×
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح : كتاب للإمام ابن القيم - رحمه الله - ضمنه ما أعدَّه الله - عز وجل - لأهل الجنَّة من نُزُل ونعيم مقيم.

 حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح

تأليف الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ) تحقيق زائد بن أحمد النشيري إشراف بكر بن عبد اللَّه أبو زيد دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


رَاجَعَ هَذا الجُزْءَ يحيى بن عبد اللَّه الثُّمالي علي بن محمّد العمران

(المقدمة/3)


مقدمة التحقيق إنَّ الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مُضلَّ لهُ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهدُ أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله. - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. - {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فهذا كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" لابن قيم الجوزية، ضمَّنه مؤلفه ما أعدَّه اللَّهُ لأهل الجنَّة: من نُزُل ونعيمٍ مقيم، وهو كتاب كما قال عنه مؤلفه: "اسمٌ يطابق مسمَّاه، ولفظٌ يوافق معناهُ، فهو مثير ساكن العزمات إلى روضات الجنَّات، وباعث الهِمَم العليَّات إلى العيش الهني في تلك الغرفات". وقبل الحديث عن دراسة الكتاب وما يتضمنه، أحبُّ أن ألقي

(المقدمة/5)


الضوء على بعض المؤلفات التي تتحدث عن "الجنَّة ووصفها ونعيمها" فأقولُ وباللَّه التوفيق: تنقسم الكتب المؤلفة عن الجنة إلى قسمين: الأول: كُتب مفردة في الجنة ووصفها ونعيمها. الثاني: كتب تضمنت الحديث عن موضوع الجنة ووصفها ونعيمها وهي نوعان: أ - كتب خاصة عن أحوال الآخرة. ب - كتب الصحاح والسنن والجوامع والمصنفات المؤلفة على الأبواب الفقهية.

  القسم الأول: كتب مفردة في الجنة ووصفها ونعيمها:

1 - "وصف الفردوس". لعبد الملك بن حبيب الأندلس الالبيري (ت/ 238 هـ). - طبع بدار الكتب العلمية - ط الأولى - 1407 هـ - 1987 م. 2 - "صفة الجنة". لأبي بكر عبد اللَّه بن محمد بن عبيد القرشي المعروف "بابن أبي الدنيا" (ت/ 281 هـ). - نشرته مكتبة ابن تيمية - القاهرة - ط الأولى - 1417 هـ - 1996 م - تحقيق ودراسة/ عمرو عبد المنعم سليم. 3 - "دقائق الأخبار في بيان أهل الجنة وأهوال النار".

(المقدمة/6)


لأبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي (ت/ 375 هـ). انظر الأعلام للزركلي (8/ 27). 4 - "صفة الجنة". ليحيى بن إبراهيم بن محارب السرقسطي (ت/ 414 هـ). انظر هدية العارفين (2/ 518). 5 - "صفة الجنة". - لأبي نعيم الأصبهاني (ت/ 430 هـ). - طبعة دار المأمون للتراث (دمشق - بيروت)، (ط - الأولى) 1408 هـ - 1988 م. تحقيق/ علي رضا عبد اللَّه. 6 - "صفة الجنة". - لضياء الدين أبي عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي (ت/ 643 هـ). - طبعة دار بلنسية - الرياض - 1423 هـ - 2002 م. - تحقيق/ صبري بن سلامة شاهين.

  القسم الثاني: كتب تضمنت الحديث عن موضوع الجنة ووصفها ونعيمها.

  أ - كتب خاصة عن أحوال الآخرة:

1 - "الزهد" رواية نُعيم بن حماد.

(المقدمة/7)


لعبد اللَّه بن المبارك المروزي (ت/ 181 هـ). - طبعة دار الكتب العلمية - بيروت. تحقيق/ حبيب الرحمن الأعظمي. 2 - "الزهد" لهناد بن السري الكوفي (ت/ 243 هـ). - طبعة دار الخلفاء للكتاب الإسلامي - الكويت. (ط/ الأولى) 1406 هـ - 1985 م. تحقيق/ عبد الرحمن الفريوائي. 3 - "تنبيه الغافلين بأحاديث سيد المرسلين". لأبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي (ت/ 375 هـ). - طبعة - دار الكتب العلمية - بيروت (ط/ الثانية) - 1406 هـ - 1986 م. كتب حواشيه وصححه/ أحمد سلام. 4 - "البعث والنشور". لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت/ 458 هـ). - طبعة مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت - (ط/ الأولى) - 1408 هـ - 1988 م. تحقيق/ محمد السعيد بسيوني زغلول. 5 - "العاقبة في أحوال الآخرة". لأبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن الحسين الأزدي الأندلسي الإشبيلي (ت/ 581 هـ). - طبعة دار الصحابة - طنطا - (ط/ الأولى) - 1410 هـ - 1990 م.

(المقدمة/8)


تحقيق/ عبيد اللَّه المصري الأثري. 6 - "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة". لمحمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي (ت/ 671 هـ). طبعة دار المنهاج - الرياض - الطبعة الأُولى - 1425 هـ. دراسة وتحقيق/ الدكتور: الصادق محمد إبراهيم. 7 - "الفتن والملاحم". لأبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت/ 774 هـ). - طبعة: دار الكتب العلمية - بيروت - (الطبعة الأولى) - 1408 هـ - 1988 م. ضبطه وصححه/ أحمد عبد الشافي. 8 - "البدور السافرة في أمور الآخرة". لجلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد بن سابق الأسيوطي "السيوطي" (ت/ 911 هـ). - طبعة مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت - (ط/ الأولى) (1411 هـ - 1991 م). تحقيق/ أبي محمد المصري. 9 - "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" (1). __________ (1) لمعرفة المزيد من المؤلفات التي تتحدث عن الجنَّة، انظر معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي، وبيان ما فيها، تأليف: عبد اللَّه بن محمد الحبشي (1/ 380 - 381).

(المقدمة/9)


لمحمد بن أحمد السفاريني (ت/ 1188 هـ). انظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/ 50) للسفاريني.

 ب - كتب الصحاح والسنن والجوامع والمصنفات المؤلفة على الأبواب الفقهية.

ففي كل من "صحيح مسلم"، و"جامع الترمذي"، و"سنن ابن ماجه" و"سنن الدارمي" و"صحيح ابن حبان" و"شرح السنة" للبغوي؛ و"المصنف" لعبد الرزاق الصنعاني، و"المصنف" لأبي بكر بن أبي شيبة = أبواب تتعلق بـ "صفة الجنة ونعيمها ووصفها". - وتتميز تلك الكتب عدا مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة بما يلي: 1 - الترجمة والتبويب لتلك الأحاديث. 2 - الاقتصار على الأحاديث المسندة (المرفوعة) فقط؛ إلا ما ندر. - ويتميز مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن تلك الكتب بما يلي: 1 - خلوهما من الترجمة والتبويب. 2 - احتواؤهما على الأحاديث المرفوعة والمرسلة والموقوفة والمقطوعة. - وتتفق جميع الكتب على: 1 - عدم استيعابها لأحاديث الجنة ووصفها. 2 - تضمنها على الأحاديث الصحيحة والضعيفة عدا صحيحي البخاري ومسلم.

(المقدمة/10)


 التعريف بكتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح

ويتضمن ما يلي: 1 - اسمه. 2 - إثبات نسبته إلى مؤلفه. 3 - تاريخ تأليفه. 4 - نقول العلماء منه، وثناؤهم عليه. 5 - موضوعه ومحتواه. 6 - موارده. 7 - طبعاته ومختصراته. 8 - وصف النسخ الخطيَّة المعتمدة في التحقيق. 9 - المنهج في تحقيق الكتاب. 10 - نماذج من النسخ المعتمدة في التحقيق.

(المقدمة/11)


1 - اسم الكتاب: ورد لهذا الكتاب اسمان: الاسم الأول: "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح". - هكذا سمَّاه مؤلفه في مقدمة كتابه هذا (ص/ 16) فقال: "وهذا كتاب اجتهدت في جمعه وترتيبه وتفصيله وتبويبه. . . . وسمَّيته "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح". . . ". - واتَّفقت جميع النسخ الخطيَّة على هذا الاسم، وأما ما زادته النسخ (أ، ب، ج، هـ) بعد اسم الكتاب: (ومثير ساكن العزمات إلى روضات الجنات، وباعث الهمم العليَّات إلى العيش الهني في تلك الغرفات [وفي (ج) "الدرجات" بدل "الغرفات"] = فهو من إضافة النسَّاخ، بدليل مجيء تلك الجملة بعد اسم الكتاب بخطٍّ صغير عدا النسخة (ج). (1) - وذكره بهذا الاسم أيضًا أكثر مَنْ ترجم للمؤلف. - وذكره عامة مَنْ نقل مِنْ هذا الكتاب: كابن حجر والسخاوي __________ (1) ولعلَّ من تصرُف النساخ أيضًا ما جاء عند السفاريني في "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" في (1/ 50) و (2/ 330) حيث قال: "وقد ألَّف الإمام ابن القيم في صفة الجنَّة كتابه "حادي الأرواح إلى منازل الأفراح". . . .)، والموضع الثاني نحوه، فلعلَّ السفاريني وقف على نسخة بهذا العنوان، أو عبَّر عنه بفحواه. ونظير ذلك ما جاء في بعض النسخ الخطية في دار الكتب المصرية رقم (2203) تصوُّف وأخلاق دينية، حيث ورد فيها "ديار" بدل كلمة "بلاد". انظر مقدمة الجميلي لكتاب "حادي الأرواح" ص (14)، ط/ دار الكتاب العربي.

(المقدمة/12)


والبرزنجي والسفاريني كما سيأتي. الاسم الثاني: "صفة الجنة". هكذا سمَّاه المؤلف في كتابه "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة" (4/ 1332): فقال في الطريق الخامس والعشرين ما نصُّه: "وقد ذكرنا في كتاب "صفة الجنة" أربعين دليلًا على مسألة الرؤية من الكتاب والسنة والعقل الصريح. . . ". والاسم الأول هو الاسم الصريح الذي لا شك فيه، لأمرين: 1 - أنَّ المؤلف نصَّ على ذلك في مقدمة كتابه، كما سبق نقله. 2 - لا يعدو هذا الاسم (صفة الجنة) أن يكون وصفًا مختصرًا لموضوع الكتاب ومحتواه، وليس اسمًا عَلَمِيًّا، بدليل أن المؤلف جمع بين الاسمين في مقام واحد، فقال في ردِّه على أكابر شيوخ المعتزلة: أبي الحسين البصري، الذي ظن أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد، وهو حديث جرير بن عبد اللَّه البجلي =: "ولم يعلم أنه فيها ما يقارب من ثلاثين حديثًا، وقد ذكرناها في كتاب: -صفة الجنة- "حادي الأرواح" (1). 2 - إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه. نسبة هذا الكتاب (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) إلى ابن القيم ثابتة لا شك فيها، ودلائل ذلك وجوه عديدة منها: __________ (1) انظر: مختصر الصواعق المرسلة للموصلي ص (471).

(المقدمة/13)


1 - إحالة المؤلف في هذا الكتاب على كتابٍ من كتبه وهو "اجتماع الجيوش الإسلامية" انظر (ص/ 843). 2 - إحالة المؤلف في كتابه "الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة" (4/ 1332) على هذا الكتاب في الأحاديث الواردة في الرؤية، انظر "حادي الأرواح. . . " (ص/ 625 - 685). 3 - مجيء نسبة الكتاب إلى مؤلفه في جميع النسخ الخطية = سواء التي اعتمدناها، أو أعتمد عليها غيرنا، أو التي وُصِفت في الفهارس. 4 - ذكر بعض مَنْ ترجم للمؤلف أن له كتابًا بهذا الاسم: كابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 450)، والداودي في "طبقات المفسرين" (2/ 96)، وابن العماد في "شذرات الذهب" (6/ 169 - 170)، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/ 623)، والبغدادي في "هدية العارفين" (2/ 158) لكنه تصحَّف عنده من (حادي) إلى "هادي"، وصديق حسن خان في "التاج المكلل" (ص/ 426). 5 - نقول العلماء عن هذا الكتاب، وهي مثبتة في أماكنها في الكتاب، كابن حجر والسخاوي والبرزنجي والسفاريني (كما سيأتي مفصَّلًا في بابه). 6 - تصريح المؤلف بالنقل عن شيخيه: (ابن تيمية والمزِّي). انظر (ص/ 132, 134, 267, 429, 500، 536، 609، 618, 709, 713، 724، 730، 732، 733).

(المقدمة/14)


3 - تاريخ تأليف الكتاب: ذكر المؤلف -رحمه اللَّه- أنه فرغ من تأليف هذا الكتاب: عشيَّة عرفة عند الثلث الآخر من الليل، سنة خمس وأربعين وسبعمائة، أي: قبل وفاته بست سنين. وقد جاء هذا النص النفيس في آخر النسخة المدنية (أ)، وفي أوَّل النسخة العراقية (هـ). 4 - نقول العلماء منه، وثناؤهم عليه: 1 - عبد الرحمن بن إسماعيل بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن المؤدب السنجاري المعروف "بابن المسواك الحيالي". وهو ناسخ النسخة (هـ) العراقية وذلك عام 771 هـ، فقد أنشأ (16) بيتًا يمدح فيها الكتاب فقال ما نصه: "يقول ناسخ هذا الكتاب المذكور اسمه آخره، ممتدحًا له بهذه الأبيات، وهي: جزى اللَّه منشئه بخير جزائه ... وأسكنه الفردوس مع خير رسله فقد جدَّ في تأليفه موضحًا لمن ... وعاه طريقًا لا مخاف بسبله وقال: يحنون شوقًا للديار وأهلها ... إذا حادي الأرواح سار بأهله ونادى ألا مِنْ شيِّق زاد شوقه ... إلى بلد الأفراح يا طيب ظله إلى أن قال: فهذا كتاب القوم يتلى فمن تُرَى ... يقوم بأقوال نحوها بفعله

(المقدمة/15)


وفيه إشارات لمن رام سبرها ... تُمْلَ في عقد الكتاب وحُلِّه وختمه بقوله: ومغفرةً للسامعين تعمهم ... فهذا كتابٌ ما سمعنا بمثله وصلِّ يا ربي على أحمد الرِّضى ... وعترته والصحب جمعًا وأهله 2 - الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت/ 852 هـ). نقل منه في فتح الباري في مواضع: (12/ 354) و (13/ 434 و437) وهو في "حادي الأرواح" (ص/ 838 و625 - 685 و754 و801). 3 - محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت/ 902 هـ) نقل منه في المقاصد الحسنة (ص/ 287) رقم (668): وهو بنصه في "حادي الأرواح" (ص/ 762). 4 - مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي الحنبلي (ت/ 1033 هـ) فقد أشار إليه واقتبس منه كثيرًا في كتابه "الكلمات البيِّنات في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} (ص/ 49)، المطبوع ضمن لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام جزء رقم (62). 5 - محمد بن رسول الحسيني الشافعي البرزنجي (ت/ 1103 هـ). فقد نقل منه في رسالته "القول المختار في حديث "تحاجَّتِ الجنة والنار" (ص/ 50) - المطبوع ضمن لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام جزء رقم (53).

(المقدمة/16)


وهو في "حادي الأرواح" (ص/ 754 و 801). 6 - محمد بن أحمد السفاريني (ت/ 1188 هـ). فقد نقل منه في موضعين في كتابه "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" (2/ 330 و 331). وهو بنصِّه في "حادي الأرواح" (ص/ 485 - 487 و 476 - 477). 7 - أحمد بن إبراهيم بن عيسى (ت/ 1329 هـ). فقد أكثر النقل من هذا الكتاب في كتابه توضيح المقاصد وتصحيح القواعد فى شرح قصيدة الإمام ابن القيم، من (2/ 468) إلى (2/ 599) (1) . __________ (1) ونقل السيوطي (ت/ 922 هـ) كلامًا في ذبح الموت يُشابه ما ذكره المؤلف في حادي الأرواح (ص/ 816)، لكنه لم ينسبه لابن القيم، لذا وضعته هنا للعلم به. انظر رسالة رفع الصوت بذبح الموت ضمن الحاوي للفتاوى (2/ 96).

(المقدمة/17)


5 - موضوعه ومحتواه: افتتح المؤلف كتابه هذا بمقدمة فيها تعريف بكتابه، واشتملت على: - الغاية التي من أجلها خلق اللَّه الخلق، وحال من استحكمت, هم الغفلة وهم أكثر الناس، وحال الموفَّقين الذين علموا ما خلقوا له، وما أُريد بإيجادهم، ثم قصيدة ميميَّة في وصف الجنة اشتملت على (48) بيتًا. - ثم بين أقسام الكتاب، حيث قسَّمه إلى (70) بابًا فذكرها. - الباب الأول: ذكر فيه الأدلة من الكتاب والسنة على وجود الجنة الآن. الباب الثاني: ذكر فيه اختلاف الناس في الجنة التي أُسكنها آدم عليه الصلاة والسلام وأهبط منها، هل هي: جنة الخلد، أو جنة غيرها؟ فذكر أدلة الفريقين، وما ردَّ كل فريق على الآخر، وذكر شُبه من زعم أن جنة الخلد لم تُخلق بَعد، والردّ عليها. واستوعبت هذه المسألة من هذا الباب (2) إلى آخر الباب (8). ثم بدأ بالجنة فافتتح الكلام بذكر عدد أبوابها، وسعتها، وصفاتها، ومسافة ما بين البابين، ثم تطرق إلى مكانها، وأين هي؟ ومفتاح الجنة، وتوقيع الجنة ومنشورها الذي يوقع به لأصحابها عند الموت وعند دخولها، وبيَّن أن الجنة ليس لها إلَّا طريق واحد.

(المقدمة/18)


وهذا شمل من الباب (9) إلى آخر الباب (16). ثم ذكر درجات الجنة، وبيَّن أعلاها، واسم تلك الدرجة، ثم تطرق لعرض الرب سبحانه وتعالى سلعته الجنة على عباده، وثمنها الذي طلبه منهم، وعقد التبايع، ثم طلب أهل الجنة لها من ربهم، وطلبها لهم وشفاعتها فيهم إلى ربهم. وذلك من الباب (17) إلى الباب (20). - ثم تحدث من الباب (21) إلى الباب (33) عن أسماء الجنة، ومعانيها، واشتقاقها، وذكر عدد الجنان وأنها نوعان. ثم ذكر خلق الرب تبارك وتعالى بعض الجِنَان بيده وغرسها. . .، ثم أعقبه بذكر بوابي الجنة وخزنتها واسم مقدمهم ورئيسهم، وأول من يقرع باب الجنة، وأول الأمم دخولًا، ثم ذكر صفات السابقين من هذه الأمة إلى الجنة، وسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة، ثم تطرق إلى ذكر أصناف أهل الجنة، وبيَّن أنَّ أكثر أهل الجنة هم من أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبيَّن أن النساء في الجنة والنار هم أكثر من الرجال، ثم أعقبه فيمن يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب مع بيان أوصافهم، وذكر ما ورد منَ حثَيات الرب تبارك وتعالى. - ثم بيَّن نعيم الجنة، وصفة ذلك بالتفصيل، فذكر تربة الجنة وطينها وحصباءَها وبناءها، ونورها وبياضها، وغرفها وقصورها وخيامها، وبيَّن معرفتهم لمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة؛ وإن لم يروها قبل ذلك.

(المقدمة/19)


ثم تحدث عن صفة أهل الجنة في: خَلْقهم وخُلُقهم وطولهم وعرضهم ومقدار أسنانهم، ثم ذكر أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم، وتحفتهم إذا دخلوها، وذكر ريح الجنة، والأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة فيها، ثم تطرق إلى أشجار الجنة وبساتينها وظلالها، وثمارها وأنواعها وصفاتها وريحانها، ثم تحدث عن زرع الجنة، وأنهارها وعيونها وطعامهم وشرابهم، وآنيتهم التي يأكلون فيها ويشربون وأجناسها وصفاتها، ثم تحدث عن لباسهم وحليهم وفرشهم وبسطهم ووسائدهم ونمارقهم وغيرها، ثم عرَّج إلى ذكر خيامهم وسررهم وأرائكم، وخدمهم وغلمانهم، ونسائهم وسراريهم وأوصافهنَّ، وحسنهن وصفائهن وجمالهن الظاهر والباطن، ثم تطرَّق إلى ذكر المادَّة التي خلق منها الحور العين، وما ورد في ذلك. ثم ذكر نكاح أهل الجنة ووطئهم ونزاهة ذلك عن المذي والمني، وأن ذلك لا يوجب غسلًا، ثم ذكر اختلاف الناس هل في الجنة حمل وولادة أم لا؟. ثم تطرَّق إلى ذكر سماع أهل الجنة، وغناء الحور العين، وسماع خطاب اللَّه عز وجل ومحاضرته لهم، ثم تطرق أيضًا إلى ذكر مطايا أهل الجنة وخيولهم ومراكبهم، وزيارة بعضهم بعضًا، ثم ذكر سوق الجنة وما أعدَّ اللَّه فيه لأهلها، وزيارة أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى. ثم ذكر السحاب والمطر الذي يصيبهم في الجنة، وذكر ما ورد في أن أهلها كلهم ملوك، وأن الجنة فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخَلَد.

(المقدمة/20)


وذلك كله استغرق من الباب (34) إلى الباب (64). - ثم عقد الباب (65) في رؤيتهم ربهم تبارك وتعالى، وتجليه لهم ضاحكًا إليهم وذكر أن هذا الباب أشرف أبواب الكتاب، وأجلها قدرًا، وأعلاها خطرًا. - فافتتحهُ بسبعة أدلة من القرآن على الرؤية، وبيَّن أوجه الدلالة منها على ذلك. - ثم أعقبه بالأدلة من السنة على ذلك، فذكره عن (28) صحابيًّا. - ثم تلاه ما جاء عن الصحابة في ذلك، فذكره عن (12) صحابيًّا. - ثم أعقبه ما جاء عن التابعين فمن بعدهم. - ثم ذكر ما جاء عن الأئمة الأربعة ونظرائهم وشيوخهم وأتباعهم في مسألة الرؤية. - ثم أعقبه ما جاء عن أهل اللغة في ذلك. - ثم عقد فصلًا في وعيد منكري الرؤية. ثم عقد الباب (66) في تكليمه سبحانه وتعالى لأهل الجنة وخطابه لهم، ومحاضرته إيَّاهم وسلامه عليهم ثم ذكر ما يدل على ذلك، ثم تحدث في الباب (67) عن أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد، وذكر فصلًا في أقوال الناس في فناء الجنة والنار، ومن قال بها، وما احتج به أرباب كل قول، وذكر فيه الفرق بين دوام الجنة والنار شرعًا وعقلًا من (25) وجهًا.

(المقدمة/21)


ثم عقد الباب (68) ذكر فيه ما جاء في آخر أهل الجنة دخولًا. ثم أعقبه بالباب (69) جمع فيه فصولًا لم يذكرها فيما تقدم، فأورد فيه ما جاء في لسان أهل الجنة، وما جاء في احتجاج الجنة والنار، وما جاء في أن الجنة يبقى فيها فضل فينشئ اللَّه خلقًا دون النار، وما جاء في امتناع النوم على أهل الجنة، وما ورد في ارتقاء العبد وهو في الجنَّة من درجةٍ إلى درجةٍ أعلى منها، ثمَّ ما جاء في إلحاق ذرية المؤمن به في الدرجة، وإن لم يعملوا بعمله، والاختلاف في المراد بالذرية، ودليل كل قول. ثمَّ أورد ما جاء في أنَّ الجنة تتكلَّم، وأنَّها تزداد حسنًا على الدوام، وأنَّ الحور العين يطلبن أزواجهنَّ أكثرَ مما يطلبهن أزواجهنَّ. ثمَّ ذكر ما جاء في ذبح الموت بين الجنَّة والنَّار، وذكر ما جاء في ارتفاع العبادات في الجنَّة إلَّا عبادة الذكر فهي دائمة، وأورد ما جاء في تذاكر أهل الجنَّة ما كان بينهم في دار الدنيا. ثمَّ ختم الكتاب بالباب (70) في ذكر المستحق لهذه البشرى دون غيره، فذكر الآيات الواردة في ذلك، وجملة من إعتقاد أهل السنَّة والجماعة. وختم هذا الباب بفصل هو خاتمة الكتاب، وهو خاتمة دعوى أهل الجنَّة، فأوردَ ما جاء فيه من آياتٍ وأحاديث في ذلك، وأنَّهم يُلْهَمون الحمد كما يُلهمون النَّفَس.

(المقدمة/22)


6 - موارده: تنقسم الموارد التي اعتمد عليها المؤلِّف من حيث تصريحه بها وعدمه إلى قسمين (1): الأوَّل: مصادر صرَّح بأسمائها. الثاني: مصادر صرَّح بأسماء مؤلفيها. القسم الأوَّل: المصادر التي صرَّح بأسمائها. 1 - الإبانة، لابن بطة، في ص (657، 674، 675, 676، 703, 704, 710). 2 - البعث والنشور، للبيهقي في (ص/ 507, 530، 664). 3 - التاريخ (تاريخ بغداد)، للخطيب في ص (516). 4 - التفسير، لمنذر بن سعيد البلوطي، في ص (47). 5 - التفسير، للماوردي، في ص (48). 6 - التفسير، لابن الخطيب في ص (49). 7 - التفسير، لأبي القاسم الراغب الأصبهاني في ص (49). 8 - التفسير، للرماني في ص (50). 9 - التفسير، لابن مزين المالكي في ص (51، 94). 10 - التفسير، لابن المنذر في ص (128). __________ (1) يحتمل نقل المؤلف عن بعض هذه الكتب بواسطة، فلا يُعتبر من موارده.

(المقدمة/23)


11 - التفسير، للسُّدي في ص (359). 12 - التفسير، لابن مردويه في ص (387، 624، 743، 804). 13 - التفسير، لأسباط بن نصر، في ص (615). 14 - التفسير، لسعيد بن أبي عروبة، في ص (480). 15 - التفسير، لابن أبي حاتم، في ص (729). 16 - التفسير، لعبد بن حميد في ص (733). 17 - التفسير، لعلي بن أبي طلحة الوالبي في ص (735). 18 - التفسير، للطبري في ص (743، 744). 19 - الجامع، للترمذي، في ص (41، 91، 111، 149، 158، 171، 293، 314، 316، 321، 350، 379، 381, 383، 242، 443، 500، 505، 527، 556, 573، 670، 671، 672). 20 - الجعديات، لعلي بن الجعد، في ص (309). 21 - الجمع بين الصحيحين، لعبد الحق الإشبيلي، في ص (661). 22 - الحلية = "حلية الأولياء"، لأبي نعيم الأصبهاني في ص (276). 23 - الرد على بشر المريسي، لعثمان بن سعيد الدارمي، في ص (674). 24 - رسالة في السنة للإمام أحمد، رواية أبي جعفر الطائي في ص (99).

(المقدمة/24)


25 - رسالة في السنة للإمام أحمد، رواية عبدوس في ص (100) . 26 - الرؤية = إثبات الرؤية، للبيهقي في ص (664، 691). 27 - الرؤية، للدارقطني، في ص (644) . 28 - الزهد، للإمام أحمد، في ص (524، 552). 29 - السنن، لأبي داود، في ص (36، 39، 112، 145، 173، 187، 188، 229). 30 - السنن، للترمذي = الجامع. 31 - السنن، لابن ماجه، في ص (113، 229، 248، 291، 662). 32 - السنن، للنسائي، في ص (39، 396). 33 - السنة، لابن أبي عاصم في ص (571) . 34 - السنة، للطبراني في ص (643) . 35 - السنة، لعبد اللَّه بن أحمد، في ص (643، 723). 36 - شرح السنة (1) ، للطبري "اللالكائي"، في ص (617، 701، 710). 37 - شرح حديث الصور، للوليد بن مسلم في ص (500) . __________ (1) هو "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، ويطلق عليه المؤلف أيضًا "السنة".

(المقدمة/25)


38 - الصحاح، للجوهري، في ص (207، 462، 475). 39 - الصحيح، للبخاري (1) ، (راجع فهرس أسماء الكتب). 40 - الصحيح، لمسلم، (راجع فهرس أسماء الكتب). 41 - الصحيح، للحاكم (2) ، في ص (33، 396، 670، 671). 42 - الصحيح، للبرقاني، في ص (796) . 43 - الصحيح، لأبي عوانة، في ص (35، 141). 44 - الصحيح، لابن حبان، في ص (33، 93، 141). 45 - صفة الجنَّة، لأبي نعيم الأصبهاني، في ص (173, 545). 46 - الطبقات "طبقات الحنابلة"، لأبي الحسين بن أبي يعلى، في ص (97) . 47 - علو الرب على خلقه واستوائه (3) ، للمؤلِّف، في ص (843) . 48 - الفوائد، لابن السمَّاك، في ص (301) . 49 - الفصوص، لابن عربي الطائي في ص (730) . 50 - المسائل للإمام أحمد، رواية عبد اللَّه في ص (96) . __________ (1) وراجع أيضًا الإحالة إلى "الصحيحين" في فهرس أسماء الكتب. (2) هو المستدرك على الصحيحين، وذلك الاطلاق فيه تجوز. وانظر ما كتبه المؤلف عن المستدرك في "الفروسية المحمدية"، ص (213 - 214). (3) هو "اجتماع الجيوش الإسلامية في غزو المعطلة والجهمية".

(المقدمة/26)


51 - المسائل للإمام أحمد، رواية أحمد الاصطخري، في ص (97). 52 - المسائل للإمام أحمد، رواية إبراهيم بن زياد الصائغ، في ص (707). 53 - المسائل للإمام أحمد، رواية حنبل، في ص (706, 707، 708). 54 - المسائل للإمام أحمد، رواية الفضل بن زياد، في ص (704). 55 - المسائل للإمام أحمد، رواية أبي داود، في ص (705). 56 - المسائل للإمام أحمد، رواية أبي بكر المروذي، في ص (705). 57 - المسائل للإمام أحمد، رواية أبي طالب، في ص (706). 58 - المسائل للإمام أحمد، رواية إسحاق بن هانئ، في ص (706). 59 - المسائل للإمام أحمد، رواية يوسف القطان، في ص (706). 60 - المسائل للإمام أحمد، رواية الأثرم، في ص (707). 61 - المسائل لأحمد وإسحاق، رواية إسحاق بن منصور، في ص (704). 62 - المسائل لأحمد وإسحاق، رواية حرب الكرماني، في

(المقدمة/27)


ص (663, 826). 63 - المسند، للإمام أحمد، (راجع فهرس أسماء الكتب). 64 - المسند، للشافعي، في ص (576، 653). 65 - المسند، للبزار، في ص (35، 371، 591، 676). 66 - المسند، لعبد بن حميد، في ص (117). 67 - المسند، لأبي داود الطيالسي، في ص (185، 335). 68 - المسند، لأبي يعلى الموصلي، في ص (189, 277، 356، 417, 498، 785). 69 - المسند، لأحمد بن منيع، في ص (269). 70 - المسند، لإسحاق بن راهويه، في ص (305). 71 - المسند، لابن مردويه، في ص (386). 72 - المسند، للحسن بن سفيان، في ص (521). 73 - المعارف، لابن قتيبة، في ص (52). 74 - المعجم (الكبير)، للطبراني، في ص (252). 75 - مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، في ص (26). 76 - الموطأ، للإمام مالك، في ص (40). 77 - النهاية "في غريب الحديث"، لابن الأثير، في ص (263).

(المقدمة/28)


القسم الثاني: المصادر التي صرَّح بأسماء مؤلفيها: - الإمام أحمد، من كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة" في (ص/ 96 - 97). - أبو بكر بن أبي عاصم من كتابه "الآحاد والمثاني"، في (ص/ 272). - الأزهري، من "تهذيب اللغة"، في ص (478). - البيهقي، من "شعب الإيمان"، في ص (439). - ابن تيمية، من "مصنف مفرد في الرؤية"، في (ص/ 609). - ابن تيمية، من "رسالته في الرد على من قال بفناء الجنة والنار"، في (ص/ 724، 730، 732، 733). - أبو حاتم الرازي، من كتابه "الجرح والتعديل"، في ص (119، 325، 390، 499، 500، 573، 592). - الحسن بن عرفة، من جزئه، في ص (397، 610). - خيثمة بن سليمان من الفوائد، في ص (254). - ابن خزيمة، من كتابه "التوحيد"، في ص (649، 650). - الدارقطني، من كتابه "الأفراد"، في ص (228). - ابن أبي داود، من "البعث"، في ص (343، 658، 687). - ابن أبي الدنيا، من "صفة الجنة"، وقد أكثر عنه جدًّا (راجع فهرس أسماء الرجال).

(المقدمة/29)


- الزجاج، من كتابه "معاني القرآن وإعرابه"، في ص (102، 196, 202, 305, 415, 419, 492). - أبو زرعة الرازي، من "الضعفاء والكذابين"، في ص (443) . - الزمخشري، من "الكشاف"، في ص (60، 109). - سيبويه، من "الكتاب"، في ص (719) . - ابن أبي شيبة، من "المصنف"، في ص (131، 271, 285, 287). - الطبراني، من المعجم "الأوسط"، في ص (252 - 253، 274، 502, 507, 595). - الطبراني، من "المعجم الصغير"، في (ص/ 519). - أبو عبد اللَّه المقدسي، من كتابه "صفة الجنَّة"، في ص (164، 273، 274، 276, 278، 279، 296، 333، 503). - عبد الرحمن بن أبي حاتم، من كتابه "السنة" (1) ، في ص (700, 701, 702). - عبد الرزاق الصنعاني، من كتابه "التفسير"، في ص (193) . - عبد الرزاق الصنعاني - من "المصنف" في ص (277) . - ابن عبد البر، من "الاستيعاب"، في ص (660) . __________ (1) نقله اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد، فهو نقل بواسطة.

(المقدمة/30)


- ابن عدي، من "الكامل في ضعفاء الرجال"، في ص (261، 301, 325, 390, 498, 499, 500, 501, 581). - ابن عطية، من تفسيره "المحرر الوجيز"، في ص (236). - أبو عبيد، في "غريب الحديث"، في ص (449). - أبو عبيدة، في "مجاز القرآن"، في ص (102، 199، 304، 411، 415, 446, 458, 463, 477, 478, 480, 482, 486, 494). - الفراء، من "معاني القرآن"، في ص (196، 411، 414، 444، 458، 463, 478، 482، 719). - أبو الفتح بن جني، من كتابه "سر صناعة الإعراب"، في ص (102). - ابن قتيبة الدينوري، من "تفسير غريب القرآن"، في ص (199, 346). - ابن قتيبة الدينوري، من "تأويل مشكل القرآن"، في ص (413 - 414، 720). - ابن المبارك، من "الزهد"، في ص (152، 328، 456، 516). - المبرد، من "المقتضب"، في ص (102). - مجاهد، من "التفسير"، وهي عند الطبري، وراجع فهرس أسماء الرجال "مجاهد". - مقاتل، من "التفسير"، في ص (106، 197، 412، 416، 446،

(المقدمة/31)


464، 474، 476, 483، 486, 489، 492, 523, 563). - الواحدي، من تفسيره "الوسيط"، في ص (446، 447، 449، 478، 808).

(المقدمة/32)


7 - طبعاته ومختصراته: طبع الكتاب عدَّة طبعات. 1 - طبعة مطبعة فرج اللَّه الكردي - القاهرة -، 1326 هـ/ 1908، بهامش: إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين، في (3) أجزاء. 2 - طبعة في عام 1340 هـ، القاهرة، في (3) أجزاء. 3 - طبعة مطبعة الأنوار، القاهرة، 1357 هـ/ 1938 م، في (304) صفحة. 4 - طبعة في مصر طَبَعَها: محمد علي صبيح، 1381 هـ، بتصحيح محمود حسن الربيع. 5 - طبعة مكتبة نهضة مصر: القاهرة، 1391 هـ/ 1971 م، في (342) صفحة. 6 - طبعة مكتبة المعارف: الطائف، في (296) صفحة. 7 - طبعة مطبعة المدني: القاهرة، 1398 هـ/ 1978 م، في (424) صفحة. 8 - طبعة دار الكتب العلمية: بيروت، 1403 هـ/ 1983 م، في (301) صفحة. 9 - طبعة دار المدني: جدة، 1404 هـ/ 1983 م، في (301) صفحة. 10 - طبعة مكتبة دار البيان: دمشق، ومكتبة المؤيد: الرياض،

(المقدمة/33)


(ط)، الثانية 1414 هـ/ 1993 م، تحقيق: بشير محمد عيون، في (395) صفحة. 11 - طبعة دار الكتاب العربي: بيروت، (ط) الثانية، 1406 هـ/ 1986 م، تحقيق: السيد الجميلي في (461) صفحة. 12 - طبعة مكتبة دار التراث: المدينة، ودار ابن كثير: دمشق، بيروت، (ط) الأولى 1411 هـ/ 1991 م، تحقيق: يوسف على البديوي، مراجعة وتقديم محي الدين مستو، في (628) صفحة. 13 - طبعة مطبعة المدني: القاهرة، 1417 هـ/ 1996 م، تحقيق: علي صبح المدني، في (363) صفحة. 14 - طبعة مؤسسة الرسالة: بيروت، (ط) الثانية، 1422 هـ، تحقيق: علي الشربجي وقاسم النوري، في (509) صفحة. 15 - طبعة دار ابن حزم: بيروت، (ط) الأولى، 1424 هـ/ 2004 م، تحقيق: فواز زمرلي وفاروق الترك، في (781) صفحة. 16 - طبعة دار ابن رجب: المنصورة، (ط) الأولى 1421 هـ/ 2000 م، تحقيق: محمد العلَّاوي، راجعه وقدَّم له: مصطفى العدوي، في (487) صفحة. <رمز>- مختصرات الكتاب: 1 - "الداعي إلى أشرف المساعي" لأحد تلامذة المؤلِّف، لخصه، وحذف أسانيده، ورتبه على ثمانية أبواب (1) . __________ (1) كشف الظنون (1/ 623).

(المقدمة/34)


2 - منتقى من حادي الأرواح، ليوسف بن عبد اللَّه الحسني الأرميوني الشافعي، وهو مخطوط بالمكتبة الأحمديَّة، بحلب رقم (285)، نسخت سنة 984 هـ. 3 - "مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام"، لصديق حسن خان كما في التاج المكلَّل ص (427). 4 - نظم لآخر الباب الرابع عشر في مفاتيح كل مطلوب من الخير نظمها الشيخ سعد بن عتيق النجدي، وهو ضمن مجموعة "هداية الطريق من مسائل آل عتيق"، وهو مخطوط بالمكتبة السعودية بالرياض برقم (46/ 85) مجاميع. 5 - "تقريب حادي الأرواح"، لعبد الحميد أحمد الدخاخني، وقد طبع بدار الصفا، القاهرة، ط - الأولى -، 1410 هـ/ 1990 م.

(المقدمة/35)


8 - وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق: اعتمدت في تحقيق الكتاب على خمس نسخٍ خطية، وهي كالتالي: 1 - نسخة مكتبة عارف حكمت (أ). وهي نسخة محفوظة في مكتبة عارف حكمت، بالمدينة النبوية، تحت رقم (178)، مواعظ، ويقع الكتاب في (191) لوحة، كل لوحة تحتوي على وجهين، وخطُّها جيِّد واضح، مضبوط بالشكل في غالبه، وكاتبها: محمود بن أحمد بن محمد الحموي (1) مولدًا، الفيُّومي نسبًا، لثلاث خلون من شهر جمادى الأولى، سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة (793 هـ). - وجاء في صفحة العنوان بخطٍّ كبير "حادي الأوراح إلى بلاد الأفراح". - ثمَّ كُتِبَ بخطٍّ صغير "ومثير ساكن العزَمات إلى روضات الجنَّات، وباعث الهِمم العليَّات إلى العيش الهنيء في تلك الغرفات". - وجاء في نهاية الكتاب ما نصُّه: "بلغ مقابلة على أصلٍ غير الأصل المنقول منه، مع معارضتها، فصحَّ إن شاء اللَّه تعالى، وذلك نهاية __________ (1) ولد سنة (750 هـ)، وهو ابن الفيُّومي صاحب "المصباح المنير"، حفظ القرآن، وسمع الحديث، وتفقَّه إلى أن تقدَّم في الفقه وأصوله والعربية واللغة وغيرها، وولي قضاة حماة، وصنَّف الكثير مثل: شرح ألفيَّة ابن مالك، وتكملة شرح المنهاج للسبكي في (13) مجلدًا. انظر: الضوء اللَّامع (10/ 130).

(المقدمة/36)


ثالث عشر جمادى الأولى، سنة ثلاث وتسعين". وقد جعلتها أصلًا لما تتميَّز به هذه النسخة من مميزات تنفرد ببعضها عن النسخ الأخرى. وأهم هذه المميزات ما يلي: 1 - أنَّها معارضة ومقابلة على أصلٍ غير الأصل المنقول منه. 2 - أنَّها بخط أحد العلماء، وهو ممن انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي بحماة، مع الدين والتواضع والعفَّة والانكباب على المطالعة والتصنيف والمشاركة في الأدب وغيره، وحسن الخط. 3 - أنَّها نسخة متقنة ومضبوطة ضبطًا جيِّدًا (1) ، حيث ضَبَط الألفاظ المُشْكِلَة، وأشار إلى ما له أكثر من وجه في ضبط الكلمة ورمز له بـ "معا". 4 - أنَّهُ جاء في نهاية النسخة تاريخ تأليف الكتاب فقال: "ذكر المؤلِّف رحمه اللَّه أنَّه فرغ منه عشية عرفة عند الثلث الأخير من الليل سنة خمس وأربعين وسبعمائة"، ولا يخفى ما في هذا النص العزيز من أهمية وفائدة (2) . __________ (1) ومن عنايته بالخط والكتابة أنَّه عمل منظومة نحو تسعين بيتًا في علم الخط وصناعة الكتاب ثمَّ عمل شرحًا لهذه المنظومة. الضوء اللامع (10/ 130). (2) قد يُسْتَدلُّ من هذا التاريخ أنَّ تأليف كتاب "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" كان سنة (745) هـ أو بعدها؛ لأنَّ المؤلف ذكر كلامًا من "حادي الأرواح" في ذلك الكتاب واللَّه أعلم.

(المقدمة/37)


5 - أنَّ سقطها قليلٌ جدًّا، ولا يعدو أن يكون من انتقال النَظَر ونحوه. 2 - نسخة كوبريلي (ب). وهي محفوظة بمكتبة كوبريلي زاده محمد باشا، في استانبول بتركيا، تحت رقم (717)، ويقع الكتاب في (253) لوحة، كل لوحة تحتوي على وجهين، وخطُّها عادي واضح العبارة، مضبوط بالشكل أحيانًا، وناسخها: إبراهيم بن عبد الغالب بن إبراهيم الأنصاري الحنبلي (1)، وقد فرغ من كتابتها في الثامن عشر من شهر رمضان سنة إحدى وستين وسبعمائة (761 هـ)، وجاء في صفحة العنوان بخط كبير "حادي الأرواح"، وكتب تحته بخط أصغر منه "إلى بلاد الأفراح، ومثير سكان العزمات إلى روضات الجنَّات، وباعث الهمم العليات إلى العيش الهنيء في تلك الغرفات". - وكتب على هذه الصفحة تملُّك: ملكه أحمد بن [. . .]. وبقيته مطموس عليه. - وكتب عليها أيضًا: "عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: الحنَّان: الَّذي [. . .] مَنْ أعرض عنه، والمنَّان: الَّذي يُعطي النَّوال [. . .] السُّؤال". - وجاء في آخر النسخة تملُّك لكنَّه غير واضح في التصوير ونصُّه: ". . . . محمد بن عبد اللَّه المطلبي. . سنة خمس وثمانمائة. . ". __________ (1) لم أقف على ترجمته.

(المقدمة/38)


وتتميز هذه النسخة: أ - بقرب عهدها من مؤلفه. ب - قلَّة السقط والأخطاء. 3 - نسخة جامعة برنستون (ج). وهي محفوظة في مكتبة جامعة برنستون بالولايات المتحدة، تحت رقم (2208)، ويقع الكتاب في (168) لوحة، كل لوحة تحتوي على وجهين، وخطُّها نسخي لا بأس به، وغالب أوله مشكول الأحرف، ويقل حتَّى يتلاشى في آخره، وكاتبها: محمد بن خليل الناسخ المؤدب (1)، وكان فراغه من كتابتها في يوم الاثنين من شهر شوال من سنة إحدى وستين وسبعمائة (761 هـ). - وقد كُتب في طرف الورقة الأخيرة بخطًّ حديثٍ "نقلت هذه النسخة من خط المصنف رحمه اللَّه". - وجاء في (135 ق/ ب) في الحاشية: "كذا في الأصل نسخة المصنف". قلتُ: وهذا الكلام محتمل لقرب عهد النسخة بالمصنف، ولولا أنَّ الخط حديث -فيما يظهر- ومغايرٌ لخطِّ الكتاب لكان الجزم بذلك. - وقد تملَّك هذا الكتاب واطلع عليه عددٌ من أهل العلم: فجاء في وسط صفحة العنوان ما يلي: "ثم ملكه العبد الفقير الفاني __________ (1) لم أقف على ترجمته.

(المقدمة/39)


الحاج تاج الدين بن محمد الكوراني توفاه اللَّه على الإيمان عند خروج نفسه، وثبَّته للجواب في رَمْسِه، وجعله من أصحاب اليمين وحشره تحت لواء سيد المرسلين محمد صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وغفر له ولوالديه، ولمن مات من أهلهم وقومهم وجيرتهم ولسائر المسلمين أحياءً وأمواتًا أجمعين، والحمد للَّه رب العالمين". - وجاء في يسار صفحة العنوان ما يلي "ملك الفقير" [. . .] جمال [ابن] الشيخ محمد [إمام] جامع [الشرفية]. . . محرم من. . . . - وجاء فيها أيضًا: "ثم ملكه من فضل ربه الكريم، السيد عبد الرحيم بفضله. سنة 1144 هـ. - وجاء في نهاية الكتاب ما نصه: "نظر في هذه النسخة الفقير إلى اللَّه تعالى: أحمد بن محمد المغربي الأندلسي غفر اللَّه له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين. - وجاء أيضًا ما نصه: "قرأتُ هذا الكتاب مطالعة تامة من أوَّله إلى آخره، وأنا الفقير إليه [. . . .] السيد عبد الرحيم -الرَّاجي عفو ربه الكريم- ابن الحاج محمد الحبال، أصلح له كل الأحوال، وذلك المطالعة في مدرسة الشرفية، مدرسة جدِّه: السيد عبد الرحمن محي السنة العجمي عليه الرحمة والرضوان، وصلَّى اللَّه على سيدنا وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين آمين يا رب العالمين، وذلك في نصف شهر رجب الفرد من سنة 1154.

(المقدمة/40)


وتمتاز هذه النسخة: 1 - بقرب تاريخ نسخها إلى المؤلف. 2 - تداولها على أيدي بعض أهل العلم. 3 - أنَّها منسوخة من نسخة المؤلِّف وهذا محتمل. 4 - النسخة البريطانية (د): وهي محفوظة في المتحف البريطاني (شرقيات) برقم (9259)، وتقع في (266) لوحة، وكل لوحة تحتوي على وجهين، وخطها نسخي جميل جدًّا، وغالبه مضبوط بالشكل، وكاتبها: محمد بن محمد بن عبد الكريم الموصلي الشافعي (1) -فيما يظهر- وقد فرغ من كتابتها في [. . .] من رجب الفرد سنة أربعين [وثمانمائة]: وجاء في آخرها: "بلغ مقابلة بحسب الطاقة واللَّه المستعان". وجاء فيها أيضًا تملُّك ونصه: "الحمد للَّه، انتقل هذا الكتاب المستطاب في ملك [الفقير] إلى ربَّه العلي عبد العزيز بن عبد اللَّه بن فيروز الحنبلي في شهر اللَّه المعظم 9 رمضان سنة 1183 هـ وصلَّى اللَّه وسلم على سيدنا محمد". ويبدو أنَّ النسخة اطلع عليها غير واحد: - فقد جاء في (145 ق/ ب) تعليقًا في تخريج حديث، ثمَّ ختمه بقوله "كتبه محمد"، وهذا يحتمل أنه الناسخ. __________ (1) لم أقف على ترجمته.

(المقدمة/41)


- وجاء أيضًا في (225 ق/ أ) لرجلٍ آخر "ولعلَّه من المتصوفة" لمَّا ذكر ابنُ القيم ابن عربي ووصفه بإمام الاتحادية، قال معلقًا: "حاشاهُ من الاتحاد قدَّس اللَّه سره، ونوَّر لنا قبره، وأمدنا اللَّه تعالى والمسلمين بمدده آمين". وتتميز هذه النسخة: 1 - بقرب عهدها من المؤلِّف. 2 - كونها مكتوبة بخط جميل. 3 - كونها مقابلة ومعارضة على نسخة أخرى. 5 - النسخة العراقية (هـ): وهي محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد تحت رقم (6673). وقد وصلت هذه النسخة إلى نعمان الآلوسي عن طريق الهِبَة مِنْ عبد الرزاق أفندي سبط متولي الأعظمية، فوقفها الآلوسي على المدرسة المرجانية ببغداد، ثمَّ انتقلت إلى مكتبة الأوقاف العامة (كما جاء ذلك على صفحة العنوان). ويقع الكتاب في (232) لوحة، كل لوحة تحتوي على وجهين، وخطها عادي واضح، كتبها: عبد الرحمن بن إسماعيل بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن المؤدب السنجاري المعروف "بابن المسواك الحيالي" (1)، وكان قد فرغ من كتابتها في آخر رجب سنة (771 هـ). __________ (1) لم أقف على ترجمته.

(المقدمة/42)


- وقد جاء على صفحة العنوان -إضافة إلى ما تقدم ذكره- ما نصُّه: "قال رحمه اللَّه: عِدَّة الخير عندنا كلماتٌ ... أربعٌ قالهنَّ خير البرية اتق الشبهات وازهد ودع ... ما ليس يعنيك واعملَنْ بنية وغيرها انظر إلى هذا الزمان الَّذي قد ... ساد فيه اللكع بن اللكع في أهله من بعد إعجابهم ... شُحٌّ مطاع وهوًى متَّبع ومِمَّا جاء فيها أيضًا بعد اسم الكتاب والمؤلِّف تاريخ تأليف الكتاب فجاء ما نصه: "وذكر المؤلف أنَّه فرغ منه عشية عرفة عند الثلث الآخر من الليل سنة خمس وأربعين وسبعمائة". - ويبدو أنَّ النسخة اطلع عليها غير واحد. - فقد جاء عليها -في أوَّل الكتاب- تعليقات في تفسير الغريب باللغة العربية ثمَّ ترجمتها بالفارسية. - وجاء في (50 ق/ ب) تعليق لرجل أشعري في تأويل اليد بالقدرة. - وكتب أحد المطَّلعين على النسخة في نهاية الكتاب تعليقًا فقال: "طالعه جميعًا واستفاد [. . .] جامعه غير أحرف يسيرة لا أعتقدها، نبَّهت على بعضها في الهامش [. . .]. - وكتب الناسخ (16) بيتًا امتدح فيها هذا الكتاب ومؤلِّفه، "كما تقدم ذكر بعض الأبيات".

(المقدمة/43)


وتتميز هذه النسخة بما يلي: 1 - قرب عهدها بالمؤلِّف. 2 - قلَّة السقط والأخطاء فيها. 3 - أنَّها مقابلة ومصححة. 4 - ما ذكره الناسخ في أوَّل صفحة تحت العنوان من تاريخ فراغ المؤلِّف من الكتاب.

(المقدمة/44)


9 - المنهج في تحقيق الكتاب: - لما كانت النسخ المعتمدة في تحقيق هذا الكتاب جيِّدة جدًّا = اتخذت نسخة مكتبة عارف حكمت أصلًا لتميزها عن باقي النسخ بعدَّة مميزات "كما تقدم ذكره في وصفها" وأثبتُّ الفروق وقمت بوضع رموز تشير إلى كلِّ نسخة: - "أ" = المكتبة المحمودية بالمدينة النبوية. - "ب" = مكتبة كوبريلي بتركيا. - "ج" = مكتبة جامعة برنستون. - "د" = مكتبة المتحف البريطاني. - "هـ" = مكتبة الأوقاف العامة ببغداد. وقد قمتُ بإنزال أرقام صفحات كل من نسخة "أ، ب" داخل النص، ووضعه بين معقوفتين. هذا إضافة إلى ما تقدم ذكره في غير ما كتاب من ضبط النص وتقسيمه، وتخريج الأحاديث والآثار، وتوثيق النصوص الواردة فيه (1)، ووضع الفهارس الكاشفة عن مكنونه. __________ (1) وكان قد سبقني في العمل على أوَّل الكتاب الشيخ: الحسن بن عبد الرحمن العلوي، فما استفدته منه وضعته بين نجمتين *. . . *.

(المقدمة/45)


10 - نماذج من النسخ المعتمدة في التحقيق

(المقدمة/46)


1 - الورقة الأولى من نسخة مكتبة "عارف حكمت" بالمدينة النبوية (أ)

(المقدمة/47)


1 - الورقة الأولى من الكتاب لنسخة "عارف حكمت" بالم د ينة النبوية (أ)

(المقدمة/48)


1 - الورقة الأخيرة من نسخة "عارف حكمت" (أ)

(المقدمة/49)


2 - الورقة الأولى من نسخة "كوبريلي" بتركيا (ب)

(المقدمة/50)


2 - الورقة الأخيرة من نسخة "كوبريلي" بتركيا (ب)

(المقدمة/51)


3 - الورقة الأولى من نسخة "برنستون" بالولايات المتحدة (ج)

(المقدمة/52)


3 - الورقة الأخيرة من نسخة "برنستون" بالولايات المتحدة (ج)

(المقدمة/53)


4 - الورقة الأولى من نسخة المتحف البريطاني (د)

(المقدمة/54)


4 - الورقة الأخيرة من نسخة المتحف البريطاني (د)

(المقدمة/55)


5 - الورقة الأولى من نسخة مكتبة الأوقاف العراقية (هـ)

(المقدمة/56)


5 - الورقة الأخيرة من نسخة مكتبة الأوقاف العراقية (هـ)

(المقدمة/57)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الحمد للَّه الَّذي جعل (2) جنَّات الفردوس لعباده المؤمنين نُزُلًا (3)، ويسَّرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها، فلم يتخذوا (4) سواها شُغُلًا، وسهَّل (5) لهم طُرقها، فسلكوا السبيل (6) الموصلة إليها ذُلُلًا، خلقها لهم قبل أن يخلقهم، وأسكنهم إيَّاها قبل أن يُوجدهم، وحجبها بالمكاره، وأخرجهم إلى دار (7) الامتحان، ليبلوهم أيُّهم أحسنُ عملًا، وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم (8) عليه، وضرب مدَّة الحياة الفانية دونه أجلًا، أودعها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر علي قلب بشر، وجلَّاها عليهم حتَّى (9) عاينوها بعين البصيرة التي هي أنفذ من رؤية البصر، وبشَّرهم بما أعدَّ لهم فيها على لسان رسوله (10) خير __________ (1) جاء في "أ" بعد البسملة "وصلَّى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم". وفي "ب": "وهو حسبي ونعم الوكيل". وليس في "ج" البسملة ولا غيرها. وفي "هـ" "ولا حول ولا قوَّة إلَّا باللَّه العلي العظيم". (2) قوله "الَّذي جعل" في "هـ": "الَّذي عزَّ وجلَّ وعلا، وجعل". (3) في "ج" "منزلًا". (4) في "هـ": "يجعل لهم" بدل "يتخذوا". (5) في "أ": "سهَّل لهم طرقها، ويسَّرهم فسلكوا". (6) من "أ"، وفي باقي النسخ "السبل"، ووقع في "هـ" "السبل الموصلة بها ذللا". (7) قوله "إلى دار" في "هـ" "من صلب أبيهم آدم إلى دار البلوى و". (8) في "ج": "القيامة" وهو خطأ. (9) في "ب، هـ": "حين". (10) وقع في "ج" بعد "رسوله" جملة مضروب عليها "فهي خير البِشَر على لسان" ووقع =

(1/3)


البشر، وكمَّل لهم البشرى بكونهم (1) {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) } [الكهف: 108]. والحمد للَّه فاطرِ السموات والأرضِ، جاعل الملائكة رسلًا، وباعث الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للنَّاس على اللَّهِ حُجَّةٌ بعد الرسل، إذ لم يخلقهم عبثًا، ولم يتركهم سُدىً، ولم يغفلهم هملًا، بل خلقَهم لأمرٍ عظيمٍ، وهيَّأَهم لِخَطْبٍ جسيم، وعمَّر لهم دارين (2) ، فهذه لمن أجابَ الدَّاعي، ولم يبغِ سوى ربه الكريم بدلًا، وهذه لمن لم يُجب دعوته، ولم يرفع بها رأسًا، ولم يعلِّق بها أمَلًا. والحمد للَّه الَّذي رضي من (3) عباده باليسير من العمل، وتجاوزَ لهم عن الكثير من الزَلل، وأفاضَ عليهم النعمة، وكتب (4) على نفسه الرحمة، وضمَّن (5) الكتاب الَّذي كتبه: أنَّ رحمته سبقت غضبه. دعا عباده إلى دار السلام، فعمَّهم بالدَّعوة حُجَّةً منه عليهم وعَدلًا، وخصَّ بالهداية والتوفيقِ من شاء نعمةً (6) منه وفضلًا، فهذا عدْلُه وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وذلك فضلُه (7) يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. __________ = في "هـ" بعد "رسوله" "صلَّى اللَّه عليه وسلَّم محمدٍ". (1) في "هـ": "بقوله". (2) في "هـ": "دارين آخرتين". (3) في "أ": "عن"، وجاء في "هـ" "من عباده المؤمنين باليسير". (4) في "ب": "وكتب لهم على نفسه". (5) في "هـ": "وضمن لهم في الكتاب". (6) في "ج": "رحمةً". (7) في "ج، هـ": "فضل اللَّه".

(1/4)


وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدهُ لا شريكَ له، شهادةَ عبده وابن عبدِه وابن أمَتِه، ومن لا غنى به (1) طرفة عينٍ عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنَّة والنجاة من النَّار إلا بعفوه ومغفرته. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، وأمينُه على وحيهِ، وخيرته من خَلْقِه، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومحجَّةً للسَّالكين، وحُجَّةً على العباد أجمعين، بعثه للإيمان به (2) مناديًا، وإلى دار السَّلام داعيًا، وللخليقة هاديًا، ولكتابه (3) تاليًا، وفي مرضاته ساعيًا، وبالمعروف آمرًا، وعن المنكر ناهيًا، أرسلَه على حين فترةٍ من الرسل، ودروسٍ من السبل (4) ، فهدى به إلى أقوم الطرق، وأوضح السبل، وافترضَ على العباد طاعته ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، والقيامَ بحقوقه، وسدَّ إلى (5) الجنَّة جميع الطرقِ، فلم يفتحها لأحدٍ إلَّا من طريقه، فلو أتوا من كلِّ طريق، واستفتحوا من كلِّ بابٍ، لَمَا فُتِحَ لهم حتى يكونوا خَلْفَهُ من الدَّاخلين، وعلى منهاجه وطريقته (6) من السالكين. فسبحانَ من شرحَ له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذِكْرَهُ، __________ (1) في "ج، د": "له". (2) من "أ". (3) في "هـ": "ولكتابه العزيز". (4) قوله "ودروس من السبل" من "هـ"، ونسخةٍ على حاشية "أ". (5) في "هـ": "عن". (6) في "ب" "وطريقه".

(1/5)


وجعل الذلَّة والصغار على من خالفَ أمره. فدعا إلى اللَّهِ وإلى جنته سرًّا وجهارًا، وأذَّنَ بذلك بين أظهُرِ أُمَّتِهِ (1) ليلًا ونهارًا، إلى أنْ طلع فجرُ الإسلام، وأشرقت شمسُ الإيمان، وعلتْ كلمة الرحمن، وبَطلت دعوة الشيطان، وأضاءت بنور رسالته الأرضُ بعد ظلماتها، وتألَّفت به القلوب بعد تفرُّقها وشتاتها، فأشرقَ (2) وجه الدهر حسنًا، وأصبح الظلامُ ضياءً، واهتدى كلُّ حيران، فلمَّا أكملَ اللَّهُ به دينه، وأتمَّ به نعمته، ونشرَ به على (3) الخلائق رحمته، فبلَّغ رسالات ربه ونصح عباده، وجاهد في اللَّهِ حقَّ جهاده = خيَّره بين المُقام في الدنيا وبين لقائه والقدوم عليه، فاختار لقاءَ ربِّه محبَّةً له، وشوقًا إليه، فاستأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى، والمحل الأرفع الأسنى، وقد ترك أمته على الواضحة الغرَّاء، والمَحَجَّةِ البيضاء، فسلك أصحابُه وأتباعهم على أثره إلى جنَّات النَّعيم، وعدلَ الراغبون عن هديه إلي طريقِ (4) الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]. فصلَّى اللَّهُ وملائكته وأنبياؤه ورسله وعبادُه المؤمنون عليه، كما وحَّد اللَّه وعبَدَهُ، وعرَّفنا به ودعا إليه. __________ (1) من "أ"، وفي باقي النسخ "الأُمَّة". (2) في "هـ" "فأشرق به وجه". (3) في نسخةٍ على حاشية "أ" "على كل الخلائق"، ووقع في "هـ" "ونشر على الخلائق". (4) قوله "هديه إلى طريق" وقع في "أ" "هذه إلى طرق".

(1/6)


أمَّا بعدُ: فإنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لم يخلق خلقَهُ عَبَثًا، ولم يتركهم سُدًى، بل خلقهم لأمرٍ عظيمٍ، وخطْبٍ جسيمٍ، عُرِضَ (1) على السموات والأرض والجبال فأبينَ وأشْفَقْنَ (2) منه إشفاقًا ووجلًا، وقلن: ربَّنا إن أمرتنا فسمعًا وطاعةً، وإن خَيَّرْتَنَا فعافيتك نُريد، لا نَبْغي بها بدَلًا. وحمَلَهُ الإنسانُ على ضَعْفِهِ وعجزِه عن حمله، ونَاءَ (3) به على ظُلمه وجهله، فألقى أكثرُ النَّاسِ الحِمْلَ عن ظهورهم لشدَّة مؤنَتِهِ عليهم وثقله، فصحبوا الدنيا صحبةَ الأنعام السَّائمة، لا ينظرون في معرفة مُوجدِهم وحقِّهِ عليهم، ولا في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدَّار، التي هي طريق ومَعْبر إلى دار القرار، ولا يَتَفكَّرُون في قلَّة مقامهم في الدنيا الفانية، وسُرعة رحيلهم إلى الآخرة الباقية، فقد ملكهم باعثُ الحِسِّ (4) ، وغاب عنهم داعي العقل، وشملتهم الغفلة، وغرَّتهم الأمانيُّ الباطلة، والخُدَع الكاذبة، فخدَعَهم طولُ الأمل، ورَانَ على قلوبهم سوءُ العمل، فَهِمَمُهُم (5) في لذَّات الدنيا، وشهوات النفوس، كيف حَصَلَتْ حصَّلوها، ومن أيِّ وجهٍ لاحت لهم (6) أخذوها، إذا أبدى لهم حظٌّ من الدنيا ناجِذَيْه طاروا إليه __________ (1) في "هـ": "عُرِضَ حمله على. . . ". (2) وقع في "ب"، وفي نسخةٍ على حاشية "أ" واسْتعْفعيْن"، وجاء في "د" "واستعفين وأشفقن منه" بالجمع بينهما. (3) في "ج، هـ" "وباء"، وضُرِبَ عليها في "د". (4) في "أ، ج، هـ": "الجِنِّ". (5) في "ب، هـ": "فهَمُّهُم". (6) ليس في "أ، هـ".

(1/7)


زُرَافاتٍ (1) ووحدانًا، وإذا عَرض لهم عرضٌ (2) عاجلٌ من الدنيا لم يؤثروا عليه ثوابًا من اللَّه ولا رضوانًا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) } [الروم: 7]، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) } [الحشر: 19]. والعَجبُ كلُّ العجب مِنْ غفلة مَنْ لحظاتُه معدودةٌ عليه، وكل نَفَسٍ من أنفاسه لا قيمة له، وإذا ذهب لم يرجع إليه، فمَطَايا الليلِ والنَّهار تُسرِعُ به، ولا يتَفَكَّرُ إلى أين يُحْمل، ويسارُ به أعظم من سير البَرِيْدِ، ولا يدري إلى أيِّ الدَّارين يُنقل، فإذا نَزَلَ به الموتُ اشتدَّ قلقُهُ لخراب ذاتِهِ، وذهاب لذَّاتِهِ، لا لِمَا سبقَ من جنَاياتِهِ، وسلَفَ مِنْ تَفْرِيْطِهِ، حيثُ لم يُقَدِّم لحياته، فإن خطرتْ له خطَرةٌ عارضةٌ لِمَا خُلِقَ له، دَفَعَها باعتماده على العفو، وقال: قد أنبأنا اللَّه (3) أنَّه هو الغفور الرحيم، وكأنَّه لم يُنَبَّأ: أنَّ عذابه هو العذابُ الأليم. فصل ولمَّا علم المُوَفَّقون ما خُلقوا له، وِما أريدَ بإيجادهم، رفعوا رؤوسهم، فإذا عَلَم الجنة قد رُفِعَ لهم، فشَمَّروا إليه، وإذا صراطُها المستقيم قد وَضَحَ لهم، فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظمِ __________ (1) وقع في "هـ" "زُمُرًا". والزرافات: الجماعات، والزرافة -بالفتح-: الجمع من الناس، انظر الصحاح (2/ 1048). (2) ليس في "هـ". (3) من "أ، هـ".

(1/8)


الغَبْنِ (1) بيعُ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر، في أبدٍ لا يزول، ولا ينفذُ = بصُبَابَة (2) عيشٍ، إنَّما هو كأضغاث أحلام، أو كطيفٍ (3) زارَ في المنَام، مَشوبٍ بالنُّغَصِ (4) ، ممزوجِ بالغُصَصِ (5) ، إنْ أضحك قليلًا أبكى كثيرًا، وإن سَرَّ يومًا أحزنَ شهورًا، آلامُهُ تزيدُ على لذَّاتِهِ، وأحزانه أضعافُ أضعاف مَسَرَّاتِهِ، أوله مخَاوف، وآخرُهُ مَتَالِف. فيَا عَجبًا من سفيهٍ في صورة حكيم (6) ، ومعتوهٍ في مِسْلَاخ (7) عاقلٍ، آثر (8) الحظ الفاني الخسيس، على الحظِّ الباقي النفيس، وباع جنَّةً عرضها السموات والأرض؛ بسجنٍ ضيِّقٍ بين أرباب العاهات (9) ، ومساكن طيِّبةً في جنَّات عدن تجري من تحتها الأنهارَ، بأعْطَانٍ (10) __________ (1) الغبن: النقص، الصحاح (2/ 1589). (2) الصُّبابة: البقيَّة من الماءِ في الإناء، الصحاح (1/ 176)، والمعنى: بحياةٍ قصيرة. (3) الطائف: ما كان كالخيال، يلمُّ بالشخص. المعجم الوسيط ص (598). (4) النغص: الكدر، الصحاح (1/ 830). (5) الغُصَصَ: ما اعترض في الحَلْق من شجى أو طعام أو شراب. الصحاح (1/ 821)، والمعجم الوسيط ص (686). (6) في "هـ": "حليم". (7) المسْلاخ: الإهاب، أي: الجلد، الصحاح (1/ 370)، والمعجم الوسيط ص (468). (8) في "ب" "ءآثر" بالاستفهام، وهو محتمل، والمثبت أقرب. (9) في "ب، ج، د، هـ" ونسخة على حاشية "أ" "العاهات والبليات". (10) الأعطان جمع عَطَن، وهو مبارك الإبل عند الماء لتشرب عَلَلًا بعد نَهَلٍ. =

(1/9)


ضيقة آخرها الخرابُ والبوار، وأبكارًا عُرُبًا أَتْرَابًا، كأنَّهنَّ الياقوتُ والمرجان؛ بِقَذراتٍ دَنِسَات سيئات الأخلاق مسافحات، أو متخذات أخْدَانٍ (1) ، وحُوْرًا مقصورات في الخيام؛ بخبيثات مُسِيئاتٍ (2) بين الأنامِ (3) ، وأنهارًا من خمرٍ لذَّةٍ للشاربين؛ بشرابٍ نَجس مُذهبٍ للعقل مُفسدٍ للدنيا والدِّين، ولذَّة النظر إلى وجه العزيز الرحيم؛ بالتمتع برؤية الوجهِ القبيح الدميم، وسماعَ الخطاب من الرحمن؛ بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المَزيد؛ بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطانٍ مريدٍ، ونداءَ (4) المنادي يا أهل الجنَّة: "إنَّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا (5) ، وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا، وتشبُّوا فلا تهرموا" (6) ؛ بغناءِ المُغَنِّين: وقَفَ الهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ لِي ... مُتَأَخرٌ عَنْهُ ولَا مُتَقَدَّمُ أَجِدُ المَلامَةَ في هَوَاكِ لذيذة ... حُبًّا لِذِكْرِكِ، فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ (7) __________ = الصحاح (2/ 1584). (1) أخدان جمع خِدْن، والخدين: الصَّديق. الصحاح (2/ 1549). (2) في "د" ونسخةٍ على حاشية "أ" "مُسَيَّبَاتٍ". (3) في "د" ونسخةٍ على حاشية "أ" "الأنعام". (4) في "هـ" "وقد نادى" بدل "ونداء". (5) في "ج": "تيأسوا"، والمثبت أولى لموافقته لما في صحيح مسلم. (6) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2837). (7) انظر ديوان أبي الشيص الخزاعي ص (101 - 102).

(1/10)


وإنَّما يظهرُ الغَبْنُ الفاحشُ في هذا البيعِ يومَ القيامة، وإنَّما يتبينُ سَفَهُ بائِعِهِ يوم الحسرةِ والندامة، إذا حُشِرَ المتقون إلى الرحمن وفدًا، وسيقَ المجرمون إلى جهنَّم وِرْدًا، ونادى المُنادي على رؤوس الأشهاد، ليعلمنَّ أهلُ الموقفِ من أولى بالكرمِ من بين العبادِ، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أُعِدَّ لهم من الإكرام، وادُّخرَ لهم من الفضل والإنعام، وما أُخْفِيَ لهم من قُرَّة أعين، لم يقعْ على مثلها بصر، ولا سمعته أذن، ولا خطرَ على قلب بشر = لَعَلِمَ أيَّ بضاعة أضاع، وأنَّه لا خيرَ له في حياته، وهو معدودٌ من سَقَطِ المتاعِ، وعلمَ أنَّ القومَ قد توسَّطوا مُلْكًا كبيرًا، لا تعتريه الآفات، ولا يلحَقه الزوال، وفازوا بالنَّعيمِ المُقيمِ في جوار الكبير المُتَعَالِ. فهُمْ في روضاتِ الجنَّات يتقلبون، وعلى أَسِرَّتهَا تحت الحِجَالِ يجلسون، وعلى الفُرشِ -التي بطائنها من استبرقٍ- يتَّكئون، وبالحور العين يتمتعون، وبأنواع الثمار يتفكهون، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) } [الواقعة: 17 - 24]، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ (1) الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]. تاللهِ، لقد نُوديَ عليها في سوقِ الكَسادِ، فما قلَّبَ ولا __________ (1) كذا في جميع النسخ، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وخلف ويعقوب وحمزة والكسائي، وقرأ باقي العشرة "تشتهيه". انظر "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري ص (276).

(1/11)


استام إلَّا أفرادٌ من العباد، فواعجبًا لها كيفَ نامَ طالبُها؟ وكيف لم يسمح بمهرها خاطبُها؟ وكيف طابَ العيش في هذه الدَّار بعد سماعِ أخبارها؟ وكيف قرَّ للمشتاق القَرار، دون مُعانقة أبكارها؟ وكيف قرَّتْ دونها أعينُ المُشتاقين؟ وكيف صَبَرتْ عنها أنفس الموقنين؟ وكيف صَدَفَتْ عنها قلوب أكثر العالمين؟ وبأيِّ شيءٍ تعوَّضَتْ عنها نفوس المُعْرضِينَ؟ وَمَا ذاك إلَّا غيرةً أنْ يَنَالها ... سِوَى كفئها، والرَّبُّ بالخلق أعلَمُ وإنْ حُجِبَتْ عنَّا بكلِّ كريهةٍ ... وحُفَّت بما يؤذي النفوس ويُؤْلِمُ فللَّهِ ما في حشوها من مَسرَّةٍ ... وأصنافِ لذَّاتٍ بها يُتَنَعَّمُ وللَّه بردُ العيشِ بينَ خيامها ... وروضاتها، والثغرُ في الروضُ (1) يَبسمُ وللَّه واديها الَّذي هو موعدُ الـ ... مزيد لِوَفْدِ الحُبِّ، لو كُنْتَ مِنْهُم بذيَّالك الوادي يهيمُ صبابة ... مُحِبٌّ يرَى أنَّ الصبابةَ مغنمُ وللَّه أفراحُ المُحبين عندما ... يُخَاطِبُهم من فوقهم، ويُسَلِّمُ وللَّه أبصارٌ ترى اللَّه جهرةً ... فلا الضيمُ يغشاها، ولا هي تسأمُ فيا نظرةً أَهْدَتْ إلى الوجهِ نَضْرَةً ... أَمِنْ بعدِها يَسلو المحبُّ المُتيَّمُ وللَّه كم من خَيْرَةٍ إنْ تَبَسَّمتْ ... أضاء لها نورٌ من الفجر أعظمُ __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ" "الثَّغر"، وفي "هـ" "مبسم" بدل "يبسم".

(1/12)


فيا لذَّةَ الأبصار إنْ هي أقبلتْ ... ويا لذَّة الأسماع حين تكلَّمُ ويا خجْلَةَ الغصن (1) الرطيب إذا انـ ... ـــثنتْ ويا خجلة الفجرين (2) حين تَبَسَّمُ فإن كنت ذا قلبٍ عليل (3) بحبها ... فلم يَبْقَ إلَّا وصلُها لك مَرْهَمُ ولا سيَّما في لَثْمِها عند ضمها ... وقد صارَ منها تحت جيدِكَ معصمُ تراه إذا أبدتْ لهُ حُسْنَ وجهِها ... يلَذُّ به قبل الوصال، ويَنعَمُ تفكَّهُ فيها العينُ عند (4) اجتلائها ... فواكه شتَّى، طلعُها ليس يُعْدَمُ عناقيدَ من كرمِ، وتفاحَ جنَّةٍ ... ورمَّانَ أغصانٍ به (5) القلبُ مغرمُ ولِلوَرد ما قد ألبَسَتْهُ خُدودُهَا ... وللخمر ما قد ضمَّهُ الرِّيقُ والفمُ تقسَّم منها الحسنُ في جمعٍ واحدٍ ... فَيا عجبًا من واحدٍ يتقسَّمُ لها فِرَقٌ شتَّى من الحُسن أُجمِعَتْ ... بجُملَتِهَا، إنَّ السُّلوَّ مُحَرَّمُ تُذَكِّرُ بالرَّحمن مَنْ هُوَ ناظرٌ ... فينطقُ بالتَّسبيحِ لا يتلعثمُ إذا قَابَلَتْ جيشَ الهُموم بوجهها ... تولَّى على أعقابه الجيشُ يُهْزَمُ فيا خاطِبَ الحسناء إنْ كُنْتَ باغيًا ... فهذا زمانُ المَهر فهو المُقَدَّم __________ (1) في "أ، هـ": "الغض". (2) في "أ، ج، د": "البحرين". (3) في نسخةٍ على حاشية "أ" "عليك". (4) في "هـ": "قبل". (5) في "ب": "بها".

(1/13)


وكن مُبغضًا للخائنات لحبِّها ... فتحظى بها من دُونِهنَّ وَتَنْعَمُ وكنْ أيِّمًا ممَّن (1) سواها فإنَّها ... لمثلكَ في جنَّاتِ عَدْنٍ تأيَّمُ وصُمْ يومَكَ الأدنى لعلَّك في غدٍ ... تفوزُ بعيد الفطر، والنَّاسُ صُوَّمُ وأقدمْ ولا تقنعْ بعيشٍ مُنَغَّصٍ ... فما فاز بالَّلذاتِ من ليس يُقدِمُ وإنْ ضاقت الدنيا علَيك بأسرها ... ولم يكُ فيها مَنْزِلٌ لك يُعْلَمُ فحيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها ... منازلُك الأولى وفيها المُخيَّمُ ولكنَّنا سَبْيُ العدوِّ فهل ترى ... نَعودُ إلى أوطاننا ونسلمُ وقد زعموا أنَّ الغريبَ إذا نأى ... وشطَّتْ بهِ أوطانُهُ فهْوَ مُغرَمُ وأيُّ اغترابٍ فوقَ غُربتنا التي ... لها أَضْحَتِ الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ وحيَّ على السوقِ الَّذي فيه يلتقي الـ ... مُحِبُّونَ ذاك السُّوق للقوم مُعلمُ فما شئت خذْ منه بلا ثمنٍ له ... فقد أسلَفَ التُّجارُ فيه وأسلموا وحيَّ على يومِ المزيد الَّذي به ... زيارةُ ربِّ العرشِ، فاليوم مَوسِمُ وحيَّ على وادٍ هنالكَ أَفْيَحٍ (2) ... وتُربتهُ مِنْ أذْفَرِ المِسْكِ أَعْظَمُ منابرُ من نورٍ هناكَ وفضةٍ ... ومن خالصِ العِقْيان (3) لا يتقصَّمُ __________ (1) في "أ": "ممَّا". (2) الأفيح: الواسع. الصحاح (1/ 348). وأيضًا: فاح المسك فيحًا. (3) العقيان: ذهب متكاثف في مناجمه، خالص ممَّا يختلط به من الرِّمال والحجارة. =

(1/14)


وكثبانُ مسكٍ قد جُعِلْنَ مقاعدًا ... لِمَنْ دونَ أصحابِ المنابر تُعلم فبينا همُ في عيشِهم وسرورهم ... وأرزاقُهُم تجري عليهم وتُقْسَمُ إذا همْ بنورٍ ساطعٍ أشْرَقَتْ له ... بأقطارها الجنَّاتُ لا يُتَوَهَّمُ تَجَلَّى لَهُمْ ربُّ السماوات جهْرَةً ... فيضحَكُ فوقَ العرشِ ثُمَّ يُكَلِّمُ سَلَامٌ عليكم يسمعون جميعُهُم ... بآذانهم تَسْليمَه إذْ يُسَلِّمُ يقولُ سَلوني ما اشْتَهَيْتُمْ فَكُلُّ ما ... تُريدونَ عندي، إنَّني أنا أرْحَمُ فقالوا جميعًا: نحنُ نسْألُكَ الرضا ... فأنْتَ الَّذي تولي الجميلَ وترحمُ فيعطيهم هذا، ويُشهِدُ جمعهم ... عليه، تعالى اللَّهُ، فاللَّهُ أكرمُ فيا بائعًا هذا ببخسٍ مُعَجَّلٍ ... كأنَّك لا تَدري، بلى سوفَ تَعْلَمُ فإنْ كُنْتَ لَا تدري فتلكَ مصيبةٌ ... وإنْ كنتْ تَدْري فالمصيبة أعظمُ (1) فصل وهذا كتابٌ اجتهدتُ في جمعه وترتيبه وتفصيله وتبويبه، فهو للمَحْزونِ سَلْوَةٌ، وللمشتاق إلى تلك العرائسِ جَلوة، محرِّكٌ للقلوب إلى أجلِّ مطلوبٍ، وحادٍ للنفوس إلى مُجاورة الملك القدوس، ممتعٌ __________ = المعجم الوسيط ص (648). والصحاح (2/ 1767). (1) هذه الأبيات قطعة من "القصيدة الميميَّة" للمؤلف، وقد ذكر قطعة كبيرة منها في "طريق الهجرتين" (ص/ 51 - 55)، وقُرئت على المؤلف كما في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي (2/ 451 - 452).

(1/15)


لقارئه، مشوِّقٌ للناظر فيه، لا يَسأمُه الجليسُ، ولا يَملُّه الأنيس، مُشتَمِلٌ من بدائع الفوائد، وفرائد القلائد، على ما لعلَّ المجتهد في الطلب لا يظْفَرُ به فيما سواهُ من الكتب، مع تضمُّنه لجملة كثيرةٍ من الأحاديث المرفوعات، والآثار الموقوفات، والأسرارُ المودعة في كثيرٍ من الآيات، والنكت البديعات، وإيضاح كثيرٍ من المشكلاتِ، والتنبيه على أصول من الأسماء والصفات. إذا نظر فيه النَّاظر زاده إيمانًا، وجلى عليه الجنَّة حتى كأنَّه يشاهدها عيانًا، فهو مثيرُ ساكن العزمات إلى روضات الجنَّات، وباعث الهمم العليات إلى العيش الهنيِّ في تلك الغرفات. وسميته "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" فإنَّه اسمٌ يطابق مسمَّاهُ، ولفظٌ يوافق معناه، واللَّه يعلمُ ما قصدتُ، وما بجمعه وتأليفهِ أردتُ، فهو عند لسان كل عبدٍ وقلبه، وهو المطلِعُ على نيته وكسبهِ، وكان جُلُّ المقصود منه بشارة أهلِ السنَّةِ بما أعدَّ اللَّهُ لهم في الجنَّة؛ فإنَّهم المستحقون للبُشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونِعَمُ اللَّهِ عليهم باطنة وظاهرة، وهم أولياء الرسول وحزبه، ومن خرَجَ عن سُنَّته فهم أعداؤهُ وحربه، لا تأخذهم في نصرة سنته ملامة اللوَّام، ولا يتركون ما صحَّ عنه لقول أحدٍ من الأنام، والسُّنَّةُ أجلُّ في صدروهم من أنْ يُقَدِّموا عليها رأيًا فقهيًّا، أو بحثًا جدليًّا، أو خيالًا صوفيًّا، أو تناقضًا كلاميًّا، أو قياسًا فلسفيًّا، أو حكمًا سياسيًّا، فمن قدَّم عليها شيئًا من ذلك، فبابُ الصوابِ عليه مسدودٌ، وهو عن طريق الرشاد مصدود. فيا أيُّها النَّاظرُ فيه لك غُنْمه، وعلى مؤلفه غُرْمُهُ، ولك صَفْوُهُ،

(1/16)


وعليه كَدَرُه، وهذه بضاعته المُزْجَاة تُعرَضُ عليك، وبَنَاتُ أفكارِهِ تُزَفُّ إليك، فإنْ صادفت كفؤًا كريمًا لن تعدم منه إمساكًا بمعروفٍ أو تسريحًا بإحسانٍ، وإنْ كان غيرَه فاللَّه المستعان، فما كان من صواب فمن الواحد المنَّانِ، وما كان من خطأٍ فمنِّي ومن الشيطان، واللَّهُ بريٌ منه ورسوله. وقد قسَّمتُ الكتاب سبعين بابًا. الباب الأوَّل: في بيان وجود الجنَّة الآن. الباب الثاني: في اختلاف النَّاس في الجنَّة التي أسكنها آدم، هل هي جنة الخلد أو جنة في الأرض؟. الباب الثالث: في سياق حجج من ذهب إلى أنَّها جنَّةُ الخلدِ. الباب الرَّابع: في سياق حجج الطائفة التي قالت: إنَّها (1) في الأرض. الباب الخامس: في جواب أرباب هذا القولِ لمن نازعهم الباب السادس: في جواب من زعمَ أنَّها جنَّةُ الخلدِ عن حجج منازعيهم. الباب السَّابع: في ذكر شبه من زعمَ أنَّ الجنَّةَ لم تخلق بعد. الباب الثامن: في الجواب عمَّا احتجوا به من الشبه. __________ (1) في "هـ": "إنَّها جنَّةٌ في الأرضِ".

(1/17)


الباب التاسع: في ذكر عدد أبواب الجنَّة. الباب العاشر: في ذكر سعة أبوابها. الباب الحادي عشر: في صفة أبوابها. الباب الثاني عشر: في ذكر مسافة ما بين الباب والباب. الباب الثالث عشر: في مكان الجنَّة، وأين هي؟. الباب الرَّابع عشر: في مفتاح الجنَّة. الباب الخامس عشر: في توقيع الجنَّة ومنشورها الَّذي يكتب لأهلها. الباب السادس عشر: في بيان توحد طريق الجنَّة، وأنَّهُ ليس لها إلَّا طريقٌ واحد. الباب السابع عشر: في درجات الجنَّة. الباب الثامن عشر: في ذكر أعلى درجاتها، واسم تلك الدرجة. الباب التاسع عشر: في عرض الرب تعالى سلعته على عباده وثمنها الَّذي طلبه منهم، وعقد التبايع الَّذي وقع بين المؤمنين وبين ربهم. الباب العشرون: في طلب الجنَّة أهلها من ربهم، وشفاعتها فيهم وطلبهم لها. الباب الحادي والعشرون: في أسماء الجنَّة ومعانيها واشتقاقها. الباب الثاني والعشرون: في عدد الجنَّات وأنواعها.

(1/18)


الباب الثالث والعشرون: في خلق الرب تعالى لبعضها بيده. الباب الرَّابع والعشرون: في ذكر بوابيها وخزنتها. الباب الخامس والعشرون: في ذكر أوَّل من يقرع باب الجنَّة. الباب السادس والعشرون: في ذكر أوَّل الأمم دخولًا الجنَّة. الباب السَّابع والعشرون: في ذكر السَّابقين من هذه الأمة إلى الجنَّة وصفتهم. الباب الثامن والعشرون: في سبق الفقراءِ الأغنياءَ إلى الجنَّة. الباب التاسع والعشرون: في ذكر أصناف أهل الجنَّة التي ضُمِّنت لهم دون غيرهم. الباب الثلاثون: في أنَّ أكثر أهل الجنَّةِ هم أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. الباب الحادي والثلاثون: في أنَّ النساء في الجنَّة والنَّار أكثر من الرجال. الباب الثاني والثلاثون: في مَنْ يدخل الجنَّة من هذه الأمة بغير حسابٍ، وذكر أوصافهم. الباب الثالث والثلاثون: في ذكر حثيات الرب عزَّ وجل الذين يدخلهم الجنَّة. الباب الرَّابع والثلاثون: في ذكر تربة الجنَّة وطينها وحصبائها وبنائها (1) . __________ (1) في "ب" "ونباتها".

(1/19)


الباب الخامس والثلاثون: في ذكر نورها وبياضها. الباب السادس والثلاثون: في ذكر غرفها وقصورها ومقاصيرها وخيامها. الباب السابع والثلاثون: في ذكر معرفتهم بمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنَّة، وإنْ (1) لم يروها قبل ذلك. الباب الثامن والثلاثون: في كيفية دخولهم الجنَّة (2) وما يُستقبلون به عند دخولها. الباب التاسع والثلاثون: في ذكر صفة أهل الجنَّة في خَلْقهم وخُلُقِهِم وطولهم وعرضهم ومقادير أسنانهم. الباب الأربعون: في ذكر أعلى أهلِ الجنَّة منزلةً وأدناهم. الباب الحادي والأربعون: في تحفة أهل الجنَّة أوَّل ما يدخلونها. الباب الثاني والأربعون: في ذكر ريح الجنَّة، ومن مسيرة كم يوجد. الباب الثالث والأربعون: في الأذان الَّذي يؤذن به المؤذن فيها. الباب الرَّابع والأربعون: في أشجار الجنَّة وبساتينها وظلالها. __________ (1) ليس في "هـ". (2) في "هـ": "إلى الجنَّة".

(1/20)


الباب الخامس والأربعون: في ذكر ثمارها وتعدد أنواعها وصفاتها. الباب السادس والأربعون: في ذكر الزرع في الجنَّة. الباب السَّابع والأربعون: في ذكر أنهار الجنَّة وعيونها وأصنافها ومجراها الَّذي تجري عليه. الباب الثامن والأربعون: في ذكر طعام أهل الجنَّة وشرابهم ومصرفه. الباب التاسع والأربعون: في ذكر آنيتهم التي يأكلون ويشربون فيها وأجناسها وصفاتها. الباب الخمسون: في ذكر لباسهم وحليتهم وفرشهم وبسطهم وجنابذهم (1) ونمارقهم وزرابيهم (2) . الباب الحادي والخمسون: في ذكر خيامهم وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم. الباب الثاني والخمسون: في ذكر خَدَم أهل الجنَّة وغلمانهم. الباب الثالث والخمسون: في ذكر نساء أهل الجنَّة وسراريهم وأصنافهنَّ وأوصافهنَّ وجمالهنَّ الظاهر والباطن. __________ (1) ليس في "د"، والجنابذ: واحدها جُنْبُذَة: وهو ما ارتفع من الشيء واستدار كالقُبَّة. الصحاح (1/ 469). (2) في "د، هـ": زيادة "ومناديلهم ووسائدهم".

(1/21)


الباب الرَّابع والخمسون: في ذكر المادة التي خلق منها الحور العين، وذكر صفاتهنَّ ومعرفتهنَّ اليوم بأزواجهنَّ. الباب الخامس والخمسون: في ذكر نكاح أهل الجنَّة ووطئهم والتذاذهم بذلك، ونزاهته عن المذي والمني. الباب السادس والخمسون: في ذكر (1) اختلاف النَّاس، هل في الجنَّة حملٌ وولادة أم لا؟ وحجة الفريقين. الباب السابع والخمسون: في ذكر سماع الجنَّة وغناء الحور العين. الباب الثامن والخمسون: في ذكر مطايا أهل الجنَّة وخيولهم ومراكبهم. الباب التَّاسع والخمسون: في زيارة أهل الجنَّة بعضهم بعضًا ومذاكرتهم ما كان بينهم في الدنيا. الباب الستون: في ذكر سوق الجنَّة وما أعدَّ اللَّهُ فيه لأهلها. الباب الحادي والستون: في زيارة أهل الجنَّة ربهم تبارك وتعالى. الباب الثاني والستون: في ذكر السحاب والمطر الَّذي يصيبهم في الجنَّة. الباب الثالث والستون: في ذكر مُلْك الجنَّة، وأنَّ أهلها كلهم ملوك فيها. __________ (1) من "ج".

(1/22)


الباب الرَّابع والستون: في أنَّ الجنَّة فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخَلَد، وأنَّ موضع سوط منها خير من الدنيا وما فيها. الباب الخامس والستون: في رؤية أهل الجنَّة ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم جهرة كما يُرى القمر ليلة البدر، وتجليه لهم ضاحكًا (1) . الباب السادس والستون: في تكليمه سبحانه لأهل الجنَّة وخطابه لهم ومحاضرته إيَّاهم وسلامه عليهم. الباب السابع والستون: في أبدية الجنَّة أنَّها لا تفنى ولا تبيد. الباب الثامن والستون: في ذكر آخر أهل الجنَّة دخولًا إليها. الباب التاسع والستون: وهو بابٌ جامع، فيه فصول منثورة. الباب السبعون: في المستحق لهذه البشارة دون غيره. واللَّهُ سبحانه المسؤول أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، مُدْنيًا لمؤلفه وقارئه وكاتبه من جنَّات النَّعيم، وأن يجعله حُجَّة له، ولا يجعله حجة عليه، وأن ينفع به من انتهى إليه، إنَّه خيرُ مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل (2) . __________ (1) قوله "وتجليه لهم ضاحكًا" ليس في "ج". (2) من قوله "واللَّه سبحانه وتعالى هو المسؤول" إلى "الوكيل" سقط من "ج".

(1/23)


 الباب الأوَّل: في بيانِ وجودِ الجنَّة الآن

لم يزل أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتابعون، وتابعوهم، وأهل السنَّة والحديث قاطبة، وفقهاء الإسلام، وأهل التصوف والزهدِ على اعتقاد ذلك وإثباته؛ مستندين في ذلك إلى نصوص الكتابِ والسنَّة، وما عُلِمَ بالضرورة من أخبار الرُّسل كلهم من أوَّلهم إلى آخرهم، فإنَّهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها. إلى أنْ نبغت نابغة من القدرية (1) والمعتزلة (2) فأنكرت أنْ تكون الآن مخلوقة، وقالت: بل اللَّهُ ينشئها يومَ المعاد. وحَمَلَهم على ذلك أصلهم الفاسد الَّذي وضعوا به شريعةً لِمَا (3) يفعله اللَّه تعالى، وأنَّه ينبغي له أنْ يفعلَ كذا، ولا ينبغي له أنْ يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعاله (4)، فهم مُشبِّهة في الأفعالِ، ودخل التجهُّم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة في الصفات. وقالوا: خَلْقُ الجنَّة قبل الجزاءِ عبث، فإنَّها تصير معطلة مُدَدًا متطاولة ليس فيها سكانها. __________ (1) هم منكروا القَدَر. (2) فرقةٌ ظهرت في عهد الحسن البصري، ثمَّ تطورت عقائدهم. (3) في "د": "فيما". (4) كذا في جميع النسخ، وجاء في "هـ" "أفعالهم" لكن ضرب عليها النَّاسخ وأثبت "أفعاله".

(1/24)


وقالوا: ومن المعلوم أنَّ ملكًا لو اتخذ دارًا، وأعدَّ فيها ألوان الأطعمة والآلات والمصالح، وعطَّلها من النَّاسِ، ولم يُمَكِّنهم من دخولها قرونًا متطاولة = لم يكن ما فَعَلَهُ واقعًا على وجه الحكمة، ووجد العقلاء سبيلًا إلى الاعتراض عليه. فحجروا على الربِّ تبارك وتعالى بعقولهم الفاسدة، وآرائهم الباطلة وشبَّهوا أفعاله بأفعالهم، وردوا من النصوص ما خالف هذه الشَّريعة الباطلة التي وضعوها للرب، أو حرَّفوها عن مواضعِها، وضلَّلوا وبدَّعوا من خالفهم فيها، والتزموا فيها لوازم أضحكوا عليهم فيها العقلاء. ولهذا يذكر السلفُ في عقائدهم: أنَّ الجنَّة والنَّارَ مخلوقتان، ويذكر من صنَّف في المقالات أنَّ هذه مقالة أهل السنَّة، والحديث قاطبة لا يختلفون فيها (1) . قال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتاب "مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلِّين" (2) : "جُملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنَّة: الإقرار باللَّه وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند اللَّه، وما رواهُ الثقات عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لا يَرُدُّون من ذلك شيئا، واللَّه تعالى إلهٌ واحدٌ فردٌ صمد، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، __________ (1) انظر: "شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة" لِللالكائي: (3/ 1184)، "والشريعة" للآجري: (3/ 1343)، و"الرسالة الوافية" للدَّاني ص (195). (2) (1/ 345 - 350) ط، مكتبة النهضة المصرية، تحقيق: محمد محيي الدِّين عبد الحميد.

(1/25)


وأنَّ الجنَّة حقٌّ، وأنَّ النَّارَ حق، وأنَّ السَّاعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنَّ اللَّه يبعث من في القبور. وأنَّ اللَّهَ تعالى على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5]، وأنَّ له يَدَيْن بلا كيف، كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وكما قال: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وأنَّ له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وأنَّ له وجهًا، كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } [الرحمن: 27]. وأنَّ أسماء اللَّه تعالى لا يقال: إنَّها غير اللَّه، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقرُّوا أنَّ للَّه عِلْمًا، كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]. وأثبتوا السَّمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن اللَّه، كما تَنْفيه (1) المعتزلة، وأثبتوا للَّه القوَّة كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]. وقالوا: إنَّه لا يكون في الأرضِ من خيرٍ ولا شر إلَّا ما شاء اللَّه، وإنَّ الأشياء تكون بمشيئة اللَّه، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وكما قال المسلمون: ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لا يكون (2) . وقالوا: إنَّ أحدًا لا يستطيع أنْ يفعل شيئًا قبل أنْ يفعله، أو يكون __________ (1) في "ب، ج، د، هـ" "نَفَتْهُ". (2) في "ب، هـ" "وما لم يشأ لم يكن"، وفي المقالات "وما لا يشأ لا يكون".

(1/26)


أحد يقدر أنْ يخرج عن علم اللَّه، أو أنْ يفعل شيئًا عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ لا يفعله. وأَقَرُّوا أنَّه لا خالقَ إلَّا اللَّه (1) ، وأنَّ أعمال العباد يخلقها اللَّهُ، وأنَّ العباد لا يقدرون أنْ يخلقوا شيئًا. وأنَّ اللَّهَ تعالى وفَّق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف بالمؤمنين، ونظرَ لهم، وأصلحهم، وهداهم، ولم يلطفْ بالكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين. وأنَّ اللَّهَ تعالى يقدر أنْ يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتَّى يكونوا مؤمنين، ولكنَّه أراد أنْ يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلَّهم، وطبع على قلوبهم. وأنَّ الخيرَ والشَّرَّ بقضاء اللَّه (2) وقدره، ويؤمنون بقضاء اللَّه وقدره خيره وشرِّه، حُلْوه ومُره، ويؤمنون أنَّهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلَّا ما شاء اللَّهُ، كما قال، ويلجئون أمرهم إلى اللَّه، ويثبتون الحاجة إلى اللَّه في كلِّ وقتٍ، والفقر إلى اللَّهِ في كلِّ حال. ويقولون: إنَّ القرآن كلام اللَّهُ غير مخلوق، والكلام في الوقف والَّلفظ من قال بالَّلفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: الَّلفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق. __________ (1) في المقالات "وأنَّ سيئات العباد يخلقها اللَّه"، وهي ليست في جميع النسخ. (2) في "ب" "بقضائه" بدلًا من "بقضاء اللَّه".

(1/27)


ويقولون: إنَّ اللَّه تعالى يُرى بالأبصارِ يومَ القيامة، كما يُرى القمرُ ليلة البدر، ويراهُ المؤمنون، ولا يراهُ الكافرون؛ لأنَّهم عن اللَّه تعالى محجوبون، قال اللَّهُ تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } [المطففين: 15]، وأنَّ موسى عليه السَّلام سأل اللَّهَ سبحانه وتعالى الرؤية في الدنيا، وأنَّ اللَّهَ تعالى تجلَّى للجبلِ فجعله دكًّا، فأعلمه بذلك أنَّهُ لا يراهُ في الدنيا، بل يراهُ في الآخرة. ولا يكفِّرون أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ يرتكبه، كنحو: الزِّنَى والسَّرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإنْ ارتكبوا الكبائرَ. والإيمان -عندهم- هو الإيمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله، وبالقدر خيره وشرِّه، حلوه ومُرِّه، وأنَّ ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأنَّ ما أصابهم لم يكن ليُخطئهم. والإسلام هو: أنْ يشهد أنْ لا إله إلَّا اللَّه، [وأنَّ محمدًا رسول اللَّه] (1) ، كما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان. ويُقِرُّونَ بأنَّ اللَّهَ مقلِّب القلوب. ويُقِرُّون بشفاعة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّها لأهل الكبائر من أُمَّتِهِ، وبعذاب القبرِ، وأنَّ الحوضَ حقٌ، والصراط حقٌّ، والبعثَ بعد الموتِ حقٌّ، والمحاسبة من اللَّه للعباد حقٌّ، والوقوف بين يدي اللَّه تعالى حقٌّ. __________ (1) ما بين المعقوفتين من "مقالات الإسلاميين".

(1/28)


ويقرون بأنَّ الإيمان: قولٌ وعمل، يزيد وينقص (1) ، ولا يقولون: مخلوق، ولا غير مخلوق. ويقولون: أسماءُ اللَّه هي اللَّه تعالى. ولا يشهدون على أحدٍ من أهل الكبائرِ بالنَّارِ، ولا يَحْكُمُون بالجنَّة لأحدٍ من المُوَحِّدين، حتَّى يكونَ اللَّه تعالى نزَّلهم (2) حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى اللَّه، إنْ شاء عذَّبهم، وإنْ شاء غفرَ لهم، ويؤمنون بأنَّ اللَّهَ تعالى يُخرج قومًا من المُوَحِّدين من النَّار، على ما جاءت به الروايات عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وينكرون الجدَلَ والمِرَاء في الدِّين، والخصومة في القَدَرِ، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم، بالتَّسليم للروايات الصحيحة، ولِمَا جاءت به الآثار التي رواها الثقات، عَدْلًا عن عدل، حتَّى ينتهي ذلك إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يقولون: كيف؟ ولا: لِمَ؛ لأنَّ ذلك بِدْعَة. ويقولون: إنَّ اللَّه تعالى لم يأمر بالشَّرِّ، بل نهى عنه، وأمرَ بالخيرِ، ولم يَرْضَ بالشَّرِّ، وإنْ كان مريدًا له. ويعرفون حقَّ السَّلف الَّذين اختارهم اللَّهُ تعالى لصحبة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويأخذون بفضائِلهم، ويُمْسِكُون عمَّا شجرَ بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويُقَدِّمُون أبا بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ عليًّا رضي اللَّهُ عنه، ويُقِرُّون __________ (1) في "ب": "يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية". (2) في المقالات "ينزلهم".

(1/29)


بأنَّهم الخلفاء الرَّاشدون المهديون، وأنَّهم أفضلُ النَّاسِ كلِّهم بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ويُصَدِّقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "إنَّ اللَّهَ ينزلُ إلى السَّماءِ الدنيا فيقول: هل من مستغفرٍ؟ " (1) ، كما جاء في الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويأخذون بالكتاب والسنَّة، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. ويرون اتباع منْ سلف من أئمة الدِّين، وأنْ لا يتبعون (2) في دينهم ما لم يأذن به اللَّه، ويُقرون أنَّ اللَّه تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22]، وأنَّ اللَّه تعالى يَقْرُبُ من خلقه كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } [ق: 16]. ويَرَوْن العيد والجمعة والجماعة خلف كلِّ إمامٍ، برٍّ وفاجر. ويُثْبِتون أنَّ المَسْحَ على الخُفَّين سُنَّة، ويرونه في الحضَرِ والسَّفَر. ويثبتون فرضَ الجهاد للمشركين منذ بعثَ اللَّهُ نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى آخر عصابة تُقاتل الدَّجَّال، وبعد ذلك. وَيَرَوْنَ الدُّعَاءَ لأئمة المسلمين بالصَّلاحِ، وأنْ لا يُخْرَج (3) عليهم بالسَّيف، وأنْ لا يقاتلوا في الفتنة. __________ (1) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (1094)، ومسلم رقم (758) واللفظُ له. (2) في المقالات "يبتدعوا". (3) في المقالات "يَخْرُجُوا".

(1/30)


ويُصَدِّقون بخروج الدَّجَّال، وأنَّ عيسى بن مريم -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْتُلُه. ويؤمنون بمُنْكَرٍ وَنَكِيْرٍ، والمعراج، والرُّؤيا في المنامِ، وأنَّ الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تَصِلُ إليهم، ويصدقون أنَّ في الدنيا سَحَرَة، وأنَّ السَّاحر كافر، كما قال اللَّه تعالى، وأنَّ السَّحْر كائنٌ موجودٌ في الدنيا. وَيَرَوْنَ الصلاة على كلِّ مَنْ مات من أهل القبلة مؤمنهم (1) وفاجرهم، ويقرون أنَّ الجنَّة والنَّارَ مخلوقتان. وأنَّ من ماتَ ماتَ بأجله، وكذلك من قُتِلَ قُتِلَ بأجله. وأنَّ الأرزاق من قِبَل اللَّه تعالى يرزقها عباده حلالًا كانت أو حرامًا. وأنَّ الشيطان يوسوس للإنسان، ويشككه ويخبَّطه (2) . وأنَّ الصالحين قد يجوز أنْ يَخُصَّهم اللَّه تعالى بآياتٍ تَظْهَرُ عليهم. وأنَّ السُّنَّة لا تُنْسَخُ بالقرآن. وأنَّ الأطفال أمرهم إلى اللَّهِ: إنْ شاء عذَّبهم، وإنْ شاء فعل بهم ما أراد. وأنَّ اللَّه تعالى عالمٌ ما العبادُ عاملون، وكتب أنَّ ذلك يكون، وأنَّ __________ (1) في المقالات "بَرِّهم". (2) في المقالات "ويتخبَّطه".

(1/31)


الأمورَ بيدِ اللَّهِ تعالى. ويرون الصبرَ على حكم اللَّه، والأخذ بما أمر اللَّه تعالى به، والانتهاء عمَّا نهى اللَّه عنه، وإخلاصَ العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة اللَّه في العابدين، والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنى، وقول الزور، والعَصَبيَّة (1) ، والفَخْر، والكِبْر، والإزراء على النَّاس، والعُجْب (2) . ويرون مجانبة كل داعٍ إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنَّظر في الفقه مع التواضع والاستكانة، وحُسن الخلق، وبذل المعروف، وكفِّ الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسِّعاية، وتَفَقُّد المأكلِ والمشربِ. فهذه جملةُ ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه، وبكلِّ ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلَّا باللَّهِ، وهو حسبنا ونعم الوكيل (3) ، وبه نستعين، وعليه نتوكلُ، وإليه المصير". والمقصود حكايته عن جميع أهل السنَّة والحديث: أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقتان، وسُقْنَا جملة كلامه ليكون الكتاب والسنَّة مُؤَسَّسًا على معرفة من يستحقُّ البِشَارة المذكورة، وأنَّ أهل هذه المقالة هم أهلها، وباللَّه التوفيق. __________ (1) من "هـ" والمقالات، وفي باقي النسخ "والمعصية". (2) سقط من "د". (3) قوله "ونعم الوكيل" ليس في "ب، د".

(1/32)


وقد دلَّ على ذلك من القرآن: قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) } [النجم: 13 - 15]. وقد رأى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سِدرَة المنتهى (1) ، ورأى عندها الجنَّة، كما في "الصحيحين" من حديث أنس -رضي اللَّه عنه- في قصة الإسراء وفي آخره: "ثُمَّ انطلق بي جبريل حتَّى أتى سِدْرَةَ المنتهى، فغشيها ألوانٌ لا أدري ما هي؟ قال: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجنَّة، فإذا فيها جَنابذُ الَّلؤلؤ، وإذا ترابها المسكُ" (2) . وفي "الصحيحين" (3) من حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ أحدكم إذا ماتَ عُرِضَ على (4) مقعده بالغداة والعَشِيِّ، إنْ كانَ من أهل الجنَّة فمن أهل الجنَّة، وإنْ كان من أهل النَّارِ فمن أهل النَّارِ، فيُقال: هذا مقعدك حتَّى يبعثك اللَّه يومَ القيامة (5) ". وفي "المسند" و"صحيح الحاكم" و"ابن حبان" وغيرهم من حديث البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه- قال: خرجنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في جَنَازة رجلٍ من الأنصارِ -فذكر الحديث بطوله- وفيه: "فينادي مناد __________ (1) قوله: "سدرة المنتهى" ليس في "ب". (2) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3164)، ومسلم برقم (163)، واللفظ للبخاري. (3) أخرجه البخاري رقم (1313)، ومسلم رقم (2866). (4) في "هـ": "عليه". (5) قوله "يوم القيامة" ليس في "ب".

(1/33)


من السَّماءِ: أنْ صَدَقَ عبدي، فأفرشوهُ من الجنَّة، وألبسوهُ من الجنَّة، وافتحُوا له بابًا إلى الجنَّة، قال: فيأتيه من رَوْحِها وطيبها" (1) ، وذكر الحديث. وفي "الصحيحين" (2) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ العبدَ إذا وُضِعَ في قبره، وتولَّى عنه أصحابه، وإنَّه ليسمع قَرْعَ نعالِهم قال: فيأتيه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل؟ قال: فأمَّا المؤمنُ فيقول: أشهدُ أنَّه عبدُ اللَّهِ ورسوله، قال: فيقولان له: انظر إلى مقعدك من النَّارِ، قد أبدلك اللَّه به مقعدًا من الجنَّة. قال نبيُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيراهما جميعًا". __________ (1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 287، 288، 295، 297)، وأبو داود (3212، 4753، 4754) والنسائي (4/ 78)، وابن ماجه (1548) و (1549) والحاكم (1/ 93) رقم (107) وأبو عوانة كما في "إتحاف المهرة" (2/ 459)، وابن منده في الإيمان (1064)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر رقم (21) و (43) وغيرهم. من طريق زاذان عن البراء بن عازب فذكره. والحديث صحَّحه: أبو عوانة وابن منده والحاكمُ والبيهقي وابن القيم وغيرهم. قال ابن القيم في الروح ص (91): "هذا حديث ثابتٌ مشهورٌ مُسْتفيض، صححه جماعة من الحفاظ، ولا نعلمُ أحدًا من أئمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلًا من أصول الدِّين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة منكر ونكير، وقبض الأرواحِ وصعودها إلى بين يدي اللَّهِ، ثمَّ رجوعها إلى القبر. . . ". (2) أخرجه البخاري برقم (1308)، ومسلم برقم (2870)، واللفظ لمسلم.

(1/34)


وفي "صحيح أبي عوانة الإسْفَراييني" و"سنن أبي داود" من حديث البراء بن عازب الطويل في قبض الرُّوح: "ثمَّ يُفتح له بابٌ من الجنَّة، وبابٌ من النَّارِ، فيُقال: هذا كان منزلك لو عصيتَ اللَّه أبدلك اللَّهُ به هذا، فإذا رأى ما في الجنَّة قال: ربِّ عجِّل قيامَ السَّاعة كَيْمَا أرجعُ إلى أهلي ومالي، فيُقال: اسْكن" (1) . وفي "مُسند البزَّار" وغيره من حديث أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: شهدنا مع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جَنازةً، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أيُّها النَّاسُ، إنَّ هذه الأُمَّة تُبْتَلى في قبورها، فإذا دُفِنَ الإنسانُ وتفرَّق عنه أصحابه، جاءهُ مَلكٌ في يده مِطْرَاقٌ فأقعده فقال: ما تقولُ في هذ الرجل؟ -يعني محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنْ كان مؤمنًا، قال: أشهدُ أنَّ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، فيقولون (2) : صدقت، ثمَّ يُفتح له بابٌ إلى النَّارِ فيقولون: هذا كان منزلَك لو كفرت بربك، فأمَّا إذْ آمنت به فهذا منزلك، فيُفتحُ له بابٌ إلى الجنَّة فيريدُ أنْ ينهض إلى الجنَّة فيقولون: اسْكن" (3) وذكر الحديث. __________ (1) أخرجه أبو عوانة في صحيحه كما في إتحاف المهرة لابن حجر (2/ 459)، وأبو داود برقم (4753). ولعلَّ هذا لفظ أبي عوانة في صحيحه، والحديث تقدَّم الكلام عليه مختصرًا. (2) كذا في جميع النسخ "فيقولون"، وكذا ما بعده، وفي مصادر التخريج "فيقول". (3) أخرجه أحمد (3/ 3 - 4) والبزَّار كما في "كشف الأستار" رقم (872)، وابن أبي عاصم في "السنَّة" رقم (865)، والطبري في تفسيره (13/ 214)، =

(1/35)


وفي "صحيح مسلم" (1) عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: خَسَفَتِ الشمسُ في حياةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت الحديث إلى أنْ قالت:- ثمَّ قام فخطب النَّاسَ، فأثنى على اللَّهِ بما هو أهله، ثمَّ قال: "إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه تعالى، لا يخْسفان لموتِ أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصَّلاة". وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رأيتُ في مقامي هذا كلَّ شيءٍ وُعِدْتُم، حتَّى لقد رأيتني آخذ قِطْفًا من الجنَّة حين رأيتموني أُقَدِّمُ، ولقد رأيتُ جهنَّم يَحْطِمُ بعضُها بعضًا حين رأيتموني تأخَّرْتُ". وفي "الصحيحين" (2) -واللفظ للبخاري- عن عبد اللَّه بن عباس __________ = والبيهقي في "إثبات عذاب القبرِ" رقم (31). من طريق عبَّاد بن راشد البصري عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري فذكره. وقد تفرَّد به عباد -وهو صدوقٌ له أوهام- عن خاله داود بن أبي هند مرفوعًا. قال البزَّارُ: "لا نعلمهُ عن أبي سعيد إلَّا بهذا الإسنادِ، وهذا من أغربِ ما كان يُسْأَلُ عنه الحسين وابن معمر". وقد خولف عباد، خالفه مسلمة بن علقمة فأوقفه. فرواه عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: فذكر نحوًا من حديث عباد بن راشد ولم يرفعه. أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في "السنَّة" رقم (1460). ولعلَّ الموقوف أشبه. (1) رقم (901)، وهو عند البخاري أيضًا رقم (997 و 1154). (2) أخرجه البخاري رقم (358)، ومسلم رقم (907).

(1/36)


قال: انخسفت الشمسُ على عهد النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر الحديث وفيه - فقال: "إنَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات اللَّه، لا يخسفان لموتِ أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا اللَّه، فقالوا: يا رسول اللَّه رأيناكَ تناولتَ شيئًا في مقامك، ثمَّ رأيناك تكعكعت (1) ، فقال: إنِّي رأيت الجنَّة، وتناولتُ عنقودًا، ولو أصبتُه لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأُرِيتُ النَّارَ، فلم أرَ منظرًا كاليومِ قطُّ أفظعَ، ورأيتُ أكثرَ أهلها النساء، قالوا: بِمَ يا رسول اللَّه؟ قال: بَكُفْرِهنَّ. قيل: أيكفرن باللَّه؟ قال: يَكفرنَ العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدهرَ كلَّه، ثمَّ رأتْ منك شيئًا، قالت: ما رأيت منْكَ خيرًا قطُّ". وفي "صحيح البخاري" (2) عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف، قال: "قد دَنَتْ منِّي الجنَّة، حتَّى لو اجترأتُ عليها لجئتكم بقطافٍ من قطافها، ودنت منِّي النَّارُ حتَّى قُلتُ: أي ربِّ، وأنا معهم؟ فإذا امرأةٌ -حسِبْتُ أنَّه قال:- تَخدشها هِرَّةٌ، قلتُ: ما شأن هذه؟ قالوا: حَبَستْها حتَّى ماتت جوعًا، لا أطعمتها ولا أرسلتها تأكل". وفي "صحيح مسلم" (3) من حديث جابر رضي اللَّه عنه في هذه القصة قال: "عُرِضَ عليَّ كلُّ شيءٍ تُولجونه (4) ، فعُرِضَتْ عليَّ الجنَّة __________ (1) تكعكع: هاب وتراجع بعدما أقدم. المعجم الوسيط ص (826). و"تكعكعت" من رواية الكشميهني، كما في الفتح (2/ 541). (2) رقم (712). (3) رقم (904) - (9). (4) في "د" وفي نسخةٍ على حاشية "ب، ج": "تُوْعَدُونه" بدلًا من "تولجونه".

(1/37)


حتَّى تناولتُ منها قطفًا فقصُرتْ يدي عنه، وعُرِضَتْ عليَّ النَّارُ، فرأيتُ فيها امرأةً من بني إسرائيل تُعَذَّبُ في هِرَّةٍ لها" وذكر الحديث. وفي "صحيح مسلم" (1) عنه في هذا الحديث: "ما من شيء تُوْعَدُوْنَهُ إلَّا قد رأيتُه في صلاتي هذه، لقد جيء بالنَّارِ، وذلك حين رأيتموني تأخرتُ مخافةَ أنْ يصيبني من لَفْحِها، وحتَّى رأيتُ فيها صاحب المِحْجَنِ يجرُّ قُصْبَه في النَّارِ، وكان يسرقُ الحاجَ بِمِحْجَنِه، فإنْ فُطِنَ له قال: إنَّما تَعَلَّقَ بمحجني، وإنْ غُفِل عنه ذهب به، وحتَّى رأيتُ فيها صاحبة الهِرَّة التي ربطتها؛ فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتَّى ماتت جوعًا، ثمَّ جيء بالجنَّة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتَّى قمت في مقامي، ولقد مددتُ يدي -وأنا أريدُ أنْ أتناولَ من ثمرها لتنظروا إليه- ثمَّ بدا لي أنْ لا أفعل، فما من شيءٍ توعدونه إلَّا قد رأيته في صلاتي هذه". وفي "مسند الإمام أحمد" و"سنن أبي داود" و"النسائي" من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما في هذه القصة: "والَّذي نفسُ محمدٍ بيده لقد أُدْنِيَت الجنَّةُ مِنِّي، حتَّى لو بَسَطْتُ يدي لتعاطيتُ من قطوفها، ولقد أُدْنِيت النَّارُ منِّي حتَّى لقد جعلتُ أتَّقِيْها خشيةَ أنْ تغشاكم" وذكر الحديث (2) . __________ (1) رقم (904) - (10). (2) أخرجه أحمد (2/ 188 و 198)، وأبو داود رقم (1194)، والترمذي في الشمائل رقم (324)، والنسائي (3/ 137) رقم (1482) واللفظ له، وابن خزيمة في صحيحه رقم (1392 و 1393)، وابن حبان في صحيحه =

(1/38)


وفي "صحيح مسلم" (1) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: بينما رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذاتَ يومٍ، إذْ أُقيمت الصلاةُ فقال: "أيُّها النَّاسُ، إنِّي إمَامُكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بِرَفْعِ رؤوسكم؛ فإنِّي أراكم من أمامي ومن خلفي، وأيمُ (2) الَّذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيتُ لضحكتم قليلًا، وبكيتم (3) كثيرًا، قالوا: وما رأيت يا رسول اللَّه؟ قال: رأيتُ الجنَّة والنَّار". وفي "الموطأ" و"السنن" من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّما نَسَمَةُ المؤمن طَيرٌ تعلقُ في شجر الجنَّة حتَّى يرجعها اللَّه إلى جسده يوم القيامة" (4) . __________ = (7/ رقم 2839)، والحاكم (1/ 478) رقم (1229) وغيرهم مختصرًا ومطوَّلًا. والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وهو كما قالوا. (1) رقم (426). (2) ليست في "هـ" ولا في "صحيح مسلم". (3) من (أ). وفي باقي النسخ، وحاشية "أ"، وصحيح مسلم "ولبكيتم". (4) أخرجه مالك في "الموطأ" رقم (643)، وابن ماجه (4271)، والنسائي (4/ 108)، وأحمد (3/ 455 و 456) واللفظ له، والطبراني (19/ 65) وغيرهم. من طريق مالك ومعمر ويونس وشعيب والأوزاعي كلهم عن الزهري حدثني عبد الرحمن بن كعب عن أبيه كعب بن مالك فذكره. وسنده صحيح، وصححه ابن حبان، لكن وقع فيه اختلاف في سنده ومتنه، وخلاصته: أمَّا السندُ: فطريق مالك ومن تابعه أرجحها. وأمَّا المتنُ: فسيأتي في الحديث الآتي. =

(1/39)


وهذا صريحٌ في دخول الروح الجنَّة (1) قبل يوم القيامة (2) . ومثله حديث كعب بن مالك رضي اللَّه عنه أيضًا عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أرواح الشهداء في طيْرٍ خُضرٍ تعلقُ من ثمر الجنَّة -أو شجر الجنَّة-" (3) رواهُ أهل السُّنن، وصحَّحه الترمذي. وسيأتي في آخر هذا الكتاب في الباب الَّذي يذكر فيه دخول أرواح المؤمنين الجنَّة قبل يوم القيامة، تمامُ هذه الأحاديث إنْ شاء اللَّهُ تعالى، وذكر دلالة القرآن على ما دلَّت عليه السُّنة من __________ = انظر: التمهيد لابن عبد البر (11/ 56 - 58)، وكلام محقق كتاب "الجهاد" لابن أبي عاصم (2/ 521 - 527). (1) من قوله "حتى يرجعها اللَّهُ" إلى "الجنَّة" سقط من "ج". (2) جاء في "هـ" ونسخة على حاشية "أ": "ورواه الإمام أحمد والشافعي في مسنديهما، رضوان اللَّهِ عليهما". (3) أخرجه الترمذي برقم (1640)، وأحمد (6/ 386)، وابن أبي عاصم في "الجهاد" رقم (202)، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 60) من طريق أحمد وابن أبي عمر وابن كاسب عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الزهري عن ابن كعب عن أبيه، فذكره. وخالفهم الحميدي -في مسنده (2/ 385) - في متنه، فوافق الجماعة. فرواه عن ابن عيينة عن عمرو به، فذكره بلفظ: "نسمة المؤمن" بدلًا من لفظ "أرواح الشهداء. . . ". ولعلَّ الوهم من ابن عيينة أو من عمرو بن دينار. فإنَّ الحديث رواه مالك ويونس وعقيل والليث والأوزاعي وشعيب ومعمر وغيرهم كلهم عن الزهري به باللفظ المتقدم "نسمة المؤمن. . . " وهذا اللفظ أصحُّ وأثبت. والحديث صححه الترمذي بقوله: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيح".

(1/40)


ذلك (1) . وفي "صحيح مسلم" و"السنن" و"المسند" من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لما خلقَ اللَّهُ تعالى الجنَّة والنَّار، أرسلَ جبريلَ إلى الجنَّة فقال: اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهبَ فنظر إليها وإلى ما أعدَّ اللَّهُ لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزَّتك لا يسمعُ بها أحدٌ إلَّا دخلها، فأمر بالجنَّة فحُفَّت بالمكاره، فقال: فارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، ثمَّ رجعَ فقال: وعزَّتك لقد خشيتُ أنْ لا يدخلها أحد، قال: ثمَّ أرسله إلى النَّارِ قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها فإذا هي يركبُ بعضها بعضًا، ثمَّ رجع فقال: وعزَّتك لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحُفَّتْ بالشَّهَوَات ثمَّ قال: اذهب فانظر إلى ما أعددتُ لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزَّتك (2) لقد خشيتُ أنْ لا ينجو منها أحدٌ إلَّا دخلها" (3) . قال الترمذي: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيح". __________ (1) لم يذكر المؤلف ذلك في آخر هذا الكتاب، فلعله ذهل عنه. (2) من قوله: "لا يدخلها أحدٌ سمع بها" إلى "وعزَّتك" سقط من "ج". (3) أخرجه الترمذي رقم (2560)، وأبو داود رقم (4744)، والنسائي (7/ 3)، وأحمد (2/ 332 - 333 و 354 و 373) وغيرهم. من طريق: محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكره. والحديث صحَّحه الترمذي كما نقل المصنِّف عنه. تنبيه: لم يخرج مسلم هذا الحديث في صحيحه.

(1/41)


وفي "الصحيحين" (1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه: "حُجِبت الجنَّة بالمكاره، وحُجِبَتِ النَّارُ بالشهوات". وفي "الصحيحين" (2) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اختصمت الجنَّة والنَّارُ، فقالت الجنَّة يا ربِّ مالها إنَّما يدخلها ضُعَفَاءُ النَّاس وسَقَطُهُم؟ وقالت النَّارُ: يا رب ما لها يدخلها الجبَّارون والمتكبرون؟ فقال: أنت رحمتي أصيبُ بكِ مَنْ أشاءُ، وأنت عذابي أصيبُ بكِ من أشاءُ، ولكلِّ واحدةٍ منكما ملؤها". وفي "الصحيحين" (3) من حديث (ابن عمر رضي اللَّه عنهما) (4) عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "اشْتكتِ النَّارُ إلى ربِّها فقالت: أي ربِّ أكلَ بعضي بعضًا، فأذنَ لها بنَفَسَين: نفسٍ في الشِّتاء، ونفسٍ في الصَّيف". وروى الَّليثُ بن سعد عن معاوية بن صالح عن عبد الملك بن أبي بشير -رفع الحديث- قال: "ما من يوم إلَّا والجنَّة والنَّار يسألان، تقولُ الجنَّة: يا ربِّ قد طابت ثمرتي، واطَّردت (5) أنهاري، واشْتَقْتُ إلى أوليائي، فعجِّل إليَّ بأهلي، وتقول النَّارُ: اشتدَّ حرِّي، وبَعُدَ قَعْري، __________ (1) أخرجه البخاري رقم (6122)، ومسلم رقم (2823). (2) أخرجه البخاري رقم (7011)، ومسلم رقم (2846)، واللفظ للبخاري. (3) أخرجه البخاري رقم (512)، ومسلم رقم (617) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (4) كذا في جميع النسخ، والصوابُ (أبي هريرة رضي اللَّه عنه). (5) أي: جَرَتْ. انظر: الصحاح (1/ 427).

(1/42)


وعظُمَ جَمْري، فعجِّل إليَّ بأهلي (1) " (2) . وفي "صحيح البخاري" (3) من حديث أنس رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بَيْنَمَا أنا أسيرُ في الجنَّة، وإذا بنهرٍ في الجنَّة حافتاهُ قباب الدرِّ المجوف، قال: قلتُ: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثرُ الَّذي أعطاك ربُّك، فضرب المَلَك بيده فإذا طِيْنُه مِسْك أَذْفَر (4) ". وفي "صحيح مسلم" (5) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "دخلتُ الجنَّة فرأيت فيها قصرًا ودارًا فقلتُ: لمن هذا؟ فقيل: لرجلٍ من قريش، فرجوتُ أنْ أكون أنا هو، فقيل لعمر بن الخطاب، فلولا غيرتُك يا أبا حفص __________ (1) من قوله: "وتقول النَّارُ" إلى "بأهلي" سقط من "ج". (2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور برقم (192) من طريق أبي العلاءِ الحسن بن سوار عن الليث به مثله. وأخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (85) من طريق عبد اللَّه بن صالح عن معاوية بن صالح به مختصرًا. والحديث معضل، فإنَّ عبد الملك بن أبي بشير البصري، ثقة من أتباع التابعين. انظر: تهذيب الكمال (18/ 287 - 288). (3) رقم (6210). (4) قال عبد الملك بن حبيب السلمي في وصف الفردوس ص (7): "والأذفر: "الشديد الطيب الرائحة التي تكاد رائحته تَعُمُّ من شدَّةِ فيْحها وريحها". (5) أخرجه البخاري رقم (6621)، ومسلم رقم (2394)، واللفظُ الَّذي ساقه المؤلفُ مُدْمَج من البخاري ومسلم.

(1/43)


لدخلته، قال: فبكى عمر، وقال: أَوَيُغَار عليك يا رسول اللَّه؟ وسيأتي حديث بلال، وقول النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما دخلتُ الجنَّة إلَّا سمعتُ خشخشتك (1) بين يديَّ" (2) وغير ذلك من الأحاديث التي تأتي إنْ شاء اللَّه تعالى (3) . وقال عبد اللَّه بن وهب: حدثنا معاوية بن صالح عن عيسى بن عاصم عن زرٍّ بن حُبَيْش عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: صلَّى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم صلاة الصبح، ثمَّ مدَّ يده، ثمَّ أخرها، فلمَّا سلَّم قيل له: يا رسول اللَّه، لقد صنعت في صلاتك شيئًا لم تصنعه في غيرها، قال: إنِّي أُرِيْتُ (4) الجنَّة فرأيتُ فيها دالية (5) ، قُطُوفها دانية، __________ (1) الخشخشة: صَوْت السلاح وغيره، إذا حُرِّكَ. انظر: الصحاح (1/ 791)، والمعجم الوسيط ص (258). (2) أخرجه أحمد في المسند (5/ 354 و 360)، والترمذي برقم (3689)، وابن خزيمة رقم (1209)، وابن حبان (15/ رقم 7086 و 7087)، والحاكم (3/ 322) رقم (5245). من حديث بريدة بن الحصيب رضي اللَّه عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والحديث صححه أيضًا: ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وله شاهد: من حديث جابر عند مسلم برقم (2457)، وفيه: ". . ثمَّ سمعتُ خَشْخشَة أمامي، فإذا بلال". (3) انظر: ص (235). (4) في نسخةٍ على حاشية "أ": "رأيت". (5) الدَّالية، جمعها دوالي: عنبٌ أسود غير حالك، وعناقيده أعظم العناقيد كلها. . . المعجم الوسيط ص (318).

(1/44)


حَبُّها كالدُّباءِ، فأردتُ أنْ أتناول منها، فأُوحي إليها أنِ اسْتأخري، فاستأخرت، ثمَّ أُريت (1) النَّارَ فيما بيني وبينكم، حتَّى لقد رأيت ظلَّي وظلكم، فأومأتُ إليكم أنِ استأخروا فأوحي إليَّ أقِرَّهم (2) ، فإنَّك أسْلَمْتَ وأسلموا، وهاجرت وهاجروا، وجاهدت وجاهدوا، فلم أرَ لي عليكم فضلًا إلَّا بالنبوة" (3) . فإنْ قيل: ما منعكم (4) من الاحتجاج على وجودها (5) الآن بقصة (6) آدم، ودخوله الجنَّة وإخراجه منها بأكله من الشجرة، والاستدلال بها في غاية الظهور؟! قيل: الاستدلال بذلك وإنْ كان عند العامة في غاية الظهور، فهو في غاية الغموض؛ لاختلاف النَّاس في الجنَّة التي أسكنها آدم، هل كانت جنَّةَ الخُلْدِ التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة؟ أو كانت جنَّةً في الأرضِ في __________ (1) في "ج": "رأيت". (2) في "ب، د": "أن أقرَّهم". (3) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2/ رقم 892)، وأبو عوانة في صحيحه كما في "إتحاف المهرة لابن حجر": (2/ 13)، والحاكم في مستدركه (4/ 503) رقم (8408)، وأبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (349) مختصرًا، والضياء المقدسي في المختارة (6/ 138) رقم (2136). والحديث صححه ابن خزيمة وأبو عوانة والحاكمُ والضياء المقدسي. (4) في نسخة على حاشية "د" "معكم"، وفي حاشية "أ" "فما منعكم". (5) في "أ": "دخولها". (6) في نسخةٍ على حاشية "أ": "بمعصية".

(1/45)


شَرْقِيِّها؟ ونحن نذكر من قال بهذا ومن قال بهذا، وما احتج به كلُّ فريقٍ على قولهم، وما ردَّ به الفريقُ الآخر عليهم، بحول اللَّه وقوَّته.

(1/46)


 الباب الثاني في اختلاف النَّاسِ في الجنَّة التي أُسكِنَها آدم، وأُهْبِطَ منها (1)، هل هي جنَّة الخلد، أو جنَّة (2) أخرى غيرها في موضع عالٍ من الأرضِ (3)؟

قال منذر بن سعيد (4) في "تفسيره": "وأمَّا قوله تعالى لآدم: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]. فقالت طائفة: أسكن اللَّه آدم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة. وقال آخرون: هي جنَّة غيرها جعلها اللَّهُ له وأسكنه إيَّاها، ليست جنَّة الخلد. __________ (1) قوله: "وأهبط منها" ليس في "ب". (2) في "د": "أم هي جنة". (3) في "ب": "أو جنة في الأرض" بدلًا من "أم جنة أخرى غيرها في موضعٍ عالٍ من الأرضِ". (4) وهو منذر بن سعيد بن عبد اللَّهِ أبو الحكم البُلُّوطي، ولد 273 هـ، كان متفننًا في ضروب العلمِ تفسيرًا وفقهًا ولغةً وأدبًا، وكان أخطبَ أهل زمانه، منحرفًا إلى مذهب أهل الكلام، له التفسير والنَّاسخ والمنسوخ وغيرها، توفي سنة (355 هـ). انظر: "تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي رقم (1454)، و"طبقات المفسرين" للداوودي (2/ 336 - 337).

(1/47)


قال: وهذا قولٌ يكثر الدَّلائل الشَّاهدة له، والموجبة للقول به" (1) . وقال أبو الحسن الماوردي في "تفسيره": "واختلف النَّاسُ في الجنَّة التي أُسكِنَاها على قولين: أحدهما: أنَّها جنَّة الخلد. الثاني: أنَّها جنَّة أعدَّها اللَّهُ تعالى لهما (2) ، وجعلها دار ابتلاء، وليست جنَّة الخلد التي جعلها دار جزاء. ومن قال بهذا اختلفوا (3) على قولين: أحدهما: أنَّها في السَّماء؛ لأنَّه أَهْبَطَهُمَا منها، وهذا قول الحسن. الثاني: أنَّها في الأرضِ؛ لأنَّه امتحنهما فيها بالنَّهي عن الشجرة التي نُهيا عنها دون غيرها من الثمار، وهذا قول ابن بحر (4) . وكان ذلك بعد أنْ أُمِرَ إبليس بالسجود لآدم عليه السَّلام، واللَّه أعلمُ __________ (1) نقله المؤلفُ في مفتاح دار السعادة عنه (1/ 11). (2) إلى هنا ينتهي كلام الماوردي من المطبوع (1/ 104)، فلعلَّ ما بعده سقط من الطباعة، أو للمؤلف نسخة أخرى. (3) في "ب، د، هـ": "اختلفوا فيه". (4) هو محمد بن بحر الأصبهاني، قال ابن بابويه: كان على مذهب المعتزلة، ووجهًا عندهم، صنَّف لهم التفسير، وتوفي سنة (322 هـ). انظر: "لسان الميزان": (5/ 96)، و"طبقات المفسرين" للداوودي: (2/ 109 - 110).

(1/48)


بصواب ذلك" هذا كلامه. وقال ابن الخطيب (1) في "تفسيره" المشهور: "واختلفوا في الجنَّة المذكورة في هذه الآية، هل كانت في الأرضِ أو في السماء؟ وبتقدير أنَّها كانت في السَّماء، فهل هي الجنَّة التي هي دار الثواب وجنَّة الخُلد أو جنَّة أخرى؟ فقال أبو القاسم البَلْخي، وأبو مسلم الأصبهاني: هذه الجنَّة في (2) الأرضِ. وحَمَلا الإهباط على الانتقال من بُقْعَةٍ إلى بُقْعَة، كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61] واحتجا عليه بوجوه. القولُ الثاني: وهو قول الجُبَّائي: أنَّ تلك الجنَّة كانت في السَّماء السَّابعة. القول الثالث: وهو قول جمهور أصحابنا: أنَّ هذه الجنَّة هي دار الثواب" (3) . وقال أبو القاسم الرَّاغبُ (4) في "تفسيره": "واختلف في الجنَّة التي __________ (1) هو محمد بن عمر بن الحسين فخر الدَّين الرازي، أبو عبد اللَّهِ القرشي التَّيمي، ولد سنة 544 هـ، المفسر، المتكلَّم، إمام وقته في العلومِ العقلية، ندم في آخر عمره على دخوله في علم الكلامِ، له: التفسير الكبير "مفاتيح الغيب" ولم يكمله، توفي سنة (606 هـ). انظر: طبقات المفسرين للداوودي (2/ 215 - 218). (2) في مفاتيح الغيب: "كانت في". (3) انظر: "مفاتيح الغيب": (1/ 4 - 5) وعنده مطوَّلًا. (4) هو الحسين بن محمد بن المفضل الأصبهاني، الملقَّب بـ "الرَّاغب"، قال =

(1/49)


أسكنها آدم، فقال بعض المتكلمين: كان بستانًا جعله اللَّه تعالى له امتحانًا، ولم تكن جنَّة المأوى". وذكر بعض الاستدلال على القولين. وممَّن ذكر الخلاف أيضًا أبو عيسى الرُّمَّاني (1) في "تفسيره" واختار أنَّها جنَّة الخلد، ثمَّ قال: "والمذهبُ الَّذي اخترناهُ، قول الحسن وعمرو وواصل وأكثر أصحابنا، وهو قول أبي علي، وشيخنا أبي بكر، وعليه أهل التفسير". واختار ابن الخطيب التوقف في المسألة، وجعله قولًا رابعًا فقال: "والقولُ الرَّابع: أنَّ الكل مُمْكن، والأدلة متعارضة (2) ، فَوَجَبَ التَّوقف وترك القطع". قال منذر بن سعيد: "والقولُ بأنَّها جنَّةٌ في الأرض ليست جنَّة الخُلْد قول أبي حنيفة وأصحابه قال: وقد رأيتُ أقوامًا نهضوا لمخالفتنا في __________ = الذهبي: "كان من أذكياء المتكلمين". له "المفردات" وهو مشهورٌ، والتفسير، وغيرهما، توفي في حدودِ سنة (450 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء": (18/ 120 - 121) مع الحاشية. (1) هو علي بن عيسى بن علي أبو الحسن الرُّمَّاني ولد سنة (296 هـ)، إمامٌ مشهورٌ في النحو والكلام، وكان معتزليًّا، قال القفطي: "وكان مع اعتزاله شيعيًا" له نحو مائة مؤلف كالتفسير وغيره، توفي سنة (384 هـ). انظر: "تاريخ بغداد": (12/ 17)، و"طبقات المفسرين" للداوودي: (1/ 423 - 425). تنبيه: الصواب (ابن عيسى) بدل (أبو عيسى). (2) في "مفاتيح الغيب": (1/ 5)، و"مفتاح دار السعادة": (1/ 149)، و"الأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة" بدلًا من "والأدلة متعارضة".

(1/50)


جنَّة آدم، بتصويب مذهبهم من غير حُجَّة إلَّا الدَّعاوي والأمانيَّ، ما أتوا بحجةٍ من كتاب ولا سُنَّةٍ، ولا أثر عن صاحبٍ، ولا تابع، ولا تابع التَّابع، لا موصولًا ولا شاذًّا [ولا] (1) مشهورًا. وقد أوجدناهم أنَّ فقيه العراق ومن قال بقوله، قالوا: إنَّ جنَّة آدم ليست جنَّة الخُلْد، وهذه الدَّواوين مَشْحُونة من علومهم، ليسوا عند أحدٍ من الشَّاذَّين بل من رؤساء المخالفين، وإنَّما قلتُ هذا ليعلم أنِّي لا أنصرُ مذهب أبي حنيفة، وإنَّما أنصرُ ما قام لي عليه دليل من القرآن والسنَّة. - هذا ابن مُزَين (2) يقول في "تفسيره": "سألتُ ابن نافع عن الجنَّة أمخلوقةٌ هي؟ فقال: السكوت عن الكلام في هذا أفضل". - وهذا ابن عيينة يقول في قوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا __________ (1) من مفتاح دار السعادة (1/ 169) للمؤلف، وسقطت من جميع النسخ. (2) ابن مُزَيْن هذا لعله؛ يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي أبو زكريا، مولى رملة بنت عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، سمع الموطأ من القعنبي ومطرف وحبيب، له تفسير الموطأ وغيره، توفي سنة 259 هـ. انظر: "أخبار الفقهاء والمحدثين" للخشني رقم (495)، و"تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي رقم (1558). قلت: لعلَّ مراد المؤلف بتفسيره أي "تفسير الموطأ" -إن كان المترجم هو المقصود- فقد اشتهر بـ "تفسير يحيى بن مزين" و"تفسير الموطأ". انظر: برنامج التجيبي ص (269)، وجذوة المقتبس للحميدي، رقم (880)، وفهرس ابن خير رقم (137) و (148)، ومفتاح دار السَّعادة (1/ 438).

(1/51)


تَعْرَى (118) } [طه: 118] قال: يعني في الأرضِ، وابن نافعِ: إمام، وابن عيينة: إمام، وهم لا يأتوننا بمثلهما، ومن يضادُّ قولُه قولهما. - وهذا ابن قُتيبة ذكر في كتاب "المعارف" (1) بعد ذِكْرِه خلق اللَّه لآدم وزوجه، قال: "ثمَّ تركهما، وقال: أثمروا وأكثروا، واملؤا الأرضَ، وتسلطوا على أنوانِ (2) البحور، وطير السماء، والأنعام، وعشب الأرضِ، وشجرها، وثمرها"، فأخبر أنَّ في الأرضِ خلقه، وفيها أمره، ثمَّ قال: "ونصبَ الفردوس فانقسم على أربعة أنهار: سيحون وجيحون ودجلة والفرات -ثمَّ ذكر الحيَّة فقال:- "وكانت أعظم دوابَّ البر، فقالت للمرأة: إنَّكما لا تموتان إن أكلتُما من هذه الشجرة" ثمَّ قال بعد كلام: "ثمَّ أخرجه من شرق (3) جنة عدن إلى الأرضِ التي منها أُخِذَ، ثمَّ قال: "قال وهب: وكان مهبطه حين أُهْبِطَ من جنَّة عدن في شرقي أرض الهند، قال: واحتمل قابيلُ أخاهُ حتَّى أتى به واديًا من أودية اليمن، في شرقي (4) عدن، فكمن فيه". وقال غيره كما (5) نقل أبو صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {اهْبِطُوا} [البقرة: 38] "هو كما يُقال: هبط فلان أرض كذا __________ (1) ص (8 - 12). (2) أنوان، جمع نُوْن: وهو الحُوْت. ويجمع أيضًا على نِيْنَان. انظر: الصحاح (2/ 1615)، وحاشية (ج). (3) في "ب، د، هـ": "مشرق". (4) من قوله: "أرض الهند" إلى "شرقي" سقط من "ج". (5) في "ب، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "فيما".

(1/52)


وكذا" (1) . قال منذر بن سعيد: "فهذا وهب بن مُنَبه يحكي أنَّ آدم خُلِقَ في الأرضِ، وفيها سكن، وفيها نُصب له الفردوس، وأنَّه كان بِعَدَن، وأنَّ الأربعة الأنهار انقسمت من ذلك النهر الَّذي كان يُسَمَّى فردوس آدم، وتلك الأنهار معنا (2) في الأرض، لا اختلاف بين المصلين (3) في ذلك، فاعتبروا يا أُولي الألباب. وأخبر أنَّ الحَيَّة التي كلَّمت آدم كانت من أعظم دوابَّ البَرَّ، ولم يقل: من أعظم دوابِّ السَّماءِ، فهم يقولون: إنَّ الحيَّة (4) لم تكن في الأرضِ وإنَّما كانت فوق السَّماء السَّابعة. ثمَّ قال: "وأخرجه من شرق جنَّة عدن، وليس في جنَّة المأوى مشرقٌ ولا مغرب؛ لأنَّه لا شمس فيها". ثمَّ قال: "وأخرجه إلى الأرضِ التي أُخِذَ منها". يعني أخرجه من الفردوس الَّذي نصب له في عدن، في شرقي أرض الهند. وهذه الأخبارُ التي حكى ابن قتيبة إنَّما تُنبئ عن أرض اليمن وعن __________ (1) انظر: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص (46)، وتلك الرواية لعلها من رواية الكلبي عن أبي صالح به. وهو إسناد واهٍ، انظر: "الإتقان" للسيوطي (2/ 535). (2) في "ب" "بقيا"، وفي "د" "بفناءٍ". (3) قال ناسخ "ج" في الحاشية: "لعله: المسلمين". (4) في "ج": "الجنَّة" وهو محتمل.

(1/53)


عدن وهي من أرض اليمن، وأخبر أنَّ اللَّه نصب الفردوس لآدم بعَدَن، ثمَّ أكَّدَ ذلك بأنْ قال: "الأربعة الأنهار التي ذكرنا منقسمةٌ من النَّهرِ الَّذي كان يسقي فردوس آدم". قال منذر: "وقال ابن قُتَيبة عن ابن منبه عن أُبيٍّ قال: واشتهى آدم عند موته قِطْفًا من الجنَّة التي كان فيها -بزعمهم على ظهر السَّماء السَّابعة- وهو في الأرضِ، فخرج أولاده يطلبون ذلك له، حتَّى بَلَّغتهم الملائكة موته" (1) فأولاد آدم كانوا مَجَانيْن عندكم -إنْ كان ما نقله ابن قُتيبة حَقًّا- يطلبون لأبيهم ثمرة جنَّة الخُلْدِ في الأرضِ؟! قال: ونحنُ لم نَقُلْ عُشْرَ ما قال هؤلاء، ولو كانت جنَّة الخُلْد لخُلِّدَ فيها، ونحن استدللنا من القرآن، وغيرنا قَطَع وادَّعى ما ليس له عليه بُرْهَان". فهذا ذكر بعض أقوال من حكى الخلاف في هذه المسألة (2) ، ونحن __________ (1) انظر: المعارف لابن قتيبة ص (12). وأثر أُبي بن كعب رضي اللَّه عنه أخرجه ابن قتيبة ص (12)، والدارقطني في "السنن" (2/ 71)، وابن سعد في "الطبقات": (1/ 33 - 34)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 370) وغيرهم. من طريقِ يونس بن عبيد وعثمان بن سعد عن الحسن البصري عن عُتي ابن ضمرة عن أبي بن كعب موقوفًا. والأثر اختلف في رفعه ووقفه، وفي ذكر "عُتي بن ضمرة" وإسقاطه، والوقف أشبه بالصواب، واللَّه أعلم. والحديث صححه مرفوعًا الحاكمُ والضياء المقدسي. راجع تفصيل الكلامِ فيه المرسل الخفي (2/ 603 - 629). (2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجنَّة التي أُسكنها آدم وزوجته عند سلف =

(1/54)


نسوقُ حجج الفريقين إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى، ونبين ما لهم وعليهم إنْ شاء اللَّهُ تعالى. __________ = الأمة، وأهل السنَّة والجماعة: هي جنة الخلد، ومن قال إنَّها جنَّة في الأرضِ بأرض الهند، أو بأرض جُدَّة، أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والمعتزلة. والكتاب والسنَّة يرد هذا القول، وسلف الأمة وأئمتها متَّفقون على بطلان هذا القول. . . " راجع مجموع الفتاوى (4/ 347 - 349).

(1/55)


 الباب الثالث: في سياق حُجَج من اختارَ أنَّها جنَّة الخلد التي يدخلها النَّاس يوم القيامة (1)

قالوا: قولنا هذا هو الَّذي فطرَ اللَّهُ عليه النَّاسَ صغيرهم وكبيرهم، لا يخطر بقلوبهم سواه، وأكثرُهم لا يَعْلَم في ذلك نزاعًا. قالوا: وقد روى مسلم في "صحيحه" (2) من حديث أبي مالك، عن أبي حازم عن أبي هريرة، وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة -رضي اللَّه عنهما- قالا: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يجمع اللَّه تعالى النَّاسَ، فيقومُ المؤمنون حتى تُزْلَف (3) لهم الجنَّة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا: استفتح لنا الجنة: فيقول: وفل أخرجكم من الجنَّة إلَّا خطيئة أبيكم؟ " وذكر الحديث. قالوا: وهذا يدلُّ على أنَّ الجنَّة التي أُخرج منها هي بعينها التي تُطْلَبُ منه أن يستفتحها. وفي "الصحيحين" (4) حديث احتجاج آدم وموسى، وقول موسى: __________ (1) في "ب": "في سياق حجج من ذهب إلى أنَّها جنَّة الخلد" بدلًا من قوله "في سياق" إلى "القيامة"، وليس في "هـ": كلمة "سياق". (2) رقم (195). (3) أي تُقَرَّب. انظر: النهاية: (2/ 309). (4) أخرجه البخاري رقم (6240)، ومسلم رقم (2652) من حديث أبي هريرة. وليس فيهما هذا اللفظُ، وإنَّما فيهما "خيَّبتنا وأخرجتنا من الجنَّة" وفي =

(1/56)


"أخْرَجْتنا ونَفْسَك من الجنَّة". ولو كانت في الأرضِ، فهم قد خرجوا من بساتين، فلم يخرجوا من الجنَّة. وكذلك قول آدم للمؤمنين يوم القيامة: "وهل أخرجكم من الجنَّة إلَّا خطيئة أبيكم" (1) ، وخطيئته لم تخرجهم من جِنَان الدنيا. قالوا: وقد قال تعالى في سورة البقرة: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) } [البقرة: 35، 36] عقيب قوله "اهبطوا" فدلَّ على أنَّهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض. فهذا يدل على أنَّ هُبُوطهم كان من الجنَّة إلى الأرضِ من وجهين: أحدهما: من لفظة: {اهْبِطُوا} فإنَّه نزول من علوٍّ إلى سُفل. والثاني: قوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36]. عقيب قوله: {اهْبِطُوا} فدلَّ على أنَّهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض. ثمَّ أكَّدَ هذا بقوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) } [الأعراف: 25]، ولو كانت الجنَّة في الأرضِ لكانت حياتهم فيها قبل الإخراج وبعده. قالوا: وقد وصَفَ سبحانه جنَّة آدم بصفاتٍ لا تكون إلَّا في جنَّة __________ = لفظ: "أنت آدمُ الَّذي أخرجتكَ خطيئتك من الجنَّة" ونحوها. (1) تقدَّم قريبًا عند مسلم.

(1/57)


الخُلْدِ فقال: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) } [طه: 118 - 119]. وهذا لا يكون في الدنيا أصلًا، فإنَّ الرَّجل ولو كان في أطيب منازلها فلا بُدَّ أن يعرض له شيءٌ من ذلك، وقابل سبحانه بين الجوع والعُرْي، والظمأ (1) والضحى، وذلك أحسن من المقابلة بين الجوع والعطش، والعري (2) والضحى؛ فإنَّ الجوعَ ذلُّ الباطن، والعُري ذلُّ الظَّاهرِ، والظمأُ حرُّ الباطنِ، والضحى حرُّ الظاهرِ؛ فنفى عن ساكنها ذلَّ الظاهر والباطن، وحرَّ الظاهر والباطن (3) ، وهذا شأن ساكن جنَّة الخلدِ. قالوا: وأيضًا، فلو كانت تلك الجنَّة فيِ الدنيا لَعَلِمَ آدمُ كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) } [طه: 120]؛ فإنَّ آدم كان يعلمُ أنَّ (4) الدنيا مُنقضية فانية، وأنَّ ملكها يبلى. قالوا: وأيضًا، فهذه القصة في سورة البقرة ظاهرةٌ جدًّا في أنَّ الجنَّة التي أُخْرِجَ منها فوق السَّماءِ، فإنَّه سبحانه قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا __________ (1) ليس في "ب". (2) في "هـ": "والظمأ" وهو خطأ. (3) جاء في "ب" بعد قوله "والباطن" ما نصه: "وذلك أحسن من المقابلة بين الجوع والعطشِ والعري والضحى". (4) ليس في "ب".

(1/58)


مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) } [البقرة: 34 - 37]. فهذا إهباط آدم وحواء وإبليس من الجنَّةِ، ولهذا أتى فيه بضمير الجمعِ. وقد قيلَ: إنَّ الخطاب لهما وللحيَّة. وهذا ضعيفٌ جدًّا، إذ لا ذكر للحيَّة في شيءٍ من قصَّة آدم، ولا في السِّياقِ ما يدلُّ عليها. وقيل: الخطابُ لآدمَ وحوَّاء، وأتى فيه بضمير الجمع كقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، وهمَا داود وسليمان. وقيل: لآدم وحواء وذريتهما. وهذه الأقوال ضعيفة غير الأوَّل؛ لأنَّها بين قولٍ لا دليلَ عليه، وبين ما يدلُّ اللفظُ على خلافه، فثبت أنَّ إبليس داخلٌ في هذا الخطابِ، وأنَّه من المُهْبَطِيْن. فإذا تقرَّر هذا، فقد كرَّر سبحانه الإهباط ثانيًا بقوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) } [البقرة: 38]. والظَّاهرُ أنَّ هذا (1) الإهباط الثاني غيرُ الأوَّل، وهو إهباط من __________ (1) ليس في "أ".

(1/59)


السماء إلى الأرضِ، والأوَّل إهباط من الجنَّة، وحينئذٍ فتكون الجنَّة التي أُهْبِطُوا منها أوَّلًا فوق السَّماءِ = جنة الخلدِ. وقد ظنَّ الزمخشري أنَّ قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] خطاب (1) لآدم وحواء خاصَّة، وعبَّر عنهما بالجمع لاسْتِتْباعهما ذُرِّيَّاتهما، قال: "والدليلَ عليه قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123]، قال: ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) } [البقرة: 38 - 39]، وما هو إلا حكم يعمّ النَّاس كلهم، ومعنى قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ما عليه النَّاسُ من التَّعادي والتَّباغي وتضليل بعضهم بعضا" (2) . وهذا الَّذي اختاره أضعف الأقوال في الآية، فإنَّ (3) العداوة التي ذكرها اللَّهُ تعالى إنَّما هيَ بين آدم وإبليس وذريتهما، كما قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، وهو سبحانه قد أكَّد أَمْرَ العداوةِ بين الشيطان (4) والإنسان، وأعاد وأبَّد (5) ذِكْرَهَا في القرآن لِشِدَّةِ الحاجة إلى التحرز من هذا العدو، وأمَّا آدم وزوجته، فإنَّه إنَّما أخبر في __________ (1) ليس في "ب". (2) انظر: الكشَّاف (1/ 128). (3) في "ب": "لأنَّ". (4) من قوله "لكم عدو فاتخذوه" إلى "الشيطان" سقط من "ب، ج". (5) في "ب، د": "وأبْدى"، وسقط من "ج".

(1/60)


كتابه أنَّه خلقها ليسكن إليها، وجعل بينهما مودة ورحمة، فالمودةُ والرحمة بين الرجل وزوجته (1) ، والعداوة بين الإنسانِ والشيطان. وقد تقدَّم ذكر آدم وزوجه وإبليس وهم ثلاثة، فلماذا يعود الضميرُ على بعض المذكور -مع منافرته لطريق الكلام- دون جميعه، مع أنَّ اللفظ والمعنى يقتضيه، فلم يصنع الزمخشري شيئًا. وأمَّا قوله تعالى في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123]. وهذا خطاب لآدم وحوَّاء، وقد جعلَ بعضهم عدوًّا لبعضٍ: فالضمير في قوله: {اهْبِطَا} إمَّا أنْ يرجعَ إلى آدم وزوجه، أو إلى آدمَ وإبليس، ولم يذكر الزوجة؛ لأنَّها تبع (2) له وعلى هذا، فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالإهباط، وهما: آدم وإبليس، فالأمر (3) ظاهر، وأمَّا على الأوَّل، فتكون الآية قد اشتملت على أمرين: أحدهما: أمره تعالى لآدم وزوجه بالهبوط. والثاني: إخباره بالعداوة بين آدم وزوجه، وبين إبليس؛ ولهذا أتى بضمير الجمع في الثاني دون الأوَّل، ولا بدَّ أن يكون إبليسُ داخلًا في حكمِ هذه العداوة قطعًا، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117]، وقال للذرية: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]. __________ (1) في "ب، ج، د": "وامرأته". (2) ليس في "أ". (3) في "ج": "بالأمر"، وفي "أ، هـ": "فبالأمر".

(1/61)


وتأمَّل كيفَ اتَّفقت المواضع التي فيها ذِكْرُ العداوةِ على ضمير الجمعِ دون التثنية؟ وأمَّا الإهباط: فتارة يُذْكَرُ (1) بلفظِ الجمع، وتارةً بلفظِ التثنية، وتارة بلفظِ الإفرادِ، كقوله في سورة الأعراف: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} [الأعراف: 13] وكذلك في سورة (ص)، وهذا لإبليس وحده. وحيثُ وردَ بصيغة الجمع: فهو لآدم وزوجه وإبليس، إذْ مدار القصَّة عليهم. وحيث وردَ بلفظ التثنية: فإمَّا أن يكون لآدم وزوجه، إذ هما الَّلذانِ باشرا الأكلَ من الشجرة، وأقدما على المعصية. وإمَّا أنْ يكون لآدمَ وإبليس، إذ هما أَبَوَا الثقلين، وأصْلا الذُّريَّة، فذكر حالهما، وما آل إليه أمرهما ليكون عظةً وعبرة لأولادهما، وقد حُكِيت القولان في ذلك. والَّذي يوضح أنَّ الضمير في قوله: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه: 123] لآدم وإبليس، أنَّ (2) اللَّه سبحانه لمَّا ذكرَ المعصيةَ أفرد بها آدم دون زوجه، فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه: 121 - 123]. وهذا يدلُّ على أنَّ المخاطب بالإهباطِ هو آدم ومن زين له المعصية، ودخلت الزوجة تبعًا، فإنَّ المقصودَ إخبار اللَّه سبحانه للثقلين بما جرى على أبويهما من __________ (1) في "ج، هـ": "يذكره". (2) في "ب، د": "لأنَّ".

(1/62)


شؤم المعصية ومخالفة الأمر (1) ، فذكر أبويهما أبلغُ في حصولِ هذا المعنى، من ذِكْر أَبَوَي الإنس فقط. وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنَّها أكلت مع آدم، وأخبر أنَّه أهبطه وأخرجه من الجنَّة بتلك الأكلة، فعُلِمَ أنَّ حُكْمَ الزوجة كذلك، وأنَّها صارت إلى ما صار إليه آدم. فكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريده إلى ذكر أبي الإنسِ وأُمَّهم، فتأمله. وبالجملةِ فقوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الأعراف: 24] ظاهرٌ في الجمع (2) ، فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله تعالى: {اهْبِطَا} [طه: 123] من غير موجب. قالوا: وأيضًا، فالجنَّة جاءت مُعَرَّفةً بلام التعريفِ في جميع المواضع، كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]. ونظائره، ولا جنَّة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلَّا جنَّة الخلدِ التي وعد الرَّحمن عباده بالغيب، فقد صارَ هذا الاسمُ عَلَمًا عليها بالغلبةِ: كالمدينةِ والنَّجمِ والبيت والكتاب ونظائرها، فحيثُ ورد لفظها مُعَرَّفًا انصرف إلى الجنَّةِ المعهودةِ المعلومةِ في قلوبِ المؤمنين. وأمَّا إنْ أُريدَ به جنَّة غيرها فإنَّها تجيءُ منكَّرةً أو مقيَّدةً بالإضافة (3) ، __________ (1) في "ج": "الآمِر" وكلاهما صحيح. (2) في "ج، هـ": "الجميع" وكلاهما صحيح. (3) قوله: "أو مقيدة بالإضافة" سقطت من "ب".

(1/63)


أو مقيَّدةً من السِّياقِ بما يدل على أنَّها جنةٌ في الأرضِ. فالأوَّل: كقوله: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف: 32]. والثاني: كقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} [الكهف: 39]. والثالث: كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17]. قالوا: وممَّا يدلُّ على أنَّ جنَّة آدم هي جنَّة المأوى: ما روى هوذَة بن خليفة عن عوف، عن قَسَامَة بن زهير عن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- قال: "إنَّ اللَّهَ تعالى لمَّا أخرج آدم من الجنَّة زوَّده من ثمار الجنَّة، وعلَّمه صنعة كلَّ شيء، فثماركم هذه من ثمار الجنَّة، غير أنَّ هذه تَغَيَّر، وتلك لا تغيَّر (1) " (2) __________ (1) في "هـ": "تتغيَّر، وتلك لا تتغيَّر"، وكذا عند ابن أبي حاتم في تفسيره. (2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: (1/ 66)، والطبري في "تفسيره" (1/ 175)، وابن أبي حاتم في تفسيره رقم (421)، والحاكم في المستدرك (2/ 592) رقم (3996)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (198)، والبزَّار في مسنده رقم (3030)، وابن عساكر في تاريخه (7/ 410). من طريق هوذة ومعمر وغندر وعبد الوهاب ومحمد بن ثور وابن أبي عدي كلهم عن عوف به فذكره موقوفًا. ورواه رِبْعِي بن عُلَيَّة والعباسُ بن الفضل الأنصاري كلاهما عن عوف به مثله مرفوعًا. أخرجه البزار: (8/ رقم 3029)، والروياني في مسنده رقم (567). والصوابُ أنَّه موقوفٌ على أبي موسى الأشعري، أمَّا ربعي فقد أخطأ فيه، وأمَّا العبَّاسُ الأنصاري فمتروك الحديث، ولهذا قال البزَّار: "وهذا الحديثُ قد رواه غيرُ واحدٍ عن عوف عن قسامة عن أبي موسى موقوفًا، ولا =

(1/64)


قالوا: وقد ضمن اللَّهُ سبحانه وتعالى له إنْ تابَ إليهِ، وأناب أنْ يعيده إليها، كما روى المِنْهال عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]. قال: يا ربَّ ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أيْ ربِّ ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أيْ ربِّ ألم تُسْكِنَّي جنتك؟ قال: بلى، قال: أيْ ربِّ ألم تسبق رَحْمَتك غَضَبَكَ؟ قال: بلى، قال أرأيتَ إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنَّة؟ قال: بلى، قال: فهو قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (1) . وله طرق عن ابن عباس (2) ، وفي بعضها: "كأنَّ آدم قال لربه إذْ عصاهُ: ربِّ إنْ أنا تُبْتُ وأصلحتُ، فقال له ربُّه: إنِّي راجعُك إلى الجنَّة" (3) . فهذه بعض ما احتجَّ به القائلون بأنَّها جنَّة الخلد، ونحن نسوقُ حُجج الآخرين. __________ = نعلمُ أحدًا رفعه إلَّا ربعي". والأثر صحَّحهُ موقوفًا الحاكم فقال: "صحيح الإسنادِ، ولم يخرِّجاهُ". (1) أخرجه الطبري في تفسيره: (1/ 243)، والآجري في الشريعة: (3/ 1181 - 1182) رقم (755)، والحاكم في المستدرك (2/ 594) رقم (4002). من طريق ابن أبي ليلى والحسن بن صالح عن المنهال به مثله. قال الحاكمُ: "هذا حديثٌ صحيح الإسنادِ، ولم يخرجاه". وهو كما قال. (2) عند ابن أبي حاتم في تفسيره رقم (411)، والطبري (1/ 243). (3) عند الطبري: (1/ 243) ولا يثبت سنده.

(1/65)


 الباب الرَّابع في سياق حجج الطائفة التي قالت: ليست جنَّة الخلدِ، وإنَّما هي جنَّةٌ في الأرضِ

قالوا: هذا قول تكثر الدَّلائلُ الموجبة للقول به، فنذكر بعضها. قالوا: قد أخبرَ اللَّهُ سبحانه على لسان جميع رسله: أنَّ جنة الخُلد إنَّما يكون الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأت زمن دخولها بَعْدُ، وقد وصفها اللَّهُ سبحانه وتعالى لنا في كتابه بصفاتها، ومُحال أن يصف اللَّهُ سبحانه وتعالى شيئًا بصفة، ثمَّ يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي وصفها به. قالوا: فوجدنا اللَّه تعالى وصف الجنَّة التي أُعِدَّت للمتقين بأنَّها: {دَارَ الْمُقَامَةِ} [فاطر: 35]، فمن دخلها أقام بها، ولم يقم آدم بالجنَّة التي دخلها. ووصفها بأنَّها: {جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان: 15]. وآدم لم يُخَلَّد فيها. ووصفها بأنَّها: دار ثوابٍ وجزاءٍ، لا دار تكليف وأمرٍ ونهي. ووصفها بأنَّها (1): دار سلامةٍ مطلقةٍ، لا دار ابتلاءٍ وامتحانٍ، وقد ابتلي فيها آدم بأعظم الابتلاء. ووصفها بأنَّها: دارٌ لا يُعصى اللَّهُ فيها أبدًا، وقد عصى آدمُ ربَّه في __________ (1) سقط من "ج".

(1/66)


جنته التي دخلها. ووصفها بأنَّها: ليست دار خوفٍ ولا حَزَنٍ، وقد حصلَ للأبوين فيها من الخوف والحزن ما حصل. وسَمَّاها: دارَ السلام ولم يسْلَم فيها الأبوانِ من الفِتنة. ودارَ القرار، ولم يستقرَّا فيها. وقال في داخليها: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) } [الحجر: 48] وقد أُخْرِجَ منها الأبوان. وقال: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [الحجر: 48]، وقد ندَّ فيها آدم (1) هاربًا فارًّا، وطفق يخصف ورق الجنَّة على نفسه، وهذا النَّصَبُ بعينه. وأخبر أنَّه: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) } [الطور: 23]، وقد سمع فيها آدم لغوَ إبليس وإثمه. وأخبر أنَّه لا يُسْمَعُ فيها لغوٌ ولا (2) كِذَّابٌ، وقد سمع فيها آدم عليه السلام كَذِب إبليس وإثمه. وقد سمَّاها اللَّهُ سبحانه وتعالى: {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55]، وقد كَذَبَ فيها إبليسُ، وحلف على كذبه. وقد قال تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: __________ (1) قوله: "ندَّ فيها آدم" ليس في "أ، ج": "آدم"، وليس في "هـ": "ندَّ". (2) قوله: "لغو ولا" سقط من "ج".

(1/67)


30]، ولم يقل: إنِّي جاعل في جنَّة المأوى، فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] ومحال أنْ يكون هذا في جنة المأوى. وقد أخبر اللَّهُ سبحانه عن إبليس أنَّه قال لآدمَ: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) } [طه: 120]. فإن كان (1) اللَّهُ سبحانه وتعالى قد أسكنَ آدم جنة الخلد والمُلك الَّذي لا يَبْلَى، فكيف لا (2) يرد عليه ويقول له: كيف تَدُلُّني على شيءٍ أنا فيه، وقد أُعْطِيتُه، ولم يكن اللَّهُ سبحانه وتعالى قد أخبر آدم إذ أسكنه الجنَّة أنَّه فيها من الخالدين، ولو علم أنَّها دار الخلد لما ركن إلى قول إبليس، ولا مال إلى نصيحته، ولكنَّه لما كان في غير دار خلودٍ غرَّهُ بما أطمعه (3) فيه من الخُلْدِ. قالوا: ولو كان آدم أُسْكِنَ جنة الخلد، وهي دار القُدس التي لا يسكنها إلَّا طاهرٌ مقدَّسٌ، فكيف توصَّل إليها إبليسُ الرجس النجس المذموم المَدْحُور، حتى فتن فيها آدم عليه السلام ووسوس له؟ وهذه الوسوسة: إمَّا أنْ تكون في قلبه، وإمَّا أنْ تكونَ في أُذُنِهِ، وعلى التقديرين، فكيف توصلَ الَّلعينُ إلى دخول دار المتقين. وأيضًا؛ فبعد أنْ قيلَ له: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} __________ (1) ليس في "ج". (2) من "أ"، وفي باقي النسخ "لم". (3) في "ج": "أطعمه" وهو خطأ.

(1/68)


[الأعراف: 13]، أيفسح له أنْ يرقى إلى جنة المأوى فوق السَّماء السَّابعة بعد السخط عليه، والإبعادِ له، والدَّحْر (1) والطرد بعُتُوَّهِ (2) واستكباره، وهل هذا يلائم قوله: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} فإنْ كانت مخاطبته لآدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليست تَكَبُّرًا، فما التكبر بعد هذا؟! فإنْ قلتم: فلعلَّ وسوسته وصلتْ إلى الأبوين، وهو في الأرضِ، وهما فوق السماء في عليين = فهذا غير معقولٍ لغة ولا حسًّا ولا عُرْفًا. وإن زعمتم أنَّه دخلَ في بطن الحيَّة حتى أوصل إليهما الوسوسة = فأبطلُ وأبطلُ، إذ كيف يَرْقى (3) بعد الإهباطِ له إلى أنْ يدخل الجنَّة، ولو في بطن الحيَّة؟! وإنْ قلتمْ: إنَّه دخلَ في قلوبهما، ووسوس إليهما = فالمحذور قائم. وأيضًا؛ فإنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى حكى (4) مخاطبته لهما كلامًا سمعاهُ شفاهًا، فقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 20]، وهذا دليلٌ على مشاهدته لهما وللشَّجرة، ولمَّا كان آدم خارجًا من الجنَّة وغير ساكن فيها قال اللَّه تعالى له: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} __________ (1) في "ج": "والزجر"، وفي "هـ": "والدحور". (2) في حاشية "ج" ما نصُّه: "العُتو: التجاوز عن الحدَّ"، ووقع في "هـ": "لعتوَّه". (3) في "ب، د": "ترقَّى". (4) جاء في نسخةٍ على حاشية "أ": "حكى عن".

(1/69)


[الأعراف: 22] ولم يقل عن هذه الشجرة، فعندما قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 20] لما أطمعهما في مُلْكها، والخلود في مقرَّها أتى باسم الإشارة بلفظ الحضور، تقريبًا لها، وإحضارًا لها عندهما، وربهما تعالى قال لهما: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]، ولمَّا أراد إخراجهما منها، فأتى باسم الإشارةِ بلفظ البُعد والغيبة، كأنَّهما لم يبق لهما من الجنَّة حتى ولا مشاهدة الشجرة التي نُهيا عنها. وأيضًا؛ فإنَّه سبحانه قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ووسوسة اللعين من أخبث الكَلِم، فلا يصعد إلى محل القدس. قال منذر: "وقد روي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنَّ آدمَ عليه السلام نامَ في جنته" (1) . وجنة الخُلْد لا نوم فيها بالنَّص، وإجماع المسلمين، فإنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ: أينامُ أهلُ الجنَّة في الجنَّة؟ قال: "لا، النومُ أخو الموتِ" (2) والنوم وفاةٌ، وقد نطق به القرآن، والوفاة تَقَلُّبُ حالٍ، ودار __________ (1) لم أقف عليه مرفوعًا. وسيذكر المؤلف أنَّه جاء عن مجاهد. (2) أخرجه البزارُ في مسنده، كما في "كشف الأستار": (4/ 3517)، وأبو الشيخ الأصبهاني في تاريخ أصبهان رقم (353 و 477) وغيرهما. من طريق الفريابي والحسين بن حفص وغيرهما عن الثوري عن محمد ابن المنكدر عن جابر فذكره مرفوعًا. وهذا خطأٌ على الثوري، والصواب أنَّ الحديثَ مرسل ليس فيه جابر بن عبد اللَّهِ. هكذا رواه وكيع وجرير وابن المبارك والأشجعي وقطبة وعبيد اللَّه بن موسى، والفريابي -في الرواية الراجحة عنه- ومخلد بن يزيد وقبيصة كلهم =

(1/70)


السَّلام مسلَّمةٌ من تقلب الأحوالِ، والنَّائمُ ميت أو كالميت". قلت: الحديث الَّذي أشار إليه المعروف أنَّه موقوف من رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "خُلِقَتْ حواءُ من قَصِيْرى آدم وهو نائمٌ" (1) . وقال أَسْبَاط عن السُّدِّي: "أُسْكِن آدم عليه السلام الجنَّة، وكان يمشي فيها وَحِشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومةً، فاستيقظ، فإذا عندَ رأسه امرأة قاعدة خلقها اللَّهُ من ضِلَعه، فسألها ما أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولِمَ خُلِقْتِ؟ قالت: لتسكن إليَّ" (2) . وقال ابن إسحاق عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما: "أُلْقِيَ على آدم __________ = عن الثوري عن ابن المنكدر مرسلًا. أخرجه أحمد في الزهد رقم (43)، وابن المباركِ في الزهد: (279)، والعقيلي في الضعفاء: (2/ 301)، والبيهقي في البعث والنشور رقم: (485 و 486). ورواه المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه مرسلًا نحوه. أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (251). ولهذا قال أبو حاتم الرَّازي -وقد سُئِلَ عن طريق الفريابي-: "الصحيح ابن المنكدر عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليس فيه جابر"، علل ابن أبي حاتم (2/ 219) رقم (2147). (1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره: (3/ 853) رقم (4719)، وهو أثر ثابت عن مجاهد. (2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره رقم (376)، والطبري: (1/ 229)، وسنده لا بأس به.

