روضة المحبين ونزهة المشتاقين
التصنيفات
الوصف المفصل
- روضة
المحبين ونزهة المشتاقين
- أهمية الكتاب:
- مخطوطات الكتاب:
- الباب الأول في أسماء المحبة
- الباب الثاني في اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها
- الباب الثالث في نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين؟
- الباب الرابع في أنَّ العالمَ العُلويَّ والسُّفليَّ إنَّما وُجد بالمحبَّة ولأجلها، وأنَّ حركاتِ الأفلاكِ والشَّمسِ والقمرِ والنُّجومِ وحركات الملائكةِ والحيواناتِ، وحركةَ كلِّ متحركٍ إنَّما وُجدت بسبب الحبِّ
- الباب الخامس في دَواعي المحبَّة ومتعلَّقها
- الباب السادس في أحكام النظر، وغائلته، وما يجني على صاحبه
- الباب السابع في ذكر مناظرةٍ بين القلب والعين، ولوم كلٍّ منهما صاحبه (1)، والحكم بينهما
- الباب الثامن في ذكر الشُّبَهِ الَّتي احتجَّ بها من أباح النظر إلى من لا يحلُّ له الاستمتاع به، وأباح عشْقَهُ
- الباب التاسع في الجواب عمَّا احتجَّت به هذه الطَّائفة، وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج
- الباب العاشر في ذكر حقيقة العشق وأوصافه [52 ب]
- الباب الحادي عشر في العشق: هل هو اضطراريٌّ خارجٌ [54 ب] عن الاختيار أو أمرٌ اختياريٌّ؟ واختلاف النَّاس في ذلك، وذكر الصَّواب فيه
- الباب الثاني عشر في سَكْرَةِ العُشَّاق
- الباب الثالث عشر في أنَّ اللذَّة تابعةٌ لِلْمَحَبَّة في الكمال والنُّقصان
- الباب الرابع عشر فيمنْ مدح العِشْقَ وتمنَّاه، وَغَبَطَ صاحبَه على ما أُوتِيَهُ مِنْ مُناه
- الباب الخامس عشر فيمن ذمَّ العِشْقَ، وتبرَّم به، وما احتجَّ به كلُّ فريقٍ على صحَّة مذهبه
- [75 أ] الباب السَّادس عشر في الحُكْم بين الفريقين وفصل النِّزاع بين الطائفتين
- الباب السابع عشر في استحباب تخيُّر الصورة الجميلة للوِصال الذي يحبُّه الله ورسوله
- الباب الثَّامن عشر في أنَّ دواء المُحبِّين في كمال الوصال الذي أباحه ربُّ العالمين
- الباب التاسع عشر في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كلِّ حال
- [97 ب] الباب العشرون في علامات المحبَّة وشواهدها
- الباب الحادي والعشرون في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب وعدم التَّشريك بينه وبين غيره فيه
- الباب الثاني والعشرون في غَيْرَةِ المُحبِّين على أحبابهم
- الباب الثالث والعشرون في عفاف المُحبِّين مع أحبابهم
- الباب الرابع والعشرون في ارتكاب سبيل الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام
- الباب الخامس والعشرون في رحمة المُحبين، والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين
- الباب السادس والعشرون في ترك المحبين أدنى المحبوبَينِ رغبةً في أعلاهما
- الباب السابع والعشرون فيمن ترك محبوبه حرامًا، فبُدِّل له حلالًا أو أعاضه الله خيرًا منه
- الباب الثامن والعشرون فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذَّة الوصال الحرام
- الباب التَّاسع والعشرون في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى
روضة المحبين ونزهة المشتاقين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا كتاب «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» للإمام ابن قيم الجوزية، نقدِّمه إلى القراء في طبعة جديدة بالاعتماد على أقدم نسخة خطية وصلت إلينا منه، وتصحيح كثير من الأخطاء الواردة في طبعاته المختلفة. وقد بذلنا جهدًا كبيرًا في مراجعة النصوص والأخبار والأشعار الواردة فيه، وتخريجها من المصادر التي نقل عنها المؤلف، وضبط الشعر وإصلاح الخلل الواقع فيه، وتقويم النصّ في ضوء ما توفَّر لدينا من المراجع. وهذا الكتاب ـ كما سيأتي ـ أفضل الكتب التي ألِّفت في موضوع الحبِّ، أورد فيه المؤلف من الفوائد العلمية والتنبيهات والنكت والمناقشات ما لا نجده في كتاب آخر في هذا الباب، وانتقى فيه الأخبار والأشعار، ونزّهه عن الفحش والمجون وما يُخِلّ بالآداب الإسلامية، وإذا ورد شيء من ذلك فهو نادر. وهذه فصول أقدِّمها بين يدي الكتاب ليكون القراء على دراية بالكتاب ومنهج مؤلفه، أتحدث فيها عما يخصّ الكتاب من نواحٍ مختلفة.
