<span class="c6">
وقد أشار في الآية المذكورة إلى قوتهم الكافية بقوله:</span> <span class="c4">{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ}</span> إلى قوله <span class="c4">{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}</span> <span class="c5">[الفتح / 29]</span>
أي من شدة قوتهم. وأشار إلى اتحادهم وعدم الفشل بينهم بقوله <span class="c4">{رُحَمَاءُ بَينَهُمْ}</span>
<span class="c5">[الفتح / 29]</span> فكل منهم رحيم بالآخر يحب له كما يحب</p><p class="rtl left" id="p31"><span class="c2">(1/140)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p32">لنفسه، فأخُوَّتهم صادقة وكلمتهم مجتمعة.
وما تضمنته هذه الآية من الأصلين المذكورين جاء مصرَّحًا به في آيات أخرى، كقوله
في الأول <span class="c4">{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}</span> الآية <span class="c5">[الأنفال /
60]</span>. ونص هذه الآية مساير للتطور مهما بلغ، صريح في الأمر بإعداد المستطاع من
القوة بالغةً ما بلغت من التطور.<span class="c6">
ومعلوم من دلالة هذه الآية الكريمة:</span> أن التواكل والضعف والإخلاد إلى الأرض
والاستسلام للعجز = كلُّ ذلك مخالف للأمر السماوي في قوله: <span class="c4">{وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}</span> <span class="c5">[الأنفال / 60]</span> والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ <span class="c2">(63)</span>} <span class="c5">[النور: 63]</span>.
وكقوله تعالى في الثاني التضامن <span class="c4">{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ}</span> الآية <span class="c5">[الأنفال / 46]</span>،<span class="c6"> وقوله:</span> <span class="c4">{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ... }</span> الآية <span class="c5">[آل عمران / 103]</span>.<span class="c6"> وقد بين تعالى أن سبب
اختلاف القلوب ضعف العقول في قوله تعالى:</span> <span class="c4">{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ
شَتَّى}</span> <span class="c5">[الحشر / 14]</span> ثم بين العلة الموجهة لذلك بقوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لَا يَعْقِلُونَ <span class="c2">(14)</span>} <span class="c5">[الحشر / 14]</span>.<span class="c6">
أما السياسة الداخلية:</span> فمدارها على الضروريات الست أعني: الدين، والنفس، والعقل،
والنسَب، والمال، والعِرْض. وكلها يستلزمها ما ذُكِر من مُثلهم؛<span class="c6"> لأن قوله:</span>
<span class="c4">{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}</span> <span class="c5">[الفتح / 29]</span> يشير إلى قوَّتهم في دينهم،<span class="c6"> وقوله:</span>
<span class="c4">{رُحَمَاءُ بَينَهُمْ}</span> <span class="c5">[الفتح / 29]</span> يستلزم الإنصاف بينهم وعدم الظلم فيما ذكر
لمحبة بعضهم بعضًا وقوة دينهم،</p><p class="rtl left" id="p33"><span class="c2">(1/141)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p34">وإذا اجتمعت قوة الدين وصدق المحبة انتفى
الظلم.
وقد بين في آيات أخرى أن عدم الاتصاف بتلك الصفات يستلزم الفتنة والفساد الكبير
وذلك مشاهد اليوم.<span class="c6"> وإيضاح ذلك:</span> أنه تعالى لما بين في أخريات الأنفال أنه لا موالاة
بين المؤمنين والكافرين، وأن المؤمن ولي المؤمن، والكافر ولي الكافر، صرح بأنهم إن
لم يفعلوا ذلك تكن الفتنة في الأرض والفساد الكبير،<span class="c6"> قال تعالى:</span> <span class="c4">{إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}</span>
إلى أن قال: <span class="c4">{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}</span> <span class="c5">[الأنفال / 72،
73]</span> ثم أتْبَع ذلك بقوله: {إلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ <span class="c2">(73)</span>} <span class="c5">[الأنفال / 73]</span>.