(1/71)


عليه السَّلام السِّنة، ثمَّ أُخِذَ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائمٌ، لم يَهُبَّ من نومته، حتى خلق اللَّهُ من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأةً يسكن إليها، فلمَّا كشف عنه السَّنة، وهَبَّ من نومته رآها إلى جنبه فقال: لحْمي ودمي وزوجي (1) ، فسكن إليها" (2) . قالوا: ولا نزاع أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى خلقَ آدم في الأرضِ، ولم يَذْكر في موضع واحدٍ أصلًا أنَّه نقله إلى السماء بعد ذلك، ولو كان قد نقله بعد ذلك إلى السَّماءِ لكان هذا أولى بالذكر؛ لأنَّه من أعظم الآيات، ومن أعظم النَّعَمِ عليه، فإنَّه كان مِعْراجًا ببدنه وروحه من الأرضِ إلى فوق السماوات. قالوا: وكيف نقله سبحانه ويسكنه فوق السَّماءِ، وقد أخبر ملائكته أنَّه جاعِلُهُ في الأرضِ خليفةً (3) ، وكيف يسكنه دار الخلد التي من دخلها يُخَلَّدُ فيها، ولا يخرج منها؟ قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) } [الحجر: 48]. قالوا: ولو لم يكن مَعَنَا في المسألة إلَّا أنَّ اللَّهَ سبحانه أهبط إبليس من السَّماءِ حين امتنع من السجود لآدم عليه السلام، وهذا أمر تكوين __________ (1) في "هـ": "وزوجتي"، وفي "ب، د": "رُوحي". (2) أخرجه الطبري في تفسيره: (1/ 230). وهو لا يثبت عن ابن عباسٍ؛ لعدم معرفة الواسطة بين ابن إسحاق وابن عباس؛ ولأنَّ شيخ الطبري ابن حميد، متكلمٌ فيه. (3) من المطبوعة.

(1/72)


لا يمكن وقوع خلافه، ثمَّ أدخل آدم عليه السلام الجنَّة بعد هذا، فإنَّ الأمرَ بالسجود كان عقيب خلقه من غير فصل، فلو كانت الجنَّة (1) فوق السماوات لم يكن لإبليس سبيلٌ إلى صعودِه إليها، وقد أُهبِطَ منها. وأمَّا تلك التقادير التي قدَّرتموها فتكلُّفات ظاهرة: كقول من قال: يجوز أنْ يصعد إليها صعودًا عارضًا لا مستقرًّا. وقول من قال: أدْخَلَتْه الحيَّة. وقول من قال: دخل في أجوافهما (2) . وقول من قال: يجوزُ أن تصل وسوسته إليهما وهو في الأرضِ، وهما فوق السَّماء. ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الشَّديد، والتكلف البعيد، وهذا بخلاف قولنا، فإنَّه لما أهبطه سبحانه من ملكوت السماء حيث لم يسجد لآدم عليه السلام أُشْرِبَ عداوته، فلمَّا أسكنه جنته حسده عدوه، وسعى بكيدِهِ وغروره في إخراجه منها، واللَّهُ أعلم. قالوا: وممَّا يدلُّ على أنَّ جنَّة آدم لم تكن جنة الخلدِ التي وُعِدَ المتقون: أنَّ اللَّهَ سبحانه لما خلقه أعلمه أنَّ لِعُمُرِهِ أجلًا ينتهي إليه، وأنَّه لم يخلقه للبقاءِ، كما روى الترمذي في "جامعه" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لما خَلَقَ اللَّهُ __________ (1) في "أ، ج": "الحيَّة" وهو خطأ، وصوب ناسخ "أ" أنها "الجنة". (2) في "ب": و"أجوافها".

(1/73)


آدم ونفخَ فيه من الروح عطس، فقال: الحمدُ للَّهِ، فحمدَ اللَّه (1) بإذنه، فقال له ربُّه: يرحمك اللَّه يا آدمُ، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم قالوا: وعليك السَّلام (2) ، ثمَّ رجع إلى ربَّه فقال: إنَّ هذه التَّحية (3) تحيتك وتحية بَنِيْك بينهم، فقال اللَّهُ له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، فقال: اخترت يمين ربي -وكلتا يَدَي ربِّي يمينٌ مباركة- ثمَّ بسطها فإذا فيها آدم وذريته، فقال: يا رب ما هؤلاءِ؟ قال: هؤلاء ذُرَّيتُك، فإذا كلُّ إنسانٍ مكتوبٌ عُمُره بين عينيه، فإذا رجلٌ أضوؤهم، أو من أضوئهم قال: يا ربَّ من هذا؟ قال: هذا ابنُك داود، وقد كَتبتُ لَهُ عُمُر أربعين سنةً، قال: يا ربِّ زدْ في عمره، قال: ذلك الَّذي كتبتُ له، قال: ربَّ، فإنَّي قد جعلتُ له من عُمُري سِتَّين سنة، قال: أنت وذاك، قال: ثمَّ أُسكِنَ آدم الجنَّة ما شاءَ اللَّهُ، ثمَّ أُهْبط منها، فكان آدم يَعُدُّ لِنَفْسِهِ: فأتاهُ مَلَكُ الموتِ فقال له آدم: قد عجلتَ قد كُتِبَتْ لي ألفُ سنةٍ، قال: بلى، ولكنَّك جعلتَ لابنك داودَ ستين سنة، فجحَدَ فجحدت ذريته، ونَسِيَ فنسيت ذُرَّيتُه، قال: فمن يومئذٍ أُمِرَ بالكتاب والشُّهودِ" (4) . __________ (1) قوله: "فحمد اللَّه" من الترمذي وغيره. (2) قوله: "قالوا: وعليك السَّلام" من الترمذي. (3) في "ب، د": "هذه تحيتك. . . ". (4) أخرجه الترمذي برقم (3368)، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (218)، وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (206)، وابن حبان في صحيحه رقم (6167)، والحاكم في المستدرك: (1/ 132 - 133) رقم (214) وغيرهم. من طريق الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب عن سعيد المقبري عن =

(1/74)


قال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد رُوِيَ من غير وجهٍ عن أبي هريرة" (1) . قالوا: فهذا صريحٌ في أنَّ آدمَ عليه السلام لم يُخْلَق في دار البقاءِ التي لا يموت من دخلها، وإنَّما خُلِقَ في دار الفناء التي جعل اللَّهُ تعالى لها ولسُكَّانِها أجلًا معلومًا، وفيها أُسْكِنَ. فإنْ قيلَ: فإذا كان آدمُ عليه السلام قد علم أنَّ له عمرًا مُقَدَّرًا، وأجلًا ينتهي إليه، وأنَّه ليسَ من الخالدين، فكيف لم يَعْلَمْ كَذبَ إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه: 120]؟ وقوله: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) } [الأعراف: 20]. __________ = أبي هريرة فذكر. والحديث تفرَّد به الحارث -وهو صدوقٌ يهم- عن المقبري، كما أشار إليه الترمذي بقوله: ". . غريب". لكن أعلَّه النسائي بأنَّ هذا خطأ، وأنَّ الصواب ما رواه ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن عبد اللَّه بن سلام فذكره موقوفًا مختصرًا إلى قوله: "هذه تحيتك وتحية ذريتك". (1) رواه أبو صالح وأبو سلمة والشعبي ويزيد بن هرمز كلهم عن أبي هريرة مختصرًا. أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (220) وغيره. لكن قال النسائي: "وهو منكر". وله طريق آخر عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا مختصرًا. أخرجه ابن سعد: (1/ 27 - 28) وغيره.

(1/75)


فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أنَّ الخُلد لا يستلزم الدوام والبقاء، بل هو المكث الطويل، كما سيأتي (1) . الثاني: أنَّ إبليس لما حلف لهُ، وغَرَّه وأطمعه في الخلود نسي ما قُدَّرَ له من عُمُره. قالوا: وأيضًا فمن المعلوم الَّذي لا ينازع فيه مسلمٌ أنَّ اللَّه سبحانه خلق آدم عليه السلام من تربة هذه الأرض، وأخبر أنَّه خلقه {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) } [المؤمنون: 12]، وأنَّه خلقهُ {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) } [الحجر: 26]. فقيل: هو الَّذي له صلصلة ليُبْسِهِ. وقيل: هو الَّذي قد تَغَيَّرت رائحته، من قولهم: صَلَّ اللحم إذا تغيَّرَ. والحَمَأُ: الطِّيْنُ الأسود المُتَغَير. والمَسْنُون: المَصْبُوب. وهذه كلها أطوار للتراب الَّذي هو مبدؤه الأوَّل، كما أخبرَ عن أطوار خلق الذرية {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] ولم يخبر سبحانه وتعالى أنَّه رفعه من الأرضِ إلى فوق السماوات، لا قبل التَّخْلِيق ولا بعده، فأين الدليل الدَّالُّ على إصْعاد مادَّته، أو إصعاده (2) هو بعد خلقه، وهذا ما لا دليل لكم عليه، ولا هو لازِمٌ من لوازم ما __________ (1) ص (82، 784). (2) في "ب، ج": "وإصْعَاده".

(1/76)


أخبر اللَّهُ به؟ قالوا: ومن المعلوم أنَّ ما فوق السماوات ليس بمكان للطين الأرضي المتغير الرَّائحة الَّذي قد أنْتَن من تغيره، وإنَّما محل هذا الأرضِ التي هي محل المُتَغيَّرات الفاسدات، وأمَّا ما فوق الأفلاك فلا يلحقه تَغَيُّر ولا نَتَنٌ ولا فسادٌ (1) ولا استحالة، فهذا أمرٌ لا يرتابُ فيه العقلاء. قالوا: وقد قال اللَّهُ تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } [هود: 108]، فأخبر سبحانه أنَّ عطاء جنة الخلد غير مجذوذ. قالوا: فإذا جُمِعَ ما أخبر اللَّهُ سبحانه به من أنَّه خلقه من الأرضِ، وجعله خليفة في الأرضِ، وأنَّ إبليس وسوس إليه في مكانه الَّذي أسكنه فيه، بعد أنْ أهبطه من السماء بامتناعه من السجود له، وأنَّه أخبر ملائكته أنَّه {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وأنَّ دار الخلد: دار جزاء وثوابٍ على الامتحان والتَّكاليف، وأنَّها لا لغوَ فيها ولا تأثيم ولا كِذَّابًا، وأن من دخلها لا يخرج منها، ولا يَبْؤُس ولا يحزن، ولا يخاف ولا ينامُ، وأنَّ اللَّهَ حرمها على الكافرين، وإبليس رأس الكفر، فإذا جُمِعَ ذلك بعضه إلى بعضٍ، وفكَّر فيه المُنْصِفُ الَّذي رُفِعَ له علم الدليل، فشمَّر إليه، وربأ بنفسه عن حضيض التقليد تَبَيَّن له الصوابُ، واللَّهُ الموفق. __________ (1) قوله: "ولا فساد" ليس في "أ، ج".

(1/77)


قالوا: ولو لم يكن في هذه المسألة إلَّا أنَّ الجنَّة ليستْ دار تكليفٍ، وقد كلف اللَّه سبحانه الأبوين بِنَهْيهِمَا عن الأكل من الشجرة، فدلَّ على أنَّها دار تكليف (1) لا دار جزاء وخُلْد. فهذا أيضًا بعض ما احتجتْ به هذه الفرقة على قولها (2) ، واللَّهُ أعلم. __________ (1) قوله: "دار تكليف" ليس في "ج". (2) في "أ، ج، هـ": "قولنا" وهو خطأ.

(1/78)


 الباب الخامس في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأوَّل

قالوا: أمَّا قولكم: إنّ قولنا هو الَّذي فطر اللَّهُ عليه عباده بحيث لا يعرفون سِوَاهُ، فالمسألةُ سمعية لا تُعْرَفُ إلَّا بأخبار الرسل، ونحن وأنتم إنَّما تلقينا هذا من القرآن، لا من المعقول ولا من الفطرة، فالمتَّبع فيه ما دلَّ عليه كتابُ اللَّهِ تعالى وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحن نطالبكم بصاحبٍ واحدِ، أو تابعٍ أو أثرٍ صحيحٍ أو حسن، يصرِّح بأنها جنَّةُ الخلد التي أعدَّها اللَّهُ للمؤمنين بعَيْنِهَا، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلًا، وقد أوجدناكم من كلام السلف ما يدل على خلافه، ولكن لمَّا وردت الجنَّة مُطْلقةً في هذه القِصَّة، وافقت اسم الجنَّة التي أعدَّها اللَّهُ لعباده في إطلاقها، وبعض أوصافها، فذهب كثيرٌ من الأوهام إلى أنَّها هي بعينها، فإنْ أردتم بالفطرة هذا القدر لم يُفِدْكم شيئًا، وإنْ أردتم أنَّ اللَّهَ فطر الخلق على ذلك كما فطرهم على حُسْن العدل وقبح الظلم، وغير ذلك من الأمور الفِطْرية فدعوى باطلة، ونحن إذا رجعنا [26/ ب] إلى فطرنا لم نجد علمها بذلك، كعلمها (1) بوجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات. وأمَّا استدلالكم بحديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، وقول آدم: "وهل أخرجكم منها إلَّا خطيئة أبيكم؟ " (2) فإنَّما يدلُّ على تأخُّر آدم __________ (1) في "ب": "لم نجد علمنا بذلك كعلمنا". (2) أخرجه مسلم رقم (195)، من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

(1/79)


عليه السلام عن الاستفتاح (1) للخطيئة التي تقدمت منه في دار الدنيا، وأنَّه بسبب تلك الخطيئة حصل له الخروج من الجنَّة، كما في اللفظ الآخر: "إني نُهِيتُ عن أكل الشجرة فأكلت منها" (2) ، فأينَ في هذا ما يدل على أنَّها جنة المأوى بمطابقةٍ أو تَضَمُّن أو اسْتِلزام، وكذلك قول موسى له: "أخرجتنا ونفسَكَ من الجنَّة" (3) ، فإنَّه لم يقل له: أخرجتنا من جنة الخلد. وقولكم: إنَّهم خرجوا إلى بساتين من جنس الجنَّة التي في الأرضِ، فاسم الجنَّة وإن أُطْلِقَ على تلك البساتين، فبينها وبين جنَّة آدم ما لا يعلمه إلَّا اللَّهُ، وهي كالسجن بالنَّسبة إليها، واشتراكهما في كونهما في الأرضِ لا ينفي تفاوتهما أعظم تفاوتٍ في جميع الأشياء. وأمَّا استدلالكم بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} [البقرة: 36] عقيب إخراجهم من الجنَّة، فلفظُ الهبوط لا يستلزم النزول من السماء إلى الأرض، وغايته أن يدلَّ على النزول من مكان عال إلى أسفل منه، وهذا غير منكر، فإنَّها كانت جنَّةً في أعلى الأرضِ، فأُهبِطوا منها إلى الأرضِ. __________ (1) وقع في "أ": "الاستقباح" * ولعلَّ المثبت هو الصوابُ، بدليل ما ورد في النَّص: "فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنَّة. . " إلخ *. (2) أخرجه البخاري رقم (3162)، ومسلم رقم (194) من حديث أبي هريرة الطويل في الشفاعة. (3) تقدم تخريجه ص (56 - 57).

(1/80)


وقد بيَّنَّا أنَّ الأمرَ كان (1) لآدم وزوجه وعدوهما، فلو كانت الجنَّة في السماء لما كان عدوُّهما متمكنًا منهما (2) بعد إهباطه الأوَّل؛ لمَّا أبى السُّجود لآدم عليه السلام، فالآية إذًا من أظهر الحُجَجَ عليكم، ولا تغني عنكم وجوه التَّعَسُّفَات والتكلفات التي قدَّرتُمُوها، وقد تقدمت. وأمَّا قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36]، فهذا لا يدلُّ على أنَّهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرضِ؛ فإنَّ الأرضَ اسمُ جنسٍ، وكانوا في أعلاها وأطيبها وأفضلها، في محل لا يدركهم فيه جوع ولا عُري ولا ظمأ ولا ضحى، فأُهْبِطوا إلى أرضٍ يعرض فيها ذلك كله، وفيها حياتهم وموتهم، وخروجهم من القبور، والجنَّة التي أسكناها لم تكن دار نصبٍ ولا تعبٍ ولا أذًى، والأرض التي أهبطوا إليها هي محل التعب والنصب، والأذى وأنواع المكاره. وأمَّا قولكم: إنَّه سبحانه وتعالى وصفها بصفاتٍ لا تكون في الدنيا. فجوابه: أنَّ تلك الصِّفات لا تكون في الأرضِ التي أهبطوا إليها، فمن أين لكم أنَّها لا تكون في الأرضِ التي أُهْبِطوا منها. وأمَّا قولكم: إنَّ آدم عليه السلام كان يعلم أنَّ الدنيا مُنْقَضِية فانية، فلو كانت الجنَّة فيها لَعَلِمَ كَذِبَ إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه: 120]. __________ (1) ليس في "أ، ج". (2) في "أ، ب، جـ": "منها".

(1/81)


فجوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ الَّلفظ إنَّما يدل على الخُلْد، وهو أعمُّ من الدَّوام الَّذي لا انقطاع له، فإنَّهُ في اللغة: المُكْثُ الطَّويل. ومكث كل شيء بحسبه، ومنه قولهم: رجل مخلَّد. إذا أَسَنَّ وكَبر، ومنه قولهم لأثافيِّ (1) الصخور: خَوالِد. لطول بقائها بعد دروس الأطلال. قال: إلَّا رمادًا هامِدًا دفعت ... عنه الرياح خوالدٌ سَحْم (2) ونظير هذا إطلاقهم القديم على ما تقادم عهده، وإن كان له أوَّل، كما قال تعالى: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) } [يس: 39] (3) ، وَ {إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) } [الأحقاف: 11]، وقد أطلق تعالى الخلود في النَّارِ على عذاب بعض العصاة، كقاتل النفس، وأطلقه النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على قاتل نفسه. الوجه الثاني: أنَّ العلم بانقطاع الدنيا ومجيء الآخرة، إنَّما يعلم بالوحي، ولم يتقدَّم لآدم عليه الصلاة والسلام نُبُوَّة يُعْلَمُ بها ذلك، وهو وإنْ نبَّأهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى وأوحى إليه، وأنزل عليه صُحُفًا، كما في حديث أبي ذرٍّ (4) -رضي اللَّه عنه-، لكن هذا بعد إهباطه إلى الأرض __________ (1) الأُثْفيَّة: أحدُ أحجار ثلاثة توضع عليها القدر. المعجم الوسيط ص (26). (2) * انظر: ديوان المخبَّل السعدي: ضِمْن كتاب شعراء مقلُّون ص (312) *. (3) وقع في المطبوعة هنا زيادة {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} [يوسف: 95]. (4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (2/ 157 - 158) مختصرًا. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" رقم (361)، وفي "المجروحين" (3/ 129 - 130)، وأبو نعيم في "الحلية": (1/ 166 - 168) مطوَّلًا. وفيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، كذَّبه أبو حاتم وأبو زرعة =

(1/82)


بنصِّ القرآن، قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه: 123]، وكذلك في سورة البقرة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} الآية [البقرة: 38]. وأمَّا قولكم: إنَّ الجنَّة وردت مُعَرَّفةً بالَّلامِ التي للعَهدِ فتنصرف إلى جنَّة الخُلد، فقد وردت مُعَرَّفة بالَّلام، غير مرادٍ بها جنَّة الخلد قطعًا، كقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)} __________ = الرازيان. وأخرجه أحمد في المسند: (5/ 178) مطوَّلًا, والنسائي (8/ 275) مختصرًا، وابن سعد في "الطبقات": (1/ 32) مختصرًا وغيرهم من طريق عبيد بن الخشخاش وأبي إدريس الخولاني عن أبي ذر فذكره. وليس فيه ذكر الصحف، وفيه: "قلت: يا رسول اللَّه، أي الأنبياء كان أوَّل؟ قال: آدم، قلت: يا رسول اللَّه، آدم أنبيٌ كان؟ قال: نعم، نبيٌّ مكلَّمٌ". ولا يثبتُ إسناده ففي طريق عبيد الخشخاش -وهو مجهول-: أبو عمر الدمشقي وهو متروك الحديث. وفي طريق أبي إدريس: القاسم بن محمد وهو مجهول، وقال البوصيري: هو ضعيف. لكن وردَ عن أبي أمامة عند ابن حبان في صحيحه (14/ رقم 6190)، والطبراني في "الأوسط" رقم (403) وفي "الكبير" رقم (7545) والحاكم (2/ 288) رقم (3039). والحديث تفرَّد به معاوية بن سلَّام عن أخيه زيد عن أبي سلَّام عن أبي أمامة كما قال الطبراني. والحديث صححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن كثير. انظر: البداية والنهاية: (1/ 94).

(1/83)


[القلم: 17]. وقولكم: إنَّ السَّياق ها هنا دلَّ على أنَّها جنَّةٌ في الأرضِ. قُلنا: والأدلة التي ذكرناها دلَّت على أنَّ جنة آدم عليه السَّلام في الأرضِ، فلذلك صِرْنَا إلى مُوْجِبِهَا، إذْ لا يجوزُ تعطيل دلالة الدليل الصحيح. وأمَّا استدلالكم بأثر أبي موسى: "أنَّ اللَّه أخرج آدم من الجنَّة وزوَّده من ثمارها" (1) ، فليس فيه زيادة على ما دلَّ عليه القرآن، إلَّا تزوده منها، وهذا لا يقتضي أنْ تكون جنَّة الخُلْدِ. وقوله: "إنَّ هذه تتغير، وتلك لا تتغير" فمن أين لكم أنَّ الجنَّة التي أسكنها آدم كان التَّغيُّر يَعْرِضُ لثمارها، كما يَعْرِضُ لهذه الثمار، وقد ثبتَ في الحديث الصحيح عِن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لولا بنو إسرائيل لم يَخْنَز الَّلحم" (2) أي: لم يَتَغَيَّر ولم يَنْتَنْ، وقد أبقى اللَّهُ سبحانه وتعالى في هذا العالم طعامَ العُزَيْر وشَرَابَهُ مئة سنةٍ لم يتغيَّر (3) . وأمَّا قولكم: إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى ضَمِنَ لآدم عليه السلام إنْ تابَ أن يعيده إلى الجنَّة، فلا ريبَ أنَّ الأمرَ كذلك، ولكن ليس نعلم أنَّ __________ (1) تقدم تخريجه ص (64). (2) أخرجه البخاري رقم (3152)، ومسلم رقم (1470)، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (3) يُشير المؤلف إلى قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]، وراجع تفسير الطبري (3/ 28).

(1/84)


الضمان إنَّما يتناول عوده إلى تلك الجنَّة بِعَيْنِهَا، بل إذا أعاده إلى جنة الخلد، فقد وفَى سبحانه بضمانه حقَّ الوفاءِ، ولفظُ العَوْد لا يستلزم الرجوع إلى عَيْنِ الحالةِ الأولى، ولا زمانها ولا مكانها، بل (1) ولا إلى نظيرها، كما قال شعيب لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، وقد جعل اللَّهُ سبحانه المُظَاهِرَ (2) عائدًا بإرادته الوطء ثانيًا، أو بنفس الوطء، أو بالإمساكِ، وكل منها غيرُ الأوَّلِ لا عينه. فهذا ما أجابت به هذه الطائفة لمن نازعها. __________ (1) ليس في "ب". (2) أي: الذي يقول لامرأته أنت عليَّ كظهر أُمِّي ونحوه. انظر: "الزاهر" للأزهري ص (443).

(1/85)


 الباب السَّادس في جوابِ من زعمَ أنَّها جنَّة الخلد عمَّا احتجَّ به منازعوهم

قالوا: أمَّا قولكم: إنَّ اللَّهَ سبحانه أخبر أنَّ جنَّة الخلدِ إنَّما يقع الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأتِ زمن دخولها بَعْدُ. فهذا حقٌّ في الدخول المطلق، الَّذي هو دخول استقرارٍ ودوامٍ، وأمَّا الدخول العارض، فيقع قبل يوم القيامة. وقد دخل النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الجنَّة ليلة الإسراء (1)، وأرواح المؤمنين والشهداء في البَرْزخ في الجنَّة (2)، وهذا (3) غير الدخول الَّذي أخبر اللَّهُ به في يوم القيامة (4)، فدخول الخُلُود إنَّما يكون يوم القيامة، فمن أين لكم أنَّ مُطْلق الدخول لا يكون في الدنيا، وبهذا خَرَجَ الجواب عن استدلالكم بكونها دار المقامة، ودار الخلد؟ قالوا: وأمَّا احتجاجكم بسائرِ الوجوهِ التي ذكرتموها في الجنَّة، وأنَّها لم توجد في جنَّة آدم عليه السَّلام من العُري، والنصب والحزن والَّلغوِ والكذب وغيرها. فهذا كله حقٌّ لا ننكره نحن، ولا أحد من أهل الإسلام، ولكن هذا __________ (1) تقدم ص (43 و 44). (2) تقدم ص (39 و 40). (3) في نسخة على حاشية "أ": "وهو". (4) قوله: "في يوم القيامة" وقع في "أ، ب، د": "في القيامة"، وجاء في "هـ": "يوم القيامة".

(1/86)


إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، كما يدل عليه سياق الآيات كلها، فإنَّ نفي ذلك مقرونٌ بدخول المؤمنين إيَّاها، وهذا لا ينفي أنْ يكونَ فيها بين أبوي (1) الثقلين ما حكاهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى من ذلك، ثمَّ يصير الأمر عند دخول المؤمنين إيَّاها إلى ما أخبر اللَّهُ عنها، فلا تَنَافي بين الأمرين. وأمَّا قولكم: إنَّها دارُ جزاءٍ وثوابٍ لا دار تكليفٍ، وقد كلَّف اللَّهَ سبحانه آدم بالنهي عن الأكل من تلك الشجرة، فدلَّ على أنَّ تلك الجنَّة دار تكليفٍ لا دار خلود. فجوابه من وجهين: أحدهما: أنَّه إنَّما (2) يمتنع أنْ تكون دارَ تكليفٍ إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، فحينئذٍ ينقطع التكليف. وأما وقوع التكليف فيها في دار الدنيا، فلا دليلَ على امتناعه البَتَّة، كيف وقد ثبت عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "دخلتُ (3) الجنَّة فرأيتُ امرأةً تَوَضَّأُ إلى جانب (4) قصرٍ فقلتُ لمن أنتِ. . " (5) الحديث. __________ (1) في "ج": "أنْ يكون فيها أبو الثقلين"، وفي "ظ": "فيها أبوي الثقلين". (2) سقط من "ج". (3) في "أ، ج، د": "دخلتُ البارحة" ولا توجد لفظة "البارحة" في الصحيحين، ولا في "ب، هـ". (4) في نسخة على حاشية "أ" "جنب". (5) هذا اللفظ مُركَّبٌ من حديثي جابر بن عبد اللَّهِ وأبي هريرة رضي اللَّه عنهم. أخرجه البخاري رقم (4928) من حديث جابر رضي اللَّهُ عنهما، ورقم (6622) من حديث أبي هريرة، ومسلم في صحيحه رقم (2394 و 2395).

(1/87)


وغير ممتنع أن يكون فيها منْ يعمل بأمر اللَّهِ ويعبد اللَّه قبل يوم القيامة، بل هذا هو الواقع (1) ، فإنَّ مَنْ فيها الآن مُؤْتَمَرُون بأوامر مِنْ قِبل ربَّهم لا يتعدُّونها سواء سُمِّيَ ذلك تكليفًا أو لم يُسَمَّ. الوجه الثاني: أنَّ التكليف فيها لم يكن بالأعمالِ التي يكلَّف بها النَّاس في الدنيا: من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها، وإنَّما كان حَجْرًا عليهما في شجرةٍ واحدةٍ من جملة أشجارها، إمَّا واحدة بالعَيْن أو بالنَّوع، وهذا القدرُ لا يمتنع وقوعه في دار الخلد، كما أنَّ كلَّ أَحَدٍ محجورٍ عليه أنْ يَقْرَبَ أهل غيرِهِ فيها، فإنْ أردْتُم بكونها ليست دار تكليفٍ امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الأوقات، فلا دليلَ عليه، وإنْ أردتم أنَّ تكاليف الدنيا منتفيةٌ عنها، فهو حقٌّ، ولكن لا يدل على مطلوبكم. وأمَّا استدلالكم بنوم آدم فيها، والجنَّة لا ينامُ أهلها. فهذا إنْ ثبتَ النَّقْلُ بنَوْمِ آدم، فإنَّما ينفي النوم عن أهلها يوم دخول الخلود، حيث لا يموتون، وأمَّا قبل ذلك فلا. وأمَّا استدلالكم بقصة وسْوَسَة إبليس له بعد إهباطه، وإخراجه من السَّماء. فَلَعْمرُ اللَّهِ إنَّه لَمِنْ أقْوَى الأدلة، وأظهرها على صحة قولكم، وتلك التَّعسُّفاتِ كدخوله (2) الجنَّة، وصعوده إلى السَّماءِ بعد إهباط اللَّه له منها (3) لا يرتضيها مُنْصِف؛ ولكن لا يمتنع أن يصعد إلى هناكَ __________ (1) في "أ، ج، د، هـ": "الواضح". (2) في "ب، ج، د": "لدخوله". (3) قوله: "بعد إهباط اللَّهِ له منها" سقط من "أ".

(1/88)


صُعُودًا عارِضًا لِتَمام الابتلاءِ والامتحان الَّذي قدَّره اللَّهُ تعالى وقدَّر أسبابه، وإنْ لم يكن ذلك المكان مَقْعَدًا له مُسْتَقِرًّا كما كان، وقد أخبر اللَّهُ سبحانه عن الشياطين أنَّهم كانوا قبل مبعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقعدون من السَّماء مقاعد للسمع، فيستمعون الشيءَ من الوحي، وهذا صعودٌ إلى هناك، ولكنَّه (1) صعودٌ عارضٌ لا يستقرون في المكان الَّذي يصعدون إليه = مع قوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]، [الأعراف: 24] فلا تنافي بين هذا الصعود وبين الأمر بالهبوط، فهذا محتملٌ، واللَّهُ أعلم. وأمَّا استدلالكم بأنَّ اللَّهَ سبحانه أعلم آدم عليه السلام مقدار أجله، وما ذكرتم من الحديثِ وتقرير الدَّلالة منه (2) . فجوابه: أنَّ إعلامه بذلك لا ينافي إدخاله جنَّة الخُلْد، وإسكانه فيها مُدَّة. وأمَّا إخباره سبحانه أنَّ داخلها لا يموت، وأنَّه لا يَخْرُج منها، فهذا يومُ القيامة. وأمَّا احتجاجكم بكونه خُلِقَ من الأرض، فلا ريب في ذلك، ولكن من أين لكم أنَّه كَمَّلَ خَلْقَهُ فيها؟ وقد جاء في بعض الآثارِ: "أنَّ اللَّهَ سبحانه ألقاهُ على باب الجنَّة أربعين صباحًا، فجعل إبليسُ يَطِيْفُ به، ويقول: لأمرٍ ما خُلِقْتَ، فلمَّا رآهُ أجوفَ علم أنَّه خلق لا يَتَمالك، __________ (1) في "أ، ج": "وإليه". (2) سقط من "ب".

(1/89)


فقال: لئن سُلَّطْتُ عليه لأُهْلِكَنَّهُ، وإنْ (1) سُلَّطَ عليَّ لأَعْصِينَّه" (2) ، مع أنَّ قوله سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 31 - 33] يدلُّ على أنَّه كان في السَّماء معهم بحيثُ أنبأهم بتلك الأسماء، وإلا فهم لم ينزلوا كلهم إلى الأرضِ، حتَّى سمعوا منه ذلك، ولو كان خلْقُه قد كمل في الأرضِ لم يمتنع أنْ يصعده سبحانه إلى السَّماءِ لأمرٍ دَبَّرهُ وقدَّرهُ ثمَّ يعيدهُ إلى الأرضِ، فقد أصعد المسيح صلوات اللَّه وسلامه عليه إلى السَّماءِ، ثمَّ ينزله إلى الأرضِ قبل يوم القيامة، وقد أسرى ببدن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وروحه إلى فوق السماوات. فهذا جواب القائلين بأنَّها جنَّة الخلد لمنازعيهم، واللَّهُ أعلم. __________ (1) في "ب، د": "ولئن". (2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2611) عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه مرفوعًا بلفظ "لمَّا صوَّر اللَّهُ آدم في الجنَّة، تركه ما شاء اللَّهُ أن يتركه، فجعل يطيف به، ينظر ما هو، فلمَّا رآهُ أجوف عرف أنَّهُ خُلِق خلْقًا لا يتمالك".

(1/90)


 الباب السَّابع في ذكر شُبَه من زعم أنَّ الجنَّةَ لم تُخلق بعد

قالوا: لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضْطِرارًا إلى أنْ تَفْنى يوم القيامة، وأن يَهْلِك كل ما فيها ويموت، لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، فتموت الحور العين التي فيها والوِلْدان، وقد أخبر اللَّهُ سبحانه أنَّ الدَّار دار خلود، ومن فيها يخلدون (1) لا يموتون فيها، وخبره سبحانه لا يجوز عليه خُلْف ولا نسخ. قالوا: وقد روى الترمذي في "جامعه" من حديث ابن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقيتُ إبراهيم ليلةَ أُسري بي فقال: يا محمد أقرئ أُمَّتَكَ منَّي السَّلام، وأخبرهم أنَّ الجنَّة طيبةُ التربة عذبةُ الماءِ، وأنَّها قيعان، وأنَّ غراسها: سبحانَ اللَّه، والحمدُ للَّه، ولا إله إلَّا اللَّه، واللَّهُ أكبر" (2). قال: "هذا حديث حسن غريب". وفيه أيضًا، من حديث أبي الزبير عن جابر رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي __________ (1) في "د، هـ": "مخلدون". (2) أخرجه الترمذي رقم (3462)، والطبراني في الصغير رقم (539)، وفي الأوسط (4170). وهو حديث معل بالإرسال أعلَّه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان كما في العلل (1/ 170 - 171). * وورد عن أبي أيوب وابن عمر. انظر: "جلاء الأفهام" ص (316 - 317).

(1/91)


-صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "من قالَ سبحانَ اللَّه وبحمدهِ، غُرِسَت له نَخلةٌ في الجنَّة" (1) . قال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيح". قالوا: فلو كانت الجنَّة مخلوقةً مفروغًا منها، لم تكن قيعانًا، ولم يكن لهذا الغرس معنى. قالوا: وقد قال تعالى عن امرأةِ فرعون أنَّها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، ومحال أن يقول قائل لمن نسج له ثوبًا، أو بنى له بيتًا: انسج لي ثوبًا، وابن لي بيتًا. وأصرح من هذا قول النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من بنى للَّه مسجدًا بنى اللَّهُ له به بيتًا في الجنَّة" متفق عليه (2) . وهذه جُمْلة مركَّبة من شَرْطٍ وجزاءٍ، تقتضي وقوع الجزاء بعد الشرط بإجماع أهل العربية، وهذا ثابتٌ عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من رواية عثمان ابن عفان، وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد اللَّه، وأنس بن مالك، وعمرو بن عبسة (3) رضي اللَّه عنهم. __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (3464 و 3465)، وابن حبان في صحيحه (3/ رقم 826 و 827)، والحاكم في المستدرك (1/ 680 و 693) رقم (1847 و 1888) وغيرهم. قال الترمذي: "حسن غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث أبي الزبير". انظر: تحفة الأشراف: (2/ 292، 294). والحديث صححه ابن حبان والحاكم والمنذري والهيثمي. (2) أخرجه البخاري رقم (439)، ومسلم رقم (533) عن عثمان بن عفان. (3) أمَّا حديث عثمان: فقد تقدَّم آنفًا. =

(1/92)


قالوا: وقد جاءت آثار بأنَّ الملائكة تغرس فيها، وتبني للعبد ما دام يعمل، فإذا فَتَرَ فتر الملك عن العمل. قالوا: وقد روى ابن حبان في "صحيحه" والإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا قَبَضَ اللَّهُ ولدَ العبد، قالَ: يا ملكَ الموتِ قبضتَ ولدَ عبدي، قبضت قُرَّة عينه وثمرة فؤادِهِ، قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حَمدكَ واسترجعَ، قال: ابنوا له بيتًا في الجنَّة، وسمُّوه بيتَ الحمد" (1) . __________ = * وأما حديث علي بن أبي طالب: فأخرجه ابن ماجة برقم (737). قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف، الوليد مدلَّس وابن لهيعة ضعيف،. . . ". * وأمَّا حديث جابر: فأخرجه ابن ماجة رقم (738)، وابن خزيمة في صحيحه (2/ رقم 1292). والحديث صحَّحه ابن خزيمة والبوصيري. * وأمَّا حديث أنس: فأخرجه الترمذي رقم (319). وفيه زياد النميري: وهو ضعيف، انظر: التقريب (2087). * وأمَّا حديث عمرو بن عبسة: فأخرجه النسائي (2/ 32)، والترمذي (1635) مختصرًا، وأحمد (4/ 386) مطوَّلًا وغيرهم. وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب". (1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (7/ رقم 2948)، وأحمد (4/ 415)، والترمذي رقم (1021). من طريق أبي سنان عن أبي طلحة عن الضحاك بن عرزب عن أبي موسى فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وفيه أبو سنان عيسى بن سنان القسملي، فيه ضعف، وأيضًا فيه أبو طلحة =

(1/93)


وفي "المسند" من حديثه أيضًا قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صلَّى في يومٍ وليلةٍ ثنتي عشْرة ركعةً سوى الفريضة بُنيَ له بيت في الجنَّة" (1) . قالوا: وليس هذا من أقوال أهل البدع والاعتزال كما زعمتم، فهذا ابن مُزين قد (2) ذكر في "تفسيره" عن ابن نافع، وهو من أئمة السنَّة، أنَّهُ سُئِلَ عن الجنَّة أمخلوقة هي؟ فقال: السكوت عن هذا أفضل. واللَّهُ أعلم. __________ = الخولاني الشامي: فيه جهالة. والضحاك لم يسمع من أبي موسى. انظر: إتحاف المهرة (10/ 32)، والتقرب (5295، 8189). (1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 413)، والبزار كما في "كشف الأستار" رقم (702) والطبراني في الأوسط (6/ رقم 9436). من طريق حماد بن زيد عن هارون أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى فذكره. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن أبي بردة إلَّا هارون أبا إسحاق، تفرَّد به حماد بن زيد، ولا يُروى عن أبي موسى إلَّا بهذا الإسناد". وقال البزَّار: "تفرد به هارون، ولم يتابع عليه. . . ". قلت: وقد اختلف عن حمَّاد بن زيد، فرفعه عنه سليمان بن حرب وأحمد الموصلي، وأرسله عنه عارم ومسدَّد. انظر: "التاريخ الكبير": (8/ 255) للبخاري. فلعلَّ هذا الاضطراب من هارون أبي إسحاق، فقد ذكر هذا الاختلاف البخاري في ترجمة هارون هذا. لكن المتن ثابت من حديث أم حبيبة عند مسلم في صحيحه رقم (728). (2) من (ب، جـ، د، هـ) ونسخة على حاشية "أ".

(1/94)


 الباب الثامن في الجواب عمَّا احتجت به هذه الطائفة

وقد تقدَّم في الباب الأوَّل من ذكر الأدلَّة الدَّالة على وجود الجنَّة الآن ما فيه كفاية. فنقول: ما تعنون بقولكم: إنَّ الجنَّة (1) لم تُخْلَق بَعْدُ؟ أتريدون أنَّها الآن عدَمٌ محضٌ لم تدخل إلى (2) الوجود بعدُ، بل هي بمنزلة النفخ في الصُّور، وقيام النَّاس من القبور؟ فهذا قولٌ باطلٌ يَرُدُّه المعلوم بالضَّرورة من الأحاديث الصريحة الصحيحة التي تقدَّم بعضها، وسيأتي بعضها، وهذا قول لم يقله أحد من السلف، ولا أهل السنَّة، وهو باطل قطعًا. أم تريدون أنَّها لم تخلق بكمالها، وجميع ما أعدَّ اللَّهُ فيها لأهلها، وأنَّها لا يزال اللَّهُ يُحْدِثُ فيها شيئًا بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أَحْدثَ اللَّهُ فيها عند دخولهم أُمُورًا أُخر، فهذا حقٌّ لا يمكن ردُّه. وأدلتكم هذه إنَّما دلَّت على هذا القدر، وحديث ابن مسعود رضي اللَّهُ عنه الَّذي ذكرتموه (3)، وحديث أبي الزبير، عن جابر (4): صريحان في أنَّ أرضها مخلوقة، وأنَّ الذِّكْر يُنشئ اللَّهُ سبحانه لقائله __________ (1) قوله: "إنَّ الجنَّة" ليس في "ب". (2) في "ب": "في". (3) تقدم ص (91). (4) تقدم ص (92 - 93).

(1/95)


منه غراسًا في تلك الأرضِ، وكذا بناءُ البيوت فيها بالأعمال المذكورة، والعبد كلَّما وسَّع في أعمال البر (1) وُسِّعَ له في الجنَّة، وكلَّما عمل خيرًا غُرِسَ له به هناك غِراس، وبُنِيَ له به بناء (2) ، وأُنْشئ له من عمله أنواع ممَّا يتمتعَّ به، فهذا القدرُ لا يدلُّ على أنَّ الجنَّة لم تخلق بعد، ولا يسوغ إطلاق ذلك. وأمَّا احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] فإنَّما أُتِيتُم من عَدَم فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنَّة والنَّارِ الآن نظير احتجاج إخوانكم بها على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما (3) ، فلا أنتم وُفِّقْتُم لِفَهْمِ معناها ولا إخوانكم، وإنَّما وُفَّقَ لفهم معناها السلف، وأئمة الإسلامِ، ونحن نذكر بعض كلامهم في الآية. قال البخاري في "صحيحه": "يقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}: إلَّا ملكه، ويقال: إلَّا ما أُريد به وجهه" (4) . وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه: "فأمَّا السَّماء والأرض فقد زالتا؛ لأنَّ أهلها صاروا إلى الجنَّة وإلى النَّار، وأمَّا العرش فلا يَبيدُ ولا يذهبُ؛ لأنَّهُ سَقْفُ الجنَّة، واللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَيْهِ، فلا يَهلك ولا يبيد. __________ (1) ليس في "ب". (2) في "ب": "وبنى له بيتًا"، ووقع في "ج، د": "له بناء". (3) وقع في "أ": "فنائها، وخرابها وموت أهلها" بالإفراد. (4) انظر: صحيح البخاري: (68) التفسير (262)، باب: تفسير سورة القصص: (4/ 1788).

(1/96)


وأمَّا قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وذلك أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) } [الرحمن: 26]، فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض - وطَمِعُوا في البقاءِ - فأخبر اللَّه سبحانه وتعالى عن أهل السماواتِ وأهل الأرضِ أنَّهم يموتون فقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88]-يعني: ميِّت- {إِلَّا وَجْهَهُ}؛ لأنَّه حيٌّ لا يموت، فأَيْقَنَتِ الملائكة عند ذلك بالموت" (1) . انتهى كلامه. وقال في رواية أبي العباسِ أحمد بن جعفر بن يعقوب الإصْطَخْرِي، ذكره أبو الحسين في كتاب "الطبقات" (2) قال: "قال أبو عبد اللَّهِ أحمد بن حنبل: هذه مذاهب أهل العلمِ، وأصحاب الأثرِ، وأهل السنَّة المتمسِّكين بعروتها، المعروفين بها، المتقدى بهم فيها، من لدن أصحاب نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى يومنا هذا، وأدركتُ من أدركتُ من (3) علماء أهل الحجاز والشَّام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئًا (4) من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع خارج عن الجماعة، زائلٌ عن منهج السنَّة وسبيل الحقِّ". وساق أقوالهم إلى أنْ قال: "وقد خلقت الجنَّةُ وما فيها، وخلقت النَّار وما فيها، خلقهما اللَّهُ عزَّ وجل، وخلق الخلق لهما (5) ، ولا __________ (1) انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ص (148). (2) من قوله: "أحمد بن جعفر" إلى "الطبقات" سقط من "ب". (3) ليس في "ب". (4) ليس في "ب". (5) في "ب": "وخلق كلَّ شيءٍ الخلق لهما" بدل "وخلق الخلق لهما".

(1/97)


يفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبدًا. فإنْ احتج مبتدعٌ، أو زنديقٌ بقول اللَّهِ عزَّ وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] وبنحو هذا من متشابه القرآن، قيل له: كلُّ شيءٍ ممَّا كتب اللَّهُ عليه الفناء والهلاك هالك، والجنَّة والنَّار خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ، وهما من الآخرة لا من الدنيا، والحور العين لا يَمُتْنَ عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا أبدًا؛ لأنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ خلقهنَّ للبقاءِ، لا للفناءِ، ولم يكتب عليهنَّ الموت، فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع، وقد ضلَّ عن سواء السبيل. وخلق سبع سماوات، بعضها فوق بعضٍ، وسبع أرضين، بعضها أسفل من بعض، وبين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمس مائة عام، وبين كلِّ سماءٍ إلى سماءٍ مسيرة خمس مائة عام، والماء فوقُ السَّماء العليا السَّابعة، وعرش الرحمن عزَّ وجلَّ فوق الماء، واللَّهُ عزَّ وجلَّ على العرشِ، والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السماوات والأرضين السبع، وما بينهما، وما تحتَ الثَّرى، وما في قَعْرِ البحر، ومنْبَت كلِّ شعرةٍ وشَجَرة، وكل زرعٍ وكل نباتٍ، ومسقط كلِّ ورقة، وعدد كل كلمة، وعدد الرَّملِ والحصَى والتراب، ومثاقيلِ الجبالِ، وأعمالِ العباد، وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم، ويعلمُ كلَّ شيء لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو على العرش فوق السماء السابعة، ودونه حُجُبٌ من نارٍ ونورٍ وظُلمةٍ، وما هو أعلم بها. فإنْ احتج مبتدعٌ ومخالفٌ بقول اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16] وقوله: {وَهُوَ مَعَكُم] [الحديد: 4] وقوله:

(1/98)


{إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ونحو هذا من متشابه القرآن فقل: إنَّما يعني بذلك العلم؛ لأنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ على العرشِ فوق السَّماء السَّابعة العليا، يعلم ذلك كله، وهو بائنٌ من خلقه، لا يخلو من علمه مكان" (1) . وقال في رواية أبي جعفر الطائي محمد بن عوف بن سفيان الحمصي، قال الخلالُ: "حافظٌ إمامٌ في زمانهِ، معروفٌ بالتَّقدُّم في العلم والمعرفة، كان أحمد بن حنبل يعرف له ذلك ويقبل منه، ويسأله عن الرِّجالِ من أهل بلده" (2) قال: "أملى عليَّ أحمد بن حنبل -فذكر الرِّسالة في "السنة" ثمَّ قال في أثنائها-: "وأنَّ الجنَّة والنَّارَ مخلوقتانِ قد خلقتا كما جاء الخبر، قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دخلتُ الجنَّة فرأيتُ فيها قصرًا" (3) ، و"رأيت الكوثر" (4) ، و"اطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثرَ أهلِها كذا وكذا" (5) فمن زعمَ أنَّهما لم تُخلقا؛ فهو مكذِّبٌ برسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- __________ (1) انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى: (1/ 24 - 29). (2) انظر: المصدر السَّابق (1/ 310). (3) تقدم الحديث ص (44). (4) ورد من حديث أنس رضي اللَّهُ عنه قال: لمَّا عُرِجَ بالنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السَّماءِ، قال: أتيتُ على نهر، حافتاه قِبابُ اللؤلؤ مجوَّفًا، فقلتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكوثر". أخرجه البخاري برقم (4680). (5) ورد من حديث عمران بن حصين أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اطَّلعتُ في الجنَّةِ فرأيتُ أكثرَ أهلها الفقراء، واطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثر أهلها النساء". أخرجه البخاري رقم (3069). وراجع ص (258) وما بعدها.

(1/99)


وبالقرآنِ، كافرٌ بالجنَّة والنَّار، يُسْتَتَابُ، فإنْ تابَ وإلَّا قُتِلَ" (1) . وقال: في رواية عبدوس بن مالك العطَّار، وذكر رسالته في "السنَّة" قال فيها: "والجنَّة والنَّارُ مخلوقتان، قد خلقتا كما جاء عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اطلعتُ في (2) الجنَّة فرأيتُ أكثر أهلها كذا وكذا، واطَّلعتُ في النَّارِ فرأيتُ أكثر أهلها كذا وكذا"، فمن زعمَ أنَّهما لم تُخْلقا فهو مكذِّبٌ بالقرآنِ، وأحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أحسبهُ يؤمن بالجنَّة والنَّار" (3) . فتأمَّل هذه الأبواب وما تضمنته من النقولِ، والمباحث، والنُّكَت والفوائدِ التي لا يظفر بها في غير هذا الكتاب البتَّة. ونحن اختصرنا الكلام في ذلك، ولو بسطناهُ لقام منه سفرٌ ضخمٌ، واللَّهُ المستعان، وعليه التكلان، وهو الموفِّقُ للصَّوابِ. __________ (1) انظر: "طبقات الحنابلة": (1/ 311 - 312). (2) في "أ": "على". (3) انظر: طبقات الحنابلة: (1/ 245 - 246).

(1/100)


 الباب التَّاسع في ذكر عدد أبواب الجنَّة

قال اللَّهُ تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ [33/ ب] خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، وقال فى صفة النَّار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] بغير واو. فقالت طائفة: هذه واو الثمانية دخلت في أبواب الجنَّة، لكونها ثمانية، وأبواب النَّار سبعة فلم تدخل الواو. وهذا قولٌ ضعيف لا دليل عليه، ولا تعرفه العرب، ولا أئمة العربية، وإنَّما هذا من استنباط بعض المتأخرين (1). وقالت طائفة أخرى: الواو زائدة، والجواب: الفعل الَّذي بعدها، كما هو في الآية الثانية. وهذا أيضًا ضعيف، فإنَّ زيادة الواو غير معروف في كلامهم، ولا يليقُ بأفصح الكلام أنْ يكون فيه حرفٌ زائد بغير معنى ولا فائدة. وقالت طائفةٌ ثالثة: الجواب محذوف، وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] عطف على قوله: {جَاءُوهَا}. __________ (1) * كالثعلبي وابن خالويه والحريري الأديب * وانظر: "بدائع الفوائد" للمؤلف: (2/ 663 - 365) و (3/ 915 - 919)، * و"الفصول المفيدة" للعلائي ص (142 - 245) *.

(1/101)


هذا اختيار أبي عُبَيْدة والمُبَرِّد والزَّجَاج وغيرهم (1) . قال المبرِّد: "وحذفُ الجواب أبلغ عند أهل العلم" (2) . قال أبو الفتح بن جِنِّي: "وأصحابنا يَدفعون زيادة الواوِ ولا يُجِيْزونه، ويرون أنَّ الجواب محذوفٌ للعلم به" (3) . بَقِيَ أنْ يقالَ: فما السِّرُّ في حذف الجواب في آية أهل الجنَّة، وذِكْرِهِ في آية أهل النَّارِ؟ فيقال: هذا أبلغُ في الموضعين، فإنَّ الملائكة تسوق أهل النَّارِ إليها، وأبوابُها مُغلقة، حتَّى إذا وصلوا (4) إليها فتحت في وجوههم ففجأهم (5) العذابُ بغتةً، فحين انتهوا إليها {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} بلا مُهْلَة، فإنَّ هذا شأن الجزاء المترتب على الشرط أن يكون عقيبه، فإنَّها دار الإهانة والخِزي، فلم يُسْتأذن لهم في دخولها، ويُطلبُ إلى خزنتها أنْ يمكنوهم من الدخول. وأمَّا الجنَّة فإنَّها دار اللَّهُ، ودار كرامته، ومحل خواصّه وأوليائه، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أنْ يفتحها لهم، ويستشفعون إليه بأُولي العزم من رسله، فكلهم يتأخَّر عن ذلك، حتَّى تقع الدَّلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول: "أنا __________ (1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج (4/ 364)، و"مجاز القرآن" (2/ 192). (2) انظر: * المقتضب له: (2/ 77 - 78) *. (3) انظر: * "سِرّ صناعة الإعراب" له: (2/ 646) *. (4) من قوله: "في الموضعين" إلى "وصلوا" سقط من "ج" ووقع في "أ، ب، د": "دخلوا"، وفي "هـ": "دخلوها" بدلًا من "وصلوا" وهو خطأ. (5) في "ج": "فيفجئهم"، وفي نسخةٍ على حاشية "أ": "فيجيئهم".

(1/102)


لها" (1) : فيأتي إلى تحتِ العرش ويخرُّ ساجدًا لربه، فيدعه ما شاء أنْ يدعه، ثمَّ يأذنُ له في رفع رأسهِ، وأنْ يسأل حاجته، فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه، ويفتحها تعظيمًا لخطرها، وإظهارًا لمنزلة رسوله وكرامته عليه. وإنَّ مثل هذه الدَّار التي هي دار ملك الملوك ورب العالمين، إنَّما دُخِلَ إليها بعد تلك الأهوالِ العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدَّار إلى أنْ انتهى إليها، وما رَكِبَهُ من الأطباق طبقًا بعد طبق، وقاساه من الشدائد شدَّةً بعد شدَّة، حتَّى أذنَ اللَّهُ تعالى لخاتم أنبيائه ورسله، وأحبِّ خلقه إليه أنْ يشفع إليه في فتحها لهم. وهذا أبلغُ وأعظمُ في تمام النِّعمة وحصول الفرحِ (2) والسُّرور ممَّا يُقَدَّرُ بخلاف ذلك، ولئلا يتوهمُ الجاهل أنَّها بمنزلة الخان (3) الَّذي __________ (1) أخرجه البخاري رقم: (6197)، ومسلم رقم (193) - (326) واللفظ لمسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه. تنبيه: ليس في حديث الشفاعة الطويل ما ذكره المؤلفُ "من أنَّ طلبهم للشفاعة كان بسبب وجودهم أبواب الجنَّة مغلقة، بل الَّذي جاء فيه - وهذا لفظه -: "يجمعُ اللَّهُ النَّاس يوم القيامة، فيهتمُّون -وفي لفظٍ: فيلهمون- لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال فيأتون آدم. .، وذكر الحديث بطوله واللفظ لمسلم. فَلَعَلَّه في حديثٍ آخر فلينظر. (2) في "ج": "الفَرَج". (3) الخان: الذي للتُّجارِ. أي: المتجر، ويحتمل: الفندق. انظر: "الصحاح": (2/ 1551)، و"المعجم الوسيط" ص (286).

(1/103)


يدخله من شاء، فجنَّة اللَّهِ غاليةٌ عاليةٌ، بين النَّاس وبينها من العقبات (1) والمفاوز والأخطار ما لا تنال إلا بهِ، فما لِمَنْ أتْبَعَ نفسه هواها وتمنَّى على اللَّهِ الأمانيَّ ولهذه الدَّار؟ فليُعَدِّ عنها إلى ما هو أولى به، وقد خُلِقَ لهُ وهُيِّئَ له. وتأمَّل ما في سَوْقِ الفريقين إلى الدَّارين زمرًا من فرحة هؤلاء بإخوانهم، وسَيْرهم معهم كل زمرة على حِدَة، مشتركين في عملٍ متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم، مستبشرين أقوياء القلوب، كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير، كذلك يؤنس بعضهم بعضًا، ويفرح بعضهم ببعض. وكذلك أصحاب الدَّار الأُخرى يُسَاقون إليها زمرًا، يلعن بعضهم بعضًا، ويتأذَّى (2) بعضهم ببعض، وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهَتِيْكَة، من أن يساقوا واحدًا واحدًا، فلا تُهمِلْ تَدَبُّر قوله: {زُمَرًا}. وقال خزنة أهل (3) الجنَّة لأهلها: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} فبدؤوهم بالسَّلام المتضمِّن للسلامة من كلِّ شرٍّ ومكروهٍ، أي: سَلِمْتُمْ، فلا يلحقكم بعد اليومِ ما تكرهون، ثمَّ قالوا لهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} أي: سلامتكم ودخولها بطيبكم، فإنَّ اللَّهَ حرَّمها إلَّا على الطيبين، فبشَّروهم __________ (1) في "ب": "العقاب" وهو خطأ. (2) في "ب": "وينادي". (3) ليس في "ب".

(1/104)


بالسَّلامة وبالطيبِ، والدخول والخلود. وأمَّا أهلُ النَّارِ، فإنَّهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهمِّ والغمِّ والحُزنِ، وفتحت لهم أبوابها، ووقفوا عليها وزيدوا إلى ما هم عليه توبيخ خزنتها، وتبْكِيتهم لهم بقولهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر: 71] فاعترفوا وقالوا: بلى. فبشروهم بدخولها والخلود فيها، وأنَّها بئس المثوى لهم. وتأمَّل قول خزنة الجنَّة لأهلها: {ادْخُلُوهَا}: وقول خزنة النَّارِ (1) لأهلها: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} تَجِدْ تَحْتهُ سرًّا لطيفًا ومعنًى بديعًا لا يخفى على المُتأمِّلِ، وهو: أنَّها لمَّا كانت دار العقوبة وأبوابها أفظع شيءٍ، وأشد (2) حرًّا، وأعظم غمًّا، يستقبل فيها الداخلُ من العذاب ما هو أشد منها، ويدنو من الغمّ والخزي والكرب بدخول الأبواب = قيل (3) : ادخلوا أبوابها صَغَارًا لهم، وإذْلالًا وخزيًا، ثمَّ قيل لهم: لا يقتصر بكم (4) على مجرَّد دخول الأبواب الفظيعة، ولكن وراءها الخلود في النَّار. وأمَّا الجنَّة فهي دار الكرامة، والمنزل الَّذي أعدَّه اللَّهُ لأوليائه، فبُشروا من أوَّل وَهْلَةٍ بالدخولِ إلى المقاعد والمنازل والخلود فيها. __________ (1) في "ب": "أهل النَّار" بدل "النَّار". (2) في "ج، د": "وأشده"، وفي "ب": "وأشده حرًّا وأعظمه إثمًا". (3) في جميع النسخ "فقيل" ولعلَّ الصواب ما أثبته، وهو جواب "لمَّا". (4) في "ب": "منكم".

(1/105)


وتأمَّل قوله سبحانه: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) } [ص: 50 - 51] كيف تجد تحته معنى بديعًا، وهو أنَّهم إذا دخلوا الجنَّة لم تغلق أبوابُها عليهم بل تبقى مفتحة كما قال (1) . وأمَّا النَّارُ فإذا دخلها أهلها أُغلقت عليهم أبوابها، كما قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8] أي مطبقة مغلقة (2) ، ومنه سُمِّيَ الباب وصِيدًا وهي: {مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} قد جعلت العُمُد مُمْسكة للأبواب من خلفها، كالحجر العظيم الَّذي يُجْعل خلف الباب. قال مُقَاتِل: "يعني أبوابها عليهم مطبقة، فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غَم، ولا يدخل فيها رَوْح آخرَ الأبَدِ" (3) . وأيضًا: فإنَّ في تفتيح الأبواب لهم إشارةٌ إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتَبؤهم من الجنَّة حيث شاؤوا، ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتُّحف والألطاف من ربهم، ودخول ما يَسُرُّهم عليهم كل وقت. وأيضًا: إشارة إلى أنَّها دارُ أمْنٍ لا يحتاجون فيها إلى غَلْقِ الأبوابِ، كما كانوا يحتاجون إلى ذلك في الدنيا. وقد اختلف أهل العربية في الضمير العائد من الصِّفة على __________ (1) في "ب، د": "هي". (2) ليس في "ب". (3) انظر: "تفسير مقاتل": (3/ 519).

(1/106)


الموصوف في هذه الجملة (1) . فقال الكوفيون: التَّقْدير مفتَّحة لهم أبوابها. والعربُ تعاقب بين الألف والَّلامُ والإضافة، فيقولون: مررتُ برجل حسن العين: أي عينه. ومنه (2) قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) } [النازعات: 39] أي: مأواه. وقال بعض البصريين: التقديرُ: مفتحة لهم الأبواب منها. فحذف الضمير وما اتصل به، قال: وهذا التقديرُ في العربية أجودُ من أنْ تجعل الألف والَّلام بدلًا من الهاءِ والألفِ، أي (3) معنى الألف والَّلام ليس من معنى الهاء والألف في شيء؛ لأنَّ الهاء والألف اسم، والألف والَّلام دخلتا للتعريف، ولا يُبْدَل حرفٌ من اسم، ولا ينوب عنه. قالوا: وأيضًا لو كانت الألف والَّلامُ بدلًا من الضَّمير لوجب أنْ يكون في {مُفَتَّحَةً} ضمير الجنَّات، ويكون المعنى مفتحة هي، ثمَّ أُبْدِلَ منها الأبواب، ولو كان كذلك لوجب نصب الأبواب لكون {مُّفَتَّحَةً} قد رفع (4) ضمير الفاعل، فلا يجوز أن يرتفع به اسمٌ آخر لامتناع ارتفاع فاعِلَيْن بفعلٍ واحدٍ، فلمَّا ارتفع {الْأبَوَابُ} دلَّ على أنَّ {مُّفَتَّحَةً} حالٌ من ضمير، و {الْأَبَوَابُ} مرتفعة به. وإذا كان في الصِّفة __________ (1) انظر: "معاني القرآن" للفراء: (2/ 408 - 409)، وللزجاج: (4/ 337)، و"البحر المحيط": (7/ 387). (2) في "أ، ج": "ومعنى". والمثبت أصح. (3) في "ب": "لأنَّ". (4) في "ب، ج": "وقع".

(1/107)


ضمير تعَيَّنَ نصْبُ الثاني، كما تقول: مررت برجل حسن الوجه. ولو رفعت "الوجهَ" ونَوَّنْتَ "حَسَنًا" لم يجز، فالألف والَّلامُ إذًا للتعريف ليس إلَّا، فلا بُدَّ من ضمير يعودُ على الموصوف الَّذي هو جنَّات عدنٍ، ولا ضمير في اللفظ، وهو محذوف، تقديره: الأبواب منها. وعندي: أنَّ هذا غير مبطل لقول الكوفيين، فإنَّهم لم يُرِيْدُوا بالبدَلِ إلَّا أنَّ الألف والَّلام خَلَفٌ وعِوَضٌ عن الضمير يغني (1) عنه، وإجماع العرب على قولهم: حسن الوجه، وحسن وجهه = شاهدٌ بذلك، وقد قالوا: إنَّ التنوين بدل من الألف والَّلام. بمعنى: أنَّهما لا يجتمعان، وكذلك المضاف إليه يكون بدلًا من التنوين، والتنوين بدلٌ من الإضافة، بمعنى: التَّعَاقب والتَّوارد، ولا يريدون بقولهم: هذا بدلٌ من هذا، أنَّ (2) معنى البدلِ معنى المُبْدَل منه، بل قد يكون في كلٍّ منهما معنى لا يكون في الآخر. فالكوفيون أرادوا أنَّ الألفَ والَّلام في {الْأَبْوَابُ} أغنت عن الضمير؛ لو قيل: أبوابها، وهذا صحيح، فإنَّ المقصود الربط بين الصفة والموصوف بأمرٍ يجعلها له لا مستقلة، فلمَّا كان الضميرُ عائدًا على الموصوف تعيَّن (3) توهم الاستقلال، وكذلك لام التعريف، فإنَّ كلًّا من الضَّمير والَّلام يُعَيِّن صاحبه: هذا يعيِّن (4) تفسيره، وهذا __________ (1) في "ج": "يَعْني". (2) في "ج": "أي". (3) في "ب": "نفى"، في "هـ": "تعيَّن الاستقلالُ". (4) في "أ، ب، ج، د": "معنى".

(1/108)


يُعَيِّن ما دخل عليه، وقد قالوا في "زيد نعم الرجل": إنَّ الألف والَّلام أغنت عن الضمير، واللَّهُ أعلم. وقد أعرب الزمخشري هذه الآية إعرابًا اعْتُرِضَ عليه فيه، فقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} معرفة، لقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61]، وانتصابها على أنَّها عطف بيان لـ {لَحُسْنَ مَئَابٍ}، و {مُفَتَّحَةً} حال، والعامل فيها ما في {لِلْمُتَّقِينَ} من معنى الفعل، وفي {مُفَتَّحَةً}: ضمير الجنَّات، و {الأَبَوَابُ}: بدل من الضمير، تقديره: مفتحة، هي الأبواب، كقولهم: "ضرب زيد اليد والرجل"، وهو من بدل الاشتمال" (1) . هذا إعرابه. فاعتُرِضَ عليه بأنَّ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} ليس فيها ما يقتضي تعريفها. وأمَّا قوله: {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ} فَبَدَل، لا صِفَة. وبأنَّ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} لا يسهل (2) أن تكون عطف بيان لـ {لَحُسْنَ مَئَابٍ} على قوله؛ لأنَّ جريان المعرفة على النكرة عطف بيان = لا قائل به، فإنَّ القائلَ قائلان: أحدهما: أنَّه لا يكون إلَّا في المعارف، كقول البصريين. والثاني: أنَّه يكونُ في المعارف والنَّكِرَاتِ بشرط المطابقة، كقول الكوفيين وأبي علي الفارسي. وقوله: إنَّ في {مُفَتَّحَةً} ضمير الجنَّات، فالظاهر خلافه، وأنَّ {الْأَبْوَابُ}: مرتفعٌ به، ولا ضمير فيه. __________ (1) انظر: "الكشاف": (4/ 100). (2) في "د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ": "تشتمل".

(1/109)


وقوله: إنَّ {الْأَبْوَابُ}: بدلُ اشتمالٍ، فبدل الاشتمال (1) قد صرَّحَ هو وغيره أنَّه لا بُدَّ فيه من الضَّمير، وإنْ نازعهم فيه آخرون، ولكن يجوزُ أنْ يكون الضمير ملفوظًا به، وأنْ يكون مُقَدَّرًا، وهنا لم يلفظْ به، فلا بُدَّ من تقديرهِ أي: الأبواب منها، فإذا كان التقدير: مفتحة لهم هي الأبواب منها، كان فيه تكثيرُ للإضمارِ، وتقليله أولى. وفي "الصحيحين" (2) : من حديثِ أبي حازم (3) عن سهل بن سعد رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "في الجنَّةِ ثمانيةُ أَبْوَابٍ، بابٌ منها يُسَمَّى الرَّيَّانُ، لَا يَدْخُلُهُ إلَّا الصَّائمون". وفي "الصحيحين" (4) من حديث الزهري، عن حُمَيْد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَنْفَقَ زَوجينِ من شيءٍ من الأشياء في سبيل اللَّهِ، دُعي من أبواب الجنَّة: يا عبدَ اللَّهِ هذا خيرٌ، فمن كان من أهل الصَّلاةِ دُعي من باب الصَّلاة، ومن كان من أهل الجهادِ دُعِيَ من باب الجهادِ، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصَّدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريَّان"، فقال أبو بكر: بأبي أنتَ وأُمِّي يا رسول اللَّهِ، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورةٍ، فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلِّها، فقال: "نعم، وأرجو أنْ تكون منهم". __________ (1) قوله: "فبدل الاشتمال" ليس في "ب". (2) البخاري رقم (3084)، ومسلم (1152)، واللفظ للبخاري. (3) في "ب": "حاتم" وهو خطأ. (4) أخرجه البخاري رقم (3466)، ومسلم رقم (1027)، واللفظ للبخاري.

(1/110)


وفي "صحيح مسلم" (1) : عن عمر بن الخطاب رضى اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما منكم من أحدٍ يتوضَّأ فَيُبلِغُ أو فَيُسْبِغُ الوضوءَ ثمَّ يقول: أشهدُ أنْ لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ (2) أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، إلَّا فُتِحَتْ لهُ أبوابُ الجنَّة الثمانية يدخلُ من أيِّها شاء". زاد الترمذي بعد التشهد: "الَّلهم اجعلني من التَّوابين واجعلني من المتطهرين" (3) . __________ (1) رقم (234). (2) قوله: "وحده لا شريك له، وأشهدُ" من رواية أخرى لحديث عمر عند مسلم رقم (234). (3) أخرجه الترمذي برقم (5). عن جعفر بن عمران الكوفي عن زيد بن الحُباب عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان عن عمر بن الخطاب فذكره. قال الترمذي: "حديث عمر قد خُولِف زيد بن حُباب في هذا الحديث، روى عبد اللَّه بن صالح وغيره عن معاوية بن صالح عن ربيعة عن أبي إدريس عن عقبة بن عامر عن عمر، وعن ربيعة بن أبي عثمان عن جُبَير بن نُفَيْر عن عمر. وهذا حديثٌ في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الباب كثير شيء". قلت: هذه الزيادة شاذَّةٌ، وهي وهمٌ من شيخ الترمذي جعفر بن عمران الكوفي "صدوق"، فقد خالفه أبو بكر بن أبي شيبة، والعباس بن محمد الدوري ومحمد بن علي بن حرب، وأسد بن موسى، وأبو بكر الجعفي، كلهم عن زيد بن الحباب به، ولم يذكروا هذه الزيادة: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (234)، والنسائي (1/ 92)، وابن خزيمة =

(1/111)


زاد أبو داود والإمام أحمد: "ثمَّ رفع نَظَرَهُ إلى السَّماءِ فقال. . . " (1) . وعند الإمام أحمد من رواية أنس يرفعه: "من توضأ فأحسنَ الوُضُوءَ، ثمَّ قال ثلاث مرات: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، فُتِحَ له ثمانيةُ أبواب الجنَّة من أيِّها شاءَ دخل" (2) . وعن عُتْبة بن عَبْدٍ (3) السُّلَمِي رضي اللَّهُ عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ما من مسلمٍ يُتوفَّى له ثلاثةٌ من الولد لم يبلغوا الحِنْثَ، إلَّا تلَقَّوه من أبواب الجنَّة الثمانية، من أيِّها شاء دخل". __________ = رقم (223)، وأبو عوانة في مستخرجه (605 و 607) وغيرهم. ورواه الليث بن سعد وابن وهب وعبد الرحمن بن مهدي كلهم عن معاوية ابن صالح عن ربيعة عن أبي إدريس عن عقبة بن عامر. ووقع في هذا الحديثِ اختلافٌ آخر، انظر تفصيله في شرح الترمذي لأحمد شاكر (1/ 79 - 83). (1) أخرجه أبو داود (170)، وأحمدُ في مسنده (4/ 150). من طريق أبي عقيل زُهرة بن مَعْبد عن ابن عمِّه عن عقبة بن عامر عن عمر فذكره. وسنده ضعيف، لجهالة ابن عم زهرة بن معبد، انظر: التقريب رقم (8510). (2) أخرجه أحمد في المسند (3/ 265)، وابن ماجه برقم (469) وغيرهما. من طريق زيد العمِّيِّ عن أنس بن مالك فذكره. قال البوصيري: "هذا إسنادٌ فيه زيد العمِّي، وهو ضعيف" انظر: "مصباح الزجاجة": (1/ 187). (3) وقع في "هـ": "عبد اللَّه" وهو خطأ.

(1/112)


رواه ابن ماجه، وعبد اللَّهِ بن أحمد عن ابن نُمَير، حدثنا إسحاق بن سليمان، حدثنا حَرِيْز بن عثمان، عن شُرَحبِيل بن شُفْعَة، عن عُتْبة (1) . __________ (1) أخرجه ابن ماجه رقم (1604)، وأحمد في المسند (4/ 183)، والطبراني في الكبير: (17/ 125) رقم (309) وغيرهم. قال البوصيري: "هذا إسنادٌ فيه شرحبيل بن شفعة ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو داود: "شيوخ حريز كلهم ثقات" قلتُ: وباقي رجال الإسناد على شرط البخاري". انظر: "مصباح الزجاجة": (1/ 530).

(1/113)


 الباب العاشر في ذكر سَعَةِ أبوابها

عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: "وُضِعتْ بين يدي رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَصْعةٌ من ثريد ولحم، فتناول الذراع -وكان أحبَّ الشاة إليه- فَنَهَسَ نَهْسة (1) وقال: أنا سيِّدُ النَّاسِ يوم القيامة"، ثمَّ نهس أخرى، وقال: "أنا سيدُ النَّاس يوم القيامة"، فلمَّا رأى أصحابه لا يسألونه قال: "ألا تقولون كيفَ؟ " قالوا: كيف يا رسول اللَّهِ؟ قال: "يقوم النَّاسُ لربِّ العالمين فيُسْمعهم الدَّاعي ويَنْفُذُهم البصرُ" فذكر حديث الشفاعة بطوله، وقال في آخره: "فأنطلقُ فآتي تحت (2) العرشِ، فأقع ساجدًا لربي، فيقيمني ربُّ العالمين مقامًا لم يقمه أحدًا قبلي، ولن يقيمه أحدًا بعدي، فأقول: يا ربِّ أمتي (3). فيقولُ: يا محمد أدخل من أمتك من لا حسابَ عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاءُ النَّاس فيما سوى ذلك من الأبواب، والَّذي نفسُ محمدٍ بيده إنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنَّة لَكَمَا بين مكة وهَجَر، أو هَجَر ومكة" (4). وفي لفظٍ: "لَكَمَا بين مكة وهَجَر، أو كما بين مكة وبُصْرى". __________ (1) من "أ، ب" ومصدري التخريج، وفي باقي النسخ "نهش نهشة"، و"نهش أخرى". (2) من "ج، د" ونسخةٍ على حاشية "أ". (3) في صحيح مسلم "أُمَّتي أُمَّتي". (4) أخرجه البخاري رقم (4435)، ومسلم رقم (194) - (328)، واللفظ له.

(1/114)


متفق على صِحَّته (1) . وفي لفظٍ خارج الصحيح بإسناده: "إنَّ ما بين عِضَادتي (2) الباب لَكَما بين مكة وهجر" (3) . وعن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان رضي اللَّهُ عنه فحمدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ثمَّ قال: أمَّا بعدُ، فإنَّ الدنيا قد آذنت بِصُرم، وولَّتْ حَذَّاء، ولم يبق منا إلَّا صبابة كصُبابة الإناء، يصطبُّها صاحبُها، وإنَّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، ولقد ذكر لنا: أنَّ مصراعين من مصاريع الجنَّة بينهما مسيرةُ أربعين سنة، وليأتينَّ عليه يومٌ وهو كظيظٌ من الزحام" (4) . فهذا موقوفٌ، والَّذي قبله مرفوع، فإنْ كان رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الذَّاكر لهم ذلك، كان هذا سَعَةُ ما بين بابٍ من أبوابها، ولعلَّه الباب الأعظم، وإنْ كان الذاكر لهم ذلك غير رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُقدَّم على حديث أبي هريرة المتقدِّم. ولكن قد روى الإمامُ أحمد في "مسنده" من حديث حماد بن سلمة قال: سمعت الجُرَيري يحدث عن حكيم بن __________ (1) عند مسلم (194) - (327)، وعند البخاري (4435) "كما بين مكَّة وحِمْيَر، أو: كما بين مكَّة وبُصْرى". (2) عِضَادتا الباب: هما خشبتان من جانبيه. انظر: الصحاح: (1/ 432). (3) في صحيح مسلم برقم (194) - (328) قريبٌ من هذا اللفظ. وفيه: ". . والَّذي نفس محمد بيده إنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنَّة إلى عضادتي الباب كما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة". (4) أخرجه مسلم برقم (2967).

(1/115)


معاوية عن أبيه أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أنتم تُوَفَّون سبعين (1) أُمَّة أنتم أخْيرُها (2) وأكرمها على اللَّه، وما بين مصراعين من مصاريع الجنَّة مسيرةُ أربعين عامًا، وليأتينَّ عليه يومٌ وإنَّه (3) لكظيظ" (4) . __________ (1) من قوله "عن حكيم" إلى "سبعين" سقط من "ج". (2) في "هـ": "خيرها" وهي في بعض مصادر التخريج، وفي أكثر مصادر التخريج "آخرها"، ولهذا علَّق ناسخ (أ) عليها بقوله "كذا". (3) وقع في "أ" "وهو كظيظ"، وفي باقي النسخ "وله كظيظ". (4) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 3) وعبد بن حميد رقم (411) "المنتخب". وقد خولف حماد بن سلمة. فرواه خالد بن عبد اللَّهِ الطحان -"من رواية إسحاق بن شاهين ووهب بن بقية عنه-، وعلي بن عاصم كلاهما عن الجريري به لكنَّهما قالا "مسيرة سبع سنين". أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (60) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني رقم (1475) وابن حبان في صحيحه (16/ 8388)، والروياني في مسنده (929)، والطبراني في "الكبير": (19/ 424) رقم (1032) وأبو الشيخ في العظمة رقم (577) وغيرهم. وقد رواه وهيب عن خالد عن الجريري به بلفظ "مسيرة أربعين عامًا". أخرجه أبو نعيم في "الحلية": (6/ 204 - 205). وهذا الحديثُ معدودٌ في غرائب سعيد الجريري، فقد قال أبو نعيم: "غريب عن الجريري، تفرَّد به عن حكيم". وقال علي بن عاصم: "فحدثتُ بهذين الحديثين -وسيأتي الحديث الآخر ص (384).- بهز بن حكيم، فقال: لم أسمعهما" "الكامل": (2/ 67). وأيضًا فقد وقع اختلاف عن حمَّاد بن سلمة في ذكر هذه الجملة "وما بين مصراعين. . " وعدم ذكرها. وأيضًا فقد روى هذا الحديث مطوَّلًا أبو قزعة وبهز بن حكيم عن حكيم به، فذكرا فيه الجملة الأولى "أنتم توفون. . . " فقط، ولم يذكرا "وما بين مصراعين. . . ". فاللَّهُ أعلمُ بثبوته.

(1/116)


وقد رواه ابن أبي داود: أنبأنا إسحاق بن شاهين، أنبأنا خالد، عن الجريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه يرفعه: "ما بين كلِّ مصراعين من مصاريع الجنَّة مسيرةُ (1) سبع سنين". ورُوِّيْنَا في "مسند عبد بن حميد": "ثنا الحسن بن موسى، ثنا ابن لهيعة، ثنا درَّاج أبو السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ ما بين مصراعين في الجنَّة لمسيرة أربعين سنة" (2) . وحديث أبي هريرة أصح، وهذه النسخة ضعيفة، واللَّهُ أعلمُ. وروى أبو الشيخ: ثنا جعفر بن أحمد بن فارس، ثنا يعقوب بن حُميد، ثنا معن، حدثنا خالد بن أبي بكر، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه رضي اللَّه عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "البابُ الَّذي يدخل منه أهل الجنَّة __________ (1) ليس في "أ". (2) أخرجه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب رقم (924)، وأحمد في المسند (3/ 29)، وأبو يعلى في مسنده برقم (1275)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (177) وغيرهم. قال الإمام أحمد: "أحاديث درَّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف" "الكامل": (3/ 112). لكن قال ابن معين عن هذا الإسناد: "ما كان هكذا بهذا الإسناد فليس به بأس، درَّاج ثقة، وأبو الهيثم ثقة". لكن تعقَّبه فضلك الرَّازي -فقد ذُكر له قول يحيى بن معين في درَّاج أنَّه ثقة- فقال فضلك: "ما هو بثقة ولا كرامة". انظر: "الكامل" لابن عدي: (3/ 113).

(1/117)


مسيرة الراكب المجود (1) ثلاثًا، ثمَّ إنَّهم ليضْطَغِطُونَ (2) عليه، حتى تكاد مناكبهم تزول". رواهُ أبو نعيم عنه (3) . وهذا مطابق للحديث المتفق عليه: "إنَّ ما بين المِصْراعَين كما بين مكة وبُصْرَى" (4) . فإنَّ الراكب المجوِّد (5) غاية الإجادة على أسرع مجرى لا يَفْتر ليلًا ولا نهارًا، يقطع هذه المسافة في هذا القَدْر أو قريب منه. وأمَّا حديث حكيم بن معاوية: فقد اضطرب رواته، فحمَّاد بن سلمة ذَكَر عن الجُرَيْري التَّقْدير بأربعين عامًا، وخالد ذكر عنه التقدير بسبع سنين، وحديث أبي سعيد المرفوع في التقدير بأربعين عامًا، من طريق (6) : درَّاج عن أبي الهَيْثَم. قال الإمام أحمد: "أحاديث درَّاج: مناكير" (7) ، وقال أبو حاتم الرَّازي: "ضعيف" (8) ، وقال النسائي: __________ (1) في "ب، د، هـ" "المُجِدّ". (2) في مصدر التخريج: "ليضغطون". (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة: (179)، والترمذي رقم (2548)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (259) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث غريب" سألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فلم يعرفه، وقال: لخالد بن أبي بكر مناكير عن سالم بن عبد اللَّهِ". وقال البغوي: "ضعيف منكر"، "مصابيح السنَّة": (2/ 160). (4) تقدم في أول هذا الباب ص (115). (5) علَّق ناسخ "أ" على هذه الكلمة بقوله "كذا". (6) في جميع النسخ "على طريقة" والصواب ما أثبتُّ. (7) في الجرح والتعديل: "درَّاج حديثه منكر". "الجرح": (3/ 442). (8) في الجرح والتعديل (3/ 442): "دراج في حديثه صنعة، قال أبو محمد: وكان =

(1/118)


"ليس بالقوي" (1) . فالصحيح المرفوع السَّالم عن الاضطراب والشُّذوذ والعلَّة حديث أبي هريرة المتفق على صحته، على أنَّ حديث حكيم بن معاوية ليس التقدير فيه بظاهر الرَّفع، ويحتمل أنَّه مدرج في الحديث موقوف، فيكون كحديث عُتبة بن غَزْوان، واللَّهُ أعلمُ. __________ = درَّاجًا قاصًّا. . ". (1) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (8/ 477 - 480).

(1/119)


 الباب الحادي عشر في صفة أبوابها وأنَّها ذاتُ حلَق

روى الوليد بن مسلم، عن خُلَيد، عن الحسن {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} [ص: 50] قال: أبوابٌ تُرى (1). وذكر أيضًا عن خُليد عن قتادة قال: "أبوابٌ يُرَى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، تتكلَّم وتُكَلَّم، وتَفْهم ما يُقال لها: انْفتحي انغلقي". وقال أبو الشيخ: ثنا محمد بن عبد اللَّه بن محمد القيسي، ثنا محمد ابن إسحاق، ثنا أحمد بن أبي الحواري، ثنا عبد اللَّه بن __________ (1) أخرجه ابن حبيب السلمي في وصف الفردوس رقم (18)، والطبري في تفسيره (16/ 102)، وأبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (172). من طريق داود بن رشيد وأسد بن موسى وعلي بن سهل عن الوليد بن مسلم به. رواه داود باللفظ الأوَّل الَّذي ساقه المؤلف، والآخران باللفظ الثاني. وخالفهم هشام بن عمَّار. فرواه عن الوليد عن خليد عن قتادة، كما ساقه المؤلف باللفظ الثاني. أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (173). ولعلَّ الصواب أنَّه عن الحسن البصري باللفظ الثاني. بدليل ما رواهُ ابن نفيل عن خُليد بن دعلج عن الحسن بنحو اللفظ الثاني. أخرجه الطبري: (23/ 174). والأثر مداره على خُليد وهو ضعيف، انظر: "تهذيب الكمال": (8/ 307 - 309).

(1/120)


غياث (1) ، عن الفزاري قال: "لكلِّ مؤمن في الجنَّة أربعة أبواب، فبابٌ يدخل عليه منه زُوَّارهُ من الملائكة، وباب يدخل عليه أزواجه من الحور العين، وباب مقفل فيما بينه وبين أهل النَّارِ، يفتحه إذا شاء ينظر إليهم لتعظم النعمة عليه، وباب فيما بينه وبين دار السلام، يدخل فيه على ربِّه إذا شاء" (2) . وقد روى سُهَيل بن أبي صالح عن زياد النُّميري (3) ، عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنا أوَّلُ من يأخذ بحلقة باب الجنَّة ولا فخر" (4) . وفي حديث الشفاعة الطويل: من رواية ابن عُيَيْنة عن عليِّ بن زيد عن أنس رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فآخذ بحلقة باب الجنَّة فأُقَعْقِعُها" (5) . __________ (1) كذا في جميع النسخ وعند أبي نعيم "عتاب" ولم أقف على هذا الرجل. (2) أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (174)، وهو مقطوع. والإسناد لم أقف على تراجم رجاله سوى أبي الشيخ الأصبهاني وأحمد بن أبي الحواري. (3) في "أ، ج": "المهدي"، وفي "ب، د، هـ" ونسخة على حاشية "أ" "البهري" وكلاهما خطأ. (4) أخرجه أبو يعلى في "مسنده": (7/ 281) رقم (4305)، وأبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (182). والحديث مداره على زياد النميري، ضعفه غير واحد. انظر: "تهذيب الكمال": (9/ 492 - 493). (5) أخرجه الحميدي في مسنده رقم (1204) والترمذي برقم (3148)، =

(1/121)


وهذا صريحٌ في أنَّها حلقة حِسِّية تُقَعْقَعُ وتُحَرَّك. وروى سُهَيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "آخذ حلقة باب الجنَّة فيؤذن لي" (1) . ويُذْكَرُ عن علي رضي اللَّه عنه: "من قال لا إله إلَّا اللَّه الملكُ الحقُّ المبين -في كلِّ يوم مئة مرَّة- كان له أمانٌ من الفقرِ، وأَمِنَ (2) من وحشة القبرِ، واستَجلب به الغِنَى، واستَقْرع به باب الجنَّة" (3) . __________ = والدارمي في "سننه" رقم (51). قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وقد صح عن أنس من وجهٍ آخر: رواه ثابت البناني وعمرو بن أبي عمرو عن أنس في حديث الشفاعة الطويل، وفيه: "فآتي باب الجنَّة، فآخذ بحلقة الباب، فاستفتح. . . " لفظ ثابت. أخرجه أحمد (3/ 144 و 247)، وأصله في مسلم رقم (197) من رواية ثابت. (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (184). وفيه عبد اللَّه بن جعفر المدني -والد علي بن المديني- وهو ضعيف، انظر: تهذيب الكمال (14/ 379 - 384). ولعلَّ هذا الحديث مما وَهِمَ فيه على سُهِيل بن أبي صالح. (2) في "أ، ج، د، هـ": "وأُوْمِن". (3) أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (185)، وفي "الحلية": (8/ 280)، والخطيب في "تاريخ بغداد": (12/ 453)، وابن عساكر في "معجم شيوخه" رقم (266). وهو حديث باطل، تفرَّد به غانم بن الفضل عن الإمام مالك، وغانم هذا قال فيه يحيى بن معين: "ضعيف ليس بشيء"، نظر: "تاريخ بغداد": (12/ 354).

(1/122)


فصل ولمَّا كانت الجِنَانُ درجات بعضها فوق بعض، كانت أبوابها كذلك، وباب الجنَّةَ العالية فوق باب الجنَّة التي تحتها، وكلَّما عَلَت الجنَّة اتَّسعت، فعاليها أوسعُ ممَّا دونه، وسَعَة الباب بحسب وسع الجنَّة، ولعلَّ هذا وجه الاختلاف الَّذي جاء في مسافة ما بين مِصْراعي الباب، فإنَّ أبوابها بعضها أعلى من بعض. ولهذه الأمة بابٌ مختص يدخلون منه دون سائر الأمم، كما في "المسند" من حديث ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بابُ أُمَّتي الَّذي يدخلون منه الجنَّة عرضه مسيرة الراكب ثلاثًا، ثمَّ إنَّهم لينْضغِطُون (1) عليه حتَّى تكاد مناكبهم تزول" (2). وفيه: من حديث أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتاني جبريلُ، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنَّة الَّذي تدخلُ منه أمَّتي" (3) __________ (1) في "أ، ج، هـ": "لَينْضغِطُون"، وفي "د": "ليضطغطون". (2) تقدم تخريجه (ص/ 117 - 118)، وهو لا يثبت. (3) أخرجه أبو داود برقم (4652)، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائده على فضائل الصحابة رقم (258 و 593) وابن شاهين في السنَّة رقم (96) وأبو نعيم في "فضائل الخلفاء الأربعة وغيرهم" رقم (30) وغيرهم. من طريق أبي خالد مولى جعدة عن أبي هريرة فذكره. وسنده ضعيف فيه أبو خالد مولى جعدة، قال الذهبي: "لا يُعرف". الميزان: (6/ 360) رقم (10148). تنبيه: جعل بعضهم هذا الحديث: عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة، وجعله بعضهم عن أبي حازم سليمان الأشجعي عن أبي هريرة =

(1/123)


الحديث. وسيأتي بتمامه إن شاءُ اللَّهُ تعالى (1) . وقال خَلَفَ بن هشام البزار: حدثنا أبو شهاب عن عمرو بن قيس المُلائي، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة عن علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عنه قال: "إنَّ أبواب الجنَّة هكذا بعضها فوق بعض، ثمَّ قرأ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] إذا هم عندها بشجرة في أصلها عينان تجريان، فيشربون من أحَدَيهما، فلا تترك في بطونهم قذًى ولا أذًى إلَّا رمَتْه، ويغتسلون من الأُخرى، فتجري عليهم نضرة النعيم، فلا تشعث رؤوسهم، ولا تغيرُ أبشارهم بعد هذا أبدًا، ثمَّ قرأ: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) } [الزمر: 73] فيدخل الرجل، وهو يعرف منزلته، ويتلقاهم الولدان، فيستبشرون برؤيتهم، كما يستبشر الأهلُ بالحميم يقدمُ من الغيبة، فينطلقون (2) إلى أزواجهم فيخبرونهم بمعاينتهم، فتقول: أنت رأيتَه؟ فتقوم إلى الباب، فيدخل إلى بيته، فيتكئ على سريره، فينظر إلى أساس بيته، فإذا هو قد أُسِّسَ على اللؤلؤ، ثمَّ ينظر في أخضر وأحمر وأصفر، ثمَّ يرفع رأسه إلى سَمْكِ (3) بيته، ولولا أنَّه خُلِقَ له لالْتَمعَ بصره، فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا __________ = وكلاهما خطأ، اضطرب فيه عمران بن ميسرة وخالفه جماعة من الثقات فرووه بالوجه المخرَّج وهو المشهور. (1) انظر: الباب (26) ص (229). (2) في "ب" "فيتطلَّعون". (3) كذا في جميع النسخ، وفي بعض مصادر التخريج "سقف".

(1/124)


لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] (1) . واللَّهُ أعلم. __________ (1) أخرجه المروزي في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1450)، وابن حبيب في "وصف الفردوس": (122 و 128)، وإسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب العالية رقم (4601) والطبري في تفسيره (24/ 35)، وأبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (280، 281) وغيرهم. وفيه عاصم بن ضمرة صدوق، وله مفاريد ومناكير عن علي، فإن كان حفظه هكذا، فهو ثابت عن علي. والحديث صححه الحافظ ابن حجر والبوصيري.

(1/125)


 الباب الثاني عشر في ذكر مسافة ما بين البابِ والباب

روِّيْنَا في "معجم الطبراني": حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري، وعبد اللَّه بن الصقر العسكري (1) قالا: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحِزَامي، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد اللَّهِ بن خالد بن حِزَام، حدثني (2) عبد الرحمن بن عيَّاش الأنصاري، حدثنا دَلْهَم بن الأسود بن عبد اللَّهِ بن حاجب بن المُنْتَفق. قال دلهم: وحدَّثنيه أيضًا أبو الأسود عن عاصم بن لَقِيط، أنَّ لقيط ابن عامر خرج وافدًا إلى رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: قلتُ يا رسول اللَّهِ فما الجنَّة والنَّار؟ قال: لعمر إلهك، إنَّ للنَّار سبعة أبواب ما منهنَّ بابان إلَّا يسير الرَّاكبُ بينهما سبعين عامًا، وإنَّ للجنَّة ثمانية أبواب، ما منهن بابان إلَّا يسير الراكب بينهما سبعين عامًا" وذكر الحديث بطوله (3). __________ (1) في "أ، ب، ج، د، هـ": "السكري"، وفي "ب، د": "الصقير" بدل "الصقر". وكلاهما خطأ. (2) سقط من "ب". (3) أخرجه الطبراني في الكبير (19/ 211 - 214) رقم (477) مطوَّلًا، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائده على المسند (4/ 13 - 14) مطوَّلًا، وابن أبي عاصم في السنَّة رقم (524) و (636) والبخاري في "تاريخه" (3/ 249 - 250) مختصرًا (في ترجمة دلهم). وابن خزيمة في التوحيد رقم (271) والدارقطني في الرؤية رقم (191). وفي سنده دلهم بن الأسود وعبد الرحمن بن عياش والأسود بن عبد اللَّه لم يوثقهم إلَّا ابن حبان في الثقات (4/ 32) و (6/ 291) و (7/ 71). =

(1/126)


وهذا الظاهر (1) منه أنَّ هذه المسافة بين الباب والباب؛ لأنَّ ما بين مكة وبُصْرَى لا يحتمل التقدير بـ "سبعين عامًا" ولا يمكن حمله على بابٍ معيَّن، لقوله: "ما منهنَّ بابان"، واللَّهُ أعلم. __________ = والحديث صححه الحاكم وابن القيم. وذكر ابن منده أنَّ هذا الحديث "لم ينكره أحد، ولم يتكلم في إسناده، بل رووه على سبيل القبول والتسليم. . " زاد المعاد (3/ 678). وقال ابن كثير: "هذا حديث غريب جدًّا، وألفاظه في بعضها نكارة". وقال ابن حجر في ترجمة عاصم بن لقيط: "وهو حديث غريب جدًّا". تهذيب التهذيب (2/ 260) ط: مؤسسة الرسالة. وقال ابن الملقن في مختصر استدراك الذهبي (7/ 3479): ". . . ولا ينبغي أن يدخل هذا في الصحاح لنكارته، وجهالة دلهم بن الأسود المذكور فيه". (1) سقط من "ب"، وجاء في "د": "والظاهر أنَّ هذه".

(1/127)


 الباب الثالث عشر في مكان الجنَّة وأين هي؟

قال اللَّهُ تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)} [النجم: 13 - 15]. وقد ثبت أنَّ سِدرة المُنتهى فوق السماء، وسميت بذلك؛ لأنَّهُ (1) ينتهي إليها ما ينزل من عند اللَّهِ فيُقْبَضُ منها، وما يَصْعَدُ إليه فيقبضُ منها (2). وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22]. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: "هو الجنَّة" (3). وكذلك تلقَّاهُ النَّاسُ عنه. وقد ذكر ابن المنذر في "تفسيره" وغيره أيضًا عن مجاهد قال: "هو الجنَّة والنَّار" (4). وهذا يحتاج إلى تفسير، فإنَّ النَّارَ في أسفل السافلين ليست في السماء، ومعنى هذا ما قاله في رواية ابن أبي نجيح عنه، وقاله أبو صالح عن ابن عباس: "الخيرُ والشر كلاهما يأتي من السماء" (5). __________ (1) في "ب": "لأنَّها". (2) قوله: "وما يصعد إليه فيقبض منها" سقط من "ج". (3) انظر: تفسير مجاهد ص (619)، والطبري (16/ 206)، وابن المنذر في تفسيره كما في الدر المنثور (6/ 137). (4) ذكره السمرقندي في تفسيره بحر العلوم (3/ 277). (5) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/ 34).

(1/128)


وعلى هذا المعنى أسباب الجنَّة والنَّار مُقدَّرٌ ثابتٌ في السماء من عند اللَّه. وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا عبد العزيز بن أبان، حدثنا مَهْدِي بن ميمون، حدثنا محمد بن عبد اللَّهِ بن أبي يعقوب، عن بِشْر بن شَغَاف قال: سمعت عبد اللَّه بن سلام يقول: "إنَّ أكرمَ خليقة اللَّه أبو القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنَّ الجنَّة في السماء" رواه أبو نعيم عنه (1) . وقال: ورواه معمر بن راشد، عن محمد بن أبي يعقوب مرفوعًا. ثمَّ ساقه من طريق ابن منيع، قال: حدَّثنا عمرو النَّاقِد حدثنا عمرو ابن عثمان، حدثنا موسى بن أعين، عن معمر به مرفوعًا (2) (3) . __________ (1) في صفة الجنَّة رقم (131)، والحارث ابن أبي أسامة في مسنده كما في المطالب العالية (3851). في سنده عبد العزيز بن أبان هو الأموي الكوفي، وهو متروك، وكذَّبه ابن معين وغيره، التقريب (4083). وقد توبع عبد العزيز تابعه: موسى بن إسماعيل التبوذكي وعفان ومحمد ابن كثير وخالد بن خداش كلهم عن مهدي بن ميمون به نحوه. أخرجه البخاري في تاريخه (2/ 76)، والحاكم في المستدرك (4/ 612) رقم (8698). وقال الحاكم "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه،. . . ". (2) من قوله: "ثمَّ ساقه من طريق ابن منيع" إلى "مرفوعًا" سقط من "ج"، وسقط من "ب" "مرفوعًا". (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (131). وفيه: عمرو بن عثمان الكلابي قال النسائي والأزدي: متروك، وقال =

(1/129)


ثمَّ ساقَ من طريق محمد بن فُضَيل، حدثنا محمد بن عبيد اللَّه عن عطية، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنَّه قال: "الجنَّة في السماء السابعة، ويجعلها اللَّهُ حيث شاء يوم القيامة، وجهنَّم في الأرض السابعة" (1) . وقال ابن منده: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا محمد بن عبد اللَّه، عن سلمة بن كُهيل عن أبي الزَّعْراء، عن عبد اللَّهِ قال: "الجنَّة فوق السَّماء الرَّابعة، فإذا كان يوم القيامة جعلها اللَّهُ حيث يشاء، والنَّار في الأرض السابعة (2) ، فإذا كان يوم القيامة جعلها اللَّهُ حيث يشاء" (3) . __________ = أبو حاتم: "يتكلمون فيه، كان شيخًا أعمى بالرقة يحدث النَّاس من حفظه بأحاديث منكرة لا يصيبونه في كتابه". انظر: تهذيب الكمال (22/ 148 - 149). وأيضًا فقد رواهُ ابن المبارك في الزهد (398) عن معمر عمَّن سمع محمد ابن عبد اللَّهِ بن أبي يعقوب بنحوه. والصحيح أنه موقوف. (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (132). وسنده ضعيف جدًّا، فيه محمد بن عبيد اللَّه بن أبي سليمان العَرْزَمي، قال الحاكم في المدخل: "متروك الحديث بلا خلاف أعرفه بين أئمة النقل فيه" تهذيب التهذيب (3/ 638). (2) في "هـ" وحاشية "أ" "السفلى"، وأيضًا (الزبعرى) بدل (الزعراء). (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (134)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (500)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (600). وفيه أبو الزَّعْراء، واسمه عبد اللَّهِ بن هانئ، قال البخاري: "ولا يتابع في حديثه عن ابن مسعود في الشفاعة". ووثقه ابن سعد والعجلي وابن حبان. انظر: الضعفاء الكبير للعقيلي (3/ 314)، وتهذيب التهذيب (2/ 448).

(1/130)


وقال مجاهد: "قلت لابن عباس أين الجنَّة؟ قال: فوق سبع سماوات، قلتُ: فأين النَّار؟ قال: تحت سبعة أبْحرٍ مطبِقة" (1) . رواه ابن منده، عن أحمد بن إسحاق عن الزبيري عن إسرائيل عن أبي يحيى، عن مجاهد. وأمَّا الأثرُ الَّذي رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن مَعْدان، عن عبد اللَّهِ بن عمرو، قال: "الجنَّة مطوية معلقة بقرون الشمس تنشر في كلِّ عامٍ مرَّة، وإنَّ أرواح المؤمنين في طير كالزرازير (2) يتعارفون يرزقون من ثمر الجنَّة" (3) . فهذا قد يظهر منه التناقض بين أوَّل كلامه وآخره، ولا تناقض فيه؛ فإنَّ الجنَّة المعلقة بقرون الشمس ما يحدثه اللَّهُ سبحانه بالشمس في كلِّ سنة مرَّة من أنواع الثمار والفواكه، والنبات (4) جعله اللَّهُ تعالى مذكرًا بتلك الجنَّة، وآية دالَّة عليها، كما جعل هذه النَّار مذكرة بتلك؛ وإلَّا فالجنَّة التي عرضها السماوات والأرضِ ليست معلَّقة بقرون الشمس، __________ (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (135). وفيه: أبو يحيى القتَّات: ليِّن الحديث، انظر: التقريب (8444). (2) الزرازير: جمع زَرْزور: وهو طائر، انظر: الصحاح (1/ 548). (3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 56) رقم (33967)، وأبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (133) والبيهقي في "البعث والنشور" رقم (228) وغيرهم. قال الجورقاني في "الأباطيل": (1/ 320 - 321): "هذا حديثٌ باطل،. . وخالد بن معدان لم يسمع من ابن عمرو شيئًا". (4) في "ب": "والثمار".

(1/131)


وهي فوق الشمس وأكبر منها. وقد ثبت في "الصحيحين" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّ الجنَّة مئة درجة ما بين كلِّ درجتين كما بين السماء والأرضِ" (1) . وهذا يدلُّ على أنَّها في غاية العلوِّ والارتفاع، واللَّهُ أعلم. والحديث له لفْظان هذا أحدهما. والثاني: "إنَّ في الجنَّة مئة درجة ما بين كلِّ درجتين كما بينَ السماء والأرضِ أعدَّها اللَّهُ للمجاهدين في سبيله". وشيخنا يرجح هذا اللفظ (2) ، وهو لا ينفي أنْ يكون دَرجَ الجنَّة أكثر __________ (1) لم أقف عليه في الصحيح بهذا اللفظ. وإنَّما ورد بهذا اللفظ من حديث عبادة بن الصامت عند الترمذي: (2531) وأحمد (5/ 316 و 321)، والطبري في تفسيره (16/ 37) وعبد بن حميد المنتخب رقم (182) وأبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (225) وغيرهم. من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة. وهي رواية معلولة فقد وقع في الحديث اختلاف في سنده ومتنه وسيأتي. (2) بيان ذلك على وجه الاختصار: أنَّ الحديث يرويه عطاء بن يسار واختلف عليه: 1 - فرواه زيد بن أسلم عن عطاء واختلف عليه: - فرواهُ الدراوردي وهشام بن سعد وحفص بن ميسرة ومحمد بن جعفر ابن أبي كثير كلهم عن زيد بن أسلم عن عطاء عن معاذ بن جبل فذكره. ولفظه فيه: ". . . فإنَّ الجنَّة مائة درجة بين كل درجتين منها مثل ما بين السماء والأرض. . . ". أخرجه أحمدُ (5/ 241) والطبراني (20/ رقم 327 - 329) وابن ماجه (4331) وغيرهم. =

(1/132)


من ذلك، ونظير هذا قوله في الحديث الصحيح: "إنَّ للَّه تسعةً وتسعين اسمًا، مَنْ أَحْصاها دَخَلَ الجنَّة" (1) . __________ = - وخالفهم همام بن يحيي العَوْذي. فرواه عن زيد عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت فذكره باللفظ الأوَّل تقدم تخريجه. ورجَّح الترمذي رواية الجماعة فقال: "وهذا عندي أصح من حديث همام. . .، وعطاء لم يدرك معاذ بن جبل. . ". 2 و 3 - ورواه هلال بن علي المدني ومحمد بن جُحادة: فقالا: عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. فذكره هلال باللفظ الثاني الَّذي ذكره المؤلف، وذكره ابن جُحادة باللفظ الأوَّل مختصرًا. ولفظ هلال: هو الصواب؛ لأنَّه مدني، ولم يختلف عليه لفظًا ولا معنًى، وإليه ذهب البخاري وشيخ الإسلام ابن تيمية. فقد أخرجه البخاري في صحيحه (60) الجهاد، (4)، باب: درجات المجاهدين في سبيل اللَّهِ. (3/ 1028) رقم (2637). وأحمد في المسند (2/ 292)، والترمذي (2528) وقال: "حسن غريب". وأيضًا فقد جاء هذا اللفظ الثاني من حديث أبي الدرداء: عند النسائي (6/ 20)، والبخاري في تاريخه (1/ 203)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (55/ 66). وفيه محمد بن عيسى الشامي، وثَّقه ابن شاهين، وقال ابن عدي: "لا بأس به. .، وهو حسن الحديث. . . ". وقال أبو أحمد الحاكم وابن حبان: مستقيم الحديث. وقال أبو حاتم الرَّازي: "لا يكتب حديثه ولا يحتج به". انظر: تهذيب الكمال (26/ 254 - 258). فالسند لا بأس به، واللَّهُ أعلم. (1) أخرجه البخاري برقم (6957)، ومسلم برقم (2677) من حديث أبي هريرة =

(1/133)


أي من جملة أسمائه هذا العَدَد، فيكون الكلام جملة واحدة في الموضعين. ويدل على صحة هذا أنَّ منزلة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- فوق هذا كلِّه، في درجةٍ في الجنَّة ليس فوقها درجة، وتلك المئة ينالها آحاد أُمَّته بالجهاد، والجنَّة مُقَبَّبة أعلاها أوسعها، ووسطها: هو الفردوس، وسقفه العرش، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "إذا سألتمُ اللَّه فاسألوه الفِرْدَوس، فإنَّه وسَطُ الجنَّة وأعلى الجنَّة (1) ، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنَّة" (2) . قال شيخنا أبو الحجاج المزِّي: "والصواب رواية من رواه "وفوقُه" بِضَمِّ القاف على أنَّه اسمٌ لا ظرف، أي: وسقفه عرش الرحمن" (3) . فإنْ قيل: فالجنَّة جميعها تحت (4) العرشِ، والعرش سقفها، فإنَّ الكرسي وَسِعَ السماوات والأرضِ، والعرش أكبر منه. قيل: لما كان العرش أقرب إلى الفردوس ممَّا دونه من الجنان، __________ = رضي اللَّهُ عنه. (1) قوله: "وأعلى الجنَّة" سقط من "أ". (2) هو تتمة لحديث أبي هريرة المتقدم: "إنَّ في الجنَّة مائة درجةٍ. . ". وهذا اللفظ عند البخاري في صحيحه رقم (2987). (3) راجع فتح الباري (13/ 414). (4) في "أ، ج، هـ": "غير".

(1/134)


بحيث لا جنَّة فوقه دون العرشِ (1) = كان سقفًا له (2) دون ما تحته من الجنان، ولعظم سعة الجنَّة (3) وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدناها إلى أعلاها بالتدريج شيئًا فشيئًا، درجة فوق درجة، كما يقال لقارئ القرآن: "اقرأ وارقَ، فإنَّ منزلتك عند آخر آية تَقْرؤها" (4) . وهذا يحتمل شيئين: أن تكون منزلته عند آخر حِفْظه، وأنْ تكون عند آخر تلاوته لمحفوظه، واللَّهُ أعلم. __________ (1) من قوله: "أقرب إلى" إلى "عرش" سقط من "ج". (2) ليس في "أ" فقط. (3) في "أ" "الجنان". (4) أخرجه الترمذي رقم (2914)، وأبو داود رقم (1464)، وأحمد (2/ 192)، وابن حبان (3/ 766)، والحاكم (1/ 739) رقم (2030)، وغيرهم. من طريق عاصم بن أبي النجود عن زرِّ بن حُبَيش عن عبد اللَّه بن عمرو فذكره. قال الترمذي: "حسن صحيح". والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. وله شواهد: عن أبي هريرة، وأبي سعيد وعائشة موقوفًا عليها بمعناه. انظر: فضائل القرآن لأبي عبيد (ص/ 37 - 38)، وأخلاق أهل القران للآجري (ص/ 48 - 51).

(1/135)


 الباب الرابع عشر في مفتاح الجنَّة

قال الحسن بن عرفة: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل رضي اللَّهُ عنه قال: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مفتاح الجنَّة شهادةُ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ" (1). رواه الإمام أحمد في "مسنده" ولفظه: "مفاتيح (2) الجنَّة شهادةُ أن لا إله إلَّا اللَّه" (3). __________ (1) أخرجه الطبراني في الدعاء (3/ 1479)، وابن عدي في الكامل (4/ 38 - 39). من طريق إبراهيم بن العلاء الزبيدي ويحيى الحمَّاني كلاهما عن إسماعيل بن عيَّاش به مثله. (2) من "ب" وفي باقي النسخ "مفتاح"، والمثبت هو الصواب، كما في المسند. (3) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 242)، والبزار في مسنده (7/ 104) رقم (2660)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (189). من طريق إبراهيم بن مهدي ومحمد بن سلام البيكندي ومحمد بن إسماعيل بن عياش كلهم عن إسماعيل بن عياش به مثله. قلت: وهذا الاختلاف في المتن "مفتاح" "مفاتيح" من اضطراب إسماعيل ابن عياش وهو يرجع إلى ضعف روايته عن غير أهل الشام، وهذا منها، فإنَّ عبد اللَّه بن عبد الرحمن هذا مكِّي. قال البزار: "شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ بن جبل رضي اللَّهُ عنه". وكذا أعلَّهُ بالانقطاع الهيثمي وابن رجب. انظر: مجمع الزوائد (1/ 16)، وكلمة الإخلاص لابن رجب ص (16).

(1/136)


وذكر البخاري في "صحيحه" عن وهب بن منبه أنَّه قيل له: أليس مفتاح الجنَّة (1) لا إله إلَّا اللَّه؟ قال: بلى، ولكن ليس من مفتاح إلَّا وله أسنانٌ، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فُتِحَ لك، وإلَّا لم يفتح (2) . وروى أبو نعيم من حديث أبان عن أنس رضي اللَّهُ عنه قال: قال أعرابي يا رسول اللَّهِ، ما مفاتيح (3) الجنَّة؟ قال: "لا إله إلَّا اللَّه" (4) . وذكر أبو الشيخ من حديث الأعمش عن مجاهد عن يزيد بن شجرة (5) قال: "إنَّ السيوف مفاتيح الجنَّة" (6) . __________ (1) في "ج" بعد الجنَّة "شهادة ألَّا إله إلَّا اللَّهُ". (2) ذكره البخاري في "29" الجنائز، (1) باب: في الجنائز، ومن كان آخر كلامه: لا إله إلَّا اللَّه (1/ 417)، بلفظ: وقيل لوهب بن منبه. ووصله في تاريخه الكبير (1/ 95)، وأبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (191) وغيرهما. (3) في "هـ": "مفتاح". (4) أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (190). وفيه أبان بن أبي عياش البصري: وهو متروك الحديث، انظر: التقريب (142). (5) من "هـ" ونسخة على حاشية "أ"، وفي باقي النسخ "سخبرة" وهو خطأ. (6) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (192). وهو موقوف، ويزيد بن شجرة مختلف في صحبته، والصحيح ليست له صحبة كما قال أبو زرعة وابن منده وغيرهما. انظر: الجرح والتعديل (9/ 271)، وتاريخ دمشق (65/ 226). وقد رُوِيَ هذا الحديث مرفوعًا عند أبي بكر الشافعي في الغيلانيات رقم (637)، وابن عساكر في تاريخه (65/ 220). ولا يثبت، فيه محمد بن يونس الكديمي، وهو متَّهم بالكذب. انظر: =

(1/137)


وفي "المسند" من حديث معاذ بن جبل رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ: "ألَا أدلُّكَ على بابِ من أبواب الجنَّة؟ قلتُ: بلى، قال: "لَا حولَ ولا قوَّة إلَّا باللَّهِ" (1) . وقد جعل اللَّهُ سبحانه لكلِّ مطلوب مفتاحًا يفتح به، فجعل مفتاح الصلاة: الطهور، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مفتاح الصلاةِ: الطُّهور (2) " (3) ، __________ = تهذيب الكمال (27/ 66). قال ابن حجر: "الكُديمي ضعيف، والمحفوظ عن الأعمش موقوفًا"، الإصابة (6/ 343). (1) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 228)، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (357)، وعبد بن حميد في مسنده المنتخب رقم (128) وغيرهم. من طريق أبي رزين مسعود بن مالك الأسدي عن معاذ فذكره. وأبو رزين لم يسمع من معاذ، فقد كان شعبة ينكر أن يكون سمع من ابن مسعود شيئًا، وابن مسعود توفي سنة 32 هـ، ومعاذ توفي سنة 18 هـ. وأيضًا الحديث من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، وقد قيلَ سمع حماد من عطاء قبل اختلاطه وبعده. انظر: تهذيب الكمال (27/ 479)، والكواكب النيرات ص (324 - 335). (2) قوله: "مفتاح الصلاة الطهور" سقط من "ب". (3) أخرجه الترمذي رقم (3)، وأبو داود رقم (61)، وابن ماجة رقم (275)، وأحمد (1/ 129) وغيرهم. من طريق عبد اللَّهِ بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي فذكره مرفوعًا. والحديث فيه ابن عقيل وفيه لين، والحديث عدَّه ابن عدي في الكامل (4/ 129) من منكراته. قال الترمذي: "هذا الحديث أصح شيءٍ في هذا الباب وأحسن". والحديث جاء عن غير واحدٍ من الصحابة ولا يثبت عنهم، والثابت عن =

(1/138)


ومفتاح الحج: الإحرام، ومفتاح البِرِّ: الصدق، ومفتاح الجنَّة: التوحيد، ومفتاح (1) العلم: حسن السؤال وحسن الإصغاء، ومفتاح النصر والظفر: الصبر، ومفتاح المزيد: الشكر، ومفتاح الولاية والمحبة: الذكر (2) ، ومفتاح الفلاح: التقوى، ومفتاح التوفيق: الرغبة والرهبة، ومفتاح الإجابة: الدعاء، ومفتاح الرغبة في الآخرة: الزهد في الدنيا، ومفتاح الإيمان: التفكر فيما دعا اللَّه عباده إلى التفكر فيه، ومفتاح الدخول على اللَّهِ: إسلام القلب وسلامته له والإخلاص له في الحُبِّ والبغض والفعل والتَّرك، ومفتاح حياة القلب: تدبر القرآن، والتضرع بالأسحارِ، وترك الذنوب، ومفتاح حصول الرحمة: الإحسان في عبادة الخالق، والسَّعي في نفع عبيده، ومفتاح الرزق: السعي مع الاستغفار والتقوى، ومفتاح العِزِّ: طاعة اللَّهِ ورسوله، ومفتاح الاستعداد للآخرة: قِصَرُ الأملِ، ومفتاح كلِّ خيرٍ: الرغبة في اللَّهِ والدار الآخرة، ومفتاح كلِّ شرٍّ: حُب الدنيا، وطول الأمل. وهذا بابٌ عظيم من أنفع أبواب العلمِ، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر، لا يُوَفَّق لمعرفته ومراعاته إلَّا من عَظُمَ حظه وتوفيقه، فإنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جعل لكلِّ خير وشرٍّ مفتاحًا وبابًا يُدْخَل منه إليه، كما __________ = ابن مسعود موقوفًا. انظر: الصيام من شرح العمدة لابن تيمية (2/ 633 - 635). (1) من قوله: "الطهور" إلى "التوحيد ومفتاح" سقط من "ج". (2) في "د": "المحبَّة للذكر" وقوَّمها الناسخ إلى "والمحبة".

(1/139)


جعل الشرك والكبر والإعراض عمَّا بعث اللَّهُ به رسوله، والغفلة عن ذكره والقيام بحقه = مفتاحًا للنَّار، وكما جعل الخمر: مفتاح كلِّ إثمٍ، وجعل الغناء: مفتاح الزنا، وجعل إطلاق النظر في الصُّوَرِ: مفتاح الطلَب والعِشْق، وجعل الكسل والراحة: مفتاح الخيبة والحرمان، وجعل المعاصي: مفتاح الكفر، وجعل الكذب: مفتاح النِّفاق، وجعل الشح والحرص: مفتاح البخل وقطيعة الرحم، وأخذ المال من غير حِلِّهِ، وجعل الإعراض عمَّا جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: مفتاح كل بدعة وضلالة. وهذه الأمور لا يصدِّق بها إلَّا من له بصيرة صحيحة، وعقلٌ يعرف به ما في نفسه، وما في الوجود من الخير والشرِّ، فينبغي للعبد أن يعتني كل الاعتناء بمعرفة المفاتيح، وما جُعِلَت مفاتيح له، واللَّهُ من وراء توفيقه وعدله، له الملك وله الحمدُ، وله النعمة والفضل (1) ، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ" "وله الفضل".

(1/140)


 الباب الخامس عشر في توقيع الجنَّة، ومنشورها الَّذي يُوَقَّعُ به لأصحابها بعد الموت، وعند دخولها

قال اللَّهُ تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)} [المطففين: 18 - 21]. فأخبر تعالى أنَّ كتابهم كتابٌ مرقوم، تحقيقًا لكونه مكتوبًا كتابة (1) حَقِيقية، وخصَّ تعالى كتاب الأبرار بأنَّه يكتب ويوقع لهم به بمشهد المقرَّبين من الملائكة والنَّبيين وسادات المؤمنين، ولم يذكر شهادة هؤلاء لكتاب (2) الفجار = تنويهًا بكتاب الأبرار، وما وقع لهم به، وإشهارًا له (3)، وإظهارًا بين خواصِّ خلقه، كما تكتب الملوك تواقيع من تعظمه بين الأمراء، وخواص أهل المملكة تنويهًا باسم المكتوب له (4)، وإشادةً بذكره، وهذا نوعٌ من صلاة اللَّه سبحانه وتعالى، وملائكته على عبده. وروى الإمام أحمد في "مسنده"، وابن حبان، وأبو عوانة الإسفرايني في "صحيحيهما" من حديث المنهال، عن زاذان عن البراء ابن عازب رضي اللَّهُ عنه قال: خرجنا مع رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- __________ (1) في "ج": "كأنَّه". (2) في "ج": "الكتاب" وهو خطأ. (3) في "ج": "وإشهادًا له". (4) ليس في "ب".

(1/141)


إلى (1) جنازةٍ، فجلس رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على القبرِ وجلسنا حوله كأنَّ على رؤوسنا الطير، وهو يُلْحَد له (2) ، فقال: "أعوذ باللَّه من عذاب القبر ثلاثَ مرَّاتٍ، ثمَّ قال: إنَّ المؤمن إذا كان في إقبالٍ من الآخرة وانقطاع من الدنيا؛ تنزلت إليه الملائكة كأنَّ على وجوههم الشمس مع كلِّ واحدٍ منهم كفن وحنوط (3) ، فجلسوا منه مدَّ بصره، ثمَّ يجيء ملك الموت حتَّى يجلسَ عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرةٍ من اللَّهِ ورضوان، قال: فتخرج تسيلُ كما تسيلُ القطرة مِنْ فِيِّ (4) السِّقاءِ فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عينٍ حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسكٍ وُجدَت على وجه الأرضِ، قال: فيصعدون بها فلا يمرون بها -يعني (5) عَلى ملأٍ من الملائكة- إلَّا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان. بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيُفتح لهم، ويُشَيِّعه من كلِّ سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها؛ حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللَّهُ عزَّ وجل (6) ، فيقول اللَّهُ عزَّ وجل: اكتبوا __________ (1) في "ب": "في"، وقد وردت في بعض الروايات. (2) ليس في "ب". (3) الحنوط: هو ما يُخْلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصَّة. النهاية (1/ 450). (4) ليس في "ب". (5) ليس في "أ". (6) قوله: "إلى السماء التي فيها اللَّهُ" كذا في جميع النُّسَخ، ولم أقف عليها.

(1/142)


كتاب عبدي في علِّيين، وأعيدوه إلى الأرضِ، فإنِّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارةً أخرى، قال: فتعادُ روحُه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربُّكَ؟ فيقول: ربِّي اللَّه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الَّذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول اللَّهِ، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأتُ كتابَ اللَّهِ فآمنت به وصدَّقت، قال: فينادي منادٍ من السمَّاء: أنْ صَدقَ عبدي فأفرشوه من الجنَّة، وألبسوه من الجنَّة (1) ، وافتحوا له بابًا إلى الجنَّة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويُفسحُ له في قبره مدَّ بَصَرِهِ، قال: ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجه حسن الثياب طيبُ الريح، فيقولُ: أبشر بالَّذي يسرُّك هذا يومك الَّذي كنتَ تُوْعد، فيقول له (2) : من أنتَ فوجهك الوجه الَّذي (3) يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقولُ: ربِّ أقم السَّاعة، ربِّ أقم السَّاعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإنَّ العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة (4) ، نَزَلَ إليه من السماء ملائكةٌ سودُ الوجوه معهم المُسُوْحُ (5) __________ (1) قوله: "وألبسوه من الجنَّة" سقط من "ج". (2) ليس في "ب". (3) من المطبوعة. (4) في "ج": "انقطاع من الآخرة، وإقبال من الدنيا" وهو خطأٌ ظاهر. (5) المسوح: جمع كثرة، واحدُهُ: مِسْح، وهو الكساءُ من الشعر، وجمع القِلَّة: أَمْسَاح. انظر: لسان العرب (2/ 596).

(1/143)


فيجلسون منه مدَّ البصرِ (1) ، ثمَّ يجيءُ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، أخرجي إلى سخطٍ من اللَّهِ وغضب، قال: فتفرَّق في جسده فينتزعها كما ينتزعُ السَّفُّود (2) من الصُّوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عينٍ حتى يجعلوها في تلك المسوح، وتخرج منها كأنتن ريح جيفةٍ وجدت على وجه الأرضِ، فيصعدون بها فلا يَمرون بها على ملأٍ من الملائكة إلَّا قالوا: ما هذا الروح الخبيث (3) ، فيقولون: فلانُ ابن فلان. بأقبح أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى سماء الدنيا (4) فيستفتح (5) فلا يفتح له، ثمَّ قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. فيقول اللَّه عزَّ وجل: اكتبوا كتاب عبدي في سِجِّينٍ في الأرضِ السفلى. وتُطرَح رُوحُهُ طَرحًا، ثمَّ قرأ رسول اللَّه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) } [الحج: 31]، فتعاد روحُهُ في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الَّذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء، أن كذب عبدي (6) فأَفرشوه __________ (1) في "ب، د"، ونسخةٍ على حاشية "أ" (بَصَرِهِ). (2) السَّفُّود: الحديدة التي يشوي بها اللحم. انظر: الصحاح (1/ 417). (3) في "ب، هـ": "الخبيثة". (4) قوله "حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا" سقط "ب". (5) في نسخة على حاشية "أ" "فيستفتح له". (6) ليس في "ب، ج، د".

(1/144)


من النار وافتحوا له بابًا إلى النَّار، فيأتيه من حرِّها وسمومها، ويُضَيَّقُ عليه قبرُهُ حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه، قبيحُ الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالَّذي يسوؤك، هذا يومك الَّذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الَّذي (1) يجيء بالشر؟ فيقول أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِّ لا تُقِمِ السَّاعة" (2). ورواه أبو داود بطوله بنحوه، فهذا التوقيع، والمنشور الأوَّل. فصل وأمَّا المنشور الثاني: فقال الطبراني في "معجمه": حدثنا إسحاق ابن إبراهيم الدَّبري، عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عطاء بن يسار عن سلمان الفارسي رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يدخل الجنَّة أحدٌ إلَّا بجوازٍ: بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من اللَّه لفلان بن فلانٍ أَدْخلوهُ جنة عاليةً قطوفها دانية" (3). __________ (1) من المطبوعة. (2) تقدم الكلام عليه ص (34). (3) أخرجه الطبراني في الكبير (6/ 272) رقم (6191) وفي الأوسط (2/ 192) رقم (2987)، والبيهقي في البعث (273)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/ 208) و (7/ 98) وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 928) رقم (1547). قال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عن رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أمَّا الطريقُ الأوَّل: ففيه عبد الرحمن بن زياد، قال أحمد بن حنبل: نحن لا نروي عن عبد الرحمن. . . ".

(1/145)


وأخبرنا سليمان بن حمزة الحاكم، أنبأنا محمد بن عبد الواحد المقدسي، أنبأنا زاهر الثقفي أنَّ عبد السلام بن محمد بن عبد اللَّهِ أخبرهم، أنبأنا المطهر بن عبد الواحد البُزاني (1) ، حدثنا محمد بن إسحاق بن منده أنبأنا محمد بن علي البلخي، حدثنا محمد بن خُشَام (2) ، حدثنا العباس بن زياد -ثقة-، حدثنا سَعْدان بن سعد، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يُعْطى المؤمن جوازًا على الصِّراط: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من اللَّهِ العزيز الحكيم، لفلانِ بن فلانِ (3) ، أدخلوه جنَّةً عاليةً، قُطوفها دانية" (4) . قلتُ: وقع المؤمن في قبضة أصحاب اليمين يوم القبضتين، ثمَّ كُتِبَ من أهل الجنَّة يوم نفخ الروح فيه، ثمَّ يُكتب في ديوان أهل الجنَّة يوم موته (5) ، ثمَّ يُعْطى هذا المنشور يوم القيامة، فاللَّهُ المستعان. __________ (1) في "أ، ب، ج، د": "البزاقي"، وفي "هـ": "البراقي" وكلاهما خطأ. انظر: تكملة الإكمال لابن نقطة (1/ 489) رقم (849). (2) في "ب، ج، د": "خشنام" وهو خطأ. (3) قوله: "ابن فلان" من "ج" فقط. (4) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (11/ 318)، والدَّارقطني في الأفراد كما في أطراف الغرائب (3/ رقم 2232)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 928) رقم (1548) وغيرهم. قال الدارقطني: "تفرَّد به سعدان عن التيمي"، قال ابن الجوزي: "سعدان مجهول، وكذلك محمد بن خشام". (5) قوله: "يوم موته" سقط من "ب".

(1/146)


 الباب السادس عشر في توحُّد طريق الجنَّة وأنَّه (1) ليس لها إلَّا طريق واحد

هذا ممَّا اتفقت عليه الرسل من أوَّلهم إلى خاتمهم صلوات اللَّه وسلامه عليهم. وأمَّا طرق الجحيم: فأكثر من أن تُحْصى، ولهذا يُوَحِّد اللَّه سبحانه سبيله، ويجمع سبل النَّار كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا [46/ ب] السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وقال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9]. أي: ومن السُّبُل جائر (2) عن القصد وهي: سُبُل (3) الغي، وقال: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41]. وقال ابن مسعود: خَطَّ لنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خطًّا، وقال: "هذا سبيل اللَّهِ، ثمَّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن يساره، ثمَّ قال: هذه سُبُلٌ على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه" ثمَّ قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الآية [الأنعام: 153] (4). __________ (1) في "ب": "وأنها". (2) قوله: "أي: ومن السبل جائر" سقط من "ب، د"، ووقع في "ج": "السبيل" بدلًا من "السُّبل". (3) في "ب، د" "سبيل". (4) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 435)، والمروزي في "السنة" رقم (11)، وابن حبان في صحيحه رقم (6) و (7)، والحاكم في المستدرك (2/ 348 - 349) رقم (3241) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن ابن مسعود، فذكره. =

(1/147)


فإِنْ قيل: فقد قال اللَّه تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15 - 16] قيل: هي سُبُل تجتمع في سبيلٍ واحدٍ، وهي بمنزلة الجوادِّ (1) والطرق في الطريق الأعظم، فهذه هي شعب الإيمان يجمعها الإيمان، وهي شعبة، كما يجمع ساق الشجرة أغصانها وشعبها، وهذه السبل هي إجابة داعي اللَّهِ بتصديق خبره، وطاعة أمره، فطريق الجنَّة هي إجابة الدَّاعي إليها ليس إلَّا. وروى البخاري في "صحيحه" (2) عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: "جاءت ملائكة إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال بعضهم: إنَّه نائمٌ، وقال بعضهم: إنَّ (3) العين نائمةٌ والقلبُ يقظان، فقالوا: إنَّ لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا فقالوا: مثله مثل رجلٍ بنى دارًا وجعل فيها مأدُبةً وبعث داعيًا، فمن أجاب الدَّاعي دخل الدَّار وأكلَ من المأدبة، ومن لم يجب __________ = ورواه الأعمشُ ومنصور بن المعتمر عن أبي وائل به (رفعه: الأَعمش، وأوقفه: منصور). انظر: مسند البزار (5/ 1677 و 1694). ورواه الربيع بن خثيم عن ابن مسعود بمعناه. أخرجه البخاري في "صحيحه" في (84) الرقاق (5/ 2359) رقم (6054) وغيره. (1) الجوادُّ: جمع جادَّه وهو معظم الطريق، الصحاح (1/ 389). (2) أخرجه البخاري رقم (6852) من طريق سليم بن حيَّان عن سعيد بن مِيْنَاء عن جابر بن عبد اللَّه فذكره. (3) من صحيح البخاري و"ب".

(1/148)


الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أوَّلُوها له (1) يفْقهْهَا فقال بعضهم: إنَّ العين نائمة والقلب يقظان، فالدَّارُ: الجنَّة، والدَّاعي: محمدٌ، فمن أطاع محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد أطاع اللَّه، ومن عصى محمدًا فقد عصى اللَّه، ومحمد فَرْقٌ (2) بين النَّاس". ورواه الترمذي عنه ولفظه: خرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا فقال: "إنِّي رأيت في المنام: كأنَّ جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلًا، فقال: اسمَع سمِعتْ أذنك، واعقِلْ عَقَلَ قلبُك، إنَّما مثلُكَ ومثلُ أمَّتك كمثل ملكٍ اتخذ دارًا، ثمَّ بنى فيها بيتًا، ثمَّ جعل مائدةً، ثمَّ بعث رسولًا يدعو النَّاس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فاللَّهُ هو الملكُ، والدَّارُ الإسلامُ، والبيتُ الجنَّة، وأنت يا محمد رسولٌ، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنَّة، ومن دخل الجنَّة (3) أكل ما فيها" (4) . __________ (1) من صحيح البخاري. (2) وفي رواية أبي ذرٍّ الهروي "فرَّق" قال الحافظ في الفتح (13/ 256): "وكلاهما متَّجه". (3) قوله: "من دخل الجنَّة" ليس في "ب". (4) أخرجه الترمذي برقم (2860). من طريق سعيد بن أبي هلال عن جابر فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال، لم يدرك جابر ابن عبد اللَّه، وقد روي هذا الحديث عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير هذا الوجه، بإسناد أصح من هذا".

(1/149)


وصحَّح الترمذي من حديث عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: "صلَّى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العشاء ثمَّ انصرف، فأخذ بيدي حتى خرج بي إلى بطحاء مكة، فأجلسني ثمَّ خطَّ عليَّ خطًّا، ثمَّ قال: لا تبرحنَّ خطَّكَ، فإنَّه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم؛ فإنَّهم لا يكلمونك، ثمَّ مضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث أراد، فبينا أنا جالسٌ في خطِّي، إذ أتاني رِجالٌ كأنَّهم الزُّطُّ (1) ، أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورةً، ولا أرى قِشْرًا، وينتهون إليَّ لا يجاوزون الخطَّ، ثمَّ يصدرون إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى إذا كان من آخر الليل، لكن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد جاءني وأنا جالسٌ فقال: "لقد أُراني (2) منذُ الليلة"، ثمَّ دخل عليَّ في خَطِّي فتوسَّدَ فخذي فرقد، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا رقد نفخ، فبينا أنا قاعدٌ، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- متوسدٌ فخذي إذا أنا برجالٍ عليهم ثيابٌ بيضٌ، اللَّه أعلمُ ما بهم من الجمال، فانتهوا إليَّ فجلس طائفةٌ منهم عند رأس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وطائفة منهم عند رجليه، ثمَّ قالوا: ما رأينا عبدًا قطُّ (3) أوتي مثل ما أوتي هذا النَّبي، إنَّ عينيه تنامان وقلبُهُ يقظان، اضربوا له مثلًا، مثلَ سيدٍ بنى قصرًا ثمَّ جعل مأدُبةً فدعا النَّاس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكلَ من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبه عاقبه أو قال عذبه، ثمَّ ارتفعوا واستيقظ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عند ذلك __________ (1) الزُّطّ: جيل من النَّاس. الواحد: زُطِّي، مثل: الزنج وزنجي، والرُّوم ورومي. الصحاح (1/ 882). (2) في "ب": "رأى"، وفي باقي النسخ "رآني"، والمثبت من سنن الترمذي، ومعنى: "أُراني": أي لم أنم. (3) من الترمذي.

(1/150)


فقال: سمعت ما قال هؤلاء؟ وهل تدري من هم؟ قلت: اللَّهُ ورسولهُ أعلم، قال: هم الملائكة، فتدري ما المثل الَّذي ضربوه؟ قلت: اللَّهُ ورسوله أعلم، قال (1) : الرحمن بنى الجنَّة، ودعا إليها عبادَهُ فمن أجابه دخل الجنَّة، ومن لم يجبه (2) عذَّبه" (3) . __________ (1) في الترمذي بعد "قال": "المثل الَّذي ضربوه". (2) في الترمذي بعد "يجبه" "عاقبه أو". (3) أخرجه الترمذي برقم (2861) وقال: "حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، والبخاري في تاريخ الكبير (2/ 200) من طريق جعفر بن ميمون عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود فذكره بطوله. وجعفر هذا ضعفه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، وقال ابن عدي: "أرجو أنَّه لا بأس به، ويكتب حديثه في الضعفاء". انظر: الكامل: (2/ 138 - 139). وقد خولف جعفر هذا، خالفه سليمان بن طرخان. فرواه عن أبي تميمة عن عمرو البكالي عن ابن مسعود فذكره مطولًا "والبكالي: مجهول". أخرجه أحمد في المسند (1/ 399)، والبخاري في الأوسط (1/ 234)، والكبير (2/ 200). قال البخاري: "ولا يُعْرف لعمرو سماعًا من ابن مسعود". وله طرق أُخرى عن ابن مسعود، أعلَّها كلها البخاري في الكبير والأوسط، وأعلها أيضًا أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، وبَيَّنُوا أنَّ الثابت عن ابن مسعود أنَّه له لم يكن مع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة الجن، انظر: صحيح مسلم رقم (450). بل قال أبو حاتم وأبو زرعة: "ولا يصح في هذا الباب شيء". انظر علل ابن أبي حاتم (1/ 45).

(1/151)


 الباب السابع عشر في درجات الجنَّة

قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 95 - 96]. ذكر ابن (1) جرير: عن هشام بن حسان، عن جَبَلة بن عَطِيَّة (2)، عن ابن مُحَيْرِيْز قال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ} [النساء: 95, 96]. قال: "هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عَدْوُ الفرسِ الجواد المُضَمَّر سبعين عامًا" (3). وقال ابن المبارك: أنبأنا سلمة بن نُبَيْط عن الضَّحَّاك في قوله تعالى: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنفال: 4] قال: "بعضهم أفضلُ من بعض، فيرى الَّذي قد فضل به فضله (4)، ولا يرى الَّذي هو أسفل منه، __________ (1) من "هـ"، وسقط من باقي النسخ. (2) في الطبري "سُحيم" بدل "عطية"، وهو خطأ. (3) أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 232). وسنده صحيح، إن كان شيخ الطبري ثقة، وابن محيريز هو عبد اللَّه بن محيريز بن جنادة القرشي ثمَّ الشامي، تابعي ثقة جليل من العباد، يُشبَّه بابن عمر في عبادته. انظر: تهذيب الكمال (16/ 106 - 111). (4) في الزهد لابن المبارك "فضيلته".

(1/152)


أنَّه فُضِّلَ عليه أحدٌ من النَّاس" (1). وتأمَّل قوله: كيف أوقع التَّفْضيل أوَّلًا بدرجة، ثمَّ أوقعه ثانيًا بدرجات، فقيل: الأوَّل بين القاعد والمعذور والمجاهد، والثاني بين القاعد بلا عذر والمجاهد، وقال تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} [آل عمران: 162 - 163]. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2 - 4]. وفي "الصحيحين" (2) من حديث مالك عن صَفْوان بن سُلَيم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ أهل الجنَّة لَيتراءون أهلَ الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدُّرِّي الغابرَ من الأُفق: من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول اللَّه، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها __________ (1) أخرجه ابن المبارك في الزهد -زوائد نعيم- رقم (246)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ رقم 8799). وسنده صحيح. (2) أخرجه البخاري رقم (3083)، ومسلم رقم (2831).

(1/153)


غيرهم؟ قال: "بلى، والَّذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا باللَّهِ وصدَّقوا المرسلين". ولفظ البخاري "في الأفق": وهو أبْيَن (1) . والغابر: هو الذَّاهب الماضي الَّذي قد تدلَّى للغروب. وفي التمثيل به دون الكوكب المسامت للرَّأس، وهو أعلى = فائدتان: أحدهما: بُعْدُهُ عن العيون. والثانية: أنَّ الجنَّة درجات بعضها أعلى من بعض، وإنْ لم تُسامت العليا السُّفلى، كالبساتين المُمْتدة من رأس الجبل إلى ذيله، واللَّهُ أعلم. وفي "الصحيحين" (2) أيضًا من حديث سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ أهل الجنَّة ليتراءون الغرفة في الجنَّة، كما تراءون الكوكب في أفقِ السماء". وقال الإمام أحمد: حدثنا قراد (3) ، أخبرني فُلَيح عن هلال يعني ابن علي، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ أهل الجنَّة ليتراءون في الجنة كما تراءون -أو ترون (4) - __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ": "بَيَّن". (2) أخرجه البخاري رقم (6188)، ومسلم رقم (2830). (3) كذا في جميع النسخ، وفي المسند، وأطرافه لابن حجر (7/ 417) "فزارة" هو: ابن عمرو، وهو الصواب. (4) قوله: "أو ترون" ليس في "ب، د".

(1/154)


الكوكب الدريِّ الغاربَ في الأفق الطالع في تفاضل الدَّرجات"، قالوا يا رسول اللَّه أولئك النَّبيُّون؟ قال: "بلى، والَّذي نفسي بيده وأقوامٌ آمنوا باللَّهِ وصدَّقُوا المرسلين" (1) . ورجال هذا الإسناد احتجَّ بهم البخاري في "صحيحه". وفي هذا الحديث: "الغارب"، وفي حديث أبي سعيد: "الغابر". وقوله: "الطالع" صِفَة للكوكب، وصَفَهُ بكونه غاربًا، وبكونه طالعًا. وقد صُرِّحَ بهذا (2) المعنى في الحديث الَّذي رواهُ ابن المبارك: عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أهل الجنَّة ليتراءون في الغرف كما يُرى __________ (1) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 335، 339)، وابن خزيمة في "التوحيد": (2/ 907) رقم (620)، والترمذي (2556)، وابن منده في الإيمان (406). من طرق عن فليح عن هلال به، وقد خولف هلال: خالفه صفوان بن سُليم: فرواه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد. أخرجه البخاري ومسلم كما تقدم قريبًا ص (153). قال محمد بن يحيى الذهلي: "لا أبعد أنْ يكون عطاء بن يسار قد سمعه من أبي سعيد وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما". وقال الذهلي أيضًا: "حديث مالك عن صفوان بن سليم صحيح، ولا يدفع حديث هلال، ولعلَّ عطاء بن يسار حفظه عنهما". انظر: علل الدَّارقطني (11/ 101). قلت: فليح في حفظه كلام، فأخشى من وهمه هنا. فقد رواه النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد بمثل لفظ سهل بن سعد وزاد "كما تراءون الكوكب الغارب في الأفق الشرقي والغربي". أخرجه البخاري برقم (6188) ومسلم برقم (2831). (2) في "ب": "خرِّج هذا" وفي "د": "خرج بهذا" بدلًا من "صُرِّح بهذا".

(1/155)


الكوكب الشرقي، والكوكب الغربي في الأفق في تفاضل الدرجاتِ، قالوا: يا رسول اللَّه أولئك النَّبيون؟ قال: بلى (1) ، والَّذي نفسي بيده وأقوامٌ آمنوا باللَّه وصدَّقوا المرسلين" (2) . وهذا على شرط البخاري أيضًا. وفي "المسند" من حديث أبي سعيد رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ المتحابين لتُرى غرفُهم في الجنَّة كالكوكب الطالع الشرقيِّ أو الغربيِّ، فيقال: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابُّون في اللَّهِ عزَّ وجلَّ" (3) . وفي "المسند" من حديث أبي سعيد رضي اللَّهُ عنه أيضًا عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنَّة مئة درجةٍ، ولو أنَّ العالمين اجتمعوا في إحداهنَّ لوسعتهم (4) " (5) . __________ (1) في الزهد لابن المبارك "لا بل". (2) أخرجه ابن المبارك في الزهد - زوائد نعيم، برقم (418)، والترمذي برقم (2556)، وابن أبي الدنيا في التوكل على اللَّهِ رقم (41) وغيرهم. قال الترمذي: "حسن صحيح". (3) أخرجه أحمد في "المسند": (3/ 78). وفيه انقطاع أبو حازم واسمه سلمة بن دينار لم يسمع من أحد من الصحابة سوى سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّهُ عنه. انظر: جامع التحصيل ص (187) رقم (255). (4) وقع في "أ": "اجتمعوا فيهنَّ في إحداهنَّ وسعتهن"، وكتب الناسخ على "فيهنَّ": "كذا". (5) أخرجه أحمد في المسند (3/ 29)، والترمذي برقم (2531)، وأبو يعلى في =

(1/156)


وفي "المسند" عنه أيضًا عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يُقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنَّة: اقرأ واصعدْ، فيقرأ ويصعد بكلِّ آيةٍ درجة، حتَّى يقرأ آخر شيءٍ معهُ" (1) . وهذا صريحٌ في أنَّ درج الجنَّة تزيد على مائة درجة (2) . وأمَّا حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- الَّذي رواه البخاري في صحيحه (3) عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنَّة مائة درجةٍ أعدَّها اللَّهُ للمجاهدين في سبيله بين كلَّ درجتين كما بين السماء والأرضِ، فإذا سألتم اللَّهَ فاسألوه الفردوس، فإنَّه وسط الجنَّة، وأعلى الجنَّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنَّة". فإمَّا أن تكون هذه المائة درجة من جملة الدَرَج، وإمَّا أنْ تكون نهايتها هذه المائة، وفي ضمن كل درجة درج (4) دونها. __________ = مسنده (2/ 530) رقم (1398). من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. وقد تقدَّم الكلام عن مثل هذا الإسناد في ص (117). والحديث ضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب". (1) تقدم ص (135). (2) ليس في "أ، ب، د". وجاء في نسخة على حاشية "أ" ما يلي: "وقد تقدم أنَّ آيات القرآن ستة آلاف ومائتا آية وستة عشر آية، فعلى هذا درجات الجنَّة كذلك". (3) تقدم ص (134). (4) ليس في "ب".

(1/157)


ويدل على المعنى الأوَّل حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "من صلَّى هؤلاء الصلوات الخمس، وصام شهر رمضان كان حقًّا على اللَّهِ أن يغفر له هاجر أو قعدَ حيثُ ولدته أُمُّهُ"، قلتُ: يا رسول اللَّه ألا أخرجُ فأُوذن النَّاس؟ قال: "لا، ذرِ النَّاسَ يعملون، فإنَّ في الجنَّة مائة درجة بين كلِّ درجتين منها مثل ما بين السماء والأرضِ، وأعلى درجةٍ منها الفردوس، وعليها يكون العرشُ، وهي أوسط شيءٍ في الجنَّة، ومنها تفجر أنهار الجنَّة، فإذا سألتم اللَّهَ فسلوه الفردوس" (1) . رواه الترمذي هكذا بلفظة "في" (2) . وروى أيضًا: من حديث عطاء عن عبادة بن الصامت أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "في الجنَّة مائة درجة" (3) ثمَّ ذكر نحو حديث معاذ. وفيه أيضًا: من حديث عطاء عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "في الجنَّة مائة درجةٍ (4) ما بين كلَّ درجتين مائة عامٍ" (5) . قال: "هذا حديثٌ حسن غريب". __________ (1) تقدم ص (132 - 133)، وهو منقطع. (2) سقط من "ب، د" قوله "في". (3) تقدم ص (132 - 133). (4) من قوله: "ثمَّ ذكر نحو" إلى "درجة" سقط من "ب، ج". (5) أخرجه الترمذي برقم (2529)، وأحمد (3/ 29). من طريق شريك القاضي عن محمد بن جحادة عن عطاء عن أبي هريرة فذكره. وخالفه مالك بن مغول، فرواه عن محمد بن جُحادة عن عطاء بن أبي =

(1/158)


وفيه أيضًا: من حديث أبي سعيد يرفعه: "إنَّ في الجنَّة مائة درجة لو أنَّ العالمين اجتمعوا في إحداهنَّ لوسعتهم" (1) . ورواه أحمدُ بدون لفظة: "في" كما تقدَّم. وقد رويت هذه الأحاديث بلفظة: "في" وبدونها، فإن كان المحفوظ ثبوتها فهي من جملة درجها، وإنْ كان المحفوظ سقوطها، فهي الدَّرَج الكبار المتضمنة للدَّرج الصِّغار، واللَّه أعلم. ولا تناقض بين تقدير ما بين الدرجتين بالمائة وتقديرها بالخمس مائة لاختلاف السَّير في السرعة والبُطْءِ، والنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر هذا تقريبًا للأفهام، ويدل عليه حديث زيد بن حُباب (2) : حدثنا عبد الرحمن بن شُرَيح، حدَّثني أبو هانئ التُّجِيبي، سمعتُ أبا علي الجَنْبي (3) سمعت أبا سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مائة درجة في الجنَّة ما بين الدرجتين ما بين السماء والأرض، وأبعد ممَّا بين السماء والأرض" قلتُ: يا رسول اللَّه لمن؟ قال: "للمجاهدين في سبيل اللَّهِ" (4) . __________ = رباح قوله. قال الدَّارقطني في العلل (11/ 103): "وهو أصحُّ". (1) تقدم ص (157 - 158). (2) في "ب": "حبان"، وفي "ج": "حيان"، وفي "هـ": "خباب" وكلها خطأ. (3) في "ب، د، هـ": "التجيبي" وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (22/ 209). (4) أخرجه عبد بن حميد في مسنده "المنتخب" رقم (920)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" رقم (192). وسنده حسن.

(1/159)


 الباب الثامن عشر في ذكر أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة

روى مسلم في "صحيحه" (1) من حديث عبد اللَّه بن (2) عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما- أنَّه سمع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتُم المؤذن فقولوا مثلَ ما يقول، ثمَّ صلُّوا عليَّ، فإنَّه من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّهُ عليه بها (3) عشرًا، ثمَّ سلُوا اللَّهَ (4) لي الوسيلة، فإنَّها منزلةٌ في الجنَّة لا تنبغي إلَّا لعبدٍ من عباد اللَّهِ، وأرجو أنْ أكون أنا هو، فمن سأل ليَ الوسيلة حلَّتْ عليه الشفاعة". وقال أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن ليث عن كعب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا صليتم عليَّ فاسألوا اللَّه لي الوسيلة، قيل: يا رسول اللَّه، وما الوسيلة؟ قال: أعلى درجةٍ في الجنَّة لا ينالها إلَّا رجلٌ واحدٌ، وأرجوا أنْ أكونَ أنا هو" (5). هكذا الرواية: "أنْ أكون أنا هو"، ووَجْهُهَا: أنْ تكون الجُملة خَبَرًا __________ (1) رقم (384). (2) قوله: "عبد اللَّه بن" سقط من جميع النسخ، فأثبته من مسلم. (3) ليست في "ب، ج، د". (4) من صحيح مسلم. (5) أخرجه أحمد في المسند (2/ 265)، والترمذي رقم (3612) وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة رقم (46)، وهنَّاد في الزهد رقم (147). قال الترمذي: "هذا حديث غريب، إسناده ليس بالقوي، وكعب ليس هو بمعروف، ولا نعلم أحدًا روى عنه غير ليث بن أبي سليم".

(1/160)


عن اسم كان المُسْتَتِر فيها، ولا تكون "أنا" فصْلًا، ولا توكيدًا، بل مبتدأ. وفي "الصحيحين" (1) من حديث جابر -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قال حينَ يسمع النَّداء: الَّلهم رَبَّ هذِهِ الدعوة التَّامَّة، والصَّلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلَّت (2) له شفاعتي (3) يوم القيامة". هكذا لفظ الحديث: "مقامًا" بالتَّنكير ليوافق لفظ الآية؛ ولأنَّهُ لمَّا تعين وانحصر نوعه في شخصه جرى مجرى المعرفة، فَوُصِفَ بما توصف به المعارف، وهذا ألطف (4) مِنْ جَعْلِ "الَّذي وعدته" بدلًا، فتأمله. وفي "المسند" من حديث عمارة بن غَزِيَّة، عن موسى بن وَرْدَان عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الوسيلة درجةٌ عند اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ليس فوقها درجةٌ، فسلوا اللَّه لي (5) الوسيلة" (6) . __________ (1) أخرجه البخاري رقم (589) و (4442)، ولم يخرجه مسلم في صحيحه. (2) وقع في "أ، ج، هـ": "إلَّا حلَّت"، والمثبت من البخاري و"ب، د". (3) في جميع النسخ: "الشفاعة"، والمثبت من البخاري، انظر: فتح الباري (2/ 96). (4) في "ج": "لفظ" وهو خطأ. (5) في المسند: "أنْ يؤتيني" بدل "لي". (6) أخرجه أحمد في مسنده: (3/ 83). =

(1/161)


وذكره ابن أبي الدنيا وقال فيه: "درجةٌ في الجنَّة ليس في الجنَّة درجة أعلى منها، فسلُوا اللَّهَ أنْ يؤتينيها على رؤوس الخلائقِ" (1) . وقال أبو نعيم، أنبأنا سليمان بن أحمد: حدثنا أحمد بن عمرو بن مسلم (2) الخلَّال، حدثنا عبد اللَّه بن عمران العابدي (3) ، حدثنا فُضَيل __________ = من طريق ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي سعيد فذكره. قال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف". مجمع الزوائد: (1/ 332). تنبيهان: 1 - الحديث لم يخرجه أحمد في مسنده من طريق عمارة بن غزية، وإنَّما هو عند الطبراني في الأوسط. 2 - ليس في سند الطبراني في الأوسط ابن لهيعة، كما سيأتي. (1) أخرج ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" رقم (201). من طريق إسماعيل بن عياش عن عمارة عن موسى عن أبي سعيد فذكره. ورواه إسماعيل بن جعفر وسعيد بن أبي أيوب عن عمارة بن غزية عن موسى عن أبي سعيد فذكره. أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (263 و 1466). ولفظ إسماعيل بن جعفر مثله وفيه: ". . . فسلوا اللَّهَ أنْ يؤتيني الوسيلة على خلقه". وأمَّا طريقُ سعيد بن أبي أيوب فضعيفٌ جدًّا. والحديث مداره على موسى بن وردان وهو تابعيٌ قاص صدوق يخطئ، له مفاريد، ولعلَّ هذا منها. انظر: تهذيب الكمال: (29/ 163 - 166). (2) وقع في جميع النسخ "عمرو بن سليم"، وجاء في نسخة على حاشية "أ": "عمر" بدلًا من "عمرو" وهو خطأ. (3) جاء في "د": "العبادي"، وفي "ب": "العايدي". انظر: الأنساب للسمعاني =

(1/162)


ابن عِيَاض عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: جاء رجلٌ إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، واللَّهِ إنَّك لأحبٌّ إليَّ من نفسي، وإنَّك لأحب إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليَّ من ولدي، وإنِّي لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتَّى آتيك فأنظرَ إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك؛ عرفتُ أنَّك إذا دخلت الجنَّة رُفعتَ مع النبيين، وإنَّي إذا دخلتُ الجنَّة خشيتُ أنْ لا أراكَ. فلم يردَّ عليه (1) النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى نزل جبريل بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) } [النساء: 69] (2) ". __________ = (4/ 107). (1) ليس في "ج". (2) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (477)، وفي الصغير رقم (52)، وأبو نعيم في "الحلية": (4/ 239 - 240) و (8/ 125) والواحدي في أسباب النزول ص (66)، وغيرهم. قال الطبراني: "لم يروه عن منصور عن إبراهيم. .، إلَّا فضيل، تفرَّد به عبد اللَّه بن عمران". وقال أبو نعيم: "غريب من حديث فضيل ومنصور متَّصلًا، تفرَّد به العابدي فيما قاله سليمان". وقال أيضًا: "هذا حديث غريب من حديث منصور وإبراهيم، تفرَّد به فضيل وعنه العابدي". قلتُ: العابدي صدوق، قاله أبو حاتم، "الجرح": (5/ 130)، لكن يخشى من خطئه. فقد رواه جرير وزائدة بن قدامة وعبيدة بن حميد كلهم عن منصور عن أبي الضحى مسلم بن صُبيح عن مسروق فذكره مرسلًا بنحوه. =

(1/163)


قال الحافظ أبو عبد اللَّه المقدسي: "لا أعلم بإسناد هذا الحديث بأسًا". وسُمِّيت درجة النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الوسيلة؛ لأنَّها أقرب الدرجات إلى عرش الرب (1) تبارك وتعالى، وهي أقرب الدرجات إلى اللَّهِ. وأصل اشتقاق لفظ: "الوسيلة" من القُرْب. وهي فَعِيلَة: مِنْ وَسَلَ إليه: إذا تقرَّب إليه. قال لَبيْد: بلى كلُّ ذي رأيٍ إلى اللَّهِ واسلُ (2) ومعنى الوسيلة: من الوُصْلَة، ولهذا كانت أفضل الجنَّة وأشرفها، وأعظمها نورًا. قال صالح بن عبد الكريم: قال لنا فُضَيل بن عِيَاض: تدرون لِمَ حسنت الجنَّة؟ لأنَّ عرش رب العالمين سقفها (3) . __________ = أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 997) رقم (577)، والواحدي في "أسباب النزول" ص (165)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 328) رقم (31765) وغيرهم. قلت: ولعل المرسل أشبه بالصواب، وقد وردت عدة مراسيل بنحو ذلك: عن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والربيع. (1) في "ب": "الرحمن". (2) * ديوان لبيد ص (256) *. (3) أخرجه الخطيب في تاريخه (9/ 312).

(1/164)


وقال الحكم بن أبان: عن عكرمة عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "نور سقف مساكنهم نورُ عرشه" (1) . وقال بكر (2) عن أشعث عن الحسن: "إنَّما سُمِّيت عَدْن؛ لأنَّ فوقها العرش، ومنها (3) تفجَّر أنهار الجنَّة، وللحور العَدْنِيَّة الفضلُ على سائر الحور (4) " (5) . والقُرْبَى والزُّلْفَى: واحد، وإنْ كان في الوسيلة معنى التقرب إليه بأنواع الوسائل. قال الكلبي: "واطلبوا إليه القربة بالأعمال الصالحة" (6) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" رقم (22) وأوله: "إذا سكن أهل الجنَّةِ الجنَّة: نوَّر. . . ". وسنده ضعيفٌ، فيه حفص بن عمر العدني والحكم بن أبان، وهما ضعيفان. انظر: "تهذيب الكمال": (7/ 41 - 44 و 86 - 88). (2) في "أ": "بكر بن أشعث"، وفي باقي النسخ "بكر عن أشعث"، وعند ابن أبي الدنيا "مروان بن بكير"، ويحتمل أنَّه "بكر بن خُنَيس"، انظر: تهذيب الكمال (3/ 265). (3) في "هـ": "وفيها". (4) قوله: "على سائر الحور" ليس في "ج". (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" رقم (23). وفيه أشعث بن سوار الكندي، وهو ضعيف. انظر: تهذيب الكمال (3/ 264 - 266). (6) انظر الوسيط للواحدي (2/ 183).

(1/165)


وقد كشف سبحانه عن هذا المعنى كلَّ الكشف بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] فقوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، هو تفسير للوسيلة (1) التي (2) يبتغيها هؤلاء الَّذين يدعونهم المشركون من دون اللَّهِ، فَيُنَافِسُون (3) في القرب منه. ولمَّا كان رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعظم الخلق عبوديةً لربه، وأعلمهم به، وأشدَّهم له خشية، وأعظمهم له محبة؛ كانت منزلته أقرب المنازل إلى اللَّهِ، وهي أعلى درجة في الجنَّة، وأمرَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّتَهُ أنْ يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء الزلفى من اللَّهِ، وزيادة الإيمان. وأيضًا فإنَّ اللَّه سبحانه قدَّرها له بأسباب، منها: دعاء أمَّته له بها (4) بما نالوه على يده من الإيمان والهدى، صلوات اللَّهِ وسلامه عليه. فقوله: "حلت عليه" (5) يُرْوَى: "عليه" و"له"، فمن رواه بالَّلام فمعناهُ: حصلت له. ومن رواه بِعَلَى فمعناهُ: وقعت عليه شفاعتي، واللَّهُ أعلم. __________ (1) في "ب، ج": "الوسيلة". (2) في "ب، ج، د، هـ": "الذي". (3) في "ظ، م، ج": "فيتنافسون". (4) في "ب، ج، د": "لربها بما نالوه". (5) تقدم ص (160 و 161).

(1/166)


 الباب التاسع عشر في عرض الرَّبِّ تعالى سلعته (1) الجنَّة على عباده وثمنها الَّذي طلبه منهم وعقد التبايع الَّذي وقع بين المؤمنين وبين ربِّهم

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. فجعل سبحانه الجنَّة ثمنًا لنفوس المؤمنين وأموالهم، بحيث إذا بذلوها فيه استحقُّوا الثَّمن، وعَقَدَ معهم هذا العقدَ، وأكَّدهُ بأنواع التأكيد: أحدها: إخبارُهُ سبحانه بصيغة الخبر المؤكَّد بأداة إنَّ. الثاني: الإخبارُ بذلك بصيغة الفعل الماضي، الَّذي قد (2) وقع وثبت واستقر. الثالث: إضافة هذا العقد (3) إلى نفسه سبحانه وأنَّه هو الَّذي اشترى هذا المبيع. __________ (1) في "أ، ج، هـ": "سلعة". (2) ليس في "أ". (3) في "ب": "الفعل".

(1/167)


الرَّابع: أنَّه أخبر بأنَّه وعد بتسليم هذا الثمن وَعْدًا لا يُخْلِفُهُ ولا يتركه. الخامس: أنَّه أتى بصيغة "على" التي للوجوب، إعلامًا لعباده، بأنَّ ذلك حقٌّ عليه، أحَقَّه هو على نفسه. السادس: أنَّه أكَّد ذلك بكونه حقًّا عليه. السابع: أنَّه أخبر عن محل هذا الوعد، وأنَّه في (1) أفضل كتبه المنزلة من السماء، وهي: التوراة والإنجيل والقرآن. الثامن: إعلامه لعباده بصيغة استفهام الإنكار، وأنَّه لا أحد أوفى بعهده منه سبحانه. التاسع: أنَّه سبحانه أمرهم أنْ يَبْشروا بهذا العقد، ويُبشِّر به بعضهم بعضًا بشارة من قد تمَّ له العقد ولزم، بحيث لا يثبت فيه خيار، ولا يعرض له ما يفسخه. العاشر: أنَّه أخبرهم إخبارًا يؤكِّد (2) بأنَّ ذلك البيع الَّذي بايعوا به هو الفوز العظيم، والبيع ها هنا: بمعنى المَبِيع الَّذي أخذوه بهذا الثمن، وهو الجنَّة. وقوله: {بَايَعْتُمْ بِهِ} أي: عاوضتم وثامنتم به. ثمَّ ذكر سبحانه أهل هذا العقد الذين وقع العقد وتمَّ لهم دون __________ (1) ليس في "أ، ج". (2) في "ب، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ": "مؤكَّدًا".

(1/168)


غيرهم، وهم: - {التَّائِبُونَ} مما يكره. - {الْعَابِدُونَ} له بما يحب. - {الْحَامِدُونَ} له على ما يحبون وما يكرهون. - {السَّائِحُونَ} وفُسِّرت السِّياحة: بالصيام، وفُسِّرت: بالسفر في طلب العلم، وفُسِّرت: بالجهاد، وفُسِّرت: بدوام الطاعة. والتحقيق فيها: أنَّها سياحة القلب في ذكر اللَّه ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه، ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعالِ، وكذلك وصف نساء النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الَّلاتي لو طلق أزواجه بدَّله بهن، بأنَّهنَّ {سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5] وليست سياحتهن جهادًا، ولا سفرًا في طلب العلم، ولا إدامة صيام، وإنَّما هي سياحة قلوبهنَّ في محبة اللَّه وخشيته والإنابة إليه وذكره. وتأمَّل كيف جعل سبحانه التوبة والعبادة قرينين: هذه ترك ما يكره، وهذه فعل ما يحب. والحمد والسياحة قرينين: هذا الثناء عليه بأوصاف كماله، وسياحة اللسان في أفضل ذكره، وهذا سياحة القلب في حُبَّه وذكره وإجلاله. كما جعل سبحانه العبادة والسياحة قرينين في صفة الأزواج: فهذه عبادة البدن، وهذه عبادة القلب. وجعل الإسلام والإيمان قرينين: فهذا علانية، وهذا في القلب؛

(1/169)


كما في "المسند" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الإسلام علانية، والإيمان في القلبِ" (1) . وجعل القنوت والتوبة قرينين: فهذا فعل ما يحب، وهذا تركُ ما يكره. وجعل الثُّيوبة والبَكَارة قرينين، فهذه قد وطئت وارتاضتْ وذُلِّلت صعوبتها، وهذه رَوْضَة أُنُفٌ (2) لم يُرتع فيها بعد. وجعل الركوع والسجود قرينين، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرينين، وأدخل بينهما الواو دون ما تقدم إعلامًا بأنَّ أحدهما لا يكفي حتى يكون مع الآخر، وجعل ذلك قرينًا لحفظ __________ (1) أخرجه أحمد في المسند: (3/ 135)، وابن أبي شيبة في "المصنف": (6/ 159) رقم (30310)، وفي الإيمان رقم (6)، وأبو يعلى في "مسنده": (5/ 301 - 302)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير": (3/ 250) وابن عدي في "الكامل": (5/ 207)، وابن حبان في "المجروحين": (2/ 111) وغيرهم. من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس فذكره. والحديث منكر، تفرَّد به علي بن مسعدة عن قتادة، وعلي بن مسعدة فيه ضعف، والحديث عدَّه العقيلي وابن عدي وابن حبان من منكرات علي بن مسعدة، بل قال ابن عدي: "ولعلي بن مسعدة غير ما ذكرت عن قتادة، وكلها غير محفوظة" قلت: كحديث: "كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون" عند الترمذي برقم (2499) وغيره. وقال: "غريبٌ لا نعرفه إلَّا من حديث علي بن مسعدة"، وجعله ابن عدي وابن حبان من منكراته. انظر: تهذيب الكمال: (21/ 129 - 132). (2) قال الجوهري في "الصحاح": (2/ 1022): "وروضة أُنُف، بالضم، أي لم يَرْعهَا أحد".

(1/170)


حدوده، فهذا حِفْظُها في نفس الإنسان، وذاك (1) أمرُ غيرِهِ بحفظها. وأفهمت الآية: خطر النفس الإنسانية وشرفها، وعظم مقدارها، فإنَّ السلعة إذا خفي عليك قدرها فانظر إلى المشتري لها من هو، وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو؟ وانظر إلى من جرى على يده عقد التبايع، فالسِّلعة: النفس، واللَّهُ سبحانه: المشتري لها، والثمن: جنَّات النعيم، والسَّفِيْر في هذا العقد: خير خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه، وخيرهم من البشرِ وأكرمهم عليه. قد هيؤوكَ لأَمرٍ لو فَطِنْتَ له ... فارْبأْ بِنفسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ (2) وفي "جامع الترمذي" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من خافَ أدلج، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألَا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألَا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّة" (3) . قال: "هذا حديثٌ حسن غريب". __________ (1) في "أ": "ذلك". (2) البيت للطغرائي في "لامية العجم". انظر: "الغيث المسجم في شرح لامية العجم" للصفدي: (2/ 438) وفيه "رشَّحُوك" بدل "هيَّؤوك". (3) أخرجه الترمذي رقم (2450)، والبخاري في تاريخه (2/ 111) والعقيلي في "الضعفاء الكبير": (4/ 383) وغيرهم. من طريق يزيد بن سنان الرهاوي عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة: والحديث منكرٌ بهذا الإسناد، تفرَّد به يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي وهو ضعيف. ولهذا قال الترمذي: "حسنٌ غريب. . ". وقد جاء هذا المتن من حديث أُبيِّ بن كعب عند أبي نعيم في "الحلية": =

(1/171)


وفي كتاب "صفة الجنَّة" لأبي نعيم من حديث أبان، عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: جاء أعرابي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: ما ثمن الجنَّة؟ قال: "لا إله إلَّا اللَّه" (1) . وشواهد هذا الحديث كثيرةٌ جدًّا. وفي "الصحيحين" (2) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: "أنَّ أعرابيًّا جاء إلى رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسول اللَّه، دُلَّني على عملٍ إذا عملته دخلتُ الجنَّة، فقال: "تعبد اللَّه لا تشركُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصومُ رمضان" قال: "والَّذي __________ = (8/ 377)، والحاكم في المستدرك: (4/ 343) رقم (7852)، من طريق وكيع وعبد اللَّه بن الوليد العدني عن الثوري عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أُبي عن أبيه أُبي بن كعب فذكره، وفيه زيادة. قال أبو نعيم: "غريب تفرَّد به وكيع عن الثوري بهذا اللفظ". قلت: الراوي عن وكيع هو يحيى بن إسماعيل الواسطي، وقد خالفه الإمام أحمد وأبو كريب وعبد اللَّه بن هاشم العبدي وغيرهم كلهم رووه عن وكيع به بدون زيادة هذا المتن "من خاف أدلج. . "، وإنما بلفظ: "جاءت الراجفة تتبعها الرَّادفة. . . ". وأمَّا رواية العدني فلم يتابع عليه، فلم يروه من أصحاب الثوري إلَّا هو، ووكيع "في الرواية المرجوحة عنه". والحديث صححه الترمذي، وليس فيه هذا المتن. والحديث مدارهُ على ابن عقيل، وفيه لين. (1) أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنَّة"، رقم (51). وإسناده واهٍ جدًّا، فيه محمد بن مروان السدي: متهمٌ بالكذب، وأمَّا أسيد بن زيد، وأبان فمتروكان. انظر: ميزان الاعتدال: (1/ 124، 419). (2) أخرجه البخاري رقم (1333)، ومسلم رقم (14).

(1/172)


نفسي بيده لا أزيدُ على هذا شيئًا أبدًا ولا أنقصُ منه، فلمَّا ولَّى قال: "من سرَّهُ أنْ ينظرَ إلى رجلٍ من أهل الجنَّة فلينظر إلى هذا". وفي "صحيح مسلم" (1) عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: أتى النعمان بن قَوْقَل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّهِ أرأيت إذا صليت المكتوبة، وحرَّمت الحرام، وأحللتُ الحلال، أدخل الجنَّة؟ فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نعم". وفي "صحيح مسلم" (2) عن عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من ماتَ وهو يعلمُ أن لا إله إلَّا اللَّه دخلَ الجنَّة". وفي "المسند" و"سنن أبي داود" عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: "من كانَ آخرُ كلامه: لا إله إلَّا اللَّه، دخل الجنَّة" (3) . __________ (1) رقم (15). (2) رقم (26). (3) أخرجه أبو داود رقم (3116) وأحمد في المسند (5/ 234)، والطبراني في الكبير (3/ 270 - 271) رقم (1372 - 1373)، والبزار في مسنده (7/ 77) رقم (2625، 2626)، والحاكم (1/ 503) رقم (1299) وغيرهم. من طريق صالح بن أبي عريب عن كثير بن مُرَّة عن معاذ فذكره. وفيه صالح بن أبي عُريب، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه جماعة، وقال ابن القطان: "لا تعرف حاله". انظر: "تهذيب الكمال": (13/ 73)، و"بيان الوهم والإيهام": (2/ 206). والحديث صحح إسناده الحاكم. وللحديث شاهد عن أبي هريرة: مرفوعًا، والصحيح موقوف. وعن ابن =

(1/173)


وفي "الصحيحين" (1) عن أبي ذرٍّ -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتاني آتٍ من ربي فأخبرني -أو قال- فبشرني أنَّه من ماتَ من أمتك لا يشرك باللَّهِ شيئًا دخل الجنَّة، قلتُ: وإن زنى وإنْ سرق؟ قال: وإنْ زنى وإن سرق". وفي "الصحيحين" (2) من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قال: أشهدُ أنْ لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسوله، وأنَّ عيسى عبدُ اللَّهِ ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأنَّ الجنَّة حقٌّ، وأنَّ النَّار حقٌّ، أدخلهُ اللَّهُ من أيِّ أبواب الجنَّة الثمانية شاء". وفي لفظٍ: "أدخله اللَّهُ الجنَّة على ما كان من عمل" (3) . وفي "صحيح مسلم" (4) : "أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطى أبا هريرة نعليه فقال: "اذهبْ بنعليَّ هاتين، فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلَّا اللَّه مستيقنًا بها قلبُهُ، فبشِّره بالجنَّة". وقال روح بن عبادة عن حبيب بن الشهيد عن الحسن قال: __________ = مسعود: وسنده ضعيف. وعن عبد اللَّه بن جعفر: موقوفًا وفيه رجل مبهم. انظر: علل الدَّارقطني (11/ 238 - 241)، و"بيان الوهم والإيهام": (2/ 205) مع الحاشية. (1) البخاري رقم (1180)، ومسلم رقم (94). (2) البخاري رقم (3252)، ومسلم رقم (28). (3) راجع المصدرين السابقين. (4) رقم (31).

(1/174)


"ثمنُ الجنَّة لا إله إلَّا اللَّه" (1) وروى أبو نعيم: من حديث أبي الزبير، عن جابر - رضي اللَّهُ عنه - سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا يُدْخِلُ أحدًا منكم عمله الجنَّة، ولا يجيره من النَّار، ولا أنا إلَّا بتوحيد اللَّه" (2) . وإسنادُه على شرط مسلم، وأصل الحديث في الصحيح. __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 529)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" رقم (50)، وسنده صحيح. (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (52). من طريق زكريا الساجي عن سلمة بن شبيب عن الحسن بن أعين عن معقل بن عبيد اللَّه عن أبي الزبير عن جابر فذكره. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2817) عن سلمة بن شبيب به بمثله إلَّا أنَّه قال: "برحمة من اللَّه" بدلًا من "بتوحيد اللَّه". - ورواه ابن لهيعة عن أبي الزبير به بمثل لفظ مسلم. أخرجه أحمد (3/ 394). - ورواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بلفظ: "قاربوا وسدَّدوا، فإنَّه ليس أحدٌ منكم ينجيه عمله، قالوا: ولا إيَّاك يا رسول اللَّهِ؟ قال: ولا إيَّايَ، إلَّا أنْ يتغمدني اللَّهُ برحمته". أخرجه مسلم (2817) وأحمد (3/ 337) وغيرها. وعليه فلفظة "بتوحيد اللَّه" شاذة واللَّه أعلم.

(1/175)


فصل وها هنا أمرٌ يجب التنبيه عليه وهو: أنَّ الجنَّة إنما تُدْخَلُ برحمة اللَّه، وليس عمل العبد مستقلًّا بدخولها وإن كان سببًا، ولهذا أثبت اللَّه تعالى دخولها بالأعمال في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [العنكبوت: 8]، ونفى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخلوها بالأعمال في قوله: "لنْ يدخل أحدٌ منكم الجنَّة بعملهِ" (1). ولا تنافي بين الأمرين لوجهين: أحدهما: ما ذكره سفيان وغيره قال: "كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو اللَّه، ودخول الجنَّة برحمتهِ، واقتسام المنازل والدرجاتِ بالأعمال" (2). ويدل على هذا حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- الَّذي سيأتي إنْ __________ (1) أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (4/ 239)، والطبراني في "الكبير": (7/ 239 و 370) وأبو نعيم في "المعرفة" رقم (3734) وغيرهم. من طريق زياد بن علاقة عن شريك بن طارق فذكره. والحديث إلى زياد بن علاقة ثابت، لكن شريك مختلفٌ في صحبته. انظر: "الإنابة إلى معرفة المختلف فيهم من الصحابة": (1/ 284 - 285)، و"الإصابة": (3/ 206 - 207). وأصح منه ما جاء عند مسلم رقم (2816) من حديث أبي هريرة وفيه ". . . واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله. . . ". (2) لم أقف عليه، وذكر ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين": (3/ 110): ". . . أنَّهُ قد روي في بعض الأحاديث أنَّ نفسَ دخول الجنَّة بالرحمة، واقتسام الدرجات بالأعمال. . ".

