×
رسالة لطيفة الحجم، قوية الأسلوب، عظيمة النفع، اشتملت على رد ونقض على كتاب «هذي هي الأغلال» لعبد الله بن علي القصيمي.

 تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله

تأليف

الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السَّعدي

رحمه الله تعالى (1307 ـ 1376هـ)

وبذيله مجموع للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله مشتمل على:

1 ـ جواب مجمل مطول عما احتواه كتاب الأغلال من الضلال.

2 ـ جواب مختصر عن حقيقة كتاب «هذي هي الأغلال».

3 ـ نبذة مفيدة في التحذير من كتاب «هذي هي الأغلال».

4 ـ رسالة الشيخ عبد الرحمن السعدي إلى تلميذه الشيخ عبد الله بن عقيل في التحذير من كتاب الأغلال.

5 ـ مقدمة كتاب «مظهر الضلال في الأغلال» للشيخ محمد تقي الدين الهلالي بخط العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.

6 ـ كشاف المسائل الخبيثة والمباحث الخطيرة في كتاب الأغلال «نقد كتاب الأغلال».

قدّم له وقرأه وحثَّ على طبعه

 سماحة الشيخ الجليل/ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل ـ أدام الله عزه ورفع قدره ـ

تحقيق وتعليق الفقير إلى عفو ربه القدير

عبد الرحمن بن يوسف الرحمة

ـ ختم الله له بخير ـ


بسم الله الرحمن الرحيم


بسم الله الرحمن الرحيم

تقريظ سماحة الشيخ العالم الجليل

عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل العقيل ـ حفظه الله ورعاه ـ

الحمد لله وحده وبعد؛ فقد استشارني الأستاذ عبد الرحمن بن يوسف الرحمة في إعادة طبع مؤلف شيخنا العلامة عبد الرحمن السعدي (تنزيه الدين وحملته ورجاله، مما افتراه القصيمي في أغلاله)، وذكر أن الكتاب قد طبع قديماً عام 1366 ونفد من الأسواق والناس يبحثون عنه، وذكر أنه وجد أوراقاً وفوائد تتعلق بموضوع الكتاب بخط شيخنا لم تنشر بعد ويريد ضمها إليه وإعادة طبعه وتحقيقه. وقد أحضر الأوراق المذكورة وقرأها علينا وصححنا مواضع منها بعد أن تحققنا أنها بخط شيخنا المعروف لدينا، فأشرت عليه بإعادة طبع الكتاب وما ألحق به. وليس المراد من إعادة طبعه مجرد الرد على القصيمي، فقد ردَّ عليه عدد من العلماء جزاهم الله خيراً، وإنما القصد نقض تلك الأفكار والمبادئ الهدامة التي ضمّنها القصيمي كتابه المذكور (هذي هي الأغلال)، وقد امتاز رد شيخنا بكونه رداً علمياً نزيهاً عن المهاترات والكلمات النابية، مقتصراً على الهدف المقصود وهو الرد على تلك المبادئ المستوردة من أفكار الملاحدة والمستشرقين من أعداء الإسلام، وزعمهم أن الدين الإسلامي هو الأغلال التي أخّرت الأمة الإسلامية وقعدت بها. فعلى الأستاذ عبد الرحمن الرحمة الاهتمام بطبع الكتاب والتصحيح والتعليق والترقيم. ونسأل الله أن ينفع به ويجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم. قال ذلك وكتبه الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل حامداً لله مصلياً مسلماً على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل العقيل


بسم الله الرحمن الرحيم

 مقدمة التحقيق

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فصلوات ربي وتسليماته عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، ومن سار على سبيله واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدين كامل، وشرع شامل، فهدى الله به آذاناً صماً، وأعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً، وأخرج الله بفضله ورحمته ومنَّته، به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، فالحمد لله على نعمه العظيمة، والآئه الجسيمة؛ ومما امتن الله به على هذه الأمة المباركة، وأنعم به عليها، وجود العلماء الربانيين، والأئمة الصادقين، والدعاة العاملين الذين يذبّون عن شرع الله ودينه وكتابه وسنة نبيه وخليله وأمينه على وحيه صلّى الله عليه وسلّم تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وخاصة عند حلول الفتن والمحن، وتعاظم الخطوب، وتفاقم الكروب، همّهم نصرة


الحق وإيضاحه للناس، حتى لا يضلوا عن سواء السبيل، ويضيعوا في أودية الهلاك والضلال. وإن مما لا شك فيه، ولا ريب يعتريه، أن الإمام العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السَّعدي ـ رحمه الله تعالى ـ من أولئك العلماء الصادقين، الذين تميزوا بالجهد المشكور، والعمل الصالح المبرور، في الذّب عن حياض الدين وبيان الحق للناس أجمعين، إذ كان رحمه الله منارة سامقة من منارات العلم والهدى، تأتيه الأسئلة المشكلة، والفتاوى الدقيقة، والاعتراضات الشائكة، فيجيب عليها الإجابات الموفقة السديدة، النافعة الجامعة، المشتملة على تقرير المسائل بأجمل عبارة، وألطف إشارة، مع قوة العبارة العلمية، والجمع بين الأدلة النقلية والعقلية والحسية، والاعتماد التام على النصوص الشرعية، والفهم لها على ضوء فهم الصحابة والتابعين، كل ذلك بعبارات سهلة لطيفة، المقصود منها إيضاح الحق، مع رحمة الخلق.

ومن هنا قيّض الله بفضله ومنَّته في هذا العصر من يخدم كتبه ورسائله، بالعناية والنشر والتحقيق والتعليق، حتى تأخذ مكانها بين الأمة الإسلامية، ويكون لها الصدى البالغ، والدوي البارز، بين أوساط العلماء وطلبة العلم، لكي ينهلوا من معينها الصافي، وماءها العذب الزلال.

ومن الكتب النافعة التي قام بتأليفها وتصنيفها الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله رسالة لطيفة الحجم، قوية الأسلوب، عظيمة النفع، سماها رحمه الله «تنزيه الدين حملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله»، وهي كما هو واضح من عنوانها رد ونقض على كتاب «هذي هي الأغلال» الذي ألفه عبد الله بن علي القصيمي، الذي انتكس وارتكس وألحد في آخر زمانه، فأصبح من أعظم المعادين للإسلام، المنابذين له بالكلية، المحاربين لأخلاقه العالية، وآدابه السامية الداعين إلى الانحلال عنه من كل وجه، وكتابه «الأغلال» المقصود به أن الأغلال هي شرائع الدين الحنيف وأوامره ونواهيه، وأخذ في معرض كتابه «الأغلال» يدعو إلى الإلحاد وإنكار وجود الله، وإلى السخرية من الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ومن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن الصحابه وعلماء الإسلام، وكذلك إنكار وجود الملائكة، والتعلّق بالطبيعة والدعوة إلى عبادتها، مع الحرص الشديد على التحريف الكاسد، والتأويل الفاسد، والدعوة إلى تعظيم الملاحدة والكفار وتفضيلهم على القرون المفضلة إلى غير ذلك من الطوام العظام والكفريات الواضحات.

* سبب تأليف الكتاب: ـ

ولا شك أن الشيخ العلامة عبد الرحمن ناصر السَّعدي ـ رحمه الله ـ قد قام بواجبه خير قيام، لمّا ألّف هذه الرسالة النافعة في بابها، القوية في أسلوبها، الماتعة في لبابها، إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل. وإنّ هذه الفتنة المعروفة بفتنة الإلحاد والشبهات هي من أعظم الفتن التي مرت على الأمة الإسلامية، إذ إن الأمة قد عانت من فتن مضلة كثيرة متنوعة يرقق بعضها بعضاً، ويرفد بعضها بعضاً، في عصورها المتنوعة، وأزمنتها المختلفة، لكن هذه الفتنة التي بدأت في القرن الرابع عشر إبّان قيام الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1337هـ  1917م، وامتدت إلى بلدان كثيرة في العالم بأهدافها الخبيثة وتعاليمها السيئة، وفلسفتها النكدة، القائمة على إنكار وجود الله عزّ وجل، التي قد أصاب نارها ودخانها عمق العالم الإسلامي، فاعتنقها بدرجات متفاوتة كثير من المفتونين، ولعل من أبرزهم ورأسهم القصيمي الذي صنف كتابه «الأغلال» دعاية لها وتبشير بها، ولذا فإن العلامة السَّعدي رحمه الله قد انبرى لهذه الفتنة بثاقب علمه ونفاد بصيرته وقوة حكمته، محذراً منها ومن أضرارها السيئة، وآثارها المرة الخبيثة، فكان من ثمار ذلك التحذير تأليف عدة كتب خاصة في موضوع الإلحاد وفتنته العمياء مثل:

* الأدلة والبراهين في إبطال أصول الملحدين.

* انتصار الحق.

* فتنة الدجال: وفيها مقارنات لطيفة حول الإلحاد وغيره من المذاهب الهدامة.

وواسطة عقد تلك الكتب كتابنا هذا «تنزيه الدين وحملته ورجاله» .

وقد شارك العلماء الأجلاء العلامة السعدي رحمه الله في التحذير من فتنة القصيمي، ومن كتابه الأبتر «هذي هي الأغلال» وكتبوا في ذلك عدة رسائل وقصائد لعل من أبرزها:

1 ـ كتاب «بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال» للعالم الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح رحمه الله (1302 ـ 1369هـ) مطبوع في مجلدين.

2 ـ كتاب «الرد القويم على ملحد القصيم» للعالم الشيخ عبد الله بن علي أبو يابس رحمه الله (1313 ـ 1389هـ) مطبوع في مجلد واحد.

3 ـ كتاب «الشواهد والنصوص في الرد على كتاب «هذي هي الأغلال» للشيخ العلامة المحدث محمد عبد الرزاق بن حمزة المصري ثم المكي (1309 ـ 1392هـ) مطبوع في مجلد صغير.

4 ـ كتاب «تشخيص أخطاء صاحب الأغلال الرئيسية وبيان ما دلت عليه من الإلحاد والمذاهب الإباحيَّة» وهي قصائد شعرية لكل من:

1 ـ معالي الشيخ راشد بن صالح بن خنين عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ـ سابقاً ـ والمستشار في الديوان الملكي.

2 ـ الشيخ العالم الجليل صالح بن سليمان بن سحمان (1320 ـ 1402هـ).

3 ـ الشيخ الجليل صالح بن حسين العراقي، أحد تلاميذ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وهذا الكتاب ـ كتاب التشخيص ـ مطبوع في جزء لطيف ومجلد صغير.

4 ـ سماحة الإمام العلامة الجليل شيخنا مفتي المشرقين الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ رحمه الله وجعل له لسان صدق في الآخرين ـ (1330 ـ 1420هـ) حيث قام بتقريظ هذه الرسائل وتحبيذها وتزكيتها؛ وكان رحمه الله قد همَّ وعزم على كتابه رد مفصَّل ونقض مطوَّل، على الضلالات والطوام الموجودة في الكتاب، كما ذكر ذلك سماحة الشيخ عبد الله بن عقيل ـ متَّع الله به متاعاً حسناً ـ في رسالته لشيخه الإمام عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله الذي أجابه قائلاً: «ذكرت أن الشيخ عبد العزيز ابن باز اشتغل في رد كتاب القصيمي ينقل فيه كلامه، وأنَّه منعه من تكميله كثرة أشغاله، لا سيما أنَّه مشتغل بتصحيح الإنصاف، والمبدع، والمطلع، الذي سيطبع ولي العهد» ([1]).

فتبين من هذا أنَّه رحمه الله قد منعته كثرة أشغاله من تلك العزيمة الصادقة، والهمة المتوثبة في بيان أخطاء وضلالات وطوام كتاب «هذي هي الأغلال»، مع أنَّه في تقديمه وتقريظه لكتاب «تشخيص أخطاء صاحب الأغلال الرئيسيَّة» قد أيَّد الحق وبيّنه، وزيّف الباطل وعرّاه؛ فلعله رأى أن في ردود غيره كفاية ومقنع لمن كان همه وقصده الحق وطلبه، والله أعلم.

* عودة الفتنة:

إنّ هذه الفتنة التي تولى كبرها، وأضرم نارها، وأذكى وقودها، القصيمي، فيما مضى من الزمان، وسبق من الأيام، يحاول بعض من لا نصيب لهم من العلم والإيمان والهدى، بعثها من مرقدها؛ وإحيائها سيراً على سنن القصيمي، واتباعاً له حذو القذة بالقذة، مع جهل بالغ، وشقاوة طبع، وتناقض فكر ورأي، وبعض من معه يمدونه في الغيِّ ثم لا يقصرون.


وعليه؛ فقد سمت الهمة إلى إخراج هذه الرسالة «تنزيه الدين وحملته ورجاله» لأنها رسالة مفيدة قوية الأسلوب، ظاهرة الحجة، واضحة البيان، لعل بذلك إطفاءً لنار الفتنة، وهدماً لبنيان الباطل ونقضاً لِشُبه ميتة في أفكارها وتصوراتها السقيمة السيئة.

* قصة تأليف الكتاب:

كان القصيمي في بدايات أمره من المنافحين عن الإسلام بالجملة، وله كتب قيمة في الذبِّ عن الدين، والرد على الضالين والمبتدعين، مثل «الصراع بين الإسلام والوثنية» و«البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية» و«الثورة الوهابية» . وهذه الكتب نالت إعجاب أهل العلم والفضل في زمانه، وإن كان البعض منهم مستغرباً من الزهو بالنفس والاعتداد بالرأي، وغيرها من عوامل الهوى الخفية، التي تزخر بها كلماته وتعابيره في ثنايا تلك الكتب، ثم جاءت الطامة الكبرى منه بعدُ؛ حيث ألف كتابه «الأغلال» وذلك في حدود سنة 1365هـ، فكانت بذلك ردة وتحولاً عن الحق إلى الضلال، وقام بنشر كتابه «الأغلال» في مصر ولبنان، ووصل إلى أهل العلم في هذه البلاد المباركة، فمقتوه ومقتوا صاحبه، إذ حار بعد الكور، وانتقل من الهدى إلى الضلال، فانطبق عليه قول الحق سبحانه وتعالى: {{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}} [الأعراف: 175] . وكان الشيخ العلامة السَّعدي رحمه الله ممن وصله هذا الكتاب ونظر فيه، واطلع عليه، وقرأه قراءة ناقد بصير خبير، فأبت يراعته الأمينة، المعروفة بقوة العلم، وسداد الحجة وإشراقة البيان، إلا أن تخرج هذه الرسالة الماتعة التي بين ناظريك أخي القارئ الكريم! ومن الجدير بالذكر والتنويه في هذا المقام أن شيخنا العلامة: الجليل عبد الله بن عقيل ـ متَّع الله به متاعاً حسناً ـ كان قد أرسل رسالة لشيخه العلاّمة السَّعدي رحمه الله شرح له فيها خطورة وشناعة كتاب القصيمي، ومقت المشايخ للكتاب المذكور، فرد عليه العلامة السَّعدي رحمه الله برسالة جاء فيها: «أما ما شرحته عن كتاب عبد الله القصيمي الذي سماه الأغلال، ومقت المشايخ للكتاب المذكور، وذكركم أنكم سترسلون لنا بوصولكم مكة نسخة نطّلع عليها، فنحن قد اطلعنا عليه، وهو فوق كل ما قيل فيه من الانحراف عن الدين، فمن أمعن فيه النظر جزم جزماً لا يمتري فيه أنَّه دعاية صريحة لنبذ الدين، مع كثرة تهافت صاحبه وتناقضه واعتذارته أنّه بريء من الإلحاد، وأنَّه مؤمن بالله وبما أخبر الله به، وعدم استقراره، فصاحب البصيرة والذي يرى تناقض صاحبه وعدم ثبوته وتلوّن أرائه، لا يمتري ببطلان كلامه» ([2]).

وقصارى القول وخلاصته؛ أن الرسائل والأسئلة والاستفسارات قد كثرت على العلامة السَّعدي رحمه الله من كل حدب وصوب، من بلدان مختلفة، وأماكن متعددة، تسأل عن حقيقة الكتاب، وما اشتمل عليه من المباحث الخبيثة، والمواضيع السيئة، التي ظهرت في قالب خلاّب، يظهر منه نصرة الدين، وهو ـ في حقيقته ـ محاربة للدين ومقاومة له ونبذ لأصوله السامية وآدابه العالية، فلما رأى العلامة السعدي رحمه الله الأمر أمراً منكراً، انبرى متصدياً للكتاب، مفنداً لأباطيله، وناقضاً لأحابيله، فألّف رسالته «تنزيه الدين» واختصرها أيضاً في أجوبة متعددة منها ما هو مطوَّل مفصَّل، ومنها ما هو مجمل مختصر، وذلك على حسب ما تقتضيه الإجابة من طول وقصرٍ وحسب ما يقتضيه المكان والزمان، فللَّه درُّه ما أطيب جهاده، وما أعظم فوائده، فلقد قدّم لهذه الأمة جهاداً علمياً مباركاً قائماً على الحجة والبرهان، وعلى تقرير العلم النافع، والعمل الصالح، والذَّب عن الدين؛ فعليه ـ رحمة الله ورضوانه ـ.


* كلمة عن المجموع:

قمت بقراءة أغلب هذا المجموع على شيخنا العلامة الفقيه الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل ـ حفظه الله ـ وهو فقيه الحنابلة وعالمها وشيخ مذهبها في زماننا هذا، ويعدُّ من أخصِّ وأجلِّ تلاميذ العلامة السَّعدي رحمه الله، وذلك في أواخر الشهر الرابع «ربيع الثاني» من هذا العام عام ألف وأربعمائة وستة وعشرين من الهجرة النبوية المباركة، بمنزله العامر المبارك بمدينة الرياض، في مجالس متعددة وقراءتي عليه قراءة مطابقة وتصحيح منه ـ حفظه الله ـ إذ كان ماسكاً بالأصل، مطابقاً عليه قراءتي وأفدت منه جرّاء ذلك إفادات متنوعة عديدة مفيدة، من تصحيح لفظ وتقييد مهمل، وإيضاح غامض، وبيان مشكل، واستدراك سقط ونقص، فجزاه الله خيراً، وأعظم له أجراً.

وقد قرأت عليه من المجموع الرسائل التالية:

1 ـ جواب مجمل مطول عما احتواه كتاب «الأغلال» من الضلال.

2 ـ جواب مختصر عن حقيقة الكتاب «هذي هي الأغلال».

3 ـ مقدمة لكتاب «مظهر الضلال في كتاب الأغلال» للشيخ محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله.

4 ـ نبذة مفيدة مختصرة في التحذير من كتاب «هذي هي الأغلال».

5 ـ كشاف المسائل الخبيثة والمباحث الخطيرة في كتاب «الأغلال».

ومن اللطائف العلمية، والنوادر الجليلة، في هذه القراءة أن شيخنا العلامة عبد الله بن عقيل ـ متَّعه الله بالعافية ـ كان قد طلب قبل ستين عاماً من شيخه العلامة السَّعدي رحمه الله النظر في كتاب «الأغلال» من أجل الرد عليه، بياناً للحق، وتحذيراً للأمة من أباطيله وشبهاته، وهكذا يدور الزمان، وتتقلب الأيام، فنستعين بشيخنا ابن عقيل حفظه الله في خطوط شيخه العلامة السَّعدي رحمه الله التي تمتاز بالدقة، وسرعة الكتابة، بدون نظارة، لكنها على قاعدة صحيحة، فنسأل الله أن يجعله للمتقين إماماً، ويمتِّع به متاعاً حسناً، ويهيِّئ له لسان صدق في الآخرين، إن ربي لسميع الدعاء.

* النسخة المعتمدة في تحقيق المجموع:

النسخة المعتمدة في تحقيق المجموع، هي من مكتبة أبناء العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السَّعدي رحمه الله، قام بإرسالها إليَّ حفيد الإمام العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السَّعدي الأخ الفاضل الأستاذ مساعد بن عبد الله السَّعدي ـ أثابه الله ورفعه درجات ـ لما أعلمته بعزيمتي الأكيدة، ورغبتي الشديدة؛ في إخراج رسالة «تنزيه الدين» وبعثها من جديد، بحلة جديدة قشيبة، وتحقيق علمي وتخريج حديثي، يقنع الطالبين، ويفرح القارئين؛ بإذن المولى تبارك وتعالى رب العالمين.

ويشتمل هذا المجموع على رسائل متعددة ـ سبق ذكرها ـ والمجموع كله بخط العلامة السَّعدي رحمه الله وعدد أوراقه 18 ورقة بترقيمي، وفي بعض أجزاء الورقات، غموض وبياض وطمس لبعض الكلمات ـ وهي قليلة ـ تم استدراكها من المطبوع، أو من إفادات العلامة الفقيه عبد الله بن عقيل ـ حفظه الله ـ.

* إثبات نسبة المجموع إلى مؤلفه ([3]):

اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا المجموع هو صحيح النسبة إلى مؤلفه؛ واستدل على ذلك بعدة أمور:

الأول: أنه مكتوب بخط العلامة السَّعدي رحمه الله وهو خط معروف لما يمتاز به من دقة وسرعة في الكتابة، وقد عرف الخط وأقرّه العلامة ابن عقيل ـ حفظه الله ـ وهو من أخص تلاميذ المؤلف وأجلّهم علماً وقدراً، وأشدهم معرفة بخط شيخه لما بينهما من رسائل متعددة كثيرة.

الثاني: أن المؤلف العلامة السعدي رحمه الله كتب في أواخر أجوبته في المجموع اسمه الصريح.

الثالث: أنه موجود ضمن مكتبة أبناء المؤلف؛ وهذه كلها أدلة كافية، وبراهين واضحة، ولا أقول هاهنا إلا ما قاله الأول:

   وليس يَصُحُّ في الأذهان شيء         إذا احتاج النهار إلى دليل        ومن الجدير بالذكر والتنويه في هذا المقام، أن هذه العناوين الموضوعة في المجموع، إنما هي محض اجتهاد مني، وذلك من أجل إيضاح المراد، وإيصال المعنى، على وفق ما تقتضيه الصناعة التحقيقية، من بيان لمحتويات المجموع، وإرشاد للقارئ عن الكليات والجزئيات، حتى يكون الوصول إلى ما يريده سهلاً ميسراً من الكتاب والمجموع.

وهذا المجموع ليس له نسخة خطية أخرى، وقد آليت جهدي في ذلك، فلم أجد إلا هذه النسخة، فهي وحيدة نادرة فريدة، فاعتمدت عليها وحققتها، لكي أقدمها لك أخي القارئ الكريم غنيمة باردة.

* وصف النسخة المطبوعة المعتمدة للكتاب:

طبع كتاب «تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله» في مصر، وكانت الطبعة الأولى منه في عام 1366هـ وذلك بمطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابي الحلبي وشركاه، وقد قام بطباعة الكتاب على نفقته احتساباً للأمر والثواب، وجيه الحجاز العالم الكريم المحسن الجليل محمد بن حسين نصيف رحمه الله المتوفى عام 1391هـ، وهو مشهور بطباعة الكتب السلفية وتوزيعها على العلماء وطلبة العلم؛ فجزاه الله خيراً ورحمه وغفر له وأجزل له الأجر والمثوبة.

والكتاب عدد صفحاته 48 صفحة من القطع الصغير المتوسط، وليس فيه بياض أو سقط، كما امتاز بجودته في التصحيح، فليس فيه ـ كما يبدو ـ أخطاء مطبعية.

ثم قامت ـ مشكورة مأجورة ـ إدارة مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة في عام 1412هـ، بإعادة طباعته مرة أخرى، وذلك ضمن المجوعة الكاملة لمؤلفات العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، وموقع كتابنا هذا فيها ضمن المجموعة الثانية المعنون لها به «ثقافة إسلامية» المجلد الثاني.

وامتازت هذه الطبعة ـ طبعة المركز ـ بأنها طبعة جميلة قشيبة واضحة خالية من الأخطاء، وهي منقولة برمتها عن الطبعة الأولى للكتاب.

وقد قمت على حسب الوسع والطاقة بالمقابلة بين المطبوعتين، ولم أجد بينهما اختلافاً كبيراً إلا بعض الزيادات القليلة اليسيرة.

* عملي في الرسالة والمجموع:

      إن عملي في إخراج هذا المجموع وهذه الرسالة يتلخص في الجوانب الآتية:

1 ـ كتابة مقدمة تعريفية، تكشف جوانب من المجموع والرسالة، وتبرز الأهمية والقيمة العلمية لهما ومدى الحاجة إليهما، مع بيان لقصة تأليف الكتاب وغير ذلك من المباحث المتعلقة بالمجموع والرسالة.

2 ـ تحرير نصوص المجموع، وإعادة نسخها من جديد.

3 ـ عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها.

4 ـ تخريج الأحاديث التي ذكرت في الرسالة والمجموع والحكم عليها حسبما تقتضيه الصناعة الحديثية.

5 ـ التعليق الموجز البسيط على بعض مباحث المجموع والرسالة، زيادة في البيان، وإيضاحاً للغامض، أو التعريف ببعض ما يستلزم التعريف من كتاب أو غير ذلك.

وفي ختام هذه المقدمة لا يفوتني أن أشكر فضيلة الشيخ العلامة الفقيه عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل ـ أعزه الله ورعاه ومتَّع به متاعاً حسناً ـ على جميل خلقه وكريم طبعه، إذ تفضل مشكوراً مأجوراً بالتقديم والحث على طبع الكتاب وكذلك قراءة المجموع عليه وإبداء استدراكاته الماتعة، وتصحيحاته النافعة، التي كانت لها أكبر الأثر في إخراج المجموع والرسالة. وكذلك أتقدم بوافر الشكر والتقدير للأخ المفضال الأستاذ مساعد بن عبد الله السَّعدي ـ حفظه الله ـ على جهده المبارك، ومتابعته الدائمة، لإخراج هذه الرسالة وبعثها من مرقدها، فأسأل الله أن يعظم له الأجر والمثوبة، وأن يجعله من ورثة جنة النعيم إن ربي قريب مجيب.

هذا، والله أسأل بواسع كرمه وعظيم جوده ولطيف منّه، أن يغفر للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السَّعدي على عظيم جهاده وجميل نصحه لأمة الإسلام، وأن يجمعنا به ووالدينا ومشايخنا، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يعصمنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا من عباده المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حرره وسطره

أبو يوسف/ عبد الرحمن بن يوسف الرحمة القُرعاني

 الرياض: في 8/5/1426هـ ص.ب. (17684) الرمز البريدي: (111494)

 صورٌ عن النسخة الخطية من المجموع وصورة عن الطبعة الأولى لكتاب«تنزيه الدين»



صورة عن الجواب المطول المفصل في حقيقة كتاب «هذي هي الأغلال»


صورة عن الصفحة الأخيرة من الجواب المطول المفصل


صورة عن الجواب المختصر عن كتاب «هذي هي الأغلال»


صورة عن الصفحة الثانية والأخيرة من الجواب المختصر


صورة عن كشاف المسائل الخبيثة في كتاب الأغلال


صورة عن نبذة مفيدة في التحذير من كتاب الأغلال


صورة عن مقدمة رد الشيخ تقي الدين الهلالي على كتاب الأغلال، بخط العلامة السَّعدي رحمه الله


صورة عن الطبعة الأولى من الكتاب الموجودة في مكتبة أبناء العلامة السعدي رحمه الله


تنزِيه الدِّيْن وَحَملته وَرِجاله

مما افتراه القصيميّ في أغلاَلِه

تأليف العلامة المفضال

الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السَّعدي

علامة القصيم رحمه الله



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإني قد وقفت على كتاب؛ صنفه عبد الله بن علي القصيمي سماه «هذي هي الأغلال» فإذا هو محتوٍ على نَبْذ الدين، والدعاية إلى نبذه، والانحلال عنه من كل وجه؛ وكان هذا الرجل قبل كتابته، وإظهاره لهذا الكتاب معروفاً بالعلم والانحياز لمذهب السلف الصالح، وكانت تصانيفه السابقة مشحونة بنصر الحق، والرد على المبتدعين والملحدين، فصار له بذلك عند الناس مقام وسمعة حسنة، فلم يَرعَ الناس في هذا العام حتى فاجأهم بما في هذا الكتاب، الذي نسخ به وأبطل جميع ما كتبه عن الدين سابقاً.