(المقدمة/5)
عنوان الكتاب وتحقيق نسبته إلى المؤلف: سمَّى المؤلف هذا الكتاب في مقدمته باسم «روضة المحبين ونزهة المشتاقين»، وفي نسخة منه: «روضة المحبين ونزهة العاشقين» كما ذكر ذلك الأستاذ أحمد عبيد في تعليقه على طبعته من الكتاب (ص 12)، وقال الشيخ بكر أبو زيد: لعله تصحيف (1). وورد ذكره في مصادر ترجمة ابن القيم بعنوان «نزهة المشتاقين وروضة المحبين» (2) بتقديم وتأخير بين فصلي العنوان. ولكن النسخ الخطية التي وصلتنا تحمل العنوان المعروف الذي سمّاه به المؤلف في مقدمة الكتاب، وهو الذي ذكره حاجي خليفة (3)، ووصفه بقوله: «أولها: الحمد لله الذي جعل المحبة وسيلة إلى الظفر بالمحبوب ... الخ، وجعلها تسعة وعشرين بابًا كلها في مباحث المحبة». وهذا يدل على أنه اطلع على نسخة منه. والوصف المذكور ينطبق على الكتاب الذي بين أيدينا، فيتأكد بذلك نسبته إلى ابن القيم، ونطمئن إلى أنه الكتاب الذي ذكره المترجمون له بتقديم وتأخير بين فصلي العنوان. ووهم إسماعيل باشا البغدادي، فذكره مرة بعنوان «روضة المحبين _________ (1) انظر: «ابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده» (ص 252). (2) «كما في ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 250) و «طبقات المفسرين» للداودي (2/ 93) و «شذرات الذهب» (6/ 170) و «التاج المكلل» (ص 417). (3) في «كشف الظنون» (1/ 932).
(المقدمة/6)
ونزهة البساتين» (1) ثم بعنوان «نزهة المشتاقين» (2)، فظنهما كتابين، فأبعد النجعة. ولكثرة أوهامه وتصحيفاته لا يُوثق بشيء مما ينفرد به عند العلماء والباحثين، فلا يُلتفت إليه. ومما يؤكّد صحة نسبة الكتاب إلى ابن القيم أنه أورد فيه من نونيته المشهورة أبياتًا كثيرة، كما ذكر نماذج أخرى من شعره، ونقل عن شيخه شيخ الإسلام فوائد وتحقيقات في مواضع من الكتاب. وهناك عبارات ونصوص في بعض الموضوعات مشتركة بين هذا الكتاب وكتب ابن القيم الأخرى، وخاصةً كتاب «الداء والدواء» الذي يحتوي على كثير مما ذكره المؤلف في «روضة المحبين» في آفات النظر، وعقوبة اللواط، وفوائد غض البصر، ومراتب الحب، وأن كل حركة في العالم فأصلها المحبة، والكلام على العشق وما فيه من المفاسد، وأقسام العشاق، والكلام على حديث «من عشق فعفَّ». (انظر: الداء والدواء ص 348 ـ 353، 392 ـ 405، 415 ـ 422، 426 ـ 447، 466 ـ 476، 482 وما بعدها، 567 ـ 568، 568 ـ 573) [تحقيق الدكتور محمد أجمل الإصلاحي]. وسيأتي ذكر من نقل عن الكتاب واقتبس منه في مبحث مستقل. _________ (1) هدية العارفين (2/ 158). (2) المصدر نفسه (2/ 159).