(1/176)


شاء اللَّهُ (1) ، "أنَّ أهل الجنَّة إذا دخلوها، نزلوا فيها بفضل أعمالهم" (2) , رواه الترمذي. والثاني: أنَّ الباء التي نَفَتِ الدخول هي باء المعاوضة التي يكون __________ (1) في الباب (60) ص (571 - 573). (2) أخرجه الترمذي برقم (2549)، وابن ماجه برقم (4336)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير": (3/ 41)، وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (585)، وابن حبان في صحيحه (16/ 7438) وغيرهم. من طريق هشام بن عمار عن عبد الحميد بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة فذكره مطولًا. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه". قلت: وسبب ضعفه تفرَّد عبد الحميد بن أبي العشرين -وهو صدوقٌ يخطئ- عن الأوزاعي بهذا الإسناد، والمحفوظُ عن الأوزاعي ما رواه أبو المغيرة عبد القدوس، والوليد بن مزيد، والهقل بن زياد عن الأوزاعي قال: أنبئتُ أنَّ سعيد بن المسيب به فذكره. أخرجه الإمام أحمد كما في مسائل أبي داود ص (294)، وابن عساكر في تاريخه (34/ 52 - 53)، وابن حبيب في "وصف الفردوس" رقم (171)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" رقم (256)، وسيأتي في الباب رقم (60). وهذا هو الصحيح. وهناك اختلافاتٌ أخرى في هذا الحديث. راجع: تاريخ دمشق لابن عساكر (34/ 51 - 55). وعلل الدارقطني (7/ 275 - 276)، وفوائد تمام (الروض البسام (5/ 236 - 241) والضعفاء الكبير للعقيلي (3/ 42). وعليه فالحديث ضعيف الإسناد لجهل الواسطة بين الأوزاعي وسعيد بن المسيب.

(1/177)


فيها أحد العِوَضين مقابلًا للآخر، والباء التي أثبتت الدخول هي باء السَّببية التي تقتضي سَبَبِيَّة ما دخلت عليه لغيره، وإنْ لم يكن مستقلًّا بحصوله، وقد جمع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين الأمرين في قوله: "سدِّدوا وقاربوا وابشروا، واعلموا أنَّ أحدًا منكم لن ينجوَ بعمله. قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ولا أنا إلَّا أنْ يتغمدني اللَّه برحمته" (1) . ومن عرف اللَّه سبحانه، وشَهِدَ مَشْهد حقِّه عليه، ومشهد (2) تقصيره وذنوبه، وأبصرَ هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به (3) ، واللَّه سبحانه وتعالى المستعان. __________ (1) أخرجه مسلم برقم (2816) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (2) في "ب، د": "وشهد". (3) وقع في "ب": "وخبره وجزم به".

(1/178)


 الباب العشرون في طلب أهل الجنَّة لها من ربِّهم، وطلبها لهم، وشفاعتها فيهم إلى ربها عزَّ وجلَّ

قال تعالى حكايةً عن أولي الألباب من عباده قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [آل عمران: 193 - 194]. والمعنى: وآتنا ما وعدتنا على ألسنةِ رُسُلِكَ من دخول الجنَّة. وقالت طائفة: معناه، وآتنا ما وعدتنا (1) على الإيمان برسلك. وليس يسهل حذف الاسم والحرف معًا، إلَّا أنْ يُقدَّر على تصديق رسلك وطاعة رسلك، وحينئذٍ فيتكافأ التقديران، ويترجَّح الأوَّل بأنَّه قد تقدَّم (2) قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193]. وهذا صريح في الإيمان بالرسول والمُرْسِل، ثمَّ توسلوا إليه بإيمانهم أن يؤتيهم ما وعدهم على ألسُنِ (3) رسله، فإنهم إنَّما سمعوا وعده لهم (4) بذلك من الرسل، وذلك أيضًا يتضمن التصديق بهم، وأنَّهم بلَّغوهم وَعْدَهُ فصدَّقوا به، وسألوه أن __________ (1) من قوله: "وعدتنا على ألسنة" إلى قوله "ما وعدتنا" سقط من "ج". (2) في "ب": "بأنَّهم تقدم" بدلا من "بأنَّه قد تقدم". (3) في "هـ": "ألسنة". (4) ليس في "ب".

(1/179)


يؤتيهم إيَّاهُ، وهذا هو الَّذي ذكره السلف والخلف في الآية. وقيل: المعنى وآتنا ما وعدتنا من النَّصر والظَّفَر على ألسنة الرسل. والأوَّل أعمُّ وأكمل. وتأمَّل: كيف تضمَّن إيمانهم به الإيمان بأمره ونهيه ورسله ووعده ووعيده، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وصِدق وَعْدِه، والخوف من وعيده واستجابتهم لأمره، فبمجموع ذلك صاروا مؤمنين بربهم تعالى، فبذلك صحَّ لهم التوسل إلى سؤال ما وعدهم به والنجاة من عذابه. وقد أشكلَ على بعض النَّاس سؤالهم أن ينجز لهم وعده، مع أنَّه فاعل لذلك ولا بُدَّ. وأجاب: بأنَّ هذا تعبُّدٌ مَحْضٌ، كقوله: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112]، وقول الملائكة: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7]، وخفيَ على هؤلاء أنَّ الوعد معلَّقٌ بشروطٍ منها: - الرغبة إليه سبحانه وسؤاله أنْ ينجزه لهم. - كما أنَّه مُعَلَّقٌ بالإيمان وموافاتهم به. - وأنْ لا يلحقه ما يحبطه. فإذا سألوه سبحانه أنْ ينجز لهم ما وعدهم تضمن ذلك توفيقهم وتثبيتهم وإعانتهم على الأسباب التي ينجز لهم بها وعده، وكان هذا

(1/180)


الدعاءُ من أهمِّ الأدعية وأنفعها، وهم أحوجُ إليه من كثير من الأدعية. وأمَّا قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112]، فهذا سؤال له سبحانه أن ينصرهم على أعدائهم، فيحكم لهم عليهم بالنَّصر والغلبة. وكذلك سؤال الملائكة ربهم أنْ يغفر للتَّائبين، هو من الأسباب التي توجب بها لهم المغفرة، فهو سبحانه نَصَبَ الأسباب التي يفعل بها ما يريده بأوليائه (1) وأعدائه، وجعلها أسبابًا لإرادته، كما جعلها أسبابًا لوقوع مراده، فمنه السَّبَبُ والمُسَبَّبُ. وإنْ أشكل عليك ذلك، فانظر إلى خلقه الأسباب التي توجب محبته وغضبه، فهو يحب ويرضى، ويغضب ويسخط عن (2) الأسباب التي خلقها وشاءها، فالكل منه وبه، فهو مبتدئٌ من مشيئته، وعائدٌ إلى حكمته وحمده (3) . وهذا بابٌ عظيمٌ من أبواب التوحيد لا يَلِجُهُ إلَّا العالمون باللَّهِ. ونظيرُ هذه الآية في سؤاله ما وعد به (4) قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان: 15 - 16]، __________ (1) في "ج": "وأوليائه" وهو خطأ. (2) في "أ، ج، هـ، د": "غير"، ولعلَّ المثبتَ هو الصواب. (3) في المطبوعة "وحده". (4) في "ب، ج، د، هـ": "به في".

(1/181)


يسألهُ إيَّاهُ عباده المؤمنون، ويسأله إيَّاهُ ملائكته لهم، فالجنَّةُ تسأل ربها أهلها، وأهلها يسألونه إيَّاها، والملائكة تسألها لهم، والرسل يسألونه إيَّاها لهم (1) ولأتباعهم، ويوم القيامة يُقِيمهم سبحانه بين يديه يشفعون فيها لعباده المؤمنين، وفي هذا من تمام ملكه وإظهار رحمته وإحسانه وجوده وكرمه وإعطائه ما سُئِلَ = ما هو من لوازم أسمائه وصفاته (2) ، واقتضائها لآثارها ومتعلقاتها، فلا يجوز تعطيلها عن آثارها وأحكامها، فالربُّ تعالى جوادٌ له الجُوْد كله، يحب أنْ يُسْأَل ويُطْلَبُ منه ويُرْغبُ إليه، فَخَلَقَ مَنْ يسأله وألْهَمه سؤاله، وخلق له ما يسأله إيَّاهُ، فهو خالق السائل وسؤاله ومَسْؤوله، وذلك لمحبته لسؤال (3) عباده له، ورغبتهم إليه، وطلبهم منه، وهو يغضبُ إذا لم يُسْأل (4) . وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالًا، وهو يُحب المُلِحِّين (5) في الدعاء، وكلَّما ألحَّ العبد عليه في السؤال أحبَّهُ وأعطاهُ. وفي الحديث: "مَنْ لم يسأل اللَّه يغضب عليه" (6) . __________ (1) قوله "والرسل يسألونه إيَّاها لهم" من "ب، ج، د، هـ". (2) في "أ": "وصفاتها". (3) في "ب": "سؤال". (4) جاء في نسخة على حاشية "د" ما نصه: لا تسألنَّ بنيَّ آدم حاجةً ... وَسَل الَّذِي أبوابه لا تُحْجَبُ اللَّهُ يغضبُ إنْ تَرَكتَ سُؤاله ... وبني آدم حين يُسْأَلُ يغضبُ وانظر: "المستطرف" للأبشيهي (2/ 301). (5) في نسخة على حاشية "أ، هـ": "الملحِّين له". (6) أخرجه الترمذي برقم (3373) وابن ماجه (3827)، والبخاري في الأدب =

(1/182)


فلا إله إلَّا اللَّهُ، أيُّ جنايةٍ جَنَتْ القواعد الفاسدة على الإيمان، وحالتْ بين القلوب وبين معرفة ربَّها وأسمائه، وصفات كماله ونعوت جلاله و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]. قال أبو نعيم الفضل: حدثنا يونس -هو ابن أبي إسحاق- حدثنا بُرَيد ابن أبي مريم قال: قال أنس بن مالك: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من مسلمٍ يسألُ اللَّهَ الجنَّة ثلاثًا إلَّا قالت الجنَّةُ: الَّلهم أدخلهُ الجنَّة، ومن استجارَ باللَّهِ من النَّار ثلاثًا قالت النَّارُ: اللهم أجِرْهُ من النَّار" (1) . __________ = المفرد رقم (658)، وأحمد في المسند (2/ 442 و 477) وغيرهم. من طريق أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة فذكره. وهو حديثٌ منكرٌ تفرد به أبو صالح الخوزي وهو متكلمٌ فيه، وعدَّه ابن عدي من مفاريده. راجع "جلاء الأفهام" ص (419). (1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 262، 141، 155) وابن أبي شيبة رقم (29799)، وابن حبان في صحيحه (3/ رقم 1014)، والطبراني في الدعاء رقم (1312)، والبيهقي في الدعوات الكبير رقم (269) وغيرهم. كلهم من طريق يونس عن بُريد به فذكره. - ورواه أبو الأحوص وإسرائيل كلهم عن أبي إسحاق السَّبيعي عن بُريد عن أنس فذكره. أخرجه الترمذي (2567) وابن ماجه (4340) والنسائي (5521)، وأحمد (3/ 117)، والطبراني في الدعاء (1310، 1311)، وابن حبان (3/ رقم 1034)، والحاكم (1/ 717) رقم (1960) وغيرهم. قال الترمذي: "وقد روي عن أبي إسحاق عن بُريد عن أنس بن مالك قوله". =

(1/183)


رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن هناد بن السري، عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن بُرَيد به (1) . وقال الحسن بن سفيان: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن ليث عن يونس بن خَبَّاب عن أبي حازم عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما سأل اللَّه عبدٌ الجنَّة في يومٍ سبع مرَّات إلَّا قالت الجنَّة: يا ربِّ إنَّ عبدكَ فلانًا سألني فأدخلنيه" (2) . __________ = والحديث صححه ابن حبان والحاكم والضياء في المختاره (4/ رقم 1557). (1) في جميع النسخ "يزيد" وهو خطأ، وسقط "به" من "أ، ج". (2) هذا الحديث والَّلذان بعده يرويها أبو علقمة واختلف عليه: - فرواه شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبي علقمة، "قال شعبة ولم يرفعه يعلى إلى أبي هريرة" يعني: مقطوعًا، ويحتمل أنه أراد موقوفًا. أخرجه الطيالسي في مسنده (4/ رقم 2702). - ورواه يونس بن خبَّاب -رافضي ضعيف- واضطرب فيه. - فرواه جرير بن عبد الحميد وليث بن أبي سليم عن يونس عن أبي حازم عن أبي هريرة فذكره، كما ساقه المؤلف. أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده رقم (213)، وأبو نعيم في "صفة الجنَّة" رقم (68)، والبيهقي في الدعوات رقم (270). وهذا خطأٌ، أخطأ فيه يونس بن خباب فقال: عن أبي حازم، وهذا من اضطرابه، والصحيح عن أبي علقمة. هكذا رواه شعبة ومنصور بن المعتمر وشعيب بن صفوان وغيرهم كلهم عن يونس عن أبي علقمة عن أبي هريرة فذكره. رواه بعضهم موقوفًا، وبعضهم مرفوعًا. أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (2702)، وابن عدي في الكامل =

(1/184)


وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا جرير عن يونس عن أبي حازم عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما استجارَ عبدٌ من النَّار سَبْعَ مرَّاتٍ إلَّا قالت النَّارُ: يا رب إنَّ عبدك فلانًا استجار منِّي فأجِرْهُ، ولا يسأل عبدٌ الجنَّة سبع مرَّاتٍ إلَّا قالت الجنَّة: يا ربَّ إنَّ عبدَك فلانًا سألني فأدخله الجنَّة". وإسناده على شرط الصحيحين. وقال أبو داود في "مسنده": حدثنا شعبة: حدثني يونس بن خباب: سمع أبا علقمة عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قال: أسألُ اللَّهَ الجنَّة سبعًا، قالتِ الجنَّة: الَّلهم أدخله الجنَّة". وقال الحسن بن سفيان: حدثنا المُقَدَّمي عمر بن علي، عن يحيى ابن عبيد اللَّه عن أبيه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أكثروا مسألةَ اللَّهِ الجنَّة واستعيذوا به من النَّارِ؛ فإنَّهما شافعتانِ __________ = (7/ 174) وغيرهما. وهذا هو الصحيح عن يونس. راجع تفصيل ذلك علل الدارقطني (11/ 189 - 190). والصحيح في حديث أبي هريرة أنَّه موقوفٌ عليه أو مقطوع من قول أبي علقمة على الاختلاف في المراد بعبارة شعبة. وذهب البوصيري إلى أنَّه موقوف أو مقطوع، فقال: "وإسناد الطيالسي الأوَّل: على شرط مسلم، والثاني فيه يونس بن خباب قال فيه البخاري: منكر الحديث، واتفقوا على ضعفه". إتحاف الخيرة المهرة (6/ 506).

(1/185)


مشفعتان (1) ، وإنَّ العبدَ إذا أكثر من مسألةِ اللَّهِ الجنَّة (2) ، قالت الجنَّة: يا ربَّ عبدُك هذا الَّذي سألنيك فأسكنه إياي، وتقول النار: يا ربِّ عبدُكَ هذا الَّذي استعاذ بك منِّي فأعذْهُ" (3) . وقد كان جماعةٌ من السلفِ لا يسألون اللَّهَ الجنَّة ويقولون: حسبنا أن يُجِيرنا من النَّار. - فمنهم أبو الصَّهباء صِلَة بن أَشْيَم (4) : صلَّى ليلةً إلى السَّحَرِ، ثمَّ رفعَ يديه وقال: "الَّلهمَّ أجرني من النَّار: أَوَ مِثْلِي يَجْتَرِئُ أنْ يسألك الجنَّة؟ " (5) . __________ (1) ليست في "ب، د". (2) من قوله: "واستعيذوا به من النار" إلى "اللَّه الجنَّة" سقط من "ج". (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة رقم (70)، والديلمي في مسند الفردوس رقم (213) مختصرًا. وسنده ضعيف، فيه يحيى بن عبيد اللَّه -لعلَّهُ- ابن موهب القرشي المدني فيه ضعف، وله عن أبيه عن أبي هريرة مناكير. قال الحاكم: "روى عن أبيه عن أبي هريرة بنسخة أكثرها مناكير". قلتُ: ولعلَّ هذا منها. وفيه أيضًا عمر بن علي المقدمي: ثقة؛ لكنَّه يدلس تدليس السكوت، ولم يُبَيَّن هنا السَّماع. انظر: تهذيب الكمال (31/ 449 - 453). (4) هو البصري العابد الزاهد، زوج معاذة العدوية، قُتِلَ هو وابنه في إحدى المعارك سنة (162 هـ)، انظر: السير (3/ 497 - 500). (5) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 240)، وفيه قصة. وسنده لا بأس به.

(1/186)


- ومنهم عطاء السُّليمي (1) : كان لا يسأل الجنَّة، فقال له صالح المُرِّي: إنَّ أبانَ حدثني عن أنس أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: انظروا في ديوانِ عبدي، فمن رأيتموه سألني الجنَّة أعطيتُهُ، ومن استعاذني من النَّارِ أعذته" (2) . فقال عطاء: كفاني أنْ يُجيرني من النَّارِ. ذكرهما أبو نعيم. وقد روى أبو داود في "سننه" من حديث جابر في قصة معاذ وتطويله بهم، أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لفتى -يعني الَّذي شكاه- "كيفَ تصنعُ يا ابن أخي إذا صليتَ؟ قال: أقرأُ بفاتحة الكتاب وأسألُ اللَّهَ الجنَّة وأعوذُ به من النَّار، وإنِّي لا أدري ما دندنتُكَ ودندنة (3) معاذ؟ فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنِّي ومعاذًا حولها ندندن" (4) . __________ (1) في "ب، د" ونسخةِ على حاشية "أ": "السلمي" وهو خطأ. وعطاء السليمي هو البصري العابد، أدرك أنس بن مالك، وتوفي بعد سنة 140 هـ، انظر: السير (6/ 86 - 88). (2) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء": (6/ 175 - 176 و 226)، وفي صفة الجنَّة رقم (71). وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبان بن أبي عياش وهو متروك الحديث، وفيه صالح بن بشير المُرِّي ضعيف الحفظ. انظر: التقريب رقم (142، 2845). (3) الدَّنْدنة: أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته ولا يُفْهَمُ، وهو أرفع من الهيْمَنَة قليلًا. انظر: النهاية (2/ 137). (4) أخرجه أبو داود برقم (793)، وابن خزيمة (1634)، والبيهقي في السنن (3/ 116 - 117) وغيرهم. والحديث صححه ابن خزيمة. =

(1/187)


وفي "سنن أبي داود" من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُسْألُ بوجهِ اللَّهِ إلَّا الجنَّة" (1) . رواهُ أحمد بن عمرو العُصْفُرِي حدثنا يعقوب بن إسحاق حدثنا سليمان بن معاذ عن محمد فذكره. وقد تقدَّم في أوَّل الكتاب (2) حديث الليث عن معاوية بن صالح عن عبد الملك بن أبي بشير يرفع الحديث: "ما من يومٍ إلَّا والجنَّة والنَّار تسألانِ، تقول الجنَّة: يا ربِّ قد طابت ثماري، واطَّردت أنهاري، __________ = وللحديث شاهد عن بعض أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخرجه أبو داود (792)، وأحمد (3/ 473) بمثله. وسنده صحيح. (1) أخرجه أبو داود برقم (1671) وابن مندة في الرد على الجهمية رقم (89)، وابن عدي في الكامل (3/ 257)، والبيهقي في الأسماء والصفات برقم (661) وغيرهم. من طريق سليمان بن قرم عن محمد بن المنكدر عن جابر فذكره. وهذا الحديث تفرَّد به سليمان بن معاذ وهو ابن قرم، وهو ليَّن الحديث، وجعل ابن عدي هذا الحديث من منكراته. وقال: "وهذا الحديث لا أعرفه عن محمد بن المنكدر إلَّا من رواية سليمان بن قرم. . . ". وقال أبو حفص بن شاهين: ". . هو حديث غريب". انظر: تهذيب الكمال (34/ 21)، والمقاصد الحسنة للسخاوي رقم (1323). (2) ص (42 - 43).

(1/188)


واشتقت إلى أوليائي، فعجِّل إليَّ بأهلي" الحديث. فالجنَّة تطلب أهلها بالذَّات، وتجذبهم إليها جذبًا، والنَّار كذلك، وقد أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنْ لا نزال نذكرهما ولا ننساهما. كما روى أبو يعلى الموصلي في "مسنده": حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا أيوب بن شبيب الصنعاني (1) قال: كان فيما عرضنا على رباح بن زيد حدثني عبد اللَّه بن بَحِيْر (2) سمعت عبد الرحمن بن يزيد (3) يقول: سمعت عبد اللَّه بن عمر يقول: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا تنسُوا العظيمتين" قلنا: وما العظيمتان يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: "الجنَّة والنَّار" (4) . وذكر أبو بكر الشافعي من حديث كُلَيب بن حَزْن قال: سمعت رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "اطلبُوا الجنَّة جُهدكم، واهربوا من النَّار جهدكم، فإنَّ الجنَّة لا ينامُ طالبُها، وإنَّ النَّارَ لا ينامُ هاربُها، وإنَّ الآخرة __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ": "الصاغاني". (2) في جميع النسخ "نُمير" وهو خطأ. (3) وقع في جميع النسخ "زيد" وهو خطأ. (4) أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (1/ 417)، والدولابي في الكنى والأسماء (2/ 164)، وأبو يعلى في مسنده كما في المطالب العالية رقم (3318)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (66). وفيه أيوب بن شبيب روى عنه رجلان، وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 125) وقال: "يخطئ". وعليه فالإسناد ضعيف.

(1/189)


اليوم محفوفةٌ بالمكاره وإنَّ الدنيا محفوفةٌ بالَّلذات تقرَّب المسافة والشهوات، فلا تلهينَّكم عن الآخرة" (1) . __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير (19/ 200) رقم (449)، وفي الأوسط رقم (3643)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (30) وفي معرفة الصحابة (5/ رقم 5871) وغيرهما. قال الهيثمي: "وفيه يعلى الأشدق، وهو ضعيفٌ جدًّا". وقال الحافظ ابن حجر: "ويعلى متروك". انظر: مجمع الزوائد (10/ 31)، والإصابة (5/ 313).

(1/190)


 الباب الحادي والعشرون في أسماء الجنَّة ومعانيها واشتقاقها

ولها عِدَّةُ أسماءٍ باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار الذَّات، فهي مترادفة من هذا الوجه، وتختلف باعتبار الصفات فهي متباينة من هذا الوجه، وهكذا أسماء الرب تعالى وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء اليوم الآخر، وأسماء النَّار. الاسم الأوَّل: الجنَّة: وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، وما اشتملت عليه من أنواع النَّعيم والَّلذة والبهجة والسرور وقرَّة الأعين. وأصل اشتقاق هذه اللفظة من السِّتر والتغطية. ومنه الجنين: لاستتاره في البطن، والجان: لاستتاره عن العيون، والمِجَن: لستره، ووقايته الوجه، والمجنون: لاستتار عقله وتواريه عنه، والجانّ: وهي الحية الصغيرة الدقيقة، ومنه قول الشاعر: فَدَقَّتْ وَجَلَّتْ واسْبَكرَّتْ (1) وأكملت ... فلوجُنَّ إنسانٌ من الحُسن (2) جُنَّت (3) أي لو غُطِّي وسُتِرَ عن العيون لفُعِلَ بها ذلك، ومنه سمِّي البستان جَنَّة؛ لأنَّه يستر داخله بالأشجار ويغطِّيه، فلا يستحق هذا الاسم إلَّا __________ (1) في "ج": "واستكبرت"، وفي "هـ": "واستكرت". (2) في "ب": "البَيْن"، وفي "أ، هـ": "الجِنِّ". (3) البيت للشاعر الجاهلي الشَّنْفَرَى الأزدي، كما في المفضليات ص (109).

(1/191)


موضع كثير الشَّجَر مختلف الأنواع، والجُنَّة -بالضَّمِّ- ما يُسْتَجَنُّ به من تُرْسٍ أو غيره. ومنه قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] أي: يَتَترَّسُونَ (1) بها من إنكار المؤمنين عليهم. ومنه الجِنَّة (2) : -بالكسر- وهو الجِنُّ، كما قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } [الناس: 6]، وذهبت طائفة من المفسرين إلى أنَّ الملائكة يسمون جِنَّة، واحتجوا بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] قالوا: وهذا النسب قولهم: الملائكة بناتُ اللَّهِ، ورجحوا هذا القول بوجهين: أحدهما: أنَّ النَّسب الَّذي جعلوه إنَّما زعموا أنَّه بين الملائكة وبينه، لا بين الجِنّ وبينه. الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) } [الصافات: 158]. أي: قد علمت الملائكة أنَّ الَّذين قالوا هذا القول محضرون العذاب (3) . والصحيح خلاف ما ذهب إليه هؤلاء، وأنَّ الجِنَّة هم الجن أنفسهم كما قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } [الناس: 6]. __________ (1) في "هـ": "يستترون". (2) في "ج": "وصفة الجنَّة". (3) في "هـ، د": "للعذاب".

(1/192)


وعلى هذا ففي الآية قولان: أحدهما: قول مجاهد، قال: "قالت كفار قريش: الملائكة بناتُ اللَّهِ، فقال لهم أبو بكر: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: سَرَوات الجن" (1) . وقال الكلبي: "قالوا تزوج من الجن فخرج من بينهما الملائكة" (2) . وقال قتادة: "قالوا: صاهر الجِن" (3) . والقول الثاني: قول الحسن قال: "أشركوا الشياطين في عبادة اللَّهِ، فهو النسب الَّذي جعلوه" (4) . والصحيح قول مجاهد وغيره، وما احتج به أصحاب القول الأوَّل ليس بمستلزم لصحة قولهم؛ فإنَّهم لمَّا قالوا الملائكة بناتُ اللَّهِ، وهم من الجِنِّ عقدوا بينه وبين الجنِّ نسبًا بهذا الإيْلاد، أو جَعَلُوا (5) هذا النَّسَبَ متولِّدًا بينه وبين الجِنَّة. وأمَّا قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} فالضمير يرجعَ إلى الجِنَّة، أي: قد علمت الجِنَّة أنَّهم __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 108) وعنده (بنات سروات الجن). وسنده حسن إلى مجاهد، وفيه انقطاع بينه وبين أبي بكر الصديق. "وسروات الجِنِّ": أي: أشرافهم. النهاية: (2/ 363). (2) ذكره الواحدي في تفسيره الوسيط (3/ 534). (3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 128) رقم (2560). وسنده صحيح. (4) ذكره الماوردي في تفسيره النكت والعيون (5/ 70). (5) في "ب": "وجعلوا".

(1/193)


محضرون الحساب، قاله مجاهد (1). أي لو كان بينه وبينهم نسَب لم يحضروا الحساب، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]، فجعل سبحانه وتعالى عقوبتهم بذنوبهم وإحضارهم للعذاب مبطلًا لدعواهم الكاذبة، وهذا التقدير في الآية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأوَّل، فتأمله، والمقصود ذكر أسماء الجنَّة. فصل الاسم الثاني: دارُ السَّلام: وقد سمَّاها اللَّهُ تعالى بهذا الاسم في قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، وقوله {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]، وهي أحقُّ بهذا الاسم، فإنَّها دار السلامة من كلِّ بليةٍ وآفةٍ ومكروهٍ، وهي دار اللَّهِ، واسمه سبحانه وتعالى السَّلام الَّذي سلَّمها (2)، وسلَّم أهلها: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [يونس: 10]، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24]، والرب تعالى يسلم عليهم من فوقهم، كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 57, 58]، وسيأتي حديث جابر (3) في سلام الربِّ تبارك وتعالى عليهم في الجنَّة، وكلامهم كلُّه فيها سلام، أي: لا لغو __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 108). (2) في نسخةٍ على حاشية "أ": "سلَّمها اللَّهُ". (3) في ص (663 و 664).

(1/194)


فيه ولا فحش ولا باطل، كما قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62]. وأمَّا قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 90 - 91] فأكثر المفسرين حامُوا حولَ المعنى وما ورَدُوْهُ، وقالوا أقوالًا لا يخفى بُعْدها عن المقصود؛ وإنَّما معنى الآية واللَّه أعلمُ: فسلام لك أيُّها الرَّاحِلُ عن الدنيا حالَ كونك من أصحاب اليمين، أي: فسلامه لك كائنًا من أصحاب اليمين الَّذين سَلِمُوا من الدنيا وأنكادها، ومن النَّار وعذابها، فَبُشِّر بالسَّلامة عند ارتحاله من الدنيا، وقدومه على اللَّهِ تعالى، كما يُبَشر الملك رُوْحَه عند أخذها بقوله: "أبشري برَوْحٍ وَرَيْحَانِ وربٍّ غير غضبان" (1) ، وهذا أوَّل البُشرى التي للمؤمن في الآخرة. __________ (1) أخرجه ابن ماجه رقم (4262)، وأحمد (2/ 364 - 365). وابن خزيمة في التوحيد (1/ 276 - 277) تحت رقم (176)، والطبري في تفسيره (8/ 177)، وابن منده في الإيمان رقم (1068). من طريق ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة فذكره مطولًا. وسنده صحيح. وللحديث طرقٌ عن أبي هريرة: عند مسلم (2872)، وابن منده في الإيمان رقم (1069) وغيرهما.

(1/195)


فصل الاسم الثالث: دار الخلد. وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ أهلها لا يظعنون عنها أبدًا، كما قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108] وقال: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54]، وقال: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] وقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} [الحجر: 48]. وسيأتي إبطال قول من قال من الجهمية والمعتزلة بفنائها، أو فناء حركاتِ أهلها إنْ شاء اللَّهُ تعالى (1). فصل الاسم الرَّابع: دار المُقامة. قال تعالى: حكاية عن أهلها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 34 - 35]. قال مُقَاتِل: "أنزلنا دار الخلود، أقاموا فيها أبدًا، لا يموتون، ولا يتحولون منها أبدًا" (2). قال الفرَّاء والزَّجاج: "المقامة مثل الإقامة، يقال: أقمتُ بالمكان __________ (1) في ص (723 - 728). (2) انظر: تفسير مقاتل: (3/ 78).

(1/196)


إقامة، ومقامة، ومقامًا" (1). فصل الاسم الخامس: جنَّة المأوى. قال تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)} [النجم: 15] والمأوى: مَفْعَل من أوى يأوي، إذا انضمَّ إلى المكان، وصار إليه واستقرَّ به. وقال عطاء عن ابن عباس: "هي الجنَّة التي يأوي إليها جبريل والملائكة" (2). وقال مقاتل والكلبي: "هي جنَّة تأوي إليها أرواح الشهداء" (3). وقال كعب: "جنَّة المأوى: جنَّةٌ فيها طير خضر ترتعي فيها أرواح الشهداء" (4). وقالت عائشة رضي اللَّهُ عنها، وزِرُّ بن حُبَيْش: "هي جنَّة من الجنان" (5). __________ (1) انظر: معاني القرآن للفراء: (2/ 370)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج: (4/ 270 - 271). (2) ذكره الواحدي في تفسيره الوسيط (4/ 198)، ومعالم التنزيل للبغوي (7/ 406). (3) انظر: تفسير مقاتل: (3/ 290)، والوسيط للواحدي (4/ 198)، ومعالم التنزيل للبغوي (7/ 406). (4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (7/ 71) رقم (34105)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 381)، وسنده صحيح. (5) لم أقف عليه.

(1/197)


والصحيح أنَّه اسمٌ من أسماء الجنَّة كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40 - 41]، وقال في النَّار: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} [النازعات: 39] وقال: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت: 25]. فصل الاسم السادس: جنَّات عدن. فقيل: هو اسم لجنَّةٍ من جملة الجنَّات، والصحيح أنَّه اسمٌ لِجُملة الجنَّات، فكلها جنَّات عدن، قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61]، وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا (1) وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]، وقال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف: 12]. والاشتقاق يدلُّ على أنَّ جميعها جنَّاتُ عدنٍ، فإنَّه من الإقامة والدَّوامِ. يقال: عَدَن بالمكان: إذا أقام به، وَعَدَنْتُ البلد: توطَّنْتُهُ، وعَدَنتِ الإبل بمكان كذا: لَزِمَتْهُ فلم (2) تبرح منه. قال الجوهري: "ومنه جنَّات عدن أي جنَّات إقامة، ومنه سمي المَعْدِن (3) -بكسر الدَّالِ-؛ لأنَّ النَّاس يقيمون فيه الصيف والشتاء، ومركز كل شيءٍ معدنه. والعادن: النَّاقة المقيمة في __________ (1) هكذا بالخفض، وهي قراءة سبعِيَّة، انظر: النشر في القراءات العشر (2/ 244). (2) في "ب": "فلن". (3) في "ب، ج، د، هـ": "العدن".

(1/198)


المرعى" (1). فصل الاسم السَّابع: دار الحيوان. قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] والمراد: الجنَّة عند أهل التفسير، قالوا: وإنَّ الآخرة يعني: الجنة. لهي (2) الحيوان: لهي دار الحياة التي لا موت فيها. وقال الكلبي: "هي حياة لا موت فيها". وقال الزجاج: "هي دار الحياة الدائمة" (3). وأهل اللغة على أنَّ الحيوان بمعنى: الحياة. قال أبو عبيدة وابن قتيبة: "الحياةُ: الحيوان" (4). قال أبو عبيدة: "الحياة والحيوان والحِي -بكسر الحاء- واحد" (5). قال أبو علي: "يعني (6) أنَّها مصادر، فالحياة فَعَلة كالحَلَبة، والحيوان: كالنَّزوان والغَلَيان، والحِيُّ: كالعِيِّ، قال العَجَّاج: __________ (1) انظر: الصحاح للجوهري مادة "عدن": (2/ 1582). (2) في نسخة على حاشية "أ": "وهي". (3) انظر: معاني القرآن وإعرابه: (4/ 173). (4) انظر: تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (339)، والوسيط للواحدي (3/ 425). (5) انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: (1172). (6) في "ج": "بمعنى".

(1/199)


كنَّا بِهَا إذِ الحياةُ حِيّ (1) أي: إذِ الحياة حياة" (2) . وأمَّا أبو زيد فخالفهما وقال: "الحيوان ما فيه روح، والموتان والموات ما لا روح فيه". والصواب: أنَّ الحيوان يقع على ضربين: أحدهما: مصدر، كما حكاه أبو عبيدة. والثاني: وصف كما حكاه أبو زيد، وعلى قول أبي زيدٍ الحيوان مثل: الحَيَّ خلاف الميِّت، ورُجِّحَ القول الأول؛ بأنَّ الفَعَلان بابُهُ المصادر؛ كالنَّزوان والغَلَيان، بخلاف الصِّفات، فإنَّ بابها فَعْلَان كَسَكْران وغضبان. وأجاب من رَجَّح القول الثاني، بأنَّ فَعَلان قد جاء في الصِّفات أيضًا، قالوا: رجل صَمَيَان: للسريع الخفيف، وزَفَيَان. قال في "الصحاح" (3) : ناقة زفيان: سريعة. وقوس زفيان: سريعة الإرسال للسهم". فيحتمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] معنيين: أحدهما: أنَّ حياة (4) الآخرة هي الحياة؛ لأنَّه لا تنغيص فيها ولا نفاد لها: أي لا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، فيكون __________ (1) * انظر: ديوان العجاج ص (295)، والجمهرة لابن دريد (1/ 232) و (3/ 1053) *. (2) * جاء في حاشية نسخة ديوان العجاج ص (295) تعليق، فليراجع *. (3) انظر: الصحاح للجوهري (2/ 1049) بغير هذا اللفظ. (4) قوله: "أنَّ الحياة": ليس في "ب".

(1/200)


الحيوان مصدرًا على هذا. الثاني: أنْ يكون المعنى: أنَّها الدار التي لا تفنى ولا تنقطع، ولا تبيد كما يفنى الأحياء في هذه الدنيا، فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الَّذي يفنى ويموت. فصل الاسم الثامن: الفردوس. قال اللَّهُ تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 10 - 11]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107]. والفردوس (1): اسم يُقال على جميع الجنة، ويقال على أفضلها وأعلاها، كأنَّه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات. وأصل الفردوس: البستان، والفراديس: البساتين. قال كعب: "هو البستان الَّذي فيه الأعناب" (2). قال الليث: "الفردوس: جنة ذات كروم. يقال: كرم مُفَرْدَس: أي مُعَرَّش". وقال الضحاك: "هي الجنَّة الملتفة بالأشجار" (3)، وهو اختيار المُبَرَّد. وقال: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر المُلْتَف، والأغلب عليه العنب (4)، __________ (1) قوله {نُزُلًا}. و"الفردوس" سقط من "ج". (2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 36) وسنده ضعيف. (3) ذكره البغوي في تفسيره معالم التنزيل: (5/ 211). (4) إلى هنا نقله عنه ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير (5/ 199 - 200).

(1/201)


وجمعه: الفراديس: قال: وبهذا سمي الفراديس بالشام، وأنشد لجرير: فقلت للرَّكب إذْ جدَّ المسيرُ بنا ... يا بُعد يَبْرِينَ من باب الفراديس" (1) وقال مجاهد: "هو البستان بالرومية" (2). واختاره الزجاج، فقال: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية. قال: وحقيقته أنَّه البستان الَّذي يجمع كل ما يكون في البساتين (3). قال حسان: وإنَّ ثوابَ اللَّهِ كل مُخلَّدٍ ... جِنَانٌ من الفردوس فيها يُخلَّدُ (4) فصل الاسم التاسع: جنات النعيم. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)} [لقمان: 8]، وهذا أيضًا اسمٌ جامعٌ لجميع الجنَّات، لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصُّور، والرَّائحة الطَّيِّبة والمنظر البهيج، والمساكن الواسعة، وغير ذلك من النَّعيم الظاهر والباطن. __________ (1) انظر: ديوان جرير ص (391)، وفيه "الرحيل" بدلًا من "المسير". (2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 36) وسنده صحيح. (3) انظر: معاني القرآن وإعرابه (3/ 315). (4) انظر: ديوان حسان بن ثابت رضي اللَّهُ عنه ص (93) وفيه "يتَّلَّد" بدلًا من "يخلَّد"، وانظر: البحر المحيط لأبي حيان (6/ 159).

(1/202)


فصل الاسم العاشر: المقام الأمين. قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)} [الدخان: 51]، فالمقام: موضع الإقامة، والأمين: الآمن من كلَّ سوءٍ ومكروهٍ، وهو الَّذي قد جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزَّوال والخراب، وأنواع النُّغص (1)، وأهله آمنون فيه من الخروج والنَّقص (2) والنَّكد. و {الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين: 3]: الَّذي قد أمن أهله فيه ممَّا يخاف منه سواهم. وتأمَّل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) وفي قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)} [الدخان: 55] فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام، فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرَّتها، وأمن الخروج منها، فلا يخافون ذلك، وأمن الموت فلا يخافون فيها موتًا. __________ (1) في "ب، ج، د": "النقص". (2) في "ب، د": "النُّغَص".

(1/203)


فصل

الاسم الحادي عشر والثاني عشر: مَقْعَدُ الصدق، وقَدَمُ الصدق.

قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 54 - 55]، فسمَّى الجنَّة مقعد صِدْقٍ، لحصول كل ما يُراد من المقعد الحسن فيها، كما يقال: مودَّة صادقة: إذا كانت ثابتة تامَّة، وحلاوة صادقة، وحملة صادقة، ومنه الكلام الصَّدق، لحصول (1) مقصوده منه. وموضوع هذه اللفظة في كلامهم: الصِّحة والكمال، ومنه الصَّدق في الحديث، والصدق في العمل، والصَّديق الَّذي يصدَّق قوله بالعمل، والصَّدق -بالفتح- الصُّلب من الرِّماح، ويقال للرجل الشجاع: إنَّه لذو مِصْدق أي صادق الحَمْلَة. وهذا مِصْداق هذا: أي ما يُصدِّقه، ومنه الصَّداقة؛ لصفاء المودَّة والمُخالَّة، ومنه صَدَقَنِي القتال، وصَدَقَنِي المودَّة، ومنه قدم الصِّدْق، ولسان الصَّدق، ومدخل الصدق، ومخرج الصَّدق، وذلك كله للحقَّ الثابت المقصود الَّذي يرغب فيه، بخلاف الكذب الباطل، الَّذي لا شيءَ تحته، ولا يتضمن أمرًا ثابتًا، وفُسِّرَ قدم الصَّدق: بالجنَّة، وفُسِّر بالأَعمال التي تنال بها الجنَّة، وفُسِّر بالسَّابقة التي سبقت لهم من اللَّه، __________ (1) في "ج": "المحصول"، وفي "د": "لمحصول".

(1/204)


وفُسِّر بالرسول الَّذي على يده وهدايته نالوا ذلك. والتَّحقيق أنَّ الجميع حقَّ؛ فإنَّهم سبقت لهم من اللَّه بذلك السابقة بالأسباب التي قدَّرها لهم على يد رسوله، وادَّخر لهم جزاءها يوم لقائه (1) ، ولسان الصَّدق هو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال، وجميل الطرائق، وفي كونه لسان صِدْق إشارة إلى مطابقته للواقع، وأنَّه ثناء بحقًّ لا بباطل، ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الَّذي يكون صاحبه فيه ضامنًا على اللَّهِ، وهو دخوله وخروجه باللَّه وللَّه، وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد، فإنَّه لا يزال داخلًا في أمرٍ وخارجًا من أمرٍ، فمتى كان دخوله للَّه وباللَّه وخروجه كذلك، كان قد أُدْخِل مدخل صدق وأُخْرِجَ مخرج صدق. __________ (1) في "ب، د، هـ": "القيامة".

(1/205)


 الباب الثاني والعشرون: في عدد الجنَّات، وأنَّها نوعان: جنتان من ذهب، وجنتان من فضة

الجنَّة: اسمٌ (1) شامل لجميع ما حوته من البساتين والمساكن والقصور وهي جنات كثيرة جدًّا، كما روى البخاري في "صحيحه" (2) عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-: أنَّ أم الربيع بنت البراء -وهي أم حارثة بن (3) سراقة- أتت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: يا نبي اللَّه ألا تحدِّثني عن حارثة؟ -وكان قُتِل يوم بدرٍ أصابه سهمُ غَرْبٍ (4) -، فإنْ كان في الجنَّة صبرتُ، وإنْ كان غيرَ ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: "يا أمَّ حارثة، إنَّها جنان في الجنَّة (5)، وإنَّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى". وفي "الصحيحين" (6) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "جنتان من ذهبٍ آنيتهما وحليتهما وما فيهما، __________ (1) في "أ": "اسم الجنَّة شامل". (2) رقم (2654). (3) في "أ" "بنت" وهو خطأ. (4) "سهم غرب": أي لا يُعْرف راميه. انظر: النهاية لابن الأثير (3/ 350). (5) قوله "في الجنَّة" ليس في "ب"، ووقع في "هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "جنَّات" بدلًا من "جِنَان". (6) البخاري رقم (4597)، ومسلم رقم (180). تنبيه: قوله "وحليتهما" ليس في الصحيحين.

(1/206)


وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أنْ ينظروا إلى ربِّهم إلَّا رداء الكبرياء على وجهه في جنَّة عدنٍ". وقد قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) } [الرحمن: 46] فذكرهما ثمَّ قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) } [الرحمن: 62] فهذه أربع. وقد اختلف في قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا} هل المراد به أنَّهما فوقهما، أو تحتهما على قولين: فقالت طائفة: من دونهما أي: أقرب منهما إلى العرش، فيكونان فوقهما. وقالت طائفة: بل معنى من دونهما: تحتهما. قالوا: وهذا المنقول في لُغة العرب إذا قالوا: هذا دون هذا، أي دونه في المنزلة، كما قال بعضهم لمن بالغ في مدحه: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك. وفي "الصحاح": "دون: نقيض (1) فوق، وهو تقصيرٌ عن الغاية، ثمَّ قال: ويقال: هذا دون هذا (2) أي أقرب منه" (3) . والسِّياق يدلُّ على تفضيل الجنتين الأولتين من عشرة أوجه: أحدها: قوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) } [الرحمن: 48] وفيه قولان: __________ (1) في "د، هـ": "يقتضي"، والمثبت من الصحاح وباقي النسخ. (2) سقط من "ج"، وفي الصحاح "ذاك" بدلًا من "هذا". (3) انظر: الصحاح للجوهري (2/ 1554).

(1/207)


أحدهما: أنَّه جمع فَنَن، وهو الغصن. والثاني: أنَّه جمع فَنٍّ، وهو الصِّنْف: أي ذواتا أصنافٍ شتَّى من الفواكه وغيرها، ولم يذكر ذلك في الَّلتين بعدهما. الثاني: قوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) } [الرحمن: 50]، وفي الأُخْرَيَيْنِ: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) } [الرحمن: 66]، والنَّضاخة: هي الفوَّارة، والجارية: السَّارحة، وهي أحسن من الفوَّارة، فإنَّها تتضمن الفوران والجريان. الثالث: أنَّه قال: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) } [الرحمن: 52] وفي الأخريين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) } [الرحمن: 68]، ولا ريب أنَّ وصف الأولتين أكمل. واختلف في هذين الزوجين بعد الاتفاق على أنَّهما صِنْفان. فقالت طائفة: الزوجان: الرَّطب واليابس الَّذي لا يقصر في فضله وجودته عن (1) الرَّطْب، وهو مُتَمَتَّع به كما يُتَمَتع باليابس. وفيه نظرٌ لا يَخْفى. وقالت طائفة: الزوجان صنفٌ معروف، وصنف من شكله غريب. وقالت طائفة: نوعان. ولم تزد. والظَّاهر واللَّه أعلم: أنَّه الحلو والحامض، والأبيض والأحمر؛ __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ": "على".

(1/208)


وذلك لأنَّ اختلاف أصناف الفاكهة أعجب وأشهى، وألذ لِلْعَيْنِ والفَمِ. الرَّابع: أنَّه قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، وهذا تنبيهٌ عن فضل الظَّهائر وخطرها، وفي الآخرتين قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) } [الرحمن: 76]، وفُسِّرَ الرَّفْرَف: بالمحابس والبُسُط، وفُسِّر: بالفُرُش، وفُسِّر: بالمحابس فوقها. وعلى كل قول فلم يصفه بما وصف به فرش الجنتين الأوَّلتين. الخامس: أنَّه قال: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) } [الرحمن: 54] أي قريب سهل يتناولونه كيف شاؤوا، ولم يذكر ذلك في الآخرتين. السَّادس: أنَّه قال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن: 56] أي قد قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ على أزواجهنَّ، فلا يُردْنَ غيرهم لرضاهنَّ بهم (1) ، وتحببهنَّ (2) لهم، وذلك يتضمن قصرهنَّ لطرف أزواجهنَّ عليهنَّ، فلا يدعهم حسنهنَّ أن ينظروا إلى غيرهنَّ، وقال في الآخرتين: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) } [الرحمن: 72]، ومن قصرت طرفها على زوجها باختيارها أكمل ممَّن قصرت بغيرها. السَّابع: أنَّهُ وَصَفَهُنَّ بشبه الياقوت والمرجان في صفاء اللون، وإشراقه وحسنه، ولم يذكر ذلك في التي بعدها. الثامن: أنَّه سبحانه قال في الجنتين الأَوَّلتين: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) } [الرحمن: 60] وهذا يقتضي أنَّ أصحابهما من أهل __________ (1) سقط من "ج". (2) في "ب، د": "ومحبتهنَّ".

(1/209)


الإحسان المطلق الكامل، فكان جزاؤهم بإحسان كامل. التاسع: أنَّه بدأ بوصف الجنتين (1) الأوَّلتين، وَجَعَلَهُمَا جزاءً لمن خاف مقامه، وهذا يدل على أنَّهما أعلى جزاء الخائف لمقامه، فرتَّب الجزاء المذكور على الخوف ترتيب المسبَّب على سببه، ولما كان الخائفون نوعين: مُقَرَّبين وأصحاب يمين، ذكر جَنَّتَي المقربين، ثمَّ ذكر جنَّتي أصحاب اليمين. العاشر: أنَّهُ قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) } [الرحمن: 62] والسِّياق يدل على أنَّه نقيض (2) فوق، كما قال الجوهري. فإنْ قيل: فكيف انقسمت هذه الجِنَان الأربع على من خاف مقام ربه؟ قيل: لمَّا كان الخائفون نوعين كما ذكرنا، كان للمقربين منهم الجنتان العاليتان، ولأصحاب اليمين الجنتان اللتان دونهما. فإنْ قيل: فهل الجنتان لمجموع الخائفين يشتركون فيهما، أم لكلِّ واحد جنتان وهما البستانان؟ قيل (3) : هذا فيه قولان للمفسرين، ورُجِّح القول الثاني بوجهين: أحدهما: من جهة النقل. والثاني: من جهة المعنى. __________ (1) من "ب، ج، د، هـ". (2) في "ب، ج، د، هـ": "يقتضي". (3) من قوله: "فهل الجنتان لمجموع" إلى "قيل" سقط من "ج".

(1/210)


فأمَّا الَّذي من جهة النقل (1) ، فإنَّ أصحاب هذا القول رَووا عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "هما بستانان في رياض الجنَّة" (2) . وأمَّا الَّذي من جهة المعنى فإنَّ إحدى الجنتين جزاء أداء الأوامر، والثانية جزاء اجتناب المحارم. فإنْ قيل: فكيف قال في ذكر النساء {فِيهِنَّ} في الموضعين، ولمَّا ذكر غيرهنَّ قال {فِيْهِمَا}؟ قيل (3) : لما ذكر الفرش قال بعدها: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] ثمَّ أعاده في الجنتين الآخرتين بهذا اللفظ، ليتشاكل (4) الَّلفظ والمعنى. واللَّهُ أعلم. __________ (1) من قوله: "والثاني من جهة" إلى "النقل" سقط من "ج". (2) ذكره الثعلبي في تفسيره (9/ 189) بدون سند، وكذا ذكره الهروي كما في التذكرة للقرطبي ص (382)، والجامع لأحكام القرآن (17/ 177). وأخرج ابن مردويه (6/ 203 - الدر)، عن عياض بن تميم أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلا {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن/ 46]، قال: "بستانان عرض كل واحد منهما مسيرة مائة عام. . . . ". (3) من قوله: "فكيف قال في ذكر النساء" إلى قوله "قيل" سقط من "ج". (4) في "ب، ج، د": "ليشاكل".

(1/211)


 الباب الثالث والعشرون في خلق الرَّبِّ تبارك وتعالى بعض الجِنَان بيده وغرسها بيده تفضيلًا لها على سائر الجنَّات (1)

وقد اتخذ الرب تعالى من الجنَّات (2) دارًا اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهي سيدة الجنان، واللَّهُ سبحانه يختار من كلِّ نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة: جبريل، ومن البشر: محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن السماوات: العُليا، ومن البلاد: مكة، ومن الأشهر: الحُرُم، ومن الليالي: ليلة القَدْر، ومن الأيام: يوم الجمعة، ومن الليل: وسطه، ومن الأوقات: أوقات الصلوات، إلى غير ذلك، فهو سبحانه {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]. قال الطبراني في "معجمه": حدثنا مُطَّلب بن شعيب الأزدي حدثنا عبد اللَّه بن صالح حدثني الليث. قال الطبراني: وحدثنا أبو الزِّنْباع رَوْح ابن الفَرَج حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا الليث عن زيادة (3) بن محمد الأنصاري عن محمد بن كعب القُرَظي عن فَضَالة بن عُبيد عن أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ينزلُ اللَّهُ تعالى في آخر ثلاث ساعاتٍ يَبْقيْنَ من الليل، فينظرُ اللَّهُ في الساعة الأولى منهنَّ __________ (1) في "د، هـ": "الجنان". (2) في "ب، د، هـ": "الجنان". (3) في "ج": "زياد" وهو خطأ.

(1/212)


في الكتاب الَّذي لا ينظر فيه غيرُهُ، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثمَّ ينظر في الساعة الثانية في جنَّة عدنٍ وهي مسكنُهُ (1) الَّذي يسكن، لا يكون معه فيها أحدٌ إلَّا الأنبياء والشهداء والصدِّيقون، وفيها ما لم يره أحد، ولا خطرَ على قلب بشر، ثمَّ يهبطُ آخر ساعة من الليل، فيقول: ألَا مستغفر يستغفرني فأغفر له؟ ألا سائلٌ يسألني فأعطيه؟ ألا داع يدعوني فأستجيب له؟ حتَّى يطلعَ الفجرُ، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. فيشهده اللَّهُ تعالى وملائكته" (2) . وقال الحسن بن سفيان: حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السَّرْح قال: حدثني خالي (3) عبد الرحمن بن عبد الحميد بن سالم، حدثنا يحيى بن أيوب، عن داود بن أبي هند، عن أنس بن مالك رضي __________ (1) في "ب": "مستكنَّه". (2) أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (8635)، وفي الدعاء رقم (135)، وابن أبي شيبة في العرش رقم (86)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (199)، والطبري في تفسيره (15/ 139)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 93) وغيرهم. وهو حديث منكر، فيه زيادة بن محمد الأنصاري وهو منكر الحديث كما قاله البخاري والنسائي وأبو حاتم. قال العقيلي: "والحديث في نزول اللَّه عزَّ وجل إلى السماء الدنيا ثابت، فيه أحاديث صحاح، إلَّا أنَّ زيادة هذا جاء في حديثه بألفاظ لم يأتِ بها النَّاس، ولا يتابعه عليها أحدٌ منهم". وذكره الذهبي في الميزان (3/ 145)، وقال: "فهذه ألفاظ منكرة لم يأتِ بها غير زيادة. . . ". (3) ليس في "أ، ج".

(1/213)


اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّه بَنَى الفردوس بيده، وحَظَرَهَا على كلِّ (1) مشركٍ، وكلِّ مدمنِ خَمْرٍ (2) سِكِّيرٍ" (3) . وقد ذكر الدارمي والنَّجاد وغيرهما من حديث أبي معشر: نجيح بن عبد الرحمن -مُتَكَلَّمٌ فيه- عن عون بن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل، عن أخيه عبد اللَّه بن عبد اللَّه عن أبيه عبد اللَّه بن الحارث رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خلق اللَّه تبارك وتعالى ثلاثة أشياء بيده: __________ (1) ليس في "ج". (2) في "أ، ج، هـ": "الخمر". (3) أخرجه تمام في فوائده رقم (56، 57 - الروض البسَّام)، وابن منده في الرد على الجهمية رقم (51)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 94 - 95)، وفي صفة الجنَّة رقم (61) وغيرهم. قال أبو نعيم: "غريب من حديث داود عن أنس، لم يروه عنه إلَّا يحيى ابن أيوب المعافري المصري، تفرَّد به عنه أبو رجاء". قلتُ: أبو رجاء هذا الَّذي تفرَّد بهذا الحديث هو عبد الرحمن بن عبد الحميد بن سالم المهري مع أنَّه وثقه أبو داود إلَّا أنَّ ابن يونس -في تاريخ مصر- قال: ". . . وكان قد عمي فكان يحدِّث حفظًا، فأحاديثه مضطربه". وأيضًا داود بن أبي هندٍ لم يسمع من أنس بن مالك قاله ابن حبان. انظر: تهذيب التهذيب (2/ 528)، والثقات لابن حبان (6/ 278). وقد خولف أبو رجاء، خالفه سعيد بن كثير بن عفير المصري. فرواه سعيد عن يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أنس بن مالك بمثله. أخرجه ابن منده في الرَّدِّ على الجهمية رقم (52). وهذا هو الصواب، وعليه فالإسناد منقطع سعيد بن أبي هلال لم يسمع من أنس. تهذيب الكمال (11/ 95).

(1/214)


خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده" ثمَّ قال: "وعزَّتي وجلالي لا يدخلها مُدمنُ خمرٍ ولا الدُّيوثُ". قالوا: يا رسول اللَّه، قد عرفنا مدمن الخمر، فما الدَّيُّوث؟ قال: "الَّذي يُقِرُّ السُّوء في أهله" (1) . قلتُ: المحفوظ أنَّه موقوف. قال الدَّارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عبيد بن مهران حدثنا مجاهد قال: قال عبد اللَّه بن عمر: "خَلَقَ اللَّهُ أربعة أشياء بيدهِ: العرشَ، والقلمَ، وعَدن، وآدم، ثمَّ قال لسائِرِ الخلقِ كُنْ فكان" (2) . وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن عطاء بن السَّائب عن مَيْسرة قال: إنَّ اللَّهَ لم يمسَّ شيئًا من خلقه غير ثلاثٍ: "خلق آدم __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (41)، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة رقم (1117) مختصرًا، والدارقطني في الصفات رقم (28)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (23). والحديث مرسل ضعيف الإسناد، فإنَّ عبد اللَّه بن الحارث قال العلائي: "حديثه مرسل قطعًا"، نجيح بن عبد الرحمن هو السندي ضعيف الحديث. انظر: جامع التحصيل للعلائي رقم (345)، والتقريب رقم (7100). (2) أخرجه الدارمي في الرد على بشر المريسي رقم (44 و 112)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (729 و 730)، والحاكم (2/ 350) رقم (3244)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (213 و 1018)، والطبري في تفسيره (23/ 185). من طرق عن عبيد المكتب به. قال الحاكمُ: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وهو كما قال.

(1/215)


بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنَّة عدنٍ بيده" (1) . وحدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن كعب قال: "لم يخلق اللَّهُ بيده غير ثلاث: خلقَ آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنَّة عدْنٍ بيده. ثمَّ قال لها: تكلمي، قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1 )} (2) . __________ (1) أخرجه الدَّارمي في النقض على بشر المريسي رقم (45)، وهناد في الزهد رقم (44)، والطبري في تفسيره (1/ 18). من طريق أبي عوانة وأبي الأحوص وجرير كلهم عن عطاء به. ولفظُ أبي الأحوص "خلق اللَّهُ تبارك وتعالى بيده أربعة خلق: آدم بيده، واللوح والقلم بيده، وغرس جنَّة عدن بيده، ثمَّ قال: قد أفلح المؤمنون. وقال -يعني أبا الأحوص- والرَّابعة أغفلها. ولفظ جرير بنحوه. ولعلَّ لفظ أبي عوانة أصح، فقد ذكر بعض أهل العلم أنَّه سمع من عطاء قبل اختلاطه وبعد ما اختلط، وأمَّا جرير فجزموا بأنَّه سمع منه بعد الاختلاط ورواية جرير توافق رواية أبي الأحوص ورواية أبي عوانة تخالفهما فلعلَّ رواية أبي عوانة هذه من صحيح حديثه عن عطاء، انظر: الكواكب النيرات ص (323) وص (328). وميسرة هو أبو صالح الكندي تابعي روى عن علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عنه. انظر: تهذيب الكمال (29/ 197). وعليه فالأثر الَّذي ساقه المؤلف حسن. (2) أخرجه الدارمي في النقض على بشر المريسي رقم (46)، والآجري في الشريعة رقم (759). ورواه عبد الواهاب الثقفي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: بلغنا أنَّ كعبًا قال فذكر نحوه. أخرجه المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (1458)، =

(1/216)


وقال أبو الشيخ: حدثنا أبو يعلى، حدثنا أبو الربيع، حدثنا يعقوب القُمِّي حدثنا حفص بن حميد عن شِمْر بن عطية قال: "خلق اللَّهُ جنَّة الفردوس بيده، فهو يفتحها كل يوم خميس، فيقول: ازدادي طيبًا لأوليائي، ازدادي حسنًا لأوليائي" (1) . وذكر الحاكم عن مجاهد قال: "إنَّ اللَّهَ تعالى غرس جنات عدن بيده، فلمَّا تكاملت أُغلقت فهي تفتح في كلِّ سَحَرٍ، فينظر اللَّهُ إليها فيقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( 1)} (2) . __________ = والبيهقي في البعث والنشور رقم (234). ورواه معمر وغيره عن قتادة أنَّ كعبًا قال فذكره. أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 1)، وابن حبيب في وصف الفردوس رقم (5) وغيرهما. وفي الحديث اختلافٌ آخر سيأتي ص (219)، ولعلَّ الطريق الَّذي ساقه المؤلف أصحها، فالإسناد صحيح إلى كعب الأحبار. (1) أخرجه حرب في مسائله ص (407)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (181). وسنده حسن إلى شِمْر بن عطية الكوفي وهو من أتباع التابعين. (2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (237) من طريق جابر الجعفي عن مجاهد فذكره. وجابر متكلمٌ فيه فوثقه بعضهم واتهمه آخرون، لكنه لم ينفرد به. فرواه عبد العزيز بن رفيع والقاسم بن أبي بزَّة عن مجاهد بنحوه. أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 1)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (18). وفي إسناديهما مقال.

(1/217)


وذكر البيهقي من حديث البغوي حدثنا يونس بن عبيد اللَّه (1) البصري حدثنا عدي بن الفضل عن الجُرَيري (2) ، عن أبي نَضْرَة عن أبي سعيد رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ أحاط حائط الجنَّة لبنةً من ذهب ولبنةً من فضة، وغرس غرْسها بيده، ثمَّ قال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) } [المؤمنون: 1]، فقال: طوبى لك منزل الملوك" (3) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن المثنى البزاز، حدثنا محمد ابن زياد الكلبي حدثنا بشر (4) بن حسين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلَقَ اللَّهُ جنَّة عدنٍ بيده، لَبنَةً من درَّةٍ بيضاءَ، ولبنةً من ياقوتةٍ حمراء، ولبنةً من زَبرجَدةٍ خضراءَ، ملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ، وحشيشها الزعفران، ثمَّ قال لها: انطقي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) فقال اللَّه عزَّ وجل: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل، ثمَّ تلا رسول اللَّه __________ (1) في نسخة على حاشية "أ" "عبد اللَّه". (2) في "هـ": "الجوهري" وهو خطأ. (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (140، 237) وفي الحلية (6/ 204)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (236). وعدي بن الفضل هو البصري متروك الحديث، وقد خولف: خالفه وهيب، فرواه وهيب عن الجريري به موقوفًا. أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (237)، والبزار كما سيأتي عند المؤلف. ورجح المنذري والمؤلف في ص (592)، الموقوف، وهو كما قالا. (4) في جميع النسخ "بشير" وهو خطأ.

(1/218)


-صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) } [الحشر: 9] (1) . وتأمَّل هذه العناية كيف جعل الجنَّة (2) التي غرسها بيديه (3) لمن خلقه بيديه ولأفضل ذريته = اعتناءً وتشريفًا وإظهارًا لفضل ما خلقه بيديه (4) وشرفه، وتمييزه (5) بذلك عن غيره، وباللَّه التوفيق، فهذه الجنَّة في الجنان؛ كآدم في نوع الحيوان. وقد روى مسلم في "صحيحه" (6) عن المغيرة بن شعبة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "سألَ موسى ربه: ما (7) أدنى أهل الجنَّة منزلةً؟ قال: رجلٌ يجيء بعدما دخل أهل الجنَّة الجنَّة، فيقال له: أدخلِ الجنة، فيقول: ربِّ كيف وقد نزل النَّاس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أنْ يكون لك مثل مَلِكٍ (8) من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربِّ، فيقول له: لك ذلك ومِثْلُه ومِثْله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (20)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (17) مختصرًا. وهو حديث باطل وخطأ، فإنَّ محمد بن زياد الكلبي ضعيف جدًّا، وبشر ابن حسين متروك، وهو خطأ على سعيد بن أبي عروبة. وصوابه عن سعيد عن قتادة عن أنس عن كعب الأحبار كما تقدم ص (217). (2) في "ب، د" "وتأمَّل كيف هذه العناية كيف جعل الجنة". (3) في "د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "بيده" وكذا بعده. (4) في نسخةٍ على حاشية "أ" "بيده". (5) في "هـ": "وتميزه". (6) رقم (189). (7) في نسخة على حاشية "أ" "من". (8) في مسلم: "مثل مُلْكِ مَلِكٍ".

(1/219)


رضيت رب. قال: رب، فأعلاهم منزلةً، قال: أولئك الَّذين أردت، غرست كرامتهم بيديَّ، وختمت عليها، فلم ترَ عينٌ ولم تسمع أذُنٌ، ولم يخطر على قلب بشر"، ومصداقه من كتاب اللَّهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

(1/220)


 الباب الرَّابع والعشرون في ذكر بوَّابِيْ الجنَّة وخزنتها، واسم مُقدَّمهم ورئيسهم

قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73]. والخَزَنَة: جمع خازن، مثل حَفَظَة وحَافِظ، وهو المُؤْتَمَن على الشيء الَّذي قد استحفظه. وروى مسلمٌ في "صحيحه" (1) من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آتي بابَ الجنَّة يومَ القيامة فأستفتح، فيقول الخازنُ: من أنتَ؟ فأقول محمدٌ، فيقول: بك أمرتُ أنْ لا أفتح لأحدٍ قبلَكَ". وقد تقدَّم حديث أبي هريرة المتفق عليه (2): "من أنفق زوجين في سبيل اللَّه دعاهُ خزنةُ الجنَّة كلُّ خزنة باب: أي فُلُ هلُمَّ". قال أبو بكر: يا رسول اللَّه، ذاك الذي لا تَوَى عليه، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي لأرجو أنْ تكون منهم". وفي لفظٍ: هل يدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم، وأرجو أنْ تكون منهم". __________ (1) برقم (197). (2) تقدم ص (110).

(1/221)


لمَّا سَمَتْ هِمَّةُ الصِّدَّيق إلى تكميل مراتب الإيمان، وطمعت نفسه أنْ يُدْعَى من تلك الأبواب كلَّها، فسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هل يحصل ذلك لأحد من النَّاس، ليسعى في العمل الَّذي ينال به ذلك، فأخبره بحصوله وبشَّره بأنَّه من أهله، فكأنَّهُ قال: هل يكمل أحد هذه المراتب فيُدعى يوم القيامة من أبوابها كلها؟ فلِلَّهِ ما أعلى هذه الهمَّة، وأكبر هذه النَّفس. وقد سمَّى اللَّهُ سبحانه وتعالى كبير الخزنة رِضْوان (1) . وهو اسمٌ مشتقٌّ من الرِّضا، وسمَّى خازن النَّارِ مالكًا (2) ، وهو اسمٌ مشتقٌّ من الملك، وهو القوَّة والشِّدَّة حيث تَصَرَّفت حُرُوفُه. __________ (1) جاء ذلك في حديث أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (332) والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 293 - 296) رقم (3421): من طريق الضحاك عن ابن عباس. وسنده ضعيفٌ جدًّا. وفي حديث عن أنس عند الدارقطني في الرؤية رقم (64) وغيره. وهو حديثٌ منكر، وسيأتي ص (393). وفي الباب أحاديث عن أُبي بن كعب وعن أبي سعيد الخدري وعائشة، ولا يصح في هذا الباب شيء واللَّه أعلم. (2) في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77].

(1/222)


 الباب الخامس والعشرون في ذكر أوَّل من يقرع باب الجنَّة

قد تقدم في حديث أنس (1)، ورواه الطبراني بزيادة فيه قال: "فيقومُ الخازنُ، فيقولُ: لا أفتحُ لأحدٍ قبلَك، ولا أقومُ لأحدٍ بعدك" (2). وذلك أنَّ قيامه إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصة إظهار لمزِيَّته ومرتبته، ولا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنَّة يقومون في خدمته، وهو كالملك عليهم، وقد أقامه اللَّهُ في خدمة عبده ورسوله حتى مشى إليه وفتح له الباب. وقد روى أبو هريرة رضي اللَّهُ عنه، عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أنا أوَّلُ من يُفْتَحُ له باب الجنَّة، إلَّا أنَّ امرأة تبادرني، فأقول لها مالَكِ أو ما أنتِ؟ فتقول: أنا امرأةٌ قعدتُ على يتاماي (3) " (4). __________ (1) ص (121). (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (83)، والخليلي في مشيخته كما في كنز العمَّال (11/ 32047). وفيه عند أبي نعيم محمد بن يونس الكديمي وهو متهم بالكذب. (3) في "ب، هـ": "يتامى"، وفي مسند أبي يعلى "أيتام لي". (4) أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/ 7) رقم (6651) والأصبهاني في الترغيب والترهيب (3/ 2025). من طريق يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن عبد السلام بن عجلان عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة فذكره. خالفه سهل بن بكَّار. فرواه عن عبد السلام بن عجلان عن أبي يزيد المدني عن أبي هريرة رفعه =

(1/223)


وفي الترمذي من حديث ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: جلسَ ناسٌ من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ينتظرونه، قال: فخرج حتَّى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عَجَبًا إنَّ اللَّه من خلقه خليلًا، اتخذ إبراهيم خليلًا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلامه موسى (1) كلَّمه تكليمًا، وقال آخر: فعيسى كلمة اللَّهُ وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاهُ اللَّهُ، فخرج عليهم، فسلَّم وقال: سمعتُ كلامكم وعجبكم، إنَّ إبراهيم خليلُ اللَّه وهو كذلك، وموسى نجيُّ اللَّهِ، وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته، وهو كذلك، وآدم اصطفاهُ اللَّهُ، وهو كذلك، ألا وأنا حبيب اللَّه ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل شافعٍ وأوَّل مشفَّع يوم القيامة ولا فخر (2) ، وأنا أوَّل __________ = بلفظ "حرَّم اللَّهُ على كلِّ آدمي الجنَّة يدخلها قبلي غير أنِّي انظر عن يميني فإذا بامرأة تبادرني إلى باب الجنَّة. . . " بنحوه. أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق رقم (691). قلتُ: الحديث مداره على عبد السلام بن عجلان وقد اضطرب فيه -وهو لين- قال أبو حاتم: "شيخ بصري يكتب حديثه". وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 127) وقال: "يخطئ ويخالف". والحديث ضعفه البوصيري فقال: "رواه أبو يعلى بسندٍ ضعيف، لضعف عبد السلام بن عجلان". وحسنه المنذري وقال ابن حجر: "رواته لا بأس بهم". انظر: الترغيب والترهيب للمنذري (3/ 349)، والفتح (10/ 436)، وإتحاف الخيرة المهرة للبوصيري رقم (5073). (1) في نسخةٍ على حاشية "أ": "لموسى". (2) قوله "ولا فخر" سقط من "ب".

(1/224)


من يحرِّك حَلَقَ الجنَّة فيفتح لي فأدخلها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر" (1) . وعن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنا أوَّل النَّاسِ خروجًا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حُبِسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا (2) ، لواء الحمد بيدي، ومفاتيح الجنَّة يومئذٍ بيدي، وأنا أكرمُ ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر، يطوف عليَّ ألف خادم كأنَّهم اللؤلؤ المكنون" رواه الترمذي (3) ، والبيهقي واللفظ له (4) . __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (3616) والدارمي برقم (48). من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس فذكره. والحديث ضعفه الترمذي وابن كثير وفيه زمعة وهو ضعيف، وسلمة فيه مقال. قال الترمذي: "هذا حديث غريب". وقال ابن كثير: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها". (2) في "أ، هـ": "يئسوا". (3) أخرجه الترمذي برقم (3610)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 483 - 484). قال الترمذي: "حسن غريب". والحديث مداره على ليث بن أبي سليم وهو ضعيف لسوء حفظه، واختلاطه في آخر عمره، وقد اضطرب في هذا الحديث. انظر: تهذيب الكمال (24/ 279 - 288). (4) قوله: "واللفظ له" ليس في "ب".

(1/225)


وفي "صحيح مسلم" (1) من حديث المختار بن فلفل عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنا أكثر النَّاس تبعًا يوم القيامة، وأنا أوَّل من يقرع بابَ الجنَّة". __________ (1) رقم (196) - (331).

(1/226)


 الباب السادس والعشرون في ذكر أوَّل الأمم دخولًا الجنَّة

وفي "الصحيحين" (1) من حديث همَّام بن مُنَبِّهٍ، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نحنُ السَّابقون الأوَّلون يوم القيامة، بَيْدَ أنَّهم أوتوا الكتابَ من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم". أي: لم يسبقونا إلَّا بهذا القدر، فمعنى: "بَيْدَ" معنى سِوَى وغير وإلَّا أنَّ، ونحوها. وفي "صحيح مسلم" (2) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نحنُ الآخرون الأوَّلون يومَ القيامة، ونحنُ أوَّل من يدخل الجنَّة، بيدَ أنَّهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا فهدانا اللَّهُ لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه (3) ". وفي "الصحيحين" (4) من حديث طاووس عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "نحنُ الآخرون الأوَّلون يومَ القيامة، نحنُ أوَّلُ النَّاسِ دخولًا الجنَّة، بيدَ أنَّهم أوتوا الكتابَ من قبلنا، وأوتيناه من __________ (1) أخرجه البخاري رقم (6630)، ومسلم رقم (855) - (21) وفيهما "الآخرون السابقون" بدل "السابقون الأولون". (2) رقم (855) - (20). (3) من "ب، ج، د، هـ"، وليست في مسلم ولا "أ". (4) البخاري رقم (856)، ومسلم رقم (849) واللفظ للبخاري وعنده "السابقون" بدل "الأوَّلون".

(1/227)


بعدهم". وروى الدارقطني من حديث زهير بن محمد عن عبد اللَّه بن محمد ابن عَقِيل، عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ الجنَّة حُرِّمت على الأنبياء كلَّهم حتى أدخلها، وحُرِّمت على الأمم حتى تدخلها أمتي" (1) . قال الدَّارقطني: "غريب عن الزهري، ولا أعلمُ رُوي عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن الزهري غير هذا الحديث، ولا رواهُ إلَّا عمرو بن أبي سلمة [التِّنِّيسي عن صدقة السَّمين] (2) عن زهير". فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرضِ وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم، وأسبقهم إلى الجواز على الصراط، وأسبقهم إلى دخول الجنَّة، فالجنَّة محرمة على الأنبياء حتى يدخلها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ومحرمة على الأمم حتى تدخلها أمته. __________ (1) أخرجه الدَّارقطني في الأفراد كما في أطراف الغرائب (1/ 103)، وابن أبي حاتم في العلل (2/ 227) رقم (2167)، والطبراني في الأوسط رقم (942)، وابن عدي في الكامل (4/ 129). قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلَّا عن ابن عقيل، ولا عن ابن عقيل إلَّا زهير، ولا عن زهير إلَّا صدقة، تفرَّد به عمرو". قال أبو زرعة الرَّازي: "ذا حديث منكر لا أدري كيف هو". والحديث جعله ابن عدي من منكرات عبد اللَّه بن محمد بن عقيل. (2) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ واستدركته من أطراف الغرائب.

(1/228)


وأمَّا (1) أوَّل الأمة دخولًا: فقال أبو داود في "سننه" حدثنا هنَّاد بن السَّريِّ، عن عبد الرحمن بن محمد المُحاربي عن عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدَّالاني عن أبي خالد مولى آل جَعْدة عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتاني جبريل فأخذ بيدي، فأراني باب الجنَّة الَّذي تدخلُ منه أمتي". فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه، وددتُ لئن (2) كنتُ معك حتى أنظر إليه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما إنَّك يا أبا بكر أوَّل من يدخل الجنَّة من أمتي" (3) . وقوله: "وددت لئن كنت معك (4) ". حرصًا منه على زيادة اليقين، وأن يصير الخبر عيانًا، كما قال إبراهيم الخليل {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. وأمَّا الحديث الَّذي رواهُ ابن ماجه في "سننه": حدثنا إسماعيل بن عمر الطلحي، أنبأنا داود بن عطاء المديني، عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن أُبيِّ بن كعب -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أوَّل من يصافحه الحق عمر وأوَّل من يسلِّم عليه، وأوَّل من يأخذ بيده فيدخله الجنَّة" (5) . __________ (1) في "ب، ج، د، هـ": "وأنا" وهو خطأ. (2) كذا في جميع النسخ، وكذلك ما بعدها، وجاء في سنن أبي داود "أني" بدل "لئن". (3) تقدم في الباب الحادي عشر ص (123). (4) من قوله: "حتى أنظر إليه" إلى "معك" سقط من "ج". (5) أخرجه ابن ماجه برقم (104) وابن أبي عاصم في السنة برقم (1280)، =

(1/229)


فهو حديثٌ منكر جدًّا، قال الإمام أحمد: "داود بن عطاء ليس بشيءٍ"، وقال البخاري: "منكر الحديث" (1) . __________ = والقطيعي في زوائد فضائل الصحابة برقم (630)، والحاكم في المستدرك (3/ 90) رقم (4489) وغيرهم. قال الذهبي: "موضوع في سنده كذَّاب". وقال أيضًا في الميزان (3/ 20): "هذا منكرٌ جدًّا". وقال ابن كثير: "هذا الحديث منكر جدًّا، وما أبعد أنْ يكون موضوعًا، والآفة فيه من داود بن عطاء هذا". انظر: جامع المسانيد (1/ 72) رقم (40). (1) انظر: أقوال أئمة الجرح والتعديل في داود هذا، في تهذيب الكمال (8/ 419 - 420).

(1/230)


 الباب السابع والعشرون في ذكر السَّابقين من (1) هذه الأمة إلى الجنَّة وصفتهم

في "الصحيحين" (2) من حديث همَّام بن مُنَبِّه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أوَّل زُمرة تَلجُ الجنَّة صُوَرُهم على صورة القمرِ ليلة البَدْرِ، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون فيها، ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم الذهبُ والفضة، ومجامرهم الأُلُوَّة (3)، ورشحهم المسك، ولكلِّ واحدٍ منهم زوجتان يُرى مُخُّ سوقهما من وراء اللحم من الحُسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبُهم على قلب واحد (4)، يسبحون اللَّهَ بُكْرَةً وعَشيًّا". وفي "الصحيحين" (5) أيضًا من حديث أبي زُرعة، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أوَّل زُمرةٍ يدخلون الجنَّة على صورة القمر ليلةَ البدرِ، والَّذين يلونهم على ضوءِ أشدِّ كوكبٍ دُريٍّ في السماء إضاءةً، لا يبولون ولا يتغوَّطون، ولا يتفُلون ولا يَمْتخِطون، أمشاطهم الذهبُ ورشحهم المسكُ، ومجامرهم الأُلُوَّةُ، وأزواجهم الحورُ العينُ، أخلاقُهم على خَلْقِ رجلٍ واحدٍ، على صورة أبيهم آدم __________ (1) في "ب، د": "في". (2) البخاري رقم (3073)، ومسلم رقم (2834) - (17). (3) الأُلُوَّة: هو العود الَّذي يتبخر به، وتُفْتح همزته وتُضَم، انظر: النهاية (1/ 63). (4) عند البخاري "قلوبهم قلبُ رجلٍ واحدٍ" وعند مسلم "قلوبهم قلبٌ واحد". (5) البخاري رقم (3149)، ومسلم رقم (2834) - (15).

(1/231)


ستون ذراعًا في السَّماءِ". وروى شُعْبة وقيس عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه (1) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أوَّل من يُدعى إلى الجنَّة يومَ القيامة الحمَّادون الَّذين يحمدون اللَّهَ في السَّرَّاء والضَّراء" (2) . وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا هشام الدسْتوائي عن يحيى بن كثير عن عامر العُقَيلي عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عُرِضَ عليَّ أوَّل ثلاثةٍ من أُمَّتي يدخلون الجنَّة وأوَّل ثلاثةٍ يدخلون النَّار، فأمَّا أوَّل ثلاثة يدخلون الجنَّة: فالشهيدُ، وعبدٌ مملوكٌ لم (3) يشغله رِقّ الدنيا عن طاعة ربِّه، __________ (1) قوله "رسول اللَّه" من "ب، ج، د، هـ". (2) أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 19)، والبزار في مسنده (11/ 247) رقم (5028)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (82)، والبغوي في شرح السنة (5/ 49 - 50) رقم (1270) وغيرهم. من طرق عن شعبة وقيس بن الربيع والمسعودي كلهم عن حبيب عن سعيد عن ابن عباس فذكره. قلتُ: طريق شعبة لا يصح عنه فقد رواهُ عنه نصر بن حمَّاد وهو متَّهمٌ بالكذب، وقيس بن الربيع فيه ضعف خاصة بعدما كبر. والمسعودي كان قد اختلط. - ورواهُ مسعر عن حبيب عن سعيد قوله مقطوعًا. أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (206) وهو الصحيح. (3) في نسخةٍ على حاشية "أ": "لا".

(1/232)


وفقير مُتَعَفِّف ذو عِيَال، وأوَّل ثلاثة يدخلون النَّار: فأميرٌ مُسَلَّطٌ، وذو ثروةٍ من مالٍ لا يؤدِّي حقَّ اللَّه في ماله، وفقيرٌ فخور" (1) . وروى الإمام أحمد في "مسنده" والطبراني في "معجمه" واللفظ له من حديث أبي عُشَّانة المعافري أنَّه سمع عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّهُ عنه يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل تدرون أوَّل من يدخل الجنَّة؟ قالوا: اللَّهُ ورسوله أعلمُ، قال: فقراء المُهاجرين الَّذين تُتَّقى بهم المكاره، ويموتُ أحدهم وحاجته في صَدْرِهِ لا يستطيع لها قضاءً، تقول الملائكة: ربَّنا نحنُ ملائكتك وخزنتك وسُكَّان سماواتك لا تدخلهم، الجنَّة قبلنا، فيقول: عبادي لا يُشْركون بي شيئًا، تُتَّقى بهم المكاره، يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يستطع لها قضاءً، فعند ذلك تدخل عليهم الملائكة من كلِّ بابٍ، سلامٌ عليكم بما صبرتم (2) فنعمَ عُقبى الدَّارُ" (3) . __________ (1) أخرجه أحمد في المسند (2/ 425)، والترمذي برقم (1641) مختصرًا، والطيالسي في مسنده رقم (2690)، وابن خزيمة برقم (2249) وابن حبان رقم (4312)، والحاكم (1/ 544 - 545) رقم (1429) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن". والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان. قلتُ: في السند عامر العقيلي وأبوه فيهما جهالة. انظر: تهذيب الكمال (14/ 70). (2) قوله: "بما صبرتم" سقط من "ب". (3) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 168)، والطبراني في المعجم الكبير "الجزء المفقود" رقم (151) وعبد بن حميد في مسنده "المنتخب رقم 352) وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7421)، والحاكم (2/ 81) رقم (2393) =

(1/233)


ولمَّا ذكر اللَّهُ تعالى أصناف بني آدم سَعيدهم وشقيهم، قسم سُعَداءهم إلى قسمين: سابقين وأصحاب يمين فقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) } [الواقعة: 10]. واختلف في تقديرها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه من باب التَّوكيد الَّلفظي، ويكون خبره قوله تعالى: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) } [الواقعة: 11]. والثاني: أنْ يكون السَّابقون الأوَّل مبتدأ، والثاني خَبَرًا له على حدِّ قولك: زيد زيد، أي زيد الَّذي سمعت به هو زيد كما قال: أنا أبو النَّجم وَشِعْري شِعْري (1) وكقول الآخر: إذا النَّاسُ ناسٌ والنَّهارُ نهارُ (2) __________ = وغيره. من طريق عبد اللَّه بن وهب وابن لهيعة ومعروف بن سويد كلهم عن أبي عشانة به فذكره. ولفظُ ابن وهب: "إنَّ أوَّل ثلَّةٌ تدخل الجنَّة الفقراء المهاجرون الَّذي تُتَّقى بهم المكاره، إذا أُمروا سمعوا وأطاعوا وإنْ كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره. . . ". وقال الحاكم عن حديث ابن وهب: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". (1) البيت لأبي النجم العجلي، انظر: الكامل للمبرد (1/ 62)، وخزانة الأدب للبغدادي (1/ 418). (2) كذا في جميع النسخ، وفي مغني اللبيب ص (863) رقم (1117) "والزمان =

(1/234)


قال ابن عطية: وهذا قول سيبويه (1) . والثالث: أنْ يكون السَّبقُ الأوَّل غيرَ الثاني، ويكون المعنى: السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون يوم القيامة إلى الجنَّات، والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنان (2) . وهذا أظهر، واللَّهُ أعلم. فإنْ قيل: فما تقولون في الحديث الَّذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصحَّحه من حديث بريدة بن الحصيب قال: أصبح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فدعا بلالًا، فقال: "يا بلالُ، بمَ سبقتني إلى الجنَّة، فما دخلتُ الجنَّة قط إلَّا سمعت خَشْخَشَتَكَ أمَامي. دخلتُ البارحة فسمعتُ خَشْخَشَتَكَ أَمامي، فأتيت على قصر مُرَبَّع مشرفٍ من ذهب، فقلتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجلٍ عربيٍّ، قلتُ: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش، قلتُ: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجلٍ من أُمَّة محمدٍ، قلت: أنا محمد، لمن هذا القَصْر؟ قالوا: لعمرَ بن الخطاب" فقال بلال: يا رسول اللَّهِ ما أَذَّنتُ قط إلَّا صليتُ ركعتين، وما أصابني حَدَثٌ قطُّ إلَّا توضأتُ عندها، ورأيتُ أنَّ للَّهِ عليَّ ركعتين (3) ، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: بهما" (4) . __________ = زمان" بدل "النهار نهار". (1) انظر: المحرر الوجيز (15/ 359). (2) في نسخةٍ على حاشية "أ" "الجنات". (3) من قوله: "وما أصابني حدث" إلى "ركعتين" سقط "ج". (4) تقدم تخريجه ص (44).

(1/235)


قيل: نتلقَّاه بالقبول والتصديق، ولا يدل على أنَّ أحدًا يسبق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الجنَّة، وأمَّا تقدُّم بلال بين يديه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنَّة؛ فلأنَّ بلالًا كان يدعو إلى اللَّهِ أوَّلًا في الأذان فيتقدم أذانه بين يدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيتقدَّم (1) دخوله بين يديه كالحاجب والخادم. وقد رُوِيَ في حديثٍ: "أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعثُ يوم القيامة وبلالٌ بين يديه ينادي بالأذان" (2) . فتقدَّمه بين يديه -صلى اللَّه عليه وسلم- كرامةً لرسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وإظهارًا لشرفه وفضله، لا سَبْقًا من بلالٍ له، بل هذا السَّبق من جنس سبقه إلى الوضوء، ودخول المسجد ونحوه، واللَّهُ تعالى أعلم. __________ (1) في نسخة على حاشية "أ" "فتقدُّم". (2) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (2629) وفي الصغير رقم (1122)، والخطيب في تاريخه (3/ 357). قال ابن الجوزي: "موضوع. . ". وقال الذهبي: "إسناده مظلمٌ، ما أدري من وضعه. . . ". وورد عن بُريدة وعلي وأنس، وكلها أحاديث موضوعة. انظر: اللآلئ المصنوعة (2/ 446 - 447). والسلسلة الضعيفة رقم (771 - 775). وزوائد تاريخ بغداد (2/ 420 - 423).

(1/236)


 الباب الثامن والعشرون في سبق الفقراء للأغنياء (1) إلى الجنَّة

قال الإمام أحمدُ: حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، عن محمد ابن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يدخلُ فقراء المسلمين الجنَّة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو خمسُ مئة عام" (2). قال الترمذي: "هذا حديثٌ حسن صحيح". ورجال إسناده احتجَّ بهم مسلم في "صحيحه". __________ (1) في "ب، هـ": "الأغنياء". (2) أخرجه أحمد في المسند (2/ 296 و 342)، والترمذي برقم (2353)، وابن ماجه برقم (4122)، وابن حبان برقم (676) وغيرهم. من طرق عن محمد بن عمرو به مثله. والحديث تفرَّد به محمد بن عمرو -وهو صدوق- عن أبي سلمة به. قال الترمذي: "حسن صحيح". والحديث صحَّحه الترمذي وابن حبان والمؤلف. ورواهُ أبو صالح وأبو حازم وشتير بن نهار عن أبي هريرة نحوه؛ وفي ثبوتها نظر. أخرجه أحمد (2/ 513 و 519)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 307) و (7/ 99). وقال أبو نعيم عن حديث "أبي حازم وأبي صالح": "غريب. . . . ". قلتُ: وشتير مجهول. وأخشى أن يعارض هذا المتن قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان: 24]، وأيضًا سيأتي سبقهم (بأربعين خريفًا) وهو أصح إسنادًا واللَّه أعلم.

(1/237)


وروى الترمذي من حديث عبَّاس الدُّوري، عن المُقْرِيء (1) عن سعيد بن أبي أيوب عن عمرو (2) بن جابر الحضرمي عن جابر بن عبد اللَّه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "يدخلُ فقراءُ أُمَّتي (3) الجنَّة قبلَ الأغنياء بأربعين خريفًا" (4) . وفي "صحيح مسلم" (5) من حديث عبد اللَّه (6) بن عمرو رضي اللَّهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنَّ فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يومَ القيامة (7) بأربعين خريفًا". __________ (1) في "ب، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "المقبري" وهو خطأ. (2) في "أ، هـ" "عمر" وهو خطأ. (3) في الترمذي وغيره "المسلمين". (4) أخرجه الترمذي برقم (4355)، وأحمد في المسند (3/ 324) وعبد بن حميد رقم (117)، والبيهقي في البعث رقم (454). قال الترمذي: "هذا حديث حسن". قلتُ: في سنده عمرو بن جابر الحضرمي، قال أبو حاتم: "صالح الحديث عنده نحو عشرين حديثًا"، ووثَّقه العجلي، وقال النسائي والجوزجاني: ليس بثقة. وقال الإمام أحمد: "بلغني أنَّ عمرو بن جابر كان يكذب، روى عن جابر أحاديث مناكير" وقال ابن حبان: "كان سحابيًّا، يزعم أنَّ عليًّا في السحاب، كأنَّه جالس الكوفيين فأخذ عنهم، ومع ذلك ينفرد عن جابر بأشياء ليست من حديثه، لا يحل الاحتجاج بخبره ولا الرواية عنه. . . ". انظر: تهذيب الكمال (21/ 559 - 562). (5) رقم (2979). (6) في "ج" "أبي عبد اللَّه" وهو خطأ. (7) في مسلم زيادة "إلى الجنَّة".

(1/238)


وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا دُوَيْد عن سلم (1) ابن بشير عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "التقى مؤمنان على باب الجنَّة، مؤمنٌ غنيٌ، ومؤمنٌ فقيرٌ، كانا في الدنيا، فأُدْخِلَ الفقيرُ الجنَّة، وحُبسَ الغني ما شاء اللَّهُ أنْ يُحْبس، ثمَّ أُدْخِلَ الجنَّة، فلقيه الفقيرُ فيقول: أي أخي وماذا حبسك؟ واللَّه لقد احْتبَستَ حتى خفت (2) عليك (3) ، فيقول: أي أخي إنِّي حبستُ بعدك محبسًا فظيعًا (4) كريهًا، وما وصلتُ إليك حتى سال منِّي العَرَق (5) ، ما لو وَرَدَهُ ألفُ بعيرٍ كلها آكلة حمضٍ لصدرتْ عنه رواء (6) " (7) . وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد اللَّه الحضرمي، وعلي ابن سعيد الرَّازي قالا: حدثنا علي بن بهرام (8) العطار، حدثنا __________ (1) في "ب، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "سليم"، والمثبت هو الصواب، وقيل في اسمه غير ذلك، وهذا التنوع في الاسم يرجع إلى اختلاف النَّاقلين في اسم هذا الرجل. انظر: تعجيل المنفعة لابن حجر (1/ 564، 606). (2) في "هـ": "خشيت". (3) من قوله "فيقول: أي أخي" إلى "عليك" سقط من "ج". (4) في "ب، د" "قطيعًا", وفي نسخةٍ على حاشية "أ" "مضيقًا". (5) في "ب، ج" "مني من العرق". (6) من المسند. (7) أخرجه أحمد في المسند (1/ 304). وسنده ضعيف، فيه دُوَيْد مجهول، قاله الحسيني. وانظر: تعجيل المنفعة (1/ 564) رقم (356). (8) في جميع النسخ "مهران" وهو خطأ، انظر: تاريخ بغداد (11/ 353) وغيره.

(1/239)


عبد الملك بن أبي كريمة، عن سفيان الثوري عن محمد بن زيد عن أبي حازم (1) عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنَّ فقراء المؤمنين يدخلون الجنَّة قبل أغنيائهم بنصف يومٍ، وذلك خمس مائة عام" وذكر الحديث بطوله (2) . والَّذي في الصحيح أنَّ سبقهم لهم "بأربعين خريفًا". فإمَّا أنْ يكون هو المحفوظ، وإمَّا أنْ يكون كلاهما محفوظان، وتختلف مُدَّة السبق بحسب أحوال الفقراء والأغنياء، فمنهم من يسبق بأربعين، ومنهم من يسبق بخمس مئة كما يتأخر مكث العُصاة من الموحدين في النَّار بحسب جرائمهم واللَّهُ أعلم. ولكن ها هنا أمرٌ يجب التنبيه عليه، وهو أنَّه لا يلزم من سبقهم لهم في الدخول ارتفاع منازلهم عليهم، بل قد يكون المتأخر أعلى منزلة؛ وإن سَبَقَهُ غيره في الدخول، والدليل على هذا أنَّ من الأمة من يدخل الجنَّة بغير حساب، وهم السَّبعون ألفًا (3) ، وقد يكون بعض من __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ" "حاتم" وهو خطأ. (2) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 99 - 100) عن الطبراني به. قال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث الثوري عن محمد بن زيد، ويقال: هو العبدي، تفرَّد به عبد الملك". والحديث منكر، لم يروه أحدٌ من أصحاب الثوري عن الثوري إلَّا هو، وعلي بن بهرام فيه جهالة. انظر: تاريخ بغداد (11/ 353)، وتاريخ مصر لابن يونس (2/ 150) جَمْع وتحقيق ودراسة: د: عبد الفتاح فتحي. (3) يشير المؤلف إلى حديث ابن عباس وفيه ". . . فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: =

(1/240)


يُحَاسب أفضل من أكثرهم، والغني إذا حوسب على غِنَاهُ، فوجد قد شكر اللَّه تعالى فيه، وتقرَّب إليه بأنواع البِرِّ والخير والصَّدقة والمعروف، كان أعلى درجة من الفقير الَّذي سبقه في الدخول، ولم تكن له تلك الأعمال، ولا سيِّما إذا شاركه الغني في أعماله هو (1) وزاد عليه فيها، واللَّهُ لا يضيع أجرَ من أحسن عملًا. فالمزيَّة مزيَّتان؛ مزية سبق، ومزية رِفْعة، وقد يجتمعان وينفردان، فيحصل لواحد السبق والرِّفعة، ويعدمهما آخر، ويحصل لآخر السبق دون الرِّفعة، ولآخر الرفعة دون السبق، وهذا بحسب المتقضي للأمرين، أو لأحدهما وعدمه، وباللَّه التوفيق. __________ = هذه أُمتك، ويدخل الجنَّة من هؤلاء سبعون ألفًا بغير حساب. . . ". أخرجه البخاري رقم (5378)، ومسلم رقم (220). (1) من "أ، ج، هـ".

(1/241)


 الباب التاسع والعشرون في ذكر أصناف أهل الجنَّة الَّذين ضمنت لهم دون غيرهم

قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [آل عمران: 133 - 136]. فأخبر أنه أعدَّ الجنَّة للمتقين دون غيرهم، ثم ذكر أوصاف المتقين، فذكر بذلهم للإحسان في حالتي العسر واليسر، والشدة والرخاء، فإنَّ من النَّاس من يبذل في حال اليسر والرخاء، ولا يبذل في حال العسر والشدة، ثم ذكر كف أذاهم للنَّاس (1) بحبس الغيظ بالكظم، وحبس الانتقام بالعفو، ثمَّ ذكر حالهم بينهم وبين ربهم في ذنوبهم، وأنَّها إذا صدرت منهم قابلوها بذكر اللَّه، والتوبة والاستغفار، وترك الإصرار، فهذا حالهم مع اللَّهِ، وذاك حالهم مع خلقه. وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. __________ (1) في المطبوعة: "عن الناس".

(1/242)


فأخبر تعالى أنَّه أعدَّها للمهاجرين والأنصار، وأتباعهم بإحسان، فلا مطمع لمن خرج عن طريقتهم فيها. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } [الأنفال: 2 - 4]. فوصفهم بإقامة حقه باطنًا وظاهرًا، وبأداء حق عباده. وفي "صحيح مسلم" (1) عن عمر بن الخطاب رضي اللَّهُ عنه قال: لما كان يومُ خيبر أقبل نفرٌ من صحابة النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: فلانٌ شهيد، وفلانٌ شهيد، حتى مروا على رَجُلٍ فقالوا: فلانٌ شهيد، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلَّا إنَّي رأيته في النَّار في بُرْدةٍ غَلَّها أو عباءةٍ، ثمَّ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا ابنَ الخطاب، اذهب فنادِ في النَّاسِ إنَّهُ لا يدخل الجنَّة إلَّا المؤمنون، قال: فخرجتُ فناديتُ: ألا (2) إنَّهُ لا يدخل الجنَّة إلَّا المؤمنون". وللبخاري معناه (3) . وفي "الصحيحين" (4) من حديث أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرَ بلالًا أنْ يناديَ في النَّاسِ: "إنَّه لا يدخلُ الجنَّة إلَّا نفسٌ __________ (1) رقم (114). (2) من "صحيح مسلم". (3) رقم (3967) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (4) البخاري رقم (2897)، ومسلم رقم (111).

(1/243)


مسلمةٌ"، وفي بعض طرقه "مؤمنة" (1) وفي الحديث قصة. وفي "صحيح مسلم" (2) من حديث عِيَاض بن حِمَار المجاشعي أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ذات يومٍ في خطبته: "ألا إنَّ ربي أمرني أنْ أُعَلِّمَكم ما جهلتم ممَّا علمني يومي هذا، كلُّ مالٍ نحلته عبدًا حلالٌ، وإنِّي خلقتُ عبادِي حنفاء كلَّهم، وإنَّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (3) عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أنْ يشركوا بي ما لم أُنْزل به سُلطانًا، وإنَّ اللَّهَ نظر إلى أهل الأرضِ فمقتهم عربهم وعجمهم إلَّا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنَّما بعثتُك لأبتليكَ، وأبتلي بكَ، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يغسلهُ الماءُ، تقرأهُ نائمًا ويقظان. وإنَّ اللَّهَ أمرني أن أُحرَّق قريشًا، فقلتُ: ربِّ إذًا يثغلوا رأسي، فيدعوه خُبزة، قال: استخرجهم كما أخرجوك (4) واغزهم نُعِنْكَ (5) ، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا نبعثْ خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك مَنْ عصاكَ، قال: وأهل الجنَّة ثلاثةٌ: ذو سلطان مقسطٌ متصدقٌ __________ (1) في "هـ" "إلَّا مؤمنة"، وهو عند البخاري رقم (3967 و 6232) بلفظ "إلَّا مؤمن". (2) رقم (2865). (3) في حاشية "أ": "فاجتالتهم أي استخفتهم، أي فجالوا معهم في الضلال، وروى بالحاء المهملة. أي: نقلتهم من حال إلى حال". انظر: النهاية (1/ 317). (4) في المطبوعة لصحيح مسلم "أستخرجوك"، والمثبت من جميع النسخ، ورواية العذري لصحيح مسلم. (5) في "ج، هـ" "نعينك" وهو خطأ، وفي صحيح مسلم "نغزِك".

(1/244)


موفق (1) ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكلِّ ذي قربى ومسلم، وعفيفٌ متعفف ذو عيال. وأهل النَّار خمسة: الضعيف الَّذي لا زَبْر (2) له الَّذين هم فيكم تبعًا، لا يبغون (3) أهلًا ولا مالًا. والخائن الَّذي لا يخفى له طمعٌ وإنْ دقَّ إلَّا خانه. ورجلٌ لا يصبح ولا يمسي إلَّا وهو يخادعك عن أهلك ومالك" وذَكَرَ البخل والكذب (4) ، والشِّنظير الفحَّاشُ "وإنَّ اللَّهَ أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحد". وفي "الصحيحين" (5) من حديث حارثة بن وهب رضي اللَّهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ألا أخبركم بأهل الجنَّة، كلُّ ضعيف متضعَّفٍ لو أقسم على اللَّهِ لأبرَّهُ، ألا أخبركم بأهل النَّار؟ كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُتكبر (6) ". وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق قال: أنبأنا عبد اللَّه أنبأنا موسى بن عُلَي بن رباح قال: سمعت أبي يحدث عن عبد اللَّه بن عمرو __________ (1) في "ب" "منفق". (2) جاء في حاشية "أ" من النهاية: "لا زبر له، أي: لا عقل له يزبره وينهاه عن الإقدام على ما لا ينبغي". انظر: النهاية لابن الأثير (2/ 293). (3) كذا في جميع النسخ، وعند مسلم "لا يَتْبعُون". (4) في "ج": "أو الكذب". (5) البخاري رقم (4634)، ومسلم رقم (2853). (6) في نسخة على حاشية "أ" "مستكبر"، وهي عند البخاري.

(1/245)


ابن العاص رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ أهل النَّار كلُّ جَعْظَريٍّ (1) جوَّاظ (2) مُسْتَكبر، جمَّاعٍ منَّاعٍ، وأهل الجنَّة الضعفاء المغلوبون" (3) . وذكر خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا (4) أخبركم برجالكم من أهل الجنَّة: النَّبي في الجنَّة، والصديق في الجنة، والشهيد في الجنة، والرجل يزور أخاه ناحية المِصْر لا يزوره إلَّا للَّه (5) = في الجنة، ونساؤكم من أهل الجنَّة: الودود الولود التي إذا غَضِبَ أو غضِبتْ جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها، ثمَّ تقول: لا أذوق __________ (1) الجعظري: الفظُّ الغليظ المتكبر، وقيل هو: الَّذي ينتفخ بما ليس عنده، وفيه قِصَر. انظر: النهاية (1/ 276). (2) الجوَّاظ: الجَموع المَنوع، وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصيرِ البطين. انظر: النهاية (1/ 316). (3) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 499 و 169) والحارث بن أبي أسامة في مسنده (كما في بغية الباحث رقم 1105)، والحاكم في المستدرك (2/ 541 - 542) رقم (3844). قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذه السياقه،. . . ". وقال البوصيري: "ورواته ثقات". انظر: إتحاف الخيرة المهرة (8/ 214). قلتُ: والحديث صححه الحاكم والمؤلف كما سيأتي. (4) سقط من "ب". (5) وقع في "ج" "لا يزوره إلَّا يزوره إلَّا اللَّه".

(1/246)


غُمْضًا (1) حتى ترضى" (2) . __________ (1) غُمْضًا: أي نومًا. انظر: اللسان (7/ 199). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخوان رقم (103) والنسائي في الكبرى (5/ 361) رقم (9139)، والطبراني في الكبير (12/ 59) رقم (12468)، وتمام في فوائده "الروض البسام، رقم 747"، وأبو نعيم في الحلية (4/ 303)، والشجري في أماليه (2/ 151) وابن عساكر في تاريخه (5/ 361). من طريق الفضل بن زياد الدقاق والعلاء وأحمد بن إبراهيم الموصلي ويحيى بن أيوب المقابري وشريح بن النعمان وابن يونس كلهم عن خلف بن خليفة به فذكره. - ورواه إسماعيل بن أبي مسعود ومحمد بن صالح وعيسى بن سلمان كلهم عن خلف بن خليفة سمع أبان بن بشير المكتب عن أبي هاشم عن سعيد بن عباس فذكره، اختصره بعضهم. أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (1/ 453)، والبيهقي في شعب الإيمان رقم (8612 و 8358). قلت: وهذا الاضطراب في ذكر الواسطة "أبان المكتب" من خلف بن خليفة؛ لأنَّه تغير جدًّا بعدما كبر، وأبان هذا مجهول. وأيضًا قال البخاري: "لا أدري سمع منه أم لا" قال المعلمي: "يريد فيما يظهر "أسمع أبان من أبي هاشم أم لا". وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: "رواه غيره عن خلف بن خليفة ولم يذكر أبان المكتب، فإنْ كان حفظه فهو غريب جدًّا". وقال أبو نعيم: "غريب من حديث سعيد، تفرَّد به عنه أبو هاشم وهو يحيى بن دينار الواسطي. . . ". وعليه فالحديث ضعيفٌ جدًّا، وقد ورد عن علي وكعب بن عجرة وأنس وكلها واهية.

(1/247)


أخرج النسائي من هذا الحديث فضل النساء خاصة، وباقي الحديث على شرطه. وروى الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ أهل النَّار كلُّ جعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مستكبر جمَّاعٍ منَّاعٍ، وأهل الجنَّة الضعفاء المغلوبون" (1) . وقال ابن ماجه في "سننه": حدثنا محمد بن يحيى وزيد بن أخزم قالا: حدثنا مسلم (2) بن إبراهيم حدثنا هلال الرَّاسبي، حدثنا عُقْبة بن أبي ثُبَيْت الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أهل الجنَّة من ملأ أُذنيه من ثناء النَّاس خيرًا وهو يسمع، وأهل النَّار من ملأ أذنيه من ثناء النَّاس شرًّا وهو يسمع" (3) . __________ (1) هذا مكررٌ، تقدم قبل الحديث السابق، ولهذا كتب ناسخ "أ" بما يلي: "مكرر وقع في أوَّل هذه الصفحة". (2) في "أ، ج، هـ": "سَلْم" وهو خطأ. (3) أخرجه ابن ماجه برقم (4224) والطبراني في الكبير (12/ 170) وفي شعب الإيمان (12/ رقم 6618)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 80). قال أبو نعيم: "غريب من حديث أبي الجوزاء لم يرفعه ولم يسنده إلَّا مسلم عن أبي هلال". قلت: في سنده أبو هلال الراسبي المكفوف واسمه محمد بن سليم البصري، وهو صدوق في الأصل، ووقعت له مناكير وغرائب بسبب أنَّه لم يكن له كتاب فكان يحدث من حفظه، وقد ذكر أبو نعيم هذا الحديث واستغربه. انظر: تهذيب الكمال (25/ 293 - 296). =

(1/248)


وفي "الصحيحين" (1) عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: "مُرَّ بجنازة فأُثنيَ عليها خيرٌ (2) ، فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجبتْ وجبتْ وجبتْ، ومُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها شرٌ (3) فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: وجبت وجبتْ وجبتْ، فقال عمر رضي اللَّهُ عنه: فداك أبي وأمي، مُرَّ بجنازةٍ فأثُني عليها خيرٌ فقلتَ: وجبت وجبت وجبت: ومُرَّ بجنازةٍ فأثني عليها شرٌّ، فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: من أثنيتم عليه خيرًا وجبتْ له الجنَّة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النَّارُ، أنتم شهداء اللَّهِ في الأرضِ، أنتم شهداء اللَّهِ في الأرضِ (4) ". وفي الحديث الآخر: "يوشكُ أنْ تعلموا أهل الجنَّة من أهل النَّارِ، قالوا: كيف يا رسول اللَّهِ؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيء" (5) . __________ = وقد ورد عن أنس وفي ثبوته نظر. (1) البخاري رقم (1301)، ومسلم رقم (949). (2) في نسخة على حاشية "أ" و"هـ" "خيرًا". (3) في نسخةٍ على حاشية "أ" و"هـ" "شرًّا". (4) قوله "أنتم شهداء اللَّه في الأرض" سقط من "ب". (5) أخرجه البزار في مسنده "البحر الزخار" (3/ 337) رقم (1134) من حديث سعد بن أبي وقاص. قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد إلَّا من هذا الوجه بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلَّا عامر، ولا عن عامر إلَّا هاشم بن هاشم، ولا عن هاشم بن هاشم إلَّا شجاع، ولم نسمعه إلَّا من الحسن بن عرفة". قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن عرفة وهو ثقة" مجمع الزوائد (10/ 271). وقد ورد من حديث أبي زهير الثقفي. =

(1/249)


وبالجملة فأهل الجنَّة أربعة أصناف، ذكرهم اللَّه سبحانه وتعالى في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) } [النساء: 69]. فنسأل اللَّه أنْ يجعلنا معهم بمنِّه وكرمه (1) . __________ = أخرجه ابن ماجه رقم (4221) وأحمد في المسند (3/ 416) وابن حبان رقم (7384)، والدارقطني في الأفراد كما في أطراف الغرائب (4/ 60 - 61) رقم (4674) وغيرهم من طريق نافع بن عمر عن أمية بن صفوان عن أبي بكير بن أبي زهير عن أبيه فذكر نحوه وزاد "أنتم شهدا اللَّه بعضكم على بعض". قال الدارقطني: "غريب من حديث أبي بكر بن أبي زهير عن أبيه، تفرَّد به أمية بن صفوان عنه، وتفرَّد به نافع بن عمر عن أمية". وفي سنده أمية بن صفوان المكي الأصغر وأبو بكر بن أبي زهير لم يوثقهما معتبر. انظر: تهذيب الكمال (3/ 333). والحديث صححه ابن حبان والحاكم. وقال الحافظ ابن حجر: "بسند حسن غريب" الإصابة (7/ 75). (1) قوله "بمنه وكرمه" ليس في "د".

(1/250)


 الباب الثلاثون في أنَّ أكثر أهل الجنَّة هم أُمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-

في "الصحيحين" من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: قال لنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما ترضون أنْ تكونوا رُبُعَ أهلِ الجنَّة؟ فكبرنا (1)، ثمَّ قال: أما ترضون أنْ تكونوا ثلثَ أهل الجنَّة؟ فكبرنا، ثمَّ قال: إنِّي لأرجو أنْ تكونوا شطرَ أهلِ الجنَّة، وسأخبركم عن ذلك، ما المسلمون في الكفار إلَّا كشعرةِ بيضاءِ في ثورٍ أسودَ، أو كشعرةٍ سوداء في ثورٍ أبيض" هذا لفظ مسلم (2). وعند البخاري (3): "وكشعرةٍ سوداء" (4) بغير ألف. وعن بُرَيدة بن الحصيب قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أهل الجنَّة عشرون ومئة صفٍ، هذه الأمة منها ثمانون صفًّا" (5). __________ (1) في "ب، د": "فكبر"، وكذا مثله ما بعده، والمثبت من بقية النسخ. (2) في صحيحه رقم (221). (3) رقم (6163) وفيه ". . . وما أنتم في أهل الشرك إلَّا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر". (4) في "ج، د": "كشعرة بيضاء في ثور أسود". (5) أخرجه الترمذي برقم (2546)، وأحمد (5/ 347)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/ رقم 31704)، وابن أبي الدنيا في حسن الظن باللَّه برقم (74)، وابن حبان في صحيحه برقم (7459)، والحاكم في المستدرك (1/ 155) رقم (273) وغيرهم. من طريق ضرار بن مرة عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه فذكره. ورواهُ الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بنحوه =

(1/251)


رواه الإمام أحمد والترمذي، وإسناده على شرط الصحيح. ورواه الطبراني في "معجمه" (1) من حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّهُ عنهما، وفي إسناده خالد بن يزيد البجلي، وقد تُكُلِّمَ فيه. ورواهُ أيضًا من حديث القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد اللَّه ابن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كيف أنتم وربُعُ الجنَّة لكم، ولسائر النَّاسِ ثلاثةُ أرباعها؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: كيف أنتم وثلثها؟ قالوا: ذاك أكثر، قال: كيف أنتم والشطر لكم؟ قالوا: ذاك أكثر، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أهل الجنَّة عشرون ومئة صف، لكم منها ثمانون صفًّا" (2) ، قال الطبراني: "لم يرو هذا __________ = مرسلًا، هكذا رواه عنه: يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومؤمل. وخالفهم معاوية بن هشام -صدوقٌ يخطئ- والحسين الأصبهاني وعمرو ابن محمد العنقزي وغيرهم عن الثوري فوصلوه، والمرسل أصح. والحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم والمؤلف. تنبيه: قال بعضهم: ضرار بن عمرو -وهو متروك- بدلًا من "ضرار بن مُرَّة "ثقة"، وابن مُرَّة أكثر وأصح. انظر: الكامل لابن عدي (4/ 100) ومسند البزار (10/ رقم 4362) ولسان الميزان (3/ 239). (1) الكبير (10/ رقم 10682)، وابن عدي في الكامل (3/ 13). قال ابن عدي -بعد أنْ ذكر هذا الحديث وغيره-: "وخالد بن يزيد هذا له أحاديث غير ما ذكرت، وأحاديثه كلها لا يتابع عليها، لا إسنادًا ولا متنًا ... وهو عندي ضعيف، إلَّا أنَّ أحاديثه إفرادات، ومع ضعفه كان يُكْتَبُ حديثه". وانظر: لسان الميزان (2/ 450 - 451). (2) أخرجه أحمد في المسند (1/ 453)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/ رقم 31706)، وأبو يعلي في مسنده (9/ رقم 5358)، والطبراني في الأوسط =

(1/252)


الحديث (1) عن القاسم بن عبد الرحمن إلَّا الحارث بن حُصيرة، تفرد به عبد الواحد بن زياد". وقال عبد اللَّه بن أحمد: حدثنا موسى بن غيلان ثنا هاشم بن مخلد حدثنا عبد اللَّه بن المبارك عن سفيان عن أبي عمرو عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: "لمَّا نزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 - 40]، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنتم رُبُعُ أهل الجنَّة، أنتم ثلث أهل الجنَّة، أنتم نصفُ أهل الجنَّة. أنتم ثلثا أهل الجنَّة" (2) . __________ = (539)، وفي الصغير رقم (76)، والبزار في مسنده البحر الزخار رقم (1999) وغيرهم. من طريق عفان بن مسلم الصَّفَّار وعبد الواحد بن زياد عن الحارث بن حصيرة عن القاسم به. وخالفه يعقوب الحضرمي فأدخل زيد بن وهب مكان القاسم عن أبيه. فرواه يعقوب عن عبد الواحد عن الحارث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود فذكره. أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 227) رقم (10398). قلتُ: هذا خطأ؛ إمَّا من يعقوب الحضرمي أو الراوي عنه أحمد بن محمد بن نَيْزَك وهو صدوقٌ يخطئ. فالطريق الأوَّل هو المحفوظ، وهو ضعيف للانقطاع: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه هذا الحديث، وأيضًا فيه الحارث بن حصيرة فيه ضعف، وقد تفرَّد بهذا الحديث عن القاسم. انظر: تهذيب الكمال (5/ 224 - 226). (1) قوله "هذا الحديث" ليس في "أ". (2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 101). ورواهُ شريك القاضي عن محمد بن عبد الرحمن بن خالد عن أبيه عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة عن أبي هريرة فذكره، وفيه "أنتم ثلث أهل =

(1/253)


قال الطبراني: "تفرَّد برفعه ابن المبارك عن الثوري". وقال خيثمة بن سليمان القرشي: حدثنا أبو قلابة هو عبد الملك بن محمد حدثنا محمد (1) بن بكار الصيرفي حدثنا حمَّاد بن عيسى حدثنا سفيان الثوري عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أهل الجنَّة عشرون ومئة صف، أنتم منها ثمانون صفًّا" (2) . وهذه الأحاديث قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها وصح سند بعضها، ولا تنافي بينها وبين حديث الشطر؛ لأنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجا أوَّلًا أنْ يكونوا شطر أهل الجنَّة، فأعطاهُ اللَّهُ (3) سبحانه رجاءه، وزاده عليه شيئًا آخر. __________ = الجنَّة، بل أنتم نصف أهل الجنَّة، وتقاسمونهم النصف الباقي". أخرجه أحمد (2/ 391)، والبخاري في تاريخه الكبير (1/ 154). والحديث ضعيف الإسناد، مضطرب المتن، فيه عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة مجهول، وكذا ابنه محمد لم يوثقه إلَّا ابن حبان، وقد روى عنه جماعة. انظر: تهذيب الكمال (25/ 608 - 609)، (17/ 77 - 78). (1) قوله: "حدثنا محمد" سقط من "ب، ج". (2) أخرجه خيثمة بن سليمان الأطرابلسي كما في المنتخب من الجزء الأوَّل من فوائده ص (78 - 79)، والطبراني في معجمه الكبير (19/ 419) رقم (1012)، وابن عدي في الكامل (6/ 286). وهذا الحديث منكر؛ تفرَّد به حماد بن عيسى الجهني عن الثوري، وحماد ضعيف الحديث عنده مناكير. انظر: تهذيب الكمال (7/ 281 - 283). (3) ليس في "ج".

(1/254)


وقد روى أحمد في "مسنده" من حديث أبي الزبير أنَّه سمع جابرًا يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أرجو أنْ يكون من يتبعني من أُمَّتي يوم القيامة رُبُعَ أهلِ الجنَّة، قال: فكبرنا، قال: فأرجو أنْ تكونوا الشَّطرَ" (1) . وإسناده على شرط مسلم. __________ (1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 346)، والبزار في مسنده كما في كشف الأستار برقم (3533). والحديث كما قال المؤلف.

(1/255)


 الباب الحادي والثلاثون في أنَّ النساء في الجنَّة أكثر من الرجال وكذلك هم في النَّار

ثبت في "الصحيحين" (1) من حديث أيوب عن محمد بن سيرين قال: إمَّا تفاخروا، وإمَّا تذاكروا: الرجال أكثر في الجنَّة أم النساء؟ فقال أبو هريرة رضي اللَّهُ عنه: ألم يقل أبو القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أوَّل زُمرةٍ تدخل الجنَّة على صورة القمر ليلة البدرِ، والتي تليها على أضوإِ (2) كوكبٍ دريٍّ في السماء، لكلِّ امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يُرى مُخُّ سُوقِهِما من وراء اللحم، وما في الجنَّة عَزَبٌ". فإنْ كن من نساء الدنيا فالنساء في الدنيا أكثر من الرجال، وإنْ كُنَّ من الحور العين لم يلزم أنْ يكُنَّ في الدنيا أكثر، والظاهر أنَّهنَّ من الحور العين؛ لما رواه الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا يونس عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "للرَّجل من أهل الجنَّة زوجتان من الحور العين، على كلِّ واحدةٍ سبعون حُلَّة يرى مخ ساقها من وراء الثياب" (3). __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3073 و 3074 و 3081 و 3149) من طريق همام بن منبه والأعرج وعبد الرحمن بن أبي عمرة وأبي زرعة كلهم عن أبي هريرة. ومسلم رقم (2834)، واللفظ لمسلم. (2) من "هـ" و"صحيح مسلم"، وفي باقي النسخ "أضواء". (3) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 345 و 420 و 422). هكذا رواه حماد بن سلمة. ويظهر أنَّه مختصر، ولفظه بتمامه ما تقدم آنفًا. وجملة "على كل واحدةٍ سبعون حُلَّة" غريبة. =

(1/256)


فإنْ قيل: فكيف تجمعون بين هذا الحديث وبين حديث جابر رضي اللَّهُ عنه المتفق عليه: شهدتُ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العيد، فصلى قبل أنْ يخطب بغير أذان ولا إقامة، ثمَّ خطب بعدما صلَّى، فوعظ النَّاس وذكرهم، ثمَّ أتى النساء فوعظهنَّ ومعه بلال، فذكرهنَّ وأمرهنَّ بالصدقة، قال: فجعلت المرأة تلقي خاتمها وخُرْصها والشيء كذلك، __________ = حيث لم يروها أيوب السختياني ولا عوف ولا معمر عن محمد بن سيرين. لكن جاءت عن محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عند الدَّارمي برقم (2874) وفيه ". . إنَّه ليرى مخ ساقها من وراء سبعين حلَّة. . ". لكنَّها رواية مختصرة ومروية بالمعنى، فقد خالف محمد بن المنهال الإمام أحمد. فرواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 507) عن يزيد بن زريع عن هشام به بمثل لفظ أيوب المتقدم آنفًا، وفيه "من وراء الحلل" بدلًا من "اللحم". وأيضًا فقد رواه عن أبي هريرة جماعة: همام بن منبه وأبو زرعة والأعرج وعبد الرحمن بن أبي عمرة وأبو صالح وأبو رافع وزياد المخزومي فلم يذكروا ما ذكره حماد بن سلمة "على كلِّ واحدةٍ سبعون حلَّة". انظر: المسند الجامع (8/ 484 - 489)، وصفة الجنَّة لأبي نعيم من الرقم (240 - 244). وقد ورد هذا عن ابن مسعود موقوفًا قال: "إنَّ المرأة من الحور العين ليُرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء". أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (20867) وغيره. وقد جاء هذا مقطوعًا وهو أصح، وقد روي مرفوعًا ولا يصح. انظر: علل الدَّارقطني (5/ 227 - 228) رقم (837).

(1/257)


فأمر النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بلالًا فجمع ما هناكَ، ثمَّ قال: "إنَّ منكنَّ في الجنَّة ليسير". فقالت امرأةٌ: يا رسول اللَّه لِمَ؟ قال: "إنَّكنَّ تُكثرن الَّلعن، وتكفرن العشير" (1) . وفي الحديث الآخر: "إنَّ أقلَّ ساكني الجنَّة النساء" (2) . قيل: هذا يدلُّ على أنَّهنَّ إنَّما كُنَّ في الجنَّة أكثر بالحور العين الَّلاتي خلقن في الجنَّة، وأقل ساكنيها نساء الدنيا، فنساء الدنيا أقل أهل الجنَّة، وأكثر أهل النَّار. وأمَّا كونهنَّ أكثر أهل النَّارِ، فلما روى البخاري في "صحيحه" من حديث عمران بن حصين رضي اللَّهُ عنهما قال: بلغني أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اطَّلعتُ في النَّارِ فرأيتُ أكثر أهلها النساءَ، واطَّلعتُ في الجنَّة فرأيت أكثر أهلها الفقراء" (3) . وفي "صحيح مسلم" (4) عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اطَّلعتُ في الجنَّة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء، واطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثر أهلها النساء". __________ (1) أخرجه البخاري رقم (935)، ومسلم رقم (885) واللفظ لمسلم. (2) أخرجه مسلم في صحيحه في (48) الرقاق، برقم (2738) من حديث عمران بن حصين. (3) أخرجه البخاري في صحيحه في (63) بدء الخلق، (8) باب ما جاء في صفة الجنَّة وأنَّها مخلوقة (3/ 1184) رقم (3069). (4) أخرجه مسلم في صحيحه في (48) الرقاق برقم (2737).

(1/258)


وروى الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثرَ أهلها النساء، واطَّلعتُ في الجنَّة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء" (1) . وفي "المسند" أيضًا من حديث عبد اللَّهِ بن عمرو رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اطَّلعتُ في الجنَّة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء، واطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثر أهلها الأغنياء والنساء" (2) . __________ (1) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 297). من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة فذكره. وسنده منقطع شهر لم يسمع من أبي هريرة، وإنَّما يدخل أحيانًا بينه وبين أبي هريرة واسطة هو عبد الرحمن بن غنم، وقد ورد تصريحه بالسماع من أبي هريرة وفي ثبوته نظر. والمتن محفوظ كما تقدم. (2) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 173)، وكذا عبد اللَّه في زوائد المسند مختصرًا، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7489) مطوَّلًا. من طريق شريك عن أبي إسحاق عن السائب بن مالك عن عبد اللَّه بن عمرو فذكره في قصة كسوف الشمس. وهذه اللفظة غريبة من حديث أبي إسحاق. فقد روى الحديث عطاء بن السائب عن أبيه السائب عن عبد اللَّه بن عمرو مطوَّلًا، وليس فيه هذه اللفظة إنَّما فيه بدلًا عنها ". . . عرضت عليَّ الجنَّة حتى لو مددت يدي تناولت من قطوفها، وعرضت عليَّ النَّار فجعلت أنفخ خشية أنْ يغشاكم حرَّها. . " هذا لفظ شعبة عن عطاء. أخرجه أحمد (2/ 188) والنسائي (3/ 149). =

(1/259)


وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار (1) ، فإنِّي رأيتُكنَّ أكثر أهل النَّار، فقالت امرأةٌ منهنَّ جَزْلَة: وما لنا يا رسول اللَّه أكثر أهل النَّار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيتُ من (2) ناقصات عقلٍ ودينٍ أغلبَ لذي لبٍّ منكنَّ، قالت: يا رسول اللَّهِ وما نقصان العقل والدِّين؟ قال: أمَّا نقصان العقل فشهادة امرأتين بشهادة رجلٍ، فهذا نقصان العقل، وتمكث الأيام لا تصلي وتفطر (3) فهذا نقصان الدِّين" (4) . وأمَّا كونهنَّ أقل أهل الجنَّة ففي "أفراد مسلم" عن مطرف بن عبد اللَّه: أنَّه كانت له امرأتان، فجاء من عند إحداهما، فقالتِ الأخرى: جئتَ من عند فلانةٍ، فقال: جئتُ من عند عمران بن حصين، فحدثنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ أقلَّ ساكني الجنَّة النساء" (5) . فإنْ قيل: فما تصنعون بالحديث الَّذي رواه أبو يعلى الموصلي: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد __________ = ورواه أيضًا أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد اللَّه بن عمرو فذكره مختصرًا. أخرجاه في الصحيحين وأحمد (2/ 175) وغيرهم. وفي الحديث اختلافٌ في صفة صلاة الكسوف ليس هذا موضعه. (1) في نسخةٍ على حاشية "أ" "من الاستغفار". (2) ليس في "ب". (3) في صحيح مسلم "وتفطر في رمضان". (4) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (79). (5) أخرجه مسلم برقم (2738).

(1/260)


حدثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد (1) عن محمد بن كعب القرظي عن رجلٍ من الأنصار عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو في طائفةٍ من أصحابه فذكر حديثًا طويلًا وفيه: "فيدخلُ الرجُل منهم على ثنتين وسبعين زوجة ممَّا ينشئ اللَّهُ تعالى وثنتين من ولد آدم، لهما فضلٌ على من أنشأ اللَّهُ، بعبادتهما اللَّه في الدنيا" (2) وذكر الحديث. قيل: هذا قطعة من حديث الصور الطويل، ولا يعرف إلَّا من حديث إسماعيل بن رافع، وقد ضعفه أحمد، ويحيى وجماعة وقال الدَّارقطني وغيره: "متروك الحديث"، وقال ابن عدي: "أحاديثه كلها ممَّا فيه نظر". وأمَّا البخاري، فقال فيه: ما حكاه الترمذي عنه قال: "سمعت محمدًا يقول: هو ثقة، مقارب الحديث" (3) . __________ (1) وفي بعض مصادر التخريج "يزيد بن أبي زياد" وفي بعضها "محمد بن يزيد بن أبي زياد" وكلها ترجع إلى اضطراب إسماعيل بن رافع في هذا الحديث، وإسماعيل شبه المتروك. (2) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب رقم (3013)، والطبري في تفسيره (10/ 110)، والطبراني في الأحاديث الطِّوال رقم (36)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (386)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (668 و 669)، وابن عدي في الكامل (6/ 267). والحديث ضعيف جدًّا، تكلم فيه البخاري والبيهقي وعبد الحق والمؤلف وابن كثير والبوصيري وابن حجر وغيرهم. انظر: فتح الباري (11/ 368 - 369) وغيره. (3) انظر أقوال العلماء فيه في تهذيب الكمال (3/ 85 - 90).

(1/261)


قلتُ: ولكن إذا روى مثل هذا ما يخالف الأحاديث الصحيحة لم يلتفت إلى روايته، وأيضًا فالرجل الَّذي رواه عنه القُرَظي لا يُدْرَى منْ هو؟ وقد روى أحمد في "مسنده" من حديث عُمَارة بن خزيمة بن ثابت قال: كُنَّا مع عمرو بن العاص رضي اللَّهُ عنهما في حج أو عمرة، حتَّى إذا كنَّا بمرِّ الظَّهران، فإذا امرأة في هودجها، قال: فمال فدخل الشِّعْبَ فدخلنا معه فقال: كنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذ المكان، فإذا نحن بغربان كثيرةٍ فيها غُرَابٌ أعصم أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يدخل الجنَّة من النساء إلَّا مثل هذا الغراب في هذه الغربان" (1) . والأعصم من الغِربان: الَّذي في جناحه ريشة بيضاء. قال الجوهري: "ويقال هذا كقوهم: الأبلق العَقُوق، وبَيْض الأنُوق، لكلِّ شيء يعزُّ وجوده" (2) . __________ (1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 197 و 205) وعبد بن حميد في مسنده "المنتخب رقم (294)، والنسائي في الكبرى (5/ 400) رقم (9268)، وأبو يعلى في مسنده (13/ رقم 7343)، والحاكم في المستدرك (4/ 645) رقم (8781 و 8782)، والبيهقي في شعب الإيمان (13/ 7433) وغيرهم. والحديث قال فيه الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وقال الهيثمي: "ورجاله ثقات" مجمع الزوائد (10/ 400). (2) الصحاح (2/ 1465 - 1466).

(1/262)


وفي "النهاية" (1) : "الغراب الأعصم": هو الأبيض الجناحين، وقيل الأبيض الرجلين، أراد: قلَّة من يدخل الجنَّة من النساء؛ لأنَّ هذا الوصف في الغربان قليل عزيز. وفي حديث آخر: "المرأة الصالحةُ مثل الغراب الأعصم، قيل: يا رسول اللَّه وما الغراب الأعصم؟ قال: "الَّذي إحدى رجليه بيضاء" (2) . __________ (1) لابن الأثير (3/ 249). (2) أخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" كما في المطالب العالية (8/ 389) رقم (1686) معلقًا. من طريق مطرِّح بن يزيد عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أُمامة. وهذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا، وقد ضعف يحيى بن معين وأبو حاتم الرَّازي جميع أحاديث هذه السلسلة. وعلي بن يزيد هو الألهاني: متروك عند عامة أهل الجرح والتعديل، انظر: تهذيب الكمال (21/ 178 - 182). وفيه أيضًا مطرَّح بن يزيد وهو متفق على ضعفه. انظر: تهذيب الكمال (28/ 60 - 62). والحديث ضعفه الهيثمي والبوصيري. انظر: مجمع الزوائد (4/ 273). * وورد من حديث عائشة وفيه قصة وفيه ". . . إنَّ مثل المرأة المؤمنة في النساء كمثل الغراب الأعصم في الغربان. . ". أخرجه عبد بن حميد في مسنده رقم (1526 - المنتخب)، وأبو الشيخ في الأمثال رقم (137)، والطبراني في مسند الشاميين رقم (1171). من طريق: كثير بن عبيد ومحمد بن عمرو بن حنان ومحمد بن الفضل عن بقية بن الوليد حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عائشة. ولكنَّه حديث معلول بالإرسال كما أخرجه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (65/ 221).

(1/263)


وفي حديثٍ آخر: "عائشة في النساء، كالغراب الأعصم في الغربان" (1) . __________ (1) انظر الفائق للزمخشري (2/ 369) والحديث لم أقف عليه.

(1/264)


 الباب الثاني والثلاثون فيمن يدخل الجنَّة من هذه الأمة بغير حساب وذكر أوصافهم

ثبت في "الصحيحين" (1) من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يدخل الجنَّة من أمتي زمرةٌ: هم سبعون ألفًا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر"، فقام عُكَّاشة بن مِحْصَنٍ الأسدي فرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أنْ يجعلني منهم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم اجعله منهم"، ثمَّ قام رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّهُ أنْ يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عُكَّاشة". وفي "الصحيحين" (2) من حديث سهل بن سعد أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ليدخلنَّ الجنَّة من أمتي سبعون ألفًا أو سبع مئة ألف (3) آخذٌ بعضهم ببعض حتى يدخل أوَّلُهم وآخرهم الجنَّة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". فهذه هي الزُمرة الأولى، وهم يدخلونها بغير حساب، والدَّليل عليه ما ثبت في "الصحيحين" (4) والسِّياق لمسلم، حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم أخبرنا حُصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند __________ (1) البخاري رقم (6176)، ومسلم رقم (216). (2) أخرجه البخاري رقم (6177)، ومسلم رقم (219). (3) في الصحيحين زيادة "متماسكين". (4) البخاري رقم (6175)، ومسلم رقم (220).

(1/265)


سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الَّذي انقض البارحة، قلت: أنا، ثمَّ قلتُ: أما إنِّي لم أكن في صلاة، ولكنِّي لُدغت قال: فما صنعت؟ قلتُ: استرقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلتُ: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم الشعبي؟ قلتُ: حدثنا عن بُرَيدة بن حصيب الأسلمي أنَّه قال: لا رُقية إلَّا من عينٍ أو حُمَة، فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "عرضت عليَّ الأمم فرأيت النَّبي ومعه الرهط، والنَّبي ومعه الرجل والرجلان، والنَّبي وليس معه أحد، إذ رُفِعَ لي سوادٌ عظيم، فظننتُ أنَّهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه؛ ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سوادٌ عظيم فقيل لي (1) : هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذاب"، ثمَّ نهض فدخل منزله، فخاض النَّاس في أولئك الَّذين يدخلون الجَنَّة بغير حسابٍ ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الَّذين صحبوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال بعضهم: فلعلهم الَّذين وُلِدُوا في الإسلام ولم يشركوا باللَّه، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول اللَّه فقال: "ما الَّذي تخوضون فيه"؟ فأخبروه، فقال: هم الَّذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عُكاشة بن محصن فقال: ادعُ (2) اللَّه أنْ يجعلني __________ (1) من قوله "انظر إلى الأفق" إلى "لي" من صحيح مسلم، وليس في جميع النسخ. (2) في نسخةٍ على حاشية "أ" "يا رسول اللَّه ادع" وليست في مسلم ولا في جميع النسخ.

(1/266)


منهم، فقال: "أنت منهم"، ثمَّ قام رجلٌ آخر فقال: ادعُ اللَّهَ أنْ يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة". وليس عند البخاري "ولا يَرْقُون". قال شيخنا (1) : وهو الصواب، وهذه اللفظة وقعت مقحمة في الحديث، وهو غلطٌ من بعض الرواة (2) ، فإنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل الوصف __________ (1) هو ابن تيمية، انظر: مجموع الفتاوى (1/ 182، 328)، وراجع: مفتاح دار السعادة (2/ 234)، وزاد المعاد (1/ 495 - 496). فائدة: تعقَّب الحافظ ابنُ حجر ابنَ تيمية في هذه الزيادة "ولا يرقون" في الفتح (11/ 408 - 409)، وأجاب عن هذه التعقبات الشيخ سليمان بن عبد اللَّه آل الشيخ في تيسير العزيز الحميد ص (84 - 85). (2) لعله من سعيد بن منصور، فقد خالفه جماعة فلم يذكروا هذه اللفظة عن هشيم، منهم: - سريج بن النعمان عند أحمد (1/ 271). - وشجاع بن مخلد الفلاس عند عبد اللَّه في زوائده على المسند (1/ 271). - ومحمد بن الصباح عند أبي نعيم في مستخرجه برقم (526). - وأُسيد بن زيد عند البخاري برقم (6175). - وزكريا بن يحيى زحمويه عند البيهقي في شعب الإيمان رقم (1122). - ومحمد بن عبيد القرشي عند ابن أبي الدنيا في التوكل رقم (39). ورواه شعبة وحصين بن نمير ومحمد بن فضيل وعبثر بن القاسم كلهم عن حصين بن عبد الرحمن به ولم يذكروا هذه اللفظة. وجاء الحديث بدون هذه الزيادة "ولا يرقون" عن غير واحدٍ منهم: عمران بن حصين عند مسلم رقم (371 و 372) وغيره. وابن مسعود وسيأتي قريبًا. وهذا يؤيد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بأنَّها غلط.

(1/267)


الَّذي استحق به هؤلاء دخول الجنَّة بغير حساب، هو تحقيق التوحيد وتجريده، فلا يسألون غيرهم أنْ يرقيهم، ولا يتطيرون -والطيرة: نوعٌ من الشرك- ويتوكلون على اللَّهِ وحده لا على غيره، وتركهم الاسترقاء والتطير هو من تمام التوكل على اللَّهِ كما في الحديث: "الطيرة شرك"، قال ابن مسعود: "وما منَّا إلَّا، ولكن اللَّه يذهبه بالتوكل" (1) . فالتوكل ينافي التطير، وأمَّا رقية الغير فهي إحسان من الرَّاقي، وقد رقى رسولَ اللَّهِ جبريلُ، وأذن (2) في الرُّقا (3) ، وقال: "لا بأس بها ما لم يكن فيها شرك" (4) ، واستأذنوه فيها فقال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" (5) ، وهذا يدلُّ على أنَّها نفع وإحسان، وذلك مستحب __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (1614)، وأبو داود برقم (3910)، وابن ماجه برقم (3538)، وأحمد (1/ 389)، وابن حبان (6122)، والحاكم (1/ 64 - 65) رقم (43 و 44). قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلَّا من حديث سلمة ابن كهيل. . . ". والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والذهبي والعراقي وغيرهم. وقوله "وما منَّا إلَّا. . . " مدرجٌ من قول عبد اللَّه بن مسعود قاله سليمان بن حرب. (2) في "ب، د" "بل وأذن". (3) يشير إلى حديث عائشة وأبي سعيد الخدري عند مسلم رقم (2185 و 2186). (4) أخرجه مسلم برقم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي. (5) أخرجه مسلم برقم (2199) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنهما.

(1/268)


مطلوب للَّه ورسوله، فالرَّاقي محسنٌ، والمسترقي سائلٌ راجٍ نفع الغير، وتحقيق التوكل ينافي ذلك. فإنْ قيل: فعائشة قد رقت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجبريل قد (1) رقاهُ. قيل: أجل، ولكن هو لم يسترقِ، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يقل: لا يرقيهم راقٍ، وإنَّما قال: لا يطلبون من أحدٍ أنْ يرقيهم، وفي امتناعه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنْ يدعو للرجل الثاني سدٌّ لباب الطلب؛ فإنَّه لو دعا لكلِّ من سأله ذلك، فربما طلبه من ليس من أهله، واللَّهُ أعلم. وفي "صحيح مسلم" (2) من حديث محمد بن سيرين، عن عمران ابن حصين رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يدخل الجنَّة من أُمَّتي سبعون ألفًا بغير حسابٍ ولا عذاب" قيل: من هم؟ قال: "هم الَّذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون". وفي "صحيحه" (3) أيضًا من حديث أبي الزبير أنَّه سمع جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنهما قال: سمعتُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يذكر حديثًا وفيه "فتنجوا أوَّل زمرةٍ وجوههم كالقمر ليلة البدرِ، سبعون ألفًا لا يحاسبون، ثمَّ الَّذين يلونهم كأضوإِ نجمٍ في السماء ثمَّ كذلك" وذكر تمام الحديث. وقال أحمد بن منيع في "مسنده": حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز حدثنا حمَّاد عن عاصم عن زِرًّ عن ابن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: قال __________ (1) ليس في "ب". (2) رقم (218). (3) رقم (191).

(1/269)


رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عُرِضَتْ عليَّ الأُمم بالموسم فراثتْ (1) عليَّ أمتي ثمَّ رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم، قد ملؤوا السهل والجبل، فقال: أرضيتَ يا محمد؟ فقلتُ: نعم، فقال: فإنَّ مع هؤلاء سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، وهم الَّذين لا يسترقون، ولا يكتوون وعلى ربِّهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّهَ أن يجعلني منهم، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنت منهم، فقال رجلٌ آخر، فقال: "سبقك بها عُكاشة" (2) . وإسناده على شرط مسلم. __________ (1) جاء في حاشية "أ": "راث عليَّ الخَبَر يريثُ، أي: أبطأ. النهاية. (2) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 403)، والطيالسي في مسنده برقم (350)، وابن أبي شيبة في مسنده رقم (352)، وأبو يعلي في مسنده (9/ رقم 5340)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (911). من طرق عن حماد بن سلمة به مثله. وزادوا "ولا يتطيرون" سوى أبي يعلى وابن أبي شيبة. وله طريقٌ آخر عن ابن مسعود: رواهُ العلاءُ بن زياد والحسن البصري عن عمران عن ابن مسعود مطوَّلًا وفيه "ولا يتطيرون". أخرجه أحمد في المسند (1/ 401)، والطيالسي في مسنده رقم (404)، وأبو يعلي في مسنده (9/ رقم 5339)، وابن حبان (14/ رقم 6431) والحاكم (4/ 621) رقم (8721) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان والحاكم والبوصيري والضياء المقدسي والمؤلف وغيرهم. انظر: إتحاف الخيرة المهرة (8/ 250)، وصفة الجنَّة للمقدسي (176).

(1/270)


 الباب الثالث والثلاثون في ذِكْر حَثيَات الرَّب تبارك وتعالى الَّذين يدخلهم الجنَّة

قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد قال: سمعتُ أبا أُمامة الباهلي يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "وعدني ربي أنْ يدخل الجنَّة (1) من أمتي سبعين ألفًا، مع كلِّ ألفٍ سبعون ألفًا لا حسابَ عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي" (2). قلتُ: وإسماعيل بن عياش (3) إنَّما يخاف من تدليسه وضعفه. فأمَّا تدليسه: فقد قال الطبراني: حدثنا أحمدُ بن المعلى الدمشقي، والحسين بن إسحاق التستري قالا: حدثنا هشام بن عمَّار __________ (1) ليس في "ب". (2) أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 319) رقم (31705)، والترمذي برقم (2437)، وابن ماجه (4286)، وأحمد في المسند (5/ 268)، والطبراني في الكبير (8/ 129 - 130) رقم (7520) وفي مسند الشاميين (2/ 7 - 8) رقم (820) وغيرهم. قال الترمذي: "حسنٌ غريب". وقال ابن كثير: "هذا إسنادٌ جيِّدٌ". ورواهُ بقية بن الوليد حدثني محمد بن زياد عن أبي أُمامة أو عن رجلٍ من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 130) رقم (7521)، والدارقطني في الصفات رقم (53). (3) قوله "بن عياش" ليس في "ب".

(1/271)


قال: حدثنا إسماعيل بن عياش قال: أخبرني محمد بن زياد الألهاني قال: سمعتُ أبا أُمامة يقول: فذكره. وأمَّا ضعفه: فإنَّما هو فى غير حديث الشاميين (1) وهذا من روايته عن الشاميين. وأيضًا، فقد جاء من غير طريقه، قال أبو بكر بن أبي عاصم: حدثنا دحيم حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر وأبي (2) اليمان الهوزني عن أبي أُمامة رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّهَ وعدني أنْ يدخل الجنَّة من أُمتي سبعين ألفًا بغير حساب" قال يزيد بن الأخنس: واللَّه ما أولئك يا رسول اللَّه إلَّا مثل الذباب الأصهب (3) في الذِّبانِ (4) ، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنَّ اللَّهَ وعدني سبعين ألفًا، مع كلِّ ألفٍ سبعين ألفًا، وزادني ثلاثَ حثياتٍ" (5) . __________ (1) كما نصَّ على ذلك علي ابن المديني ويحيى بن معين والإمام أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرَّازي ودحيم وعمرو بن علي الفلَّاس والبخاري ويعقوب بن شيبة وغيرهم. انظر: تهذيب الكمال (3/ 171 - 181). (2) في جميع النسخ "عن أبي اليمان" والمثبت عند ابن أبي عاصم وغيره. (3) الأصهب: هو الَّذي يعلو لونه صُهْبة، كالشُّقْرة، وهو أنْ يخالط لونه لونًا آخر. انظر: الصحاح (1/ 180)، والنهاية (3/ 62). وقد جاء عند الطبراني وغيره "الذباب الأزرق" بدلًا من "الأصهب". (4) في "أ، ج، هـ" "الذباب"، وفي "د" "الذناب" وهو خطأ. (5) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/ 445 - 446) رقم (1247)، وأحمد في المسند (5/ 250)، والطبراني في الكبير (8/ 187) رقم =

(1/272)


قال أبو عبد اللَّه المقدسي: "أبو اليمان اسمه: عامر بن عبد اللَّه بن لحي، ودحيم لقب، واسمه: عبد الرحمن بن إبراهيم القاضي شيخ البخاري ومن فوقه إلى أبي أمامة من رجال الصحيح إلَّا الهوزني وما علمتُ فيه جرحًا" (1) . وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن خليدٍ حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية ابن سلَّام عن زيد بن سلَّام أنَّه سمع أبا سلَّام يقول: حدثني عامر (2) ابن يزيد بن البكالي أنَّه سمع عتبة بن عبدٍ السلمي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ ربي عزَّ وجل وعدني أنْ يدخل الجنَّة من أُمتي سبعين ألفًا بغير حسابٍ، ثمَّ يشفع كلُّ ألفٍ لسبعين ألفًا، ثُمَّ يحثي (3) ربي تبارك وتعالى بكفيه ثلاث حثياتٍ"، فكبَّر عمر وقال: إنَّ السبعين الأول يشفعهم اللَّهُ في آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وعشائرهم وأرجو أنْ يجعلني اللَّه في أحد الحثيات الأواخر" (4) . __________ = (7672)، وابن حبان في صحيحه (16/ 230) رقم (7246). - ورواه معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أُمامة فذكره. أخرجه الطبراني (8/ رقم 7665)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (147). والحديث صححه ابن حبان، وحسنه ابن كثير، وصحح سنده الحافظ ابن حجر. انظر: الإصابة (6/ 336). (1) انظر: صفة الجنَّة لضياء الدِّين المقدسي ص (178). (2) ليس في "ج". (3) في الطبراني "يحثي لي ربي". (4) أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 126 - 127) رقم (312)، وفي الأوسط رقم (402)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 341 - 342)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (300)، وابن حبان في صحيحه (14/ رقم 6450)، والطبري =

(1/273)


قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد: "لا أعلم لهذا الإسناد عِلَّة" (1) . قال الطبراني: وحدثنا أحمد بن خُليد حدثنا توبة حدثنا معاوية بن سلَّام عن زيد بن سلَّام (2) أنَّه سمع أبا سلَّام يقول: حدثني عبد اللَّه بن عامر أنَّ (3) قيس الكندي حدَّثه أنَّ أبا سعيد الأنماري رضي اللَّهُ عنه حدثه أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ ربي عزَّ وجلَّ وعدني أنْ يدخل الجنَّة من أمتي سبعين ألفًا بغير حسابٍ، ويشفع كلُّ ألفٍ لسبعين (4) ألفًا، ثمَّ يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه" قال قيس (5) : فقلتُ لأبي سعيد: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم بأذني ووعاه قلبي، قال أبو سعيد: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وذلك إنْ شاء اللَّه يستوعب مهاجري __________ = في تفسيره (13/ 149)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (346) وغيرهم. - ورواه معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عامر بن زيد البكالي أنَّه سمع عتبة بن عبد السلمي فذكره مطوَّلًا. أخرجه أحمد في المسند (4/ 183 - 184)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (716)، والطبراني في الكبير (17/ 127) رقم (313). والحديث مداره على عامر بن زيد البكالي وهو تابعي سمع من عتبة، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 191)، ولم يروه عنه غير أبي سلام ويحيى ابن أبي كثير، وسيأتي من طريق آخر ص (343). (1) انظر: صفة الجنَّة للمقدسي ص (179). (2) قوله "عن زيد بن سلام" ليس في "ب، د". (3) في جميع النسخ "بن" وهو خطأ. (4) في جميع النسخ "ويشفع لكلِّ ألفٍ سبعين" هو خطأ. (5) في جميع النسخ "ابن قيس".

(1/274)


أمتي ويوفي اللَّه عزَّ وجلَّ بقيته من أعرابنا" (1) . قال الطبراني: "لم يُروَ هذا الحديث عن أبي سعيد الأنماري إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّد به معاوية بن سلَّام". وقد رواه محمد بن سهل بن عسكر عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناده وفيه: قال أبو سعيد: فحُسِبَ ذلك عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فبلغ أربعة مئة ألفِ ألفِ وتسع مئة ألفٍ، فقال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ ذلكَ يستوعب إنْ شاء اللَّه مهاجري أمتي". قال الطبراني: حدثنا محمد بن صالح بن الوليد النَّرسي، ومحمد ابن يحيى بن منده الأصبهاني قالا: أخبرنا أبو حفص عمرو بن علي، حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي بكر بن أنس عن أبي بكر بن عمير عن أبيه رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّهَ وعدني أنْ يدخل من أمتي ثلاث مئة ألف الجنَّة، فقال عمير: يا رسول اللَّه زدنا، فقال: هكذا بيده، فقال عميرٌ: يا رسول اللَّهِ زدنا، فقال عمر: حسبكَ __________ (1) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (404)، وفي الكبير (22/ رقم 771)، وفي مسند الشاميين (4/ 106) رقم (2863)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (814)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5/ 2907) رقم (6817)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (40/ 371 - 372)، وابن الأثير في أُسد الغابة (6/ 137 - 138) وغيرهم. وقد وقع في تلك الأسانيد اختلاف واضطراب ممَّا جعل الحافظ ابن حجر يقول: "فمن هذا الاختلاف يتوقف في الجزم بصحة هذا السند". راجع تفصيل ذلك: الإصابة (7/ 85)، وحاشية السنة لابن أبي عاصم للألباني.

(1/275)


يا عميرُ، فقال: ما لنا ولك يا ابنَ الخطاب، وما عليكَ أن يدخلنا اللَّه الجنَّة، فقال عمر: إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ إنْ شاءَ أدخل النَّاس الجنَّة بحفنةٍ أو بحثيةٍ واحدةٍ، فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صدَقَ عمر" (1) . قال محمد بن عبد الواحد: "لا أعرف لعمير حديثًا غيره" (2) . وفي "الحلية" من حديث سليمان بن حرب حدثنا أبو هلال عن قتادة __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 64) رقم (123)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4/ 2096 - 2097) رقم (5272). - ورواهُ معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس بن مالك فذكره كما سيأتي عند المؤلف. أخرجه عبد الرزاق (11/ 286)، وأحمد في المسند (3/ 165)، وابن أبي داود في البعث رقم (50) وغيرهم. - ورواهُ أبو هلال الراسبي عن قتادة عن أنس فذكره، كما سيأتي عند المؤلف. أخرجه أحمد في المسند (3/ 193)، والبزار كما في كشف الأستار برقم (3548)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 334). قال البزار: "لا نعلمُ أحدًا تابع أبا هلال على روايته، وإنَّما يرويه قتادة عن أنس". وقال أبو نعيم: "غريب من حديث قتادة عن أنس رضي اللَّهُ عنه، تفرَّد به أبو هلال واسمه محمد بن سليم الراسبي، ثقةٌ بصري". والَّذي يظهر أنَّ الطريق الأوَّل من مسند عمير هو الأصح، وفي سنده أبو بكر بن عمير فيه جهالة، قال الحافظ ابن حجر: "لا أعلمُ أحدًا وثَّقه". وقال الهيثمي: ". . وأبو بكر بن عمير لم أعرفه. . ". انظر: مجمع الزوائد (10/ 405). (2) انظر: صفة الجنَّة للمقدسي ص (182).

(1/276)


عن أنس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وعدني ربي عزَّ وجل أنْ يدخل من أمتي الجنَّة مئة ألفٍ، فقال أبو بكر رضي اللَّهُ عنه: يا رسول اللَّه زِدْنا، فقال: وهكذا -وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك- قال: يا رسول اللَّه زدنا، فقال عمر: إنَّ اللَّه عزَّ وجل قادرٌ أنْ يدخل النَّاس الجنَّة بحفنةٍ واحدةٍ، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صدق عمر". رواهُ عنه إبراهيم بن الهيثم البلوي، وفيه ضعفٌ. تفرَّد به أبو هلال الرَّاسبي: بصري واسمه محمد بن سُليم. وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ وعدني أنْ يدخل الجنَّة (1) من أمتي أربعَ مئةِ ألف". قال أبو بكر: زدْنا يا رسول اللَّه قال: وهكذا وجمع بين يديه، قال: زدنا يا رسول اللَّه قال: وهكذا وجمع كفيه (2) ، فقال عمرُ: حسبُك يا أبا بكر، فقال أبو بكر: دَعْني وما عليك أنْ يدخلنا اللَّه الجنَّة كلَّنا!! فقال عمر: إنَّ اللَّه (3) إنْ شاء أدخل خلقه الجنَّة بكفٍّ واحدةٍ، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صدق عمر". تفرَّد به عبد الرزاق. وقال أبو يعلى الموصلي في "مسنده": حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي حدثنا حميد عن أنس رضي اللَّه عنه __________ (1) ليس في "ب". (2) قوله "وجمع كفيه" من المصنف لعبد الرزاق. (3) قوله "إنَّ اللَّهَ" من المصنف لعبد الرزاق.

(1/277)


عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يدخل الجنَّة من أمتي سبعون ألفًا". قالوا: زدنا يا رسول اللَّه قال: لكلِّ رجلٍ سبعون ألفًا". قالوا: زدْنا يا رسول اللَّه وكان على كثيب فحثا بيده، قالوا: زدنا يا رسول اللَّه (1) فقال: هكذا وحثا بيده، قالوا: يا نبي اللَّهِ، أبعدَ اللَّه من دخل النَّار بعد هذا" (2) . قال محمد بن عبد الواحد: "لا أعلمه رُويَ عن أنس إلَّا بهذا الطريق، وسئل يحيى بن معين عن عبد القاهر فقال: صالح". وأصحاب هذه الحثيات هم الَّذين وقعوا في قبضته الأولى سبحانه يوم القبضتين (3) . فإنْ قيل: فكيف كانوا أوَّلًا قبضة واحدة، ثمَّ صاروا ثلاث حثيات __________ (1) من قوله "قال: لكل رجل. . . " إلى "اللَّه" من مسند أبي يعلى. (2) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 417) رقم (3783). وهذا الحديثُ منكر، تفرَّد به عبد القاهر بن السَّري السلمي وكان ضريرًا، قال فيه ابن معين: صالح، وقال أيضًا: لم يكن به بأس، وقال يعقوب بن سفيان: منكر الحديث. انظر: تهذيب الكمال (18/ 233 - 234). (3) لعلَّه يشيرُ إلى ما أخرجهُ أحمد في المسند (4/ 176 - 177) من طريق أبي نضرة أنَّ رجلًا من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقال له: أبو عبد اللَّهِ وذكر قصة احتضاره، وفيه "ولكنِّي سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: إنَّ اللَّهَ قبض بيمينه قبضة، وأُخرى باليد الأُخرى، وقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أُبالي". وسنده صحيح. قال الهيثمي: "ورجاله ثقات" مجمع الزوائد (7/ 185). قال العقيلي: "وقد روي في القبضتين أحاديث بأسانيد صالحة".

(1/278)


مع العدد المذكور؟ قيل: الرَّبُّ سبحانه وتعالى أخرج يوم القبضتين صورهم وأشباحهم، وقد روي أنَّهم كانوا كالذَّر (1) ، وأمَّا يوم الحَثَيات (2) ، فيكونون أتمَّ ما كانوا خِلْقةً، وأكمل أجسامًا، فناسبَ أنْ تتعدد الحثيات بكلتا اليدين، واللَّه أعلم. __________ (1) لعلَّه يشيرُ إلى حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "خلق اللَّهُ آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرية بيضاء، كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذريةً سوداء كأنَّهم الحُمَم، فقال للَّذي في يمينه إلى الجنَّة ولا أُبالي، وقال للَّذي في كفه اليسرى: إلى النَّار ولا أُبالي". أخرجه أحمد في المسند (6/ 441)، وعبد اللَّه في زوائده على المسند، والبزار في مسنده (10/ 78) رقم (4133)، وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (1059) وغيرهم. قال البزار: "وهذا الحديثُ لا نعلمه يروى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذا اللفظ إلَّا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وإسناده حسن". والحديث تفرَّد به أبو الربيع سليمان بن عتبة الدمشقي، وهو مختلف فيه. انظر: تهذيب الكمال (12/ 37 - 39). (2) في "أ، ب": "الحساب".

(1/279)


 الباب الرَّابع والثلاثون في ذكر تربة الجنَّة وطينها (1) وحصبائها وبنائها

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، وأبو كامل قالا: ثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو المُدِلَّة مولى أم المؤمنين سمع أبا هريرة رضي اللَّهُ عنه يقول: قلنا: يا رسول اللَّهِ، إذا رأيناك رقَّت قلوبنا، وكُنَّا من أهلِ الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا، وشَمَمْنا النِّساء والأولاد، قال: "لو تكونون على كلِّ حالٍ على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكُفِّهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء اللَّهُ بقومٍ يذنبون كي يغفر لهم". قال: قلنا: يا رسول اللَّهِ، حدثنا عن الجنَّة ما بناؤها؟ قال: لبنةُ ذهبٍ، ولبنةُ فضة، ومِلاطُها (2) المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يَبْؤس، ويخلدُ لا يموتُ، لا تبلى ثيابُه، ولا يفنى شبابه، ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتهم: الإمامُ العادلُ، والصائمُ حتى يفطر، ودعوة المظلوم؛ تُحملُ على الغمام، وتفتح لها أبواب السماواتِ، ويقول الرَّبُّ: وعِزَّتي (3) لأنصرنك ولو بعد حينٍ" (4). __________ (1) في "ب، هـ" "وطينتها". (2) الملاط: الطين يكون بين الَّلبنتين. يعني طينها مسك. قاله عبد الملك بن حبيب في وصف الفردوس ص (6). (3) ليس في "ب"، وجاء في "د، هـ" "وعزَّتي وجلالي". (4) أخرجه أحمد في المسند (2/ 304 - 305)، وعبد بن حميد في مسنده (المنتخب - رقم 1418)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7387)، =

(1/280)


وروى أبو بكر بن مردويه من حديث الحسن عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: سُئِل رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الجنَّة فقال: "من يدخل الجنَّة يحيا ولا يموتُ، وينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه" قيل: يا رسول اللَّه كيف بناؤها؟ قال: لبنةٌ من ذهبٍ ولبنةٌ من فضة، وملاطها مسكٌ أذفرٌ (1) ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران" (2) . هكذا جاء في هذه الأحاديث أنَّ ترابها الزعفران. __________ = وأبو نعيم في صفة الجنَّة (100، 136) وغيرهم. والحديث وقع فيه اختلاف، وهذا السند هو الصحيح. والحديث مدارهُ على أبي المُدِلَّة لم يوثقه إلَّا ابن حبان في الثقات (5/ 72)، ولم يرو عنه غير أبي مجاهد سعد الطائي، وقد قال فيه علي ابن المديني: "أبو مدلة مولى عائشة، لا يعرف اسمه، مجهول، لم يرو عنه غير أبي مجاهد الطائي". (1) في نسخةٍ على حاشية "أ" "المسك الأذفر". (2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 53) رقم (33944)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (12)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (96، 139) وغيرهم. من طريق عمر بن ربيعة عن الحسن عن ابن عمر فذكره. وعمر بن ربيعة اختلف فيه: فوثقه ابن معين، وقال فيه أبو حاتم الرَّازي: منكر الحديث، الجرح (6/ 109)، وضعفه الدارقطني، واستغرب الترمذي أحاديثه التي أخرجها عنه. ويظهر أنَّه كما قال أبو حاتم: منكر الحديث، وأيضًا في سماع الحسن من ابن عمر اختلاف. انظر: المرسل الخفي (2/ 750 - 759)، وجامع التحصيل للعلائي رقم (135).

(1/281)


وكذلك روى يزيد بن زريع (1) ، حدثنا سعيد عن قتادة عن العلاء بن زياد، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجنَّةُ لبنةٌ من ذهبٍ، ولبنةٌ من فضة، ترابها الزعفرانُ وطينها المسكُ" (2) . __________ (1) في "ج": "ربيع" وهو خطأ. (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (160)، وفي حلية الأولياء (2/ 249)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (283). - ورواه معمر عن قتادة عن العلاء عن أبي هريرة موقوفًا فذكره وفيه زيادة. أخرجه عبد الرزاق (11/ 416 - 417) رقم (20875)، وابن المبارك في الزهد -زيادات نعيم- رقم (252) وغيرهما. - ورواه عمران القطان عن قتادة عن العلاء عن أبي هريرة مرفوعًا. أخرجه أحمد في المسند (2/ 362) وأبو نعيم في الحلية (2/ 248) وغيرهما. - ورواه مطر الورَّاق عن العلاء بن زياد عن أبي هريرة مرفوعًا فذكره. أخرجه ابن طهمان في مشيخته رقم (34)، وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات رقم (732)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (138) وغيرهم. قلتُ: أمَّا رواية سعيد بن أبي عروبة، فقد شك فيها محمد بن المنهال، فقد قال: "-حفظي- قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". وليس في مطبوعة الحلية "عن أبي هريرة"، وابن المنهال كان حافظًا لحديث يزيد بن زريع، إلَّا أنَّه كان ضريرًا ولم يكن له كتاب، فلعل قوله ذلك دليلٌ على عدم ضبطه هذا الحديث بعينه، أو علم أنَّ غيره يخالفه فيه فقال: حفظي. . واللَّهُ أعلم. - وأمَّا رواية عمران فهو يخطئ على قتادة كثيرًا، وليس من حفاظ أصحابه. - ولعلَّ الصواب قول معمر موقوفًا، فقد سُئِل الدَّارقطني عن حديث قتادة، ومطر -وهو ضعيف الحفظ- فقال: "والموقوف أشبه" علل الدَّارقطني =

(1/282)


وفي "الصحيحين (1) من حديث الزهري عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: كان أبو ذرٍّ يحدث أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أُدْخِلْتُ الجنَّة فإذا فيها جنابذُ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسكُ" وهو قطعة من حديث المعراج. وروى مسلمٌ في "صحيحه" (2) من حديث حمَّاد بن سلمة عن الجُريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سأل ابن صائد (3) عن تربة الجنة، فقال: دَرمَكةٌ بيضاءُ، مسكٌ خالصٌ، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صدق". ثمَّ رواهُ عن أبي بكر بن أبي (4) شيبة عن أبي أُسامة عن الجُريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد (5) أنَّ ابن صياد (6) سأل النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن تربة الجنَّة فقال: "دَرمكَةٌ بيضاءُ مسكٌ خالصٌ" (7) . __________ = (11/ 139). (1) البخاري رقم (3164)، ومسلم رقم (163). (2) ليس هذا الطريق في صحيح مسلم، وإنَّما هو عند أحمد (3/ 4، 24، 25، 43) وغيره، من هذا الطريق. والَّذي في مسلم رقم (2928)، من طريق بشر بن المفضَّل عن أبي مسلمة عن أبي نضرة به. (3) في "ب، هـ" "صيَّاد". (4) سقط من "ب". (5) قوله "عن أبي سعيد" ليس في جميع النسخ. (6) في نسخةٍ على حاشية "أ" "صايد". (7) أخرجه مسلم برقم (2928).

(1/283)


وقال سفيان بن عيينة عن مُجَالد عن الشعبي عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنهما قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا محمد، قد غُلِبَ أصحابك اليوم، قال: وبأي شيءٍ غُلِبُوا؟ قال: سألهم اليهود: كم عدد خزنة النَّار فقالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُغْلَبُ قومٌ سُئِلوا عمَّا لا يعلمون؛ فقالوا: حتى نسأل نبينا؟! ولكن هم أعداءُ اللَّهِ سألوا نبيهم أنْ يريهم اللَّه جهرةً، عليَّ بأعداءِ اللَّهِ، فإنِّي سائلهم عن تربة الجنَّة وأنَّها دَرْمَكَةٌ". فلمَّا أنْ جاؤوهُ قالوا: يا أبا القاسم كم عِدَّة خزنة أهل النَّار؟ (1) فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيديه كلتيهما: هكذا وهكذا، وقبض واحدة، أي: تسعة عشر، فقال لهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما تربة الجنَّة؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: خبزة يا أبا القاسم، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الخبزة من الدرمك" (2) . __________ (1) في "د" "عدد خزنة النَّار"، وليس في "ب، ج" "أهل"، وفي "هـ" "عدد خزنة أهل النَّار". (2) أخرجه الترمذي برقم (3327)، وأحمد في مسنده (3/ 361) مختصرًا، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (159) وغيرهم. قال الترمذي: "هذا حديث غريب، إنَّما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد". - ورواهُ الزبير بن موسى عن أبيه عن جابر قال سُئِلَ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أرض الجنَّة؟ قال: "خبزة بيضاء". أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (152). وفيه الزبير بن موسى لم يوثقه إلَّا ابن حبان، وفيه والدُهُ: موسى بن ميناء، لم أقف عليه. انظر تهذيب الكمال (9/ 330 - 331).

(1/284)


فهذه ثلاث صفات في تربتها، لا تعارض بينها. فذهبت طائفة من السلف إلى أنَّ تربتها متضمنةٌ للنوعين: المِسْك والزعفران. قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن أبي عبيدة عن أبيه عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: قال مُغِيث بن سُمَي: "الجنَّة ترابها المسك والزعفران" (1) . ويحتمل معنيين آخرين: أحدهما: أنْ يكون التراب من زعفران، فإذا عجن بالماء صار مِسْكًا، والطين يسمَّى ترابًا، ويدل على هذا قوله في اللفظ الآخر: "ملاطها المسك" (2) ، والملاط: الطين، ويدل عليه أنَّ في حديث العلاء بن زياد: "ترابُها الزعفران، وطينها المسك" (3) ، فلمَّا كانت تربتها طيبة، وماؤها طيِّبًا، فانضمَّ أحدهما إلى الآخر حدثَ لهما طيب __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 62) رقم (34014) بأطول ممَّا ذكر المؤلف وفيه "جبالها المسك، وترابها الزعفران". وأبو الشيخ في العظمة رقم (576)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (162) واللفظ له. وسنده صحيح. ومغيث هو ابن سُمي الأوزاعي أبو أيوب الشامي، تابعيٌ ثقة، كان صاحب كتب كأبي الجَلْد ووهب بن منبه. انظر: تهذيب الكمال (28/ 348 - 350). (2) تقدم ص (281). (3) تقدم ص (282).

(1/285)


آخر فصارا مسكًا. المعنى الثاني: أنْ يكون زعفرانًا: باعتبار اللون. مسكًا: باعتبار الرَّائحة. وهذا من أحسن شيءٍ تكون البهجة والإشراق في لون الزعفران، والرائحة في رائحة المسك (1) ، وكذلك تشبيهها بالدرمك، وهو الخبز الصافي الَّذي يضرب لونه إلى صفرة مع لينها ونعومتها، وهذا معنى ما ذكره سفيان بن عيينة، عن ابن (2) أبي نجيح، عن مجاهد: "أرض الجنَّة من فضة، وترابها مسك" (3) ، فاللون في البياض لون الفضة، والرَّائحة رائحة المسك. وقد ذكر ابن أبي الدنيا من حديث أبي بكر بن أبي سَبْرة، عن عمر ابن عطاء بن وراز (4) ، عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أرض الجنَّة بيضاء، عرصتها صخورُ الكافور، وقد أحاط به المسكُ مثل كثبان الرمل، فيها أنهارٌ مطردَةٌ، فيجتمع فيها أهل الجنَّة أدناهم وآخرهم، فيتعارفون، فيبعث اللَّهُ ريح الرحمة، فتهيج عليهم ريح المسك، فيرجع الرجل إلى زوجته، وقد ازدادَ حسنًا __________ (1) من وقوله "وهذا من أحسن. . " إلى "رائحة" سقط من "ج". (2) سقط من "ج". (3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 53) رقم (33943) وفيه "من وَرِق. . "، وابن المبارك في الزهد -زوائد نعيم- رقم (229)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (161) واللفظ له، وهو أثر ثابت. تنبيه: وقع في نسخة على حاشية "أ": "المسك" بدل "مسك". (4) في "د، هـ" ونسخة على حاشية "أ" "ورازة" وهو خطأ.

(1/286)


وطيبًا، فتقول: لقد خرجتَ من عندي، وأنا بك معجبة، وأنا بك الآن أشدُّ إعجابًا" (1) . وقال ابن أبي شيبة: حدثنا معاوية بن هشام حدثنا علي بن صالح، عن عمر بن ربيعة عن الحسن عن ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما قال: قيل: يا رسول اللَّهِ كيف بناء الجنَّة؟ قال: لبنةٌ من فضة، ولبنةٌ من ذهب، ملاطها مسكٌ أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران" (2) . وقال أبو الشيخ: حدثنا الوليد بن أبان حدثنا أسيد بن عاصم حدثنا الحوضي حدثنا عدي بن الفضل حدثنا سعيد الجُريْري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ بنى جنَّات عدنٍ بيده، وبناها لبنة من ذهبٍ ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك الأذفر، وترابها الزعفران، وحصباءها اللؤلؤ، ثمَّ قال لها (3) : تكلمي، فقالت: قد أفلحَ المؤمنون، فقالت الملائكة: طُوبى لك منزل الملوك" (4) . وقال أبو الشيخ: حدثنا عمرو بن الحصين (5) حدثنا ابن علاثة حدثنا __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (28). وإسناده ضعيف جدًّا، فيه الواقدي: متروك، وابن أبي سبرة: متَّهمٌ بالوضع. (2) تقدم ص (281). (3) ليس في "أ". (4) تقدم ص (218). (5) في جميع النسخ "الحسين" وهو تصحيف قديم وقع في النسخة الخطية لصفة =

(1/287)


ابن جُريج عن عطاء عن عُبَيْد بن عُمَيْر عن أُبيِّ بن كعب قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قلت ليلة أُسريَ بي: يا جبريل إنَّهم سيسألوني عن الجنَّة قال: فأخبرهم أنَّها من (1) دُرَّةٍ بيضاء، وأنَّ أرضها عِقيان" (2) . والعِقْيَانُ: الذَّهبُ، فإنْ كان ابن علاثة حفظه، فهي أرض الجنتين الذهبيتين، ويكون جبريل أخبره بأعلى الجنتين وأفضلهما، واللَّهُ أعلم. __________ = الجنَّة لأبي نعيم. (1) ليس في "ب". (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (151). وهو حديثٌ موضوع، فيه عمرو بن حصين: متروك، واتهم بالوضع، وفيه ابن علاثة محمد بن عبد اللَّه العقيلي متروك الحديث، وقال الحاكم: "يروي أحاديث موضوعة"، ولعلَّ الحمل على الراوي عنه وهو عمرو بن حصين كما قال الخطيب. انظر: تهذيب الكمال (21/ 588 - 589) و (25/ 526 - 528).