وبعدما كان في كتبه السابقة معدوداً من أنصار الحق، انقلب في كتابه هذا من أعظم المنابذين له، فاستغرب الناس منه هذه المفاجأة الغريبة لسوابقه؛ ولسنا بصدد التعرض للأسباب التي دعته لكتابة هذا الكتاب، وكثير من الناس يظنون به الظنون التي تدل عليها القرائن، وليست بعيدة من الصواب، لظنِّ بعضهم أنه ارتشى من بعض جهات الدعاية الأجنبية اللادينية، ولكن لما كتب هذا الكتاب، وطبعه ونشره بين الناس، وجعله دعاية بليغة لنبذ دين الإسلام، بَلْه غيره من الديانات


والمبادئ الخلقية، فكان هذا أكبر عداء ومهاجمة للدين وجب على كل من عنده علم أن يبين ما يحتوي عليه كتابه من العظائم، خشية اغترار من ليس له بصيرة بكلامه، حيث كان معروفاً قبل ذلك من علماء المسلمين، ولم يدر ما طرأ عليه من الانقلاب؛ وإننا نعلم أن الذين يقرؤون كتابه، ويقفون عليه ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من له بصيرة ومعرفة وتفريق بين الحق والباطل، ومعرفة بحقيقة الدين، فهذا لا يحتاج إلى التنبيه بل مجرد وقوفه على كلامه وفهمه، يكفيه معرفة ببطلانه وفساده؛ لأن هذا القسم من الناس لا تغرهم الألفاظ المزخرفة، ولا الاستدلالات المزورة المبهرجة.

القسم الثاني: من وقف على كتبه السابقة، ثم على كتابه هذا، ورأى ما فيها من الاضطراب والتناقض والتضارب وعدم الاستقرار على قول ورأي واحد، يقول القول اليوم فيهدمه بالغد ويبني ما هدمه ويهدم ما بناه، فبينما تراه يدعي أنه ينصر الدين ويغار على المسلمين، إذ تراه ملحاً في هدم أصول الدين، وقواعده حاملاً على حَمَلته متهكماً بالعلماء والمرشدين، مؤيساً لهم من الرقي في الحياة ما داموا متمسكين بدين الإسلام. وبينا تراه يحط على أئمة الدين، ومصابيح الدجى، إذ يصب الثناء والمدح على أئمة الكفر وزنادقة الملاحدة ويعظمهم غاية التعظيم، وبينا تراه يذم القديم، ويحث على رفضه ومراده به ما جاء به الدين علوماً وأخلاقاً وأعمالاً، ويحث على الأخذ بكل جديد، إذ تراه متناقضاً يحث على اتباع المنحرفين: كأرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا ونحوهم من المتقدمين والمتأخرين، إلى غير ذلك من مناقضاته، التي توجب للناظر فيها أن يهدر كلامه ويسقطه من الاعتبار، ولو لم يكن من أهل العلم والإبصار.

وأما القسم الثالث: الذين لا بصيرة لهم يميزون بها بين الحق


والباطل، ولا وقفوا على تناقضه وعدم استقراره على رأي واحد؛ فإنهم يخشى عليهم من الاغترار بكلامه لأنهم يسمعون عبارات مزخرفة، واستدلالات مموهة، لأنه يردد المعنى الضئيل بعبارات كثيرة، وأساليب متنوعة؛ ونحن لا ننكر ما في كلامه وكتابه، من المعاني الصحيحة المطروقة التي لم يزل أهل العلم يقولونها ويبدونها، من الحث على تعلم العلوم وفنون الصنائع النافعة وما فيه من ذم الجهل وآثاره الضارة، وما فيه من تأخر المسلمين في الفنون العصرية وما فيه من وصف تفوق غيرهم في فنون المادة، فقد ذكر أهل العلم من هذه الأمور أكثر مما ذكر هذا الرجل، ولم يبيّن ما بيّنوه ولا شرح الداء الذي أصاب المسلمين حقيقة ولا كيفية الدواء ([4]).

والمقصود أن ما في كتابه من الحقائق، لم يكن أول من قالها بل لم يزل أهل المعرفة يقولون ما هو أتم منها، وإنما المنكر الفظيع والطامّة الكبرى، ترويجه بهذه الأمور على من لم يعرف الحقائق، وجعلها له كالأساس الذي يحمل منه على الدين وأهله الحملات المنكرة المتكررة.

عبد الرحمن بن ناصر السعدي  ([5])



 مقدمة ونظرة إجمالية في محتويات ومواضيع هذا الكتاب

من نظر فيه وتأمله حق تأمله، عرف أنه ما كتب أشد وطأةً وأعظم عداوةً ومحاربة للدين الإسلامي ومنفراً منه، وأنه ما اجترأ أحد من الأجانب، وغيرهم بمثل ما اجترأ عليه هذا الرجل ولا افترى مفترٍ على الدين كافترائه، ولا حرّف أحد له نظير تحريفاته، وما صرَّح أحد بالوقاحة والاستهزاء والسخرية بالدين وأصوله وتعاليمه وأخلاقه وآدابه وحَمَلته كاستهزائه وسخريته، فإنه اشتمل على نبذ الدين ومنابذته ومنافقته؛ ثلاثة لا تُبقي من الشر شيئاً إلا تضمنته، فإنه صريح في الانحلال عن الدين بالكلية، وخروج تام عن عقائده وأصوله فضلاً عن فروعه، وهو أكبر دعاية للإلحاد، ومقاومة للدين وأهله وفيه من البهرجة والتزويرات، التي جعلها في صورة نصر الدين ما يعد من أعظم النفاق والكيد والمكر للإسلام وأهله {{وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}} [فاطر: 43] .

وجملة ذلك أنه تلقى عن جميع أعداء الدين، ما وجهوه إلى الدين وإلى أهله من جميع ألوان الشُّبه التي تدعو إلى الكفر والتكذيب بالدين، وزاد عليهم زيادات واستدرك أموراً لم يصلوا إليها، فإن النافين للباري الجاحدين له: كزنادقة الدهرية وفرعون وأشياعه الذين صرحوا بجحد رب العالمين بالكلية وتكذيب رسله جهراً وعلناً، ثم أظهره زنادقة الاتحاديين بأسلوب آخر، وهو أن الوجود كله واجبه وممكنه واحد بالعين، فلا ثمَّ رب ولا مربوب ولا خالق ولا مخلوق؛ الجميع


شيء واحد، ثم أظهر هذا الكاتب صاحب كتاب «الأغلال» بأسلوب أشنع من ذلك كله، حيث زعم أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق، وأن من فرّق بينهما من الأنبياء والرسل وأهل الأديان، فهو غالط ضال عنده. أعداء الرسول تنوّعوا في تكذيبه فقالوا: ساحر وشاعر. وقالوا: مفترٍ كذاب؛ وزنادقة الفلاسفة قالوا: إن الرسل كذبوا لمصلحة الناس، وخيَّلوا للناس تخييلات خالية من الحقائق. وهذا صاحب الأغلال جاء بوجه آخر، حيث حلل بزعمه حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك التحليل الخبيث الباطل؛ بأنه يخلو بالطبيعة ويناجيها، وتأخذ بلبّه وعقله، ويظل ليله ونهاره، نازعاً إليها وقد افتتح بها رسالته بخلوته بها ومناجاتها في غار حراء، وختمها به حيث كان ينزع إليها وهو في سياق الموت، ويقول: «في الرفيق الأعلى» ([6])، فهذا التحليل الخبيث الذي لا يروج على الصبيان قد أخذه بعينه من دعاة النصارى ومضلليهم، إذ قالوا هذا القول الذي هو التكذيب المحض، فعند صاحب الأغلال ليس ثَمَّ وحي ولا مناجاة لله ولا نزول جبريل بالوحي من عند الله، وإنما ذلك خيال لا حقيقة فظن بجهله أنه بهذا الكلام المموه يسلم من الشناعة.

أعداء الرسل من الدهريين قالوا: {{مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}} [الجاثية: 24] وهذا القصيمي يقول: ما هي إلا الطبيعة تتفاعل وتتطور وتدير أمر العالم، وتدبره وتنظم الأمور الجليلة والدقيقة، وأنكر قضاء الله وقدره، ورجّع ذلك إلى العلم بانتظام الطبيعة، وهذا إنكار منه لله ولأفعاله ولصفاته؛ وكما أنكر توحيد الربوبية، فقد أنكر توحيد الإلهية والعبادة، ولم يرتض بما قاله المشركون، بل أنكر عبادة الله بالكلية، وأنكر الافتقار إليه، وتهكم


بالمفتقرين إلى ربهم الداعين لله المخلصين لربهم وملأ كتابه من السخرية بهم، وكما أنكر الربوبية والإلهية والرسالة، إذ فسرها بذلك التفسير الخبيث الذي يرجع إلى نفي الرسالة، فقد أنكر عقوبات الله ومثوباته الدنيوية والأخروية، وأنكر أسبابها وسَخِر بالمؤمنين بها؛ وكذلك رمى جميع طبقات الأمة، وخصَّ منهم العلماء الأعلام، وهداة الأنام، بضعف العلم والعقل والرأي، وأوجب الكفر بهم وبعلومهم، وبما قالوه وصنّفوه من كتب الحديث والتفسير والفقه والأصول والفروع، وجعلهم مجرمين يستحقون العقوبة، وأهدر فضائلهم بالكلية، وأكبر من ذلك وأطمُّ، أنه باهَتَ وصرَّح بتحقير الأنبياء تحقيراً، لم يصل إليه ملحد، إذ صرَّح بأنَّ جميع الرسل والأنبياء والهداة من أتباعهم، لم ينفعوا الناس في الحياة بشيء من النفع، ولم يقدروا أن يصيروا فيها مخلوقات متألقة لهم فضائل يهتدى بها، وكما رمى الأنبياء وأهل الأديان الصحيحة كلهم، ولم يستثن منهم أحداً، فإنه عظَّم زنادقة الملحدين الأولين منهم والآخرين، وأوجب الأخذ عنهم، والحذو على منوالهم، وحتَّم نبذ القديم الذي في مقدمته؛ الكتاب والسنة، وما عليه الصحابة والتابعون، وأوجب أن تتخذ ثقافة جديدة إلحادية ينبذ فيها الدين الصحيح، ويكفر به وبحملته.

ويعتقد أن الصحابة في طور الأطفال، أو طور قريب من طور الحيوانات السذج، وأنهم لا يعلمون الأمور على حقيقتها وإنما يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وإنما العلم والفضل منحصر عنده في الأجانب الإفرنج؛ وسلك مسلك الإباحيين في التهتك والإباحة، وكذَّب ما جاء في الكتب، وعلى ألسنة الرسل، من قصّة آدم وزوجه وذريته، فزعم أن الإنسان الأول، مخلوق شبيه بالحيوان، لا يقدر على النطق ولا التخاطب بوجه من الوجوه، ثم انتقل إلى طور الإشارات، في مدد طويلة ثم بعد مدد طويلة جداً تدرّج شيئاً فشيئاً، حتى انتقل إلى طور التخاطب بالألفاظ المبهمة الساذجة.

وكذّب ما جاءت به الرسل، أن الله علّم آدم الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، واتبع سفهاء الخرافيين، وكذّب جميع النصوص من الكتاب والسنة، الواردة في التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، وفي فضل الصبر على المصائب وثواب أهلها، واستهزأ بها وبأهلها وملأ كتابه من السخريات والاستهزاءات، وكل هذه الحقائق وما هو أكثر منها قد تضمنها كتابه المذكور، كما سنشير إليها مفصلة مشاراً إلى صفحاتها من كتابه المذكور.

فصل

ولما كان هذا الكتاب، موجهاً إلى قلب الدين وروحه، وإلى هدم علومه وأصوله وقواعده وجميع مقوماته، وكان هذا الدين العظيم بذاته وحقيقته واشتماله، على أعظم الحقائق وأجلّها وأنفعها، وعلى البراهين الساطعة، والأنوار المتلألئة، يدفع ويبطل كل ما يقوم في وجهه من الشُّبُهات، ويقاومه من الأقوال الباطلة، أحببت أن أشير إشارة لطيفة قبل إبطال قول هذا الكاتب؛ إلى بعض محاسن هذا الدين ([7])، وأنه لا سبيل لأحد من الخلق أن يبطل شيئاً من أصوله وقواعده وأسسه، وأن هذا الدين العظيم، تزول السموات والأرض والجبال وأصوله راسيات، وقواعده ثابتات، وأنواره مشرقة، وبراهينه للباطل محرقة، فهو الميزان الأعظم؛ الذي توزن به الأمور الدينية، والأمور العقلية، والأمور


الدنيوية، وأبيّن عند ذلك منافاتها، لقول هذا الكاتب؛ وهذا الرجل لا بدَّ قد شعر أنَّ الناس لا يشكّون ولا يمترون، في منافاة كتابه وأقواله للدين، فتراه في مطاوي كتابه يعتذر ويدَّعي أنه مؤمن بالله ورسوله وبريء من الإلحاد؛ أفيظن أن الناس يقيمون لاعتذاره وزناً؛ وكيف تقع اعتذاراته الطفيفة التافهة، في جانب حملاته الشديدة، على الدين والحث البليغ على نبذه، وعلى سلوك طريق الملحدين؛ كيف يقبل اعتذار من هو مجدٌّ مجتهدٌ في هذه المواضيع الخبيثة الباطلة، فهل هذا إلا من باب السخرية والتمويه على الأغرار؟ ونحن نكتب ما يجب علينا كتابته، من رد اعتداءاته على الدين، والتنبيه على بطلانها، كما هو الواجب المتعين على كل مسلم، ونرجو الله أن يعيده إلى الحق بالتوبة والتنصل، ونقض ما كتبه واجترأ عليه.

واعلم أن مدار ما بنى عليه بحوثه الباطلة، واحتج لها وبرهن عليها ورددها أمران:

أحدهما: أن المسلمين في هذه الأوقات الأخيرة، متأخرون عن غيرهم في الفنون العصرية، والاختراعات والصناعات الراقية، وعلوم الطبيعة بأنواعها.

والثاني: أن غيرهم مهر في هذه الأمور، مهارة لا تتصورها الأفكار، ثم بنى على هذين الأمرين جميع بحوثه الباطلة، ورتب على ذلك أنه يجب رفض ما عليه المسلمون من عقائد وأخلاق وعلوم وأعمال، وقرر في كتابه أن الدين الإسلامي، أغلال وقيود تقيد الإنسانية عن التقدم والارتقاء في درج الكمال، وفي مقابلة ذلك حثّ ورحّب بكل ما أتى به الآخرون من مفاسد وعقائد وأخلاق وأعمال، وخير وشر، وقرر أن هذا هو الرشد والفلاح وبدء النجاح. وكتابه كله يدور على هذا الأصل الذي يعرف كل من له أدنى بصيرة أنه بنيان على


شفا جرف هار، وأن أقل نظر يوجه إليه، وأقل برهان يقابله، يبطله وأن هذا الاستدلال، هو بالترهات والبهرجات أولى منه بالحقائق الثابتة؛ فإذا تبين بطلان أصله، الذي بنى عليه جميع بحوث كتابه، بطل كل ما بنى عليه، فنشير هنا إلى هذا ثم نتتبع ما اشتمل عليه كتابه من المواضيع الفاسدة (فنقول):

الدين الإسلامي هو دين العدل والرحمة والعلم والحكمة، وهو دين المدنية الزاهرة المبنية على صلاح القلوب والأرواح وصلاح الدين والدنيا، وعلى السعي إلى الكمال والرقي في معارج السعادة والفلاح، وهو الدين الذي حثّ على كل خير ونَفْع وصلاح وإصلاح، وهو الدين الذي ساوى بين طبقات الخلق في القيام بالعدل والحقوق، فلم يبح الظلم بوجه من الوجوه؛ فالغني والفقير والشريف والوضيع والقوي والضعيف والعزيز والذليل، كلهم عنده سواء، قد شملهم عدلُه ورحمتُه، وهو الدين الذي يحث على القيام بما خلق الله الخلق لأجله، وهو عبادة الله وحده والإنابة إليه، والتعبُّد له ظاهراً وباطناً ودوام الافتقار إليه، وهو الدين الذي يأمر بجميع معالي الأخلاق ومحاسنها، وينهى عن جميع مساويها وأراذلها، وهو الدين الذي تصلح به الأحوال؛ فكما حثَّ على القيام بإصلاح الدين فقد حثَّ على القيام بمصالح الدنيا النافعة، وكما أمر بتعلم العلوم والفنون التي ترجع إلى الإنابة إلى الله وعبوديته، فقد حث على تعلم العلوم والفنون، التي تعين على قيام حياة الأمة، وإصلاح أحوالها واستعدادها لمقاومة الأمم الأخرى، ومغالبتها والوقاية من شرورها وأضرارها، وكما أمر بتعلم علوم التوحيد والعقائد والأخلاق، التي ترجع إلى صلاح القلوب والأرواح فقد أمر بالتعلم والتفقه في الأحكام، التي ترجع إلى القيام بالعبادات الظاهرة والمعاملة العادلة، والقيام بجميع الحقوق المتنوعة،


على وجه الوفاء والعدل وموافقة الحكمة، وكذلك أمر بتعلم الفنون الحربية والآداب العسكرية، والاستعدادات السياسية والصناعات النافعة، فقال تعالى في جانب مقاومة الأعداء ومهاجمتهم: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] وهذا شامل لكل ما تتعلق به الاستطاعة، من أنواع العلوم والفنون العسكرية الموجودة في وقت التنزيل، والتي تحدث إلى يوم القيامة، من قوة عقلية وسياسية داخلية وخارجية، وصناعات نافعة وتعلم رمي وركوب، وسائر الفنون التي لا تتم مقاومة الأعداء إلا بها، وقال في جانب المدافعة: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}} [النساء: 71] فأمر المؤمنين بأخذ حذرهم من عدوهم، وهو التَّوقِّي والوقاية والاحتماء من عدوان الأعداء، بكل وسيلة وسبب تحصل به الوقاية من شرهم ومكائدهم وأسلحتهم ومداخلهم ومخارجهم؛ وذلك يختلف باختلاف الأحوال والأزمان.

وكل آية أو حديث فيه الأمر بالجهاد والحث عليه، فإنه يدخل فيه القيام بجميع الشؤون التي تعين على الجهاد، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، وهذا من البراهين، على أن هذا الدين والشريعة، تنزيل من حكيم حميد عليم بكل شيء، فإن إرشاداته العالية كما ترى تصلح لكل زمان ومحل؛ بل لا تصلح الأمور إلا بها.

وكما أنه أمر بالاستعداد بالقوة المادية، فقد أمر بالاستعداد بالقوة المعنوية، حيث أمر الناس وحثَّهم على الاجتماع والألفة بين المسلمين، والاتفاق على جميع مصالحهم الكلية؛ كما أمر بذلك في المصالح الجزئية، في كل ما يأتون وما يَذَرُون، في أحوالهم الداخلية وأحوالهم الخارجية، وأمرهم بالإيمان الكامل والتوكُّل القوي على الله، وتمرين النفوس على القوة والشجاعة، والتدرب في كل أمر نافع في الدين والدنيا؛ فالدين يحثُّهم على القيام بجميع الأسباب النافعة، التي تصل إليها قواهم واستطاعتهم، وعلى التوكل على مُسِّبب الأسباب وخالقها ومدبِّرها، ويبين لهم أن الأمرين متلازمان، لا يقوم أحدهما إلا بالآخر، فالأسباب وإن عظمت وقويت فإنها محكومة بقضاء الله وقدره، ولا يتم للقائم بها أمره من كل وجه إلا بتوكله واعتماده على الله تعالى، مسبِّبها ومصرِّفها والقابض على ناصيتها وأزمتها.

ويخبركم الدين مع ذلك أن التوكل وحده، بدون فعل الأسباب، وبدون القيام بالمقدور من الشؤون الدينية والدنيوية، ليس بتوكُّل حقيقي، بل هو ضعف وعجز، فكلما قوي توكُّل المسلمين على ربهم، قويت أعمالهم النافعة، وقويت هممهم، وانبعثت عزائمهم إلى جميع مصالحهم، والربُّ تعالى لقيامهم بالأمرين وتحقيقهم للتوكل عليه واجتهادهم في فعل الأسباب، يعينهم وييسر لهم أمورهم، ويحقق لهم رجاءهم وينزِّل عليهم من نصره ومعونته وتأييده، بحسب قيامهم بالأمرين؛ والنصوص من الكتاب والسنة، تحثُّ على الأمر بالتوكل على الله في كل الأمور، والأوامر بالأخذ بجميع الأسباب النافعة، لا تنحصر، بل الدين كلُّه قيامٌ بالأسباب، وتوكل على مسببها ومصرفها. وهذا الذي نبَّهنا عليه من الدين الإسلامي هو من الكمال الذي لا يقاربه كمال، ويسقط به ويضمحل قول هذا الكاتب الذي يقول: إن الإيمان بقضاء الله وقدره، والتوكُّل على الله يوهن المسلمين ويضعفهم، وأنه يجب عليهم ترك ذلك؛ وأن التوكل على الله هو العلم بنظام الطبيعة، وكذلك الإيمان بالقضاء والقدر، كما صرح بذلك في صفحات (17) و(29) و(268) و(315) من كتابه، ويتضح بذلك أن المسلمين حقيقةً المتبعين لإرشادات دينهم وتعاليمه؛ هم المتوكلون على الله حقيقةً، وأنهم أقوى الخلق على فعل الأسباب، امتثالاً لأمر ربهم وطلباً لمصالحهم، واستمداداً من قوته وارتقاباً لثوابه، وأن الدين الإسلامي


يبطل الطريقين الذميمين: طريق العجز والضعف؛ الذي يتعلل صاحبه أنه متوكل على الله، وإنما هو مهين ساقط الهمة، معتذر بما لا يعذر به، وطريق الملحدين المعطلين، الذين يعتمدون على الأسباب ويرونها مستقلة؛ منقطعة عن قضاء الله وقدره، وأن الله لا يتصرف في الأسباب عندهم بإيجاد ولا تقوية ولا إضعاف ولا بمنعها ولا له قدرة على معارضتها، كما قرره صاحب هذا الكتاب في ثنايا كتابه خصوصاً في الفصل الأخير المعنون بـ:(مشكلة لم تحل)، وهذا هو التعطيل المحض والنفي لربوبية الله ولأفعاله، وهو في الحقيقة مذهب الدهريين الطبائعيين الجاحدين لله بالكلية.

وقد سلك أيضاً مسلك الدهريين في هذا؛ الذين يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، المنكرين للثواب والعقاب، حيث أنكر أن الإيمان والتقوى والعمل الصالح سبب للثواب العاجل والآجل، وأن الكفر والفسوق والعصيان، أسباب للعقوبات العاجلة والآجلة، وتهكم بذلك وبالقائلين به المعتقدين له؛ كما صرَّح به وردده في الصفحات (35) و(165) و(178) و(315)، و(319) و(325) والسبب الوحيد عنده في المصائب الدنيوية وضدها، إنما هي الأسباب المادية فقط، وعمل الطبيعة. ثم لم يزل يقرر هذا الأصل الخبيث، حتى زعم أن الإيمان بالله وباليوم الآخر، يمنع الرقي، ويمنع كون العبد سبباً محضاً منتفعاً بأعماله، وأنه غل ورباط يمنع من الخير والصلاح، وأن الأديان السماوية أكبر المصائب على البشر.

وقولٌ وصل إلى هذا الحد ليس بعده تقدم إلى الكفر، وإنما هو النهاية في الكفر والتعطيل، والجحود لرب العالمين، والخروج من الديانات السماوية كلها، وهو غاية الخروج من العقل والحس، فإن قضية الإيمان بالله ورسوله هي أكبر القضايا وأعظمها وأوضحها وأجلاها براهين وأدلة، وإثبات أنه هو الفعال لما يريد الخالق لكل شيء الذي يدبر الأمور كلها، ويكرم الطائعين، ويعاقب العاصين، فلا ينكر ذلك إلا مكابر مباهت منحل من العقل الحقيقي، بعد انحلاله من الدين، والمقصود أن صاحب الدين الصحيح؛ هو أقوى الناس توكلاً على الله تعالى وعملاً بالأسباب النافعة، لأنه يعلم أن دينه يحثه على ذلك، وقد استصحب التوكل على الله والثقة به، وأن الله لا بدَّ أن يتم أمره، وخصوصاً الأسباب الدينية، والأسباب المعينة على الدين، فإنها من الدين في الحقيقة لأن الدين هو جميع ما دلَّ عليه الكتاب والسنة مطابقة والتزاماً وتضمناً، فهذا الدين لم يدع خيراً إلا دعا إليه، ولا منفعة إلا حثَّ عليها، ولا طريقاً يوصل إلى إصلاح الأحوال الدينية والدنيوية النافعة إلا رغَّب فيه، ولا مفسدة وشراً وضرراً إلا حذَّر منه، وأمر بأخذ الوسائل الواقية والدافعة له، فيا ويح هذا الكاتب القصيمي الذي زعم هذا الزعم الباطل؛ أنه مانع من التقدم والرقي ومجاراة الأمم الراقية في الحياة، وهل رقت هذه الأمم وسبقت غيرها في الاختراعات والفنون الصناعية المدهشة، إلا بعد ما أدخلت عليها تعليمات هذا الدين ([8])، واقتبسوا أصل هذه الصناعات من المسلمين، بعد الحروب الصليبية وغيرها؟ ألم يكونوا في غابر الزمان والقرون، التي يسمّونها القرون المظلمة في غاية الجهل والوحشية والهمجية في


معرفة هذه الفنون والصناعات؟ ألم يكن المسلمون وقت قيامهم الحقيقي بهذا الدين هم سادات الخلق، الذين قهروا بفضل دينهم وأخلاقه وتعاليمه العالية جميع الأمم، وحطموها وأفنوا صروح أكبر دول الأرض يومئذٍ؟ ألم تكن مدنية الدين الإسلامي هي المدنية الزاهرة الحقيقية، حيث كان روحها الدين والعدل والرحمة والحكمة؛ وقد شملت بظلها الظليل، وإحسانها المتدفق؛ الموافق والمخالف والعدو والصديق؟ فهل أخّرهم دينهم ومنعهم الرقي الحقيقي؟، وهل نفع الآخرين كفرهم بالله وبربوبيته وإلهيته في تلك القرون الطويلة، إذ كانوا هم الأذلين المخذولين في مواقف الحياة، كما زعم هذا الكاتب الذي يهرج على من لا يعرف الحقائق؟

ثم لما ترك المسلمون الاستمساك بتعاليم دينهم وتفرقوا شيعاً، وارتقى الأجانب في علوم المادة وفنون الصناعات والاختراعات ووصلوا إلى أمر لم يسبق له مثيل، فهل أغنت عنهم هذه المدنية وهذا الرقي؟ وهل وقتَهم الشرور، إذ كانت مدنيتهم مبنية على الظلم والجشع والطمع المفرط وطلب استعباد الخلق، ولم يكن معها من روح الدين ورحمته شيء؟ فهل ردت عنهم هذه الملاحم والمجازر البشرية والإهلاك والتدمير، الذي لم يسبق له نظير ولا مقارب في تاريخ الخليقة؟ وهذا من أكبر البراهين، على أن الرقي في هذه الحياة، إذا خلا عن الدين الحق، صار ضرره أكبر من نفعه، وشرّه أكثر من خيره، إذا كان فيه خير، كما زعمه هذا الكاتب. فلو كانت هذه الأمم الراقية في الفنون العصرية معهم دين صحيح، وبنوا حضارتهم على الرحمة والعدل والحق والتسوية بين الخلق وبين الأمم القوية والأمم الضعيفة، في الحقوق فما ظنك أن تصل بهم هذه الحضارة؟ وما ظنك بما ينكف بها من الشرور العظيمة التي جرت وهي جارية وستجري ما داموا على حالهم؟

أما تأخر المسلمين الآن في الفنون العصرية والاختراعات والصناعات وأشباهها فليس هذا التأخر منسوباً إلى دينهم، فليس في دين الإسلام أصل من الأصول أو فرع من الفروع يوجب على أهله التأخر بوجه من الوجوه، وإنما الأمر بالعكس، كما تقدم التنبيه عليه بأن الدين الإسلامي قد جمع بين المصالح الدينية والدنيوية، وحثَّ على جميع المنافع وعلى الأعمال النافعة والعلوم النافعة، عكس ما رماه به هذا الكاتب من الجمود والتأخر ومنافاة الحضارة والتقدم وخدمة الحياة بزعمه، وإنما السبب الوحيد الذي أخّرهم في هذه الفنون، هو ترك الاستمساك بروح الدين ومقوماته، وترك الأخذ بما يحثُّ عليه من الاجتماع والائتلاف واتفاق الكلمة، والتشاور في الأمور كلها، وترك الأغراض الشخصية للمصالح الكلية، وبتركهم الجهاد القولي والبدني والمالي، وهو مقاومة الأعداء بكل وسيلة تناسب الزمان والمكان بحسب الاستطاعة؛ فالدين يحث على الأخذ التام بهذه الأمور التي لا قوام للأمم بدونها وهم كسلوا وغفلوا عنها علماً وعملاً، وأهملوا مصالحهم ومالوا إلى الترف والدِّعة والرضوخ والاستعباد للأجانب، فلما رآهم الأجانب بهذه الحالة المؤلمة لعبت بهم سياساتهم وفككتهم وفرّقتهم زيادة على ما اتصفوا به من التنافر والاختلاف، وعلى ما زهدوا فيه من الجهاد ومقاومة الأعداء، واستعبدوهم بكل حيلة وحللوا معنويتهم وروحهم الدينية وصاروا يضربون بعضهم ببعض ويقيمون لهم من جنسهم ومن بني قومهم ممن يتسمى بالإسلام من يقيم الدعايات الباطلة، في تزويدهم من هذه الحال الحرجة وممن يفتّ في أعضادهم ويخدر أعصابهم، ويسعى بكل مقدوره في تأييسهم من التقدم وفي إماتة همهم؛ كما ترى هذا الكاتب الذي توسل باسم الدين والغيرة على المسلمين، وسعى في نبذ الدين ومحاربته بهذه الطريقة التي أربت على طرق المنافقين؛ وزعم من بهرجته التي لا تروج على أحد أن المسلمين

على اختلاف طبقاتهم من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة وأصناف المحدثين والمفسرين والفقهاء والأصوليين وسائر طبقات الأمة كلهم زعم أنهم لم يفهموا الدين، وأنه مستحيل أن يسعوا في مصالحهم، وغير ممكن لهم ذلك إلا بنبذه وأنه قيود تمنع التقدم؛ كما صرح بذلك في صفحات (17) و(36) و(68) و(67) و(77) و(97) و(140) و(315) من كتابه، وهذه دسيسة خبيثة، فإن كان أحد عنده أدنى تمييز يعلم حق العلم، أن هذه المباحث التي اشتمل عليها كتابه منافية للدين بالكلية ومناقضة له من كل وجه، ولكنه جاء بهذه الوسيلة ليقول المفترون: ليس دين الإسلام، ما فهمه المسلمون والأئمة والعلماء على اختلاف طبقاتهم، وإنما هو شيء آخر مجهول عندهم، وقد علمه هذا الكاتب، وهو ما أراده وسعى إليه من معانقة دين الملحدين، ورفض دين المسلمين وسائر المرسلين.