(المقدمة/7)
بقي أن أشير إلى أن للمؤلف كتابًا آخر كبيرًا في المحبة، ذكره في مواضع من كتبه، فيقول: «وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاةً وتوابعها في كتابنا الكبير في المحبة» (مدارج السالكين 2/ 54 طبعة الفقي)، ويقول في موضع آخر: «وجميع طرق الأدلة تدل على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده، وقد ذكرنا لذلك قريبًا من مئة طريق في كتابنا الكبير في المحبة، وذكرنا فيه فوائد المحبة، وما تثمر لصاحبها من الكمالات، وأسبابها وموجباتها، والرد على من أنكرها، وبيان فساد قوله، وأن المنكرين لذلك قد أنكروا خاصة الخلق والأمر، والغاية التي وجدوا لأجلها» (مدارج السالكين 3/ 19). ويذكر في «مفتاح السعادة» (1/ 216) أنه سيُتبعه بعد الفراغ منه «كتابًا في الكلام على المحبة وأقسامها وأحكامها ... ». ويسميه «المورد الصافي والظل الضافي» (طريق الهجرتين ص 124) [تحقيق الإصلاحي]، و «قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين» (مدارج السالكين 1/ 92)، فهل هما كتابان أو كتاب واحد؟ الظاهر أنهما عنوانان لكتاب واحد، وعلى كلّ حال فالكتاب الكبير في المحبة غير «روضة المحبين»، فإنه لم يفصّل فيه مثل هذا التفصيل في موضوع محبة العبد للرب والرب للعبد. وظنَّ بعضهم أن «روضة المحبين» هو الكتاب الكبير (1) وهو بعيد. _________ (1) انظر تعليق الشيخ محمد حامد الفقي على «مدارج السالكين» (3/ 19)، وردَّ عليه الشيخ بكر أبو زيد في كتابه (ص 306)، ولكنه في موضع آخر منه (ص 253) يقول: «لعله هو الكتاب الكبير في المحبة ... ».
(المقدمة/8)
تاريخ تأليفه: لم يذكر ابن القيم هذا الكتاب في مؤلفاته الأخرى، ولعله ألَّفه في أواخر حياته، وسيأتي بيان أن من بين المصادر التي اعتمد عليها المؤلف: «الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين» الذي ألفه الحافظ مغلطاي قبل سنة 745 بقليل، واطلع عليه الحافظ صلاح الدين العلائي في هذه السنة وأنكر عليه بعض ما جاء فيه، ورفع أمره إلى الموفق الحنبلي، فاعتقله بعد أن عزّره، ومنع الكتبيين من بيع الكتاب، وبقي معتقلًا حتى انتصر له جنكلي بن البابا وخلَّصه (1). ومغلطاي من المعاصرين لابن القيم ومن المحبين لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومحنته بسبب الكتاب كانت مشهورة، فلا عجب أن يطلع عليه ابن القيم، وينقل منه نصوصًا كثيرةً، إلا أنه لم يُشِر إلى الكتاب أو المؤلف. ومهما يكن من أمر فاعتماد ابن القيم على كتاب مغلطاي يدلُّ على أن تأليف «روضة المحبين» كان بعد سنة 745، وهذا ما نريد أن نتوصل إليه هنا. موضوع الكتاب: «روضة المحبين» من أحسن الكتب التي أُلِّفت في موضوع الحب، _________ (1) انظر «الدرر الكامنة» (4/ 352).
(المقدمة/9)
وأكثرها فائدة، وأجمعها للأحاديث والآثار في هذا الباب، وأحسنها انتقاءً لأخبار المحبين والعشاق، وقد جعله المؤلف في تسعة وعشرين بابًا، وقدَّم لها بمقدمة جيدة ذكر فيها الغرض من تأليف الكتاب ومنهجه فيه، وسرد أبوابه، ووصفه بقوله: «هذا الكتاب يصلح لسائر طبقات الناس، فإنه يصلح عونًا على الدين وعلى الدنيا، ومرقاةً للذة العاجلة ولذة العقبى، وفيه من ذكر أقسام المحبة وأحكامها ومتعلقاتها، وصحيحها وفاسدها، وآفاتها وغوائلها، وأسبابها وموانعها، وما يناسب ذلك من نكتٍ تفسيرية، وأحاديث نبوية، ومسائل فقهية، وآثار سلفية، وشواهد شعرية، ووقائع كونية، ما يكون مُمْتِعًا لقارئه، مُروِّحًا للناظر فيه. فإن شاء أوسعه جدًّا وأعطاه ترغيبًا وترهيبًا، وإن شاء أخذ من هَزْله ومُلَحه نصيبًا، فتارةً يضحكه وتارة يُبكيه، وطورًا يُبعده من أسباب اللذة الفانية، وطورًا يُرغِّبه فيها ويُدنيه. فإن شئتَ وجدتَه واعظًا ناصحًا، وإن شئت وجدته بنصيبك من اللذة والشهوةِ ووَصْلِ الحبيب مسامحًا». هذا وصف إجمالي لمحتويات الكتاب، وفيما يلي استعراض لأبوابه وموضوعاته. خصَّص المؤلف أبوابه الأولى (1 - 5) لبيان أسماء المحبة واشتقاقها ومعانيها، ونسبة بعضها إلى بعض، وأن العالم العلوي والسُّفليّ إنما وُجد بالمحبة ولأجلها، كما تحدث عن دواعي المحبة ومتعلَّقها.