(1/288)


 الباب الخامس والثلاثون في ذكر نورها وبياضها

قال أحمد بن منصور الرَّمادي: حدثنا كثير بن هشام حدثنا هشام (1) ابن زياد أبو المقدام عن حبيب بن الشهيد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "خلقَ اللَّهُ الجنَّة بيضاءَ، وأحبُّ الزِّيِّ إلى اللَّه البياض، فليلبسهُ أحياؤكم، وكفنوا فيه موتاكم، ثمَّ أمرَ برعاء الشاءِ فجمعتْ، فقال: من كان ذا غنمٍ سودٍ فليخلط بها بِيْضًا، فجاءته امرأة فقالت: يا رسول اللَّه، إنِّي اتخذت غنمًا سودًا فلا أَراها تنموا، قال: عفِّري" (2). وقوله: "عَفِّرِي" أي: بَيِّضِي. وذكر أبو نُعَيْم من حديث عبَّاد بن عبَّاد حدثنا هشام بن زياد عن __________ (1) قوله "ثنا هشام" سقط من "ب، د". (2) أخرجه البزار في مسنده (11/ 85 - 86) رقم (4795)، وابن عدي في الكامل (7/ 107)، والآجري في الشريعة رقم (928)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (129) كما سيأتي، هكذا رواه غير واحد عن هشام به. - ورواهُ يزيد بن هارون عن هشام عن عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء عن ابن عباس فذكره. أخرجه أبو جعفر البختري في أماليه رقم (64). وهو حديثٌ ضعيف جدًّا، مداره على هشام بن زياد أبي المقدام وهو متفق على ضعفه، بل قال النسائي وغيره: متروك الحديث. وقال ابن عدي: "وأحاديثه يشبه بعضها بعضًا، والضَّعف بيِّن على رواياته". انظر: تهذيب الكمال (30/ 201 - 203).

(1/289)


يحيى بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما يرفعه: "إنَّ اللَّهَ خلق الجنَّة بيضاء، وإنَّ أحبَّ الَّلون إلى اللَّهِ البياض، فليلبسه أحياؤكم، وكفِّنُوا فيهِ موتاكم". وذكر من طريق عبد الحميد بن صالح حدثنا أبو شهاب عن حمزة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم بالبياض، فإنَّ اللَّهَ خلق الجنَّة بيضاءَ، فليلبسه أحياؤكم، وكفنوا فيه موتاكم" (1) . ورُوِّينا من طريق النِّجاد حدثنا عبد اللَّه بن محمد حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عبد ربه الحنفي عن خالِهِ الزميل بن سماك سمع أباه يحدث أنَّه لقي عبد اللَّه بن عباس بالمدينة بعدما كُفَّ بَصَرُه فقال: يا ابن عباس ما أرض الجنَّة؟ قال: مَرْمرة بيضاء من فضة كأنَّها مرآة، قلتُ: ما نورها؟ قال: ما رأيت الساعة التي تكون فيها قبل طلوع الشمس، فذلك نورها إلَّا أنَّه ليس فيها شمسٌ ولا زمهرير"، وذكر الحديث (2) __________ (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (130)، وابن عدي في الكامل (2/ 377 - 378). والحديث فيه حمزة بن أبي حمزة، قال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن عدي: يضع الحديث. وقال أيضًا: "ولحمزة أحاديث صالحة، وكل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة، والبلاء منه. . . ". (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (147) مطوَّلًا، وأبو الشيخ في العظمة رقم (599) مطوَّلًا، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (211 و 317). في سنده عبد ربه بن بارق في حفظه لين، وزميل بن سماك فيه جهالة. انظر: تهذيب الكمال (16/ 472 - 474)، والجرح (3/ 620). والأثر قال عنه المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 518): "رواهُ ابن أبي =

(1/290)


وسيأتي إنْ شاء اللَّه (1) . وفي حديث لقيط بن عامر الطويل الَّذي رواه عبد اللَّه بن أحمد في "مسند أبيه" عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر الحديث وقال: "وتحبس الشمس والقمر فلا يرون منهما واحدًا، قال: قلتُ يا رسول اللَّهِ فبِمَ نبصرُ؟ قال: بمثل بصرك في ساعتك (2) هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرضِ، وواجهته الجبال" (3) . وفي "سنن ابن ماجه" من حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى حدثني كريب أنَّه سمع أسامة بن زيد يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألَا هل مُشمِّر للجنَّة، فإنَّ الجنَّة (4) لا خطر لها، هي وربِّ الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مطردٌ، وثمرةٌ نضيجةٌ، وزوجةٌ حسناءُ جميلة، وحُلَلٌ كثيرةٌ، ومقامٌ في أبدٍ في دارٍ سليمةٍ، وفاكهةٍ وخضرةٍ، وحَبرة ونعمةٍ، في محلَّةٍ عالية بهيةٍ" قالوا: نعم يا رسول اللَّه، نحن المشمرون لها، قال: "قولوا: إنْ شاء اللَّهِ"، قال القوم: إنْ شاء اللَّهُ" (5) . __________ = الدنيا موقوفًا بإسنادٍ حسن". (1) انظر: (ص/ 434). (2) في "أ، ج، هـ" "عينك" والمثبت من المسند وباقي النسخ. (3) تقدم الكلام عليه ص (126 - 127). (4) قوله "فإنَّ الجنَّة" ليس في "ج". (5) أخرجه ابن ماجه رقم (4332)، والبخاري في تاريخه الكبير (4/ 336) مختصرًا، وابن أبي داود في البعث رقم (71)، والبزار في مسنده =

(1/291)


 الباب السادس والثلاثون في ذكر غرفها وقصورها ومقاصيرها وخيامها

قال اللَّه تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20]. فأخبر تعالى أنَّها غرفٌ فوق غرف، وأنَّها مبنية بناء حقيقة، لئلا تتوهم النفوس أنَّ ذلك تمثيل، وأنَّه ليس هناك بناء، بل تتصور النفوس غرفًا مبنية كالعلالي بعضها فوق بعض، حتى كأنَّها تنظر إليها عيانًا، و"مَبْنيَّة": صفةٌ للغرف الأولى والثانية، أي لهم منازل مرتفعة، وفوقها منازل أرفع منها. وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]. والغرفة جنْس كالجنَّة، وتأمَّل كيف جعل جزاءهم على هذه الأفعال المتضمنة للخضوع، والذلِّ والاستكانة للَّه = الغرفة؛ __________ = (6/ رقم 2591)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7381) وغيرهم. وقد أسقط الوليد بن مسلم في بعض الروايات "الضحاك" كما عند أبي نعيم في صفة الجنَّة رقم (24, 25) وغيره. والحديث مداره على الضحاك هذا وفيه جهالة. قال البوصيري: "هذا إسناد فيه مقال، الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي في طبقات التهذيب: مجهول، وسليمان بن موسى الأموي مختلفٌ فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات". انظر: مصباح الزجاجة (3/ 325).

(1/292)


والتحية والسلام في مقابلة صبرهم على سوء خطاب الجاهلين لهم، فبُدِّلُوا بذلك سلام اللَّه وملائكته عليهم. وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]، وقال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف: 12]، وقال تعالى عن امرأة فرعون إنَّها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]. وروى الترمذي في "جامعه" من حديث عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ في الجنَّة لغُرَفًا يُرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: يا رسول اللَّه لمن هي؟ قال: لمن طيَّبَ الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلَّى بالَّليل والنَّاس نيام" (1) . قال الترمذي: "هذا حديثٌ غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (1984 و 2526)، وأحمد في المسند (1/ 156)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (2136)، وأبو يعلي في مسنده رقم (428 و 438)، والبزار في مسنده رقم (702)، وابن عدي في الكامل (4/ 305). والحديث مدارهُ على عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف. وله منكرات وهذا الحديث منها. قال الترمذي: "غريب. . ". وقال ابن خزيمة: "إنْ صحَّ الخبر؛ فإن في القلب من عبد الرحمن بن إسحاق أبي شيبة الكوفي. . . ". والحديث ذكره ابن عدي في منكراته.

(1/293)


عبد الرحمن بن إسحاق". وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا هشام بن عمَّار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام حدثني أبو سلام حدثني أبو معانق الأشعري حدثني أبو مالك الأشعري رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنَّة غُرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها اللَّهُ لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلَّى بالليل والنَّاس نيام" (1) . وقال ابن وهب: حدثني حُيَيٌّ عن أبي عبد الرحمن عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنَّة غُرفًا يُرى __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير (3/ 342) رقم (3467)، وفي مسند الشاميين (4/ 115) رقم (2873). - ورواه معمر عن يحيى بن أبي كثير عن ابن معانق أو أبي معانق عن أبي مالك فذكره وفيه "وألان الكلام، وتابع الصيام". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ رقم 20883) ومن طريقه: أحمد (5/ 343)، وابن خزيمة (3/ رقم 2137)، وابن حبان في صحيحه رقم (509)، والطبراني في الكبير (3/ 342) رقم (3466) وغيرهم. والحديث مدارهُ على أبي معانق الأشعري واسمه عبد اللَّه بن معانق الشامي. قال ابن خزيمة: "ولستُ أعرف ابن معانق ولا أبا معانق. . " وقال الدَّارقطني: ". . . لا شيء مجهول". ووثقه العجلي وابن خلفون وابن حبان (5/ 36)، وذكره ابن حبان أيضًا في أتباع التابعين (7/ 52) وقال: ". . وهو الَّذي يروي عن أبي مالك الأشعري، وما أراهُ شافهه". انظر: تهذيب الكمال (16/ 160 - 161). والحديث يظهر أنَّ أصلَهُ ثابت لما سيأتي.

(1/294)


ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول اللَّه؟ قال: "لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا والنَّاس نيام" (1) . قال محمد بن عبد الواحد: "وهذا عندي إسناد حسن، وذكر أبي مالك فيه ممَّا يدل على صحته؛ لأنَّ أبا مالك قد رواهُ، وإسناده أيضًا حسن" (2) . وقد تقدَّم حديث أبي سعيد المتفق على صحته: "إنَّ أهل الجنَّة __________ (1) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 466) رقم (1200)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (277). - ورواهُ ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد اللَّه به لكن فيه "فقال أبو موسى الأشعري. . لمن ألان الكلام. . . " وقوله: "أبو موسى" خطأ. أخرجه أحمد في المسند (2/ 173). والحديث مداره على حُيَيِّ بن عبد اللَّه المعافري المصري، صدوق في حفظه لين. انظر: تهذيب الكمال (7/ 488 - 490). والحديث قال عنه الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". وقال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني في الكبير واللفظ له، وإسناده حسن". وكذلك حسَّن إسناده المنذري. انظر: الترغيب والترهيب له (1/ 424)، ومجمع الزوائد (1/ 254). (2) انظر: صفة الجنَّة له (85).

(1/295)


ليتراءون أهل الغرفِ فوقهم كما تراءون الكوكب الغابرَ من الأفق" (1) . وفي "الصحيحين" (2) من حديث أبي موسى الأشعري عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ للمؤمن في الجنَّة لخيمة من لؤلؤة واحدةٍ مجوفةٍ، طولها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضًا". وقد تقدَّم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "من بنى للَّه مسجدًا بنى اللَّهُ له بيتًا في الجنَّة" (3) . وقوله في حديث أبو موسى: يقول عزَّ وجلَّ لمن حمده واسترجع عند موت ولده: "ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّة وَسَمُّوه بيت الحمد" (4) . وفي "الصحيحين" (5) من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى وأبي هريرة وعائشة رضي اللَّهُ عنهم أنَّ جبريل قال للنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذه خديجة أقرئها __________ (1) تقدم في الباب (17) ص (153 - 154). (2) البخاري رقم (4598)، ومسلم رقم (2838). (3) تقدم في الباب (7) ص (92). (4) تقدم في الباب (7) ص (93). (5) البخاري رقم (3608)، ومسلم رقم (2433) من حديث ابن أبي أوفى رضي اللَّهُ عنه. * والبخاري رقم (3605)، ومسلم رقم (2435) من حديث عائشة رضي اللَّهُ عنها. * والبخاري رقم (3609)، ومسلم رقم (2432) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

(1/296)


السلام من ربِّها، وأمره أنْ يُبشِّرها ببيتٍ في الجنَّة، من قصب، لا صخبَ فيه ولا نصب". والقَصَبُ ها هنا: قَصَبُ اللؤلؤ المجوف. وقد روى ابن أبي الدنيا من حديث يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عكرمة عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنَّة لقصرًا من لؤلؤ ليس فيه صدعٌ ولا وهن، أعدَّه اللَّهُ عزَّ وجلَّ لخليله إبراهيم" (1) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (174)، والطبراني في الأوسط برقم (6543 و 8114)، والبزار كما في كشف الأستار (3/ 102 - 103) رقم (2346 و 2347)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (6/ 247). قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن سماك إلَّا حماد بن سلمة، ولا رواهُ عن حماد إلَّا النضر بن شميل ويزيد بن هارون". وقال البزار: "لا نعلمُ أسنده إلَّا يزيد بن هارون والنضر، ويرويه غيرهما موقوفًا". قلتُ: ولعلَّ هذا الاختلاف في رفعه ووقفه إمَّا من حمَّاد بن سلمة أو من سماك بن حرب من أجل روايته عن عكرمة وهو أشبه، فقد قال يعقوب الفسوي وغيره -والَّلفظ ليعقوب-: "وروايته عن عكرمة خاصَّة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين. . . " انظر: تهذيب الكمال (12/ 120). - ورواهُ أبو سلمة التبوذكي وسليمان بن حرب وحجاج بن منهال وسريج ابن النعمان عن حماد عن سماك عن عكرمة عن أبي هريرة موقوفًا. أخرجه ابن أبي حاتم في العلل (2/ 217)، وذكره الدارقطني في العلل (11/ 126). =

(1/297)


وفي "الصحيحين" (1) من حديث حميد عن أنس رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "دخلتُ الجنَّة فإذا أنا بقصرٍ من ذهب، فقلتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لشاب من قريش، فظننتُ أنِّي أنا هو، فقلتُ: ومن هو؟ قالوا: لعمر بن الخطاب". وهو فيهما من حديث جابر ولفظه: "فأتيت على قصرٍ مُرَبَّع مشرفٍ __________ = - ورواهُ عمر -لعله ابن عبيد الطنافسي- عن عكرمة به موقوفًا. قال أبو حاتم الرَّازي والدارقطني: "والموقوف أصح". (1) لم أقف عليه في الصحيحين من هذا الوجه. وإنَّما أخرجه الترمذي برقم (3688)، وأحمد في المسند (3/ 107 و 179 و 263 و 191)، وابن أبي شيبة برقم (31982)، وأبو يعلى في مسنده (6/ رقم 3860)، والآجري في الشريعة رقم (1377 - 1380) وغيرهم. من طرق عن ابن أبي عدي ويحيى القطان وبكر بن عبد اللَّه السهمي وأبي خالد الأحمر وإسماعيل بن جعفر المدني وحماد بن سلمة وغيرهم كلهم عن حميد به مثله. - وخالفهم عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون. فرواهُ عن حميد به وزاد فيه "أبيض" كما سيأتي قريبًا عند المؤلف. أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (175). - ورواهُ قتادة وأبو عمران الجوني عن أنس مرفوعًا فذكره بمثله ولم يذكر "أبيض". أخرجه أحمد (3/ 191)، وابن حبان رقم (54) وغيرهما. فالزيادة شاذة، والوهم إمَّا من ابن الماجشون أو الرَّاوي عنه: شجاع بن الأشرس. ولهذا قال المؤلف -كما سيأتي-: "وهذا إنْ كان محفوظًا فبياضه: نوره وإشراقه وضياؤه واللَّه أعلم".

(1/298)


من ذهبٍ" وقد تقدَّم (1) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا شجاع بن الأشرس قال: سمعت عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن حميد عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "دخلتُ الجنَّة فإذا فيها قصرٌ أبيض قال: قلتُ لجبريل: لمن هذا القصر؟ قال: لرجلٍ من قريش، فرجوت أنْ أكون أنا، فقلتُ: لأيِّ قريش؟ قال: لعمر بن الخطاب". وهذا إنْ كان محفوظًا فبياضه: نوره وإشراقه وضياؤه، واللَّهُ أعلم. وقال الحسن: "قصر من ذهب لا يدخله إلَّا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. يرفع بها صوته" (2) . وقال الأعمش: حدثنا مالك بن الحارث عن مُغِيث بن سُمَيٍّ قال: "إنَّ في الجنَّة قصورًا من ذهبٍ، وقصورًا من فضة، وقصورًا من لؤلؤ، وقصورًا من ياقوت، وقصورًا من زبرجد" (3) . وقال الأعمش: عن مجاهد عن عُبَيد بن عُمير قال (4) : "إنَّ أدنى __________ (1) في الباب الأوَّل ص (43)، وراجع (ص/ 235). (2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه "التفسير" (5/ 434) رقم (1168) وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (180)، والطبري في تفسيره (10/ 181). وسنده صحيح. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (180). وسنده صحيح ومغيث بن سمي هو أبو أيوب الأوزاعي تابعي ثقة، كان صاحب كتب كأبي الجلد ووهب بن منبه. (4) كذا في جميع النسخ وجاء في مصادر التخريج زيادة "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-".

(1/299)


أهل الجنَّة منزلةً من له دار من لؤلؤة واحدةٍ، منها غرفها وأبوابها" (1) . وروى البيهقي من حديث حفص بن عمر حدثنا عمرو الملائي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ في الجنَّة لغرفًا، فإذا كان ساكنها فيها لم يَخْفَ عليه ما خلفها، وإذا كان خلفها لم يخف عليه ما فيها"، قيل: لمن هي يا رسول اللَّه؟ قال: "لمن أطاب الكلام، وواصل الصيام، وأطعمَ الطعام، وأفشى السلام، وصلَّى والنَّاس نيام"، قيل: وما طيب الكلام؟ قال: "سبحان اللَّهُ والحمدُ للَّه، ولا إله إلَّا اللَّه، واللَّهُ أكبر (2) ، فإنَّها تأتي يوم القيامة ولها مقدماتٌ ومجنباتٌ ومعقباتٌ"، قيل: وما وصال الصيام؟ قال: "من صام شهر رمضان، ثمَّ أدرك شهر رمضان فصامه"، قيل: وما إطعام الطعام؟ قال: "من قات عياله وأطعمهم" (3) ، قيل: فما إفشاء السلام؟ قال: "مصافحة أخيك وتحيته"، قيل: وما الصلاة والنَّاس نيام؟ قال: "صلاة العشاء الآخرة" (4) . __________ (1) أخرجه هناد بن السري في الزهد رقم (126)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 58) رقم (33986)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 274). ورجاله ثقات، لكنَّه مرسل كما في مصادر التخريج. (2) عند البيهقي إضافة: "ولا أكبر إلَّا اللَّه". (3) في "أ، ب، ج" "وأطعمه". (4) أخرجه البيهقي في البعث النشور رقم (280)، وابن عدي في الكامل (2/ 388)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (4/ 401)، وابن حبان في المجروحين (1/ 259 - 260). قال ابن عدي: "وهذه الأحاديث بهذا الإسناد مناكير لا يرويها إلَّا حفص بن =

(1/300)


قال: "حفص بن عمر هذا مجهول، لم يروهِ عنه غير علي بن حرب فيما أعلم". قلتُ: هذا يلقب بالكَفْر -بفتح الكاف وسكون الفاء- وقد روى عنه محمد بن غالب: تمتام وعلي بن حرب وهما ثقتان؛ ولكن ضعفه ابن عدي وابن حبان وحديثه هذا له شواهد، واللَّهُ أعلم. وفي "فوائد ابن السماك": حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور حدثنا أبي حدثنا عبد الرحمن بن عبد المؤمن قال: سمعت محمد بن واسع يذكر عن الحسن عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنهما قال: قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألَا أحدثكم بغرف الجنَّة؟ قال: قلنا بلى يا رسول اللَّه بأبينا أنت وأمِّنا، قال: "إنَّ في الجنَّة غرفًا من أصناف الجوهر كله، يُرَى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فيها من النعيم والَّلذات ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت"، قال: قلنا: يا رسول اللَّه، لمن هذه الغرف؟ قال: "لمن أفشى السلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلَّى بالَّليل والنَّاس نيام"، قال: قلنا: يا رسول اللَّهِ، ومن يطيق ذلك؟ قال: أمتي تطيق ذلك، وسأخبركم عن ذلك: من لقي أخاه فسلَّم عليه، أو ردَّ عليه فقد أفشى السلام، ومن أطعم أهله وعياله من __________ = عمر بن حكيم هذا، وهو مجهول، ولا أعلمُ أحدًا روى عنه غير علي بن حرب. . . ". وقال ابن حبان: "يروي عن عمرو بن قيس الملائي المناكير الكثيرة. . .، ولا يجوز الاحتجاج بخبره. . . ". فالحديث باطل بهذا الإسناد.

(1/301)


الطعام حتى يشبعهم، فقد أطعم الطعام، ومن صام رمضان، ومن كل شهر ثلاثة أيام، فقد أدامَ (1) الصيامَ، ومن صلَّى صلاة العشاء الآخرة في جماعة، فقد صلَّى الليل والنَّاس نيامٌ: اليهود والنَّصارى والمجوس" (2) . وهذا الإسناد وإنْ كان لا يُحْتَجُّ به وحده، فإذا انضمَّ إليه ما تقدَّم استفاد قُوَّة مع أنَّه قد رُوِيَ بإسنادين آخرين. __________ (1) في "ب": "أدَّى". (2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور برقم (279)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 356). والحديث مداره على عبد الرحمن بن عبد المؤمن الأزدي ولم أقف عليه. قال البيهقي: "وهذا الإسناد غير قوي، إلَّا أنَّه مع الإسنادين الأوَّلين يقوَّي بعضه بعضًا".

(1/302)


 الباب السابع والثلاثون في ذكر معرفتهم بمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنَّة وإنْ لم يروها قبل ذلك

قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} [محمد: 4 - 6] قال مجاهد: "يَهْتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، لا يخطئون، كأنَّهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدًا" (1). وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: "لهُمْ أَعْرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم" (2). وقال محمد بن كعب: "يعرفونها كما تعرفون بيوتكم في الدنيا، إذا انصرفتم من يوم الجمعة" (3). __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (26/ 44) وسنده حسن. (2) أخرجه عبد الملك بن حبيب السلمي في وصف الفردوس رقم (241) ص (88 - 89). من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وسنده ضعيف جدًّا. وأخرجه أيضًا برقم (131) من طريق مجاهد لكن وقع في السند تحريف أو سقط لم أتبينه. (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 146) رقم (289). وفيه أحمد بن أبان الأصبهاني روى عنه راويان، وترجم له أبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 98)، ولم يورد فيه جرحًا ولا تعديلًا. فالإسناد لا بأس به.

(1/303)


هذا قول جمهور المفسرين. وتلخيص أقوالهم ما قاله أبو عبيدة: {عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) } [محمد: 6] أي: بيَّنها لهم، حتى عرفوها من غير استدلال (1) . وقال مُقَاتل بن حيَّان: "بلغنا أنَّ الملك الموكل بحفظ عمل بني آدم يمشي في الجنَّة، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له، فيعرفه كل شيءٍ أعطاهُ اللَّهُ في الجنَّة، فإذا دخلَ إلى منزله وأزواجه انصرف الملك عنه" (2) . وقال سلمة بن كُهَيْل: "طَرَّقها لهم" (3) . ومعنى هذا: أنَّه طرقها لهم حتَّى يهتدوا إليها. وقال الحسن: "وصف اللَّه الجنَّة في الدنيا لهم، فإذا دخلوها عرفوها بصفتها" (4) . وعلى هذا القول، فالتعريف وقع في الدنيا، ويكون المعنى: يدخلهم الجنَّة التي عرَّفها لهم، وعلى القول الأوَّل: يكون التعريف __________ (1) انظر: مجاز القرآن (2/ 214) وفيه (بَيَّنها، وعرَّفهم منازلهم)، زاد المسير لابن الجوزي (7/ 398)، وتفسير القرطبي (16/ 231). (2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدرر (6/ 23). وقال القرطبي في تفسيره (16/ 231): "وحديث أبي سعيد الخدري يردُّه". قلتُ: حديث أبي سعيد سيورده ابن القيم قريبًا وهو نصٌّ في ذلك. (3) أخرجه الحربي في "غريب الحديث" (1/ 189): بلفظ: "يُعَرَّفون طُرُقها". وسنده حسن. (4) ذكره الماوردي في تفسيره (5/ 294 - 295) بنحوه.

(1/304)


واقعًا في الآخرة، هذا كلُّه إذا قيل: إنَّه من التعريف. وفيها قولٌ آخر: إنَّها من العَرْفِ، وهو الرَّائحة الطيبة، وهذا اختيار الزجاج، أي: طيَّبها، ومنه طعام مُعرَّف أي مطيَّب (1) . وقيل: هو من العُرف، وهو التَّتابع: أي تابع لهم طيباتها وملاذَّها. والقول هو الأوَّل، وأنَّه سبحانه أعلمها وبيَّنها بما يعلم به كل أحد منزله وداره، فلا يتعدَّاهُ إلى غيره. وفي "صحيح البخاري" (2) من حديث قتادة عن أبي المتوكل النَّاجي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنه أنَّ نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: إذا خلص المؤمنون من النَّارِ حُبِسوا بقنطرةٍ بين الجنَّة والنَّار، يتقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذَّبوا ونقُّوا أُذِنَ لهم بدخول الجنَّة، والَّذي نفسي بيده إنَّ أحدهم بمنزله في الجنَّة أدلُّ منه بمسكنه كان في الدنيا". وفي "مسند إسحاق" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والَّذي بعثني بالحقِّ، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنَّة بأزواجهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنَّة" (3) . __________ (1) انظر: زاد المسير لابن الجوزي (7/ 398)، وتفسير السمرقندي "بحر العلوم" (3/ 241). (2) أخرجه البخاري رقم (2308) وعنده ". . فوالَّذي نفس محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بيده لأحدهم بمسكنه في الجنَّة أدلَّ بمنزله كان في الدنيا". (3) هو قطعة من حديث الصور الطويل، وقد تقدم في الباب (31) ص (261).

(1/305)


 الباب الثامن والثلاثون في كيفية دخولهم الجنَّة وما يُسْتقبلون (1) عند دخولها

وقد تقدَّم قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73] وقال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]. قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن عباد بن موسى العُكلي حدثنا يحيى بن سُلَيم الطائفي حدثنا إسماعيل بن عبد اللَّه المكي حدثني أبو عبد اللَّه أنَّه سمع الضحاك بن مزاحم يحدث عن الحارث عن علي رضي اللَّهُ عنه أنَّه سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن هذا الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85]، قال: قلتُ يا رسول اللَّه، ما الوفد إلَّا ركبٌ؟ قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والَّذي نفسي بيده إنَّهم إذا خرجوا من قبورهم استُقبلوا بنوقٍ بيضٍ، لها أجنحة عليها رحال الذهب، شرك نعالهم نورٌ يتلألأ، كلُّ خطوةٍ منها مثلُ مدِّ البصر، وينتهون إلى باب الجنَّة، فإذا حلقة من ياقوتةٍ حمراء على صفائح الذَّهبِ، وإذا شجرةٌ على باب الجنَّة ينبع من أصلها عينان، فإذا شربوا من إحداهما جرتْ في وجوههم نضرة النَّعيم، وإذا توضؤوا من الأُخرى لم تشعث أشعارهم أبدًا، فيضربون الحلقة بالصَّفيحة، فلو سمعت طنين الحلقة، فيبل كل حوْرَاء، أنَّ زوجها قد أقبل، فتستخفها العَجَلة، فتبعثُ قيِّمها فيفتح له الباب، فلولا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجل عرَّفه نفسه لخرَّ له ساجدًا ممَّا يرى من النور والبهاء، فيقول: أنا قيَّمُك الَّذي وُكِّلْتُ بأمرِك، فيتبعه __________ (1) في "د": "يستقبلون به".

(1/306)


فيقفوا أثره، فيأتي زوجته، فتستخفها العجلة، فتخرج من الخيمة (1) فتعانقه، وتقول: أنت حِبِّي وأنا حِبُّكَ، وأنا الرَّاضية فلا أسخط أبدًا، وأنا النَّاعمة فلا أبأس أبدًا، والخالدة فلا أظعن أبدًا، فيدخل بيتًا من أساسه إلى سقفه مئة ألف ذراعٍ مبنيٌّ على جَنْدل اللؤلؤ والياقوت، طرائقَ حمرٍ، وطرائق خُضر، وطرائقَ صفرٍ، ما منها طريقةٌ تُشاكل صاحبتها، فيأتي الأريكة، فإذا عليها سريرٌ، على السَّرير سبعونَ فراشًا، عليها سبعون زوجةً، على كلِّ زوجةٍ سبعون حُلَّةً يُرى مُخُّ ساقها من باطن الجلْد، يقضي جمَاعهنَّ في مقدار ليلة، تجري من تحتهم أنهارٌ مُطَّردةٌ: أنهار من مَاءٍ غير آسن صافي ليس فيه كدرٌ، وأنَّهارٌ من عسلٍ مصفَّى، لم يخرج من بطون النحل، وأنهارٌ من خمرٍ لذَّةٍ للشَّاربين، لم تعصره الرجال بأقدامها، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمهُ، لم يخرج من بطون الماشية، فإذا اشتهوا الطعامَ، جاءتهم طيرٌ بيض، فترفع أجنحتها، فيأكلون من جنوبها من أي الألوان شاؤوا، ثمَّ تطير فتذهبُ، فيها ثمار مُتدليَّة، إذا اشتهوا انبعث الغُصنُ إليهم، فيأكلون من أيِّ الثمار شاؤوا، إنْ شاء قائمًا، وإنْ شاء متكئًا، وذلك قوله عزَّ وجل: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) } [الرحمن: 54]، وبين أيديهم خدمٌ كاللؤلؤ" (2) . __________ (1) في "أ، ج، د، هـ": "الجنَّة". (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (7). والعقيلي في الضعفاء (1/ 86) من طريق عبيد اللَّه بن سلمان عن الضحاك به، وذكر حديثًا طويلًا. - ورواهُ أبو إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي موقوفًا، وهو أصح. =

(1/307)


هذا حديثٌ غريب، وفي إسناده ضعف، وفي رفعه نظر، والمعروف أنَّه موقوف على عليٍّ. قال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عمرو بن سليمان حدثنا محمد ابن فضيل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد (1) في هذه الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) } قال: "أما واللَّهِ ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن يؤتون بنوقٍ لم ترَ الخلائق مثلها، عليها رِحالُ الذهب، وأزِمَّتُها الزبرجد، فيركبون عليها يضربوا باب الجنَّة" (2) . __________ = أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 132) رقم (281). وذكر العقيلي أنَّ الحديث غير محفوظ، والأمر كما قال المؤلف: "حديث غريب، في إسناده ضعف، وفي رفعه نظر. . . ". (1) كذا في جميع النسخ، وفي مصادر التخريج زيادة "عن علي". (2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 126) عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن ابن فضيل عن عبد الرحمن عن النعمان بن سعد عن علي فذكره بمثله. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 61) رقم (34003)، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند (1/ 155)، والحاكم (2/ 409) رقم (3425) وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 134 - 135) رقم (281) وغيرهم. من طريق علي بن مسهر وأبي معاوية ويعلى بن عبيد كلهم عن عبد الرحمن بن إسحاق به موقوفًا على علي. والحديث مدارهُ على عبد الرحمن بن إسحاق وهو ضعيف، وله منكرات كما تقدم ص (174). والحديث صححه الحاكم، فتعقبه الذهبي فقال: "بل عبد الرحمن هذا لم يرو له مسلم ولا لخاله النعمان، وضعفوه".

(1/308)


وقال علي بن الجعد في "الجعديات": أخبرنا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي اللَّهُ عنه قال: يُساق الَّذين اتقوا ربهم إلى الجنَّة زُمَرًا حتَّى ينتهوا إلى بابٍ من أبوابها، وجدوا عنده شجرةً يخرج من تحت ساقها عينان تجريان، فعدوا إلى إحداهما كأنَّما أُمِرُوا بها، فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم من أذًى أو قذىً أو بأس، ثمَّ عمدوا إلى الأُخرى فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن تغيَّر أبشارهم أو تغير بعدها أبدًا، ولن تشعث أشعارهم كأنَّما دُهِنُوا بالدِّهان، ثمَّ انتهوا إلى خزنة الجنَّة فقالوا: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) } [الزمر: 73] قال: ثمَّ تتلقَّاهم الولدان يطيفون (1) بهم، كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم من غيبته، فيقولون: أبشرْ بما أعدَّ اللَّهُ (2) لك من الكرامة -كذا قال- ثمَّ ينطلقُ غلامٌ من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين، فيقول: قد جاء فلانٌ باسمه الَّذي يُدعى به في الدنيا، فتقول: أنتَ رأيته؟ فيقول: أنا رأيته، وهو ذا بأثري، فيستخف إحداهنَّ الفرحُ، حتى تقوم على أسكُفَّةِ بابها، فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه، فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرحٌ أخضرُ وأصفرُ وأحمرُ، ومن كلِّ لونٍ، ثمَّ رفع رأسه، فنظر إلى سقه، فإذا مثل البرقِ، فلولا أنَّ اللَّهَ قدَّره له لألمَّ أنْ يذهب ببصره، ثمَّ طأطأ رأسه فنظرَ إلى أزواجه وأكوابٍ موضوعةٍ، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فنظروا إلى تلك النعمة، __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ": "يطوفون". (2) من "ب، ج، د، هـ".

(1/309)


ثمَّ اتكئوا وقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا} [الأعراف: 43] ثمَّ ينادي منادٍ: تَحْيونَ فلا تموتون أبدًا، وتقيمون فلا تظعنون أبدًا (1) ، وتصحون فلا تمرضون أبدًا" (2) . وقال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: "ذُكِرَ لنا أنَّ الرَّجل إذا دخل الجنَّة صُوِّر صورة أهل الجنَّة، وأُلبسَ لباسهم، وحلِّيَ حليتهم، وأُري أزواجه وخدمه، ويأخذه سَوَارّ فرعٍ لو كان ينبغي أنْ يموت لمات من سوار فرحه، فيقالُ له: أرأيتَ فرحتك هذه، فإنَّها قائمة لك أبدًا" (3) . __________ (1) من "ج". (2) أخرجه علي بن الجعد في الجعديات (2/ 926 - 927)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 143 - 144) رقم (2646 و 2647)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 59) رقم (33993)، وعبد الملك بن حبيب في وصف الفردوس رقم (128) مختصرًا، والمروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك (1450) وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (8) وغيرهم. قال الحافظ ابن حجر: "هذا حديث صحيح، وحكمه حكم الرفع، إذ لا مجال للرَّأي في مثل هذه الأمور". وقال البوصيري: "رواه إسحاق بن راهوية بسند صحيح، وحكمه حكم المرفوع، إذ ليس للرَّأي فيه مجال". انظر: المطالب العالية رقم (4601)، وإتحاف الخيرة المهرة رقم (7851). (3) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (429)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (24) وغيرها. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 70 - 71) رقم (34103)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (285) من طرق عن سليمان بن المغيرة به =

(1/310)


قال ابن المبارك: وأخبرنا رشدين بن سعد: أنبأنا زهرة بن معبد القرشي، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: "إن العبد أوَّل ما يدخل الجنة يتلقاه سبعون ألف خادم، كأنَّهم اللؤلؤ" (1) . قال ابن المبارك: وأنبأنا يحيى بن أيوب، حدثني عبيد اللَّه بن زحر (2) ، عن محمد بن أبي أيوب المخزومي، عن أبي عبد الرحمن المعافري قال: "إنه لَيُصَفُّ للرجل من أهل الجنة سِمَاطان، لا يرى طرفاهما من غلمانه، حتى إذا مرَّ مشوا وراءه" (3) . وقال أبو نعيم: حدثنا سلمة عن الضحاك قال: "إذا دخل المؤمن الجنَّة، دخل أمامه ملك فأخذ به في سِكَكِهَا، فيقول له: انظر ما ترى؟ قال: أرى أكثر قصور رأيتها من ذهبٍ وفضةٍ، وأكثر أنيس. فيقول له الملكُ: فإنَّ هذا أجمع لك، حتَّى إذا رُفِعَ إليهم استقبلوه من كلَّ بابٍ، ومن كلِّ مكانٍ: نحن لك، نحن لك، ثمَّ يقول له: امشِ، فيقول له: ماذا ترى، فيقول: أرى أكثر عساكِرَ رأيتها من خيام، وأكثر __________ = مثله. وسنده صحيح. (1) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (427)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (25). في سنده رشدين بن سعد ضعيف. (2) في "ب، د": "نصر" وهو خطأ. (3) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (415)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (26) وفي سنده ضَعْف، لأنَّ يحيى بن أيوب وعبيد اللَّه بن زحر فيهما كلام.

(1/311)


أنيسٍ، قال: فإنَّ هذا أجمعَ لك، قال: فإذا رُفِعَ إليهم استقبلوه يقولون: نحن لك، ونحن لك" (1) . وفي "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ليدخلنَّ الجنَّة من أمتي سبعون ألفًا، أو سبع مئة ألف متماسكون آخذٌ بعضهم ببعض، لا يدخل أوَّلهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدرِ" (2) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (27) وسنده صحيح. - ورواهُ أسد بن موسى عن أخيه عن الضحاك فذكر معناه مرسلًا. أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (32). (2) تقدم في الباب الثاني والثلاثين ص (265).

(1/312)


 الباب التاسع والثلاثون في ذكر صفة أهل الجنَّة في خَلْقِهِم وخُلُقِهم وطولهم وعرضهم ومقدار أسنانهم

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خلق اللَّهُ عزَّ وجلَّ آدَمَ على صورته، طولُه ستون ذراعًا، فلما خلقه قال له: اذهب فسلِّم على أولئك النفر - وهم نفرٌ من الملائكة جُلوسٌ -، فاستمع ما يحيونك، فإنَّها تحيتك وتحية ذريتك، قال: فذهبَ فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليكَ ورحمةُ اللَّهِ، فزادوه ورحمة اللَّه قال: فكلُّ من يدخل الجنَّة على صورة آدمَ، طولُهُ ستون ذراعًا، فلم يزل ينقص الخلق بعدهُ حتَّى الآن" (1) متفقٌ على صحته. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، وعفان بن مسلم، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يدخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ جُردًا مُردًا بيضًا جعادًا مكحَّلين، أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خلق آدم ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع" (2) __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3148)، ومسلم رقم (2841)، وأحمد في المسند (2/ 351). (2) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 295)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 59) رقم (33995)، وابن أبي داود في البعث رقم (63)، وابن أبي الدنيا في صفة =

(1/313)


قيل: تفرد به حماد، عن علي بن زيد. وفي "جامع الترمذي" من حديث شهر بن حوشب عن عبد الرحمن ابن غنْم عن معاذ بن جبل رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يدخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ جردًا مردًا مكحلين بني (1) ثلاثٍ وثلاثين" (2) . __________ = الجنَّة رقم (15). - ورواهُ جماعة عن حمَّاد بن سلمة عن علي بن زيد به نحوه. أخرجه الطبراني في معجمه الصغير رقم (808)، والأوسط رقم (5422)، وابن عدي في الكامل (5/ 198)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (255)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (463، 464). قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن علي بن زيد إلَّا حماد بن سلمة، ولا يروى عن أبي هريرة إلَّا بهذا الإسناد". والحديث مدارهُ على علي بن زيد بن جُدْعان، وفيه لين، وفي المتن ألفاظٌ تفرَّد بها، لم يأتِ بها غيره كقوله "في عرض سبع أذرع". ولهذا ساق ابن عدي هذا الحديث في جملة ما أُنكر عليه، وقال في آخر ترجمته ". . . وهو مع ضعفه يكتب حديثه". (1) في الترمذي: "بني ثلاثين أو". (2) أخرجه الترمذي برقم (2545)، وأحمد (5/ 243)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (21)، والبزار في مسنده برقم (2644)، والشاشي في مسنده رقم (1342)، والطبراني في الكبير (20/ 64) رقم (118)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (257). قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، وبعض أصحاب قتادة رووا هذا الحديث عن قتادة مرسلًا ولم يسندوه". - رواه معمر عن قتادة قال: أهل الجنَّة أبناء ثلاثين، جرد، مرد، مكحَّلون. . . ". أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11/ 416) رقم (20872)، وابن المبارك =

(1/314)


قال: "هذا حديث حسن غريب". وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا: حدثنا عمر عن الأوزاعي عن هارون بن رئاب (1) عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُبْعثُ أهل الجنَّةِ على صورة آدم في ميلاد ثلاثِ وثلاثين سنة جُرْدًا مُرْدًا مكحلين، ثمَّ يذهبُ بهم إلى شجرةٍ في الجنَّة، فيُكسون منها لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم" (2) . __________ = في الزهد -رواية نعيم- رقم (423). - ورواهُ سعيد بن أبي عروبة وشيبان عن قتادة عن شهر عن معاذ "ولم يذكرا: عبد الرحمن بن غنم". أخرجه أحمد (5/ 232 و 239) وغيره. - ورواهُ عامر الأحول عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة مرفوعًا. أخرجه الترمذي برقم (2539) وغيره. قال الترمذي: "هذا حديث غريب". وهذه إشارة إلى خطأ هذه الرواية. والصواب رواية سعيد بن أبي عروبة وشيبان عن قتادة. وعليه فالإسناد ضعيف للانقطاع، شهر لم يسمع من معاذ. (1) في "ج": "ريان"، وفي "هـ": "رباب". (2) أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (64)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (582)، والطبراني في الصغير رقم (1164)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 56)، وفي صفة الجنَّة رقم (255) وغيرهم. - ورواهُ الوليد بن مسلم فقال: حدثنا الأوزاعي به. أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (8/ 219) تعليقًا. - قال أبو نعيم: ورواهُ غيره عن الأوزاعي عن هارون فقال: حدثني من سمع أنسًا. =

(1/315)


وقال الترمذي: حدثنا سويد بن نصر حدثنا عبد اللَّه بن المبارك عن رِشْدِين بن سعد عن عمرو بن الحارث أنَّ درَّاجًا أبا السَّمْحِ حدَّثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من ماتَ من أهل الجنَّة من صغيرٍ أو كبيرٍ يُردُّونَ بني ثلاثين سنة في الجنَّة (1) لا يزيدون عليها أبدًا، وكذلك أهل النَّار" (2) . __________ = - ورواهُ روَّاد بن الجرَّاح عن الأوزاعي به وزاد في متنه شيئًا، وسيأتي عند المؤلف. أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (220). وهذه الرواية منكرة، وروَّاد بن الجرَّاح تغير واختلط، فجاء بمناكير، وهذا منها؛ لمخالفته عمر والوليد بن مسلم، وعليه فالحديث إسناده ضعيف؛ لعدم معرفة الواسطة بين أنس وهارون، واللَّهُ أعلم. وقال الهيثمي "إسناده جيِّد". انظر: مجمع الزوائد (10/ 399). (1) قوله: "بني ثلاثين سنة في الجنَّة"، في الترمذي "أبناء ثلاثين في الجنَّة". (2) أخرجه الترمذي برقم (2562)، وابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (17)، والبغوي في شرح السنة (15/ رقم 4381). - ورواهُ عبد اللَّه بن وهب عن عمرو بن الحارث به مثله. أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (78)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (259). - ورواهُ ابن لهيعة عن درَّاج به فقال فيه "ستين" بدلًا من "ثلاثين" وهو من أوهامه. أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/ رقم 1405)، والحديث ضعيف الإسناد، من أجل رواية درَّاج عن أبي الهيثم، كما تقدَّم في الباب (10) ص (119). وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث رشدين".

(1/316)


فإن كان هذا محفوظًا لم يناقض ما قبله، فإنَّ العرب إذا قدَّرت بعدَدٍ له نيِّف؛ فإنَّ لهم طريقين: تارةً يذكرون النَّيف للتحرير، وتارةً يحذفونه، وهذا معروف في كلامهم، وخطاب غيرهم من الأمم. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا القاسم بن هاشم (1) حدثنا صفوان بن صالح حدثنا روَّاد بن الجراح العسقلاني حدثنا الأوزاعي عن هارون بن رئاب عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يدخل أهلُ الجنَّة الجنَّة على طول آدم ستين ذراعًا بذراع الملك، على حُسْنِ يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاثٍ وثلاثين سنة، وعلى لسان محمد جُرْد مُرْد مُكحَّلون". وقال ابن وهب: حدثني معاوية بن صالح عن عبد الوهاب بن بُخْت عن أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ أهل الجنَّة يدخلون الجنَّة على قدر آدم ستون ذراعًا، وعلى ذلك قطعتْ سُررهم" (2) . وقد تقدَّم (3) أنَّ أوَّل زمرة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، __________ (1) وقع في "د، هـ" ونسخة على حاشية "أ": "هشام". (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 92) تحت رقم (248). - ورواه أبو صالح وأبو زرعة وهمام بن منبه عن أبي هريرة مطولًا، وليس فيه "وعلى ذلك قطعت سررهم". أخرجه البخاري رقم (3148 و 3149)، ومسلم رقم (2834 و 2841) وغيرهما. (3) في ص (231).

(1/317)


وأنَّ الذين يلونهم على ضوء أشدِّ كوكبٍ في السَّماءِ إضاءةً. وأمَّا الأخلاق فقد قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) } [الحجر: 47]، فأخبر عن قلوبهم (1) وتلاقي وجوههم. وفي "الصحيحين" (2) : "أخلاقهم على خَلْق رجلٍ واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء". الرواية "على خَلْق" -بفتح الخاء وسكون اللام- والأخلاق كما تكون جمعًا للخُلق بالضم، فهي جمع للخَلق بالفتح، والمراد: تساويهم في الطول والعرض والسن، وإن تفاوتوا في الحسن والجمال، ولهذا فسره بقوله: "على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء". وأما أخلاقهم وقلوبهم ففي "الصحيحين" (3) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: "أول زمرة تلج الجنة" الحديث. وقد تقدم وفيه: "لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون اللَّه بكرة وعشيًا". وكذلك وصف اللَّه سبحانه وتعالى نسائهم بأنهنَّ أتراب. أي: في سِنٍّ واحدة، ليس فيهن العجائز والشواب، (4) وفي هذا الطول __________ (1) في "ب": "تلاقي قلوبهم". (2) تقدم في الباب (27) ص (231 - 232). (3) تقدم في الباب (27) ص (231). (4) في نسخةٍ على حاشية "د": "والتوَّاب".

(1/318)


والعرض والسن من الحكمة ما لا يخفى، فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذة؛ لأنة أكمل سن القوة مع عظم آلات الَّلذة، وباجتماع الأمرين يكون كمال اللذة وقوتها، بحيث يصل في اليوم الواحد إلى مئة عذراء، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى (1) ، ولا يخفى التناسب الذي بين هذا الطول والعرض، وأنه لو زاد أحدهما على الآخر فات الاعتدال وتَنَاسُب الخِلْقة، يصير طولًا مع دِقَّةٍ، أو غلظًا مع قصر، وكلاهما غير مناسب، واللَّه أعلم. __________ (1) سيأتي في (ص/ 502 - 506، 517).

(1/319)


 الباب الأربعون في ذكر أعلى أهل الجنَّة منزلة وأدناهم، وأعلاهم منزلة سيِّد ولدِ آدم صلوات اللَّهِ وسلامه عليه

قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 253]. قال مجاهد وغيره: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}: موسى {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}: هو محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (1). وفي حديث الإسراء المتفق على صحته: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لما جاور موسى قال: "رب لم أظن أن يُرفَع علَيَّ أحد"، ثم علا فوق ذلك بما لا يعلمه إلا اللَّه، حتى جاوز سدرة المنتهى" (2). وفي "صحيح مسلم" (3) من حديث عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما-، أنه سمع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّه عليه عشرًا (4)، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلَّا لعبدٍ __________ (1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 483) رقم (2553)، والطبري في تفسيره (3/ 1). وسنده حسن. (2) أخرجه البخاري رقم (7079)، واللفظ له، ومسلم رقم (162) من حديث أنس رضي اللَّهُ عنه. (3) رقم (384). (4) في مسلم "بها عشرًا".

(1/320)


من عباد اللَّه، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة". وفي "صحيح مسلم" (1) : من حديث المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنَّ موسى سألَ ربَّهُ: ما أدنى أهل الجنَّة منزلةً؟ فقال: رجلٌ يجيء بعدما دخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ، فيقال له: ادخلِ الجنَّة، فيقول: ربِّ كيف، وقد نزل النَّاسُ منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أنْ يكون لك مثل مَلِكٍ (2) من ملوك الدنيا، فيقول: رضيتُ ربِّ، فيقول له: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربِّ، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذَّت عينك، فيقول (3) : رضيتُ ربِّ. قال: ربِّ فأعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الَّذين أردت، غرستُ كرامتهم بيديَّ، وختمتُ عليها فلم ترَ عينٌ، ولم تسمع أذنٌ، ولم يخطر على قلب بشر". وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد أخبرنا شَبَابَة عن إسرائيل عن ثوير قال: سمعت ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أدنى أهل الجنَّة منزلةً لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسُررِهِ مسيرة ألفِ سنة، وأكرمهم على اللَّهِ من ينظر إلى وجهه غُدوةً وعشيةً، ثمَّ قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } __________ (1) رقم (189). (2) في مسلم: "مثل مُلْكِ مَلِكٍ". (3) من قوله "رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة" إلى "فيقول" من مسلم، وقد سقط من جميع النسخ.

(1/321)


[القيامة: 22 - 23] " (1) . __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (2553 و 3330)، وعبد بن حميد في مسنده "المنتخب رقم 817"، والآجري في الشريعة (620 و 621)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (170 - 172 و 174) وغيرهم. من طريق إسرائيل عن ثوير به كما تقدم. ورواهُ عبد الملك بن أبجر، واختلف عليه. - فرواهُ أبو معاوية عن عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر فذكره مرفوعًا. أخرجه أحمد (2/ 13)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (97)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (173)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (604)، والطبراني كما ذكره المؤلِّف، وغيرهم. قلتُ: وهذا خطأ، أخطأ فيه أبو معاوية، وهو كثير الخطأ عن غير الأعمش، ويحتمل من اضطراب ثوير وهو ضعيف. خالفه حسين بن علي الجعفي فوقفه. - فرواهُ حسين عن عبد الملك عن ثوير عن ابن عمر موقوفًا من قوله. أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 58) رقم (33989)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (866). - ورواهُ الثوري - في الرواية الرَّاجحة عنه - عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر موقوفًا. أخرجه الترمذي بعد حديث رقم (2553)، والطبري في تفسيره (29/ 193). - ورواهُ أبو مريم عن ثوير أنَّ رجلًا حدَّثه كان عند ابن عمر فذكره مرفوعًا. أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (451). - ورواهُ الأعمش عن ثوير عن ابن عمر قوله بنحوه ولم يذكر الرؤية. أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 62) رقم (34013)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (34). فهذا الاضطراب فيما يظهر من ثوير بن أبي فاخته -وهو ضعيف- بل ضعفه بعضهم جدًّا واتَّهمه بالكذب، وهو متجه هنا، خاصة والحديث مداره على ثوير =

(1/322)


قال: "وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل عن ثوير عن ابن عمر مرفوعًا (1) . قال: ورواهُ عبد الملك بن أبجر، عن ثُويْر، عن ابن عمر: موقوفًا. ورواهُ عبيد اللَّه الأشجعي عن سفيان عن ثُوير عن مجاهد عن ابن عمر نحو، ولم يرفعه". قلتُ: ورواه الطبراني في "معجمه" من حديث أبي معاوية عن عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر مرفوعًا: "إنَّ أدنى أهل الجنَّة منزلةً لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناهُ، ينظر إلى أزواجه وسرره وخدمه" الحديث. ورواهُ أبو نعيم عن إسرائيل عن ثوير قال: سمعتُ ابن عمر. قال إسرائيل: لا أعلم ثويرًا إلَّا رفعه إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن هو: ابن موسى، حدثنا سُكَين بن عبد العزيز، حدثنا أبو الأشعث الضرير، عن شهر بن حوشب، عن أبي __________ = هذا وهو رافضي متفقٌ على ضعفه. والحديث ضعفه الترمذي بقوله "غريب" والذهبي والهيثمي وغيرهم. انظر مختصر استدراك الذهبي على مستدرك الحاكم لابن الملقن (2/ 968)، ومجمع الزوائد (10/ 401). والثابت عن ابن عمر: ما رواه ابن عون عن محمد بن سيرين قال: إنَّ أدنى أهل الجنَّة منزلةً، لمَن يقال له تمنَّ، ويذكِّره أصحابه، فيقال له: هولك ومثله معه، قال محمد بن سيرين: قال ابن عمر: "هو لك وعشرة أمثاله، وعند اللَّه المزيد". أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (36) وسنده صحيح. (1) في جميع النسخ "غير مرفوع" وهو خطأ، والتصويب من الترمذي.

(1/323)


هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من له سبع درج، وهو على السادسة، وفوقه السابعة، وإن له لثلاث مئة خادم، ويُغْدَى عليه ويُراح كل يوم بثلاث مئة صحفة -ولا أعلمه إلا قال- من ذهب، في كل صحفة لون ليس في الأُخرى، وإنه ليلَذّ أوله كما يلذ آخره، ومن الأشربة ثلاث مئة إناء، في كل إناء لون ليس في الآخر، وإنَّه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليقول: يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص ممَّا عندي شيء، وإن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا، وإن الواحدة منهن ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض" (1) . قلت: سكين بن عبد العزيز: ضعفه النسائي (2) . وشهر بن حوشب: ضعفه مشهور. والحديث منكر، مخالف للأحاديث الصحيحة (3) : - فإن طول ستين ذراعًا لا يحتمل أن يكون مقعدة صاحبه بقدر ميل من الأرض. __________ (1) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 537)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (229). والحديث كما قال المؤلِّف منكر. قال ابن كثير: "تفرَّد به أحمد، وهو غريب، وفيه انقطاع". (2) وضعفه أيضًا أبو داود والدَّارقطني، ووثَّقه ابن معين والعجلي والطنافسي، وقال أبو حاتم وابن عدي: "لا بأس به". انظر ترجمته في تهذيب الكمال (11/ 210 - 211)، والكامل لابن عدي (3/ 462 - 463). (3) في "هـ" "الأحاديث الصِّحاح".

(1/324)


- والذي في "الصحيحين" (1) ، في أول زمرة تلج الجنة: "لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين"، فكيف يكون لأدناهم ثنتان وسبعون؟ - وأقل ساكني الجنة نساء الدنيا (2) ، فكيف يكون لأدنى أهل الجنة جماعة منهن؟ - وأيضًا فإن الجنتين الذهبيتين أعلى من الفضيتين (3) ؟ فكيف يكون أدناهم في الذهبيتين؟. قال الدولابي: "شهر بن حوشب لا يشبه حديثه حديث النَّاس". وقال ابن عون: "إنَّ شهرًا نزكوه". وقال النسائي وابن عدي: "ليس بالقوي". وقال أبو حاتم: "لا يحتج به". وتركه شعبة ويحيى بن سعيد، وهذان من أعلم الناس بالحديث، ورواته وعلله، وإن كان غير هؤلاء، قد وثقه وحسَّن حديثه، فلا ريب أنه إذا تفرد بما يخالف ما رواه الثقات لم يقبل (4) . واللَّه أعلم. __________ (1) تقدم ص (256). (2) تقدم ص (258 - 260). (3) راجع الباب (22) ص (206 - 211). (4) انظر ترجمته وأقوال أئمة والتعديل فيه في تهذيب الكمال (12/ 578 - 589).

(1/325)


 الباب الحادي والأربعون في تحفة أهل الجنَّة إذا دخلوها

روى مسلم في "صحيحه" (1) من حديث ثوبان قال: كنتُ قائمًا عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجاء حَبْرٌ من أحبار اليهود فقال: السلام عليكَ يا محمد، فدفعته دفعةً كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلتُ: ألا تقول يا رسول اللَّه؟ فقال اليهودي: إنَّما ندعوه باسمه الَّذي سمَّاه به أهله، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اسمي محمد الَّذي سماني به أهلي" فقال اليهودي: جئت أسألك، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أينفعك شيءٌ إنْ حدَّثتكَ؟ فقال: أسمعُ بأذني، فنكتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعودٍ معه في الأرض، فقال: سل؟ فقال اليهودي: أين يكون النَّاسُ يومَ تبدل الأرضُ غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هم في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أوَّل النَّاس إجازةً يوم القيامة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال اليهودي: فما تُحْفتهم حين يدخلون الجنَّة؟ قال: زيادة كبد النون، قال: فما غِذاؤهم على إثره (2)؟ قال: ينحر لهم ثور الجنَّة الَّذي كان يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عينٍ فيها تُسمَّى سلسبيلًا، قال: صدقت، قال: وجئتُ أسألك عن شيءٍ لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلَّا نبي، أو رجل أو رجلان، قال: ينفعك إنْ حدثتك؟ قال: أسمع بأُذُنيَّ، قال: جئت أسألك عن الولد؟ __________ (1) رقم (315). (2) في "ب، ج، هـ": "إثرها".

(1/327)


قال: ماء الرجل أبيضُ، وماءُ المرأة أصفرُ، فإذا اجتمعا فعلا منيُّ (1) الرجل منيَّ المرأة أذكرا بإذن اللَّه تعالى، وإن علا مني المرأة منيَّ الرجل آنثا بإذن اللَّه تعالى، فقال اليهودي: لقد صدقت وإنَّك لنبي ثمَّ انصرف، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لقد سألني هذا عن الَّذي سألني عنه ومالي علمٌ بشيءٍ منه، حتَّى أتاني اللَّه عزَّ وجل به". وفي "صحيح البخاري" (2) عن أنس رضي اللَّه عنه قال: سمع عبدُ اللَّهِ بن سلام مَقْدَم النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، وهو في أرضٍ يَخْتَرِفُ، فأتى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إنِّي سائلكَ عن ثلاث لا يعلمهنَّ إلَّا نبي، فما أوَّل أشراط السَّاعة؟ وما أوَّل طعام أهل الجنَّة؟ وما ينزع الولدُ إلى أبيه أو أُمِّهِ؟ قال: أخبرني بهنَّ جبريل آنفًا، قال جبريل؟ قال: نعم، قال ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]، أمَّا أوَّل أشراط السَّاعة: فنارٌ تحشر النَّاس من المشرق إلى المغرب، وأمَّا أوَّل طعام يأكله أهل الجنَّة: فزيادة كبدِ الحوت، وإذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نزع الولدُ، وإذا سبق ماءُ المرأة ماءَ الرجل نزعت الولد (3) ، قال: أشهد أنْ لا إله إلَّا اللَّه وأشهد أنَّك رسول اللَّه، يا رسول اللَّه، إنَّ اليهود قومٌ بهتٌ، وإنَّهم إنْ يعلموا بإسلامي قبل أنْ تسألهم بهتوني، فجاءتِ اليهود __________ (1) في "أ": "فعلا ماء مني" ولفظه "ماء" ليست في مسلم، ولا باقي النسخ. (2) رقم (3723). (3) قوله "وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد" من البخاري، وفي جميع النسخ، "وإذا سبق ماء المرأة نزعت".

(1/328)


فقال: أىُّ رجلٍ عبدُ اللَّهِ فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أفرأيتم إن أسلم عبدُ اللَّه؟ فقالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، فخرج عبد اللَّه فقال: أشهد أنْ لا إله إلَّا اللَّه وأشهد أنَّ محمد رسول اللَّه، فقالوا: شَرُّنا وابنُ شرِّنا وانتقصوه، فقال: هذا الَّذي كنتُ أخاف يا رسول اللَّهِ". وفي "الصحيحين" (1) من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تكون الأرض يوم القيامة خُبزةً واحدةً يتكفَّؤها الجبَّارُ بيدهِ كما يتكفَّأ أحدكم خُبزته في السَّفر نُزُلًا لأهلِ الجنَّة، فأتى رجلٌ من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنَّة يوم القيامة؟ قال: بلى، قال: تكون الأرض خُبزةً واحدةً، كما قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنظر النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلينا ثمَّ ضحك حتى بدت نواجذه، ثمَّ قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: بلى، قال: إدامهم بالامٌ ونُونٌ، قال: وما هذا؟ قال: ثور ونون يأكل من زيادة كبدهما سبعون ألفًا". قال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب أنَّ أبا الخير أخبره أنَّ أبا العوام أخبره أنَّه سمع كعبًا يقول: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقول لأهل الجنَّة إذا دخلوها: إنَّ لكلِّ ضيفٍ جَزورًا، وإنِّي أجْزِرَكم اليومَ، فيؤتى بثورٍ وحوتٍ، فيُجزَرُ لأهل الجنَّة" (2) . __________ (1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6155)، ومسلم رقم (2792). (2) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم بن حماد- رقم (432)، وأخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة برقم (111). =

(1/329)


 الباب الثاني والأربعون في ذكر ريح الجنَّة، ومن مسيرة كم يُنْشَق

قال الطبراني: حدثنا موسى بن خازم الأصبهاني، حدثنا محمد بن بُكير (1) الحضرمي، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن جُنَادة بن أبي أُمية عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من قتل قتيلًا من أهل الذمة لم يَرَحْ رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة مئة عام" (2). __________ = وسنده لا بأس به، وأبو العوام مؤذَّن إيليا تابعي، صاحَبَ عمر بن الخطاب ومعاذًا روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في الثقات. وابن لهيعة ضعيف؛ لكن لا بأس به في غير الأحاديث المرفوعة؛ إذا صرَّح بالتحديث، وكان من رواية أحد العبادلة. تنبيه: سقط من الزهد لابن المبارك: "نا ابن المبارك"؛ لأنَّ نُعَيمًا لم يسمع من ابن لهيعة. (1) في "ب، د" "بن أبي بكر" بدلًا من "بن بكير" وهو خطأ، وفي "هـ" "بن بكر" وهو خطأ. (2) أخرجه الطبراني لعلَّه في المعجم الكبير -في القسم المفقود-. وهذه الرواية خطأ: فقد خولف محمد بن بكير الحضرمي في قوله "مائة عام". فرواهُ: 1 - عبد الرحمن بن إبراهيم "دحيم"، عند النسائي (8/ 25) وغيره. 2 - وإسماعيل بن محمد المعقَّب "ثقة"، عند أحمد (2/ 186). 3 - 4 - وأيوب الوزان ويعقوب، عند ابن أبي عاصم في الدِّيات ص (86). 5 - وعلي بن مسلم الطوسي، عند الحاكم في المستدرك (2/ 137) رقم =

(1/330)


ورواهُ البخاري في "الصحيح" عن قيس بن حفص عن عبد الواحد ابن زياد عن الحسن بن عمرو الفُقَيمي عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما ولم يذكر بينهما جنادة، وقال: "ليوجد من مسيرة أربعين عامًا". وقال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معدي بن سليمان هو البصري عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ألا من قتل نفسًا معاهدًا له ذِمَّةُ اللَّهِ وذمَّةُ رسوله، فقد أخفر بذمَّة اللَّهِ، فلا يرح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا" (1) . __________ = (2580) لكن فيه ". . . ليوجد من كذا وكذا". 6 - وابن أبي عمر العدني، عند البيهقي في السنن (9/ 205). كلهم عن مروان به مثله؛ لكنَّهم قالوا -غير الطوسي- "أربعين عامًا". - ورواهُ عبد الواحد بن زياد وأبو معاوية كلاهما عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عمرو فقال: "أربعين عامًا"، كما ذكره المؤلِّف. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2995)، وابن أبي شيبة (5/ 455) رقم (27938)، وابن ماجه (2686) وغيرهم. وعليه فالصحيح رواية "أربعين عامًا"، وأمَّا رواية "مائة عام" فوهم من محمد بن بكير الحضرمي، قال أبو حاتم الرَّازي: "صدوق عندي، يغلط أحيانًا"، وقال أبو نعيم الأصبهان: ". . وهو صاحب غرائب"، ووثَّقه غير واحد، فلعلَّ هذا ممَّا غلط فيه واللَّه أعلم. انظر: تهذيب الكمال (24/ 544 - 545) وفتح الباري (6/ 270). (1) أخرجه الترمذي برقم (1403)، وابن ماجه (2687)، والحاكم (2/ 138) =

(1/331)


قال: "وفي الباب عن أبي بكرة، وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" (1) . قال محمد بن عبد الواحد: "وإسناده عندي على شرط الصحيح" (2) . قلتُ: وقد رواهُ الطبراني من حديث عيسى بن يونس عن عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة يرفعه: "من قتل نفسًا مُعاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريح الجنَّة يوجد من مسيرة مئة عام" (3) . وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن أو غيره عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ريحُ الجنَّة يوجدُ من مسيرة مئة عام" (4) . __________ = رقم (2581). قال الحاكم: "حديث أبي هريرة صحيح على شرط مسلم". والحديث صححه الترمذي والحاكم والضياء المقدسي كما نقله المؤلِّف. (1) وزاد "وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (2) انظر صفة الجنَّة له ص (147). (3) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 198) رقم (663). قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عوف إلَّا عيسى". - ورواهُ محمد بن مهران الجمال عن عيسى بن يونس به نحوه. أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجمه برقم (2/ 725 - 726)، والسهمي في تاريخ جرجان ص (323)، والطبراني في الأوسط (6/ 64 - 65) رقم (8011). والحديث ظاهر سنده صحيح. (4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10/ رقم "19712")، وأحمد في المسند =

(1/332)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = (5/ 46)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (193) وغيرهم. - ورواهُ سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بكرة رفعه، وفيه: "خمس مئة عام". أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (2923) ولا يثبت. - ورواه جماعة عن الحسن عن أبي بكرة نحوه، وفيه "خمس مئة عام". أخرجه عبد الرزاق (18522)، وابن حبان (7383)، والطبراني في الأوسط (431)، ولا يثبت عن الحسن منها شيء. - ورواه جماعة عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة، واضطربوا في لفظه. أخرجه النسائي (8744)، وابن حبان (4881 و7382)، والحاكم (1/ 105) رقم (134). والصواب -في حديث يونس- ما رواه الحفَّاظ: كالثوري وابن عُليَّة ويزيد بن زريع وغيرهم، كلهم عن يونس بن عبيد عن الحكم بن الأعرج عن الأشعث بن ثُرْملة عن أبي بكرة نحوه، وفيه: ". . حرَّم اللَّه عليه الجنة". أخرجه أحمد (5/ 36 و38)، وابن حبان (11/ رقم 4882)، وابن أبي شيبة في مصنفه (27935) والبخاري في تاريخه (1/ 428) وغيرهم. قال البخاري عن هذا الطريق "أصح" يعني من طريق حماد بن سلمة. وقال النسائي عن طريق حماد بن سلمة: "هذا خطأ، والصواب حديث ابن عُليَّة. . . ". وكذا رجَّح هذا الطريق الحافظ أبو علي النيسابوري. - ورواهُ حميد أبو المغيرة العجلي عن الأشعث بن ثُرْمُلة به نحوه، وفيه "حرَّم اللَّه عليه ريح الجنَّة". أخرجه الدولابي في الكنى والأسماء (2/ 126). - ورواهُ عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن عن أبيه عن أبي بكرة، بنحوه. أخرجه أحمد (5/ 36 و38)، وأبو داود (2760)، والنسائي (8/ 24). - ورواهُ عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه نحوه، وفيه "مائة عام" وفي رواية "خمس مئة عام".

(1/333)


وهذه الألفاظ لا تعارض بينها بوجه. وقد أخرجا في "الصحيحين" (1) من حديث أنس قال: لم يشهد عَمِّي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بدرًا، قال: فشقَّ عليه، قال: أوَّلُ مشهدٍ شهده رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غبتُ عنه، فإنْ أراني اللَّهُ مشهدًا فيما بعدُ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليرينَّ اللَّه ما أصنعُ، قال: فهابَ أنْ يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ أحد، قال فاستقبل سعد بن معاذ فقال له: أين؟ فقال: واهًا لريح الجنَّة أجده دون أُحد، قال: فقاتلهم حتى قُتِلَ، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمَّة الرُّبَيِّع بنتُ النضر: فما عرفتُ أخي إلَّا ببَنَانه، ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. قالوا: فكانوا يرون أنَّها نزلت فيه وفي أصحابه. وريح الجنَّة نوعان: ريحٌ يوجد في الدنيا تشمُّه الأرواح أحيانًا ولا تدركه العبارة، وريح يُدرك بحاسة الشمِّ للأبدان، كما تشم روائح الأزهار وغيرها، وهذا يشترك أهل الجنَّة في إدراكه في الآخرة من قرب وبُعد، وأمَّا في الدنيا فقد يدركه من شاء اللَّهُ من أنبيائه ورسله، وهذا الَّذي وجدهُ أنس بن النضر يجوز أنْ يكون من هذا القسم، وأنْ يكون __________ = أخرجه أحمد (5/ 50 و 51)، وفي سنده ضعف. والحديث ثابتٌ عن أبي بكرة، لكن رواية "حرَّم اللَّهُ عليه الجنَّة" أقوى وأصحّ إسنادًا ممَّن روى "مئة عام" أو "خمس مئة عام" واللَّه أعلم. (1) أخرجه البخاري رقم (2651)، ومسلم رقم (1903).

(1/334)


من (1) الأوَّل، واللَّهُ أعلمُ. وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن معمر حدثنا محمد بن أحمد المؤدب، حدثنا عبد الواحد بن غياث أخبرنا الربيع بن بدر حدثنا هارون بن رئاب عن مجاهد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رائحة الجنَّة توجد (2) من مسيرة خمس مئة عامٍ" (3) . وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد اللَّه الحضرمي حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن طريف حدثنا أبي حدثنا محمد بن كثير حدثني جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ريح الجنَّة يوجد من مسيرة ألف عام، واللَّه لا يجدها عاقٌّ، ولا قاطع رحم" (4) . وقال أبو داود الطيالسي في "مسنده": حدثنا شعبة عن الحكم عن __________ (1) من "ب، ج، د، هـ"، ونسخةٍ على حاشية "أ". (2) كذا في جميع النسخ، ولفظه عند أبي نعيم "تراح رائحة الجنَّة. . . ". (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (194)، وفي الحلية (3/ 307)، والطبراني في الصغير رقم (408). قال الهيثمي: "وفيه الربيع بن بدر وهو متروك". انظر مجمع الزوائد (8/ 148)، والتقريب لابن حجر رقم (1883). (4) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (5664)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 43) رقم (194). قال الهيثمي: "رواهُ الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن كثير عن جابر الجعفي، وكلاهما ضعيف جدًّا". انظر مجمع الزوائد (8/ 148 - 149).

(1/335)


مجاهد عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من ادَّعى إلى غير أبيه لم يرحْ رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسين (1) عامًا" (2) . وقد أشهد اللَّهُ سبحانه عباده في هذه الدَّار آثارًا من أثار الجنَّة، وأنموذجًا منها من الرائحة الطيبة، والَّلذات المُشْتهاة، والمناظر البَهيَّة، والفاكهة الحسنة، والنعيم والسُّرور، وقُرَّة العين. وقد روى أبو نُعيم من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ للجنَّة: طِيْبي لأهلك فتزداد طيبًا، فذلك البَرْد الَّذي يجده النَّاس بالسَّحَرِ من ذلك" (3) . __________ (1) في "هـ" "خمسمائة"، وعند الطيالسي "سبعين" بدل "خمسين". (2) أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (2388)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (196) وغيرهما من هذا الطريق. - ورواهُ غندر ووهب بن جرير عن شعبة به مثله. أخرجه أحمد (2/ 171 و 194) وغيره. ورواهُ مروان بن معاوية عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن جنادة بن أبي أمية عن عبد اللَّه بن عمرو فذكره وفيه "مائة عام". أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (198). والحديث سنده صحيح. (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (20 و 199)، والطبراني في الصغير (1/ 63 - 64) رقم (75). وقال: "لم يروه عن الأعمش إلَّا عمرو بن عبد الغفار، تفرَّد به يوسف بن =

(1/336)


كما جعل سبحانه نار الدنيا وآلامها وغمومها وأحزانها مُذكِّرةً (1) بنار الآخرة، قال تعالى في هذه النَّار: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة: 73]. وأخبر النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ شدَّة الحرِّ والبردِ من أنفاس جهنَّم (2) ، فلا بُدَّ أنْ يشهد عباده أنفاس جنته، وما يذكرهم بها، واللَّهُ المستعان. __________ = موسى أبو غسان". قال الهيثمي: "وفيه عمرو بن عبد الغفار وهو متروك". انظر مجمع الزوائد (10/ 412). (1) في "د" "تذكرة". (2) أخرجه البخاري رقم (512)، ومسلم رقم (617) من حديث أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه.

(1/337)


 الباب الثالث والأربعون في الأذان الَّذي يؤذن به مؤذن الجنَّة فيها

روى مسلمٌ في "صحيحه" (1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه وأبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يُنادي منادٍ: إنَّ لكم أنْ تَصِحُّوا فلا تسقموا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وذلك قول اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 43]. وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن آدم حدثنا حمزة الزَّيَّات، عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي اللَّه عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} قال: نودوا أنْ صِحُّوا فلا تسقموا أبدًا، واخلدوا فلا تموتوا أبدًا، وأنعموا فلا تبأسوا أبدًا" (2). __________ (1) رقم (2837). (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 148 - 149) رقم (290) من طريق عثمان بن أبي شيبة به. وأخرجه أحمد في المسند (3/ 38) وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1480) رقم (8477) والنسائي في تفسيره (1/ رقم 204) من طريق عبيد ابن يعيش ثنا يحيى بن آدم به مثله. - ورواهُ عبد الرزاق وأبو سفيان المعمري عن الثوري عن أبي إسحاق به مثله. أخرجه أحمد في المسند (3/ 95)، ومسلم رقم (2837)، وأبو نعيم في =

(1/338)


وفي "صحيح مسلم" (1) من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي اللَّه عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهل النَّارِ النَّارَ، نادى منادٍ، يا أهل الجنَّة، إنَّ لكم عند اللَّهِ موعدًا، فيقولون: ما هو؟ ألم يُثَقِّل موازيننا، ويُبيِّض وجوهنا، ويدخلنا الجنَّة، وينجِّينا من النَّارِ؟ فيكشف الحجاب فينظرون إلى اللَّهِ، فواللَّهِ ما أعطاهم اللَّه شيئًا هو أحبَّ إليهم من النظر إليه". وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا أبو بكر الهذلي (2) ، أخبرني أبو تميمة الهُجَيمي، قال: سمعتُ أبا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة يقول: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يبعث يوم القيامة ملكًا إلى أهل الجنَّة، __________ = صفة الجنَّة (2/ 148) رقم (290). وقد خولف عبد الرزاق: - فرواهُ ابن المبارك والفريابي وقبيصة عن الثوري عن أبي إسحاق بمثله موقوفًا. أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (428)، وهناد في الزهد رقم (175)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 148) رقم (290) وغيرهم. - ورواهُ شعبة عن أبي بكر بن حفص عن الأغر به. انظر أطراف المسند (7/ 136). والحديث ثابتٌ رفعه، قال الدَّارقطني: "ورفعه صحيح". انظر علل الدَّارقطني (11/ 240 - 241). (1) رقم (181). (2) في جميع النسخ "الألهاني" وهو خطأ.

(1/339)


فيقول: يا أهل الجنَّة، هل أنجزكم اللَّهُ ما وعدكم؟ فينظرون فيرون الحُلي والحُلل والأنهار، والأزواج المطهرة، فيقولون: نعم، قد أنجز ما وعدنا، قالوا ذلك ثلاث مرَّاتٍ، فينظرون فلا يفتقدون شيئًا ممَّا (1) وعدوا، فيقولون: نعم، فيقول: قد بقي شيء، إنَّ اللَّهَ يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: ألَا إنَّ الحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّهِ" (2) . وفي "الصحيحين" (3) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ __________ (1) في "أ، ج" "كما". (2) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (419)، والطبري في تفسيره (11/ 105)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (46)، والبيهقي في البعث رقم (492). ورواهُ وكيع والنضر بن شميل وشبابه وغيرهم كلهم عن أبي بكر الهذلي به نحوه بعضهم اختصره. أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (351)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (44، 45)، وهناد في الزهد رقم (169) وغيرهم. والأثر مداره على أبي بكر الهذلي وهو أخباري متروك الحديث. انظر التقريب رقم (8002). - ورواهُ أبان بن أبي عياش عن أبي تميمة عن أبي موسى بنحوه. أخرجه الطبري (11/ 105)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (43). وفيه أبان بن أبي عياش وهو متروك الحديث، انظر التقريب رقم (142). (3) أخرجه البخاري رقم (6183)، ومسلم رقم (2829).

(1/340)


فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا". ومن تراجم البخاري عليه: بابٌ: كلامُ الربِّ مع أهل الجنة (1) . وسيأتي في هذا أحاديث نذكرها في باب معقود لذلك إن شاء اللَّه تعالى (2) . وفي "الصحيحين" (3) من حديث نافع عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يدخل اللَّه أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كلٌّ خالدٌ فيما هو فيه". وهذا الأذان وإن كان بين الجنة والنار فهو يبلغ جميع أهل الجنة والنار، ولهم نداء آخر يوم زيارتهم ربهم تبارك وتعالى، يرسل إليهم ملكًا، فيؤذن فيهم بذلك فيسارعون إلى الزيارة، كما يؤذن مؤذن الجمعة إليها، وذلك في مقدار يوم الجمعة، كما سيأتي مبينًا في باب: زيارتهم الرب عز وجل (4) إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه أعلم. __________ (1) في كتاب التوحيد (6/ 2732) رقم (7080). (2) انظر الباب (66) ص (715)، (3) البخاري رقم (6178)، ومسلم رقم (2850). (4) انظر الباب (61) ص (576).

(1/341)


 الباب الرَّابع والأربعون في أشجار الجنَّة، وبساتينها وظلالها

قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) [73/ أ] وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} [الواقعة: 27 - 33]، وقال تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)} [الرحمن: 48]، وهو جمع فَنَنٍ (1): وهو الغصن، وقال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68]. والمخضود: الَّذي خُضِد شوكه: أي نُزِعَ وقُطِعَ، فلا شوك فيه. وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وقتادة، وأبي الأحوص، وقسامة بن زهير، وجماعة (2). واحتجَّ هؤلاء بحجتين: إحداهما: أنَّ الخضد في اللغة: القطعُ، وكلُّ رطب قضبته فقد خضدته، وخضدت الشجر: إذا (3) قطعت شوكه، فهو خضيد ومخضود، ومنه الخَضَدُ على مثال الثَّمَر، وهو كل ما قطع من عودٍ رطبٍ، خَضَد بمعنى مَخْضود كقَبَض وسَلَب، والخضاد: شجر رخو لا شوكَ له. __________ (1) في "ب": "فن" وهو خطأ. (2) انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 218) رقم (3125) والطبري (27/ 179 - 180)، والزهد لهناد بن السَّري رقم (109, 110). (3) من المطبوعة.

(1/342)


الحُجَّة الثانية: قال ابن أبي داود: حدثنا موسى بن مصفَّى (1) ، حدثنا محمد بن المبارك حدثنا يحيى بن حمزة حدثني ثور بن يزيد حدثني حبيب بن عُبَيد عن عُتْبة بن عبدٍ السلمي رضي اللَّه عنه قال: كنتُ جالسًا مع رسول اللَّه، فجاء أعرابي فقال: يا رسول اللَّه، أسمعك تذكر في الجنَّة شجرة (2) لا أعلمُ شجرة أكثرَ شوكًا منها -يعني الطلح- فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ يجعل مكان كلَّ شوكةٍ منها ثمرةً مثل خَصْوةِ التَّيْسِ الملبود، فيها سبعون لونًا من الطعامِ، لا يُشْبِهُ لونٌ آخَرَ" (3) . "الملبود": الَّذي قد اجتمع شعره بعضه على بعض. وقال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا صفوان بن عمرو عن سُلَيم بن عامر قال: كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: إنَّ اللَّهَ لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يومًا، فقال: يا رسول اللَّه، ذكر اللَّه في الجنَّة شجرةً مؤذيةً، وما كنتُ أرى في الجنَّة شجرةً تُوذي صاحبها، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: وما هي؟ قال: السِّدْرُ، فإنَّ له شوكًا مؤذيًا، قال: أليس اللَّه يقول: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) } [الواقعة: 28]؟! خَضَدَ اللَّهُ شوكه __________ (1) في "أ": "معلَّى" وهو خطأ. (2) من "هـ"، ونسخة على حاشية "أ". (3) أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (69). - ورواهُ أبو مسهر وابن المبارك كلاهما عن يحيى بن حمزة به نحوه. أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 130) رقم (318)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (347)، وفي الحلية (6/ 103). والحديث صحيح الإسناد، وقد تقدم من طريق آخر عن عتبة بن عبدٍ السلمي (ص/ 273).

(1/343)


فجعل مكان كلِّ شوكةٍ ثمرةً" (1) . وقالت طائفة: المخضود هو: المُوْقَر حَمْلًا (2) . وأُنْكِرَ عليهم هذا القول، وقالوا: لا يُعْرَفُ في اللغة الخضد بمعنى الحمل. ولم يُصِبْ هؤلاءِ الَّذين أنكروا هذا القول، بل هو قولٌ صحيح، وأربابه ذهبوا إلى أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لمَّا خضد شوكه وأذهبه، وجعل مكان كلِّ شوكةٍ ثمرة أوقره بالحمل، والحديثان المذكوران يجمعان القولين (3) . __________ (1) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعَيم- رقم (263)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (109). - ورواهُ بشر بن بكر ومحمد بن حرب كلاهما عن صفوان بن عمرو عن سُليم بن عامر عن أبي أُمامة الباهلي قال كان أصحاب رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر نحوه. أخرجه ابن أبي الدنيا رقم (110)، والحاكم في المستدرك (2/ 518) رقم (3778)، والبيهقي في البعث رقم (302). قال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". قلتُ: والطريق المرسل أصح، فإنْ طريق محمد بن حرب من رواية الواقدي وهو متروك، وطريق بشر بن بكر التَّنَّيْسي من رواية الربيع بن سليمان المرادي وهو صدوق، وابن المبارك أثبت وأحفظ من بشر بن بكر، واللَّهُ أعلم. (2) قال به الحسن وقتادة وسعيد بن جبير وعكرمة. انظر: تفسير الطبري (27/ 180). (3) وممَّن قال بالقولين جميعًا: ابن عباس، وعكرمة، وقتادة. انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 218) (3125) والطبري (27/ 179 - 180).

(1/344)


وكذلك قول من قال: المخضود الَّذي لا يَعْقِر اليد، ولا يرد اليد منه شوك ولا أذى فيه، فسَّره بلازم المعنى، وهكذا غالب المفسرين يذكرون لازم المعنى المقصود تارة، وفردًا من أفراده تارة، ومثالًا من أمثلته فيحكيها الجمَّاعون للغثِّ والسَّمين أقوالًا مختلفة، ولا اختلاف بينها. فصل وأمَّا الطَّلحُ: فأكثر المفسرين قالوا: إنَّه شجر الموز. قال مجاهد: "أعجبهم طلح وَجٍّ وحُسْنه، فقيل لهم: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)} " (1). وهذا قول علي بن أبي طالب، وابن عبَّاس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنهم (2). وقالت طائفة أخرى: "بل هو شجرٌ عظامٌ طوالٌ، وهو من شجر البوادي الكثير الشوك عند العرب. قال حَاديهم: __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 181 و 182)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (304). وسنده صحيح. (2) انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 218) رقم (3126 و 3128)، والزهد لهناد بن السري رقم (1/ 111 و 112)، وصفة الجنَّة لابن أبي الدنيا رقم (64)، وتفسير الطبري (27/ 181)، والبعث للبيهقي رقم (305، 306، 308)، وتفسير ابن كثير (4/ 309).

(1/345)


بَشَّرَهَا دَلِيْلُهَا وقَالَا ... غدًا ترينَ الطَّلحَ والجِبَالا (1) ولهذا الشجر نورٌ ورائحة طيبة، وظلٌّ ظليل، وقد نضد بالحمل والثَّمر مكان الشوك. قال ابن قتيبة: "هو الَّذي نُضِدَ بالحمل أو بالورق والحمل من أوَّله إلى آخره، فليس له ساق بارز" (2) . وقال مسروق: "ورق الجنَّة نُضِدَ (3) من أسفلها إلى أعلاها، وأنهارها تجري في غير أخدود" (4) . وقال الليث: "الطلح: شجر أم غيلان له شوك أحجن، من أعظم العضاة شوكًا، وأصلبه عودًا، وأجوده صَمْغًا". قال أبو إسحاق: "يجوز أنْ يُعْنى به شجر أم غيلان؛ لأنَّ له نَوْرًا طيبَ الرائحة جدًّا، فَوُعِدُوا بما يحبون مثله، إلَّا أنَّ فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنَّة على سائر ما في الدنيا (5) ، فإنَّه ليس __________ (1) انظر: مجاز القرآن (2/ 250)، ونقله عنه الطبري في تفسيره (27/ 181)، ونسبه القرطبي (17/ 208) للجعدي. (2) انظر: تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (448)، وفيه ". . . له سوق بارزة". (3) في "ج، هـ": "نضيد". (4) أخرجه هناد في الزهد رقم (95 و 103 و 104)، وابن أبي شيبة (7/ 53 - 54)، رقم (33948)، وابن صاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1489 و 1490). وسنده صحيح. (5) من قوله: "قال الليث. . . " إلى "الدنيا" عند الأزهري في تهذيب اللغة (3/ 2202). وعنه ابن منظور في لسان العرب (2/ 532 - 533) ط - دار صادر.

(1/346)


ما في الجنَّة ممَّا في الدنيا إلَّا الأسامي. والظَّاهر أنَّ من فسَّر الطَّلح المنضود: بالموز، إنَّما أراد التمثيل به لحسن نضده، وإلَّا فالطلح في اللغة: هو الشَّجر العظام من شجر البوادي واللَّه أعلم (1) . وفي "الصحيحين" (2) من حديث أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ في الجنَّة شجرةً يسير الرَّاكبُ في ظلها مئة عامٍ لا يقطعها فاقرؤوا إنْ شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) } [الواقعة: 30] ". وفي "الصحيحين" (3) أيضًا من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنَّة لشجرةً يسيرُ الرَّاكبُ في ظلها مئة عامٍ لا يقطعها". قال أبو حازم: فحدثْتُ به النعمان بن أبي عيَّاش الزُّرقي فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنَّة لشجرةً يسيرُ الرَّاكبُ الجوادُ المضمَّر السريعُ (4) مئة عامٍ لا يقطعها" (5) . __________ (1) لعلها لغة عند بعض أهل اليمن، قال ابن زيد في قوله "وطلحٍ منضود"، قال: "اللَّه أعلم، إلَّا أنَّ أهل اليمن يُسمُّون الموز: الطَّلح". أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 182) وسنده صحيح. (2) أخرجه البخاري رقم (3080، 4599)، ومسلم رقم (2826). (3) البخاري رقم (6186)، ومسلم رقم (2827). (4) في البخاري زيادة "في ظلها" وهي ليست في جميع النسخ. (5) أخرجه البخاري رقم (6186)، ومسلم رقم (2828).

(1/347)


وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن أبي الضَّحَّاك سمعتُ أبا هريرة رضي اللَّه عنه يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ في الجنَّة شجرةً يسير الرَّاكبُ في ظلِّها سبعين أو مئة سنة، هي شجرة الخلد" (1) . وقال وكيع: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن زياد مولى بني مخزوم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: "إنَّ في الجنَّة شجرةً يسيرُ الرَّاكبُ في ظلها مئة عام اقرؤوا إنْ شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) } [الواقعة: 30] ". فبلغ ذلك كعبًا فقال: صدق، والَّذي أنزل التوراة على لسان موسى، __________ (1) أخرجه أحمد في المسند (2/ 462)، والطبري في تفسيره (27/ 183)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 244) رقم (403). ورواهُ غندر وحجاج والطيالسي وعبد الصمد وسعيد بن الربيع وغيرهم كلهم عن شعبة به نحوه. أخرجه أحمد (2/ 455)، والطيالسي في مسنده رقم (2670)، وعبد بن حميد في مسنده "المنتخب" رقم (1445) والدارمي رقم (2881)، وابن أبي الدنيا رقم (43 و 63) وغيرهم. والحديث مداره على أبي الضحاك، قال أبو حاتم: "لا أعلم روى عنه غير شعبة". وقال الذهبي: "لا يُعرف. . . ". والحديث فيه نكارة، وهو لفظة "شجرة الخلد": فإنَّ الحديث رواهُ عن أبي هريرة جماعة: كالمقبري والأعرج ومحمد بن زياد وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهم كلهم عن أبي هريرة، ليس فيه "شجرة الخلد". وكذلك رواه أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وسهل بن سعد، وليس فيه "شجرة الخلد". وهذا يدل على ضعف حديث أبي الضحاك هذا، واللَّهُ أعلم.

(1/348)


والفرقان على لسان محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لو أنَّ رجلًا ركب جذعةً أو جذعًا، ثمَّ دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرمًا، إنَّ اللَّه غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه (1) ، وإنَّ أفنانها من وراء سور الجنَّة، ما في الجنَّة نهرٌ إلَّا وهو يخرج (2) من أصل تلك الشجرة" (3) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا زمعة (4) بن صالح عن سلمة بن وَهْرَام عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "الظِّلُّ الممدود: شجرةٌ في الجنَّة على ساقٍ، قدر ما يسير الرَّاكب المُجِدُّ في ظلها مئة عام في كلَّ نواحيها، فيخرج إليها أهل الجنَّة: أهل الغرف وغيرهم فيَتَحدَّثون في ظلها، قال: فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا، فيرسل اللَّه ريحًا من __________ (1) قوله "من روحه" لفظ ابن المبارك وعبدة كما سيأتي، وليست في النُّسَخ. (2) في "ب" ونسخةٍ على حاشية "أ" "يجري"، وهي ليست في مصادر التخريج. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (44). ورواهُ ابن المبارك وجرير وعبدة وغيرهم، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد به نحوه. أخرجه ابن أبي الدنيا رقم (44)، وابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (267)، وهنَّاد في الزهد رقم (114) وغيرهم. والحديث مداره عن زياد مولى بني مخزوم قال ابن معين: "لا شيء" الجرح والتعديل (3/ 549). - ورواهُ ابن إسحاق عن زياد مولى بني مخزوم عن كعب أنَّه قال: "غرسها اللَّهُ بيده. . . من وراء سور الجنَّة". أخرجه عبد الملك بن حبيب في وصف الفردوس رقم (91). (4) في "د": "زعمة" وهو خطأ.

(1/349)


الجنَّة فتحرِّك تلك الشجرة بكل لهوٍ كان في الدنيا" (1) . وفي "جامع الترمذي" من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما في الجنَّة شجرة إلَّا وساقها من ذهب" (2) . قال: "هذا حديث حسن" (3) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (45). ورواه الكديمي والحسن بن أبي الربيع كلاهما عن أبي عامر العقدي به مثله. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما عند ابن كثير (4/ 310)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (404). قال ابن كثير: "هذا أثرٌ غريب، وإسناده جيد قوي حسن". قلتُ: فيه زمعة بن صالح: ضعيف، انظر: تهذيب الكمال (9/ 386 - 389). وأيضًا رواية زمعة عن سلمة منكرة، ولهذا قال ابن حبان -في سلمة بن وهرام- "يعتبر بحديثه من غير رواية زمعة بن صالح عنه". انظر: تهذيب الكمال (11/ 328 - 329). (2) أخرجه الترمذي برقم (2524)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (48)، وابن أبي داود في البعث رقم (65)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7410) وغيرهم. من طريق زياد بن الحسن بن الفرات عن أبيه عن جدِّه عن أبي حازم عن أبي هريرة فذكره بمثله. والحديث مداره على زياد بن الحسن هذا، قال فيه أبو حاتم الرَّازي: "منكر الحديث"، وقال فيه الدارقطني: "لا بأس به، ولا يحتج به". انظر: تهذيب الكمال (9/ 453)، والجرح والتعديل (3/ 329 - 530). (3) كذا في جميع النسخ، وفي تحفة الأشراف للمزي (10/ 87) وقال: "حسن =

(1/350)


وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يقول اللَّهُ: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إنْ شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17]، وفي الجنَّة شجرة يسير الرَّاكبُ في ظلها مئة عامٍ لا يقطعها، واقرؤوا إنْ شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) } [الواقعة: 30]، وموضع سوط من الجنَّة خيرٌ من الدنيا وما فيها، واقرؤوا إنْ شئتم: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] " (1) . رواهُ بهذا اللفظ والسِّياق الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصَدْرُهُ __________ = غريب". (1) أخرجه الترمذي برقم (3292) مطوَّلًا، وبرقم (3013) مختصرًا، والنسائي في الكبرى (6/ 317 - 318) رقم (11085)، وابن ماجه برقم (4335)، وأحمد في المسند (2/ 438) مطوَّلًا، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7417)، والحاكم (2/ 327) رقم (3170) مختصرًا على جملة "موضع السوط"، والبغوي في شرح السنة (15/ 209 - 210) رقم (4372) مطوَّلًا، وغيرهم. من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكره مطوَّلًا، واختصره بعضهم. قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". وقال البغوي: "حديث صحيح". وأصل الجملتين الأولتين في الصحيحين وغيرهما، والجملة الثالثة عند أحمد (2/ 315).

(1/351)


في الصحيحين (1) . وفي "صحيح البخاري" (2) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ في الجنَّة لشجرةً يسير الرَّاكب في ظلِّها مئة عام لا يقطعها، وإنْ شئتم فاقرؤوا: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) } [الواقعة: 30 - 31]. وقال ابن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث أنَّ درَّاجًا أبا السَّمْحِ حدَّثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رجلٌ: يا رسول اللَّهِ، ما طوبى؟ قال: شجرة في الجنَّة مسيرة مئة سنة، ثيابُ أهل الجنَّة تخرج من أكمامها" (3) . __________ (1) البخاري رقم (3072)، ومسلم رقم (2724). (2) رقم (3079). (3) أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (67)، والطبري في تفسيره (13/ 149)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7413)، والآجري في الشريعة رقم (624) وغيرهم. من طريق سليمان بن داود وابن سلم ويزيد بن خالد الرَّملي عن ابن وهب به نحوه. - ورواهُ حرملة عن ابن وهب به كما ذكره المؤلف. أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7230). - ورواهُ ابن لهيعة عن درَّاج أبي السمح به نحوه. أخرجه أحمد في المسند (3/ 71) وغيره. والحديث مداره على رواية أبي السمح درَّاج عن أبي الهيثم، وقد تقدم الكلام عليها في الباب (10).

(1/352)


وقد رواه عنه حرْمَلَة بزيادة (1) ، فقال: أخبرني ابن وهب، أخبرني عمرو أنَّ درَّاجًا حدثه أنَّ أبا الهيثم حدثه، عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه أنَّ رجلًا قال: يا رسول اللَّهِ، طوبَى لمن رآكَ وآمن بكَ؟ فقال: طُوبى لمن رآني وآمن بي، ثمَّ طوبى، ثمَّ طوبى، ثمَّ طوبى لمن آمن بي ولم يرني، فقال رجلٌ: يا رسول اللَّهِ، ما طوبى؟ قال: شجرة في الجنَّة مسيرة مئة سنة، ثياب أهل الجنَّة تخرج من أكمامها". قلتُ: وأوَّل هذا الحديث في "المسند" ولفظه: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطُوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرَّاتٍ" (2) . __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ" "بن زيادة" وهو خطأ. (2) أخرجه أحمد في المسند (5/ 248 و 257 و 264)، والبخاري في تاريخه (2/ 27)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7233)، والطبراني في الكبير (7/ رقم 8009). عن عفان ويزيد بن هارون وعبد الصمد وموسى بن داود وعبيد اللَّه بن موسى وموسى بن إسماعيل وسهيل بن بكَّار كلهم عن همام بن يحيى العوذي عن قتادة عن أيمن بن مالك الأشعري عن أبي أُمامة الباهلي فذكره. - ورواهُ أبو عامر العقدي عن همام عن قتادة عن أيمن عن أبي هريرة فذكره مثله. أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7232). وهذا خطأ ووهم، وادَّعى ابن حبان أنَّ أيمن الأشعري سمعه من أبي أُمامة وأبي هريرة، وفيه نظر، فقد قال البخاري: "ولم يذكر قتادة سماعه من أيمن، ولا أيمن من أبي أُمامة". - ورواهُ هدبة بن خالد عن همام وحماد بن الجعد عن قتادة عن أيمن عن أبي أمامة فذكره. أخرجه أحمد (5/ 248) وغيره. والحديث كما قال البخاري، وأيضًا أيمن مجهول، لم يرو عنه إلَّا قتادة.

(1/353)


وقال ابن المبارك: حدثنا سفيان عن حمَّاد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "نخلُ الجنَّة جذوعها من زُمرد أخضر، وكربها ذهبٌ أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنَّة، منها مُقطَّعاتهم وحللهم (1) ، وثمرها أمثال القِلالِ والدِّلاءِ، أشدُّ بياضًا من الَّلبن، وأحلى من العسلِ، وألينُ من الزُّبْد، ليس فيه عَجَمٌ" (2) . __________ (1) في "أ، ج": "وحلاهم"، والمثبت من باقي النسخ، والزهد لابن المبارك. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (51). ورواهُ عبد الرحمن بن مهدي ووكيع وقبيصة والحسين بن حفص وغيرهم عن سفيان به نحوه. أخرجه ابن الصاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1488)، وهناد في الزهد رقم (99 و 102)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 33950)، والبيهقي في البعث رقم (311) وغيرهم. - ورواه مسعر بن كدام عن حماد به بلفظ "نخل الجنَّة خشبها ذهبٌ أحمر، وكربها زمرد أخضر. . . ". أخرجه أبو الشيخ في العظمة رقم (574)، والسرقسطي في الدلائل كما في حاشية النسخة "د" (104 ق). - وخالفهما محمد بن جابر بن سيار "وهو يخطئ على حماد" فرواهُ عن حماد به فرفعه. أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (406). أخطأ فيه ابن سيار فإنَّ له مناكير عن حماد وهذا منها. والصحيح موقوف، لكن مداره على حماد بن أبي سليمان، وفي حفظه مقال؛ لكنه هنا حفظه. فقد توبع: تابعه أشعث بن أبي الشعثاء عن حماد به مثله موقوفًا وفيه زيادة. =

(1/354)


وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن بحر، حدثنا هشام بن يوسف حدثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عامر بن زيد البكالي أنَّه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي اللَّه عنه يقول: جاء أعرابي إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فسأله عن الحوض، وذكر الجنَّة، ثمَّ قال الأعرابي: فيها فاكهة، قال: نعم، وفيها شجرةٌ تُدْعَى طُوبى، فذكر شيئًا لا أدري ما هو؟ فقال: إنَّ (1) شجر أرضنا تشبهه، قال: ليست تشبه شيئًا من شجر أرضك (2) ، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أتيت الشام؟ قال: لا، قال: تشبه شجرة بالشام تُدعى الجَوْزة، تنبتُ على ساق واحدٍ، وينفرشُ أعلاها، قال: ما عِظَمُ أصلها؟ قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطتْ بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرمًا، قال: فيها عنبٌ؟ قال: نعم، قال: فما عِظَمُ العنقود؟ قال: مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يفتر، قال: فما عِظَمُ الحَبَّة؟ قال: هل ذبح أبوك تيسًا -من غنمه قطُّ- عظيمًا؟ قال: __________ = أخرجه السلمي في وصف الفردوس رقم (97). وعليه فالأثر ثابتٌ، وقد جوَّده المنذري. - وقد ثبت عن الحسن البصري أنَّه قال: "نخل الجنَّة جذوعها ذهب، وكرمها زمرد وياقوت، وسعفها حُلَل، يخرج الرطب أمثال القلال، أحلى من العسل، وأبيض من اللبن". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 34101) بسند صحيح عنه. تنبيه: قال ناسخ "د" في الحاشية: "هذا الأثر رواهُ قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل على غير هذه الصورة -فذكره- ثمَّ قال: كرب الجنَّة: أصل منابت السعف، وذلك العريض. والعجم: النوى، واحدها: عجمة. . . ". (1) في "ب، هـ": "أي" استفهامية. (2) في نسخةٍ على حاشية "أ" "أرضكم".

(1/355)


نعم، قال: فسلخ أهابه فأعطاهُ أمَّك، فقال: اتخذي لنا منه دلوًا؟ قال: نعم، قال الأعرابي: فإنَّ تلك الحبَّة لتشبعني وأهل بيتي، قال: نعم، وعامة عشيرتك" (1) . وقال أبو يعلى الموصلي في "مسنده": حدثنا عبد الرحمن بن صالح حدثنا يونس بن بُكَير عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد اللَّه ابن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنهما قالت: سمعت رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكر سدرة المنتهى فقال: "يسيرُ في ظلِّ الفَنَنِ منها الرَّاكبُ مئة سنة، أو قال: يستظلُ في الفَنَنِ منها مئة راكب، فيها فراش الذهب كأنَّ ثمرها القلالُ" (2) . ورواهُ الترمذي وقال: "شك يحيى، وهو حديث حسن غريب". وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن __________ (1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 183 - 184)، وقد تقدم الكلام عليه في باب (32) و (44) ص (273 - 274, 343). (2) أخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير وليس المطبوع، والترمذي برقم (2541)، وهناد في الزهد رقم (115)، والطبري في تفسيره (27/ 54 - 55)، والطبراني في الكبير (24/ 87 - 88) رقم (234)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (435)، والحاكم في المستدرك (2/ 510) رقم (3748). قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم". والحديث سنده حسن، وقد صرَّح ابن إسحاق بالسماع من يحيى، كما عند هنَّاد في الزهد.

(1/356)


مجاهد قال: "أرضُ (1) الجنَّة من ورق، وترابها مسك، وأصول أشجارها ذهبٌ ووَرق، وأفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والورق والثمر تحتَ ذلك، فمن أكَل قائمًا لم يؤذهِ، ومن أكل جالسًا لم يؤذه، ومن أكل مضطجعًا لم يؤذه، {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) } [الإنسان: 14] (2) . وقال أبو معاوية: حدثنا الأعمش عن أبي ظبيان عن جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: نزلنا الصَّفاح، فإذا رجلٌ نائم تحتَ شجرة قد كادتِ الشمسُ أنْ تبلغه، قال: فقلتُ للغلام: انطلق بهذا النِّطع فأظله، قال: فانطلق فأظلَّهُ، فلما استيقظَ إذا هو سلمان فأتيته أُسلِّمُ عليه (3) ، فقال: يا جريرُ، تواضع للَّه، فإنَّهُ من تواضع للَّه في الدنيا رفعه اللَّهُ يوم القيامة، يا جرير، هل تدري ما الظلماتُ يوم القيامة؟ قلتُ: لا أدري، قال: ظلمُ النَّاسِ بينهم، ثمَّ أخذ عويدًا، لا أكادُ أراهُ بين أصبعيه، فقال: يا جرير، لو طلبت في الجنة مثل هذا لم تجده، قلتُ: يا أبا عبد اللَّهِ، فأينَ النخلُ والشجرُ؟ قال: أصولها اللؤلؤ والذهبُ وأعلاها الثمر" (4) . __________ (1) في الزهد لابن المبارك "إنَّ أرض". (2) تقدم الكلام عليه في الباب (34) ص (286). (3) قوله: "أسلم عليه" ليس في "ب، د". (4) أخرجه أحمد في الزهد رقم (810) مختصرًا، وهناد في الزهد رقم (98)، والبيهقي في البعث رقم (316) وغيرهم. - ورواهُ وكيع وابن نمير عن الأعمش به نحوه. أخرجه وكيع في الزهد رقم (215)، والبيهقي في البعث رقم (317)، وأحمد في الزهد (810). وسنده صحيح.

(1/357)


 الباب الخامس والأربعون في ثمارها وتعدُد أنواعها وصفاتها وريحانها

قال اللَّهُ تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]. وقولهم: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25]: أي شبيهه ونظيره لا عَيْنَهُ، وهل المراد أنَّ هذا الَّذي رُزقنا في الدنيا نظيره من الفواكه والثمارِ، أو هذا نظيرُ الَّذي رزقنا في الجنة قبلُ؟ قيل: فيه قولان: ففي "تفسير السُّدي" عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالح: عن ابن عباس، وعن مُرَّة عن ابن مسعود: وعن ناس من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قالوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أنَّهم أُتُوا بالثمرة في الجنَّة، فلمَّا نظروا إليها قالوا: هذا الَّذي رزقنا من قبل (1) في الدنيا" (2). __________ (1) قوله: "من قبل" سقط من "ب". (2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 385 - 386) رقم (512) (ط: دار المعارف). وسنده ضعيف. وهي سلسلة فيها غرابة؛ لأنَّها من رواية أسباط بن نصر، ولعلَّه لهذا السبب، لم يخرجها ابن أبي حاتم في تفسيره. قال الخليلي: ". . . لكن التفسير الَّذي جمعه رواه أسباط بن نصر، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أنَّ أمثل التفاسير تفسير السدي. . " الإرشاد (1/ 398).

(1/358)


قال مجاهد: "ما أشبهه به" (1) . وقال ابن زيد: " {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}: في الدنيا، {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}: يعرفونه" (2) . وقال آخرون: هذا الَّذي رُزِقْنَا من قبل من ثمار الجنَّة، من قبل هذا، لشدة مشابهة بعضه بعضًا في الَّلون والطَّعم (3) . واحتجَّ أصحاب هذا القول بحُجَجٍ: أحَدُها: أنَّ المشابهة التي (4) بين ثمار الجنَّة بعضها لبعض أعظمُ من المشابهة التي بينها وبين ثمار الدنيا، ولشدة المشابهة قالوا: هذا (5) هو. الحجة الثانية: ما حكاه ابن جرير عنهم قال: "ومن عِلَّة قائلي هذا القول أنَّ ثمار الجنَّة كلمَّا نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله، كما حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن مَهْدِي، حدثنا سفيان سمعتُ عمرو بن مُرَّة يحدِّث عن أبي عُبَيْدة، وذكر ثمر الجنَّة، قال: "كُلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى" (6) . __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 386) رقم (514 و 515). وسنده حسن. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 386) رقم (516). وسنده صحيح. (3) انظر: تفسير الطبري (1/ 386). (4) في "ب": "الَّذي". (5) من "أ". (6) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 386) رقم (517). وسيأتي الكلام عليه وأنَّه من قول مسروق في ص (388 - 389).

(1/359)


الحجَّة الثالثة: قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] وهذا كالتعليل والسبب (1) الموجب لقولهم: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25]. الحجة الرابعة: أنَّ من المعلوم أنَّه ليس كل ما في الجنَّة من الثمار قد رزقوه في الدنيا، وكثير من أهلها لا يعرفون ثمار (2) الدنيا ولا رأوها. ورجحت طائفة منهم: ابن جرير وغيره القول الآخر، واحتجَّت بوجوه. قال ابن جرير: "والَّذي يحقق صحة قول القائلين: إنَّ معنى ذلك {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] في الدنيا، أنَّ اللَّهَ جلَّ ثناؤه قال: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} [البقرة: 25] يقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] ولم يُخَصِّص أنَّ ذلك من قِيْلهم في بعضٍ دون بعض (3) ، فإنْ كان قد أخبر جلَّ ذكره عنهم أنَّ ذلك من قيلهم كلما رزقوا ثمرة، فلا شكَّ أنَّ ذلك من قيلهم في أوَّل رزقٍ رُزِقُوْهُ من ثمارها أُتُوا به بعد دخولهم الجنَّة، واستقرارهم فيها، الَّذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة، فإذ (4) كان لا شك أنَّ ذلك من قيلهم __________ (1) في "أ، جـ، هـ": "والمسبَّب". (2) في "ب": "أثمار". (3) قوله "دون بعض" سقط من "ج". (4) في "هـ": "فإذا".

(1/360)


في أوَّله، كما هو من قيلهم في أوسطه (1) ، وما يتلوه؛ فمعلوم أنَّه محال أنْ يقولوا لأوَّل رزق رزقوه من ثمار الجنَّة: هذا الَّذي رزقنا من قبل هذا من ثمار الجنَّة، وكيف يجوز أنْ يقولوا لأوَّل رزق رزقوه (2) من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره منها: هذا (3) الَّذي رزقناه قبل (4) ، إلَّا أنْ ينسبهم ذو غَيَّةٍ وضلالٍ إلى قيل الكذب، الَّذي قد طهَّرهم اللَّهُ منه، أو يدفعَ دافعٌ أنْ يكون ذلك من قِيْلهم لأوَّل رزقٍ يرزقونه من ثمارها، فيدفع صحة ما أوجب اللَّهُ صحته من غير نصب دلالةٍ على أنَّ ذلك في حال من أحوالهم دون حال، فقد تبين أنَّ معنى الآية: كلما رزقوا (5) من ثمرة من ثمار الجنَّة في الجنَّة رزقًا، قالوا: هذا الَّذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا" (6) . قلتُ: أصحاب القول الأول يخصُّون هذا العام بما عدا الرزق الأوَّل، لدلالة العقل والسياق عليه، وليس هذا ببدع من طريقة القرآن، وأنت مضطر إلى تخصيصه ولا بد بأنواع من التخصيصات: أحدها: أنَّ كثيرًا من ثمار الجنَّة وهي التي لا نظير لها في الدنيا، لا __________ (1) من "ب": والطبري، وفي باقي النسخ "وسطه". (2) سقط من "ب، ج". (3) في "ج، د، هـ": "هذا هو". (4) في الطبري "من قبل". (5) في "ب": "رزقوا منها من ثمرة. . . "، وفي الطبري "كلما رزق الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار. . . ". (6) انظر: تفسير الطبري (1/ 386 - 388).

(1/361)


يُقال فيها ذلك. الثاني: أنَّ كثيرًا من أهلها لم يُرْزَقُوا جميع ثمرات الدنيا التي لها نظير في الجنَّة. الثالث: أنَّهُ من المعلوم أنَّهم لا يستمرون على هذا القول أَبَدَ الآباد، كلَّما أكلوا ثمرةً واحدة قالوا: هذا الَّذي رزقناه في الدنيا، ويستمرون على هذا الكلام دائمًا إلى غير نهاية، والقرآن العزيز لم يقصد إلى هذا المعنى، ولا هو ممَّا يُعْتنى به من نعيمهم ولذتهم، وإنَّما هو كلام مبين خارجٌ على (1) المعتاد المفهوم من المخاطب. ومعناه: إنَّه يشبه (2) بعضه بعضًا، ليس أوَّله خَيْرًا من آخره، ولا هو ممَّا يَعْرض له ما يَعْرض لثمر الدنيا عند تقادم الشجر وكبرها من نقصان حملها، وصغر ثمرها وغير ذلك، بل أوَّله مثلُ آخره، وآخره مثل أوَّله، وهو خيار كله يشبه بعضه بعضًا، فهذا وجه قولهم. ولا يلزم مخالفه ما نصَّه اللَّهُ سبحانه وتعالى، ولا نِسْبَة أهل الجنَّة إلى الكذب بوجهٍ، والَّذي يلزمهم من التَّخصيص يلزمك نظيره وأكثر منه، واللَّهُ أعلم. وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]. __________ (1) وقع في "أ، ب" "عن". (2) في نسخةٍ على حاشية "أ": "أنَّ شَبَهَ".

(1/362)


فقال الحسن: "خيارٌ كله لا رَذْل فيه، ألم (1) تروا إلى ثمر الدنيا كيف يسترذلون بعضه، وأنَّ ذلك ليس فيه رذل" (2) . وقال قتادة: "خيارٌ لا رَذْلَ فيه، وإنَّ ثمار الدنيا ينفى (3) منها، ويرذل منها" (4) ". وكذلك قال ابن جريج وجماعة (5) . وعلى هذا، فالمراد بالمُتَشَابه المُتَوافِق والمُتَماثِل. وقالت طائفة أخرى: منهم ابن مسعود، وابن عباس، وناس من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "متشابهًا في الَّلون والمرأى، وليس يُشْبِهُ الطعمُ الطعمَ" (6) . قال مجاهد: "متشابهًا لونه مختلفًا طعمه" (7) ، وكذلك قال الربيع ابن أنس (8) ، وقال يحيى بن أبي كثير: "عشب الجنَّة الزعفران، __________ (1) في "ب": "ألا". (2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 389) رقم (520)، وسنده صحيح. (3) عند الطبري: "ينقى". (4) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 389 - 390) رقم (522) وسنده صحيح. (5) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 390) رقم (523) عن ابن جريج. وسنده صحيح. (6) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 390) رقم (524) وسنده ضعيف. قال ابن كثير: "هذا الإسناد يروى به السُّدِّي أشياء فيها غرابة". انظر: الإتقان للسيوطي (2/ 534). (7) أخرجه الطبري (1/ 390) رقم (525، 528) وغيره، وهو صحيح عنه. (8) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ص (9) البقرة، والطبري في تفسيره =

(1/363)


وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفاكهة، فيأكلونها، ثمَّ يأتونهم بمثلها فيقولون: هذا الَّذي جئتمونا به آنفًا، فيقول لهم الخدم (1) : كلوا فإنَّ اللون واحد، والطعم (2) مختلف، فهو قوله عزَّ وجل: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] " (3) . وقال طائفة: معنى الآية: أنَّه يشبه ثمر الدنيا، غيرَ أنَّ ثمر الجنَّة أفضل وأطيب. قال ابن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا: التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان (4) ، قالوا في الجنَّة: هذا الَّذي رزقنا من قبل، وأُتوا به متشابهًا: يعرفونه، وليس هو مثله في الطعم" (5) . واختار ابن جرير هذا القول، قال: "وقد دلَّلنا على فساد قول من قال: إنَّ معنى الآية: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] أي: في __________ = (1/ 39) رقم (527). وسنده حسن. (1) عند ابن أبي حاتم "الولدان". (2) في "ج": "والمطعم". (3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره رقم (262)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (353). وسنده صحيح. وأخرجه الطبري (1/ 387) رقم (518) بغير هذا اللفظ، وفيه ضعف. (4) في "ب": "التفاح والرمان" بدلًا من "التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان". (5) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 392) رقم (536)، وسنده صحيح.

(1/364)


الجنَّة، وتلك الدلالة على فساد ذلك القول (1) ، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] لأنَّ (2) اللَّهَ سبحانه وتعالى أخبر عن المعنى الَّذي من أجله قال القوم {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} بقوله (3) {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}. قلتُ: وهذا لا يدل على فساد قولهم لما تقدم. وقال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) } [ص: 50 - 51]، وقال تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) } [الدخان: 55]. وهذا يدلُّ على أمنهم (4) من انقطاعها ومضرتها. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) } [الزخرف: 72 - 73]. وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) } [الواقعة: 32 - 33]. أي لا تكون في وقتٍ دون وقتٍ، ولا تُمْنَع مِمَّن أرادها. وقال تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) } [الحاقة: 21 - 23]. __________ (1) في "د": "وتلك الدلالة فساد، وذلك القول". (2) في جميع النسخ "أن"، والمثبت من الطبري. (3) قوله "بقوله" من تفسير الطبري (1/ 392 - 393). (4) في "ب": "أنهم" وهو خطأ.

(1/365)


والقطوف: جمع قِطْف، وهو ما يُقْطف. والقَطْف -بالفتح- الفِعْل، أي ثمارها دانية: قريبة ممَّن يتناولها، فيأخذها كيف يشاء، قال البراء بن عازب: "يتناول الثمرة وهو نائم" (1) . وقال تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14]. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: "إذا هَمَّ أنْ يتناول من ثمارها تدلَّتْ (2) إليه حتَّى يتناول ما يريد" (3) . وقال غيره: "قُرِّبت إليهم مُذلَّلة كيف شاؤوا، فهم يتناولوها قيامًا وقعودًا ومضطجعين" (4) ، فيكون كقوله: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (29/ 61)، وابن صاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1454)، والواحدي في الوسيط (4/ 346 - 347) وغيرهم. من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن البراء فذكره. وله طرق عن أبي إسحاق ستأتي. - ورواهُ أبو الضُّحى عن البراء، فذكره، وزاد "وهم جلوس، وعلى أي حال شاؤوا". أخرجه هناد في الزهد برقم (101) وسنده حسن. (2) في "ب": "تذلَّلت"، وفي "د" "تدلَّلت". (3) ذكره الواحدي في تفسيره الوسيط (4/ 403)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/ 436). وأخرج الطبري (27/ 150) عن ابن عباس قال في قوله {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)} [الرحمن: 54]، قال: ثمارها دانية. وسنده حسن. (4) انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (5/ 360)، وزاد المسير لابن الجوزي (8/ 436).

(1/366)


ومعنى تذليل القطف: تسهيل تناوله. وأهل المدينة يقولون: ذَلِّلِ النخل، أي سَوِّى عذوقه وأخرجها من السَّعف، حتَّى يسهل تناولها. وفي نصب {دَانِيَةٌ (23) } وجهان (1) : أحدهما: أنَّه على الحال عطفًا على قوله {مُتَّكِئِينَ}. والثاني: أنَّه صفة لـ {جَنَّةٍ}. وقال تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) } [الرحمن: 52]، وفي الجنتين الأخريين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) } [الرحمن: 68]. وخصَّ النخل والرُّمَّان من بين الفاكهة بالذِّكْرِ لفضلهما وشرفهما، كما نصَّ على حدائق النخل والأعناب في سورة النبأ، إذ هما من أفضل أنواع الفواكه، وأطيبها وأحلاها. وقال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15]. وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا علي بن المديني حدثنا ريحان بن سعيد عن عبَّاد (2) بن منصور، عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماءَ عن ثوبان رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ الرَّجلَ إذا نزعَ ثمرةً من الجنَّة عادتْ مكانها أخرى" (3) . __________ (1) انظر: تفسير الطبري (29/ 214). (2) في "ج": "عبادة" وهو خطأ. (3) أخرجه الطبراني في الكبير (2/ 102) رقم (1449)، والبزار في مسنده (10/ 123) رقم (4187)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (345). كلهم من طريق ريحان بن سعيد عن عبَّاد بن منصور به مثله. =

(1/367)


وقال عبد اللَّه بن الإمام أحمد: حدثني عُقبة بن مُكرم العمي، حدثنا رِبْعِي بن إبراهيم بن عُليَّة حدثنا عوف، عن قسامة بن زُهَير عن أبي موسى -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اهبط اللَّهُ آدم من الجنَّة، وعلَّمه صنعةَ كل شيءٍ، وزوَّده من ثمار الجنَّة، فثماركم هذه من ثمار الجنَّة، غير أنَّها تغيَّر، وتلك لا تغيَّر" (1) . وقد تقدَّم: أنَّ سدرة المنتهى نبقها مثل القلال (2) . وفي "صحيح مسلم" (3) من حديث أبي الزبير، عن جابر رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "عُرضت عليَّ الجنَّة حتى لو تناولت منها قطفًا __________ = وهو حديث منكر بهذا الإسناد، لتفرد عباد بن منصور به عن أيوب، وفيه ضعف، وكان قد تغيَّر. انظر: تهذيب الكمال (14/ 56 - 161). - ورواهُ إسحاق بن إدريس "كذَّاب يضع الحديث" عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة به بنحوه. أخرجه البزار في مسنده (10/ 123) رقم (4188)، والحاكم في المستدرك (4/ 496) رقم (8390) مطوَّلًا جدًّا. وقال الحاكم: "هذا الحديث عن ثوبان لا نعلمه يروى عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجهٍ متصل عنه بأحسن من هذا الإسناد، ولا نعلم روى حديث أيوب إلَّا عبَّاد بن منصور، ولا رواهُ عن عباد إلَّا ريحان، ولا نعلمُ روى حديث يحيى ابن أبي كثير إلَّا إسحاق بن إدريس عن أبان". قال البرديجي: "فأمَّا حديث ريحان عن عباد عن أيوب عن أبي قلابة فهي مناكير". (1) تقدم الكلام عليه في ص (64). والصواب فيه موقوف. (2) أخرجه البخاري رقم (3035) من حديث أنس رضي اللَّهُ عنه. (3) رقم (904).

(1/368)


أخذته". وفي لفظ: "فتناولت منها قطفًا فقصرت عنه يدي" (1) . وقال أبو خيثمة: حدثنا عبد اللَّه بن جعفر، حدثنا عبيد اللَّه، حدثنا ابن عقيل، عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتقدمنا، ثم تناول شيئًا ليأخذه ثم تأخر، فلمَّا قضى الصلاة قال له أُبي بن كعب: يا رسول اللَّه، صنعت اليوم في الصلاة شيئًا، ما كنت تصنعه؟ قال: "إنه عرضت عليَّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة، فتناولت منها قطفًا من عنب لآتيكم به، فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه" (2) . __________ (1) انظر: المصدر السَّابق، وهو من شك أحد الرواة. (2) أخرجه أحمد (3/ 352) و (5/ 137)، وعبد بن حميد برقم (1036). من طريق زكريا بن عدي والحسين المروزي وأحمد بن عبد الملك كلهم عن عبيد اللَّه بن عمرو عن ابن عقيل عن جابر فذكره. - ورواهُ أحمد بن عبد الملك والعلاء الرقي عن عبيد اللَّه بن عمرو عن ابن عقيل عن الطفيل عن أبيه أُبي بن كعب فذكره. أخرجه أحمد في المسند (5/ 138)، والحاكم في المستدرك (4/ 647) رقم (8788) مطوَّلًا. والحديث تفرَّد به ابن عقيل بهذا اللفظ، والسِّياق فيه غرابة، وابن عقيل في حفظه ضعف. - فقد رواهُ أبو الزبير -كما تقدَّم- وعطاء عن جابر ولم يذكر ما ذكره ابن عقيل. أخرجه مسلم برقم (904)، وأحمد (3/ 317 و 335) وغيرهما.

(1/369)


وقال ابن المبارك: أنبأنا سفيان، عن حماد، عن (1) سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ثمرُ الجنَّة أمثال القلال والدلاء، أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وألينُ من الزُّبْدِ، ليس فيه عَجَم" (2) . وقال سعيد بن منصور: حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي اللَّه عنه قال: "إنَّ أهل الجنَّة يأكلون من ثمار الجنَّة قيامًا وقعودًا، ومضطجعين على أيِّ حالٍ شاؤوا" (3) . وقال البزار في "مسنده": حدثنا أحمد بن الفرج الحمصي حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي حدثنا محمد بن المهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى قال: حدثني كريب أنَّه سمع أُسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألَا مُشمرٌ للجنَّة، فإنَّ الجنَّة لا خطر لها، هي وربِّ الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مطردٌ، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناءُ جميلة، وحلَلٌ كثيرة في مقام أبدٍ، في دارٍ سليمة، وفاكهة وخضرةٍ، وحِبَرةٍ ونعمةٍ في محلَّةٍ عاليةٍ بهيَّة، قالوا: نعم __________ (1) في "ب" "بن" وهو خطأ. (2) تقدم في الباب (44) ص (354)، بلفظ "نخل الجنة. . . ". (3) أخرجه البيهقي رقم (313)، وابن المبارك في الزهد -رواية نُعَيم- رقم (67) وغيرهما. وقد توبع شريك القاضي: تابعه شعبة وإسرائيل والثوري وزكريا. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 34074)، وهناد في الزهد رقم (100)، والطبري في تفسيره (29/ 61) وغيرهم. انظر: فتح الباري (6/ 321).

(1/370)


يا رسول اللَّه، نحن المشمرون لها: قال: قولوا: إنْ شاء اللَّهُ، قال: القوم: إنْ شاء اللَّه" (1) . قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمُ من رواهُ عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلَّا أسامة، ولا نعلم له طريقًا عن أسامة إلَّا هذا الطريق، ولا نعلم رواهُ عن الضحاك المعافري إلَّا هذا الرجل محمد بن مهاجر". وفي حديث لَقِيْط بن صَبِرَة (2) الَّذي رواه عبد اللَّه بن أحمد في "مسند أبيه" وغيره: قلتُ: يا رسول اللَّهِ على ما نطَّلع من (3) الجنَّة؟ قال: على أنهار من عسلٍ مصفَّى، وأنهار من كأس ما بها صُدَاع، ولا نَدامة، وأنهار من لبنٍ لم يتغير طعمه، وماءٍ (4) غير آسن، وبفاكهة، لعَمْر إلهك ممَّا تعلمون، وخير من (5) مثله معه" (6) . وأمَّا الرَّيْحَانة: فهو كل نبت طيِّب الرَّائحة. قال الحسن وأبو العالية: "هو ريحاننا هذا، يؤتى بِغُصْنٍ من (7) ريحان الجنَّة فنشمُّه" (8) . __________ (1) تقدم تخريجه في ص (291). (2) في "ب": "عامر" وهو خطأ. (3) وقع في "هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "في". (4) وقع في "ب، د": "وأنَّهار من ماء". (5) سقط من "ب". (6) تقدم الكلام عليه في ص (126 - 127). (7) سقط من "ج". (8) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 212) وسنده إلى الحسن: صحيح. وسنده إلى أبي العالية: ضعيف.

(1/371)


 الباب السادس والأربعون في زرع الجنَّة

قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ (1) الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]. وعن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يومًا يحدث -وعنده رجلٌ من أهل البادية-: "أنَّ رجلًا من أهل الجنَّة استأذنَ ربَّهُ عزَّ وجلَّ في الزرع فقال له: أولستَ فيما اشتهيت؟ فقال: بلى، ولكن (2) أحبُّ أنْ أزرع، فأسرع وبذرَ فبادر الطَّرْف نباته واستواؤُهُ واستحصاده وتكويره أمثال الجبال فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: دونك يا ابنَ آدم، فإنَّه لا يشبعك شيءٌ، فقال الأعرابي: يا رسول اللَّه لا نجدُ هذا إلَّا قُرَشيًّا أو أنصاريًّا، فإنَّهم أصحاب زرعٍ، فأمَّا نحنُ فلسنا بأصحاب زرع فضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (3). رواهُ البخاري في كتاب التوحيد في باب كلام الربِّ تعالى مع أهل الجنَّة، وخرَّجه في غيره أيضًا (4). __________ (1) هي قراءة ابن كثير وغيره، راجع (ص/ 11). (2) في "ب، ج، د، هـ": "ولكنِّي". (3) أخرجه البخاري في صحيحه في (100) التوحيد، (38) باب: كلام الرب تعالى مع أهل الجنَّة (6/ 2733) رقم (7081). (4) في (46) الحرث والمزارعة (16)، باب: كِراء الأرضِ بالذهب والفضة (2/ 826) رقم (2221).

(1/372)


وهذا يدلُّ على أنَّ في الجنَّة زرعًا، وذلك البَذْرُ منه، وهذا أحسنُ أنْ تكون الأرض معمورةً بالشَّجر والزرع. فإنْ قيل: فكيف استأذن هذا الرجل ربَّه في الزرع، فأخبره أنَّه (1) في غنْيةٍ عنه؟ قيل: لعلَّه استأذن في زرع يباشره ويبذره بيده، وقد كان في غُنيةٍ عن ذلك وقد كُفِي مؤونته، ولا أعلم ذكر الزرع في الجنَّة إلَّا في هذا الحديث، واللَّهُ أعلم. وروى إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة قال: بينما رجل في الجنَّة، فقال في نفسه: لو أنَّ اللَّهَ يأذن لي لزرعتُ، فلا يعلمُ إلَّا والملائكة على أبوابه فيقولون: سلامٌ عليك، يقول لك ربُّك: تَمَنَّيْتَ في نفسك شيئًا فقد علمته، وقد بُعِثَ معنا البذرُ، فيقول: ابذروا فيخرج أمثال (2) الجبال، فيقول له الربُّ من فوق عرشه: كلْ يا ابنَ آدمَ فإنَّ ابن آدم لا يشبع" (3) . واللَّهُ أعلم. __________ (1) سقط من "ج". (2) في نسخةٍ على حاشية "أ": "مثل". (3) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 334) مطوَّلًا، وموفق الدَّين بن قدامة المقدسي في إثبات صفة العلو رقم (69) مطوَّلًا. وفيه: إبراهيم بن الحكم العدني وهو في الأصل لم يكن به بأس، ثمَّ زاد في الأحاديث المرسلة ووصلها حتى اتفقوا على ضعفه. انظر: تهذيب الكمال (2/ 74 - 76). قال الذهبي في العلو (1/ 895): "إسناده ليس بذاك".

(1/373)


 الباب السابع والأربعون في ذكر أنهار الجنَّة وعيونها وأصنافها ومجراها الَّذي تجري عليه

وقد تكرَّر في القرآن في عدَّة مواضع قوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]، وفي موضع: {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا} [التوبة: 100]، وفي موضع: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [يونس: 9]. وهذا يدلُّ على أمور: أحدها: وجود الأنهار فيها حقيقة. الثاني: أنَّها جارية لا واقفة. الثالث: أنَّها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم، كما هو المعهود في أنهار الدنيا. وقد ظنَّ بعض المفسرين أنَّ معنى ذلك جريانها بأمرهم، وتصريفهم لها كيف شاؤوا، وكأنَّ الَّذي حملهم على ذلك أنَّه لمَّا سمعوا أنَّ أنهارها تجري في غير أخدودٍ، فهي جارية على وجه الأرض حملوا قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} على أنَّها تجري بأمرهم، إذْ لا يكون فوق المكان تحته. وهؤلاء أُتُوا من ضعف الفَهم، فإنَّ أنهار الجنَّة وإنْ جَرَتْ في غير أخدود؛ فهي تحت القصور والمنازل والغرف، وتحت الأشجار، وهو سبحانه وتعالى لم يقل: من تحتِ أرضها، وقد أخبر سبحانه عن

(1/374)


جريان الأنهار تحت النَّاس في الدنيا، فقال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام: 6]، فهذا على المعهود المتعارف، وكذلك ما حكاهُ من قولِ فرعون: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51]. وقال تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) } [الرحمن: 66]. قال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن يمان عن أشعث عن جعفر عن (1) سعيد قال: "نضَّاختان بالماءِ والفواكه" (2) . وحدثنا ابن يَمَان عن أبي إسحاق عن أبان عن أنس رضي اللَّه عنه قال: "نضَّاختان: بالمسكِ والعنبر، تنضخان على دُوْرِ أهل الجنَّة، كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا" (3) . __________ (1) في "ب": "ابن" وهو خطأ. (2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 65) رقم (34044) وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (71)، والطبري في تفسيره (27/ 156). وخولف أشعث: فرواهُ يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد قال: "نضَّاختان بألوان الفاكهة". أخرجه الطبري (27/ 156)، وابن صاعد في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (1535)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 287). وهذا اللفظ أصح، ولعلَّ يحيى بن اليمان لم يضبطه. وعليه فالأثر سنده حسن. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (72)، وابن أبي حاتم في تفسيره، =

(1/375)


وحدثنا عبد اللَّه بن إدريس عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء رضي اللَّه عنه قال: "اللتان تجريان أفضل من النَّضَّاختين" (1) . وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15]. فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة، ونفى عن كلِّ واحدٍ منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أنْ يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة، وأنْ يصير قارصًا، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذَّة شربها، وآفة العسلِ عدم تصفيته. وهذا من آيات الرب تعالى أنْ يُجري أنهارًا من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويُجْرِيْها في غير أخدود، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللَّذة بها، كما نفى عن خمر الجنَّة جميع آفات خمر الدنيا، من الصداع والغَوْلِ والَّلغوِ والإنزافِ وعدم الَّلذة. __________ = كما في الدر المنثور (6/ 209). وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبان بن أبي عياش البصري: متروك الحديث. التقريب رقم (142). (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (73)، وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفسيريهما كما في الدر المنثور (6/ 209). وسنده صحيح. وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره كما في الدر (6/ 209) بلفظ: "ما النضاختان بأفضل من الَّلتين تجريان".

(1/376)


فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا: تغتال العقل، وتكثر الَّلغو على شربها؛ بل لا يطيب لشرابها ذلك إلَّا بالَّلغو، وتنزف في نفسها، وتنزف المال، وتصدِّع الرَّأس، وهي كريهة المذاق. وهي رجس من عمل الشيطان، توقع العداوة والبغضاءِ بين النَّاسِ، وتصُد عن ذكر اللَّهِ وعن الصلاة، وتدعو إلى الزِّنا، وربما دعتْ إلى الوقوع على البنت والأُخت وذوات المحارم، وتُذْهِب الغَيْرة، وتورث الخِزْي والنَّدامة والفضيحة، وتُلْحِق شاربها بأنقص نوع الإنسان: وهم المجانين، وتسلبه أحسن الأسماءِ والسماتِ، وتكسوهُ أقبح الأسماء والصفاتِ، وتسهِّل قتل النَّفس، وإفشاء السرِّ الَّذي في إفشائه مضرَّته أو هلاكه، ومؤاخاة الشياطين في تبذير المالِ، الَّذي جعله اللَّهُ قيامًا له، ولمن (1) تلزمه مؤنته، وتهتك الأستار، وتظهر الأسرار، وتدلُّ على العورات، وتهوِّن ارتكاب القبائح والمآثم، وتخرج من القلب تعظيم المحارم، ومُدْمِنها كعابدِ وثنٍ، وكم أهاجت من حرْبٍ، وأفقرتْ من غنيٍّ، وأذلَّتْ من عزيز، ووضعتْ من شريفِ، وسلبتْ من نعمة، وجلبتْ من نقمة، ونسختْ مودَّة، ونسجتْ عداوة، وكم فرَّقتْ بين رجلٍ وحِبِّهِ فذهبت بقلبه، وراحت بلُبِّهِ، وكم أورثتْ من حسرةٍ وأجرتْ من عَبْرة، وكم أغلقتْ في وجه شَاربها بابًا من الخير، وفتحت له بابًا من الشرِّ، وكم أوقعت في بليَّه، وعجَّلت من منية، وكم أورثت من خزية، وجرَّت على صاحبها (2) من محنة، وجرأت عليه من سَفَلةٍ، فهي جماع __________ (1) في "ب، ج، د": "ولم". (2) في "ب، ج، د، هـ" ونسخة على حاشية "أ": "شاربها".

(1/377)


الإثم، ومفتاح الشرِّ، وسلَّابة النِّعم، وجالبة النقم، ولو لم يكن من قبائحها (1) إلَّا أنَّها لا تجتمع هي وخمرة الجنَّة في جوف عبدٍ، كما ثبت عنه (2) -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة" (3) . وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وكلها منتفية عن خمر الجنَّة. فإنْ قيل: فقد وصفَ سبحانه الأنهارَ بأنَّها جارية، ومعلوم أنَّ الماء الجاري لا يأسن، فما فائدة قوله: {غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15]؟ قيل: الماء الجاري وإنْ كان لا يأسَن، فإنَّه إذا أُخِذَ منه شيء وطال مكثه أسن، وماء الجنَّة لا يَعْرض له ذلك، ولو طال مكثه ما طال. وتأمَّل اجتماع هذه الأنهار الأربعة، التي هي أفضل أشربة النَّاس، فهذا لريِّهم وطهورهم، وهذا لقوَّتهم وغذائهم، وهذا للذَّتهم وسرورهم، وهذا لشفائهم ومنفعتهم. __________ (1) في "أ، ب، ج، د، هـ": "فضائلها" وهو خطأ، والمثبت قاله ناسخ "هـ"، ووقع في المطبوع "رذائلها". (2) في "هـ"، ونسخة على حاشية "أ" "عنه ذلك". (3) أخرجه البخاري برقم (5253)، ومسلم رقم (2003) من حديث ابن عمر، واللفظ لمسلم مختصرًا وعند البخاري "حرمها" بدل "لم يشربها". تنبيه: وقع في المطبوعة بعد الحديث زيادة: "لكفى".

(1/378)


فصل (1) وأنهار الجنَّة تتفجَّر من أعلاها، ثمَّ تنحدر نازلةً إلى أقصى درجاتها، كما روى البخاري في "صحيحه" (2) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "إنَّ في الجنَّة مئة درجة أعدَّها اللَّهُ عزَّ وجلَّ للمجاهدين في سبيله بين كلِّ درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللَّهُ فاسألوهُ الفردوس، فإنَّه وسطُ الجنَّة، وأعلى الجنَّة، وفوقه عرشُ الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنَّة". وروى الترمذي نحوه من حديث معاذ بن جبل وعُبادة بن الصامت، ولفظ حديث عُبَادة: "الجنَّة مئةُ درجةٍ ما بين كلِّ درجتين مسيرة مئة عام، والفردوس أعلاها درجة، ومنها الأنهارُ الأربعة، والعرشُ فوقها، فإذا سألتم اللَّه فاسألوهُ الفردوسَ الأعلى" (3). وفي "معجم الطبراني" (4) من حديث الحسن عن سمرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الفردوس ربوةُ الجنَّة، وأعلاها وأوسطها، ومنها تفجرُ أنهار الجنَّة" (5). __________ (1) سقط من "ب". (2) تقدم في ص (134). (3) تقدم في ص (132 - 133). (4) في "ب، ج، د، هـ": "المعجم للطبراني". (5) أخرجه الطبراني في الكبير (7/ 258) رقم (6885، 6886) وفي مسند الشاميين (4/ رقم 2650)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (11)، والطبري في تفسيره (16/ 38)، والبزار في مسنده (10/ 430) رقم (4582). =

(1/379)


وفي "صحيح البخاري" (1) من حديث شعبة عن قتادة قال: أخبرني أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "رفعت لي (2) سدرة المنتهى في السماء السابعة، نبقها مثلُ قلال هَجَر، وورقها مثل آذانِ الفيلة، ويخرج من أصلها نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلتُ: يا جبريل، ما هذا؟ قال: أما النهران الباطنان ففي الجنَّة، وأمَّا النهرانِ الظاهران، فالنيل والفرات". __________ = من طريق سعيد بن بشير والحكم بن عبد الملك -ضعيف- عن قتادة عن الحسن عن سمرة فذكره. ولفظُ الحكم: "الفردوس ربوة الجنة، فإذا سألتم اللَّه تبارك وتعالى فاسألوهُ الفردوس" لفظ البزار. - ورواهُ إسماعيل بن مسلم -ضعيف- عن الحسن عن سمرة فذكره. أخرجه الروياني في مسنده رقم (789)، والطبري في تفسيره (16/ 38)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (86). - ورواهُ خبيب بن سليمان بن سمرة "مجهول" عن أبيه "فيه جهالة" عن سمرة بن جندب أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقول لنا: "إنَّ الفردوس هي ربوة الجنَّة الوسطى التي هي أرفعها وأحسنها". أخرجه الطبراني في الكبير (7088)، والبزار (4650). - ورواهُ روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: "الفردوس: ربوة الجنَّة، وأوسطها وأفضلها". أخرجه الطبري في "تفسيره" (16/ 38). قلتُ: ولعلَّ هذا أصح الطرق وأرجحها. واللَّه أعلم. (1) معلَّقًا برقم (5287)، وهو معلول سندًا ومتنًا، كما بيَّن ذلك البخاري بعد ذِكْره طريق شعبة، انظر: فتح الباري (10/ 73). (2) في البخاري "إليَّ".

(1/380)


وفي "صحيحه" (1) أيضًا من حديث همام عن قتادة عن أنس أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بينا أنا أسيرُ في الجنَّة، إذا أنا بنهرٍ حافتاهُ قبَابُ اللؤلؤِ المجوَّفِ، فقلتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكوثر الَّذي أَعطاك ربُّك، قال: فضرب الملك بيده، فإذا طينه أذفر (2) ". وفي "صحيح مسلم" (3) من حديث المختار بن فلفل عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الكوثرُ نهرٌ في الجنَّة وَعَدَنِيْه ربي عزَّ وجلَّ" (4) . وقال محمد بن عبد اللَّه الأنصاري: حدثنا حُميد الطَّوِيْل عن أنس ابن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دخلت الجنَّة فإذا بنهر يجري حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربتُ بيدي إلى ما يجري فيه من الماءِ، فإذا أنا بمسكٍ أذفر، فقلتُ: لمن هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثرُ الَّذي أعطاكه اللَّهُ عزَّ وجلَّ". وقال الترمذي: حدثنا هَنَّادٌ حدثنا محمد بن فُضَيْل عن عطاء بن __________ (1) رقم (6210). (2) في نسخةٍ على حاشية "أ": "المسك الأذفر". (3) رقم (400). (4) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (327). ورواهُ عبد الوهاب الثقفي ويحيى القطان وابن أبي عدي وعبد اللَّه بن بكر وغيرهم عن حميد عن أنس فذكره. أخرجه أحمد (3/ 103 و 115 و 263)، وابن أبي شيبة (7/ رقم 34094) وهنَّاد في الزهد رقم (134)، والطبري في تفسيره (30/ 323 - 324). وهو حديث صحيح.

(1/381)


السائب عن محارب بن دِثار عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الكوثر نهرٌ في الجنَّة حافتاهُ من ذهب، ومجراهُ على الدر والياقوتِ، تربته أطيبُ من المسك، وماؤه أحلى من العسلِ، وأبيضُ من الثلج" (1) . قال: "هذا حديثٌ حسن صحيح". وقال أبو نعيم الفضل: حدثنا أبو جعفر -هو الرَّازي- حدثنا ابن أبي نَجِيح عن مجاهد: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1 )} [الكوثر: 1] قال: "الخير الكثير" (2) . وقال أنس بن مالك: "نهرٌ في الجنَّة" (3) . __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (3360)، وابن ماجه (4334). - وهكذا رواهُ ورقاء وأبو عوانة وحماد بن زيد وسعيد بن زيد وغيرهم كلهم عن عطاء به بنحوه مرفوعًا. أخرجه أحمد في المسند (2/ 67 و 112)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (326)، وابن حبيب في وصف الفردوس رقم (65) وغيرهم. - ورواهُ أبو الأحوص وجرير كلاهما عن عطاء به موقوفًا. أخرجه هنَّاد في الزهد رقم (131)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (67). قلتُ: عطاء اختلط؛ ولكن رفعه صحيح؛ لأنَّ حماد بن زيد سمع من عطاء قبل اختلاطه، والحديث صححه الترمذي. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 322)، وابن مردويه في تفسيره كما في الدر (6/ 687). من طريق عيسى بن ميمون وورقاء كلاهما عن ابن أبي نجيح به مثله. وسنده حسن. (3) أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 321)، وابن مردويه في تفسيره (كما في الدر =

(1/382)


وقالت عائشة رضي اللَّه عنها: "هو نهرٌ في الجنَّة ليس أحدٌ يدخل إصبعيه في أذنيه إلَّا سمع خرير ذلك النهر" (1) . وهذا معناهُ -واللَّهُ أعلم- أنَّ خرير ذلك النَّهر يشبه الخرير الَّذي يسمعه حين يدخل أصبعيه في أذنيه. وفي "جامع الترمذي" من حديث الجُرَيري عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنَّة بحرَ الماءِ، وبحر العسلِ، __________ = (6/ 687). من طريق ابن أبي نجيح عن أنس فذكره. وسنده منقطع. (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (68). من طريق محمد بن ربيعة عن أبي جعفر الرَّازي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عائشة فذكرته بمثله. وقد اضطرب فيه أبو جعفر الرَّازي، وفيه ضعف، وعنده مناكير. - فرواهُ وكيع عن أبي جعفر عن ابن أبي نجيح عن عائشة بمثله. أخرجه هناد في الزهد رقم (141) وغيره. - ورواهُ أبو النضر وشبابه عن أبي جعفر الرَّازي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن رجلٍ عن عائشة بمثله. أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 320). - ورواهُ عيسى بن عبد اللَّه عن ابن أبي نجيح قالت عائشة فذكره بمثله. أخرجه البيهقي في البعث رقم (143). وهذا هو الصواب أنَّه منقطع. قال ابن كثير: "وهذا منقطع بين ابن أبي نجيح وعائشة، وفي بعض الرِّوايات عن رجلٍ عنها، ومعنى هذا أنَّه يسمع نظير ذلك لا أنَّه يسمعه نفسه، واللَّه أعلم" تفسير ابن كثير (4/ 596).

(1/383)


وبحرَ اللبن، وبحر الخمر، ثمَّ تشقق الأنهار بعدُ" (1) . قال: "هذا حديث حسن صحيح". وقال الحاكمُ: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن قرَّة عن عبد اللَّه بن ضمرة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من سرَّهُ أنْ يسقيه اللَّهُ عزَّ وجلَّ من الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا، ومن سرَّهُ أنْ يكسوهُ اللَّه الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا، أنهار الجنَّة تَفَجَّرُ من تحت تِلَالِ، أو تحت جبال المسكِ، ولو كان أدنى أهل الجنَّة حليةً عدلتْ بحلية أهل الدنيا جميعًا؛ لكان ما يحليه اللَّه به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعًا" (2) . __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (2566)، وأحمد في المسند (5/ 5). ورواهُ خالد الواسطي عن علي بن عاصم عن الجريري به مثله. أخرجه عبد بن حميد في مسنده (المنتخب رقم 410)، وابن أبي داود في البعث رقم (70)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 204 - 205)، وفي صفة الجنَّة رقم (307)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7409) وغيرهم. والحديث صححه الترمذي وابن حبان. والحديث معدود من غرائب حكيم بن معاوية. فقد قال أبو نعيم: "غريب عن الجريري، تفرَّد به حكيم". قال علي بن عاصم: "فحدَّثْتُ بهذين الحديثين (انظر: الحديث الآخر ص (116) بهز بن حكيم، فقال: لم أسمعها". انظر: الكامل لابن عدي (2/ 67)، وراجع ص (116). (2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (البقرة) رقم (243) مختصرًا، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (313) مختصرًا، والبيهقي في البعث رقم (292). =

(1/384)


وذكر الأعمش عن عبد اللَّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللَّهِ قال: "إنَّ أنهار الجنَّة تُفجرُ من جبل مسكٍ" (1) . وهذا موقوفٌ صحيح. __________ = من طريق الربيع بن سليمان به بمثله. ورواهُ يوسف بن كامل القراطيسي ومقدام بن داود المصري وعبد الملك ابن حبيب كلهم عن أسد بن موسى به مختصرًا. أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (62)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 326)، وابن حبان في صحيحه (16/ 4708)، والطبراني في الأوسط رقم (8879)، وفي كتاب "مَنْ اسمه عطاء" (12). قال الطبراني: "لم يرو هذين الحديثين عن ابن ثوبان إلَّا أسد بن موسى". قال العقيلي في ترجمة "عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان" بعد أنْ ذكر هذا الحديث وغيره فيما ينكر عليه قال: "ولا يتابعه إلَّا مَنْ هو دونه أو مثله". وعليه فالحديث ضعيف الإسناد لتفرُّد ابن ثوبان به وفيه ضعف. (1) أخرجه هناد في الزهد رقم (94)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 33947)، وابن أبي حاتم في تفسيره البقرة رقم (255)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (306)، والبيهقي في البعث رقم (293). من طريق وكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن عبد اللَّه بن مُرَّة عن مسروق عن ابن مسعود فذكره. - وخالفهما معمر، فرواهُ عن الأعمش عن عبد اللَّه بن مرة عن مسروق فذكر مثله، ولم يذكر "ابن مسعود". أخرجه عبد الرزاق (11/ 416) رقم (20873). والصوابُ الأوَّل من قول ابن مسعود، قال البيهقي: "هذا موقوف صحيح". تنبيه: وقع في جميع النسخ، وعند البيهقي "عمرو بن مُرَّة" وهو خطأ، والصوابُ عبد اللَّه بن مرَّة وهو الخارفي. ولعلَّ المؤلِّف نقل هذا من البعث للبيهقي بدليل قوله: "وهذا موقوف =

(1/385)


وذكر ابن مردويه في "مسنده" (1) : حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن النعمان حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الحارث بن عبيد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن قيس، عن أبيه رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذه الأنهار تَشْخُبُ من جنَّة عدنٍ في جَوْبَةِ، ثمَّ تصدَّعُ بعدُ أنهارًا" (2) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا يعقوب بن عبيد (3) حدثنا يزيد بن __________ = صحيح" وهو بعينه كلام البيهقي. (1) في "ب، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ": "تفسيره". (2) أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (531)، وأحمد (4/ 416)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 34098)، وعبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب رقم (545)، وابن أبي الدنيا برقم (84) وغيرهم. كلهم من طريق الحارث بن عبيد الإيادي عن أبي عمران الجوني فذكره. وخالفه عبد العزيز بن عبد الصمد العَمِّي في متنه. - فرواهُ عبد العزيز عن أبي عمران الجوني به بلفظ: "جنَّتان من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما. . . أخرجه البخاري رقم (4597)، ومسلم برقم (180)، وأحمد (4/ 411) وغيرهم. وهذا المتن هو الصحيح، ولفظُ الحارث الَّذي ساقه المؤلِّف منكر، فإنَّ الحارث ضعيف، وأمَّا عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّي فثقة حافظ. راجع بتوسع صفة الجنَّة لأبي نعيم رقم (141، 314)، والبعث لأبي داود رقم (58). (3) في "هـ": "عبيدة" وهو خطأ، وهو: النهر تيري، قال ابن أبي حاتم: صدوق. انظر: الجرح (9/ 210)، وتاريخ بغداد (14/ 282).

(1/386)


هارون حدثنا الجريري عن معاوية بن قُرَّة عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: "أظنُّكُم تظنون أنَّ أنهار الجنَّة أخدود في الأرض؟ لا واللَّه، إنَّها لسائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت، وطينه المسك الأذفر، قال قلتُ: ما الأذفر؟ قال: الَّذي لا خلط له" (1) . ورواهُ ابن مردويه في "تفسيره" عن محمد بن أحمد حدثنا محمد ابن أحمد (2) بن أبي يحيى (3) حدثنا مهدي بن حكيم حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الجُريري عن معاوية بن قُرَّة عن أنس بن مالك قال: قال __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (69)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 167 - 168) رقم (316). من طريق يعقوب بن عبيد وبشر بن معاذ كلاهما عن يزيد بن هارون به مثله موقوفًا. وخالفهما مهدي بن حكيم بن مهدي. - فرواهُ عن يزيد بن هارون به مثله مرفوعًا. - وأخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 168)، وابن مردويه في تفسيره كما ذكره المؤلف. والصحيح موقوفٌ؛ فإنَّ يعقوب وبشرًا صدوقان، وأمَّا مهدي بن حكيم فلم أقف لأحدٍ تكلَّم فيه أو ذَكَره إلَّا قول أبي الشيخ الأصبهاني "شيخ بصري قدم أصبهان. . ". طبقات المحدثين (3/ 252)، وأخبار أصبهان لأبي نعيم (2/ 321). ولهذا قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 518): "والموقوف أشبه بالصواب". (2) قوله "محمد بن أحمد" من "ب، ج، د، هـ". (3) في "ب": "بن يحيى" بدل "بن أبي يحيى".

(1/387)


رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرهُ هكذا، رواهُ مرفوعًا. وقال أبو خيثمة: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنَّه قرأ هذه الآية: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( 1)} [الكوثر: 1] فقال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أعطيت الكوثر فإذا هو يجري، ولم يُشقَّ شقًّا، وإذا حافتاهُ قبابُ اللؤلؤ، فضربتُ بيدي إلى تربته، فإذا مسكٌ أذفر، وإذا حصباؤه اللؤلؤ" (1) . وذكر سفيان الثوري، عن عمرو بن مُرَّة عن أبي عبيدة عن مسروق في قوله: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) } [الواقعة: 31] قال: "أنهار تجري في غير أخدود" قال: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) } [الشعراء: 148] قال: "من أصلها إلى فرعها، أو كلمة نحوها" (2) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (75)، وأحمد (3/ 247). من طريق عفان عن حماد به مثله. - ورواهُ عبد الصمد وهدبة بن خالد وعبد الرحمن بن سلام الجمحي كلاهما عن حماد بن سلمة به مثله. أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/ رقم 6471)، وأبو يعلى في مسنده (6/ رقم 3290). - ورواهُ حميد الطويل وقتادة عن أنس مثله كما تقدم. وهو حديث صحيح. (2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (320) بتمامه. من طريق أسود بن عامر عن الثوري به. ورواهُ عبد الرحمن بن مهدي ووكيع وغيرهما عن الثوري. ورواهُ المسعودي ومسعر بن كدام عن عمرو بن مرة به مقتصرًا على الشطر الأوَّل، وفيه زيادة تقدمت (ص/ 359). =

(1/388)


وفي "صحيح مسلم" (1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سيحان وجيحان والفراتُ والنيل: كلٌّ من أنهار الجنَّة". وقال عثمان بن سعيد الدَّارمي: حدثنا سعيد بن سابق حدثنا مسلمة (2) بن علي، عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أنزلَ اللَّهُ من الجنَّة خمسة أنهارٍ: سيحون: وهو نهرُ الهندِ، وجيحون: وهو نهرُ بلْخٍ، ودجلة والفراتَ: وهما نهرا العراقِ، والنيل: وهو نهرُ مصرَ، أنزلها اللَّهُ من عينِ واحدةٍ من عيون الجنَّة من أسفل درجةٍ من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام، فاستودعها الجبالَ، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للنَّاس في أصناف معايشهم، فذلك قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] (3) ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أُرسل جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله، والحجرَ الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة فرفع ذلك كله إلى السماء، فذلك قوله __________ = أخرجه هناد في الزهد رقم (95, 103, 104)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 33948)، وابن صاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1490)، والطبري في تفسيره (1/ 170) وغيرهم. وهو أثرٌ صحيح. (1) رقم (2839). (2) في "د، هـ": "سلمة" وهو خطأ. (3) قوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} من "د" فقط.

(1/389)


تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) } [المؤمنون: 18]، فإذا رُفِعت هذه الأشياء من الأرضِ، فقد حُرِم أهلها خير الدنيا والآخرة" (1) . رواه أبو أحمد ابن عدي في ترجمة: مسلمة هذا مع أحاديث غيره، وقال: "عامة أحاديثه (2) غير محفوظة، وبالجملة فهو من الضعفاء". قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال أبو حاتم: "لا يُشْتَغَلُ به" (3) . وقال عبد اللَّه بن وهب: حدثنا سعيد بن أبي (4) أيوب عن عُقَيل بن خالد عن الزهري أنَّ ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "إنَّ في الجنَّة نهرًا يُقال له: البَيْذَخُ، عليه قِبَابٌ من ياقوتٍ تحته جوارٍ، يقول أهل الجنَّة: انطلقوا بنا إلى البَيْذَخ، فيتصفَّحون تلك الجواري، فإذا أعجب رجلًا منهم جاريةٌ مسَّ مِعصَمها فتتبعه" (5) . __________ (1) أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (6/ 315)، وابن حبان في المجروحين (3/ 34 - 35)، والخطيب في تاريخه (1/ 79 - 80) وغيرهم. من طريق سعيد بن سابق به نحوه. قال ابن عدي: "وهذان الحديثان: أحدهما: رواهُ مسلمة عن مقاتل،. . جميعًا غير محفوظين، بل هما منكرا المتن". (2) قوله: "غيره، وقال عامة حديثه" سقط من "ج". (3) انظر: ترجمته وأقوال العلماء فيه في تهذيب الكمال (27/ 567 - 571). (4) سقط من "ب، د". (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (70)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (324). وفي سنده انقطاع، فالزهري لم يسمع من ابن عباس، بل سمع من ابنه =

(1/390)


فصل وأمَّا العيون: فقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)} [الذاريات: 15]، وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} [الإنسان: 5 - 6]. قال بعض السلف: "معهم قضبان الذهب، حيثما مالوا مالت معهم" (1). وقد اختلف في قوله: {يَشْرَبُ بِهَا} [الإنسان: 6]: - فقال الكوفيون: الباء بمعنى مِنْ. أي يشرب منها (2). - وقال آخرون: بل الفعل مُضَمَّن (3). ومعنى يشرب بها: أي يروى بها، فلمَّا ضمَّنه معناه عدَّاه تعديته، وهذا أصح وألطف وأبلغ. - وقالت طائفة: الباء للظَّرفية، والعين اسم للمكان (4)، كما تقول: كنا بمكان كذا وكذا. ونظير هذا التَّضمين قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] ضُمِّنَ معنى يَهُمُّ (5) فَعُدِّيَ تَعْدِيته. __________ = علي بن عبد اللَّه بن عباس. انظر: تهذيب الكمال (26/ 424). (1) انظر: تفسير الطبري (29/ 208)، والدر المنثور (6/ 483). (2) في "هـ": "أي: من شرب منها". (3) من "أ"، وفي باقي النسخ "مُضْمَر"، والمثبت هو الصواب. (4) في "ب، ج": "مكان"، وفي "هـ": "المكان". (5) من "أ"، وفي باقي النسخ "بهم" وهو خطأ.

(1/391)


وقال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) } [الإنسان: 17، 18]، فأخبر سبحانه عن العين التي يشرب بها المقربون صِرْفًا؛ أنَّ شراب الأبرار يمزج منها؛ لأنَّ أولئك أخلصوا الأَعمال كلها للَّه، فأخلص شرابهم، وهؤلاء مزجوا، فمزج شرابهم. ونظير هذا قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) } [المطففين: 22 - 28]. فأخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين؟ بالكافور في أوَّل السُّورة، والزنجبيل في آخرها، فإنَّ في الكافور من البرد وطيب الرَّائحة، وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرَّائحة، وما يحدث لهم باجتماع الشَّرابين -ومجيء أحدهما على إثر الآخر- حالةً أخرى أكمل وأطيب وألذ من كلٍّ منهما بانفراده، وتعتدل (1) كيفية كل منهما بكيفية الآخر، وما ألطف موقع ذكر الكافور في أوَّل السورة، والزنجبيل [108/ ب] في آخرها، فإنَّ شرابهم مُزِج أوَّلًا بالكافور، وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيل بعده فيعدله. والظَّاهرُ أنَّ الكأس الثانية (2) غير الأولى، وأنَّهما نوعان لذيذان من الشراب، أحدهما: مُزِجَ بكافور، والثاني: مُزِجَ بزنجبيل. __________ (1) في "ب، د": "يعدل". (2) في "ب، د": "الثاني".

(1/392)


وأيضًا؛ فإنَّه سبحانه أخبر عن مَزْجِ شرابهم بالكافور وبَرْدِهِ في مقابلة ما وصفهم به من حرارة الخوف، والإيثار، والصبر، والوفاءِ بجميع الواجبات التي نبَّهَ بوفائهم بأضعفها، وهو ما أوجبوه على أنفسهم بالنَّذْرِ على الوفاءِ بأعلاها، وهو ما أوجبه اللَّهُ عليهم، ولهذا قال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) } [الإنسان: 12]، فإنَّ في الصَّبر من الخشونة وحبس النَّفس عن شهواتها؛ ما اقتضى أنْ يكون في جزائهم من سعة الجنَّة، ونعومة الحريرِ ما يقابل ذلك الحبس والخشونة، وجمع لهم بين النضرة والسرور، هذا جمال ظواهرهم، وهذا جمال بواطنهم، كَمَا جمَّلُوا في الدنيا ظواهرهم بشرائع الإسلام، وبواطنهم بحقائق الإيمان. ونظيره قوله تعالى في آخر السورة: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21]، فهذه زينة الظاهر، ثمَّ قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) } [الإنسان: 21]. فهذه زينة الباطن المُطَهِّر له (1) من كلِّ أذى ونقص. ونظيرهُ قوله تعالى لأبيهم آدم عليه السلام: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) } [طه: 118, 119]. فضَمِنَ لهُ أنْ لا يصيبه ذل الباطن بالجوع، ولا ذلُّ الظاهر بالعُريِّ، وأنْ لا يناله حرّ الباطن بالظمأ، ولا حرُّ الظاهر بالضحى. ونظيرُ هذا ما عدَّدهُ على عباده من نعمه أنَّه أنزل عليهم لباسًا يواري __________ (1) كذا في جميع النسخ.

(1/393)


سوآتهم، ويزين ظواهرهم، ولباسًا آخر يزين بواطنهم وقلوبهم، وهو لباس التقوى، وأخبر أنَّه خير اللباسين (1) . وقريبٌ من هذا إخباره أنَّه زيَّنَ السَّماءَ الدنيا بزينة الكواكب، وحفظها من كلِّ شيطانٍ ماردٍ، فزيَّن ظاهرها بالنُّجوم، وباطنها بالحراسة (2) . وقريبٌ منه أمره من أراد الحج بالزَّاد الظَّاهر، ثمَّ أخبر أنَّ خير الزَّادِ الزادُ الباطن، وهو التقوى (3) . وقريبٌ منه قول امرأة العزيز عن يوسف: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، فأرتهنَّ حُسْنَهُ وجماله، ثمَّ قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32]. فأخبرتهنَّ بجمال باطنه، وزينته بالعِفَّةِ. وهذا كثيرٌ في القرآن لمن تأمله. __________ (1) يُشير إلى آية (26) من سورة الأعراف. (2) يشير إلى آيتي (6 و 7) من سورة الصافات. (3) يشير إلى آية (197) من سورة البقرة.

(1/394)


 الباب الثامن والأربعون في ذكر طعام أهل الجنَّة، وشرابهم ومصرفه

قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [المرسلات: 41 - 43]، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} [الحاقة: 19 - 24]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)} [الزخرف: 72 - 73]، وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وقال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)} [الطور: 22 - 23]، وقال تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 25 - 26]. وفي "صحيح مسلم" (1) من حديث أبي الزبير، عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يأكل أهل الجنَّة ويشربون، ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جُشاءٌ كريحِ المسكِ، يُلْهَمُون التسبيح والتكبير كما تُلهمون النَّفَسَ". ورواهُ أيضًا من رواية طلحة بن نافع، عن جابر وفيه: قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جُشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك، يُلْهَمون التسبيح __________ (1) رقم (2835) - (19).

(1/395)


والحمد" (1) . وفي "المسند" و"سنن النسائي" بإسناد صحيح على شرط الصحيح من حديث الأعمش، عن ثمامة بن عقبة، عن زيد بن أرقم قال: "جاء رجلٌ من أهل الكتاب إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال: "نعم، والذي نفس محمد بيده، إن أحدهم ليُعْطَى قوة مئة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة"، قال: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى، قال: "تكون حاجة أحدهم رشحًا يفيض من جلودهم كرشح المسك فَيضْمُر بطنه" (2) . ورواه الحاكم في "صحيحه" (3) ولفظه: "أتى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من اليهود فقال: يا أبا القاسم، ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون؟ -ويقول لأصحابه: إن أقرَّ لي بهذا خصمته- فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بلى والذي نفس محمدٍ بيده، إن أحدهم ليُعْطَى قوة __________ (1) رقم (2835) - (18). (2) أخرجه أحمد في المسند (4/ 367 و 371)، وعبد بن حميد في مسنده (المنتخب رقم 263)، والنسائي في الكبرى (6/ رقم 11478)، وهناد في الزهد رقم (63، 90)، واللفظ له، وابن حبان في صحيحه (16/ 7424)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 366)، (8/ 116)، وابن حبيب في وصف الفردوس رقم (83 و 84) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان وأبو نعيم والضياء المقدسي والمؤلِّف. (3) لم أقف عليه في المطبوع، ولا في إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة لابن حجر (4/ 570 و 571) رقم (4671، 4673). لكن أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (352) عن الحاكم ومحمد بن موسى به.

(1/396)


رجل في المَطْعم والمَشْرب والشهوة والجماع"، فقال له اليهودي: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حاجتهم عَرَق يفيض من جلودهم مثل المسك، فإذا البطن قد ضمر". وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه، فَيَخِرّ بين يديك مشويًّا" (1) . وقد تقدم حديث أنس في قصة عبد اللَّه بن سلام في أول طعام يأكله أهل الجنة، وشرابهم على أثره (2) . __________ (1) أخرجه الحسن بن عرفة في جزئه رقم (22)، والبزار في مسنده (5/ 401) رقم (2032)، والبيهقي في البعث رقم (353). - ورواهُ جماعةٌ عن خلف بن خليفة به. أخرجه الشاشي في مسنده رقم (858)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 268)، وابن عدي في الكامل (2/ 273)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (104)، والبيهقي في البعث رقم (353) وغيرهم. والحديثُ مدارهُ على حميد الأعرج الكوفي: ضعيف جدًّا، بل قال ابن حبان: "يروي عن ابن الحارث عن ابن مسعود نسخة كأنَّها كلها موضوعة". وقال ابن عدي: "وهذه الأحاديث عن ابن الحارث عن ابن مسعود، أحاديث ليست بمستقيمة ولا يتابع عليها. . ". والحديثُ باطل، وقد ضعفه العقيلي وابن عدي والبوصيري والذهبي وغيرهم. (2) عند البخاري رقم (3723).

(1/397)


وحديث أبي سعيد الخدري: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفَّؤها الجبار بيده نُزُلًا لأهل الجنة" (1) . وقال الحاكم: أنبأنا الأصم، حدثنا إبراهيم بن منقذ، حدثنا إدريس ابن يحيى، حدثني الفضل بن المختار، عن عبيد اللَّه بن موهب، عن عصمة بن مالك الخطمي، عن حذيفة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن في الجنة طيرًا أمثال البخاتي، فقال أبو بكر: إنها لناعمة يا رسول اللَّه، قال: أنعم منها من يأكلها، وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر" (2) . قال الحاكم: وأنبانا الأصم، حدثنا يحيى بن أبي طالب، أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء، أنبأنا سعيد، عن قتادة في قوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) } [الواقعة: 21] قال: ذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول اللَّه، إني لأرى طير الجنة ناعمة كما أهلها ناعمون، قال: "من يأكلها أنعم منها، وإنها أمثال البخاتي، وإني لأحتسب على اللَّه أن تأكل منها يا أبا بكر" (3) . __________ (1) عند البخاري رقم (6155)، ومسلم رقم (2792). (2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (354). قال العراقي: غريب. قلت: فيه الفضل بن المختار البصري قال أبو حاتم: "هو مجهول، وأحاديثه منكرة يحدث بالأباطيل"، وقال ابن حجر: "مدارها على الفضلِ بن المختار، وهو ضعيف جدًّا". انظر: الجرح والتعديل (7/ 69)، والإصابة (6/ 243). (3) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (355). وسنده حسن إلى قتادة، والحديث مرسل.

(1/398)


وبهذا الإسناد عن قتادة، عن أبي أيوب رجلٌ من أهل البصرة، عن عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما- في قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71]، قال: "يطاف عليهم بسبعين صحفة من ذَهَبٍ، كلُّ صفحةٍ فيها لون ليس في الأُخرى" (1) . وقال الدراوردي: حدثني ابن أخي ابن شهاب، عن أبيه (2) عبد اللَّه ابن مسلم أنه سمع أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- يقول في الكوثر: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هو نهرٌ أعطانيه ربي أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها كأعناق الجُزُرِ"، فقال عمر بن الخطاب: إنها يا رسول اللَّه لناعمة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آكِلُها أنعم منها" (3) . __________ (1) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (356)، والطبري في تفسيره (25/ 96) مختصرًا. وسنده صحيح، أبو أيوب هذا هو يحيى، -ويقال حبيب- ابن مالك الأزدي العتكي. انظر: تهذيب الكمال (33/ 60 - 62). (2) في "ب، د": "عن" بين "أبيه" و"عبد اللَّه" وهو خطأ. (3) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (291). - ورواهُ إبراهيم بن سعد ومعن بن عيسى القزَّاز وعبد اللَّه بن مسلمة القعنبي وأبو أُويس "لكنه اضطرب فيه"، كلهم عن محمد بن عبد اللَّه بن مسلم عن أبيه عن أنس فذكره نحوه؛ لكن قال إبراهيم بن سعد "أبو بكر" بدل "عمر". أخرجه أحمد (3/ 236، 237)، وبقي بن مخلد فيما روي في الحوض والكوثر رقم (31)، والآجري في الشريعة رقم (1087)، والترمذي برقم (2542)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (79) وغيرهم. - ورواهُ جعفر بن عمرو عن عبد اللَّه بن مسلم عن أنس فذكره. =

(1/399)


تابعه إبراهيم بن سعد عن ابن أخي ابن شهاب، وقال: فقال "أبو بكر" بدل "عمر". وقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا عبد اللَّه بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) } [الواقعة: 18]، يقول: "الخمر"، {لَا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] يقول (1) : "ليس فيها صداع"، وفي قوله تعالى: {وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 19] يقول: "لا تذهب عقولهم"، وقوله تعالى: __________ = أخرجه بقي بن مخلد في الحوض والكوثر رقم (30) وغيره. - ورواه عبد الوهاب بن أبي بكر ويزيد بن الهاد (إن كان محفوظًا) عن عبد اللَّه بن مسلم عن ابن شهاب الزهري عن أنس فذكره نحوه. أخرجه أحمد (3/ 220)، وبقي بن مخلد "فيما روي في الحوض والكوثر" رقم (32/ 33)، والطبري في تفسيره (30/ 324) وغيرهم. - ورواه الليث بن سعد إن كان محفوظًا -عن الزهري عن أنس مرفوعًا- قاله لأبي بكر. أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (88). قال الترمذي: "حسن"، وفي بعض النسخ "حسن غريب". قلت: طريق عبد الوهاب أصح، فإن محمد بن عبد اللَّه بن مسلم في حفظه مقال، وجعفر بن عمرو هو ابن جعفر بن أميه فيه جهالة، والراوي عنه ابن إسحاق ولم يصرح بالتحديث، والحديث غريب عن الزهري. - ورواه سيار عن جعفر بن سليمان الضُّبَعي عن ثابت عن أنس رفعه: "إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة فقال أبو بكر. . . " نحوه. أخرجه أحمد (3/ 221)، وصحَّح العراقي إسناده، وفيه نظر، والصواب أنَّه ضعيف الإسناد. (1) سقط من "ج".

(1/400)


{وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) } [النبأ: 34]، يقول: "ممتلئة"، وقوله: {رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 25] يقول: "الخمر ختم بالمسك" (1) . وقال علقمة، عن ابن مسعود: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26]. قال: "خلطه، وليس بخاتم يختم" (2) . __________ (1) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (357). وسنده حسن، وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وإنما لقي مجاهدًا فسمع منه التفسير. انظر تهذيب الكمال (20/ 490). وأخرجه الطبري مفرَّقًا ببعضه، عن علي عن عبد اللَّه بن صالح به في (27/ 175) و (30/ 19 و 105 و 106). (2) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (277)، وابن وهب في التفسير - من الجامع (1/ 143) رقم (334)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (131)، والطبري في تفسيره (30/ 106)، والبيهقي في البعث رقم (359) وغيرهم. من طريق سفيان الثوري عن أشعث بن سليم عن زيد بن معاوية عن علقمة عن ابن مسعود فذكره. - وقد خولف الثوري: خالفه أبو الأحوص وزائدة وأيوب وشريك وإسرائيل كلهم عن أشعث به (من قول علقمة). وسئل يحيى القطان عن ذلك فقال: "لو كانوا أربعة آلاف مثل هؤلاء لكان سفيان أثبت منهم". وسئل عبد الرحمن بن مهدي عن ذلك فقال: "هؤلاء قد اجتمعوا، وسفيان أثبت منهم، والانصاف لا بأس به". انظر المجروحين لابن حبان (1/ 51). والأثر فيه زيد بن معاوية ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 317) وسكت =

(1/401)


قلت: يريد -واللَّه أعلم- أن آخره مسك يخالطه فهو من الخاتمة، ليس من الخاتم. وقال زيد بن معاوية: سألت علقمة عن قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] فقرأ {خاتمه مسك}، فقال لي علقمة: "ليست خاتمه، ولكن اقرأها {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قال علقمة: ختامه: خلطه، ألم تر إلى (1) المرأة من نسائكم تقول للطيب: إنَّ خَلْطهُ من مسك، لكذا وكذا" (2) . وذكر سعيد بن منصور (3) : حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد اللَّه بن مرة، عن مسروق: "الرحيق: الخمر، والمختوم: يجدون __________ = عنه البخاري، وروى عنه راويان. وعليه فالإسناد لا بأس به. (1) في "ب، ج، د، هـ" "أنَّ". (2) أخرجه هناد في الزهد رقم (67)، والطبري في تفسيره (30/ 106)، والبيهقي في البعث رقم (360). وفيه زيد بن معاوية العبسي -تقدم الكلام فيه- وهو هنا يسأل علقمة فهو أقرب إلى الضبط في الجُمْلة. وعليه فالإسناد ثابت. (3) أخرجه البيهقي في البعث رقم (361) من طريق سعيد بن منصور به مثله. لكن رواه هناد في الزهد رقم (64)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (137). عن داود بن عمرو الضَّبي كلاهما "هناد وداود" عن أبي معاوية به. وزاد "عن ابن مسعود" وهذا هو الصحيح. ورواهُ وكيع عن الأعمش به -وذكر ابن مسعود- مقتصرًا على أوَّله. أخرجه هناد رقم (66) وغيره.