ثم إن هذا الكاتب لم يكفه أن يقدح في هؤلاء المتأخرين من المسلمين، بل وصلت به الحال إلى أن قدح في خير القرون؛ وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة الدين والهدى، حيث زعم أنهم لم يفهموا من دينهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، وأن معارفهم وعلومهم النافعة كلها، بالنسبة إلى معارف المستأخرين من الملحدين، كنسبة معارف الأطفال إلى العقلاء الراشدين أو أقل من ذلك، وحثَّ غاية الحث على رفض مقالات هذه القرون المفضلة، وأنه يجب تعليم الناس الكفر بهؤلاء الأئمة وبمعارفهم وفضائلهم وما قالوه وعملوه أو ورثوه، وتهكم بمن يدعو إلى الأخذ بما أخذ به الأولون؛ وملأ كتابه من هذه المواضيع الخبيثة والوقاحة والجراءة التي لم يرتكبها غيره كما صرح به في صفحات (14) و(16) و(29) و(61) و(64) و(66) و(67) و(69) و(70) و(85) و(120)


و(140) و(170) و(293) و(296) و(298) و(302) و(303) و(308) و(311) و(315). فيا ويحه ما أخسر صفقته وأقل حياءه، وهل يشك أحد أو يرتاب مسلم أو منصف، ولو كان من غير المسلمين أنه لم يوجد ولن يوجد أحد أكمل علماً وفضلاً وأخلاقاً وعدلاً ورشداً وعقلاً وكمالاً في كل الخصال العالية من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ وأنه ما وصل لأحد غيرهم خير وفضل وعلم إلا على أيديهم؟ وقد كذّب في كتابه هذا ما كتبه عنهم في كتبه السابقة، وقد شهدت الأمم الأجنبية بكمال فضلهم وشمول رحمتهم وعدلهم؛ قال جوستاف لوبون فيلسوف فرنسا الشهير: «ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب».

وكانوا إذا فتحوا البلدان، وجرت عليها أحكامهم العادلة وشفقتهم على بني الإنسان، امتلأت قلوب الأجانب من محبتهم، وتمنوا دوام ملكهم وسلطانهم، واختاروهم على قومهم وأهل دينهم؛ مع أن النفوس مجبولة على التعصب، لما ألفت من الأديان والأوطان والأنساب والمذاهب؛ فلولا أنهم رأوا من رحمتهم وعدلهم، ما لم يشاهدوا له نظيراً، لم يخضعوا كل هذا الخضوع، ويعطوا ما بأيديهم مذعنين راغبين غير مقهورين على إرادتهم، فإنهم يجدون الفرص الكثيرة لحدوث الثورات، ولكن الرحمة والعدل من المسلمين، أوجبا لهم السكون والطمأنينة، لظلِّ هذا الدين القويم؛ وهذا الكاتب يعلم حق العلم أنه كذّب نفسه بنفسه وأنه ناقض في كتابه هذا ما كتبه في كتبه السابقة، ولهذا جعل يندب نفسه ويندم ويتحسر وينوح على زمانه الماضي، وكيف قضاه في عبادة الله ومتعلقاتها؛ لأنه لا يجهل أن الناس يعرفون منه هذه الحالة، ولهذا كان الكلام معه في هذا الكتاب، لا يشبه الكلام مع المبتدعين من المسلمين، الذين يعظمون الدين ويؤمنون بالله ورسله، وإنما يتكلم معه كما يتكلم مع الأجانب عن الدين والكافرين به، ويناظر كما يناظرون لأنه في كتابه هذا كشف الغطاء وصرح بالعظائم الكبرى المنافية لدين الإسلام بالكلية.

ثم إن هذا الكاتب يزعم أن تلك القرون المفضلة، التي لم يشاهد الناس لها مثيلاً في الجلال والجمال والكمال، لم تبلغ رشدها بل هم في طور الطفولة، وعنده أن الرشد والكمال المفضل منحصر في الماديين من الملحدين؛ كما صرح به في تلك الصحائف آنفة الذكر؛ والسبب الذي أداه إلى هذه المقالات الجائرة المنحرفة، أن الفضل منحصر عنده في شيء واحد، وهو عبادة الطبيعة ووجوب إعطائها القلب والقالب والظاهر والباطن، والانصراف بالكلية إلى هذه الحياة فقط، والتمتع بزهرتها، والانحلال عن القيود الدينية، وإباحة جميع ما تشتهيه النفوس، وإطلاق العنان لها؛ كما أطال في هذا الموضوع وردد فيه الكلام الساقط، ثم في مقابلة ذلك التحامل على كل ما يعارض هذا الطريق والتهكم بالدين وحملته، فإذا كان هذا هو الكمال عند هذا المنحرف، لم يستغرب بعد هذا قدحه في خير العالمين، وسخريته من علومهم وأخلاقهم وأعمالهم، وما هم عليه في جميع الأحوال، فصار منطبقاً عليه وعلى أمثاله غاية الانطباق قوله تعالى: {{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}} [غافر: 83] ولهذا ارتكب العظائم في تحليله لحياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشخصيته الكريمة، بكلام طويل مردد كقوله: «كان يعبد الطبيعة، وأنها قد أخذت بقلبه وقالبه ولبّه، وأنه كان يناجي الليل والنهار والضياء والظلمة والنسيم ونحوها مما يشاهد، وأنه افتتح رسالته بمناجاة الطبيعة والخلوة بها في غار حراء، وختم رسالته وحياته بشدة النزوع إليها وقت السياق حيث كان يقول: «في الرفيق الأعلى» ([9]).

وهذا بعينه قد أخذه من دعاة النصارى المفترين، الذين لما بهرهم ما جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلّم من الدين الحق والتعاليم العالية والرقي الكامل والفتوح الباهرة والآثار، التي لم يحصل عشر معشارها لأحد من الخلق، طفقوا يموهون على الناس ويحللون حياته صلّى الله عليه وسلّم تحليل أحد رجال الطبيعة، يعني الذين لا يؤمنون بالله وملائكته وعالم الغيب من الأرواح والجن بله الدار الآخرة، وما وراء المحسوسات والملموسات، فأخذ عنهم هذا المأخذ الخبيث، وأنكر الوحي والرسالة بهذا التحليل؛ ورمى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه طبيعي لا يعرف الله ولا يعرف الوحي، فلم ينزل عليه جبريل من عند الله، ولا كان يناجي الله ولا يعبده، ولا كان عند السياق إلا مشتاقاً إلى الطبيعة فقط، لأنه لا يعرف الله ولا يريده ولا يحبه ولا يطلبه، عند هذا الكاتب الذي تجرأ على ما لم يتجرأ عليه من يتسمى بالإسلام من الملحدين. ولا تستغرب هذا عليه فإنه سيأتي أنه صرح تصريحاً لا تردد فيه بالكفر بالأنبياء والرسل كلهم، وصرح أنهم لم ينفعوا الخلق بوجه من الوجوه، فمن كانت هذه وقاحته وتصريحاته، فلا يستبعد عليه شيء؛ وظهر بهذا غرضه الوحيد، وهو الدعاية البليغة إلى نبذ الدين وأصوله ومحاربته بكل طريق. ومن فضل الله أن طريقته في كتابه قد عرفها الناس، وعرفوا ما ترمي إليه من الغايات، وعرفوا الأيدي المحركة لها، ويأخذهم العجب الكبير؛ كيف صار هذا الرجل بعد سوابقه، فريسة لأعداء الدين، وآلة لهم صماء في طريق مآربهم ومقاصدهم؛ فنسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمين، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد الهداية. والمقصود أن هذا الكاتب جعل الفضل كله في جانب الأجانب الكفار، ولم يدر ـ أو درى وتجاهل، وهو الأحرى بمثل هذا الرجل ـ أن الفضل الحقيقي هو السعي في طرق الكمال، والتخلق بكل خلق جميل، والتنزه عن كل خلق رذيل، وهو الفضل الذي يرقي القلوب والأرواح، ويوصل أهله إلى أعلى الغايات وأشرف السعادات، الذي أصله وأساسه العقائد القلبية المؤسسة على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والأعمال القلبية التي مدارها على الإنابة إلى الله، وانجذاب دواعي القلب كلها إلى الله رغبة ورهبة ومحبة وخوفاً ورجاء وقصداً وطلباً وتعبداً وتألهاً وإخلاصاً صادقاً لله وحده لا شريك له.

ثم القيام بالشرائع الظاهرة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام والجهاد في سبيل الله، وما يتبع ذلك من القيام بحقوق الوالدين والأقارب والجيران والأصحاب والمعاملين وتوفية الحقوق كلها بالعدل والإنصاف وعدم الظلم والجور على القريب والبعيد والعدو والصديق، وبذل الجهد بالقيام بكل ما يعين المسلمين على أمر دينهم، والاستعداد الكامل لمقاومة الأعداء، والسعي في جمع كلمة المسلمين، ومحبة الخير لهم وتحصيله بكل مقدور، فإذا كان هذا هو الفضل الحقيقي، وهو كذلك؛ فقد علم كل من له أدنى تمييز، أن للصحابة والتابعين لهم بإحسان، من هذا أوفر الحظ والنصيب، وأن الصحابة رضي الله عنهم فوق جميع طبقات الأمة، في كل فضل وعلم وعمل، كما أن الأمة أكمل الأمم في كل فضل وخير، وأكمل الأمم المنتسبة إلى الأديان، فكيف بالأمم المنحلة المعطلين لرب العالمين، الذين انحلوا من عبادة الرحمن، فعبدوا الطبيعة، فتبّاً لمن آثرها بظاهره وباطنه، على الله بئس للظالمين بدلاً. وزعم هذا الكاتب أن التقيد بالإيمان بالله، وبما أخبر الله به على ألسنة رسله قيد وغل، يحول بين الإنسان وبين المطالب العالية النافعة، ويقيده عن عبادة الطبيعة، التي هي الغاية عند أمثال هؤلاء، فيحق لمن كان هذا منتهى مراده وطلبه، أن يكون أول من يدخل في قوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}} [يونس: 7، 8] وفي قوله تعالى: {{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}} [هود 15] إلى آخر الآيات.

ثم إن هؤلاء المنحرفين الملحدين، الذين انخدع هذا الكاتب بدعايتهم الخبيثة، يدعون إلى نبذ كل قديم واعتناق كل جديد، وقد أبدى هذا الكاتب في هذا وأعاد، وكرر ذلك مريداً بهدم القديم هدم أصول الدين وقواعده، كما تجده في صفحات (16) و(37) و(64) و(69) و(70) و(96) و(160) و(302) و(311) من كتابه وغيرها من الصفحات؛ وهذه الدعاية الخبيثة مقصودها الأعظم وأساسها، الذي بنيت عليه رفض الشرائع والأديان والانحلال، من قيود الدين وحلّه وتحريمه وجميع أحكامه، والانخراط في سلك المعطلين لرب العالمين المنحلين من جميع شرائع الدين، وأول ما يدخلون في هذا الأصل الباطل رفضُ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أصولٍ وأخلاقٍ وأعمالٍ وغيرها، وتوصلوا بهذا إلى الطعن في خير القرون وإهدار أقوالهم وعقائدهم وعلومهم، بل وجميع محاسنهم، والحمل على حَمَلة الشريعة وأئمة الهدى ومصابيح الدجى، كما أشرنا إلى الصفحات الموجود فيها ذلك.

ثم إن هذا الكاتب بهرج على من لم يعرف الحقائق، بالاستدلال بأحوال المنحرفين من الصوفية والخرافيين، ومن تسمَّى بالدين وهو منه بريء، وأورد من خرافاتهم وخزعبلاتهم، ما يُظَنَّ أنه يروِّج به باطله، حيث نسبه إلى حملة الدين، وهو يعلم حق العلم، أن الدين وأهله الذين هم أهله؛ هم أبعد الناس عن هذه الخرافات، وأعظم المنكرين لها، وأنهم يبرؤون منها، وينزهون الدين الإسلامي عنها، فكيف لا يستحي أن يستدل بأحوال ابن عربي، وخرافات الشعراني، وشطحات المتصوفة، على الدين وأهله ويتوسل بذلك إلى القدح في الدين وحملـة


الدين، وهو يعلم حق العلم أن الإسلام بريء من هذه الأمور والشطحات والخرافات، فكيف لا يستحي من هذه البهرجة والتناقض، أيظن الناس كالبهائم العجم التي لا تفهم شيئاً، أم سحر عقله فصار يهذي بالباطل وبما يغلي به صدره من الغل والإلحاد؟ ألم يعلم أن الدين وأهله الذين هم أهله الذين عرفوا الحقائق، وميَّزوا بين الحق والباطل، والمحقين والمبطلين ينفون عنه انتساب كل مبطل كما ينفون عن حقائقه كل باطل، وأن المبطل لا يروج أمره عليهم بمجرد انتسابه إلى الدين؟ فكم انتسب إلى الدين، من الزنادقة والمشركين والمنافقين، من هو شر من اليهود والنصارى، فمن احتج بأحوال من انتسب إلى الدين وأهله، فهو من المزورين المبهرجين، وكذلك من احتج بالآثار والحكايات الباطلة على الدين، فهو مفتر كذاب؛ كما فعل هذا الكاتب، وملأ كتابه من الخرافات والحكايات الكاذبة، ونسبها لأهل الدين ليتوصل بذلك إلى القدح فيه وفي أهله، والدين كما يعلم كل من له بصيرة؛ أنه نقي خالص حق في أصوله وفي فروعه وفي أخلاقه وآدابه، وتعاليمه جميعها في غاية العلو والسمو والمكانة العالية، التي لو اجتمع جميع العقلاء أن يقترحوا أحسن منها، أو ما يقاربها لعجزت أفكارهم، وقدرتهم عن ذلك، لأنه تنزيل من حكيم حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويعرف هذا بتتبع أصوله وفروعه {{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}} [الإسراء: 9] أي يهدي لأصلح الأمور من العقائد والأخلاق والآدب والأعمال للأسباب وغيرها، فليأت هذا الكاتب أو غيره بمثله إن كانوا صادقين، فإن الدين الإسلامي قد فصَّل الحقائق، وبيَّن المناهج الصحيحة والطرائق، وميَّز بين الحق والباطل، وبيَّن أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، وبيَّن الخير والشر، وبيَّن العلوم النافعة التي تنفع الخلق في دينهم ودنياهم من العلوم الضارة التي هي بضد ذلك، وهذا الرجل يدعي أن العلوم كلها نافعة، وليس فيها شيء ضار بوجه من الوجوه، والله يقول: {{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ}} [البقرة: 102] .

فالدين هو الميزان الذي توزن به الأقوال والأفعال، ويعرف به الطيب من الخبيث، والنافع من الضار، فمن رفض من هؤلاء الملاحدة القديم، وعنى به هذا الدين الحق، فإنه في حقيقة الأمر قد رفض جميع الحقائق الثابتة، ورفض العلوم والأعمال النافعة؛ فمن أين لهذا النشء الحديث علوم نافعة، وأعمال نافعة، إلا من معين هذا الدين؟ من أين لهم أن يعرفوا رب العالمين بأسمائه وصفاته، الذي هو أجلّ المعارف وأكبرها وأصلها؟ ومن أين لهم أن يوحدوه ويؤمنوا به، وبما جاءت به الرسل إلا من هذا الدين؟ ومن أين لهم أن يقوموا بحقوقه، وحقوق خلقه العادلة الفاضلة، ومن أين تأتيهم إلا من هذا الدين؟ ومن أين لهم أن يهتدوا للأخلاق الجميلة، ويتنزهوا عن الأخلاق الرذيلة إلا من هذا الدين؟ ومن أين لهم أن يعرفوا الصراط المستقيم المحتوي على الحق علماً وعملاً، إلا من هذا الدين القويم؟ ومن أين لهم معرفة الشرائع والأحكام، والحلال والحرام، والعقود والعهود، والشروط والحدود والمواريث وتوابعها إلا من هذا الدين؟ ومن أين لهم الطريق الذي أدركوا به تعلم الصناعات، وأنواع الفنون والمخترعات النافعة، إلا بعد أن نشر هذا الدين ظله على الخلق، فأشرقت على الأرض أنواره، فاقتبس من هذا النور، كل أهل علم نافع في الدين والدنيا، كل أحد بحسب مشربه؟ فإن هذا الدين هو الذي أسّس أصول الصناعات وقواعدها النافعة، وأمر بها حيث يكون فيها مصلحة للدين ومنافع للناس كافة، كما تقدمت الآية الكريمة: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] وقوله: {{خُذُوا حِذْرَكُمْ}} [النساء: 71] ، وقوله: {{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}} [الحديد: 25] وامتَّن على الإنسان بأن علَّمه ما لم يعلم من جميع العلوم والفنون النافعة، فهذه علوم الشريعة على وجه التنبيه والاختصار كما ترى، هل بقي علم نافع إلا دخل فيها؟ وهل بقيت معارف يحتاج الخلق إليها في أمور دينهم ودنياهم، إلا احتوى عليها؟ وهل ندّ عنها وسيلة وسبب وطريق، من الطرق النافعة إلا واشتمل عليها؟ فإذا رفض هؤلاء الملحدون القديم، وعنوا به دين الإسلام فقد رفضوا جميع الأمور النافعة فأي شيء يبقى بأيديهم يؤسسون عليه علومهم وأعمالهم؟ فهؤلاء الذين يذمون القديم ـ ومؤلف كتاب الأغلال حامل رايتهم ـ مرادهم بذلك التوسل إلى رفض الدين الإسلامي بل صرحوا بمرادهم، ومع ذلك فهم كذبة يتناقضون، في هذا الإطلاق، فإنهم يذهبون إلى تقليد أرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا ونحوهم من ملاحدة الأولين والآخرين، فهؤلاء وإن كان لهم مهارة في علوم المادة المحضة، فإن كلامهم في الدين وأصوله أضعف بكثير من كلام أدنى طلبة العلم الديني، كما هو معروف من أحوالهم.

ومن أراد الوقوف على جهل هؤلاء الذين عظَّمهم هذا الكاتب، فلينظر إلى المناظرات بين أقوالهم وأقوال أئمة الإسلام، ولينظر إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خصوصاً العقل والنقل الذي وضَّح به بالبراهين العقلية، فضلاً عن النقلية جهلهم البالغ ومعارفهم الضئيلة، في أصول الدين، وضلالهم العظيم فيها، وإنما الذي رفع شأنهم عند أتباعهم، معرفتهم في علوم الطبيعة، الذي يشترك فيه البرُّ والفاجر، فهؤلاء وأمثالهم يقدّمهم هذا الكاتب، على ما جاءت به الرسل، ويقدمهم بلا خوف ولا خجل، على ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وما ذهب إليه الصحابة والتابعون وأئمة الدين والهدى؛ وحسبك بقولٍ هذا منتهاه؛ وهذا حاصله بطلاناً وفساداً وجهلاً وضلالاً، بل مكابرة وعناداً؛ وهذا الكاتب سلك في نصر هذا المذهب الخبيث مسلك الأجانب؛ أي الأجانب عن الدين يريد أعداءه ورافضيه، الذي ليس الغرض منه إلا إضلال الخلق، وهو كما ترى منافٍ للعقل والدين، أما الدين فلا يمتري فيه أحد كما نبهنا عليه، وأما العقل فإن العقل والدين متآزران، لا يردُ الدين بما ينافي العقل الصحيح، ولا يمكن أن يرد شيء معقول مقطوع به يخالف الدين بوجه من الوجوه، وقد أخبرناك بأن الدين قد نبّه على الأصول النافعة كلها، وإن نهاية ما فعله المتأخرون هو ترقية الصناعات وتفريع المخترعات والمهارة العظيمة من أمور الطبيعة، التي كانت أصولها يتناقلها الخلف عن السلف؛ ثم إن هذا الكاذب موّه على الناس، وزعم أن الذي ([10]) أوصل هؤلاء المتفننين في العلوم العصرية والاختراعات نبذهم للدين، وكل أحد يعلم أن نبذهم الدين لم يوصلهم إلى مصلحة دنيوية، فضلاً عن المصالح الدينية، وإنما الذي أوصلهم إلى الترقي في هذه الفنون، جدَّهم البليغ واجتهادهم ومواصلتهم الليل مع النهار في تعلمها وإدراكها وتفريعها وترقيتها، وقد تقدم لك أن الدين الإسلامي، يحث على تعلم كل نافع منها، ويأمر بكل علم يعين الأمة، على مقاومة الأمم ويوصلها إلى مصالحها، فمن استدل بتفوق الأجانب في علوم المادة، على صلاح دينهم وفساد دين غيرهم، فهو من أجهل الخلق، وأبعدهم عن المعارف بالكلية، أو مغرر مموه يقصد الترويج على من لم يعرف الحقائق، كما هو دأب هذا الكاتب الذي يسعى فيه.

ومن تمويهاته الشنيعة، التي يريد بها محاربة الدين وأهله، أن يزعم أن المسلمين يحثون على الفقر والبأساء والضراء وأنواع المصائب، ويطلبونها ويسعون في تحصيلها بكل طريق، ويسخر منهم، ومن ذكر الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على فضيلة الصبر على الفقر والأمراض وأنواع المصائب، كما صرح بذلك في صفحات (126) و(140) و(319) وكذلك جميع النصوص الدالّة على ذلك من الكتاب والسنة، وهذا من باب قلب الحقائق؛ فإن ذلك من أعظم محاسن الدين الإسلامي، حيث أرشد أهله إلى التربية العالية، التي هي أنفع التربيات وأجلّها وأكثرها آثاراً حميدة، فقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة، في فضل الصبر على المصائب والأمراض وأنواع المحن، التي لا بدَّ للخلق كلهم منها في هذه الدار، وذكر فضائل الصابرين، وما لهم من عند الله من الثواب، وذلك ليوطنوا أنفسهم، على تقلبات هذه الحياة الدنيا من غنى إلى فقر، ومن يسر إلى عسر، ومن بأساء وضرَّاء، إلى خير وسرَّاء، ومن عافية إلى مرض، ويعلمهم كيف يتلقون هذه الأمور الملازمة للبشر، في أطوار حياتهم، فهي من ضرورات الحياة والوجود، وأمرهم أن يتلقَّوُا النِّعم والخيرات، بالشكر والاعتراف بنعمة المنعم، وصرفها في الأمور النافعة، في أمر الدين والدنيا، وعدم الطغيان والبطر فيها، وأن يتلقوا المكاره والمصائب بالصبر والاحتساب والرضى، بما مَنّ المولى، والرجاء لثوابها العاجل والآجل، فهم يتقلبون في أحوالهم كلها مسرورين مغتبطين، إن أصابتهم سرَّاء شكروا، وقاموا بحق المنعم، وصرفوها فيما يعود عليهم بالنفع عاجلاً وآجلاً، وإن أصابتهم الضرَّاء صبروا وتضرعوا، فهم أقوى الخلق، وأجلدهم عند المصيبات والمكاره، التي لا يسلم منها بر ولا فاجر، بلْ كثير منهم يتلقونها بالرضى والطمأنينة والشجاعة التامة وعدم الكراهة، حيث تخور عزائم المنحرفين عن الدين، عند المصائب، ويجري لهم من التسخطات والجزع والهلع والآلام القلبية والزلازل الروحية والفظائع والفجائع، التي قد توصلهم إلى الانتحار، الذي يبرهن على ضعف النفوس وخورها، وأنه بلغ معها المكروه مبلغاً لا تصبر معه على الحياة، فقارن بين هذه الحال الفظيعة؛ وحالة المسلمين القائمين بوظائف دينهم، تجد الفرق العظيم بين النفوس والهمم القوية من المهينة، ويشهد بذلك قوله تعالى: {{إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هلوعا إذا


مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًاوَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًاإِلاَّ الْمُصَلِّينَ}} [المعارج: 19 ـ 22] . وقوله تعالى: {{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌوَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌإِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}} [هود: 9 ـ 11] .

وتعرف بذلك أن النصوص التي فيها فضائل الفقر والفقراء والأمراض والمصائب المتنوعة، والحثُّ على الصبر والمرض وبيانُ ما في ذلك من الثواب، لقصد حث النفوس على مقابلتها خير مقابلة، وأن ذلك من محاسن دين الإسلام؛ حيثُ يُمَوِّه هذا الكاتب؛ أنَّ نقل أهل العلم وهداة الأمة هذه النصوص، تدل على سوء حال المسلمين، وأنهم بذلك يسعون ويطلبون هذه الأمور بجدّهم؛ وهذا من التمويه الذي لم يصل إليه أحد من الأجانب، فأين دعواه أنه ينصر الدين، وهو من أكبر المحاربين له؟ ولقد علم كل أحد أن هذه النصوص، قُصِد بها تربية المسلمين، على مجابهة هذه البلايا بصدور منشرحة ونفوس مطمئنة، وكلُّ عارف بدين الإسلام، يعرف أنه يأمر بالأخذ بجميع أسباب الصِّحة؛ من تدبير الأغذية والنوم والنظافة الإيمانية والحركة الرياضية ونظافة الأبدان والثياب والفرش والمساكن وغيرها، حيث يَدَّعي هذا الكاتب عكس ذلك، فليأتنا بمثال واحد ونصٍّ واحد من الدين، يدل على ما قاله من رميه الدين وأهله بالدَّنس والوسخ والأخلاق والآداب المزرية؛ فيا ويحه ما أعظم جرأته، وكذلك هذا الدين يحثُّ على التداوي إذا وقعت الآلام، ويخبرهم الشارع أنه «ما من داء إلا وله شفاء ودواء، علمه من علمه وجهله من جهله» ([11])؛ لئلا يخلدوا إلى الكسل عن مداواة بعض الآلام، ويظنون أنه لا دواء لها فإنهم إذا علموا أن لها دواء جدُّوا في تعلمه وطلبه، وكذلك المسلمون يسعون في دفع مضرات الفقر والأمراض والبلايا ويسألون الله العافية منها، فهم يدافعون أقدار الله المكروهة شرعاً وطبعاً، بأقداره المأمور بها شرعاً وطبعاً، وليسوا كما رماهم به هذا الكاتب، أنهم يسعون لتحصيلها، فهم أصبر الخلق على المصيبات، وأعظمهم سعياً في جميع الأسباب النافعات، وليسوا كمن صرف جميع هِمَّته في السلامة من الأمراض البدنية والفقر، ولا يبالي بدفع الأمراض الروحية، التي هي أشد فتكاً وأعظم هلاكاً وأدوم شقاءً، وهي أمراض القلوب، ولا في دفع الفقر الحقيقي، وهو الإفلاس من الباقيات الصالحات، كما يدعو إليه هذا الرجل، ويحث عليه في كتابه، ويحث على صرف الهمة كلها للوسائل، ويزهد ويثبط عن المقاصد النافعة، التي لا تنفع الوسائل بدونها.

فهل ينفع إصلاح الأبدان فقط مع فساد القلوب؟ وهل يفيد إصلاح الدنيا فقط مع تخريب الآخرة؟ فالآخرة والعمل لها ليس عند هذا الكاتب لها ذكر ولا خبر؛ وإذا انهار الأصل تداعت الأركان والفروع؛ فالمسلمون بالمعنى الحقيقي يقومون بعبودية الله التي خلقوا لأجلها، ويستعينون بما في هذه الدنيا على هذا المطلوب الأعظم، فهم أطيب الخلق نفوساً وأغناهم قلوباً وأشكرهم لله عند النعم والمحبوبات، وأصبرهم عند البلايا والمكروهات، فدين الإسلام من محاسنه أنه يدعو إلى هذه الحياة الطيبة، ويجمع بين الوسائل النافعة والمقاصد المطلوبة، حيث تدعو الآراء المنحرفة التي يدعو إليها هذا الكاتب إلى اللذات الحاضرة الجزئية والشهوات والأغراض السفلية.