(المقدمة/10)
وفي الأبواب (6 - 9) تحدث عن أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه، وذكر مناظرةً بين القلب والعين وحَكَّم فيها الكبد، وذكر الشُّبه التي احتج بها من أباح النظر إلى الحرام وأباح عشقه، ثم الجواب عنها وبيان ما لهم وما عليهم في هذا الاحتجاج. أما الأبواب (10 - 16) فهي لبيان حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناس فيه، وهل هو اضطراري أو اختياري، واختلاف الناس في ذلك، وبيان سكرة العشاق وأن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان، وذكر من مدح العشق وذمَّه، والقول الفصل في هذا الباب. وتحدث في الأبواب (17 - 19) عن استحباب تخيُّر الصور الجميلة للوصال الذي يحبُّه الله ورسوله، وأن دواء المحبين في كمال الوصال المباح، وميل النفوس إلى فضيلة الجمال. وعقد الأبواب (20 - 28) لبيان علامات المحبة وشواهدها، واقتضاء المحبة إفرادَ الحبيب وعدم التشريك فيه، وذكر غيرة المحبين وعفافهم، وارتكاب سبل الحرام ومفاسده، ورحمة المحبين والشفاعة لهم، وترك أدنى المحبوبَيْن رغبةً في أعلاهما. وختم الكتاب بالباب (29) في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المُنى في الدنيا والآخرة. ويظهر من قراءة الكتاب أن المؤلف اجتهد كثيرًا في تهذيبه وترتيبه، واختيار النصوص والأخبار المناسبة لجميع الأبواب، ويهدف من
(المقدمة/11)
ورائها إلى إمتاع القارئ بما يقدِّمه من أخبار وأشعار وقصص وحكايات، مع تحذيره من مغبَّة الوقوع في الحرام، ودعوته إلى تغليب العقل على الهوى، وعدم الجري وراء الشهوات، وإيثار الآخرة على الدنيا. وهذا الغرض الرئيسي واضح من جميع أبواب الكتاب، وخاصة الأبواب الأخيرة منه، والتي خصَّصها للدعوة إلى ترك الشهوات وبيان كيفية التخلص من الهوى المُردِيْ.
أهمية الكتاب:
سبق ابنَ القيم إلى التأليف في موضوع الحبّ عددٌ من العلماء، منهم من أفرده بالتأليف، ومنهم من جعله فصلًا من كتابه، ومنهم من فرَّق أخبار العشق والعشاق في أثناء مؤلفاته في موضوعات مختلفة. ولسنا هنا بصدد إحصاء هذه المؤلفات ودراستها، وبيان ما وصل إلينا منها مخطوطًا ومطبوعًا (1). وإنما نكتفي بإلقاء نظرة سريعة على الكتب المشهورة في هذا الباب، لنعرف موقع «روضة المحبين» منها. _________ (1) قام بدراسة بعض هذه الكتب محمد حسن عبد الله في كتابه «الحب في التراث العربي» (ط. الكويت 1980 م). وهناك دراستان لاثنين من المستشرقين يمكن الرجوع إليهما: Lois Anita Giffen, Theory of profane love among the Arabs, (London 1972). Joseph Bell, The Hanbalite thinking on love theory in later Hanbalite Islam, (New York 1979).
