أخلاق نفتقدها
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
أخلاق نفتقدها
القسم العلمي بدار ابن خزيمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله..وبعد:
فإن من أهمِّ مقاصد بعثة النبي ﷺ إلى الناس كافَّة هو تتميم مكارم الأخلاق والدعوة إليها؛ قال ﷺ: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق». [رواه أحمد والحاكم].
والخلق الطيب هو أفضل ما يتزيَّن به المسلم ويتعبَّد الله به؛ فهو زينةٌ فعَّالةٌ وحلية أقواله وأعماله، وذخره في عاقبته ومآله.
قال رسول الله ﷺ : «عليك بطول الصمت وحسن الخلق، فما تزينت الخلائق إلا بمثلهما».
وقال ﷺ أيضاً: «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم». [رواه الحاكم وصححه].
ولئن كان هناك من الأخلاق ما يتطلب مجاهدة للنفس وصبراً على الضُّر، فإن الكثير منها هيِّن على النفوس وشفاء لها.. بيد أن غفلة الناس عن تلك الأخلاق واقعة.
العفو والسماحة
من أهم الأخلاق وأعلاها: العفو والسماحة، وهذا الخلق على سمو منزلته يعد من الخصال الغائبة بين الناس، ولو تأمل المسلم ما يفوته من الأجر والخير بفوات هذا الخلق الجميل لتحسر على نفسه أسفاً!
فالعفو باب من أبواب العز والنصر، كما قال النبي ﷺ: «وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزًّا». [رواه مسلم].
والسر في أن العفو من مفاتيح العز هو أن الإحسان على درجات، وأثقل الإحسان على النفس هو نسيانها حقوقها، وتجاوزها عن مظالمها، وهذا لا يستطيعه إلا القليل من الناس، ومن المعلوم أن الله جل وعلا قد أخبر أنه مع المحسنين، وأخبر أن العافين عن الناس هم المحسنون، فقال سبحانه: }وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ{، وقال سبحانه: }وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{؛ فمعية الله – سبحانه - بحسب إحسان المؤمن، ولمَّا كان العفوُ من أعلى درجات الإحسان فإن معيَّةَ الله للمحسن تكون مناسبةً لتلك الدَّرَجة، ومعيته سبحانه للمؤمن هي معية علم وتأييد ونصرة، وهي معيَّةٌ خاصَّةٌ بالمؤمن دون سواه؛ بخلاف معيَّة العلم التي تعمُّ الخلائق كلَّها.
ومن هذا يتبيَّن أنَّ العفوَ هو أوسع أبواب العزِّ وأقلُّها كُلْفَةً وأسهلُها على النُّفوس مقارَنةً بالأسباب الأخرى، ولذلك عدَّ العلماء العفو هو حسن الخلق نفسه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : وجماع الخلق الحسن مع الناس أن تصل مَنْ قَطَعَكَ بالسَّلام والإكرام والدعاء له والاستغفار، والثناء عليه، والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمَّن ظلمك في دم، أو مال، أو عرض، وبعض هذا واجب، وبعضه مستحب).
ولا يتصوَّر عفو إلا بكفِّ الغضب وكظم الغيظ، ولقد تقرَّر في السُّنَّة أنَّ كفَّ الغضب بابٌ من أبواب السّتر؛ كما قال ﷺ : «ومن كَفَّ غَضَبَه سَتَرَ الله عورتَه».
أخي الكريم: ولا تظنَّنَّ أنَّ العفوَ وكفَّ الغضب وكظمَ الغيظ سمةُ ضعف في الإنسان؛ بل هو دليل الشِّدَّة والقوَّة وبُعْد النَّظَر والعقل والحكمة؛ قال رسول الله ﷺ : «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». [رواه البخاري].
قال الشاعر:
وإن الذي بيني وبين بني أبي | ||
وبين بني عمي لمختلف جداً | ||
إذا قدحوا لي نار حر بزندهم | ||
قدحت لهم في كل مكرمة زنداً | ||
وإن أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم | ||
وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجداً | ||
ولا أحمل الحقد القديم عليهم | ||
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا | ||
النصيحة والتواصي بالحقِّ
وهذا أيضًا من أهمِّ الأخلاق التي لوحظ غيابُها بين الناس رغم أنها ركيزةٌ من ركائز الفوز في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: }وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{.
وحين تغيب النصيحة والتواصي بالحق يحل محلها الغيبة وتتبع العورات وتلقف الزلات والهمز واللمز والطعن في الأعراض، ولو صدق المغتاب في قوله.. لنصح وما فضح!
ولو صدق من يسمعه في سمعه لنصحه بأن ينصح قبل أن يتكلم!
قال رسول الله ﷺ : «الدين النصيحة». وفي ذلك من بيان مكانة النصيحة ما لا يخفى.
البشاشة والرفق
البشاشة الصادقة والرفق بالناس هما طريقان ميسران للقلوب؛ فبهما تزول الوحشة ويحصل الأنس، وتحل الطمأنينة محل الشك والريبة، وها هو القرآن يعلمنا ثمرات الرحمة والرفق.
قال الله تعالى: }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ{.
وقال رسول الله ﷺ: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقي أخاك بوجه طلق» [رواه مسلم].
وقال ﷺ أيضا: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة» [رواه الترمذي وحسَّنه].