(1/402)


عاقبتها طعم المسك". وبهذا الإسناد عن مسروق، عن عبد اللَّه في قوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) } [المطففين: 27] قال: "يمزج لأصحاب اليمين، ويشربُها المقربون صرفًا" (1) . وكذلك قال ابن عباس: "يشرب منها المقربون صرفًا، ويمزج لمن دونهم" (2) . وقال مجاهدٌ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] يقول: "طينه مسك" (3) . وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير. ولفظ الآية أوضح منه، وكأنه - __________ (1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (362) من طريق سعيد بن منصور به مثله. وأخرجه هناد في الزهد رقم (65)، والمروزي في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1522)، والطبري (30/ 108). - ورواهُ جريرُ عن الأعمش عن عبد اللَّه عن مسروق قوله "ولم يذكر ابن مسعود". أخرجه الواحدي في تفسيره الوسيط (4/ 449). والأثر ثابت صحيح عن ابن مسعود. (2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 290) رقم (3545)، والطبري في تفسيره (30/ 109)، والبيهقي في البعث رقم (363) وغيرهم. وسنده صحيح، انظر تغليق التعليق (3/ 500). (3) أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 107)، والبيهقي في البعث رقم (364) وغيرهما. وسنده حسن. انظر تغليق التعليق (3/ 500).

(1/403)


واللَّه أعلم- يريد ما يبقى في أسفل الإناء من الدُّرْدِيِّ (1) . وذكر الحاكم: من حديث آدم، حدثنا شيبان، عن جابر، عن ابن سابط، عن أبي الدرداء في قوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26]، قال: "هو شرابٌ أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم، لو أنَّ رجلًا من أهل الدنيا أدخل يده فيه ثم أخرجها؛ لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها" (2) . قال آدم: وحدثنا أبو شيبة، عن عطاء قال: "التَّسْنِيم: اسم العين التي يمزج به الخمر" (3) . وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، أنبأنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما في قوله: {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] __________ (1) دُرديُّ الشيء: ما يبقى في أسفله، الصحاح (1/ 403). (2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (365) عن الحاكم به مثله. وأخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نُعيم- رقم (276)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (130)، والطبري في تفسيره (30/ 107). من طريق أبي حمزة ورجل عن جابر به مثله. والأثرُ ضعيفُ الإسناد فيه جابر الجعفي متكلَّمٌ فيه، وعبد الرحمن بن سابط لم يسمع من أبي الدرداء. انظر: تهذيب الكمال (17/ 125). (3) أخرجه البيهقي في البعث رقم (366) عن الحاكم به مثله. وسنده حسن، وأبو شيبة هو: شعيب بن رزيق الشامي أبو شيبة المقدسي، وعطاء هو ابن أبي مسلم الخراساني. انظر: تهذيب الكمال (12/ 524).

(1/404)


قال: "هي المتتابعة الممتلئة"، قال: ورُبَّما سمعت العباس يقول: اسقنا وادْهَق لنا" (1) . وقد تقدَّم الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5 - 6] وعلى قوله: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) } [الإنسان: 17 - 18] (2) . فقالت فرقة: "سلسبيلًا" جملة مركبة من فعل وفاعل، و"سبيلًا" منصوب على المفعول، أي سل سبيلًا إليها (3) . وليس هذا بشيء، وإنما السلسبيل كلمة مفردة، وهي اسم للعين نفسها باعتبار صفتها، وقد شفى (4) قتادة ومجاهد في اشتقاق اللفظة، __________ (1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (358) من طريق الإمام أحمد به مثله. وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره كما في تغليق التعليق (3/ 501) عن هشيم به نحوه مختصرًا. - رواهُ يحيى بن المهلب عن حصين به نحوه وفيه (. . . اسقنا كأسًا دهاقًا). أخرجه البخاري في صحيحه (66) فضائل الصحابة (56) باب: أيام الجاهلية (3/ 1395) رقم (3627). (2) انظر ص (391 - 392). (3) ذكره الماوردي في تفسيره (6/ 171) عن علي رضي اللَّه عنه. قال ابن الجوزي: "ولا يصح" أي: عن علي رضي اللَّه عنه. وقال السمعاني: "ومن قال ذلك فقد أبعد، وهو تأويل باطل، وليس من قول أهل العلم". انظر زاد المسير (8/ 438)، وتفسير القرآن للسمعاني (6/ 119). (4) في "أ، ب، هـ" "سعى" وهو خطأ.

(1/405)


فقال قتادة: "سَلِسَة لهم يصرفونها حيث شاؤوا" (1) . وهذا من الاشتقاق الأكبر (2) . وقال مجاهد: "سَلِسَةُ السبيل حديدة الجرية" (3) ، وقال أبو العالية والمقاتلان (4) : "تسيل عليهم في الطرق، وفي منازلهم". وهذا من سلاستها وحِدَّة جريتها. وقال آخرون: معناها طيبة الطعم والمذاق (5) . وقال أبو إسحاق: "سلسبيل: صفة لِمَا كان في غاية السلاسة، __________ (1) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 271) رقم (3437)، والطبري (29/ 218). عن معمر عن قتادة فذكره. - ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: (سَلِسَة مستقيدًا "أي: منقاد" ماؤها). أخرجه الطبري (29/ 218). وهو أثر صحيح عن قتادة. (2) في "ج" "الأكثر" وهو خطأ. (3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 271) رقم (3436) وهناد في الزهد رقم (96) والطبري (29/ 218 و 219). من طريق الثوري وشبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. . ولفظ الثوري: حديدة -وفي رواية: شديدة- الجرية. ولفظ شبل: سلسة الجرية. وهو أثر صحيح عن مجاهد. (4) المقاتلان هما: مقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان. وانظر هذا النقل عنهما في تفسير السمرقندي "بحر العلوم" (3/ 432)، وتفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن (19/ 143)، وتفسير الماوردي (6/ 171)، ومعالم التنزيل للبغوي (8/ 297). (5) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (19/ 142).

(1/406)


فسميت العين بذلك. وقال ابن الأنباري: "الصواب في سلسبيل: أنه صفة للماء، وليس باسم للعين". واحتج على ذلك بحجتين: إحداهما: بأنَّ سلسبيلَ مصْرُوف، ولو كان اسمًا للعين لم يُصْرَف للتأنيث والعلمية. الثانية: أن ابن عباس قال: معناه "أنها تنسل في حلوقهم انسلالًا" (1) . قلت: ولا حجة له في واحدة منهما، أما الصرف: فلاقْتِضَاء رؤوس الآي له كنظائره. وأما قول ابن عباس: فإنما يدل على أن العين سميت بذلك باعتبار صفة السلاسة والسهولة (2) . فقد تضمنت هذه النصوص أنَّ لهم فيها الخبز والَّلحم والفاكهةَ والحلوى، وأنواع الأشربة من الماء واللبن والخمر، وليس في الدنيا ممَّا في الآخرة إلَّا الأسماء، وأمَّا المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه البشر. فإنْ قيل: فأين يُشْوى اللحم وليس في الجنة نار؟. فقد أجاب عن هذا بعضهم بأنه يُشْوى بـ {كُن}. __________ (1) ذكره الماوردي في تفسيره (6/ 171). (2) راجع معاني القرآن للزجاج (5/ 261)، وتفسير السمعاني (6/ 119)، وزاد المسير لابن الجوزي (8/ 438).

(1/407)


وأجاب آخرون: بأنَّه يشوى خارج الجنة، ثم يؤتى به إليهم. والصواب: أنه يشوى في الجنة بأسباب قدرها العزيز العليم (1) لإنضاجه وإصلاحه، كما قَدَّرَ هناك أسبابًا لإنضاج الثمر والطعام، على أنَّه لا يمتنع أن يكون فيها نار تصلح ولا تفسد شيئًا. وقد صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "مجامرهم الأَلُوَّةُ" (2) ، و"المجامر": جمعِ مَجْمَر، وهو البخور الذي يتبخر بإحراقه. و"الألوة": العود المُطرَّى. فأخبر أنهم يتجمرون به، أي: يتبخرون بإحراقه، لتسطع لهم رائحته. وقد أخبر سبحانه أنَّ في الجنَّة ظلالًا، والظلال لا بُدَّ أنْ تفيء ممَّا يقابلها فقال: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) } [يس: 56]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) } [المرسلات: 41]. وقال تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) } [النساء: 57]. فالأطعمة والحلوى والتَّجمر تستدعي أسبابًا تتم بها، واللَّه سبحانه خالق السَّبب والمُسَبَّب، وهو رب كل شيء ومليكه لا إله إلا هو، وكذلك جعل لهم سبحانه أسبابًا تُصَرِّف الطعام من الجشاء والعرق الذي يفيض من جلودهم، فهذا سبب إخراجه، وذاك سبب إنضاجه، وكذلك يجعل في أجوافهم من الحرارة ما يطبخ ذلك الطعام ويُلطِّفه، ويهيئه لخروجه رشحًا وجشاءً، وكذلك ما هناك من الثمار __________ (1) في "هـ": "الحكيم". (2) تقدم في (ص/ 231).

(1/408)


والفواكه يخلق لها من الحرارة ما يُنْضِجها، ويجعل سبحانه أوراق الشجر ظلالًا، فربُّ الدنيا والآخرة واحد، وهو الخالق بالأسباب والحِكَم ما يجعله (1) في الدنيا والآخرة، والأسباب مظهر أفعاله وحكمته؛ ولكنَّها تختلف، ولهذا يقع التعجب من العبد لورود أفعاله سبحانه على أسباب غير الأسباب المعهودة المألوفة، وربما حمله ذلك على الإنكار والكفر، وذلك محض الجهل والظلم؛ وإلَّا فليست قدرته سبحانه وتعالى مقصّرة عن أسباب أُخَر؛ وَمُسَبِّبَات ينشئها منها؛ كما لم يقصر في هذا العالم المشهود عن أسبابه ومسبباته، وليس هذا بأهون عليه من ذلك. ولعل النشأة الأولى التي أنشأها الرب سبحانه وتعالى فيها بالعيان والمشاهدة = أعجب من النشأة الثانية التي وعدنا بها إذا تأملها اللبيب. ولعل إخراج هذه الفواكه والثمار من بين هذه التربة الغليظة، والماء والخشب والنوى (2) المناسب لها = أعجب عند العقل من إخراجها من بين تربة الجنة ومائها وهوائها. ولعل إخراج هذه الأشربة التي هي غذاء ودواء وشراب ولذَّة من بين فرث ودم، ومن فِيِّ (3) ذُبَابٍ = أعجب من إجرائها أنهارًا في الجنة بأسباب أُخر. __________ (1) في "ب، د": "يخلقه". (2) في "ب، د، هـ": "الهواء". (3) في "أ، ب، ج": "قِيِّ"، ويعني بالذباب: النحل.

(1/409)


ولعل أخراج جوهَرَي الذهب والفضة في (1) عروق الحجارة من الجبال وغيرها = أعجب من إنشائها هناك من أسباب أخر. ولعل إخراج الحرير من لعاب دُوْدِ القَزِّ، وبنائها على أنفسها القباب البِيْض والحُمر والصفر أحكم بناء = أعجب من إخراجه من أكمام تتفتَّق عنه شجر هناك، قد أودع فيها، وأنشئ منها. ولعلَّ جريان بحار الماء بين السماء والأرض على ظهور السحاب = أعجب من جريانها في الجنة في غير أخدود. وبالجملة، فتأمل آيات اللَّه التي دعا عباده إلى التفكُّر فيها، وجعلها آياتٍ دالةً على كمال قدرته، وعِلَّةً في مشيئته (2) وحكمته وملكه، وعلى توحُّده بالربوبية والإلهية، ثم وازن بينها وبين ما أخبر به من أمر الآخرة والجنة والنار = تجد هذه أدلَّ شيءٍ على تلك، شاهدة لها، وتجدهما من مشكاةٍ واحدة، وربٍّ واحد، وخالقٍ واحد (3) ، وملكٍ واحد، فبُعدًا لقومٍ لا يؤمنون. __________ (1) في "هـ": "من". (2) في "ب، د": "وعلمه ومشيئته"، وفي "هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ": "وعلمه في مشيئته". (3) قوله "وخالق واحد" من "ب، ج، د، هـ".

(1/410)


 الباب التاسع والأربعون في ذكر آنيتهم التي يأكلون فيها ويشربون، وأجناسها وصفاتها

قال اللَّهُ تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71]، فالصحاف: جمعُ صَحْفَة، قال الكلبي: "بقصاعٍ من ذهبٍ". وقال الليث: "الصحفة: قطعةٌ مُسْلَنْطِحَة عريضة، الجمعُ: صِحَاف، قال الأعشى: والمَكَاكِيْكَ والصِّحَافَ منَ الفِضَّـ ... ـــة والضَّامِزَاتِ تحتَ الرِّحَالِ (1) وأمَّا الأكواب فجمع كوبٍ، قال الفرَّاء: "الكوب: المستدير الرَّأس الَّذي لا أُذَنَ له، وأنشد لِعَدِي: مُتكئًا تصفقُ أبوابُه ... يسعى عليه الغيد بالكوب (2) وقال أبو عبيدة: "الأكواب: الأباريق التي لا خراطيم لها" (3)، قال أبو إسحاق: "واحدها كوبٌ، وهو إناء مستدير لا عُروة له" (4). وقال ابن عباس: "هي الأباريق التي ليست لها آذان" (5). وقال مقاتل: "هي __________ (1) انظر: تهذيب الَّلغة للأزهري (2/ 1981)، وانظر البيت في ديوان الأعشى ص (167). (2) انظر معاني القرآن للفرَّاء (3/ 37). (3) انظر مجاز القرآن (2/ 206)، وفيه "الأبارق" بدل "الأباريق". (4) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 419). (5) لم أقف عليه.

(1/411)


أواني مستديرة الرَّأس ليس لها عُرًى" (1) . وقال البخاري في "صحيحه" (2) : الأكواب: الأباريق التي لا خراطيم لها". وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) } [الواقعة: 17 - 18]. الأباريق: هي الأكواب التي لها خراطيم، فإنْ لم (3) يكن لها خراطيم ولا عُرًى فهي أكواب. وإبريق: إفعيل من البَرِيق، وهو الصفاء الَّذي يبرق لونه من صفائه، ثمَّ سُمِّيَ ما كان على شكله إبريق؛ وإنْ لم يكن صافيًا، وأباريق الجنَّة من الفضة في صفاء القوارير، يُرَى من ظاهرها ما في باطنها، والعربُ تسمى السيف إبريقًا، لَبريق لونه، ومنه قول ابن أحمر: تعلَّقتَ إبريقًا وعلَّقْتَ جَعْبَة ... لتُهلِكَ حيًّا ذَا زُهَاءً وَجَامل (4) وفي "نوادر الِّلحياني": "امرأة إبريق إذا كانت برَّاقة" (5) . __________ (1) انظر تفسير مقاتل المنسوب إليه (3/ 312). (2) الَّذي في صحيح البخاري في "63" بدء الخلق (8)، باب: ما جاء في صفة الجنَّة وأنَّها مخلوقة (3/ 1184) بهذا اللفظ "والكوب: ما لا أذن له ولا عروة، والأباريق: ذات الآذان والعُرى". وانظر (4/ 117) ط: بولاق. (3) سقط من "أ". (4) انظر البيت في تهذيب اللغة للأزهري (1/ 316). (5) انظر تهذيب اللغة للأزهري (1/ 316).

(1/412)


وقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) } [الإنسان: 15 - 16]. فالقوارير: هي الزجاج، فأخبر سبحانه وتعالى عن مادة تلك الآنية أنَّها من الفضة، وأنَّها بصفاء الزجاج وشفافته، وهذا من أحسن الأشياء وأعجبها، وقطع سبحانه توهُّم كون تلك القوارير من زجاج فقال: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}، قال مجاهد وقتادة ومُقاتل والكلبي والشعبي: "قوارير الجنَّة من الفضة" (1) ، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير. قال ابن قتيبة: "كل ما في الجنَّة من الأنهار وسررها وفرشها وأكوابها مخالفٌ لما في الدنيا من صنعة العباد، كما قال ابن عباس: "ليس في الدنيا شيءٌ ممَّا في الجنَّة إلَّا الأسماء" (2) ، والأكواب في الدنيا، قد تكون من فضة، وتكون من قوارير، فأعلمنا اللَّهُ تعالى أنَّ هناك أكوابًا لها بياض الفضة، وصفاء القوارير، قال: وهذا على التشبيه، أراد قوارير كأنَّها من فضة، وهذا كقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ __________ (1) انظر: تفسير الطبري (29/ 215 - 217)، ومعالم التنزيل للبغوي (8/ 296)، وتفسير مقاتل (3/ 312 - 313). (2) أخرجه هناد في الزهد رقم (3, 8)، ووكيع في نسخته عن الأعمش رقم (1)، وابن أبي حاتم في تفسيره البقرة رقم (261)، والطبري (1/ 174)، ومسدد في مسنده كما في المطالب العالية (4617)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (124) وغيرهم. من طرق عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: لا يشبه شيءٌ ممَّا في الجنَّة ما في الدنيا إلَّا الأسماء". هذا لفظ الأشجعي عن الثوري. وهو أثرٌ صحيح ثابت.

(1/413)


الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) } [الرحمن: 58]، أي لهنَّ ألوان المرجان في صفاء الياقوت" (1) . وهذا مردودٌ عليه، فإنَّ الآية صريحةٌ أنَّها من فضة، و"من" ها هنا لبيان الجنس كما تقول: خاتم من فضة، ولا يراد بذلك أنه يشبه الفضة، بل جنسه ومادته الفضة، ولعله أشكل عليه كونها من فضة وهي قوارير، وهو الزجاج، وليس في ذلك إشكال لما ذكرناه. وقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} التقدير: جعل الشيء بقدر مخصوص، فقدرت الصُّناع هذه الآنية على قدر رِيِّهِم (2) ، لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وهذا أبلغ في لذة الشارب، فلو نقص عن رِيِّهِ لنقص التذاذه، ولو زاد حتى يُسْئر (3) منه حصل له ملالة وسآمة من الباقي. هذا قول جماعة المفسرين (4) . قال الفراء: "قدروا الكأس على رِيِّ أحدهم، لا فضل فيه، ولا عجز عن رِيِّه، وهو الذُّ الشراب" (5) . __________ (1) انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري ص (80 - 81). (2) في "ج، هـ": "زِيِّهم" وهو خطأ. (3) يسئر: أي يفْضل، قال الليث: يُقال أسأر فلان من طعامه وشرابه سُؤْرًا: وذلك إذا أبقى منه بقيَّة، قال: وبقية كل شيء سُؤْره، انظر: تهذيب اللغة للأزهري (2/ 1592). (4) في "هـ"، ونسخة على حاشية "أ": "من المفسرين". (5) انظر: معاني القرآن له (3/ 217).

(1/414)


وقال الزجاج: "جعلوا الإناء على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه" (1) . وقال أبو عبيد: "يكون التقدير للذين يسقون يقدرونها، ثم يسقون". يعني أن الضمير في "قدروا" للملائكة والخدم، قدروا الكأس على قدر الرِّيِّ، فلا يزيد عليه فَيُثقِل الكف، ولا ينقص منه (2) فتطلب النفس الزيادة كما تقدم. وقالت طائفة: الضمير يعود على الشاربين، أي قدروا في أنفسهم شيئًا، فجاءهم الأمر (3) بحسب ما قدروه وأرادوه. وقول الجمهور أحسن وأبلغ، فهو مستلزم لهذا القول. واللَّه أعلم. وأما الكأس، فقال أبو عبيدة: "هو الإناء بما فيه" (4) . وقال أبو إسحاق: "الكأس: الإناء إذا كان فيه خمر، ويقع الكأس لكلِّ إناءٍ مع شرابه" (5) . والمفسرون فسَّروا الكأس بالخمر، وهو قول عطاء والكلبي __________ (1) انظر معاني القرآن وإعرابه له (5/ 260). (2) من "ب، ج، د، هـ". (3) ليس في "د". (4) انظر مجاز القرآن (2/ 169). (5) انظر المخصص لابن سيده (3/ 196 - 197)، والمحرر الوجيز لابن عطية (15/ 363).

(1/415)


ومقاتل (1) ، حتى قال الضحاك: "كل كأس في القرآن، فإنما عنى به: الخمر" (2) . وهذا نظر منهم إلى المعنى والمقصود: فإن المقصود ما في الكأس لا الإناء معه. وأيضًا، فإن من الأسماء ما يكون اسمًا للحال والمحل مجتمعين ومنفردين: كالنهر، والكأس. فإن النهر اسم للماء ولمحله معًا، ولكل منهما على انفراده، وكذلك الكأس، والقرية. ولهذا يجيء لفظ القرية مرادًا (3) به الساكن فقط، والمسكن فقط، والأمران معًا. وقد أخرجا في "الصحيحين" (4) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما: "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن". وفيهما أيضًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دُرِّيٍّ في السماء إضاءةً، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق __________ (1) انظر: تفسير مقاتل (3/ 313). (2) أخرجه هنَّاد في الزهد رقم (72)، والطبري في تفسيره (23/ 34). وسنده صحيح. (3) في "د": "يُراد". (4) تقدم في ص (206 - 207).

(1/416)


رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، عليه السلام ستون ذراعًا في السماء" (1) . وفي "الصحيحين" (2) من حديث حذيفة بن اليمان أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها (3) ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". وقال أبو يعلى الموصلي في "مسنده": حدثنا شيبان، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت قال: قال أنس -رضي اللَّه عنه-: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تعجبه الرؤيا (4) ، فربما رأى الرجل الرؤيا فيسأل عنه إذا لم يكن يعرفه، فإذا أثنى (5) عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه. فأتته امرأة فقالت: يا رسول اللَّه رأيت كأنِّي أُتيت فأخرجت من المدينة فأُدخلت الجنة، فسمعت وجبة انتحت (6) لها الجنة، فنظرت فإذا فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان، فَسَمَّتْ اثني عشر رجلًا، كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد بعث سرية قبل (7) ذلك، فجيء بهم، عليهم ثياب طُلْس تَشْخَب __________ (1) تقدم ص (231 - 232). (2) البخاري رقم (5110)، ومسلم رقم (2067). (3) في "ب": "صحافهما". (4) عند أحمد من رواية عفان وبهز عن سليمان به "الرؤيا الحسنة". (5) في "أ، ج": "أتى"، والمثبت من مصدر التخريج، وباقي النسخ. (6) في "هـ" والمسند "ارْتَجَّتْ" وفي نسخةٍ على حاشية "أ": "أيتجت"، والمثبت من باقي النسخ، وأبي يعلى. الوجْبَة: السَّقْطة. وانتحت يعني: مالت وتحركت. انظر: لسان العرب (15/ 310 - 311). (7) في مسند أبي يعلى "بمثل".

(1/417)


أوداجهم، فقيل: اذهبوا بهم إلى نهرِ البيذخ أو البنذخ (1) فغمسوا فيه فخرجوا، ووجوهم كالقمر ليلة البدرِ، فأتوا بصحفة من ذهبٍ فيها بُسْر، فأكلوا من بسره ما شاؤوا، فما يقلبونها من وجه إلَّا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلتُ معهم، فجاء البشير من تلك السرية فقال (2) : أصيبَ فلانٌ وفلانٌ، حتَّى عدَّ (3) اثني عشرَ رجلًا، فدعا رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المرأة، فقال: "قُصِّي رؤياكِ فقصتها، وجعلت تقول: جيء بفلان، وفلان، كما قال" (4) . رواهُ الإمام أحمد في "مسنده" بنحوه، وإسناده على شرط مسلم. __________ (1) اضطربت النسخ في ضبط هاتين الكلمتين، والمثبت من "أ". (2) في مسند أبي يعلى "كان من أمرنا كذا وكذا فأصيب. . . ". (3) قوله "حتَّى عدَّ"، وقع في "أ" "فعدَّ"، والمثبت من مسند أبي يعلى، وباقي النسخ. (4) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 44 - 45) رقم (3289)، وابن حبان في صحيحه (13/ رقم 6054)، والبيهقي في دلائل النبوة (7/ 26) وغيرهم. - ورواهُ عفَّان الصفار وبهز بن أسد وهاشم بن القاسم وموسى بن إسماعيل التبوذكي وأبو هاشم كلهم عن سليمان بن المغيرة به نحوه. أخرجه أحمد في المسند (3/ 135 و 257) والنسائي في الكبرى (4/ رقم 7622)، والبيهقي في دلائل النبوة (7/ 26)، وأبو عوانة في صحيحه كما في إتحاف المهرة (1/ 531). والحديث صححه أبو عوانة وابن حبان والمؤلف.

(1/418)


 الباب الخمسون في ذكر لباسهم وحليتهم ومناديلهم وفرشهم وبسطهم ووسائدهم ونمارقهم وزرابِيِّهم

قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)} [الدخان: 51 - 53]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الكهف: 30 - 31]. قال جماعةٌ من المفسرين: السندس: ما رقَّ من الديباج، والاستبرق: ما غلظَ منه (1). وقال طائفة: ليس المراد به الغليظ، ولكن المراد به: الصَّفيق. وقال الزجاج: "هما نوعان من الحرير" (2). وأحسن الألوان الأخضر، وألين الملابس الحرير، فجمع لهم بين __________ (1) انظر: تفسير الطبري (15/ 243)، وتفسير الماوردي (3/ 304)، والوسيط للواحدي (3/ 147)، ومعالم التنزيل للبغوي (5/ 169)، والمحرر الوجيز لابن عطية (10/ 398)، وزاد المسير لابن الجوزي (5/ 137)، ومعاني القرآن للنحاس (4/ 233) وغيره. (2) انظر معاني القرآن وإعرابه له (3/ 284).

(1/419)


حسن منظر اللباس، والتذاذ العين به، وبين نعومته والتذاذ الجسم به. وقال تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) } [الحج: 23]. وها هنا مسألة هذا موضع ذكرها، وهي أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أخبر أنَّ لباس أهل الجنَّة حرير، وصحَّ عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" (1) . متفق على صحته، من حديث عمر بن الخطاب وأنس بن مالك رضي اللَّهُ عنهما. وقد اخْتُلِفَ في المراد بهذا الحديث: - فقالت طائفة من السلف والخلف: إنَّه لا يلبس الحرير في الجنَّة، ويلبس غيره من الملابس، قالوا: وأمَّا قوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) } فمن العام المخصَّص (2) . وقال الجمهور: هذا من الوعيد الَّذي له حكم أمثاله من نصوص الوعيد التي تدل على أنَّ هذا الفعل مقتضٍ لهذا الحكم، وقد يتخلَّف (3) عنه لمانع. __________ (1) أخرجه البخاري رقم (5496)، ومسلم رقم (2069) من حديث عمر رضي اللَّهُ عنه، والبخاري رقم (5494)، ومسلم رقم (2073) من حديث أنس رضي اللَّهُ عنه. (2) في "ب، ج، د، هـ" ونسخة على حاشية "أ": "المخصوص". (3) في "ج": "يختلف" وهو خطأ.

(1/420)


وقد دلَّ النص والإجماع على أنَّ التوبة مانعةٌ من لحوق الوعيد، ويمنع من لحوقه أيضًا الحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المسلمين، وشفاعة من أذن اللَّهُ له في الشفاعة فيه، وشفاعة أرحم الراحمين إلى نفسه، فهذا الحديث نظير الحديث الآخر "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة" (1) . وقال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) } [الإنسان: 12]، وقال: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان: 21]. وتأمَّل ما دلَّت عليه لفظة {عَالِيَهُمْ} من كون اللباس ظاهرًا بارزًا يُجَمِّل ظواهرهم، ليس بمنزلة الشعار الباطن، بل الَّذي يلبس فوق الثياب للزينة والجمال. وقد اختلف القُرَّاء السبعة في نصب {عَالِيَهُمْ} ورفعه على قراءتين. واختلف النحاة في وجه نَصْبِهِ، هل هو على الظرف، أو على الحال = على قولين. واختلف المفسرون (2) : هل ذلك للولدان الَّذين يطوفون عليهم، فيطوفون وعليهم ثياب السندس والإستبرق، أو السادات الذين يطوف عليهم الولدان، فيطوفون على ساداتهم، وعلى السادات هذه الثياب؟. وليس الحال ها هُنا بالبيِّن، ولا تحته ذلك المعنى البديع الرَّائع، __________ (1) تقدم ص (378). (2) انظر لذلك معاني القرآن للفراء (3/ 218 - 219)، وتفسير الطبري (29/ 220).

(1/421)


فالصواب فيه: أنَّه منصوب على الظرف، فإنَّ "عاليًا" لمَّا كان بمعنى فوق أُجْريَ مجراهُ، قال أبو علي: وهذا الوجه أبين (1) ، وهو أنَّ "عاليًا" صفة، فجُعِلَ ظرفًا كما كان قوله: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 42] كذلك، وكما قالوا: هو ناحية من الدار. وأمَّا من رفع {عَالِيَهُمْ} فعلى الابتداء، و {ثِيَابُ سُنْدُسٍ}: خبره، ولا يمنع من هذا إفراد عالٍ، وجمع الثياب؛ فإنَّ فاعلًا قد يُراد به الكثرة، كما قال: ألا إنَّ جيراني العَشيَّة رَائحٌ ... دعتهم دواع مِن هوًى ومُنَادحُ (2) وقال تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) } [المؤمنون: 67]. ومن رفع {خُضْرًا}: أجراه صفة للثياب، وهو الأقيس من وجوه: أحدها: المطابقة بينهما في الجمع. الثاني: موافقته لقوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف: 31]. الثالث: تخلصه من وصف (3) المفرد بالجمع. ومَنْ جرَّ أجراه (4) صفةً للسندس على إرادة الجنس، كما يقال: أهلك النَّاس الدينار الصُّفْر، والدرهم (5) البيض. __________ (1) في "أ": "بيِّن". (2) نقله الفراء عن المفضَّل الضَّبِّي كما في رسالة "الصاهل والشاحج" لأبي العلاء المعري ص (440). (3) في "أ": "صفة". (4) قوله "ومن جر: أجراه" في "أ" "ومن جرَّاه"، وفي "ج، هـ": "ومن جَرَى مجراه". (5) في "ج، هـ": "الدراهم"، وتلك المقولة لم أقف عليها.

(1/422)


وتترجَّح القراءة الأولى بوجهٍ رابعٍ أيضًا: وهو: أنَّ العرب تجيء بالجمع الَّذي هو (1) في لفظ الواحد، فيجرونه مجرى الواحد، كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80]، وكقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) } [القمر: 20]، فإذا كانوا قد أفردوا صفات هذا النوع من الجمع، فإفراد صفة الواحد، وإنْ كان في معنى الجمع أولى. وفي {وَإِسْتَبْرَقٌ} قراءتان: الرفع: عطفًا على ثياب. والجرُّ: عطفًا على سندس. وتأمَّل كيف جمع لهم بين نوعي الزينة الظاهرة من اللباس والحلي، كما جمع لهم بين الظاهرة والباطنة، كما تقدم قريبًا، فجمَّل البواطن بالشراب الطهور، والسواعد بالأساور، والأبدان بثياب الحرير. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) } [الحج: 23]. واختلفوا في جرِّ "لؤلؤ" ونصبه (2) ، فمن نصبه ففيه وجهان: __________ (1) سقط من "ج". (2) انظر: معاني القرآن للفرَّاء (2/ 230)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (3/ 419 - 420)، وتفسير الطبري (17/ 136)، والكشاف للزمخشري (3/ 150 - 151) وغيرها.

(1/423)


أحدهما: أنَّه عطف على موضع قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ}. والثاني: أنَّه منصوب بفعلٍ محذوفٍ دلَّ عليه الأوَّل، أي: ويُحَلَّون لؤلؤًا. ومن جرَّه فهو عطفٌ على الذهب، ثمَّ يحتمل أمرين: أحدهما (1) : أنْ يكون لهم أساور من ذهبٍ وأساور من لؤلؤ. ويحتمل أنْ تكون الأساور مركبة من الأمرين معًا: الذهبُ المرصَّعُ باللؤلؤ، واللَّهُ أعلم بما أراد. قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن رزق اللَّه، حدثنا زيد بن الحباب، قال حدثني عتبة بن سعد قاضي الرَّي عن جعفر بن أبي المغيرة عن شمر بن عطية عن كعب قال: "إنَّ للَّه عزَّ وجلَّ ملكًا منذُ يوم خُلِقَ (2) = يصوغُ حُليَّ أهلِ الجنَّة إلى أنْ تقوم الساعة، لو أنَّ قُلْبًا (3) من حلي أهل الجنَّة أُخْرِجَ لذهب بضوء شُعَاع الشمس، فلا تسألوا بعد هذا (4) عن حُلي أهل الجنَّة" (5) . __________ (1) ليس في "أ". (2) في نسخة على "أ" "إن اللَّه عز وجل خلق ملكًا منذ يوم خلق الجنة يصوغ. . . " (3) في "ب" "كل" وهو خطأ، ووقعَ "حُليًّا" في المصنف والعظمة كما سيأتي. والقُلْب: السُّوار، ويقال: الخلخال. انظر غريب الحديث للخطَّابي (2/ 89). (4) قوله "بعد هذا" سقط من "ب"، ووقع في "هـ": "بعدها". (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (223)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 60) رقم (3398)، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة رقم (335) وغيرهم. وفي سنده انقطاع، شمر بن عطية لم يدرك كعب الأحبار. =

(1/424)


حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري حدثنا أبي عن أشعث عن الحسن قال: "الحُلي في الجنَّة على الرِّجالِ أحسنُ منه على النساء" (1) . حدثنا أحمد بن منيع حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لو أنَّ رجلًا من أهلِ الجنَّة اطَّلعَ فبدا (2) سِوَارُه لطَمَسَ ضوءَ الشمس، كما تطمسُ الشمس ضوءَ النجوم" (3) . __________ = انظر: تهذيب الكمال (12/ 560 - 561). (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (224) وزاد "وكان يقرأُ: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23]. وأشعث لم أستطع تحديده أهو الكندي "الضعيف" أو الحدَّاني "الصدوق" أو الحمراني "الثقة". (2) في "د": "قيد". (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (225)، وأحمد (1/ 169)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (266). من طريق الحسن بن موسى الأشيب عن ابن لهيعة به مثله. - ورواهُ ابن المبارك عن ابن لهيعة به مثله وأوَّلهُ: "لو أنَّ ما يقل ظفر ممَّا في الجنَّة بَدَاْ لتزخرف له ما بين خوافق السماوات والأرضِ". أخرجه أحمد (1/ 171)، وابن المبارك في الزهدِ -رواية نعيم- رقم (416)، والترمذي رقم (2538) وغيرهم. - ورواهُ الليث بن سعد عن يزيد به، ذكره الدارقطني في علله (4/ 335)، ولم أعثر عليه. - ورواهُ يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن عمر عن سعد بن أبي وقَّاص، فذكره بمثل لفظ ابن المبارك. أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (6/ 208) تعليقًا، والبزار في مسنده =

(1/425)


وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة عن عُقَيْل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة أنَّ أبا أُمامة حدث أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حدثهم -وذكر حُلِيَّ الجنَّة- فقال: "مسوَّرون بالذَّهب والفضة، مُكلَّلون بالدُّرِّ، عليهم أكاليلُ من دُرٍّ وياقوتٍ متواصلة، وعليهم تاجٌ كتاج الملوك، شبابٌ جردٌ مُرْد (1) مكحلون" (2) . __________ = (3/ 1109) و (4/ 1226). - ورواهُ عمرو بن الحارث عن سليمان بن حميد أنَّ عامرًا حدَّثه، قال سليمان: "ولا أعلمه إلَّا أنَّه حدثني عن أبيه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لو أنَّ أقلَّ ظفر من الجنَّة برز في الدنيا لتزخرف له ما بين السماء والأرضِ". أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (57). والحديث ضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسنادِ إلَّا من حديث ابن لهيعة، وقد روى يحيى بن أيوب هذا الحديث عن يزيد بن أبي حبيب وقال: عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". بينما رجَّح الدَّارقطني طريق الليث بن سعد -الَّذي رواهُ ابن لهيعة- على طريق يحيى بن أيوب فقال: "والأوَّل أصحُّ". قلتُ: إنْ كان طريق الليث محفوظًا، فالأمرُ كما قال الدارقطني، ويصبح الإسناد صحيحًا؛ إنْ سَلِمَ من تدليس ابن لهيعة؛ وإلَّا فالأمرُ كما قال الترمذي، وهو أشبه بالصواب، واللَّه أعلم. (1) من "أ" فقط. (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (267)، وابن أبي حاتم في تفسيره (كما عند ابن كثير (4/ 145) وليس فيه هذا اللفظ. وفي سنده ابن لهيعة فيه ضعف، ولم يُصرِّح بالسماع، وفي سماع الحسن من أبي هريرة اختلاف. انظر جامع التحصيل للعلائي ص (164).

(1/426)


وقد أخرجا في "الصحيحين" (1) والسياق لمسلم: عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يدهُ حتى تبلغ إبطه، فقلتُ له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال يا بني فَرُّوخ أنتم ها هنا؟ لو علمتُ أنَّكم ها هنا ما توضأتُ هذا الوضوء، سمعتُ خليلي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "تبلغُ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". وقد احتجَّ بهذا من يرى استحباب غسل العَضُد وإطالته. والصحيح أنَّه لا يستحب، وهو قول أهل المدينة، وعن أحمد روايتان (2) . والحديث لا يدلُّ على الإطالة (3) ، فإنَّ الحلية إنَّما تكون زِينًا في الساعد والمِعصم لا في العضد والكتف. وأمَّا قوله: "فمن استطاع منكم أنْ يطيل غرَّتهُ فليفعل" (4) . __________ (1) أخرجه البخاري رقم (136)، من طريق: نعيم المجمر، ومسلم (250). (2) انظر: الكافي فقه أهل المدينة لابن عبد البر ص (21 - 22)، والمعونة للقاضي عبد الوهاب (1/ 123). وشرح العمدة لابن تيمية (الطهارة) (214). (3) في نسخةٍ على حاشية "أ": "إطالته". (4) أخرجه البخاري رقم (136)، ومسلم في صحيحه (246)، وأحمد (2/ 523) كما سيأتي. من طريق نُعَيم بن عبد اللَّه المُجْمِر عن أبي هريرة بلفظ "إنَّ أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا محجَّلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم. . . ".

(1/427)


فهذه الزيادة مدرجة في الحديث من كلام أبي هريرة لا من كلام النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بيَّن ذلك غير واحدٍ من الحفَّاظ (1) . وفي "مسند الإمام أحمد" في هذا الحديث قال نُعَيْمٌ: فلا أدري قوله: "من استطاع منكم أنْ يطيل غرته فليفعل" من تمام كلام النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو شيء قاله أبو هريرة من عنده. وكان شيخنا يقول: "هذه اللفظة لا يمكن أنْ تكون من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ الغرة لا تكون في اليد، لا تكون إلَّا في الوجه، وإطالتها غير ممكنة، إذ تدخل في الرأس ولا يسمَّى ذلك غُرَّة". وفي "صحيح مسلم" (2) عن أبي هريرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من يدخل الجنَّة ينعمُ لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، في الجنَّة ما لا عينٌ رأت، وأُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وقوله: "لا تبلى ثيابه": الظاهر أنَّ المراد به الثِّياب المُعَيَّنة لا يلحقها البِلَى، ويحتمل: أنْ يراد به الجنس، بل لا تزال عليه الثياب الجُدد، كما أنَّها لا ينقطع أكلها في جنسه، بل كلُّ مأكولٍ يخلفه مأكولٌ آخر، واللَّهُ أعلم. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا __________ (1) راجع: الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 149)، وزاد المعاد (1/ 196)، وفتح الباري (1/ 236)، وإرواء الغليل (1/ 133). (2) رقم (2836)، وأخرجه أحمد (2/ 369 و 416) والَّلفظ له، ولفظ مسلم إلى قوله "شبابه".

(1/428)


محمد بن أبي الوضاح، حدثنا العلاء بن عبد اللَّه بن رافع، حدثنا حنان (1) بن خارجة عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال: جاء أعرابي جرمي (2) فقال: يا رسول اللَّهِ أخبرنا عن الهجرة: أإليك (3) أينما كنت، أم لقومٍ خاصة، أم إلى أرضٍ معلومة، أم إذا مِتَّ انقطعت؟ فسأل ثلاث مرَّات، ثمَّ جلس، فسكت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسيرًا (4) ثمَّ قال: أين السائل؟ فقال: ها هو ذا يا رسول اللَّه، قال: الهجرة: أنْ تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثمَّ أنتَ مهاجرٌ وإنْ متَّ بالحَضَر. فقام آخر: فقال: يا رسول اللَّه أخبرني عن ثياب أهل الجنَّة أتُخلق خلقًا أم تنسج نسجًا؟ قال: فضحك بعض القوم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: تضحكون من جاهلٍ يسأل عالمًا! فسكتَ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ساعة (5) ، ثمَّ قال: أينَ السَّائلُ (6) ؟ فقال: ها هو ذا يا رسول اللَّه، قال: لا (7) ، بل تُشقَّقُ عنها ثمر الجنَّة" (8) ثلاث __________ (1) في "أ، ب، ج، د" "حبَّان"، وفي "هـ" "حيَّان" وكلاهما خطأ، انظر المؤتلف والمختلف للدَّارقطني (1/ 428)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 298 - 299)، والتاريخ الكبير للبخاري (3/ 112) وغيرها. (2) كذا في جميع النسخ "جرمي"، ووقع في المسند "جريء". (3) من "أ"، وفي باقي النسخ والمسند بدون همزة الاستفهام. (4) في المسند "عنه يسيرًا". (5) في المسند "ثمَّ أكبَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" بدل "فسكت النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ساعةً". (6) في "هـ" زيادة "عن ثياب أهل الجنَّة". (7) ليس في "ب". (8) أخرجه أحمد في المسند (2/ 244 - 225)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (171). =

(1/429)


مِرار (1) . وقال الطبراني في "معجمه" حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني والحسن بن علي الفَسَوي قالا: حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا فضيل ابن مرزوق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد اللَّه عن النَّبي __________ = - ورواهُ الطيالسي ومحمد بن سنان العوقي عن محمد بن أبي الوضَّاح به نحوه. أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (2391) مطوَّلًا، والبخاري في تاريخه (3/ 112)، والبزار في مسنده رقم (2434)، والدارقطني في المؤتلف والمختلف (1/ 428) مختصرًا وغيرهم. - ورواهُ محمد بن عبد اللَّه بن علاثه عن العلاء بن عبد اللَّه به نحوه. أخرجه أحمد (2/ 203)، والبخاري فى تاريخه (3/ 112) تعليقًا، وأبو داود (2519) ولم يسقه، وذكر لفظًا آخر. قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا الَّلفظ إلَّا عن عبد اللَّه بن عمرو، ولا نعلمُ له طريقًا إلَّا هذا الطريق". وفيه العلاءُ بن عبد اللَّه بن رافع: قال أبو حاتم: "يكتب حديثه"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن القطان: "مجهول الحال"، وقال ابن حجر: "مقبول"، وفيه أيضًا حنان: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حجر: "مقبول". انظر: تهذيب الكمال (22/ 516)، و (7/ 425 - 427). والحديث قال عنه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (4/ 35): "وهو ضعيف. . . حنان بن خارجة مجهول، لا يُعرف له حال، ولا يعرف روى عنه غير العلاء بن عبد اللَّه. . . وهو أيضًا لا تعرف حاله. . . وعلَّة الخبر على كلَّ مذهب الجهل بحال حنان بن خارجة المذكور". (1) في نسخةٍ على حاشية "أ"، والمسند "مرَّات"، وسقط من "هـ" "ثلاث مرَّات".

(1/430)


-صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أوَّل زُمْرةٍ يدخلون الجنَّة، كأنَّ وجوههم ضوءُ القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على لون أحسن كوكب دُرِّيٍّ في السماء، لكلَّ واحدٍ منهم زوجتان من الحورِ العينِ، على كلِّ زوجةٍ سبعون حُلَّة يُرى مُخُّ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما، كما يُرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء" (1) . وهذا الإسناد على شرط الصحيح. وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد حدثنا الخزرج بن (2) عثمان السعدي، حدثنا أبو أيوب مولًى لعثمان بن عفان عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قِيْدُ سوط أحدِكم من الجنَّة خيرٌ من الدنيا ومثلها معها، ولقابُ قوسِ أحدكم من الجنَّة خيرٌ من الدنيا ومثلها معها، ولنصيف امرأةٍ من الجنَّة خيرٌ من الدنيا ومثلها معها" قال: قلتُ يا أبا هريرة ما النَّصيف؟ قال: الخِمارُ (3) . __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 198 - 199) رقم (10321)، والبزار في مسنده (5/ 243) رقم (1855)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 100). - ورواه الثوري ويونس عن أبي إسحاق عن عمرو قوله مختصرًا. بلفظ إنَّ المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلَّة. . . بيضاء". أخرجه هناد في الزهد رقم (12)، والطبري في تفسيره (27/ 152). - ورواه معمر عن أبي إسحاق به موقوفًا. - ورواه عطاء بن السائب عن عمرو به موقوفًا. قلت: المقطوع أصح من الموقوف والمرفوع، راجع ص (257)؛ لأن الثوري ويونس أحفظ وأثبت من معمر. ولأن أبا إسحاق أحفظ وأثبت من عطاء بن السائب. واللَّه أعلم. (2) في "ج": "عن" وهو خطأ. (3) أخرجه أحمد (2/ 483)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (183)، وأبو نعيم =

(1/431)


وقال ابن وهب: أخبرنا عمرو أنَّ درَّاجًا أبا السَّمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخُدْري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ الرجل في الجنَّة ليتَّكئ سبعين سنة قبل أنْ يتحول، ثمَّ تأتيه امرأةٌ فتضرب على منكبه، فينظر وجْهَهُ في خدِّها أصفى من المرآة، وإنَّ أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، فتسلم عليه فيرد السلامَ، ويسألها من أنتِ؟ فتقول: أنا المزيد، وإنَّه ليكون عليها سبعون ثوبًا أدناها مثل النعمان من طوى (1) ، فينفذها بصره، حتى يرى مُخَّ ساقها من وراء ذلك، وإنَّ عليهم التِّيجان، وإنَّ أدنى لؤلؤة عليها __________ = في صفة الجنَّة رقم (59): من طريق الخزرج به نحوه. وقد خولف الخزرج في لفظه. - فرواهُ سكن بن المغيرة أنبأنا سليمان أبو أيوب قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "موضع سوط في الجنَّة خيرٌ من الدنيا وما فيها". أخرجه الدولابي فى "الكنى والأسماء" (1/ 103). قلت: وهذا أصح. - فقد رواهُ أبو سلمة وهمام بن منبه والأعرج وعبد الرحمن بن أبي عمرة كلهم عن أبي هريرة بنحوه أو معناهُ، وليس فيه زيادة "ومثلها معها، ولنصيفُ امرأة من الجنَّة. . . الخمار". أخرجه أحمد (2/ 482 و 315 و 438)، والترمذي (3013)، والدولابي (1/ 167) وغيرهم. والخزرج متكلَّم فيه. وجاءَ من حديث أنس وفيه ". . . ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها". عند البخاري في صحيحه رقم (2643 و 6199). والحديث صححه الترمذي وابن حبان. (1) في "هـ" وبعض نسخ المسند "طوبى".

(1/432)


لتضيءُ ما بين المشرق والمغرب" (1) . وروى الترمذي منه ذكر التيجان: "وإنَّ أدنى لؤلؤة" عن سويد بن نصر، عن رِشْدين بن سعد عن عمرو به. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن إدريس الحنظلي، حدثنا أبو عتبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام الأسود قال: سمعت أبا أُمامة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما منكم من أحدٍ يدخل الجنَّة إلَّا انطلقَ به إلى طُوبى، فتُفتح له أكمامها فيأخذُ من أيِّ ذلك شاء: [إنْ شاء] (2) أبيض، وإنْ شاء أحمر، وإنْ شاء أخضر، وإنْ شاء أصفر، وإنْ شاء أسود، مثل شقائق __________ (1) أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (81)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7397) وغيرهما. - ورواهُ رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث به نحوه. أخرجه الترمذي رقم (2562)، وابن المبارك في مسنده رقم (119) وغيرهما. - ورواهُ ابن لهيعة عن درَّاج به نحوه. أخرجه أحمد (3/ 75)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (284). والحديث صححه ابن حبان والحاكم وحسنه الهيثمي. وضعفه الترمذي فقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من حديث رشدين ابن سعد". وقال الذهبي معقِّبًا على الحاكم: "درَّاج صاحب عجائب". قلتُ: تقدَّم الكلامُ على هذه الرواية "درَّاج عن أبي الهيثم" في الباب "10" ص (117 - 119). (2) ما بين المعكوفتين من مصدر التخريج.

(1/433)


النعمان، وأرق وأحسن" (1) . وقال ابن أبي الدنيا: وحدثنا سويد عن سعيد حدثنا عبد ربه بن بارق الحنفي (2) عن خاله (3) الزُّميل أنَّه سمع أباهُ قال: قلتُ لابن عباس: ما حُللُ الجنَّة؟ قال: "فيها شجر فيها ثمرٌ كأنَّه الرُّمان، فإذا أراد وليُّ اللَّه كسوةً انحدرت إليه من غُصنها، فانفلقت عن سبعين حلةً ألوانًا بعد ألوانٍ، ثمَّ تنطبق فترجعُ (4) كما كانتْ" (5) . قال: وحدثنا عبد اللَّه حدثنا أبو خيثمة حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثني درَّاج أبو السَّمح أنَّ أبا الهيثم حدثه، عن أبي سعيد عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ رجلًا قال له: يا رسول اللَّه طُوبَى لمن رآك وآمن بكَ، قال: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى، ثمَّ طوبى، ثمَّ طوبى، لمن آمن بي ولم يرني، فقال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرةٌ في الجنَّة مسيرة مئة سنة، ثيابُ أهل الجنَّة تخرج من __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (149)، وابن أبي حاتم في تفسيره كما في البدور السافرة رقم (1957). وفيه سعيد بن يوسف الرحبي فيه ضعف، وحديثه منكر بهذا الإسناد، لتفرده عن يحيى بن أبي كثير بهذا. انظر: تهذيب الكمال (11/ 124 - 126). (2) في "أ، ج، هـ": "الخثعمي" هو خطأ. (3) في "أ، ج، د، هـ": "خالد" وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (16/ 473). (4) في "ب، د": "ثمَّ تسطبق ترجع" بدل "ثمَّ تنطبق فترجع". (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (147) مطوَّلًا. وقد تقدَّم ص (290).

(1/434)


أكمامها" (1) . قال: وحدثني يعقوب بن عبيد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا حماد بن سلمة عن أبي المُهَزِّم قال: قال أبو هريرة: "دارُ المؤمن في الجنَّة لؤلؤة فيها شجرة تنبتُ الحلل، فيأخذ الرجلُ بأصبعيه -وأشارَ بالسَّبابة والإبهام- سبعين حلَّة مُتَمَنْطِقةً باللؤلؤ والمرجان" (2) . قال: وحدثنا حمزة بن العباس حدثنا عبد اللَّه بن عثمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد قال: قال كعبٌ: "لو أنَّ ثوبًا من ثياب أهل الجنَّة لُبِسَ اليومَ في الدنيا لصعق من ينظر إليه، وما حملته أبصارهم" (3) . وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن بُشَير بن كعب أو غيره قال: "ذكر لنا أنَّ الزوجة من أزواج __________ (1) تقدم ص (353). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (151). ورواهُ ابن المبارك وعفان كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه. أخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نُعيم- رقم (262)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 64) رقم (34029). ومداره على أبي المهزِّم التميمي البصري، وهو متروك الحديث. انظر التقريب رقم (8397). (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (152)، وابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (417). وفيه انقطاع بين شريح بن عبيد وكعب الأحبار، قال الحافظ المزي: "ولم يدركه". انظر: تهذيب الكمال (12/ 446).

(1/435)


الجنَّة لها سبعون حلَّة هي أرقُّ من شُقَيْقكم (1) هذا، يُرى مخُّ ساقِها من وراء اللحم" (2) . وفي "الصحيحين" (3) عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: أهدَى أُكَيْدَرُ دومَة إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جُبَّةً من سُندس، فتعجَّب النَّاسُ من حُسْنِها، فقال: "لمناديلُ سعدٍ في الجنَّة أحسنُ من هذا". وفي "الصحيحين" (4) من حديث البراء قال: أُهديَ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثوب حرير، فجعلوا يعجبون من لينه، فقال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تعجبون من هذا؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنَّة أحسنُ من هذا". ولا يخفى ما في ذكر سعد بن معاذ بخصوصه ها هنا، فإنَّه كان في الأنصار بمنزلة الصِّدِّيق في المهاجرين، واهتزَّ لموته العرش (5) ، وكان لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، وختم اللَّهُ له بالشهادة، وآثر رضا اللَّهِ ورسوله، على رضا قومه وعشيرته وحلفائه، ووافق حكمه الَّذي حكم به حُكم اللَّه فوق سبع سماواته (6) ، ونعاهُ جبريل عليه السلام إلى النَّبي __________ (1) في "ب، د": "شفقكم"، وفي "هـ" "شققكم" وعند ابن أبي الدنيا "شفكم"، والمثبت هو الصواب، وشُقيقكم تصغير شُقَّة وهو ضَرْبٌ من الثياب، وقيل نصف ثوب. انظر: معجم تهذيب اللغة للأزهري (2/ 1906)، والمعجم العربي لأسماء الملابس ص (270). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (154) وسنده صحيح. (3) البخاري رقم (2473 و 3076)، ومسلم رقم (2469). (4) البخاري رقم (3077)، ومسلم رقم (2468). (5) أخرجه البخاري رقم (3592)، ومسلم رقم (2466). (6) أخرجه البخاري رقم (2878) (2593)، ومسلم رقم (1768)، =

(1/436)


-صلى اللَّه عليه وسلم- يوم موته (1) , فحُقَّ له أنْ تكون مناديله التي يمسح بها يديه في الجنَّة أحسن من حُلَل الملوك. __________ = ولفظه ". . . لقد حكمت فيهم بحكم الملك" وفي لفظ "حكمت بحكم اللَّه". (1) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة رقم (1489) وهو مرسل.

(1/437)


فصل ومن ملابسهم التِّيجان على رؤوسهم ذكر البيهقي من حديث يعقوب بن حُمَيْد بن كاسب، حدثنا هشام ابن سليمان عن عكرمة عن إسماعيل بن رافع عن سعيد المُقْبُرِي وزيد ابن أسلم عن أبي هريرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: من قرأ القرآن فقام به آناء الليل والنهار، ويُحل حلالَه ويحرِّم حرامه، خلطه اللَّهُ بلحمه ودمه، وجعله رفيق السفرةِ الكرام البرَرَةِ، وإذا كان يوم القيامة كان القرآن له حجيجًا، فقال: يا رب كلُّ عاملٍ يعمل في الدنيا يأخذ بعمله من الدنيا؛ إلَّا فلانًا كان يقوم بي (1) آناءَ الليل والنهار، فيحل حلالي، ويحرِّم حرامي يقول: يا ربِّ، فأعطه، فيتوِّجُهُ اللَّه تاجَ الملكِ ويكسوهُ من حُلَّة (2) الكرامة، ثمَّ يقول له (3): رضيت؟ فيقول: يا ربِّ أرغبُ له في أفضل من هذا، فيعطيه اللَّه الملكَ بيمينه، والخلدَ بشماله، ثمَّ يقول له: هل رضيتَ؟ فيقول: نعم يا ربِّ" (4). __________ (1) عند البيهقي "في". (2) عند البيهقي "حُلَل". (3) في "ب، ج، د، هـ" ونسخة على حاشية "أ": "هل". (4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/ 554 - 556) رقم (1836). - ورواهُ محمد بن عبيد المحاربي عن أبي رافع عن المقبري عن أبي هريرة نحوه. أخرجه الجورقاني في الأباطيل (2/ 283) رقم (686). وقال: "هذا حديثٌ باطل، ومحمد بن عبيد المحاربي لم يسمع من أبي =

(1/438)


وذكر الإمام أحمد في "المسند" من حديث ابن (1) بُرَيْدة عن أبيه يرفعه: "تعلموا سورة البقرة فإنَّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَةُ، ثمَّ سكت ساعة، ثمَّ قال: تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنَّهما الزهراوان، وإنَّهما يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنَّهما غَمَامَتَان أو غَيَايتان أو فرقان من طيرٍ صوافَّ، والقرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرَّجل الشَّاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول له (2) : ما أعرفك، فيقول: أنا (3) القرآن، أنا الَّذي أظمأتُك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإنَّ كلَّ تاجرٍ من وراء تجارته، وإنَّك اليومَ من وراء كلِّ تجارة، فيعطى الملكَ بيمينه، والخلدَ بشماله، ويوضع على رأسه تاجُ الوقار، ويكسى والداهُ حلتين لا تقومُ لهما الدنيا، فيقولان: بِمَ كُسينا (4) هذا؟ فيقال: بأخذِ ولدكما القرآن، ثمَّ يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنَّة وغرفها، فهو في صعودٍ ما دام يقرأ: هذًّا كان، أو ترتيلًا" (5) . __________ = رافع المدني شيئًا، ولم يره". والحديث مداره على أبي رافع إسماعيل بن رافع المدني وهو ضعيف، وقال ابن عدي في الكامل (1/ 281): "وأحاديثه كلها ممَّا فيه نظر؛ إلَّا أنَّه يكتب حديثه في جملة الضعفاء". (1) في "ب، د": "أبي" وهو خطأ. (2) ليس في "هـ" ولا المسند. (3) وقع في "ج، د" ونسخة على حاشية "أ": "له"، وفي "ب، هـ" "له أنا"، وفي المسند "فيقول: أنا صاحبك القرآن الَّذي أظمأتك". (4) في "د، ج، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "كسَيْتَنَا". (5) أخرجه أحمد في المسند (5/ 348)، وابن الضريس في فضائل القرآن رقم =

(1/439)


البَطَلة: السَّحَرة. والغَيَاية: ما أظل الإنسان فوقه. وقال عبد اللَّه بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تلا قوله عزَّ وجلَّ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [فاطر: 33] فقال: "إنَّ عليهم التيجان، إنَّ أدنى لؤلؤةٍ منها لتضيءُ ما بين المشرق والمغربِ" (1). فصل وأمَّا الفرش: فقد قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، وقال تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} [الواقعة: 34]. __________ = (99)، وابن عدي في الكامل (2/ 21) وغيرهم من طريق الفضل بن دكين عن بشير بن المهاجر عن ابن بريدة عن أبيه رفعه بنحوه. ورواه جماعه عن بشير بن المهاجر به نحوه. أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/ 144) والبزار في مسنده (10/ 4421)، والآجري في أخلاق أهل القرآن رقم (24) وابن عدي في الكامل (2/ 21) والحاكم (1/ 742 و 756 - 757) رقم (2043 و 2086) وغيرهم. والحديث صححه الحاكم والبوصيري وحسنه البغوي وابن كثير. والحديث عده العقيلي وابن عدي من منكرات بشير بن المهاجر بل قال العقيلي: "ولا يصح في هذا الباب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث، أسانيدها كلها متقاربة". قال الإمام أحمد -وذكر بشير بن المهاجر- فقال: منكر الحديث، قال: اعتبرت أحاديثه فإذا هو يجيء بالعجب. (1) تقدم ص (432 - 433).

(1/440)


فَوَصَفَ الفُرُش بكونها مبطنة بالإستبرق، وهذا يدلُّ على أمرين: أحدهما: أنَّ ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها؛ لأنَّ بطائنها للأرض، وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة. قال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق عن هُبيرة بن يريم، عن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنه في قوله تعالى: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، قال: "هذه البطائن قد خُبِّرتم بها، فكيفَ بالظَّهائر (1) ؟ " (2) . الثاني: يدلُّ على أنَّها فرش عالية لها سَمْك وحَشْو بين البطانة والظهارة. وقد رُوِيَ في سمكها وارتفاعها آثار؛ إنْ كانت محفوظة، فالمراد: ارتفاع محلِّها؛ كما رواهُ الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمس مئة عام" (3) . __________ (1) في "د": "تكون الظهائر" بدل "بالظهائر". (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (158)، والطبري في تفسيره (27/ 149) والبيهقي في البعث والنشور رقم (330) وغيرهم. وسندة لا بأس به لحال هبيرة بن يريم. انظر تهذيب الكمال (30/ 150 - 152). (3) أخرجه الترمذي رقم (2540، 3294)، والطبري في تفسيره (27/ 185)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (593) وغيرهم. من طريق رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم =

(1/441)


قال الترمذي: "حديث غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث رشدين بن سعد. قيل (1) : ومعناهُ أن الارتفاع المذكور للدرجات، والفرش عليها" (2) . قلتُ: رشدين بن سعد عنده مناكير: قال الدارقطني: "ليس بالقوي"، وقال الإمام أحمد: "لا يبالي عمَّن روى، وليس به بأس في الرقاق"، وقال: "أرجو أنَّه صالح الحديث"، وقال يحيى بن معين: "ليس بشيء"، وقال أبو زرعة: "ضعيف"، وقال الجوزجاني: "عنده مناكير" (3) . __________ = عن أبي سعيد فذكره. - وقد توبع رشدين: تابعه عبد اللَّه بن وهب عن عمرو بن الحارث به. أخرجه الطبري (27/ 185)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (272)، وابن حبان في صحيحه رقم (7405) وغيرهم. - ورواه ابن لهيعة عن دراج به نحوه. أخرجه أحمد (3/ 75) (11719)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (157)، وأبو يعلى في مسنده رقم (1395) وغيرهم. والحديث ضعفه الترمذي كما نقل المؤلف، وقال الترمذي في الموضع الآخر: "حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين". وصححه ابن حبان والضياء في المختارة. وانظر اللآلئ المصنوعة للسيوطي (2/ 453). (1) ليس في "ب، د". (2) لفظه عند الترمذي ما يلي: "وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: معناه: الفرش في الدرجات، وبين الدرجات كما بين السماء والأرض". وقال في الموضع الآخر: ". . ارتفاع الفرش المرفوعة في الدرجات، والدرجات: ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض". (3) انظر أقوال العلماء فيه: تهذيب الكمال (9/ 191 - 195).

(1/442)


ولا ريبَ أنَّه كان سيء الحفظ، فلا يعتمد على ما ينفرد به (1) . وقد قال عبد اللَّه بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث عن درَّاج أبي السَّمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) } [الواقعة: 34] قال: "ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض" (2) . وهذا أشبه أنْ يكون هو المحفوظ، واللَّهُ أعلم. وقال الطبراني: حدثنا المقدام بن داود حدثنا أسد بن موسى حدثنا حمَّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرِّف بن عبد اللَّه بن الشِّخِّيْر عن كعب في قوله عزَّ وجل: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] قال: "مسيرة أربعين سنة" (3) . __________ (1) في "د": "يتفرَّد به". (2) هذا لفظُ الشاذكوني عن ابن وهب عند البيهقي في البعثِ رقم (342) وفيه "الفرشتين" بدل "الفراشين". لكن الشاذكوني: متروك الحديث، ومتهمٌ بوضع الحديث، وقد خُولف في لفظه. خالفهُ يونس بن عبد الأعلى وحرملة بن يحيى ونُعيم بن حماد -ولم أقف على لفظه- وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب -بحْشل- كلهم عن ابن وهب به بلفظ: "والَّذي نفسي بيده إنَّ ارتفاعها لكما بين السماء والأرضِ لمسيرة خمسمائة سنة". ونقل هذا الترجيح ابن كثير في النهاية في الفتن والملاحم ص (376). (3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 206) رقم (35322) عن عفان عن =

(1/443)


قال الطبراني: وحدثنا إبراهيم (1) بن نائلة، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي حدثنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أُمامة قال: سُئِلَ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الفرش المرفوعة قال: "لو طُرِحَ فراشٌ من أعلاها لهوى إلى قرارها مئة خريف" (2) . __________ = حماد بن سلمة به مثله. والأثرُ مدارهُ على علي بن زيد بن جدعان وفي حفظه كلام. (1) ليس في "أ". (2) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 289) رقم (7947). - ورواهُ وكيع عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: "لو خرَّ من أعلاها فراش لهوى إلى قرارها كذا وكذا خريفًا". أخرجه هنَّاد في الزهد رقم (79)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (34071). وهذا هو المحفوظ، ورواية الطبراني خطأ، والحملُ فيه على إسماعيل ابن عمرو البجلي: فإنه ضعيف الحديث، الجرح والتعديل (2/ 190)، وجعفر بن الزبير: متروك الحديث، وقد اتهم بوضع الحديث. انظر: تهذيب الكمال (5/ 32 - 37). وقد توبع عليه، تابعه هشام الدستوائي كما سيأتي عند المؤلِّف. أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (161). لكن يظهر لي أنَّ هشامًا لم يسمعه من القاسم، وإنَّما علَّقه عن القاسم، بدليل أنَّهُ لم يذكر السماع في أصله بل قال "عن القاسم. . " وأيضًا لا يُعرف لهشام رواية عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي، وإنَّما جُلّ روايته عن العراقيين، وخاصَّة البصريين والمكيين. انظر: تهذيب الكمال (30/ 216)، وعليه فيحتمل أنْ يرجع الحديث إلى جعفر بن الزبير واللَّه أعلم.

(1/444)


وفي رفع هذا الحديث نظر، فقد قال ابن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق ابن إسماعيل حدثنا معاذ بن هشام قال: وجدت في كتاب أبي عن القاسم عن أبي أُمامة في قوله عزَّ وجل: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} قال: "لو أنَّ أعلاها سَقَطَ ما بلغَ أسفلها أربعين خريفًا". فصل وأمَّا البُسُط والزَّرابي: فقد قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)} [الرحمن: 76]، وقال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} [الغاشية: 13 - 16]. ذكر هشيم (1) عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: "الرَّفْرف: رياض الجنَّة، والعَبْقَرِي: عتاق الزرابي" (2). وذكر إسماعيل بن عُليَّة عن أبي رجاء عن الحسن في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)} قال: "هي البُسط"، قال: وأهل المدينة يقولون: هي البُسط" (3). __________ (1) في نسخة على "أ" "هشام" وهو خطأ، وهشيم هو ابن بشير الواسطي. (2) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (270)، وابن أبي الدنيا صفة الجنَّة رقم (162)، والطبري (27/ 164) وغيرهم. ورواهُ شعبة عن أبي بشر به مثله. أخرجه الطبري (27/ 163) وسنده صحيح. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (163)، والطبري في تفسيره (27/ 163). وسنده صحيح.

(1/445)


وأمَّا النمارق: فقال الواحدي: "هي الوسائد؛ في قول الجميع، واحدها: نُمْرُقة، بضمِّ النُّون، وحكى الفرَّاء: نِمْرِقَة بكسرها" (1)، وأنشد أبو عبيدة: إذا ما بِساطُ الَّلهو مُدَّ وَقُرِّبَتْ ... للَذَّاتِهِ أنماطُهُ ونمارقُه (2) قال الكلبي: "وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض" (3). وقال مقاتل: "هي الوسائد مصفوفة على الطنافس" (4). {وَزَرَابِيُّ} يعني: البسط، والطَّنافس. واحدها زِرْبِيَّة: في قول جميع أهل اللغة والتفسير. و {مَبْثُوثَةٌ}: مبسوطة منشورة (5). فصل وأمَّا الرَّفْرف: فقال الليث: "هو ضربٌ من الثياب خضر تبسط. الواحد: رَفْرَفة" (6). وقال أبو عبيدة: "الرَّفارِف: البسط، وأنشد لابن مُقبل: __________ (1) انظر: الوسيط للواحدي (4/ 475)، ومعاني القرآن للفرَّاء (3/ 258). (2) انظر: لسان العرب (10/ 361)، ونسبه لمحمد بن عبد اللَّه بن نُمير الثقفي. (3) انظر: الوسيط (4/ 475). (4) انظر: تفسير مقاتل (3/ 479). (5) انظر: الوسيط (4/ 475)، وتفسير الطبري (30/ 164). (6) انظر: العين المنسوب للخليل بن أحمد ص (359)، دار إحياء التراث، (7) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/ 190).

(1/446)


وَإنَّا لنزَّالون تغْشى نِعَالنَا ... سَواقِطُ من أصنافِ ريْطٍ وَرَفْرَفُ" (1) وقال أبو إسحاق: "قالوا الرفرف ها هنا: رياض الجنَّة، وقالوا: الرفرف: الوسائد، وقالوا: الرفرف: المحابس، وقالوا: فضول المحابس للفرش". وقال المبرد: "هو فضول الثياب التي تتخذ الملوك (2) في الفرش وغيره". قال الواحدي: "وكأنَّ الأقرب هذا؛ لأنَّ العرب تسمِّي كِسَرَ الخِبَاءِ، والخِرْقة التي تخاط في أسفل الخباء: رفرفًا، ومنه الحديث في وفاة النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنَّه ورقة (3) " (4) . قال ابن الأعرابيِّ: "الرَّفْرَف: ها هنا طرف البساط، فشبه ما فضل من المحابس (5) ، عمَّا تحته بطرف الفسطاط، فسمي رفرفًا". قلتُ: أصل هذه الكلمة من الطَّرَف والجانب، فمنه: الرَّفُّ في الحائط. ومنه: الرفرف، وهو كسر (6) الخباء، وجوانب الدرع، وما تدلَّى منها، الواحدة رفرفة. ومنه: رفرف الطير (7) : إذا حرَّك __________ (1) انظر: مجاز القرآن (2/ 246)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (44)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/ 190). (2) في "ج" "تُتَّخذ للملوك"، وفي نسخة على حاشية "أ" "الملك" بدل "الملوك". (3) في "الصحيحين" "ورقة مصحف". . (4) لم أقف على الرواية التي فيها "الرفرف". والحديث أصله عند البخاري رقم (648)، ومسلم رقم (419)، وفيه ". . فكشف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ستر الحجرة، ينظر إلينا وهو قائم كأنَّ وجهه ورقة مصحف. . ". (5) في "أ، ج، هـ": "المجلس"، وفي "ب، د": "المحبس". (6) في "ج": "كسره". (7) في "ج": "الطائر".

(1/447)


جناحيه حول الشَّيء، يريد أنْ يقع عليه. والرفرف: ثياب خضر تُتَّخَذُ منها المحابس، الواحدة رفرفة. وكل ما فضل من شيء فثُنِيَ وعُطِفَ فهو رفرف، وفي حديث ابن مسعود في قوله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 18] قال: "رأى رفرفًا أخضر سدَّ الأُفق" (1). وهو في "الصحيحين". فصل وأمَّا العَبْقَريُّ: فقال أبو عبيدة: "كل شيء من البُسُط عبقري. قال: ويرون أنَّها أرض يُوَشَّى (2) فيها" (3). وقال الليث: "عبقر: موضع بالبادية كثير الجن، يقال: كأنَّهم جنُّ عبقر" (4). وقال أبو عبيد في حديث النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين ذكر عمر: "فلَمْ أرَ عبقريًّا يفرِي فَرِيَّه" (5) وإنَّما أصلُ هذا فيما يقال: إنَّه نُسِبَ إلى عبقر، وهي أرضٌ يسكنها الجنُّ، فصارَ مثلًا منسوبًا إلى شيء رفيعٍ، وأنشد لزهير: __________ (1) أخرجه البخاري برقم (3061، 4577)، ولم يخرجه مسلم في صحيحه. (2) في "أ، ب، هـ": "موشى"، وفي "ج": "وُشِي". (3) انظر: مجاز القرآن (2/ 246)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (444)، وفتح القدير للشوكاني (5/ 174). (4) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (3/ 2309). (5) أخرجه البخاري رقم (3434)، ومسلم برقم (2393) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما.

(1/448)


بِخَيْلٍ (1) عليها جِنَّةٌ عبقريةٌ ... جَدِيرون يومًا أنْ ينالوا فيستعلوا (2) قال أبو الحسن الواحدي: "وهذا القول هو الصحيح في العبقري، وذلك أنَّ العربَ إذا بالغتْ في وصف شيءٍ نَسَبتْهُ إلى الجنِّ، أو شَبَّهته بهم، ومنه قول لَبِيْدٍ: جِنُّ البَديِّ رواسيًا أقدامُها (3) وقال آخر يَصِفُ امرأةً: جنِّيةٌ ولها جِنٌّ يُعلِّمُها ... رَمْيَ القُلوبِ بِقَوْسٍ ما لها وَتَر (4) وذلك أنَّهم يعتقدون في الجن كل صفة عجيبة، وأنَّهم يأتون بكلِّ أمرٍ عجيبٍ، ولمَّا كان عبقر معروفًا بسكناهم نسبوا كلِّ شيءٍ مبالغٍ فيه إليها، يريدون بذلك أنَّه من عملهم وصنعهم. هذا هو الأصل، ثمَّ صار العبقري اسمًا ونعتًا لكلِّ ما بُولِغَ في صفته، ويشهد لما ذكرنا بيت زهير، فإنَّه نسب الجن إلى عبقر، ثمَّ رأينا أشياء كثيرة نُسِبَت إلى عبقرٍ غير البسط والثياب: كقوله في صفة عمر "عَبْقَرِيًّا" (5) ، وروى سلمة عن الفرَّاء قال: العبقري: السَّيِّد من الرجال، وهو الفاخر من الحيوان __________ (1) في "أ، ب، ج، د": "نخيل"، والمثبت من "هـ"، وديوان زهير وغيره. (2) انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 87 - 88)، والبيت في ديوان زهير ص (52). (3) انظر: ديوانه ص (177)، وصدر البيت: غلب تشذَّر بالدُّخول كأنَّها. (4) انظر: "الحماسة البصرية" للبصري ص (879) وهو منسوب لمحمد بن بشير الخارجي، وقيل: لأبي دهبل الجمحي. (5) تقدم ص (448).

(1/449)


والجوهر". فلو كانت عبقر مخصوصة بالوشي، لما نُسِبَ إليها غير الموشَّى، وإنَّما ينسب إليها البسط المُوَشِّية العجيبة الصنعة، لما (1) ذكرنا، كما نسب إليها كل ما بولغ في وصفه. قال ابن عباس: "وعبقري: يريد البسط والطنافس" (2) ، وقال الكلبي: "هي الطنافس المُخْمَلة" (3) ، وقال قتادة: "هي عتاق الزَّرابي" (4) ، وقال مجاهد: "الديباج الغليظ" (5) ، وعبقريٌّ: جمع. __________ (1) في "ب": "كما". (2) لم أقف عليه. وجاء عن ابن عباس قال: "عبقري: الزرابي". أخرجه الطبري (27/ 164) وسنده حسن. وجاء عن ابن عباس أيضًا: "يعني الوسائد". ذكره ابن أبي زمنين في تفسيره (4/ 335). (3) انظر: النكت والعيون للماوردي (6/ 261). (4) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (2/ 216) رقم (3112)، والطبري في "تفسيره" (27/ 164). من طرق عن قتادة بلفظ "العبقري: الزرابي". وسنده صحيح. (5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 67) رقم (34075) والَّلفظ له، وهناد في الزهد رقم (83)، عن وكيع عن الثوري عن رجل عن مجاهد فذكره. ورواهُ قبيصة عن الثوري عن رباح بن أبي معروف عن مجاهد قال: "الديباج". أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 66) رقم (34061). فالرجل المبهم هو رباح، وقد كان وكيع إذا استضعف رجلًا لم يُسمِّه كما نصَّ عليه الإمام أحمد، وقد ضعَّف جماعةٌ رباحَ المكي، وقال بعضهم: صالح، انظر: تهذيب الكمال (9/ 48 - 49). فالإسناد لا بأس به.

(1/450)


واحِدُهُ عبقرية، ولهذا وُصِفَ (1) بالجمع". وتأمَّل كيف وصَفَ سبحانه وتعالى الفُرش بأنَّها مرفوعة، والزرابي بأنَّها مبثوثة، والنمارق بأنَّها مصفوفة، فرفْعُ الفرش دالٌ على سُمْكِهَا ولينها، وبثُّ الزرابي دالٌّ على كثرتها، وأنَّها في كل موضع لا يختصُّ بها صدر المجلس دون مؤخره وجوانبه، وصفُّ (2) المساند، يدلُّ على أنَّها مهيأة للاستناد إليها دائمًا، ليست مُخَبَّأة تُصَفُّ في وقتٍ دون وقتٍ، واللَّهُ أعلمُ. __________ (1) في "د": "يُوْصَف". (2) في "هـ": "ووصف".

(1/451)


 الباب الحادي والخمسون في ذكر خيامهم وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم (1)

قال اللَّهُ تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)} [الرحمن: 72]، وفي "الصحيحين" (2) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه عن __________ (1) جمع بشخانة: وهي كلمة فارسية معرَّبة، مركَّبة من بشه: أي البعوض، ومن خانه: أي البيت، والمعنى بيت البعوض، وهي الكِلَّة التي تسمِّيها العامة "ناموسية": "وهي غثاء رقيق يخاط كالبيت، يتوقَّى به من البعوض. انظر: المعجم العربي لأسماء الملابس ص (66)، ومعجم عطيَّة في العامي والدخيل ص (171). (2) هذا الحديث وقع فيه اختلاف في لفظة "ستون ميلًا"، وبيانه مختصرًا: يرويه أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن قيس عن أبيه. - فرواهُ الحارث بن عبيد عن أبي عمران به. باللفظ الأوَّل الَّذي ساقه المؤلف عند مسلم (2838) - (23). - ورواهُ عبد العزيز بن عبد الصمد عن أبي عمران به. باللفظ الثاني عند البخاري (4598)، ومسلم (2838) - (24) والَّلفظ له. - ورواهُ همام بن يحيى العوذي عن أبي عمران واختلف عنه: * فرواهُ محمد بن المنهال عن همام به باللفظ الرَّابع "ثلاثون ميلًا". أخرجه البخاري (3071) وأشار إلى هذا الاختلاف. * ورواهُ يزيد بن هارون وعفان بن مسلم وعبد الصمد وعاصم بن علي ومحمد بن كثير كلهم عن همام به بلفظ "ستون ميلًا". أخرجه مسلم (2838) - (25)، وأحمد (4/ 419)، وأبو عوانة كما في الإتحاف (10/ 114)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (606) وغيرهم. وهذا الصحيح "ستون ميلًا"، ولعلَّ الاضطراب من همام بن يحيى فقد كان يحدث حفظًا، حتَّى إذا كان في آخر عمره صار يرجع إلى كتابه وممَّن =

(1/453)


النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ للمؤمن في الجنَّة لخيمة من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوَّفة طولها ستون ميلًا، للمؤمن (1) فيها أهلون يطوف عليهم المؤمنُ فلا يرى بعضهم بعضًا". وفي لفظٍ لهما: "في الجنَّة خيمةٌ من لؤلؤةٍ مجوفة، عرضها ستون ميلًا في كلِّ زاوية منها أهلٌ، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن". وفي لفظٍ آخر لهما أيضًا: "الخيمة دُرَّة طُولها في السماء ستون ميلًا، في كلَّ زاوية منها أهل (2) ، لا يراهم الآخرون". وللبخاري وحده في لفظ: "طُولُها ثلاثون ميلًا". وهذه الخيام غير الغُرَفِ والقصور، بل هي خيام في البساتين، وعلى شواطئ الأنهارِ. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنى الحسين بن عبد الرحمن عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعتُ أبا سليمان قال: ينشأ خلق الحور العين إنشاءً، فإذا تكامل خلقهنَّ ضربت عليهنَّ (3) الملائكة الخيام (4) . __________ = روى عنه أخيرًا عفان بن مسلم وبهز بن أسد وحبَّان بن هلال. وممَّا يدلُّ على عدم ضبط همَّام له، ما رواهُ عبد الصمد عن همام عن قتادة نحوه، فذكر "قتادة" بدل "أبي عمران"، واللَّه أعلم. (1) من مسلم. (2) في "ب، ج": "أهلُ المؤمن"، وفي "د": "أهلٌ للمؤمن". (3) في "ب، د، هـ": "عليهم" وهو خطأ. (4) أخرجه ابن أبي الدنيا برقم (318).

(1/454)


وقال بعضهم: لمَّا كُنَّ أبكارًا، وعادة (1) البكر أنْ تكون مقصورة في خدرها، حتَّى يأخذها بعلها، أنشأ اللَّهُ سبحانه وتعالى الحور وقصرهنَّ في خدور الخيام، حتى يجمع بينهنَّ وبين أوليائه في الجنَّة. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق، حدثنا سفيان، عن جابر عن القاسم بن أبي بَزَّة عن أبي (2) عبيدة عن مسروق عن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: "لكلِّ مسلمٍ خيرةٌ، ولكلِّ خيرةٍ خيمةٌ، ولكلِّ خيمةٍ أربعة أبواب، يدخل عليها كلَّ يومٍ من كلِّ بابٍ تحفةٌ وهديةٌ وكرامةٌ لم تكن قبل ذلك، لا مَرِحاتٍ (3) ولا ذفرات، ولا بخرات ولا طَمَّاحات، حورٌ عينٌ كأنَّهنَّ بيضٌ مكنون" (4) . __________ (1) من قوله "ضربت" إلى "وعادة" سقط من "ج". (2) قوله "بزَّة عن أبي" سقط من "ج"، ووقع في "د" "بردة" بدل "بزَّة" وهو خطأ. (3) في "هـ" "مرجات"، وفي "ب، د" "مزجات" وصُحِّحت في حاشية "ب" إلى "سخرات". (4) أخرجه ابن أبي الدنيا برقم (320)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 65) رقم (34045) مختصرًا، والطبري في تفسيره (27/ 158) مختصرًا. ورواه ابن المبارك في الزهد (238) عن سفيان الثوري به نحوه. وفيه جابر بن يزيد الجعفي ضعيف، وقد اتُّهم بالكذبِ. المرِحات من المَرَح، وهو التَّبختر والاختيال. والذَّفِرات، من الذَّفَر، وهو الصُّنَان وخُبْث الريح. والبَخِرات، من البَخَر، وهو الرائحة والنَّتَن يكون في الفم وغيره. والطَّمَّاحات، يقال: امراة طمَّاحة: هي التي تُكِرُّ بنظرها يمينًا وشمالًا إلى غير زوجها. انظر لسان العرب (2/ 534 و 591) و (4/ 47 و 307).

(1/455)


حدثنا علي بن الجعد حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعتُ أبا الأحوص يُحدِّثُ عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} قال: "دُرٌّ مُجوَّف" (1) . وقال ابن المبارك: أنبأنا سليمان التيمي عن قتادة عن خُلَيد العَصَرِي عن أبي الدرداء (2) رضي اللَّهُ عنه قال: "الخيمة لؤلؤةٌ واحدةٌ لها سبعون بابًا كلُّها من دُرَّةٍ" (3) . قال ابن المبارك: وأخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "الخيمة درةٌ مجوفةٌ فرسخٌ في فرسخٍ، لها أربعة آلاف مصراعٍ من ذهبٍ" (4) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (326)، وابن وهب في التفسير -من جامعه- (1/ 140) رقم (325)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 66) رقم (34050)، والطبري (27/ 161): من طريق شعبة به مثله. - ورواهُ مسعر عن عبد الملك عن أبي الأحوص قوله مثله، (ولم يذكر ابن مسعود). أخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نُعيم- رقم (247)، وهناد في الزهد رقم (53). (2) عند ابن المبارك زاد "ولم يجاوز به خليدًا"، وعند ابن أبي الدنيا نحوه. (3) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (250)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (327). - ورواه معتمر بن سليمان عن أبيه سليمان التيمي عن قتادة عن خليد قال: لقد ذكر لي أنَّ الخيمة لؤلؤ. . ". أخرجه الطبري (27/ 161) وسنده صحيح إلى خليد. (4) أخرجه ابن المبارك في الزهد رواية نعيم رقم (249)، وابن أبي شيبة (7/ 65) رقم (34047)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (328)، =

(1/456)


وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا فضيل (1) بن عبد الوهاب حدثنا شريك عن منصور عن مجاهد: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) } [الرحمن: 72] قال: "في خيام اللؤلؤ، والخيمة لؤلؤة واحدة" (2) . حدثني محمد بن جعفر حدثنا منصور حدثنا يوسف بن الصَّبَّاح عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ [124/ ب] فِي الْخِيَامِ (72) } قال: "الخيمة من دُرَّةٍ مجوَّفة طولها فرسخ، وعرضها فرسخ، ولها ألفُ بابٍ من ذهبٍ، حولها سُرَادِق دَوْرُه خمسون فرسخًا، يدخل عليه من كلَّ بابٍ منها مَلَك بهدية من عند اللَّه عزَّ وجلَّ وذلك قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] " (3) واللَّهُ __________ = والبيهقي في البعثِ رقم (333) من طرق عن همام به. - ورواهُ سعيد بن أبي عروبة وأبو العوَّام ومعمر كلهم عن قتادة قال: ذُكر لنا أنَّ ابن عباس كان يقول فذكره، هذا لفظ سعيد. أخرجه الطبري (27/ 162)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 215)، وابن أبي شيبة (7/ 66) رقم (34051) وغيرهم. قلتُ: طريق ابن أبي عروبة ومن تابعه أصح، وعليه فالإسناد ضعيف لجهل الواسطة بين قتادة وابن عباس. (1) في "ب، هـ": "فضل" وهو خطأ. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (329). - ورواهُ جرير وعمرو بن أبي قيس كلاهما عن منصور به بلفظ "خيام اللؤلؤ". أخرجه الطبري (27/ 162) لكن شيخ الطبري ابن حميد متَّهم. - ورواهُ الثوري عن منصور عن مجاهد قال: "الخيمة در مجوفة". أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 66)، وهناد في الزهد (17)، وهو ثابت عنه. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (332). =

(1/457)


أعلم. وأمَّا السُّرَر: فقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) } [الطور: 20]، وقال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة: 13 - 16] وقال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) } [الغاشية: 13]. فأخبر تعالى عن سُرُرِهم بأنَّها مصفوفة بعضها إلى جانب بعض، ليس بعضها خلف بعض، ولا بعيدًا من بعض، وأخبر أنَّها موضونة، والوَضْن في لغتهم: النضد والنسج المضاعف، يقال: وَضَنَ فلان الحجر والآجُرَّ بعضه فوق بعض، فهو موضون. وقال الليث: "الوَضْنُ: نسج السرير وأشباهه (1) ، ويقال: درع موضونة مقاربة في النسج. وقال رجل من العرب لامرأته: ضِني متاع البيت: أي قاربي بعضه مِن بعض. وقال أبو عبيدة والفراء والمبرد وابن قتيبة: موضونة: منسوجة مضاعفة متداخلة، بعضها على بعض، كما تُوضن حلق الدرع، ومنه __________ = وفيه محمد بن جعفر وهو المدائني: قال أحمد وأبو داود: لا بأس به، وقال أحمد مرَّة: "لا أحدث عنه بشيءٍ أبدًا"، وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه، ولا يُحتج به"، وقال ابن حجر: "صدوقٌ فيه لين"، انظر تهذيب الكمال (25/ 10 - 12). ويوسف بن الصباح الفزاري: لم أقف عليه. (1) وتتمته "بالجوهر والثياب، وهو موضون"، انظر: معجم تهذيب اللغة للأزهري (4/ 3908).

(1/458)


سُمِّي الوَضين، وهو نطاق من سيور (1) ينسج، فيدخل بعضه (2) على بعض، وأنشدوا للأعشى: ومن نسج داودَ موضونة ... تساقُ مع الحيِّ عِيْرًا فَعِيرًا (3) قالوا موضونة: منسوجة بقضبان الذهب مشبَّكة (4) بالدرِّ والياقوت والزبرجد. قال هشيم: حدثنا حصين، عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "مرْمولة (5) بالذهب" (6) . وقال مجاهد: "موصولة (7) بالذهب" (8) ، وقال __________ (1) في "ب، هـ": "ستور". (2) في "ج": "بعضها". (3) انظر: ديوان الأعشى ص (71)، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/ 248). (4) في "أ": "مسبكة". (5) في "ب، د، هـ": "مزمولة"، والمرمولة: المضفورة المنسوجة. . . انظر وصف الفردوس لابن حبيب ص (90). (6) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (166)، والبيهقي في البعث (337). ورواه الثوري وأبو يوسف القاضي وأشهل كلهم عن حصين به مثله. أخرجه هناد في الزهد رقم (77)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (412)، وابن وهب في التفسير من جامعه رقم (313) وغيرهم. وهو صحيح عن ابن عباس. (7) كذا في جميع النسخ، وفي مصادر التخريج وكتب التفسير "مرمولة"، وذكر الماوردي في تفسيره "موصولة بالذهب" لكن نسبه لابن عباس. انظر: النكت والعيون (5/ 450). (8) أخرجه هناد في الزهد رقم (74 و 76)، وابن أبي شيبة (7/ 67) رقم =

(1/459)


علي (1) بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: "موضونة: مصفوفة" (2). وأخبر سبحانه وتعالى أنَّها مرفوعة قال عطاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "سرر من ذهب، مكلَّلة بالزبرجد والدُّرِّ والياقوت، والسرير مثل ما بين مكة وأيلة" (3). وقال الكلبي: "طول السرير في السماء مئة عام (4)، فإذا أراد الرجل أنْ يجلس عليه تواضع له حتى يجلس عليه، فإذا جلس عليه ارتفع إلى مكانه". فصل وأمَّا الأرائك: فهي أجمع أريكة. قال مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الكهف: 31]، قال: "لا يكون أريكة (5) __________ = (34069)، والطبري (27/ 172) وغيرهم. وله طريق آخر عن مجاهد: عند الطبري (27/ 173)، وهو صحيح عنه. (1) وقع في نسخة على حاشية "أ" "عطاء" وهو خطأ. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 173)، والبيهقي في البعث رقم (338 و 347). وسنده حسن. (3) ذكره الواحدي في الوسيط (3/ 147)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (10/ 398) وفيه "الأريكة ما بين صنعاء إلى أيله، وما بين عدن إلى الجابية". (4) كذا في جميع النسخ، وفي المطبوعة "ذراع"، وجاء عند القرطبي "ثلاث مائة ذراع" (17/ 202). قلت: "ذراع" أشبه بالصواب فيما يظهر. واللَّه أعلم. (5) في "د": "الأرائك".

(1/460)


حتى يكون السرير في الحَجَلة، فإنْ كان سريرًا بغير حَجَلة لا يكون أريكة، وإن كانت حَجَلة بغير سرير لم تكن أريكة، و (1) لا تكون أريكة إلَّا والسرير في الحجلة، فماذا اجتمعا كانت أريكة" (2) . وقال مجاهد: "هي الأسِرَّة في الحِجَال" (3) . وقال الليث: "الأريكة: سرير حجلة، فالحجلة والسرير أريكة، وجمعها أرائك". وقال أبو إسحاق: "الأرائك: الفرش في الحجال". قلتُ: ها هنا ثلاثة أشياء: أحدها: السرير. الثانية: الحجلة، وهي البشخانة التي تعلق فوقه. الثالث (4) : الفراش الَّذي على السرير، ولا يسمَّى السرير أريكة، حتى يجمع ذلك كله. __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ": "وقال". (2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (334) من طريق علي بن عاصم عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس. وفيه علي بن عاصم الواسطي: في حفظه لين، انظر: تهذيب الكمال (20/ 504 - 520). وأخرجه ابن وهب في التفسير من جامعه رقم (313) عن أشهل بن حاتم في -حفظه لين- عن حصين به بلفظ "على السرر في الحجال". (3) أخرجه هناد في الزهدِ رقم (74 و 75)، وابن أبي شيبة (7/ 68) رقم (34077)، والبيهقي في البعث رقم (335)، والَّلفظ له. وسنده صحيح. (4) في "ب، د": "الثالثة".

(1/461)


وفي "الصحاح": "الأريكة: سريرٌ مُنَجَّدٌ (1) مُزَيَّن في قُبَّةٍ أو بيتٍ، فإذا لم يكن فيه سرير، فهو حجلة، والجمع الأرائك" (2) . وفي الحديث: "أنَّ خاتم النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان مثل زرِّ الحَجَلة" (3) . وهو الزِّرُّ الَّذي يُجمع به بين طرفيها من جملة أزرارها، واللَّهُ أعلم. __________ (1) في "ب، ج، د، هـ": "متَّخذ". (2) انظر: الصحاح (2/ 1189). (3) أخرجه البخاري رقم (187)، ومسلم رقم (2345) من حديث السائب بن يزيد رضي اللَّه عنه.

(1/462)


 الباب الثاني والخمسون في ذكر خدمهم وغلمانهم

قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} [الإنسان: 19]، وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 17 - 18]. قال أبو عبيدة والفرَّاء: "مخلَّدون لا يهرمون، ولا يتغيرون، قال: والعربُ تقول للرجل إذا كَبُرَ ولم يشمط: إنَّهُ لمخلَّد، وإذا لم تذهب أسنانه من الكِبَر، قيل: هو مخلَّد" (1). وقال آخرون: مُخلَّدون: مُقَرَّطُون مُسَوَّرُون، أي في آذانهم القِرَطَة، وفي أيديهم الأساور. وهذا اختيار ابن الأعرابي، قال: مخلَّدون: مُقَرَّطون بالخَلَدة، وجمعها خَلَدٌ، وهي: القِرَطَة (2). وروى عمرو (3) عن أبيه: "خلَّد جاريته، إذا حلَّاها بالخَلَدِ، وهي __________ (1) انظر: مجاز القرآن (2/ 249)، ومعاني القرآن للفراء (3/ 122 - 123)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (446). (2) انظر: العين للخليل ص (261)، ومعجم تهذيب اللغة للأزهري (1/ 108)، ومعاني القرآن للفرَّاء (3/ 123)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (446 - 447). (3) في "هـ": "عمر".

(1/463)


القِرَطَة، وخَلَدَ إذا أسنَّ ولم يَشِبْ" (1) ، وكذلك قال سعيد بن جبير: "مقرَّطون" (2) . واحتجَّ هؤلاء بحجتين: إحداهما: أنَّ الخلود عامٌّ لكلَّ من في الجنَّة، فلا بُدَّ أنْ يكون الوِلدان موصوفين بتخليدٍ يختصُّ بهم، وذلك هو القِرَطة. الحجة الثانية: قول الشاعر: ومُخلَّداتٍ بالُّلجين كأنَّما ... أعجازهنَّ رَواكِدُ الكُثبانِ (3) وقال الأوَّلون: الخُلْد هو البقاء. قال ابن عباس: "غلمان لا يموتون" (4) . وقول ترجمان القرآن في هذا كافٍ، وهذا قول مجاهد والكلبي ومقاتل، قالوا: لا يكبرون ولا يهرمون ولا يتغيرون (5) . __________ (1) انظر: معجم تهذيب اللغة للأزهري (1/ 1081). (2) ذكره البغوي في تفسيره معالم التنزيل (8/ 108)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (17/ 202). (3) انظر: تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (447)، ومعجم تهذيب اللغة للأزهري (1/ 1080)، ولم ينسباه لأحدٍ، وعندهما "أقاوِز" بدل "رواكد". (4) ذكره الواحدي في تفسيره "الوسيط" (4/ 233). وقاله أيضًا مجاهد والحسن البصري، انظر: تفسير الطبري (27/ 173). (5) انظر: تفسير مقاتل (3/ 312)، والقرطبي (17/ 202)، والوسيط (4/ 233)، والبيهقي في البعث رقم (411).

(1/464)


وجمعتْ طائفة بين القولين، وقالوا: هم ولدان لا يعرض لهم الكِبَر ولا الهرم، وفي آذانهم القِرَطة، فمن قال: مقرَّطون. أراد هذا المعنى، أنَّ كونهم ولدانًا أمرٌ لازمٌ لهم. وشبَّههم سبحانه باللؤلؤ المنثور، لما فيه من البياض وحسن الخلق، وفي كونه منثورًا فائدتان: إحداهما: الدلالة على أنَّهم غير معطَّلين، بل مَبْثوثون في خدمتهم وحوائجهم. والثاني (1) : أنَّ اللؤلؤ إذا كان منثورًا، ولا سيما على بساط من ذهبٍ أو حرير؛ كان أحسن لمنظره وأبهى من كونه مجموعًا في مكان واحد. وقد اختلف في هؤلاء الوِلْدان: هل هم مِنْ وِلْدان الدنيا، أم أنشأهم اللَّهُ في الجنَّة إنشاء؟ على قولين: فقال علي بن أبي طالب والحسن البصري: هم أولاد المسلمين الَّذين يموتون، ولا حسنةَ لهم ولا سيئة، يكونون خدم أهل الجنَّة وولدانهم (2) ، إِذِ الجنَّة لا وِلادة فيها (3) . قال الحاكم: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن حدثنا إبراهيم بن الحسين حدثنا آدم حدثنا المبارك بن فَضَالة عن الحسن في قوله تعالى: __________ (1) كذا في جميع النسخ، ولعل صوابه: "الثانية". (2) في "ج": "وولدانهم في الجنَّة". (3) انظر: تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن (17/ 203).

(1/465)


{وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) } [الواقعة: 17] قال: "لم يكن لهم حسنات فَيُجْزَوْن بها (1) ، ولا سيئات فيعاقبون عليها، فوضعوا بهذا الموضع" (2) . ومن أصحاب هذا القول من قال: هم أطفال المشركين، يجعلهم اللَّهُ خَدَمًا لأهل الجنَّة. واحتجَّ هؤلاء بما رواهُ يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن أبي حازمٍ المديني، عن يزيد الرَّقاشي عن أنس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "سألتُ ربي الَّلاهين من ذرية البشر أنْ لا يعذبهم، فأعطانيهم فهم خدم أهل الجنَّة" (3) . يعني: الأطفال. __________ (1) في "ب": "فيخرجون بها". (2) أخرجه البيهقي في البعثِ رقم (410)، وعبد بن حميد في تفسيره كما في الدر (6/ 219)، وسنده حسن. (3) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 926) رقم (1544). - ورواهُ الأعمش والربيع بن صبيح وحكيم بن جرير وغيرهم كلهم عن يزيد الرقاشي عن أنس، وفي ألفاظهم اختلاف. أخرجه أبو يعلى (4090)، والطيالسي (2225)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 344). ورواهُ محمد بن المنكدر واختلف عليه. - فرواهُ عبد الرحمن بن المتوكل عن فضيل بن سليمان عن عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن الزهري عن أنس فذكره إلى "فأعطانيهم". أخرجه أبو يعلى رقم (3570)، وابن عدي في الكامل (4/ 302). وهذا خطأ، صوابه (ابن المنكدر) بدل (الزهري). هكذا رواهُ عمرو بن مالك البصري عن فضيل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن أنس فذكره إلى "فوهبهم" بدل "فأعطانيهم". أخرجه أبو يعلى (3636). =

(1/466)


قال الدَّارقطني: ورواهُ عبد العزيز بن الماجشون عن ابن المنكدر عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. انتهى. ورواهُ فضيل (1) بن سليمان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن أنس. وهذه الطرق ضعيفة؛ فيزيد واهٍ (2) ، وفضيل بن سليمان مُتَكَلَّمٌ فيه (3) ، وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف (4) . قال ابن قتيبة: والَّلاهون، مِن "لهيتَ" عن الشيء إذا غفلت عنه (5) ، وليس هو مِن "لهوت" (6) . وأصحاب القول الأوَّل لا يقولون: إنَّ هؤلاء أولادٌ وُلِدُوا لأهل __________ = - ورواهُ عبد العزيز بن الماجشون عن محمد بن المنكدر عن يزيد الرقاشي عن أنس فذكره. أخرجه ابن الجعد في مسنده رقم (3013) وابن أبي شيبة في مسنده كما في المطالب رقم (4180)، وأبو يعلى (4101 و 4102). وهذا هو الصحيح، والحديث له طرقٌ أخرى لا تثبت. وعليه فمدارُ الحديث على يزيد الرقاشي، وهو ضعيف. قال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يثبت، ويزيد لا يُعوَّل عليه". وضعفه البوصيري. (1) في "ب": "فضل"، وهو خطأ، وكذلك ما بعده. (2) انظر: تهذيب الكمال (32/ 77). (3) هو النُّميري. انظر: تهذيب الكمال (23/ 271). (4) هو المدني. انظر: تهذيب الكمال (16/ 519 - 525). (5) سقط من "أ، ج، هـ". (6) ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 926 - 927).

(1/467)


الجنَّة فيها، وإنَّما يقولون: هم غلمان أنشأهم اللَّهُ في الجنَّة إنشاءً (1) ، كما أنشأ الحور العين. قالوا: وأمَّا وِلْدان أهل الدنيا فيكونون يوم القيامة أبناء ثلاث وثلاثين سنة؛ لما رواهُ ابن وهب حدثنا عمرو بن الحارث أنَّ درَّاجًا أبا السَّمح حدَّثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من مات من أهل الجنَّة من صغيرٍ أو كبيرٍ يُردُّون بني ثلاثٍ و (2) ثلاثين سنة في الجنَّة، لا يزيدون عليها أبدًا، وكذلك أهل النَّار" (3) . رواهُ الترمذي. والأشبه أنَّ هؤلاءِ الولدان مخلوقون من الجنَّة -كالحور العين- خَدَمًا لهم وغِلْمَانًا، كما قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) } [الطور: 24] وهؤلاء غير أولادهم، فإنَّ من تمام كرامة اللَّهُ تعالى لهم أنْ يجعل أبناءهم مخدومين معهم، لا يجعلهم غلمانًا لهم. وقد تقدَّم في حديث أنس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنا أوَّل النَّاسُ خروجًا إذا بُعِثُوا، -وفيه- يطوف عليَّ ألفُ خادمٍ كأنَّهم لؤلؤ مكنون" (4) . والمكنون: المستور المصون الَّذي لم تبتذله الأيدي. __________ (1) من "ب، ج، د، هـ". (2) قوله "ثلاثٍ و" من "أ" فقط، وليس عند الترمذي، ولا في باقي النسخ، ولم تَرِد أيضًا في (ص/ 316)؛ لكن كلام المؤلف يقتضيه، فلعلَّه في بعض نسخ الترمذي. (3) تقدم في ص (316). (4) تقدم في ص (225).

(1/468)


وإذا تأملتَ لفظة الـ {وِلْدَانٌ}، ولفظة {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} واعتبرتها بقوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} [الطور: 24] وضَممت ذلك إلى حديث أبي سعيد المذكور آنفًا = علمتَ أنَّ الولدان غلمانٌ أنشأهم الرَّبُّ تعالى في الجنَّة خدمًا لأهلها، واللَّهُ أعلم.

(1/469)


 الباب الثالث والخمسون في ذكر نسائهم وسراريِّهم، وأصنافهنَّ وحسنهنَّ وأوصافهنَّ (1) وجمالهنَّ الظاهر والباطن الَّذي وصفهنَّ اللَّهُ تعالى به في كتابه

قال اللَّه تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25]. فتأمَّل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة، وقدر ما بشَّرك به، وضمنه لك على أسهل شيءٍ عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البَدَنِ بالجنان، وما فيها من الأنهارِ والثمارِ، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلبِ وقُرَّة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد، وعدم انقطاعه. والأزواج: جمع زوج، والمرأة: زوجُ الرجل، وهو زوجها، هذا هو الأفصحُ، وهو لغة قريش، وبها نزل القرآن كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ومن العربِ من يقول: زوجة، وهو نادرٌ، لا يكادون يقولونه. وأمَّا المطهرة: وإنْ جرتْ صفةً على الواحد، فتجري صفة على __________ (1) في المطبوعة: "وَصَفَائِهِنَّ".

(1/470)


جمع التكسير إجراءً له مجرى جماعة، كقوله تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [الصف: 12]، و {قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18]. ونظائره، والمطهرة: التي طُهِّرت من الحيضِ والبول والنفاس، والغائط والمخاط والبُصاق، وكل قَذَر، وكلِّ أذًى يكون من نساء الدنيا، وطُهِّرَ (1) مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أنْ يعرض لها دنسٌ أو وسخٌ. قال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نَضْرة عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] قال: "من الحيض والغائط والنخامة والبصاق" (2) . __________ (1) في "ج": "فطهر". (2) أخرجه ابن حبان في المجروحين (2/ 160) معلقًا، والحاكم في المستدرك كما عند ابن كثير (1/ 67)، ولم أقف عليه في المطبوع ولا في إتحاف المهرة لابن حجر، وابن مردويه في تفسيره كما في تفسير ابن كثير (1/ 66 - 67)، وقال: "هذا حديثٌ غريب". من طريق عبد الرزاق بن عمر البزيعي عن عبد اللَّه بن المبارك به فذكره. قال الحاكمُ: "صحيح على شرط الشيخين". وتعقبه ابن كثير فقال: "هذا الَّذي ادَّعاهُ فيه نظر، فإنَّ عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم البُستي: "لا يجوزُ الاحتجاج به"، قلتُ -ابن كثير-: والأظهرُ أنَّ هذا من كلام قتادة كما تقدم واللَّه أعلم". وقال ابن حبان في ترجمة عبد الرزاق هذا: ". . . يقلب الأخبار ويسند المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد" ثمَّ ساق له هذا الحديث ثمَّ قال: "وهذا قول قتادة رفعه، لا أصل له من كلام النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". =

(1/471)


وقال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه وعبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما: "مطهرة: لا يحضن ولا يُحْدِثْنَ (1) ولا يتنخَّمن" (2) . وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما أيضًا: "مطهرة من القَذَرِ والأذى" (3) . وقال مجاهد: "لا يبلنَ ولا يتغوطن، ولا يمذين (4) ولا يمنين، ولا يحضنَ، ولا يبصقن ولا يتنخمن، ولا يلدن" (5) . وقال قتادة: "مطهرة من الإثم والأذى، طهرهنَّ اللَّهُ من كلِّ بولٍ وغائطٍ وقذرٍ ومأثم" (6) . __________ = قلتُ: وهو كما قال. بنحوه رواهُ سعيد بن أبي عروبة وأبان العطار ومعمر وخليد كلهم عن قتادة قوله، وسيأتي. (1) في "أ، ب، ج، د، هـ" "يمذين" وهو تصحيف، والمثبت مصدر التخريج. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 175). (3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -البقرة- رقم (265)، والطبري في تفسيره (1/ 175)، وسنده حسن. (4) كذا في جميع النسخ، وقد جاءت من رواية الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عند الطبري. (5) أخرجه هنَّاد في الزهد رقم (27، 29)، وابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (242)، وابن أبي حاتم في تفسيره/ البقرة رقم (266)، والطبري (1/ 175 و 176) وغيرهم. من طريقين عن مجاهد، وهو ثابت عنه. (6) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 64)، وابن أبي حاتم في تفسيره/ البقرة رقم (267 و 268) والطبري في تفسيره (1/ 176). وهو صحيحٌ عنه.

(1/472)


وقال عبد الرحمن بن زيد: "المطهرة: التي لا تحيض، وأزواج الدنيا لسن بمطهراتٍ، ألَا تراهنَّ يدمين، ويتركن الصلاة والصيام؟. قال: وكذلك خُلِقَتْ حوَّاء حتى عَصَت، فلمَّا عصت قال اللَّهُ: إنَّي خلقتك مطهرةً، وسأُدْميك كما دميت هذه الشجرة" (1) . وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) } [الدخان: 51 - 56]. فجمعَ لهم بين حُسْن المنزل، وحصول الأمن فيه من كلِّ مكروهٍ، واشتماله على الثمار والأنهار، وحسن اللباس وكمال العِشْرة بمقابلة بعضهم بعضًا، وتمام الَّلذة بالحور العين، ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة، مع أمنهم من انقطاعها، ومضرتها وغائلتها، وختامُ ذلك أعلمهم بأنَّهم لا يذوقون هناك موتًا. والحُوْرُ: جمع حَوْراء، وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء، شديدة سواد العين. وقال زيد بن أسلم: "الحَوْرَاء: التي يحار فيها الطرف، وعِيْن: حسان الأعين" (2) . __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 176)، وسنده صحيح إلى عبد الرحمن بن زيد. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (304) وفيه الواقدي: وهو متروك.

(1/473)


وقال مجاهد: "الحوراء التي يحار فيها الطرف من رِقَّة الجلد، وصفاء اللون" (1) . وقال الحسن: "الحوراء: شديدة بياض العين، شديدة سواد العين" (2) . واختلف في اشتقاق هذه اللفظة: فقال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "الحور في كلام العرب: البيض" (3) . وكذلك قال قتادة "الحور: البيض" (4) وقال مقاتل: "الحور: البيض الوجوه" (5) . وقال مجاهد: "الحور العين، التي يحار __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (305) والَّلفظ له، وابن أبي شيبة (7/ 218) رقم (35446)، والطبري (27/ 178). من طريق سفيان وفضيل حدثنا أصحابنا عن مجاهد فذكره. فيه إبهام من رواهُ عن مجاهد. ووقع عند الطبري "عن رجل" بدل "أصحابنا" وعند ابن أبي شيبة "عن بعض أصحابه". (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (306)، واللفظ له، والطبري (27/ 177). من طريق سفيان عن رجلٍ عن الحسن فذكره. وفيه إبهام الرجل الرَّاوي عن الحسن، ووقع عند الطبري مصرَّحًا به، واسمه "عمرو"، وهو عمرو بن عُبيد المعتزلي، وهو متروك، قد اتَّهمه بعضهم. انظر: تهذيب الكمال (22/ 123). (3) أخرجه عبد الملك بن حبيب في وصف الفردوس رقم (241). من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه. وسنده ضعيف جدًّا. (4) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 171 - 172) رقم (2825)، والطبري (25/ 136). وسنده صحيح. (5) انظر: تفسيره (3/ 208).

(1/474)


فيهن الطرف باديًا مخُّ سوقهن من وراء ثيابهن، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن، كالمرآة من رقة الجلد، وصفاء اللون" (1) . وهذا من الاتفاق، وليست اللفظة مشتقة من الحيرة. وأصل الحور: البياض. والتحوير: التبييض. والصحيح: أن الحور مأخوذ من الحَوَرِ في العين، وهو شدة بياضها مع قوة سوادها، فهو يتضمن الأمرين. وفي "الصحاح": "الحَوَرُ: شدة بياض العين في شدة سوادها. امرأة حَوْرَاء: بَيِّنة الحَوَر. وقال أبو عمرو: الحَوَر: أن تسْودَّ العين كلها مثل أعين الظِّباء والبقر، وليس فى بني آدم حور، وإنما قيل: للنساء: حور العيون (2) ؛ لأنهنَّ شُبِّهنَ بالظباء والبقر" (3) . وقال الأصمعي: "ما أدري ما الحَوَرُ في العين؟ " (4) . قلت: خالف أبو عمرو أهل اللغة، و (5) اشتقاق اللفظة، وردَّ الحَوَر إلى السواد، والناس غيره إنما ردُّوه إلى البياض، أو إلى بياضٍ في سواد. __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (25/ 136)، والبيهقي في البعث رقم (396)، وسنده حسن. (2) في "ب": "العين". (3) انظر: الصِّحاح (1/ 526). (4) انظر: "الغريب المصنِّف لأبي عبيد (1/ 28) ". (5) كذا جميع النسخ ولعلَّها: "في"، وهي في مطبوعة، دار الكتاب العربي.

(1/475)


والحَوَرُ في العين: معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما، واكتساب كل واحد منهما الحسن من الآخر. وعينٌ حوراء: إذا اشتدَّ بياضُ أبيضِها وسواد أسودها، ولا تسمى المرأة حوراء حتى تكون مع حور عينها بيضاء لون الجسد. والعِيْنُ: جمع عيناء، وهي العظيمة العين من النساء. ورجلٌ أعين: إذا كان ضخم العين. وامرأة عيناء، والجمع عِيْنٌ. والصحيح: أنَّ العِيْنَ اللاتي جَمَعَتْ أعينهن صفات الحسن والملاحة، قال مقاتل: "العين: حسان الأعين" (1) . ومن محاسن المرأة اتساع عينها في طول، وضيق العين في المرأة من العيوب، وإنما يستحب الضيق منها في أربعة مواضع: فمها، وخرق أذنها، وأنفها، وما هنالك. ويستحب السَّعَة منها في أربعة مواضع: وجهها، وصدرها، وكاهلها: وهو ما بين كتفيها، وجبهتها. ويستحب البياض منها في أربعة مواضع (2) : لونها، وفرقها، وثغرها، وبياض عينها. ويستحب السواد منها في أربعة مواضع (3) : عينها، وحاجبها، وهدبها، وشعرها. __________ (1) انظر تفسير مقاتل (3/ 208). (2) ليس في (أ، ج، هـ). (3) ليس في (أ، ب، ج، هـ).

(1/476)


ويستحب الطول منها في أربعة: قوامها، وعنقها، وشعرها، وبنانها (1). ويستحب القِصَر منها في أربعة -وهي معنوية-: لسانها، ويدها، ورجلها، وعينها، فتكون قاصرة الطرف، قصيرة الرَّجْلِ واللسان عن الخروج وكثرة الكلام، قصيرة اليد عن تناول ما يكره الزوج، وعن بذله. ويستحب الدقة منها في أربعة: خصرها، وفرقها، وحاجباها (2)، وأنفها. فصل وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)} [الطور: 20]. قال أبو عبيدة: "جعلناهم أزواجًا كما يزوج النعل بالنعل، جعلناهم اثنين اثنين" (3). قال يونس: "قرنَّاهم بهن، وليس من عقد التزوج، قال: والعرب لا تقول: تزوجت بها، وإنما تقول تزوجتها" (4). قال من نصر هذا: التنزيل (5) يدل على ما قاله يونس، وذلك قوله __________ (1) في (د، ج) (وثيابها). (2) في (ب، هـ) ونسخة على حاشية "أ": (وحاجبها). (3) انظر مجاز القرآن (2/ 209). (4) انظر "المخصَّص" لابن سيده (1/ 358). ويونس: هو ابن حبيب إمام في اللغة. (5) في (أ) (التأويل).

(1/477)


تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، ولو كان على تزوجت بها لقال: زوجناك بها. وقال ابن سلَّام: "تميم تقول: تزوجت امرأةً، وتزوجت بها" وحكاه الكسائي أيضًا. وقال الأزهري: "تقول العرب: زوجته امرأةً، وتزوجت امراةً، وليس من كلامهم: تزوجت بامرأة، قال: وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20] أي: قرنَّاهم، وقال الفرَّاءُ: "هي لغة في أزدِ شَنُوْءة" (1) ، قال الواحدي: "وقول أبي عبيدة في هذا حسن (2) ؛ لأنه جعله من التزوج الذي هو بمعنى جعل الشيء زوجًا لا بمعنى عقد النكاح، ومن هذا يجوز أن يقال: كان فردًا فزوجته بآخر، كما يقال: شفعته بآخر، وإنما تمتنع الباء عند من يمنعها، إذا كان بمعنى عقد التزويج". قلت: ولا يمتنع أن يراد الأمران معًا، فلفظ التزويج: يدل على النكاح، كما قال مجاهد: "أنكحناهم الحور" (3) ، ولفظ الباء: يدل على الاقتران والضم، وهذا أبلغ من حذفها، واللَّه أعلم. وقال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) }. [الرحمن: 56 - 58]. وصفهنَّ سبحانه بِقِصَرِ الطرف في ثلاثة مواضع: أحدها: هذا. __________ (1) انظر معجم تهذيب اللغة للأزهري (2/ 1574). (2) في (هـ)، ونسخة على حاشية "أ": (أحسن). (3) أخرجه الطبري في تفسيره (25/ 136) وسنده حسن.

(1/478)


والثاني: قوله تعالى في الصافات: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) } [آية: 48]. والثالث: قوله تعالى في ص: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) } [آية: 52]. والمفسرون كلهم على أنَّ المعنى: قَصَرْنَ طرفهنَّ على أزواجهنَّ، فلا يطمحن إلى غيرهم. وقيل: قصرن طرف أزواجهنَّ عليهنَّ، فلا يدعهم حسنهنَّ وجمالهنَّ أنْ ينظروا إلى غيرهنَّ. وهذا صحيح من جهة المعنى، وأمَّا من جهة اللفظِ: فقاصرات: صفة مضافة إلى الفاعل، كحسان الوجوه (1) ، وأصله: قاصرٌ طرفهنَّ، أي: ليس بطامحٍ متعدٍّ. قال آدم: حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن: 56] قال: "يقول: قاصرات الطرف على أزواجهنَّ، فلا يبغين غير أزواجهنَّ" (2) . قال آدم: وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: "قصرن طرفهنَّ على أزواجهنَّ، فلا يُرِدْنَ (3) غيرهم، واللَّه ما هنَّ متبرِّجات، __________ (1) قوله "كحسان الوجوه" جاء في "أ، ج" "كحسان الوجه" وفي "ب، د" "لحسان الوجه". (2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (385) وسنده حسن. (3) في "هـ": "يرون".

(1/479)


ولا متطلعات" (1) . وقال منصور عن مجاهد: "قصرن أبصارهنَّ وقلوبهنَّ وأنفسهنَّ على أزواجهنَّ، فلا يردن غيرهم" (2) . وفي "تفسير سعيد" عن قتادة قال: "قصرن طرفهنَّ على أزواجهنَّ، فلا يردن غيرهم" (3) . وأمَّا الأتراب: فجمع تِرْب (4) : وهو لِدَة (5) الإنسان. قال أبو عبيدة وأبو إسحاق: "أقران، أسنانهنَّ واحدة" (6) . قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما وسائر المفسرين: "مستويات على سنٍّ واحدةٍ وميلادٍ واحد، بنات ثلاث وثلاثين سنة" (7) . وقال مجاهد: "أتراب: __________ (1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (387). وسنده حسن. (2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (388)، والطبري في تفسيره (27/ 159) وغيرهما، وسنده صحيح. (3) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 150)، والبيهقي في البعث رقم (392). وسنده صحيح. تنبيه: سقط هذا الأثر من "أ". (4) التِّرْبُ: المماثل في السنِّ، المعجم الوسيط ص (103). (5) اللَّدَة: مَنْ ولد معك في وقتٍ واحد. المعجم الوسيط ص (858). (6) انظر: مجاز القرآن (2/ 185). (7) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (388). عن ابن عباس، وبلفظ: "الأتراب: المستويات". وسنده ضعيف. وانظر: تفسير الطبري (23/ 175)، ومعالم التنزيل للبغوي (7/ 98)، وتفسير مقاتل (3/ 122).

(1/480)


أمثال" (1) . قال أبو إسحاق: "أي: هنَّ في غاية الشباب والحُسن، وسَمَّي سنَّ الإنسان وقرنه تِرْبه؛ لأنَّه مسَّ (2) تراب الأرض معه في وقتٍ واحدٍ (3) ، والمعنى من الإخبار باستواء أسنانهنَّ، أنَّهنَّ ليس فيهنَّ عجائز قد فات حسنهنَّ، ولا ولائد لا يُطِقْنَ الوطَء بخلاف الذكور، فإنَّ فيهم (4) الولدان: وهم الخدم. وقد اختلف في تفسير (5) الضمير في قوله: {فِيهِنَّ}: فقالت طائفة: تفسيره (6) الجنتان، وما حوتاه من القصور والغرف والخيام. وقالت طائفة: تفسيره (7) الفرش المذكورة في قوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، و (في) بمعنى: على. وقوله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) } [الرحمن: 56]. قال أبو عبيدة: لم يمسهنَّ. يقال: ما طمث هذا البعير حَبْلٌ قط، __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 175)، والبيهقي في البعثِ رقم (384)، وسنده حسن. (2) في "أ، ج": "سنَّ"، وفي "د": "من". (3) سقط من "أ، ج". (4) في جميع النسخ "فيهنَّ". (5) في "ب، د": "مفسِّر". (6) في "ب، د": "مفسِّرُهُ"، وجاء في "هـ": "تفسيره: الجنَّات". (7) في "ب، د": "مفسِّرُهُ".

(1/481)


أي ما مسَّه (1) ، وقال يونس: تقول العرب (2) : هذا جمل ما طمثه حبل قط: أي ما مسَّه (3) وقال الفرَّاء: "الطمث: الافتضاض، وهو النكاح بالتَّدمية. والطَّمث: هو الدم. وفيه لغتان: طَمِثَ يَطْمُثُ ويَطْمَثُ" (4) . قال الليث: "طمثت الجارية: إذا افترعتها (5) ، والطامث في لغتهم: هي الحائض" (6) . قال أبو الهيثم: "يقال للمرأة: طُمِثَت تُطْمَث، إذا أُدْمِيَت بالافتضاض، وطَمِثَت على فَعِلَتْ تَطْمَث إذا حاضت أوَّل ما تحيض، فهي طامث، وقال في قول الفرزدق: خرجن إليَّ لم يُطمثْنَ قبلي ... وهن أصَحُّ من بَيْضِ النَّعام (7) أي: لم يُمْسَسْنَ. قال المفسرون: لم يطأهنَّ، ولم يغشهنَّ، ولم يجامعهنَّ. هذه ألفاظهم، وهم مختلفون في هؤلاء: فبعضهم يقول: هنَّ اللواتي أُنشِئْن في الجنَّة من حورها، وبعضهم يقول: يعني نساء (8) الدنيا، أُنْشِئنَ خلقًا آخر أبكارًا كما وصفهنَّ. __________ (1) انظر: مجاز القرآن (2/ 245 - 246)، وفيه: "ما مسَّهُ حَبَلٌ". (2) من "ب، ج، د، هـ". (3) انظر: لسان العرب (2/ 166). (4) انظر: معاني القرآن للفرَّاء (3/ 119) بمعناه، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (442)، ولسان العرب (2/ 166). (5) في "ج": "أفزعتها" وهو خطأ، ووقع في "هـ" "طمث الجارية: إذا افترعها". (6) انظر: العين للخليل ص (576). (7) انظر: لسان العرب (2/ 166)، وفيه: "وقعْنَ" بدل "خرجنَ". (8) في نسخةٍ على حاشية "أ": "نساءً من نساءِ".

(1/482)


قال الشعبي: "نساء من نساء الدنيا، لم يُمْسَسْن منذ أنشئن خلقًا" (1) . وقال مقاتل: "لأنهنَّ خلقن في الجنَّة" (2) . قال عطاء عن ابن عباس: "هنَّ الآدميات الَّلاتي مُتْنَ أبكارًا" (3) . وقال الكلبي: "لم يجامعهنَّ في هذا الخلق الذي أُنْشِئْنَ فيه إنسٌ ولا جانٌّ" (4) . قلتُ: ظاهر القرآن أنَّ هؤلاء النِّسوة لسن من نساء الدنيا، وإنَّما هنَّ من الحُوْر العين، أمَّا نساء الدنيا فقد طَمِثَهنَّ الإنس، ونساء الجن قد طَمِثهنَّ الجن، والآية تدل على ذلك. قال أبو إسحاق: "وفي هذه الآية دليلٌ على أنَّ الجِنِّيَّ يَغْشَى، كما أنَّ الإنْسِيَّ يَغْشَى" (5) . ويدل على أنَّهنَّ الحور الَّلاتي خلقنَ في الجنَّة: - أنَّه سبحانه جعلهنَّ ممَّا أعدَّهُ اللَّهُ في الجنَّة لأهلها من الفواكه __________ (1) ذكره البغوي في تفسيره معالم التنزيل (7/ 454)، والواحدي في الوسيط (4/ 227). وأخرجه البيهقي في البعث رقم (378) بلفظ "هُنَّ من نساء أهل الدنيا خلقهنَّ اللَّهُ في الخلق الآخر". وسنده صحيح. * وأخرجه هناد في الزهد رقم (22)، قال: "منذ أُنشئن". وفيه رجل لم يسمَّ. (2) انظر تفسيره (3/ 309). (3) لم أقف عليه. (4) ذكره الواحدي في الوسيط (4/ 227). (5) انظر: زاد المسير لابن الجوزي (8/ 122).

(1/483)


والثمار والأنهار والملابس وغيرها. - ويدلُّ عليه أيضًا الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) } [الرحمن: 72] ثمَّ قال: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56]. قال الإمام أحمد: "والحور العين لا يمتْن عند النفخة في الصور؛ لأنَّهنَّ خلقن للبقاء" (1) . وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور، أنَّ مؤمني الجنِّ في الجنَّة، كما أنَّ كافرهم في النَّارِ. وبوَّب عليه البخاري في "صحيحه" فقال: "بابُ ثوابِ الجن وعقابهم" (2) . ونصَّ عليه غير واحدٍ من السَّلف: قال ضَمْرة بن حبيب، وقد سئل: هل للجن ثواب؟ فقال: نعم، وقرأ هذه الآية ثمَّ قال: "الإنسيات للإنس، والجنِّيات للجنَّ" (3) . __________ (1) ذكره حرب الكرماني في مسائله ص (358) بنحوه، وسيأتي بتمامه في آخر الكتاب ص (834). (2) في (64) كتاب بدء الخلق، باب: 12، (3/ 1200) ط بغا. (3) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 151)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (1151)، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، والمنذر بن سعيد البلوطي في تفاسيرهم كما في آكام المرجان للشبلي ص (58)، والدر المنثور (6/ 205). من طريقِ مبشِّر بن إسماعيل وشريح بن يزيد الحضرمي كلاهما عن أرطأه ابن المنذر عن ضمرة بن حبيب فذكره. وسنده صحيح.

(1/484)


وقال مجاهد في هذه الآية: "إذا جامع الرجل، ولم يسمِّ انطوى الجانُّ على إحليله فجامع معه" (1) . والضميرُ في قوله {قَبْلَهُمْ} للمعنِيَّين بقوله: {مُتَّكِئِينَ}، وهم: أزواج هؤلاء النسوة. وقوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) } [الرحمن: 58]. قال الحسنُ وعامَّة المفسرين: أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان، شبَّههن في صفاء الَّلون وبياضه بالياقوت والمرجان" (2) . يدلُّ عليه ما قالهُ عبد اللَّه: "إنَّ المرأة من نساء أهل الجنَّة لتلبس عليها سبعين حُلَّة من حرير، فيُرَى بياضُ ساقيها من ورائهنَّ، ذلك بأنَّه __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 151) والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (104 ق/ ب). من طريق سهل بن عامر البجلي عن يحيى بن يعلى الأسلمي عن عثمان ابن الأسود عن مجاهد فذكره. وسنده ضعيف جدًّا، فيه سهل بن عامر قال أبو حاتم: "ضعيف الحديث روى أحاديث بواطيل. . وكان يفتعل الحديث". وقال البخاري: "منكر الحديث"، ويحيى الأسلمي أيضًا: ضعيف الحديث. انظر: الجرح والتعديل (4/ 202)، وتهذيب الكمال (32/ 252)، ولسان الميزان (3/ 137). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (322)، والطبري في تفسيره (27/ 152) عن الحسنِ قال: "صفاء الياقوت في بياض المرجان". وسنده صحيح.

(1/485)


تعالى (1) يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} ألا وإنَّ الياقوت حجر، لو جعلت فيه سِلْكًا، ثمَّ استصفيته نظرتَ إلى السِّلْك من وراء الحجر" (2). فصل وقال تعالى في وصفهنَّ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72]. المقصورات: المحبوسات. قال أبو عبيدة: "خُدِّرْنَ في الخيام" (3)، وكذلك قال مقاتل: "محبوسات في الخيام" (4). وفيه معنى آخر: وهو أن يكون المراد: أنهن محبوسات على أزواجهن، لا يردن غيرهم، وهم في الخيام. وهذا معنى قول من قال: قُصِرْن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، ولا يطمحن إلى من سواهم، ذكره الفراء (5). قلتُ: وهذا معنى {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] لكن أولئك قاصرات بأنفسهن، وهؤلاء مقصورات، وقوله تعالى: {فِي الْخِيَامِ (72)} على هذا القول: صفة لحور، أي: هن في الخيام، وليس معمولًا لمقصروات، وكأنَّ أرباب هذا القول فرُّوا من أن يكُنَّ (6) __________ (1) في "ب، ج، د، هـ": "بأنَّ اللَّهَ" بدل "بأنَّه تعالى". (2) تقدم الكلام عليه ص (431). (3) انظر: مجاز القرآن (2/ 246)، والوسيط للواحدي (4/ 229). (4) انظر: تفسير مقاتل (3/ 310). (5) في معاني القرآن (3/ 120). (6) قوله "فرُّوا من أن يكن" وقع في "ج، د، هـ" "فسَّروا من أنْ يكون" وفي "ب" =

(1/486)


محبوسات في الخيام، لا تُفارِقْنها إلى الغرف والبساتين. وأصحاب القول الأوَّل يجيبون عن هذا: بأنَّ اللَّه سبحانه وصفهنَّ بصفات النساء المخدَّرات المصونات، وذلك أكملُ في الوصف، ولا يلزمُ من ذلك أنَّهنَّ لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين، كما أنَّ نساء الملوك وذويهم من النساء المخدَّرات المصونات، لا يمتنع أنْ يخرجن في سَفَرٍ وغيره إلى مُتَنَزَّهٍ (1) وبستانٍ ونحوه، فوَصْفُهنَّ الَّلازم لهنَّ: القصرُ في البيت، ويعرض لهنَّ مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها. وأمَّا مجاهد فقال: "مقصورات قلوبهنَّ على أزواجهنَّ في خيام اللؤلؤ" (2) . وقد تقدم وصف النسوة الأُوَل (3) ، بكونهنَّ قاصرات (4) الطرف، وهؤلاء بكونهنَّ مقصورات، والوصفان لكلا (5) النوعين، فإنَّهما صفتا كمالٍ، فتلك الصفة: قَصْرُ الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج، وهذا الصفة قصر الرِّجْل عن التبرج والبروز والظهور للرجال. __________ = "فروا من أنْ يكون". (1) في (ج، هـ): "مُنْتَزَهٍ". (2) أخرجه هنَّاد في الزهدِ رقم (16) وسنده حسن. وانظر ما تقدم ص (479). (3) في "أ، د، هـ": "الأُولى"، وراجع (ص/ 479 - 480). (4) في "د": "مقصرات". (5) في "د" "لكل".

(1/487)


فصل قال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)} [الرحمن: 70]. فالخيرات جمع خَيْرَةٍ، وهي مُخَفَّفة من خيِّرة، كَسَيِّدة ولَيِّنة. وحسان: جمع حسنة، فهن خيرات الصفات والأخلاق والشيم، حسان الوجوه. قال وكيع: حدثنا سفيان عن جابر، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد اللَّه قال: "لكل مسلم خيرة، ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبوب، يدخل عليها كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك، لا مَرِحات (1) ولا ذفرات ولا بَخِرَات (2) ولا طماحات" (3). فصل وقال تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)} [الواقعة: 35 - 38]. [102/ أ] أعاد الضمير إلى النساء، ولم يَجْرِ لهنَّ ذكر؛ لأن الفرش دلت عليهن، إذ هي محلهن. وقيل: الفرش، في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} [الواقعة: 34]: كناية __________ (1) في "ج": "تَرِحَات" وفي "د": "مرجات". (2) في "ج": "بخرات"، وفي "هـ": "سخرات ولا لماحات". (3) تقدَّم الكلام عليه باب "51" ص (455).

(1/488)


عن النساء، كما يكنى عنهن بالقوارير والأزر وغيرها. ولكن قوله: {مَرْفُوعَةٍ (34) }: يأبى هذا إلا أن يقال: المراد رِفْعة القدر. وقد تقدم تفسير النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للفرش وارتفاعها (1) . فالصواب أنها الفرش نفسها، ودلت على النساء: لأنها محلَّهنَّ غالبًا. قال قتادة وسعيد بن جبير: "خلقناهن خلقًا جديدًا" (2) ، وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "يريد نساء الآدميات" (3) وقال الكلبي ومقاتل: "يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط" يقول تعالى: خلقناهن بعد الكبر والهرم، بعد الخلق الأوَّل (4) في الدنيا" (5) . __________ (1) في ص (441 - 442). (2) أثر قتادة أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 219) رقم (3132)، والطبري في تفسيره (27/ 185). بلفظ "خلقناهن خلقًا". وسنده صحيح. ولم أقف على أثر سعيد بن جبير. (3) ذكره البغوي في معالم التنزيل (8/ 3). وقد وردَ بلفظٍ آخر: أخرجه الطبري (27/ 186) عن ابن عباس: "هُنَّ من بني آدم، نساء كنَّ في الدنيا ينشئهنَّ اللَّه أبكارًا عذارى عربًا". وسنده ضعيف، فيه محمد بن حفص الوصابي الحمصي: قال ابن منده: "ضعيف"، وقال أبو حاتم الرَّازي: ". . . قال لي بعض أهل حمص ليس بصدوق، ولم يدرك محمد بن حمير فتركته. . . ". وهذا الحديث من رواية محمد بن حفص عن محمد بن حمير. انظر: الجرح والتعديل (7/ 237)، ولسان الميزان (5/ 150). (4) سقط من "هـ". (5) انظر: تفسير مقاتل (3/ 314).

(1/489)


ويؤيد هذا التفسير حديث أنس المرفوع: "هن عجائزكم العُمْش الرمص" (1) رواه الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن يزيد الرقاشي عنه. ويؤيده ما رواه يحيى الحماني، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن عائشة رضي اللَّه عنها: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل عليها وعندها عجوز، فقال من هذه؟ فقالت: إحدى خالاتي، قال: أما إنه لا يدخل الجنة العجز، فدخل العجوز من ذلك ما شاء اللَّه، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35] "خلقًا آخر، يحشرون يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرْلًا، وأول من يُكْسَى إبراهيم خليل الرحمن"، ثم قرأ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35] (2) . __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (3296)، وابن أبي الدنيا رقم (287)، وهناد في الزهد (21)، والطبري في تفسيره (27/ 185 - 186)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (390)، والبغوي في تفسيره (8/ 14) وغيرهم. من طريق الثوري ووكيع ومروان بن معاوية ومحمد بن ربيعة وغيرهم كلهم عن موسى بن عبيدة به نحوه. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلَّا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة ويزيد بن أبان الرَّقاشي: يُضَعَّفان في الحديث". (2) أخرجه البيهقي في البعثِ رقم (379) من طريق يحيى الحماني به. - ورواهُ معتمر بن سليمان عن ليث بن أبي سليم به نحوه. وفيه "إنَّ اللَّهَ ينبت بهنَّ خلقًا غير خلقهنَّ". أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 142). - ورواهُ الحسن بن صالح بن حي عن ليث عن مجاهد قال: "دخلَ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكره مرسلًا نحو لفظ معتمر". أخرجه أبو الشيخ في أخلاق النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم (186). وهذا الاضطراب من ليث بن أبي سُليم، فإنَّه اختلط، وكان يرفع أشياء =

(1/490)


قال آدم بن أبي إياس: حدثنا شيبان، عن جابر الجعفي، عن يزيد ابن مرة، عن سلمة بن يزيد قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في قوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35] قال: "يعني الثَّيب والأبكار الَّلاتي كُنَّ في الدنيا" (1) . قال آدم: وحدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة العجز". فبكت عجوز، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أخبروها أنها ليست يومئذ بعجوز، إنها يومئذ شابَّة، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجل يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35] (2) . وقال ابن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا مسعدة بن اليسع، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، __________ = لا يرفعها غيره، انظر: تهذيب الكمال (24/ 287)، ولعلَّ هذا الحديث منها، فإنَّ الحديث المعروف فيه الإرسال كما سيأتي بيانه. (1) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (6322)، وابن أبي حاتم في تفسيره كما عند ابن كثير في تفسيره (4/ 312)، وابن قانع في معجمه رقم (566). ورواهُ الطيالسي ومعاوية بن هشام كلاهما عن شيبان به نحوه. أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (1403) والطبري في تفسيره (27/ 185) وغيرهما. والحديث مدارهُ على جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف، وقد اتهم. والحديث ضعفه الهيثمي والبوصيري. انظر: مجمع الزوائد (7/ 119). (2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (382) من طريق آدم به. - ورواهُ مصعب بن المقدام عن المبارك به نحوه. أخرجه الترمذي في الشمائل رقم (241) وغيره. والحديث مرسل.

(1/491)


عن عائشة رضي اللَّه عنها: "أن نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أتته عجوز من الأنصار فقالت: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يدخلني الجنة، فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الجنة لا يدخلها عجوز" فذهب نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة: لقد لَقِيَتْ من كلمتك مشقة وشِدَّة، فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن ذاك كذاك، إن اللَّه تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارًا" (1) . وذكر مقاتل قولًا آخر -وهو اختيار الزجاج- أنهن الحور العين التي ذكرهن. "قيل: أنشأهن اللَّه عز وجل لأوليائه لم يقع عليهن ولادة (2) . والظاهر أن المراد به أنشأهن اللَّه تعالى في الجنة إنشاء، ويدل عليه وجوه: أحدها: أنه قد قال في حقِّ السَّابقين: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا __________ (1) أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 154) رقم (5545)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (391). - وقد خُولف مسعدة بن اليسع، خالفه عَبْدَة. فرواهُ عبدة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب، قال: قلتُ له: أكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمازح؟ قال: نعم، أتته عجوز من الأنصار فذكر مثله. أخرجه هنَّاد في الزهدِ رقم (24). وهذا هو الصواب مرسل، وحديث مسعدة ضعيف جدًّا، ولعلَّ هذا المرسل مع مرسل الحسن يشدُّ بعضهما بعضًا. (2) انظر: تفسير مقاتل (3/ 314)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (5/ 112).

(1/492)


يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) } [الواقعة: 17 - 23]. فذكر سُرُرَهم وآنيتهم وشرابهم وفاكهتهم وطعامهم وأزواجهم من الحور العين، ثمَّ ذكر أصحاب الميمنة وطعامهم وشرابهم وفرشهم ونساءهم، فالظاهر: أنَّهنَّ مثلُ نساءِ مَنْ قبلهم خُلِقنَ في الجنَّة. الثاني: أنَّه سبحانه قال: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35]. وهذا ظاهرٌ أنَّه إنشاء أوَّل لا ثانٍ؛ لأنَّه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يُقيِّده بذلك، كقوله: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) } [النجم: 47]، وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} [الواقعة: 62]. الثالث: أنَّ الخطاب بقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) } [الواقعة: 7]، إلى آخره للذكور والإناث، والنشأة الثانية عامَّة أيضًا للنوعين، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35]، ظاهره اختصاصهنَّ بهذا الإنشاء، وتأمَّل تأكيده بالمصدر، والحديث لا يدلُّ على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف، بل يدلُّ على مشاركتهنَّ للحور العين في هذه الصفات المذكورة، فلا يتوهم انفراد الحور العين عنهنَّ ممَّا (1) ذُكِرَ من الصفات، بل هُنَّ أحقُّ بها منهنَّ، فالإنشاءُ واقعٌ على الصِّنفين، واللَّهُ أعلمُ. وقوله تعالى: {عُرُبًا} جمع عَرُوب: وهنَّ المتحبِّبات إلى __________ (1) في "ب، د": "بما"، وفي "هـ": "ما".

(1/493)


أزواجهنَّ. قال ابن الأعرابي: "العَرُوب من النساء: المطيعة لزوجها المتحبِّبَة إليه" (1) . وقال أبو عبيدة "العروب: الحسنة التبعُّل" (2) . قلتُ: يريد حسن مواقعتها، وملاطفتها لزوجها عند الجماع. وقال المبرِّد: "هي العاشقة لزوجها" (3) وأنشد لِلَبيْد: وفي الحُدوجِ عَرُوب غير فاحشةٍ ... ريّا الرَّوادِفِ يَعْشى دُونَها البَصَرُ (4) وذكر المفسرون في تفسير العُرُب: أنَّهن العواشق المتحببات الغَنِجَات الشَّكِلات المتعشقاتِ الغَلِمَاتُ المَغْنُوجاتُ، كلُّ ذلك من ألفاظهم (5) . وقال البخاري في "صحيحه": "عُربًا: مثقَّلة واحدها عَرُوب، مثل صَبُور وصُبُر، يسمِّيها أهل مكة: العَرِبَة، وأهل المدينة: [الغَنِجَة، وأهل العراق] (6) : الشَّكِلة، والعُرُب: المتحبِّبات إلى أزواجهنَّ". __________ (1) انظر: معجم تهذيب اللغة للأزهري (3/ 2380)، ولسان العرب (1/ 591). (2) انظر: مجاز القرآن (2/ 251). (3) انظر: الكامل للمبرد (2/ 868)، وزاد المسير (8/ 142 - 143)، والزهد لهنَّاد رقم (30 - 34). (4) انظر: ديوانه ص (61). (5) انظر: تفسير الطبري (27/ 186 - 188)، وتفسير القرطبي (17/ 211)، وتفسير البغوي (8/ 15)، وزاد المسير (8/ 142 - 143)، والزهدُ لهنَّاد رقم (30 - 34). (6) ما بين المعكوفتين من "هـ" والبخاري.

(1/494)


هكذا ذكره في كتاب: "بدء الخلق" (1)، وقال في كتاب "التفسير" في سورة الواقعة (2): "عُرُبًا مثقلة واحدها عَروب مثل صَبور وصُبُر تسميها أهل مكة: العَرِبَة، وأهل المدينة: الغَنِجة، وأهل العراق: الشَّكِلَة". قلتُ: فجمع سبحانه وتعالى بين حُسْن صورتها وحسن عشرتها، وهذا غاية ما يطلب من النساء، وبه تكمل لذَّة الرَّجلِ بِهِنَّ، وفي قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} [الرحمن: 56] إعلام بكمال الَّلذة بهنَّ، فإنَّ لذَّة الرجلِ بالمرأةِ التي لم يطأها سواهُ، لها فضل على لذَّته بغيرها، وكذلك هي أيضًا. فصل وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)} [النبأ: 31 - 33]. فالكواعب: جمع كاعب، وهي: النَّاهد. قاله: قتادة ومجاهد والمفسرون (3). قال الكلبي: "هنَّ المُفلَّكات اللواتي تكعبت ثديهنَّ وتفلَّكت" (4). وأصل اللفظة من الاستدارة، والمراد أنَّ ثديهنَّ نواهد __________ (1) (63)، (8) باب: ما جاء في صفة الجنَّة وأنَّها مخلوقة (3/ 1184). (2) (4/ 1850). (3) أخرجه الطبري (30/ 18) عن قتادة. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 3) رقم (5788) عن مجاهد. وانظر: تفسير الطبري (30/ 18)، والوسيط للواحدي (4/ 415)، وتفسير البغوي (8/ 316)، والقرطبي (19/ 183). (4) انظر: تفسير السمرقندي (3/ 440)، ولسان العرب (1/ 719).

(1/495)


كالرَّمان ليست متدليَّة إلى أسفل، ويُسَمَّيْن نواهد وكواعب (1). فصل روى البخاري في "صحيحه" (2) عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَغَدْوةٌ في سبيل اللَّهِ أو رَوحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولَقَابُ قوسِ أحدكم أو موضع قِيْدِهِ -يعني: سوطهِ- من الجنَّة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو اطَّلعت امرأةٌ من نساء أهل الجنَّة إلى الأرضِ لملأت ما بينهما ريحًا، ولأضاءتْ ما بينها، ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها". وفي "الصحيحين" (3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أوَّل زُمرةٍ تدخل الجنَّة على صورة القمر ليلة البدرِ، والتي تليها على أضوإِ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السَّماءِ، ولكلَّ امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يُرى مُخُّ سُوقِهِمَا من وراء اللحم، وما في الجنَّة أعزب". وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة حدثنا يونس عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "للرجل من أهل الجنَّة زوجتان من حور العينِ، على كلَّ واحدةٍ سبعون حُلَّة يُرى مُخُّ ساقها من وراء الثياب" (4). __________ (1) من "ب، د". (2) رقم (2643). (3) تقدم في ص (256). (4) تقدم في ص (256).

(1/496)


وقال الطبراني: حدثنا بكر بن سهل الدمياطي، حدثنا عمرو بن هاشم (1) البيروتي، حدثنا سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسَّان عن الحسن عن أُمِّه عن أمِّ سلمة قالت: قلتُ يا رسول اللَّه أخبرني عن قول اللَّه عزَّ وجلَّ {وَحُورٌ عِينٌ (22) } [الواقعة: 22] قال: {وَحُورٌ} بيضٌ. {عِينٌ}: ضخام العيون، شفر (2) الحوراء بمنزلة جناح النسر. قلتُ: أخبرني عن قوله عزَّ وجلَّ: {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) } [الطور: 24]. قال: صفاؤهنَّ صفاء الدر الَّذي في الأصداف الَّذي لم تمسه الأيدي. قلتُ: يا رسول اللَّه أخبرني عن قوله عزَّ وجل: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) } [الرحمن: 70] قال: "خَيْرَاتُ الأخلاق، حسان الوجوه". قلتُ: يا رسول اللَّه أخبرني عن قوله عزَّ وجل: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) } [الصافات: 49]، قال: رِقَّتهنَّ كرقة الجلدِ الَّذي رأيته في داخلِ البيضة ممَّا يلي القشْر، وهو الغِرْقِئُ قلتُ: يا رسول اللَّهِ أخبرني عن قوله عزَّ وجلَّ: {عُرُبًا أَتْرَابًا (37) } [الواقعة: 37]، قال: هنَّ الَّلواتي قُبضْنَ في دار الدنيا عجائز رُمْصًا شُمْطًا خلقهنَّ اللَّه بعد الكِبَر، فجعلهنَّ عذارى، عُرُبًا: متعشِّقاتٍ محبَّباتٍ، أترابًا: على ميلادٍ واحد. قلتُ: يا رسول اللَّهِ نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة. قلتُ: يا رسول اللَّهِ وبِمَ ذاك، قال: بصلاتهنَّ وصيامهنَّ، وعبادتهنَّ اللَّه تعالى، ألبس اللَّه وجوههنَّ النور، وأجسادهنَّ الحرير، بيضُ الألوان، خضر الثياب، __________ (1) في "ب، د" والطبراني "هشام" وهو خطأ. انظر الجرح والتعديل (6/ 268). (2) في "أ، د، ج، هـ": "شَعَر".

(1/497)


صفر الحلي، مجامرهنَّ الدُّر، وأمشاطهنَّ الذهبُ، يقلْن نحن الخالدات فلا نموتُ، ونحن النَّاعمات فلا نبؤس أبدًا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ونحن الرَّاضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كُنَّا له وكان لنا. قلتُ: يا رسول اللَّه المرأة منَّا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثمَّ تموتُ فتدخل الجنَّة، ويدخلون معها، مَنْ يكون زوجها؟ قال: يا أم سلمة إنَّها تُخَيَّر فتختار أحسنهم خُلقًا، فتقول: أي ربِّ، إنَّ هذا كان أحسنهم معي خلقًا في دار الدنيا فزوَّجْنِيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة" (1) . تفرَّد به سليمان بن أبي كريمة: ضعَّفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: "عامَّة أحاديثه مناكير، ولمَ أرَ للمتقدمين فيه كلامًا ثمَّ ساق هذا الحديث من طريقه، وقال: لا يعرف إلَّا بهذا السند". وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد حدثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع، عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القُرَظِي عن رجل من الأنصارِ، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: حدثنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو في طائفةٍ __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير (23/ 257)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 138). والحديثُ منكر لا يثبت، علَّته سليمان بن أبي كريمة الشامي. قال العقيلي: "يحدث بمناكير .... منها، ثمَّ ذكر هذا الحديث ثمَّ قال: ولا يتابع عليه، ولا يعرف إلَّا به". قال ابن عدي: "هذا منكر. . . ".

(1/498)


من أصحابه، فذكر حديث الصور وفيه: "فأقولُ يا ربِّ وعدتني الشفاعة فشفَّعني في أهل الجنَّة يدخلون الجنَّة، فيقول اللَّه تعالى: قد شفَّعتك وأذِنْت لهم في دخول الجنَّة، فكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: والَّذي بعثني بالحقِّ، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهلِ الجنَّة بأزواجهم ومساكنهم، فيدخل رجلٍ منهم على ثنتين وسبعين زوجةً ممَّا ينشئ اللَّهُ، وثنتين من ولدِ آدم لهما فضل على من أنشأ اللَّهُ، بعبادتهما اللَّه عزَّ وجلَّ في الدنيا، يدخلُ على الأولى منهما في غرفة من ياقوتةٍ على سرير من ذهب مكلَّل باللؤلؤ عليه سبعون زوجًا من سُندس وإستبرق، وإنَّه ليضع يده بين كتفيها، ثمَّ ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وإنَّه لينظر إلى مخَّ ساقها، كما ينظر أحدكم إلى السلك في قَصَبَةِ الياقوت، كَبِدُهُ لها مرآة، وكبدها له مرآة، فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله، ولا يأتيها من مرَّة إلَّا وجدها عذراء، ما يفتر ذَكَرُهُ، ولا يشتكي قُبُلُهَا، فبينا هو كذلك إذ نودي إنَّا قد عرفنا أنَّك لا تَمَلُّ ولا تُمَلُّ، إلَّا أنَّه لا منيَّ ولا منيَّة، إلَّا أنْ تكون له أزواج غيرها فيخرج فيأتيهنَّ واحدةً واحدةً كلما جاء واحدة (1) قالت: واللَّهِ ما في الجنَّة شيءٌ أحسن منك، وما في الجنَّة شيءٌ أحبّ إليَّ منكَ" (2) . هذا قطعةٌ من حديث الصور الَّذي تفرَّد به إسماعيل بن رافع، وقد روى له الترمذي وابن ماجه وضعَّفه أحمد ويحيى وجماعة. وقال __________ (1) قوله: "جاء واحدة" في "ب": "جاءت" وسقط "واحدة" من "أ". (2) تقدم الكلام عليه ص (261 - 262).

(1/499)


الدارقطني وغيره: "متروك الحديث". وقال ابن عدي: "عامة أحاديثه فيها نظر". وقال الترمذي: "ضعفه بعض أهل العلم. وسمعت محمدًا، يعني البخاري - يقول: هو ثقة مقارب الحديث". وقال لي شيخنا أبو الحجاج الحافظ: "هذا الحديث مجموع من عدة أحاديث ساقه إسماعيل أو غيره هذه السياقة، وشرحه الوليد بن مسلم في كتاب مفرد، وما تضمنه معروف في الأحاديث". واللَّه أعلم. وقال عبد اللَّه بن وهب: حدثنا عمرو أن دراجًا حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة، الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء" (1) . رواه الترمذي (2) ؛ ولكنَّ دراجًا أبا السمح بالطريق، قال أحمد: "أحاديثه مناكير"، وقال النسائي: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "ضعيف"، وقال النسائي أيضًا: "ليس بالقوي"، وساق له ابن عدي أحاديث وقال: "عامتها لا يتابع عليها"، وقال الدارقطني: "ضعيف"، وقال مرة: "متروك". وأما يحيى بن معين: فقد وثقه، وأخرج عنه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، وقال عثمان بن سعيد الدارمي، عن علي بن المديني: "هو ثقة". __________ (1) أخرجه ابن أبي داود في البعث (78)، وابن حبان (7401). (2) برقم (2562) من طريق: رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث به.

(1/500)


وقال ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) } [الرحمن: 58] قال: "ينظرُ إلى وجهه في خدَّها أصفى من المرآة، وانْ أدنى لؤلؤةٍ عليها لتضيءُ ما بين المشرق والمغربِ، وإنَّهُ ليكون عليها سبعون ثوبًا ينفذها بَصَرُهُ حتَّى يُرى مُخُّ ساقِهِا من وراء ذلك" (1) . وقال الفِرْيابي: أنبأنا أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن حدثنا خالد ابن يزيد بن (2) أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أُمامة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما من عبدٍ يدخل الجنَّة إلَّا ويزوج ثنتين وسبعين زوجة: ثنتان من الحور العين، وسبعون من أهل ميراثه من أهل الدنيا، ليس منهنَّ امرأة إلَّا ولها قُبُلٌ شهيٌّ، وله ذكَرٌ لا ينْثني" (3) . قلتُ: خالد هذا هو ابن (4) يزيد بن عبد الرحمن الدمشقي: وهَّاهُ ابن معين، وقال أحمد: "ليس بشيءٍ"، وقال النسائي: "غير ثقة" وقال __________ (1) تقدم الكلام عليه في ص (432 - 433). (2) في "ب، د": "عن" وهو خطأ. (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (370): من طريق الفريابي به مثله. وأخرجه ابن ماجه (4337)، وابن عدي في الكامل (3/ 11)، والبيهقي فى البعث (406). من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك به مثله. والحديث من مناكيره، كما ذكر المؤلف رحمه اللَّه. انظر: تهذيب الكمال (8/ 196 - 199). (4) في "أ": "بن أبي" وهو خطأ.

(1/501)


الدَّارقطني: "ضعيف"، وذكر ابن عدي له هذا الحديث ممَّا أنكره عليه. وقال أبو نعيم: حدثنا إبراهيم بن عبد اللَّه حدثنا (1) محمد بن حمويه حدثنا أحمد بن حفص حدثني أبي (2) حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج عن قتادة عن أنس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لِلمُؤمن في الجنَّة ثلاثٌ وسبعون زوجة"، فقلنا يا رسول اللَّهِ أَوَ له قُوَّة ذلك؟ قال: "إنَّه ليُعْطَى قوَّة مئة" (3) . قلتُ: أحمد بن حفص هذا هو السَّعدي، له مناكير، والحجَّاجُ هو ابن أرطاة. __________ (1) في "هـ": "بن" وهو خطأ. (2) قوله "حدثني أبي" سقط من "أ". (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 213) رقم (372). وأخرجه إبراهيم بن طهمان في مشيخته رقم (58) عن الحجاج عن قتادة به. إلَّا أنَّه قالَ "ثلاثون زوجة" بدل "ثلاث وسبعون زوجة". وهذا هو الصواب، فإنَّ راوي النسخة عن ابن طهمان: هو أبو القاسم الفضل بن جعفر بن المؤذن عن أبي بكر محمد بن عبدوس النيسابوري عن أحمد بن حفص بن عبد اللَّه بن راشد النيسابوري عن أبيه حفص عنه. وأحمد بن حفص وأبوهُ صدوقان، والحجاج هو ابن الحجاج الباهلي البصري ثقة. وقد توبع الحجاج، تابعه عمران القطان كما سيأتي قريبًا ص (505)؛ لكن خالفه في المتن، فقال: "يُعطى المؤمن في الجنَّة قوَّة كذا وكذا من الجماع". قلتُ: وهذا يدلُّ على غرابة هذا الحديث عن قتادة فاللَّهُ أعلمُ بثبوته.

(1/502)


وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن علي الأبَّار، حدثنا أبو همَّام الوليد ابن شُجاع. وأنبأنا محمد بن أحمد بن هشام السجزي (1) ببغداد، حدثنا عبد اللَّه بن عمر بن أبان قالا: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قيل يا رسول اللَّه، هل نَصِلُ إلى نسائنا في الجنَّة؟ فقال: إنَّ الرَّجل لَيصِلُ في اليومِ إلى مئة عذراء" (2) . قال الطبراني: "لم يروهِ عن هشام إلَّا زائدة تفرَّد به الجعفي". __________ (1) في "أ": "الشجري". (2) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 210) رقم (718) وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (273)، والبزار في مسنده (3525)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (373) وغيرهم. من طريق حسين الجعفي به. وهذا الحديث ممَّا أُنكر على حسين الجعفي - وهو ثقة - وأنَّه وهم فيه. فرواهُ أبو أُسامة عن هشام عن زيد العمي عن ابن عباس. كما سيأتي عند المؤلف. أخرجه هناد في الزهد (88)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (272)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (374)، والبيهقي في البعث (404) وغيرهم. وهذا هو الصحيح، وطريق حسين الجعفي معلول، قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان: هذا خطأ، إنَّما هو هشام بن حسان عن زيد العمي عن ابن عباس، قال ابن أبي حاتم: قلتُ لأبي ممَّن الوهم؟ قال من حسين". انظر: العلل لابن أبي حاتم (2/ 213). وعليه: فإسناد حديث ابن عباس ضعيف؛ للانقطاع بين زيد العمي وابن عباس، وأيضًا لضعف زيد العمي. والحديث ضعفه الخطيب البغدادي في الموضح (2/ 95)، والهيثمي والبوصيري. المجمع (10/ 416).

(1/503)


قال محمد بن عبد الواحد المقدسي: "ورجال هذا الحديث عندي على شرط الصحيح" (1). وقال أبو الشيخ: حدثنا أبو يحيى بن سلم الرَّازي حدثنا هناد بن السَّري حدثنا أبو أُسامة عن هشامِ بن حسان عن زيد بن أبي الحواري - وهو زيد العمَّي - عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قيل يا رسول اللَّهِ أنفضي إلى نسائنا في الجنَّة، كما نُفضي إليهنَّ في الدنيا؟ قال: والَّذي نفس محمد بيده إنَّ الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مئة عذراء". وزيد هذا قال فيه ابن معين: "صالح"، وقال مرَّة: "لا شيء"، وقال: "ضعيف، يكتب حديثه"، وكذلك قال أبو حاتم، وقال الدَّارقطني: "صالح"، وضعفه النسائي، وقال السعدي: "متماسك" (2). قلتُ: وحسبه رواية شعبة عنه. فصل والأحاديث الصحيحة إنَّما فيها "أنَّ لكلِّ منهم زوجتين" (3)، وليس في "الصحيح" زيادة على ذلك، فإنْ كانت هذه الأحاديث محفوظة: فإمَّا أنْ يُراد بها ما لكلِّ واحدٍ من السراري زيادة على الزوجتين، __________ (1) صفة الجنَّة ص (129). (2) انظر: ترجمته وأقوال العلماء فيه: تهذيب الكمال (10/ 56 - 60). (3) كما تقدَّم في ص (256).

(1/504)


ويكونون في ذلك على حسب منازلهم في القِلَّة والكثرة كالخدمِ والولدان. وإمَّا أنْ يُرادَ أنَّه يعطى قوَّة من يُجامع هذا العدد، ويكون هذا هو المحفوظ، فرواهُ بعض هؤلاء بالمعنى فقال: له كذا وكذا زوجة. وقد روى الترمذي في "جامعه" من حديث قتادة عن أنس رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يُعطى المؤمنُ في الجنَّة قوَّة كذا وكذا من الجماع، قيل: يا رسول اللَّهِ أوَ يطيقُ ذلك؟ قال: يعطى قوَّة مئة" (1) هذا حديث صحيح، فلعلَّ من رواهُ "يفضي إلى مئة عذراء" (2) رواهُ بالمعنى أو يكون تفاوتهم في عدد النساء بحسب تفاوتهم في الدرجات، واللَّه أعلم. ولا ريبَ أنَّ للمؤمن في الجنَّة أكثر من اثنتين، لِمَا في "الصحيحين" (3) ، من حديث أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد اللَّه __________ (1) أخرجه الترمذي (2536)، والطيالسي في مسنده (2125)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (275)، وابن حبان (7400)، والبزار في مسنده (4/ 198) رقم (3526)، والبيهقي في البعثِ رقم (402). من طريقِ عمران القطان عن قتادة عن أنس فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث قتادة عن أنس إلَّا من حديث عمران القطان". وقد تقدَّم في ص (396) في حديث زيد بن أرقم ". . . إنَّ أحدهم ليُعْطى قوَّة مائة رجلٍ في الأكلِ والشرب والجماع والشهوة. . " (2) كما تقدم في ص (503)، من حديث ابن عباس. (3) تقدم في الباب (51) في ص (453 - 454).

(1/505)


ابن قيس عن أبيه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ للعبدِ المؤمنِ في الجنَّة لخيمةً من لؤلؤةٍ مجوَّفةٍ طولها ستون ميلًا للعبد المؤمن فيها أهلون فيطوف عليهم لا يرى بعضهم بعضًا".

(1/506)


 الباب الرَّابع والخمسون في ذكر المادَّة التي خلق منها الحور العين وما ذكِر فيها من الآثار وذكر صفاتهنَّ ومعرفتهنَّ اليوم بأزواجهنَّ

فأمَّا المادَّة التي خلق منها الحور العين: فقد روى البيهقى من حديث الحارث بن خليفة، قال حدثنا شعبة، حدثنا إسماعيل بن عُليَّة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الحورُ العينِ خُلِقْنَ من الزعفران" (1). قال البيهقي: "وهذا منكرٌ بهذا الإسناد، لا يصح عن ابن علية". قلتُ: ولكنَّه حديث فيه شعبة. وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن رشدين حدثنا علي بن الحسن بن هارون الأنصاري حدثني الليث بن ابنة (2) الليث بن أبي سليم قال: __________ (1) أخرجه البيهقي في البعثِ والنشور رقم (391)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (384)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 101 - 102). لكن ليسَ في سند البيهقي "شعبة"، وإنَّما هو عند الخطيب وأبي نعيم، والطريق الَّذي أخرجه البيهقي ذكره الخطيب وقال: "لم يذكر بينهما شعبة، وهو أشبه بالصواب" ثمَّ ذكره من طريقين عن الحارث بن خليفة بدون ذكر شعبة. قلتُ: الحارث بن خليفة قال أبو حاتم: "مجهول". الجرح والتعديل (3/ 74). (2) سقط من "أ"، ووقع في "ب"، ونسخة على حاشية "أ" "أبيه" بدل "ابنة".

(1/507)


حدثتني عائشة بنت يونس امرأة الليث بن أبي سُليم عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي أُمامة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "خُلِقَ الحورُ العين من الزعفران" (1) . قال الطبراني: "لا يروى إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّد به علي بن الحسن ابن هارون". قلتُ: وقد رواهُ إسحاق بن راهويه، عن عائشة بنت يونس قالت: سمعتُ زوجي ليث بن أبي سُليم يحدِّث عن مجاهد فذكره موقوفًا عليه، وهو أشبه بالصواب. ورواهُ عُقبة بن مُكْرَم عن عبد اللَّه بن زياد عن ليث عن مجاهد عن __________ (1) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 95) رقم (288)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (385). والحديث منكر مرفوعًا، صوابه كما ذهب إليه المؤلِّف أنَّهُ من قول مجاهد كما سيأتي، والحديث مدارهُ على ليث بن أبي سليم وهو مخلَّط. قال ابن كثير: "وهو حديث غريب جدًّا". - فرواهُ عقبة عن عبد اللَّه بن زياد عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قوله. أخرجه البيهقي في البعث (390). - ورواهُ عمرو بن سعد وعائشة امرأة ليث وعطاء بن جبلة كلهم عن ليث عن مجاهد قوله. أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (302، 366)، والطبري (27/ 178)، والبيهقي في البعث (389)، وحرب في مسائله (407). - ورواهُ إبراهيم بن محمد الأسلمي عن ليث قال: بلغني أنَّ الحور العين فذكره. أخرجه الطبري (27/ 178).

(1/508)


ابن عباس قوله. ولا يصح رفع الحديث، وحسبه أن يصل إلى ابن عباس. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: "إنَّ لوليِّ اللَّه في الجنَّة عروسًا لم يَلِدْها آدم ولا حواء، ولكن خُلقت من زعفران" (1) . وهذا مروي عن صحابيين وهما: ابن عباس وأنس، وعن تابعيين: وهما أبو سلمة ومجاهد، وبكلِّ حالٍ فهنَّ من المنشآت في الجنَّة لسْنَ مولودات بين الآباء والأمهات، واللَّهُ أعلم. وقد رواهُ الطبراني من حديث عبيد اللَّه بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أُمامة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (2) . وهذا الإسنادُ لا يُحْتَجُّ به. ورواهُ أبو نعيم: حدثنا علي بن محمد الطوسي، حدثنا علي بن سعيد حدثنا محمد بن إسماعيل الحساني حدثنا منصور بن المهاجر حدثنا أبو النضر الأبار، عن أنس رضي اللَّه عنه يرفعه: "لو أنَّ حوراء __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (303). وسنده ضعيف جدًّا، فيه منصور بن عمار الواعظ، والعُمري. انظر: لسان الميزان (6/ 131). (2) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 237) رقم (7813)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (383). والحديث كما قال المؤلِّف: لا يحتجُّ به. وقد ضعَّفه أيضًا الهيثمي في المجمع (10/ 419).

(1/509)


بصقت في سبعة أبحر لعذب البحار من عذوبة فمها، وخلق الحور العين من الزعفران" (1) . وإذا كانت هذه الخِلْقة الآدمية التي هي من أحسن الصور وأجملها، مادَّتها من تراب وجاءت الصورة من أحسن الصور، فما الظنُّ بصورةٍ مخلوقةٍ من مادة الزعفران الَّذي هناك! فاللَّه المستعان. وقد روى أبو نعيم: من حديث عيسى بن يوسف بن الطباع حدثنا حلبس بن محمد الكلابي، حدثنا سفيان الثوري، حدثنا المغيرة، حدثنا إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سطع نورٌ في الجنَّة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا هوَ من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها" (2) . __________ (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (386). وسنده ضعيف، منصور بن المهاجر لم يوثقه أحد، وقال ابن حجر: "مستور". انظر: تهذيب الكمال (28/ 555). وله إسناد آخر: يرويه نصر بن مزاحم عن عمرو بن سعد عن شيخ من أهل البصرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أخرجه ابن أبي الدنيا رقم (364). وإسنادهُ ضعيف جدًّا، نصر بن مزاحم متروك الحديث. (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (381)، وابن عدي في الكامل (2/ 457)، والخطيب في تاريخه (8/ 247)، و (11/ 163). وفيه حلبس هذا: وهو متروك الحديث، وقال ابن عدي: "منكر الحديث عن الثقات". والحديث لا يصح، قال ابن عدي: "وهذا حديث منكر عن سفيان"، وقال الذهبي: "هذا باطل". والأقربُ أنَّه من قول سفيان الثوري، كما سيأتي عند المؤلِّف في =

(1/510)


وروى بقية بن الوليد حدثنا بَحِيْر بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرَّة قال: "إنَّ منَ المزيد أن تمرَّ السحابةُ بأهل الجنَّة فتقول: فما تريدون أن أمطركم؟ فلا يتمنون شيئًا إلَّا مطروا: قال: يقول كثير: لئن أشهدني اللَّه ذلك لأقولنَّ: أمطرينا جواري مُزَيَّنات" (1) . وقد رُويَ في مادة خلقهن صفة أخرى: قال ابن أبي الدنيا: حدثنا خالد بن خداش، حدثنا عبد اللَّه بن وهب، حدثنا سعيد بن أيوب، عن عُقَيل بن خالد، عن الزهري أنَّ ابن عباس قال: "إنَّ في الجنَّة نهرًا يقال له البيذخ، عليه قباب من ياقوت، تحته جوارِ ناشئاتٍ يقول أهل الجنَّة: انطلقوا بنا إلى البيذخ، فيجيئون فيتصفَّحون تلك الجواري فإذا أعجب رجلًا منهم جارية مسَّ مِعْصَمَهَا فتتبعه" (2) . وقال الليث بن سعد: عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبدة (3) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لجبريل: "يا جبريل قفْ بي على الحور العين، فأوقفه عليهنَّ، فقال: من أنتنَّ؟ فقلن: نحن جواري قومٍ كرامٍ حَلُّوا فلم __________ = ص (515 - 516). (1) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ونعيم في زوائده على الزهد رقم (240)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (309)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (382). وسنده صحيح إلى كثير بن مُرَّة. (2) تقدم ص (390). (3) كذا في "أ، ب، ج، د" وفي "هـ": "عبيدة"، وعند ابن أبي الدنيا "عمرو بن الوليد".

(1/511)


يظعنوا، وشبُّوا فلم يهرموا، ونَقُوا فلم يَدْرَنُوا" (1) . وقال ابن المبارك: أنبأنا يحيى بن أيوب عن عبيد اللَّه بن زَحْر عن خالد بن أبي عمران عن أبي عياش (2) قال: كُنَّا جلوسًا مع كعب يومًا فقال: "لو أنَّ يدًا من الحور دُلَّيت من السماء لأضاءتْ لها الأرض؛ كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، ثمَّ قال: إنَّما قلتُ: يدها، فكيف بالوجه في بياضه وحسنه وجماله! " (3) . وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث كثير بن مرَّة عن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلَّا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلكِ اللَّهُ، فإنَّما هو عندك دخيل يوشك أنْ يفارقك إلينا" (4) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (301). وهو مرسل، وليس في الصحابة من اسمه عمرو بن الوليد. (2) في جميع النسخ "ابن عباس"، والتصويب من مصدري التخريج. (3) أخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نعيم- رقم (256)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (308) وفيه زيادة وسنده ضعيف، فيه عبيد اللَّه بن زحر وهو ضعيف. (4) أخرجه أحمد في المسند (5/ 242)، والترمذي (1174)، وابن ماجه (2014)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (310)، والطبراني في مسند الشاميين رقم (1166)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 220) وغيرهم. من طريق إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرَّة به فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه، ورواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين أصلح، وله عن أهل الحجاز وأهل العراق =

(1/512)


وفي مراسيل عكرمة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ الحور العين لأكثر عددًا منكُنَّ، يدعون لأزواجهنَّ يَقُلْنَ: الَّلهم أَعِنْهُ على دينك، وأقْبِل بقلبه على طاعتك، وبلَّغه بعزتك يا أرحم الرَّاحمين" (1) . ذكرهُ ابن أبي الدنيا من حديث أُسامة بن زيد عن عطاء عنه. وذكر الأوزاعي عن حسَّان بن عطية عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: "إنَّ في الجنَّة حوراء يُقال لها: اللُّعبة، كل حور الجنان يعجبن بها، يضربن بأيديهنَّ على كتفها ويقلنَ: طوبى لك يا لعبةُ، لو يعلم الطالبون لك لَجَدُّوا، مكتوبٌ بين عينيها: من كان يبتغي أنْ يكون له (2) مثلي فليعمل برضى ربي" (3) . وقال عطاء السليمي لمالك بن دينار: يا أبا يحيى شوَّقنا، قال: "يا عطاء إنَّ في الجنَّة حوراء يتباهى أهل الجنَّة بحسنها، لولا أنَّ اللَّهَ تعالى كتب على أهل الجنَّة ألا يموتوا لماتوا من حُسْنها، فلم يزل عطاء __________ = مناكير". وقال أبو نعيم: "غريب من حديث خالد عن كثير، تفرَّد به بحير". قال الذهبي في السير (4/ 47): ". . . وإسناده صحيح متصل". (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (311). وهو مرسل ضعيف جدًّا، فيه الواقدي: متروك الحديث، وأسامة بن زيد: فيه لين، وإرسال عكرمة للحديث. (2) سقط من "أ". (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (312). وسنده منقطع، حسان بن عطية لم يُدرك ابن مسعود.