(المقدمة/12)
1 - من أقدم ما وصل إلينا من هذه الكتب: كتاب «الزهرة» لمحمد بن داود الظاهري (ت 296)، والقسم الأول منه خاص بالحب ومظاهره وآثاره وأحكامه وأحواله وتصاريفه، وقد قسمه المؤلف إلى خمسين بابًا، وعنون كل باب بعنوان مسجوع، وأورد تحته مختارات من الأشعار والأخبار. وشهرة هذا الكتاب ترجع إلى أنه لفقيه ظاهري وإمام ابن إمام، يرسم للحبّ صورة وجدانية راقية، ويعتبر رائدًا في هذا الميدان، وقصته في هذا الباب مشهورة. 2 - كتاب «الموشى» لأبي الطيب الوشاء (ت 325) الذي يشكّل الحب عنده أحد أركان الظرف، وللتعبير عن ذلك سلك المؤلف سبيل رواية القصص والمأثورات والآراء الشخصية المبنية على تجارب خاصة، حتى أصبحت المادة التي جمعها في هذا المجال تشكل القسم الهام من عمله، وكلها يدور حول الحب العفيف ونقض كل ما هو مخالف له. 3 - أما كتاب «اعتلال القلوب» للخرائطي (ت 327) فيعتبر من أمهات الكتب في هذا الموضوع، وتأليفه على طريقة المحدِّثين بذكر الأسانيد لجميع الأخبار. وقد أكَّد المؤلف على ضرورة التمسك بالعفاف، كما يدل على ذلك عناوين كثير من أبوابه، واختار من الآيات والأحاديث وسير الصحابة والتابعين وقصص المحبين وأشعارهم ما يُرشِد القراء إلى هذا الهدف، وفيه أخبار طريفة عن المحبين انتقاها مؤلفه بدقة.
(المقدمة/13)
4 - «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي (ت 456)، درس المؤلف فيه الحبّ وتتبع أطواره، وبحث أدق قضاياه بوضوح وصراحة، وكان منهجه فيه الاستقراء والتتبع، والاعتماد على ما رأى وعاين، أو ما أُخبر عنه وصدَّقه، كما ذكر ذلك في مقدمته، حيث قال: «التزمت في كتابي هذا الوقوف عند حدّ الاقتصار على ما رأيت، أو صحَّ عندي بنقل الثقات. ودعني من أخبار الأعراب والمتقدمين، فسبيلهم غير سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أن أُنْضِي مطيةَ سواي، ولا أتحلَّى بحلي مستعار» (ص 17 ط. دار المعارف). 5 - «مصارع العشاق» لجعفر السرَّاج (ت 500)، جمع فيه أخبار العشاق الذين صرعهم الحبُّ منذ العصر الجاهلي حتى العصر العباسي، ومن سمات الكتاب أنه يطبع شخصياته دائمًا بطابع العفاف وخوف الله، ومن سماته أيضًا أن المؤلف قدَّم لكل جزء من أجزائه الاثنين والعشرين بمقطوعة شعرية من نظمه. ومن عيوبه أنه يورد الأخبار والروايات دون ترتيب وتبويب (1)، _________ (1) هذَّبه البقاعي (ت 885) في «أسواق الأشواق من مصارع العشاق»، ورتَّبه وزاد فيه جميع كتاب الحافظ مغلطاي «الواضح المبين» وجميع حكايات «منازل الأحباب» للشهاب محمود، فجاء في مقدمة وعشرة أبواب. انظر بيان مخطوطاته في كتاب أخي الدكتور محمد أجمل الإصلاحي: «فهرست مصنفات البقاعي» (ص 154 ـ 155)، وقد بنى داود الأنطاكي (ت 1008) كتابه «تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق» على كتاب البقاعي، واختصره ورتَّبه على مقدمة وخمسة أبواب وخاتمة، وهو مطبوع معروف.