ولله در القائل:
وما اكتسب المحامد حامدوها | ||
بمثل البشر والوجه الطليق | ||
وأما خلق الرفق فهو صفة من الصفات الإلهية يحبها الله سبحانه ويحب أهلها، كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ فقال: «إن الله رفيقٌ يحب الرِّفق في الأمر كلِّه». [رواه البخاري].
والرفق في الأمور من أسباب نجاحها وتمامها وزينتها، كما قال ﷺ: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه». [رواه مسلم]، وقد أخبر رسول الله ﷺ أنَّ اللين والسهولة والرفق من صفات أهل الجنة فقال: «أهل الجنة كل هين لين سهل قريب من الناس».
الكلمة الطيبة
(الكلمة الطيبة) من أجلِّ العبادات التي ترفع مقام صاحبها عند الله، كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ فقال : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة». [رواه أحمد والترمذي].
وما كان هذا الثواب العظيم جزاء الكلمة الطيبة إلا لما لها من وقع في النفوس، ومن دور في حفظ العلاقات الاجتماعية بين الناس، ونشر المحبة والوئام والمودَّة بينهم، ولذلك أمر الله - جل وعلا - بها فيه آية صريحة فقال: }وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا{.
وانتقاء الكلمة الطيبة لا يستطيعه إلَّا مَنْ وفَّقَه الله لذلك؛ لأنه يقتضي من المجاهدة ما يدعو إلى عدم الرَّدِّ على الشاتم بالمثل، وإلى الصبر على الهامز واللامز والمعير والقاذف والمؤذي بلسانه.. فالناس وإن كانوا يبذلون الكلمة الطيبة في غير الخصومة إلا أنه حين يشتد غضب الآخرين وتظهر بوادر تسلُّط ألسنتهم فإن القليلَ من يوفَّق إلى مقابلة الغلظة باللِّين، والغضب بالعفو والسماحة والحلم.
بني إن البر شيء هين | وجهٌ طليقٌ ولسانٌ ليِّنٌ |
إفشاءُ السَّلام
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أولا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السَّلامَ بينكم». [رواه مسلم].
وإفشاء السلام لا يختص بالمسلم المعروف لدى المسلم؛ بل هو مستحبٌّ لكلِّ مسلم عرفتَه أو لم تعرفه، وحسبُك أنَّك تظفر من ذلك بحسنات تجدها ذُخْراً ونصيراً يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ومعاني السلام كلها معان جميلة تدلُّ على المودَّة والمحبَّة والوصال، ولذلك نهى رسول الله ﷺ عن ضدِّ هذه المعاني فقال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث». [رواه البخاريُّ].
القناعة
وهذا الخلقُ النَّبيل من الأخلاق المؤسِّسة لصرح السعادة في القلوب والطمأنينة في الصدور، وهي من الأخلاق التي قلَّ من الناس مَنْ يوفَّق إليها؛ لا سيما في هذه العصور، رغم أنه باب من أبواب الفلاح ومفتاح من مفاتيح العزة؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه». [رواه مسلم].
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً، وقنع». [رواه الحاكم وصححه].
والقناعة خُلُقٌ ينشأ من صفاء الإيمان في القلوب، والرضى بقضاء الله وقدره، والجزم بأن الحرص والشح والبخل لا يزيد في الرزق، ولا ينقص منه؛ فالله جل وعلا قد قسَّم الأرزاق في الأزل وقدَّرها وكتبها وما كتبه الله لا يمحى.
ثم اعلم - أخي الكريم – أن المقصود من الأشياء نفعُها لا ذاتها؛ فليس المال مقصوداً لذاته؛ وإنما لما وراءه من النفع، وإنما يقصد بالمال تحقيق الغنى والسعادة، وليس المال هو ما يحقِّق ذلك؛ وإنما القناعة والرضى..
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : «يا أبا ذرّ، أترى كثرة المال هو الغنى؟» قلت : نعم يا رسول الله. قال: «فترى قلة المال هو الفقر؟» قلت: نعم يا رسول الله. قال: «إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب». [رواه ابنُ حبَّان في صحيحه].
وقال ﷺ أيضاً: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس». [رواه البخاري].
الأخوة والحب في الله
ومن أركان الأخلاق وقواعدها العظيمة : المحبة في الله؛ فهي خلقٌ عظيمٌ أجره، جزيل فضله وثوابه، وتأمل أخي في هذا الحديث العظيم الذي يبيِّن منزل هذا الخلق النفيس.
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ: «إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله! قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابُّوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إنَّ وجوههم لنور وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس». وقرأ هذه الآية: }أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{». [رواه أبو داود، وهو في صحيح أبي داود برقم: 3012].
والحب في الله كما أنه سبب للرفعة والنور يوم القيامة، هو من أوسع أبواب انشراح الصدر وزوال الهم وإكرام الله جل وعلا للعبد ومحبته له.
قال ﷺ: «وما أحب عبدٌ عبداً إلا أكرمه الله».
وتشقى النفوس إذا اجتمعت على غير محبة الله، فحرمت من هذا الأجر العظيم والشرف الكريم.
حب في الله يوحدنا | ويواسي القاصي والداني | |
إخواني تلقاني فيهم | وبقلبي تلقى إخواني |
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.