(1/513)


جَهِدًا (1) من قول مالك [أربعين عامًا] (2) " (3) . وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثني جعفر بن محمد قال: لقي حكيم حكيمًا، فقال: "أتشتاق إلى الحور العين؟ فقال: لا، فقال: فاشتق إليهنَّ، فإنَّ نور وجوهِهِنَّ من نور اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فغشيَ عليه، فحمل إلى منزله فجعلنا نعوده شهرًا" (4) . وقال ربيعة بن كلثوم: "نظر إلينا الحسن ونحن حوله شباب فقال: يا معشر الشباب، أما تشتاقون إلى الحور العين؟ " (5) . وقال ابن أبي الحواري حدثني الحضرمي قال: "نمتُ أنا وأبو حمزة على سطحٍ، فجعلتُ أنظرُ إليهِ يتقلَّبُ على فراشه إلى الصباح، فقلت: يا أبا حمزة ما رقدتَ الليلة؟ فقال: إنَّي لمَّا اضطجعتُ تمثَّلت لي حوراء حتَّى كأنِّي أحسَسْت بجلدها قد مسَّ جلدي، فحدَّثتُ به أبا سليمان فقال: هذا رجلٌ كان مشتاقًا" (6) . وقال ابن أبي الحواري: سمعتُ أبا سليمان يقول: "يُنشأ خلق الحور العين إنشاءً، فإذا تكاملَ خلقهنَّ ضربت عليهنَّ الملائكة الخيام" (7) . __________ (1) وقع في "ب" "كَمَدًا"، وفي "د" "كدًّا". (2) ما بين المعكوفتين من المطبوعة وابن أبي الدنيا. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (313). (4) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (314). (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (315) وسنده صحيح. (6) أخرجه ابن ابي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (317). (7) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (318).

(1/514)


وذكر ابن أبي الدنيا عن صالح المرِّي عن يزيد الرقاشي قال: "بلغني أنَّ نورًا سَطَعَ في الجنَّة لم يبقَ موضع من (1) الجنَّة إلَّا دخلَ من ذلك النور فيه، فقيل: ما هذا؟ قيل: حوراء ضحكت في وجه زوجها، قال صالح: فشهق رجلٌ من ناحية المجلس، فلم يزل يشهق حتَّى مات" (2) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا بشر بن الوليد حدثنا سعيد بن زَرْبي عن عبد الملك الجُوْنِي عن سعيد بن جبير قال: سمعتُ ابن عباس يقول: "لو أنَّ حوراء أخرجتْ كفَّها بين السَّماءِ والأرضِ لافتتنَ الخلائقُ بحسنها، ولو أخرجت نَصِيْفَها لكانت الشمس عند حسنه مثل الفتيلة في الشمس لا ضوء لها، ولو أخرجت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرضِ" (3) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثني الحسن بن يحيى وكثير العنبري، حدثنا خزيمة أبو محمد عن سفيان الثوري قال: "سطع نورٌ في الجنَّة لم (4) يبقَ موضعٌ في (5) الجنَّة إلَّا دخل فيه من ذلك النور، فنظروا __________ (1) وقع في "ب، ج، هـ": "في". (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (363). وفي سنده صالح المري: فيه ضعف. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في الترغيب والترهيب (4/ 535). وفيه سعيد بن زربي وهو منكر الحديث. (4) هكذا في جميع النسخ، ويحتمل "فلم". (5) في "ب، د": "من".

(1/515)


فوجدوا ذلك من حوراء ضحكت في وجه زوجها" (1) . ورواه الخطيبُ في "تاريخه" من حديث عبيد اللَّه (2) بن محمد الكرخي، قال: حدثني عيسى بن يوسف بن الطباع، حدثنا حلبس بن محمد حدثنا سفيان الثوري عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "سَطَعَ نورٌ في الجنَّة فرفعوا رؤوسهم فإذا هو من ثَغْرِ حوراء ضحكت في وجه زوجها" (3) . وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: "إذا سَبَّحت المرأة من الحورِ العينِ لم يبقَ شجرةٌ في الجنَّة إلَّا وردَّت عليها (4) " (5) . وقال ابن المبارك: حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: "أنَّ الحورَ العين يتلقين أزواجهنَّ عند أبواب الجنَّة فيقلن: طالما انتظرناكم فنحن الراضيات فلا نسخط، والمقيمات فلا نظعن، والخالداتُ فلا نموتُ، بأحسن أصوات سُمِعت وتقول: أنت حِبِّي وأنا حِبك، ليس دونك تقصير (6) ولا وراءك معدل" (7) . __________ (1) لم أقف عليه، وقد تقدم ذكر المرفوع ص (509). (2) في "ج": "عبد اللَّه". (3) "تاريخ بغداد" (11/ 163)، وتقدم في ص (509)، الكلام عليه. (4) من "أ"، ووقع في نسخة على حاشية "أ" "لها"، وليس في باقي النسخ. (5) لم أقف عليه. (6) كذا في جميع النسخ، وعند المبارك "مقصر". (7) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (435)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (268). وسنده صحيح.

(1/516)


 الباب الخامس والخمسون: في ذكر نكاح أهل الجنَّة ووطئهم والتذاذهم بذلك أكمل لذَّةٍ، ونزاهة ذلك عن المذي والمني والضعف، وأنَّه لا يُوجبُ غُسلًا

قد تقدم حديث أبي هريرة: قيل يا رسول اللَّه، أنفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: "إن الرجل ليَصِلُ في اليوم إلى مئة عذراء" (1)، وأنَّ إسناده صحيح. وتقدم حديث أبي موسى المتفق على صحته: "إن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلًا، لهُ فيها أهلون يطوف عليهم" (2). وحديث أنس: "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع (3) " (4) وصححه الترمذي. وروى الطبراني، وعبد اللَّه بن أحمد، وغيرهم من حديث لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول اللَّه على ما نطلع من الجنة؟ قال: "على أنهار من عسل مُصفَّى، وأنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من __________ (1) تقدم ص (503). (2) تقدم ص (296). (3) وقع جميع النسخ: "النساء" وهو خطأ. (4) تقدم ص (505).

(1/517)


لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن، وفاكهة، لَعَمْرُ إلهك ممَّا تعلمون، وخير من مثله، وأزواج مطهَّرة". قلتُ: يا رسول اللَّهِ أَوَ لَنَا فيها أزواج مصلحاتٌ؟ قال: "الصالحات للصالحين، تلذذوا بهنَّ (1) مثل لذَّاتكم (2) في الدنيا ويَلْذَذْنَ بكم (3) ، غير أن لا توالد" (4) . وقال ابن وهبٍ: أخبرني عمرو بن الحارث عن درَّاجٍ عن ابن حُجيرة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: يا رسول اللَّه أنطأ في الجنَّة؟ قال: نعم والَّذي نفسي بيده دَحْمًا دَحْمًا (5) ، فإذا قام عنها رجعت مطهَّرةً بكرًا" (6) . __________ (1) قوله: "تلذُّون بهنَّ" في "د": "تلذونهن". (2) في "هـ": "لذاذتكم". (3) في "ب، ج، د": "ويَلْذَذْنكم"، وفي "هـ": "ويلذون بكم". (4) تقدم ص (371)، وراجع الكلام عليه ص (127). (5) دَحْمًا: هو النكاح والوطء بدفع وإزعاج، والتكرار للتأكيد. انظر النهاية (2/ 106). (6) أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/ 415 و 416) رقم (7402)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (393). قال الضياء المقدسي في صفة الجنَّة ص (131 - 132): "ابن حجيرة: اسمه عبد الرحمن، ودرَّاج اسمه عبد الرحمن بن سمعان البصري، وثَّقه يحيى ابن معين، وأخرجه عنه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، وكان بعض الأئمة ينكر بعض حديثه". - ورواهُ أسد بن موسى عن ابن لهيعة عن ابن حجيرة به بمثله. ورواهُ محمد بن حازم عن راشد بن سعد عن أبي هريرة بمثله. أخرجهما ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (196, 197).

(1/518)


وقال الطبراني: حدثنا إبراهيمُ بن جابر الفقيه، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي، حدثنا معلَّى (1) بن عبد الرحمن الواسطي حدثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أهل الجنَّة إذا جامعوا نساءهم عُدْنَ أبكارًا" (2) . قال الطبراني: "لم يروه عن عاصمٍ إلَّا شريك تفرَّد به معلَّى" (3) . قال الطبراني: وحدثنا عبدانُ بن أحمد حدثنا محمد بن عبد الرحيم (4) البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة حدثنا صدقة عن هاشم بن زيد عن سليم أبي (5) يحيى أنَّه سمع أبا أُمامة رضي اللَّه عنه يحدث أنَّه سمع رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وسئل: هل يتناكح أهلُ الجنَّة؟ قال: بِذَكَرٍ لا يَمَلُّ، وشهوةٍ لا تنقطع، دَحْمًا دَحْمًا" (6) . __________ (1) في "ب، د، هـ": "يعلى"، وفي "ج" "محمد" وكلاهما خطأ. (2) أخرجه الطبراني في الصغير (1/ 160) رقم (249)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (583)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (365 و 392)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 930) رقم (1551) وغيرهم. والحديث موضوع، تفرَّد به معلَّى بن عبد الرحمن وهو كذَّاب، ومتَّهمٌ بالوضع، انظر: تهذيب الكمال (28/ 289 - 291). (3) وقع في جميع النسخ "يعْلى" وهو خطأ. (4) في نسخةٍ على حاشية "أ": "عبد الرحمن". (5) في "د": "سليم بن أبي" وهو خطأ. (6) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 202) رقم (7721)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (368). وسنده ضعيف؛ فيه: هاشم بن زيد وصدقه بن عبد اللَّه السَّمين ضعيفان. =

(1/519)


قال الطبراني: وحدثنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا سويد بن سعيد حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أُمامة أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ: أيجامعُ أهلُ الجنَّة؟ قال: دَحْمًا دَحْمًا، ولكن لا مَنِيَّ ولا مَنِيَّة" (1) . وهاشم وخالد، وإنْ تُكلَّمَ فيهما فليس الاعتماد عليهما، وقوله: "لا مَنِيَّ ولا مَنِيَّة" أي: لا إنزال ولا موت. وقال أبو نعيم: حدثنا أبو علي محمد بن أحمد حدثنا بشر بن موسى، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا عبد الرحمن بن زياد حدثنا عمارة بن راشد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه سُئِلَ: هل يَمَسُّ أهل الجنَّة أزواجهم؟ قال: نعم، بذَكَرٍ لا يَمَلُّ، وفرْجٍ لا يحْفَى، وشهوةٍ لا تنقطع" (2) . __________ = انظر: تهذيب الكمال (13/ 135)، والجرح والتعديل (9/ 103). وله طريق آخر عن سليم بن عامر أبي يحيى عن أبي أُمامة. عند الطبراني (7674) وغيره وسنده ضعيف جدًّا. (1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 113) رقم (7479)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (271 و 367)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (367)، والبيهقي في البعث رقم (407) وغيرهم. والحديث ضعيف جدًّا، مدارهُ على خالد بن يزيد، وهو متروك، وكذَّبه ابن معين. (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (366)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (270)، والبزار كما في كشف الأستار رقم (3524) وغيرهم. من طريق عبد اللَّه بن يزيد المقرئ عن عبد الرحمن بن زياد به مثله. - ورواهُ عبدة بن سليمان وجعفر بن عون كلاهما عن عبد الرحمن بن زياد =

(1/520)


وقال الحسنُ بن سفيان في "مسنده": حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد (1) عن القاسم عن أبي أُمامة رضى اللَّهُ عنه قال: سُئِلَ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل ينكح أهل الجنَّة؟ قال: "إي والَّذي بعثني بالحقِّ دَحْمًا دحْمًا - وأشار بيده - ولكن لا مَنِيَّ ولا مَنِيَّة" (2) . وقال سعيد بن منصور: حدثنا سفيانُ عن أبي (3) عمرو عن عكرمة في قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } [يس: 55] قال: "في افتضاض الأبكار" (4) . __________ = عن عمارة عن أبي هريرة قوله. وهذا الاضطراب من عبد الرحمن بن زياد الأفريقي -وهو ضعيف-، وأيضًا عمارة بن راشد الكناني: قال فيه أبو حاتم: مجهول، وأيضًا روايته عن أبي هريرة مرسلة. انظر: الجرح والتعديل (6/ 365). فالحديث مع وقفه، ضعيف الإسناد، واللَّه أعلم. (1) في جميع النسخ "زيد" وهو خطأ. (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (369) من طريق الحسن بن سفيان به مثله. وسنده ضعيف جدًّا، فيه علي بن يزيد الألهاني ضعيف، وعثمان بن أبي العاتكة ضعيف في روايته عن علي بن يزيد، وقد ضعَّف أبو حاتم هذه السلسلة: علي عن القاسم عن أبي أُمامة فقال: "ليست بالقويَّة هي ضعاف". انظر: تهذيب الكمال (21/ 180 - 182). (3) سقط من جميع النسخ، انظر: الموضح للخطيب (2/ 341 - 343). (4) أخرجه البيهقي في البعث (401) والخطيب في الموضح (2/ 342) من طريق سعيد بن منصور به مثله. - ورواه علي بن حرب عن سفيان بن عيينة به مثله. أخرجه الخطيب في الموضح (2/ 341 - 342). =

(1/521)


وقال عبد اللَّه بن أحمد: حدثنا أبو الربيع الزهراني ومحمد بن حميد: قالا: حدثنا يعقوبُ بن عبد اللَّه (1) حدثنا حفصُ بن حُميد عن شِمْر بن عطية عن شقيق بن سلمة عن عبد اللَّه بن مسعود في قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } قال: "شُغْلُهم افتضاض العَذَارَى" (2) . __________ = - وقد اضطرب فيه أبو عمرو القاص واسمه محمد بن عبد الرحمن بن خالد ابن ميسرة القاص: - فرواهُ أسباط بن محمد من رواية ابنه عبيد، والحسن الطهوي وأسد بن موسى عنه، وسليمان التيمي - في الرواية الرَّاجحة عنه - عن أبي عمرو القاص عن عكرمة عن ابن عباس فذكرهُ. أخرجه الطبري (23/ 18)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (277)، وابن حبيب في وصف الفردوس رقم (201). ورواهُ هناد بن السري في الزهد (89) عن أسباط بن محمد عن أبي عمرو عن عكرمة قوله. - ورواهُ الثوري عن أبي عمرو عن عكرمة قوله. أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (1586). وعليه فالأثرُ مضطرب الإسناد، وأبو عمرو هذا لم يوثقه إلَّا ابن حبان، وأيضًا لم يتابع أبو عمرو عليه فحسْبُهُ إن صحَّ أنْ يكون من قول عكرمة كما رواهُ الثوري وابن عيينة وهو أشبه، واللَّه أعلم. وقد جاء عن ابن عباس من وجوه ولا تثبت. انظر: تفسير ابن وهب (1/ 22)، وابن حبيب فى وصف الفردوس ص (90)، والقرطبي (15/ 43). (1) وقع في "أ، ج": "عبيد اللَّه" وهو خطأ، انظر: الجرح والتعديل (9/ 209 - 210). (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة (375)، وابن أبي الدنيا رقم (276)، والطبري =

(1/522)


وقال الحاكم: أنبأنا الأصمُّ أنبأنا العباس بن الوليد، أخبرني شعيب، عن الأوزاعي في قول اللَّهِ تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } قال: "شغلهم افتضاض الأبكار" (1) . وقال مقاتل: "شُغِلُوا بافتضاض العذارى عن أهل النَّارِ فلا يذكرونهم ولا يهْتمُّون لهم" (2) . وقال أبو الأحوص: "شُغِلوا بافتضاض الأبكارِ على السُّرر في الحِجَالِ" (3) . وقال سليمان التيمي عن أبي مِجْلَزٍ: قلتُ لابن عباس: قولُ اللَّهِ تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } ما شغلهم؟ قال: "افتضاض الأبكارِ" (4) . __________ = في تفسيره (23/ 17 - 18) والحكيم الترمذي في مشكل القرآن كما في تفسير القرطبي (15/ 43)، وسند حسن. (1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (400) وسنده صحيح. (2) انظر تفسير مقاتل (3/ 89). (3) لم أقف عليه. (4) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة رقم (376). من طريق سهل بن زياد الطحان عن سليمان التيمي به فذكره. وسهل هذا: قال الأزدي "منكر الحديث". اللسان (3/ 135). وقد خولف سهل في سنده: فرواه يزيد بن زريع -كما سيأتي قريبًا- ومعتمر بن سليمان كلاهما عن سليمان التيمي عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس فذكره. أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (277) والطبري (23/ 18). =

(1/523)


وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا فُضيل بن عبد الوهاب حدثنا يزيد بن زُريع عن سليمان التيمي عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } قال: "في افتضاض العذارى". حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جُبير [قال]: "إنَّ شهوته لتجري فى جسدها سبعين عامًا تجدُ الَّلذة" (1) . ولا يلحقهم بذلك جَنَابة، فيحتاجون إلى التَّطهير، ولا ضعف ولا انحِلال قوَّةٍ، بل وطؤهم وطءُ التذاذٍ ونعيم، لا آفة فيه بوجهٍ من الوجوه". وأكملُ النَّاسِ فيه أصونهم لنفسه في هذه الدَّارِ عن الحرامِ، فكما أنَّ من شربَ الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبسَ الحرير في الدنيا لم يَلْبسْهُ في الآخرة، ومَنْ أكل في صحاف الذهب والفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة، كما قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" (2) . فمن استوفى طيباته ولذاته وأذهبها في هذه الدار (3) حُرِمَها هناك، كما نعى (4) سبحانه وتعالى على من أذْهَبَ طيباته في الدنيا واستمتع بها، ولهذا كان الصحابة - ومن تبعهم - يخافون من ذلك أشد الخوف، __________ = وهذا هو الصحيح عن سليمان التيمي، وقد تقدم قريبًا ذكر الاختلاف فيه. (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (278) مختصرًا. (2) تقدم ص (417). (3) في "ب" "الدنيا". (4) في "أ، ج، هـ": "نفى".

(1/524)


وذكر الإمام أحمد، عن جابر بن عبد اللَّه: "أنه رآه عمر ومعه لحم قد اشتراه لأهله بدرهم، فقال: ما هذا؟ قال: لحم اشتريته لأهلي بدرهم، فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئًا اشتراه! أما سمعت اللَّه تعالى يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] (1) . وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا الحسن قال: قدم وفد أهل البصرة مع أبي موسى على عمر، فكنا ندخل عليه كل يوم وله خبز يُلَتُّ (2) ، ربما وافقناها مأدومة بالسمن، وربما وافقناها مأدومة بالزيت، وربما وافقناها مأدومة باللبن، وربما وافقنا القدائد (3) اليابسة، قد دقت ثم أغلي بها، وربما وافقنا اللحم الغريض وهو قليل، فقال ذات يوم: إني واللَّه قد أرى تعذيركم (4) وكراهيتكم لطعامي، إني واللَّه لو شئت لكنت من ألينكم __________ (1) أخرجه أحمد في الزهد رقم (651). من طريق الأعمش عن بعض أصحابه قال: مرَّ جابر بن عبد اللَّه فذكره. - ورواهُ عبد اللَّه بن عمر العمري -ضعيف- عن وهب بن كيسان عن جابر فذكر نحوه. أخرجه أبو داود في الزهدِ رقم (64). وهذا يدلُّ على أنَّ للحديث أصلًا ثابتًا. (2) اضطربت النسخ في هذه الَّلفظة، ففي "أ، هـ" "ثلاثة"، وفي "ب، ج، د" "ثلثة". ولعلَّ الصوابُ ما أثبته كما جاء عند ابن المبارك وغيره. واللَّتُّ: الخلطُ. (3) وقع في "ج": "القرائد". (4) في "د": "تقديركم"، وفي نسخةٍ على حاشية "أ" "تعزيركم". والتعذير: التقصير في الأكلِ.

(1/525)


طعامًا، وأرقَّكم عيشًا، ولكني سمعت اللَّه تعالى عيَّرَ قومًا بأمر فعلوه، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] (1) . فمن ترك اللذة المحرمة للَّه استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون، ومن استوفاها ها هنا حُرِمَها هناك، أو نقص كمالها، فلا يجعل اللَّه لذة من أوضع في معاصيه ومحارمه، كلذة من ترك شهوته للَّه أبدًا (2) ، واللَّه أعلم. __________ (1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 49)، وابن سعد في الطبقات (3/ 279)، والبلاذري في الأنساب في ترجمة الشيخين ص (184). - ورواهُ ابن المبارك وحماد بن أُسامة ومحمد بن أبان الواسطي كلهم عن جرير بن حازم به نحوه. أخرجه ابن المبارك في الزهد (579)، وابن سعد في الطبقات (3/ 279)، والبلاذري في الأنساب ص (184). وأخرجه عبد اللَّه بن أحمد في زوائد الزهد رقم (593) من طريق سليم بن أخضر عن جعفر "لعلَّه العطاردي" عن الحسن قال: أنبأنا الأحنفُ بن قيس قال كُنَّا نشهد طعام عمر رضي اللَّهُ عنه فيومًا لحمًا غريضًا، ويومًا قديدًا، ويومًا زيتًا. وسندهُ صحيح، وهذا يدلُّ أنَّ لتلك القصَّة أصلًا صحيحًا. ورواها عبد الرحمن بن أبي ليلى وقتادة نحوه. عند أبي نعيم في الحلية (1/ 49)، والبلاذري ص (187). (2) في "هـ": "للَّه تعالى" بدل "للَّه أبدًا".

(1/526)


 الباب السادس والخمسون: في اختلاف الناس هل في الجنة حَمْلٌ وَوِلادة أم لا؟

قال الترمذي في "جامعه": حدثنا بندار، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن عامر الأحول، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنُّه في ساعةٍ، كما يشتهي" (1). قال: "هذا حديثٌ حسنٌ غريب". وقد اختلفَ أهل العلم في هذا: __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (2563)، وابن ماجه (4338)، وأحمد (3/ 9 و 80)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (280)، وابن حبان في صحيحه رقم (7404)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (585) وغيرهم. من طريق: محمد بن بشار بندار والقواريري عبيد اللَّه بن عمر وأبو هاشم محمد بن يزيد الرفاعي وعلي بن المديني كلهم عن معاذ به مثله. ورواهُ عمرو بن علي الفلاس عن معاذ عن أبيه عن عاصم الأحول به بلفظ: "إذا أراد المؤمن الولد، فإنَّ حمله ووضعه وشبابه في ساعةٍ، كما يشتهي". أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 124) رقم (275). ورواية الجماعة أصحُّ وأثبت. والحديث صححه ابن حبان وحسنه الترمذي مع قوله: غريب، لوروده من وجهٍ آخر. وأشار البخاري إلى تفرده، وإلى المخالفة في متنه لحديث أبي رزين العقيلي. وعامر الأحول في حفظه مقال.

(1/527)


فقال بعضهم: في الجنَّة جماع، ولا يكون ولد، هكذا روي عن طاووس ومجاهد وإبراهيم النخعي (1) . وقال محمد -يعني البخاري-: قال إسحاق بن إبراهيم في حديث النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا اشتهى المؤمن الولدَ في الجنَّة كان في ساعة كما يَشتهي" ولكن لا يشتهي. قال محمد: وقد روي عن أبي رَزِين العُقَيلي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ أهل الجنَّة لا يكون لهم فيها ولد". وأبو الصديق الناجي: اسمه بكر بن عمرو، ويقال: بكر بن قيس" انتهى كلام الترمذي. قلتُ: إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح، فرجاله محتج بهم فيه؛ ولكنَّه غريب جدًّا، وتأويل إسحاق فيه نظر، فإنَّه قال: "إذا اشتهى المؤمنُ الولد. فـ "إذا" للمُتَحَقَّقِ (2) الوقوع، ولو أُريِد ما ذكره من المعنى لقال: لو اشتهى المؤمن الولد لكان حمله في ساعة، فإنَّ ما لا يكون أحقَّ بأداة "لو" كما أنَّ المحقَّقَ الوقوع أحقُّ بأداةِ "إذا". وقد قال أبو نعيم: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا أحمد (3) بن __________ (1) ويضاف إليهم: عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وقتادة وهو ثابتٌ عنهم كلهم. انظر: مصنف عبد الرزاق (11/ 420 و 421)، والزهد لهناد رقم (91، 92)، وصفة الجنَّة لابن أبي الدنيا رقم (282 و 293)، وتفسير الطبري (1/ 175 - 176). (2) في "ب، د": "للمحقَّق"، وفي "هـ": "لتحقيق". (3) قوله: "حدثنا أحمد" سقط من "هـ".

(1/528)


إسحاق حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان الثوري، عن أبان، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قيل يا رسول اللَّه، أيولَدُ لأهلِ الجنَّة، فإنَّ الولدَ من تمام السرور؟ فقال: "نعم والَّذي نفسي بيده، وما هو إلَّا كقدر ما يتمنَّى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابُه" (1) . حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن أحمد الرَّازي بمكة حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن إدريس حدثنا سليمان بن داود القزَّاز، حدثنا يحيى بن حفص الأسدي، قال: سمعتُ أبا عمرو بن العلاء، يُحَدِّثُ عن جعفر بن زيد (2) العبدي عن أبي الصديق النَّاجي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ الرجلَ من أهل الجنَّة ليولد له كما يشتهي، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعةٍ واحدةٍ" (3) . __________ (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (275)، وهناد في الزهد رقم (93)، وعبد بن حميد في مسنده "المنتخب رقم 937". وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبان ابن أبي عياش: متروك الحديث. انظر: التقريب رقم (142). (2) في "هـ": "ثوبان"، وفي باقي النسخ "ثور"، والتصويب من الجرح والتعديل (2/ 480)، والبعث للبيهقي. (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 124) رقم (275)، وفي أخبار أصبهان (2/ 296)، والبيهقي في البعث رقم (442). وفيه: يحيى بن حفص الأسدي: لم أقف عليه، فإنْ كان هو الكرخي فهو لا يعرف. انظر: اللسان (6/ 328).

(1/529)


وحديث معاذُ بن هشام، قال فيه بُنْدَار: عامر الأحول، وقال عمرو ابن علي: عاصم الأحول. وقال الحاكمُ: أنبأنا الأصم، حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سلَّام ابن سليمان، حدثتا سلَّام الطويل عن زيد العمِّي عن أبي الصديق النَّاجي عن أبي سعيد الخدري يرفعه: "إنَّ الرجل من أهل الجنَّة ليشتهي الولدَ في الجنَّة، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعةٍ واحدةٍ" (1) . قال البيهقي: "هذا إسناد ضعيف بمرَّة". وأمَّا حديث أبي رَزِين الَّذي أشارَ إليه البخاري فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمِّل به الكتاب فعليه من الجلالة والمهابة ونورِ النبوة ما ينادي على صِحَّته. قال عبد اللَّه بن الإمام أحمد في "مسند أبيه": كتب إليَّ (2) إبراهيم ابن حمزة بن محمد بن حمزة (3) بن مصعب بن الزبير الزبيري (4) : كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعتهُ على ما كتبتُ به إليك، فحدِّث بذلك عنَّي، قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي قال: حدثني عبد الرحمن بن عيَّاش السَّمَعِي (5) الأنصاري - __________ (1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (440). وهو ضعيف جدًّا، فيه سلَّام الطويل: متروك الحديث. (2) سقط من "هـ". (3) قوله "بن حمزة" من "هـ". (4) من "أ، ب، هـ". (5) قوله: "عياش السَّمَعِي" في جميع النسخ "عابس المسمعي" وهو خطأ، ووقع =

(1/530)


من بني عمرو بن عوف - عن دَلْهم بن الأسود بن عبد اللَّه بن حاجب بن عامر بن المُنْتَفِق العُقَيلي عن أبيه عن عمِّه لقيط بن عامر قال دَلْهم: وحدَّثنيه أيضًا (1) أبي الأسودُ عن عاصم بن لَقِيْط: أنَّ لقيطًا خرج وافدًا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعه صاحبٌ له يُقال له نَهِيْك بن عاصم بن مالك بن المنتفق. قال لقيط: فخرجتُ أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في النَّاسِ خطيبًا فقال: "أيها النَّاسُ ألَا إنِّي قد خبأتُ لكم صوتي منذ أربعة أيَّامٍ ألا لأُسْمِعنَّكُم (2) ، ألَا فَهَلْ من امْرئٍ بعثه قومه؟ فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ألا ثُمَّ لعله أنْ يلهيه حديثُ نفسه، أو حديث صاحبه أو يلهيه الضَّلال، ألَا وإنِّي مسؤول هل بلَّغْتُ، ألا اسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا، ألا اجلسوا، قال: فجلس النَّاسُ، وقمتُ أنا وصاحبي، حتَّى إذا فرَّغ لنا فؤاده وبصره، قلتُ: يا رسول اللَّهِ ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لعَمْرُ اللَّهِ وهزَّ رأسهُ، وعلم أنِّي أبتغي سَقْطَةً (3) ، فقال: ضَنَّ ربُّكَ عزَّ وجلَّ بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلَّا اللَّهُ، وأشار بيده، قلتُ: وما هي؟ قال: علم المَنِيَّة، قد عَلِمَ متى منية أحدكم ولا تعلمونه، وعِلْم المنيِّ حين يكون في الرَّحم قد علمه ولا تعلمون (4) ، وعلم ما في غدٍ ما أنت طاعمٌ غدًا، ولا تعلمه، وعلم يوم الغيث يشرف __________ = في "هـ" "عباس" بدل "عياش" وقد قيل به. (1) من "د". (2) في "ب": "لأسمعكم". (3) جاء في "المسند" "لسقطه"، وفي نسخةٍ على "د" "مظرة". (4) من قوله "وعلم المني" إلى "تعلمون" من "د".

(1/531)


عليكم أزلين مشفقين، فيظل يضحك، قد علم أنَّ غِيَرَكُم إلى قرب" (1) ، قال لقيط: قلتُ: لن نعدم من ربٍّ يضحك خيرًا، وعلمَ يوم السَّاعة، قلتُ: يا رسول اللَّه، علمنا مما تُعَلَّمُ النَّاسَ، وما تَعْلَمُ، فإنَّا من قَبيلٍ لا يصدقون تصديقنا أحد: من مَذْحِج التي تَرْبُوا علينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها. قال: تلبثون ما لبثتم، ثمَّ يُتَوفَّى نبيكم، ثمَّ تلبثون ما لبثتم، ثمَّ تُبْعَثُ الصائحة، لعَمْرُ إلهِكَ ما تدَعُ على ظهرها شيئًا إلَّا ماتَ، والملائكة الَّذين مع ربِّك عزَّ وجلَّ، فأصبحَ ربُّكَ عزَّ وجلَّ يطوفُ في الأرضِ وخلَتْ عليه البلاد، فأرسل ربُّك عزَّ وجلَّ السماء بهَضْبٍ (2) من عند العرشِ، فلعمرُ إلهك ما تدعُ على ظهرها من مصرع (3) قتيل، ولا مدفن ميت إلَّا شقَّت القبر عنه، حتَّى تخلقه (4) من عند رأسهِ، فيستوي جالسًا، فيقول ربك: مَهْيَمْ (5) ، لما كان فيه. يقول: يا رب أمِتْني اليوم، ولعهده بالحياةِ يحسبه حديثًا بأهله، فقلتُ: يا رسول اللَّه، كيف يجمعنا بعدما تُمزقنا الرِّياح والبِلَى والسِّباع؟ قال: أُنْبِئُك بمثل ذلك في آلاءِ اللَّه: الأرض، أشرفت عليهَا وهي مدرة بالية، فقَلت: لا تحيا أبدًا، ثمَّ أرسل ربك عزَّ وجل عليها السماء فلم تلبث عليك إلَّا أيَّامًا حتى أشْرفْتَ عليها، وهي شَرَبَّة واحدة، ولَعَمْرُ إلهك لهو أقدرُ على أنْ يجمعهم من الماءِ على أنْ يجمع نبات الأرضِ، __________ (1) في "ب، ج، د، هـ": "إليَّ قريب". (2) في "د": "تهضِب". والمراد: المطر (3) في نسخةٍ على "د": "مفزع". (4) في "هـ" ونسخةٍ على "أ": "تجعله" وفي "أ، ج": "تخلفه". (5) كلمة استفهام، أي: ما حالك؟ وما شأنك، أو: ما وراءك. الوسيط، ص (929).

(1/532)


فيخرجون من الأصواء (1) ، ومن مصارعهم، فتنظرون إليه وينظر إليكم (2) ، قال: قلتُ: يا رسول اللَّه، فكيف ونحن ملء الأرض، وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظرُ إليه، قال: أُنْبِئُك بمثل ذلك في آلاءِ اللَّه عزَّ وجلَّ: الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعةً واحدةً، لا تضارون في رؤيتهما، ولعمرُ إلهك، لهو أقدرُ على أنْ يراكم وترونه منهما (3) ، قلتُ: يا رسول اللَّهِ، فما يفعل ربنا عزَّ وجلَّ، إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه باديةً له صَفَحاتكم لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عزَّ وجلَّ بيده غُرْفَةً من الماءِ فينضح قِبَلكم (4) بها، فلعمرُ إلهك ما تخطئ وجه أحدكم منها قطرة، فأمَّا المسلم فتدع وجهه مثل الرَّيطة (5) البيضاء، وأمَّا الكافرُ فتخطمه بمثل الحُمم الأسود، ألا ثُمَّ ينصرف نبيكم -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويفترقُ على أثرهِ الصَّالحون، فيسلكون جسْرًا من النَّارِ، فيطأ أحدكم الجمرة فيقول: حَسِّ (6) ، فيقول ربك: أَوَانُهُ، فتطَّلِعُون على حوضِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على ظمإ -واللَّه- ناهلة قط رأيتها، فلعمرُ إلهك ما يبسط واحد منكم يدهُ إلَّا وقعَ عليها قدح مطهرة من __________ (1) الأصواء: القبور. من حاشية (د). (2) في "أ": "إليهم". (3) كتب ناسخ "أ" عليها "كذا"، وفي المسند "من أنْ ترونهما ويريانكم، لا تضارون في رؤيتهما". (4) في بعض نسخ المسند "فيبلُّكم". (5) الرَّيطة: كل ملاءة ليست بِلِفْقَين، وقيل: كل ثوب رقيق ليِّن. النِّهاية (2/ 289). (6) كلمة تُقال عند الألم المفاجئ. الوسيط ص (194).

(1/533)


الطَّوْف (1) والبول والأذى، وتُحْبس الشمس والقمرِ، فلا ترون منهما واحدًا، قال: قلتُ: يا رسول اللَّهِ فَبِمَا نُبْصِرُ؟ قال: بمثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض، ثمَّ واجهته الجبال. قال: قلتُ: يا رسول اللَّهِ فَبمَا نُجْزَى من حسناتنا وسيئاتنا؟ قال: الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلَّا أنْ يعفو، قال: قلتُ: يا رسول اللَّهِ ما الجنَّة، ما النَّار؟ قال: لعمرُ إلهك إنَّ للنَّارِ سبعة أبوابٍ ما منهنَّ بابان إلَّا يسير الرَّاكبُ بينهما سبعين عامًا، قال: قلتُ: يا رسول اللَّهِ فعلى ما نطَّلِعُ من الجنَّة؟ قال: على أنهار من عَسَلٍ مصفَّى، وأنَّهارٍ من كأس ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماءٍ غير آسنٍ، وبفاكهةٍ لَعَمْرُ إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة، قلتُ: يا رسول اللَّه، ولنا فيها أزواج أو منهنَّ مُصْلحات؟ قال: الصالحات للصالحين، تلذوا بهنَّ (2) مثل لذَّاتكم في الدنيا، ويلذذن (3) بكم غير أنْ لا توالد، قال لقيط: فقلتُ: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه، فلم يجبه النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فقلتُ: يا رسول اللَّه على ما أبايعك؟ قال فبسط النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يده، وقال: على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وَزِيَال الشرك، وأنْ لا تشرك باللَّه إلهًا غيره. قال: قلتُ: وإنَّ لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يده وظن أنِّي مشترطٌ شيئًا لا يعطينيه. قال: قلتُ: نَحُلُّ منها حيث شئنا، ولا يجني __________ (1) جاء في حاشية "د": "الطوف: الغائط". (2) في "د، ظ": "تلذونهنَّ"، وفي "تلذون بهنَّ" وفي "هـ": "تلذُّ بهنَّ". (3) في "أ، هـ": "يلذوا بكم"، وفي "ب، د" "يلذُذْنكم"، وفي "ج": "يلذونكم".

(1/534)


على امرؤٍ إلَّا نفسه، فبسط يده، وقال: ذلك لك تَحُلُّ حيث شئت، ولا يجني عليك إلَّا نفسك، قال: فانصرفنا عنه، ثمَّ قال: إنَّ هذين (1) لعمر إلهك من أتقى (2) النَّاسِ في الأولى والآخرة، فقال له كعب بن الخُداريَّة أخو بني بكر بن كلاب: مَنْ هم يا رسول اللَّه؟ قال: بنو المنتفق أهلُ ذلك، قال: فانصرفنا وأقبلْتُ عليه فقلتُ: يا رسول اللَّه، هل لأحدٍ ممن (3) مضى من خيرٍ في جاهليتهم؟ قال: قال رجل من عُرْضِ قُريش: واللَّه إنَّ أباك المنتفق لفي النَّارِ، قال فَلَكأنَّه (4) وقع حَرٌّ بين جِلْدي ووجهي ولحمي مما قال لأبي على رؤوس (5) الناس: فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول اللَّه، ثم إذا الأخرى أجمل، فقلت: يا رسول اللَّه وأهلك؟ فقال: "وأهلي لعمر اللَّه ما أتيت عليه من قبرِ عامريًّ أو قرشيًّ من مشرك فقل: أرسلني إليك محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأبشرك بما يسوءك، تُجَرُّ على وجهك وبطنك في النار". قال: قلت: يا رسول اللَّه ما فعل بهم ذلك، وقد كانوا على عمل لا يُحسنون (6) إلَّا إيَّاهُ، وكانوا يحسبونهم مصلحين؟ قال: ذلك لأنَّ (7) اللَّه عزَّ وجلَّ بعث في __________ (1) قوله "إنَّ هذين" من المسند، ووقع في جميع النسخ "ها إن ذين، ها إن ذين. . . إن حدثت إلَّا أنهما" وفي بعض النسخ ". . إنَّ حديث إلَّا أنَّها". (2) في "د": "أبقى". (3) في "أ، ج، د، هـ": "مما". (4) في نسخة على حاشية "أ": "فكأنَّهُ". (5) في نسخةٍ على حاشية "أ" "رسوس". (6) في "أ": "يحسبون"، وفي "ج": "يحبُّون". (7) في "أ، ب، هـ": "بأنَّ".

(1/535)


آخر كلِّ سبع أُمم -يعني نبيًا - فمن عصى نبيَّه كان من الضَّالين، ومن أطاعَ نبيه كان من المهتدين" (1) . هذا حديثٌ كبيرٌ مشهورٌ لا يعرف إلَّا من حديث أبي القاسم عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني (2) ، ثمَّ من رواية إبراهيم ابن حمزة الزبيري المدني عنه، وهما من كبار علماء المدينة المحتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري، وروى عنهما في مواضع من كتابه. رواهُ أئمة الحديث في كتبهم، منهم: أبو عبد الرحمن عبد اللَّه بن الإمام أحمد، وأبو بكر أحمد ابن عمرو بن أبي عاصم، وأبو القاسم الطبراني، وأبو الشيخ الحافظ، وأبو عبد اللَّه بن منده، والحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، والحافظ أبو نعيم الأصبهاني وغيرهم على سبيل القبول والتسليم. قال الحافظُ أبو عبد اللَّه بن منده: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصَّغاني، وعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل وغيرهما، وقرؤوه بالعراق بمجمع (3) العلماء وأهل الدَّين، فلم ينكره أحدٌ منهم، ولم يُتَكلم في إسناده، وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم على سبيل القبول. وقال أبو الخير بن حمدان: "هذا حديث كبير ثابتٌ حسن مشهور". وسألتُ شيخنا أبا الحجاج المِزَّي عنه فقال: "عليه جلالة النبوة". __________ (1) تقدم الكلام عليه ص (126 - 127). (2) في "أ": "المديني". (3) في "ج، هـ": "بجمع".

(1/536)


قال نُفَاةُ الإيلاد: فهذا حديث صريحٌ في انتفاء الولد، وقوله: "إذا اشتهى" معلق بالشرط، ولا يلزم من التعليق وقوع المُعَلَّق ولا المعلق به، و"إذا" وإنْ كانت ظاهرةً في المحقَّق، فقد استعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقَّق وغيره. قالوا: وفي هذا الموضع يتعيَّن ذلك لوجوهٍ: أحدها: حديث أبي رَزِين هذا. الثاني: قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]، وهُنَّ الَّلاتي طُهَّرنَ من الحيض والنفاس والأذى. قال سفيان: أنبأنا ابن أبي نجيح عن مجاهد: "مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبصاق والمني والولد" (1) . وقال أبو معاوية: حدثنا ابن جريج عن عطاء: "أزواج مطهرة" قال: "من الولد والحيض، والغائط والبولِ" (2) . الثالث: قوله: "غيرَ أنَّهُ لا مَنِي ولا مَنِيَّة" وقد تقدم (3) ، والولد إنَّما يخلق من ماء الرجل، فإذا لم يكن هناك مني ولا مذي ولا نفخ في الفرج لم يكن هناك إيلاد. __________ (1) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 64) رقم (26)، والطبري في تفسيره (1/ 176)، وسنده حسن. (2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 176) وسنده صحيح. (3) ص (520, 521).

(1/537)


الرَّابع: أنَّه قد ثبتَ في "الصحيح" (1) عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "يبقى في الجنَّة فضلٌ فينشئُ اللَّه لها خلقًا فيسكنهم إيَّاها"، ولو كان في الجنَّة إيلاد لكان الفضل لأولادهم، وكانوا أحقَّ به من غيرهم. الخامس: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جعل الحمل والولادة مع الحيض والمني، فلو كُنَّ النساء يحْبَلْنَ في الجنَّة لم يقطع عنهنَّ الحيض والإنزال. السادس: أنَّ اللَّهَ سبحانه قدر التناسل في الدنيا؛ لأنَّه قدر الموت، وأخرجهم إلى هذه الدَّارِ قرنًا بعد قرنٍ، وجعل لهم أمَدًا ينتهون إليه، فلولا التناسل لبطل النوع الإنساني، ولهذا الملائكة لا تتناسل، فإنَّهم لا يموتون كما تموت الإنس والجنَّ، فإذا كان يوم القيامة أخرج اللَّهُ سبحانه النَّاسَ كلهم من الأرضِ، وأنشأهم للبقاءِ لا للموتِ فلا يحتاجون إلى تناسل يحفظ النوع الإنساني، إذ هو منشأ للبقاء والدوام، فلا أهل الجنَّة يتناسلون، ولا أهل النَّار (2) . السابع: أنَّه سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ (3) بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (4) } [الطور: 21]. فأخبر سبحانه أنَّه يكرمهم بإلحاق ذُرِّياتهم الَّذين كانوا لهم في الدنيا، ولو كان ينشئ __________ (1) أخرجه مسلم (2848) من حديث أنس رضي اللَّه عنه. (2) وقع في "د" إضافة "يتناسلون" لكنَّه ضرب عليها. (3) هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء، وقرأ الجمهور بالإفراد {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} انظر النشر في القراءات العشر لابن الجزري (2/ 282). (4) هكذا قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب، انظر المصدر السابق.

(1/538)


لهم في الجنَّة ذُرِّية أخرى، لذكرهم كما ذكر ذريتهم الَّذين كانوا في الدنيا؛ لأنَّ قُرَّة عيونهم كانت تكون بهم، كما كانت (1) بذرياتهم من أهل الدنيا. الثامن: أنَّه (2) إمَّا أنْ يقال باستمرار التناسل فيها لا إلى غاية، أو إلى غاية ثمَّ ينقطع، وكلاهما ممَّا لا سبيل إلى القول به، لاستلزام الأوَّل: اجتماع أشخاص لا تتناهى. واستلزام الثاني: انقطاع نوع من لذَّة أهل الجنَّة وسرورهم، وهو محالٌ، ولا يمكن أنْ يُقال: بتناسل يموت معه نسل ويخلفه نسل، إذ لا موت هناك. التاسع: أنَّ الجنَّة لا ينمو فيها الإنسان كما ينمو في الدنيا، فلا ولدان أهلها ينمون ويكبرون (3) ولا الرجال ينمون (4) كما تقدم، بل هؤلاء ولدان صغار لا يتغيرون، وهؤلاء أبناء ثلاث وثلاثين لا يتغيرون، ولو كان في الجنَّة ولادة لكان المولود ينمو (5) ضرورة حتى يصير رجلًا، ومعلوم أنَّ من ماتَ من الأطفال يردون أبناء ثلاث وثلاثين من غير نموًّ. يوضحه: الوجه العاشر: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى ينشئ أهل الجنَّة نشأَة الملائكة، أو أكمل من نشأتهم، بحيث لا يبولون ولا يتغوطون ولا __________ (1) في "ب، ج، د، هـ" "هي". (2) ليس في "أ". (3) في "أ، ج، د، هـ": "ويكثرون"، والمثبت أولى. (4) في "هـ" "ولا الرجل ينمو". (5) في جميع النسخ "ينمي" وكتب عليها ناسخ "أ" "كذا".

(1/539)


ينامون، ويلهمون التسبيح ولا يهرمون على تطاول الأحقاب، ولا تنمو أبدانهم، بل القدر الَّذي جعلوا عليه لازمٌ لهم أبدًا، واللَّه تعالى أعلمُ. فهذا ما في هذه المسألة. فأمَّا قولُ بعضهم: إنَّ القُدْرة صالحة، والكلَّ ممكن. وقول آخرين (1) : إنَّ الجنَّة دار المكلفين التي يستحقونها بالعملِ. وأمثال هذه المباحث فرخيصة، وهي في كتب النَّاسِ، وباللهِ التوفيقِ. وقال الحاكمُ: "قال الأستاذُ أبو سهل: أهل الزيغ ينكرون هذا الحديث -يعني: حديث الولادة في الجنَّة - وقد رُوِيَ فيه غير إسناد، وسُئِلَ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك فقال: يكون ذلك على نحوٍ ممَّا روينا، واللَّه سبحانه وتعالى يقول: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، وليس بالمستحيل أنْ يشتهي المؤمنُ - الممكن من شهواته، المصفَّى المقرَّب المسلَّط على لذَّاته - قُرَّة عين، وثمرة فؤاد من الَّذين أنعم اللَّهُ عليهم بأزواجٍ مطهرة. فإنْ قيل: ففي الحديث أنَّهنَّ لا يحضن ولا يَنْفَسْنَ فأنَّى يكون الولد؟ قلتُ: الحيضُ سببُ الولادة المُمْتدّ أمَدُهُ بالحملِ على الكره والوضع عليه، كما أنَّ جميع ملاذَّ الدنيا من المشارب والمطاعم والملابس على ما عُرِفَ من التعب والنصبِ، وما يَعْقبهُ كلُّ منها (2) ، __________ (1) في "ب، ج": "الآخرين". (2) في "ب، ج، د، هـ": "منهما".

(1/540)


ممَّا يُحْذرُ منه ويُخاف من عواقبه، وهذه خمرةُ الدنيا المحرمة المستولية على كلِّ بَلِيَّةِ قد أعدَّها اللَّهُ تعالى لأهل الجنَّة منزوعة البلية، مُوَفَّرة (1) الَّلذة، فلمَ لا يجوزُ أنْ يكون على مثله الولدُ؟ انتهى كلامه" (2) . قلتُ: النَّافون للولادة في الجنَّة لم ينفوها لزيغ في قلوبهم، ولكن لحديث أبي رزين "غيرَ أنْ لا توالد" وقد حكينا قول (3) عطاء وغيره "أنَّهنَّ مطهرات من الحيض والولد" (4) . وقد حكى الترمذي عن أهل العلم من السلف والخلف في ذلك قولين، وحكينا قول إسحاق بإنكاره، وقال أبو أُمامة رضي اللَّهُ عنه في حديثه: "غيرَ أنْ لا مَنيَّ ولا منيَّة"، والجنَّة ليست دار تناسل، بل دار بقاء وخلد، لا يموت من فيها فيقوم نسله مقامه. وحديث أبي سعيد الخدري هذا أجودُ أسانيده إسنادُ الترمذي، وقد حكم بغرابته، وأنَّه لا يُعْرف إلَّا من حديث أبي الصِّديق النَّاجي، وقد اضطرب لفظه: فتارةً يروى عنه: "إذا اشتهى الولد"، وتارة: "إنَّه ليشتهي الولد"، وتارةً: "إنَّ الرجل من أهل الجنَّة ليولد له" فاللَّه أعلمُ، فإنْ كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد قاله، فهو الحقُّ الَّذي لا شكَّ فيه، وهذه الألفاظ لا تنافي بينها، ولا تُناقِضُ حديث أبي رزين "غيرَ أنْ لا توالد" __________ (1) في "ب": "مغفورة". (2) ذكره البيهقي في البعث والنشور ص (220 - 221) رقم (442). (3) في "هـ": "من قول". (4) تقدم ص (537).

(1/541)


إذ ذلك نفيٌ للتوالد المعهود في الدنيا، ولا ينفي ولادةً، حمل الولد فيها ووضعه وسنه وشبابه في ساعةٍ واحدة. فهذا ما انتهى إليه عِلْمنا القاصر في هذه المسألة، ولقد أتينا فيها بما لعلَّك لا تجده في غير هذا الكتاب، واللَّهُ أعلمُ بالصواب.

(1/542)


 الباب السابع والخمسون: في ذكر سماع الجنَّة وغناء الحور العين وما فيه من الطَّرَبِ والَّلذة

قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} [الروم: 14 - 15]. قال محمد بن جرير: حدثني محمد بن موسى الحَرَشي، حدثنا عامر بن يساف قال: سألتُ يحيى بن أبي كثير عن قوله عزَّ وجلَّ: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} [الروم: 15] قال: "الحَبْرةُ: اللَّذة والسماع" (1). حدثنا عبد اللَّه بن محمد الفريابي، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير في قوله: {يُحْبَرُونَ (15)} قال: "السماع في الجنة" (2). ولا يخالف هذا قول ابن عباس: "يُكْرَمُون" (3). وقول مجاهد، وقتادة: "ينعمون" (4) فلذة الأذن بالسماع من الحبرة والنعيم. __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 28)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (263). وسنده لا بأس به. (2) أخرجه الطبري (21/ 28)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 62) (34010)، وهناد في الزهد رقم (4)، والبيهقي في البعث (419) وغيرهم. وسنده صحيح. (3) أخرجه الطبري (21/ 28) وسنده حسن. (4) أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 28). عن مجاهد بسند حسن. وعن قتادة بسندٍ صحيح.

(1/543)


وقال الترمذي: حدثنا هنَّاد وأحمد بن منيع قالا: حدثنا [أبو معاوية عن] (1) عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن عليًّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن في الجنة لمجتمعًا للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها، يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات (2) فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له" (3) . "وفي الباب عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وأنس، وحديث علي: حديث غريب". قلت: وفي الباب عن ابن أبي أوفى، وأبي أمامة، وعبد اللَّه بن عمر أيضًا. فأما حديث أبي هريرة: فقال جعفر الفريابي: حدثنا سعيد بن حفص، حدثنا محمد بن سلمة (4) ، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي صالح، عن أبي هريرة __________ (1) ما بين المعكوفتين سقط من النسخ، واستدركته من مصادر التخريج. (2) في نسخةٍ على "أ": "النَّعِمَات". (3) أخرجه الترمذي رقم (2564) و (2550)، وهناد في الزهد (9)، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائده على المسند (1/ 156)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 55) رقم (33960) وغيرهم. وسنده ضعيف: فيه عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة: ضعيف، والنعمان ابن سعد: فيه جهالة. انظر: تهذيب الكمال (16/ 515 - 517)، و (29/ 450). (4) في "ج": "مسلمة" وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (10/ 390).

(1/544)


-رضي اللَّه عنه- قال: "إن في الجنة نهرًا طول الجنة، حافتاه العذارى قيام متقابلات، ويغنين بأصوات حتى يسمعها الخلائق، ما يرون في الجنة لذة مثلها، قلنا: يا أبا هريرة وما ذاك الغناء؟ قال: إن شاء اللَّه التسبيح والتحميد والتقديس وثناء على الرب عز وجل" (1) . هكذا رواه موقوفًا. وروى أبو نعيم في "صفة الجنة" من حديث مسلمة (2) بن علي، عن زيد بن واقد، عن رجل، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن في الجنة شجرة جذوعها من ذهب، وفروعها من زبرجد ولؤلؤ، فتهبُّ لها ريح فيَصْطَفِقْن (3) ، فما سمع السامعون بصوت شيء قط ألذ منه" (4) . وأما حديث أنس: فقال أبو نعيم: أنبأنا عبد اللَّه بن جعفر، حدثنا إسماعيل بن عبد اللَّه، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن عون بن الخطاب بن عبد اللَّه بن رافع، __________ (1) أخرجه البيهقي في البعثِ رقم (425). وفيه سعيد بن حفص النفيلي أبو عمرو الحرَّاني لم يوثقه إلَّا ابن حبان ومسلمة الأندلسي، وكان قد كبر وتغيَّر في آخر عمره. انظر: تهذيب الكمال (10/ 391). (2) في نسخةٍ على "أ": "سلمة" وهو خطأ. (3) في "ب، هـ"، ونسخة على حاشية "أ": "فتصفق". (4) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (433). وفيه مسلمة بن علي الخشني: متروك الحديث، وأيضًا إبهام الرجل الراوي عن أبي هريرة.

(1/545)


عن ابنٍ لأنس؛ عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الحور يغنين في الجنة: نحن الحور الحسان، خلقنا لأزواج كرام" (1) . ورواه ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا إسماعيل بن عمر، __________ (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (432). ورواهُ كثير بن عبيد ومحمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم والحسن بن داود المنكدري وعبد الرحمن بن شيبة كلهم عن ابن أبي فديك به نحوه "على اختلاف في بعض الأسانيد". أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (7/ 16)، وابن أبي داود في البعث رقم (75)، والطبراني في الأوسط (5/ 34) رقم (6497)، والبيهقي في البعث رقم (420). - ورواهُ إسماعيل بن عمر "ثقة" عن ابن أبي ذئب به "رفعه أبو يعلى، وأرسله ابن أبي الدنيا". أخرجه أبو يعلى في مسنده كما في المطالب رقم (4609)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (260). - ورواهُ إسماعيل "لعله ابن أبي أُويس، في حفظه ضعف"، عن أخيه "عبد الحميد" عن ابن أبي ذئب عن عبد اللَّه بن رافع عن أنس فذكرهُ مرفوعًا. أخرجه البخاري في تاريخه (7/ 16). قلتُ: أخطأ إسماعيل في قوله: "عبد اللَّه بن رافع". - ورواهُ آدم وشبابة بن سوار عن ابن أبي ذئب عمَّن سمعَ أنس بن مالك قوله موقوفًا. أخرجه البخاري في تاريخه (7/ 16)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 57) رقم (33977). وهذا الاضطراب لعلَّه من عون بن الخطاب بن عبد اللَّه بن رافع، فإنَّهُ لم يرو عنه إلَّا ابن أبي ذئب، فهو شبه المجهول، وأيضًا فيه بعض ولد أنس لا يُدرى مَنْ هو، وعليه فالسند ضعيف.

(1/546)


حدثنا ابن أبي ذئب، عن أبي عبد اللَّه بن رافع، عن بعض ولد أنس فذكره. وأما حديث ابن أبي أوفى: فقال أبو نعيم: حدثنا عبد اللَّه بن (1) محمد بن جعفر من أصله، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا حامد بن يحيى البلخي، حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا الوليد بن أبي ثور، حدثني سعد الطائي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن ابن أبي أوفى رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يزوج إلى كل واحد من أهل الجنة أربعة آلاف بكر، وثمانية آلاف أيِّم، ومئة حوراء، فيجتمعن في كل سبعة أيام، فيقلن بأصوات حسان، لم تسمع الخلائق بمثلهنَّ: نحن الخالداتُ فلا نبيد، ونحن النَّاعمات فلا نبأس، ونحن الرَّاضياتُ فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن، طوبى لمن كان لنا وكُنَّا له" (2) . __________ (1) قوله "عبد اللَّه بن" سقط من جميع النسخ، وهو: أبو الشيخ الأصبهاني. (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (378، 431)، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة رقم (603). والحديث فيه نكارة، ومدارهُ على الوليد بن أبي ثور، وقد ضعفه النسائي والدارقطني، وقال أبو حاتم: "شيخ يكتب حديثه، ولا يحتج به"، وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال ابن نمير: "كذَّاب"، وقال أبو زرعة وابن حبان: منكر الحديث، زاد الأوَّل: يهم كثيرًا، والآخر: جدًّا. انظر: تهذيب الكمال (31/ 32 - 35). والحديث معروف من قول عبد الرحمن بن سابط، أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (279)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (589)، والبيهقي في البعث رقم (413) من طريق ليث بن أبي سليم عن ابن سابط نحوه بأوَّله، وزاد =

(1/547)


وأمَّا حديث أبي أُمامة: فقال جعفر الفريابي: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أُمامة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما مِنْ عَبْدٍ يدخلُ الجنَّة، إلَّا ويجلسُ عندَ رأسِهِ وعند رجليهِ ثنتان من الحُورِ العينِ، تُغنِّيانه بأحسن صوتٍ سَمعهُ الإنس والجنُّ، وليس بمزامير الشَّيطانِ" (1) . وأمَّا حديث ابن عمر: فقال الطبراني: حدثنا أبو رفاعة عمارة بن وَثِيمَة بن موسى بن الفُرَات المصري، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أزواج أهل الجنَّة ليُغنِّين أزواجهنَّ بأحسنِ أصواتٍ سمعها أحدٌ قطُّ، وإنَّ ممَّا يغنين به: نحنُ الخيراتُ الحِسَانُ، أزواجُ قومٍ كرامٍ، ينظرن بقُرَّةِ أعيان، إنَّ مما يغنين به: نحن الخالدات فلا نُمتْنَه، نحنُ الآمناتُ فلا نخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنَّه" (2) . __________ = ألفاظًا أخرى. قال البيهقي: "هذا هو الصحيح من قول ابن سابط". (1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (421)، والطبراني في الكبير (8/ 113) رقم (7478) بأوَّله وزاد لفظًا آخر. والحديث ضعيف جدًّا مدارهُ على خالد بن يزيد بن أبي مالك، وهو متروك. (2) أخرجه الطبراني في الصغير (2/ 35) رقم (734)، وفي الأوسط (3/ 391) رقم (3917)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (322، 430). فيه عمارة بن وثيمة، ذكره ابن يونس في تاريخه ولم يذكر فيه جرحًا ولا =

(1/548)


قال الطبراني: "لم يروه عن زيد بن أسلم إلَّا محمد، تفرَّد به ابن أبي مريم". وقال ابن وهب: حدثني سعيد بن أبي أيوب قال: قال رجلٌ من قريش لابن شهاب: هل في الجنَّة سماعٌ؛ فإنَّه حُبِّبَ إليَّ السماعُ؟ فقال: "إي والَّذي نفس ابن شهاب بيده، إنَّ في الجنَّة لشجرًا حمله اللؤلؤ والزبرجد، تحته جوارٍ ناهداتٍ يتغنين بالقرآن يقُلْنَ: نحنُ النَّاعمات فلا نبأس، ونحن الخالداتُ فلا نموت، فإذا سمع ذلك الشجر صَفَقَ بعضه بعضًا، فأجَبْنَ الجواري، فلا يُدرى أصواتُ الجواري أحسنُ، أم أصواتُ الشجر" (1) . قال ابن وهب: وحدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد: "أنَّ الحورَ العين يغنين أزواجهنَّ فيقلن: نحنُ الخيراتُ الحِسَان، أزواجُ شباب (2) كرام، ونحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الرَّاضيات فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن، في صدر إحداهنَّ مكتوبٌ: أنت حِبِّي، وأنا حِبُّك، انتهت نفسي عندك، لم تَرَ عيناي مثلك" (3) . __________ = تعديلًا. وهو حديث غريب، وزيد بن أسلم لم يسمع من ابن عمر إلَّا حديثين قاله سفيان بن عيينة، وهما في البخاري، فالحديث منقطع الإسناد. (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (261). وفيه انقطاع، لأنَّ سعيد بن أبي أيوب المصري، لم يسمع من الزهري، وإنَّما سمع من تلاميذ الزهري. انظر: تهذيب الكمال (10/ 342). (2) في "ج": "شبَّان"، والمثبت من مصدر النص وباقي النسخ. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (262) وسنده لا بأس به.

(1/549)


وقال ابن المبارك: حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحيى بن أبي كثير: "إنَّ الحورَ العينِ يتلقين أزواجهنَّ عندَ أبواب الجنَّة فيقلن: طالما انتظرناكم، فنحنُ الرَّاضيات فلا نسخط، والمقيمات فلا نظعن، والخالداتُ فلا نموت، بأحسن أصوات سُمِعَتْ تقول: أنتَ حِبِّي وأنا حبُّك ليس دونك مقصد (1) ، ولا وراءك مَعْدل" (2) . __________ (1) في "د" "مفضي"، وفي "ب" ونسخةٍ على "د" "مقضي"، ووقع عند ابن المبارك وفي "أ، ج، هـ": "مقصر"، والمثبت من ابن أبي الدنيا. (2) أخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نعيم- رقم (435)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (268). وسنده صحيح.

(1/550)


فصل ولهم سماع أعلى من هذا قال ابن أبي الدنيا: حدثني دَهْثَم بن الفضل القرشي، حدثنا روَّاد ابن الجرَّاح، عن الأوزاعي قال: "بلغني أنَّه ليس من خلق اللَّه أحسن صوتًا من إسرافيل، فيأمرهُ اللَّهُ تبارك وتعالى فيأخذ في السماع، فما يبقى ملكٌ في السماوات إلَّا قطع عليه صلاته، فيمكث بذلك ما شاء اللَّهُ أنْ يمكث، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: وعزَّتي وجلالي (1) لو يعلمُ العبادُ قدرَ عظمتي (2) ما عبدوا غيري" (3). وحدثني داود بن عمرو (4) الضبي، حدثنا عبد اللَّه بن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر قال: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أينَ الَّذين كانوا ينزَّهون أسماعهم وأنفسهم عن مجالس الَّلهو ومزامير الشيطان، أسكنوهم رياضَ المسكِ، ثمَّ يقول للملائكة: أسمعوهم تمجيدي وتحميدي" (5). __________ (1) من نسخةٍ على حاشية "أ"، وهو في إحدى نسخ صفة الجنَّة لابن أبي الدنيا. (2) في "د": "عَطِيَّتي". (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (264). وفيه: دهثم بن الفضل لا يُعرف فيه جرح ولا تعديل. انظر: تاريخ بغداد (8/ 382). (4) في جميع النسخ "عمر" وهو خطأ، انظر: الجرح والتعديل (3/ 420). (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (269) والَّلفظ له، وابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (43)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 151) نحوه. وسنده صحيح.

(1/551)


وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحسين حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر، حدثنا جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار في قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) } [ص: 25] قال: "إذا كان يوم القيامة أمرَ بمنبر رفيعٍ فوضِع في الجنَّة، ثمَ نودي: يا داود مجِّدْني بذلك الصوت الحَسَنِ الرخيم الَّذي كنتَ تمجدني به في دار الدنيا، قال: فيستفرغ صوت داود نعيم أهل الجنان، فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) } " (1) . وذكر حماد بن سلمة عن ثابت البُناني، وحجاج الأسود عن شهر ابن حوشب قال: "إنَّ اللَّهَ جلَّ ثناؤه يقول للملائكة: إنَّ عبادي كانوا يحبون الصَّوت الحسن في الدنيا، فيدعونه من أجلي فاسْمِعُوا عبادي، فيأخذوا بأصواتٍ من تهليلٍ وتسبيحٍ وتكبيرٍ لم يسمعوا بمثله قَطُّ" (2) . قال عبد اللَّه بن الإمام أحمد في كتاب "الزهد" لأبيه: "حدثني علي بن مُسْلم الطُّوسي حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك ابن دينار في قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) } قال: "يقيم اللَّهُ سبحانه داود عند ساق العرش، فيقول: يا داود مجِّدني اليومَ __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (343). ورواهُ شيبان وسيار عن جعفر به. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، كما عند ابن كثير (4/ 32)، والبيهقي في البعث رقم (424). والأثر صحيح عن مالك بن دينار. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (344).

(1/552)


بذلك الصوت الحسنِ الرَّخيم، فيقول: إلهي كيف أمجدك وقد سَلبْتنيه في دار الدنيا؟ قال: فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: فإنِّي أرده عليك، قال: فيرده عليه، فيزداد صوته، قال: فيستفرغ صوت داود نعيم أهل الجنَّة" (1) . وقال ابن أبي الدنيا (2) : حدثنا مسلم بن إبراهيم الحراني (3) ، حدثنا مسكين بن بكير عن الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لُبَابة قال: "إنَّ في الجنَّة شجرة ثمرها زبرجد وياقوت ولؤلؤ، فيبعث اللَّه ريحًا فتصفق، فيُسمع لها أصواتٌ لم يسمع ألذُّ منها" (4) . حدثنا أبو بكر بن يزيد وإبراهيم بن سعيد قالا: حدثنا أبو عامر العَقَدِي، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام (5) عن عكرمة عن ابن عباس قال: "في الجنَّة شجرة على ساق قدر ما يسير الرَّاكبُ في "ظلَّها مئة عام، فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم، فيذكر لهو الدنيا، __________ (1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3240) رقم (18348)، وأحمد في الزهد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر كما في الدرر (5/ 573)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (424). وفي سنده سيَّار فيه ضعف. (2) في "أ، ج": "داود" وهو خطأ. (3) في "أ": "الحوراني" وهو خطأ. (4) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (265). - ورواهُ علي بن معبد عن الأوزاعي به مثله. أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (187). وعليه فالإسناد حسن. (5) في "د": "وهران" وهو خطأ.

(1/553)


فيرسل اللَّه ريحًا من الجنَّة، فتحرك تلك الشجرة بكل لهوٍ كان في الدنيا" (1). حدثني إبراهيم بن سعيد حدثنا علي بن عاصم حدثنا سعيد بنِ أبي سعيد الحارثي قال: "حُدَّثْتُ أنَّ في الجنَّة آجامًا من قَصَبٍ من ذَهَبٍ حملها اللؤلؤ، فإذا اشتهى أهل الجنَّة أنْ يسمعوا صوتًا حسنًا؛ بعث اللَّه على تلك الآجام ريحًا فتأتيهم بكل صوت يشتهونه" (2). فصل ولهم سماع أعلى من هذا يضمحل دونه كلُّ سماع، وذلك حين يسمعون كلام الرب جلَّ جلاله، وخِطَابه وسلامه عليهم، ومحاضرته لهم، ويقرأ عليهم كلامه، فإذا سمعوه منه، فكأنَّهم لم يسمعوه قبل ذلك، وسيمرُّ بك - أيها السُّنَّيُّ - من الأحاديث الصِّحاح والحسان في ذلك ما هو من (3) أحب سماع لك في الدنيا وألذه لأذنك، وأقرِّهِ لعينك، إذ ليس في الجنَّة لذَّةٌ أعظمُ من النظر إلى وجه الرَّبِّ تعالى، وسماعِ كلامه منه، ولا يُعْطَى أهل الجنَّة شيئًا أحبَّ إليهم من ذلك. __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (266)، وابن أبي حاتم في تفسيره كما في تفسير ابن كثير (4/ 310)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (404) وغيرهم. قال ابن كثير: "هذا أثرٌ غريب، وإسنادهُ جيد قوي". لكن في سنده، زمعة بن صالح فيه ضعف، انظر: تهذيب الكمال (9/ 386 - 389). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (267). (3) ليس في "ب، هـ".

(1/554)


وقد ذكر أبو الشيخ عن صالح بن حيَّان عن عبد اللَّه بن بُرَيْدة قال: "إنَّ أهلَ الجنَّة يدخلون كلَّ يومٍ مرَّتين على الجبَّارِ جلَّ جلاله فيقرأ عليهم القرآن، وقد جلسَ كلُّ امرئٍ منهم مجلسه الَّذي هو مجلسه على منابر الدرِّ والياقوت، والزبرجد والذهب والزمُرُّد، فلم تَقَرَّ أعينهم بشيءٍ، ولم يسمعوا شيئًا قطُّ أعظم ولا أحسنَ منه، ثمَّ ينصرفون إلى رحالهم ناعمين قرِيرة أعينهم، إلى مثلها من الغَدِ" (1) . __________ (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (270)، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/ 6 ق/ ب). وسنده ضعيف جدًّا: فيه صالح بن حيان القرشي ضعيف، وفيه المسيب ابن شريك متروك. انظر: لسان الميزان (6/ 47 - 48).

(1/555)


 الباب الثامن والخمسون: في ذكر مطايا أهل الجنَّة وخيولهم ومراكبهم

قال الترمذي: حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن حدثنا عاصم بن علي حدثنا المسعودي عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بُريدة عن أبيه: أنَّ رجلًا سأل النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه: هل في الجنَّة من خيل؟ قال: إن اللَّهُ أدخلك الجنَّة فلا تشاءُ أن تُحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنَّة حيث شئت إلَّا فعلت (1)، قال: وسأله رجل، فقال: يا رسول اللَّه! هل في الجنَّة من إبل؟ قال: فلم يقل ما قال لصاحبه، قال: إن يدخلك اللَّهُ الجنَّة يكن لك فيها ما اشتهت نفسُك ولذَّت عينُك" (2). __________ (1) قوله: "إلا فعلت" من الترمذي. (2) أخرجه الترمذي رقم (2543)، وأحمد (5/ 352)، وابن أبي شيبة (7/ 57) رقم (33980)، والطيالسي في مسنده رقم (843) وغيرهم. من طرق عن المسعودي به نحوه. لكن رواهُ عنه مَنْ سمعوا منه بعد اختلاطه. وأشارَ المؤلِّف إلى اضطراب علقمة فيه: - فرواهُ حنش بن الحارث عن علقمة عن عبد الرحمن بن ساعدة مرفوعًا "هكذا رواهُ الأشعث بن شعبة -فيه جهالة- عن حنش. أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (424)، والبيهقي في البعث (439) وغيرهما. - ورواهُ سالم بن قتيبة "لم أقف عليه" عن علقمة عن رجل من الأنصارِ يقال له: عمير بن ساعد فذكره. أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 273) رقم (424). =

(1/556)


حدثنا سويد بن نصر، أنبأنا عبد اللَّه بن المبارك عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن عبد الرحمن بن سابط عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوه بمعناه وهذا أصحُّ من حديث المسعودي. حدثنا محمد بن إسماعيل بن سَمُرة الأحْمسِي حدثنا أبو معاوية عن واصل بن السائب عن أبي سَوْرة عن أبي أيوب قال: أتى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابيٌّ فقال: يا رسول اللَّهِ إنَّي أحبُّ الخيل أفي الجنة خَيْلٌ؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أدخلت الجنَّة أُتيتَ بفرسٍ من ياقوتةٍ له جناحان فحملت __________ = - ورواهُ أبو طيبة عن علقمة عن أبي صالح عن أبي هريرة فذكره. أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (426) لكن السند إليه ضعيف، وأبو طيبة: عيسى بن سليمان ضعَّفه ابن معين، وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ. انظر: لسان الميزان (4/ 461 - 462). - ورواهُ ميكائيل عن علقمة عن يحيى بن إسحاق عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. أخرجه أبو نعيم (2/ 276) رقم (427). وميكائيل فيه جهالة، وحديثه يدل على ضعفه. انظر: لسان الميزان (6/ 181). - ورواهُ الثوري عن علقمة عن عبد الرحمن بن سابط فذكره مرسلًا. أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (271)، وعبد الرزاق في المصنف (3/ 564) رقم (6700) وغيرهما. والَّذي يظهر أنَّ الاضطراب ليس من علقمة بن مرثد "ثقة" بل من الرواة عنه. والصحيح رواية الثوري لإمامته وحفظه وإتقانه كما رجحه أبو حاتم الرَّازي والترمذي، فالحديث مرسل. انظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 215) رقم (2132)، والإصابة لابن حجر (5/ 150 - 151).

(1/557)


عليه، ثمَّ طار بك حيث شئت" (1) . قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بالقوي، ولا نعرفه من حديث أبي أيوب إلَّا من هذا الوجه، وأبو سورة: هو ابن أخي أبي أيوب، يضعَّف في الحديث، ضعفه ابن معين جدًّا، قال: وسمعتُ محمد بن إسماعيل يقول: أبو سورة هذا منكر الحديث، يروي مناكير عن أبي أيوب لا يتابع عليه (2) ". قلتُ: أمَّا حديث علقمة بن مرثد فقد اضطرب فيه علقمة: فمرَّة يقول: عن سليمان بن بريدة عن أبيه. ومرَّة يقول: عن عبد الرحمن بن سابط (3) عن عبد الرحمن (4) بن ساعدة قال: كنتُ أحبُّ الخيل، فقلتُ: هل في الجنَّة خيلٌ يا رسول اللَّهِ؟ ومرَّة يقول: قال رجلٌ من الأنصارِ يُقال له عمير بن ساعدة: يا رسول اللَّه. __________ (1) أخرجه الترمذي رقم (544)، والطبراني في الكبير (4/ 180) رقم (4075)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (423). وهو ضعيف جدًّا، واصل بن السائب: متروك الحديث، وأبو سورة ذكر الكلام فيه الترمذي. (2) في "د": "عليها". (3) قوله: "عبد الرحمن بن سابط" سقط من "هـ". (4) في "أ، ج": "عمير".

(1/558)


ومرَّة يقول: عن عبد الرحمن بن سابط عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. والترمذي جعل هذا أصحَّ من حديث المسعودي؛ لأنَّ سفيان أحفظ منه، وأثبت. وقد رواهُ أبو نعيم من حديث علقمة هذا، فقال: عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: أنَّ أعرابيًّا قال: يا رسول اللَّه! أفي الجنَّة إبلٌ؟ قال: يا أعرابي إنْ يُدخلك اللَّه الجنَّة رأيتَ فيها ما تشتهي نفسك وتلذُّ عينُك". ورواه أيضًا من حديث علقمة عن يحيى بن إسحاق عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذكر الجنَّة فقال: "والفردوس أعلاها سُمُوًّا، وأوسعها مَحَلَّةً، ومنها تفجر أنهار الجنَّة، وعليها يوضعُ العرش يومَ القيامة، فقام إليه رجلٌ، فقال: يا رسول اللَّهِ إنِّي رجلٌ حُبِّبَ إليَّ الخيل (1) ، فهل في الجنَّة خيل؟ قال: إي والَّذي نفسي بيده، إنَّ في الجنَّة لخيلًا وإبلًا هَفَّافةً ترفّ بين خلال ورق الجنَّة، يتزاورون عليها حيث شاؤوا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللَّه! إنِّي حُبِّبَ إليَّ الإبل ... وذكر الحديث. وأمَّا حديث أبي سَوْرَة فلا يعرف إلَّا من حديث واصل بن السائب عنه، ولم يروه عنه غيره، وغير يحيى بن جابر الطائي. وقد أخرج له أبو داود حديث: "ستُفتح عليكم الأمصارُ، وتجندون أجنادًا" (2) . __________ (1) وقع في "هـ": "الخيل والإبل وذكر الحديث". (2) أخرجه أبو داود (2525)، وأحمد (5/ 413) وغيرهما من حديث أبي أيوب =

(1/559)


وأخرج له ابن ماجه عن أبي أيوب: "رأيتُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- توضأ فخلَّل لحيته" (1) . وحديثًا آخر في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] " (2) . وأخرج له الترمذي حديث: "خيل الجنَّة" (3) فقط. ورواهُ أبو نعيم: من حديث جابر بن نوح عن واصل به وقال: "إنَّ أهل الجنَّة ليتزاورون على نجائب بيضٍ، كأنَّها الياقوت، وليس في الجنَّة من البهائم إلَّا الخيلُ والإبل" (4) . وقال أبو الشيخ: حدثنا القاسمُ بن زكريا حدثنا سويد بن سعيد حدثنا مروان بن معاوية عن الحكم بن أبي خالد عن الحسن البصري عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا دخل أهل __________ = رضي اللَّه عنه. وهو من منكراته عن أبي أيوب كما ذكر البخاري (ص/ 558). (1) أخرجه ابن ماجه (433). وسنده ضعيف جدًّا، واصل: متروك، وأبو سورة كما تقدم. (2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 243 - 244) رقم (25665)، والطبراني في الكبير (4/ 178) رقم (4065) وغيرهما من حديث أبي أيوب رضي اللَّه عنه. وهو حديث منكر، عِلَّته ما سبق في الحديث قبله. (3) كما تقدم قريبًا. (4) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة رقم (428)، والطبراني في الكبير (4/ 179) رقم (4069). وهو ضعيف جدًّا، فيه واصل: متروك، وأبو سورة تقدم حاله.

(1/560)


الجنَّة الجنَّة جاءتهم خيولٌ من ياقوت أحمر، لها أجنحةٌ، لا تروث ولا تبول فقعدوا عليها، ثمَّ طارت بهم في الجنَّة، فيتجلى لهم الجبار، فإذا رأوه خرُّوا سجدًا فيقول لهم الجبار تبارك وتعالى: ارفعوا رؤوسكم فإنَّ هذا ليس بيوم عمل، إنَّما هو يوم نعيم وكرامة، قال: فيرفعون رؤوسهم، فيُمطر اللَّه تعالى عليهم طيبًا، فيمرُّون بكثبان المسك، فيبعث اللَّه على تلك الكثبان ريحًا، فتهيِّجها عليهم حتى إنَّهم ليرجعون إلى أهليهم وإنَّهم لشعث غُبْر" (1) . وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا همام عن قتادة عن عبد اللَّه بن عمرو قال: "في الجنَّة عِتَاق الخيل، وكرائم النجائب يركبها أهلها" (2) . __________ (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (429)، والآجري في الشريعة رقم (616, 617). ومدارهُ على الحكم بن أبي خالد: هو ابن ظهير الفزاري: متروك، واتهم بالكذب، وسيأتي موقوفًا ص (690). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (252). وهذا فيه انقطاع، قتادة لم يسمع من عبد اللَّه بن عمرو.

(1/561)


 الباب التاسع والخمسون: في زيارة أهل الجنَّة بعضهم بعضًا، وتذاكرهم ما كان بينهم في الدنيا

قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} [الصافات: 50 - 57]. أخبر سبحانه وتعالى أنَّ أهل الجنَّة أقبل بعضهم على بعض يتحدثون، ويسأل بعضهم بعضًا عن أحوال كانت في الدنيا، فأفضت بهم المحادثة والمذاكرة إلى أنْ قال قائلٌ منهم: كان لي قرينٌ في الدنيا ينكر البعث والدَّار الآخرة، ويقول ما حكاهُ اللَّهُ عنه، يقول: {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)} بأنَّا نُبعث ونُجازى بأعمالنا، ونُحاسبُ بها بعد أنْ مَزَّقَنَا البِلَى، وكُنَّا تُرابًا وعظامًا، ثمَّ يقول المؤمنُ لإخوانه في الجنَّة: هل أنتم مطلعون في النَّارِ لننظر منزلة قريني هذا وما صار إليه. هذا أظهرُ الأقوالِ، وفيها قولان آخران: أحدهما: أنَّ الملائكة تقول لهؤلاء المتذاكرين الَّذين يحدث بعضهم بعضًا: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)} [الصافات: 54]. رواهُ عطاء عن ابن عباس (1). __________ (1) لم أقف عليه. وذكر هذا القول القرطبي في الجامع (15/ 82)، وابن الجوزي =

(1/562)


والثاني: أنَّه من قول اللَّه عزَّ وجلَّ لأهل الجنَّة يقول لهم: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) }. والصحيح القول الأوَّل (1) ، وأنَّ هذا قول المؤمن لأصحابه ومحادثيه، والسياق كله والإخبار عنه وعن حال قرينه. قال كعب: "بين الجنَّة والنَّارِ كُوًى، فإذا أراد المؤمنُ أنْ ينظر إلى عدوٍّ كان له في الدنيا اطَّلعَ من بعض تلك الكُوى" (2) . وقوله تعالى: {فَاطَّلَعَ} أي: أشرف. قال مقاتل: "لما قال لأهل الجنَّة: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}؟ قالوا له: إنَّك أعرف به منَّا، فاطَّلِعْ أنت، فَأَشْرَفَ فرأى قرينه في وسط الجحيم، ولولا أنَّ اللَّه عرَّفه إيَّاهُ لما عرَفه، لقد تغيَّر وجهُهُ ولونُهُ وغيَّرهُ العذاب أشدَّ تغيير، فعندها قال: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) } [الصافات: 56 - 57] أي: إنْ كدتَ لتهلكني، ولولا أنْ (3) أنعمَ اللَّهُ عليَّ بنعمه لكنتُ من المحضرين معَك في العذاب" (4) . __________ = في زاد المسير (7/ 50). (1) وإليه ذهب عامَّة المفسرين: الطبري (23/ 58)، والماوردي (5/ 49)، والقرطبي (15/ 81 - 82)، وابن الجوزي (7/ 49)، والبغوي (7/ 41) وغيرهم. (2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره "كما في الدر المنثور (5/ 52) بنحوه"، وذكره ابن المبارك "كما عند القرطبي (15/ 83) بمثله". من طريق قتادة قال: ذكر لنا أنَّ كعب فذكره. وسنده منقطع، قتادة لم يدرك كعب الأحبار. (3) ليس في "ج". (4) انظر: تفسير مقاتل (3/ 99) بمعناه.

(1/563)


وقال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) } [الطور: 25 - 28]. وقال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق حدثنا سهل بن عثمان حدثنا المسيب بن شَرِيك عن بشر بن نُمير (1) عن القاسم عن أبي أُمامة قال: سُئِلَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أيتزاورُ أهل الجنَّة؟ قال: يزور الأعلى الأسفل، ولا يزور الأسفل الأعلى، إلَّا الَّذين يتحابون في اللَّه يأتون منها حيث شاؤوا على النُّوق محتقبين الحشايا" (2) . وقال الدورقي: حدثنا أبو سلمة التبوذكي، حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: بلغنا أنَّ أهل الجنَّة يزورُ الأعلى الأسفل، ولا يزور الأسفل الأعلى" (3) . __________ (1) في "ب، د": "نمر" وهو خطأ. (2) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 286) رقم (7936)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (421). قال الهيثمي في المجمع (10/ 279): "وفيه بشر بن نمير، وهو متروك". وقد اتُّهم بالكذبِ ووضع الحديث. انظر: تهذيب الكمال (4/ 156 - 157). - ورواهُ جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة. عند الطبراني (8/ 292) رقم (7959)، وجعفر اتُّهم بوضع الحديث. (3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (422). ورواهُ سليمان بن المغيرة وابن المعتمر عن حميد، نحوه. أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (235)، وابن حبيب في =

(1/564)


وقد تقدم حديث علقمة بن مرثد عن يحيى بن إسحاق عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه (1) . وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبدوس حدثنا الحسن بن حماد حدثنا جابر بن نوح عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب يرفعه: "إنَّ أهل الجنَّة يتزاورون على النجائب" وقد تقدم (2) . فأهلُ الجنَّة يتزاورون فيها، ويستزيرُ بعضهم بعضًا، وبذلك تَتِمُّ لذَّتُهم وسرورهم، ولهذا قال حارثة للنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سألهُ: "كيف أصبحتَ يا حارثة؟ " قال: أصبحتُ مؤِمنًا حقًّا، قال: "إنَّ لكلِّ حقًّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " قال: عزَفتْ نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ نهاري، وكأنِّي أنظرُ إلى عرش ربي بارزًا، وإلى أهل الجنَّة يتزاورون فيها، وإلى أهل النَّارِ يُعَذَّبون فيها، فقال: "عبدٌ نوَّر اللَّهُ قلبَه" (3) . __________ = وصف الفردوس رقم (179). وسنده صحيح. (1) ص (579). (2) ص (560). (3) أخرجه البزار "كشف الأستار" رقم (32)، والبيهقي في شعب الإيمان رقم (10590)، والحكيم الترمذي في الصلاة ومقاصدها (ص/ 73). من طريق يوسف بن عطية عن ثابت وقتادة عن أنس بن مالك. قال البزار: "تفرَّد به يوسف بن عطية، وهو لين الحديث". قلتُ: يوسف بن عطية الصفَّار متروك الحديث. والحديث وقع فيه اختلاف كثير، ولا يصح مرفوعًا، وإنَّما هو من قول بعض أتباع التَّابعين ومن دونهم: كمالك بن مغول وصالح بن مسمار، وقد =

(1/565)


قال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد اللَّه (1) حدثني سلمة بن شبيب حدثنا سعيد بن دينار عن الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ، قال: فيشتاقُ الإخوان بعضهم إلى بعض، فيسير سريرُ هذا إلى سرير هذا، وسرير هذا إلى سرير هذا، حتَّى يجتمعا جميعًا، فيقول أحدهما لصاحبه: تعلمُ متى غفر اللَّهُ لنا؟ فيقول صاحبه: يوم كُنَّا في موضع كذا وكذا، فدعونا اللَّه فغفر لنا" (2) . قال: وحدثنا حمزة بن العباس، أنبأنا عبد اللَّه بن عثمان أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا إسماعيل بن عياش قال: حدثني ثعلبة بن مسلم (3) ، عن أيوب بن بشير العجلي، عن شُفَيِّ بن ماتِعٍ (4) أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ من نعيم أهل الجنَّة أنَّهم يتزاورون على المطايا __________ = قال ابن صاعد: ". . . وهذا الحديث لا يثبت مرفوعًا". انظر: المعرفة لأبي نعيم (2/ 778)، والإصابة لابن حجر (1/ 303). (1) قوله: "حدثنا عبد اللَّه" ليس في المطبوع من كتاب ابن أبي الدنيا، وهو مثبت في جميع النسخ، ولعلَّ عبد اللَّه هذا: هو ابن أحمد بن حنبل، واللَّه أعلم، انظر: تهذيب الكمال (11/ 285). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (245). وأخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 103)، والبزار "كما في كشف الأستار رقم (3553). قال أبو حاتم الرَّازي: "هذا حديث منكر، وسعيد "يعني: ابن دينار" مجهول". انظر: تفسير ابن كثير (4/ 260). (3) في "أ، ج": "سلم" وهو خطأ. (4) في "هـ": "نافع" وهو خطأ، وفي "ج": "مانع" وهو خطأ.

(1/566)


والنجب، وأنَّهم يؤتون في الجنَّة بخيلٍ مُسرجةٍ مُلْجمةٍ، لا تروث ولا تبول، فيركبونها حتَّى ينتهوا حيث شاء اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فيأتيهم مثل السحابة، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، فيقولون: أمطري علينا، فما يزال المطرُ عليهم حتَّى ينتهي ذلك فوق أمانيهم، ثمَّ يبعث اللَّه ريحًا غير مؤذية، فتنسف كثبانًا من مسك عن أيمانهم وعن شمائلهم، فيأخذ ذلك المسك في نواصي خيولهم، وفي مفارقهم (1) وفي رؤوسهم، ولكلِّ رجلٍ منهم جُمَّة على ما اشتهت نفسه، فيتعلَّق ذلك المسك في تلك الجمام وفي الخيل، وفيما سوى ذلك من الثياب، ثمَّ يقبلون حتى ينتهوا إلى ما شاء اللَّهُ تعالى، فإذا المرأة تنادي بعض أولئك: يا عبد اللَّه أمالك فينا حاجة؟ فيقول: ما أنتِ ومن أنتِ؟ فتقول: أنا زوجك وحِبُّكَ، فيقول: ما كنتُ علمتُ بمكانِك، فتقول المرأة: أوما تعلم انَّ اللَّه قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17] فيقول: بلى وربِّي، فلعلَّه يُشْغَلُ (2) عنها بعد ذلك الموقف أربعين خريفًا، لا يلتفتُ ولا يعودُ؛ ما يشغلهُ عنها إلَّا ما هو فيه من النعيم والكرامة" (3) . __________ (1) في "ب، ج، د، هـ": "مفارقها". (2) في "ب": "ليشغل". (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" رقم (246)، وابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (239). وهو حديث مرسل ضعيف الإسناد؛ لأن شُفي بن ماتع تابعي على الصحيح، وثعلبة بن مسلم فيه جهالة. انظر: جامع التحصيل للعلائي رقم (288).

(1/567)


حدثني حمزة أنبأنا عبد اللَّه بن عثمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا رشدين ابن سعد قال: حدثني ابنُ أنعم أنَّ أبا هريرة رضي اللَّه عنه قال: "إنَّ أهل الجنَّة ليتزاورون على العِيْس الجُوْنِ، عليها رحال المَيْس، تثير مناسمها غبار المسك، خِطام أو زمام أحدها خيرٌ من الدنيا وما فيها" (1) . وذكر ابن أبي الدنيا: من حديث أبي اليمان، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه سأل جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] قال: "هم الشهداء يبعثهم اللَّه متقلدين أسيافهم حول عرشه، فأتاهم ملائكة من المحشر بنجائب من ياقوت، أزِمَّتها الدُّرُّ الأبيض، برحال الذهب، أعِنَّتها السندس والإستبرق، ونمارقها أَلْيَنُ من الحرير، مدُّ خُطَاها مدُّ أبصار الرجال، يسيرون في الجنَّة على خيول، يقولون عند طول النزهة: انطلقوا بنا ننظر كيف يقضي اللَّه (2) بين خلقه، يضحك اللَّهُ إليهم، وإذا ضحك اللَّه إلى عبدٍ في موطن فلا حساب عليه" (3) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (247). وسنده ضعيف، رشدين وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ضعيفان. (2) ليس في "أ، ج". (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (248). - وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 277) رقم (3000) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والدَّارقطني في الإفراد "كما في الأطراف (5/ 155) رقم (4984) وغيرهما. =

(1/568)


قال ابن أبي الدنيا: وحدثنا الفضل بن جعفر ثنا جعفر بن حسن (1) ، حدثنا أبي، عن الحسن بن علي عن علي (2) رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنَّ في الجنَّة لشجرةً يخرجُ من أعلاها حللٌ، ومن أسفلها خيلٌ من ذهب مسرجةٍ ملجمةٍ من درٍّ وياقوت، لا تروث ولا تبول، لها أجنحة خطوها مدُّ بصرها، فيركبها أهل الجنَّة فتطيرُ بهم حيث شاؤوا، فيقول الَّذين أسفلَ منهم درجة (3) : يا رب بِمَ بلغ عبادُك هذه الكرامة كلها؟ قال: فيقال لهم: كانوا يصلون بالليل وكنتم تنامون، وكانوا يصومون وكنتم تأكلون، وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون، وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون" (4) . __________ = من طريقِ بقية بن الوليد وحماد بن أُسامة كلاهما عن عمر بن محمد به نحوه. قال الدَّارقطني: "غريب من حديثه "يعني زيد" عن أبيه، تفرَّد به عمر بن محمد عنه. . . ". والحديثُ مدارهُ على عمر بن محمد وهو ابن صهبان الأسلمي: وهو متروك الحديث، وهذا الحديث من مناكيره. انظر: تهذيب الكمال (21/ 400 - 401). (1) كذا في جميع النسخ، وفي مصدر التخريج، ولعلَّ صوابه "جسر"، وهو: ابن فرْقَد أبو جعفر القصَّاب، انظر: لسان الميزان (2/ 132 - 133). (2) قوله "عن علي" سقط من "هـ". (3) في "أ، جـ": "فرحة". (4) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (249). وهو حديثٌ منكر، فيه جعفر بن جسر بن فرقد، وأبوهُ جسر وكلاهما ضعيف، لكن جسر أضعف وله منكرات، وقال بعضهم فيه: متروك. انظر: لسان الميزان (2/ 140 - 141).

(1/569)


فصل ولهم زيارةٌ أخرى أعلى من هذه وأجلُّ، وذلك حين يزورون ربهم تبارك وتعالى، فيريهم وجهَه، ويُسْمعهم كلامَه، ويحلُّ عليهم رضوانه. وسيمرُّ بك ذكر هذه الزيارة عن قريبٍ، إنْ شاء اللَّهُ تعالى (1). __________ (1) في الباب (61).

(1/570)


 الباب الستون: في ذكر سوق الجنَّة وما أعدَّ اللَّهُ تعالى فيه (1) لأهلها

قال مسلم في "صحيحه" (2): حدثنا سعيد بن عبد الجبار الصَّيرفي، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنَّة لسُوقًا يأتونها كلَّ جمعة، فتهبُّ ريحُ الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حُسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم، وقد ازدادوا حُسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: واللَّهُ لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم واللَّهِ لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا". ورواهُ الإمام أحمد في "مسنده" عن عفَّان، عن حماد بن سلمة به (3). وقال: "فيها كثبان المسكِ فإذا خرجوا إليها هبَّت الرِّيح" (4). وقال ابن أبي عاصم في كتاب "السنة": حدثنا هشام بن عمَّار حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنَّه لقيَ أبا هريرة، فقال أبو هريرة: أسأل اللَّه أنْ يجمع بيني وبينك في سوقِ الجنَّة، فقال سعيد: أوَ فيها سوق؟ قال: نعم، أخبرني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنَّ أهلَ الجنَّة إذا دخلوها نزلوها بفضل __________ (1) ليس في "هـ"، ووقع في "أ" "وما أُعِدَّ فيه". (2) برقم (2833). (3) من "أ، ج، هـ". (4) "المسند" (3/ 284 - 285).

(1/571)


أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون اللَّه تبارك وتعالى، فيبرز لهم عرشه، ويتبدَّى لهم في روضة من رياض الجنَّة، فيوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ياقوت، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم - وما فيها دنيٌّ - على كثبان المسك والكافور، وما يرون أنَّ أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسًا، قال أبو هريرة: فقلتُ: هل (1) نرى ربنا عزَّ وجلَّ؟ قال: نعم، قال: هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدرِ؟ قلنا: لا، قال: فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحدٌ إلَّا حاضره اللَّه محاضرة، حتَّى يقول: يا فلان بن فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ فيُذَكِّره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: بلى، فيقول: يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فبمغفرتي بلغتَ منزلتك هذه، قال: فبينما هم على ذلك، غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قطُّ، ثمَّ يقول ربنا تبارك وتعالى: قُوموا إلى ما أعددتُ لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، قال: فيأتون سوقًا قد حفَّتْ به (2) بها الملائكة، فيه ما لم تنظرِ العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذانُ، ولم يخطر على القلوب، قال: فيُحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيءٌ ولا يُشْتَرى، وفي ذلك السُّوق يلقى أهل الجنَّة بعضهم بعضًا، قال: فيقبل ذو البِزَّة المرتفعة فيلقى من هو دونه - وما فيهم دنيٌّ - فيروعه ما يرى __________ (1) في السنة: (يا رسول اللَّه، هل. . .)، وفي جميع النسخ "أبو هريرة: وهل". (2) ليس في "أ"، وفي باقي النسخ: "بها"، والمثبت من نسخة على حاشية "أ".

(1/572)


عليه من اللباس والهيئة، فما ينقضي آخر حديثه حتَّى يتمثل عليه أحسنَ منه، وذلك أنَّه لا ينبغي لأحد أنْ يحزن فيها، قال: ثمَّ ننصرف إلى منازلنا فيلقانا أزواجنا، فيقلن: مرحبًا وأهلًا بمُحِبِّنَا (1) ، لقد جئتَ وإنَّ بك من الجمالِ والطَّيب أفضل ممَّا فارقتنا عليه، فيقول: إنَّا جالسنا اليومَ ربنا الجبَّار تبارك وتعالى، وبحقنا أنْ ننقلبَ بمثل ما انقلبنا" (2) . ورواه الترمذي في "صفة الجنَّة": عن محمد بن إسماعيل عن هشام بن عمار. وليس في هذا الإسناد من ينظر فيه إلَّا عبد الحميد بن حبيب وهو كاتب الأوزاعي، فلا نُنْكِرُ عليه تفرده عن الأوزاعي بما لم يروهِ غيره، وقد قال الإمام أحمد وأبو حاتم الرَّازي: هو ثقة، وأمَّا دُحَيم والنسائي: فضعَّفاه، ولا يعرف أنَّه حدث عن غير الأوزاعي. والترمذي قال: "هذا الحديث غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه". قلتُ: وقد رواهُ ابن أبي الدنيا، عن الحكم بن موسى حدثنا هقل (3) بن زياد عن الأوزاعي قال: نُبِّئتُ أنَّ سعيد بن المسيب لقيَ أبا هريرة فذكره. __________ (1) في "ب، د، هـ": "بحُبنا". (2) تقدم الكلامُ عليه في ص (177). (3) من نسخةٍ على حاشية "د"، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" رقم (256)، ووقع في "ج": "يعلى"، وفي "أ، ب، د، هـ": "معلَّى"، وكلاهما خطأ.

(1/573)


وقال الترمذي: حدثنا أحمدُ بن منيع وهنَّاد قالا: حدثنا أبو معاوية أنبأنا عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد (1) عن علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ في الجنَّة لسوقًا ما فيها شراء ولا بيع إلَّا الصُّور من الرِّجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورةً دخلَ فيها" (2) . قال: "هذا حديثٌ غريب". وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا سليمان التيمي عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: "يقول أهلُ الجنَّة: انطلقوا إلى السوق، فينطلقون إلى كثبان المسك (3) ، فإذا رجعوا إلى أزواجهم، قالوا: إنَّا لنجدُ لكُنَّ ريحًا ما كانت لكُنَّ إذ خرجنا من عندكنَّ (4) قال: فيقُلنْ لقد رجعتم بريحٍ ما كانت لَكُمْ إذ خرجتم من عندنا (5) " (6) . قال ابن المبارك: وأنبأنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: "إنَّ في الجنَّة لسوقًا على كثبان (7) مسك يخرجون إليها، __________ (1) في "هـ": "سعيد" وهو خطأ. (2) (2550) وهو لا يثبت، راجع الكلام على هذا السند ص (293). (3) قوله "كثبان المسك" من جميع النسخ، ووقع عند ابن المبارك "الكثبان، أو قال: الجبال". (4) قوله: "إذ خرجنا من عندكن" سقط من "هـ". (5) من قوله: "قال: فيقلن لقد" إلى "عندنا" سقط من "ج". (6) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (241)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (257). وسنده صحيح. (7) قوله "لسوقا على كثبان" وقع في "أ، ب، د، هـ" "سوقًا كثبان"، والمثبت من =

(1/574)


ويجتمعون إليها، فيبعث اللَّهُ تعالى ريحًا فتدخلها (1) بيوتهم فيقول لهم أهلوهم إذا رجعوا إليهم: قد ازددتم بعدنا حُسنًا، ويقولون لأهليهم: قد ازددتم أيضًا عندنا حسنًا" (2) . وقال الحافظ محمد بن عبد اللَّه الحضرمي المعروف بمطيَّن: حدثنا أحمدُ بن محمد بن طريف البجلي حدثنا أبي حدثنا محمد بن كثير حدثني جابر الجُعفي عن أبي جعفر عن (3) علي بن الحسين عن جابر بن عبد اللَّه قال: "خرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحن مجتمعون، فقال: يا معشر المسلمين إنَّ في الجنَّة لسوقًا ما يُباع فيها ولا يُشترى إلَّا الصُّور، من أحبَ صورةً من رجل أو امرأةٍ دخل فيها" (4) . __________ = "ج" والزهد لابن المبارك. (1) في "ب، د": "فتدخلهم". (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (258). - ورواهُ ابن أبي عدي عن حميد به بمثله. أخرجه المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (4191). وسنده صحيح. (3) سقط من "أ". (4) أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 187) رقم (5664)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (419). قال الهيثمي: "رواهُ الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن كثير عن جابر الجعفي، وكلاهما ضعيف جدًّا". انظر: مجمع الزوائد (8/ 149)، (5/ 125). تنبيه: وقع عند أبي نعيم: عن أبي جعفر عن علي بن الحسين، ومثله في النسخ، ولعلَّه خطأ.

(1/575)


 الباب الحادي والستون: في ذكر زيارة أهل الجنَّة ربَّهم تبارك وتعالى

قال الشافعي في "مسنده": حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني موسى بن عبيدة قال: حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد اللَّه بن عُبيد بن عُمَير أنَّهُ سمع أنس بن مالك رضي اللَّه عنه يقول: أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها وَكْتَةٌ (1) إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما هذه؟ قال: الجمعة، فُضِّلتَ بها أنتَ وأمتك، فالنَّاس لكم فيها تبعٌ: اليهودُ والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو اللَّه بخيرٍ إلَّا استجيبَ له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا جبريل وما يومُ المزيد؟ قال: إنَّ ربك اتخذَ في الفردوس واديًا أفيحَ فيه كثبُ مسكٍ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل اللَّهُ تبارك وتعالى ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النَّبيين، وحَفَّ تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللةٍ بالياقوتِ والزبرجد، عليها الشهداء والصِّدِّيقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكُثُب فيقول اللَّه تعالى: أنا ربُّكم قد صَدَقْتكم (2) وعْدِي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم عليَّ ما تمنيتم، ولديَّ مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الَّذي استوى فيه ربكم على العرشِ، وفيه خلق __________ (1) والوكتة: الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه. والجمع: وَكْت. النهاية (5/ 218). (2) في "أ، ب، د": "صدَّقتم"، والمثبت من مسند الشافعي وباقي النسخ.

(1/576)


آدم، وفيه تقوم الساعة" (1) . ولهذا الحديث طرق سنشير إليها في باب المزيد إنْ شاء اللَّهُ تعالى (2) . وروى أبو نعيم من حديث شيبان بن جُبير عن فَرْقَد (3) عن الحسن عن أبي بَرْزَة الأسلمي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (4) قال: "إنَّ أهل الجنَّة ليغدون في حُلَّةٍ ويروحون في أخرى؛ كغدوِّ أحدكم ورواحه إلى ملك من ملوك الدنيا، كذلك يغدون ويروحون إلى زيارة ربِّهم عزَّ وجلَّ، وذلك لهم بمقادير ومعالم يعلمون تلك السَّاعة التي يأتون فيها ربهم عزَّ وجل" (5) . وقد رواهُ جعفر بن جَسْر بن (6) فرقد، عن أبيه مثله. __________ (1) مسند الشافعي رقم (374). وسنده ضعيف جدًّا، فيه إبراهيم بن محمد الأسلمي: متروك، وموسى بن عبيدة الربذي: ضعيف. (2) في الباب (65)، ص (648 - 657). (3) قوله "شيبان بن جبير عن فرقد" وقع عند أبي نعيم "شيبان بن جسر بن فرقد حدثني أبي"، ووقع في "د": "جويبر" بدل "جبير". وفي "د": ". . . جبير بن فرقد" بدل "عن فرقد" ولعلَّ صوابه: "شيبان عن جسر بن فرقد حدثني أبي". (4) قوله "عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" سقط من "أ، ج" وضُرِبَ عليها في "د"، وهي عند أبي نعيم وباقي النسخ. (5) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (394). وسنده ضعيف جدًّا، وقد تقدم الكلامُ على جَسْر بن فرقد ص (569) وهو شبه المتروك. (6) قوله "جسر بن" وقع في "د، هـ" (حسن) بدل (جسر) وهو خطأ. ووقع في "هـ" "عن" بدل "بن".

(1/577)


وذكر أبو نعيم أيضًا: من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: إذا سكن أهل الجنَّة الجنَّة، أتاهم مَلَكٌ يقول: إنَّ اللَّه تبارك وتعالى يأمركم أنْ تزوروه، فيجتمعون فيأمر اللَّهُ تبارك وتعالى داود عليه الصلاة والسلام، فيرفع صوته بالتسبيح والتهليل، ثمَّ توضع مائدة الخُلْد، قالوا: يا رسول اللَّه وما مائدة الخلد؟ قال زاوية من زواياها أوسع مما بين المشرق والمغرب، فيطمعون، ثمَّ يسقون، ثمَّ يكسون فيقولون: لم يبقَ إلَّا النظر في (1) وجه ربنا عزَّ وجلَّ، فيتجلَّى لهم فيخرون سُجَّدًا، فيقال لهم: لستم في دار عملٍ، إنَّما أنتم في دار جزاء" (2) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو موسى إسحاق بن إبراهيم الهَرَوِي حدثنا القاسم بن يزيد المَوصِلي حدثنا أبو إلياس قال: حدثني محمد ابن علي بن الحسين قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (3) . __________ (1) في "هـ": "إلى". (2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (397). وفيه الحارثُ الأعور ضعيفٌ، واتُّهِم بالكذب، وخالد بن يزيد هو أمير العراق ضعيف وأحاديثه تدل على وهائه. انظر: لسان الميزان (2/ 450 - 451). (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (54)، والآجري في الشريعة رقم (626)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (411)، كما في الحديث الآتي. قال المنذري: "رواه. . . . هكذا معضلًا، ورفعه منكر". وقال ابن كثير: "وهذا مرسل ضعيف غريب، وأحسن أحواله أنْ يكون من كلام بعض السلفِ فَوَهِمَ بعضُ رواته فجعله مرفوعًا، وليس كذلك واللَّه أعلم" النهاية (2/ 406).

(1/578)


وقال أبو نعيم: حدثني محمد بن علي بن حبيش حدثنا إبراهيم بن شريك حدثنا أحمد بن يونس حدثنا المُعَافَى بن عمران - وكان من خيار النَّاس - قال: حدثني إدريس بن سِنَان، عن وهب بن مُنَبه، عن محمد بن علي، قال إدريس: ثمَّ لقيت محمد بن علي بن الحسين بن فاطمة فحدثني قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ في الجنَّة شجرةً يُقال لها طُوبَى، لو سُخِّرَ الجواد الرَّاكب أنْ يسير في ظلِّها لسار فيها مئة عام، ورقها برودٌ خضرٌ، وزهرها رياط صفْر، وأقناؤها سندس وإستبرق، وثمرها حُللٌ، وصمغها زنجبيل وعسل، وبطحاؤها ياقوت أحمر، وزمرد أخضر، وأترابها مسكٌ، وحشيشها زعفران، منبع الألنجوج (1) يؤجَّجان من غير وقود، يتفجَّر من أصلها أنهار السلسبيل والمعين والرَّحيق، وظلها مجلس من مجالس أهل الجنَّة يألفونه، ومتحدث يجمعهم، فبينا هم يتحدثون في ظلها إذ جاءتهم الملائكة يقودون نُجُبًا جُبِلت من الياقوت، ثمَّ نُفِخَ فيها الروح مزمومة بسلاسل من ذهبٍ، كأنَّ وجوهها المصابيح نضارةً وحسنًا، وَبَرُهَا حرير (2) أحمر، ومِرْعِزِّي أبيض مختلطان، لم ينظر الناظرون إلى مثلها، عليها رحائل (3) ألواحها من الدرِّ والياقوت، مُفضَّضة باللؤلؤ والمرجان، صفافها من الذهب الأحمر، ملبسة بالعبقري والأرجوان، فأناخُوا إليهم تلك النجائب، ثم قالوا لهم: إن ربكم تبارك وتعالى يقرئكم __________ (1) الألنجوج: العود الذي يُتبخَّر به. النهاية (1/ 62). (2) في "هـ": "جزا" وعند ابن أبي نعيم "خَزٌّ". (3) كذا في جميع النسخ وابن أبي الدنيا، وعند أبي نعيم "رحال".

(1/579)


السلام، ويستزيركم لتنظروا إليه، وينظر اليكم، وتحيونه ويحييكم، ويكلمكم وتكلمونه، ويزيدكم من سعته وفضله، إنه ذو رحمة واسعة، وفضل عظيم. فيتحول كل رجل منهم على راحلته، ثم انطلقوا صفًّا واحدًا معتدلًا، لا يفوت منه شيء شيئًا، ولا يفوت أذن الناقة أذن صاحبتها، ولا بِرْكَة (1) ناقة بركة صاحبتها، ولا يمرون بشجرة من أشجار الجنة إلا أتحفتهم بثمرتها، وَرَحَلَتْ لهم عن طريقهم كراهية أن ينثلم صفهم، أو يفرق بين الرجل ورفيقه، فلما رفعوا إلى الجبار تبارك وتعالى أسفر لهم عن وجهه الكريم، وتجلى لهم في عظمته العظيمة، فقالوا: ربنا أنت السلام ومنك السلام، ولك حق الجلال والإكرام، فقال لهم ربُّهم تبارك وتعالى: إنِّي السلام، ومنِّي السلام، ولي حق الجلال والإكرام، مرحبًا بعبادي الذين حفظوا وصيتي، ورعوا عهدي، وخافوني بالغيب، وكانوا مني على كل حال مشفقين. قالوا: وعزتك وجلالك وعلو مكانك، ما قدرناك حق قدرك، وما أدينا إليك كل حقك، فائذن لنا بالسجود، فقال لهم ربهم تبارك وتعالى: إني قد وضعت عنكم مؤنة العبادة، وأرحتُ لكم أبدانكم، فطالما أنصبتم لي الأبدان، وأعنيتم لي الوجوه، فالآن أفضيتم إلى رَوحي ورحمتي وكرامتي، فسلوني ما شئتم، وتمنُّوا عليَّ أُعطِكُم أمانيكم، فإنِّي لن أجزِيَكُم اليوم بقدر أعمالكم، ولكن بقدر رحمتي وكرامتي، وَطَوْلي وجلالي، وعلو مكاني وعظمة شأني. فما يزالون في الأماني والعطايا __________ (1) بركة: ما ولي الأرض من جلد بطن البعير وما يليه من الصدر، واشتقاقه من مبرك البعير. معجم تهذيب اللغة للأزهري (1/ 318).

(1/580)


والمواهب، حتَّى إنَّ المقتصر من أُمْنِيَّتِهِ ليتمنَّى مثلَ جميع الدنيا، منذ خلقها اللَّه عزَّ وجلَّ إلى يومِ أفناها، فقال لهم ربُّهم تبارك وتعالى: لقد قصَّرتم في أمانِيِّكم، ورضيتم بدون ما يحقُّ لكم، فقد أوجبتُ لكم ما سألتم وتمنيتم، وألحقت بكم ذريتكم وزدتكم ما قصرت عنه أمَانِيُّكم". ولا يصحُّ رفعه إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحسبه أنْ يكون من كلام محمد بن علي، فغلط فيه بعض هؤلاء الضعفاء، فجعله من كلام النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وإدريس بن سنان: هذا هو سِبْط وهب بن منبه ضَعَّفه ابن عدي، وقال الدَّارقطني: متروك، وأمَّا أبو إلياس المُتابِعُ له، فلا يُدرى من هو (1) ، وأمَّا القاسم بن يزيد الموصلي الرَّاوي عنه فمجهول أيضًا، ومثل هذا لا يصح رفعه، واللَّهُ أعلم. وقال الضحاك في قوله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) } [مريم: 85] قال: "على النجائب عليها الرِّحال" (2) . __________ (1) تقدَّم أنَّه: إدريس بن سنان، فهو إذن ليس بمتابع. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (253) من طريق جويبر عنه. وجويبر ضعيف جدًّا.

(1/581)


 الباب الثاني والستون: في ذكر السحاب والمطر الَّذي يصيبهم في الجنَّة (1)

قد تقدَّم في حديث سوق الجنَّة أنَّه يغشاهم يوم الزيارة سحابةٌ من فوقهم، فتمطر عليهم طيبًا لم يجدوا مثلَ ريحه قطُّ (2). وقال بقية بن الوليد: حدثنا بَحِيْر بن سعد عن خالد بن مَعْدَان عن كثير بن مُرَّة قال: "إنَّ من المزيد أنْ تمرَّ السحابة بأهل الجنَّة، فتقول: ماذا تريدون أنْ أمطركم؟ فلا يتمنون شيئًا إلَّا مُطِرُوا" (3). وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أزهر بن مروان، حدثنا عبد اللَّه بن عبد اللَّه (4) الشيباني عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن صَيْفِي اليماني (5)، قال: سأله عبد العزيز بن مروان عن وفد أهل الجنَّة قال: إنَّهم يفدون إلى اللَّهِ سبحانه كلَّ خميس فيوضع لهم أسرَّة، كلُّ إنسانٍ منهم أعرف بسريره منك بسريرك هذا الَّذي أنت عليه، فإذا قعدوا عليه وأخذ القومُ مجالسهم قال تبارك وتعالى: أطعموا عبادي وخلقي وجيراني ووفدي، فيطعموا، ثمَّ يقول: أسقوهم، قال: فيأتون بآنية من ألوانٍ شتَّى مختمة (6) فيشربون منها، ثمَّ يقول: عبادي وخلقي وجيراني __________ (1) قوله: "في الجنَّة" سقط من "ج". (2) انظر: ص (572). (3) تقدم ص (511). (4) كذا في جميع النسخ. وجاء عند ابن أبي الدنيا "عرادة". ولعله هو الصوابُ. (5) في "ب، د"، وابن أبي الدنيا: "اليمامي". (6) في "أ، ب، ج": "مجتمعة"، والمثبت من "هـ" وابن أبي الدنيا.

(1/582)


ووفدي قد طعموا وشربوا، فكِّهُوْهُم، فتجيء ثمرات شجر مدلاة، فيأكلون منها ما شاؤوا، ثمَّ يقول: عبادي وخلقي وجيراني ووفدي قد طعموا وشربوا وفكهوا، أكسوهم، فتجيء ثمرات شجر أخضر وأصفر وأحمر، وكل لونٍ لم تنبت إلَّا الحلل، فينشر عليهم حللًا وقُمصًا، ثمَّ يقول: عبادي وخلقي وجيراني ووفدي قد طعموا وشربوا وفكهوا وكُسوا، طيِّبوهم، فيتناثر عليهم المسلك مثل رُذاذِ المطرِ، ثمَّ يقول: عبادي وجيراني وخلقي ووفدي قد طعموا وشربوا وفَكهوا وكسوا وطيِّبوا لأتجلينَّ لهم حتَّى ينظروا إليَّ، فإذا تجلَّى لهم فنظروا إليه؛ نضرت وجوههم، ثمَّ يقال لهم: ارجعوا إلى منازلكم، فتقول لهم أزواجهم: خرجتم من عندنا على صورة، ورجعتم على غيرها؟ فيقولون: ذلك أنَّ اللَّه جلَّ ثناؤه تجلَّى لنا فنظرنا إليه، فنضرتْ وجوهنا" (1) . وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا إسماعيل بن عيَّاش، قال: حدثني ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير العجلي عن شُفي بن ماتع (2) أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ من نعيم أهل الجنَّة أنَّهم يتزاورون على المطايا والنجب، وأنَّهم يُؤْتَون في الجنَّة بخيلٍ مُلجمة مسرجة لا تروث ولا تبول، يركبونها حتَّى ينتهوا حيث شاء اللَّه، فيأتيهم مثلُ السحابة فيها __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (339). وسنده ضعيف جدًا، فيه عبد اللَّه بن عَرَادة. انظر: تهذيب الكمال (15/ 295). (2) في "ج": زيادة "الأصبحي".

(1/583)


ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، فيقولون: أمطري علينا فما يزال المطر عليهم حتَّى ينتهيَ ذلك فوق أمانيهم، ثمَّ يبعث اللَّه تعالى ريحًا غير مؤذية فتنسفُ كثبانًا من مسك عن أيمانهم وعن شمائلهم، فيأخذون ذلك المسك في نواصي خيولهم وفي مفارقها وفي رؤوسهم، ولكلِّ رجلٍ منهم جُمَّة على ما اشتهتْ نفسه، فيتعلق ذلك المسك في تلك الجمام، وفي الخيلِ وفيما سوى ذلك من الثياب، ثمَّ يقبلون حتَّى ينتهوا إلى ما شاء اللَّه، فإذا المرأة تنادي بعض أولئك: يا عبد اللَّه أَمَا لَك فينا حاجة؟ فيقول (1): ما أنت، ومن أنت؟ فتقول: أنا زوجتك وحِبك، فيقول: ما كنت علمت بمكانك، فتقول المرأة: وما تعلم أنَّ اللَّه تعالى قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]، فيقول: بلى وربِّي. فلعلَّه يشتغل عنها بعد ذلك الموقف أربعينَ خريفًا، ما يشغله عنها إلَّا ما هو فيه من النعيم" (2). فصل وقد جعل اللَّهُ سبحانه السحاب وما يمطره سببًا للرحمة والحياة، في هذه الدَّار، ويجعله سببًا لحياةِ الخلقِ في قبورهم، حيث يمطر على الأرضِ أربعين صباحًا (3) مطرًا متداركًا من تحت العرشِ، فينبتون __________ (1) في نسخة على حاشية "أ": "فيقول: ما كنت علمتُ". (2) تقدمَّ الكلامُ عليه في ص (566 - 567). (3) أخرجه المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (1607). من حديث سلمان الفارسي موقوفًا. =

(1/584)


تحت الأرض كنبات الزرع (1) ، ويبعثون يوم القيامة والسماء تَطِشُّ عليهم (2) ، وكأنَّه -واللَّهُ أعلمُ- أثر ذلك المطر العظيم كما يكون في الدنيا، ويثير لهم سحابًا في الجنَّة يمطرهم ما شاؤوا من طيبٍ وغيره، وكذلك أهل النَّارِ ينشئُ لهم سحابًا يمطرُ عليهم عذابًا إلى عذابهم؛ كما أنشأ لقومِ هودٍ وقوم شعيبٍ سحابًا أمطرهم عذابًا أهلكهم، فهو سبحانه ينشئه للرحمة والعذابِ. __________ = وسنده صحيح. (1) ورد معناهُ في البخاري رقم (4651)، ومسلم رقم (2955) عن أبي هريرة وفيه: "ثمَّ ينزل اللَّهُ من السماء ماءً فينبتون كما ينبتُ البقل". (2) ورد من حديث أنس موقوفًا عند أبي يعلى رقم (4041) وغيره. وسنده لا بأس به، وروي مرفوعًا عند أحمد (2/ 267)، والموقوف أشبه. والطَّشُّ: المطر الضعيف. وراجع البدور السافرة للسيوطي ص (36 - 39).

(1/585)


 الباب الثالث والستون: في ذكر مُلكِ الجنَّة وأنَّ أهلها كلهم (1) ملوك فيها

قال اللَّهُ تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} [الإنسان: 20]. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} قال: "عظيمًا". وقال: "استئذان الملائكة عليهم لا تدخل عليهم الملائكة إلَّا بإذن" (2). وقال كعب في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} قال: "يُرسِلُ إليهم ربُّهم الملائكة، فتأتي الملائكة فتستأذن عليهم" (3). وقال بعضهم: الخدم، ولا تدخل الملائكة عليهم إلَّا بإذن. وقال الحكم (4) بن أبان: عن عكرمة عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- "أنَّه ذكر مراكب أهل الجنَّة ثمَّ تلا: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} " (5). __________ (1) في "ج": "كلها". (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (202)، والبيهقي في البعثِ رقم (446) وغيرهما. وفي سنده ضعف، فيه مسلم بن خالد الزنجي في حفظه لِيْن. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (206). وفيه الواقدي: متروك الحديث. (4) في "د": "الحاكم" وهو خطأ. (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (205)، والحاكم في المستدرك =

(1/586)


وقال ابن أبي الحواري: سمعتُ أبا سليمان يقول في قول اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) } قال: "الملك الكبير: أنَّ رسول ربِّ العِزَّة يأتيه بالتحفة واللطف (1) ، فلا يصل إليه حتَّى يستأذن عليه فيقول للحاجب: استأذن على وليِّ اللَّهِ، فإنِّي لستُ أصلُ إليه، فَيُعْلِمُ ذلك الحاجب حاجبًا آخر، وحاجبًا بعد حاجب، ومن داره إلى دار السلام باب يدخل منه على ربِّه إذا شاءَ بلا إذنٍ، فالملك الكبير: أنَّ رسول ربِّ العزَّة لا يدخل عليه إلَّا بإذن، وهو يدخل على ربِّه بلا إذنٍ" (2) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا صالح بن مالك، حدثنا صالح المري، حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه يرفعه: "إنَّ أسفَلَ أهلِ الجنَّة أجمعين درجةً مَنْ يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم" (3) . __________ = (2/ 555) رقم (3885)، والبيهقي في البعث رقم (445) وغيرهم. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: "حفص [يعني ابن عمر العدني] واهٍ". فالإسناد ضعيف. تنبيه: وقعَ عند ابن المبارك "232 - نعيم" وابن أبي الدنيا "عن رجل" وقد جاء مصرحًا باسمه حفص بن عمر عند الحاكم والبيهقي. (1) في "د": "اللطائف". (2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (447). (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (210)، والمروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (1530) مطوَّلًا من طريق صالح المري به. وسنده ضعيف جدًّا، يزيد الرقاشي وصالح المري ضعيفان، والرقاشي أضعف. وله طريق آخر عن أنس عند الطبراني في الأوسط رقم (7674) مطوَّلًا، وهو =

(1/587)


حدثني محمد بن عباد بن موسى، أنبأنا زيد بن الحُبَاب، عن أبي هلال الراسبي، أخبرنا الحجاج بن عتاب العبدي، عن عبد اللَّه بن معبد (1) الزمَّاني، عن أبي هريرة قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة وليس فيهم دني، من يغدو عليه كل يوم ويروح خمسة عشر ألف خادم، ليس منهم خادم إلا ومعه طرفة ليست مع صاحبه" (2) . حدثني محمد بن عباد، حدثنا زيد بن الحباب، عن أبي هلال، حدثنا حميد بن هلال قال: "ما من رجل من أهل الجنة إلا وله ألف خازن، ليس منهم خازن إلا على عمل ليس عليه صاحبه" (3) . حدثني هارون بن سفيان، أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا المُفَضَّل ابن فضالة، عن زهرة بن معبد، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: "إن العبد أول ما يدخل الجنة يتلقاه سبعون ألف خادم كأنهم __________ = حديث منكر. (1) في "أ": "محمد" وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (16/ 168). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (211)، والبخاري في تاريخه الكبير (2/ 377 - 378). - ورواهُ موسى وشيبان بن فرُّوخ عن أبي هلال محمد بن سليم به مختصرًا وفيه "عشرة آلاف". أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (2/ 377 - 378)، والدولابي في الكنى والأسماء (1/ 165). والحديث مداره على أبي هلال الراسبي، وفيه ضعف. انظر: تهذيب الكمال (25/ 292 - 296). (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (212). وفي سنده ضعف، فيه أبو هلال الراسبي.

(1/588)


اللؤلؤ" (1) . حدثني هارون بن سفيان، حدثنا محمد بن عمر، أخبرنا محمد بن هلال عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة - وما فيهم دني - لَمَن يغدو عليه عشرة آلاف خادم، مع كل خادم طرفة ليست مع صاحبه" (2) . وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا يحيى بن أيوب، حدثني عبيد اللَّه ابن زَحَر، عن محمد بن أبي أيوب المخزومي، عن أبي عبد الرحمن المعافري قال: "إنه لَيُصَفُّ للرجل من أهل الجنة سِمَاطان لا يرى طرفاهما من غلمانه، حتى إذا مرَّ مَشَوْا وراءه" (3) . وقال أبو خيثمة: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وينصب له قبة من لؤلؤ وياقوت وزبرجد، كما بين الجابية وصنعاء" (4) . __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (213). وفيه الواقدي: محمد بن عمر، وهو متروك الحديث. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (214). وفيه الواقدي محمد بن عمر، وهو متروك الحديث. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (26، 215)، وابن المبارك في الزهدِ -رواية نعيم- رقم (415). وسنده ضعيف، فيه عبيد اللَّه بن زحر ويحيى بن أيوب فيهما لين. (4) أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (222). وأخرجه أحمد في المسند (3/ 76)، وأبو يعلى في مسنده (2/ 532) =

(1/589)


وقال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا بقية بن الوليد، حدثني أرطاة بن المنذر قال: سمعت رجلًا -من مشيخة الجَنَد (1) - يقال له: أبو الحجاج قال: جلست إلى أبي أمامة فقال: إن المؤمن يكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة، وعنده سماطان من الخدم، وعند طرف السماطين باب مُبَوَّب فيقبل الملك من ملائكة اللَّه عز وجل ليستأذن، فيقوم أدنى الخدم إلى الباب، فإذا هو بالملك يستأذن، فيقول للذي يليه هذا ملك يستأذن، ويقول للذي يليه: ملك يستأذن، حتى يبلغ المؤمن فيقول: ائذنوا له، فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا له، ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا له كذلك، حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له، فيدخل فيسلم ثم ينصرف" (2) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا قَبِيصة حدثنا سليمان العنبري، عن الضحاك بن مزاحم قال: بينا ولي اللَّه في منزله إذ أتاه رسول من اللَّه عز وجل فقال للآذن: استاذن لرسول اللَّه على ولي اللَّه، فيدخل الآذن فيقول: يا ولي اللَّه، هذا رسول اللَّه يستأذن عليك، قال: ائذن له فيأذن له فيدخل (3) على ولي اللَّه، فيضع ما بين يديه __________ = (1404)، وغيرهم. وتقدم كلام المؤلف عليه ص (500). (1) قوله: "من مشيخة الجند" في "ب، د، هـ"، والزهد لابن المبارك، "الجنيد" بدل "الجند"، ووقع في "مسند أحمد" في حديث النهي عن ضرب وجه الدواب: "أشياخ الجند"، ووقع عند ابن أبي الدنيا "من مسجد الخيف"! وهو تحريف. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (203)، وفيه جهالة الرجل. (3) من قوله "الآذن فيقول" إلى "فيدخل" سقط من "أ"، ووقع في نسخةٍ على =

(1/590)


تحفة، فيقول: يا ولي اللَّه: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تأكل من هذه، قال: فُيشبِّهُهُ بطعام أكله أيضًا، فيقول: إنما أكلت هذا الآن، فيقول: إن ربك يأمرك أن تأكل منها، فيأكل منها فيجد منها طعم كل ثمرة في الجنة، قال: فذلك قوله عز وجل: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] " (1) . وفي "صحيح مسلم" (2) من حديث المغيرة بن شعبة، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو الرجل يجيء بعدما أُدخِل أهل الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي، فيقول له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك، فيقول: "رضيت رب" وذكر الحديث، وقد تقدم ذكره بتمامه (3) . وقال البزار في "مسنده": حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا المغيرة ابن سلمة، حدثنا وهيب عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد __________ = حاشية "أ" مكان هذه الجملة "الآذن". (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (204). وسنده لا بأس به. (2) رقم (189). (3) ص (219 - 220).

(1/591)


قال: "خلق اللَّه تبارك وتعالى الجنة: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وغرسها بيده، وقال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( 1)} [المؤمنون: 1] فدخلها (1) الملائكة، فقال: طوبى لك منزل الملوك" (2) . هكذا رواه وهيب عن الجريري موقوفًا، ورواه عدي بن الفضل، عن الجريري فرفعه، قال البزار: "ولا نعلم أحدًا رفعه إلا عدي بن الفضل بهذا الإسناد، وعدي بن الفضل ليس بالحافظ، وهو شيخ بصري". قلت: عدي بن الفضل هذا تفرد به ابن ماجه، وقد ضعفه يحيى بن معين، وأبو حاتم. والحديث: صحيح موقوف. واللَّه أعلم. وقد تقدم ذكر التيجان على رؤوسهم (3) ، وإنما (4) يلبسها الملوك. __________ (1) في نسخة على حاشية "أ" "فيدخلها". (2) تقدم في ص (218). (3) ص (438 - 440). (4) في نسخةٍ على حاشية "أ": "وأنَّها".

(1/592)


آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (10) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح تأليف الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ) تحقيق زائد بن أحمد النشيري إشراف بكر بن عبد اللَّه أبو زيد [المجلد الثاني]

(2/)


 الباب الرَّابع والستون: في أنَّ (1) الجنَّة فوق ما يخطر بالبال أو يدورُ في الخلد، وأنَّ موضع سوطٍ منها خيرٌ من الدنيا وما فيها

قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16، 17]. وتأمَّل كيفَ قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الَّذي أخفاهُ لهم ممَّا لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حتى يقوموا إلى صلاة الليل = بقُرَّة الأعين في الجنَّة. وفي "الصحيحين" (2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قال اللَّهُ عزَّ وجل: أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبَ بشرٍ، مِصْداقُ ذلك في كتاب اللَّه تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} ". وفي لفظٍ آخر فيهما: "يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلب بشر، ذُخْرًا بَلْهَ ما أطلعكم عليه، ثمَّ قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ __________ (1) في "ج": "ذِكْرِ". (2) البخاري رقم (4501)، ومسلم رقم (2824) - (2) واللفظ لمسلم.

(2/593)


أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } الآية" (1) . وفي بعض طُرُق البخاري: قال أبو هريرة: اقرؤوا إنْ شِئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} " (2) . وفي "صحيح مسلم" (3) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّه عنه قال: شهدت من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مجلسًا وصف فيه الجنَّة حتَّى انتهى، ثمَّ قال في آخر حديثه: "فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلب بشر، ثمَّ اقترأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 16 - 17] ". وفي "الصحيحين" (4) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقابُ قوس أحدكم في الجنَّة خيرٌ ممَّا طلعتْ عليه الشمس أو تغرب". وقد تقدَّم حديث أبي أُمامة (5) عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا مُشَمِّرٌ للجنَّة، فإنَّ الجنَّة لا خَطَرَ لها، هي وربِّ الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مُطَّرِدٌ، وثمرةٌ نضيجةٌ، وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ، __________ (1) البخاري رقم (4502)، ومسلم رقم (2824) - (4). (2) أخرجه البخاري رقم (3072) و (4501). (3) رقم (2825). (4) البخاري رقم (2640)، ومسلم رقم (1882). (5) قوله (أبي أمامة) كذا في الأصول، وصوابه (أُسامة).

(2/594)


وحُللٌ كثيرة، ومقام في أبدٍ في دارٍ سليمة، وفاكهةٍ وخضرةٍ وحبرةٍ ونعمةٍ، في محلةٍ عاليةٍ بهيةٍ (1) " (2) . ولو لم يكن من خطر الجنَّة وشرفها إِلَّا أنَّه لا يُسأل بوجه اللَّه غيرها = لكفاها شرفًا وفضلًا، كما في "سنن أبي داود" من حديث سليمان بن معاذٍ عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري (3) -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يسأل بوجه اللَّهِ إِلَّا الجنَّة" (4) . وفي "معجم الطبراني" من حديث بَقِيَّة، عن ابن جُرَيْج عن عطاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لما خلقَ اللَّهُ جنَّةَ عَدْنٍ، خَلَقَ فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشرٍ، ثمَّ قال لها: تكلَّمي. فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) } " (5) . __________ (1) في "أ": "رفيعة". (2) تقدم في الباب (45) ص (291 - 292). (3) قوله "بن عبد اللَّه الأنصاري" ليس في "ب، د". (4) أخرجه أبو داود رقم (1671)، وابن عدي في الكامل (3/ 257)، والخطيب في الموضح (1/ 253). وسنده ضعيف؛ لأنَّ مدارهُ على سليمان بن معاذ، وهو شيعي في حفظه ضعف. انظر: تهذيب الكمال (12/ 52 - 54). تنبيه: اختلف العلماءُ هل سليمان بن معاذ وسليمان بن قرم، واحد أم اثنان؟ انظر: الموضح للخطيب (1/ 351 - 354). (5) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 184) رقم (11439)، وفي الأوسط =

(2/595)


وفي "صحيح البخاري" (1) من حديث سهل بن سعد رضي اللَّه عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "موضع سوط في الجنَّة خيرٌ من الدنيا وما فيها". وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقِيْدُ سوطِ أحدكم من الْجنَّة خيرٌ ممَّا بين السماء والأرضِ" (2) . وهذا الإسناد على شرط الصحيحين. وقال الترمذي: حدثنا سُوَيد بن نصر حدثنا ابن المبارك أنبأنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقَّاص عن أبيه عن جده عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لو أنَّ ما يقِلُّ ظُفُر (3) ممَّا في الجنَّة __________ = (1/ 215) رقم (738). من طريق هشام بن خالد عن بقية به. قال الطبراني: "لم يرو هذين الحديثين عن ابن جريج إِلَّا بقية، تفرَّد بهما: هشام بن خالد". والحديث غريب جدًّا، يخشى من تدليس بقية فيه، ويخشى فيه من وهم هشام بن خالد أبي مروان الدمشقي، واللَّهُ أعلم. والحديث جوَّد إسناده الهيثمي والسيوطي. انظر: مجمع الزوائد (10/ 397)، والبدور السافرة رقم (1663). (1) رقم (2735)، ومسلم رقم (1881)، واللفظ للبخاري. (2) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 315)، وعبد الرزاق في المصنف (11/ 420) رقم (20885)، وابن حبان في صحيحه رقم (6158) وغيرهم. وسنده كما قال المؤلف، وله طرق عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما نحوه. (3) في نسخةٍ على حاشية "أ": "طرف"، وكذا في "هـ" لكن ضرب عليه وصحح =

(2/596)


بدا لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرضِ، ولو أنَّ رجلًا من أهل الجنَّة اطَّلعَ فبدا أساوره لطمسَ ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوءَ الكواكب" (1) . قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه بهذا الإسناد إِلَّا من حديث ابن لهيعة، وقد روى يحيى بن أيوب هذا الحديث عن يزيد بن أبي حبيب، وقال: عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". قلتُ: وقد رواهُ ابن وهب أنبأنا عمرو يعني: ابن الحارث أنَّ سليمان بن حميد حدَّثه أنَّ عامر بن سعد بن أبي وقاص (2) ، قال سليمان: لا أعلمُ إِلَّا أنَّه حدثني عن أبيه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "لو أنَّ ما أقلَّ ظفر من الجنَّة برزَ للدنيا لتزخرف له ما بين السماء والأرضِ". وفي الباب: عن أَنس بن مالك وأبي سعيد الخدري وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهم. وكيفَ يُقدَّر قدْر دارٍ غرسها اللَّه بيده، وجعلها مقرًّا لأحبابه، وملأها من كرامته ورحمته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص. فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران. __________ = إلى "ظفر". (1) تقدم الكلام عليه ص (425 - 426). (2) في "هـ": "سعد" وهو خطأ.

(2/597)


وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن. وإن سألت عن مِلاطها فهو المسك الأذفر. وإن سألت عن حصبائها فهي اللؤلؤ والجوهر. وإن سألت عن بنائها فَلَبِنَة من فضة ولبنة من ذهب. وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا ساقها من ذهب (1) أو فضة، لا من الحطب والخشب. وإن سألت عن ثمرها فأمثال القِلال، ألْين من الزبد، وأحلى من العسل. وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل. وإن سألت عن أنهارها فأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى (2) . وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون. وإن سألت عن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور. وإنْ سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير. وإنْ سألتْ عن سعة أبوابها فبين المصراعين مسيرة أربعين __________ (1) من قوله "فضة ولبنة" إلى "ذهب" سقط من "ج". (2) من "د، هـ".

(2/598)


من الأعوام، وليأتينَّ عليه يومٌ وهو كظيظ من الزحام وإنْ سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها فإنَّها تستفز بالطرب لمن يسمعها. وإنْ سألت عن ظِلِّها ففيها شجرة واحدة يسير الرَّاكبُ المجدُّ السريع في ظلها مئة عام لا يقطعها. وإنْ سألت عن سعتها فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألفي عام. وإنْ سألت عن خيامها وقبابها فالخيمة الواحدة من دُرَّةٍ مجوَّفة طولها ستون ميلًا من جملة الخيام وإنْ سألت عن علاليها وجواسقها (1) فهي غرف من فوقها غرف مَبْنِية، تجري من تحتها الأنهار. وإنْ سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع، أو الغارب في الأفق الَّذي لا تكاد تناله الأبصار. وإنْ سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب. وإنْ سألت عن فرشهم فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرُّتَب. __________ (1) الجواسق: جمع جَوْسَق: فارسي معرَّب، وهو تصغير قصر "كوشك" أي: صغير. انظر: المعرَّب للجواليقي ص (53).

(2/599)


وإنْ سألت عن أرائكها فهي الأسرة عليها البشخانات، وهي: الحِجَال مُزَرَّرَة بإزرار الذهب، فما لها من فُروج ولا خلال. وإنْ سألت عن وجوه أهلها وحسنهم، فعلى صورة القمر. وإنْ سألت عن أسنانهم فأبناءُ ثلاثة وثلاثين على صورة آدم أبي البشر. وإنْ سألت عن سماعهم فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنَّبيين، وأعلى منهما سماع خطاب ربِّ العالمين. وإنْ سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها، فنجائب أنشأها اللَّه تعالى ممَّا شاءَ تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان. وإنْ سألت عن حُليهم وشارتهم، فأسَاوِر الذهب واللؤلؤ، على الرؤوس ملابس التِّيجان. وإنْ سألت عن غلمانهم فولدانٌ مخلدون كأنَّهم لؤلؤٌ مكنون. وإنْ سألتَ عن عرائسهم وأزواجهم فهُنَّ الكواعب الأترابُ، الَّلاتي جرى في أغصانِهنَّ ماءُ الشباب، فللوردِ والتفاح: ما لبسته الخدود، وللرُّمان: ما تضمنته النهود، ولِلُّؤلؤ المنظوم: ما حوته الثغور، وللدقة والَّلطافة: ما دارتْ عليه الخصور، تجري الشمسُ في محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت حِبَّها فَقُلْ ما شئت في تقابل النَّيِّرَين، وإذا حادثته فما ظنُّك بمحادثة الحبيبين، وإنْ ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين، يرى وجهه في

(2/600)


صحن خدِّها، كما يرى في المرآة التي جلَّاها صيقلها، ويرى مخَّ ساقها من وراء اللحم، ولا يستره جلدها ولا عظمها ولا حُلَلُها، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحًا، ولا استنطقت أفواهَ الخلائقِ تهليلًا وتكبيرًا وتسبيحًا، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كلَّ عينٍ، ولطمستْ ضوءَ الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها باللَّه الحيَّ القيوم، نصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، ووصالها أشهى إليه من جميع أمانيها، لا تزداد على تطاول الأحقاب إِلَّا حسنًا وجمالًا، ولا يزدادُ لها على طول المدى إِلَّا محبة وَوِصالًا، مُبَرَّأة من الحبلِ والولادة والحيضِ والنفاس، مطهَّرة من المخاطِ والبصاق والبولِ والغائط وسائرِ الأَدناس، لا يفنى شبابُهَا، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلقُ ثوب جمالها، ولا يملُّ طيبُ وصالها، قد قصرتْ طرفها على زوجها، فلا تطمحُ لأحدٍ سواهُ، وقَصَرَ طرفه عليها فهي غايه أُمنيته وهواه، إنْ نظرَ إليها سرَّته، وإنْ أمرها أطاعته، وإنْ غابَ عنها حفظته، فهو معها في غاية الأماني والأمان، هذا، ولم يطمثها قبله إنسٌ ولا جانٌّ، كلما نظر إليها ملأت قلبه سرورًا، وكلَّما حدثته ملأت أُذُنه لؤلؤًا منظومًا ومنثورًا، وإذا برزت ملأت القصرَ والغرفة نورًا. وإنْ سألت عن السِنِّ فأترابٌ في أعدلِ سنِّ الشباب. وإنْ سألت عن الحُسن فهل رأيت الشمس والقمر؟! وإنْ سألتَ عن الحدَق فأحسن سواد في أصفى بياض، في أحسن حَوَر.

(2/601)


وإنْ سألتَ عن القدود فهل رأيتَ أحسن الأغصان؟ وإنْ سألت عن النهود فهنَّ الكواعب، نهودهن كألطف الرمان. وإنْ سألت عن اللون فكأنَّهن الياقوت والمرجان. وإنْ سألت عن حسن الخلق فهنَّ الخَيْرات الحسان، الَّلاتي جُمِعَ لهنَّ بين الحسن والإحسان، فأعطين جمالَ الباطن والظاهر، فهنَّ أفراح النفوس، وقُرَّة النواظر. وإنْ سألت عن حُسْن العِشْرة، ولذة ما هنالك فهنَّ العُرُب المتحببات إلى الأزواج بلطافة التبعل التي تمتزج بالروح أيَّ امتزاج. فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنَّة من ضحكها، وإذا انتقلت من قصر إلى قصر، قلتَ: هذه الشمس مُنْتقلة (1) في بروج فَلَكِهَا، وإذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة، وإنْ خاصرته فيا لذَّة تلك المعانقة والمخاصرة: وحديثُها السحر الحلالُ لو (2) انَّه ... لم يَجْنِ قتلَ المسلم المتحرِّز إنْ طال لم يُمْلَلْ وإنْ هي حدَّثت ... ودَّ المحدَّثُ أنَّها لم توجِزِ (3) إنْ غنَّت فيا لذَّة الأبصارِ والأسماع، وإنْ آنست وأمتعت فيا حبَّذا تلك المؤانسة والإمتاع، وإنْ قَبَّلت فلا شيء أشهى (4) إليه من ذلك __________ (1) في "ج، د، هـ": "متنقلة". (2) من "هـ". (3) انظر: ديوان ابن الرومي (3/ 1164). (4) في "ج": "انتهى".

(2/602)


التقبيل، وإنْ نوَّلتْ فلا ألذَّ ولا أطيبَ من ذلك التَّنويل. هذا، وإنْ سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل والتشبيه، كما تُرَى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدرِ، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه، وذلك موجود في الصِّحاح، والسنن، والمسانيد، من رواية: جرير، وصهيب، وأنس، وأبي هريرة، وأبي موسى، وأبي سعيد = فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنَّة، إنَّ ربَّكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنَّجائب قد أُعدتْ لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتَّى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الَّذي جُعل لهم موعدًا، وجُمِعُوا هناك، فلم يغادر الدَّاعي منهم أحدًا = أمرَ تبارك وتعالى بكرسيِّه فنصبَ هناك، ثمَّ نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابرُ من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم -وحاشاهم من الدنايا- (1) على كثبان المسك، ما يرون أنَّ أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتَّى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم نادى المنادي: يا أهل الجنَّة إنَّ لكم عندَ اللَّهِ موعدًا يريدُ أنْ ينجزَكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُبيض وجوهنا ويثقِّل موازيننا، ويدخلنا الجنَّة، ويزحزحنا عن النَّارِ، فبينا هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنَّة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبَّار جلَّ جلاله، وتقدَّستْ أسماؤه، قد __________ (1) في "ب، هـ": "الدنا"، وفي "أ": "الدنيا"، ووقع في المطبوعة بعد "الدنايا" "أنْ يكون فيهم دنيء".

(2/603)


أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنَّة: سلامٌ عليكم، فلا تردُّ هذه التحية بأحسنَ من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنكَ السلام، تباركتَ ياذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم، ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لم أُسْكِنْكم جنتي، هذا يوم المزيد فسلوني. فيجتمعون على كلمةٍ واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه، فيكشف الرب جل جلاله الحُجُب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن اللَّه سبحانه وقضى أن لا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الربُّ تعالى محاضرة، حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه. فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قُرَّة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، ويا ذِلَّة الراجعين بالصفقة الخاسرة. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) } [القيامة: 22 - 25]. فحيَّ على جنَّاتِ عدْنٍ فإنَّها ... منازلُكَ الأُولى وفيها المُخَيَّمُ ولكنَّنا سبْي العدوِّ فهل ترى ... نعُودُ إِلى أوطاننا ونسلِّمُ (1) __________ (1) البيتان للمؤلَّف ضمن قصيدته في وصف الجنَّة، تقدمت في أَوَّل الكتاب ص (14).

(2/604)


 الباب الخامس والستون: في رؤيتهم ربَّهم تبارك وتعالى وتجلِّيه لهم ضاحكًا إليهم

هذا البابُ أشرفُ أبواب الكتاب، وأجلُّها قدرًا، وأعلاها خطرًا، وأقرُّها لعيون أهل السنَّة والجماعة، وأشدُّها على أهل البدعة والفُرقة، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابقَ إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون. إذا ناله أهل الجنَّة نَسُوا ما هم فيه من النعيم، وحِرْمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشدَّ عليهم من عذاب الجحيم، اتفق عليها الأنبياء والمرسلونَ، وجميعُ الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوِّكون، والفرعونية المبطلون (1)، والباطنية الَّذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرَّافضة الَّذين هم بحبائل الشيطان مُتمسِّكون (2)، ومن حبل اللَّه منقطعون، وعلى مسبَّة أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عاكفون، وللسُّنَّة وأهلها محاربون، ولكلِّ عدوِّ للَّه ورسوله ودينه مسالمونَ، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال، وشيعة الَّلعين، وأعداء الرسول وحزبه. وقد أخبر سبحانه عن أعلم الخلق به في زمانه، وهو كليمه ونجيُّهُ وصفيُّهُ من أهل الأرضِ، أَنَّه سأل ربه تعالى النظر إليه، فقال له ربُّه __________ (1) في "ج، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ": "المعطلون". (2) في "ج، هـ": "مستمسكون".

(2/605)


تبارك وتعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]. وبيان الدلالة من هذه الآية من وجوهٍ عديدةٍ: أحدها: أنْ لا يُظَنَّ بكليم الرحمن ورسوله الكريم عليه أنَّه يسأل ربَّهُ ما لا يجوز عليه، بل هو من أبطلِ الباطل، وأعظم المحال، وعند فروخ اليونان، والصائبة، والفِرعونية بمنزلة أنْ يسأله أنْ يأكل ويشرب وينام، ونحو ذلك ممَّا يتعالى اللَّه عنه، فيالله العجب! كيف صارَ أتباعُ الصابئة والمجوس والمشركين عُبَّادِ الأصنام وفروخ الجهمية والفِرْعونية أعلمَ باللَّه تعالى من موسى بن عِمْران، وبما يستحيل عليه، ويجب له، وأشدَّ تنزيهًا له منه؟! الوجه الثاني: أنَّ اللَّه سبحانه لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالًا لأنكره عليه، ولهذا لمَّا سأل إبراهيم الخليل ربه تعالى أنْ يريه كيف يحيى الموتى، لم ينكر عليه، ولمَّا سألَ عيسى ابن مريم ربَّه إنزالَ المائدة من السماء لم ينكر سؤاله، ولمَّا سأل نوحٌ ربَّهُ نجاةَ ابنهِ أنكر عليه سؤاله وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46 - 47]. الوجه الثالث: أنَّه أجابه بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ولم يقل: إنِّي لا أُرَى، ولا إنِّي لستُ بمرئيّ؛ ولا تجوز رؤيتي. والفرقُ بين الجوابين ظاهرٌ لمن تأمَّلَهُ. وهذا يدلُّ على أنَّه سبحانه مرئيٌّ، ولكنَّ موسى لا تحتمل قواهُ

(2/606)


رؤيته في هذه الدار لِضَعْفِ قوى البشرِ فيها عن رؤيته تعالى، يوضِّحه: الوجه الرَّابع: وهو قوله تعالى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] فأعْلَمَه أنَ الجبل مع قوَّته وصلابته لا يثبتُ لتجليه له في هذه الدَّار، فكيف بالبشر الضعيف الَّذي خُلِق من ضعْفٍ؟. الوجه الخامس: أنَّ اللَّهَ سبحانه قادرٌ على أنْ يجعل الجبل مستقرًّا مكانَه، وليس هذا بممتنع في مقدوره، بل هو ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالًا في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته، ولو كانت الرؤية محالًا، لكان ذلك نظير أنْ يقول: إن استقرَّ الجبل فسوفَ آكلُ وأشربُ وأنامُ، فالأمرانِ عندكم سواء. الوجه السادس: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وهذا من أبين الأدلة على جوازِ رؤيته تبارك وتعالى، فإنَّه إذا جازَ أن يتجلَّى للجبلِ الَّذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلَّى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته ويريهم نفسه؟ وأعلم سبحانه موسى أنَّ الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدَّارِ، فالبَشَر أضعف. الوجه السابع: أنَّ ربه سبحانه قد كلَّمه منه إليه، وخاطبه وناداهُ وناجاهُ، ومن جازَ عليه التَّكلمُ والتكليم، وأنْ يسمع مخاطبه كلامه معه بغير واسطة، فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إِلَّا بإنكار التكليم، وقد جمعت هذه الطوائف بين إنكار الأمرين، فأنكروا أنْ يكلِّم أحدًا، أو يراهُ أحدٌ، ولهذا سأله موسى النظر إليه لمَّا

(2/607)


أسمعه كلامه، وعلم من (1) اللَّهِ جوازَ رؤيته من وقوع خطابه وتكليمه، فلم يخبره باستحالة ذلك عليه، ولكنْ أراهُ أن ما سأله لا يقدر على احتماله، كما لم يثبت الجبل لتجليه. وأمَّا قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] فإنَّما يدلُّ على النَّفي في المستقبل، ولا يدلُّ على دوام النَّفي؛ ولو قُيِّدت بالتأبيد، فكيف إذا أُطلقت، قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] مع قوله: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]. فصل الدليلُ الثاني: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223]، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110]، وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} [البقرة: 249]. وأجمع أهل اللسان على أنَّ اللقاء متى نُسِبَ إلى الحي السليم من العَمَى والمانع؛ اقتضى المعاينة والرؤية، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]: فقد دلَّت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أنَّ المنافقين يرونه تعالى في عَرَصَات القيامة، بل والكفار أيضًا كما في "الصحيحين" في حديث التجلي يوم القيامة، وسيمرُّ بِكَ عن قريبٍ إن شاء اللَّه (2). __________ (1) في "هـ": "نبي". (2) انظر: (ص/ 629، 632، 645، 660، 661).

(2/608)


وفي هذه المسألة ثلاثة أقوالٍ لأهل السنة: أحدها: أنَّه لا يراهُ إِلَّا المؤمنون. الثاني: يراهُ جميع أهل الموقف: مؤمنهم وكافرهم، ثمَّ يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك. والثالث: يراهُ المنافقون دون الكفار. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وهي لأصحابه، وكذلك الأقوال الثلاثة بعينها في تكليمه لهم، ولشيخنا (1) في ذلك مُصنَّف مُفْرد، حكى فيه الأقوال الثلاثة وحُجج أصحابها. وكذا قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)} [الانشقاق: 6] إنْ عادَ الضميرُ على العمل: فهو رؤيته في الكتاب المسطور مُبَينًا، وإنْ عادَ على الرَّبُّ تبارك وتعالى؛ فهو لقاؤه الَّذي وَعَدَ به. فصل الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} [يونس: 25 - 26]. __________ (1) هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد كتب رسالة إلى أهل البحرين، ذكر فيها هذه المسألة والأقوال الثلاثة وأدلتها. مجموع الفتاوى (6/ 485 - 502). وله: قاعدة في إثبات الرؤية، والردِّ على نُفاتها. العقود الدرية (ص/ 66).

(2/609)


فالحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجْهِهِ الكريم، كذلك فسَّرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الَّذي أُنزِلَ عليه القرآن، والصحابة من بعده، كما روى مسلم في "صحيحه" (1) من حديث حمَّاد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي اللَّه عنه قال: قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: إذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّةَ، وأهل النَّارِ النَّارَ، نادى منادٍ: يا أهل الجنَّة إنَّ لكم عندَ اللَّهِ موعدًا يريدُ أنْ ينجزكموهُ، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقِّل موازيننا، وَيُبَيِّضْ وجوهنا، ويدخلنا الجنَّة ويجرنا من النَّارِ؟! فيكشف الحجابَ فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة". وقال الحسن بن عرفة: حدثنا سلم بن سالم البلخي عن نوح بن أبي مريم عن ثابت عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: "سُئِلَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى: وهي الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه تعالى" (2) . __________ (1) رقم (181) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت به فذكره. وقد وقع في الحديث اختلاف على ثابت، وسيأتي بيانه ص (693). (2) أخرجه الحسن بن عرفة في جزئه رقم (85)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6 / رقم 10340)، والدارقطني في الرؤية رقم (57)، واللالكائي في أصول الاعتقاد رقم (779) وغيرهم. من طريق نوح بن أبي مريم عن ثابت به فذكره. وهو حديث باطل لا يصح، فإنَّ نوحًا هذا متروك الحديث، وقد اتهمه بعضهم.

(2/610)


وقال محمد بن جرير: حدثنا ابن حُمَيد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جُرَيج عن عطاء عن كعب بن عُجْرَة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: "الزيادة: النظرُ إلى وجه الرحمن جَلَّ جلالُهُ" (1) . قلتُ: عطاء هذا هو الخراساني، وليس بعطاء بن أبي رباح. قال ابن جرير: وحدثنا ابن عبد الرحيم (2) حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سمعتُ زهيرًا. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليدُ بن مسلم حدثنا زهير بن محمد قال: حدثني من سمعَ أبا العالية الرياحي يُحدَّث عن أُبي بن كعب -رضي اللَّه عنه- قال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الزيادة في كتاب اللَّهِ عزَّ وجلَّ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 25] قال الحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه عزَّ وجلَّ" (3) . __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 107)، واللالكائي في أصول الاعتقاد رقم (781). وسنده ضعيف جدًّا، فيه محمد بن حميد الرَّازي؛ وهو متهم. وإبراهيم ابن المختار الرَّازي: ضعيف؛ وخاصَّة إذا روى محمد بن حميد عنه، وعطاء لم يسمع من كعب. (2) عند الطبري "ابن البرقي" بدل "ابن عبد الرحيم". (3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1944) رقم (10336)، والطبري في تفسيره (11/ 107)، والَّلالكائي في أصول الاعتقاد رقم (780). وسنده ضعيف لإبهام من سمع من أبي العالية. =

(2/611)


وقال أَسَدُ السُّنَّة: حدثنا قيس بن الربيع عن أبان عن أبي تميمة الهُجَيْمي أنَّه سمع أبا موسى -رضي اللَّه عنه- يحدَّث أنَّه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يبعثُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ يومَ القيامة مناديًا ينادي أهلَ الْجنَّة، بصوتٍ يُسْمعُ أَوَّلهم وآخرهم، إنَّ اللَّه وعدَكم الحسنى، والحسنى: الْجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه عزَّ وجلَّ" (1) . وقال ابن وهب (2) ، أخبرني شَبِيْب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي، أنَّه سمع أبا موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- يحدث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي: يا أهل الجنَّة، بصوتٍ يُسْمِعُ أوَّلهم وآخرهم: إنَّ اللَّهَ وعدكم الحسنى وزيادة. الحُسنى: الجنَّة، والزِّيادة: النَّظرُ إلى وجه الرَّحمن". وأمَّا الصَّحابة: فقال ابن جرير: حدثنا بشَّارُ، حدثنا عبد الرحمن هو ابن مَهْدِي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد __________ = وله طريق آخر: عند الَّلالكائي رقم (849)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (183). وفيه من لم أقف على حاله. (1) أخرجه ابن وهب في التفسير من الجامع (1/ 76) رقم (171)، والطبري (11/ 105)، والدارقطني في الرؤية رقم (43). من طريق: شبيب وإبراهيم بن أبي بكرة كلاهما عن أبان به مثله. كما سيأتي في الحديث الآتي. وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبان وهو ابن أبي عياش متروك الحديث. انظر التقريب (142). (2) في "هـ": "قيس"، وضرب عليه الناسخ، وصوَّب "وهب".

(2/612)


عن أبي بكر الصديق -رضي اللَّه تعالى عنه- {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: النَّظرُ إلى وجه اللَّه" (1) . وبهذا الإسناد: عن أبي إسحاق عن مسلم بن يزيد عن حذيفة رضي اللَّهُ عنه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: النَّظرُ إلى وجه ربهم تبارك وتعالى (2) . وحدثنا علي بن عيسى، حدثني شَبَابَة، حدثنا أبو بكر الهذلي قال: سمعتُ أبا تميمة الهُجَيمي يحدث عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه __________ (1) أخرجه الطبري (11/ 104 - 105) وعبد اللَّه بن أحمد في السنة (471). - ورواه يونس بن أبي إسحاق وزكريا وغيرهم عن أبي إسحاق عن عامر ابن سعد عن أبي بكر فذكره. أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (195، 194، 196، 198) وغيره - وخالفهم شعبة والثوري وشريك، فرووه عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد قوله (لم يذكر أبا بكر). أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (420)، والطبري (11/ 105، 106) وغيرهما. ورواية شعبة والثوري أصح. بينما رجح الدارقطني قول إسرائيل ومن تابعه، وهو محتمل. انظر: علل الدارقطني (1/ 283). وعلى قول الدارقطني إسناده منقطع, لأن عامر بن سعد البجلي لم يدرك أبا بكر الصديق. تهذيب الكمال (14/ 23). (2) أخرجه الطبري (11/ 105)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 153) رقم (34795)، وهناد في الزهد رقم (170) وغيرهم. وسنده لا بأس به، من أجل حال مسلم بن يزيد أبي عياض الكوفي.

(2/613)


عنه قال: إذا كان يوم القيامة يبعث اللَّهُ عزَّ وجلَّ إلى أهل الجنَّة مناديًا ينادي: هل أنجز (1) اللَّهُ لكم ما وعدكم؟ فينظرون إلى ما أعد لهم من الكرامة فيقولون: نعم، فيقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} النظرُ إلى وجه الرحمن عزَّ وجلَّ" (2) . وقال عبد اللَّه بن المبارك: عن أبي بكر الهذلي أنبأنا أبو تميمة قال: سمعتُ أبا موسى الأشعري رضي اللَّه عنه يخطب النَّاسُ في جامع البصرة ويقول: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يبعث يوم القيامة ملكًا إلى أهل الجنَّة، فيقول: يا أهل الجنَّة، هل أنجز اللَّه لكم ما وعدكم؟ فينظرون فيرون الحليَّ والحلل والأنهار والأزواج المطهرة، فيقولون: نعم، قد أنجز اللَّه ما وعدنا، ثمَّ يقول الملك: هل أنجزكم اللَّه (3) ما وعدكم ثلاث مرَّات، فلا يفقدون شيئًا ممَّا وُعِدُوا فيقولون: نعم، فيقول: قد بقيَ لكم شيء، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ألا إنَّ الحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه عزَّ وجلَّ". __________ (1) في (هـ)، وعند الطبري (أنجركم). (2) أخرجه الطبري (11/ 105)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (786)، والدارقطني في الرؤية رقم (44). ورواه: ابن المبارك (وسيأتي عند المؤلف)، ووكيع والمعلَّى بن الفضل عن أبي بكر الهذلي به نحوه. أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (419)، وهناد في الزهد رقم (169)، والطبري (11/ 107)، والدارقطني في الرؤية رقم (45، 46). والأثر مداره على أبي بكر الهذلي: وهو متروك الحديث. (3) في "ج، هـ" "هل أنجز اللَّه لكم ما وعدكم".

(2/614)


وفي "تفسير أسباط بن نصر" عن إسماعيل السُّدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرَّة الهمداني عن ابن مسعود {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} فقال: "أمَّا الحسنى: فالجنَّة، وأمَّا الزيادة: فالنظر إلى وجه اللَّه، وأمَّا القترُ: فالسَّواد" (1) . وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى وعامر بن سعد وإسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي، والضحاك بن مُزاحم وعبد الرحمن بن سابط وأبو إسحاق السَّبيعي وقتادة وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعكرمة مولى ابن عباس ومجاهد بن جبر: الحُسْنَى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه (2) . وقال غير واحدٍ من السَّلفِ في الآية: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]: بعد النظر إليه، والأسانيد بذلك صحيحة. ولمَّا عطفَ سبحانه الزيادة على الحسنى التي هي الجنَّة؛ دلَّ على أنَّها أمرٌ آخر وراء الجنَّة، وقدرٌ زائدٌ عليها، ومن فسَّرَ الزيادة بالمغفرة والرضوان (3) ، فهو من لوازم رؤية الرَّبَّ تبارك وتعالى. __________ (1) ذكره اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (787) عن ابن أبي حاتم. وسنده ضعيف, كما تقدم الكلام عن هذه السلسلة ص (359 و 364). (2) انظر: الرؤية للدارقطني رقم (208، 214، 216, 217، 221، 223، 224)، والطبري (11/ 105 - 107) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 169)، وشرح أصول الاعتقاد (789 - 798). (3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1945) رقم (10343)، والطبري =

(2/615)


فصل الدليل الرَّابع: قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 14, 15]. ووجه الاستدلال بها: أنَّه سبحانه جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته، وسماع كلامه، فلو لم يرهُ المؤمنون، ولم يسمعوا كلامَهُ كانوا أيضًا محجوبين عنه، وقد احتج بهذه الحُجَّة الشافعي نفسه وغيره من الأئمة، فذكره الطبري وغيره عن المزني قال: سمعتُ الشافعي يقول في قوله عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} قال: "فيها دلالة على أنَّ أولياء اللَّه يرون ربَّهم يوم القيامة" (1). وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقولُ في قول اللَّه تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} فقال الشافعي: لمَّا أنْ حَجَبَ هؤلاءِ في السخط كان في هذا دليلٌ على أنَّ أولياءه يرونه في الرِّضى. قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد اللَّه، وبه تقول؟ قال: نعمِ، وبه أدين اللَّه، لو لم يُوقن محمد بن إدريس أنَّه يرى اللَّه = لَمَا عَبَدَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ". __________ = (11/ 108) عن مجاهد. وسنده حسن. (1) أخرجه اللالكائي الطبري في شرح أصول الاعتقاد برقم (809).

(2/616)


ورواه الطبري في "شرح السنة" (1) من طريق الأصم أيضًا. وقال أبو زرعة الرَّازي: سمعتُ أحمد بن محمد بن الحسين يقول: سُئِلَ محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم، هل يرى الخلق كلهم [131/ أ] ربهم يوم القيامة: المؤمنون والكفار؟ فقال محمد: ليس يراهُ إِلَّا المؤمنون. قال محمد: وسئل الشافعي عن الرؤية فقال: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} ففي هذا دليلٌ على أنَّ المؤمنين لا يُحْجَبون عن اللَّه عزَّ وجلَّ" (2). فصل والدليل الخامس: قوله عزَّ وجلَّ: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 35]. قال الطبريُّ (3): قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه اللَّه عزَّ وجلَّ، وقاله من التابعين: زيد بن وهب وغيره (4). __________ (1) رقم (883)، وأخرجه الواحدي في تفسيره الوسيط (4/ 464). (2) أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (810). (3) سقط من "ج"، ووقع في "أ، د": "الطبراني"، وهو خطأ. (4) انظر شرح أصول الاعتقاد (3/ 469) رقم (811، 812، 813).

(2/617)


فصل الدليل السادس: قوله عزَّ وجلَّ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]. والاستدلال بهذا عجب (1)، فإنَّه من أدلة النفاة، وقد قرَّر شيخنا وجه الاستدلال به أحسن تقرير وألطفه، وقال لي: أنا ألتزمُ أنَّهُ لا يحتج مبطلٌ بآية أو حديثٍ صحيح على باطله؛ إِلَّا وفي ذلك الدليلِ ما يدلُّ على نقض قوله، فمنها هذه الآية وهي على جواز الرؤية أدلَّ منها على امتناعها، فإنَّ اللَّهَ سبحانه إنَّما ذكرها في سياق التمدُّح، ومعلومٌ أنَّ المدحَ إنَّما يكونُ بالأوصاف الثبوتية، وأمَّا العدمُ المحض فليس بكمال، فلا يمدح به، وإنَّما يُمْدح الربُّ تعالى بالعَدَمِ إذا تضمن أمرًا وجوديًّا: كمدحه بنفي السِّنَة والنوم المتضمن كمال القَيُّومية. ونفي الموت المتضمن كمال الحياة. ونفي الُّلغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة. ونفي الشريك والصاحبة والولدِ والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره. ونفي الأكلِ والشربِ المتضمن لكمال صَمَدِيَّتِهِ وغِنَاهُ. __________ (1) في "هـ": "أعجب".

(2/618)


ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناهُ عن خلقه. ونفي الظلمِ المتضمن كمال عدلهِ وعلمه وغناه. ونفي النسيان وعزوب شيءٍ عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته. ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته. ولهذا لم يتمدَّح بعَدَمٍ محْضٍ لا يتضمن أمرًا ثبوتيًّا، فإنَّ المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدمٍ، ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه؛ فلو كان المراد بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أنَّهُ لا يُرَى بحالٍ، لم يكن في ذلك مَدْحٌ ولا كمال، لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإنَّ العَدَمَ الصِّرْف لا يُرَى ولا تدركه الأبصارُ، والرَّبُّ جلَّ جلاله يتعالى أنْ يُمْدَحَ بما يشاركه فيه العدمُ المحض. فإذًا، المعنى أنَّه يرى ولا يُدرك، ولا يحاطُ به كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61]، أنَّه يعلمُ كلَّ شيء. وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، أنَّه كامل القدرة. وفي قوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، أنَّه كامل العدل. وفي قوله: {لَا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، أنَّهُ كامل القيومِيَّة.

(2/619)


فقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يدلُّ على غايةِ عظمته، وأَنَّه أكبرُ من كلِّ شيءٍ، وأنَّه لعظمته لا يُدْرَك بحيث يُحَاطُ به، فإنَّ الإدراك هو: الإحاطة بالشيء، وهو قدرٌ زائدٌ على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 61، 62] فلم ينفِ موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} إنَّا لمرْئِيُّون؛ فإنَّ موسى - صلوات اللَّه وسلامه عليه - نفى إدراكهم إيَّاهم بقوله: {كَلَّا} وأخبر اللَّه سبحانه أنَّه لا يخاف دركهم بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) } [طه: 77]. فالرؤية والإدراك كلٌّ منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالربُّ تعالى يُرى ولا يُدْرَكُ، كما يعلمُ ولا يحاط به، وهذا هو الَّذي فهمته الصحابة والأئمة من الآية. قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] لا تُحِيطُ به الأبصار" (1) . وقال قتادة: "هو أعظمُ من أنْ تدركه الأبصار" (2) . وقال عطية: "ينظرون إلى اللَّهِ ولا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم، فذلك قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} " (3) . __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 299) بلفظ: "لا يحيط بصر أحد بالملك". وسنده ضعيف جدًا. (2) أخرجه الطبري (7/ 299) وسنده صحيح. (3) أخرجه الطبري في تفسيره (29/ 192). وعطية هو العوفي.

(2/620)


فالمؤمنون يرون ربهم -تبارك وتعالى- بأبصارهم عيانًا، ولا تدركه أبصارهم، بمعنى أنها لا تحيط به، إذ كان غير جائز أن يوصف اللَّه عز وجل بأن شيئًا يحيط به، وهو بكل شيء محيط، وهكذا يُسْمِعُ كلامه من شاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه، وهكذا يُعلَّم الخلق ما علمهم، ولا يحيطون بعلمه. ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وهذا من أعظم الأدلة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مِثْلٌ فيها، وإلا فلو أريد بها نفي الصفات لكان العدم المحض أولى بهذا المدح منه، مع أن جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلان لا مِثْلَ له وليس له نظير، ولا شبيه ولا مثل = أنَّه قد تَمَيَّز عن الناس بأوصافٍ ونعوت لا يشاركونه فيها، وكلما كثرت أوصافه ونعوته فات أمثاله، وبعد عن مشابهة أضرابه، فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} من أدلِّ شيءٍ على كثرة نعوته وصفاته. وقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] من أدلِّ شيءٍ على أَنَّهُ يُرى ولا يُدرك. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد: 4]، من أدلِّ شيءٍ على مباينة الرَّبِّ لخلقه؛ فإنه لم يخلقهم في ذاته بل

(2/621)


خلقهم (1) خارجًا عن ذاته، ثم بان عنهم باستوائه على عرشه، وهو يعلم ما هم عليه، ويراهم وينفذهم بصره، ويحيط بهم عِلْمًا وقدرة وإرادة وسمعًا وبصرًا، فهذا معنى كونه سبحانه معهم أينما كانوا. وتأمَّل حُسن هذه المقابلة لفظًا ومعنًى بين قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]. فإنه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصار وتحيط به، ولِلُطْفِه وخبرته يُدْرك الأبصار فلا تخفى عليه، فهو العظيم في لُطْفِه، اللطيف في عظمته، العالي في قربه، القريب في علوِّه، الَّذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]. فصل الدليل السابع: قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، وأنت إذا أَجَرْتَ هذه الآية من تحريفها عن مواضعها والكذب على المتكلم بها سبحانه فيما أراد منها = وجدتها منادية نداء صريحًا: أنَّ اللَّه سبحانه يُرى عيانًا بالأبصار يوم القيامة، وإن أبيت إلا تحريفها الذي يسميه المُحرِّفُون تأويلًا، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كل نصًّ تضمنه القرآن والسنة كذلك، ولا يشاء مُبْطِلٌ على وجه الأرض أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجَدَ إلى ذلك من السبيل __________ (1) من "أ" فقط.

(2/622)


ما وجده متأول مثل هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا. وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محلّه في هذه الآية، وتَعْدِيته بأداة "إلى" الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المُعَدَّى بـ "إلى" خلاف حقيقته، وموضوعه = صريح في أن اللَّه سبحانه أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى نفس الرب جل جلاله، فإن النظر له عِدَّة استعمالات بحسب صِلاته وتَعَدِّيه بنفسه: فإن عُدِّيَ بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار، كقوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]. وإن عُدَّيَ بـ "في" فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]. وإن عُدِّيَ بـ "إلى" فمعناه: المعاينة بالأبصار كقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]، فكيف إذا أُضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟ قال يزيد بن هارون: أنبأنا مبارك، عن الحسن: "نظرت إلى ربها تبارك وتعالى فنَضِرت بنوره" (1) . __________ (1) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (479)، والطبري في تفسيره (29/ 192) والآجري في الشريعة رقم (585) والدارقطني في الرؤية رقم (217)، وغيرهم. وسنده حسن.