(المقدمة/14)
وقد يكرِّرها في عدة مواضع، وقد يذكر بعض القصص والأخبار التي لا يصدّقها العقل. 6 - «ذم الهوى» لابن الجوزي (ت 597)، رتَّبه المؤلف على خمسين بابًا، وروى فيه الأخبار بالأسانيد، وهو كتاب يشتمل على ذمّ الهوى والتحذير من الوقوع في الخطأ والضلال، والحث على محاسبة النفس الأمارة بالسوء، والتحكم بالخواطر، والالتزام بالعفاف وخوف الله، وقد ألفه ابن الجوزي بعد ما طلب منه أحد من ابتلي بالهوى أن يصف له علاج هذا الداء العضال. 7 - «منازل الأحباب» للشهاب محمود (ت 725)، جمع فيه أخبار العشاق وأشعارهم منذ العصر الجاهلي إلى عصره، ولم يُشر إلى المصادر التي استقى منها مادة كتابه، وأضاف المؤلف إلى ما رواه عن غيره جملة من نظمه ونثره؛ إذ رآها تدخل في بابه ومعناه. وقد قسَّم كتابه إلى ثلاثة عشر بابًا، استغرق الباب الأخير منها الحيز الأكبر من الكتاب.
(المقدمة/15)
8 - «الواضح المبين» لمغلطاي (ت 762)، اعتمد فيه المؤلف على كتب العشق التي سبقته، وبدأ كتابه بروايات متعددة لحديث: «من عشق فعف ... »، ثم تحدث عن الحب وذكر تعريفاتٍ وأقوالًا كثيرة، ثم رتب أسماء العشاق وأخبارهم على حروف المعجم، وحذف الأسانيد من الأخبار إلا فيما يتعلق بالحديث النبوي. وقد أورد فيه بعض الأخبار المنكرة التي امتُحن من أجلها واعتُقل. هذه أشهر الكتب التي وصلت إلينا مما أُلِّف في هذا الباب إلى عهد ابن القيم، وقد اعتمد على بعض منها، وانتقى الأخبار والأشعار الواردة فيها، ورتبها ترتيبًا جديدًا. ولم يقتصر على النقل والاقتباس من الكتب وإيراد الأخبار والأشعار فقط، بل علَّق عليها بكلامه وشرحها، واستخرج الدروس والعبر منها، وأضاف إليها كثيرًا من الفوائد والنكت والمسائل في الحديث والتفسير والفقه والسلوك وغيرها، وهذه ميزة انفرد بها كتاب «روضة المحبين» من بين الكتب المؤلفة في هذا الباب، وقد قمنا بفهرسة هذه الفوائد المنثورة في آخر الكتاب، فأغنانا عن ذكرها هنا. وهناك ميزة أخرى للكتاب، وهي أن ابن القيم يقدِّم لأغلب الأبواب والفصول بكلام مفيد يُمهِّد به لذكر الأخبار والآثار الواردة فيها، فهو لم يقتصر على جمع الأخبار والأشعار وانتقائها، بل كان له رأي واضح في
(المقدمة/16)
جميع القضايا التي تناولها بالبحث. وقد وضع بعض الأبواب للفصل بين رأيين متعارضين في قضية معينة، فمثلًا بعد ما تحدث عمن مدح العشق ورغَّب فيه وعمن ذمَّه وتبرم به، وذكر احتجاج الفريقين في البابين (14، 15)، عقد الباب (16) في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين، وقال: «العشق لا يُحمَد مطلقًا ولا يُذم مطلقًا، وإنما يُحمَد ويُذَمُّ باعتبار متعلَّقه، فإن الإرادة تابعة لمرادها ... » ثم فصَّل في بيان ذلك. وعندما ذكر في الباب (8) الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل الاستمتاع به وأباح عشقه، عقد الباب (9) للجواب عما احتجت به هذه الطائفة، وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج، وقال: إن شُبههم التي ذكروها دائرةٌ بين ثلاثة أقسام: أحدها: نقولٌ صحيحة لا حجة لهم فيها، والثاني: نقولٌ كاذبة عمن نُسِبت إليه من وضع الفسَّاق والفجَّار، والثالث: نقولٌ مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه. ثم توسَّع في بيان ذلك، وفي هذا الباب نفى عن شيخه شيخ الإسلام فتوى في العشق، وقال: إنها كذبٌ عليه لا تُناسِب كلامَه بوجه. وأجاب عن كل الحجج التي احتجوا بها في إباحتهم لذلك الوصال، فكان الواضح من رأيه أنه يمنع من ذلك ولا يجيزه. ولكنه في الباب (25) في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يُبيحه الدين، ذكر ما يفهم منه جواز التداوي بمثل ذلك الوصال إن تحقق الشفاء به، وأورد أخبارًا في الشفاعة للعشاق فيما يجوز من الوصال والتَّلاقي.