وقد بَيَّن جل وعلا أن المؤمن إن اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين أنه ليس من
الله في شيء، إلا لضرورة الخوف فيرخَّص في قدر ما يدفع الضرر ولا يدفع بغض القلب
للكافرين.<span class="c6"> قال تعالى:</span> <span class="c4">{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءٍ
إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}</span> الآية <span class="c5">[آل
عمران/ 28]</span>،<span class="c6"> وقال تعالى:</span> <span class="c4">{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ
أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}</span> <span class="c5">[المجادلة/ 22]</span>.<span class="c6">
وقد علمت أن مما ذكرنا أن من المُثلُ العُلْيا في دين الإسلام:</span> مراعاة الروح
والجسم معًا، وبه تعلم أن إهمال المسلمين للناحية الجسمية من عنصري الإنسان،
وتكاسلهم وتواكلهم وإخلادهم إلى</p><p class="rtl left" id="p35"><span class="c2">(1/142)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p36">الأرض في عَجْز وضعف حتى احتقرهم عدوهم
وأهانهم وصار لا يحسب لهم حسابًا مَثل سُوء لا مَثَل أعلى؛ لأنه مخالف لنظام
السماء كما بينا. وأن إهمال الذين برعوا في خدمة الجسم للناحية الروحية من عنصري
الإنسانَ مَثَل سوءٍ أيضًا، بل هو الويلة العظمى والداهية الكبرى عليهم، ولذا
تراهم في قلقٍ دائم يعقدون المؤتمر بعد المؤتمر ليتخلصوا من شر تلك القوة التي
بذلوا في تحصيلها كل إمكانياتهم، ولو كان كل من الطرفين يعلم أنه إن دَمَّر ما
لديه منها أن الآخر يفعل ذلك لبادروا كلهم إلى تدميرها، وما ذلك إلا لأن تلك القوة
الهائلة لم تدبرها روح مهذَّبة مرباة على ضوء نورٍ سماوي.
فالقوة المادية إذا طغت ولم تدبرها روح مهذبة لم يتزن اتجاهها بل قد تتوجه إلى ما
فيه الويل والهلاك لبني الإنسان، فأنياب الأسد وأظفاره قوة حيوانية، ولكن الروح
التي تديرها روح بهيمية طبيعتها الافتراس والابتزاز والغشم، وبهذا تعلم أن كلًّا
من المسلمين اليوم وأعدائهم محتاجون إلى مُثلُ الإسلام العليا.
فالكفار محتاجون إلى تربية أرواحهم على ضوء النور السماوي ليوجِّهوا القوة التي
حصَّلوها توجيهًا سديدًا في ضوء إرشاد الحليم الخبير بما أوحي على لسان نبيه - صلى
الله عليه وسلم - مما فيه صلاح الدنيا والآخرة.
والمسلمون محتاجون إلى ذلك أيضًا وإلى مواصلة العمل بجد واجتهاد ليقوموا
بمتطلباتهم الجسمية ولو كانوا يأخذون ذلك عمن برعوا فيه من الكفار، وهذا العمل
المزدوج للروح والجسم مثالٌ أعلى من مُثُل الإسلام العليا ولو كان حظُّ الجسم
مأخوذًا من استنتاج</p><p class="rtl left" id="p37"><span class="c2">(1/143)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p38">الكافرين، وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم -
يفعل، ونحن دائمًا في المناسبات نذكر من ذلك أمثلة.<span class="c6">
منها:</span> أنه - صلى الله عليه وسلم -<span class="c6"> لما تظاهر عليه كفار مكة وهاجر عنهم ودخل هو
وصاحبه الغار كما حكى الله عنهما في قوله:</span> <span class="c4">{إلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي
الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}</span> <span class="c5">[التوبة /
45]</span> وجد خبيرًا كافرًا له خبرة بالطريق ومعرفة بالأرض، وهو عبد الله بن الأُرَيقط
الدؤلي فانتفع - صلى الله عليه وسلم - بخبرة هذا الخبير الكافر وكان دليله حتى
أوصله المدينة بسلام، ولم يمنعه كفره أن ينتفع بخبرته الدنيوية.<span class="c6">
ومنها:</span> أنه - صلى الله عليه وسلم -<span class="c6"> لما حاصره وأصحابه الأحزابُ ذلك الحصار العسكري
التاريخي المشهور المنصوص في سورة الأحزاب بقوله:</span> <span class="c4">{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}</span> إلى قوله: <span class="c4">{وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا
شَدِيدًا}</span> <span class="c5">[الأحزاب / 10 - 11]</span> وقال له سلمان: كنا إذا خضنا خَنْدَقْنا <span class="c2">(1)</span> أخذ