(2/623)


فاسمع الآن أيها السُّنِّي تفسير النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه والتابعين وأئمة الإسلام لهذه الآية. قال ابن مردويه في "تفسيره": حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا يزيد بن الهيثم، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا سفيان، عن ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) } قال: "من البهاء والحسن {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 23]. قال: في وجه اللَّه عز وجل" (1) . وقال أبو صالح: عن ابن عباس {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } قال: "تنظر إلى وجه ربها" (2) . وقال عكرمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) } قال: "من النعيم"، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } (3) قال: "تنظر إلى ربها نظرًا"، ثم حكى عن ابن عباس مثله" (4) . __________ (1) سنده ضعيف. وعلته ضعف ثوير. وتقدم أصل هذا الحديث في ص (323 - 324). وهو لا يثبت مرفوعًا. (2) لم أقف عليه من طريق أبي صالح. وقد توبع أبو صالح، فرواه عبد الصمد عن أبيه، وعكرمة كلاهما عن ابن عباس نحوه. أخرجه الآجري في الشريعة رقم (588)، واللالكائي رقم (799). (3) من قوله "قال عكرمة" إلى "ناظرة" سقط من "ج". (4) أخرجه الآجري في الشريعة رقم (588)، واللالكائي رقم (804): عن ابن =

(2/624)


وهذا قول كل مفسر من أهل السنة والحديث. فصل وأما الأحاديث عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها عنه أبو بكر الصديق وأبو هريرة (1)، وأبو سعيد الخدري، وجرير ابن عبد اللَّه البجلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد اللَّه بن مسعود الهذلي، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين العقيلي، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد اللَّه بن عمر، وعُمَارة بن رُوَيْبة، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص -وحديثه موقوف- وأُبي بن كعب، وكعب بن عُجْرة، وفَضَالة بن عُبيد -وحديثه موقوف-، ورجل من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غير مُسمَّى. فهاك سياق أحاديثهم من الصحاح والمسانيد والسنن، وتَلَقَّها بالقبول والتسليم وانشراح الصدر، لا بالتحريف والتبديل وضيق العطن، ولا تُكذِّب بها؛ فمن كَذَّبَ بها لم يكن إلى وجه ربه من __________ = عباس، وسنده ضعيف, فيه إبراهيم بن الحكم بن أبان العدني ضعيف. لكنه ثابت عن عكرمة بالشطر الأول. أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (481)، والآجري (586، 587) واللالكائي (803) وغيرهم. (1) ليس في "أ، هـ": "وأبو هريرة".

(2/625)


الناظرين، وكان عنه يوم القيامة من المحجوبين. فصل فأما حديث أبي بكر الصديق: فقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال: حدثني النضر بن شُمَيل المازني قال: حدثني أبو نَعَامة قال: حدثني أبو هُنَيدة البراء بن نوفل عن والان العدوي عن حذيفة عن أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- قال: "أصبح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم فصلى الغداة ثم جلس، حتى إذا كان من الضحى ضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم جلس مكانه حتَّى صلَّى الأُولى والعصر والمغرب، كل ذلك لا يتكلم حتى صلى العشاء الآخرة، ثم قام إلى أهله، فقال الناس لأبي بكر: ألا تسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما شأنه؟ صنع اليوم شيئًا لم يصنعه قط، قال: فسأله، فقال: "نعم، عرض عليَّ ما هو كائنٌ من أمر الدنيا وأمر الآخرة، فجمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، فَفَظِع (1) الناس بذلك حتى انطلقوا إلى آدم -صلى اللَّه عليه وسلم- والعرق يكاد يلجمهم، فقالوا: يا آدم أنت أبو البشر، وأنت اصطفاك اللَّه عز وجل، اشفع لنا إلى ربك، قال: لقد لقيت مثل الذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم؛ إلى نوح: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} [آل عمران: 33] قال: فينطلقون إلى نوح -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك اللَّه واستجاب لك في دعائك، ولم يَدَعْ على الأرض من الكافرين ديارًا، فيقول: ليس ذلكم عندي، __________ (1) في "ب، ج، د، هـ": "فقطع".

(2/626)


انطلقوا إلى إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- فإن اللَّه اتخذه خليلًا، فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذاكم عندي، انطلقوا إلى موسى -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإن اللَّه عز وجل كلمه تكليمًا، فيقول موسى -صلى اللَّه عليه وسلم-: ليس ذلك عندي، ولكن انطلقوا إلى عيسى بن مريم -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنَّه كان يُبْرئُ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى، فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي، انطلقوا إلى سيد ولدِ آدم (1) ، إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فليشفع لكم إلى ربَّكُم عزَّ وجلَّ، قال: فينطلقُ فيأتي جبريل ربه تبارك وتعالى فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ائذن له وبشِّرهُ بالجنَّة، فينطلقُ به جبريل -صلى اللَّه عليه وسلم- فيخر ساجدًا قدرَ جُمُعة، ويقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: ارفع رأسَك، وقُلْ يُسمع، واشْفع تُشَفَّع، قال: فيرفع رأسه فإذ انظر إلى وجه ربِّه خرَّ ساجدًا قدْر جُمُعةٍ أخرى، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ارفع رأسك وقل يُسمع، واشفع تُشفَّع، قال: فيذهب ليقع ساجدًا فيأخذ جبريل بِضَبْعَيه فيفتح اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عليه من الدعاء شيئًا لم يفتحه على بشرٍ قط، فيقول: أي رب خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق الأرض (2) عنه يوم القيامة ولا فخر، حتَّى إنَّه ليرد على الحوض أكثر مما بين صنعاء وأيلة، ثم يقال: ادعوا الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الأنبياء، قال: فيجيء النَّبي ومعهُ العِصَابة، والنَّبي ومعه الخمسة والستة، والنَّبي وليس معه أحد، ثمَّ يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، قال: فإذا فعلتِ الشهداء ذلك، قال: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: أنا أرحمُ الرَّاحمين ادْخِلوا جنَّتي من كان لا يشرك بي شيئًا، __________ (1) جاء في المسند بعد "آدم" "فإنه أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة". (2) من المسند و"ج، د، هـ".

(2/627)


قال: فيدخلون الجنَّة، قال: ثمَّ يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: انظروا في النَّارِ هل تلقونَ من أحدٍ عمل خيرًا قطُّ؟ قال: فيجدون في النَّارِ رجلًا، فيقول له: هل عملت خيرًا قطُّ؟ فيقول: لا، غير أنِّي كُنْتُ أسامح الناس في البيع، فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: اسْمحُوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي، ثمَّ يُخْرِجُون من النَّارِ رجلًا يُقول له: هل عملت خيرًا قط؟ فيقول: لا، غير أنِّي قد أمرت ولدي إذا متُّ، فأحرقوني بالنَّارِ ثمَّ اطحنوني حتَّى إذا كُنْتُ مثل الكُحل فاذهبوا بي إلى البحرِ فأذِرُّوني في الرِّيح، فواللَّهِ لا يقدرُ عليَّ ربُّ العالمين أبدًا، فقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ له: لِمَ فعلتَ ذلك؟ قال: من مخافتك، قال: فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: انظر إلى مُلْكِ أعظمِ مَلِكٍ، فإنَّ لك مثلَهُ وعشرةَ أمثالهِ، قال: فيقول: أتسخر بي وأنت الملك، قال: وذلك الَّذي ضحكتُ منه من الضُّحى" (1) . __________ (1) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 4 - 5)، وابن حبان في صحيحه (14/ رقم 6476)، وأبو عوانه في صحيحه رقم (443) وابن أبي عاصم في السنة (815) والبزار في مسنده رقم (76) وغيرهم. - ورواه الجريري عن أبي هنيدة عن حذيفة مرفوعًا (لم يذكر والان وأبا بكر). ذكره الدارقطني في علله (1/ 190). قال الدارقطني: "والحديث غير ثابت". وقال ابن خزيمة: "إن صح الحديث"، كما في التوحيد (2/ 734). وقال ابن حبان: "أخبرنا عبد اللَّه بن محمد الأزدي بخبر غريب. . . " ثم ساقه، قلت: ولعل مراده التفرد. والحديث صححه ابن حبان وأبو عوانة وغيرهما. وقال البزار: ". . . رواه جماعة من جلَّة أهل العلم بالنقل واحتملوه".

(2/628)


فصل وأمَّا حديثُ أبي هريرة وأبي سعيد: ففي "الصحيحين" (1) عن أبي هريرة أنَّ أُناسًا قالوا: يا رسول اللَّهِ هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل تضارُّون في رؤية القمرِ ليلةَ البدرِ؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: هل تضارُّون في رؤية (2) الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنَّكم ترونه كذلك، يجمعُ اللَّهُ النَّاس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتَّبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمرَ القَمَرَ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم اللَّهُ تبارك وتعالى في صورةٍ غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللَّه منك، هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم اللَّه عزَّ وجلَّ في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه، ويضرب الصراط بين ظَهْرَانَي جهنَّم، فأكون أنا وأمتي أَوَّلَ من يُجِيْزُ، ولا يتكلَّم يومئذٍ إلَّا الرسل، ودعوى الرُّسل يومئذٍ: اللهم سلِّم سَلِّم، وفي جهنَّم كلاليبُ مثل شوكِ السَّعْدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه، قال: فإنَّها مثل شوك السعدان غير أنَّه لا يعلمُ قدر عِظَمها إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، تخطف النَّاس بأعمالهم، فمنهم المُوْبَق بعمله، ومنهم المُجازى حتى ينجو، حتَّى إذا فرغ اللَّه من القضاء بين العباد، وأراد أنْ يُخرجَ برحمته من أراد من أهل النَّارِ، أمرَ الملائكة أن __________ (1) البخاري رقم (773 و 6204 و 700)، ومسلم رقم (182). (2) من "ب، هـ".

(2/629)


يخرجوا من النَّارِ من كان لا يشرك باللَّه شيئًا ممَّن أراد اللَّه أنْ يرحمه ممَّن يقول: لا إله إِلَّا اللَّهُ، فيعرفونهم بأثر السجود، تأكل النَّارُ من ابن آدم إِلَّا أثرَ السجود، حرَّم اللَّهُ على النَّارِ أنْ تأكل أثر السجود، فيخرجون من النَّارِ قد امْتُحِشُوا فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون منه كما تنبت الحبَّة في حَميل السيل، ثمَّ يفرغ اللَّهُ من القضاء بين العباد، ويبقى رجلٌ مقبل بوجهه على النَّارِ - وهو آخر أهل الجنَّة دخولًا الجنَّة - فيقول: أي ربِّ أصرف وجهي عن النَّارِ، فإنَّه قد قَشَبني ريحُها وأحرقني ذكاؤها، فيدعو اللَّه ما شاء أنْ يدعوهُ، ثمَّ يقول اللَّه تبارك وتعالى: هل عسيت إنْ فعلت ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره، فيُعطِي ربه من عهود ومواثيق ما شاء، فيصرف اللَّه وجهه عن النَّار، فإذا أقبلَ على الجنَّة، ورآها سكت ما شاء اللَّه أن يسكت، ثمَّ يقول: أَي ربِّ قدِّمني إلى باب الجنَّة، فيقول اللَّهُ: أليس قد أعطيتَ عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الَّذي أعطيتك؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! فيقول أي رب فيدعو اللَّه حتَّى يقول له: فهل عسيت إنْ أعطيتك ذلك أنْ تسأل غيره؟ فيقول: لا وعِزَّتك، فيُعطي ربَّه ما شاء اللَّه من عهودٍ ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنَّة، فإذا قامَ على باب الجنَّة انفهقت له الجنَّة فرأى ما فيها من الخيرِ والسرور، فسكتَ ما شاء اللَّهُ أنْ يسكت، ثمَّ يقول أي ربِّ أدخلني الجنَّة، فيقول اللَّه تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أنْ لا تسأل غير ما أُعطِيت؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! فيقول: أي ربِّ، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتَّى يضحك اللَّه منه، فإذا ضحك اللَّه منه قال: أدخل الجنَّة، فإذا دخلها قال اللَّه له: تَمَنَّهْ، فيسأل ربه ويتمنَّى حتَّى أنَّ اللَّهَ لَيُذَكَّره فيقول:

(2/630)


من كذا وكذا، حتَّى إذا انقطعت به الأمانيُّ، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: لك ذلك ومثله معه". قال عطاء بن يزيد: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئًا حتَّى إذا حدَّث أبو هريرة: إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ قال لذلك الرجل "ومثله معه" قال أبو سعيد: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة، قال أبو هريرة: ما حفظت إِلَّا قوله: "ذلك لك ومثله معه" قال أبو سعيد: أشهدُ أنِّي حفظت من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله: "ذلك لك وعشرة أمثاله" قال أبو هريرة: وذلك الرجل آخر أهل الجنَّة دخولًا الجنَّة. وفي "الصحيحين" (1) أيضًا عَن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- أنَّ ناسًا في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالوا: يا رسول اللَّه، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمرِ ليلة البدرِ صحوًا ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه؟ قال: ما تضارون في رؤية اللَّه تبارك وتعالى يوم القيامة؛ إِلَّا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذَّنَ مؤذَّنٌ، لتتبع كلُّ أُمَّةٍ ما كانت تعبد، فلا يبقى أحدٌ ممَّن كان يعبد غير اللَّه من الأصنام والأنصاب إِلَّا يتساقطون في النَّارِ، حتَّى إذا لم يبقَ إِلَّا من كان يعبد اللَّه من برٍّ وفاجر، وغير أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كُنَّا نعبد عزيرَ ابنَ اللَّه، فيقال: كذبتم ما اتخذَ اللَّه من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا رب فاسقنا، فيشار إليهم ألا __________ (1) البخاري رقم (7001)، ومسلم رقم (183).

(2/631)


تردون؟ فيحشرون إلى النَّارِ كأنَّها سراب يَحْطِمُ بعضها بعضًا، فيتساقطون (1) في النَّارِ، ثمَّ يدعى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كُنَّا نعبد المسيح ابنَ اللَّه، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ اللَّهُ من صاحبة ولا ولد، فيقال: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا، قال: فيشار إليهم ألا تردون؟ فيُحْشَرون إلى جهنَّمْ كأَنَّها سراب يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار، حتَّى إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللَّه من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها. قال: فما تنتظرون؟ لِتَتَّبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللَّه منك لا نشرك باللَّه شيئًا -مرتين أو ثلاثًا- حتى إنَّ بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيُكْشَف عن ساقٍ فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاء نفسه إلا أذن اللَّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتَّقاءً ورياء إلا جعل اللَّه ظَهْره طبقةً واحدةً، كلمَّا أراد أنْ يسجد خرَّ على قفاهُ، ثمَّ يرفعون رؤوسهم، وقد تحوَّل في صورته التي رأوهُ فيها أَوَّل مرَّة، فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربنا، ثمَّ يُضْرَب الجسر على جهنَّم وتحلُّ الشفاعة، قيل: يا رسول اللَّه وما الجسر؟ قال: دحض مزلَّة فيه خطاطيف وكلاليب، وحَسَك -تكون بنجدٍ فيها شويكة يقال لها السَّعْدَان- فيمرُّ المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالرِّيح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والرِّكابِ، __________ (1) في نسخة على حاشية "أ": "فيتسابقون"، وكذلك مثله ما بعده.

(2/632)


فناجٍ مسلَّم، ومخدوشٌ مُرْسَلٌ، ومكدوشٌ في نار جهنَّم، حتَّى إذا خلص المؤمنون من النَّار، فوالَّذي نفسي بيده ما منكم من أحدٍ بأشدَّ مناشدةً للَّه في استيفاء الحقِّ من المؤمنين للَّه يوم القيامة لإخوانهم الَّذين في النَّارِ، يقولون: ربنا كانوا يصومون معَنَا ويصلون ويحجُّون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النَّارِ فيُخرجون خلقًا كثيرًا، قد أخذتِ النَّار إلى أنصاف ساقيه وإلى ركبتيه، فيقولون: ربَّنَا ما بقيَ فيها أحد ممن أمرتنا، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينارٍ من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثمَّ يقولون: ربنا لم نَذَرْ فيها أحدًا ممن أمرتنا، ثمَّ يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينارٍ من خير فأخرجوه، فيُخْرِجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدًا، ثم يقول: ارْجِعوا فمن وجدتم في قلبه مثال ذرَّةٍ من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثمَّ يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا -وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إنْ شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] - فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: شفعتِ الملائكة، وشفع النَّبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إِلَّا أرحمُ الرَّاحمين، فيقبض قبضة من النَّار فيُخْرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قطُّ، قد عادوا حُمَمًا فيلقيهم في نهرٍ في أفواهِ الجنَّة يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرجُ الحِبَّة في حَميل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس أصيفر وأُخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض، فقالوا يا رسول اللَّه كأنَّكَ كنتَ ترعى بالبادية، قال: فيخرجون كاللؤلؤ في

(2/633)


رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنَّة: هؤلاء عتقاء اللَّه الَّذين أدخلهم اللَّه الْجنَّة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قدَّموه، ثمَّ يقول: ادخلوا الجنَّة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا وأيُّ شيءٍ أفضل من هذا؟ فيقول: رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". فصل وأما حديث جرير بن عبد اللَّه: ففي "الصحيحين" (1) من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عنه قال: كنا جلوسًا مع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: "إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)} [ق: 39]. رواه عن إسماعيل بن أبي خالد: عبد اللَّه بن إدريس الأودي، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، وجرير ابن عبد الحميد، وعبيدة بن حُمَيد، وهشيم بن بشير، وعلي بن عاصم، وسفيان بن عيينة، ومروان بن معاوية، وأبو أسامة، وعبد اللَّه بن نُمَير، ومحمد بن عبيد، وأخوه يعلى بن عبيد، ووكيع بن الجراح، ومحمد ابن فضيل، والطُّفَاوي، ويزيد بن هارون، وإسماعيل بن [مجالد] (2)، __________ (1) البخاري رقم (529 و 547 و 4570 و 6997)، ومسلم رقم (633). (2) وقع في جميع النسخ (إسماعيل بن أبي خالد) وهو خطأ، لذا كتب ناسخ (أ) على هذا الاسم (كذا)، وهو إشارة إلى استغراب هذا الاسم. =

(2/634)


وعنبسة بن سعيد، والحسن بن صالح بن حَيٍّ، وورقاء بن عمر، وعمار بن رزيق، وأبو الأغر سعيد بن عبد اللَّه، ونصر بن طريف، وعمار بن محمد، والحسن بن عياش أخو أبي بكر، ويزيد بن عطاء، وعيسى بن يونس، وشعبة بن الحجاج، وعبد اللَّه بن المبارك، وأبو حمزة السكري، وحسين بن واقد، ومعتمر بن سليمان، وجعفر ابن زياد، وخداش بن المهاجر، وهُرَيْم بن سفيان، ومندل بن علي، وأخوه: حبان بن علي، وعمرو بن مَرْثد، وعبد الغفار بن القاسم، ومحمد بن بشر الجريري، ومالك بن مِغول، وعصام بن النعمان، وعلي بن القاسم الكِنْدِي، وعُبيدة بن الأسود الهمْداني، وعبد الجبار ابن العباس، والمُعلَّى بن هلال، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، والصبَّاح ابن مُحَارب، ومحمد بن عيسى، وسعيد بن حازم، وأبان بن أرقم، وعمرو بن النعمان، ومسعود بن سعد الجُعفي، وعثَّام بن علي، __________ = وهو كما قال؛ وإن كان هناك رجل بهذا الاسم: إسماعيل بن أبي خالد الفدكي إلا أنَّه يروي عن أبي هريرة، فهو أعلى طبقة منه. والصواب ما أثبته، بدليل أن المؤلف سَرَدَ هذه الأسماء على هذا النسق من كتاب الرؤية للدارقطني بمثل ترتيب الدارقطني، وأيضًا أخرجه الدارقطني في الرؤية برقم (85) و (145) ثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد ثنا أبي ثنا إسماعيل بن أبي خالد وبيان ومجالد عن قيس بن أبي حازم به. وأخرجه الطبراني في الكبير (2/ 310) رقم (2292)، والشحامي في حديث السراج رقم (1402). من طرق عن عمر بن إسماعيل بن مجالد عن أبيه به. وعمر بن إسماعيل هو الهمداني الكوفي: متروك الحديث.

(2/635)


وحسن بن حبيب، وسنان بن هارون البرجمي، ومحمد بن يزيد الواسطي، وعمرو بن هاشم (1) ، ومحمد بن مروان، ويعلى بن الحارث المحاربي، وشعيب بن راشد، والحسن بن دينار، وسلَّام بن أبي مطيع، وداود بن الزِّبْرقان، وحماد بن أبي حنيفة، ويعقوب بن حبيب، وحكَّام بن سلم، وأبو مقاتل ابن حفص، ومسيب بن شريك، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وعمرو بن شمر الجعفي، وعمرو بن عبد الغفار الفُقَيمي، وسيف بن هارون البُرْجُمي أخو سنان، وعائذ بن حبيب، ومالك بن سُعَيْر بن الخِمس، ويزيد بن عطاء مولى أبي عوانة، وخالد بن يزيد العَصْري، وعبيد اللَّه بن موسى، وخالد بن عبد اللَّه الطحَّان، وأبو كُدَيْنَة يحيى بن المُهَلَّب، ورَقَبَة بن مَصْقَلة، ومعمر بن سليمان الرَّقي، ومُرَجَّى بن رجاء، وعمرو بن جرير، ويحيى بن هاشم (2) السمسار، وإبراهيم بن طَهْمَان، وخارجة بن مصعب، وعبد اللَّه بن عثمان -شريك شعبة-، وعبد اللَّه بن فروخ، وزيد ابن أبي أُنيسة، وجوَّده فقال: "ستُعايَنُون ربَّكُم عزَّ وجلَّ كما تُعاينون هذا القَمَرَ" (3) . وأبو شهاب الحنَّاط وقال: "سَتَرَوْنَ ربَّكُم __________ (1) في "ب": "هشام". (2) في "هـ"، ونسخة على حاشية "أ" "هشام" وهو خطأ. (3) أخرجه ابن مندة في الإيمان رقم (799)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (826)، والدارقطني في الرؤية رقم (130). وسنده صحيح. قال الدارقطني: "جوَّده زيد بن أبي أنيسة عن إسماعيل بقوله (ستعاينون ربكم .... ).

(2/636)


عِيَانًا" (1) . وجارية بن هرم، وعاصم بن حكيم ومقاتل بن سليمان وأبو جعفر الرازي، والحسن بن أبي جعفر، والوليد بن عمرو، وأخوه: عثمان بن عمرو، وعبد السلام بن عبد اللَّه بن قرة العنبري، ويزيد بن عبد العزيز، وعلي بن صالح بن حَيّ، وزُفَر بن الهُذَيل، والقاسم بن معن. وتابع إسماعيل بن أبي خالد عن قيس جماعة منهم: بيَان بن بِشْر، ومُجَالد بن سعيد، وطارق بن عبد الرحمن، وجرير ابن يزيد بن جرير البجلي، وعيسى بن المسيب، كلُّهم عن قيس بن أبي حازم، عن جرير (2) . فكلُّ هؤلاء شهدوا على إسماعيل بن أبي خالد، وشهد إسماعيل ابن أبي خالد على قيس بن أبي حازم، وشهد قيس بن أبي حازم على جرير بن عبد اللَّه، وشهد جرير على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكأنَّك تسمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يقوله ويبلِّغه لأُمَّته، ولا شيءَ أقرَّ لأعينهم منه، وشهدت الجهمية والفرعونية والرَّافضة والقرامطة والباطنية وفروخ الصابئة والمجوس واليونان بكفر من اعتقد ذلك، وأنَّه من أهل التشبيه والتجسيم، وتابعهم على ذلك كلُّ عدوًّ للسنة وأهلها، واللَّه ناصرٌ كتابه وسُنَّة رسوله ولو كره الكافرون. __________ (1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6998). (2) انظر عامة هذه الطرق عند الدارقطني في الرؤية من رقم (69) إلى (148).

(2/637)


فصل وأمَّا حديث صهيب: فرواهُ مسلم في "صحيحه" (1) من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّةَ قال: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيِّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنَّة وتنجِّنا من النَّارِ؟ قال: فيكشفُ الحجابَ، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظرِ إلى ربِّهم عزَّ وجلَّ، ثمَّ تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ". وهذا حديثٌ رواه الأئمة عن حمَّاد وتلقوه عن نبيِّهم بالقبول والتصديق. فصل وأمَّا حديث عبد اللَّه بن مسعود: فقال الطبراني: حدثنا محمد بن النضر الأزدي وعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، والحضرمي قالوا: حدثنا إسماعيل بن عُبيد بن أبي كريمة الحرَّاني، حدثنا محمد بن سلمة الحرَّاني عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن المِنْهَال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد اللَّه عن مسروق بن الأجدع، حدثنا عبد اللَّه بن مسعود قال: "يجمع اللَّه الأوَّلين والآخرين لميقات يومٍ معلوم، قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماءِ ينتظرون فصل القضاء، قال: وينزل اللَّه عزَّ وجلَّ في ظُلَلٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثمَّ ينادي منادٍ: أيها النَّاسُ ألم ترضوا من ربكم الَّذي خلقكم __________ (1) رقم (181)، وسيأتي بيان الاختلاف فيه ص (693).

(2/638)


ورزقكم، وأمركم أنْ تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كلَّ أناسٍ منكم ما كانوا يتولون ويعبدون في الدنيا، أليس ذلك عدلًا من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فينطلق كلُّ قومٍ إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا، قال: فينطلقون، ويمثَّل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون، قال: ويمثَّل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثَّل لمن كان يعبد عُزَيرًا شيطان عزير، ويبقى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته، فيأتيهم الربُّ عزَّ وجلَّ فيقول: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق النَّاسُ؟ قال: فيقولون: إنَّ لنا إلهًا ما رأيناهُ بَعْدُ، فيقول: هل تعرفونه إنْ رأيتموه؟ فيقولون: إنَّ بيننا وبينه علامة إذا رأيناه عرفناها، قال: فيقول ما هي؟ فيقولون: يكشف عن ساقه، فعند ذلك يكشف عن ساقٍ فيخرُّون له سُجَّدًا، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون، ثمَّ يقول: ارفعوا رؤوسكم فيرفعون رؤوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يُعْطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم من يُعطى نورًا أصغر من ذلك، ومنهم من يُعْطى نورًا مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى نورًا أصغر من ذلك حتَّى يكون آخرهم رجلًا يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرَّة، ويطفأ مرَّة، فإذا أضاء قدَّم قَدَمه فمشى، وإذا طفيء قام، والربُّ تبارك وتعالى أمامهم حتَّى يمر في النَّارِ فيبقى أثره كحدِّ السيف دحض مزلة، قال: ويقول: مرُّوا فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم

(2/639)


من يمر كالريح، ومنهم من يمرُّ كشد الفرس، ومنهم من يَمُرُّ كشدِّ الرجل، حتَّى يمر الَّذي أُعطي نوره على إبهام قدمه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه تخِرُّ يدٌّ، وتعلق يدٌ، وتخِرُّ رجلٌ، وتعلق رجلٌ، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها، ثمَّ قال: الحمد للَّه لقد أعطاني اللَّه ما لم يُعْطِ أحدًا، إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها، قال: فينطلق به إلى غدير عند باب الجنَّة فيغتسل فيعود إليه ريح أهل الجنَّة وألوانهم، فيرى ما في الجنَّة من خلال البابِ، فيقول: ربِّ أدخلني الجنَّة، فيقول اللَّه تبارك وتعالى له: أتسأل الجنَّةَ وقد نجيتك من النار؟! فيقول: رب اجعل بيني وبينها حجابًا، لا أسمع حسيسها. قال: فيدخل الجنَّة، قال: ويرى أو يرفع له منزلٌ أمام ذلك، كأنَّما الَّذي هو فيه إليه حلم، فيقول: رب أعطني ذلك المنزل، فيقول: فلعلك إنْ أعطيتكه تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزَّتك، لا أسألك غيره، وأي منزلٍ يكون أحسن منه؟ قال: فيعطاهُ فينزله، ويرى أمام ذلك منزلًا (1) ، كأنَّما الَّذي هو فيه إليه حلم، قال: أي رب أعطني ذلك المنزل، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ، فلعلك إنْ أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسأل غيره، وأي منزل يكون أحسن منه، قال: فيعطى فينزله، قال: ويرى أو يرفع أمام ذلك منزل آخر، كأنَّما هو إليه حلم، فيقول: أعطني ذلك المنزل، فيقول اللَّه جلَّ جلاله: فلعلك إنْ أعطيتكه تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزَّتك لا أسأل غيره، وأي منزلٍ - يكون أحسن منه، قال: فيعطاه فينزله، ثمَّ يسكت، فيقول اللَّه __________ (1) قوله "ذلك منزلًا": في نسخة على حاشية "أ": "ذلك المنزل منزلًا".

(2/640)


عزَّ وجلَّ: مالك لا تسأل؟ فيقول له: ربِّ لقد سألتك حتَّى استحييتك، وأقسمت لك حتَّى استحييتك، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ألا ترضى أن أعطيك مثل الدنيا منذ يوم خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافها؟ فيقول: أتستهزئُ بي وأنت رب العزَّة، فيضحك الرب عزَّ وجلَّ من قوله - قال: فرأيتُ عبد اللَّه بن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، قد سمعتك تحدث هذا الحديث مرارًا، كلَّما بلغتَ هذا المكان ضحكت، فقال: إنِّي سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يحدث هذا الحديث مرارًا؛ كلَّما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك، حتَّى تبدو أضراسه -. قال: فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: لا ولكنِّي على ذلك قادرٌ، سل. فيقول: ألحقني بالنَّاسِ، فيقول: الحق بالنَّاس، قال: فينطلق يرمل في الجنَّة، حتَّى إذا دنى من النَّاسِ رُفِعَ له قصرٌ من درَّةٍ, فيخر ساجدًا، فيقال له: ارفع رأسك مالك؟ فيقول: رأيتُ ربِّي أو تراءى لي ربِّي، فيقال له: إنَّما هو منزلٌ من منازلك، قال: ثمَّ يلقى رجلًا، فيتهيأ للسجود، فيقال له: مه، مالك؟ فيقول: رأيتُ أنَّك ملكٌ من الملائكة، فيقول: إنَّما أنا خازنٌ من خُزَّانك، عبدٌ من عبيدك، تحت يديَّ ألف قهرمان، على مثل ما أنا عليه، قال: فينطلق أمامه حتَّى يفتح له القصر، قال: وهو في دُرَّةٍ مجوَّفة، شقائقها (1) ، وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها، يستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء كل جوهرة تفضي إلى جوهرة فيها سبعون بابًا، كلُّ بابٍ يفضي إلى جوهرة خضراء مبطنة بحمراء، كل جوهرة تفضي __________ (1) في "ب، ج، د، هـ": "سقائفها".

(2/641)


إلى جوهرة (1) على غير لون الآخرى، في كلُّ جوهرة سررٌ وأزواج، ووصائف أدناهنَّ حوراء عيناء، عليها سبعون حلَّة، يُرى مُخ ساقها من وراء حللها، كبدها مرآته وكبده مرآتها، إذا أعرض عنها إعراضةً ازدادت في عينه سبعون ضعفًا، عمَّا كانت قبل ذلك، فيقول لها: واللَّه لقد ازددت في عيني سبعين [182/ ب] ضعفًا، وتقول له: واللَّه وأنت لقد ازددت في عيني سبعين ضعفًا، فيقال له: أَشْرِف، قال: فيشرف فيقال له: ملكك مسيرة مئة عام ينفذه بصره، قال فقال: عمر: ألا تسمع ما يحدثنا ابن أُمِّ عبدٍ يا كعب، عن أدنى أهل الجنَّة منزلًا، فكيف أعلاهم؟ قال كعب: يا أمير المؤمنين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ جعل دارًا فيها ما شاء من الأزواج والثمرات والأشربة، ثمَّ أطبقها فلم يرها أحدٌ من خلقه لا جبريل ولا غيره من الملائكة، ثمَّ قرأ كعب: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17]، قال: وخلق دون ذلك جنتين، وزينهما بما شاء وأراهما من شاء من خلقه، ثمَّ قال: من كان كتابه في عِلِّيين نزل تلك الدَّار التي لم يرها أحد حتَّى إنَّ الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه فما تبقى خيمةٌ من خيم الجنَّة إلَّا دخلها من ضوء وجهه فيستبشرون بريحه فيقولون: واهًا لهذه الرِّيح، هذا رجلٌ من أهل عِلِّيَّين قد خرج ليسير في ملكه، فقال: ويحك يا كعب، هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها، فقال كعب: والَّذي نفسي بيده إنَّ لجهنَّم يوم القيامة لزفرة ما يبقى من ملكٍ مقرَّب، ولا نبي مرسل إِلَّا خرَّ لركبتيه حتَّى إنَّ إبراهيم خليل اللَّه __________ (1) من قوله "فيها سبعون بابًا" إلى "جوهرة" من "ب، ج، د، هـ".

(2/642)


يقول: ربِّ (1) نفسي نفسي، حتَّى لو كان لك عمل سبعين نبيًّا إلى عملك لظننتَ أنَّك لا تنجو" (2) . هذا حديثٌ كبيرٌ حسن، رواه المصنفون في السنَّة كعبد اللَّه بن أحمد والطبراني والدَّارقطني في كتاب "الرؤية" (3) ، رواه عن ابن صاعد، __________ (1) في نسخة على حاشية "أ" "يا رب". (2) أخرجه عبد اللَّه في السنة رقم (1203) وابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (31)، والشاشي في مسنده رقم (410)، والطبراني في الكبير رقم (9763)، والآجري في الشريعة رقم (160)، والدارقطني في الرؤية رقم (162) والحاكم في المستدرك (2/ 408) رقم (3424) وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" والبيهقي في البعث رقم (479). من طريق أبي خالد الدالاني وزيد بن أبي أنيسة كلاهما عن المنهال بن عمرو به. قال الذهبي: "ما أنكره حديثًا على جودة إسناده، وأبو خالد شيعي منحرف". - ورواه الأعمش وإدريس الأودي كلاهما عن المنهال عن قيس بن السكن عن عبد اللَّه بن مسعود موقوفًا. بلفظ (إن الرجل من أهل الجنة ليؤتى بالكأس وهو جالس مع زوجته فيشربها، يلتفت إلى زوجته فيقول: قد ازددت في عيني سبعين ضعفًا حسنًا). أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 57) رقم (33982)، وذكره الدارقطني في العلل (5/ 244)، وفي الرؤية رقم (164) وابن منده في الإيمان (2/ 820). قال الدارقطني في العلل: "والصحيح حديث أبي خالد الدالاني وزيد بن أبي أنيسة عن المنهال .. . . ". وقال ابن منده في الإيمان (2/ 820): في حديث زيد بن أبي أنيسة - وهذا إسناد صحيح، أخرجه النسائي ا. هـ قلت: الموقوف أصح إسنادًا واللَّه أعلم. (3) برقم (160). وفيه كرز بن وبرة عابد زاهد، وكان ابن شبرمة كثير المدح له، وذكره ابن =

(2/643)


حدثنا محمد بن أبي عبد الرحمن المقرئ، قال: حدثنا أبي، حدثنا ورقاء بن عمر، حدثنا أبو طيبة، عن كرز بن وبرة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي عبيدة عن عبد اللَّه. ورواهُ من طريق عبد السلام بن حرب، حدثنا الدالاني، حدثنا المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة به. ورواهُ من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة به. ومن طريق أحمد بن أبي طيبة، عن كرز بن وبرة عن نعيم بن أبي هند عن أبي عبيدة. فصل وأمَّا حديث علي بن أبي طالب: فقال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن المصفَّى حدثنا سويد بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن جدِّه علي (1) بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَزُوْرُ أهلُ الجنَّة الربَّ تبارك وتعالى في كلِّ جمعة، وذكر ما يُعطون قال: ثمَّ يقول اللَّه تبارك وتعالى: اكشفوا حجابًا، فيكشف حجاب، ثمَّ حجاب (2)، ثمَّ يتجلَّى لهم تبارك __________ = حبان في الثقات (9/ 27) وسكت عنه البخاري وابن أبي حاتم. انظر: الجرح والتعديل (7/ 170)، والتاريخ الكبير (7/ 238). (1) في "ب، ج، د، هـ" "عن جدِّه عن علي"، وهو غير موجود عند اللالكائي. (2) قوله "ثم حجاب" ليس في "أ".

(2/644)


وتعالى عن وجهه، فكأنَّهم لم يرو نعمةً قبل ذلك، وهو قوله تبارك وتعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 35] " (1). فصل وأمَّا حديث أبي موسى: ففي "الصحيحين" (2) عنه -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "جنَّتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنَّتانِ من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما، وما بين القَوْمِ وبينَ أنْ ينظروا إلى ربِّهم تبارك وتعالى إلَّا رداء الكبرياء على وجهه في جنَّةِ عدن". وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمارة عن أبي بُرْدَة عن أبي موسى قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يجمع اللَّهُ عزَّ وجلَّ الأُمَمَ في صعيدٍ واحدٍ يوم القيامة، فإذا بدا للَّه أنْ يصدع بين خلقه، مُثِّلَ لكلَّ قومٍ ما كانوا يعبدون فيتبعونهم حتَّى يقحموا بهم (3) النَّار، ثمَّ يأتينا ربُّنا عزَّ وجلَّ ونحن على مكان رفيع، فيقول: من أنتم؟ فنقول: نحن المسلمون، فيقول: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظرُ ربنا عزَّ وجلَّ، قال: فيقول: وهل تعرفونه __________ (1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (852) من طريق يعقوب بن سفيان به مثله. وهو حديث موضوع فيه عمرو بن خالد القرشي قال الإمام أحمد: كذاب، يروي عن زيد بن علي عن آبائه أحاديث موضوعة، يكذب. انظر تهذيب الكمال (21/ 605). (2) البخاري رقم (4597)، ومسلم رقم (180). (3) في "ب، هـ، د" والمسند "يقحمونهم".

(2/645)


إنْ رأيتموه؟ فيقولون: نعم (1) ، إنَّه لا عِدْل له، فيتجلَّى لنا ضاحكًا فيقول: أبشروا يا معشر المسلمين، فإنه ليس منكم أحد إلا جعلت في النار يهوديًّا أو نصرانيًّا مكانه" (2) . وقال حماد بن سلمة: عن علي بن زيد، عن عمارة القرشي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يتجلى لنا ربنا تبارك وتعالى ضاحكًا يوم القيامة" (3) . وذكر الدارقطني من حديث أبان بن أبي عياش، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي موسى، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يبعث اللَّه يوم القيامة مناديًا بصوت يسمعه أولهم وآخرهم: إنَّ اللَّه عز وجل وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه عز وجل" (4) . __________ (1) في المسند "فيقول: كيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون: نعم". (2) أخرجه أحمد في المسند (4/ 407 - 408). وأخرجه عبد بن حميد رقم (539)، والآجري في الشريعة رقم (608)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (339 و 340) وعبد اللَّه في السنة رقم (180) مختصرًا. وسنده ضعيف جدًّا فيه عمارة القرشي قال الأزدي: ضعيف جدًّا. انظر لسان الميزان (4/ 322). (3) أخرجه الدارقطني في الصفات رقم (34). وفيه عمارة القرشي: ضعيف جدًا. (4) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (43). وفيه أبو بكر الهذلي: وهو متروك الحديث.

(2/646)


فصل وأمَّا حديث عدي بن حاتم: ففي "صحيح البخاري" (1) قال: "بينا أنا عند النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتى إليه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: "يا عدي، هل رأيت الحِيْرة"؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: "فإن طالت بك حياة لترين الظَعِينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا اللَّه". قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّارُ طيء الذين سعروا البلاد؟ "وإن طالت بك حياة لتفتحنَّ كنوز كسرى"، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، وإن طالت بك حياةٌ لَترينَّ الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقين اللَّه أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولًا فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالًا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم". قال عدي: سمعتُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة". قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللَّه، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". __________ (1) رقم (3400).

(2/647)


فصل وأما حديث أنس بن مالك: ففي "الصحيحين" (1) من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يجمع اللَّه الناس يوم القيامة فيهتمُّون لذلك - وفي لفظ: فيُلْهمون لذلك - فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا؟ فيأتون آدم، فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا نوحًا أوَّل رسول بعثه اللَّه عز وجل، قال: فيأتون نوحًا فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه اللَّه خليلًا، فيأتون إبراهيم فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه اللَّه وأعطاه التوراة، فيأتون موسى فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح اللَّه وكلمته، فيأتون عيسى روح اللَّه وكلمته فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، عبدًا قد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فيأتوني فأستأذن على ربي فيؤذَنُ لي، فإذا أنا رأيته فأقع ساجدًا فَيَدَعَني ما شاء اللَّه أن يدعني، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تعط، واشفع تشفَّع. فأرفع رأسي، فأحمد __________ (1) البخاري رقم (6975 و 7002)، ومسلم رقم (193).

(2/648)


ربي بتحميد يعلِّمنيه ربي، فأشفع فيحد لي حدًّا، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود، فأقع ساجدًا، فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك يا محمد، قل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفَّع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع: فيحد لي حدًّا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة. قال: فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة، قال: فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن". أي: وجب عليه الخلود. وذكر ابن خزيمة: عن ابن عبد الحكم، عن أبيه وشعيب بن الليث، عن الليث (1) ، حدثنا معتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: "يلقى الناس في القيامة ما شاء اللَّه أن يلقوه من الحبس، فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم فيشفع لنا إلى ربنا -فذكر الحديث إلى أن قال:- فينطلقون إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقول: أنا لها، فانطلق حتى أستفتح باب الجنة فيفتح في فأدخل وربي على عرشه فأخر ساجدًا" وذكر الحديث (2) . وقال أبو عوانة، وابن أبي عروبة، وهمام، وغيرهم: عن أنس (3) في هذا الحديث: "فأستأذن على ربي فإذا رأيته وقعت ساجدًا". __________ (1) كذا في النسخ وفيه سقط، ولعلَّ تتمَّته (عن ابن الهاد عن عمرو - وهو ابن أبي عمرو - عن أنس. وحدثنا الحسين بن الحسن حدثنا المعتمر بن سليمان). انظر التوحيد لابن خزيمة (2/ 710 و 716). (2) التوحيد لابن خزيمة رقم (358). (3) كذا في النسخ، وصوابه "وغيرهم عن قتادة عن أنس". انظر التوحيد لابن خزيمة رقم (354).

(2/649)


وقال عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: "فآتي ربي وهو على سريره، أو كرسيه فأخر له ساجدًا". وساقه ابن خزيمة بسياق طويل، وقال فيه: "فأستفتح فإذا نظرت إلى الرحمن وقعت له ساجدًا" (1) . ورؤية النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لربه في هذا المقام ثابته عنه ثبوتًا يقطع به أهل العلم بالحديث والسنة، وفي حديث أبي هريرة: "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا صاحب لواء الحمد ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، آخذ بحلقة باب الجنة، فيؤذن لي، فيستقبلني وجه الجبار جل جلاله، فأخر له ساجدًا" (2) . وقال الدارقطني: حدثنا محمد بن إبراهيم النسائي المعدل بمصر، حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر القاضي، حدثنا أبو بكر إبراهيم بن محمد، حدثنا الخليل بن عمر حدثنا [عمر بن سعيد الأبح] (3) ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} __________ (1) التوحيد لابن خزيمة رقم (358). (2) تقدم في ص (122). (3) ما بين المعكوفتين من مصدر التخريج، ووقع في جميع النسخ بدله: "الأشج" وهو خطأ.

(2/650)


[يونس: 26] قال: "النظر إلى وجه اللَّه عز وجل" (1) . حدثنا أبو صالح عبد الرحمن بن سعيد بن هارون الأصبهاني، ومحمد بن جعفر بن أحمد المَطِيْري (2) ، ومحمد بن علي ابن إسماعيل الأيلي، قالوا: حدثنا عبد اللَّه بن روح المدائني، حدثنا سلام بن سليمان، حدثنا ورقاء، وإسرائيل، وشعبة، وجرير بن عبد الحميد كلهم قالوا: حدثنا ليث عن عثمان بن أبي حميد، عن أنس ابن مالك، قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أتاني جبريل وفي كفه كالمرآة البيضاء يحملها، فيها كالنكتة السوداء، فقلت: ما هذه التي في يدك يا جبريل؟ فقال: هذه الجمعة، قلت: وما الجمعة، قال: لكم فيها خير كثير، قلت: وما يكون لنا فيها؟ قال: يكون عيدًا لك ولقومك من بعدك، وتكون اليهود والنصارى تبعًا لكم، قلت: وما لنا فيها؟ قال: لكم فيها ساعة لا يسأل اللَّه عبدٌ فيها شيئًا هو له قِسْمٌ إلا أعطاه إياه، أوْ ليس له بقسم إلا ذُخر له في آخرته ما هو أعظم منه، قلت: ما هذه النكتة التي هي فيها؟ قال: هي الساعة ونحن ندعوه يوم المزيد، قلت: وما ذاك يا جبريل؟ قال إن ربك اتخذ في الجنة واديًا، فيه كثبان من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عِلَّيين على كرسيه، فيحف __________ (1) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (48). وفيه عمر بن سعيد الأبح: قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي. انظر الجرح والتعديل (6/ 111)، ولسان الميزان (4/ 352). (2) في جميع النسخ: "الطبري" وهو خطأ. تاريخ بغداد (2/ 143).

(2/651)


الكرسيَّ، بكراسي من نور، فيجئ النَّبيون حتى يجلسوا على تلك الكراسي، وتحف الكراسي بمنابر من نور، ومن ذهب مكللة بالجوهر، ثم يجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف من غرفهم، حتى يجلسوا على تلك الكثبان، ثم يتجلى لهم عز وجل فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم في ذلك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك بمقدار منصرفكم من الجمعة، ثم يرتفع على كُرْسِيِّهِ عز وجل، ويرتفع معه النَّبيون والصديقون، ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم وهي: لؤلؤة بيضاء، أو زبرجدة خضراء، أو ياقوتة حمراء، غرفها وأبوابها فيها، أنهارها مطردة فيها، وأزواجها وخدامها، وثمارها متدلية فيها، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة، ليزدادوا نظرًا إلى ربهم ويزدادوا منه كرامة" (1) . __________ (1) أخرجه الدارقطني في الرؤية (59) بسنده ومتنه. وعنه الخطيب في الموضح (2/ 264). وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في العرش رقم (88). - وقال ليث مرة: عن عثمان بن عمير عن أنس. أخرجه ابن منده في الرد على الجهمية رقم (92). - ورواه أبو طيبة وعنبسة ومحمد بن إسحاق كلهم عن ليث عن عثمان بن عمير عن أنس. أخرجه الآجري في الشريعة رقم (612)، وابن منده (92)، والدارقطني في الرؤية (62، 60)، والخطيب في الموضح (2/ 266). والحديث مداره على عثمان بن أبي حميد -وهو ابن عمير أبو اليقظان =

(2/652)


هذا حديث كبير عظيم الشأن، رواه أئمة السنة وتلقوه بالقبول، وجَمَّل به الشافعي "مسنده"، فرواه عن إبراهيم بن محمد، قال: حدثني موسى بن عبيدة، قال: حدثني أبو الأزهر، عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير أنه سمع أنس بن مالك، فذكره بنحوه، وقد تقدم لفظه (1) . ثم قال الشافعي: أنبأنا إبراهيم قال: حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد، عن أنسٍ شبيهًا به وزاد فيه أشياء (2) . ورواه محمد بن إسحاق، قال: حدثني ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن عمير، عن أنس به، وقال فيه: "ثم يتجلى لهم ربهم عز وجل، حتى ينظروا إلى وجهه الكريم. . . " وذكر باقي الحديث. ورواه عمرو بن أبي قيس، عن أبي ظبية (3) ، عن عاصم، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس وجوَّدهُ، وفيه: "فإذا كان يوم الجمعة نزل على كرسيه، ثم حف الكرسي بمنابر من نور، فيجيء النَّبيون حتى يجلسوا عليها، ويجيء أهل الغرف حتى يجلسوا على الكُثُب، قال: ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى، فينظرون إليه __________ = الكوفي - ضعفه بعضهم، وقال فيه بعضهم: منكر الحديث، وقال آخرون: متروك، وهو لم يسمع من أنس، وفيه أيضًا ليث بن أبي سليم. فالحديث ضعيف جدًّا. (1) في الباب (61) ص (576). (2) مسند الشافعي رقم (375). وفيه إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي: متروك الحديث. (3) في "أ": "طيبة"، والمثبت هو الصواب.

(2/653)


فيقول: أنا الذي صَدَقْتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي = سلوني، فيسألونه الرضى، قال: رضاي أنزلكم داري، وأنا لكم كرامتي سلوني، فيسألونه الرضى، فيشهدهم بالرضى، ثم يسألونه حتى تنتهي رغبتهم" (1) . وذكر الحديث. ورواهُ علي بن حرب، حدثنا إسحاق بن سليمان حدثنا عنبسة بن سعيد عن عثمان بن عمير. ورواهُ الحسن بن عَرَفة حدثنا عمَّار بن محمد: ابن أخت سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان وقال فيه: "ثُمَّ يرتفع على كرسيِّه، ويرتفع معه النَّبيُّون والصِّديقون والشهداء، ويرجعُ أهل الغرفِ إلى غرفهم" (2) . ورواه الدَّارقطني من طريقٍ أُخرى من حديث قتادة عن أنس قال: سمعته يقول: "بينا نحنُ حولَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ قال: "أتاني جبريلُ في يده كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، قلتُ: يا جبريلُ، ما هذا؟ قال: هذا يوم الجمعة، يعرضه عليك ربك ليكون لك عيدًا ولأمتك من بعدك، قال: قلتُ: يا جبريل، ما هذا النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة وهي تقوم يوم الجمعة، وهو سيِّد أيام الدنيا، ونحن ندعوه في الجنَّة يوم المزيد، قال: قلتُ: يا جبريل ولمَ تدعونه يوم __________ (1) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (61)، والخطيب في الموضح (2/ 268) وغيرهما. (2) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (63). ومداره كما تقدم على عثمان بن عمير أو ابن أبي حميد.

(2/654)


المزيد؟ قال: إنَّ اللَّه اتَّخذَ في الجنَّة واديًا أفيح من مسكٍ أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل ربنا عزَّ وجلَّ على كرسيِّه إلى ذلك الوادي، وقد حُفَّ العرشُ بمنابر من ذهبٍ مكلَّلةٍ بالجوهرِ، وقد حُفَّت تلك المنابر بكراسي من نورٍ، ثمَّ يؤذن لأهل الغرف فيقبلون يخوضون كثبان المسك إلى الرُّكَب، عليهم أسورة الذهب والفضة وثياب السندس والحرير، حتَّى ينتهوا إلى ذلك الوادي، فإذا اطمأنُّوا فيه جلوسًا بعث اللَّه عليهم ريحًا يُقال لها: المثيرة، فثارت عليهم ينابيع المسك الأبيض في وجوههم وثيابهم، وهم يومئذٍ جُرْدٌ مردٌ مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين على صورة آدم يوم خلقه اللَّه عز وجل، فينادي رب العزة تبارك وتعالى رضوان وهو خازن الجنة، فيقول: يا رضوان، ارفع الحجب بيني وبين عبادي وزُوَّارِي، فإذا رفع الحجب بينه وبينهم فرأوا بهاءه ونوره هَبُّوا له بالسجود، فيناديهم تبارك وتعالى بصوته: ارفعوا رؤوسكم فإنما كانت العبادة في الدنيا، وأنتم اليوم في دار الجزاء، سلوني ما شئتم فأنا ربكم الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، فهذا محل كرامتي فسلوني ما شئتم، فيقولون: ربنا وأي خير لم تفعله بنا، ألستَ الذي أعنتنا على سكرات الموت، وآنست منا الوحشة في ظلمة القبور، وآمنت روعتنا عند النفخة في الصور؟ ألستَ أقلتنا عثراتنا، وسترت علينا القبيح من فعلنا، وثَبَّتَّ على جسر جهنَّم أقدامنا؟ ألستَ الَّذي أدنيتنا من جوارك وأسمعتنا لذاذة منطقك، وتجليت لنا بنورك فأيُّ خيرٍ لم تفعله بنا؟ فيعودُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فيناديهم بصوته فيقول: أنا ربُّكم الَّذي صدقتكم وعدي، وأتممتُ عليكم نعمتي فسلوني، فيقولون: نسألك رضاك، فيقول: برضائي عنكم

(2/655)


أقلْتُكُم عثراتكم، وسترتُ عليكم القبيح من أموركم، وأدنيتُ منِّي جواركم، وأسمعتكم لذاذة مَنْطقي، وتجليت لكم بنوري، فهذا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي مسألتهم، ثمَّ يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: سلوني فيسألونه حتَّى تنتهي رغبتهم، ثمَّ يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: سلوني، فيقولون: رضينا ربنا وسلمنا، فيريهم من مشهد فضله وكرامته، ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويكون ذلك بمقدار تفرقهم من الجمعة، قال أنس: فقلتُ: بأبي أنت وأُمِّي يا رسول اللَّه وما مقدار تفرقهم؟ قال: كقدر الجمعة إلى الجمعة، قال: ثمَّ يحمل عرش ربنا تبارك وتعالى معهم الملائكة والنَّبيون ثمَّ يؤذن لأهل الغرفات فيعودون إلى غرفهم وهما: غرفتان من زمردتين خضراوين، وليسوا إلى شيءٍ أشوق منهم إلى الجمعة لينظروا إلى ربِّهم عزَّ وجلَّ، وليزيدهم من مزيد فضله وكرامته". قال أنس: سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس بيني وبينه أحد (1) . ورواهُ الدَّارقطني أيضًا: عن أبي بكر النيسابوري، قال: أخبرني العباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرني محمد بن شعيب قال: أخبرني __________ (1) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (64)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (1/ 292 - 293). قال العقيلي في ترجمة حمزة بن واصل المنقري عن قتادة: "مجهول في الرواية، وحديثه غير محفوظ". ثم ساق العقيلي هذا الحديث بطوله ثم قال: "ليس له من حديث قتادة أصل، هذا حديث عثمان بن عمير أبو اليقظان عن أنس. . . . ". وعليه فالحديث منكر من هذا الطريق غير محفوظ.

(2/656)


عمر مولى غُفْرة عن أنس (1) . ورواهُ محمد بن خالد بن خُلَي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان قال: قال أنس: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورواهُ أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن ليث، عن أبي عثمان، عن أنس (2) . ورواهُ إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن ليث، عن عثمان بن أبي حميد، عن أنس. ورواهُ عن الأسود بن عامر قال: ذُكِر لي عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أنس (3) . ورواهُ ابن بطَّة في "الإبانة" (4) من حديث الأعمش عن أبي وائل عن __________ (1) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (65)، والدارمي في الرد على الجهمية رقم (144). وسنده ضعيف فيه عمر مولى غفرة لم يلق أنس بن مالك، كما قال ابن معين وأبو حاتم الرازي. انظر المراسيل رقم (496). (2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 477 - 478) رقم (5516)، وابن بطة في الإبانة (المختار) -الرد على الجهمية- (3/ 24 - 29) رقم (24). (3) أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية رقم (198) عن شيخ من أهل بغداد عن شريك به. وكذا رواه يحيى بن يمان عن شريك به موقوفًا كما سيأتي عند المصنف ص (412). والأثر مداره على أبي اليقظان وقد تقدم الكلام عليه. (4) كما في (المختار) - الرد على الجهمية (3/ 32 - 36) رقم (26)، وسيأتي =

(2/657)


حذيفة، وسيأتي سياقه، وقد جمع ابن أبي داود طرقه. فصل وأمَّا حديث بريدة بن الحصيب: فقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق ابن خزيمة: حدثنا أبو خالد عبد العزيز بن أبان القرشي، حدثنا بشير بن المهاجر عن عبد اللَّه بن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما منكم من أحدٍ إلَّا سيخلوا اللَّه به يوم القيامة، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان" (1). __________ = الكلام عليه في حاشية ص (679). (1) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (469) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (853): عن محمد بن إسحاق الصاغاني نا أبو خالد القرشي نا بشير بن المهاجر به مثله. * ورواه الحسن بن ناصح عن عبد العزيز بن أبان به نحوه. أخرجه الدارقطني في الرؤية (184). ولعل هذا الطريق هو مراد المؤلف، فلعله لما رأى محمد بن إسحاق عند عبد اللَّه في السنة، ورأى الحديث عند ابن خزيمة في التوحيد انتقل ذهنه من الصاغاني إلى ابن خزيمة واللَّه أعلم. والحديث فيه عبد العزيز بن أبان وهو متروك الحديث. انظر تهذيب الكمال (18/ 110). لكن يغني عنه ما عند ابن خزيمة في التوحيد (1/ 363) رقم (216). من طريق زيد بن الحباب عن حسين بن واقد عن عبد اللَّه بن بريدة به (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان).

(2/658)


فصل وأمَّا حديث أبي رَزِين العُقيلي: فرواهُ الإمام أحمد من حديث شعبة وحماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حُدس، عن أبي رزين قال: قلنا: يا رسول اللَّه، أكُلُّنا يرى ربَّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة؟ قال: "نعم"، قال: قلتُ: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: "أليس كلُّكم ينظر إلى القمر ليلة البدر"؟ قلنا: نعم، قال: "اللَّه أكبر وأعظم" (1). قال عبد اللَّه قال أبي: والصوابُ حُدس (2). وقال أبو داود سليمان بن الأشعث: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حمَّاد بن سلمة به. فقد اتفق شعبة، وحماد بن سلمة -وحسبك بهما- على روايته عن يعلى بن عطاء، ورواهُ النَّاسُ عنهما. __________ (1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 11 و 12) وابن ماجه رقم (180)، وأبو داود (4731)، وابن حبان في صحيحه (6141)، والحاكم في المستدرك (4/ 605) رقم (8682) والدارقطني في الرؤية (186 - 190) وغيرهم. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". والحديث مداره على وكيع بن حدس -فيه جهالة- تفرد بالرواية عنه يعلي بن عطاء. وقد جهَّله جماعة. والحديث صححه ابن حبان والحاكم. (2) يعني: أنَّ شعبة أخطأ في قوله "عُدس" بدل "حُدس"، والصواب ما رواهُ حماد ابن سلمة وغيره كما ساقه المؤلِّف. انظر العلل ومعرفة الرجال (2/ 189) رقم (1959).

(2/659)


وعن أبي رزين فيه إسناد آخر قد تقدَّم ذِكْره في حديثه الطويل (1). وأبو رزين العُقَيلي له صحبة وعِدَاده من أهل الطائف، وهو لقيط بن عامر، ويقال: لقيط بن صَبِرَة، هكذا قال البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما، وقيل: هما اثنان، ولقيط بن عامر غير لقيط بن صبرة، والصحيح الأوَّل. وقال ابن عبد البر: من قال: لقيط بن صَبِرَة نَسَبَهُ إلى جدِّهِ، وهو لقيط بن عامر بن صَبِرَة (2). فصل وأمَّا حديث جابر بن عبد اللَّه: فقال الإمام أحمد: حدثنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنَّه سمع جابرًا يُسْأل عن الورود فقال: "نجيء (3) يوم القيامة على كذا وكذا، أي فوق النَّاسِ، فتدعى الأُمم بأوثانها وما كانت تعبد، الأوَّل فالأوَّل، ثمَّ يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم فيقولون: حتَّى ننظر إليك، فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى يضحَكُ قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويُعْطَى كلُّ إنسانٍ منهم: منافق أو مؤمن نورًا، ثمَّ يتبعونه على جسر جهنم، وعليه كلاليب وحسك، تأخذ من شاء اللَّه، ثمَّ يُطْفَأ نور المنافق، ثمَّ ينجو المؤمنون، فتنجو أوَّل زمرة __________ (1) ص (126). (2) انظر لِترجمتِهِ والاختلاف فيه: تهذيب الكمال (24/ 248 - 249)، وتهذيب التهذيب (3/ 479 - 480). (3) في "ب, هـ، د" ونسخة على حاشية "أ": "نحن"، وهو الموافق لما في المسند المطبوع.

(2/660)


وجوههم كالقمر ليلة البدر، وسبعون ألفًا لا يحاسبون، ثمَّ الَّذين يلونهم كأضوإ نجمٍ في السَّماء، ثمَّ كذلك، ثمَّ تحلُّ الشفاعة حتَّى يخرج من النَّارِ من قال: لا إله إلَّا اللَّه، وكان في قلبه من الخيرِ ما يزنُ شعيرةً، فيُجْعَلون بفناء أهل الجنَّة ويجعل أهل الجنَّة يرشون عليهم الماء، حتى ينبتون نبات الشيء في السيل، ويذهب حراقه ثمَّ يسأل حتَّى يجعلَ اللَّه له الدنيا وعشرة أمثالها مَعَها" (1) . رواهُ مسلم في "صحيحه" (2) وهذا الَّذي وقع في الحديث من قوله: "على كذا وكذا" قد جاء مفسَّرًا في رواية صحيحة ذكرها عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين" (3) "نجيء يوم القيامة على تلٍّ مشرفين على الخلائق". وقال عبد الرزاق: أنبأنا رباح بن زيد، قال: حدَّثني ابن جريج قال: أخبرني زياد بن سعد أنَّ أبا الزبير أخبره عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يتجلَّى لنا الربُّ تبارك وتعالى ينظرون إلى وجهه، فيخِرُّون له سُجَّدًا، فيقول: ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة" (4) . __________ (1) المسند (3/ 383 - 384). (2) رقم (191). (3) (1/ 158 - 159). (4) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (52). من طريق أحمد بن محمد بن عمر ابن يونس اليمامي عن عبد الرزاق به مثله. وسنده ضعيف جدًّا، فيه أحمد بن محمد اليمامي أبو سهل الحنفي متروك =

(2/661)


قال الدَّارقطني: أنبأنا أحمد بن عيسى بن السكن (1) ، حدثنا أحمد ابن محمد بن عمر بن يونس، حدثنا محمد بن شُرَحْبيل الصنعاني، قال: حدثني ابن جُرَيج، عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يتجلَّى لنا ربُّنا عزَّ وجلَّ يوم القيامة ضاحكًا" (2) . وروى أبو قُرَّة عن مالك بن أنس عن زياد بن سعد، حدثنا أبو الزبير، عن جابر أنَّه سمع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا كان يوم القيامة جُمعت الأُمَم"، فذكر الحديث وفيه: "فيقول: أتعرفون اللَّه عزَّ وجلَّ إنْ رأيتموه؟ فيقولون: نعم، فيقول: وكيف تعرفونه ولم تَرَوْهُ؟ فيقولون: نعلمُ أنَّه لا عِدْلَ له، قال: فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى، فيخرُّون له سُجَّدًا" (3) . وقال ابن ماجه في "سننه" (4) : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي __________ = الحديث، وكان يكذب. تاريخ بغداد (5/ 269 - 270). (1) وقع في "د" ونسخة على حاشية "أ": "السكين"، وهو كذلك عند الدارقطني في الرؤية. (2) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (53). وسنده ضعيف جدًّا، فيه أحمد بن محمد اليمامي وهو متروك كما تقدم. (3) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (54). وهو حديثٌ غريب من حديث مالك، وفي سنده محمد بن يوسف الزبيدي أبو حُمَة، ذكره ابن حبان في الثقات (9/ 104) وقال: "ربما أخطأ وأغرب، كنيته أبو يوسف، وأبو حُمَة: لقب". (4) رقم (184). وأخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 274 - 275)، والآجُرِّي في الشريعة رقم (615)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (98)، وأبو نعيم =

(2/662)


الشوارِب، حدثنا أبو عاصم العبَّاداني عن الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بينا أهل الجنَّة في نعيمهم إذ سطعَ لهم نورٌ فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ جلَّ جلاله قد أشرفَ عليهم من فوقهم فقال: السلامُ عليكم يا أهل الجنَّة، وهو قول اللَّه عزَّ وجلَّ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) } [يس: 58] (1) فلا يلتفتون إلى شيءٍ ممَّا هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتَّى يحتجب عنهم وتبقى فيهم بركته ونوره" (2) . وقال حرب في "مسائله" (3) : حدثنا يحيى بن أبي حزم، حدثنا يحيى بن محمد أبو عاصم العباداني فذكره. وعند البيهقي في هذا الحديث سياق آخر رواهُ أيضًا من طريق العباداني، عن الفضل بن عيسى عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بينا أهل الجنَّة في مجلس لهم إذْ سطعَ لهم نورٌ على باب الجنَّة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الربُّ تبارك __________ = في صفة الجنَّة رقم (91)، والدَّارقطني في الرؤية (51) وغيرهم. والحديث ضعيفٌ جدًّا، مدارهُ على الفضل بن عيسى الرَّقاشي: متروك الحديث عن ابن المنكدر. والحديث تكلم فيه العقيلي وابن عدي وابن الجوزي وابن كثير والبوصيري. (1) عند ابن ماجه "قال: فينظر إليهم، وينظرون إليه". (2) زاد ابن ماجه "عليهم في ديارهم". (3) لم أجده في القطعة المطبوعة عام 1425 هـ.

(2/663)


وتعالى قد أشرف، فقال: يا أهل الجنَّة سلوني، قالوا: نسألك الرِّضى عنَّا قال: رِضَايَ أحلّكم داري، وأنالكم كرامتي، هذا أوانها فسلوني، قالوا: نسألك الزيادة، قال: فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر، أَزِمَّتها زمرُّد أخضر وياقوت أحمر، فجاؤوا عليها تضع حوافرها عند منتهى طرفها، فيأمر اللَّه عزَّ وجلَّ بأشجار عليها الثمار فتجيء جواري الحور العين وهنَّ يقلنَ: نحن الناعمات فلا نبأس، ونحنُ الخالدات فلا نموتُ، أزواجُ قومٍ مؤمنين كرام، ويأمر اللَّهُ عزَّ وجلَّ بكثبان من مسكٍ أبيض أذفر فيثير عليهم ريحًا يقال لها: المثيرة، حتَّى تنتهي بهم إلى جنَّة عدنٍ وهي قَصَبَة الجنَّة، فتقول الملائكة: يا ربنا قد جاء القومُ، فيقول: مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطَّائعين، قال: فيكشفُ لهم الحجاب فينظرون إلى اللَّه تبارك وتعالى فيتمتعون بنور الرحمن حتَّى لا يبصر بعضهم بعضًا، ثمَّ يقول: أرجعوهم إلى القصور بالتحف فيرجعون، وقد أبصرَ بعضهم بعضًا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فذلك قوله تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) } [فصلت: 32]. رواهُ في كتاب "البعث والنشور" (1) ، وفي كتاب "الرؤية" (2) قال: وقد مضى في هذا الكتاب، وفي كتاب "الرؤية" ما يؤكِّد هذا الخبر. وقال الدَّارقطني: أنبأنا الحسن بن إسماعيل أنبأنا أبو الحسن __________ (1) رقم (493). (2) أي للبيهقي، وهذا الكتاب ذكره الذهبي في السير (18/ 166)، وحاجي خليفة في كشف الظنون ص (1421)، وراجع تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (6/ 231).

(2/664)


علي بن عبدة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي ذئب، عن محمد ابن المنكدر، عن جابر قال: قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يتجلَّى للنَّاس عامَّة ويتجلَّى لأبي بكر خاصَّة" (1). فصل وأمَّا حديث أبي أمامة: فقال ابن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن عطاء الخرساني عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي (2) عن أبي أُمامة قال: خطبنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا فكان أكثر خطبته ذكر الدجال يحذرناه، ويحدثنا عنه حتى فرغ من خطبته، فكان فيما قال لنا يومئذ: "إن اللَّه عز وجل لم يبعث نبيًّا إلا حذَّره أُمَّته، وإني آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين أظهركم فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج فيكم بعدي فكل امرئ حجيج نفسه، واللَّه خليفتي على كل مسلم، إنه يخرج من خَلَّة بين العراق والشام عاث يمينًا، وعاث شمالًا، يا عباد اللَّه اثبتوا وأنه يبدأ __________ (1) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (48)، وابن عدي في الكامل (5/ 216)، وابن حبان في المجروحين (2/ 115) وغيرهم. وهو حديثٌ موضوع، فيه علي بن عبدة المكتب: كان وضَّاعًا. قال ابن عدي: "وهذا حديثٌ باطل بهذا الإسناد .. . . ". (2) قوله: "عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي" كذا في جميع النسخ، وصوابه "حريث ابن عمرو الحضرمي" كما في مصادر التخريج، وقد تصحَّف "حريث" عند الحاكم والدَّارقطني وابن خزيمة إلى "حديث". وحريث بن عمرو يروي عن معاذ، فيه جهالة. راجع الجرح والتعديل (3/ 263)، والثقات لابن حبان (4/ 174).

(2/665)


فيقول: أنا نبيٌّ -ولا نبيَّ بعدي- ثم يثني فيقول: أنا ربكم - ولن تروا ربكم حتى تموتوا - وأنه مكتوب بين عينيه "كافر" يقرؤه كل مؤمن. فمن لقيه منكم فليتفل في وجهه، وليقرأ بفواتح سورة أصحاب الكهف، وأنه يُسلَّط على نفسٍ من بني آدم فيقتلها، ثم يحييها، وأنه لا يعدو ذلك ولا يُسلَّط على نفس غيرها، وإن من فتنته أنَّ معه جنَّةً ونارًا، فنارهُ جنَّة، وجنته نار، فمن ابتلي بنارِهِ فليغمض عينيه، وليستغث باللَّه تكون بردًا وسلامًا كما كانت النَّارُ بردًا وسلامًا على إبراهيم، وإنَّ أيامه أربعون يومًا: يومًا كسنة، ويومًا كشهر، ويومًا كجمعة، ويومًا كالأيام، وآخر أيامه كالسراب، يصبح الرجل عند باب المدينة فيمسي قبل أنْ يبلغ بابها الآخر، قالوا: كيف نُصَلِّي يا رسول اللَّه في تلك الأيام؟ قال: تقدرون فيها كما تقدرون في الأيام الطِّوال" (1) . __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 171 - 172) رقم (7644)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (270)، والحاكم في المستدرك (4/ 580) رقم (8620)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (68). قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاهُ بهذه السياقة". - ورواهُ إسماعيل بن رافع عن السيباني عن عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي عن أبي أُمامة فذكره. أخرجه ابن ماجه (4077) وغيره، وانظر لزامًا النكت الظراف (4/ 175). - ورواهُ ضمرة بن ربيعة عن السَّيباني عن عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي عن أبي أُمامة فذكره. أخرجه أبو داود (4322)، والطبراني في الكبير (8/ 172) رقم (7645)، والدَّارقطني في الرؤية (67) وغيرهم. =

(2/666)


ورواه الدَّارقطني عن ابن صاعد عن أحمد بن الفرج عن ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو: به مختصرًا. فصل وأمَّا حديث زيد بن ثابت: فقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة قال: حدثني أبو بكر قال: حدثني ضمرة بن حبيب عن [أبي الدرداء] (1) عن زيد بن ثابت أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- علَّمه دعاءً، وأمرهُ أنْ يتعاهد به أهله كلَّ يومٍ، قال: قل حين تصبح: لبيكَ اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، ومنك وإليك، اللهم وما قلتُ من قولٍ أو نذرتُ من نذرٍ، أو حلفتُ من حلف، فمشيئتك بين يديه، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حولَ ولا قوَّة إلَّا بكَ وأنت (2) على كلَّ شيءٍ قديرٍ، الَّلهم وما صليتُ من صلاةٍ فعلى مَنْ صلَّيت، وما لعنتُ من لعنةٍ فعلى من لعنتَ؛ أنت وليِّي في الدنيا والآخرة، توفني مسلمًا، وألحقني بالصَّالحين، أسألُك الَّلهم الرِّضى بعد القضاء، وبرْدَ العيشِ بعد الموتِ، ولذَّةَ النَّظَرِ إلى وجهك، والشوقِ إلى لقائك، من غير ضرَّاءَ __________ = وحديث ضمرة وإسماعيل أصح من حديث عطاء الخراساني، وفي سنده عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي لم يرو عنه غير السيباني، وقد وثَّقه العجلي والفسوي وابن حبان، لكن لا يعرف له سماع من أبي أُمامة. وفي الحديث ألفاظ غريبة كقوله "فإنَّهُ يبتدئ فيقول: أنا نبيٌ. . . ". وهذا لم يأت في حديث صحيح. (1) ما بين المعكوفتين من المسند، وليس في جميع النسخ، وليس في رواية الحاكم "عن أبي الدرداء". (2) في "ب، ج، هـ": "إنَّك".

(2/667)


مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مضلَّلة، أعوذ بك الَّلهم أنْ أَظْلِم أو أُظلَم، أو أعتدي أو يُعْتَدَى عليَّ، أو كَسْبَ خطيئة محبطه أو ذنبًا لا يغفر، الَّلهم فاطرَ السموات والأرضِ عالمَ الغيب والشهادة ذا الجلالِ والإكرام، فإنِّي أعهدُ إليك في هذه الحياة الدنيا، وأُشهدك وكفى بك شهيدًا. إنِّي أشهدُ أنْ لا إله أنتَ وحدك لا شريك لك، لك الملك، ولك الحمد، وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور، وأشهد أنك إن تَكِلْني إلى نفسي تكلْني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك، فأغفر لي ذنبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتُبْ عليَّ إنك أنت التواب الرحيم" (1) . __________ (1) أخرجه أحمد في المسند (5/ 191)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (7)، والطبراني في الكبير (5/ 119 - 120) رقم (4803)، وفي الدعاء رقم (321) والبيهقي في الدعوات الكبير رقم (43) وغيرهم. - ورواهُ عيسى بن يونس عن أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة عن زيد بن ثابت. أخرجه الحاكم (1/ 697 - 698) رقم (1900)، والبيهقي في الدعوات رقم (42). - ورواهُ معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن زيد بن ثابت. أخرجه الطبراني في الكبير (5/ 157) رقم (4932). قال الحاكمُ: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". والإسناد ضعيف، للانقطاع بين ضمرة وزيد بن ثابت، وأبو بكر هو ابن أبي مريم ضعيف. وقال الذهبي معقِّبًا على الحاكم: "قلت أبو بكر ضعيف، فأين الصحة؟! "، وضعفه أيضًا الهيثمي في المجمع (10/ 113).

(2/668)


رواهُ الحاكمُ في "صحيحه". فصل وأمَّا حديث عمَّار بن ياسر: فقال الإمام أحمد: حدثا إسحاق الأزرق عن شَرِيك عن أبي هاشم عن أبي مِجْلَز قال: صلَّى بنا عمَّار صلاةً فأوجزَ فيها، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أُتِمُّ الركوعَ والسجودَ؟ قالوا: بلى، قال: أما إنِّي قد دعوتُ فيها بدعاء، كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعو به: "الَّلهم بعلمك الغيبَ، وبقدرتك على الخلقِ، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحقِّ في الغضب والرِّضى، والقصدَ في الفقر والغنى، ولذَّة النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك في غيرِ ضرَّاءَ مضرَّةٍ، ولا فتنةٍ مضلَّةٍ، الَّلهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين" (1). __________ (1) أخرجه أحمد (4/ 264). من طريق إسحاق الأزرق وأسود بن عامر كلاهما عن شريك به. - ورواهُ جماعة عن شريك عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن عمَّار فذكره. أخرجه النسائي رقم (1306)، وعبد اللَّه في السنة رقم (280)، والبزار في مسنده رقم (1392) وغيرهم. وله طريق آخر عن عمار. رواهُ حماد بن زيد وحماد بن سلمة ومحمد بن فضيل كلهم عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عمار فذكره. أخرجه النسائي (1305)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (13)، وابن =

(2/669)


وأخرجه ابن حبان والحاكمُ في "صحيحيهما". فصل (1) وأمَّا حديثُ عائشة رضي اللَّهُ عنها: ففي "صحيح الحاكم" من حديث الزهري عن عروة عنها قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لجابر: "يا جابر، ألا أبشِّرك؟ قال: بلى بشَّركَ اللَّهُ بخيرٍ، قال: شعرت أنَّ اللَّه أحيا أباك، فأقعده بين يديه، فقال: تمنَّ عليَّ عبدي ما شئت أُعْطِكه، قال: يا ربِّ، ما عبدتك حقَّ عبادتك، أتمنَّى عليك أنْ تردني إلى الدنيا، فأقاتل مع نبيك، فأقتل فيك مرَّةً أخرى، قال: إنَّه قد سلفَ منَّي أنَّك إليها لا ترجع" (2). وهو في "المسند" (3) من حديث جابر، وفي مسنده أدخله. وللترمذي فيه سياق أتم من هذا عن جابر قال: "لمَّا قُتِلَ عبد اللَّه بن __________ = حبان رقم (1971)، والحاكم (1/ 705 - 706) رقم (1923)، وأبو يعلى رقم (1624)، والبيهقي في الدعوات (220) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان. (1) من "ب، د، هـ"، ونسخة على حاشية (أ). (2) المستدرك (3/ 223 - 224) رقم (4911)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاهُ". وتعقَّبه الذهبي بقوله: "فيض: كذَّاب". (3) (3/ 361) من طريق عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن جابر فذكر نحوه. وأخرجه الحميدي في مسنده رقم (1265) وأبو يعلى في مسنده (4/ 6) رقم (2002) وغيرهما. وفيه ابن عقيل في حفظه مقال.

(2/670)


عمرو بن حرام يوم أُحُدٍ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا جابر ألا أخبرك ما قال اللَّه عزَّ وجلَّ لأبيك؟ " قال بلى، قال: "ما كلَّم اللَّه عزَّ وجلَّ أحدًا إلَّا من وراء حجاب، وكلَّم أباك كفاحًا، فقال: يا عبدي، تمنَّ عليَّ أُعْطِكَ"، قال: يا ربِّ تُحْيِيْني، فَأُقْتَل فيك ثانية، قال: "إنَّه سبق منِّي أنَّهم إليها لا يُرجعون، قال: يا ربِّ، فأبلغ من ورائي، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ هذه الآية {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية [آل عمران: 169] " (1)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". قلتُ: وإسنادُهُ صحيح، ورواهُ الحاكمُ في "صحيحه". فصل وأمَّا حديث عبد اللَّه بن عمر: فقال الترمذي: حدثنا عَبْد بن حُمَيْد (2) عن شَبَابة عن إسرائيل عن ثوير بن أبي فاخِتَة. وقال الطبراني: حدثنا أسد بن موسى، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم، عن عبد الملك بن أبجر، عن ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (3010)، وابن ماجه (2800)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (599) وابن حبان في صحيحه رقم (7022)، والحاكم في المستدرك (3/ 224 - 225) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وغيرهم. والحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة والحاكم والمؤلف. (2) في "ج": "جميل" وهو خطأ.

(2/671)


أزواجه وسرره وخدمه، وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه اللَّه تبارك وتعالى كل يوم مرتين" (1) . قال الترمذي: "ورُوِي هذا الحديث من غير وجهٍ: عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعًا. ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفًا. وروى الأشجعي عبيد اللَّه، عن الثوري، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر قوله، ولم يرفعه. حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر نحوه، ولم يرفعه". قلت: ورواه الحسن بن عرفة، عن شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعًا، وزاد فيه: ثم قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 22 - 23] (2) وقال سعيد بن هشيم بن بشير عن أبيه، عن كوثر (3) بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر-رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين إلى اللَّه تبارك وتعالى" (4) . __________ (1) تقدم الكلام عليه في ص (323 - 324). (2) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (171). وسنده ضعيف مداره على ثوير وهو ضعيف. (3) في "أ، ب، ج، هـ": "كُريز"، وفي "د": "كدز"، وهو تحريف، والتصويب من الدَّارقطني. (4) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (175). وهو حديثٌ باطل فيه: كوثر بن حكيم ضعَّفه بعضهم، وتركه بعضهم، وقال الإمام أحمد: ليس بشيء، وهذا الحديث معدودٌ من منكراته. =

(2/672)


ورواه الدارقطني عن جماعة، عن أحمد بن يحيى بن حيان الرقي، عن إبراهيم بن خُرَّزاد عنه. وقال الدارقطني: حدثنا أحمد بن سليمان، أخبرنا محمد بن يونس، حدثنا عبد الحميد بن صالح، ثنا أبو شهاب الحنَّاط، عن خالد ابن دينار، عن حماد بن جعفر، عن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ألا أخبركم بأسفل أهل الجنة، قالوا: بلى يا رسول اللَّه -فذكر الحديث إلى أن قال-: حتى إذا بلغ النعيم منهم كل مبلغ وظنُّوا أن لا نعيم أفضل منه أشرف الرب تبارك وتعالى عليهم، فينظرون إلى وجه اللَّه عز وجل، فيقول: يا أهل الجنة هلِّلُوني وكبِّروني وسبَّحوني بما كنتم تهللوني وتكبِّروني وتسبِّحوني في دار الدنيا، فيتجاوبون بتهليل الرحمن، فيقول تبارك وتعالى لداود: يا داود قم فمجِّدْني، فيقوم داود فيمجد ربه عز وجل" (1) . __________ = انظر: الميزان للذهبي (5/ 505)، واللسان (4/ 590). (1) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية (176). وفيه محمد بن يونس الكديمي: وهو متروك، وقد توبع عليه. تابعه محمد بن عبد اللَّه "أو عبيد اللَّه" بن موسى القرشي ثنا عبد الحميد بن صالح به مطوَّلًا. أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (343). ومحمد القرشي هذا لم أقف عليه. وفي الإسناد حماد بن جعفر يحتمل أنَّه العبدي البصري: وثقة ابن معين، وقال ابن عدي: "منكر الحديث". وضعفه الأزدي، وقال ابن حجر: لين. انظر: تهذيب الكمال (7/ 230). ويحتمل أنَّه آخر: لم أقف عليه، وأيضًا في الحديث انقطاع بين حماد =

(2/673)


وقال عثمان بن سعيد الدارمي في "رده على بشر المريسي" (1): حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي شهاب الحناط (2)، عن خالد بن دينار، عن حماد بن جعفر، عن ابن عمر رفعه إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أهل الجنة إذا بلغ النعيمُ منهم كلَّ مَبْلَغ وظنوا أن لا نعيم أفضل منه تجلَّى لهم الرب تبارك وتعالى فنظروا إلى وجه الرَّحمن، فنسوا كلَّ نعيم عاينوهُ حين نظروا إلى وجه الرَّحمن" (3). فصل وأمَّا حديث عُمَارة بن رُوَيْبة: فقال ابن بطة في "الإبانة" (4): حدثنا عبد الغافر (5) بن سلامة الحمصي، حدثنا محمد بن عوف بن سفيان الطائي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة عن أبيه قال: نظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى القمر ليلةَ البدرِ __________ = بن جعفر وابن عمر واللَّه أعلم. (1) رقم (229). (2) في "ب، د": "الخياط"، وفي "هـ": "الخباط"، وكلاهما تصحيف. (3) وأخرجه أيضًا الدَّارمي في الردِّ على الجهمية رقم (189)، وعبد بن حميد فى مسنده (849) المنتخب. وسنده ضعيف فيه العلل المتقدمة الانقطاع وغيره. (4) هو ضمن القطعة المفقودة من الإبانة الجزء الخامس عشر، وقد نشر مُختَصَره: "المختار من الإبانة" وليس فيه هذا الحديث. (5) في "هـ"، ونسخةٍ على حاشية "أ": "عبد الغفار" هو خطأ. انظر: تاريخ بغداد للخطيب (11/ 137 - 139).

(2/674)


فقال: "إنَّكم سترونَ ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضارُّون في رؤيته، فإنْ استطعتم ألَّا تغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس، وقبل (1) غروبها فافعلوا" (2) . قال ابن بطة: وأخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد عن أبي بكر (3) أحمد بن هارون، حدثنا عبد الرزاق بن منصور، حدثنا المغيرة حدثنا المسعودي عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة عن أبيه قال: نظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى القمرِ ليلة البدرِ فقال: "إنَّكم سترون اللَّه ربكم تبارك وتعالى، كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أنْ لا تُغْلَبوا على ركعتين قبل طلوع الشمس، ولا ركعتين بعد غروبها، فافعلوا". __________ (1) في "ب، هـ، د" ونسخةٍ على حاشية "أ": "وصلاة قبل". (2) إسناده ضعيف. إسماعيل بن عيَّاش ضعيف في روايته عن غير أهل بلدته، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه هو المسعودي وكان قد اختلط، وقد توبع إسماعيل. - تابعه: المغيرة بن عبد اللَّه الجرجرائي عن المسعودي به بالَّلفظ الآخر الَّذي نكره المؤلِّف. أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (152)، وابن بطة كما ذكر المؤلِّف. والمغيرة هذا لم أقف عليه. فلا يُدرى هل سمع من المسعودي هو وابن عياش قبل اختلاط المسعودي أم بعده؟. انظر: الكواكب النيِّرات لابن الكيال ص (282 - 298). تنبيه: ليس عند الدَّارقطني "عن أبيه"، فلا أدري أسقطت من الطابع أم عنده الرواية مرسلة. (3) في "هـ"، ونسخةٍ على حاشية "أ" "بكر بن".

(2/675)


فصل وأمَّا حديث سلمان الفارسي: فقال أبو معاوية: حدثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي قال: يأتون النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيقولون: يا نبيَّ اللَّه إنَّ اللَّهَ فتح بك، وختم بك، وغفر لك، قُمْ فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: نعم صاحبكم فيخرج يجوسُ النَّاس حتَّى ينتهي إلى باب الجنَّة، فيأخذ بحلقة الباب فيقرع فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد قال: فيفتح له، فيجيء حتَّى يقوم بين يدي اللَّه فيستأذنُ في السجود فيؤذن له" (1) الحديث. فصل وأمَّا حديث حُذيفة بن اليمان: فقال ابن بطة: أخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد عن أبي بكر أحمد بن هارون، حدثنا يزيد بن جمهور، حدثنا الحسنُ بن يحيى بن كثير العنبري، حدثنا أبي، عن إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مطيَّب عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة بن اليمان. وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر وأحمد بن عمرو بن عبيدة __________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 312) رقم (31666) مطوَّلًا، وابن خزيمة في التوحيد رقم (450)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (813)، والطبراني في الكبير (6/ 247 - 248) رقم (6117) وغيرهم. وسنده صحيح.

(2/676)


العصفري، قالا: حدثنا يحيى بن كثير العنبري (1) ، حدثنا إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مطيب عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتاني جبريلُ فإذا في كفِّهِ مرآة كأصفى ما يكون المرايا وأحسنها، وإذا في وسطها نكته سوداء، قال: قلت: يا جبريل، ما هذا؟ قال هذه الدنيا، صفاؤها وحسنها، قال قلت: وما هذه اللمعة في وسطها؟ قال هذه الجمعة، قال قلت: وما الجمعة؟ قال: يوم من أيام ربك عظيم، وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الآخرة. أما شرفه وفضله في الدنيا: فإنَّ اللَّه تبارك وتعالى جمع فيه أمر الخلق، وأما ما يرجى فيه: فإنَّ فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم أو أمة مسلمة يسألانِ اللَّه فيها خيرًا إلا أعطاهما إياه. وأما شرفه وفضله واسمه في الآخرة: فإن اللَّه تبارك وتعالى إذا صَيَّر أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وجرت عليهم أيامها وساعاتها ليس بها ليل ولا نهار إلا قد علم اللَّه مقدار ذلك وساعاته، فإذا كان يوم الجمعة في الحين الذي يبرز أو يخرج فيه أهل الجنة إلى جمعتهم نادى مناد: يا أهل الجنة، اخرجوا إلى دار المزيد، لا يعلم سعته وعرضه وطوله إلا اللَّه عز وجل، في كثبان من المسك، قال: فتخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور، ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت، قال: فإذا وضعت لهم، وأخذ القوم مجالسهم بعث اللَّه تبارك وتعالى عليهم ريحًا تدعى المثيرة، تثير عليهم أثابير المسك الأبيض فتدخل من تحت ثيابهم، وتخرجه في وجوههم وأشعارهم، فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك __________ (1) ليس في "ب، ج، د، هـ".

(2/677)


المسك من امرأة أحدكم لو دُفِعَ إليها كل طيب على وجه الأرض لكانت تلك الريح أعْلَمَ كيف تصنع بذلك المسك من تلك المرأة لو دُفِعَ إليها ذلك الطيب بإذن اللَّه، قال: ثم يوحي اللَّه سبحانه إلى حملة العرش، فيوضع بين ظهراني الجنة وبينه وبينهم الحجب، فيكون أول ما يسمعون منه أن يقول: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني، وصدقوا رسلي، واتبعوا أمري، فسلوني فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمه واحدة: رب رضينا عنك فارض عنا، قال: فيرجع اللَّه تعالى في قولهم (1) أن يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم ما أسكنتكم جنتي، فسلوني فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رضينا عنك فارض عنا، قال: فيرجع اللَّه عز وجل في قولهم أن يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي، فهذا يوم المزيد فسلوني، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب وجهك، رب وجهك أرنا ننظر إليه، قال: فيكشف اللَّه تبارك وتعالى تلك الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نورهِ شيء لولا أنه قضى عليهم أن لا يحترقوا لاحترقوا مما غشيهم من نوره، قال: ثم يقال: ارجعوا إلى منازلكم، قال: فيرجعون إلى منازلهم وقد خَفُوا على أزواجهم، وخَفِيْنَ عليهم، مما غشيهم من نوره تبارك وتعالى، فإذا صاروا إلى منازلهم ترادّ النور وأمكن، وتراد وأمكن حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها، قال: فيقول لهم أزواجهم: لقد خرجتم من عندنا على صورة ورجعتم على غيرها؟ قال فيقولون: ذلك بأن اللَّه __________ (1) يعني: في قوله لهم.

(2/678)


تبارك وتعالى تجلَّى لنا، فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم، قال: فَلَهُم في كل سبعة أيام الضِّعف على ما كانوا فيه، قال: وذلك قوله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17] (1) . وقال عبد الرحمن بن مهدي: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم بن يزيد السعدي، عن حذيفة في قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: "النظر إلى وجه اللَّه عز وجل" (2) . قال الحاكم: "وتفسير الصحابي عندنا في حُكمِ المرفوع" (3) . __________ (1) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" (3/ 32 - 36) رقم (26)، والبزار في مسنده (7/ 288 - 290) رقم (2881)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (338). قال علي بن المديني: "هذا حديث غريب". قلت: تفرَّد القاسم بن مطيَّب به عن الأعمش يدل على نكارته. والقاسم بن مطيَّب وثَّقه الدَّارقطني، لكن قال ابن حبان: "يخطئ عمَّن يروي على قلَّة روايته فاستحقَّ الترك، لمَّا كَثُرَ ذلك منه". المجروحين (2/ 213)، والميزان (5/ 461). (2) تقدم ص (613). (3) انظر: المستدرك (2/ 375) تحت رقم (3317)، ومعرفة علوم الحديث ص (20). ولفظه في المستدرك ". . . فإنَّ الصحابي إذا فسَّر التلاوة، فهو مسند عند الشيخين". وراجع تعليق الحافظ ابن حجر على كلام الحاكم وابن الصلاح في النكت على ابن الصلاح" (2/ 530 - 533).

(2/679)


فصل وأما حديث ابن عباس: فروى ابن خزيمة من حديث حماد بن سلمة، عن ابن جدعان، عن أبي نضرة قال: خطبنا ابن عباس فقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من نبي إلا له دعوة تعجلها في الدنيا، وإنِّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فآتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب، فأقرع الباب فيقال: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فآتي ربي وهو على كرسيه، أو قال: على سريره، فيتجلى لي ربي، فأخِرُّ ساجدًا" (1). ورواه ابن عيينة، عن ابن جدعان فقال: عن أبي سعيد بدل ابن عباس. وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا عمِّي محمد بن الأشعث، حدثنا ابن [جسر] (2)، قال حدثني أبي عن الحسن عن ابن عباس رضي اللَّه __________ (1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 281 - 282) مطوَّلًا، والطيالسي في مسنده (2834) مطوَّلًا، وعبد بن حميد في مسنده (694 - المنتخب) والطبراني (12777) وغيرهم. من طريق حماد بن سلمة به. - ورواهُ سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري فذكره. أخرجه الترمذي برقم (3148)، وقال: "هذا حديث حسن". ومداره على ابن جدعان وفي حفظه كلام، وقد ذكر في متنه زيادة غريبة، وهي قول عيسى في حديث الشفاعة: "إنِّي اتُّخِذْت إلهًا من دون اللَّه .. . . "، والَّذي في الصحيح لم يذكر عيسى بن مريم ذنبًا. (2) ما بين المعكوفتين من "الإبانة"، ووقع في النسخ: "جبير"، وكذا ما بعده.

(2/680)


عنهما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل جمعة في رمال الكافور، وأقربهم منه مجلسًا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوًّا" (1). فصل وأما حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: فقال الصغاني: حدثنا صدقة أبو عمرو المقعد قال: قرأت على محمد بن إسحاق (2)، حدثني أُميَّة بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، عن أبيه عبد اللَّه بن عمرو قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو بن العاص يحدث مروان بن الحكم -وهو أمير المدينة- قال: خلق اللَّه الملائكة لعبادته أصنافًا: فإن منهم الملائكة قيامًا صافِّيْن من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعًا خشوعًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجودًا منذ خلقهم (3) إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة وتجلى لهم تعالى، ونظروا إلى وجهه الكريم قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" (4). __________ (1) أخرجه الآجري في الشريعة رقم (611)، وابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (30). والحديث سنده ضعيف جدًّا، لحال ابن جسر وهو جعفر، وأبيه جسر بن فرقد، وقد تقدَّم حالهما ص (569). ومحمد بن الأشعث فيه جهالة، والحسن لم يسمع من ابن عباس. (2) وقع في "أ، ج": "الحسن" وهو خطأ. (3) من قوله "إلى يوم القيامة" إلى "خلقهم" ليس في "هـ" وجاء بدل هذه الجملة "اللَّه"، ووقع في نسخةٍ على حاشية "أ": "منذ يوم خلقهم". (4) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (133) من طريق الصغاني به. =

(2/681)


فصل وأمَّا حديث أُبيِّ بن كعب: فقال الدارقطني: حدثنا عبد الصمد بن علي، حدثنا محمد بن زكريا بن دينار، قال: حدثني قحطبة بن علاقة حدثنا أبو خلدة عن أبي العالية عن أُبي بن كعب عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: "النظرُ إلى وجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ" (1). فصل وأمَّا حديثُ كعب بن عُجْرة: فقال محمد بن حميد: حدثنا إبراهيم ابن المختار عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن كعب بن عجرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: __________ = - ورواهُ هارون بن أبي عيسى الشامي "كاتب محمد بن إسحاق" حدثني محمد بن إسحاق به مختصرًا. أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (2/ 8). وسنده لا بأس به. (1) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (183). - ورواهُ العباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن غدانة به مثله. أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (849). - ورواهُ زهير عمَّن سمع أبا العالية به مثله. أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 107)، واللالكائي برقم (780). وفي ثبوت الإسناد إلى قحطبة نظر، فإنَّ العباس بن الفضل لم أقف عليه، ومحمد بن زكريا: قال الدارقطني: يضع الحديث. انظر: الضعفاء والمتروكين رقم (483). وأمَّا الإسناد الآخر: ففيه إبهامُ مَنْ سمع أبا العالية. واللَّه أعلم.

(2/682)


"الزيادةُ؛ النظرُ إلى وجه ربِّهم تبارك وتعالى" (1). فصل وأمَّا حديث فَضَالة بن عُبيد: فقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا محمد بن المهاجر، عن ابن حلبس، عن أُمِّ (2) الدرداء أنَّ فضالة يعني ابن عبيد كان يقول: الَّلهم إنِّي أسألك الرِّضا بعد القضاء، وبَرْدَ العيشِ بعد الموتِ، ولذَّة النَّظرِ إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائِكَ، في غير ضرَّاءَ مُضرَّة، ولا فتنةٍ مضلَّة (3). فصل وأمَّا حديثُ عُبَادة بن الصامت: ففي "مسند أحمد" (4) من حديث بَقِيَّة، حدثنا بَحْير بن سعد عن خالد بن مَعْدان، عن عمرو بن الأسود عن جُنَادة بن أبي أُمَيَّة عن عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "قد حدثتكم عن الدَّجَّال حتَّى خشيتُ أنْ لا تعقلوا، إنَّ مَسِيحَ الدَّجال رَجُلٌ قصيرٌ أفْحَج جَعْدٌ أعورُ مطموسُ العين ليست بناتئةٍ ولا جحْراء، فإن أُلْبِسَ عليكم فاعلموا أنَّ ربَّكم ليس __________ (1) تقدم ص (611). (2) في جميع النسخ "أبي"، والتصويب من مصادر التخريج. (3) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (207)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (427)، والطبراني في الكبير (18/ 319) رقم (825)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (847) وغيرهم. وسنده حسن. (4) (5/ 324).

(2/683)


بأعور، وأنَّكم لن تروا ربكم حتَّى تموتوا" (1). فصل وأمَّا حديث الرجل من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: فقال الصَّغاني: حدثنا روح بن عبادة حدثنا عباد بن منصور قال: سمعتُ عدي بن أرطاة يخطب على المنبر بالمدائن، فجعل يَعِظُ حتَّى بكى وأبكانا، ثمَّ قال: كونوا كرجلٍ قال لابنه وهو يَعِظُهُ: يا بُني أوصيك أنْ لا تصلي صلاة إلَّا ظننت أنَّكَ لا تصلي بعدها غيرها حتَّى تموت، وتعالَ بَنِيَّ نعملُ عَمَل رجلين كأنَّهما قد وقفا على النَّارِ، ثمَّ سألا الكَرَّة، ولقد سمعت فلانًا -نسي عَبَّادٌ اسمَه- ما بيني وبين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غيرُه فقال: إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ للَّه ملائكةً ترعُدُ فرائصُهم من مخافته، ما منهم مَلكٌ تقطرُ دمعته من عينه إلَّا وقعت مَلَكًا (2) يسبح اللَّه، قال: وملائكة سجودٌ منذ خلق اللَّه السموات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفٌ لم ينصرفوا عن مصافِّهم، ولا ينصرفون إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة وتجلَّى لهم ربُّهم، __________ (1) وأخرجه أبو داود (4320)، وعبد اللَّه بن أحمد في السنة (1007)، وابن أبي عاصم في السنة (428)، والدارمي في الرد على الجهمية (182)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد (848)، والبزار في مسنده (2681). وظاهر سنده جيد، وفيه عِلَّة ذكرها البزار. قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبادة إلَّا من حديث بحير ابن سعد، وقد رواهُ غير واحدٍ عن جنادة بن أبي أُمية عن بعض أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (2) كذا في النسخ، والنَّصْبُ على نزع الخافض، والتقدير: "على مَلَكٍ".

(2/684)


فنظروا إليه قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك" (1). فصل وهَاكَ بعض ما قاله أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والتابعون وأئمة الإسلام بعدهم. قول أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه: قال أبو إسحاق: عن عامرٍ بن سعد بَعْدَهم. "قرأ أبو بكر الصديق: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فقالوا: ما الزِّيادة يا خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: النَّظرُ إلى وجه الرَّبِّ تبارك وتعالى" (2). قول علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن ميسرة الهمْداني، حدثنا صالح بن أبي خالد العنبري، عن أبي الأحوص، عن __________ (1) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (34)، والخطيب في تاريخه (12/ 303)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (40/ 60 و 61). - ورواهُ محمد بن الحسين البرجلاني عن روح بن عبادة به نحوه. أخرجه ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء رقم (105). - ورواهُ النضر بن شميل عن عباد بن منصور به نحوه. أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة رقم (260)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (515). والحديث مداره على عبَّاد بن منصور الناجي وهو ليِّن الحديث، وعنده منكرات. تهذيب الكمال (14/ 158)، وعليه فالإسناد ليِّن. (2) تقدم الكلام عليه ص (613).

(2/685)


أبي إسحاق الهمْداني، عن عُمَارة بن عبدٍ (1) ، قال: سمعتُ عليًّا يقول: "من تمامِ النِّعمة دخول الجنَّة، والنظرُ إلى وجه اللَّه تبارك وتعالى في جنته" (2) . قول حذيفة بن اليمان: وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم بن يزيد عن حذيفة: "الزيادة: النظرُ إلى وجه اللَّهِ تبارك وتعالى" (3) . قولُ عبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عباس: ذكر أبو عوانة عن هلال عن عبد اللَّه بن عُكَيم قال: سمعتُ عبد اللَّه ابن مسعود يقول: في هذا المسجد - مسجد الكوفة - يبدأ باليمين قبل أنْ يُحدِّثنا فقال: "واللَّه ما منكم من إنسانٍ إلَّا إنَّ ربه سيخلو به يوم __________ (1) وقع في "أ، ب، هـ": "عبيد" وفي "د" ونسخةٍ على حاشية "أ" "عبيدة" والتصويب من التاريخ الكبير (6/ 501)، وتهذيب الكمال (21/ 252 - 253). (2) ذكره الَّلالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة رقم (859) عن ابن أبي حاتم. وفي سنده عمارة بن عبدٍ الكوفي سمع من علي بن أبي طالب، تفرَّد بالرواية عنه أبو إسحاق السبيعي. قال أبو حاتم الرَّازي: "شيخ مجهول، لا يحتج بحديثه"، وقال الإمام أحمد: "مستقيم الحديث، لا يروي عنه غير أبي إسحاق". انظر: تهذيب الكمال (21/ 253). قلتُ: صالح بن أبي خالد: لم أقف عليه. (3) تقدم الكلام عليه ص (613).

(2/686)


القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدرِ. قال فيقول: ما غرَّك بي يا ابن آدم ثلاثَ مرَّاتٍ، ماذا أجبتَ المرسلينَ ثلاثًا، كيف عملتَ فيما عَلِمْتَ" (1) . وقال ابن أبي داود: أخبرنا أحمد بن الأزهر حدثنا إبراهيم بن الحكم حدثنا أبي عن عكرمة قال: قيل لابن عباس: كل من دخل الجنَّة يرى اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ قال: نعم" (2) . وقال أسباط بن نصر: عن إسماعيل السُّدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وعن مُرَّة الهمداني عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه: "الزيادة: النظرُ إلى وجه اللَّه" (3) . قولُ معاذ بن جبل: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا إسحاق بن أحمد الخراز حدثنا إسحاق بن سليمان الرَّازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي (4) حمزة قال: كنتُ جالسًا عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال __________ (1) أخرجه الطبراني في الكبير (9/ 204) رقم (8899)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (860)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 131). - ورواهُ شريك القاضي عن هلال الوزان به نحوه. أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (38)، وعبد اللَّه في السنة رقم (474، 485)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (217) وغيرهم. وهو أثرٌ ثابت صحيح. (2) تقدم ص (624). (3) تقدم ص (615). (4) في "ب، د" "بن أبي" هو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (29/ 237 - 238).

(2/687)


له أبو عفيفٍ، فقال له شقيق بن سَلَمَة: يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ ابن جبل؟ قال: بلى سمعته يقول: "يُحشرُ النَّاسُ يوم القيامة في صعيدٍ واحدٍ، فينادى أين المُتَّقُون، فيقومون في كَنَف من الرَّحمن لا يحتجب اللَّه منهم، ولا يستتر، قلتُ: من المتقون؟ قال: قوم اتقَّوا الشركَ، وعبادة الأوثان، وأخلصوا للَّه بالعبادة فيمُرُّون إلى الجنَّة" (1) . قول أبي هريرة: قال ابن وهب: أخبرنا ابن لهيعة عن أبي النضر أنَّ أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- كان يقول: "لن تروا ربكم حتَّى تذوقوا الموت" (2) . قول عبد اللَّه بن عمر: قال حسين الجعفي، عن عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما قال: "إنَّ أدنى أهلِ الجنَّة منزلةً من ينظرُ إلى __________ (1) ذكره الَّلالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة رقم (864). وسنده ضعيف، فيه ميمون أبو حمزة الأعور القصَّاب الكوفي: ضعيف الحديث، وبعضهم: تركه. انظر: تهذيب الكمال (29/ 238 - 240). وأيضًا: أبو عفيف لم أقف عليه. (2) ذكره الَّلالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة رقم (865). وسنده ضعيف، لضعف ابن لهيعة، وللانقطاع بين أبي النضر سالم مولى عمر بن عبيد اللَّه بن معمر القرشي وبين أبي هريرة. انظر: تهذيب الكمال (10/ 127 - 129).

(2/688)


ملكه ألفي عام يرى أدناهُ كما يرى أقصاهُ، وإنَّ أفضلهم منزلةً لمن ينظرُ إلى وجه اللَّهِ في كلَّ يومٍ مرَّتين" (1) . قول فضالة بن عبيد: ذكر الدارمي عن محمد بن مهاجر عن ابن حَلْبَس عن أُمِّ الدرداء أنَّ فضالة بن عبيد كان يقول: "الَّلهم إنِّي أسألك الرِّضا بعد القضاء، وبردَ العيش بعد الموتِ، ولذَّةَ النَّظرِ إلى وجهك" وقد تقدَّم (2) . قولُ أبي موسى الأشعري: قال وكيع: عن أبي بكر الهذلي عن أبي تميمة عن أبي موسى -رضي اللَّه عنه- قال: "الزيادةُ: النظرُ إلى وجه اللَّه" (3) . وروى يزيد بن هارون وابن أبي عدي وابن عُليَّة (4) ، عن التيمي عن أسلم العجلي عن أبي مُراية عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه أنَّه كان يحدث النَّاس فشخصوا بأبصارهم (5) فقال: ما صرفَ أبصاركم عنِّي؟ قالوا: الهلال، قال: فكيف بكم إذا رأيتم اللَّه جهرة؟ " (6) . __________ (1) تقدم ص (322 - 323)، وراجع ص (671). (2) تقدم ص (683). (3) تقدم ص (614). (4) قوله "وابن عُلَيَّة" من "ب، د" ونسخةٍ على حاشية "أ". (5) في "د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "بأبصارهم عنه". (6) أخرجه الدارمي في الردِّ على الجهمية رقم (196)، وعبد اللَّه في السنة (465)، والآجري في الشريعة رقم (609)، وابن خزيمة في التوحيد رقم =

(2/689)


قول أنس بن مالك: قال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن يمان حدثنا شريك عن أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه في قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) } [ق: 35] قال: "يظهر لهم الربُّ تبارك وتعالى يوم القيامة" (1) . قول جابر بن عبد اللَّه: قال مروان بن معاوية عن الحكم بن أبي خالد عن الحسن عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأُدِيْم عليهم بالكرامة جاءتهم خيولٌ من ياقوتٍ أحمر لا تبول ولا تروث، لها أجنحة، فيقعدون عليها، ثمَّ يأتون الجبار عزَّ وجلَّ فإذا تجلَّى لهم خرُّوا سُجَّدًا، فيقول: يا أهل الجنَّة ارفعوا رؤوسكم فقد رضيتُ عنكم رضًا (2) لا سخطَ بعده" (3) . __________ = (257)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (862). من طريق يزيد بن زريع ومعتمر بن سليمان التيمي به مرفوعًا. أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (256). ورفعه خطأ ووَهْم كما قال ابن خزيمة. والأثر فيه أبو مُراية تابعي روى عنه قتادة وأسلم العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 31)، وانظر: تعجيل المنفعة (2/ 540). وعليه فالإسناد لا بأس به. (1) تقدم الكلام عليه، والاختلاف فيه على أبي اليقظان ص (651 - 654). (2) من "هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ". (3) تقدم الكلام عليه ص (561).

(2/690)


قال الطبري: "فتحصَّل في الباب ممَّن روى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الصحابة حديث الرؤية ثلاثةٌ وعشرون نفسًا: منهم علي، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وجرير، وأبو موسى، وصهيب، وجابر، وابن عباس، وأنس، وعمار ابن ياسر، وأُبي بن كعب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت (1) ، وعدي بن حاتم، وأبو رزين العقيلي، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عُبيد، وبريدة بن الحصيب، ورجلٌ من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (2) . وقال الدَّارقطني: "أخبرنا محمد بن عبد اللَّه حدثنا جعفر بن محمد ابن الأزهر حدثنا مفضل بن غسَّان، قال: سمعتُ يحيى بن معين يقول: عندي سبعة عشر حديثًا في الرؤية، كلها صحاح" (3) . وقال البيهقي: "روينا في "إثبات الرؤية" عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عباس وأبي موسى وغيرهم، ولم يُرو عن أحدٍ منهم نفيها، ولو كانوا فيها مختلفين، لنُقِلَ اختلافهم في ذلك (4) إلينا، كما أنَّهم لما اختلفوا في الحلال والحرام والشرائع والأحكام نُقِلَ اختلافهم في ذلك إلينا، وكما أنَّهم لما اختلفوا في رؤية اللَّه سبحانه بالأبصار في الدنيا نقل اختلافهم في ذلك إلينا، __________ (1) عند الَّلالكائي هُنا إضافة "وأبو أُمامة"، ولا يوجد في جميع النسخ. (2) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة (2/ 495)، ويلاحظ -في المطبوعة- لم يُذكر "ابن عمر" بعد "ابن عباس". (3) انظر: شرح أصول الاعتقاد للالكائي رقم (857). (4) قوله "في ذلك" من "أ".

(2/691)


فلما نُقِلت (1) رؤية اللَّه سبحانه بالأبصار في الآخرة عنهم، ولم ينقل عنهم في ذلك اختلاف، كما نقل عنهم فيها اختلاف في الدنيا = علمنا أنَّهم كانوا على (2) القول برؤية اللَّهِ تعالى بالأبصارِ في الآخرة مُتَّفقين مجتمعين" (3). فصل وأمَّا التابعون ويَزَك (4) الإسلام، وعصابة الإيمان: من أئمة الحديث والفقه والتفسير وأئمة التصوف، فأقوالهم أكثر من أنْ يحيط بها إلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ. * قال سعيد بن المسيب: "الزيادة: النظرُ إلى وجه اللَّهِ" (5). رواه مالك، عن يحيى عنه. * وقال الحسن: "الزيادة: النظرُ إلى وجه اللَّه" (6). رواهُ ابن أبي حاتم عنه. __________ (1) في نسخة على حاشية "أ" "نُقلت في". (2) جاء في نسخةٍ على حاشية "أ" "محل"، وفي "ج": "على محل". (3) انظر الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للبيهقي ص (142 - 144). (4) اليَزَك: كلمة فارسية، معناها: طلائع الجيش. انظر: المعجم الذهبي (619) للتونجي، والمجموع اللفيف (91) للسامرائي. (5) أخرجه اللالكائي رقم (789). (6) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 106)، والبيهقي في الاعتقاد ص (132)، واللالكائي رقم (790). من طريق عوف الأعرابي وأبي بشر الحلبي عن الحسن فذكره. وسنده حسن.

(2/692)


* وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "الزيادة: النظر إلى وجه اللَّهِ تعالى" (1) . رواهُ حماد بن زيد عن ثابت عنه. * وقاله عامر بن سعد البجلي، ذكره سفيان عن أبي إسحاق عنه (2) . * وقاله عبد الرحمن بن سابط. رواه جرير عن ليث عنه (3) . __________ (1) أخرجه الدارمي في الردِّ على الجهمية رقم (192)، وعبد اللَّه في السنة رقم (445)، والطبري في تفسيره (11/ 106)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (260) (261) وغيرهم. وسنده صحيح. هكذا رواهُ حماد بن زيد وسليمان بن المغيرة ومعمر وحماد بن واقد كلهم عن ثابت عن ابن أبي ليلى قوله. وخالفهم حماد بن سلمة. فرواهُ عن ثابت عن ابن أبي ليلى عن صهيب مرفوعًا. أخرجه مسلم في صحيحه رقم (181) وغيره. وقد أشار الدَّارقطني وأبو مسعود إلى هذه العلَّة، لكن حماد بن سلمة من أعلم النَّاس بثابت كما نصَّ عليه جماعة ولهذا صحيح هذا الحديث: مسلم والدَّارقطني وابن حبان وأبو عوانة والبزار. انظر: تحفة الأشراف (4/ 198). (2) تقدم في حاشية ص (613). (3) أخرجه الدارمي في الردِّ على بشر المريسي رقم (233)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (347)، والطبري (11/ 107)، والدارقطني في الرؤية (221، 222)، والَّلالكائي رقم (795). من طريق ليث عن ابن سابط فذكره. وخالفه فطر بن خليفة. =

(2/693)


وقاله عكرمة (1) ، ومجاهد (2) ، وقتادة (3) ، والسُّدي (4) ، والضحاك (5) وكعب (6) . * وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عمَّاله: "أمَّا بعدُ: فإنِّي أوصيك بتقوى اللَّهِ، ولزوم طاعته، والتمسك بأمرهِ، والمعاهدة على __________ = فرواهُ عن ابن سابط في قوله {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 23] قال: إلى وجه ربها ناظرة". أخرجه عبد اللَّه في السنة (478). وهذا أصح، وليث اختلط. (1) أخرجه الدارمي في الردِّ على الجهمية (200)، والطبري (29/ 192)، والَّلالكائي (803) وغيرهم. وسنده حسن. (2) أخرجه اللالكائي (801) (802). وجاء عنه ما يخالف ذلك، انظر: تفسير الطبري (29/ 192)، وهو بحاجة إلى تحقيق ذلك. (3) أخرجه الطبري (11/ 106 و 107)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (268، 269)، والَّلالكائي (298) وغيرهم. وسنده صحيح. (4) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (216)، وفيه الحكم بن ظُهير: متروك الحديث. (5) أخرجه الدَّارمي في الردِّ على الجهمية رقم (193)، وفي الردَّ على بشر المريسي رقم (232)، والدَّارقطني في الرؤية (219، 220). وفيه جويبر بن سعيد: وهو متروك. (6) أخرجه عبد اللَّه في السنَّة (523)، و (1/ 496)، والدَّارقطني في الرؤية (225)، والَّلالكائي (867) وغيرهم. وسنده صحيح.

(2/694)


ما حملك اللَّهُ من دينه، واسْتَحْفَظَك من كتابه، فإنَّ بتقوى اللَّه نجا أولياء اللَّهِ من سخطه، وبها رافقوا أنبياءه، وبها نضرت وجوههم، ونظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، ومن كبت (1) يوم القيامة" (2) . * وقال الحسنُ: "لو علم العابدون في الدنيا أنَّهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا" (3) . * وقال الأعمش وسعيد بن جبير: "إنَّ أشرفَ أهل الجنَّة لمن ينظر إلى اللَّهِ تبارك وتعالى غدوةً وعشية" (4) . * وقال كعب: "ما نظر اللَّه سبحانه إلى الجنَّة قط (5) إلَّا قال: طِيبي لأهلك، فزادت ضعفًا على ما كانت، حتَّى يأتيها أهلها، وما من يومٍ كان لهم عيد في الدنيا إلَّا يخرجون في مقداره في رياض الجنَّة، فيبرز __________ (1) في "ب، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ": "كرب". (2) أخرجه الدَّارمي في الردِّ على الجهمية رقم (202)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 278) وغيرهما. وفي سنده إبراهيم بن أبي حبيبة وهو ضعيف. (3) أخرجه عبد اللَّه في السنَّة (486)، واللالكائي (869)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 159) وغيرهم. وفيه عبد الواحد بن زيد: قال البخاري: تركوه. (4) أخرجه عبد اللَّه في السنة (487) عن سعيد فقط، وابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (39) "عن سعيد والأعمش". وسنده لا بأس به. (5) من "ب، ج، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ".

(2/695)


لهم الرب تبارك وتعالى، فينظرون إليه، وتَسْفِي عليهم الريحُ المسكَ، ولا يسألون الرَّبَّ تبارك وتعالى شيئًا إلَّا أعطاهم حتَّى يرجعوا، وقد ازدادوا على ما كانوا من الحسن والجمال سبعين ضعفًا، ثمَّ يرجعون إلى أزواجهم، وقد ازْدَدْنَ مثل ذلك" (1) . * وقال هشام بن حسان: "إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يتجلَّى لأهل الجنَّة، فإذا رآه أهل الجنَّة نَسُوا نعيم الجنَّة" (2) . * وقال طاووس: "أصحاب المراء والمقاييس لا يزالُ بهم المراء والمقاييس حتَّى يجحدوا الرؤية، ويخالفوا السنة" (3) . * وقال شريك عن أبي إسحاق السبيعي: "الزيادة: النظرُ إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى" (4) . * وقال حماد بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنَّه تَلَى هذه __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (37) مختصرًا، والدَّارمي في الرَّدِّ على الجهمية (201)، والآجري في الشريعة رقم (573) بمثله، وغيرهم. ومداره على يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف. (2) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (40) وهو بدون سند. - ورواهُ مكي بن إبراهيم عن هشام بن حسان عن الحسن بمثله. أخرجه الآجري في الشريعة (572). وفي سنده عمر بن مدرك: ضعيف، وقيل: كذَّاب. (3) أخرجه الَّلالكائي (868). وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي: وهو متروك. (4) أخرجه الطبري (11/ 105)، والدَّارقطني في الرؤية (223)، والَّلالكائي (794). وسنده حسن.

(2/696)


الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قال: "إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّةَ أعطوا فيها ما سألوا (1) وما شاؤوا، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ لهم: إنَّه قد بقيَ من حقِّكم شيءٌ لم تعطوه، فيتجلَّى لهم ربُّهم، فلا يكونُ ما أعطوا عند ذلك بشيء، فالحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظرُ إلى ربهم عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26] بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى" (2) . * وقال علي بن المديني (3) : سألتُ عبد اللَّه بن المبارك عن قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] قال عبد اللَّه: "من أراد النظر إلى وجه خالقه، فليعمل عملًا صالحًا، ولا يُخْبِرْ به أحدًا" (4) . * وقال نُعَيْم بن حمَّاد: سمعتُ ابن المبارك يقول: "ما حجبَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أحدًا عنه إلَّا عذَّبه، ثمَّ قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) __________ (1) قوله "ما سألوا و" من "ب، د"، ونسخةٍ على حاشية "أ". (2) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (210). من طريق محمد بن عبيد بن حساب عن حماد بن زيد مثله. وقد تقدَّم ذكر الاختلاف فيه ص (693). (3) كذا في النسخ، وعند الَّلالكائي "المديني الغاساني" ولعلَّه "الفاشاني"، وعند البيهقي "علي الباشاني" وهو محتمل؛ لأنَّ "باشان": قرية من قرى هراة، و"فاشان": قرية من قرى مرو. انظر: الأنساب للسمعاني (1/ 258) و (4/ 338 - 340)، ولعلَّ الصواب "الفاشاني"؛ لأنَّ الحديث حُدِّث بمرو كما عند الَّلالكائي. (4) أخرجه الَّلالكائي (895)، والبيهقي في الاعتقاد ص (135).

(2/697)


ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15 - 17] قال: بالرؤية". ذكره ابن أبي الدنيا (1) ، عن يعقوب بن إسحاق عن نُعيم. وقال عبَّاد بن العوَّام: "قَدِمَ علينا شريك بن عبد اللَّه منذ خمسين سنة، فقلت له: يا أبا عبد اللَّه، إن عندنا قومًا من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث: "إنَّ اللَّهَ ينزلُ إلى سماء الدنيا"، "وإنَّ أهل الجنَّة يرون ربهم". فحدَّثني بنحو عشرة أحاديث في هذا وقال: أما نحنُ، فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهم عمَّن أخذوا؟ " (2) . وقال عقبة بن قَبِيْصة (3) : "أتينا أبا نُعَيم يومًا، فنزل إلينا من الدرجة التي في دَارهِ فجلسَ في وسطها كأنَّه مغضب، فقال: حدَّثنا سفيان بن سعيد ومنذر الثوري وزهير بن معاوية، وحدثنا حسن بن صالح بن حي، وحدثنا شريك بن عبد اللَّه النخعي، هؤلاء أبناء المهاجرين يُحَدِّثوننا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ اللَّه تبارك وتعالى يُرى في الآخرة، حتَّى جاءَ ابن يهوديٍّ صبَّاغٍ يزعم أنَّ اللَّهَ تعالى لا يُرى -يعني بشر المرِّيسيّ (4) -. __________ (1) في صفة الجنَّة رقم (348)، واللالكائي رقم (894). (2) أخرجه عبد اللَّه في السنة رقم (509)، واللالكائي (879)، والدَّارقطني في الصفات (65) وغيرهم. وهو ثابتٌ عنه. (3) وقع في "أ، ج، هـ": "قبيصة بن عقبة"، وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (20/ 218). (4) ذكره الَّلالكائي (887) عن ابن أبي حاتم بسنده. وأخرجه الدَّارقطني في الصفات رقم (66).

(2/698)


فصل: في المنقول عن الأئمة الأربعة، ونظرائهم وشيوخهم وأتباعهم على طريقتهم ومنهاجهم ذكرُ قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس: قال أحمد بن صالح المصري: حدثنا عبد اللَّه بن وهب قال: قال مالك بن أنس: "النَّاسُ ينظرون إلى اللَّهَ عزَّ وجلَّ يوم القيامة بأعينهم" (1). وقال الحارث بن مسكين: حدثنا أشهب قال: سُئِلَ مالك عن قوله عزَّ وجلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23] أتنظرُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ؟ قال: نعم، فقلتُ إنَّ أقوامًا يقولون: تنتظرُ ما عنده، قال: بل تنظر إليه نظرًا، وقد قال: موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ} [الأعراف: 143]، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] " (2). وذكر الطبري وغيره أنَّهُ قيل لمالك: "إنَّهم يزعمون أنَّ اللَّهَ لا يُرى، فقال مالك: السيف السيف" (3). ذكر قول ابن الماجشون: قال أبو حاتم الرَّازي: قال أبو صالح كاتب الليث: أملى عليَّ __________ (1) أخرجه الآجري في الشريعة (574)، والَّلالكائي رقم (870)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 326) وغيرهم. (2) أخرجه الَّلالكائي (871). (3) أخرجه الَّلالكائي (808 و 872).

(2/699)


عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وسألته عمَّا جحدت الجَهْمِيَّة فقال: "لم يزلْ يملي لهم الشيطان حتَّى جحدوا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]، فقالوا: لا يراه أحدٌ يوم القيامة، فجحدوا -واللَّه- أفضل كرامةِ اللَّه التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظرِ إلى وجهه، ونضرته إيَّاهم {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، فوربِّ السماء والأرضِ ليجعلنَّ رؤيته يوم القيامة للمخلصين له ثوابًا لينضِّر بها وجوههم دون المجرمين، وتفلج بها حُجَّتهم على الجاحدين، وهم عن ربِّهم يومئذٍ لمحجوبون، لا يرونه كما زعموا أنَّهُ لا يرى، ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم" (1). ذكر قول الأوزاعي: ذكر ابن أبي حاتم عنه قال: "إنِّي لأرجو أنْ يحجب اللَّه عزَّ وجلَّ جَهْمًا وأصحابه عن أفضل ثوابه الَّذي وعده أولياءَه حين يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23] فجحدَ جهْم وأصحابه أفضل ثوابه الَّذي وعد أولياءَه" (2). ذكر قول الليث بن سعد: قال ابن أبي حاتم: حدثنا إسماعيل بن أبي (3) الحارث، حدثنا __________ (1) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (59)، والَّلالكائي (873). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (5/ 42): "روى الأثرم في السنة، وأبو عبد اللَّه بن بطة في الإبانة، وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسنادٍ صحيح عن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي سلمة الماجشون. . . " ثمَّ ذكره. (2) ذكره الَّلالكائي (874) عن ابن أبي حاتم بسنده. (3) ضُرِبَ عليها في "هـ".

(2/700)


الهيثم بن خارجة، قال: سمعت الوليد بن مسلم يقول: "سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية، فقالوا: تُمَرُّ بلا كيف" (1). قول سفيان بن عيينة: ذكر الطبري وغيره عنه أنَّه قال: "من لم يقل: إنَّ القرآن كلام اللَّه، وإنَّ اللَّهَ يرى في الجنَّة فهو جهمي" (2). وذكر عنه ابن أبي حاتم أنَّه قال: "لا يُصَلَّى خلفَ الجهمي، والجهميُّ الَّذي يقول: لا يرى ربه يوم القيامة" (3). قول جرير بن عبد الحميد: ذكر ابن أبي حاتم عنه أنَّه ذُكِرَ له حديث ابن سابط في الزيادة: أنَّها النظر إلى وجه اللَّهِ فأنكره رجلٌ فصاح به، فأخرجه من مجلسه" (4). قول عبد اللَّه بن المبارك: ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم عنه، أنَّ رجلًا من الجهمية قال له: __________ (1) أخرجه الَّلالكائي (875) من طريق ابن أبي حاتم به. والبيهقي في الاعتقاد ص (123)، والدَّارقطني في الصفات رقم (67). (2) أخرجه الَّلالكائي (876). (3) ذكره الَّلالكائي (878) عن ابن أبي حاتم. (4) ذكره الَّلالكائي (880) عن ابن أبي حاتم بسنده.

(2/701)


"يا أبا عبد الرحمن خدارا بآن جهان جون بِيْنَنْد (1)، ومعناهُ: كيفَ يُرى اللَّه يوم القيامة؟ فقال: بالعين" (2). وقال ابن أبي الدنيا: حدثني يعقوب بن إسحاق قال: سمعت: نُعَيم ابن حماد يقول: سعت ابن المبارك يقول: "ما حجب اللَّه عزَّ وجل عنه أحدًا إلَّا عذَّبه ثمَّ قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} [المطففين: 15 - 17] قال ابن المبارك: بالرؤية" (3). قول وكيع بن الجراح: ذكر ابن أبي حاتم عنه، أنَّه قال: "يراهُ تبارك وتعالى المؤمنون في الجنَّة، ولا يراهُ إلا المؤمنون" (4). قول قتيبة بن سعيد: ذكر ابن أبي حاتم عنه، قال: "قول الأئمة المأخوذ به (5) في الإسلام والسنَّة: الإيمان بالرؤية والتصديق بالأحاديث التي جاءت عن __________ (1) اضطربت النسخ في كتابة هذه الجملة الفارسية، وأقربها إلى الصواب ما جاء في نسخةٍ على حاشية "د"، كما أفادهُ الشيخ محمد عزير شمس. (2) ذكره الَّلالكائي (881) عن ابن أبي حاتم بسنده. (3) تقدم ص (698). (4) ذكره الَّلالكائي (882)، وقوَّام السنة في الحجة في بيان المحجَّة (2/ 246 - 247) عن ابن أبي حاتم بسنده. (5) في "هـ": "عنهم به".

(2/702)


رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الرؤية" (1). قول أبي عبيد القاسم بن سلَّام: ذكر ابن بطَّة وغيره عنه أنَّه ذُكِرَت عنده هذه الأحاديث التي في الرؤية فقال: "هي عندنا حق، رواها الثقات عن الثقات إلى أنْ صارت إلينا، إلَّا أنا إذا قيل لنا: فسِّروها لنا، قلنا: لا نفسِّر منها شيئًا، ولكن نُمْضيها كما جاءت" (2). قول أسود بن سالم شيخ الإمام أحمد: قال المَرُّوذي: حدثنا عبد الوهَّاب الورَّاق قال: سألت أسود بن سالم عن أحاديث الرؤية، فقال: "أحلف عليها بالطلاق وبالمشي أنَّها حق" (3). قول محمد بن إدريس الشافعي: قد تقدَّم رواية الربيع عنه أنَّه قال: "في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]: لمَّا حجبَ هؤلاء في السَّخَط، كان في هذا دليل على (4): أنَّ أولياءه يرونه في الرِّضى، قال الربيع: فقلتُ: يا أبا عبد اللَّه، وتقول به؟ قال: نعم، وبه أدينُ اللَّه، لو لم يوقن __________ (1) ذكره الَّلالكائي (886) عن ابن أبي حاتم بسنده عنه. (2) أخرجه الآجري في الشريعة (581) نحوه، وابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (56)، والدَّارقطني في الصفات رقم (57). (3) أخرجه الآجري في الشريعة رقم (575) وغيره. (4) من نسخةٍ على حاشية "أ".

(2/703)


محمد بن إدريس أنَّه يرى اللَّه عزَّ وجلَّ لَمَا عَبَدَهُ" (1). وقال ابن بطَّة: حدثنا ابن الأنباري، حدثنا أبو القاسم الأنماطي صاحب المُزَني قال: قال الشافعي: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] دلالة على أنَّ أولياءه يرونه يوم القيامة بأبصار وجوههم" (2). قول إمام السنَّة أحمد بن حنبل: قال إسحاق بن منصور: قلتُ لأحمد: "أليس ربنا تبارك وتعالى يراهُ أهل الجنَّة؟ أليسَ تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح، قال ابن منصور: وقال إسحاق بن راهويه: صحيح ولا يدعه إلَّا مبتدع، أو ضعيف الرَّأي" (3). وقال الفضل بن زياد: "سمعتُ أبا عبد اللَّه، وقيل له: تقول بالرؤية؟ فقال: من لم يقل بالرؤية فهو جهمي" (4). قال: "وسمعتُ أبا عبد اللَّه (5)، وبلغه عن رجل أنَّه قال: إنَّ اللَّه لا يُرى في الآخرة: فغضب غضبًا شديدًا، ثمَّ قال: من قال: إنَّ اللَّه لا يرى في الآخرة فقد كفر، عليه لعنة اللَّه وغضبه، مَنْ كَانَ مِنَ النَّاس، __________ (1) أخرجه الَّلالكائي (883)، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 419). (2) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (55). (3) انظر: مسائل الكوسج (2/ 535) رقم (3290). (4) لم أقف عليها، وقد رواها عن أحمد ابنُ هانئ في مسائله (2/ 152). (5) في نسخةٍ على حاشية "أ": "يقول وبلغه".

(2/704)


أليسَ يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 22, 23]، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } (1) . وقال أبو داود: "وسمعتُ أحمد، وذُكِرَ له عن رجلٍ في شيءٍ في الرؤية فغضب وقال: من قال: إنَّ اللَّهَ لا يرى فهو كافر" (2) . قال أبو داود: "وسمعتُ أحمد وقيل له: في رجل يُحدِّث بحديث عن رجل عن أبي العطوف: إنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرة، فقال: لعَنَ اللَّهُ من يُحدِّثُ بهذا الحديثِ اليوم، ثمَّ قال: أخزى اللَّهُ (3) هذا" (4) . وقال أبو بكر المرُّوذي: "قيل لأبي عبد اللَّه: تعرفُ عن يزيد بن هارون، عن أبي العطوف، عن أبي الزبير، عن جابر: "إنِ استقرَّ الجبل فسوف تراني، وإنْ لم يستقر فلا تراني في الدنيا، ولا في الآخرة" (5) ، فغضبَ أبو عبد اللَّه غضبًا شديدًا حتَّى تبيَّن في وجهه، وكان قاعدًا والنَّاسُ حوله، فأخذَ نعله وانتعل، وقال: أخزى اللَّه هذا، لا ينبغي أنْ __________ (1) أخرجه الآجري في الشريعة رقم (577)، وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 253). (2) مسائل أبي داود ص (263). (3) سقط من "هـ". (4) مسائل أبي داود ص (263). (5) هذا حديث موضوع. آفته أبو العطوف واسمه الجرَّاح بن المنهال الحرَّاني قال ابن حبان: "وكان رجل سوء يشرب الخمر، ويكذب في الحديث"، وقال أبو حاتم الرَّازي: "هو متروك الحديث، ذاهب الحديث، لا يكتب حديثه". انظر: الجرح والتعديل (2/ 523)، والكامل لابن عدي (2/ 160 - 161)، والمجروحين لابن حبان (1/ 218 - 219).

(2/705)


يُكْتَب، ودفع أنْ يكون يزيد بن هارون رواهُ أو حدَّث به، وقال: هذا جَهْمي كافرٌ خالف قول اللَّهُ (1) عزَّ وجلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 22 - 23]. وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } [المطففين: 15] خَزَى اللَّهُ هذا الخبيث". قال أبو عبد اللَّه: "ومن زعمَ أنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرة فقد كفر" (2) . وقال أبو طالب: "قال أبو عبد اللَّه: قول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] فمن قال: إنَّ اللَّه لا يُرى فقد كفر" (3) . وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: "سمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: من لم يؤمن بالرؤية فهو جهْمي، والجهمي: كافر" (4) . وقال يوسف بن موسى القطان: "قيل لأبي عبد اللَّه: أهلُ الجنَّة ينظرون إلى ربِّهم تبارك وتعالى ويُكلَّمونه ويكلِّمهم؟ قال: نعم، ينظرُ إليهم، وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه كيف شاء وإذا شاء" (5) . وقال حنبل بن إسحاق: "سمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: القومُ يرجعون __________ (1) قوله "خالف قول اللَّه"، في "د، هـ": "خالف ما قال اللَّه"، ووقع في نسخةٍ على حاشية "د" "خلاف قول اللَّه". (2) انظر: طبقات الحنابلة (1/ 59). (3) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (49). (4) مسائل ابن هانئ (2/ 152). (5) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (48).

(2/706)


إلى التعطيل في أقوالهم، ينكرون الرؤية والآثار كلها، وما ظننتهم على هذا حتَّى سمعت مقالاتهم". قال حنبل: "وسمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: من زعم أنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرة (1) فقد ردَّ على اللَّهِ وعلى الرسول، ومن زعمَ أنَّ اللَّهَ لم يتخذ إبراهيم خليلًا فقد كفر، وردَّ على اللَّه قوله، قال أبو عبد اللَّه: فنحنُ نؤمنُ بهذه الأحاديث، ونُقِرُّ بها ونمرُّها كما جاءتْ" (2) . وقال الأثرم: "سمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: فأما من قالَ: إنَّهُ لا يرى اللَّه في الآخرة فهو جهمي، قال أبو عبد اللَّه: وإنَّما تكلَّم من تكلَّم في رؤية الدنيا (3) ". وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: "سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: الرؤية من كذَّب بها فهو زنْدِيْق". وقال حنبل: "سمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: أدركنا النَّاسُ وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئًا -أحاديث الرؤية- وكانوا يحدثون بها على الجملة، يُمِرُّونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين" (4) . وقال أبو عبد اللَّه: "قال اللَّهُ تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]. فكلَّم اللَّه موسى __________ (1) قوله "في الآخرة" من المطبوعة. (2) لم أقف عليه، وجاء نحوه عن حنبل كما في طبقات الحنابلة (1/ 145). (3) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (51). (4) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (52).

(2/707)


من وراء حجاب، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فأخبر اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّ موسى يراهُ في الآخرة، وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } [المطففين: 15]، ولا يكون حجاب إلَّا لرؤية أخبر اللَّه سبحانه أنَّ من شاء اللَّه ومن أراد يراهُ، والكفار لا يرونه" (1) . قال حنبل: "وسمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: قال اللَّه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 22 - 23]. والأحاديث التي تُرْوى في النظر إلى اللَّه تعالى -حديث جرير بن عبد اللَّه وغيره- "وتنظرون إلى ربِّكم"، أحاديث صِحَاح، وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: النظرُ إلى اللَّه تعالى، قال أبو عبد اللَّه: نؤمن بها، ونعلمُ أنَّها حقٌّ: أحاديث الرؤية، ونؤمن بأنَّ اللَّهَ يُرَى، نَرَى ربنا يوم القيامة، لا نشكُّ فيه ولا نرتاب" (2) . قال: "وسمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: من زعمَ أنَّ اللَّهَ لا يرى في الآخرة فقد كفر باللَّهِ وكذَّب بالقرآن، وردَّ على اللَّه أمره، يُستتاب؛ فإنْ تابَ وإلَّا قُتِلَ" (3) . قال حنبل: "قلتُ لأبي عبد اللَّه: في أحاديث الرؤية فقال: هذه صحاح نؤمن بها، ونقرُّ بها، وكل ما روي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إسنادهُ جيِّد __________ (1) لم أقف عليه، وجاء بمعناه عن حنبل عند الآجري في الشريعة (578). (2) لم أقف عليه، وانظر معناه عند الآجري في الشريعة (578). (3) لم أقف عليه، وانظر معناهُ في طبقات الحنابلة (1/ 145).

(2/708)


أقررْنا به" (1). قال أبو عبد اللَّه: "إذا لم نقر بما جاء عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودفعناهُ رددنا على اللَّهِ أمره. قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] " (2). قول إسحاق بن راهويه: ذكر الحاكم وشيخ الإسلام وغيرهما عنه، أنَّ عبد اللَّه بن طاهر أمير خراسان سأله، فقال: يا أبا يعقوب، هذه الأحاديث التي تَرْوُوْنها في النزول والرؤية ما هُنَّ؟ فقال رواها من روى الطهارة، والغُسل والصلاة والأحكام، وذكر أشياء، فإنْ يكونوا في هذه عدولًا، وإلَّا فقد ارتفعت الأحكام، وبطل الشرع، فقال: شفاك اللَّه كما شفيتني، أو كما قال" (3). قول جميع أهل الإيمان: قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه (4): "إنَّ المؤمنين لم يختلفوا أنَّ جميع المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد، ومن أنكر ذلك فليس بمؤمن عند المؤمنين". __________ (1) أخرجه اللالكائي (889). (2) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (53). (3) أخرجه ابن بطة في الإبانة كما في شرح حديث النزول لابن تيمية ص (152) بنحوه. (4) لم أقف عليه في التوحيد، ولا في غيره.

(2/709)


قول المزني: ذكر الطبري في "السنة" عن إبراهيم بن أبي داود المصري، قال: كُنَّا عند نُعَيم بن حمَّاد جلوسًا، فقال نعيم للمُزَني: ما تقول في القرآن؟ فقال: أقول، إنَّهُ كلامُ اللَّهُ، فقال: غير مخلوق؟ فقال: غير مخلوق، قال: وتقول: إنَّ اللَّهَ يرى يوم القيامة؟ قال: نعم، فلما افترق النَّاس قام إليه المزني فقال: يا أبا عبد اللَّه، شهرتني على رؤوس النَّاس، فقال: إنَّ النَّاس قد أكثروا فيك، فأردت أن أُبَرِّئك" (1). قول جميع أهل اللغة: قال أبو عبد اللَّه بن بطَّة: سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد، صاحب اللغة يقول: سمعت - أبا العباس أحمد بن يحيى - ثعلبًا يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 43 - 44]. أجمع أهل اللغة على (2) أنَّ اللقاء ها هنا لا يكونُ إلَّا معاينة ونظرًا بالأبصارِ" (3). وحسبك بهذا الإسناد صِحَّةً، والِّلقاء ثابتٌ بنصِّ القرآن كما تقدم (4). وبالتواتر عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكلُّ أحاديث اللقاء صحيحة: فحديث أنس في قصة بئر معونة: "إنَّا قد لقينا ربَّنَا فَرَضِيَ __________ (1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (891). (2) من "ب". (3) أخرجه ابن بطة في الإبانة "المختار" رقم (58). (4) في ص (608 - 609).

(2/710)


عَنَّا وأَرْضانَا" (1) . وحديث عبادة وعائشة وأبي هريرة وابن مسعود: "من أحبَّ لقاءَ اللَّهِ أحبَّ اللَّهُ لقاءهُ" (2) . وحديثُ أنس: "إنَّكُم ستلقون بعدي أَثرَةً فاصْبرُوا حتَّى تَلْقَوا اللَّه ورسولَهُ" (3) . وحديث أبي ذرٍّ: "لو لقيتني بِقُرَابِ الأرضِ خطَايَا، ثُمَّ لقيتني لا تشركُ بي شيئًا لقيتُكَ بقُرابها مغفرة" (4) . وحديثُ أبي موسى: "من لقيَ اللَّهَ لا يشركُ به شيئًا دَخَلَ الجنَّة" (5) . __________ (1) أخرجه البخاري (3864). (2) البخاري (6142 و 6143)، ومسلم (2683، 2684، 2686) عن عبادة وعائشة وأبي موسى رضي اللَّه عنهم. - ومسلم (2685) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. - والطبراني في الكبير (9/ 198) رقم (8882) عن ابن مسعود موقوفًا عليه. وسنده صحيح. (3) أخرجه البخاري رقم (2978)، ومسلم برقم (1845). (4) أخرجه مسلم برقم (2687) بلفظ ". . . ومن لقيني بقراب الأرضِ خطيئة لا يشرك بي شيئًا، لقيته بمثلها مغفرة". - وورد نحوه عند الترمذي رقم (3540) من حديث أنس. وقال الترمذي: "حسن غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه". (5) لم أقف عليه من حديث أبي موسى بهذا اللفظ. وقد جاء هذا المتن عن جماعة من الصحابة: كسلمة بن نعيم وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عمرو ومعاذ وعقبة بن عامر وعمارة بن رويبة وأبي هريرة =

(2/711)


وغير ذلك من أحاديث الِّلقاءه التي أطردت (1) كلها بلفظٍ واحدٍ. فصل: في وعيد منكر (2) الرؤية قد تقدم قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، وقول عبد اللَّه بن المبارك: ما حجب اللَّهُ عنه أحدًا إلَّا عذَّبه، ثمَّ قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} [المطففين: 16 - 17]، قال: بالرؤية" (3). وروى مسلم في "صحيحه" (4) من حديث أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول اللَّه هل نرى ربنا يومَ القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمسِ في الظهيرة ليست في سحابة؟ قالوا: لا، قال: هل تضارون في رؤية القمرِ ليلةَ البدرِ ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فوالَّذي نفسي بيده لا تضارون فى رؤية ربِّكم إلَّا كما تُضارُّون فى رؤية أحدهما، فَيَلْقَى العبد، فيقول: أيْ فُل: ألمْ أُكْرِمْكَ وأسَوِّدْك وأُزوِّجْكَ، وأُسخِّرْ لكَ الخيل والإبل، وأذَرْكَ تَرأسُ وتربعُ؟ فيقول: __________ = وفي أكثرها كلام. وأصحها حديث أنس عند البخاري رقم (129)، وجابر بن عبد اللَّه عند مسلم رقم (93). (1) قوله "التي اطردت" وقع في "ج": "المطردة". (2) في "ب، د": "منكري". (3) راجع ص (696، 702). (4) رقم (2968).

(2/712)


بلى، فيقولُ: أفظننتَ أنَّكَ مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإنِّي أنساكَ كما نسيتني، ثمَّ يلقى الثاني، فيقول: أي فُل، ألمْ أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيلَ والإبل، وأذَرْكَ ترأس وتربَعُ فيقول: بلى، أي ربِّ، فيقول: أفظننتَ أنَّكَ مُلاقيَّ فيقول: لا، فيقول إنِّي أنساكَ كما نسيتني، ثمَّ يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا ربِّ آمنت بك، وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمْتُ وتصدقتُ، ويثني بخيرٍ ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا، ثمَّ يُقال: الآن نبعث شاهدنا عليك، فيتفكر في نفسه من الَّذي يشهدُ عليَّ؟ فيُختمُ على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذُه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الَّذي يسخط اللَّهُ عليه". فاجْمَعْ بين قوله: "إنَّكم سترون ربَّكم"، وقوله لمن ظنَّ أنَّه غيرَ ملاقيه: "فإنِّي أنساكَ كما نسيتني"، وإجماع أهل اللغة أنَّ اللقاء: المعاينة بالأبصارِ = يحصلْ لك العلمُ بأنَّ منكر الرؤية أحقُّ بهذا الوعيد. ومن تراجم أهل السنَّة على هذا الحديث: بابٌ: في الوعيد لمنكر (1) الرؤية، كما فعل شيخ الإسلام وغيره، وباللَّه التوفيق. فصل قد دلَّ القرآن والسنَّة المتواترة وإجماعُ الصحابة وأئمة الإسلام وأهل الحديث عصابة الإسلام، ويَزَك الإيمان، وخاصَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- = على __________ (1) في "ب، د": "لِمُنكري".

(2/713)


أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يُرى في القيامة بالأبصارِ عِيَانًا، كما يُرى القمرُ ليلةَ البدرِ صَحْوًا، وكما تُرى الشمس في الظهيرة، فإنْ كان لما أخبر به اللَّه ورسوله عنه من ذلك حقيقة -وإنَّ له واللَّه حقَّ الحقيقة- فلا يمكن أنْ يروهُ إلَّا من فوقهم، لاستحالة أن يروهُ أسفل منهم، أو خلفهم، أو أمامهم، أو عن يمينهم وشمالهم، وإنْ لم يكن لِمَا أخبر به حقيقة - كما يقوله: أفراخ الصابئة، والفلاسفة والمجوس، والفِرعونية - بطل الشرع والقرآن، فإنَّ الَّذي جاء بهذه الأحاديث، هو الَّذي جاء بالقرآن والشريعة، والَّذي بلَّغها هو الَّذي بلَّغ الدِّين، فلا يجوزُ أنْ يُجعل كلام اللَّهِ ورسوله عِضِين، بحيث (1) يؤمن ببعض معانيه، ويُكْفر ببعضها، فلا يجتمع في قلب العبدِ بعد الاطلاع على هذه الأحاديث، وفهم معناها إنكارها، والشهادة بأنَّ محمدًا رسول اللَّه أبدًا: و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43]. والمنحرفون في باب رؤية الربِّ تبارك وتعالى نوعان: أحدهما: من يزعم أنَّه يُرى في الدنيا، ويحاضر ويُسَامر. والثاني: من يزعم أنَّه لا يُرى في الآخرة ألبتَّة، ولا يُكلِّم عباده. وما أخبر اللَّهُ به رسوله وأجمع عليه الصحابة والأئمة يُكذِّبُ الفريقين، وباللَّه التوفيق. __________ (1) من "ب، ج، د، هـ" ونسخة على حاشية "أ".

(2/714)


 الباب السادس والستون: في تكليمه سبحانه لأهل الجنَّة، وخطابه لهم ومحاضرته إيَّاهم، وسلامه عليهم

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 77]. وقال في حقِّ الَّذين يكتمون ما أنزلَ اللَّهُ من الهُدَى والبيِّنات: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174]. فلو كان لا يكلِّم عباده المؤمنين، لكانوا في ذلك هم وأعداء اللَّه (1) سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنَّه لا يكلمهم فائدةً أصلًا، إذْ تكليمه لعباده عند الفرعونية والمعطِّلة مثل أنْ يُقال: يؤاكلهم ويشاربهم، ونحو ذلك، تعالى اللَّهُ عمَّا يقولون. وقد أخبر سبحانه أنَّه يسلِّمُ على أهل الجنَّة، وأنَّ ذلك السلام حقيقة، وهو قولٌ من ربٍّ رحيم (2)، وتقدَّم تفسيرُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهذه الآية في حديث جابر في الرؤية، وأنَّه يشرف عليهم من فوقهم، ويقول: "سَلَامٌ عليكم يا أهل الجنَّة" (3) فيرونه عيانًا، وفي هذا إثبات الرؤية __________ (1) قوله "وأعداء اللَّه" في "ب، ج، د، هـ": "وأعداؤه". (2) وقع في نسخةٍ على حاشية "أ": {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58] بدل جُملة "قول من رب رحيم". (3) ص (663).

(2/715)


والتكليم والعُلو، والمعطلة تنكر هذه الأمور الثلاثة وتكفِّر القائل بها. وتقدم حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه في سوق الجنَّة وقول النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولا يبقى أحدٌ في ذلك المجلس إلَّا حاضره اللَّه محاضرة، فيقول: يا فلان أتذكر يومَ فعلت كذا وكذا" الحديث (1) . وتقدم حديث عدي بن حاتم: "ما منكم إلَّا مَنْ سيُكلِّمه ربُّهُ يومَ القيامة" (2) . وحديث أبي هريرة في الرؤية وفيه "فيقول تبارك وتعالى للعبدِ: "ألم أكرمك وأسودك" (3) الحديث. وحديث بريدة: "ما منكم من أحدٍ إلَّا سيخلو به ربُّه ليس بينه وبينه تَرجُمانٌ ولا حِجابٌ" (4) الحديث. وحديث أنس في يوم المزيد، ومخاطبته فيه لأهل الجنَّة مرارًا (5) . وبالجملة فتأمَّل أحاديث الرؤية تجد في أكثرها ذِكْرُ التَّكْلِيم. قال البخاري في "صحيحه" (6) : "بابُ كلامِ الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنَّة". وساق فيه عدَّة أحاديث. __________ (1) انظر: ص (572). (2) انظر: ص (246)، وليس فيه هذا اللفظ، ولعله يريد المعنى. (3) ص (713). (4) ص (658). (5) انظر: ص (652 - 656). (6) في كتاب التوحيد (6/ 2732).

(2/716)


فأفضل نعيم أهل الجنَّة رؤية وجهه تبارك وتعالى، وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنَّة، وأعلى نعيمها وأفضله، الَّذي ما طابت لأهلها إلَّا به، واللَّه المستعان.

(2/717)


 الباب السابع والستون: في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد

هذا مما يُعْلَم بالاضطرار أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر به، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108] أي: غير مقطوع. ولا تنافي بين هذا وبين قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 108]، واختلف السلف في هذا الاستثناء: * فقال معمر عن الضحاك: "هو في الذين يخرجون من النار، فيدخلون الجنة، يقول سبحانه: إنهم خالدون في الجنة ما دامت السماوات والأرض، إلا مُدَّة مكثهم في النار" (1). قلت: وهذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون الإخبار عن الذين سُعِدُوا وقع عن قوم مخصوصين، وهم هؤلاء. والثاني: - وهو الأظهر - أن يكون وقع عن جملة السعداء، والتخصيص بالمذكورين هو في الاستثناء، وما دل عليه. وأحسن من هذين التقديرين: أن تُردَّ المشيئة إلى الجميع، حيث __________ (1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (7/ 2088) رقم (1244)، والطبري في تفسيره (12/ 120). وسنده صحيح.

(2/718)


لم يكونوا في الجنة في الموقف. وعلى هذا فلا يبقى في الآية تخصيص. * وقالت فرقة أخرى: هو استثناءٌ استثناهُ الرب تعالى ولا يفعله، كما تقول: واللَّه لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك. وأنت لا تراه؛ بل تجزم بضربه. * وقالت فرقة أُخرى: العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله، ومع ما هو أكثر منه، كان معنى "إلَّا" في ذلك ومعنى الواو سواء. والمعنى على هذا: سوى ما شاء اللَّه من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض. هذا قول الفرَّاء (1) ، وسيبويه (2) : يجعل "إلَّا" بمعنى لكن. قالوا: ونظير ذلك أن يقول: لي عليك ألف إلا الألفين الذين قبلها: أي سوى الألفين. قال ابن جرير: "وهذا أحب الوجهين إليَّ؛ لأن اللَّه تعالى لا خُلْف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } [هود: 108] (3) . قالوا: ونظيره أن يقول: أسكنتك داري حولًا إلا ما شئت، أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه. __________ (1) في معاني القرآن (2/ 28). (2) في الكتاب (2/ 325 و 328 و 342). (3) انظر: تفسير الطبري (12/ 119 و 121) بمعناه.

(2/719)


* وقالت فرقة أخرى: هذا الاستثناء إنما هو مُدَّة احتباسهم عن الجنَّة، ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ إلى أنْ يصيروا إلى الجنَّة، ثمَّ هو خلودُ الأبد، فلم يغيبوا عن الجنَّة إلَّا بقدر إقامتهم في البرزخ. * وقالت فرقة أخرى: العزيمة قد وقعت لهم من اللَّه بالخلود الدَّائم، إلَّا أنْ يشاء اللَّه (1) خلاف ذلك = إعلامٌ لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئته، وهذا كما قال لنبيه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86]، وقوله: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، وقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} [يونس: 16]، ونظائره. يخبر عباده سبحانه أنَّ الأمور كلَّها بمشيئته، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. * وقالت فرقة أخرى: المراد بمُدَّة دوام السموات والأرضِ في هذا العالم. فأخبر سبحانه أنَّهم خالدون في الجنَّة مُدَّة دوام السموات والأرضِ إلَّا ما شاء اللَّهُ أنْ يزيدهم عليه. ولعلَّ هذا قول من قال: إنَّ "إلَّا" بمعنى "سِوى"، ولكن اختلفت عبارته، وهذا اختيار ابن قتيبة (2) . قال: "المعنى: خالدين فيها مُدَّة العالم سوى ما شاء أنْ يزيدهم من الخلود على مدَّة العالم". * وقالت فرقة أخرى (3) : "ما" بمعنى: "مَنْ"، __________ (1) من "د". (2) في تأويل مشكل القرآن ص (76 - 77). (3) من "د، هـ".

(2/720)


كقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] والمعنى: إلَّا من شاء ربك أن يدخله النَّار بذنوبه من السعداء. والفرقُ بين هذا القول، وبين أوَّل الأقوال: أنَّ الاستثناء على ذلك القول من المُدَّة، وعلى هذا القول من الأعيان. * وقالت فرقة أخرى: المراد بالسماوات والأرض: سماءُ الجنَّة وأرضها، وهما باقيتان ابدًا، وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] إنْ كانت "ما": بمعنى: "مَنْ" فهم الَّذين يدخلون النَّار، ثمَّ يخرجون منها، وإنْ كانت بمعنى: "الوقت" فهو مُدَّة احتباسهم في البرزخ والموقف. قال الجُعْفِي: "سألتُ عبد اللَّه بن وهب عن هذا الاستثناء؟، فقال: سمعتُ فيه أنَّه قَدْرَ وقوفهم في الموقف يوم القيامة إلى أنْ يقضى بين النَّاس". * وقالت فرقة أخرى: الاستثناء راجعٌ إلى مدَّة لبثهم في الدنيا. وهذه الأقوال متقاربة، ويمكن الجمع بينها بأنْ يُقالَ: أخبر سبحانه عن خلودهم في الجنَّة كلَّ وقتٍ، إلَّا وقتًا يشاءُ ألَّا يكونوا فيها، وذلك يتناول وقتَ كونهم في الدنيا وفي البرزخ، وفي موقف القيامة، وعلى الصراط، وكون بعضهم في النَّار مدَّة، وعلى كلِّ تقدير فهذه الآية من المتشابه، وقوله تعالى فيها: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} مُحْكم، وكذلك قوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54]، وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]. وقد أكَّدَ اللَّه سبحانه خلود أهل الجنَّة بالتأبيد في عدَّة مواضع من

(2/721)


القرآن، وأخبر أنَّهم: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]، وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضَمَمْتَه إلى الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] تبيَّن لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الَّذي لم يكونوا فيه في الجنَّة من مدَّة الخلود، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتةٌ تقدمت على حياتهم الأبدية، وذاك مفارقة للجنَّة تقدَّم على خلودهم فيها. وباللَّه التوفيق. وقد تقدَّم قول النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من يدخل الجنَّة ينعم لا يبؤس، ويخلد لا يموت" (1) . وقوله: "ينادي منادٍ يا أهل الجنَّة، إنَّ لكم أنْ تَصِحُّوا فلا تسقموا أبدًا، وأنْ تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وأنْ تحيوا فلا تموتوا أبدًا" (2) . وثبت في "الصحيحين" (3) من حديث أبي سعيد الخدري عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يُجاءُ بالموتِ في صورة كبشٍ أملح، فيوقفُ بين الجنَّة والنَّارِ، ثمَّ يُقال: يا أهل الجنَّة، فيطَّلعون مشفقين، ويُقال: يا أهل النَّار، فيطلعون فرحين، فيقال (4) : هل تعرفون هذا، فيقولون: نعم، هذا الموتُ، فيذبح بين الجنَّة والنَّار، ويُقال: يا أهل الجنَّة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النَّار خلودٌ فلا موت". __________ (1) ص (428). (2) أخرجه مسلم برقم (2837). (3) البخاري برقم (4453)، ومسلم رقم (2849)، واللفظ لمسلم. (4) في نسخةٍ على حاشية "أ": "فيقال لهم".

(2/722)


فصل وهذا موضع اختلف فيه المتأخرون على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّ الجنَّة والنَّار فانِيتَانِ غير أبديَّتين، بل كما هما حَادِثَتَان، فهما فانيتان. والقول الثاني: إنَّهما باقيتان، دائمتان لا يفنيان أبدًا. والقول الثالث: إنَّ الجنَّة باقية أبديَّة، والنار فانية. ونحن نذكر هذه الأقوال، ومن قالها، وما احتجَّ به أرباب كلِّ قول، ونردُّ ما خالف كتاب اللَّه وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. * فأمَّا القولُ بفنائهما فهو قول قاله: جهم بن صفوان، إمام المعطلة الجهمية، وليس له فيه سلف قطُّ من الصحابة ولا من التابعين، ولا أحدٌ من أئمة الإسلام، ولا قال به أحدٌ من أهل السنَّة، وهذا القول ممَّا أنكرهُ عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفَّروهم به، وصاحوا بهم من أقطار الأرضِ، كما ذكر عبد اللَّه بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" (1) عن خارجة بن مصعب أنَّه قال: كفرت الجهمية بثلاث آيات من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ: يقول اللَّهُ سبحانه: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] وهم يقولون: لا يدوم، ويقول اللَّه تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54] وهم يقولون: يَنْفَدُ، ويقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {مَا __________ (1) (1/ 131) رقم (77) وفيه بدل آية النحل آيتي هود (108)، والواقعة (33)، بأطول مما ساقه المؤلف.

(2/723)


عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]. قال شيخ الإسلام: "وهذا قاله جهم لأصله الَّذي اعتقده: وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث، وهو عمدة أهل (1) الكلام التي استدلُّوا بها على حدوث الأجسام، وحدوث ما لم يحل من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأي الجهم: أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل. فدوام الفعل ممتنع عنده على الرب تعالى في المستقبل، كما هو ممتنع عليه في الماضي. وأبو الهُذَيل العلَّاف -شيخ المعتزلة- وافقه على هذا الأصل؛ لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات، لكونها متعاقبة شيئًا بعد شيء. فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار، حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة. وزعمت فرقة ممن وافقتهم على امتناع حوادث لا نهاية لها: أن هذا القول مقتضى العقل، لكن لما جاء السمع ببقاء الجنة والنار قلنا بذلك. وكأنَّ هؤلاء لم يعلموا أن ما كان ممتنعًا في العقل لا يجيء الشرع بوقوعه، إذ يستحيل عليه أن يخبر بوجود ما هو ممتنعٌ في العقل، __________ (1) في جميع النسخ "أصل"، والمثبت من نسخةٍ على حاشية "د"، وكتاب شيخ الإسلام في هذه المسألة ص (44).

(2/724)


وكأنهم لم يفرقوا بين مُحالات العقول ومَحاراتها (1) ، فالسمع يجيء بالثاني لا بالأول، فالسمع يجيء بما تعجز العقول (2) عن إدراكه، ولا يستقل به، ولا يجيء بما يعلم العقل إحالته. والأكثرون الَّذين وافقوا جهمًا وأبا الهذيل على هذا الأصل، فرَّقوا بين الماضي والمستقبل، وقالوا: الماضي قد دخلَ في الوجود بخلاف المستقبل، والممتنع إنَّما هو دخول ما لا يتناهى في الوجود، لا تقدير دخوله شيئًا بعد شيء. قالوا: وهذا نظير أن يقول القائل: لا أعطيكَ درهمًا إلَّا وأعطيك بعده درهمًا آخر، فهذا ممكن، والأوَّل نظير أنْ يقول: لا أعطيك درهمًا إلَّا وأعطيك قبله درهمًا، فهذا محال، وهؤلاء عندهم وجود ما لا يتناهى في الماضي محال، ووجوده في المستقبل واجب. ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: بل الأمر في الماضي كهو في المستقبل، ولا فرق بينهما، بل الماضي والاستقبال أمرٌ نِسْبيٌّ، فكلُّ ما يكون مستقبلًا يصيرُ ماضيًا، وكلُّ ماضٍ فقد كان مستقبلًا، فلا يُعْقَل إمكان الدَّوام في أحد الطرفين، وإحالته في الطرف الآخر. قالوا: هذه مسألة دوام فاعلية الرب تبارك وتعالى، وهو لم يزل ربًّا قادرًا فعَّالًا، فإنَّه لم يزل حيًّا عليمًا (3) قديرًا، ومن المحال أنْ يكون __________ (1) في "ب، هـ": "ومجازاتها". (2) في "ب، ج، د، هـ": "يعجز العقل". (3) في "ج": "عالمًا".

(2/725)


الفعل ممتنعًا عليه لذاته، ثمَّ ينقلب فيصير مُمكنًا (1) لذَّاته من غير تجدُّد شيء، وليس للأوَّل حدٌّ محدود حتَّى يصير الفعل ممكنًا له عند ذلك الحدِّ، ويكون قبله ممتنعًا عليه. فهذا القولُ تصوره كافٍ في الجزمِ بفساده، ويكفي في فساده أنَّ الوقتَ الَّذي انقلب فيه الفعل من الإحالة الذَّاتية إلى الإمكان الذَّاتي، إمَّا أنْ يصحَّ أنْ يُفْرَضَ قبلَهُ وقتٌ يمكن فيه الفعل أو لا يصح. فإنْ قلتم: لا يصحُّ، كان هذا تحكُّمًا غير معقول، وهو من جنس الهَوَس. وإن قلتم: يصح، قيل: وكذلك ما يفرض قبله لا إلى غاية، فما من زمن محقَّقٍ أو مقدَّرٍ إلا والفعل ممكن فيه، وهو صفة كمال وإحسان ومتعلَّق حمد الرب تعالى وربوبيته وملكه، وهو لم يزل ربًّا حميدًا (2) ملكًا قادرًا، لم تتجدد له هذه الأوصاف، كما أنه لم يزل حيًّا مريدًا عليمًا. والحياة والعلم والإرادة والقدرة تقتضي آثارها ومتعلقاتها، فكيف يعقل حي قدير عليم مريد ليس له مانع ولا قاهر يقهره يستحيل عليه أن يفعل شيئًا البتة؟ فكيف يجعل هذا أصل أصول (3) الدين، ويُجْعَل معيارًا على ما أخبر اللَّه سبحانه به ورسوله، ويفرَّق به بين جائزات العقول ومحالاتها؟ __________ (1) من هنا سقط من "ج" إلى ص (733). (2) في نسخةٍ على حاشية "أ": "جميلًا". (3) ليس في "ب".

(2/726)


فإذا كان هذا شأن الميزان، فكيف يستقيم الموزون به؟ وأما قول من فرَّق: بأنَّ الماضي قد دخل في الوجود دون المستقبل، فكلام لا تحقيق وراءه (1) ، فإن الذي يحْضُره (2) الوجود من الحركات هو المتناهي، ثم يعدم فيصير ماضيًا، كما كان معدومًا لما كان مستقبلًا، فوجوده بين عدمين، وكلما انقضت جملة حدثت بعدها جملة أخرى، فالذي صار ماضيًا هو بعينه الذي كان مستقبلًا، فإنْ دلَّ الدليل على امتناع ما لا يتناهى شيئًا قبل شيء، فهو بعينه، دال على امتناعه شيئًا بعد شيء. وأما تفريقكم بقولكم: المستقبل نظير قوله: ما أعطيك درهمًا إلا وأعطيك بعده درهمًا، فهذا ممكن. والماضي نظير قوله: ما أعطيك درهمًا إلا وأعطيك قبله درهمًا. فهذا الفرق فيه تلبيس لا يخفى، وليس بنظير ما نحن فيه، بل نظيره أن يقول: ما أعطيك درهمًا إلا وقد تقدم مني إعطاء درهم قبله. فهذا ممكن الدوام في الماضي على حدِّ إمكانه في المستقبل، ولا فرق في العقل الصحيح بينهما البتَّة، ولمَّا لم يجدِ الجهمُ (3) وأبو الهذيل وأتباعهما بين الأمرين فرقًا قالوا: بوجوب (4) تناهي الحركات في المستقبل كما يجبُ ابتداؤها عندهم في الماضي. وقال أهل الحديث: بل هما سواء في الإمكان والوقوع، ولم يزل __________ (1) في "د": "له" بدل "وراءه". (2) في "ج، د": "يحصره". (3) في "د": "جهم". (4) في "أ": "يوجب".

(2/727)


الرب سبحانه فعَّالًا لِمَا يُريد، ولم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال منعوتًا بنعوت الجلال، وليس المتمكِّن من الفعل كلَّ وقتٍ كالَّذي لا يمكنه الفعل إلَّا في وقتٍ معينٍ، وليس من يَخْلُق كمن لا يَخْلُق، ومن يُحْسِن كمن لا يحسِن، ومن يدبر الأمر كمن لا يدبر، وأيُّ كمالٍ في أنْ يكون رب العالمين معطلًا عن الفعل مدَدٍ مقدرة، أو محقَّقةٍ لا تتناهى، يستحيل منه الفعل، وحقيقة ذلك أنَّه لا يقدر عليه. وإنْ أبيتم هذا الإطلاق وقلتم: إنَّ المحال لا يوصف بكونه غير مقدور عليه، فجمعتم بين محالين: الحكم بإحالة الفعل من غير موجبٍ لإحالته، وانقلابه من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذَّاتي من غير تجدُّد سببٍ، وزعمتم أنَّ هذا هو الأصل الَّذي تثبتون به وجود الصانع، وحدوث العالم، وقيامة الأبدان، فجنيتم على العقل والشرعِ، والربُّ تعالى لم يزل قادرًا على الفعلِ والكلام بمشيئته، ولم يزل فعَّالًا لِمَا يُريد، ولم يزل ربًّا مُحْسنًا" (1) . "والمقصودُ: أنَّ القولَ بفناء الجنَّة والنَّارِ قولٌ مبتدع ليقله أحدٌ من الصحابة ولا التابعين، ولا أحدٌ من أئمة المسلمين، والَّذين قالوه إنَّما تلقَّوهُ عن قياسٍ فاسدٍ اشتبه أصله على كثيرٍ من النَّاسِ فاعتقدوه __________ (1) انظر: رسالة الرد على من قال: بفناء الجنَّة والنَّارِ لابن تيمية ص (44 - 49) بتصرف وزيادة من ابن القيم على ما جاء في هذه الرسالة. وانظر درء تعارض العقل والنقل (8/ 345 - 347)، ومجموع الفتاوى (8/ 153 - 154)، ومنهاج السنة النبوية (1/ 432 - 446).

(2/728)


حقًّا، وبنوا عليه القول بخلق القرآن، ونفي الصفات، وقد دلَّ القرآن والسنَّة والعقل الصريح على أنَّ كلمات اللَّه وأفعاله لا تتناهى، ولا تنقطع بآخرٍ، ولا تُحدُّ بأوَّل، قال اللَّهُ تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] فأخبر عن عدم نفادٍ لكلماته لِعِزَّته وحكمته، وهذان وصفان ذاتيان له سبحانه وتعالى لا يكون إلا كذلك. وذكر ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1) عن سليمان بن عامر قال: سمعت الربيع بن أنس يقول: "إن مثل علم العباد كلهم في علم اللَّه عز وجل كقطرة من هذه البحور كلها، وقد أنزل سبحانه في ذلك {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} الآية". وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية؛ يقول سبحانه لو كان البحر مدادًا لكلمات اللَّه، والشجر كلها أقلام لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وكلمات اللَّه تعالى باقية لا يفنيها شيء؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، بل هو كما أثنى على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما يقول، ثم إن مثل نعيم الدنيا أوَّله وآخره في نعيم الآخرة كحبة من (2) خردل في خلال الأرض كلها" (3) . __________ (1) ليس في المطبوع، وهو ناقص. انظر: تفسير ابن كثير (3/ 460). (2) ليس في "د"، ووقع في "أ" "في" وهو خطأ. (3) انظر: رسالة الرد على من قال: بفناء الجنَّة والنَّار ص (49).

(2/729)


فصل وأما أبديَّة النار ودوامها: فقال شيخ الإسلام: "فيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والنزاع في ذلك معروف عن التابعين" (1). قلت: ها هنا أقوال سبعة: أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبدًا، بل كل من دخلها مخلد فيها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة. والثاني: أن أهلها يعذبون فيها مُدَّةً، ثم تنقلب عليهم، وتبقى طبيعةٌ نارية لهم، يتلذَّذون بها لموافقتها لطبيعتهم. وهذا قول إمام الإتحادية ابن عربي الطائي. قال في "فصوصه" (2): "الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيثنى عليها بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] لم يقل: وعيده، بل قال: {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16] مع أنه توعَّدَ على ذلك، وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وقد زال الإمكان في حق الحق، لما فيه من طلب المرجِّح: __________ (1) انظر المصدر السابق ص (52)، وفيه زيادة "ومن بعدهم". (2) ص (93 - 94).

(2/730)


فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... وما لوعيد الحقِ عينٌ تُعَاين وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد والأمر واحد ... وبينهما عند التجلِّي تباين يُسَمَّى عذابًا من عذوبة طعمه ... وذاك له كالقشر والقشرُ صاين" وهذا في طرف، والمعتزلة الذين يقولون: لا يجوز على اللَّه أن يُخْلِفَ وعيده، بل يجب عليه تعذيب من توعده بالعذاب= في طرف، فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أصلًا، وهذا عنده لا يعذب بها أحد أصلًا. والفريقان مخالفان لما عُلِمَ بالاضطرار أن الرسول جاء به، وأخبر به عن اللَّه عز وجل. الثالث: قول من يقول: إن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون. وهذا القول حكاه اليهود للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأكذبهم فيه (1) ، وقد أكذبهم اللَّه تعالى في القرآن فيه: فقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 382)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 155) رقم (813)، والحاكم في المستدرك (2/ 654) رقم (4171)، والواحدي في أسباب النزول ص (26 - 27) وغيرهم. وفيه محمد بن أبي محمد الأنصاري مولى زيد بن ثابت، تفرَّد بالرواية عنه ابن إسحاق. قال الذهبي: وقد ورد معناهُ عن غير واحدٍ من التابعين.

(2/731)


خَالِدُونَ (81) } [البقرة: 80, 81]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23 - 24]. فهذا القول إنما هو قول أعداء اللَّه اليهود، فهم شيوخ أربابه والقائلين به. وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام على فساده، قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، وقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وقال: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22]، وقال: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] وقال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، وقال تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة. الرابع: قول من يقول: يخرجون منها وتبقى نارًا على حالها ليس فيها أحدٌ يُعَذَّبُ، حكاه شيخ الإسلام (1) . والقرآن والسنة أيضًا يردان هذا القول كما تقدم. __________ (1) في رسالة الرد على من قال بفناء الجنَّة والنَّار ص (53).

(2/732)


الخامس: قول من يقول: بل (1) تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة بعد أن لم تكن، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وأبديته. وهذا قول جهم بن صفوان وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار. السادس: قول من يقول: تفنى حياتهم وحركاتهم ويصيرون جمادًا، لا يتحركون ولا يحسُّون بألم. وهذا قول أبي الهُذَيل العلَّاف إمام المعتزلة، طَرْدًا لامتناع حوادث لا نهاية لها. والجنة والنار عنده سواء في هذا الحكم. السابع: قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى، فإنه جعل لها أمَدًا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها. قال شيخ الإسلام: "وقد نُقِلَ هذا القول عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد وغيرهم. وقد روى عَبْد بن حُمَيد -وهو من أجل علماء الحديث- في "تفسيره" المشهور: حدثنا سليمان (2) بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن قال: قال عمر: "لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج (3) ، لكان لهم على __________ (1) من "ب, هـ"، ونسخةٍ على حاشية "أ". (2) إلى هنا انتهى السقط من "ج". (3) هو مَثَلٌ يُضرب للمبالغة في الكَثْرة، وعالِج: رمال بين فيد والقريات ينزلها بُحْتر من طيء، وهي متصلة بالثعلبية على طريق مكة، لا ماء بها. . . . =

(2/733)


ذلك (1) يوم يخرجون فيه" (2) . وقال: حدثنا حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه" (3) . ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) } [النبأ: 23]، فقد رواه عَبْدٌ -وهو من الأئمة الحفاظ وعلماء السنة- عن هذين الجليلين: سليمان بن حرب، وحجاج بن منهال كلاهما، عن حماد بن سلمة -وحَسْبُك به- وحماد يرويه عن ثابت وحميد، وكلاهما يرويه عن الحسن. وحسبك بهذا الإسناد جلالة. والحسن وإن لم يسمع من عمر، فإنما رواه عن بعض التابعين، ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لَمَا جزم به وقال: قال عمر بن الخطاب، ولو قُدِّرَ أنه لم يُحْفَظ عن عمر، فتداول هؤلاء الأئمة له غير مقابلين له بالإنكار والرد، مع أنهم ينكرون على من خالف السنة بدون هذا، فلو كان هذا القول عند هؤلاء الأئمة من البدع المخالفة لكتاب اللَّه وسنة رسوله وإجماع الأئمة، لكانوا أول منكر له. __________ = وقيل: رمل عالج يحيط بأكثر أرض العربِ. انظر: المعجم للبكري (2/ 913)، ومعجم البلدان (4/ 78). (1) قوله "على ذلك" ليس في "أ". (2) قال ابن القيم: "ورواةُ هذا الأثرِ أئمة ثقات كلهم. . . . " شفاء العليل (2/ 707). (3) سقط هذا الأثر كاملًا من "ج".