(المقدمة/17)
وتتجلى أهمية الكتاب في أن مؤلفه يركّز دائمًا على التحذير من ارتكاب الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام، والدعوة إلى ترك أدنى المحبوبين رغبةً في أعلاهما، والترغيب فيما أعدّ الله للمؤمنين في الجنة، ويذكر لمن ابتُلي بالهوى طرقَ التخلُّص منه بأمور كثيرة، وبها ختم الكتاب. ولهذه الأمور وغيرها اعتُبر هذا الكتاب أفضل الكتب المؤلفة في هذا الباب، وقد قال الأستاذ أحمد عبيد في مقدمة نشرته (ص: ز ـ ح): «بقي كلمة أحبُّ أن أقولها، وهي أن الكتب المصنفة في الحب هذا أنفعها؛ لأنه جمع إلى لغة الحب وفلسفته ومذاهب الناس فيه لغةَ الشريعة وحكمتها وأدبها، فالقارئ يتنقل في هذه الروضة المؤنقة من فائدة لغوية إلى قاعدة أصولية، ومن نكتة أدبية إلى مسألة فقهية، ومن غيرها إلى غيرها مما لا سبيل إلى استقصائه. أما غيره من الكتب المؤلفة في هذا الشأن فبعضها يَسرُد من أخبار العشاق ما يُزيِّن العشق ويُغري به، ويذكر بعضُها من مدح الهوى وأهله ما يَهوِي بقارئه في دركات الشر والهلاك، وليس في سائرها ما يتنزه عن سوء القول وخَطَل المجون. إن هذا الكتاب قد شُحِن بحمد الله بكل معنى جميل وقول عفيف، فليس فيه ما ينبو السمع عنه من قذع الكلام وفاحش المجون، حتى إنه بَرئ من ذكر السوءات إلا ما ورد منها في الكتاب والسنة».
(المقدمة/18)
موارده: ذكر المؤلف في مقدمة الكتاب (ص 23) أنه «علَّقه في حال بُعدِه عن وطنه، وغَيبتِه عن كتبه»، وقد فهم منه بعضهم (1) أنه يورد أغلب الأحاديث والأخبار والأشعار من حفظه، ولا يذكر الحديث بلفظه ولا القول بنصِّه، وربَّما جمع الآية من الآيتين، والحديث من الحديثين، وربَّما قدَّم المؤخَّر وأخَّر المقدَّم، وأبدلَ كلمةً بكلمةٍ، وغيَّر حرفًا بحرفٍ. ولكن بعد قراءة الكتاب قراءةً متأنية، ومراجعة نصوصه ومقابلتها بالكتب المعروفة، يظهر لنا أن المؤلف اعتمد على مجموعة من المصادر، استقى منها النصوص والأخبار والقصص والأشعار، وهو وإن تصرَّف فيها قليلًا أو كثيرًا، ولم يذكر في أغلب الأحيان المصادر التي نقل منها، إلا أنه يُصرِّح أحيانًا بأسماء بعض الكتب والمؤلفين، وينقل عنها صفحاتٍ متتالية، كما يظهر ذلك بالمقابلة معها. ومثل هذا التوافق لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان المؤلف استخدم تلك المصادر حقيقةً. فكيف نفسِّر كلام المؤلف في مقدمة الكتاب؟ الذي أرى أن يُفهم من مثل هذه العبارة في مقدمات بعض الكتب: أن المؤلف كان وقت التأليف بعيدًا عن مكتبته الخاصة الغنية بالمصادر _________ (1) مثل الأستاذ أحمد عبيد في مقدمة تحقيقه للكتاب: ص هـ.