ومن تأمل كتاب هذا المنحرف رأى أنه يُبدي ويُعيد في صرف القلوب بالكلية إلى الشهوات واللذات وإطلاق السراح للنفوس، وأنه لا ينبغي أن تتقيد بشيء يصدّها عن تحصيل مآربها السفلية، ثم في مقابلة ذلك يهون الجزاء الأخروي، وقد يستهزئ به ويجيء بأساليب استهزاء وسخرية محزنة، كما ذكره في صفحات (17) و(35) و(37) و(66) و(78) و(85) و(126) و(178) و(319) و(325). فيا ويحه ماذا أبقى على دينه، بل ماذا أبقى على عقله؟ فإن الاستهزاء والسخرية بوعد الله ووعيده، كما أنه مخرج من الدين، فإنه مخرج من طور العقل، فهل في القضايا والحقائق أعظم وأكبر من وعد الله ووعيده؟ وهل في جميع المسائل الكلية والجزئية أجلى برهاناً وأوضح أدلة من أدلة هذا الأصل العظيم، الذي اجتمع على تحقيقه وتصديقه جميع الأنبياء والرسل والأدلة السمعية والعقلية، بل والأدلة الحسية المشاهدة؟ فمن أنكر ذلك واستهزأ به فقد نادى على عقله بالسفه والخروج عن طور العقلاء، بعدما خرج من الدين، فكل من استهزأ بالإيمان وبوعد الله ووعيده، فإنه داخل في قوله تعالى: {{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}{لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}} [التوبة: 65، 66] .

ومن بحوث هذا الكاتب الخبيثة أنه أنحى على خيار الخلق، وحمل عليهم في قيامهم بخالص العبودية وروح الدين والإسلام، وهو الافتقار التام إلى الله وتفويض العبد أموره كلها إلى الله، ونقل كلام ابن القيم رحمه الله في حقيقة الفقر؛ ذلك الكلام النفيس القيم في تحقيق العبد افتقاره إلى ربه وتعلق قلبه التام بربه، الذي جاءت به الكتب ودعت إليه الرسل، وتنافس في نيله أرباب الصدق والإخلاص، وأولو الألباب، فساقه مع غيره، نافياً له متهكماً، ساخراً بعباد الله المخلصين، هازئاً بالأخيار المفتقرين إلى الله خالقهم الغني الحميد، وهو في الحقيقة المسخور منه، المبتلى ببلوى يسألون الله منها العافية، وهذه السخرية في الحقيقة والتكذيب موجه إلى روح الدين، فإن روح الدين هو التواضع والذل التام لرب العالمين، ورؤية العبد افتقاره الحقيقي إلى ربه واضطراره إليه في جلب مصالحه ودفع مضاره، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً بوجه من الوجوه، وأن من تمام عبوديته إلى ربه أن يلجأ إليه ويضرع إليه في جميع شؤونه، ويعلم أنه في غاية العجز والضعف عن القيام التام بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وعن القيام بجميع الوسائل النافعة، وأنه وإن لم يُعنه ربه لم يتم له أمر؛ فالمسلمون يعلمون أن افتقارهم إلى ربهم، لا ينافي قيامهم بالأسباب النافعة، كما أن القيام بالأسباب لا ينافي الافتقار إلى الله تعالى، بلْ كل واحد من الأمرين، يمد الآخر فكلما ازداد العبد افتقاراً إلى ربه والتجاء إليه جاءه من معونة ربه وتيسير أموره ما لا يحصل له بدون ذلك، وكلما قام بالأسباب مستعيناً بالله أمدّه بإعانته وتوفيقه.

فهذا الكاتب ظن أو جعل افتقار المسلمين إلى ربهم يوجب الضعف والكسل وموت الهمم، وصوّره بهذه الصورة الشنيعة، ثم طفق يحط على خيار المؤمنين ويرميهم بضعف الرأي والهمة والعقل، ولم يعلم المسكين أنه ينادي على نفسه بسفاهة العقل وقلة الإدراك، إذ كان هذا ظنه، وإن كان الأمر غير ذلك، فهو يبرهن على خداعه وبهرجته وتصويره حالة المسلمين بحالة شنعاء، ليتوسل إلى القدح فيهم وفي دينهم، عند من لا يعرف الحقائق، ويح هذا الرجل إذا أنكر روح الدين ومقوماته وأصوله العظيمة، التي لا تستقيم جميع الأمور إلا بها فماذا يعترف به؟ وإذا ذم الافتقار إلى الله والرجاء له في كل الأحوال والاعتراف بأنه هو الميسر للأمور المسهل للصعاب الذي ما بالعباد من


نعمة وخير وتوفيق فليس إلا منه، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، وهو الذي يجيب دعوات المضطرين ويرحم ضعف المفتقرين ويجبر قلوب المنكسرين لجلاله، الطامعين كل الطمع في فضله ونواله، إذا ذم هذا فأي شيء يحمد ويمدح؟ أيحمد النفس الضعيفة المهينة العاجزة عن مصالحها، إلا بإعانة ربها؟ أو يثني على الطبيعة ويأمر بالافتقار إليها وصرف الهمم والقلوب إليها؟ وهذا ما يدعو إليه؛ فيا ويحه ما أخسر صفقته، ويا ليت شعري ماذا يقول في أكمل الخلق في جميع الصفات الكاملة وسيد المتوكلين وقدوة المفوضين وأعظم الخلق افتقاراً إلى ربه بكل معنى واعتبار حين يقول صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك وأصلح لي شأني كله، اللهم إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وعجز وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك فارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك»؟([12]).

لا بدَّ أن يقول: إن هذه حالة ذميمة صاحبها مهين ضعيف النفس كسلان، كما صرح به حيث وجه الذم إلى المسلمين المفتقرين إلى ربهم، وحسبك بقولٍ فساداً وبطلاناً وشناعة أن يبلغ هذا المبلغ؛ ولقد تمم كلامه في الافتقار إلى الله كلامه في التوكل، حيث فسر التوكل بتفسير طويل مردد يرجع حاصله إلى أن معناه العلم بنظام الكون، وأنه لا يتغير


ولا يمانعه ممانع، ولا يغير الله أسبابه، بإيجاد أو تقوية أو زيادة أو نقص، فأبطل التوكل من أصله ونفاه من أسه، والتوكل هو من أعظم أصول الدين وأعمال القلوب، التي لا تتم شروطها إلا بالإيمان التام بالله تعالى، والإيمان بقضائه وقدره، وأنه تعالى هو المتصرف ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الأمور كلها بيده وتحت تدبيره، وأن نواصي العباد بيده تعالى، وأن أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وجميع شؤونهم الجليلة والحقيرة منتظمة في قضائه وقدره، وأن أفعالهم من طاعات ومعاص داخلة في مشيئته وقدره، وأن الله جعل لهم الاختيار فيها ولم يجبرهم عليها؛ فإذا علم العبد ذلك حق العلم اعتمد على ربه اعتماداً حقيقياً في جلب مصالحه وفي دفع مضاره الدينية والدنيوية ووثق بتحقيق مطلوبه، وأن الله كافٍ من توكل عليه، فهذا التوكل الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، واتفق عليه جميع أهل الملل والأديان الصحيحة، وهذا قد أبطل ذلك كله؛ لأن من كان أصله نبذ الإيمان والحث على نفيه، وزعمه أنه لا تقوم الأسباب إلا برفض الإيمان، ومن كان مذهبه أن التدبيرات في العالم العلوي والسلفي كلها من تدبيرات الطبيعة ونظامها وتفاعلها وتطورها، ومن كان مذهبه في الوحي ذلك التفسير الذي نبهنا عليه، ومن كان رأيه في الجزاء الدنيوي والأخروي ما أشرنا إليه، ومن كان يدعو إلى رفض القديم الذي هو كتاب الله وسنة نبيه، ومن كان يأمر الناس بثقافة جديدة إلحادية ينبذ فيها تعاليم الدين وأخلاقه كلها، ومن صرّح بالكفر بجميع الأنبياء تصريحاً لا يمتري فيه كما سيأتي إن شاء الله نص كلامه، ومن كانت هذه الأصول الخبيثة وغيرها، أصوله التي يبني عليها، فلا تستغرب عليه إنكاره للتوكل على الله، وتكذيبه جميع نصوص الكتاب والسنة في معناه.


وكذلك من مباحث هذا الكتاب الضارة، التي بلغت في الفظاعة ووصلت في الخلاعة مبلغاً ما وصل إليه ولا تجرأ عليه أحد، له أدنى عقل وبصيرة من الأولين والآخرين، ما يبديه ويعيده ويكرره، أن الإنسانية لا تزال في تطورها وترقيها، حتى تصل إلى الاتصاف بصفات الرب العظيم، إن كان يثبته بلفظه فالإنسان بزعمه يمكنه أن يكون بكل شيء عليماً، وعلى كل شيء قديراً، وأنه قد علم ما كان في أول الموجودات، وما يكون من آخرها، وأنه علم مبدأ هذه الخليقة، وخلَّف علوم الرسل خلف ظهره، وهو يحاول علم ما سيكون في هذا العالم، بل علم مقدار ما بقي من عمر هذا العالم، وقد علم حالة العالم السفلي، وهو يحاول وسيدرك علم العالم العلوي وصنع الصور والأجسام، وهو يحاول أن ينفخ فيها الروح، فهو لا يستبعد إيجاده للحيوان الصناعي والإنسان الصناعي غير مبال بتكذيبه لله ورسله، فقد زعم أنه قد يتمكن أن يوجد الحيوانات، ويزعم أن التفريق بين الخالق والمخلوق، أكبر الأغلاط، وأنه يجب أن لا يفرق بين الرب العظيم وبين الإنسان، وأن من فرّق بينهما فلجهله وضلاله وغلطه، كما صرح بذلك في هذه الصفحات من كتابه المذكور (38) و(58) و(67) و(70) و(77) و(78) و(97). فانظر كيف رمى بهذا الأمر الفظيع، وهو تضليله للمفرقين بين الله وبين خلقه، كل رسول أرسله الله إلى الخلق، وفي مقدمتهم محمد صلّى الله عليه وسلّم فضلاً عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى.

فإن زبدة ما جاءت به الكتب السماوية والرسل العظام، هو توحيد الباري واعتقاد انفراده بجميع معاني الكمال المطلق، الذي لا تدركه العبارات ولا تتصوره الأفكار، وأن جميع المخلوقات في العالم العلوي والعالم السفلي، لا يمكن بل يستحيل ويمتنع؛ أن يساووا رب العالمين؛ وأن يماثلوه في صفة من صفاته، ولا نعت من نعوته، وأن أظهر القضايا الدينية والعقلية والفطرية، هو التفريق بين الخالق والمخلوق في كل النعوت، فالرب هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرزاق المدبِّر، وما سواه مرزوق مدبَّر، وهو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء، والعليم بكل شيء، والقدير على كل شيء، والعزيز بكل معاني العزة، والحكيم الجامع لمعاني الحكمة، والعظيم الذي له جميع صفات الكبرياء والعظمة، إلى غير ذلك من نعوت جلاله وصفات كماله، والمخلوق حادث بعد العدم له أول وآخر، وهو ضعيف العلم، ضعيف القدرة، والله تعالى هو الذي أعطاه ما أعطاه من علم وقدرة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فأعظم الخلق وهم الرسل والملائكة؛ قد اعترفوا أنه لا علم لهم إلا ما علّمهم الله، فمن سوّى بين الله وبين خلقه، فلا يَعْدُو إما أن يكون أعظم الخلق جهلاً وضلالاً واغتراراً، وإما أن يكون منكراً لرب العالمين جاحداً له من كل وجه، يريد أن يخادع ويماكر بإظهار الإيمان به. فهذا الكاتب خادع ومخدوع، بما رآه في تفوق الأمم المتقدمين في الصناعات والاختراعات والفنون العصرية، وأنهم لما مهروا في علوم المادة والطبيعة، فلا بدَّ أن يصلوا إلى العلوم التي لا يعلمها إلا الله، ويقدروا على ما ليس في وسع الخلق وطاقتهم القدرة عليه، وإن جاز أن يظن هذا الظن، فليعلم إن كان لم يعلم؛ أن الله تعالى خلق الإنسان في هيئة وخلقة، قابلة للترقي في العلوم والأعمال، التي هي في طوره وطاقته، وأمده بالعقل والفكر وإرشادات الرسل ومن سلك سبيلهم، في هداية الخلق وهيأ له الأسباب، التي توصله إلى أعلى ما يمكن الوصول إليه، من الأطوار البشرية وجعل له حداً ينتهي إليه، ويتعذر عليه مجاوزته، جعله يترقى في أشرف العلوم، وهو علم التوحيد والعقائد والأخلاق والأحكام، وفي علوم السياسة وتدبير الأمم وطبقات الناس، وسخّر له هذا الكون يستخرج آثاره ويستمد بقواه على صنائعه


ومخترعاته، فحصل للناس في هذه الأمور ارتقاء إلى حيث هيئ لهم كلٌّ على حسب مشربه.

أما الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين والأئمة المصلحين الهادين المهديين، فشربوا من العلوم الدينية وتغذوا بالمعارف الربانية المصلحة للقلوب والأرواح المرقية لها إلى أعلى الدرجات، وأكمل السعادات، وكملوا ذلك بعلوم الأحكام ومعرفة الحلال والحرام، وعلوم المعاملات والحقوق المتنوعة بين الخلق المبْنية على كمال العدل والقسط والصلاح والإصلاح، ومعرفة الفنون السياسية وجميع العلوم المعينة على الدين، المصلحة للأحوال الجالبة للمنافع الدافعة للمضار، حتى صاروا هادين مهتدين، بهم يهتدي المهتدون وبإرشاداتهم يقتدي الصالحون، فلم يصل لأحد علم ولا معرفة ولا خير إلا على أيديهم، وبهدايتهم وعلومهم ومعارفهم، توزن العلوم والمعارف؛ وبأخلاقهم وأعمالهم يتبين الصالح من الفاسد؛ فبلغوا شأواً وغاية لم يصل إلى قريب منها أحد من الأولين والآخرين، وصار الواحد من أتباع الرسل وأئمة الهدى، لو قيس به جميع من يعظمهم هذا الكاتب، ويخضع لمعارفهم وأحوالهم، من أئمة الملاحدة لم يصل إلى عشر معشار ما أوتيه من القوة العلمية، فضلاً عما يترتب على ذلك من أحوال القلوب والإنابة إلى الله تعالى، وكل من له معرفة يشهد بذلك، والكاتب اعترف به وشهد به حيث ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه «الصراع» ترجمة حافلة وفضَّله على جميع العلماء، وأنه بزّهم بسعة علمه وقوة إرشاده وسعة اطلاعه ومهارته العجيبة، ولا فرق بين المسلمين منهم والمبطلين، ولكنه كذّب نفسه وتناقض في هذا الكتاب، فيا ويحه المسكين أنى يؤفك ويصرف عن الحق. وأما في هذا الوقت الأخير فقد جدَّت الأمم الأفرنجية والأمريكية ومن تبعهم، واجتهدت في الفنون


العصرية، وصرفت لها أوقاتها وراحاتها، وأقبلت عليها إقبالاً عظيماً، فبلغت هذا المبلغ الذي لم يصل إليه أحد، وهي جادّةٌ ([13]) في السير إلى تكميل فنونها، وستصل بحسب ما يرى إلى ما تصل إليه قواها ومداركها.

وأما كون معارفهم لا منتهى لها وأعمالهم لا حد لها وأنها ستزاحم رب العالمين وستعلم كل شيء وتقدر كل شيء فهذا أمر يعرف بطلانه ببداهة العقول. نعم هي قد توصلت من علوم المادة الأرضية والحيوية وتسخير القوى السفلية إلى أمور لا يمكن إنكارها، أما كونها تتصل إلى عالم السموات والعالم العلوي وعلم ما كان وما سيكون، مما لا سبيل لها إليه بوجه من الوجوه أو أنها ستتمكن من إيجاد الحيوانات ونفخ الروح فيها فهذا ممتنع في العقول الصحيحة كما أنه ممتنع في الشريعة، فإن الله تفرد بغيوب لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب فضلاً عن غيرهم، وتفرد تعالى بأنه هو الذي يميت ويحيي لا يشاركه في ذلك مشارك من أهل السماء وأهل الأرض، فهنا يقال على سبيل التحدي لأي مخلوق يكون: قد صنع هؤلاء المخترعون وأهل المهارة في علوم المادة الصورة والصنائع المدهشة فهل في إمكانهم إيجاد بعوضة أو غيرها أو يردوا الروح إذا بلغت الحلقوم إلى


موضعها؟ ويقال: هذه الأمم قد أوجدت المراكب البرية والبحرية والهوائية وسخّروا مادة الكهرباء حيث يريدون ويشاؤون وفعلوا كذا وكذا مما هو داخل في قدرة الإنسان وحللوا العناصر الكبار والصغار فهل في إمكانهم أن يوجدوا أصغر مخلوق؟ وهل لهم طريق إلى العلوم الغيبية التي انفرد الله بعلمها؟ فهل عندهم علم متى يجيء المطر ومتى يموت الصحيح وما مقدار عمره وماذا يكسب الخلق في مستقبلهم على سبيل العلم الجازم؟ ونهاية ما عندهم التكهنات والتخرصات بحسب ما يشاهد من الأسباب، وهل لهم سبيل إلى العلم بأحوال البرزخ والآخرة مما أخبرت به الرسل وكيفية ما فيهما، وعند هذا الكاتب أن الإنسان لا يتعذر على علمه ولا على قدرته شيء، فتأمل هذا القول الذي لم يصل إليه أحد من العقلاء ولا الحمقى.

وفي كتابه في مواضع متعددة اعتراف بانفراده عن الناس بكثير مما ذكرناه ونذكره عنه من الأقوال الباطلة وأنه أدرك ما لم يدركه الرسل وأتباعهم، وهذا مع ما فيه من العجب والاغترار البليغ، والكذب الصراح، اعتراف بالشذوذ ومخالفة العقلاء كلهم، وهذا من التجري والافتراء بمكان سحيق، فالمشركون واليهود والنصارى، لم يجرؤوا على ما يقارب هذا القول، وقد اتفق جميع المثبتين للخالق؛ من أهل الأديان وغيرها، أن المخلوق لا يمكن أن يساوي الخالق بوجه من الوجوه، ونهاية ما بلغ شرك المشركين؛ أنهم جعلوا لهم آلهة يزعمون أنها يعمل لها من العبودية، ما يستحق لله مع اعترافهم أنها مخلوقة عاجزة ناقصة، وأنهم ما عبدوهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى، فتباً لمن صرح بمقالة يتحاشى ويتنزه عنها اليهود والنصارى والمشركون. وأما قصور هؤلاء المتأخرين في علوم التوحيد والدين، مع مهارتهم في فنون الطبيعة، فهذا من آيات الله وبراهين قدرته، أن تجد أناساً في غاية


 الذكاء والبراعة، وقد أدركوا من العلوم والفنون والعصرية، ما عجز عنه الأولون وحار فيه الآخرون، ثم هم مع هذه البراعة والذكاء المفرط، في هذه الأشياء تجدهم في غاية الجهل والقصور العظيم والضلال البعيد عن العلم بالله وتوحيده، وما يستحقه من العظمة والجلال، وتجدهم يشاهدون من خوارق علم الإنسان، ما تخبرهم به الرسل عن الله وأخباره وغيوبه وأحوال الجزاء، وهم مقيمون على الكفر والتكذيب؛ أفبِقُدْرة الإنسان يؤمنون، وبقدرة الملك العظيم يكفرون؟ فهؤلاء برعوا في أمور خاصة ضئيلة بالنسبة إلى العلوم النافعة والمطالب العالية، التي لا سعادة للخلق ولا فلاح لهم إلا بها، وعموا عن المقاصد، فبذلك يعلم أن الأمر أمر الله والقضاء قضاؤه، وأن إعجاب الإنسان بنفسه، وتيهه بمعارفه الضئيلة، أكبر حجاب بينه وبين الله، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وشقى.

ومن فروع غلوه في الطبيعة، أن ادّعى وكابر، وكذَّب ما جاءت به الرسل، وأخبر الله به في كتابه ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم عن آدم أبي البشر وزوجه، وعدوهما إبليس وما قص الله من أنبائهم، فتجرأ هذا الرجل وترك ما أخبرت به الرسل والكتب السماوية، وسلك مسلك ملاحدة الطبائعيين، الذين نظروا نظرية خرافية؛ تسمى نظرية دارون الإنكليزي، مآلها تسلسل الإنسان عن القرد، والقرد عن كلب أو حيوان دونه وهكذا خطّأهم فيها قومهم فضلاً عن الرسل وأتباعهم، حيث زعم أن الإنسان الأول في طور شبيه بالحيوان، أو هو الحيوان وأنه بقي مدداً طويلة ملايين أو ملايين الملايين، حساباً جزافاً لا ينطق ولا يحسن الخطاب ولا يرد الجواب، وإنما يتناعتون ويتصايحون تصايح الأجنة، في أول وضعهم من بطون أمهاتهم، وأنهم مكثوا تلك المدد العظيمة، وهم على هذا الوصف، ثم إنهم ارتقوا عن هذا الانحطاط، فتمكنوا من


الإشارات، وصار بعضهم يشير إلى بعض، من غير أن يهتدوا إلى نطق، ثم مكثوا ما شاءت الطبيعة ـ إلا ما شاء الله عنده ـ حتى ترقّوا، فصاروا يتمكنون من النطق، فلم يصلوا إلى هذا الطور، حتى مضت عليهم أحقاب بعد أحقاب؛ وهذا مع ما فيه من تكذيب جميع الكتب والرسل، فإنه أخبث التخرصات، وأبعدها عن الحقائق، فأي طريق دلهم على هذا التخرص الباطل، وأي سند أوصلهم إلى هذه الجراءة، ولكن يأبى الله تعالى، إلا أن يفْضح النابذين لدينه المكذبين له ولرسله، تركوا علوم الرسل والحقائق اليقينية، وتبعوا التخرصات وما خرصوه وتخرصوه في الحفريات، وما يجدونه من جثث بعض الحيوانات، فبعداً لمن اختار هذه الخرافات والخزعبلات، على ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، وويل للكافرين من عذاب شديد، الذين يكذبون الله ورسوله ويؤمنون بكل شيطان مريد.

ثم انظر إلى المبحث الأخير من كتابه الذي عنوانه: (المشكلة التي لم تحل) في صفحة (315) وما بعدها إلى آخر كتابه، كيف أتى فيه بالطامات والفظائع، وأنكر المنكرات، وكيف حاول وصرح بأن الإيمان بالله وإثبات وجوده وربوبيته وأفعاله، من أشكل المشكلات، وهي أصل الأمور وأوضحها وأجلاها براهين، ثم صرَّح بهذه الجراءة التي ما وصل إليها أحد من البشر، إلا فرعون وأشباهه، الذين أنكروا رب العالمين وجحدوه بالكلية. وقد صرح أن الأولين والآخرين لم يحلوا هذه المشكلة، فجميع الكتب المنزلة من الله: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وجميع ما قالته الرسل عموماً وقاله سيدهم وإمامهم خصوصاً، وجميع العلماء الربانيين والهداة المهتدين والحكماء والأساطين، الجميع عنده لم يعرفوا الإيمان بالله، ولم يحلوا هذه المشكلة، التي زعمها فبقيت عند هؤلاء مشكلة الإيمان في غاية


الإشكال والتعقيد، عند هذا الكاتب، فيا ويحه ما أعظم هذه الطامة، وما أشنع هذه الجراءة على الله وعلى رسله وكتبه، وعلى جميع أهل العلم، وكيف طاوعته نفسه على هذه الطامة الكبرى، وكيف لم يكن له عقل يحجزه ويردعه عن هذه الشناعة التي صار بها مضرب المثل في الإلحاد الجنوني والزندقة المتفننة، سبحان الله العظيم، وصدق رسوله النبي الكريم، هذا الدين العظيم، الذي وضح الحقائق الأصولية والفروعية، وعلوم الباطن والظاهر، والعلوم المتعلقة برب العالمين، والمتعلقة بالمخلوقين، بيَّن كل شيء وأوضح كل شيء، وهذا الرسول الكريم [(صلى لله عليه وسلم)] الذي هو أعلم الخلق على الإطلاق وأكملهم في جميع المعاني والصفات، إذا قصر هذا الدين، وهذا الرسول [(صلى لله عليه وسلم)] عن بيان هذا الأصل، الذي هو أصل الأصول والأساس الأكبر، لأمور الدنيا والآخرة، فأي شيء بيَّن ووضَّح؟ وإلى أي شيء هدى وأرشد؟ وإذا لم يحلَّ ما زعمه هذا المفتري مشكلاً، فأي مشكل حلَّه؟ وأي علم أبانه ووضحه؟ لقد كان هذا الدين على زعم هذا الكاتب، من أعظم النكبات على البشر، نقول: على زعمه على وجه الإلزام، وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه، وعلى زعمه ما زاد الناس هذا الدين الكامل ولا الرسول العظيم صلّى الله عليه وسلّم إلا شراً ولا أوقعهم إلا في أعظم الضرر، فسبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. هذا الأصل الكبير قد وضحه الله في كتابه، ووضحه رسوله توضيحاً حتى بلغ من وضوحه أن كان أظهر من الشمس في رابعة النهار، وأبلغ من جميع المسائل كلها، فلا يوجد في الدنيا أي مسألة إلا وكان بيان هذا الأصل أعظم من بيانها، وبراهينه وأدلته أكبر من براهينها وأدلتها.

لقد كاد الكتاب والسنة، أن يكونا تأصيلاً وتفصيلاً لهذا الأصل العظيم، وأما البراهين العقلية والفطرية فكلها متفقة على الاعتراف بالله، حتى المشركون الذين يجعلون معه مخلوقات يدعونها ويصرفون لها شيئاً، من العبادة معترفون أن الله هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، وقد قالت الرسل: أفي الله شك؟ وقد عظمت هذه المسألة أن يبرهن عليها كما قيل:

وليس يصحُّ في الأذهان شيء       إذا احتاج النهار إلى دليل

وهذا المفتري بعد المحاولة والمجادلة، وترديد الكلام والهذر، الذي لا حاصل له؛ زعم أنه انفرد بحلها، فاستنتج بعقله الجنوني وجراءته العظيمة، أن حلها الوحيد هو أن ينبذ الناس الإيمان وراء ظهورهم، ويكونوا معانقين للطبيعة، منسلخين من الدين والشريعة بالكلية، وأنهم إذا فعلوا ذلك فقد حلّوا هذا اللغز المعقد، وإن بقي علهم بقايا من الإيمان فإنهم في قيود وأغلال قد تعذر عليهم النهوض والرقي.

فيا ويحه أين قوله إنه مؤمن بالله وبكل ما أخبر به؟ وهل بلغ أحد من الملحدين هذه الهاوية السحيقة؟ لقد وضح كل الوضوح، وزال الإشكال، أن هذا الرجل مخادع، قد سلك نهجاً جديداً في الدعاية الإلحادية؛ أتى على جميع الأديان من أصلها ليزيلها ويقلعها؛ فهو بهذه الدعاية قد تصدى لمحاربة الأديان السماوية كلها، ويحه المسكين الذي أضحى فريسة الملحدين، إذا لم يثبت أصل الإيمان فأي شيء يثبت؟ وإذا لم يؤمن بالله فبأي شيء يؤمن؟ {{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}} [الجاثية: 6] فمن وصلت به الحال إلى هذا الحد من الجحد، لم يبق للكلام معه فائدة لأن المكابر المباهت تريه أظهر الأشياء فينكرها.

يزعم هذا الكاتب أن إيمان المتدينين يمنعهم من مباشرة الأسباب، وإن باشروها فعلى وجه ضعيف؛ هذا حاصل المعنى الذي طوّل فيه الكلام، وردده واستنتج منه، أنه يتحتم على الناس رفض الإيمان بالله وبأقداره، حتى يخرجوا من غلهم وحبسهم، وينطلق سراحهم، لقد صدق هذا الكاتب في أن الإيمان حبس لهم، ولكن عن التهتك في الأخلاق الرذيلة، وعن الانغماس في الفجور والفواحش الظاهرة والباطنة، وقيد لهم عن التجري على الظلم للخلق، في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وجميع حقوقهم، وأن أهله لا يمكن أن يكونوا إباحيين ما داموا متمسكين به؛ لكن بتركه والإعراض عنه، تنحل عنهم القيود الشرعية فيصيروا كالبهائم، وتكون أمورهم فوضى.