تلك الخطة العسكرية فانتفع بها، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من المجوس الكفرة.<span class="c6">
ومنها:</span> أنه - صلى الله عليه وسلم - يمنع الغيلة التي هي وطء المرضع،<span class="c6"> لأن العرب
كانوا يظنون أنها تضر بالولد وتضعف عظمه كما قال شاعرهم:</span>
فوارس لم يُغالوا في رضاع ... فثبتوا في أكفهم السيوف
__________
<span class="c2">(1)</span> في المصادر: إذا حُوصِرْنا.</p><p class="rtl left" id="p39"><span class="c2">(1/144)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p40">فأخبرته فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا
يضر أَولادهم، فأخذ تلك الخطة الطبية منهم، ولم يمنعه من ذلك كفرهم.<span class="c6">
ولما أوضحنا أن من مُثلُ الإسلام العُليا:</span> السعي المزدوج للروح والجسم وللدين والدنيا،
وكان في طريق طبيعية ذلك في الظروف الراهنة مشكلة عُظمى وعقبة كؤود أردنا أن نكشف
عنها القناع ونبرزها ليتسنَّى علاجُها.<span class="c6">
وإيضاح ذلك:</span> أن جميع الطرق والميادين إلى الحصول على ما يتطلَّبه الجسم من
المادِّيات بحسب تطوُّر الحياة في أحوالها الراهنة كلها إنما نَظَّمها ومَهَّدها
قومٌ غير مسلمين ملأوا كل الطرق إليها من الألغام؛ من العقائد الفاسدة، والنظريات
الملحدة، وتصوير الإسلام ورجاله بصورة مشوَّهة منفِّرَة بعيدة عن الحقيقة والواقع
بُعْد الشمس عن اللمس، فعلى المسلمين أن يجتهدوا في نزع الألغام من طرق الحياة ليمكنهم
أن يعلموا أبناءهم ما يقدرون معه على سدِّ الفراغ المادِّي الذي لا بد من سده في
الظروف الراهنة لتطور الحياة البشرية، فيستجلبون بأموالهم الرجال البارعين في
العلوم المادية ويجعلون على مناهج تعليمها وفي تطبيق تلك المناهج رقباء من رجال
الدين العالمين لكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يحصل لهم ما
تتطلبه الأجسام البشرية مع المحافظة على التراث الروحي الذي هو علامة الاصطفاء من
خالق السموات والأرض،<span class="c6"> المنوَّه عنه بقوله تعالى:</span> {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ <span class="c2">(32)</span>} <span class="c5">[فاطر: 32]</span> آية</p><p class="rtl left" id="p41"><span class="c2">(1/145)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p42">فاطر هذه من عجائب هذا التراث الروحي لأن
الله بَيَّن فيها أن إيراثه إياه يختص بالذين اصطفاهم من عباده وقسَّمهم إلى ثلاثة
أقسام:
ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. ثم يبين أن ذلك الإيراث لهذا الكتاب الذي هو
أساس دين الإسلام هو الفضل الكبير منه جل وعلا على الذين أورثهم إياه، ثم وعد
الجميعَ دخول جناته وهو لا يخلف الميعاد. قال تعالى. {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ <span class="c2">(32)</span> جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا
مِنْ أَسَاورَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ <span class="c2">(33)</span>
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ <span class="c2">(34)</span> الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا
يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} <span class="c5">[فاطر/ 32 - 35]</span> وكان
بعض أهل العلم يقول حق لهذا الواو أن تكتب بماء العينين، يعني واو
<span class="c4">{يَدْخُلُونَهَا}</span> لأنها شاملة للظالم والمقتصد والسابق.<span class="c6">
ومن الأدلة على شمولها لجميع المسلمين مطيعهم وعاصيهم:</span> أنه قال بعدها:
<span class="c4">{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}</span> الآية <span class="c5">[فاطر/ 36]</span> فدلَّ ذلك على
شمولها لغير الكفار من عامة المسلمين.<span class="c6">
وتقديمه تعالى في هذه الآية الظالم لنفسه على المقتصد والسابق في الوعد بالجنة فيه
سؤال معروف وهو:</span> ما وَجْه تقديم الظالم؟<span class="c6">
وللعلماء عنه أجوبة منها:</span> أن المقام مقام إظهار الكَرَم والرحمة، فقدَّم الظالم