(2/734)


قال: ولا ريب أنَّ مَنْ قال هذا القول عن عمر، ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها، فأما قوم أصيبوا بذنوبهم، فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها، وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج، ولا قريبًا منه. ولفظ "أهل النار" لا يختص بالموحِّدين، بل هو مختص بمن عداهم، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون" (1) ، ولا يناقض هذا قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا}، وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] بل ما أخبر اللَّه به هو الحق والصدق الذي لا يقع خلافه، لكن إذا انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا لم يبق نارًا ولم يبق فيها عذاب. قال أرباب هذا القول: في "تفسير علي بن أبي (2) طلحة الوالبي": عن ابن عباس في قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) } [الأنعام: 128]. قال: "لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللَّه في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا" (3) . قالوا: وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصًّا بأهل القبلة، فإنه سبحانه قال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ __________ (1) أخرجه مسلم رقم (185) مطوَّلًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (2) سقط من "أ، هـ". (3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1388) رقم (7897)، والطبري (8/ 34). وسنده حسن.

(2/735)


وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام: 128 - 129]. وأولياء الجن من الإنس يدخل فيه الكفار قطعًا، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27]. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99, 100]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} [الأعراف: 201 - 202]. وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50]. وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء: 76]. وقال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)} [المجادلة: 19]. وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121].

(2/736)


فالاستثناء وقع في الآية التي أخبرت عن دخول أولياء الشيطان (1) النار. فَمِنْ ها هنا قال ابن عباس: "إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللَّه في خلقه". قالوا: وقول من قال إن "إلا" بمعنى "سوى"، أي: سوى ما شاء اللَّه أن يزيدهم من أنواع العذاب وزمنه = لا تخفى منافرته للمستثنى والمستثنى منه، وإن الذي يفهمه المخاطب: مخالفة ما بعد "إلا" لما قبلها. قالوا: وقول من قال: إنه لإخراج ما قبل دخولهم إليها من الزمان؛ كزمان البرزخ والموقف، ومدَّة الدنيا أيضًا = لا يساعد عليه وجه الكلام، فإنَّه استثناء من جملة خبريَّة مضمونها: أنَّهم إذا دخلوا النَّارَ لبثوا فيها مدَّة دوام السماوات والأرضِ إلَّا ما شاء اللَّهُ (2) ، وليس المراد الاستثناء قبل الدخول، هذا ما لا يفهمه المخاطب، ألَا ترى أنَّه سبحانه يخاطبهم بهذا في النَّار حين يقولون: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128]، فيقول لهم حينئذٍ: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128]، وفي قولهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} نوعُ اعترافٍ واستسلام وتحسُّر، أي: استمتع الجن بنا، واستمتعنا بهم، فاشتركنا __________ (1) في "ب": "الشياطين". (2) انظر: رسالة الرد على من قال بفناء الجنَّة والنَّار لابن تيمية ص (53 - 60) بتصرف مع زيادة أحيانًا.

(2/737)


في الشرك ودواعيه وأسبابه، وآثرنا الاستمتاع على طاعتك وطاعة رسلك، وانقضت آجالنا، وذهبت أعمارنا في ذلك، ولم نكتسب فيها رضاك، وإنَّما كان غاية أمرنا في مُدَّة آجالنا استمتاع بعضنا ببعض. فتأمل ما في هذا من الاعتراف بحقيقة ما هم عليه، وكيف بدت لهم تلك الحقيقة ذلك اليوم، وعلموا أن الذي كانوا فيه في مدة آجالهم، هو حظهم من استمتاع بعضهم ببعض، ولم يستمتعوا بعبادة ربهم، ومعرفته وتوحيده، ومحبته وإيثار مرضاته. وهذا من نمط قولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)}. وقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 10, 11]. وقوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص: 75]، ونظائره. والمقصود أنَّ قوله {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} عائد إلى هؤلاء المذكورين مختصًّا بهم، أو شاملًا لهم ولعصاة الموحِّدين، وأما اختصاصه بعصاة المسلمين دون هؤلاء فلا وجه له. ولمَّا رأت طائفة ضعف هذا القول، قالوا: الاستثناء يرجع إلى مُدَّة البرزخ والموقف. وقد تبيَّن ضعف هذا القول. ورأت طائفة أخرى: أنَّ الاستثناء يرجع إلى نوع آخر من العذاب غير النار. قالوا: والمعنى: أنكم في النار أبدًا إلا ما شاء اللَّه أن يعذبكم

(2/738)


بغيرها، وهو الزمهرير. وقد قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) } [النبأ: 21 - 23]. قالوا: والأبد: لا يُقدَّر بالأحقاب. وقد قال ابن مسعود في هذه الآية: "لَيأتينَّ على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابًا" (1) . وعن أبي هريرة مثله (2) ، حكاه البغوي عنهما. ثم قال: "ومعناه عند أهل السنة إن ثبت: أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان" (3) . قالوا: قد ثبت ذلك عن أبي هريرة وابن مسعود وعبد اللَّه بن عمرو، وقد سأل حربٌ إسحاق بن راهويه عن هذه الآية (4) ، فقال: سألت إسحاق، قلت: قول اللَّه تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] فقال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن. حدثنا عبيد اللَّه بن معاذ، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي: __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 118) قال حُدِّثت عن المسيب عمَّن ذكره عن ابن عباس، وذكر كلامًا له، ثمَّ قال وقال: ابن مسعود فذكره. وسنده ضعيف لإبهام من حدَّثه عن المسيب، ومن ذكره عن ابن عباس. وأخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (3/ 635) من طريق إبراهيم النخعي قال: قال ابن مسعود: "ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها". (2) سيأتي ص (741). (3) معالم التنزيل (4/ 202). (4) انظر: مسائر حرب الكرماني ص (429).

(2/739)


حدثنا أبو نضرة، عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أتت هذه الآية على القرآن كله (1) : {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ". قال المعتمر: قال أبي: كل وعيد في القرآن" (2) . حدثنا عبيد اللَّه بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن أبي بَلْج (3) سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: "ليأتين على جهنَّم يوم تصطفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا" (4) . __________ (1) في "د" "هذه الآية تأتي على القرآن كله"، وهو موافق لما ذكره المؤلِّف في شفاء العليل (2/ 705)، وليس في مسائل حرب المطبوعة كلمة "أتت". (2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 273) رقم (1251)، والطبري (12/ 118)، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (337). وسنده صحيح. - ورواهُ جعفر بن سليمان عن الجُريري عن أبي نضرة قوله. أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات رقم (336)، وابن أبي حاتم في تفسيره رقم (11239) معلَّقًا. والجريري اختلط، ولا يُدرى هل سمع منه جعفر الضبعي قبل اختلاطه أم بعده؟ انظر: الكواكب النيِّرات ص (185). (3) في "ب": "صالح" وهو خطأ. (4) أخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 103). من طريق الطيالسي عن شعبة به مثله إلى قوله "أحد". قال الطيالسي: وحدثنا حماد بن سلمة عن ثابت قال: سألت الحسن عن هذا الحديث فأنكره". وهذا الحديث جعله الذهبي من بلايا أبي بَلْج فذكره وقال: "هذا منكر" =

(2/740)


حدثنا عبيد اللَّه، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن يحيى بن أيوب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: ما أنا بالذي لا أقول: إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: " {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) } [هود: 106] " (1) . قال عبيد اللَّه: كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحِّدين. حدثنا أبو مَعْنٍ، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه، أو بعض أصحابه في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]. قال: "هذه الآية أتت (2) على القرآن كله" (3) . __________ = الميزان (7/ 189). قلتُ: إنكار الحسن البصري يحتمل عدَّة احتمالات، لكنْ تقدم قريبًا ص (734 - 735) رواية ثابت البناني وحميد الطويل عن الحسن أنَّ عمر بن الخطاب قال: لو لبثت أهل النَّار. . . ". وأبو بلج الفزاري واسمه يحيى بن سُليم، وقيل غير ذلك، وثَّقه جماعة، وله حديث منكر. انظر: تهذيب الكمال (33/ 162). فإنْ كان حفظه فالإسناد لا بأس به. (1) سنده لا بأس به، ويحيى بن أيوب هو البجلي الكوفي مختلفٌ فيه. تهذيب الكمال (31/ 232). وأخرجه إسحاق بن راهويه، كما في الدر المنثور (3/ 635) بلفظ "سيأتي على جهنَّم يومٌ لا يبقى فيها أحد، وقرأ {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا. .} الآية. (2) من "أ، هـ" فقط، وليست في باقي النسخ، ولا في مسائل حرب المطبوعة. (3) انظر في مسائل حرب ص (430)، وتقدم الكلام عليه.

(2/741)


وقد حكى ابن جرير هذا القول في "تفسيره" (1) عن جماعة من السلف، فقال: وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار، وكل من دخلها. ذكر من قال ذلك -ثم ذكر الآثار التي نذكرها-: وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر أو أبي سعيد، أو عن رجل من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } قال: "هذه الآية تأتي على القرآن كله"، يقول: حيث كان في القرآن "خالدين فيها" تأتي عليه"،. قال: "وسمعت أبا مجلز يقول: جزاؤه جهنم (2) ، فإن شاء اللَّه عز وجل تجاوز عن عذابه" (3) . وقال ابن جرير: "حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرازق، فذكره. قال: وحُدِّثت عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال: "لا يموتون وما هم منها بمخرجين ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك. قال: استثنى اللَّه، قال: أمر النار أن تأكلهم". قال: وقال ابن مسعود: "ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد بعدما يلبثون فيها أحقابًا". __________ (1) (12/ 118). (2) من "أ"، وليس في باقي النسخ، ولا عند عبد الرزاق ولا الطبري. (3) أثر أبي مجلز موصول بالسند المتقدم، وهو عند عبد الرزاق والطبري كما تقدم. تنبيه: وقع في "هـ" "مخلد" بدل "مجلز" وهو تصحيف.

(2/742)


حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي، قال: "جهنم أسرع الدارين عمرانًا، وأسرعهما خرابًا" (1) . وحكى ابن جرير في ذلك قولًا آخر، فقال: "وقال آخرون: أخبرنا اللَّه سبحانه بمشيئته لأهل الجنة، فعرفنا معنى ثنياه بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } أنَّها في الزيادة على مقدار مدة السماوات والأرض، قالوا: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة، وجائز أن تكون في النقصان. حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} حتَّى بلغ {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } فقال: أخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار" (2) . وقال (3) ابن مردويه في "تفسيره": حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا خير بن عرفة، حدثنا يزيد بن مروان الخلال، حدثنا أبو خليد، حدثنا سفيان -يعني: الثوري- عن عمرو بن دينار، عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) __________ (1) تفسير الطبري (12/ 118). وأثرا ابن عباس وابن مسعود: ضعيفا الإسناد كما تقدَّم. وأثر الشعبي أيضًا ضعيف جدًّا: شيخ الطبري هو محمد بن حُميد وهو ضعيف جدًّا. (2) تفسير الطبري (12/ 118 - 119). وأثر ابن زيد صحيح. (3) من هنا سقط من "ج" إلى ص (747).

(2/743)


خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 106 - 107]. قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن شاء اللَّه أن يخرج ناسًا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فَعَل" (1) . وهذا الحديث يدل على أن الاستثناء إنما هو للخروج من النار بعد دخولهم خلافًا لمن زعم: أنه لما قبل الدخول؛ ولكن إنما يدل على إخراج بعضهم من النار، وهذا حق بلا ريب، وهو لا ينفي انقطاعها وفناء عذابها، وأكلها لمن فيها، وأنهم يُعَذَّبون فيها دائمًا ما دامت كذلك، وما هم منها بمخْرَجين، فالحديث دل على أمرين: أحدهما: أنَّ بعض الأشقياء إن شاءَ اللَّهُ يخرجهم من النار -وهي نار- فَعَلَ، وأن الاستثناء أنما هو فيما بعد دخولها، لا فيما قبله. وعلى هذا، فيكون معنى الاستثناء: إلا ما شاء ربك من الأشقياء، فإنهم لا يخلدون فيها، ويكون الأشقياء نوعين: نوعًا يخرجون منها، ونوعًا يخلدون فيها، فيكونون من الذين شقوا أوّلًا، ثم يصيرون من الذين سُعِدوا، فتجتمع لهم الشقاوة والسعادة في وقتين. قالوا: وقد قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً __________ (1) سنده ضعيف جدًّا. فيه يزيد بن مروان الخلال: قال ابن معين "كذَّاب" الجرح (9/ 291)، وضعفه الدارمي وأبو داود وقال الدارقطني: "ضعيف جدًّا". انظر: اللسان (6/ 380).

(2/744)


وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ: 21 - 28]. فهذا صريح في وعيد الكفار المكذبين بآياته، ولا يُقَدَّر الأبدي بمدة الأحقاب (1) ولا غيرها، كما لا يقدَّر به القديم، ولهذا قال عبد اللَّه ابن عمرو: فيما رواه (2) شعبة، عن أبي بلج، سمع عمرو بن ميمون يحدث عنه: "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا" (3). فصل والذين قطعوا بدوام النار لهم ست طرق: أحدها: اعتقاد الإجماع، فكثير من الناس يعتقدون أنَّ هذا مجمع عليه بين الصحابة والتابعين لا يختلفون فيه، وأن الاختلاف فيه حادث، وهو من أقوال أهل البدع. الطريق الثاني: أن القرآن دل على ذلك دلالة قطعية، فإنه سبحانه وتعالى أخبر: أنه عذاب مقيم، وأنه لا يُفَتَّر عنهم، وأنه لن يزيدهم إلا عذابًا، وأنهم خالدين فيها أبدًا، وما هم بخارجين من النار، وما هم منها بمخرجين، وأن اللَّه حرم الجنة على الكافرين، وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط، وأنهم لا يقضى عليهم __________ (1) في "د": "لا أحقاب". (2) قوله: "فيما رواهُ"، وقع في "أ": "فيها" بدل "فيما رواهُ". (3) تقدم الكلام عليه في ص (740).

(2/745)


فيموتوا، ولا يُخَفَّف عنهم من عذابها، وأن عذابها كان غرامًا، أي: مقيمًا لازمًا. قالوا: وهذا يفيد القطع بدوامه واستمراره. الطريق الثالث: أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج مَنْ في قلبه مثقال ذرة مِنْ إيمانٍ دون الكفار، وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان. الطريق الرابع: أنَّ الرسول وقَّفْنَا على ذلك وعَلِمْنَاهُ من دينه بالضرورة من غير حاجة بنا إلى نقلٍ معينٍ، كما عَلِمْنا من دينه دوام الجنة وعدم فنائها. الطريق الخامس: أن عقائد السلف وأهل السنة مصرحة بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما لا تفنيان، بل هما دائمتان، وإنما يذكرون فناءهما عن أهل البدع. الطريق السادس: أنَّ العقلَ يقضي بخلود الكفار في النَّارِ. وهذا مبنيٌ على قاعدةٍ وهي: أنَّ المعاد (1) وثواب النفوس المطيعة، وعقوبة النفوس الفاجرة هل هو ممَّا يُعلم بالعقل، أو لا يُعْلَم إلَّا بالسمعِ؟ __________ (1) في "أ، هـ": "النار".

(2/746)


فيه طريقان لنظَّار المسلمين، وكثير منهم يذهب إلى أنَّ ذلك يُعلَم بالعقل مع السمع، كمَّا دلَّ عليه القرآن في غير موضع، كإنكارهِ سبحانه على من زعم أنَّه يُسَوِّي بين الأبرار والفجار في المحيا والممات، وعلى من زعم أنَّه خلق خلقه عبثًا، وأنَّهم إليه لا يُرجعون، وأنَّه يتركهم سُدى، أي: لا يثيبهم ولا يعاقبهم، وأنَّ ذلك يقدحُ في حكمته وكماله، وأنَّه نِسْبةُ له (1) إلى ما لا يليقُ به، وربما قرَّروهُ بأنَّ النفوس البشرية باقيةٌ، واعتقاداتها وإراداتها صفة لازمةٌ لها لا تفارقها وإن ندمت عليها، لمَّا رأت العذاب، فلم تندم عليها لقبحها وكراهة ربها لها، بل لو فارقها العذاب رجعت كما كانت أوَّلًا. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) } [الأنعام: 27 - 28] (2) . فهؤلاء قد ذاقوا العذابَ وباشروه، ولم يزل سببه ومُقْتضِيْهِ من نفوسهم، بل خبثها وكفرها قائم بها، لم يفارقها بحيث لو رُدُّوا لعادوا كفارًا كما كانوا، وهذا يدلّ على أن دوام تعذيبهم يقضي به العقل، كما جاء به السمع. قال أصحاب الفناء: بالكلام على هذه الطرق: يَبِيْنُ الصوابُ في هذه المسألة. __________ (1) ليس في "ب، د". (2) إلى هنا انتهى السقط من "ج".

(2/747)


فأما الطريق الأول: فالإجماع الذي ادعيتموه غير معلوم، وإنما يظن الإجماعَ في هذه المسألة من لم يعرف النزاع - وقد عُرِفَ النزاعُ فيها قديمًا وحديثًا - بل لو كلف مُدَّعِي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنَّه قال: إن النار لا تفنى أبدًا، لم يجد إلى ذلك سبيلًا. ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فأوْجِدوا لنا (1) عن واحد منهم خلاف ذلك، بل التابعون حكي عنهم هذا وهذا. قالوا: والإجماع المُعْتدُّ به نوعان متفق عليهما، ونوع ثالث مختلف فيه، ولم يوجد واحد منها (2) في هذه المسألة. النوع الأول: يكون معلومًا من ضرورة الدين، كوجوب أركان الإِسلام، وتحريم المحرمات الظاهرة. الثاني: ما ينقل عن أهل الاجتهاد التصريح بحكمه. الثالث: أن يقول بعضهم القول، وينتشر في الأمة، ولا ينكره أحد. فأين معكم واحد من هذه الأنواع؟! ولو أن قائلًا ادعى الإجماع من هذا الطَّرَفِ واحتج بأن الصحابة صح عنهم ذلك ولم ينكر أحد منهم عليه = لكان أسعد بالإجماع منكم. __________ (1) قوله "فأوجدوا لنا" في "ب، د" "فما وجدنا"، وفي نسخة على "د" "فأوجدنا"، وفي "أ، هـ": "فأوجدونا". (2) قوله "يوجد واحد منها" وقع في "ب، د": "يوجد واحدا منهما"، وفي "هـ": "يوجد واحد منهما".

(2/748)


قالوا: وأما الطريق الثاني: وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها، فأين في القرآن دليل واحد يدل على ذلك؟! نعم، الذي دلّ عليه القرآن أن الكفار خالدين في النار أبدًا، وأنهم غير خارجين منها، وأنهم لا يُفَتَّر عنهم عذابها، وأنهم لا يموتون فيها، وأن عذابهم فيها مقيم، وأنه غرام لازم لهم، وهذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وليس هذا مورد النزاع، وإنما النزاع في أمر آخر، وهو: أنَّه هل النار أبدية أو مما كُتِبَ عليها الفناء؟ وأما كون الكفار لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها، ولا يُقْضَى عليهم فيموتوا، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط = فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة، وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من اليهود والإتحادية، وبعض أهل البدع. وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية، ولا يخرجون منها مع بقائها البتة، كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها. فالفرق بين من يخرج من الحبس -وهو حبس على حاله- وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه. قالوا: وأما الطريق الثالث: وهو مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من النار دون أهل الشرك، فهي حق لا شك فيه، وهي إنما تدل على ما قلناه من خروج الموحِّدين منها، وهي دار عذاب لم تَفْنَ، ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية، والنصوص دلت على هذا وعلى هذا. قالوا: وأما الطريق الرابع: وهو أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقفنا على ذلك

(2/749)


ضرورة، فلا ريب أنَّه من المعلوم من دينه بالضرورة، أن الكفار باقون فيها ما دامت باقية، هذا معلوم من دينه بالضرورة، وأما كونها أبدية لا انتهاء لها ولا تفنى كالجنة، فأين في القرآن والسنة دليل واحد يدل على ذلك؟ قالوا: وأما الطريق الخامس: وهو أن في عقائد أهل السنة: أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدًا. فلا ريب أن القول بفنائهما قول أهل البدع من الجهيمية والمعتزلة، وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد من أئمة المسلمين، وأما فناء النار وحدها فقد أوجدناكم من قال به من الصحابة، وتفريقهم بين الجنة والنار، فكيف يكون القول به من أقوال أهل البدع، مع أنَّه لا يُعْرَف عن أحد من أهل البدع التفريق بين الدارين، فقولكم: إنه من أقوال أهل البدع كلامُ من لا خِبْرَة له بمقالات بني آدم، وآرائهم واختلافهم. قالوا: والقول الذي يُعَدُّ من أقوال أهل البدع: ما خالف كتاب اللَّه، أو سنة رسوله، أو إجماع الأمة، إما الصحابة (1) أو من بعدهم، وأما قول يوافق الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فلا يُعَدُّ من أقوال أهل البدع، وإن دانوا به واعتقدوه، فالحق يجب قبوله ممن قاله، والباطل يجب ردُّهُ على من قاله، وكان معاذ بن جبل يقول: "اللَّه حَكَم قسط، هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه المؤمن والمنافق، والمرأة والصبي، والأسود والأحمر، __________ (1) قوله "أو سنة رسوله أو إجماع الأمة، إمَّا الصحابة" وقع في "ج" "والسنة أو إجماع الصحابة أو من بعدهم، ووقع في "أ" "و" بدل "أو".

(2/750)


فيوشك أحدهم أن يقول: قرأت القرآن، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتُدِعَ لهم غيره، فإياكم وما ابتُدِعَ، فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نورًا، قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي الكلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا يصدنكم عنه، فإنَّه يوشك أن يفيء، ويراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة" (1) . فالذي أخبر به أهل السنة في عقائدهم، هو الذي دلّ عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه السلف: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل النار لا يخرجون منها، ولا يُخَفَّف عنهم عذابها، ولا يُفَتَّر عنهم، وأنهم خالدون فيها، ومن ذكر منهم أن النار لا تفنى أبدًا؛ فإنما قاله لظنه أن بعض أهل البدع قال بفنائها، ولم تبلغه تلك الآثار التي تقدم ذكرها. قالوا: وأما الطريق السادس: وهو حكم العقل (2) بتخليد أهل النار فيها، فإخبار عن العقل بما ليس عنده، فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق. __________ (1) أخرجه أبو داود رقم (4611)، وعبد الرزاق رقم (20750)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (116)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 232 و 333)، وغيرهم. وسنده صحيح. (2) جاء في "أ، ب، ج، د": "وأمَّا حكم العقل" بدل "وأمَّا الطريق السادس: وهو حكم العقل"، والمثبت من "هـ".

(2/751)


وأما أصل الثواب والعقاب: فهل يعلم بالعقل مع السمع، أو لا يُعْلم إلا بالسمع وحده؟ ففيه قولان لِنظَّار المسلمين من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم. والصحيح أن العقل دلّ على المعاد والثواب والعقاب إجمالًا، وأما تفصيله فلا يُعْلَم إلا بالسمع، ودوام الثواب والعقاب مما لا يدلّ عليه العقل (1) بمجرده، وإنما عُلِم (2) بالسمع، وقد دلّ السمع دلالة قاطعة على دوام ثواب المطيعين، وأما عقاب العصاة فقد دلّ السمع أيضًا دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحِّدين، وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار، فهذا مُعْتَرَك النِّزَال، فمن كان السمع من جانبه فهو أسعد بالصواب (3). وباللَّه التوفيق. فصل ونحن نذكر الفرق بين دوام الجنة والنار شرعًا وعقلًا، وذلك يظهر من وجوه: أحدها: أن اللَّه سبحانه وتعالى أخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامه، وأنه لا نفاد له ولا انقطاع، وأنه غير مجذوذ. وأما النار فلم يخبر عنها بأكثر من خلود أهلها فيها، وعدم خروجهم منها، وأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأنها موصدة عليهم، وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها __________ (1) ليس في "أ". (2) في نسخةٍ على حاشية "أ": "يُعْلَم". (3) في "ج": "بالجواب".

(2/752)


أعيدوا فيها، وأن عذابها لازم لهم، وأنه مقيم عليهم لا يفتر عنهم، والفرق بين الخبرين ظاهر. الوجه الثاني: أن النار قد أخبر سبحانه وتعالى في ثلاث آيات عنها بما يدلّ على عدم أبديتها. الأولى: قوله سبحانه وتعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128]. الثانية: قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]. الثالثة: قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: 23]. ولولا الأدلة القَطْعِية الدالة على أبدِيَّة الجنة ودوامها لكان حكم الاستثناء في الموضعين واحدًا، كيف وفي الآيتين من السياق ما يفرق بين الاستثناءين، فإنَّه قال في أهل النار: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)}، فعلمنا أنَّه سبحانه وتعالى يريد أن يفعل فعلاً لم يخبرنا به، وقال في أهل الجنة: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108] فعلمنا أن هذا العطاء والنعيم غير مقطوع عنهم أبدًا. فالعذاب مؤقَّت مُعلَّق، والنعيم ليس بمؤقت ولا معلق. الوجه الثالث: أنَّه قد ثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيرًا قط من المُعَذَّبين الذين يخرجهم اللَّه من النار، وأما النار فلا يدخلها من لم يعمل سوءًا قط، ولا يعذب بها إلا من عصاه. الوجه الرابع: أنَّه قد ثبت أن اللَّه سبحانه ينشئ للجنة خلقًا آخر يوم

(2/753)


القيامة يسكنهم إياها، ولا يفعل ذلك بالنار، وأما الحديث الذي ورد في "صحيح البخاري" (1) في قوله: "وأما النار فينشئ اللَّه لها خلقًا آخرين" فغلط وقع من بعض الرواة (2) ، انقلب عليه الحديث، وإنما هو __________ (1) (7449 - فتح) كتاب التوحيد (25)، باب: ما جاء في قول اللَّه تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} ولفظه: ". . . وأنَّهُ ينشئ للنَّارِ من يشاء فيلقون فيها. . حتَّى يضع فيها قدمه فتمتلئ. . . ". (2) وبيان ذلك باختصار: أنَّ الحديث يرويه يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري عن أبيه عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة كما تقدم عند البخاري. - ورواهُ شعيب بن أبي حمزة وورقاء وابن عيينة وابن أبي الزناد كلهم عن أبي الزناد عن الأعرج به. وفيه " .. وأمَّا النَّار فلا تمتلئ، فيضع قدمه" لفظ شعيب وورقاء. أخرجه مسلم (2846)، والنسائي في الكبرى (7740)، والحميدي (1136)، وأبو يعلى (6290) وغيرهم. وقد رواهُ جماعة عن أبي هريرة: "أنَّ الجنَّة ينشئ اللَّه لها خلقًا، وأمَّا النار فيضع قدمه عليها". - منهم "همام بن منبِّه، ومحمد بن سيرين، وعبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، وزياد مولى بني مخزوم، وعمار بن أبي عمار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف -لكنَّه مختصر-، وعون بن عبد اللَّه بن عتبة -إنْ كان محفوظًا-، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة". أخرجه البخاري (4849 و 4850)، ومسلم (2846)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (121 - 123، 131، 132, 137)، وأحمد (2/ 450)، والآجري في الشريعة (920) وغيرهم. =

(2/754)


ما ساقه البخاري في الباب نفسه: "وأما الجنة فينشئ اللَّه لها خلقًا آخرين" وذكره البخاري رحمه اللَّه مُبَيِّنًا أن الحديث انقلب لفظه على من رواه بخلاف هذا، فذكر هذا وهذا (1) ، والمقصود أنَّه لا تقاس النار بالجنة في التأبيد مع هذه الفروق. يوضِّحه: الوجه الخامس: أن الجنة من موجب رحمته ورضاه، والنار من غضبه وسخطه، ورحمته سبحانه تغلب غضبه وتسبقه، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "لما خلق (2) اللَّه الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إنَّ رحمتي تغلب غضبي" (3) ، وإذا كان رضاه قد سبق غضبه، وهو __________ = وقد ورد عن غير واحدٍ من الصحابة، منهم: 1 - أنس بن مالك عند البخاري (7384 - فتح". 2 - وأبو سعيد الخدري عند أحمد (3/ 13)، وابن خزيمة (134) وغيرهما. 3 - أُبي بن كعب عند الدَّارقطني في الصفات رقم (5) ولا يثبت. وهذا يدلُّ على الغلط في تلك الرواية كما قال المؤلِّف. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وقد قال جماعة من الأئمة: إنَّ هذا الموضع مقلوب"، ثُمَّ نقل كلام ابن القيم والبلقيني. (1) لم يذكر البخاري في كتاب التوحيد مع الحديث المتقدم هذا الحديث "وأمَّا الجنَّة فينشئ اللَّه لها. . . "، وإنَّما ذكره البخاري في كتاب التفسير/ سورة "ق"، باب "وتقول هل من مزيد" (8/ 594 - 595 - الفتح)، فأسند حديث همام وابن سيرين عن أبي هريرة، وأسند حديث أنس فقط. (2) في "ب، ج، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "قضى"، وكلاهما في البخاري ومسلم. (3) أخرجه البخاري (6969)، ومسلم (4751).

(2/755)


يغلبه، كان التسوية بين ما هو من موجب رضاه، وما هو من موجب غضبه = ممتنعًا. يوضحه: الوجه السادس: أن ما كان بالرحمة وللرحمة، فهو مقصود لذاته قصد الغايات، وما كان من موجب الغضب والسخط، فهو مقصود لغيره قصد الوسائل، فهو مسبوق ومغلوب مراد لغيره، وما كان بالرحمة فغالب سابق مراد لنفسه. يوضحه: الوجه السابع: وهو أنَّه سبحانه قال للجنة: "أنت رحمتي أرحم بكِ من أشاء" وقال للنار: "أنت عذابي أُعذِّبُ بك من أشاء" (1) ، وعذابه مفعول منفصل، وهو ناشئٌ عن غضبه، ورحمته ها هنا: هي الجنة، وهي رحمة مخلوقة ناشئة عن الرحمة التي هي صفة الرحمن، فها هُنا أربعة أمور: رحمة هي وصْفُهُ سبحانه، وثواب منفصل هو ناشئٌ عن رحمته، وغضب يقوم به سبحانه، وعقاب منفصل ينشأ عنه. فإذا غلبت صفة الرحمة صفة الغضب، فلأنْ يغلب ما كان بالرحمة لما كان بالغضب أولى وأحرى، فلا تقاوِم النارُ التي نشأت عن الغضب الجنةَ التي نشأت عن الرحمة. يوضحه: الوجه الثامن: أن النار خلقت تخويفًا للمؤمنين، وتطهيرًا للخطَّائين المجرمين (2) ، فهي طُهْرة من الخبث الَّذي اكتسبته النفس في __________ (1) تقدم من حديث أبي هريرة قريبًا. (2) قوله "للخطَّائين المجرمين" في "ب، ج" ونسخةٍ على حاشية "د" "للخاطئين والمجرمين"، ووقع في "د" "للخطَّائين والمجرمين".

(2/756)


هذا العالم، فإنْ تطهَّر ها هنا بالتوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة لم تحتج إلى تطهير هناك، وقيل لها مع جملة الطَّيبين: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. وإنْ لم تتطهر في هذه الدَّار، ووافقت الدَّار الأخرى بِدَرَنِهَا ونجاستها وخبثها أُدْخلت النَّار طُهْرة لها، ويكونُ مكثها في النَّار بحسب زوال ذلك الدَّرن والخبث والنجاسة التي لا يغسلها الماء، فإذا تطهَّرت الطُّهر التام أُخرجت من النَّارِ، واللَّهُ سبحانه خلق عباده حُنَفاء، وهي فطرة اللَّه التي فطر النَّاسَ عليها، فلو خُلُّوا وفِطَرهم لما نشؤوا إلَّا على التوحيد، ولكن عَرَض لأكثر الفِطَر ما غيَّرها، ولهذا كان نصيب النَّارِ أكثر من نصيب الجنَّة، وكان هذا التغيير مراتب لا يحصيها إلَّا اللَّه، فأرسل اللَّه رسوله، وأنزل كتبه يُذكِّر عباده بفطرته التي فطرهم عليها، فعرف الموفَّقون الَّذين سبقت لهم من اللَّهِ الحسنى صِحَّة ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب بالفطرة الأولى، فتوافق عندهم شرع اللَّهِ ودينه الَّذي أرسل به رسله وفطرته التي فطرهم عليها، فمنعتهم الشريعة المنزلة، والفطرة المكمِّلة، أنْ تكتسب نفوسهم خُبثًا ونجاسة ودرنًا يعلق بها ولا يفارقها، بل كلما ألمَّ بهم شيء من ذلك ومَسَّهم طائف من الشيطان غاروا عليه بالشِّرْعة (1) والفطرة، فأزالوا موجبه وأثره، وكمل لهم الرب تعالى ذلك بأقضية يقضيها لهم مما يحبون أو يكرهون، تمحص عنهم تلك الآثار التي شَوَّشت الفطرة، فجاء مقتضى الرحمة، فصادف مكانًا قابلًا مستعدًّا لها ليس فيه شيء يُدافعه، فقال: ها هنا أُمِرْت، وليس للَّه __________ (1) في "ج، هـ"، ونسخةٍ على حاشية "أ": "بالشريعة".

(2/757)


سبحانه غرض في تعذيب عباده بغير موجب، كما قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]، واستمر الأشقياء مع تغيير الفطرة، ونقلها مما خلقت عليه إلى ضِدِّه، حتى استحكم الفساد وتم التغيير، فاحتاجوا إلى إزالة ذلك إلى تغيير آخر، وتطهير ينقلهم إلى الصحة حيث لم تنقلهم آيات اللَّه المتلُوَّة والمخلوقة، وأقداره المحبوبة والمكروهة في هذه الدار، فأتاح لهم آيات أُخر وأقضيةً وعقوباتٍ فوق التي كانت في الدنيا تستخرج ذلك الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار، فإذا زال موجب العذاب وسببه؛ زال العذاب، وبقي مقتضى الرحمة لا معارضَ له. فإن قيل: هذا حق، ولكن سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارِضًا: كمعاصي الموحِّدين، أمَّا إذا كان لازمًا: كالكفر والشرك، فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في مواضع من كتابه. منها: قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] فهذا إخبارٌ بأنَّ نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك، وأنها غير قابلة للإيمان أصلًا. ومنها: قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72] فأخبر سبحانه أنَّ ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول، حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم، فإن موجبه وأثره ومقتضاه لا

(2/758)


يفارقهم. ومنها: قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) } [الأنفال: 23] وهذا يدلك على أنَّه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خير لما ضيَّع عليهم أثره. ويدل على أنَّه (1) لا خير فيهم هناك أيضًا قوله: "أَخْرِجُوا من النَّار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرَّةٍ من خير" (2) ، ولو كان عند هؤلاء أدنى أدنى مثقال ذرة من خير لخرجوا بها مع الخارجين. قيل: لعمر اللَّه إنَّ هذا لمن أقوى ما يتمسك به في المسألة، وإن الأمر لكما قلتم، وإن العذاب يدوم بدوام موجبه وسببه، ولا ريب أنهم في الآخرة في عمى وضلال كما كانوا في الدنيا، وبواطنهم خبيثة كما كانت في الدنيا، والعذاب مستمرٌّ عليهم دائم ما داموا كذلك، ولكن هل هذا الكفر والتكذيب والخبث أمر ذاتي لهم زواله مستحيل، أم هو أمرٌ عارض طارئٌ على الفطرة قابل للزوال؟ هذا حرف المسألة، وليس بأيديكم ما يدلّ على استحالة زواله وأنَّه أمر ذاتي، وقد أخبر اللَّه سبحانه أنَّه فطر عباده على الحنيفية، وأنَّ الشياطين اجتالتهم عنها، فلم يفطرهم سبحانه على الكفر والتكذيب كما فَطَر الحيوان البهيم على طبيعته، وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده. __________ (1) في "ب، ج، د، هـ" ونسخة على حاشية "أ": "أنَّهم". (2) البخاري رقم (6192)، ومسلم (184) من حديث أبي سعيد مطوَّلًا.

(2/759)


فإذا كان هذا الحق (1) الذي قد فُطِروا عليه، وخلقوا عليه، قد أمكن زواله بالكفر والشرك الباطل، فإمكان زوال الكفر والشرك الباطل بضده من الحق أولى وأحرى، لا ريب أنهم لو رُدُّوا على تلك الحال التي هم عليها لعادوا لِمَا نُهُوا عنه، ولكن مِنْ أين لكم أن تلك الحال لا تزول، ولا تتبدَّل بنشأةٍ أخرى ينشئهم فيها تبارك وتعالى إذا أخذت النَّار مأخذَهَا منهم، وحَصَلتِ الحكمة المطلوبة من عذابهم؟ فإنَّ العذاب لم يكن سُدًى، وإنَّما كان لحكمةٍ مطلوبةٍ، فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمرٌ يُطْلَب، ولا غرضٌ يُقصَد، واللَّه سبحانه ليس يَشْتفي بعذاب عباده كما يشتفي المظلوم من ظالمه، وهو لا يُعذِّب عبده لهذا الغرض، وإنَّما يعذبه طهرةً له ورحمةً به، فعذابه مصلحةٌ له، وإنْ تألَّمَ به غاية الألمِ، كما أنَّ عذابه بالحدود في الدنيا مصلحة لأربابها. وقد سمَّى اللَّه سبحانه الحدَّ عذابًا (2) ، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل داءٍ دواء يناسبه، ودواء الداء العضال يكون من أشق الأدوية، والطبيب الشفيق يكوي المريض بالنار كيًّا بعد كيٍّ ليُخْرِج منه المادة الرديئة الطارئة على الطبيعة المستقيمة، وإن رأى قطع العضو أصلح للعليل قَطَعَه، وأذاقه أشد الألم. فهذا قضاء الرب وقدره في إزالة مادة غريبة طَرَتْ على الطبيعة المستقيمة بغير اختيار العبد، فكيف إذا طرأ على الفطرة السليمة مواد فاسدة باختيار العبد وإرادته؟ __________ (1) في "أ": "للحق". (2) فقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور: 2].

(2/760)


وإذا تأمل اللبيب شرع الرب تبارك وتعالى، وقدره في الدنيا، وثوابه وعقابه في الآخرة = وَجَدَ ذلك في غاية التناسب والتوافق، وارتباط ذلك بعضه ببعض، فإن مصدر الجميع عن علمٍ تامٍّ، وحكمة بالغة، ورحمة سابغة، وهو سبحانه الملك الحق المبين، وملكه ملك رحمة وإحسان وعدل. الوجه التاسع: أن عقوبته للعبد ليست لحاجةٍ إلى عقوبته، ولا لمنفعة تعود إليه، ولا لدفع مضرة وألم يزول عنه بالعقوبة. بل يتعالى عن ذلك ويتنزه كما يتعالى عن سائر العيوب والنقائص، ولا هي عبث مَحْض خال عن الحكمة والغاية الحميدة، فإنَّه أيضًا يتنزه عن ذلك ويتعالى عنه، فإما أن يكون من تمام نعيم أوليائه وأحبائه، وإما أن يكون من مصلحة الأشقياء ومداواتهم، أو لهذا ولهذا. وعلى التقادير الثلاث: فالتعذيب أمر مقصود لغيره قصد الوسائل، لا قصد الغايات، والمراد من الوسيلة إذا حصلت على الوجه المطلوب زال حكمها، ونعيم أوليائه ليس متوقِّفًا في أصله ولا في كماله على استمرار عذاب أعدائه ودوامه، ومصلحة الأشقياء ليست في الدوام والاستمرار، وإن كان في أصل التعذيب مصلحة لهم. الوجه العاشر: أن رضا الرب تبارك وتعالى ورحمته صفتان ذاتِيَّتَان له، فلا منتهى لرضاه كما قال أعلم الخلق به: "سبحان اللَّه وبحمده، عدد خلْقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه، ومداد كلماته" (1) . __________ (1) أخرجه مسلم رقم (2726).

(2/761)


وإذا كانت رحمته غلبت غضبه، فإن رضا نفسه أعلى وأعظم، فإن رضوانه أكثر من الجنات ونعيمها وكل ما فيها، وقد أخبر أهل الجنة: أنَّه يُحِلُّ عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدًا. وأما غضبه تبارك وتعالى وسخطه فليس من صفاته الذاتية التي يستحيل انفكاكه عنها بحيث لم يزل ولا يزال غضبان، والناس لهم في صفة الغضب قولان: أحدهما: أنَّه من صفاته الفِعْلِيَّة القائمة به كسائر أفعاله. والثاني: أنَّه صِفَة فعل منفصل عنه غير قائم به. وعلى القولين، فليس كالحياة والعلم والقدرة التي تستحيل مفارقتها له، والعذاب إنما نشأ من صفة غضبه، وما سُعِّرت النار إلا بغضبه، وقد جاء في أثر مرفوع: "إن اللَّه خلق خلقًا من غضبه، وأسكنهم بالمشرق ينتقم بهم ممن عصاه" (1) . فمخلوقاته سبحانه نوعان: نوع مخلوق من الرحمة وبالرحمة. __________ (1) لم أقف عليه بهذا اللفظ. والأثرُ ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة ص (287) نقلًا عن ابن القيم، ولم يعزه لأحد، وعن السخاوي نقله العجلوني في كشف الخفاء (2/ 65). وقد وردت آثارٌ في معناه. انظر: المقاصد الحسنة ص (286)، وكشف الخفا للعجلوني (2/ 64 - 65).

(2/762)


ونوع مخلوق من الغضب وبالغضب. فإنَّه سبحانه له الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي يتنزه عن تقدير خلافه، ومنه أنَّه يرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، وينتقم ويعفو، بل هذا موجب ملكه الحق، وهو حقيقة الملك المقرون بالحكمة والرحمة والحمد، فإذا زال غضبه سبحانه، وتَبَدَّلَ برضاه؛ زالت عقوبته، وتبدلت برحمته وانقلبت العقوبة رحمة، بل لم تزل رحمة وإن تنوعت صفتها وصورتها، كما كان عقوبة العصاة رحمة، وإخراجهم من النار رحمة، فتقلبوا في رحمته في الدنيا، وتقلبوا فيها في الآخرة، لكن تلك رحمة يحبونها وتوافق طبائعهم، وهذه رحمة يكرهونها وتشق عليهم؛ كرحمة الطبيب الذي يبضع لحم المريض، ويلقي عليه المكاوي ليستخرج منه المواد الرديئة (1) الفاسدة. فإن قيل: هذا اعتبار غير صحيح، فإن الطبيب يفعل ذلك بالعليل، وهو يحبه وهو راض عنه، ولم ينشأ فعله به عن غضبه عليه، ولهذا لا يسمى عقوبة، وأما عذاب هؤلاء فإنَّه إنما حصل بغضبه سبحانه عليهم، وهو عقوبة محضة. قيل: هذا حق، ولكن لا ينافي كونه رحمة بهم، وإن كان عقوبة لهم، وهذا كإقامة الحدود عليهم في الدنيا، فإنَّه عقوبة ورحمة وتخفيف وطُهْرة، فالحدود طهرة لأهلها وعقوبة، وهم لما أغضبوا __________ (1) في نسخةٍ على حاشية "أ" "المؤذية"، وفي "هـ": "الردِيَّة".

(2/763)


الرب تعالى وقابلوه بما لا يليق أن يقابل به، وعاملوه أقبح معاملة، وكذبوه وكذبوا رسله، وجعلوا أقل خلقه وأخبثهم وأمقتهم له نِدًّا له، وآلهة (1) معه، آثروا رضاهم على رضاه، وطاعتهم على طاعته، وهو وليُّ الإنعام عليهم، وهو خالقهم ورازقهم ومولاهم الحق اشتد مقْتُهُ لهم، وغضبه عليهم، وذلك يوجب كمال أسمائه وصفاته التي يستحيل عليه تقدير خلافها، ويستحيل تخلف آثارها ومقتضاها عنها، بل ذلك تعطيل لأحكامها، كما أن نفيها عنه تعطيل لحقائقها، وكلا التعطيلين محال عليه سبحانه. فالمعطِّلون نوعان: أحدهما: عطَّل صفاته. والثاني: عطَّل أحكامها وموجباتها. وكان هذا العذاب عقوبة لهم من هذا الوجه، ودواء لهم من جهة الرحمة السابقة للغضب، فاجتمع فيه الأمران، فإذا زال الغضب بزوال سببه، وزالت المادة الفاسدة بتغير الطبيعة المقتضية لها في الجحيم بمرور الأحقاب عليها، وحصلت الحكمة التي أوجبت العقوبة = عملت الرحمة عملها، وطلبت أثرها من غير معارض. يوضحه: الوجه الحادي عشر: وهو أن العفو أحب إليه سبحانه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والرضا أحب إليه من الغضب، والفضل أحب إليه من العذل، ولهذا ظهرت آثار هذه المحبة في شرعه __________ (1) في "ج": "وألهمه" وهو خطأ.

(2/764)


وقدره، وتظهر كل الظهور لعباده في ثوابه وعقابه، وإذا كان ذلك أحب الأمرين إليه، وله خَلَقَ الخَلْق، وأنزل الكتب وشرع الشرائع، وقدرته سبحانه صالحة لكل شيء، لا قصور فيها بوجهٍ ما، وتلك المواد الرديئة الفاسدة مرض من الأمراض، وبيده سبحانه الشفاء التام، والأدوية الموافقة لكل داء، وله القدرة التامة، والرحمة السَّابِغة (1) والغنى المطلق، وبالعبد أعظم حاجة إلى من يداوي علته التي بلغت به غاية الضرر والمشقة، وقد عرف العبد أنَّه عليل، وأن دوائه بيد الغني الحميد، فتضرع إليه ودخل به عليه، واستكان له وانكسر قلبه بين يديه، وذل لعزته، وعرف أن الحمد كله له (2) ، وأن الحق كله له، وأنه هو الظلوم الجهول، وأنَّ ربه تبارك وتعالى عامله ببعض عدله لا بكلِّ عدله، وأنَّ له غاية الحمد فيما فَعَلَ به، وأنَّ حمْده هو الذي أقامه في هذا المقام، وأوصله إليه، وأنه لا خير عنده من نفسه بوجهٍ من الوجوه، بل ذلك محض فضل اللَّه وصدقته عليه، وأنه لا نجاة له مما هو فيه إلا بمجرد العفو والتجاوز عن حقه، فنفسه أولى بكل ذم وعيب ونقص، وربه تعالى أولى بكل حمد وكمال ومدح. فلو أن أهل الجحيم شهدوا نعمته سبحانه ورحمته وكماله وحمده الذي أوجب لهم ذلك، فطلبوا مرضاته؛ ولو بدوامهم في تلك الحال، وقالوا: إن كان ما نحن فيه رضاك فرضاك الذي نريد، وما أوصلنا إلى هذه الحال إلا طلب ما لا يرضيك، فأما إذا أرضاك هذا منا فرضاك غاية __________ (1) في "أ": "السابقة"، وفي "د": "الشاملة". (2) في "د": "للَّه".

(2/765)


ما نقصده. * وما لجرح (1) إذا أرضاك من ألم (2) * وأنت أرحم بنا من أنفسنا، وأعلم بمصالحنا، ولك الحمد كله، عاقبت أو عفوت = لانقلبت النار عليهم بردًا وسلامًا. وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (3) من حديث الأسود بن سَرِيع (4) -رضي اللَّه عنه- أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصمُّ فيقول: رب لقد جاء الإِسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإِسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإِسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك من رسول. فيأخذ مواثيقهم ليُطِيْعُنَّهُ فيرسل إليهم: أنِ ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمَّد بيده لو __________ (1) في "أ، ج": "تخرج". (2) هذا شطر بيت لأسامة بن منقذ كما في خريدة القصر للأصفهاني ص (2390). أوله: وما سخطتُ بعادي إذ رضِيتَ به ... وما لجرحٍ إذا أرضاكُمُ ألمُ ونُسبَ لابن النحاس، وأوله: إن كان يرضيك تطويح النوائب بي انظر: البديع في نقد الشعر لابن منقذ ص (472). (3) (4/ 24). (4) في "د": "زريع" وهو خطأ.

(2/766)


دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا" (1) . وفي "المسند" أيضًا: من حديث قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة مثله وقال: "فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحبُ إليها". فهؤلاء لمَّا رَضُوا بتعذيبهم، وبادروا إليه لَمَّا علموا أنَّ فيه رضى __________ (1) وأخرجه إسحاق في مسنده رقم (41)، والطبراني في الكبير (1/ 287) رقم (841)، وابن حبَّان في صحيحه رقم (7357)، والبيهقي في الاعتقاد ص (202) وغيرهم. من طريق علي بن المديني وإسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع فذكره. - ورواهُ محمَّد بن المثنى عن معاذ عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن الأسود بن سريع فذكره. أخرجه البزار (2174) كما في كشف الأستار. - ورواهُ علي بن المديني ومحمد بن المثنى عن معاذ عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة فذكره. أخرجه أحمد (4/ 24)، وإسحاق في مسنده (42)، والبيهقي في القضاء والقدر (645) وغيرهم. - ورواهُ حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع عن أبي هريرة فذكره. أخرجه أسد في الزهد (97)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (404). ولعلَّ حديث أبي هريرة أصح الطرق، وقد صحح إسناده البيهقي. - ورواهُ معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة موقوفًا. أخرجه الطبري (15/ 54).

(2/767)


ربهم وموافقة أمره ومحبته؛ انقلب في حقِّهم نعيمًا. ومثل هذا: ما رواهُ عبد اللَّه بن المبارك: حدثني رشدين، قال: حدَّثني ابن أنْعُمٍ عن أبي عثمان أنَّه حدَّثه عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ رجلين ممَّن دخلا النَّار يشتدُّ صياحُهما، فقال الربُّ جلَّ جلاله: أخرجوهما فأخرجا، فقال لهما: لأي شيء اشتد صياحكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحمنا، قال: رحمتي لكما أنْ تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النَّار، قال فينطلقان، فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها اللَّه سبحانه عليه بردًا وسلامًا، ويقوم الآخر فلا يلقي، فيقول له الرب: ما منعك أنْ تلقي نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول: ربِّ أرجوك أنْ لا تعيدني فيها بعدما أخرجتني منها، فيقول الربُّ تعالى: لك رجاؤك، فيدخلان جميعًا الجنَّة برحمة اللَّه" (1) . وذكر الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: "يؤمر بإخراج رجلين من النَّارِ، فإذا خرجا ووقفا، قال اللَّهُ لهما: كيف وجدتما مقيلكما وسوءَ مصيركما؟ فيقولان: شرُّ مقيل، وأسوأ مصير صار إليه العبادُ، فيقول لهما: ذلك بما قدمت أيديكما وما أنا بظلَّامٍ للعبيد، قال: فيؤمر __________ (1) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (410)، والترمذي (2599). قال الترمذي: "إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لأنَّه عن رشدين بن سعد -ورشدين بن سعد هو ضعيف عند أهل الحديث- عن ابن أنعم: وهو الأفريقي، والأفريقي ضعيف عند أهل الحديث".

(2/768)


بصرفهما إلى النار، فأما أحدهما فيغدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها. وأما الآخر فيتلكأ فيأمر بردهما، فيقول للذي غدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها: ما حملك على ما صنعت وقد جربتها؟ فيقول: إني خبرت (1) من وبال معصيتك ما لم أكن أتعرض لسخطك ثانيًا، ويقول للذي تلكأ: ما حملك على ما صنعت؟ فيقول: حسن ظني بك حين أخرجتني منها أن لا تردني إليها، فيرحمهما جميعًا، ويأمر بهما إلى الجنة" (2) . الوجه الثاني عشر: أن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه، ولذلك يضيف ذلك إلى نفسه، وأما العذاب والعقوبة، فإنما هو من مخلوقاته، ولذلك لا يُسمَّى (3) بالمُعاقِبُ والمعذِّب، بل يفرق بينهما، فيجعل ذلك من أوصافه وهذا من مفعولاته حتى في الآية الواحدة، كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) } [الحجر: 49 - 50]. وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) } [المائدة: 98] وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) } [الأعراف: 167]، ومثلها في آخر الأنعام (4) ، فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته، فإنَّه يدوم بدوامها [225/ ب]، ولا سيما إذا كان محبوبًا له، __________ (1) في "أ": "خيِّرت"، وفي "د": "جبرت"، وفي الحلية "قد ذقت". (2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 266)، وسنده ضعيف. (3) في "ب، هـ": "يتسمَّى". (4) (آية: 128).

(2/769)


وهو غاية مطلوبة في نفسها، وأما الشر الذي هو العذاب، فلا يدخل في أسمائه وصفاته، وإن دخل في مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وفني، بخلاف الخير، فإنَّه سبحانه دائم المعروف، لا ينقطع معروفه أبدًا، وهو قديم الإحسان أبديُّ الإحسان، فلم يزل ولا يزال محسنًا على الدوام، وليس من موجب أسمائه وصفاته أنَّه لا يزال معاقبًا على الدوام، غضبان على الدوام، منتقمًا على الدوام. فتأمل هذا الوجه تأمُّلَ فقيهٍ في باب أسماء اللَّه وصفاته = يفتح لك بابًا من أبواب معرفته ومحبته. يوضحه: الثالث عشر: وهو قول أعلم خلقه به، وأعرفهم بأسمائه وصفاته: "والشر ليس إليك" (1) ، ولم يقف على المعنى المقصود مَنْ قال: الشر لا يتقرب به إليك (2) . بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجهٍ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، فإن ذاته لها الكمال المطلق من جميع الوجوه، وصفاته كلها صفات كمال يُحْمَد عليها ويُثْنَى عليه بها، وأفعاله كلها خير ورحمة وعدل وحكمه، لا شَرَّ فيها بوجه ما، وأسماؤه كلها حسنى، فكيف يضاف الشر إليه؟ بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته، وهو منفصل عنه، إذ فِعْله غير مفعوله، ففعله خير كله، وأما المخلوق المفعول، ففيه الخير والشر. وإذا كان الشر مخلوقًا منفصلًا غير قائم بالرب سبحانه، فهو لا __________ (1) أخرجه مسلم رقم (771). (2) أخرجه البيهقي في القضاء والقدر رقم (400) بسندٍ صحيح عن النضر بن شُمَيْل.

(2/770)


يضاف إليه، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يقل: أنت لا تخلق الشر، حتى يطلب تأويل قوله، وإنما نفى إضافته إليه وصْفًا وفعْلًا واسمًا. وإذا عُرِف هذا؛ فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها، وأما الخير فهو الإيمان والطاعات وموجباته، والإيمان والطاعات متعلقة به سبحانه، ولأجلها خلق خلْقَه وأرسل رسلَه وأنزل كتبه، وهي ثناء على الرب (1) وإجلاله وتعظيمه وعبوديته، وهذه لها آثار يطلبها ويقتضيها، فتدوم آثارها بدوام متعلقها. وأما الشرور فليست مقصودة لذاتها، ولا هي الغاية التي خلق لها الخلق، فهي مفعولات قُدِّرت لأمرٍ محبوب، وجُعِلت وسيلة إليه، فإذا حصل ما قُدِّرت له اضمحلت وتلاشت، وعاد الأمر إلى الخير المحض. الوجه الرابع عشر: أنَّه سبحانه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء (2) . فليس شيء من الأشياء إلا وفيه رحمته، ولا ينافي هذا أن يرحم العبد بما يشق عليه ويؤلمه، وتشتد كراهته له، فإن ذلك من رحمته أيضًا كما تقدم. وقد ذكرنا حديث أبي هريرة آنفًا (3) وقوله تعالى لذينك الرجلين: "رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما في النار". __________ (1) وقع في "د": "على الرب وتحيته". (2) كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]. (3) ص (768) وهو لا يصح.

(2/771)


وقد جاء في بعض الآثار: "أن العبد إذا دعا لمبتلىً قد اشتد بلاؤه، وقال: اللهم ارحمه، يقول الرب تبارك وتعالى: كيف أرحمه من شيء به أرحمه" (1) . فالابتلاء رحمة منه لعباده. وفي أثر إلهي يقول اللَّه عز وجل: "أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب" (2) . فالبلاء والعقوبة أدوية قدرت لإزالة أدواء لا تزول إلا بها، والنار هي الدواء الأكبر، فمن تداوى في الدنيا أغناه ذلك عن الدواء في الآخرة، وإلَّا فلا بد له من الدواء بحسب دائه، ومن عرف الرب تبارك وتعالى بصفات جلاله ونعوت كماله، من حكمته ورحمته وبره وإحسانه وغناه وجوده ومحبته إلى عباده، وإرادة الإنعام، وسبق رحمته لهم = لم يبادر إلى إنكار ذلك إن لم يبادر إلى قبوله (3) . يوضحه: الوجه الخامس عشر: أن أفعاله سبحانه لا تخرج عن الحكمة والرحمة والمصلحة والعدل، فلا يفعل عبثًا ولا جورًا ولا باطلًا، بل __________ (1) لم أقف عليه. (2) لم أقف عليه. (3) في "ج": "قوله".

(2/772)


هو المُنَزَّه عن ذلك كما تنزه عن سائر العيوب والنقائص. وإذا ثبت ذلك، فتعذيبهم إن كان رحمة بهم حتى يزول ذلك الخبث، وتكمل الطهارة = فظاهر، وإن كان لحكمة؛ فإذا حصلت تلك الحكمة المطلوبة زال العذاب، وليس في الحكمة دوام العذاب أَبَدَ الآباد بحيث يكون دائمًا بدوام الرب تبارك وتعالى، وإن كان لمصلحة فإن كان يرجع إليهم، فليست مصلحتهم في بقائهم في العذاب كذلك، وإن كانت المصلحة تعود إلى أوليائه؛ فإن ذلك أكمل في نعيمهم، فهذا لا يقتضي تأبيد العذاب، وليس نعيم أوليائه وكماله موقوفًا على بقاء آبائهم وأبنائهم وأزواجهم في العذاب السَّرْمَد. فإن قلتم: إن ذلك هو موجب الرحمة والحكمة (1) والخلد (2) والمصلحة. قلتم: ما لا يُعْقَل (3) . وإن قلتم: إن ذلك عائد إلى محض المشيئة ولا يطلب له حكمة ولا غاية، فجوابه من وجهين: أحدهما: أن ذلك محال على أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، أن تكون أفعاله معطلة عن الحِكَمِ (4) ، والمصالح، والغايات المحمودة، والقرآن والسنة وأدلة المعقول (5) والفطر والآيات المشهودة منه (6) __________ (1) من "ب، د، هـ". (2) من "أ، ج". (3) في نسخةٍ على حاشية "د": "يُفعَل". (4) في "د": "الحكمة". (5) في "د، هـ": "العقول". (6) من "أ".

(2/773)


شاهد ببطلان ذلك. والثاني: أنَّه لو كان الأمر كذلك لكان إبقاؤهم في العذاب، وانقطاعه عنهم بالنسبة إلى مشيئته سواء، ولم يكن في انقضائه ما ينافي كماله، وهو سبحانه لم يخبر بأبدية العذاب، وأنه لا نهاية له. وغاية الأمر على هذا التقدير: أن يكون من الجائزات المُمْكِنَات الموقوف حكمها على خبر الصادق. فإن سلكت طريق التعليل بالحكمة والرحمة والمصلحة لم يقتض الدوام، وإن سلكت طريق المشيئة المحضة التي لا تعلل لم تقتضه أيضًا، وإن وقف الأمر على مجرد السمع فليس فيه ما يقتضيه. الوجه السادس عشر: أن رحمته سبحانه سبقت غضبه في المعذبين، فإنَّه أنشأهم برحمته، وغذاهم برحمته، ورباهم برحمته ورزقهم وعافاهم برحمته، وأرسل إليهم الرسل برحمته، وأسباب النقمة والعذاب متأخرة عن أسباب الرحمة طارئة عليها، فرحمته سبقت غضبه فيهم (1) ، وخَلَقَهم على خِلْقَةٍ تكون رحمته إليهم أقرب من غضبه وعقوبته. ولهذا ترى أطفال الكفار قد ألقى عليهم رحمته، فمن رآهم رحمهم، ولهذا نُهِيَ عن قتلهم (2) ، فرحمته سبقت غضبه __________ (1) في "ب، هـ": "فهم". (2) أخرجه البخاري رقم (2851 و 2852)، ومسلم رقم (1744) عن ابن عمر قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنهى رسول =

(2/774)


فيهم، فكانت هي السابقة إليهم، ففي كل حال هم في رحمته في حال معافاتهم وابتلائهم. وإذا كانت الرحمة هي السابقة فيهم لم يبطل أثرها بالكلية، وإن عارضها أثر الغضب والسخط فذلك لسبب منهم، وأما أثر الرحمة فسببه منه سبحانه، فما منه يقتضي رحمتهم، وما منهم يقتضي عقوبتهم، والذي منه سابق وغالب، وإذا كانت رحمته تغلب غضبه، فلأن يغلب أثر الرحمة أثر الغضب أولى وأحرى. الوجه السابع عشر: أنَّه سبحانه يخبر عن العذاب أنَّه عذاب يوم عقيم، وعذاب يوم عظيم، وعذاب يوم أليم، ولا يخبر عن النعيم أنَّه نعيم يوم، ولا في موضع واحد. وقد ثبت في "الصحيح" تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة (1) ، والمعذبون متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، واللَّه سبحانه جعل العذاب على ما كان من الدنيا وأسبابها، وما أريد به الدنيا ولم يرد به (2) اللَّه فالعذاب على ذلك. وأما ما كان للآخرة وأريد به وجه اللَّه فلا عذاب عليه، والدنيا قد جعل لها أجلًا تنتهي إليه، فما انتقل منها إلى تلك الدار مما ليس للَّه، فهو المعذب به. وأما ما أُريد به وجه اللَّه والدار الآخرة، فقد أُريد به ما لا يفنى ولا __________ = اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان". (1) أخرجه مسلم برقم (987) من حديث أبي هريرة الطويل في مانع الزكاة. (2) بياض في "د" فقط بمقدار كلمة، ووقع في المطبوع مكانه "وجه".

(2/775)


يزول، فيدوم بدوام المراد به، فإن الغاية المطلوبة إذا كانت دائمة لا تزول لم يَزُلْ ما تعلَّق بها، بخلاف الغاية المُضْمَحِلَّة الفانية، فما أُريد به غير اللَّه يضمحل ويزول بزوال مراده ومطلوبه، وما أُريد به وجه اللَّه يبقى ببقاء المطلوب المراد، فإذا اضمحلت الدنيا وانقطعت أسبابها، وانتقل ما كان فيها لغير اللَّه من الأعمال والذوات، وانقلب عذابًا وآلامًا = لم يكن له متعلق يدوم بدوامه؛ بخلاف النعيم. الوجه الثامن عشر: أنَّه ليس في حُكْمِ (1) أحكم الحاكمين أن يخلق خلقًا يعذبهم أبد الآباد، عذابًا سرمدًا لا نهاية له، ولا انقطاع أبدًا، وقد دلت الأدلة السمعية والعقلية والفطرية على أنَّه سبحانه حكيم، وأنه أحكم الحاكمين، فإذا عذب (2) خلقه عذبهم بحكمة، كما يوجد التعذيب والعقوبة في الدنيا في شرعه وقدره، فإن فيه من الحِكَم والمصالح وتطهير العبد ومداواته، وإخراج المواد الردية عنه بتلك الآلام مما تشهده العقول الصحيحة، وفي ذلك من تزكية النفوس وصلاحها وزجرها وردع نظائرها، وتوقيفها على فقرها، وضرورتها إلى ربها، وغير ذلك من الحكم والغايات الحميدة، ما لا يعلمه إلا اللَّه. ولا ريب أن الجنة طيبة، لا يدخلها إلا طيب، ولهذا يُحْبَسون (3) إذا قطعوا الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من مظالم __________ (1) في "ب، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "حِكْمَة". (2) سقط من "ج". (3) وقع في "ج": "يحسبون" وهو خطأ.

(2/776)


كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُفُّوا أذن لهم في دخول الجنة (1) . ومعلوم أن النفوس الشريرة الخبيثة المظلمة التي لو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه، لا تصلح أن تسكن دار السلام في جوار رب العالمين، فإذا عذبوا بالنار عذابًا يخلص نفوسهم من ذلك الخبث والوسخ والدرن، كان ذلك من حكمة أحكم الحاكمين ورحمته، ولا ينافي الحكمة خلقَ نفوسٍ فيها شر يزول بالبلاء الطويل والنار، كما يزول بها خبث الذهب والفضة والحديد، فهذا معقول في الحكمة، وهو من لوازم العالم المخلوق على هذه الصفة، أما خلق نفوس لا يزول شرها أبدًا، وعذابها لا انتهاء له، فلا يظهر في الحكمة والرحمة، وفي وجود مثل هذا النوع نزاع بين العقلاء، أعني: ذواتًا وهي شرٌّ من كل وجه، ليس فيها شيء من خير أصلًا. وعلى تقدير دخوله في الوجود، فالرب تبارك وتعالى قادر على قلب الأعيان، وإحالتها، وإحالة صفاتها. فإذا وجدت الحكمة المطلوبة من خلق هذه النفوس، والحكمة المطلوبة من تعذيبها، فإنَّه (2) سبحانه قادر أن ينشئها نشأة أُخرى غير تلك النشأة، ويرحمها في النشأة الثانية نوعًا آخر من الرحمة. __________ (1) كما في حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري رقم (2308) و (6170). وقد تقدَّم في آخر الباب (37). (2) في "ب، د، هـ" ونسخةٍ على حاشية "أ" "فاللَّه".

(2/777)


يوضحه: الوجه التاسع عشر: وهو أنَّه قد ثبت أن اللَّه سبحانه يُنْشئ للجنة خلقًا آخر، يسكنهم إياها، ولم يعملوا خيرًا تكون الجنة جزاء (1) لهم عليه، فإذا أخذ العذاب من هذه النفوس مأخذه، وبلغت العقوبة مبلغها، فانكسرت تلك النفوس، وخضعت وذلت (2) ، واعترفت لربها وفاطرها بالحمد، وأنه عدل فيها كل العدل، وأنها في هذه الحال كانت في تخفيف منه، ولو شاء أن يكون عذابها أشد من ذلك لَفَعَل، وشاء كتب العقوبة طلبًا لموافقة رضاه ومحبته، وعلمت أن العذاب أولى بها، وأنه لا يليق بها سواه، ولا تصلح إلا له، فذابت منها تلك الخبائث كلها، وتلاشت وتبدلت بذلٍّ وانكسارٍ، وحَمْدٍ وثناء على الرب تبارك وتعالى، ولم يكن في حكمته أن يستمر بها في العذاب بعد ذلك، إذ قد تبدل شرها بخيرها، وشركها بتوحيدها، وكبرها بخضوعها وذلها. ولا ينتقض هذا بقوله عز وجل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] فإن هذا قبل مباشرة العذاب الذي يزيل تلك الخبائث، وإنما هو عند المعاينة قبل الدخول، فإنَّه سبحانه وتعالى قال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27, 28]. __________ (1) ليس في "أ، ج"، ووقع في نسخة على حاشية "أ" "خيرًا". (2) في "ج" ونسخةٍ على حاشية "أ" "وذُلِّلت".

(2/778)


فهذا إنما قالوه قبل أن يستخرج العذابُ منهم تلك الخبائث، فأما إذا لبثوا في العذاب أحقابًا، والحقب: كما رواه الطبراني في "معجمه" (1) من حديث أبي أمامة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "الحقب خمسون ألف سنة" (2) ؛ فإنَّه من الممتنع أن يبقى ذلك الكبر والشرك والخبث بعد هذه المُدَد (3) المتطاولة في العذاب. الوجه العشرون: أنَّه قد ثبت في "الصحيحين" (4) من حديث أبي سعيد الخدري -في حديث الشفاعة- فيقول اللَّه عز وجل: "شفعت الملائكة، وشفع النَّبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم __________ (1) الكبير (8/ 292) رقم (7957). من طريق جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أُمامة. (2) وأخرجه ابن أبي عمر العدني في مسنده (3775 - المطالب)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 494 - ابن كثير)، وابن مردويه (6/ 502 - الدر). قال ابن كثير في تفسيره: "وهذا حديث منكرٌ جدًّا، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك". ولا يصح في الباب حديثٌ مرفوع "مسند"، وإنَّما الصحيح أنَّ الحقب: ثمانون سنة، كما جاء ذلك عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وعبد اللَّه ابن عمرو وغيرهم. انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 276)، والطبري (30/ 11)، والزهد لهناد رقم (219 و 220)، والمستدرك للحاكم (2/ 556) (3890)، والدر المنثور (5/ 502 - 503). (3) في "ب، هـ": "المُدَّة". (4) البخاري رقم (773، 700)، ومسلم رقم (182).

(2/779)


الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حممًا، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: "نهر الحياة" فيخرجون كما تخرج الحِبَّة في حميل السيل، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء اللَّه الذين أدخلهم اللَّه الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه". فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم، فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار، بحيث صاروا حممًا: وهو الفحم المحترق بالنار. فظاهر السياق أنَّه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، فإن لفظ الحديث هكذا: "فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا ثمَّ يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا، فيقول اللَّه عز وجل: "شفعت الملائكة، وشفع النَّبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط". فهذا السياق يدلّ على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، ومع هذا فأخرجتهم الرحمة. ومن هذا رحمته سبحانه للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار، ويذروه في البر والبحر زَعْمًا منه بأنَّه يفوت اللَّه سبحانه، فهذا قد شك في المعاد والقدرة، ولم يعمل خيرًا قط، ومع هذا فقال له: "ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك وأنت أعلم" (1) ، فما تلافاه أنْ رَحِمَهُ __________ (1) أخرجه البخاري رقم (3291)، ومسلم رقم (2757) من حديث أبي سعيد =

(2/780)


اللَّه، فلله سبحانه في خلقه حُكْمٌ لا تبلغه عقول البشر. وقد ثبت في حديث أنس -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يقول اللَّه عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يومًا أو خافني في مقام" (1) . قالوا: ومن ذا الذي في مدة عمره كلها من أولها إلى آخرها لم يذكر ربه يومًا واحدًا، ولا خافه ساعةً واحدةً، ولا ريب أن رحمته سبحانه إذا أخرجت من النار من ذكره وقتًا ما، وخافه في مقام ما، فغير بِدْعٍ أن تفنى النار، ولكن هؤلاء خرجوا منها وهي نار. الوجه الحادي والعشرون: أنَّ اعتراف العبد بذنبه حقيقة __________ = الخدري. (1) أخرجه الترمذي برقم (2594)، وعبد اللَّه في زوائد الزهد (2162) [وليس فيه "عن أنس"]، وابن أبي عاصم في السنة (883)، وابن خزيمة في التوحيد (451 و 452 - 453) مطولًا، والحاكم في المستدرك (1/ 141) رقم (234 و 235) مطولًا وغيرهم. من طريق مبارك بن فضالة عن عبيد اللَّه بن أبي بكر بن أنس عن أنس فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجا قوله: "من ذكرني أو خافني في مقام. . . ". قلتُ: هذا اللفظ غريبٌ، وفي ثبوته نظر؛ لأنَّهُ قطعة من حديث أنس الطويل في الشفاعة، ولم يذكر هذا اللفظ أحدًا من أصحاب أنس وغيرهم من الذين رووه عنه: كثابت البناني وقتادة وحميد الطويل والنضر بن أنس وعمرو ابن أبي عمرو والحسن البصري ومعبد الطويل وغيرهم.

(2/781)


الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم إليه من كل وجه، ونسبة العدل والحمد والرحمة والكمال المطلق إلى ربه من كل وجه = يستعطف ربه تبارك وتعالى عليه، ويستدعي رحمته له. وإذا أراد أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه، ولا سيما إذا اقترن بذلك جزم العبد على ترك المعاودة لما يسخط ربه عليه، وعلم اللَّه ذلك داخل قلبه وسويدائه، فإنَّه لا تتخلَّف عنه الرحمة مع ذلك. وفي "معجم الطبراني" (1) من حديث يزيد بن سنان الرهاوي، عن سليمان (2) بن عامر، عن أبي أُمامة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن آخر رجل يدخل الجنة رجل يتقلب على الصراط ظهرًا لبطن، كالغلام يضربه أبوه، وهو يَفِرُّ منه، يعجز عنه عمله أن __________ (1) الكبير (8/ 185 - 186) رقم (7669). والحديث سنده ضعيف: فيه يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي: ضعيف، وابنه محمَّد بن يزيد بن سنان أضعف منه، يروي عن أبيه مناكير، قاله البخاري. لكنَّه توبع؛ تابعه عبد اللَّه بن عقيل الثقفي عند ابن أبي شيبة في مسنده كما سيأتي عند المصنف ص (795)، وفي البدور السافرة للسيوطي رقم (1652). فالحديث مدارهُ على يزيد بن سنان، وهو ضعيف، وقال فيه ابن عدي: "وعامَّة حديثه غير محفوظة". انظر: تهذيب الكال (32/ 156 - 159)، والكامل لابن عدي (7/ 272). (2) كذا في جميع النسخ، وعلَّق عليه ناسخ "أ، د" بقولهما: "كذا، ولعله: سُلَيم الخبائري". قلتُ: وهو الصواب سُلَيم بن عامر الخبائري أبو يحيى الحمصي.

(2/782)


يسعى فيقول: يا رب بلِّغْ بي الجنة، ونجني من النار، فيوحي اللَّه تبارك وتعالى إليه: عبدي، إن أنا نجيتك من النار وأدخلتك الجنة، أتعترف لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول العبد: نعم يا رب، وعزتك وجلالك إن نجيتني من النار لأعترفن لك بذنوبي وخطاياي، فيجوز الجسر، فيقول العبد فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النار، فيوحي اللَّه إليه: عبدي، اعترف لي بذنوبك وخطاياك أغفرها لك، وأدخلك الجنة، فيقول العبد: لا وعزتك وجلالك، ما أذنبت ذنبًا قط، ولا أخطأت خطيئة قط، فيوحي اللَّه إليه: عبدي إنَّ لي عليك بَيِّنة، فيلتفت العبد يمينًا وشمالًا، فلا يرى أحدًا، فيقول: يا رب أرني بينتك، فيستنطق اللَّه تعالى جِلْدهُ بالمحقرات، فإذا رأى ذلك العبد يقول: يا رب عندي وعزتك العظائم، فيوحي اللَّه إليه، عبدي أنا أعرف بها منك، اعترف لي بها أغفرها لك وأدخلك الجنة، فيعترف العبد بذنوبه، فيدخل الجنة"، ثمَّ ضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، يقول: "هذا أدنى أهل الجنة منزلة، فكيف بالذي فوقه؟ ". فالرب تعالى يريد من عبده الاعتراف والانكسار بين يديه والخضوع والذل له، والعزم على مرضاته، فما دام أهل النار فاقدين لهذا الروح، فهم فاقدون لروح الرحمة، فإذا أراد عز وجل أن يرحمهم أو من شاء منهم؛ جعل في قلبه ذلك فتدركه الرحمة، وقدرة الرب تبارك وتعالى غير قاصرة عن ذلك، وليس فيه ما يناقض موجب أسمائه وصفاته، وقد أخبر أنَّه فعال لما يريد. الوجه الثاني والعشرون: أنَّه سبحانه قد أوجب الخلود على معاصي

(2/783)


من الكبائر، وقيده بالتأبيد، ولم يناف ذلك انقطاعه وانتهاءه. فمنها: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. ومنها: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجَّأ بها في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا" (1) وهو حديث صحيح. وكذلك قوله في الحديث الآخر في قاتل نفسه: "فيقول اللَّه تبارك وتعالى: بادرني عبدي بنفسه حَرَّمتُ عليه الجنة" (2) . وأبلغ من هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) } [الجن: 23]. فهذا وعيد مقيد بالخلود والتأبيد، مع انقطاعه قطعًا بسبب من العبد، وهو التوحيد، فكذلك الوعيد العام لأهل النار لا يمتنع انقطاعه، بسبَبٍ ممن كتب على نفسه الرحمة، وغلبت رحمته غضبه، فلو يعلم الكافر بكل ما عنده من الرحمة لما يئس من رحمته، كما في "صحيح البخاري" (3) عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خلق اللَّه الرحمة يوم خلقها مئة رحمة" وقال في آخره: "فلو يعلم الكافر بكل الذي عند اللَّه من الرحمة لم __________ (1) أخرجه البخاري (5442)، ومسلم (109) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (2) أخرجه البخاري رقم (1298)، ومسلم رقم (113) من حديث جندب رضي اللَّهُ عنه. (3) رقم (6104).

(2/784)


ييأس من الجنة، ولو يعلم المسلم بكل الذي عند اللَّه من العذاب لم يأمن من النار". الوجه الثالث والعشرون: أنَّه لو جاء الخبر منه سبحانه صريحًا بأن عذاب النار لا انتهاء له، وأنه أبدي لا ينقطع، لكان ذلك وعيدًا منه سبحانه، واللَّه تعالى لا يخلف وعده، وأما الوعيد: فمذهب أهل السنة كلهم: أن إخلافه عفو وكرم وتجاوز يُمْدَحُ الرب تبارك وتعالى به، ويُثنى عليه به، فإنَّه حق له إن شاء تركه، وإن شاء استوفاه، والكريم لا يستوفي حقه، فكيف بأكرم الأكرمين؟. وقد صرح سبحانه في كتابه في غير موضع بأنه لا يخلف وعده، ولم يقل في موضع واحد: لا يخلف وعيده. وقد روى أبو يعلى الموصلي: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا سهيل ابن أبي حزم، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من وعده اللَّه على عمل ثوابًا فهو منجزه، ومن أوعده على عمل عقابًا فهو فيه بالخيار" (1) . __________ (1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 66) رقم (3316)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (960)، والخرائطي في مكارم الأخلاق رقم (189)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (3/ 450)، والبزار (3010 - المطالب) والبيهقي في البعث (48) وغيرهم. والحديث من منكرات سهيل بن أبي حزم، قال البخاري: "لا يتابع في حديثه"، وقال البزار: "سهيل لا يتابع على حديثه"، وقال الإمام أحمد: "روى عن ثابت أحاديث منكرة"، وقال البيهقي: "تفرَّد به سُهيل وليس =

(2/785)


وقال أبو الشيخ الأصبهاني: حدثنا محمَّد بن حمزة، حدثنا أحمد ابن الخليل، حدثنا الأصمعي قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو ابن العلاء فقال: يا أبا عمرو، أيخلف اللَّه ما وعد؟ قال: أفرأيت من أوعده اللَّه على عمله عقابًا، أيخلف اللَّه وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء: من العُجْمَة أُتِيْتَ يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعدّ عارًا ولا خُلْفًا أنْ تَعِدَ شرًّا ثمَّ لا تفعله، ترى ذلك كرمًا وفضلًا، وإنما الخُلْف أن تَعِدَ خيرًا ثمَّ لا تفعله، قال: فأوْجِدْني هذا في كلام العرب، قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول: ولا يرهبُ ابنُ العم ما عشتُ سطوتي ... ولا أختشى من صولة (1) المتهدِّد وإنِّي وإنْ أوعدته أووعدته ... لمخلفُ إيعادي ومنجزُ مَوْعِدي" (2) قال أبو الشيخ: وقال يحيى بن معاذ: "الوعد والوعيد حق، فالوعد: حق العباد على اللَّه، ضَمِنَ لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، __________ = بالقوي". انظر: تهذيب الكمال (12/ 218 - 219). قلت: ومعنى الحديث ثابتٌ في الكتاب والسنة. (1) في "هـ"، والخرائطي "سطوة" وهما بمعنى واحد. والبيتان لعامر بن الطُّفيل في ديوانه ص (58) مع اختلافٍ قليل في بعض الألفاظ. (2) أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق رقم (188)، وابن عدي في الكامل (5/ 99)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (47)، والخطيب في تاريخه (12/ 172 - 173). من طريق سوَّار بن عبد اللَّه القاضي عن الأصمعي به. وهي قصة صحيحة ثابتة.

(2/786)


ومن أولى بالوفاء من اللَّه. والوعيد: حقه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا، فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ، لأنه حقه، وأولاهما بربنا تبارك وتعالى، العفو والكرم، إنه غفور رحيم" (1) . ومما يدل على ذلك ويؤيده خبر كعب بن زهير حين أوعده رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: نُبِّئْتُ أنَّ رسول اللَّه أوعدني ... والعفو عند رسول اللَّه مأْمُولُ (2) فإذا كان هذا في وعيد مطلق، فكيف بوعيدٍ مقرون باستثناء مُعَقَّب بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } [هود: 107] وهذا إخبار منه أنَّه يفعل ما يريد عقيب قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}، فهو عائد إليه ولا بد، __________ (1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وفي الحلية (10/ 52) معناه مختصرًا. (2) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (5/ 168 - 169) رقم (2706)، وأبو نُعيم في المعرفة (5/ 2378 - 2379) رقم (5833). من طريق الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن عقبة بن كعب بن زهير عن أبيه عن جدِّه قال: خرج كعب وبجير. . . فذكره مطوَّلًا. قلت: مِن الحجاج بن ذي الرقيبة إلى كعب: شعراء في نَسَق، انظر الجمهرة لابن حزم ص (201 - 202). والحجاج وأبوه وجده غير معروفين بالرواية، فينظر في حالهم، فإنِّي لم أقف على حالهم. وله شاهد مرسل لعاصم بن عمر بن قتادة: عند الطبراني (19/ 176 - 178) رقم (403) بمعناهُ. وشاهد آخر مرسل لسعيد بن المسيب. عند ابن قانع في معجمه (1657) بمعناه.

(2/787)


ولا يجوز أن يرجع إلى المستثنى منه وحده، بل إما أن يختص بالمستثنى، أو يعود إليهما، وغير خاف ان تعلُّقه بقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أولى من تعلُّقه بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا}، وذلك ظاهر للمتأمل، وهو الذي فهمه الصحابه، فقالوا: "أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن" (1) ، ولم يريدوا بذلك الاستثناء وحده، فإن الاستثناء مذكور في الأنعام أيضًا، وإنما أرادوا أنَّه عقب (2) الاستثناء بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) }. وهذا التعقيب نظير قوله تعالى في الأنعام {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) } [الأنعام: 128]. فأخبر أن عذابهم في جميع الأوقات، ورَفْعَه عنهم في وقتٍ يشاؤه = صادر عن كمال علمه وحكمته لا عن مشيئة مجردة عن الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، إذ يستحيل تجرد مشيئته عن ذلك. الوجه الرابع والعشرون: أن جانب الرحمة أغلب في هذه الدار الباطلة الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة والغضب، ولولا ذلك لما عُمِرَت، ولا قام لها وجود، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، وقال {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، فلولا سعة رحمته ومغفرته وعفوه لما قام العالم، ومع هذا فالذي أظهره - من الرحمة في هذه الدار، وأنزله بين الخلائق - جزء من مئة جزء __________ (1) تقدم ص (740). (2) في نسخةٍ على حاشية "أ": "عقيب".

(2/788)


من الرحمة، فإذا كان جانب الرحمة قد غلب في هذه الدار، ونالت البَرَّ والفاجر والمؤمن والكافر، مع قيام مقتضى العقوبة به ومباشرته له، وتمكنه من إغضاب ربه، والسعي في مسَاخِطِه، فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة على ما في هذه الدار تسعة وتسعين ضعفًا (1) ، وقد أخذ العذاب من الكفار مأخذه، وانكسرت تلك النفوس ونهكها العذاب، وأذاب منها خبثًا (2) وشرًّا، لم يكن يحول بينها وبين رحمته لها في الدنيا، بل كان يرحمها مع قيام مقتضى العقوبة والغضب بها فكيف إذا زال مقتضى الغضب والعقوبة، وقوي جانب الرحمة أضعاف أضعاف الرحمة في هذه الدار، واضمحل الشر والخبث الذي فيها فأذابته النار وأكلته. وسِرُّ الأمر أن أسماء الرحمة والإحسان أغلب وأكثر وأظهر من أسماء الانتقام، وفعل الرحمة أكثر من فعل الانتقام، وظهور آثار الرحمة أعظم من ظهور آثار الانتقام، والرحمةُ أحب إليه من الانتقام، وبالرحمة خَلَقَ خلْقه ولها خلقهم، وهي التي سبقت غضبه وغلبته، وكتبها على نفسه، ووسعت كل شيء، وما خلق بها فمطلوب لذاته، وما خلق بالغضب فمراد لغيره، كما تقدم تقرير ذلك (3) . والعقوبة تأديب وتطهير، والرحمة إحسان وكرم وجود، __________ (1) يشير إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2752) - (19) من حديث أبي هريرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ للَّه مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام. . . وأخَّر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة". (2) في "هـ": "خبثها". (3) في ص (756).

(2/789)


والعقوبة مداواة، والرحمة عطاء وبذل. الوجه الخامس والعشرون: أنَّه سبحانه لا بُدَّ أن يظهر لخلقه جميعهم يوم القيامة صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين المفترين، ويظهر لهم حكمه الذي هو أعدل حكم في أعدائه، وأنه حكم فيهم حكمًا يحمدونَهُ هم عليه؛ فضلًا عن أوليائه وملائكته ورسله، بحيث ينطق الكون كله بالحمد للَّه رب العالمين، ولذلك قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } [الزمر: 75]، فحذف فاعل القول إرادة الإطلاق (1) ، وأن ذلك جار على لسان كل ناطق وقلبه، قال الحسن: "لقد دخلوا النار، وإن قلوبهم لممتلئة من حمده ما وجدوا عليه سبيلًا" (2) ، وهذا هو الذي حَسَّنَ حذف الفاعل من قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الزمر: 72] حتى كأنَّ الكون كله قائل ذلك لهم، إذ هو حُكْمُهُ العدل فيهم، ومقتضى حكمته وحمده. وأما أهل الجنة فقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) } [الزمر: 73]، فهم لم يستحقوها بأعمالهم، وإنما استحقوها بعفوه ورحمته وفضله، فإذا أشهد سبحانه ملائكته وخلقه كلهم حُكْمه العدل، وحكمته الباهرة، ووَضْعه العقوبة حيث تشهد العقول والفِطَر (3) والخليقة أنَّه أولى المواضع وأحقها بها، وأن ذلك __________ (1) في "ج": "لإطلاق"، وفي "د": "للإطلاق". (2) لم أقف عليه. (3) قوله "تشهد العقول والفطر" وقع في "هـ": "يشهد العقل والفطرة".

(2/790)


من كمال حمده الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته، وأن هذه النفوس الخبيثة الظالمة الفاجرة، لا يليق بها غير ذلك، ولا يحسن بها سواه، بحيث تعترف هي من ذواتها بأنها أهل ذلك، وأنها أولى به = حصلت الحكمة التي لأجلها وُجِدَ الشر وموجباته في هذه الدار وتلك الدار. وليس في الحكمة الإلهية أن الشرور تبقى دائمًا لا نهاية لها، ولا انقطاع أبدًا، فتكون هي والخيرات في ذلك على حدٍّ سواء. فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة، ولعلَّك لا تظفر به في غير هذا الكتاب. فإن قيل: إلى أين انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن، التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة؟ قيل: إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } [هود: 107] وإلى ها هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- فيها، حيث ذكر دخول أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ، وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء، وقال: "ثمَّ يفعل اللَّه بعد ذلك ما يشاء" (1) . بل وإلى ها هنا انتهت أقدام الخلائق، وما ذكرنا في هذه المسألة، بل في الكتاب من صواب فمن اللَّه سبحانه، وهو المَانُّ به، وما كان من __________ (1) لم أقف عليه.

(2/791)


خطإٍ فمِنِّي، ومن الشيطان، واللَّه ورسوله بريء منه، وهو عند لسان كل قائل وقلبه وقصده، واللَّه أعلم.

(2/792)


 الباب الثامن والستون: في ذكر آخر أهل الجنَّة دخولًا إليها

في "الصحيحين" (1) من حديث منصور، عن إبراهيم عن عَبِيْدة عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي لأعلم آخر أهل النَّارِ خروجًا منها، وآخر أهل الجنَّة دخولًا الجنَّة، رجلٌ يخرج من النَّار حَبْوًا، فيقول اللَّهُ له: اذهب فادخل الجنَّة، فيأتيها فيخيل إليه (2) أنَّها ملأى فيرجع فيقول: يا ربِّ وجدتها ملأى، فيقول اللَّهُ له: اذهبْ فادخل الجنَّة، فإنَّ لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إنَّ لك عشرة أمثال الدنيا، قال: فيقول: أتسخرُ بي أو تضحك بي وأنت الملك؟ قال: لقد رأيتُ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضحك حتَّى بدت نواجذه، قال: فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنَّة منزلةً". وفي "صحيح مسلم" (3) من حديث الأعمش عن المعرور بن سُويد عن أبي ذرٍّ -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي لأعلمُ آخر أهل الجنَّة دخولًا الجنَّة، وآخر أهل النَّارِ خروجًا منها، رجلٌ يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغارَ ذنوبه وارفعوا كِبَارَهَا (4)، فتُعْرَض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا؛ كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا؛ كذا وكذا، فيقولُ: نعم، لا يستطيع أن ينكر __________ (1) البخاري رقم (6202)، ومسلم رقم (186). (2) في "ج، د": "له". (3) رقم (190). (4) في "ب، د، هـ": ونسخةٍ على حاشية "أ" "عنه كبارها".

(2/793)


وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه أنْ تُعْرَض عليه، فيقال له: فإنَّ لكَ مكان كلُّ سيئةٍ حسنة، فيقول: ربِّ قد عملت أشياءَ لا أراها ها هنا، فلقد رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحِكَ حتَّى بدت نواجذه". وقال الطبراني: حدثنا عبد اللَّه بن سعد (1) بن يحيى الرقي، حدثنا أبو فروة يزيد بن محمَّد بن سِنَان الرهاوي قال: حدثني أبي عن أبيه قال: حدثني أبو يحيى الكلاعي، عن أبي أُمامة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ آخر رجلٍ يدخلُ الجنَّة رجل يتقلَّب على الصراط ظَهْرًا لبطن، كالغلام يضربه أبوه وهو يفرُّ منه، يعجز عنه عمله أنْ يسعى، فيقول: يا رب بلِّغ بي الجنَّة، ونجِّني من النَّارِ، فيوحي اللَّه تبارك وتعالى إليه: عبدي إنْ أنا نجَّيتك من النَّارِ وأدخلتك الجنَّة؛ أتعترفُ لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول العبد: نعم يا ربِّ وعزتك وجلالك لئن نجيتني من النَّارِ لأعترفنَّ بذنوبي وخطاياي فيجُوْز الجِسْرَ، ويقول العبد فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النَّارِ، فيوحي اللَّه إليه: عبدي اعْترِفْ لي بذنوبك وخطاياك اغفرها لك وأدخلك الجنة، فيقول العبد لا وعزَّتك وجلالك ما أذنبتُ ذنبًا قطُّ ولا أخطأتُ خطيئةً قطُّ، فيوحي اللَّه إليه: عبدي إنَّ لي عليك بَيِّنة فيلتفت العبد يمينًا وشمالًا فلا يرى أحدًا، فيقول: يا ربِّ أرني بيِّنتك فيستنطق اللَّه جلده بالمُحقَّرات، فإذا رأى ذلك العبد يقول: يا رب عندي وعزَّتك العظائم فيوحي اللَّه إليه: عبدي أنا أعرف بها منك اعترف لي بها أغفرها لك، وأدخلك الجنَّة، فيعترف العبد بذنوبه __________ (1) في "ب، د"، ونسخة على حاشية "أ": "سعيد".

(2/794)


فيدخل الجنَّة، ثمَّ ضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى بدت نواجذه يقول: "هو أدنى أهل الجنَّة منزلة فكيف بالَّذي فوقه؟ " (1) . ورواهُ ابن أبي شيبة عن هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيلٍ عبد اللَّه بن عقيل الثقفي، عن يزيد بن سنان به. وفي "صحيح مسلم" (2) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "آخر من يدخل الجنَّة رجلٌ فهو يمشي مرَّة، ويكبو مرَّة، وتسفعهُ النَّارُ مرَّة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الَّذي نجَّاني منك، لقد أعطاني اللَّه شيئًا ما أعطاهُ أحدًا من الأوَّلين والآخرين، فتُرفع له شجرة فيقول: أي ربِّ أدْنِني من هذه الشجرة أستظلُّ بظِلِّها وأشرب من مائها، فيقول اللَّهُ تبارك وتعالى: يا ابن آدم لَعلِّي إنْ أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يا ربِّ، ويعاهده أنْ لا يسأله غيرها وربه يعذره؛ لأنَّه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثمَّ يُرفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: يا ربِّ أدنني من هذه لأشرب من مائها، وأستظل بظلِّها، لا أسألك غيرها، فيقول: يابن آدم ألم تعاهدني أنْ لا تسألني غيرها؟ وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثمَّ ترفع له شجرة عند باب الجنَّة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي ربِّ أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم __________ (1) تقدم ص (782). (2) رقم (187).

(2/795)


تعاهدني أنْ لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا ربِّ، هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره؛ لأنَّهُ يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها، فإذا أدناهُ منها سمع أصوات أهل الجنَّة فيقول: يا ربِّ أدخلنيها فيقول: يا ابن آدم ما يصريني (1) منك، أيرضيك أنْ أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا ربِّ أتستهزئ مِنِّي (2) وأنت ربُّ العالمين؟ فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مِمَّ أضحك؟ قالوا: مِمَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالوا: مِمَّ تضحك يا رسول اللَّه؟ قال: "من ضحك ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين، فيقول: لا أستهزئ بك ولكنِّي على ما أشاء قادر". وفي "صحيح البرقاني" من حديث أبي سعيد الخدري نحو هذه القصة ونحن نسوقه بتمامه من عنده، وهو بإسناد مسلم سواء. قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أدنى أهل النَّار عذابًا منتعل بنعلين من نارٍ يغلي دماغه من حرارة نعليه (3) ، وإنَّ أدنى أهل الجنَّة منزلةً رجلٌ صَرَفَ اللَّه وجهه عن النَّارِ قِبَلَ الجنَّة، ومثَّلَ له شجرة ذات ظلٍّ، فقال: أي ربِّ قدِّمني إلى هذه الشجرة لأكون في ظلها، فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: هل عسيت إنْ فعلت أنْ تسألني غيره، قال: لا وعزَّتك فقدَّمه اللَّه إليها، __________ (1) قال ناسخ "أ": "أي: يقطعني، والصِرى: القطع. قال الحربيُّ: إنَّما هو تصرك عني، أي: يقطعك عنِّي من مسألتي". (2) في نسخةٍ على حاشية "أ": "بي". (3) إلى هنا انتهى لفظ مسلم في صحيحه رقم (211)، وآخره عند مسلم برقم (188).

(2/796)


ومثَّل له شجرة ذات ظلٍّ وثمرٍ أخرى، فقال: أي: ربِّ قدمني إلى هذه الشجرة أستظل بظلها، وآكل من ثمرها، قال: فقال "هل عسيت إنْ أعطيتك ذلك أنْ تسألني غيره، قال: لا وعزَّتك فيقدمه إليها فيمثل له شجرة أخرى ذات ظلٍّ وثمرٍ وماءٍ، فيقول: أي ربِّ قدِّمني إلى هذه الشجرة، فأكون في ظلها، وآكل من ثمرها وأشرب من مائها، فيقول: هل عسيت إن فعلت ذلك أنْ تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزَّتك لا أسألك غيره، فيقدمه اللَّه إليها فتبرز له الجنَّة، فيقول: أي رب قدمني إلى باب الجنَّة فأكون نِجَاف الجنة -وفي رواية: تحت نجاف الجنَّة- أنظر إلى أهلها، فيقدمه اللَّه إليها فيرى أهل الجنَّة وما فيها، فيقول: أي ربِّ أدخلني الجنَّة فيدخله الجنَّة، فإذا دخل الجنَّة، قال: هذا لي، فيقول اللَّه له: تمنَّ، قال: فيتمنَّى ويُذَكِّره اللَّه سل كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأماني، قال اللَّهُ: هو لك وعشرةُ أمثاله، قال: ثمَّ يدخل بيته فتدخل عليه زوجتاهُ من الحور العين، فيقولان: الحمدُ للَّه الَّذي أحياك لنا وأحيانا لك، فيقول: ما أُعطي أحدٌ مثل ما أُعطيت". وفي "صحيح مسلم" (1) من حديث المغيرة بن شعبة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "سأل موسى ربه: من أدنى أهل الجنَّة منزلة؟ فقال: هو رجلٌ يجيء بعدما دخل أهل الجنَّة الجنَّة، فيقال (2) له: أُدخل الجنَّة، فيقول: أي ربك كيف؟ وقد نزل النَّاس منازلهم وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أنْ يكون لك مثل ملك من ملوك __________ (1) رقم (189). (2) في نسخةٍ على حاشية "أ": "فقال".

(2/797)


الدنيا، فيقول رضيت ربِّ, فيقال له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيتُ رب، فيقول: لك هذا وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذَّت عينك، فيقول: رضيت ربِّ، قال: فأعلاهم منزلةً؟ قال: ذلك الَّذي أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، فلم تَرَ عينٌ، ولا تسمع أذنٌ، ولم يخطر على قلب بشر، ومصداقه في كتاب اللَّهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ".

(2/798)


 الباب التاسع والستون: وهو بابٌ جامع فيه فصول منثورة لم يُذْكر فيما تقدم من الأبواب

فصل في لسان أهل الجنَّة قال ابن أبي الدنيا: حدثنا القاسم بن هاشم حدثنا صفوان بن صالح حدَّثني رَوَّاد بن الجرَّاح العسقلاني، حدثنا الأوزاعي عن هارون بن رئاب (1)، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يدخل أهل الجنَّةِ الجنَّةِ على طول آدم ستين ذراعًا بذراع الملك، على حُسن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة، وعلى لسان محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- جُرْدٌ مُردٌ مكحلون" (2). وروى داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لسانُ أهلِ الجنَّة عربي" (3). قال عُقَيْل: قال الزهري: "لسانُ أهل الجنَّة عربي" (4). __________ (1) في "ب، ج، هـ": "رباب" وهو خطأ. (2) تقدم في ص (315). (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (218). وفيه: الواقدي محمد بن عمر: متروك. وروي عن ابن عباس مرفوعًا مثله. أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (268)، وهو حديث موضوع. (4) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (245)، وابن أبي الدنيا في =

(2/799)


فصل في احتجاج الجنَّة والنَّارِ في "الصحيحين" (1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "احتجت النَّارُ والجنَّةُ فقالت هذه: يَدْخُلني الجبَّارون والمتكبِّرون، وقالت هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين، فقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ لهذه: أنت عذابي أعذِّبُ بك من أشاء، وقال لهذه: أنتِ رحمتي أرحمُ بك من أشاء، ولكلِّ واحدةٍ منكما ملؤها". وفي رواية أخرى: "تحاجت النَّارُ والجنَّة، فقالت النَّار: أوثرتُ بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنَّة: فمالي لا يدخلني إلَّا ضعفاء النَّاس وسقطهم وعجزهم. فقال اللَّه سبحانه للجنَّة: أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنَّارِ: أنت عذابي أعذِّب بك من أشاء من عبادي، ولكلِّ واحدةٍ منكما ملؤها، فأمَّا النَّارُ فلا تمتلئ حتَّى يضع قَدَمَهُ عليها فتقول: قطْ قطْ، فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلمُ اللَّه من خلقه أحدًا، وأمَّا الجنَّة فإنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ ينشئ لها خلقًا" (2). __________ = صفة الجنَّة رقم (219، 221). وسنده صحيح إلى الزهري. (1) البخاري رقم (4569)، ومسلم رقم (2846)، والَّلفظ لمسلم. (2) البخاري رقم (4569)، ومسلم (2846).

(2/800)


فصل: في أنَّ الجنَّة يبقى فيها فضل فينشئ اللَّه لها خلقًا دون النَّار في "الصحيحين" (1) عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تَزَال جهنَّم يُلقى فيها وتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} حتَّى يضع ربُّ العزَّةِ فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قَطْ قَطْ بعزَّتك وكرمك، ولا يزال في الجنَّة فضلٌ حتَّى ينشئ اللَّه لها خلقًا، فيسكنهم الجنَّةِ". وفي لفظ مسلم (2): "يبقى من الجنَّة ما شاء اللَّهُ أنْ يبقى، ثمَّ ينشئ اللَّه سبحانه لها خلقًا ممَّا يشاء". وأمَّا الَّلفظُ الَّذي وقع في "صحيح البخاري" (3) في حديث أبي هريرة: "وأنَّه ينشئ للنَّار من يشاء، فيلقى فيها فتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]؛ فغلط من بعض الرواة انقلب عليه لفظه، والروايات الصحيحة ونصُّ القرآن يردُّه، فإنَّ اللَّه سبحانه أخبر أنَّهُ يملأ جهنَّم من إبليس وأتباعه، وأنَّه لا يعذِّب إلَّا من قامت عليه حُجَّتُه، وكذَّب رُسُلَهُ، قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9] ولا يظلم اللَّه أحدًا من خلقه. __________ (1) البخاري رقم (6949)، ومسلم رقم (2848). (2) رقم (2848) - (39). (3) رقم (7011)، وقد تقدم بيان هذا الغلط ص (754 - 755).

(2/801)


فصل: في امتناع النوم على أهل الجنَّة روى ابن مردويه من حديث سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "النومُ أخو الموتِ، وأهل الجنَّة لا ينامون" (1). وذكر الطبراني من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: سُئِلَ نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل: أينامُ أهل الجنَّة؟ فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "النوم أخو الموت، وأهل الجنَّة لا ينامون" (2). فصل: في ارتقاء العبد وهو في الجنة من درجةٍ إلى درجةٍ أعلى منها قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا حمَّاد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه ليرفعُ الدرجة للعبدِ الصالح في الجنَّة فيقول: يا ربِّ أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدِك لك" (3). __________ (1) تقدم في ص (70 - 71). (2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (919)، وابن عدي في الكامل (6/ 366)، وهو حديث منكر. (3) أخرجه أحمد في المسند (2/ 509) وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (189)، =

(2/802)


فصل: في إلحاق ذُرِّية المؤمن به في الدَّرجة وإنْ لم يعملوا عمله قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ (1) بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (2) وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. وروى قيس عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه ليرفعُ ذُرِّية المؤمن __________ = وابن ماجه (3660)، والطبراني في الأوسط (5108) وابن عبد البر في التمهيد (23/ 142). وغيرهم. - ورواهُ حماد بن زيد "فرفعه"، وأبو بكر بن عياش "فوقفه"، والثوري "وقال: أكبر ظني أنَّه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" كلهم عن عاصم بن أبي النجود به. أخرجه البيهقي في الكبرى (7/ 78 - 79)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (36)، وابن عبد البر (23/ 143). والحديث تفرَّد به عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح. وعاصم في حفظه مقال، وهو صدوق في الأصل. - وقد ثبت عن سعيد بن المسيب قوله عند مالك في الموطأ رقم (578). فلعلَّه تلقَّاه عن أبي هريرة. والحديث جوَّد إسناده ابن عبد البر، وصحَّح إسناده الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 259)، والبوصيري. (1) قوله {وَاتْبَعْنَاهُم ذُرِّياتهم} قَرأها أبو عمرو بن العلاء، وقرأها الجمهور بالإفراد. انظر النشر لابن الجزري (2/ 282). (2) هكذا قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب وهي من القراءات العشر المتواترة. انظر: النشر (2/ 205).

(2/803)


إليه في درجته، وإنْ كانوا دونه في العمل، لتقرَّ بِهِمْ عينه، ثمَّ قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} قال: ما نقصنا الآبَاءَ مِمَّا أَعطينا البنين" (1) . وذكر ابن مردويه في "تفسيره" من حديث شريك عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما - قال شريك: أظُنُّه حكاهُ عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا دخل الرجل الجنَّة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنَّهم لم يبلغوا درجتك أو عملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بالإلحاق بهم (2) ثمَّ تَلَا ابن عباس {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] إلى آخر آية" (3) . __________ (1) أخرجه البزار رقم (2262 - كشف الأستار)، وابن مردويه (6/ 147 - كما في الدر)، والواحدي في الوسيط (4/ 186 - 187)، وابن عدي في الكامل (6/ 42)، والبغوي في معالم التنزيل (7/ 389) وغيرهم. من طريق قيس بن الرَّبيع عن عمرو به نحوه. - ورواهُ شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وسماعة "على الرواية الرَّاجحة عنه" كلهم عن عمرو عن سعيد عن ابن عباس موقوفًا عليه. أخرجه عبد الرَّزَّاق في تفسيره (2/ 200) رقم (3009)، وهناد في الزهد (179)، والطبري (27/ 24، 25)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/ 107) وغيرهم. وهذا هو الصواب موقوف، وحديث قيس وهمٌ، أخطأ في رفعه، وقد اضطرب فيه فرواهُ مرفوعًا كما تقدم، وموقوفًا كما عند الطحاوي في المشكل. (2) قوله "بالإلحاق بهم" وقع عند الطبراني "بإلحاقهم به". (3) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 440 - 441) رقم (12248)، وفي الصغير =

(2/804)


وقد اختلف المفسرون في الذرية في هذه الآية، هل المراد بها الصغار أو الكبار أو النوعان؟ على ثلاثة أقوالٍ (1) . واختلافهم مبنيٌّ على أنَّ قوله {بِإِيمَانٍ} حالٌ من الذرية التابعين، أو المؤمنين المتبوعين. * فقالت طائفة: المعنى والَّذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم (2) في إيمانهم، فأتوا من الإيمان بمثل ما أتوا به، ألحقناهم بهم في الدرجات. قالوا: ويدلُّ على هذا قراءة من قرأ: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} (3) فجعل الفعل في الاتباع لهم. قالوا: وقد أطلق اللَّهُ سبحانه الذرية على الكبار، كما قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84]، وقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]. وقال: {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ __________ = (1/ 382) رقم (640). قال الطبراني: "لم يروه عن سالم إلَّا شريك، تفرَّد به ابن غزوان". وفيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان: وهو متهم بوضع الحديث. انظر الكامل (6/ 290)، واللسان (5/ 254). (1) انظرها في تفسير الطبري (27/ 24 - 26)، والقرطبي (17/ 66 - 67)، والماوردي (5/ 381)، وابن الجوزي (8/ 50 - 51)، والبغوي (7/ 388)، والسمعاني (5/ 272)، والشوكاني (5/ 118 - 119). (2) في "د": "ذُرِّيَّاتهم". (3) وهي قراءة القرَّاء العشرة المتواترة عدا أبي عمرو وابن عامر ويعقوب.

(2/805)


الْمُبْطِلُونَ (173) } [الأعراف: 173] وهذا قول الكبار العقلاء. قالوا: ويدلُّ على ذلك ما رواهُ سعيد بن جبير عن ابن عباس يرفعه: "إنَّ اللَّهَ يرفعُ ذُرِّيَة المؤمن إلى درجته، وإنْ كانوا دونَهُ في العملِ لتقرَّ بهم عينُه" (1) . فهذا يدلُّ على أنَّهم دخلوا بأعمالهم، ولكن لم يكن لهم أعمالٌ يبلغوا بها درجة آبائهم فبلَّغهم إياها، وإن تقاصر عملهم عنها. قالوا: وأيضًا فالإيمان: هو القول والعمل والنية، وهذا إنما يمكن من الكبار. وعلى هذا، فيكون المعنى: أنَّ اللَّه سبحانه يجمع ذرية المؤمن إليه إذا أتوا من الإيمان بمثل إيمانه، إذ هذا حقيقة التَّبَعِيَّة، وإن كانوا دونه في الإيمان رفعهم اللَّه إلى درجته إقرارًا لعينه، وتكميلًا لنعيمه، وهذا كما أن زوجات النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- معه في الدرجة تَبَعًا، وإن لم يبلغنَ (2) تلك الدرجة بأعمالهن. * وقالت طائفة أخرى: الذرية ها هنا الصغار. والمعنى: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم في إيمان الآباء، والذرية تتبع الآباء -وإنْ كانوا صغارًا- في الإيمان وأحكامه، من الميراث والدية والصلاة عليهم، والدفن في قبور المسلمين، وغير __________ (1) تقدَّم ص (803 - 804). (2) وقع في جميع النسخ "يبلغوا"، وعلَّق ناسخ "أ" بقوله: "صوابه: يبلغْنَ".

(2/806)


ذلك؛ إلا فيما كان من أحكام البالغين، ويكون قوله {بِإِيمَانٍ} على هذا في موضع نصب على الحال من المَفْعُولَيْن، أي: وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان الآباء. قالوا: ويدل على صحة هذا القول: أنَّ البالغين (1) لهم حكم أنفسهم في الثواب والعقاب، فإنَّهم مستقِلُّون بأنفسهم ليسوا تابعين الآباء في شيء من أحكام الدنيا، ولا أحكام الثواب والعقاب، لاستقلالهم بأنفسهم، ولو كان المراد بالذرية: البالغين؛ لكان أولاد الصحابة البالغون كلهم في درجة آبائهم، ويكون أولاد التابعين البالغين كلهم في درجة آبائهم، وهلم جرًّا إلى يوم القيامة، فيكون الآخرون في درجة السابقين. قالوا: ويدل عليه أيضًا، أنه سبحانه جعلهم معهم تبعًا في الدرجة، كما جعلهم تبعًا في الإيمان، ولو كانوا بالغين لم يكن إيمانهم تبعيًّا (2) ، بل إيمان استقلال. قالوا: ويدل عليه أيضًا، أن اللَّه سبحانه جعل المنازل في الجنة بحسب الأعمال في حق المستقلين، وأما الأتباع فإن اللَّه سبحانه يرفعهم إلى درجة أهليهم، وإن لم تكن لهم أعمالهم، كما تقدم. وأيضًا فالحور العين والخدم في درجة أهاليهم وإن لم يكن لهم عمل بخلاف المكلفين البالغين، فإنهم يرفعون إلى حيث بَلَّغتهم __________ (1) في "أ، ج، هـ": "التابعين"، والمثبت هو الصواب. (2) من قوله "في الدرجة" إلى هنا سقط من "ج".

(2/807)


أعمالهم. * وقالت فرقة منهم الواحدي (1) : الوجْهُ أن تُحْمَلَ الذرية على الصغار والكبار؛ لأنَّ الكبير يتبع الأب بإيمان نفسه، والصغير يتبع الأب بإيمان الأب. قالوا: والذرية تقع على الصغيرِ والكبير، والواحد والكثير، والابن والأب، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] أي: آباءهم، والإيمان يقع على الإيمان التبعي، وعلى الاختياري الكسبي، فمن وقوعه على التَّبعِي قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. فلو أعتق صغيرًا جاز. قالوا: وأقوال السلف تدل على هذا. قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس: "إنَّ اللَّه يرفع ذُرِّية المؤمن في درجته وإنْ كانوا دونَهُ في العمل، لتقرَّ به عيونهم (2) ثمَّ قرأ هذه الآية" (3) . وقال ابن مسعود في هذه الآية: "الرجلُ يكون له القدم، وتكون له الذرية فيدخل الجنَّة، فيُرْفَعون إليه لتقرَّ به عينه، وإنْ لم يبلغوا __________ (1) في تفسيره الوسيط (4/ 186). (2) قوله "به عيونهم" كذا في جميع النسخ، وعلَّق عليه ناسخ "أ" بقوله "كذا" على الحرفين. وجاء في مصادر التخريج "ليقرَّ اللَّه بهم عينه" هذا لفظ شعبة والثوري لكنَّه لم يذكر "اللَّه". (3) تقدَّم الكلام عليه ص (804).

(2/808)


ذلك" (1) . وقال أبو مِجْلَزٍ: "يجمعهم اللَّه له كما كان يحب أن يجتمعوا في الدنيا" (2) . وقال الشعبي: "أدخل اللَّه الذرية بعمل الآباء الجنَّة" (3) . وقال الكلبي عن ابن عباس: "إنْ كان الآباء أرفع درجة من الأبناء رفع اللَّه الأبناء إلى الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة من الآباء رفع اللَّهُ الآباء إلى الأبناء" (4) . وقال إبراهيم: "أعطوا مثل أجور آبائهم ولم ينقص الآباء من أجورهم شيئًا" (5) . قالوا: ويدلُّ على صِحَّة هذا القول أنَّ القراءتين كالآيتين، فمن قرأ: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] فهذا في حقِّ البالغين الَّذين يصحُّ نِسْبَة الفعل إليهم كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]، ومن قرأ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ __________ (1) لم أقف عليه. (2) أخرجه ابن المنذر في تفسيره كما في الدر المنثور (6/ 148). (3) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 25 - 26). وسنده صحيح. (4) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (17/ 67)، وهو لا يثبت عن ابن عباس. (5) أخرجه هناد في الزهد رقم (180)، والطبري في تفسيره (27/ 26) والَّلفظ له. وسنده صحيح.

(2/809)


ذُرِّيَّاتِهِمْ} فهذا في حقِّ الصغار الَّذين أَتْبَعَهُمُ اللَّه آباءهم في الإيمان حُكْمًا، فدلَّت القراءتان على النوعين. قلتُ: واختصاص الذُّرية ها هنا بالصغار أظهر لئلا يلزم استواء المتأخرين والسابقين في الدرجات، ولا يلزم مثل هذا في الصِّغار؛ فإنَّ أطفال كلِّ رجلٍ وذرِّيته معه في درجته، واللَّه أعلم. فصل: في أن الجنة تتكلم قد تقدم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "احتجت الجنة والنار" (1). وقوله: "قالت الجنة: يا رب قد اطردت أنهاري، وطابت ثماري فعجِّل عليَّ بأهلي" (2). وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن سعد الطائي: "أُخْبِرتُ أن اللَّه تعالى لما خلق الجنة قال لها: تزيَّني فتزيَّنَتْ، ثم قال لها: تكلمي، فتكلمت، فقالت: طوبى لمن رضيتَ عنه" (3). وقال قتادة: "لما خلق اللَّه الجنة قال لها: تكلَّمي، فقالت: طوبى __________ (1) ص (800). (2) تقدم ص (42 - 43). (3) أخرجه المروزي في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1524)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (38)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (19) وغيرهم. وسنده صحيح.

(2/810)


للمتقين" (1). وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن علي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا بقية، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لما خلق اللَّه جنة عدن خَلَقَ فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون" (2). فصل: في أن الجنة تزداد حُسْنًا على الدوام قال عبد اللَّه بن أحمد: حدثنا خلف بن هشام، حدثنا خالد بن عبد اللَّه، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن كعب قال: "ما نظر اللَّه إلى الجنة إلا قال: طوبى لأهلك، فتزداد ضِعْفًا حتى يدخلها أهلها" (3). __________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (39)، وسنده ضعيف جدًّا. وقد روي مسندًا من حديث أنس، ولا يصح. (2) تقدم في الباب (64) ص (595 - 596). (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (37)، والدارمي في الردِّ على الجهمية رقم (201) مطوَّلًا، والآجري في الشريعة رقم (573) مطولًا، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (21). ومداره على يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.

(2/811)


فصل: في أن الحور العين يطلبن أزواجَهن أكثر مما يطلبهنَّ أزواجُهنّ قد تقدم حديث معاذ (1) بن جبل في ذلك، وقول الحوراء لامرأته في الدنيا: "لا تؤذيه فيوشك أن يفارقك إلينا" (2). وحديث عكرمة، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قول الحوراء: "اللهم أعِنْه على دينك، وأقْبِلْ بقلبه على طاعتك" (3). وذكر ابن أبي الدنيا، عن أبي سليمان الداراني قال: [184/ أ] "كان شاب بالعراق يتعبد، فخرج مع رفيق له إلى مكة، فكان إذا نزلوا فهو يصلي، وإن أكلوا فهو صائم، فصبر عليه رفيقه ذاهبًا وجائيًا، فلما أراد أن يفارقهُ، قال له: يا أخي أخبرني ما الذي هَيَّجَك إلى ما رأيت؟ قال: رأيت في النوم قصرًا من قصور الجنة، وإذا لبنة من فضة ولبنة ذهب، فلما تم البناء إذا شرفة من زبرجد، وشرفة من ياقوت، وبينهما حوراء من حور العين مرْخِيَّة شعرها، عليها ثوب من فضة ينثني معها كلما تَثَّنتْ، فقالت: جُدَّ إلى اللَّه في طلبي، فقد واللَّه جددت إليه في طلبكَ، فهذا الذي تراه في طلبها". قال أبو سليمان: "هذا في طلب حوراء، فكيف بمن قد __________ (1) ليس في "أ". (2) ص (512). (3) ص (513).

(2/812)


طلب ما هو (1) أكثر منها؟ " (2). فصل: في ذبح الموت بين الجنة والنار قال اللَّه تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} [مريم: 39]. وعن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئِبُّون (3) وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت. قال: ثم يقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} " متفق عليه (4). وفي "الصحيحين" (5) أيضًا من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- __________ (1) قوله "بمن قد طلب ما هو" وقع عند ابن أبي الدنيا "الَّذي يريد ما هو". (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (360). (3) قال ناسخ "أ" من المطالع: "يشرئبون: يمدُّون أعناقهم رافعي رؤوسهم متشوِّفين متطاولين لذلك". (4) البخاري رقم (4453)، ومسلم رقم (2849). (5) البخاري رقم (6178)، ومسلم رقم (2850).

(2/813)


أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يُدخِل اللَّه أهلَ الجنةِ الجنةَ، ويدخل أهلَ النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم، فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كلٌّ خالد فيما هو فيه". وعنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار أُتِيَ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة: لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم" (1) . وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا دخلَ أهل الجنَّة الجنَّة وأهلُ النَّارِ النَّارَ أُتِيَ بالموتِ مُلَبَّبًا فيوقفُ على السُّور الَّذي بين أهل الجنَّة وأهلِ النَّارِ، ثمَّ يُقال: يا أهل الجنَّة فيطَّلعون خائفين، ثمَّ يُقال: يا أهل النَّار فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة، فيقال لأهل الجنَّة وأهل النَّارِ: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هؤلاء وهؤلاء: قد عرفناهُ، هو الموت، الَّذي وُكِّلَ بنا، فيضجع فيُذْبح ذَبْحًا على السور، ثمَّ يقال: يا أهل الجنَّة خلودٌ لا موت، ويا أهل النَّارِ خلودٌ لا موت" (2) . __________ (1) البخاري رقم (6182)، ومسلم رقم (2850). (2) أخرجه الترمذي رقم (2557)، والنسائي في الكبرى (6/ 481) رقم (11569)، وأحمد في المسند (2/ 368 - 369)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (123 و 251) وغيرهم. من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فذكره مطوَّلًا. قلت: لفظة "خائفين" غريبة، لم تَرِدْ في الروايات الصحيحة. =

(2/814)


رواهُ النسائي والترمذي وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيح". وهذا الكبش، والإضجاع، والذبح، ومعاينة الفريقين ذلك = حقيقةٌ لا خيال ولا تمثيل، كما أخطأ فيه بعض النَّاس خطأً قبيحًا، وقال: الموت عَرَض، والعرض لا يتجسَّم فضْلًا عن أنْ يُذبح. وهذا لا يصحُّ فإنَّ اللَّه سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح، كما ينشئ من الأعمال صورًا مُعَاينة يُثَابُ بها ويعاقب، واللَّه تعالى ينشئ من الأعراض أجسامًا تكون الأَعراض مادَّةً لها، وينشئ من الأجسام أعراضًا، كما ينشئ سبحانه من الأعراض أعراضًا، ومن الأجسام أجسامًا. فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرَّب تعالى، ولا يستلزم جمعًا بين النقيضين، ولا شيئًا من المُحَال، ولا حاجة إلى تكلف من قال: إنَّ الذبح لملك الموت. فهذا كله من الاستدراك الفاسد على اللَّه ورسوله، والتأويل الباطل الَّذي لا يوجبه عقلٌ ولا نقل، وسببه قِلَّة __________ = * ورواهُ محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه. لكنَّه قال: "فيذبح على الصراط" بدل "السور". أخرجه ابن ماجه رقم (4327) وأحمد (2/ 261) وغيرهما. * ورواهُ عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة نحوه؛ لكنَّه قال "فيوقف بين الجنَّة والنَّار" بدل "السور" أخرجه أحمد (2/ 377 و423) وغيره. ورواهُ عبد اللَّه بن عمر وأبو سعيد الخدري بلفظ "فيوقف بين الجنَّة والنَّار" بدل "السور". عند البخاري رقم (4730 و6548) ومسلم رقم (2849، 2850).

(2/815)


الفهم لمراد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من كلامه، فظنَّ هذا القائل أنَّ لفظ الحديث يدلُّ على أن نفْسَ العَرَض يُذبح. وظنَّ غالطٌ آخر: أنَّ العَرَضَ يُعدم ويزول، ويصير مكانه جسمٌ يُذبح. ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الَّذي ذكرناهُ، وأنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يُنشئ من الأعراض أجسامًا يجعلها مادَّةً لها، كما في الصحيح عنه: "تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنَّهما غمامتان" (1) الحديث. فهذه هي القراءة ينشئها اللَّه سبحانه غمامتين. وكذلك قوله في الحديث الآخر: "إِنَّ ما تذكرون من جلال اللَّه من تسبيحه وتمجيده (2) وتكبيره، وتهليله، يتعاطفن حول العرش، لهُنَّ دَوَيٌّ كدويِّ النَّحلِ، يُذَكِّرْنَ بصاحبهن" (3) ذكره أحمد. __________ (1) أخرجه مسلم برقم (804). (2) في "ج"، ومصادر التخريج "وتحميده". (3) أخرجه أحمد في المسند (4/ 268 و 271)، وابن ماجه رقم (3809)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (29406, 35027)، والطبراني في الدعاء رقم (1693)، والبزار في مسنده (8/ 199) رقم (3236)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 269) وغيرهم. من طريق موسى بن مسلم عن عون بن عبد اللَّه عن أخيه أو عن أبيه عن النعمان بن بشير فذكره. قال أبو نعيم: "غريب من حديث عون، تفرَّد به عنه موسى، وهو =

(2/816)


وكذلك قوله في حديث عذاب القبر ونعيمه للصورة التي يراها: "فيقول: من أنتَ؟ فيقولُ: أنا عملك الصَّالح، وأنا عملك السيئ" (1) . وهذا حقيقة لا خيال؛ ولكنَّ اللَّه سبحانه أنشأ له من عمله صورةً حسنةً، وصورة قبيحة، وهل النور الَّذي يُقْسَم بين المؤمنين يوم القيامة إلَّا نفس إيمانهم، أنشأ اللَّهُ سبحانه منه نورًا، يسعى بين أيديهم (2) ، فهذا أمرٌ معقولٌ لو لم يرد به النص، فورود النص به من باب تطابق السمع والعقل. وقال سعيد عن قتادة: بلغنا أنَّ نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّرَ له عمله في صورةٍ حسنةٍ وشارةٍ (3) حسنة، فيقول له: من أنتَ؟ فوالله إنِّي لأراك امرأ الصدق، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنَّة. وأمَّا الكافر إذا خرج من قبره، صُوِّر له عمله في صورة سيئة، وشارة سيئة، فيقول: ما أنت؟ فوالله إنِّي لأراك امرأ السوء، فيقول له: أنا عملك، فينطلق به حتَّى يدخله النَّار" (4) . وقال مجاهد: مثل ذلك (5) . __________ = أبو عيسى موسى بن مسلم الطحان، يعرف بالصغير". (1) تقدم في ص (141 - 145)، وراجع ص (33 - 34). (2) يشير إلى آية الحديد (12)، وآية التحريم (8). (3) في "ب، د": "إشارة"، وفي "ج": "وبشارة" في كلا الموضعين. (4) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 8) وهو مرسل صحيح الإسناد. (5) أخرجه الطبري (11/ 89) بلفظ "يكون لهم نورًا يمشون به". وهو صحيح عن مجاهد.

(2/817)


وقال ابن جُريج: "يُمَثَّلُ له عمله في صورة حسنة، وريح طيبة، يعارض صاحبه ويبشره بكلِّ خيرٍ، فيقول له: من أنتَ؟ فيقول: أنا عملك، فيجعل له نورًا بين يديه حتَّى يدخله الجنَّة فذلك قوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]، والكافرُ يُمَثَّلُ له عمله في صورةٍ سيِّئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويُلادُّهُ (1) حتَّى يقذفه في النَّارِ" (2) . وقال ابن المبارك: حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن أنَّه ذكر هذه الآية: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) } [الصافات: 58 - 59] قال: "علموا أنَّ كلَّ نعيمٍ بعده الموتُ أنَّه يقطعه، فقالوا: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) } قيل: لا، قالوا: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) } " (3) . وكان يزيد الرَّقاشي يقول في كلامه: "أَمِنَ أهلُ الجنَّة من الموتِ، فطابَ لهم العيش، وأمِنُوا من الأسقامِ، فهُنا هم في جوار اللَّهِ طول (4) المقام، ثمَّ يبكي حتَّى تجري دموعه على لحيته" (5) . __________ (1) كذا في جميع النسخ ومعناهُ السَّير بجانبه، انظر: اللسان (3/ 390)، ووقع عند الطبري (15/ 28 - ط/ شاكر) "ويلازُّهُ" بالزَّاي المشدَّدة، وهي بمعنى المقارنة والملازمة. (2) أخرجه الطبري (11/ 89). (3) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (278)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 521 - الدر المنثور). وسنده صحيح. (4) ليس في "ب". (5) ذكره المزي في تهذيب الكمال (32/ 73).

(2/818)


فصل: في ارتفاع العبادات في الجنَّة إلا عبادة الذكر فهي دائمة روى مسلم في "صحيحه" (1) من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما- أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يأكل أهل الجنَّة فيها ويشربون، ولا يَمْتخِطُون ولا يتغوَّطُون، ولا يبولون، ويكون طعامهم ذلك جشاءً ورشحًا كرشح المسك، يُلْهَمون التسبيح والحمد كما يلهمون النَّفَس". وفي رواية "التسبيح والتكبير كما تلهمون" (2) بالتاء المثناة من فوق، أي: تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس، كما تلهمون أنتم النَّفَس. فصل: في تذاكر أهل الجنَّة ما كان بينهم في دار الدنيا قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)} [الصافات: 50 - 51] الآيات، وقد تقدم الكلام عليها (3). وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور: 25 - 27]. __________ (1) رقم (2835) - (18) - (19). (2) (2835) - (20). (3) في (ص/ 562 - 563).

(2/819)


وذكر ابن أبي الدنيا من حديث الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن أنسٍ يرفعه: "إذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ، قال (1) : فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض، فيسير سرير هذا إلى سرير هذا، وسرير هذا إلى سرير هذا، حتى يجتمعا جميعًا فيتكئ هذا، ويتكئ هذا، فيقول أحدهما لصاحبه: تعلم متى غفر اللَّه لنا؟ فيقول صاحبه: نعم يوم كذا وكذا، في موضع كذا وكذا، فدعونا اللَّه فغفر لنا" (2) . وإذا تذاكروا ما كان بينهم، فتذاكرهم فيما كان يُشْكِلُ عليهم في الدنيا من مسائل العلم، وفهم القرآن والسنة، وصِحَّة الأحاديث = أولى وأحرى، فإن المذاكرة في الدنيا في ذلك ألذُّ من الطعام والشراب والجماع، فتذاكر ذلك في الجنَّة أعظم لذَّة، وهذه لذَّة يختص بها أهل العلم، ويتميزون بها على من عداهم. واللَّه المستعان. __________ (1) سقط من جميع النسخ. (2) تقدم الكلام عليه ص (566)، وهو لا يثبت.

(2/820)


 الباب السبعون: في ذكر المستحق لهذه البشرى دون غيره

قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]. وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس: 62 - 64]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30]. وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 17 - 18]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 20 - 22]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ

(2/821)


الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 22، 23]. وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) } [يس: 11]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) } [الأحزاب: 45 - 47]. وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) } (1) [آل عمران: 169 - 171]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) } [التوبة: 111]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ __________ (1) آية رقم (171) من "ب، د" فقط.

(2/822)


وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } [البقرة: 155 - 157]. وقال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) } [الصف: 13]. وقال في الجنَّة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } [آل عمران: 133]. وقال: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) } [الكهف: 107]. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1 )} إلى قوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } [المؤمنون: 1 - 11]. وفي "المسند" وغيره أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "قد أُنْزلت عليَّ عشر آيات من أقامهنَّ دخل الجنَّة، ثمَّ قرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( 1)} حتَّى ختم العشر الآيات" (1) . __________ (1) أخرجه أحمد (1/ 34)، وعبد الرزاق في المصنف (6038)، والترمذي رقم (3173)، وعبد بن حميد في مسنده (15 - المنتخب)، والنسائي في الكبرى (1/ 450) رقم (1439)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 460)، والحاكم (2/ 425) رقم (3479)، والبغوي في شرح السنة (5/ 177) رقم (1376)، وابن عدي في الكامل (7/ 175) وغيرهم. من طريق عبد الرزاق عن يونس بن سليم قال أملى عليَّ يونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارِّي عن عمر بن الخطاب =

(2/823)


وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} [الأحزاب: 35]. وقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة: 112]. وقال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63]. وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [آل عمران: 133 - 136]. __________ = فذكره - وفي أوَّله زيادة. والحديث صحَّح إسناده الحاكم، وحسَّنه البغوي. والحديث مدارهُ على يونس بن سليم الصنعاني، وهو مجهول، لا يعرف إلَّا في هذا الحديث، بل تكلَّم فيه عبد الرزاق، والحديث منكر كما قال النسائي، وتكلَّم فيه أبو حاتم والعقيلي وابن معين وابن عدي والذهبي. انظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 81)، والكامل (7/ 175)، وتهذيب الكمال (32/ 509). تنبيه: كان عبد الرزاق يروي هذا الحديث أحيانًا، ولا يذكر "يونس بن يزيد الأيلي" كما في المصنف، وعبد بن حميد وغيرهما.

(2/824)


وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) } إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) } [الصف: 10 - 13]. وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) } [الرحمن: 46] وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) } [النازعات: 40 - 41]. وهذا في القرآن كثير، مداره على ثلاث قواعد: إيمان، وتقوى، وعمل خالص للَّه على موافقة السنة. فأهل هذه الأصول الثلاثة هم أهل البشرى دون مَنْ عَدَاهم من سائر الخلق، وعليها دارت بشارات القرآن والسنة جميعها، وهي تجتمع في أصلين: إخلاص في طاعة اللَّه، وإحسان إلى خلقه، وضدها يجتمع في الذين يراؤون ويمنعون الماعون، ويرجع إلى خصلة واحدة، وهي موافقة الرب سبحانه وتعالى في محابِّه، ولا طريق إلى ذلك إلا بتحقيق القدوة ظاهرًا وباطنًا برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأما الأعمال التي هي تفاصيل هذا الأصل، فهي: "بضعٌ وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله ألا اللَّه، وأدناها إماطه الأذى عن الطريق" (1) ، وبين هاتين الشعبتين سائر الشُّعب التي مرجعها إلى تصديق الرسول في كل ما أخبر به، وطاعته في جميع ما أمر به إيجابًا واستحبابًا، كالإيمان __________ (1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (35).

(2/825)


بأسماء الرب وصفاته وأفعاله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل كما قال الشافعي رحمه اللَّه: "الحمد للَّه الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه" (1) . وكأنَّه أخذ هذا من قول النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "الَّلهم لك الحمد كالذي نقول، وخيرًا مما نقول" (2) . وقد ذكرنا في أول الكتاب جملة مقالات (3) أهل السنة والحديث التي أجمعوا عليها، كما حكاه الأشعري عنهم، ونحن نحكي إجماعهم، كما حكاه حرب - صاحب الإمام أحمد - عنهم بلفظه، في "مسائله" المشهورة (4) . __________ (1) انظر: كتاب "الرسالة" له ص (1). (2) أخرجه الترمذي برقم (3520)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (2841)، والمحاملي في الدعاء رقم (62) والَّلفظ لهم، والطبراني في الدعاء (874) وفضل عشر ذي الحجة رقم (51). من طريق قيس بن الربيع عن الأغر عن خليفة بن حصين عن علي بن أبي طالب فذكره مطوَّلًا. قال الترمذي: "هذا حديثٌ غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي". وقال ابن خزيمة: ". . . إنْ ثبت الخبر ولا أخال؛ إلَّا أنَّه ليس في الخبر حكم، وإنَّما هو دعاء، فخرَّجنا هذا الخبر، وإنْ لم يكن ثابتًا من جهة النَّقْل، إذ هذا الدعاء مباح أنْ يدعو به على الموقف وغيره". (3) في "أ، ج، هـ": "مقالة"، والمثبت أصوب. وراجع ص (26). (4) ص (354 - 361).

(2/826)


"هذا مذهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتمسكين بها، المقتدى بهم من لَدُن أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى يومنا هذا، وأدركت مَنْ أدركت مِنْ علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مخالفٌ مبتدعٌ خارجٌ عن الجماعة، زائلٌ عن منهج السنة وسبيل الحق. قال: وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد اللَّه ابن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العِلْمَ، فكان من قولهم: "أنَّ الإيمان قول وعمل ونِيَّة وتمسُّك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص، ويُسْتثنى في الإيمان غير أنْ لا يكون الاستثناء شكًّا (1) ، إنَّما هي سنَّةٌ ماضيةٌ عند العلماء. فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنَّه يقول: أنا مؤمن إن شاء اللَّه؟ أو مؤمن أرجو، أو يقول: آمنت باللَّه وملائكته وكتبه ورسله. ومن زعم أنَّ الإيمان قولٌ بلا عمل؛ فهو مرجئ، ومن زعم أنَّ الإيمان هو القول والأعمال شرائع؛ فهو مرجيء. ومن زعم أنَّ الإيمان يزيدُ ولا ينقص، فقد قال يقول المرجئة، ومن لم يَرَ الاستثناء في الإيمان؛ فهو مرجئ، ومن زعم أنَّ إيمانه كإيمان جبريل والملائكة __________ (1) قوله: "ويستثني في الإيمان غير أنْ لا يكون الاستثناء شكًّا" ليس في المطبوع من مسائل حرب.

(2/827)


فهو مرجئ. ومن زعم أنَّ المعرفة تقع (1) في القلب وإن لم يتكلم بها؛ فهو مرجئ (2) . والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره = من اللَّه عز وجل، قضاءٌ قضاه على عباده، وقدرٌ قدَّره عليهم، لا يعدو أحدٌ منهم مشيةَ (3) اللَّه عز وجل ولا يجاوزه قضاؤه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قَدَّر عليهم (4) ، وهو عدل منه جل ربنا وعزَّ. والزنى والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، والشرك (5) والمعاصي كلها بقضاء اللَّه (6) وقدرٍ من اللَّه، من غير أن يكون لأحد من الخلق (7) على اللَّه حُجَّة، بل للَّه الحجة البالغة على خلقه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) } [الأنبياء: 23]. __________ (1) وقع في "هـ"، ونسخة على حاشية "د"، والمطبوعة من "مسائل حرب" "تنفع". (2) في المطبوعة من المسائل "جهمي"، وجاء بعده "ومن زعم أنَّه مؤمنٌ عند اللَّه مستكمل الإيمان فهذا من أشنع قول المرجئة وأقبحه". وليس هذا في جميع النسخ. (3) في "هـ": "عن مشيئة". (4) زادت المطبوعة من المسائل بعد "عليهم": "لا محالة". (5) وقع في المطبوعة من المسائل "والشرك باللَّه والذنوب جميعًا". (6) ليس في المطبوعة من المسائل. (7) قوله "من الخلق" ليس في المطبوعة من المسائل.

(2/828)


وعِلْمُ اللَّه عز وجل ماض في خلقه بمشيئة منه، قد عَلِمَ من إبليس ومن غيره -ممَّن عصاه من لدن عُصِي تبارك وتعالى إلى أن تقوم الساعة- المعصية وخلقهم لها. وعلم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها، فكل يعمل لِمَا خُلِقَ (1) له، وصائر إلى ما قضى عليه (2) ، لا يَعْدُو أحد منهم قَدَرَ اللَّه ومشيئته، واللَّه الفعال لما يريد. ومن زعم أنَّ اللَّه سبحانه شاء لعباده الذين عَصَوْهُ الخير والطاعة، وأنَّ العباد شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم = فقد زعم أنَّ مشيئة العباد أغلب من مشيئة اللَّه تبارك وتعالى، وأي افتراء أكبر على اللَّه من هذا؟! (3) . ومن زعم أنَّ الزنى ليس بقدر، قيل له: أرأيت هذه المرأة حملت من الزنى، وجاءت بولد، هل شاء اللَّه عز وجل أن يخلق هذا الولد، وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا، فقد زعم أنَّ مع اللَّه خالقًا، وهذا الشرك صراحًا (4) . __________ (1) قوله "لما خلق" وقع في المطبوعة من المسائل "بما يخلق له". (2) جاء في المطبوعة من المسائل هنا زيادة وهي: "وعلم منه". (3) جاء في المطبوعة من المسائل زيادة "ومن زعم أنَّ أحدًا من الخلقِ صائرًا إلى غير ما خلق له، فقد نفى قدرة اللَّه عن خلقه، وهذا إفكٌ على اللَّهِ وكذب عليه". (4) قوله "وهذا الشرك صراحًا" وقع في المطبوعة من المسائل "وهذا قول يضارع الشرك، بل هو الشرك".

(2/829)


ومن زعم أنَّ السرقة، وشرب الخمر، وأكل المال الحرام ليس بقضاء وقدر (1) ؛ فقد زعم أنَّ هذا الإنسان قادرٌ على أنْ يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية (2) ، بل أكل رزقه الذي قضى اللَّه (3) أن يأكله من الوجه الذي أكله. ومن زعم أنَّ قتل النفس ليس بقدر من اللَّه عز وجل، فقد زعم أنَّ المقتول مات بغير أجله، وأي كفر أوضح من هذا؟ بل ذلك بقضاء اللَّه عز وجل (4) ، وذلك عدلٌ منه (5) في خلقه، وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم (6) ، وهو العدل الحق الذي يفعل ما يريد. ومن أقرَّ بالعلم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصِّغَر والقماءة (7) . ولا نشهد على أحدٍ من أهل القبلة أنَّه في النَّار لذنب عمله، ولا لكبيرة أتاها، إلا أن يكون ذلك في حديث [فيروى الحديث] كما جاء، __________ (1) في المطبوعة من المسائل "وقدر من اللَّه". (2) قوله "وهذا صراح قول المجوسية"، جاء في المطبوعة من المسائل "وهذا القول يضارع قول المجوسية والنصرانية". (3) في المطبوعة من المسائل "اللَّه له". (4) في المطبوعة من المسائل ". . بقضاء من اللَّه عزَّ وجلَّ وقدر". (5) في المسائل "وكل ذلك بمشيئته" بدل "وذلك عدلٌ منه". (6) في المسائل "لهم". (7) جاء في المسائل بعد "والقماءة" إضافة "واللَّه الضار النَّافع، المضل الهادي، فتبارك اللَّه أحسنُ الخالقين". والقماءة: بمعنى الصِّغَر والحقارة. اللسان (1/ 134).

(2/830)


ولا ننص (1) الشهادة، ولا نشهد لأحد أنَّه في الجنَّة بصالح عمله، ولا بخير أتاه (2) إلا أن يكون في ذلك حديث، [فيروى الحديث] كما جاء على ما رُوِي، ولا ننص (3) الشهادة. والخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم، ولا يقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة. والجهاد ماضٍ قائمٌ مع الأئمة بروا أو فجروا، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل. والجمعة والعيدين والحج مع السلطان، وإن لم يكونوا بَرَرَة عدولًا أتقياء. ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إليهم (4) عدلوا __________ (1) قوله: "في حديثٍ كما جاء، ولا ننص" جاء في المسائل: "في حديثٍ فيروى الحديث كما جاء على ما رُوي، ويصدق به ويقبل، ويعلم أنَّه كما جاء، ولا ينصب"، وجميع ما بين المعقوفتين من المسائل. (2) قوله: "بصالح عمله، ولا بخير أتاهُ" في المسائل "لصلاح عمله أو لخيرٍ أتى به". (3) قوله: "كما جاء على ما روي ولا ننص الشهادة" جاء في المسائل "فيروى الحديث كما جاء على ما روي، يصدق به ويقبل ويعلم أنَّه كما جاء، ولا ينصب الشهادة"، وجاء في "أ، هـ" "وننص"، وفي "ج" "ولا نص" بدل "ولا ننص". قال شيخ الإسلام: لفظ "ننص" هو المشهود عليه، معناه: ولا نشهد على المعيَّن؛ وإلا فقد قال: نعلم أنه كما جاء ... مختصر الصواعق المرسلة (ص/ 480). (4) قوله: "والغنائم إليهم" وجاء في المسائل "والغنيمة إلى الأمراء".

(2/831)


فيها أو جاروا. والانقياد لمن ولاه اللَّه عز وجل أمركم (1) ، لا ننزع يدًا من طاعته، ولا تخرج عليه بسيف، حتى يجعل اللَّه لك فرجًا ومخرجًا، ولا نخرج على السلطان، ونسمع ونطيع، ولا ننكث بَيْعتهُ، فمن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف (2) مفارق للجماعة. وإن أمرك السلطان بأمر هو للَّه معصية، فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه، ولا تمنعه حقه. والإمساك في الفتنة سنةٌ ماضيةٌ واجبٌ لزومها، فإنِ ابْتُلِيت فقدِّم نفسك (3) دون دينك، ولا تُعِنْ على الفتنة بِيَدٍ ولا لسان، ولكن أكفف يدك ولسانك وهواك، واللَّه المعين. والكف عن أهل القبلة، فلا نكفر أحدًا منهم بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل؛ إلا أن يكون في ذلك حديث [فيروى الحديث] كما جاء، وكما رُوي، فنصدقه ونقبله ونعلم أنَّه كما روي: نحو ترك الصلاة، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر، والخروج من الإسلام، فاتبع ذلك (4) ولا تجاوزه (5) . __________ (1) في المسائل "أمرك"، وجاء فيه: "يدك" و"بسيفك" بدل "يدًا" و"بسيف". (2) في المسائل "مخارق". (3) في المسائل "نفسك ومالَكَ". (4) قوله: "فاتبع ذلك" جاء في المسائل "واتبع الأثر في ذلك". (5) في المسائل "ولا أحب الصلاة خلف أهل البدع، ولا الصلاة على من مات =

(2/832)


والأعور الدجال خارج لا شك في ذلك ولا ارتياب، وهو أكذب الكاذبين. وعذاب القبر حقٌّ، يسأل العبد عن دينه، [وعن نبيه]، (1) وعن ربه، وعن الجنَّة وعن النَّار (2) . ومنكر ونكير حق، وهما فَتَّانا القبر (3) . نسأل اللَّه الثبات. وحوض محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- حق، حوض تَرِده أُمته، وله آنية يشربون بها منه. والصراط حق، يوضع على سواء جهنم، ويمر الناس عليه، والجنَّة من وراء ذلك. والميزان حق، توزن به الحسنات والسيئات، كما شاء اللَّه أن توزن. والصور حق، ينفخ فيه إسرافيل فيموت الخلق، ثم ينفخ فيه الأخرى فيقومون لرب العالمين للحساب، وفصل (4) القضاء، والثواب والعقاب، والجنَّة والنَّار. واللوح المحفوظ [حق]، يستنسخ منه أعمال العباد، لما سبق فيه __________ = منهم". (1) ما بين المعقوفتين من المسائل. (2) قوله: "وعن الجنَّة وعن النَّارِ" جاء في المسائل "ويرى مقعده من الجنَّة والنار". (3) في المسائل "القبور". (4) ليس في المسائل.

(2/833)


من المقادير والقضاء. والقلم حق كتب اللَّه به مقادير كل شيء، وأحصاه في الذِّكْر. والشفاعة يوم القيامة حق، يشفع قومٌ في قوم، فلا يصيرون إلى النَّار، ويخرج قوم من النَّار بعد ما دخلوها ولبثوا فيها ما شاء اللَّه، ثم يخرجهم من النَّار (1) ، وقوم يخلدون فيها أبدًا، وهم أهل الشرك والتكذيب، والجحود والكفر باللَّه عز وجل. ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنَّة والنَّار، وقد خلقت الجنَّة وما فيها، وخلقت النَّار وما فيها، خلقهما اللَّه عز وجل، وخلق الخلق لهما، ولا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبدًا. فإن احتج مبتدع أو زنديق يقول اللَّه عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وبنحو هذا من متشابه القرآن (2) . قيل (3) له: كل شيء مما كتب عليه الفناء والهلاك هالك، والجنَّة والنَّار خلقهما للبقاء لا للفناء، ولا للهلاك، وهما من الآخرة لا من الدنيا. والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا أبدًا؛ لأن اللَّه عز وجل خلقهنَّ للبقاء لا للفناء، ولم يكتب عليهن الموت. __________ (1) في المسائل "بشفاعة الشافعين" بدل جملة "ولبثوا فيها. . . " إلى "من النَّارِ". (2) قوله "من متشابه القرآن" ليس في المسائل. (3) في نسخةٍ على حاشية "أ" "قل"، وفي المسائل "فقل" وهو أصح.

(2/834)


فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع (1) ضل عن سواء السبيل. وخلق سبع سماوات بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض، وبين الأرض العليا إلى السماء الدنيا مسيرة (2) خمس مئة عام، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمس مئة عام، والماء فوق السماء العليا السابعة، وعرش الرحمن عز وجل فوق الماء، واللَّه عز وجل على العرش، والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السماوات والأرضين السبع وما بينهما (3) ، وما تحت الثرى، وما في قعر البحر، ومنبت كل شعرة وشجرة، وكل زرع وكل نبات، ومسقط كل ورقة، وعدد كل كلمة (4) ، وعدد الرمل والحصى والتراب، ومثاقيل الجبال (5) ، وأعمال العباد وآثارهم، وكلامهم وأنفاسهم (6) ، ويعلم كل شيء، لا يخفى عليه من ذلك شيء. وهو على العرش فوق السماء السابعة، ودونه حُجُبٌ من نار ونور وظلمة، وما هو أعلم به. فإن احتج مبتدع ومخالف (7) بقول اللَّه عز وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]. وبقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى __________ (1) جاء في المسائل إضافة "مخالف، وقد". (2) من "ب، ج، د، هـ" والمسائل. (3) في المسائل "وما بينهنَّ وما تحتهنَّ" بدل "وما بينهما". (4) قوله: "كل كلمة" جاء في المسائل: "ذلك كله". (5) في المسائل إضافة "وقطر الأمطار". (6) في المسائل إضافة "وتَمْتَمَتهم، وما توسوس به صدورهم". (7) في المسائل إضافة "أو زنديق".

(2/835)


ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. ونحو هذا من متشابه القرآن. فقل: إنَّما يعني بذلك العلم؛ لأنَّ اللَّه عز وجل على العرش فوق السماء السابعة العليا، يعلم ذلك كله، وهو بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان. وللَّه عز وجل عرش، وللعرش حَمَلَة يحملونه، واللَّه عز وجل على عرشه، وله حدٌّ (1) . واللَّه عز وجل سميع لا يشك بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى ولا يسهو، قريب (2) لا يغفل، ويتكلم (3) وينظر ويبسط، ويضحك ويفرح، ويحب ويكره ويبغض، ويرضى ويغضب، ويسخط ويرحم، ويعفو ويغفر، ويعطي ويمنع، __________ (1) في "أ" "وليس له جسد"، وفي باقي النسخ "وليس له حدٌّ" وكلُّه خطأ، والتصويب من المسائل وفيها إضافة "اللَّه أعلم بحدِّه، واللَّه على عرشه عزَّ ذكره". وإثبات الحدِّ للَّه قال به جماعةٌ من السلف: كابن المبارك وحماد بن زيد، والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم، بل ألَّف الدشتي رسالة في إثبات الحدِّ للَّه. وانظر نقض الدارمي على بشر المريسي ص (57 - 58). (2) في المسائل "رقيب". (3) في المسائل إضافة "ويتحرك". وفي لفظة "الحركة" كلامٌ من حيث إطلاقه وعدمه. انظر نقض الدَّارمي على بشر المريسي ص (162 - 164)، ومجموع الفتاوى (16/ 423 و 427) ومختصر الصواعق المرسلة (2/ 257 - 258).

(2/836)


وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف يشاء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } [الشورى: 11] وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ويوعيها (1) ما أراد، وخلق آدم بيده على صورته، والسماوات والأرض (2) يوم القيامة في كفه (3) ، ويضع قدمه في النَّار فتنزوي، ويخرج قومًا من النَّار بيده، وينظر إلى وجهه أهل الجنَّة، ويرونه (4) فيكرمهم ويتجلى لهم، ويُعْرَضُ (5) عليه العباد يوم القيامة، ويتولى حسابهم بنفسه، لا يلي ذلك غيره عز وجل. والقرآن كلام اللَّه تكلم به ليس بمخلوق، فمن زعم أنَّ القرآن مخلوق فهو جهميٌّ كافر، ومن زعم أن القرآن كلام اللَّه ووقف، فلم يقل: ليس بمخلوق، فهو أخبث من القول الأول (6) ، ومن زعم أنَّ ألفاظنا وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللَّه فهو جهمي (7) . وَكلَّم اللَّهُ مُوسى تكليمًا: منه إليه (8) ، وناوله التوراة من يده إلى يده، ولم يزل اللَّه عز وجل متكلمًا (9) . __________ (1) في "ب": "ويعيها". (2) في المسائل "والأرضون". (3) في المسائل إضافة "وقبضته". (4) في المسائل "ويزورونه". (5) في المسائل "لهم فيعطيهم، ويُعرَضُ". (6) قوله: "فهو أخبث من القول الأوَّل"، في المسائل "أكفر من الأوَّل، وأخبث قولًا". (7) في المسائل "جهمي خبيث مبتدع، ومن لم يكفرهم. . . فهو مثلهم". (8) قوله: "تكليمًا منه إليه" ليس في المسائل. (9) في المسائل "متكلمًا عالمًا، فتبارك اللَّه أحسن الخالقين".

(2/837)


والرؤيا من اللَّه، وهي حق إذا رأى صاحبها في منامه مما ليس ضِغْثًا، فَقَصَّها على عالم وصَدَقَ فيها، وأوَّلها (1) العالم على أصل تأويلها الصحيح ولم يحرِّف، فالرؤيا تأويلها (2) حينئذ حق، وقد كانت الرؤيا من الأنبياء وحيًا، فأيُّ جاهل أجهل ممن يطعن في الرؤيا، ويزعم أنَّها ليست بشيء؟ وبلغني أنَّ من قال: هذا القول لا يرى الاغتسال من الاحتلام (3) ، وقد روي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن رؤيا المؤمن كلام يكلم به الربُّ عبدَهُ" (4) . وقال: "إن الرؤيا من __________ (1) في جميع النسخ "تأولها"، والمثبت من المسائل. (2) في "هـ": "ولم يحرِّف في الرؤيا، تأويلها". (3) من قوله "وبلغني" إلى "الاحتلام" ليس في المسائل. (4) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة رقم (486)، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (107 ق/ ب)، وحرب في مسائله ص (432)، والطبراني كما في المجمع (7/ 174) وغيرهم. من طريق جنيد بن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة فذكره. ولفظه "رؤيا المؤمن من كلام يكلم به العبد ربه تبارك وتعالى في المنام". وجنيد وحمزة مجهولان، ولهذا قال الهيثمي: "وفيه من لم أعرفه". وانظر الفتح (12/ 354). * ورواهُ إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن حميد بن عبد اللَّه أنَّ رجلًا سأل عبادة عن قوله تعالى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] فقال عبادة: سألت عنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو تُرى له، وهو من كلام يكلم به ربك عبده في المنام". أخرجه ابن أبي عاصم في السنة رقم (487)، والطبراني في مسند الشاميين رقم (1025)، وابن عساكر (6/ 20 - 21). =

(2/838)


اللَّه" (1) . وذكر (2) محاسن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والكفُّ عن ذكر مساويهم التي شجرت بينهم (3) . __________ = * وقد خولف إسماعيل بن عياش: خالفه: أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج وبقية بن الوليد والوليد بن مسلم كلهم عن صفوان به، ولم يذكروا جملة "وهو كلام يكلم. . . ". أخرجه أحمد (5/ 325)، والشاشي في مسنده رقم (1217)، والطبري في تفسيره (11/ 137)، والطبراني في مسند الشاميين رقم (1025)، وابن عساكر في تاريخه (6/ 20 - 21). ورواهُ عمر بن عمرو عن حميد بن عبد اللَّه عن عبادة فذكره، ولم يذكر جملة "وهو كلام .. . . ". * ورواهُ أيوب بن خالد بن صفوان عن عبادة فذكره، ولم يذكر جملة "وهو كلام يكلم .. . . ". أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 134 و 135). والحديث مداره على حميد بن عبد اللَّه -كما جاء في مصادر التخريج- أو حُميد بن عبد الرحمن -كما جاء في المسند وأطرافه وابن أبي عاصم-، وقد اختلف في نسبته كثيرًا، وفيه جهالة، ولا يُعلم هل سمع من عبادة أم لا؟ وعليه فالحديث ضعيف الإسناد، وتلك الزيادة شاذة واللَّه أعلم. تنبيه: وقع عند الطبراني في مسند الشاميين وابن عساكر في تاريخه: رواية الوليد بن مسلم مقرونة برواية إسماعيل بن عيَّاش. (1) أخرجه البخاري رقم (5415)، ومسلم (2261) من حديث أبي قتادة رضي اللَّه عنه. (2) في المسائل "ومن السنة الواضحة البيَّنة الثابتة المعروفة ذكر. . . ". (3) قوله: "التي شجرت بينهم" جاء في المسائل "والَّذي شجر بينهم".

(2/839)


فمن سب أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو واحدًا منهم أو تَنَقَّصه (1) أو طعن عليهم، أو عرَّض بعيبهم (2) ، أو عاب أحدًا منهم (3) ، فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف، لا يقبل اللَّه منه صرفًا ولا عدلًا، بل حُبُّهم سُنَّة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة. وخير الأمة بعد النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر رضي اللَّه عنه، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان (4) ، ووقف قوم على عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديون، ثم أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد هؤلاء الأربعة خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئًا من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص (5) ، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه (6) ، فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة، وخلده __________ (1) قوله: "أو تنقصه" ليس في المسائل. (2) في "هـ": "بغيبتهم". (3) في المسائل "منهم بقليل أو كثير، أو دقَّ أو جلَّ ممَّا يتطرق إلى الوقيعة في أحدٍ منهم". (4) قوله: "أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر. . . وعلي بعد عثمان" وقع في "هـ" "أبي بكر وعمر وعثمان ثمَّ علي". وجاء في المسائل "أبو بكر، وخيرهم بعد أبي بكر: عمر، وخيرهم بعد عمر: عثمان، وقال قومٌ من أهل العلم وأهل السنة: وخيرهم بعد عثمان علي". (5) في المسائل "ولا بنقص ولا وقيعة". (6) في المسائل "ثمَّ يستتيبه".

(2/840)


الحبس، حتى يموت أو يراجع (1) . ونعرف للعرب حقها، وفضلها وسابقتها، ونحبهم لحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "فإن حبهم إيمان، وبغضهم نفاق" (2) ، ولا نقول بقول الشُّعوبِيَّة وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون لهم بفضل، فإن قولهم: بدعة (3) . ومن حرَّم المكاسب والتجارات وطِيْبَ المال من وجهه (4) ؛ فقد جهل وأخطأ وخالف، بل المكاسب من وجهها حلال، وقد أحلها اللَّه عز وجل ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (5) ، فالرجل ينبغي له أن يسعى على نفسه وعياله __________ (1) في "هـ": "يرجع"، وجاء في المسائل "أو يراجع، فهذا السنة في أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (2) أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/ 355)، والطبراني في الأوسط رقم (2537)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 333)، والحاكم في المستدرك (4/ 97) رقم (6998) والَّلفظ له. من طريق معقل بن مالك عن الهيثم بن جماز عن ثابت بن أنس فذكر نحوه، وفيه زيادة. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن ثابت إلَّا الهيثم". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: "الهيثم: متروك، ومعقل: ضعيف". وكذلك قال الهيثمي في المجمع (1/ 53) في الهيثم. وقال العقيلي في ترجمة الهيثم: "حديثه غير محفوظ". (3) جاء في المسائل "بالفضل، فإنَّ قولهم: بدعة وخلاف". (4) في المسائل "وطلب المال من وجوهها". (5) في المسائل "ورسوله والعلماء من الأمة".

(2/841)


من (1) فضل ربه، فإن ترك ذلك على أنَّه لا يرى الكسب فهو مخالف (2) . والدين إنَّما هو كتاب اللَّه عز وجل، وآثار وسنن وروايات صحاح عن الثقات بالأخبار الصحيحة القوية المعروفة (3) ، يصدق بعضها بعضًا حتى ينتهي ذلك إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأصحابه رضي اللَّه عنهم، والتابعين وتابعي التابعين، ومن بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم، المتمسكين بالسنة، والمتعلقين بالآثار، لا يُعْرَفُون (4) ببدعة، ولا يطعن فيهم بكذب، ولا يُرْمَوْن بخلاف. إلى أن قال: "فهذه الأقاويل التي وصفت مذاهب أهل السنة والجماعة والأثر، وأصحاب الروايات وحملة العلم، الذين أدركناهم، وأخذنا عنهم الحديث، وتعلمنا منهم السنن، وكانوا أئمة معروفين، ثقاتٍ أهل صدق وأمانة يقتدى بهم، ويؤخذ عنهم، ولم يكونوا أصحاب بدع (5) ولا خلاف، ولا تخليط، وهو قول أئمتهم وعلمائهم الذين كانوا قبلهم، فتمسَّكوا بذلك، وتعلَّموه وعلِّموه". __________ (1) في المسائل "ويبتغي من". (2) في المسائل إضافة "وكل أحد أحق بماله الَّذي ورثه أو استفاده، أو أصابه أو اكتسبه لا كما يقول المتكلمون المخالفون". (3) جاء في المسائل إضافة "المشهورة، يرويها الثقة الأوَّل المعروف عن الثاني الثقة المعروف". (4) في المسائل "الَّذين لا يعرفون". (5) في "ب, ج، د": "بدعة".

(2/842)


قلت: حرب هذا هو صاحب أحمد وإسحاق، وله عنهما مسائل جليلة، وأخذ عن سعيد بن منصور، وعبد اللَّه بن الزبير الحميدي. وهذه الطبقة، وقد حكى هذه المذاهب عنهم واتفاقهم عليها، ومن تأمل المنقول عن هؤلاء وأضعاف أضعافهم من أئمة السنة والحديث، وجده مطابقًا لما نقله حرب، ولو تتبعناه لكان بقدر هذا الكتاب مِرارًا، وقد جمعنا منه في مسألة علو الرب تعالى على خلقه واستوائه على عرشه وحدها سفرًا متوسطًا (1)، فهذا مذهب المستحقين لهذه البشرى قولًا وعملًا واعتقادًا. وباللَّه التوفيق. فصل: ونختم هذا الكتاب بما ابتدأناه به أوَّلا، وهو خاتمة دعوى أهل الجنَّة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 9 - 10]. قال حجاج: عن ابن جريج: أُخبِرْتُ أنَّ قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} قال: "إذا مرَّ بهم الطير يشتهونه، قالوا: سبحانك اللهم، وذلك دعواهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فيُسلَّم عليهم فيردون __________ (1) هو "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية"، وهو مطبوع.

(2/843)


عليه، فذلك قوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}، قال: فإذا أكلوا حمدوا ربهم، فذلك قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) } " (1) . وقال سعيد، عن قتادة: قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} يقول: "ذلك قولهم فيها: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} " (2) . وقال الأشجعي: سمعت سفيان يقول: "إذا أرادوا الشيء قالوا: سبحانك اللهم، فيأتيهم ما دعوا به" (3) . ومعنى هذه الكلمة تنزيه الرب تعالى وتعظيمه وإجلاله عما لا يليق به. وذكر سفيان عن [عثمان بن] (4) عبد اللَّه بن موهب قال: سمعت موسى بن طلحة قال: سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن "سبحان اللَّه"، فقال: "تنزيه اللَّه عن السوء" (5) . __________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 89). (2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1930) رقم (10242)، والطبري في تفسيره (11/ 90). وسنده صحيح. (3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1930) رقم (10243)، والطبري (11/ 90). وسنده صحيح، وسفيان هو: الثوري، انظر: تفسيره ص (128). (4) ما بين المعكوفتين من الطبري، وعلل الدَّارقطني، وليس في النسخ. (5) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 31) رقم (17567 و 1769 - شاكر). - ورواهُ سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة عن موسى بن طلحة عن =

(2/844)


وسأل ابن الكوَّاء عليًّا عنها، فقال: "كلمةٌ رضيها اللَّه لنفسه" (1) . __________ = أبيه طلحة بن عبيد اللَّه فذكره مرفوعًا. أخرجه الطبري (15/ 32) رقم (17571). وهذا خطأ، لا يتابع عليه، انظر الكامل لابن عدي (3/ 284 - 285). والصوابُ حديث الثوري مرسلًا. انظر علل الدَّارقطني (4/ 208 - 209). - ورواهُ عبد الرحمن بن حماد عن حفص بن سليمان عن طلحة بن يحيى عن أبيه عن طلحة بن عبيد اللَّه فذكره مرفوعا كما سيأتي عند المؤلِّف. أخرجه البزار في مسنده (3/ 164) رقم (950)، والطبري في تفسيره (15/ 31 - شاكر)، والشاشي في مسنده رقم (10)، وابن حبان في المجروحين (2/ 60)، والحاكم في المستدرك (1/ 680) رقم (1848). قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". قال الذهبي معقِّبًا عليه: "بل لم يصح، فإنَّ طلحة منكر الحديث قاله البخاري، وحفص: واهي، فالحديث ضعيف جدًّا". تنبيه: ليس في سند ابن حبان "حفص بن سليمان" وقد قال ابن حبان في ترجمة "عبد الرحمن بن حماد": "يروي عن طلحة بن يحيى نسخة موضوعة. . . " ثمَّ ذكر حديثين، هذا أحدهما. (1) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 3) رقم (17568). وفيه قابوس بن أبي ظبيان، فيه ضعف، وفي سماع والده من علي ابن أبي طالب اختلاف. - وقد جاء من وجهٍ آخر: رواهُ حجاج بن أرطاة عن ابن أبي مُلَيْكة عن ابن عباس أنَّ عمر قال لعلي وأصحابه عنده: لا إله إلَّا اللَّهِ والحمدُ للَّه، واللَّه أكبر قد عرفناها، فما سبحان اللَّه؟ فقال علي: كلمة أحبها لنفسه، ورضيها لنفسه، وأحب أنْ تقال". أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره رقم (13 و 343 و 10251) وغيره. وقد وقع فيه اختلاف، والمثبت الرواية الرَّاجحة، والأثر مداره على الحجاج بن أرطاة، وهو مدلَّس لم يصرِّح بالتحديث.

(2/845)


وقال حفص بن سليمان: حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه، عن طلحة بن عبيد اللَّه قال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن تفسير "سبحان اللَّه"؟ فقال: "هو تنزيه اللَّه عزَّ وجلَّ عن كلِّ سوءٍ". فأخبر تعالى عن أوَّل دعواهم إذا استدعوا شيئًا: قالوا: سبحان اللَّه، وعن آخر دعواهم عندما يحصل لهم، وهو قولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ومعنى الآية أعمُّ من ذلك، والدعوى: مثل الدعاء، والدعاءُ يرادُ به الثناء، ويراد به المسألة. وفي الحديث: "أفضلُ الدُّعاء الحمدُ للَّه" (1) . __________ (1) أخرجه الترمذي برقم (3383)، وابن ماجه رقم (3800)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (831)، وابن حبان (3/ 126) رقم (846)، والحاكم في المستدرك (1/ 676) رقم (1834) وغيرهم. من طريق موسى بن إبراهيم الأنصاري عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد اللَّه بمثله وأوَّله "أفضل الذِّكر لا إله إلَّا اللَّه". والحديث مدارهُ على موسى بن إبراهيم الأنصاري روى عنه جمع، وقال ابن حبان في الثقات (7/ 449): "كان ممَّن يخطئ". وقد وقع في الحديث اضطراب في سنده "حيث جاء موقوفًا على جابر"، وفي متنه حيث جاء "أفضل الدعاء لا إله إلَّا اللَّه، وأفضل الذكر الحمد للَّه". والحديث صححه ابن حبان والحاكم وحسنه ابن حجر، وقال الترمذي "حسنٌ غريب، لا يُعرف إلَّا من حديث موسى بن إبراهيم". قال الحافظ ابن حجر: ". . . ولم أقف في موسى على جرح ولا تعديل، إلَّا أنَّ ابن حبان ذكره في الثقات وقال: "يخطئ"، وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّ =

(2/846)


فالدعاء ها هنا: دُعاءُ ثناءٍ يُلْهَمَه أهل الجنَّة، فأخبر سبحانه عن أوَّله وآخره، فأوَّله تسبيحٌ، وآخره حمدٌ يُلْهمونهما (1) كما يُلْهَم النَّفَس. وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ التكاليف في الجنَّة تسقط عنهم، ولا تبقى عبادتهم إلا هذه الدعوى التي يُلْهَمُونها. وفي لفظة "اللهم" إشارة إلى صريح الدعاء، فإنَّها متضمنةٌ لمعنى: "يا اللَّه"، فهي متضمنة للسؤال والثناء (2) ، وهذا هو الذي فهمه من قال: إذا أرادوا الشيء قالوا: سبحانك اللهم. فذكروا بعض المعنى ولم يَسْتَوْفُوه، مع أنَّهم قصروا به، فإنهم أوهموا أنهم إنَّما يقولون ذلك عندما يريدون الشيء، وليس في الآية ما يدلُّ على ذلك، بل يدلُّ على أنَّ أوَّل دعائهم التسبيح، وآخره الحمد. وقد دلَّ (3) الحديث الصحيح (4) على أنهم يلهمون ذلك كإلهام النَّفَسِ، فلا تختص الدعوى المذكورة بوقتِ إرادة الشيء، وهذا __________ = موسى مُقِلٌّ، فإذا كان يخطئ مع قِلَّة روايته؛ فكيف يوثَّق ويصحَّح حديثه، فلعلَّ من صححه أو حسَّنه تسمَّح لكون الحديث من فضائل الأعمال". نتائج الأفكار (1/ 58 - 59). وانظر في معنى حديث جابر: التمهيد لابن عبد البر (6/ 43 - 45). (1) في "ج": "يلهمونها". (2) انظر: جلاء الأفهام ص (140 - 141) للمؤلِّف. (3) في "ج": "دار" وهو خطأ. (4) المتقدم ص (818 - 819).

(2/847)


كما أنه الأليق بمعنى الآية (1) ، فهو الأليق بحالهم. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم (2) . __________ (1) في "هـ": "الآية الكريمة". (2) جاء في خاتمة النسخة "أ" ما يلي: "آخر الكتاب وللَّه الحمد أوَّلًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا، وأفضل صلاته وتسليمه على خيرته من خلقه محمد وآله وصحبه. فرغ من تعليقه لنفسه الفقير إلى اللَّه تعالى محمود بن أحمد بن محمد الحموي مولدًا، الفَيُّومي نسبًا، لثلاث خلون من شهر جمادى الأول سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة. - وجاء على يمين الصفحة بخط الناسخ ما يلي: "ذكر المؤلف رحمه اللَّه أنه فرغ منه عشية عرفة عند الثلث الآخر من الليل سنة خمس وأربعين وسبعمائة". - وجاء على يسار الصفحة بخط الناسخ ما يلي: "بلغ مقابلةً على أصلٍ غير الأصل المنقول منه، مع معارضة [أصله]. فصح إن شاء اللَّه تعالى، وذلك نهار ثالث [عشر] جمادى الأول سنة ثلاث وتسعين. * وجاء في خاتمة النسخة [ب] ما يلي: "آخر الكتاب واللَّه الموفق للصواب. وافق الفراغ من نسخه على يد أفقر عبيد اللَّه وأحوجهم إلى رحمته إبراهيم بن عبد الغالب بن إبراهيم الأنصاري الحنبلي عفا اللَّه عنهم. وذلك في اليوم الثامن عشر من شهر رمضان المعظم، سنة إحدى وستين وسبعمائة. غفر اللَّه لمؤلفه وكاتبه وقارئه ومستمعه ومالكه والناظر فيه، إنه على ما يشاء قدير. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين. وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل. * وجاء في خاتمة النسخة [ج] ما يلي: "تم الكتاب. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على محمد خاتم النبيين. وذلك في يوم الاثنين من شهر شوال من سنة إحدى وستين وسبعمائة، على يد أفقر عباد اللَّه تعالى وأحوجهم إلى رحمة اللَّه محمد بن الشيخ خليل الناسخ المؤدب، عفا اللَّه عنه، وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين إنه على =

(2/848)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . __________ = كل شيء قدير". وجاء على يسار الصفحة بخطٍّ مغاير ما يلي: "نقلت هذه النسخة من خطِّ المصنف رحمه اللَّه تعالى". * وجاء في خاتمة النسخة [د] ما يلي: "تم الكتاب. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. ووافق الفراغ في [] من رجب الفرد سنة أربعين وتسعمائة. وحسبنا اللَّه وكفى". - وجاء على يمين الصفحة: "بلغ مقابله بحسب الطاقة واللَّه المستعان". - وجاء على يسار الصفحة: "غفر اللَّه لكاتبه ولمالكه ولمؤلفه ولجميع المسلمين، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل". * وجاء في خاتمة النسخة [هـ] ما يلي: "تم الكتاب واللَّه الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب". على يد أضعف عباد اللَّه وأحوجهم إلى رحمته: عبد الرحمن بن إسماعيل بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن المؤدب السنجاري، المعروف "بابن المسواك الحيالي" غفر اللَّه لمؤلفه وكاتبه والناظر فيه ومستمعه ولمن دعا له بالرحمة والمغفرة ولجميع المسلمين. وذلك في سلخ رجب الفرد سنة إحدى وسبعين وسبعمائة هلالية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام [والحمد للَّه].

(2/849)