وهذا ما أراده هذا الكاتب وهو يعلم حق العلم، أن هذه الثمرات الجليلة من أعظم محاسن الدين وأجلّ ثمراته، ولكنه يسعى أحث السعي لقطعها {{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}} [التوبة: 32] . فهذا الرجل لم يسلك مسلك الحذاق من الملحدين؛ الذين يموهون بأشياء تروّج على كثير من الناس، ولكنه جاء إلى أظهر الأشياء وأجلاها وأوضحها، فأنكره غاية الإنكار، وكابر فيه أعظم مكابرة. زعم أن الإيمان بالله يضعف القوى ويوهن العزائم؛ والحال أنه لا تقوم القوى كلها، ولا تنهض إلا بالإيمان بالله، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فكل حول وقوة مستمدة من حول الله وقوته، والعبد إذا وكل إلى نفسه، فقد وكل إلى ضعف وعجز ونقص من جميع الوجوه، فالمؤمنون بالله حقاً هم أقوى الخلق قلوباً، وأبلغهم شجاعة، وأصبرهم على المكاره، وأثبتهم في المواطن الحرجة؛ لإيمانهم الكامل بالله ورجائهم لثوابه، وخوفهم من عقابه. فالإيمان هو مادة كل خير، وكل صلاح وإصلاح، وبه تندفع شرور الدنيا والآخرة.

ثم مع ذلك الترويج والجحد للإيمان بالله، يباهت فيزعم أن أهل الدين لا يمكنهم فهمه على وجهه؛ فعلى قوله لم يفهمه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ولا العلماء الربانيون ولا سائر أهل العلم من


المسلمين، وحيث لم يفهموه عنده، يتعين عليهم رفضه والأخذ بطريقة الملحدين؛ فأين الإيمان والإسلام الذي يدعيه هذا الرجل، ويزعم أنه يغار على المسلمين وهو متصدٍ لمحاربتهم ومحاربة دينهم؟ وأين العقل الذي يبقى على صاحبه، ويجعله متماسكاً بين الناس؟ فإن هذا تهور واستهتار ومناداة على عقله بالسفه والجنون {{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}} [البقرة: 130] وهو مع هذا يبدئ ويعيد في الاستهزاء بشرائع الدين وبأهله وحملته على وجه الوقاحة، كدأب الحمقى والمجانين. فالمؤمن يحمد الله على العافية من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى، ويسأل الله أن لا يزيغ قلبه، ولا يجعله مُثلة بين الخلق، وأن لا يكون كمن آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.

ومن بهرجات هذا الكاتب حين قرر أن المسلمين لا يفهمون دينهم، ولا يمكنهم فهمه على حقيقته، استشهد على ذلك بما قصه عن الرازي والآمدي وابن أبي الحديد، وأمثالهم من الحائرين في معرفة الله، وإن كان بعضهم قد تراجع عن حيرته؛ فزعم هذا الكاتب أن المسلمين كذلك، حائرون لا يهتدون إلى أصول دينهم، ولم يعلم أو علم وتجاهل أن هؤلاء الحيارى إنما حاروا في معرفة الله حين رفضوا علوم الدين في هذا الباب، وتركوا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأن حيرتهم في هذه الحال من أدل الدلائل على كمال الدين، وأن كل من ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهذه صفة لكل من كذب بالحق وتركه، لا بدَّ أن يمرج أمره، كما قال تعالى: {{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}} [ق: 5] فانظر إلى هذا الرجل كيف لما كذب بالحق وترك الإيمان بالله، ورفضه ودعا الناس إلى رفضه، كيف تقلبت به الأحوال، ولعبت به الأهواء، وصار ينادي ويدعو إلى الإلحاد


بعدما كان يدعو إلى دين رب العباد، فالمسلمون ولله الحمد قد فهموا الإيمان فهماً كاملاً، أعظم من فهم أي قضية كانت، فهم أعظم الناس يقيناً، وأثبتهم إيماناً، وأصحهم اعتقاداً، لأنهم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، واستقاموا على الصراط المستقيم، حيث عدل غيرهم عن هذا الطريق.

ومن فروع نَبْذِه الإيمان بالله وبما أخبر به على ألسنة رسله، إنكار الملائكة والجن والأرواح، وسياقُهُ لهذا الإنكار، بأساليب تهكمية وعبارات سخرية، بما أخبر الله به وأخبرت به رسله، ونطقت به الكتب، واعترف به علية الخلق، وسائر أهل الأديان السماوية، وجاءت به نصوص الكتاب والسنة في نصوص كثيرة، زادت على التواتر، فأقر بها المسلمون واعترفوا بها، وبكل ما أخبر الله به ورسوله عن الملائكة والجن، وعن أحوال الروح في البرزخ وغيره، ولم ينكر ذلك إلا جاحد ملحد مكذب لله ورسوله، وقد تحاذق هذا الرجل حين نصر قول من كذب بهذه الأصول العظيمة؛ فجمع كل ما يقدر عليه في كتابه من خرافات الخرافيين، عن الجن والأرواح، ونسب ذلك إلى المسلمين، ليتوسل به إلى القدح في الدين ظناً منه أنه يروج على الناس، ثم لما قرر هذا التكذيب بعبارات كثيرة في صفحة (300) وما بعدها، شعر أن الناس لا بدَّ أن يقولوا: هذا كلام مكذب بالملائكة والجن والأرواح، فقال نفاقاً: «ليعلم بعد هذا أننا ممن يؤمنون بالأرواح والملائكة والجان وبما أخبر الله به...» إلى آخر ما قال. فانظر إلى هذا التناقض والبهرجة التي لا تخفى على من له أدنى عقل، ولكن من غروره بنفسه، يحسب أن الناس كالبهائم. ومن كذَّب بالمدبرات أمراً، وتهكم بما يذكر في الكتاب والسنة، ويذكره أهل العلم من أنواع التدبيرات في العالم العلوي والسفلي، التي تتولاها الملائكة بأمر الله، لم يستغرب بعد ذلك تكذيبه بتأثير العين، وتحريف النصوص الواردة فيها، وتفسيرها بما لم يفسرها به مسلم بل ولا عاقل.

ومن كانت هذه الأصول عنده ترهات وخيالات، لم تستغرب عليه ما نصره من سفور النساء وإيجابه لمخالطتهن الرجال الأجانب، في جميع المجامع الصغار والكبار، وأنه ليس للرجال عليهن درجة، ولا لهم فضل عليهن، وأن هذا السفور والتهتك بزعمه هو عين الصلاح، وأنه لا يمكن إصلاحهن وثقافتهن وتعليمهن إلا بهذه الطريقة السافلة، وأن خيار المسلمين من القرون الماضية، من الصحابة والتابعين ومن تمسك بهديهم إلى اليوم من خيار المسلمين، أن هؤلاء كلهم من أولهم إلى آخرهم من الجهلة الهمج، حيث صانوا نساءهم عن التبرج والتهتك.

ثم باهت في ذلك ناقلاً مستحسناً أن الشر الحاصل من النساء المصونات المحفوظات بحفظ الله، ثم بحفظ أوليائهن أهل الغيرة على الدين وشرائعه، أعظم من الشر الحاصل من النساء المتهتكات المزاحمات للرجال في جميع ميادين الحياة؛ ثم نقله القبيح واستحسانه في هذا الموضوع كلام الساقطين من الإباحيين الذين لا يرون شيئاً حراماً خبيثاً، بل ما اشتهاه الإنسان فعله ولا قبيح عندهم إلا ما لم تشتهه النفوس؛ كما نقله في صفحة (103) وما بعدها فيا ويح هذا، ماذا ترك للفضائل الدينية والآداب الدينية والصيانة الإنسانية؟ لقد رفضها كلها، وهذه الطريقة التي استحسنها هي الطريقة الوحيدة للإباحية؛ إباحة جميع ما حرّم الله من الشرك والفواحش والمنكرات.

إذا تقررت هذه المباحث الخبيثة والمنافية للدين من كل وجه، الدالة على انحراف عقل صاحبها، بعد انحراف دينه فلا تستغرب بعد هذا ردّه وتكذيبه للأدلة الشرعية، وتحريفه لنصوص الكتاب والسنة،


وترويجه بجمع الأحاديث الصحيحة مع آثار باطلة، فيرد الجميع، وتفسير النصوص بغير تفاسير المسلمين، نصرة لباطله، وإنما هي من جنس تحريفات القرامطة الباطنية، ولنذكر نموذجاً يسيراً من هذا النوع؛ ليُعرف بذلك إلحاد هذا الرجل في ذلك.

قوله في قوله تعالى: {{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}} [الذاريات: 21] ذكر في صفحة (44) أن معناها: «أن الله نعى على المسلمين الموجودين وقت نزول القرآن ويعاتبهم، كيف لا يبصرون ما في أنفسهم من الآيات؛ وأن الصحابة والقرون المفضلة؛ ومن بعدهم من علماء المسلمين، انطوت قرونهم، والعتاب موجه إليهم، واللوم يقرعهم، لكونهم لم يبصروا ما في أنفسهم، من الاستعداد لاستخراج كنوزها لا لاستخراج كنوز الأرض، حتى جاء هذا الوقت فانطبقت عليهم هذه الآية: {{وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}} [الفتح: 26] لكونهم العاملين بها، حيث عمى عنها الأولون، وعلِموها حيث جهلها السابقون».

فهذا التطبيق تحريف لم يسبقه إليه أحد من المسلمين، ولا ممن يدعي الإسلام ومعناه الجلي عند هذا أن ملاحدة الأمم أكمل وأفضل وأعظم عملاً بهذه الآية من السابقين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى آخر الوقت؛ سبحانك هذا بهتان عظيم.

ومن تحريفه لحديث: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...» إلى آخر الحديث ([14]). قال في صفحة (40): إن الحديث يدل على أن العبد غير مقيد، وأنه لا يمتنع على قدرته شيء، وأنه لا حد يقف عنده علمه وقدرته.

نزله على ذلك المبحث الخبيث السابق، أن العبد في إمكانه مزاحمة رب العالمين فهذا الإلحاد والتحريف لكلام الله وكلام رسوله، لم يقل أحد ما يشبهه إلا الملاحدة من أهل وحدة الوجود، ومعنى الحديث معروف ولله الحمد بين المسلمين، أن ذلك يدل على تسديد الله وتوفيقه ومعونته الخاصة لعبده القائم بمحبوباته من الفرائض والنوافل.

ومن ذلك ما قاله على قوله تعالى: {{مَا أَشْهَدْتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}} [الكهف: 51] في صفحة (61) محتجاً بها على قوله الباطل، حيث زعم أن علم الإنسان محيط بمبادئ خلق هذا العالم فإنه يزعم أن الآية لا تنفي العلم، حيث قال: ما أشهدتهم، ولم يقل: ما أعلمتهم، وزعم أنهم كانوا عالمين وإن لم يكونوا مشاهدين، وهذا لم يقله أحد من المفسرين. أما تفسيرها المعروف عند المسلمين، فهو أن الله أنكر على الكافرين به المكذبين لرسله، الذين زعموا أن أحداً من المخلوقين يستحق من العبادة والخضوع، ما يستحقه الله فكذبهم الله وأخبر أن جميع الخلق ليس لهم مشاركة لله بوجه من الوجوه، فلم يشهدهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، وهذا نفي لطرق العلم كلها، يعني فليس لهم سبيل إلى ذلك فإنهم إذا لم يشهدوا ذلك، فهم لم يعلموه وإذا لم يعلموه فشهادتهم ودعواهم لاستحقاقها العبادة، دعوى في غاية البطلان والتقول على الله تعالى، وهي نظير قوله تعالى: {{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ}} [القصص: 44] .

ومن تحريفاته التي تقشعر منها الجلود، ما ذكر في صفحة (61) و(67) على قوله تعالى: {{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}} [الروم: 7] أن المراد بذلك القرن الذي أنزل عليهم، وأوائل هذه الأمة القرون المفضلة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأن معناها أن علومهم لم تصل إلى بواطن الأشياء، وإنما علمهم بسيط جداً، وأنهم في ذلك الوقت في طور الطفولية، بل في طور قريب من طور الحيوانات، ولم يبلغوا رشدهم، وإنما الذين بلغوا رشدهم عنده ملاحدة هذا الزمان، الذين علموا من علوم المادة ما لم يعلمه الأولون، لأن العلوم النافعة عنده هي الفنون العصرية فقط، وأما الأصول والعقائد وعلوم الأخلاق وتوابعها التي علم الطبيعة فرع من فروعها، فإنها على قول هذا ليست من العلوم التي يؤبه لها، وكفى به خذلاناً، أن تصل به الحال إلى هذا.

والآية ولله الحمد واضحة لا إشكال فيها، وأن هذا وصف للكافرين المكذبين لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، أخبر تعالى أن علومهم ظاهرة، يعلمون ظاهر الحياة الدنيا دون باطنها، وأنهم في غفلة عن الآخرة، فهذا السبب الذي أوجب لهم، ردَّ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وإلا فلو علموا ظاهرها وباطنها المقصود منها؛ لبادروا إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كما فعله أهل العلم الحقيقي الذين بادروا لما رأوا الآيات البينات إلى الإيمان به، لكن هذا الرجل يطبّق هذه الآية على خيار الخلق، وأكمل القرون على الإطلاق، ويسخر من العالمين بباطن الدنيا المستعدين للآخرة، القائمين بعبودية الله، الجاعلين الدنيا وسيلة إلى الدين، وهو يريد ويحاول في كتابه هذا أن تكون الدنيا هي المقصودة والغرض الأصلي، وأما الآخرة فإن كتابه هذا كفيل بتزهيد الناس فيها، وفي عبودية الله، وفي الجزاء الأخروي؛ فأي إيمان وأي إسلام وأي عقل صحيح بقي بعد هذا؟

ومن ذلك تفسيره لحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» ([15]) بأن


الفطرة هي الخبث والشر، وأن الإنسان بطبعه خلق شريراً، وأن الفطرة معناها أنه مفطور على الشر، ويرفض جهاراً تفسير أئمة الهدى لهذا الحديث، بأن معناه هو أن الله فطر عباده على قبول الخير علماً وعملاً، وأن الله تعالى جعل في خلقتهم استعداداً تاماً لقبوله نعمة منه وفضلاً، كما قال تعالى: {{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ}} [الروم: 30، 31] الآية ويلزم على قوله أن يُستَدْرَكَ على النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» ([16]) فيقال: وأيضاً لم قلت: أو يجعلانه مسلماً؟ لأن قبوله للجميع على حد سواء عند هذا، وفي نفس الحديث والآية الكريمة حيث قال: «كالبهيمة الجمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها»(1) أي: كالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق كاملة الأعضاء، حتى يجدعها الناس، بقطع الآذان أو بعض الأعضاء، كذلك الآدمي خلقه الله مفطوراً على الاستعداد لمعرفة الحق وقبوله، فلو ترك وفطرته ولم يعرض له ما يغيّرها من التربية السيئة، لما اختار غير الدين الحق، وعند هذا أن الفطرة معناها الشر والهمجية، وهذا منافٍ للآية والحديث.

ومن أعظم الجرأة، جراءته على قوله تعالى في صفحة (66): {{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}} [الأعراف: 198] قال: يعني بذلك الذين اجتمعوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به من الصحابة الذين هم خيار الخلق وأعلمهم، جعلهم هذا الرجل ينظرون الظواهر، ولا يبصرون البواطن، فهم في طور الأطفال، كما تقدم التنبيه على هذا مراراً، وهذا من جنس تفاسير الزنادقة من الباطنية والإسماعيلية والقرامطة؛ والآية


الكريمة عند جميع المسلمين معناها ظاهر، وأن هذا وصف للكافرين بالرسول أو وصف للأصنام، فمعناها: «أن الكفار تراهم ينظرون إليك نظراً ظاهراً وهم لا يبصرون ما فيك من المعاني الجليلة والأوصاف الجميلة والآيات التي تدل أكبر دلالة أنك رسول الله حقاً؛ أو أن هذه الأصنام صور بلا أرواح تراها كأنها تنظر إليك وهي لا تبصر لأنها جمادات».

ومن ذلك حقّ للراوين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الحديث الذي في مسند البزار: «أكثر أهل الجنة البله» ([17]) فزعم أنهم بذلك يمدحون البلاهة ويحثون عليها، وجمع في هذا خرافات الخرافيين؛ ونسبها لحملة الشريعة ورجال الدين، وكذّب الحديث المذكور.

وتفسير الحديث ظاهرٌ عند المسلمين؛ فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقل: أهل الجنة البله؛ أو لا يستحق الجنة إلا البله، بل قال أكثر أهل الجنة البله، فهم لسلامتهم من الغل والحقد والصفات الذميمة، صاروا مستحقين للجنة، لئلا يظن الناس أن أمثال هؤلاء أن الله لا يرفع قدرهم؛ مع أن في كتاب الله وسنة رسوله من الثناء على أهل العقول وأولي الألباب والأحلام والنهى والآراء الرزينة، والحث على كل أمر فيه زيادة اللب والعقل، فكم في كتاب الله وسنة رسوله من ذلك، من النصوص ما يدل على ذلك، فلا منافاة بين الأمرين؛ فالدين يحث على السعي في تكميل العقول، ويثني غاية الثناء على أولي الألباب، ويخبر أنهم خواص الخلق، ومع ذلك فكل من آمن وعمل صالحاً ولو لم يصل إلى درجتهم من البله الأغرار، فإنهم سعداء، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

ومن العجائب تنزيله الحروب الحاضرة بين الأمم الإفرنجية والأمريكية وتوابعهم على قوله تعالى: {{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}} [البقرة: 216] فجعلها المراد من الآية، وقد أجمع المسلمون على أن المراد قتال المسلمين للكفار، فهو المكتوب المفروض، وهو الذي له الآثار الطيبة، وأما هذه الحروب التي بنيت على الجشع والظلم والقسوة وعدم الرحمة، فأين خيرها وآثارها الطيبة؟ وقد عمّت البسيطة هلاكاً وفناءً وتدميراً، وهي لا تسكن في وقت إلا للاستعداد لمجازر وشرور يُنسي آخرُها أولها، فيا ويح من ألحد في آيات الله.

ومن تحريفاته لحديث أنس «أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يطوف على نسائه بغسل واحد» ([18]). قال في صفحة (120) أن ذلك مجرد دوران لا مسيس معه، وتهكم بأنس وغيره ممن يفسرون ذلك بالمسيس الذي هو معنى الحديث عند جميع المسلمين، حتى جاء هذا الرجل فأنكر عليهم وكذّبهم، وهذا الوهم الكاذب منشأه أنه ميراث ممن ورثوا القدح في الأنبياء بكثرة الأزواج، فأنزل الله منكراً ومكذباً لهم قوله تعالى: {{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}} [الرعد: 38] .

وأي نقص في كثرة أزواجه، وفي قيامه التام بحقوقهن، وذلك من أجلِّ مناقبه، حيث كَمَّل الحقوق الكثيرة، التي عليه وحيث كان في زوجاته من المنافع والمصالح للأمة ما لا يعد ولا يحصى.

ومن جرأته العظيمة ما ذكره في صحفة (126) وما بعدها من الصفحات من تكذيبه لجميع النصوص الواردة في الزهد في الدنيا والصبر على البلاء والفقر، وهي جزءٌ كبيرٌ من أجزاء الدين كذَّب ذلك أجمع وباهت بأمر يعرف كذبه به كل أحد، ثم روّج كعادته القبيحة بذكر أحاديث لا زمام لها ولا خطام، حشدها في كتابه وتوسل بها إلى رد النصوص الصحيحة؛ ورمى جميع المسلمين من أولهم إلى آخرهم بقبول تلك الآثار الساقطة، وتقدمت الإشارة إلى محاسن هذا الدين، وأنه يحث على جميع الوسائل والمقاصد وإصلاح الدين، وما يعين عليه من الدنيا بعكس ما كان يسعى إليه هذا الكاتب، يحضُّ على الزهد في الآخرة، بل يسخر بأهلها العاملين، وبما يذكر من الجزاء الدنيوي والأخروي.

ومن انحرافاته الفظيعة، ما نقله تفصيلاً عن التوراة ليس في التوراة، بلْ في الأمثال المنسوبة لسليمان عليه السلام في الترغيب في الدنيا، ثم قابل بينه وبين ما جاء به القرآن والدين الإسلامي في صفحة (177) وما بعدها، وغلَّط القرآن والكتب الدينية، حيث علقت السعادة والفوز والفلاح في العاجلة والآجلة على العبادة والتقوى والصلاح، وفضَّل ما نسب إلى التوراة في هذا الموضوع على الكتاب والسنة تفضيلاً عظيماً، بل لم يجعل لهذا الأخير فضلاً بوجه من الوجوه، بلْ حمل على هذه النصوص وزعم أنها هي التي خدرت همم الناس وثبّطتهم ومنعتهم من الرقي، وفيه كالتصريح بإنكار عقوبات الله الدنيوية والأخروية.

ومن ذلك في صفحة (296) تهكمه بحديث أنس: «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه» ([19]) وهو في الصحيح صحيح البخاري، وتهكّم به وبنقلته وأنكره إنكاراً عظيماً، والسبب في ذلك أصله الخبيث حيث فضَّل ملاحدة الزنادقة من الأولين والآخرين على الصحابة وخير القرون، وعرف أن هذا الحديث من الأدلة الكثيرة الدالة على كذبه وبطلان قوله؛ وزعم أن اعتقاد فضيلة الأولين من الصحابة والتابعين منعت الرقي، فهذه الدعاية لنبذ الدين التي يسعى لها هذا الرجل سعياً حثيثاً، ويؤصل أصولاً خبيثة يرد لأجلها الأصول الشرعية، فهذا في كتابه نهج لهذه الدعاية الإلحادية، دعايات كثيرة تارة بتحريفه لنصوص الكتاب والسنة، وتارة بالقدح في الصحابة والتابعين وحملة الدين من خير القرون الذين لم يصل للناس هذا الدين إلا على أيديهم، وقد أكثر فيه من الاستهزاء والسخرية العظيمة، حتى كادت جميع مباحثه المنحرفة تكون سخرية واستهزاء وتهكماً بالدين والشريعة وحملة الدين.

فهنا يقف العاقل وقفة تعجب فيقول: هل ترى هذه السخريات


والتهكمات الصادرة من هذا الرجل، الحامل عليها الإعجاب العظيم  بالنفس واحتقار غيره؟ فإنه لا يستغرب؛ فإن الخيالات متى استحكمت في  النفوس تجسَّمت وصارت لها السيطرة على عقل الإنسان، وعدم الإبقاء منه على مكانته بين الناس، فلا يستغرب بهذا أن ذكاءه وفطنته اضمحلت في ضمن هذه السيطرة حتى تلاشت، فلم يكن له إحساس بما يصدر منه، وأنه وصلت به الحال إلى ما يشبه الجنون وعدم الشعور، فإن الذين معهم مسكة من العقل المعيشي، دع العقل الديني يبقون على أنفسهم، وعلى مكانتهم عند الناس، وفي قلوب من يعظمهم، فلا يرضى أحدهم أن تكون السخرية والاستهزاء ديدنه في الأمور العادية فضلاً عن أن توجه إلى دين الله وإلى رسله وأتباعهم؛ ولكن يأبى الله إلا أن يفضح من تعرض لدينه وشرعه وأوليائه في الدنيا والأخرة.

وإذا كان من جملة مقالاته الشنيعة الفاضحة، ما صرَّح به في صفحة (317) بقوله الصريح: (إن المتديِّنين على اختلاف ديارهم وأزمانهم وأنبيائهم وأمزجتهم وأجناسهم عجزوا أن يهبوا الحياة شيئاً جديداً وأن يكونوا فيها مخلوقات متألقة)، فهل بعد هذا التصريح بنبذ الديانات السماوية كلها، والكفر بجميع الأنبياء وتحقيرهم، وتفضيل غيرهم عليهم شيء، وهل وراء هذا التقدم إلى الكفر غاية ونهاية، وكم له في كتابه هذا من هذا النوع شيءٌ كثيرٌ. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.

واعلم أن عباراته في هذه المواضيع، التي نبهنا عليها كثيرة مكررة بعبارات متنوعة لم ننقلها خوف طول الكلام لغير فائدة، ولكننا أتينا بمقاصدها؛ وأرشدنا لمن يحب الوقوف عليها إلى صفحاتها من كتابه الأغلال المطبوع؛ وكذلك في رسالتنا هذه لم نكثر من ذكر الآيات والأحاديث الرادة لقوله؛ لأن الكتاب والسنة كلها رد لقوله لأنه نفى جميع أصول الكتاب والسنة وأراد قلعها من أساسها ولأن المقام يقتضي ذلك، فإن المناظرة مع من يعظم الكتاب والسنة نوع، ومع من لا يراهما نوع آخر.

ونحمد الله على ما نبهنا عليه في كتابه من الفظايع والشنايع التي لا يقولها إلا من انتهى إلحاده وكفره، لم نستعمل معه في خطابه الخاص إلا الرفق واللين اتباعاً للكتاب والسنة في خطاب المحاربين المنحرفين أن يقال: قال فلان وفعل فلان؛ وأما عند ذكر الأقوال الشنيعة، فيذكر ما احتوت عليه من الضرر والمناقضة للأديان، ومرتبتها في البعد من الدين، وبيان ما على قائلها من الضلال والغي، فيكون القدح فيه موجه عليه من أقواله ويبين ما على صاحبها من نقص الدين والعقل والرأي، وليس لنا غرض في شخصية هذا الرجل، ولكن لما اعتدى على ديننا الإسلامي، وعلى قواعده وأصوله وأسسه، وتهكم به وبحملته، وفضّل عليهم زنادقة الملحدين، وصنع مع المسلمين أعظم من صنيع دعاة النصارى من المبشرين، وجب على كل مسلم مدافعته ودفع شره وتبيين أمره، والتحذير من طريقته ودعايته بحسب القدرة، وإلا فوالله إننا لنأسف أشد الأسف على انقلاب هذا الرجل، ونعدّ ذلك من الخسائر علينا، حيث فقدنا هذا الرجل الذي مضى له من المقامات ونصر الحق ما لا ينكر، بل لنا أن نقرأ قول الله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ}} [المائدة: 54] ونسأل الله أن يرده إلى الحق، وأن يعيده إلى الإسلام بالتوبة والتنصل مما وقع منه، وأن يكتب كتاباً في رجوعه عن هذه المباحث الخبيثة، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

قال ذلك وكتبه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي.

حرر في 3 من ربيع الآخر سنة 1366هـ ونقلته من خط الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. أنا الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن محمد العوهلي وحرر في 12 من جمادى الأولى سنة 1366هـ.

بلغ مقابلة على يد شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في 13 من جمادى الأولى سنة 1366هـ ([20]).



 الرسالة الأولى من المجموع: جواب مجمل مطوّل عما احتواه كتاب «الأغلال» من الضلال



بسم الله الرحمن الرحيم

جواب مجمل مطوّل

عما احتواه كتاب «الأغلال» من الضلال

سؤال ورد علينا يستفهمون عما يحتوي عليه الكتاب المسمى: هذي هي الأغلال؛ على وجه الإجمال، فأجبنا عن ذلك، بأننا قد كتبنا في موضوعاته رسالة لطيفة[(21)] لا يمكننا إيرادها هنا، ولكن نظرة إجمالية تفيد عن موضوعه، فنقول مستعينين بالله، راجين منه أن يعيننا على العلم النافع والعمل، وأن لا يزيغ قلوبنا.

من نظر في هذا الكتاب وتأمله حق التأمل، علم أنه ما صنف أعظم وطأة وعداوة للدين الإسلامي ومقاومة له من هذا الكتاب، وأنه ما اجترأ أحد من الأجانب، فضلاً عمن ألحد ممن يتسمى بالإسلام بمثل ما اجترأ عليه هذا الرجل، ولا افترى مفترٍ مثل افترائه؛ ولا حرّف محرّف مثل تحريفاته، وما صرّح أحد بالوقاحة والاستهزاء والسخرية بالدين والشرع وأصوله وعلومه وأخلاقه وحملته كاستهزائه وسخريته، فإنه احتوى على نبذ الدين الإسلامي ومنابذته ومنافقته، فهو صريح في الانحلال عن الدين بالكلية، وخروج تام عن عقائده وأصوله، فضلاً عن فروعه، وهو أكبر دعاية ومقاومة للدين، وعداءٍ له ولأهله، وفيه من


البهرجة والتزويرات التي جعلها في قالب نصر الدين، ما يعد من أكبر الزندقة والنفاق والمكر والخداع، فلم يُبْقِ من الشر طريقاً إلا سلكه، فإنه شارك المنحلين عن الدين النابذين له بالكلية، وشايع الدعاة إلى نبذه، وإلى تحبيذ الإلحاد، ودخل في ضمن زنادقة الملحدين.

وهذه الأمور الثلاثة وهي: نبذ الدين ومنابذته ومخادعته، التي هي مجموع طرق أعداء الدين، جعلها موضوع كتابه، وحشى كتابه من أوله إلى آخره بها كما لا يخفى على ذي بصيرة، وذلك أنه تلقى عن جميع الدعاة إلى الكفر برب العالمين، والقدح في رسالة جميع الرسل خصوصاً خاتمهم وإمامهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، تلقى عن الأولين والآخرين من أئمة الكفر ودعاة الإلحاد كل ما قالوه، وزاد عليهم زيادات، واستدرك عليهم استدراكات.