لئلا يقنط وأخَّر السابق بالخيرات لئلا يُعجب بعمله</p><p class="rtl left" id="p43"><span class="c2">(1/146)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p44">فيحبطه، ومنوِّهًا أن أكثر أهل الجنة
الظالمون لأنفسهم، فقدَّم الظالم اعتناءً بكثرة العدد. كذا يقولون والله تعالى
أعلم.</p><p class="rtl left" id="p45"><span class="c2">(1/147)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p46">النوع الثالث في جزاء
العاملين
وأما النوع الثالث وهو المُثل العُلْيا في جزاء العاملين بمُثُل التشريع العليا
فهي كثيرة واضحة كقوله تعالى: <span class="c4">{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}</span> الآية <span class="c5">[الرعد:
35]</span>،<span class="c6"> وقوله تعالى:</span> <span class="c4">{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا
أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ
مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}</span>
<span class="c5">[محمد: 15]</span>،<span class="c6"> وقوله تعالى:</span> {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ <span class="c2">(17)</span>} <span class="c5">[السجدة: 17]</span>، فهذه
أمثلة للمثل العليا من نظام الإسلام، والمثل العليا من آثار العمل بنظام الإسلام،
والمثل العليا من جزاء العمل بنظام الإسلام.
واعلم أن المسلمين ليس لهم مَثَل سوء، وقد روى البخاري في "صحيحه" من
حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -<span class="c6"> أنه قال:</span> "ليس
لنا مَثَل السوء الذي يعود في هِبته كالكلب يرجع في قيئه" هذا لفظ البخاري في
"صحيحه".
ولما تناظر الإمام الشافعي وأحمد في رجوع الواهب في هبته، والشافعي يرى إباحة ذلك
وأحمد يرى منعه فاستدل أحمد لمنعه بحديث العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه،<span class="c6"> فقال
للشافعي:</span> نعم ولكن الكلب لا يحرم عليه الرجوع في قيئه،<span class="c6"> فقال الإمام أحمد:</span> قال
النبي - صلى الله عليه وسلم -<span class="c6"> في أول الحديث:</span> ليس لنا مَثَل السوء والعود في القيء
مَثَل سوء، وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - العود في الهبة فهو أيضًا كمثل
السوء وقد نفى عَنَّا - صلى الله عليه وسلم - مثل السوء فليس لأحد إتيانه لنا.</p><p class="rtl left" id="p47"><span class="c2">(1/148)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div><p class="rtl right" id="p48">وهو مما يدل على أنه ليس للإسلام ولا المسلمين
مَثَل سوء بخلاف الكافرين فلهم مثل السوء بأنواعه الثلاثة قال تعالى: <span class="c4">{لِلَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ .. }</span> الآية <span class="c5">[النحل: 60]</span>،<span class="c6"> وقال
تعالى:</span> <span class="c4">{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيهِ يَلْهَثْ أَوْ
تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}</span>
إلى قوله: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ <span class="c2">(177)</span>} <span class="c5">[الأعراف: 176]</span> وكقوله تعالى: <span class="c4">{مَثَلُ
الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ
يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ
اللَّهِ}</span> <span class="c5">[الجمعة: 5]</span>.<span class="c6"> وقال تعالى:</span> {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا
السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ <span class="c2">(10)</span>}
<span class="c5">[الروم: 10]</span> إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنهم ليس لهم إلا مثل السوء في
نظامهم الذي يسيرون عليه وفي جزاء أعمالهم يوم القيامة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.</p><p class="rtl left" id="p49"><span class="c2">(1/149)</span></p><div class="rtl center"><b class="rtl center"><span class="ltr center"><hr class="ltr center"></span></b></div></div></div>
1
المثل العليا في الإسلام
2
المثل العليا في الإسلام