وذلك أن المعطلين للباري رأساً، المنكرين لرسالة رسله، لهم في ذلك أساليب وألوان متنوعة، فصرَّح زنادقة الفلاسفة وفرعون وأشياعهم، بإنكار رب العالمين بالكلية، وصرحوا بقدم العالم، {{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}} [الجاثية: 24] ثم أظهروه بعد ذلك بأسلوب آخر، وهو الأسلوب الذي سلكه زنادقة الاتحادية الذين يرون الوجود واحداً بالعين، فلا ثَمّ رب ولا مربوب، ولا خالق ولا مخلوق، ثم أظهره هذا الرجل بأسلوب نفاق ومخادعة أشنع من ذلك كله، حيث زعم أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق، وأن من فرّق بينهما من الرسل وأتباعهم وجميع أهل الأديان فهو غالط عنده.

وقال إن جميع صفات الباري في إمكان الإنسان أن يتصف بها، فما بعد هذا الإنكار للباري إنكارٌ.

أعداء الرسل قالوا: ساحر شاعر، وقالوا: مفتر كذاب، صارحوه

بهذه الأقوال الخبيثة؛ وزنادقة المتفلسفة قالوا: إن الرسل كذبوا للمصلحة، وخيّلوا للناس تخييلات تخالف الحقائق، وزنادقة دعاة النصرانية، لما بهرهم ما جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلّم من الدين الكامل والأخلاق والعلوم والأعمال والفتوحات الإسلامية، شرعوا يموّهون على الناس، ويزعمون أنهم حللوا حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وخرجوا من هذا التحليل الخبيث بنتيجة أن الوحي الذي جاءه ليس من الله، وإنما هو من نفسه لنفسه، وأنه رجل سياسي حكيم؛ وهذا سلك مسلكهم بعينه، حيث زعم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخلو بالطبيعة ويناجيها، ويناجي الليل والنهار والأرض والسماء والضياء والظلام والنسيم، وأنه افتتح رسالته بمناجاة الطبيعة والخلو بها في غار حراء، وختمها بكمال تعلقه بالطبيعة واشتياقه إليها، حيث قال في حالة السياق: «في الرفيق الأعلى» ([21]) فهذا إنكار صريح لرسالته، وحذو لما قاله دعاة النصارى، إلا أن التعبير مختلف.

أعداء الرسل من الدهريين الطبيعيين، زعموا أنه ليس سوى هذه الحياة، وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، وطبيعة لا تقلع، وهذا جرى مجراهم بعينه، فقال: إن هي إلا طبيعة تفعل وتتطور، وتتفاعل وتنفعل، وتتنقل من حال إلى حال، وتدير نظام العالم، فهي المدبرة عنده للأمور الدقيقة والجليلة، وليس لله عنده فعل ولا وصف بل ولا وجود.

أعداء الرسل قالوا في رد دعوته وتكذيبه: {{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}} [الأنعام: 91] ، وهذا يزعم أن الوحي خيالي غير حقيقي، أعداء الرسول وأعداء سائر الرسل يقولون لرسلهم: إنا تطيرنا بكم، وإنا لم نر


الخير على وجوهكم، ولم نر فيما جئتم به إلا الشر، وإنما الخير ما نحن عليه، وهذا قال ما قالوه وأكثر منه عن الدين حيث زعم أنه شر، وأنه من أعظم المصائب عنده، وأن أهله لا خير فيهم، ولا فيهم من الفضيلة شيء، بل هم محتوون على الرذيلة وأهله ساقطون، وإنما الخير فيما جاء به الملحدون وما عليه المكذبون هو الذي به السعادة والفلاح والرقي.

أعداء الرسل وأعداء الرسول استهزؤوا بهم وبما جاؤوا به، وهذا سخر بالأديان السماوية كلها، وملأ كتابه من الاستهزاء والسخرية بها وخصّ بذلك وكَبِره دين الإسلام، أعداء الرسول قالوا: {{لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}} [الزخرف: 31] ، يعنون بذلك رؤساء الكفر والتكذيب بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقدَّموا أقوالهم وآراءهم على ما جاء به الرسول، وهذا احتقر الرسول وما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم وزعم أن العظمة محصورة في زنادقة الملحدين، وقدّم ما قالوه ورأوه على ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

أعداء الرسول من اليهود قالوا ماكرين، ودبروا ما دبروه مخادعين، {{آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}} [آل عمران: 72] وهذا سلك مسلكهم، فزعم أنه ينصر الدين، ليروّج بمقالته ما قاله في هدم الدين، لعل قوله: يروج على ضعفاء العقول، لدعوى صاحبه أنه من المؤمنين.

أعداء الرسول من المشركين، ينكرون الإيمان بالله، وإخلاص العمل لله وحده لا شريك له، ويقولون: {{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}} [ص: 5] وهذا سلك أخبث من هذا المسلك، حيث ذمّ الافتقار إلى الله وعبودية الله ظاهراً وباطناً، فلم يقتصر على مذهب المشركين، بل اختار مذهب المستكبرين الذين لم يجعلوا لله شيئاً من العبادة بالكلية، وإنما الواجب عنده إخلاص العكوف على الطبيعة وعبادتها ظاهراً وباطناً.

المشركون الأولون يشركون بالله في الرخاء، ويخلصون لله في الشدائد، وهذا لم يجعل لله شيئاً من الدعاء والعبادة لا في الرخاء ولا في الشدة، وإنما حظه من هذا تهكّمه بالداعين لله واستهزاؤه بالمتعبدين.

أعداء الرسول يفتخرون بزخارف الدنيا ورياساتها وشهواتها، ويستدلون بذلك على أنهم خير من المؤمنين، فيقولون: أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً، وهذا زاد عليهم؛ فأوجب العكوف على جميع لذّات الدنيا، وأن تكون هي مبلغ علم الإنسان وكل همه، وأن أهل هذا من الملحدين خير من المؤمنين، ثم مكر وخادع، فكذَّب جميع نصوص الكتاب والسنة الواردة في الزهد تكذيباً صريحاً.

أعداء الرسول قالوا: «إنا وجدنا آباءنا وقومنا على أمة ودين فلن نتركه لدين محمد صلّى الله عليه وسلّم»، وهذا يدعو إلى تحتيم الكفر بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وإلى وجوب الأخذ بأقوال زنادقة الدهريين، زنادقة الإباحيين المتهتكين الذين لا يرون شيئاً حراماً، وأنه ما اشتهاه الإنسان فعله، سلك هذا مسلكهم، فأباح كل ما اشتهته النفوس، وسفور النساء واجتماعهن بالرجال في جميع ميادين الحياة، ونقل كلام الإباحيين مستحسناً له، وزعم أن سفور الخلاعة خير من الصيانة الشرعية، فأذهب شرف الدين والمروءة الإنسانية، وسلك في ذلك مسلك الإباحيين أهل الخلاعة.

أعداء الرسول قالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وأحسن أثاثاً ورئياً، وأعداؤه من اليهود قالوا عن المشركين: {{هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}} [النساء: 51] . وهذا قال ما قالوه بعينه حيث يقول: أي


الفريقين خير؛ الماديون الذين صنعوا المخترعات، ورقوا الحياة، وفعلوا كذا وكذا، أم المسلمون الذين فترت هممهم، وضعفت عقولهم، ومرجت أحلامهم، وسفهت آراؤهم، ولم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء الملحدون المكذبون للرسل؟

وأعداء الرسول يقولون: كيف نتبعكم وأتباعكم ضعفاء العقول الأرذلون الأحقرون؟ وهذا جعل طبقات المسلمين جميعهم، خصوصاً أئمة الهدى ومصابيح الدجى، موصوفين بضعف العقل والرأي، وهجّنهم وسخر منهم، وهو المسخور منه.

أعداء الرسول والرسل كلهم لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم، فردوا لذلك ما جاءت به الرسل، وهذا فرح بعلوم الطبيعة ومعارف المنحرفين عن الدين، فقدمها على ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم جهاراً، واستهزأ بما جاء به من الدين.

أعداء الرسل كلهم زعموا أن الرسل لم ينفعوا الناس، وهذا قال عن جميع الرسل هذه المقالة بعينها، حيث صرَّح أن جميع الأنبياء وأتباعهم لم ينفعوا الناس، ولم يكونوا مخلوقات متآلقة، وإنما الذي نفع الناس عنده أئمته من الملاحدة النابذين للدين، وقد صرح بذلك مراراً.

أعداء الرسول يسخرون من الرسول ومن المؤمنين، إذا صلوا لله، وأخلصوا له العبادة، ودعوه متضرعين؛ وهذا حذا حذوهم، فتهكم مرات متعددة، بافتقار المؤمنين ودعائهم ورجوعهم إلى ربهم.

أعداء الرسل وأعداء الرسول يستهزئون بوعد الله ووعيده، ويكذبون ما قالته الرسل من العقوبات على الكفر والتكذيب والمعاصي، وهذا سلك مسلكهم بعينه، حيث تهكم بالوعد والوعيد، وكذّب بأن


الكفر والفسوق والعصيان أسباب العقوبات الدنيوية والأخروية.

أعداء الرسول من النصارى، يجادلونه في دعواهم لإلـهية المسيح بن مريم، وهذا يستحسن ما نقله عن أمثاله، أن هذه الدعوى نافعة، حيث كانت تدعو إلى استعداد كل أحدٍ لمزاحمة رب العالمين في صفاته، إن كان يثبت رب العالمين بألفاظه أحياناً، وأنه بالإمكان أن كل إنسان يتمكن أن يكون كالمسيح في إلهيته، ولكنه ينكر تخصيص ذلك بالمسيح فقط، نظير ما قاله أهل وحدة الوجود: إن النصارى ضلوا بتخصيصهم هذا المعنى بالمسيح، ولو عمموه في كل أحدٍ لكانوا موحدين.

أعداء الرسول الأولون قدحوا فيه، فقالوا: لم يتبعك إلا عبيدنا وسوقتنا، وهذا قدح في جميع أتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كلهم، حيث زعم أن الصحابة في طور الطفولية، وأنهم في طور قرد من طور الحيوان، وإنما العقلاء عنده الذين بلغوا رشدهم هم أولئك الملاحدة الذين كان يخضع لهم ويعظمهم غاية التعظيم.

أعداء الرسول مكروا به المكرات المتنوعة، ليقتلوه وليطفئوا نور الله بأفواههم، وهذا مكر مخادعاً، حيث حتَّم الكفر بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم من الدين الإسلامي، وأنه يجب الكفر بحملته، وأنهم يعدّون مجرمين ليس فيهم أقل فضيلة، بل هم مليئون من الرذيلة.

أعداء الرسول قالوا: {{امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}} [ص: 6] وتمسكوا بدينكم، وإياكم أن تتبعوا محمداً على دينه، وهذا سلك مسلكهم بعينه، حيث زعم أنه يتعين نبذ ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وأن نتخذ لنا ثقافة جديدة من أرواحنا، زاهدين ونابذين لجميع تعاليم الدين وأخلاقه؛ الباطنية والإسماعيلية والقرامطة، حرّفوا نصوص الكتاب والسنة، ونزّلوها على مذاهبهم التي هي أخبث المذاهب، وهذا صنع أعظم من صنيعهم، فحرفها ونزّلها على ما دعا إليه من الإلحاد.

زنادقة المتفلسفة قالوا: إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم العقل على النقل، وهذا قدم عقول ملاحدة الزنادقة على كل ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقدم عقولهم على عقول أولي الألباب والنهى، من أئمة الدين وعلماء المسلمين، من غير مبالاة ولا خوف من رب العالمين.

بعض الكفار الذين تغلظ كفرهم ينكرون تعليق الأمور بقضاء الله وقدره، وهذا صرّح بأن الآجال والأرزاق وجميع الأمور ليس لها ارتباط بالقضاء والقدر.

أعداء الرسول يحتجون على المسلمين في هذه الأوقات، بتأخرهم وسبق غيرهم لهم في علوم المادة والفنون العصرية، ويجعلون ذلك من الشبه لهم على القدح في دينهم، وهذا قال ما قالوه بعينه.

أعداء المسلمين من دعاة النصارى وغيرهم يريدون بحسب إمكانهم أن يهضموا أئمة الإسلام وقادات المسلمين بعض حقوقهم وتبريزهم، وهذا أهدر جميع محاسنهم وعلومهم وأعمالهم وهدايتهم ونفعهم، فلم يجعل لهم حقاً أصلاً، ولا فضلاً ولا فضيلة.

بعض ملاحدة الدهريين الذين يرون قدم العالم، أنكروا صريحاً هبوط آدم وقصته، وهذا كذَّب صريحاً جميع ما حكاه الله عنه في كتابه، وحكاه عنه رسوله، وصرح بمقالة السفهاء حيث زعم أن مبدأ الإنسان في طور شبيه بالحيوان، أو هو الحيوان، وأنهم في ذلك الوقت ليس عندهم لغة يتخاطبون بها، ولا إشارات يتفاهمون بها، وإنما هي أصوات كأصوات البهائم، ثم انتقلوا عنه بعد مدد طويلة إلى أن ارتقوا إلى تفهم بعضهم بعضاً بالإشارات، ثم انتقلوا بعد مدد طويلة إلى التخاطب بالألفاظ البسيطة، ولا يخفى ما في هذا من التحريف والتكذيب لجميع الرسل.

أعداء الرسول من المنافقين، آمنوا ثم كفروا، وأبصروا ثم عموا، وهذا بعدما صنف التصانيف النافعة في نصر الدين، ومقاومة المبتدعين والملحدين، انقلب هذا الانقلاب الذي محا به كل ما كتبه وقرره عن الدين، فكان ممن خسر الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين؛ إلا أن يتدارك ذلك بتوبة وتنصل ونقض لما كتبه في كتابه من عداوة الدين وقدحه فيه، وفي شرائعه وحملته، فالله يتوب على من تاب.

فهذه الأمور التي احتوى عليها كتابه، وصوّرناها للقارئ تصويراً، يعرف به مرتبتها وبعدها عن الدين، ومقاومتها لتعاليمه العالية وأخلاقه السامية، وإصلاحه العام، وإتيانه بمصالح الدنيا والدين، يعجب البصير إذا تصورها كيف جمع كتابه هذا، جميع ما قاله أعداء الدين ووجهوه إليه، وإلى ما جاء به من المطاعن، فحذا حذوهم، وغيَّر بعض العبارات وزوّقها وروّقها، ثم مع ذلك يظن بسفاهة عقله، أنها تروج وتخفى، لقد خاب إذاً ظنه، وبطل سعيه، واضمحل أمله، سيعرف ويدري أنها أورثته تاريخاً مملوءاً بالفظائع والمنكرات، ونزّلته من أعلى المقامات إلى أسفل الدركات، وصيّرته مُثْلَة بين العقلاء في سفاهة عقله ووقاحته وانقلاب قلبه، فبئس ما اشترى، وبئس ما اختار لنفسه، وبئس ما تعوّض عن المقامات السامية بأخس المتاع.

فنلجأ إلى ربنا ونتضرع إليه، أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يحبب إلينا الإيمان ويزيّنه في قلوبنا ويكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ويجعلنا من الراشدين.

وليعلم القارئ أننا لم نتجاوز ما قاله في كتابه، ولم نبالغ في شيء مما نقلناه ونسبناه إليه، وقد أشرنا بالرسالة المذكورة إلى الصفحات من كتابه الموجودة فيها، هذه المباحث الخبيثة التي لا يخفى على البصير المقصود منها؛ ولا يخفى على العاقل الأسباب التي حملته على تأليفها.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

قال ذلك وكتبه العبد الفقير إلى الله عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين 10/ربيع أول/سنة 1366هـ.


 الرسالة الثانية من المجموع: جواب مختصر عن حقيقة كتاب «هذي هي الأغلال»



بسم الله الرحمن الرحيم

جواب مختصر عن حقيقة

كتاب «هذي هي الأغلال»

وردت علينا أسئلة من إخواننا، يستفهمون عن حقيقة مواضيع وبحوث الكتاب المسمى «هذي هي الأغلال» للمسمى بالقصيمي؛ وقد كنا كتبنا في مواضيعه رسالة لطيفة، فنّدنا فيها أقواله الزائفة بالعقل والحس مع الشرع، وفيها بحوث نافعة للقارئين، لا يمكننا إيرادها في هذا الجواب المختصر، الذي سنشير فيه إشارة لطيفة، لمقاصد مواضيعه الإلحادية، ونبين أنه في هذا كله تابعٌ وحاذٍ على حذو أعداء الشريعة، الذين تلونوا في المحاربة لله ولرسوله.

فنقول مستعينين بالله، راجين منه، أن يهدينا، وأن لا يزيغ قلوبنا بمنّه وكرمه:

من نظر في هذا الكتاب، وتأمله حق تأمله، عرف أنه ما كُتِب أعظم وطأة وعداوة ومحاربة للدين الإسلامي منه، وأنه ما اجترأ أحد من الأجانب وغيرهم، مثل اجتراء هذا الرجل، ولا افترى مفترٍ مثل افترائه، ولا حرّف أحدٌ مثل تحريفاته، وما صرَّح أحدٌ بالوقاحة والاستهزاء والسخرية بالشريعة والدين وأصوله وعلومه وأخلاقه وحملته كاستهزائه وسخريته، فإنه احتوى على نبذ الدين الإسلامي ومنابذته ومنافقته، ثلاثة لا تُبقي من الشر شيئاً إلا تضمنته؛ فإنه صريح في الانحلال عن الدين بالكلية، وخروج تام عن عقائده وأصوله، فضلاً عن فروعه، وهو أكبر دعاية ومقاومة للدين وأهله، وفيه من البهرجة والتزويرات التي جعلها في صورة نصر الدين، ما يعدُّ من أعظم الإلحاد والنفاق والزندقة والكيد للإسلام وأهله {{وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}} [فاطر: 43] .

وذلك أن جميع أعداء الله وأعداء رسله، تلوّنوا وتنوّعوا في الكفر والتكذيب، ونصروا ما هم عليه، وردوا ما جاءت به الرسل؛ وهذا الرجل تلقى عنهم كل ما قالوه، وزاد عليهم في المحاربة زيادات، واستدرك استدراكات كثيرة؛ فإن النافين للباري المعطلين له بالكلية، كفرعون وأشياعه، وزنادقة الفلاسفة الدهريين الجاحدين للباري، صارحوا بهذا الحجد لرب العالمين، والإنكار له وتكذيب رسله علناً، ثم أظهروه بأسلوب آخر، وهو الأسلوب الذي سلكه زنادقة الاتحاديين، الذين يرون الوجود واحداً بالعين، فلا ثمَّ رب ولا مربوب، ولا خالق ولا مخلوق.

ثم أظهره هذا الكاتب بأسلوب نفاق أشنع من ذلك كله، حيث زعم أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق، وأن من فرّق بينهما فهو غالط ضال عنده، فغلّط هذا جميع الرسل وجميع الكتب، التي من أعظم الفرقان فيها الفرق بين الخالق والمخلوق، وكما خالف النقل، فقد خرج بهذا القول الفظيع عن العقل؛ وهذا معناه الجحد لرب العالمين.

أعداء الرسول تنوعوا في تكذيبه فقالوا: ساحر وشاعر ومفتر كذاب، والفلاسفة جعلوا هذا التكذيب بأسلوب آخر، جعلوا ما جاءت به الرسل تخييلات؛ وهذا جاء به بوجه آخر، حيث حلل بزعمه حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك التحليل الخبيث الباطل، أنه كان يخلو بالطبيعة ويناجيها، وتأخذ بقلبه ولبِّه، ويظل في ليله ونهاره ينزع إليها، وافتتح بها رسالته بخلوته بها في جبل حراء، وختمها به في السياق حيث كان يقول: «في الرفيق الأعلى» ([22]). فهذا التحليل الخبيث، الذي لا يروج على الصبيان، قد أخذه بعينه من دعاة النصارى، حيث قالوا هذا القول الذي هو التكذيب والكفر المحض، فعنده ليس ثمَّ وحي ولا مناجاة لله ولا نزول جبريل من عند الله، فظن بسفاهة عقله، أنه بهذا الكلام يسلم من الشناعة، فالوحي عنده خيال لا حقيقة.

أعداء الرسل من الدهريين قالوا: {{إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}} [المؤمنون: 37] وهذا يقول: ما هي إلا طبيعة تتفاعل وتتطور وتدير أمر العالم، وتدبر الأمور الدقيقة والجليلة، وأنكر قضاء الله وقدره، ورجّع ذلك كله إلى الطبيعة، وهذا إنكار منه لله ولصفاته، وتعطيل له، وإنكار لربوبيته؛ وكما أنكر الربوبية، فقد أنكر توحيد الإلهية، ولم يرتضِ ما قاله المشركون، بل أنكر عبادة الله بالكلية، وأنكر الافتقار إليه، وتهكم بالمفتقرين إلى ربهم، المخلصين الداعين، واستهزأ بهم في كلام طويل ساقط مردود، وكما أنكر الربوبية والإلهية والعبادة، فقد تقدم ما يدل على إنكار الرسالة وتفسيره للوحي، وقدحه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ورميه إياه بعبادة الطبيعة، وكما أنكر هذه الأمور، فقد أنكر عقوبات الله في الدنيا والآخرة، وسخر بمن أثبتها، فيا ويحه ما الذي أبقى عليه من أصول الدين وقواعده، لقد أنكرها كلها، ولم يكتف بإنكارها حتى جعل يحاربها ويتهكم بها، ويرمي المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله بالبلاهة وضعف الرأي والعقل، وقد ملأ كتابه من السخرية بهم، ولم يدر أنه بهذا سيسجل على نفسه بالجنون والانسلاخ من العقل بعد الانسلاخ من الدين؛ وكما أنه جعل المسلمين علماءهم وهداتهم وعبّادهم في أحط الدرجات، فقد جعل الملحدين


وزنادقة الفلاسفة في أرفع الدرجات، وعظّمهم وخضع لهم في جميع ما قالوه وفعلوه؛ وكما جَدَّ بنفي أصول الدين العظيمة، فقد أيَّد ذلك بإلحاحه البليغ وحثّه على نبذ القديم ومراده به تعاليم الدين وأصوله وآدابه وثقافته وأخلاقه، وحتَّم أن يُتخذ ثقافة جديدة يُنبذ فيها القديم كله بما في مقدمته الكتاب والسنة، وأن تكون هذه الثقافة جديدة إلحادية، يكفر بها بجميع حملة الدين الإسلامي، ويعتقد سقوطهم، وأنه لا فضل لهم، ويهجر كتبهم كلها، من حديث وتفسير وفقه وأصول وفروع وغيرها، وأن يُعَدّوا مجرمين يستحقون الجزاء، وليس هذا بغريب؛ فإنه تجرأ وصرّح على ما هو أطمّ من ذلك، حيث رمى جميع الأنبياء، وزعم أنهم لم ينفعوا الناس والحياة بشيء، ومن كانت هذه تصريحاته ووقاحته، وعدم حيائه من الله ومن الخلق، فقد انتقل من طور إلى طورٍ، هو أسفل الأطوار وأسقطها؛ فلو أن له مسكة من عقل وذكاء، وسلك مسلك الحذاق من الملحدين، لتستّر بعض التستر، ولكنه سلك هذا المسلك الخبيث، وهذا من آيات الله وجملة عقوباته، يري عباده كيف يصير الإنسان المعروف بالعلم والفضل، إلى أن ينحط إلى هذه المرتبة التي صار بها مُثْلة بين العقلاء.

فنسألك اللّهم أن لا تزيغ قلوبنا بمنّك وكرمك، وكذّب بقصة آدم وزوجه وذريته فزعم أن الإنسان في أول أمره كالحيوان لا ينطق ولا يتكلم، ثم بعد مدد انتقل إلى طور الإشارة، ثم بعد مدد أخرى تمكن من النطق والكلام، وأن الصحابة في طور الطفولية، وطور قريب من أطوار الحيوانات يعلمون ظواهر الأشياء لا بواطنها، وعنده أن الذين عرفوا العلوم النافعة، هم هؤلاء الملاحدة، مستدلاً على ذلك، بما أوتوا من علم الصناعات وفنون الاختراعات، وأن تأخر المسلمين دليل على فساد دينهم، وقد أخذ هذا عن أعداء الإسلام والمسلمين، وقال فيه أقوالاً أكثر مما ذكرنا عنه، وقد أشرنا إلى الصفحات من كتابه الموجودة فيها هذه البحوث الخبيثة وأشباهها، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وسلم.

قال ذلك وكتبه عبد الرحمن بن ناصر السعدي.



 الرسالة الثالثة من المجموع: نبذة جامعة مفيدة مختصرة في التحذير من كتاب«هذي هي الأغلال»



نبذة جامعة مفيدة مختصرة في التحذير من كتاب

«هذي هي الأغلال»

لعلامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله

كتاب «الأغلال»، مشتمل على نبذ الدين الإسلامي؛ منابذته ومنافقته، فهو صريح في الانحلال عن الدين بالكلية، وخروج عن جميع أصوله فضلاً عن فروعه.

وهو أكبر دعاية، ومقاومة للدين، ومنابذة لأصوله، والتهزي به وبأهله وحملته، وصاحبه جعله بأسلوب الناصر للدين، فلم يبق من الشر شيئاً إلا ارتكبه، فإنه شارك المنحلين عن الدين، النابذين له بالكلية، وشايع الدعاة إلى دين المحلدين، المتصدين لعداوة الدين ومقاومته، ودخل في ضمن زنادقة المنافقين الماكرين الخادعين.

وهذه الأساليب الثلاثة، التي لم تبق من الشر والفظاعة، قد حواها كتابه؛ ورددها في مواضع متعددة:

فبالأول: نبذ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنكر أفعال الله تعالى وربوبيته، وجعل العالم العلوي والسفلي يجري على نظام الطبيعة، ليس لله فيه تدبير ولا تصريف ولا تغيير، وأنكر العقوبات على المعاصي والذنوب في الدنيا والآخرة.

وحلل رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم بكلام لا مستند له فيه أخذه عن دعاة النصارى.

حيث زعم أنه كان يناجي الطبيعة، ويأخذ كمالاته وأقواله وأفعاله منها؛ وأنه بها ابتدأ وإليها انتهى.

وبالثاني: جعل كتابه هذا أكبر داعٍ لنبذ الدين ومقاومته وعداوته، كما هو مشاهد محسوس من أوله إلى آخره.

وبالثالث: موّه بذلك على الأغرار، أن الدين يدعو إلى ما قال، وأن بعض الآيات والأحاديث تدل على ما قال، فمن نظر وتأمل في كتابه، علم أنه ما صنف أعظم وطأة وعداوة للدين من هذا الكتاب، ولا اجترأ أحد من الأجانب فضلاً عمن يتسمى بالإسلام بمثل ما اجترأ عليه هذا الرجل، ولا افترى مفترٍ مثل افترائه؛ ولا حرّف أحد تحريفاً يضاهي تحريفه، وما استهزأ أحد بالشريعة وعلومها وأخلاقها وحملتها كاستهزائه وسخريته.

المعطلون للباري المنكرون له رأساً، لهم في ذلك أساليب ترجع إلى هذا المعنى؛ أسلوب التصريح بالإنكار والصراحة فيه، وذلك مذهب الدهرية، الذين يقولون: {{مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}} [الجاثية: 24] ومذهب فرعون حيث يقول: {{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}} [الشعراء: 23] .

ثم أظهروه بأسلوب أظهره زنادقة الاتحاديين، الذين زعموا أن الوجود واحدٌ بالعين؛ ثم أظهره هذا ([23]) الكاتب بأسلوب أشنع منها كلها، وهو أنه يجب أن يعلم أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق، وأن من فرّق بينهما من الرسل وأتباعهم، وجميع المعترفين برب العالمين؛ فهو غالط أكبر غلط.

والمكذبون لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لهم في ذلك أيضاً أساليب، أسلوب التصريح والتكذيب له، وأنه ليس رسولاً، وأسلوب من يقول: آمنا بالله ورسوله، وقلوبهم منطوية على الكفر والتكذيب، وأسلوب أظهره هذا الكاتب مجاراة لدعاة النصارى، حيث جعل رسالته اختلاء بالطبيعة والدعوة إليها، فكان المجاهرون بعداوته يقولون: ساحر مفتر كذاب، وهذا زعم أفظع الزعم، أن رسالته من نفسه إلى نفسه، وأنه ليس من عند الله؛ وإنما هو رجل من عظماء الرجال، وليته لم يفضل عليه رجال الإلحاد والمجاهرين بالكفر برب العالمين.

كان الدهريون الأولون يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ وهذا وأمثاله قالوا: إن هي إلا طبيعة تتطور وتتفاعل وتنتقل من حال إلى حال، هي المديرة لنظام هذا العالم، وهي المدبرة للأمور الدقيقة والجليلة، وليس لله عندهم فعل ولا تدبير بل ليس عندهم ربٌ ولا إله، ولا فعال لما يريد.

أعداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم تلونوا في رد دعوته ومقاومته، وهذا أخذ عنهم كل ما قالوه، وكل ما قاله الأعداء المتأخرون.

أولئك قالوا: ساحر شاعر مفتر كذاب؛ وهذا قال: وحيه إنما كان من تخيله وأفكاره العالية، ولم يكن من عند الله شيء.

وأولئك المكذبون للرسل، قالوا للرسل: إنا تطيرنا بما أرسلتم به، ولم نر فيما جئتم به إلا الشر، وإنما الخير فيما نحن عليه، وهذا قال عن الدين الإسلامي إنه شر، وإنه أسقط أهله، ونكسهم على رؤوسهم، وإنما الخير فيما جاء به الملحدون، وبه السعادة والفلاح والرقي.

وأولئك قالوا مستهزؤون بكم، وسخروا منهم وبما جاؤوا به، وهذا استهزأ بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وسخر بما جاء به.

الأعداء الأولون قالوا في رد دعوته: {{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}} [الأنعام: 91] وهذا زعم أن الوحي خيال غير حقيقي، والمنافقون واليهود قالوا ماكرين: {{آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}} وهذا ادعى في كتابه، أنه مؤمن بالله ورسوله، ناصر للدين، يغار للمسلمين، وهو مُجدٌّ في عداوة الدين، لعل تزويره يروج على ضعفاء العقول من المسلمين، فيقبلونه حيث ادعى أنه منهم.

وأولئك يدعون إلى الدنيا والترف والرياسة ويزهدون في الآخرة، وهذا حذا حذوهم، وزعم أن مِن نقص الدين ورجاله، حثهم على الزهد في الدنيا وترغيبهم في أعمال الآخرة.

ومنهم من قال محللاً لحياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه يخلو في البراري والقفار، ويناجي الأرض والسموات، فصار وحيه من نفسه لنفسه، وهذا خطا على ما خطوه.

ودعاة النصارى قالوا لما بهرهم دينه وآثار الإسلام، قالوا: إن محمداً رجل سياسي، ساس الناس بعقله، وساقهم بتدبيره، حتى صار ما صار من الفتوحات وانتشار الإسلام، وهذا قال: استلهم الطبيعة والعقل، فجاء بما جاء به.

أعداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم ينكرون الإخلاص لله، وعبادة الله وحده لا شريك له، ويقولون: {{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}} [ص: 5] ، وهذا ذم الافتقار إلى الله، وإخلاص الدين لله، وأمر بالإخلاص للطبيعة، وعبادتها بالقلب والقالب، والظاهر والباطن، وليته اقتصر على ما اقتصر عليه المشركون؛ حيث عبدوا الله، وعبدوا معه غيره، ولكنه ذمَّ عبادة الله والافتقار إليها بالكلية، وأمر بالإخلاص بالشدة والرخاء للطبيعة وحدها.

أولئك قالوا: إنّا وجدنا آباءنا على أمة ودين، فلن نترك دينهم لدين محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا زعم أنه يتحتم الكفر بما جاء به محمد، وتقديم ما قاله أرسطو وزنادقة الملحدين عليه، أولئك قالوا: نحن أكثر أموالاً وأحسن رئياً وأثاثاً، وهذا قال: أي الفريقين خيرٌ، الماديون الذين صنعوا المخترعات وكذا وكذا، أم المسلمون الذين لم يصلوا فيها إلى ما وصلوا؟

المكذبون للرسل قالوا: كيف نتبعكم؛ وأتباعكم الأرذلون الفقراء ضعفاء العقول؟ وهذا قال: المسلمون معروفون بالذل وضعف العقول والرذالة والنذالة([24])، والملحدون هم الأقوياء في القلوب والأبدان وجميع ميادين الحياة.

أولئك لما جاءتهم الرسل بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم، فردّوا ما جاءت به الرسل؛ وهذا لما جاء الحق الذي لا ريب فيه، فضّل عليه علوم الطبيعة، وفرح بها وقاومها.

الأولون قالوا عن الأنبياء إنهم ضروا الناس ولم ينفعوهم؛ وهذا قال عنهم كلهم هذه المقالة بعينها.

الأولون يذمون الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث دعا إلى الإخلاص بالدعاء لله، وهذا جعل الدعاء لله لا نفع فيه، بوجه من الوجوه، بل هو ضرر على العبد.

الأولون يقدحون بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ويقولون... وهذا يقول: المسلمون يريدون كل شيء من السماء، يقدح في توجههم لله وافتقارهم إليه.

الأولون يستهزؤون بعذاب الله ووعيده، وهذا سلك مسلكهم، في الاستهزاء بالوعيد.

الأولون ينكرون أن الكفر والمعاصي والفسوق تسبب العقوبات الدنيوية، وهذا يستهزئ بمن جعلها أسباباً، مستهزئ بكتاب الله وسنة رسوله ومن تبعهما.

المدعون لألوهية المسيح، يجادلون الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيها، وهذا يزعم أن كل إنسان في إمكانه أن يكون إلـهاً، فدعوى النصارى عنده إلـهية المسيح دعوى حسنة؛ في مقصدها لو أنهم عمموا، لأصابوا عنده.

الأولون قدحوا في الصحابة، وأنه لم يتبعك إلا عبيدنا وسوقتنا، وهذا زعم أن الصحابة في طور الطفولية، أو طور ينقص عن ذلك، وأن الرشد في هؤلاء الملاحدة الذين يعظمهم.

الأولون مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليقتلوه، ويطفئوا ما جاء به من الدين ويمحقوه، وهذا يقول: متعيّن نبذ ما جاء به محمد من الدين الإسلامي والكفر بحملته، وأن نتخذ ثقافة جديدة من أرواحنا... إلخ.

الباطنية والقرامطة والإسماعيلية حرّفوا الكتاب والسنة، ونزلوه على إلحادهم، وهذا صنع أعظم من صنيعهم.

زنادقة المتفلسفين قالوا: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل، وهذا يسخر بمن يقدمون نصوص كتاب ربهم وسنة نبيهم صلّى الله عليه وسلّم.

أولئك زعموا أن العظماء هم رؤساء الكفر، والرسل هم المستضعفون، {{وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}} [الزخرف: 31] وهذا زاد عليهم، فزعم أن العظمة منحصرة، في أئمة الزنادقة، ومن على شاكلتهم.

من انتهى كفرهم من الأولين، ينكرون تعليق الأمور بقضاء الله وقدرته، كالآجال والأرزاق ونحوها، وهذا يصرح بذلك.

دعاة النصارى يحتجون بأحوال المسلمين وتأخرهم المادي على الإسلام، وهذا سلك مسلكهم، وينكرون ما لعظمائهم ويهضمونهم حقهم، وهذا لم يجعل لهم حقاً أصلاً ولا فضيلة.

الأولون عارضوا ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم بمخالفته لدين آبائهم الأولين، وهذا عارضه بمخالفته للملحدين الأولين والآخرين.



 الرسالة الرابعة من المجموع: رسالة الشيخ عبد الرحمن السَّعدي إلى تلميذه الشيخ عبد الله بن عقيل في التحذير من كتاب «هذي هي الأغلال»



بسم الله الرحمن الرحيم

من عنيزة في 18 صفر سنة 1366هـ ..

من المحب عبد الرحمن الناصر السعدي، إلى الولد المكرم عبد الله العبد العزيز العقيل المحترم، حفظه الله آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مع السؤال عن صحتكم، صحتنا مع الوالد والعيال والإخوان تسركم، أرجو الله أن يتم على الجميع نعمه.

وصلني كتابك من الرياض وما شرحته من عزمكم على التوجه لمكة فجيزان لظف ([25]) أشغالكم هناك، وقد وصلت برقيتكم للوالد بالتوجه، يسَّر الله أمركم في حلكم وترحالكم وجميع حركاتكم.

أما ما شرحته عن كتاب عبد الله القصيمي الذي سماه الأغلال، ومقتِ المشايخ للكتاب المذكور، وذكركم أنكم سترسلون لنا بوصولكم مكة نسخة نطّلع عليها، فنحن قد اطلعنا عليه، وهو فوق كل ما قيل فيه من الانحراف عن الدين، فمن أمعن فيه النظر جزم جزماً لا يمتري فيه أنّه دعاية صريحة لنبذ الدين، مع كثرة تهافت صاحبه وتناقضه واعتذاراته أنّه بريء من الإلحاد، وأنّه مؤمن بالله وبما أخبر الله به، وعدم استقراره.

فصاحب البصيرة والذي يرى تناقض صاحبه وعدم ثبوته وتلوّن آرائه، لا يمتري ببطلان كلامه.

وهاك على سبيل الإجمال واختصار الزائد جمل ما يحتوي عليه، جُمَلاً رددها وكررها بكتابه بعبارات وأساليب متنوعةٍ.

كتابه هذا عن الدين ينقض جميع كتبه السابقة عنه، فهو قد كذبه أو هي كذبته، يحتوي على الحث الكثير على نبذ الإيمان بالله، ويقول: إنّه من أكبر الأغلال المانعةِ من الرقي، وأنّه لا يمكن المسلمين أن يرتقوا في هذه الحياة ما داموا مؤمنين بالله، وهو مع ذلك يُموِّه، ويزعم أن الناس لا يمكن أن يفهموا دينهم بالكلية، بل ذلك متعذر، يعني فيتعين عليهم أن يرفضوه.

فهو يحث على نبذ الدين والإيمان، ويُرَغِّب غاية الترغيب في طريق الملحدين المعطلين لرب العالمين، ولأفعاله وربوبيته، ويتوسل إلى هذه الدعاية بذكر خرافات المتصوفة وأهل الخرافات، كابن عربي والشعراني ومن سلك سبيلهم من أهل الانحراف، ويطبق أحوالهم وما يقولونه على المسلمين، ليتمكن بذلك من القدح في المسلمين.

ومن الطامات أنّه يزعم أن الناس مسلمهم وكافرهم وقت نزول القرآن في طور الطفولية، بل في طور دون ذلك يقرب من طور الحيوانات.

وأن الناس في هذا الوقت ـ ليس كلّ الناس بل المراد أهل الاختراعات ـ قد بلغوا رشدهم وكملت عقولهم، وكرر على هذا الأصل الخبيث الحمل على السابقين الأولين، وعلى قرون الأمة، وزعم أنّه لا خير فيهم.

وأنّ الجامعة الإسلامية ([26]) كلها من أولها إلى آخرها لم يخرج منها عبقري ولا مرشد نافع للأمة.

وأوجب رفض القديم، واعتناق الجديد، وفرَّع على ذلك وجوب نبذ العلوم والأخلاق والآداب السابقة، وفي مقدمته العلوم الدينية والأخلاق الدينية.

وأنّه يجب أن يعلم الناس الكفر بجميع ما خلّفته الجامعة الإسلامية من كتب وعلوم وأخلاق وأعمال، وأنه يجب مقتهم مع الإقبال على ما قاله الملحدون، كرّر ذلك في مواضع.

وأنّ السابقين من الأنبياء وغيرهم لم ينفعوا الإنسانية، ولم يرشدوها إلى الأمور النافعة، فقدح صريحاً بجميع الأنبياء والأئمة والهداة.

ورغّب في المعاهد الأجنبية.

وحمل حملاتٍ منكرة على المسلمين من أولهم إلى آخرهم.

وزعم أنّ المسلمين من أولهم إلى آخرهم يحثون على الفقر، وحصول الأمراض وأنواع المصائب، ويسعون لطلبها.

وفي هذه الفقرة كذَّب كلّ نصّ فيه فضل الفقر والفقراء والأمراض وردّها وحرّفها.

ومن تمويهاته وتزويراته أنّه يذكر الأحاديث الصحيحة، ثمَّ يضم إليها أحاديث باطلة وآثاراً ساقطة فيرد الجميع.

ويتهكم بالرواة لتلك الأحاديث، لا يرفعها عن صحابي ولا تابعي ولا إمام من أئمة الهدى.

وكذلك ردّ الأحاديث الدالة على أنّ هذه الأمة أولها أفضل من

 آخرها، وتهكم برواة حديث أنس الذي في البخاري: «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شرّ منه» ([27]).

وزعم أنّ هذه الآية {{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}} [الروم: 7] أنها منطبقة على عصر التنزيل، وأنّ الصحابة والقرون المفضلة لا يعلمون إلا علماً ظاهراً بسيطاً، وأما العلوم النافعة فإنّها لمن يعظمهم من الزنادقة الملاحدة.

وكذلك قوله تعالى: {{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}} [الأعراف: 198] ينظرون إلى ظاهر النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يبصرون باطن دينه، ولا حقيقته، ويريد تنزيلها على المسلمين وقت التنزيل، وأنّهم لم يعرفوا الدين لا هم ولا من بعدهم، وفهمهم إياه فهم ظاهري غير حقيقي، ويحتوي على صرف القلوب عن عبادة الله وحده لا شريك له، ويذم الافتقار إلى الله.

ونقل عبارات بعض العلماء ـ منهم ابن القيم، ولكنه لم يسمّه ـ في الفقر إلى الله، وجعل يردّها ويتهكم بها، ويسخر منهم ومنها.

ويحث على عبادة الطبيعة وصرف الظاهر والباطن إليها.

ويحتوي كتابه على التهكمات الشنيعة في وعد الله ووعيده وعقوباته ومثوباته الدنيوية والأخروية في مواضع كثيرة من كتابه، ولا يرضى بتفسير التوكل والقدر بتفسير الجبرية، ولا بتفسير القدرية، ولكنه نصر تفسير الفلاسفة الزنادقة، وأن معنى ذلك أن تؤمن فقط بنظام هذا العالم وانتظامه، وأن الأسباب مستقلة لا يقدر الله على تغييرها ولا تحويلها ولا التصرف فيها بوجه من الوجوه، وإنّما ذلك عمل الطبيعة فقط.

ويقول عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه وقت خلواته بالله ووقت انتقاله من الدنيا أنّه متوجه إلى الطبيعة وشاخص إليها، وليس لله ذِكْر ولا خَبَر، فخلوته ليست بالله، وقوله عند احتضاره: «في الرفيق الأعلى»، ليس طلبه القرب من الله، وإنّما يقصد التعلق بعالم السموات وبالطبيعة فقط، في كلام طويل مردد.

وصرح أنّ الإنسان في أول أمره مثل البهائم، مكث مدة طويلة لا ينطق ولا يتكلم إلا أصوات مثل أصوات الأطفال وقت ولادتهم، ثمَّ انتقل إلى طور الإشارات فقط، ثمَّ انتقل بعد مدة طويلة إلى طور الكلام، فكذَّب بهذه الجمل التي رددها جميع ما أخبر الله به عن آدم وحواء وأول الآدميين.

ومن بحوثه الفظيعة أنّه يمكن الإنسان أن يزاحم رب العالمين في علمه وقدرته، فيمكنه أن يعلم كل شيء ويقدر على كل شيء وأنّه علم مبدأ العالم ومنتهاه، وأنّه سيرتقي علمه إلى العالم العلوي بعدما يفرغ من العالم السفلي، وأنّه قد يتمكن من إيجاد المخلوقات الحية وينفخ فيها الروح.

وأنّ التفريق بين الله وخلقه جهل وضلال وغلط، فقدح بجميع الكتب وجميع الرسل وأتباعهم، إذ أصل الدين والتوحيد والإيمان هو التفريق بين الله وبين خلقه، لكن هذا كلام من لا يثبت لله أصلاً.

وكرّر أنّ الإيمان قيد وغلّ مانع من الرقي ومضعف للقلوب والهمم والعزائم، فحثَّ على الرفض حثّاً كثيراً شنيعاً، وردّ كثيراً من الأحاديث الصحيحة النبوية.

وأما ما فيه من إنكار الغيرة، والحث على السفور، والتهكم بأهل الصيانات لنسائهم، فحدِّث ولا حرج.

ومن عجيب أمره أن كتابه ملآنٌ من السخريات والتهكمات بالدين وحملة الدين.

ومن نظر في كتابه وكتبه السابقة، وكيف كان هذا الانقلاب الفجائي في أصول الدين وأسسه، فلا بدَّ أن يفهم الأسباب التي حملته على تصنيف هذا الكتاب.

وبالحقيقة كتابه هذا أشنع وأطمّ من كتب دعاة النصارى والمبشرين، لأنّه دعاية لنبذ الدين في قالب أنّه من أنصاره وهو يحاربه ويوهم الناس أنّه يحارب له.

فنؤمل أنّ حكومتنا يوفقها الله تعالى للمنع الصارم لتسرب نسخ هذا الكتاب للمملكة، وإن كان ـ ولله الحمد والمنة ـ في المشايخ والمتبصرين بركةٌ بإيقاف الأغرار على ما في كتابه من الأمور الضارة في الدين، ولكن على كل حال إبعاد مثل هذا الكتاب عن المملكة أهون شراً، لأنّه يوجد شبيبة لا [رأي لهم] ويرغبون في الكتب العصرية وقراءة الصحف، فخطره عظيم على أمثال هؤلاء.

ونرجو الله تعالى أن يقمع الملحدين وأن ينصر دينه وكتابه وعباده المؤمنين، إنّه جواد كريم.

هذا ما لزم تعريفك، منا السلام على جميع من تتصل به من المشايخ والإخوان والأصحاب.

كما منا الوالد والولد محمّد والإخوان والشيخ ([28]) وجميع المحبين والسلام.


 الرسالة الخامسة من المجموع: مقدمة رد الشيخ تقي الدين الهلالي على كتاب «الأغلال» بخط العلامة الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ



بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة رد الشيخ تقي الدين الهلالي  ([29])

 على كتاب «الأغلال»

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وهادي الأمة، وكاشف الغمة، خاتم النبيين وإمام المصلحين، من بعث بدعوته الأموات، وجمع الأشتات، وعلى آله وأصحابه المتصفة بأحسن الصفات.

أما بعد: فهذا مظهر الضلال في كتاب الأغلال، نسأل الله أن يوفقنا فيه لإصابة الصواب، ورفع الريبة عن كل مرتاب.

المقام الأول قوله: «سيقول مؤرخو الفكر أنه بهذا الكتاب، قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل». كان العرب قبل الإسلام متصفين بصفات من أقبح ما وصلت إليه أمة منحطة؛ منها: الجهل ولذلك سمي زمانهم زمان الجاهلية، ومنها: تفرق الكلمة، ومنها: الذلة بالنسبة إلى الأمم الأخرى، ومنها: الفقر المدقع، ومنها: الجفاء وغلظ الطبع، ومنها: مساوئ الأخلاق كوأد البنات، وعدم توريث النساء


والصبيان، بل كانوا يورثون النساء في بعض الأحوال، وأكل مال اليتيم، وقتل النفوس، وشن الغارات، والنهب والسلب، واسترقاق بعضهم بعضاً، والتفاخر بالأنساب لا بالأعمال، واستلحاق أولاد الزنا، إلى غير ذلك مما هو معروف.

فجاء محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتاب من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من تمسك به نجا، ومن زاغ عنه هلك، فأحيا الله به العرب بعد الموت، وجمعهم بعد الشتات، وأغناهم بعد الفقر، وأعزهم بعد الذلة، وجعلهم سادة لمن كانوا لهم عبيداً ـ أي الفرس والروم ـ وأبدلهم من القسوة رحمة، ومن الخشونة والجفاء لطفاً وليناً؛ وبالجملة جعلهم سعداء بعد أن كانوا أشقياء.

وقد أخبر الله في هذا الكتاب وفي بيانه ـ وهو ([30]) كلام رسوله [(ص)] ([31]) ـ أن العرب وسائر المسلمين لن يزالوا الأعلين ما تمسكوا بهذا الكتاب، واهتدوا بهدي النبي الكريم، ومتى تركوه وابتغوا الهدى في غيره أضلهم الله وخيّب سعيهم، وردهم إلى ما كانوا فيه من الشقاء؛ وهذا ما وقع، وهذا الرجل يقول: إن الأمة العربية بكتابه هذا تبدأ تبصر طريق العقل، كأنَّ كتاب الله وبيان رسوله الذي حييت به الأمة، وسعدت باتباعه، ثم ماتت وشقيت بتركه، والتاريخ أصدق شاهد، لا يكفي لبعث العرب وإبصارهم طريق العقل والرشد، وكل ما ألّفه علماء الإسلام في زمان مجدهم، لا يكفي لإبصارهم طريق العقل، حتى يأتي هذا الكتيب فيفتح أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً،


سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله إن كنتم مؤمنين.

والمهمّ أن هذه أمنيته، وخيال تخيله المصنف، وفرح به واستهواه وأغواه، وأخذ يتكهن بمستقبل كتابه، ويهيم في أودية الأحلام.

إن الأماني والأحلام تضليل.

المقام الثاني قوله في صفحة «3»: «إن ما في هذا الكتاب، هو من الحقائق الأزلية الأبدية، التي تفقدها أمة فتهوي، لأنها فقدت حقيقة من حقائقها الطبيعية، وتأخذ بها أمة أخرى فتنهض، لأنها قابلت الطبيعة الكاملة بطبيعتها الكاملة؛ ولن يوجد مسلم واحد بين الأربعمائة مليون مسلم يستغني عن هذه الأفكار إذا أريدت له حياة صحيحة طبيعية».

الحقائق الأزلية ليست إلا صفات الله تعالى، لأن كل ما سواه حادثٌ، إلا إذا كان المؤلف يقول بقدم العالم فتلك مسألة أخرى، والمسلمون يخالفونه في ذلك؛ وأما كون هذا الكتاب لا يستغني عنه مسلم يريد أن يحيا حياة صحيحة طبيعية، فهذه دعوى وأماني.

ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

يالله العجب، لقد ألّف الحكماء من المسلمين وغير المسلمين كتباً كثيرة، متواضعين لله تعالى، متبرئين من الدعوى، فرفعهم الله تعالى، ونفع الناس بعلمهم، ولا نعلم أحداً منهم، ادعى لكتابه مثل ما ادعى هذا الرجل، كأنه نبي أوحي إليه.

والدعاوي ما لم يقيموا عليها                بينات أبناؤها أدعياء

فصل

لا نريد أن نناقش المؤلف في الألفاظ؛ لأن خطأه فيها غير مهم، لا يستحق تضييع الوقت في تتبعه والرد عليه، ولكننا رأيناه يستعمل لفظ الرومان في جمع رومي، وهو خطأ؛ إن اغتفرناه لعامة الكتاب الذين يتعلمون الإنشاء، في الصحف والمجلات، فلا نغتفره لكاتب تعلم في المساجد وقرأ القرآن وفيه: {{الم}{غُلِبَتِ الرُّومُ}} [الروم: 1، 2] وبهذا اللفظ سميت السورة نفسها؛ وهو الموجود في الأحاديث، وكتب التاريخ والأدب العربي، ولم يستعمل لفظ الرومان إلا في هذا الوقت، الذي ضربت فيه الفوضى أطنابها في الإنشاء فضاع بذلك أسلوب اللغة العربية، ووقع الفساد في مفرداتها وتراكيبها، بسبب ما ترجم من اللغات المتغلب أهلها، على يد تراجمة جاهلين، فأخذ الناس يحاكونهم ويقتدون بهم، حتى صار الفقيه يترك الألفاظ الصحيحة، التي يعرفها من القرآن وكلام العرب، ويستعمل الألفاظ الفاسدة، ظناً منه أن ذلك يرفعه إلى درجة الفلاسفة ويجعله عصرياً.

وهذه الألف والنون، التي في لفظ الرومان، هي في بعض اللغات الأوروبية، بمنزلة ياء النسبة في اللغة العربية، فالرومان في اللغة الإنكليزية مثلاً: صفة كالرومي بالعربية؛ في قولك: العصر الرومي، وتكون اسماً بمنزلة الرجل الرومي أو الرجال الروميين، ويظهر لنا أن المؤلف في هذا الكتاب لا يصيغ قلمه فكرة، بل ينتهب المعاني والألفاظ من كلام كتاب آخرين، يسمون أنفسهم عصريين وأحرار الفكر ليكون مثلهم، وقد خيل إليه أنه بهذا يصير فيلسوفاً عظيماً.

وقد استعمل أيضاً الإنتاج وإنما هو النتاج...... ([32]) قوله في صفحة «7»: «ولقد صار معلوماً أن عظمة الشعوب، ليست في الاستقلال السياسي... إلى أن قال: ولكن عظمة الشعوب الحقيقية، التي تطأطئ لها الدنيا أمامها إجلالاً ورهبة، تتجلى في شيء واحد لا ثاني له، هذا الشيء الواحد هو قدرة الشعب الذاتية على الإنتاج العقلي


والمادي من ناحية الأفراد، فالشعب الذي يتفوق أفراده في هذا الإنتاج، هو الشعب الذي له التفوق المطلق، وله السيادة المطلقة، وهو الشعب الذي تخفض له الدنيا رأسها، والفرق بيننا وبين شعوب أوروبا وأمريكا لا يعدو الفرق بين أفرادنا وأفرادهم في هذا الإنتاج، فإنه لما وفر إنتاج أفرادهم العقلي والمادي، وضعف إنتاج أفرادنا، أو أضحى مفقوداً، أضحوا أقوى منا في كل شيء، فسادوا وتأخرنا... إلخ».

ذكر المؤلف في هذا الكلام سبعة أسباب للعظمة والسيادة المطلقة، فنفى منها ستة، وحصر الأمر في سابعها، وهو ما سماه قدرة الشعب الذاتية على الإنتاج العقلي والمادي من ناحية الأفراد، ولا نريد أن نناقشه في نسبة ذلك إلى الأفراد دون الجماعة مع ما فيه، ولكننا نقول: من أين عرفت هذا، وما دليلك عليه؟ والحق أن رقي الأمة وسيادتها متوقف على أمور كثيرة، لا يغني أحدها عن غيره، فالأمة القليلة العدد مثلاً، لا تحصل بها السيادة المطلقة، ولا تستطيع أن تحافظ على استقلالها، وإن بلغت الذروة العليا في النتاج من حيث الأفراد ومن حيث الجماعات، وقد رأينا ما وقع لفلندة ولم تُغلَب هذه الدولة التي بلغت أوج الرقي في كل شيء إلا بسبب قلة عددها، والدولة التي غلبتها لا تساويها في الرقي، وإنما غلبتها في كثرة العدد، فظهر أن كثرة العدد جزء من سبب السيادة، ولا ندعي أنها هي السبب كله، وكذلك ثروة البلاد الطبعية لا الطبيعية هي من أسباب عظمتها، فإن الأمة إذا كانت بلادها فقيرة، لا تملك المواد الأولية الضرورية، تكون دائماً تحت رحمة الأمم التي تمدها بذلك؛ وكذلك الوطنية والحماسة فإنها سبب لا بد منه في.....اهـ الموجود منه على حسب النسخة الخطية المكتوبة بخط علامة القصيم عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله بدون تاريخ.


 الرسالة السادسة من المجموع: «نقد كتاب الأغلال» أو [كشاف للمسائل الخبيثة والمباحث الخطيرة في كتاب الأغلال]



[كشاف للمسائل الخبيثة والمباحث الخطيرة

 في كتاب الأغلال] «نقد كتاب الأغلال»

الصفحة                           الموضوع

14

محل تهكم منه بالمصلحين الذين يقولون: إن رقي المسلمين ينحصر في الرجوع إلى تعاليم الدين وإرشاداته. يقول هو في صفحة 14: «ويوجد جماعات تكاد تقيم الدنيا وتقعدها مبشّرة بروح خلقية استاقت في طريقها جماهير الشباب وأوشكت تصيب معظمهم بنوع من جنون الغارة التقي البار والجنون المقدس، خلاصة هذه الرسالة أن طريق المجد ينحصر في الرجوع إلى الأخلاق الدينية الأولى...» إلى آخر ما قال وطوّل يردد هذا القول بكلام أكثره هذيان ولم يزل يهذي حتى قال في...

16

ص16: إن أعاصير رجعية مجنونة لتهب في هذه الآونة على مصر، التي رضيناها لنا زعيمة، وإنها لتترنح تحتها، ولا ندري أتثبت لها أم تتهاوى تحت ضرباتها الوجيعة. لست أحاول وقف العاصفة، فهي لن تقف، ولكنها ستتكسر على الشواطئ الصخرية إلى أن قال: «وحينئذ نرجو أن توجد العوامل التي تمنع هبوبها من جديد أو لا توجد العوامل التي تجعلها تعصف مرة أخرى» [الرجعية: المراد بها عند الملحدين الرجوع إلى القديم].

17

إلى أن قال في ص17: «وتجد كل الذين صنعوا الحياة وصنعوا لها العلوم والأساليب المبتكرة العظيمة، هم من أولئك الموصوفين بالانحراف عن الدين والتحلل منه»... إلى أن قال فيها: «طبيعة المتدين طبيعة فاترة، ولا تجد أعجز ولا أوهن من الذين يربطون مصيرهم بالجمعيات الدينية». ثم إنه تناقض فقال: ونرجع فنقول: إن الدين نفسه لا ذنب له... إلى آخر عبارته.

29

لما تكلم في ص29 عن المسلمين والأجانب قال: إن أولئك يعني المسلمين يريدون كل شيء من السماء من الآلـهة المتعددة، وأما هؤلاء فيعلمون أن عليهم أن يرجعوا إلى أنفسهم، وأن يطلبوا منها كل شيء، وأن في استطاعتها أن تهبهم ما فقدوا وما احتاجوا إليه، ثم تهكم بعد هذا بالخطباء المتضرعين إلى الله... إلى آخر كلامه.

34

بهرجته في صفحة 34: في نقل كلام الزمخشري والرازي والآمدي وابن أبي الحديد في حيرتهم، ونسب هذه الحيرة إلى الأمة الإسلامية كلها.

35

بعد تهكمه بمن يذم أرسطو وأمثاله ويقول: إنهم الذين وضعوا اللبنات الأولى للحضارة التي قامت عليها المدنيات ساقاً بعد ساقٍ... إلى آخر ما قال.

35

قال في أثناء كلامه في صفحة 35: ولكن الفرق بينهما ـ أي الصالح والطالح ـ أن الصالح آمن بالآخرية إيماناً تاماً، أما الفاجر فإنه لم يؤمن بها هذا الإيمان وإنما شك شكاً وظن ظناً أو كفر كفراناً أو نسي نسياناً، فراح يأخذ ما استطاع أخذه، ولم يجد إيماناً بالعاقبة يحمله على أن يعطي عاجلاً ليأخذ آجلاً... إلخ ما قال.

36

قال في ص36: من الواجب المفيد من أين جاء للإنسان هذا الكفر بإنسانيته وذاته؟ أو لماذا كفر بهما هذا الكفر؟ يلوح أنه كفر هذا الكفر لأنه أراد أن يؤمن بالله الإيمان الذي تصوره، فقد تصور أن أساس الإيمان بالله قائم على التفريق بين الخالق والمخلوق أو بين الله وعباده... إلخ ما قال في هذا المبحث الخبيث.


37

إلى أن قال عن أهل الدين في ص37: ولكن الديانات كلها مبنية على العبودية، ومن أجل هذا كله ومن أجل غيره فإنهم ما فتئوا يضعون الأهاجي المريرة الواصفة للإنسان بجميع أوصاف الانحطاط الذهني وغير الذهني، وقد رأوا ـ وما زالوا يرون ـ أنهم بهذه الأهاجي، يتقربون إلى الله وينالون رضاه ويتملقون رضاه ([33]) لأنهم يذمون غيره ([34])، فالخطيب والواعظ والشاعر والمفسر والمحدث... إلى أن قال: وقد أكثروا من هذه الفلسفة المجنونة المخذولة والتدين المدخول.

38

إلى أن قال في ص38 في سياق إنكاره على المتدينين: لو قيل لهم أن الإنسان قد يستطيع التوصل إلى جعل إخصاب المرأة كما يريد إن شاءه ذكراً وإن شاءه أنثى، كما توصل إلى هذا في كثير من الحيوانات، بل قد ([35]) قيل: إنهم صنعوه بالإنسان نفسه... إلى أن قال مستدلاً على إمكان كون الإنسان يقدر على كل شيء، قال: من غريب الاستدلال الباطل في حقيقته، العجيب في مرماه، ثم ذكر قصة بعض النصارى أن القول بإلهية المسيح وإن كان باطلاً فإنه مفيد في نتيجته ثم ذكر النتيجة.

41

إلى أن قال في ص41: فإن الحروب بل وكثيراً من هذه المظالم هي [أعظم] صقل تصقل به القوى... إلى أن قال: فهي شرور في الظاهر فقط.

45

في ص45: تحريف لحديث: «كنت سمعه الذي يسمع به... إلخ» يفسره بأن مدارك الإنسان لا حد لها تقف عليه، ولا شيء يقف في وجهها.


58

في أثناء كلامه على الإنسان صفحة 58: إنه راح يولد هذا الوجود ويشهد تكوينه وتوالده إلى آخر هذيانه عن تكون الكون بعضه من بعض.

59

إلى أن قال في ص59: ثم لم يقف بعلمه عند هذا بل ذهب يسابق الوجود فيسبقه، وذهب يخبرنا عما بقي من عمر هذا العالم، وعمر هذه الحياة، وهذا الوجود الذي سبق وعما بقي من عمر هذا الإنسان وغيره، ويخبر عن الأحداث والحوادث التي لا تزال في طريق الوجود، والتي لا تزال تترقب لتثب وثبتها.

60

إلى أن قال في ص60: ثم ذهب يتصل بالسماوات العلويات إما بالرسائل الكلامية إلى أن قال: نعم هم لم يصلوا حتى اليوم إلى هذه الغاية، ولكن من زعم أنهم لن يصلوا يوماً ما فقد أساء إلى نفسه. وفي هذه الصفحة تحريفه في تفسير: «ما أشهدتهم خلق السموات».

61

وفي ص61: الإنسان في وقت نزول القرآن إلى طور لا يعدو النظرة السطحية والإلمام بظواهر الأشياء دون النفوذ إلى بواطنها.

62

إلى أن قال في صفحة 62: لطور لا يبعد جداً عن الطور الحيواني.

63

إلى أن قال عن الأطفال في صفحة 63: يعتقدون أن الأطفال بطبيعتهم ملائكة مع أن الواقع إنهم شياطين أشرار.

64

إلى أن قال في تهكمه بأهل الدين الذين يدعون إلى التمسك بآدابه في صفحة 64: من أجل هذا فالحنين إلى الماضي والتصايح بالدعوة لتقليد الأولين والأخذ عنهم بلاهة. ثم حرّف الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة».

65

ثم لما نصر أن الإنسان شرير من كل وجه، قال مستدركاً: ولا يظن أحدٌ من القراء أنه يدخل في هذا الأصل الخبيث الشرير والظالم آدم والأنبياء الذين جاؤوا برسالة الإصلاح العامة... إلى آخر ما قال في ص66.


66

كان وقت نزول القرآن لم يعد كثيراً طور رؤية الظواهر دون معرفة البواطن، وكانت الإنسانية ترى أمماً تسقط وأخرى تقوم، ولكنها ما كانت تعرف لماذا يسقط هذا أو ينهض من ينهض؟ وكل ما يمكن أن تعلل به هذه الظواهر هو زعمها أن الآلهة أو الإلـه قد غضب على الأمم الساقطة الهاوية فحفر لها وأسقطها، ورضي على الأمم الأخرى القائمة السائدة فأقامها وسوّدها (لا يخفى ما فيه من إنكار عقوبات الله الدنيوية) وفي هذه الصفحة تحريف لقوله: {{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}}. {{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}} وينزلها على الناس الذين كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أولهم الصحابة.

67

إلى أن قال في ص67: كان هذا الطور الذي بلغته الإنسانية يوم نزول القرآن وقد عمل الإسلام أعمالاً باهرة لا تكفل لنقل الإنسانية من طورها هذا إلى ما هو أكمل منه وأفضل. إلى أن قال في هذه الصفحة: وإنا لنخشى أو نرجو ـ وقد تحقق أي الأمرين أحسن ـ أن يأتي الزمن الذي يقال فيه: الإنسان الصناعي والحيوان الصناعي ـ وهذا ما لا يزال العلم عنده حيران عاجزاً ولكنه ولكنه لم إلى آخر ما هذى به.

68

قوله: إن من السخف المبين أن يظل خطباؤنا وعلماؤنا ووعاظنا وجميع رجال الدين ـ فانطلق متهكماً بهم ـ أن يقوموا يذمون الإنسان وأنه لا يترقى إلى مزاحمة رب العالمين ومنازعته في علمه وقدرته... إلى ما قال عنهم منكراً متمسخراً عليهم.

69

إلى أن قال صفحة 69: إن من الواجب أن تجدد ثقافة جديدة، كل الجدة منتزعة من روحنا المضغوطة تحت هذه الثقافة الخبيثة القاتلة... إلى أن قال: ثم إن هؤلاء الذين يدعوننا إلى الكفر بالإنسان فندعوهم مجرمين ونفعل معهم كذا وكذا [يعني رجال الدين] ثم انبعث في هذا الكلام الخبيث.


70

إلى أن قال في صفحة 70: وأخيراً لقد زعم هؤلاء الهدامون أن قول الرسول من عرف نفسه عرف ربه، ثم زعموا أن معناه: من عرف نفسه متصفة بأضداد صفات... إلى آخر كلامه الخبيث إلى أن قال: لا يدعي هذه الدعوى، إلا قوم لا نصيب لهم في العقل والدين.

71

في صفحة 71: تهكم بمن روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الإنكار على من قرأ كتب الأوائل، وقوله: أمتهوكون أنتم؟ وأنكر على عمر ما جاء في الكتب الأولى على القرآن في كلام هذر كثير، وفي تحريمهم لعلم المنطق قاله متهكماً متمسخراً.

72

في صفحة 72: رده على ابن القيم في تقسيم العلم إلى قسمين، إلى أن انتقد قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أكثر أهل الجنة البله».

74

إنكاره على المسلمين المجذرين على كتب الحسن بن الهيثم وجابر بن حيان وأبي بكر الرازي والكندي ونحوهم.

76

فيه الإشارة لملك الأفغان ولبلاد العرب.

77

قال في ص77: في رميه المسلمين بالتعصب، نعم من الممكن أن يقال: إن التعصب الديني هو الذي حمل المسلمين في لبنان على اجتناب تلك المعاهد... إلى أن قال في الفكر العاجز عنده: رأوا بتفكيرهم العاجز، أن أعظم فرق بين الخالق والمخلوق هو الضعف والقوة؛ الضعف في المخلوق، والقوة في الخالق... إلى أن قال في...

78

صفحة 78: وهذه الفكرة الفاسدة إنما انتزعوها من قياس فاسد أخذوه مما بين أيديهم... إلى آخر ما هذى به.

80

إلى أن قال ص80: ومن الأوهام العظيمة التي جعلتهم يذمون الاشتغال بالعلوم اعتقادهم أن الإنسان إنما خلق لينفق كل جهوده وأعماله وأوقاته في العبادة.

81 ـ 82

إلى آخر ما قال ـ 81 ـ 82 ـ محتجاً بالمنحرفين على المسلمين.

83

قال 83: تفسيره للعلم وانتقاده لتفسير المسلمين للعلم.

84

قال 84: {{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}} فسّرها بقتال الكفار بعضهم لبعض حرَّف كلام الله، ولم يعبأ بتفسير المسلمين.

85

قال 85 مفضلاً عقول الملاحدة على عقول المسلمين: أقوام وهبهم الله عقولاً ممتازة كبيرة عبقرية فشحذوها ثم استخدموها في اختراع أشياء عظيمة أسعدت الإنسانية، ونجت من ويلات كانت تعانيها منذ خلقت وقدمت إليها أموراً كانت محروسة منها أيضاً منذ وجدت، أم قوم ذوو عقول ضيقة حرفية تقليدية... إلى أن قال: راحوا يكتبون في تكفير من يصنع كيت وكيت... إلى آخر ما هذى به.

87

كلامه على المرأة.

97

إلى أن قال في 97 في تهكمه بمن يلجأ إلى النصوص: ويقوم من يعدون منها مصلحين متنورين يديرون المعارك الجدلية، منتزعين أسلحتهم من تلك النصوص وهاتيك الأديان ليقنعوا الآخرين بجواز ذلك.... ولقد جهلت وهانت تلك الأمة التي تحتاج إزاء الحقيقة الباهرة الملموسة إلى براهين دينية تقنعها بفائدتها أو بجوازها وجواز الأخذ بها، وإذا ما رأيت... إلى أن قال في تفضيل الملحدين: ولولا هؤلاء لما استطاعت الإنسانية أن تنعم بشيء مما تنعم به اليوم من هذه الحياة المشرقة الواضحة ولما استطاعت أن تدرج عن وجودها الأول الفطري البليد فكل هؤلاء الذين أعطونا هذه الحياة وعوّدونا على التحرر والخطو إلى الأمام شكر الإنسانية أجمع... إلى آخر ما هذى به.

98

نقله لآراء المنحلين في سفور المرأة وزعمه أنه يريد منهم استحسانه واستيعابه له.


103

قالوا... إلى آخره.

120

قال 120: تكذيبه لأنس رضي الله عنه وغيره في طواف النبي صلّى الله عليه وسلّم على نسائه بغسل واحد.

124

قال 124: إننا نعلم ونعتقد أن الإسلام دين خالد عام؛ فهل من الممكن أن يكون كذا وكذا؟ إذا كان يحرم تعليم المرأة، ويقضي عليها بالجهالة الأبدية، ونحن حينما نذكر العلم، نريد العلم الناضج لا الناقص، فإن هذا العلم النصفي أو الجزئي قد يكون عاجزاً... إلى آخر ما قال وهذى.

126

قال 126 وما بعدها: يمدح الحياة الدنيا، ويحمل على المسلمين في نقلهم الأحاديث الزهدية، والحاثة على الصبر والفقر وغيرها، جامعاً معها آثاراً باطلة للتوسل.

132

قال 132 مفسراً تكسب المعدوم: أي إنك لرجل تاجر ماهر.

140

إلى أن قال متهكماً بالعلماء على اختلاف طبقاتهم: والروايات في مدح الفقر والفاقة وذم الدنيا والغنى كثيرة جداً [لا يخلو] منها كتاب بل ادعى جماعات من هؤلاء أن غاية الدين وجملته أربع كلمات إحداها كلمة (ازهد في الدنيا). ثم جعل ينحي عليهم بهذر كثير يدل على سخافته وعلى رداءته.

149

إلى أن قال 149 في خاتمة ذم المسلمين: فما أعظم خطرهم وأقبح أثرهم، ثم قال مادحاً لقدماء الفلاسفة: لما أراد القدماء من الفلاسفة، ثم عظّمهم تعظيماً.

160

إلى أن قال 160: شاعت هذه الأقاويل المحطمة بين المسلمين، وذكر أن نتائجها اندحار المسلمين... وقد هذر هذراً كثيراً.

165

إلى أن قال 165: والمسلمون الذين اعتقدوا أقاويل هؤلاء الشيوخ، ثم ذكر ما يروونه عن الدنيا وفيه منه شيء من التهكم بالجزاء على تقديم الدنيا على الدين.


167

إلى أن قال 167: فلأن تأثير هذه الأفكار والآراء الميتة الموجودة في تلك الكتب الميتة.

170

إلى أن قال 170: وقال سهل: وهو أحد أصنامهم.

178

قال 178: وهذا خلاف ما عرف وعهد في الكتب الدينية، فإنها تعلق كل فلاح حتى الفوز بالدنيا، وبالخيرات المادية على الصلاح والعبادة والتقوى؛ وتعلق كل شر على ضد ذلك، أي أنها تعلل كل شيء تعليلاً دينياً لا تعليلاً طبيعياً؛ إلى آخر ما قال مفضلاً ما تعلم عن التوراة، عما جاء في القرآن.

179

قال متندماً على أحواله الماضية حالة الاستقامة، ويود أنها كحالته الموجودة الآن، ثم تهكم بمن يقول: «وكل الذي فوق التراب تراب» وكانت الخطباء، إلى آخر ما سخر به من أحوال الخطباء والوعاظ.

182

إلى أن قال 182: كم أرثي لهؤلاء المساكين. وجعل يتهكم بالواعظ والموعوظ.

183

انتقد من قال: الزهد محله القلب.

200

قال 200: وقد كان الأولون ينسبون إلى الأرواح، أغلب حوادث العالم المشهودة المرئية أو كلها، فالأفلاك عندهم... إلى آخر ما قال.

205

إلى أن قال 205 مستدلاً: وليعلم بعد هذا أننا ممن يؤمنون بالأرواح والملائكة والجن، وبكل ما جاء من الله.

206

قال 206 منكراً للعين ومما يتصل بمسألة الأرواح المعتدية: مسألة الإصابة بالعين أو النظرة... إلخ.

246

قال 246 منكراً بالفقر الحقيقي إلى الله، بعد كلام له نقلاً عن ابن القيم ولم يسمه: فصل: من ترك الاختيار... إلى آخر كلام ابن القيم وهو لا يرتضيه لما أنهاه وقال: وهذا كلام صريح في ترك العمل استسلاماً للقضاء والقدر.

268

قال 268 في ذكر الأسباب: لست أريد أن أقول: إن التوكل هو الأخذ بالأسباب مع الاعتقاد بأن الله قد يدخل فيها فيجعلها إن شاء... إلخ.

279

قال 279: أما الآيات التي تنص على آجال الأفراد والأمم، وأنهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون... ثم ذكر كلاماً معناه إنكار ارتباطها ([36]).

293

قال 293: أما هؤلاء الذين قلدوا الزعامة الدينية، ثم فضّل المتأخرين من الملحدين على السلف من المسلمين، تفضيلاً صريحاً، وأنه يجب تقديم الجديد على القديم.

296

قال 296 متهكماً بحديث أنس: «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه».

298

إلى أن قال 298: وأن الشر أبداً في ازدياد، وأن كل شيء ينقص إلا الشر فإنه يزيد، روايات من أصر على نسبتها للإسلام وللرسول ولصحبه، فقد أصر على التنقيص والاتهام.

302

قال 302: كان رشد الإنسانية أمامها... إلى آخر ما قال: إن الرشد في هؤلاء الملاحدة، وضده في الصحابة والقرون المفضلة.

303

إلى أن قال 303: إذا ما أدار نظرة حوله فوجد أن أكبر جامعة إسلامية، قد بلغت من العمر أكثر مما بلغه نوح عليه السلام، قد عقمت في عددها العديد، إلى آخر ما هذى به.

305

إلى أن قال 305 في ذم رجال الدين السابقين: والسبيل لإنقاذ هذه الجماعات المتعددة أن تعلم الكفر بهؤلاء، والشك فيهم، وإساءة الظن بهم وبعلمهم وأنهم كانوا تحت ظنهم بهم جداً، وأنهم أبْعد عن الكمال من المعاصرين ومن المتأخرين.


311

إلى أن قال 311: وعلى هذا الاعتقاد ـ اعتقاد الكمال في الأولين ونقص الآخرين ـ قامت أكبر جهالة رضيها الإنسان لنفسه... إلخ ما هذى به.

315

قال 315: المشكلة التي لم تحل، حاول فيها التملص من الإيمان، وأن الإيمان بالله لا نجاح معه، ثم حطَّ على المتدينين، وتهكم في صفحة 317 في الشرع والدين وأهله.

317

ثم قال: عجز المتدينون على اختلاف أديانهم وأزمانهم وأنبيائهم وأمزجتهم وأجناسهم على أن يهبوا الحياة شيئاً جديداً، أو أن يكونوا فيها مخلوقات متألقة.

318

قال 318: على أنه لا خلاف في أن أسمى هذه الآمال. عبارات فيها تهكم بالآخرة.

319

قال 319: إن أسباب عجزهم هو هذا التصوير أي تصور الآخرة.

319

قال 319: من المعلوم أن أوروبا... ثم شرع يصب عليها الثناء.

322

قال 322 نقلاً عن بعض فلاسفة الملحدين: إن الإيمان أكبر نكبة على البشر لأنه وقف بالحضارة عن التقدم. واستدرك قائلاً إنه يبرأ من كل إلحاد.

322

إلى أن قال: ثم المتدين يفقد الميزان الفكري، الذي توزن به الأمور في الغالب، ويصبحون من الناحية النفسية أناساً طيبين خيرين فاقدين لكل صناعة عقلية... إلى آخر ما قال عنهم.

325

إلى أن قال 325: بل يرون الوجود كله بما فيه من حوادث وأحداث محكوم بقوة مجنونة أو هي كالمجنونة في أفعالها، ثم ظن أنه يستدرك في هذه المهالك الفظيعة فقال: كل هذه حقائق لا ريب فيها، ولكن ما معنى هذا؟ هل معناه أن الدين مفسد للبشر؟ ليس هذا هو المراد، ولا هو الصحيح... إلى آخر ما قال عن الدين بعبارة باردة يراد بها دفع الاعتراض.

326

إلى أن قال 326: إن البشر عاجزون فيما يبدو لنا حتى اليوم، عن أخذه وفهمه، على وجهه النافع المفيد، بل هم إما أن يبقوا غير متدينين، أو متدينين تديناً باطلاً، ولا بد من استثناء فترات أو ومضات قليلة خافتة.

328

إلى أن قال 328 آخر الصفحات: هذه المشكلة التي لم يستطع أحد حلها بعد، وإلا فكما استطاع الدين أن يهب الإنسانية الأمل الحار والوقود لتسير في طريقها... إلى أن قال عن الدين وأحسن بعض الإحسان، ولكن هذا اعتذار لا يفيده عند الناس شيئاً. اهـ الموجود من نقد كتاب «الأغلال».




[1] - نظر: الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة، للعلامة السعدي بعناية هيثم الحداد، طبعة دار المعالي ص160.

[2] - انظر: الأجوبة النافعة ص147.

[3] - لم أقم بترجمة للمؤلف الإمام الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ وذلك لشهرته العلمية ووجود تراجم حافلة له من أحسنها وأجودها كتاب الشيخ الفاضل الدكتور/ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر ـ حفظه الله ـ فليرجع إليه والله المعين والمسدد.

[4] - وهذه الجمل المتكاملة من ذلك التقسيم الرائع، والسبر الماتع، يدل على الإنصاف ولزوم جادته من الشيخ السعدي رحمه الله إذ لم ينكر ما في الكتاب من حق ودعوة إلى العلم الدنيوي، وذم الجهل وآثاره الضارة، ولكن ذلك لا يعني تفرد القصيمي بالدعوة إليها؛ لأن العلماء كانوا أشد لزوماً وأحسن وضوحاً وأطيب تفسيراً كما قال تعالى: {{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}}.

[5] - زائدة من مطبوعة مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة ص427، مجلد 2، ج/5.

[6] - أخرجه البخاري (4436)، ومسلم (2444)، وابن ماجه (1620)، والطيالسي (2390).

[7] - وقد كتب الشيخ ابن سعدي رحمه الله رسالة لطيفة الحجم، كثيرة الفوائد تحت اسم «محاسن الدين الإسلامي» طبعت منذ مدة طويلة من الزمان.

[8] - يريد الشيخ حرية الفكر وعدم التقليد، والخروج على سلطة الظلم الكنسية والزمنية وحرية البحث، إلى ما استفادوه من المسلمين أيام الحروب الصليبية وبعدها، وكذلك في أيام الأندلس الزاهرة.

قال فلامريون الفلكي الأمريكي: قد استولت الكنيسة ستة قرون فلم تنجب فلكياً واحداً، وقد أنجب الإسلام في قرنين الكثير من علماء الفلك والطب والطبيعة والكيمياء. نقله الأستاذ الإمام في رسالته: «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية». تعليق من الطبعة الأولى  للكتاب.

[9] - سبق تخريجه.

[10] - في المطبوع [الذين] والصواب ما أثبت أعلاه.

[11] - معنى حديث أخرجه البخاري (5678)، والبغوي في شرح السنة (3225)، وأبو القاسم البغوي في الجعديات (2165)، والطيالسي (368)، والحاكم (4/196).

=وكذلك أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه (3436)، وأبو داود بعضه (3855)، والترمذي (2039)، والبخاري في الأدب المفرد (291)، والحميدي (824)، وابن أبي شيبة (8/2) وسند الحديث صحيح.

[12] - أخرجه الإمام أحمد في المسند مختصراً من حديث أبي بكرة برقم (20430).

والبخاري في الأدب المفرد (701)، وأبو داود (5090)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (22) و(572) و(651)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (69).

وأخرجه الطيالسي (868) و(869)، وابن أبي شيبة (10/196 و205 ـ 206) ومن طريقه ابن السني (342).

وهو حسن بشواهده ومتابعاته، والله أعلم.

[13] - قلت: وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه إذ الجد والاجتهاد في أمور العلم والتقدم فيها والرقي في مدارجها يصل بالسالك لجادتها إلى الازدهار والحضارة، وهي مع ذلك ليست مقياساً وميزاناً للحق بل الحق في اتباع الوحيين والسير على منوالهما وصراطهما المستقيم، وكأن العلامة الإمام ابن سعدي رحمه الله في تقريره ورده على القصيمي يحكي حال أولئك الذين علموا ظاهراً من الحياة الدنيا ووصلوا إلى مبتغاهم منها بالجد والاجتهاد في أمورهم الدنيوية، بل إنه رحمه الله بذلك يريد أيضاً أن ينبه المسلمين بعدم الاغترار بتقدم ورقي أولئك في الدنيا لأنها ليست المعيار والميزان الحق بل هي ابتلاءات وامتحانات ستزول وتنقضي والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

[14] - أخرجه البخاري (6502)، ومسلم (2372)، والإمام أحمد في المسند (26723)، والبغوي في شرح السنة (1248)..

[15] - أخرجه البخاري (1359) من حديث أبي هريرة، ومسلم كذلك (2658)، وابن حبان (128)، والإمام أحمد في المسند (7181) من حديث أنس بن مالك.

[16] -سبق تخريجه في الصفحة السابقة.

[17] - أخرجه البزار في مسنده (1983) وهو في مسند الشهاب للقضاعي (2/110) رقم الحديث (989)، وفي الفردوس للديلمي (1/362) وكذلك أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/126) برقم (1367).

وقال البزار: وقد روي بعضه مرفوعاً من وجوه، وبعضه لا نعلمه إلا من هذا الوجه، وسلامة هو ابن أخي عقيل، ولم يتابع على حديثه: «أكثر أهل الجنة البله» على أنه لو صح لكان له معنى.اهـ.

وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/934) أما حديث أنس فقال ابن عدي: هو حديث منكر بهذا ولم يروه عن عقيل غير سلامة، قال الدارقطني: تفرد به سلامة عن أنس.اهـ.

والحديث ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (2/183) في ترجمة سلامة بن روح وأشار إلى ضعف سلامة بن روح وتفرده.

والمعنى الذي أشار إليه الشيخ السعدي رحمه الله في توجيه الحديث معنى دقيق قد سبقه إليه بعض الأئمة ممن رووا الحديث.

[18] -خرجه الإمام أحمد في المسند بهذا اللفظ (11946)، وابن أبي شيبة في المصنف (1/147)، وأبو يعلى في المسند (3718)، والطحاوي في شرح

معاني الآثار (1/129)، وابن ماجه (589)، وابن حبان (1207)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي ص232.

وهو بغير هذا اللفظ موجود في الصحيح، والله أعلم.

[19] - أخرجه البخاري (7068)، والإمام أحمد في المسند (12162)، وابن ماجه (4039)، والحاكم (4/441)، وابن حبان (5952)، وأبو يعلى في المسند (4036)، والطبراني في المعجم الصغير (528)، والقضاعي في مسند الشهاب (903)، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (468).

[20] - قال الفقير إلى عفو ربه القدير أبو يوسف القُرعاني ـ ختم الله له بخير ـ انتهيت من قراءته ومقابلته في مجالس متعددة آخرها في المدينة النبوية بتاريخ 24/6/1426هـ والله الموفق للخيرات وهو الهادي إلى سواء السبيل.

[21] - سبق تخريجه.

[22] - تقدم تخريجه.

[23] - قول العلامة ابن سعدي رحمه الله: هذا الكاتب أو غيره، من الإشارات الصريحة أو المكنية فالمقصود بها مؤلف كتاب «الأغلال القصيمي».

[24] -كبرت كلمة تخرج من فمه المأفون إن قال إلا كذباً وزوراً، بل العزة لله جميعاً، والعزة لله ورسوله وللمؤمنين، والذلة والصغار والعار والشنار، والخزي، والضلال، للكفار، وكل خبيث مخبث، من شياطين الإنس والجن، وما هذه الكلمات إلا دليل قاطع على زيغ القلب وانتكاس الفطرة، نسأل الله الثبات على دينه.

[25] - ظفّ: جمع وإنهاء.

[26] -«الجامعة الإسلامية» اصطلاح أطلق في ذلك الوقت وما قبله وحمل عدة معاني دالة على الرجوع إلى الإسلام، ومنها الدعوة إلى الوحدة الإسلامية.                        =

= انظر: حركة الجامعة الإسلامية، للدكتور أحمد فهد بركات الشوابكة ص5 من المقدمة، ط مكتبة المنار بالأردن، سنة 1404هـ. من تعليق الأخ الشيخ هيثم بن جواد الحدّاد ـ وفقه الله ـ.

[27] - سبق تخريجه.

[28] - يعني الشيخ عبد الرحمن بن عودان قاضي عنيزة رحمه الله.

[29] - هو الشيخ العالم الجليل محمد تقي الدين الهلالي المغربي من كبار علماء المغرب، بل العالم الإسلامي، كان ممن له الجهد المشكور في إحياء الدعوة إلى التوحيد، توفي عام 1407هـ بالمملكة المغربية وله آثار علمية وكتب مفيدة وتلاميذ كثيرون في العراق والسعودية والمغرب ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ.

[30] - قلت: ودليل ذلك قول الله تعالى: {{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}} وغيرها من الأدلة؛ لأن السنة مبينة لما عممه ومفصلة لما أجمل من كتاب الله، مقيدة لما أطلق منه، فهي وحي من الله، لا نطق عن الهوى.

[31] - زيادة يقتضيها الحال.

[32] -كلمة غير واضحة في الأصل الخطي، لعلها: «انظر إلى...».

[33] - في المطبوع: (ألوهيته).

[34] - في المطبوع: (من عداه).

[35] - في المطبوع: (كما).

[36] - كلمة غير واضحة في الأصل.