(المقدمة/19)
والكتب (1)، وأنه اشتغل بتأليفها في حال سفره وبُعده عن وطنه، وهذا لا يدلُّ على أنه لم يستخدم الكتب أو مذكراته الخاصة بالنقول عن المصادر. فكل مؤلف أو باحث لا يتيسر له في كل وقتٍ الحصول على المراجع الضرورية للموضوع الذي يريد أن يكتب فيه، حتى ولو كان مستقرًّا في مكتبته ومقيمًا في بلده، فهو في بعض الأمور يعتمد على محفوظاته، مثل القرآن الكريم، والأحاديث المشهورة، والأبيات السائرة، والأمثال والحكم المأثورة، وبعض الأخبار والأحداث والقصص المعروفة، وأقوال السلف والأئمة في المسائل المختلفة، وبعض المتون المشهورة وغيرها من المعارف التي يُكثِر منها العلماء أو يُقِلِّون حسب رغبتهم وتخصصهم. وفي كثير من الأحيان يعتمد على الكتب إذا تيسَّرت، أو النصوص المقتبسة منها في مذكراته الخاصة. وقول المؤلف في المقدمة لا ينفي أن تكون قد حصلت له بعض الكتب في حال بُعده عن وطنه، أو أنه استخدم بعض مذكراته التي اقتبس فيها النصوص والفوائد من المصادر المختلفة التي قرأها. وعلى هذا فيمكن لنا أن نبحث عن موارده في الكتاب، ولسنا هنا بصدد الاستقصاء والتتبع لجميع المصادر التي استخدمها، فإن الفهارس العلمية في آخر الكتاب ستبيِّن أسماء جميع المؤلفين والكتب التي ورد _________ (1) انظر عنها ما قاله الشيخ بكر أبو زيد في كتابه (ص 62 ـ 63).
(المقدمة/20)
ذكرها فيه. وإنما نذكر هنا المصادر الرئيسة التي كان عليها جلُّ اعتماد المؤلف في إيراد الأخبار والأشعار في الكتاب، وهي خمسة كتب: 1 - اعتلال القلوب، للخرائطي (ت 327). 2 - طوق الحمامة، لابن حزم (ت 456). 3 - ذم الهوى، لابن الجوزي (ت 597). 4 - منازل الأحباب، للشهاب محمود (ت 725). 5 - الواضح المبين، لمغلطاي (ت 762). وكان اعتماده على «طوق الحمامة» و «منازل الأحباب» قليلًا، بالنسبة إلى الكتب الثلاثة الأخرى التي أكثر النقل منها دون الإشارة إليها في أغلب المواضع، بل لم يشر إلى كتاب مغلطاي أصلًا، ولكنه نقل بواسطته عن كتب أخرى صرَّح بأسماء بعضها. ولعل السبب في ذلك ـ والله أعلم ـ عدم تقدير العلماء لكتاب مغلطاي بسبب بعض الأخبار المنكرة التي أوردها فيه، حتى إنه امتُحن بسببها وأُدخِل السجن، كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى، فأحبَّ ابن القيم أن لا يُصرِّح بالنقل من هذا الكتاب. هذه هي المصادر الأساسية للأخبار والأشعار المتعلقة بالعشق والعشاق، وقد أشرتُ في تخريجي لها إلى هذه الكتب، فلا داعي لذكر جدول لبيان النصوص المقتبسة منها.
(المقدمة/21)
أما الأحاديث والآثار فكثير منها عزاها إلى الصحاح والسنن والمسانيد والأجزاء المفردة، وقد يعزو إليها من حفظه فيحصل بعض الوهم والخطأ، وقد أشرتُ إلى ذلك في الحواشي. وفي الباب الثاني الخاص ببيان اشتقاق أسماء المحبة ومعانيها اعتمد على «الصحاح» للجوهري كثيرًا، وصرَّح بذكره في بعض المواضع. أما المصادر والمراجع الأخرى فقد ينقل عنها مباشرة، وقد ينقل عنها بواسطة كتب الخرائطي وابن الجوزي ومغلطاي، وبيانها في الهوامش في مواضعها. أثره في الكتب اللاحقة: نقل عن هذا الكتاب عدد من المؤلفين، واعتمدوا عليه في إيراد النصوص التي ذكرها ابن القيم، وآرائه وتعليقاته على القضايا التي تطرق إليها. وأقدم من وجدته يقتبس منه: ابن أبي حجلة (ت 776) في كتابه «ديوان الصبابة»، وقد اعتمد عليه اعتمادًا كبيرًا في تأليفه، وأورد أكثر الأخبار والأشعار التي ذكرها ابن القيم في كتابه، دون أن يشير إليه في أغلب المواضع، وقد صرَّح بالنقل عنه في أربعة مواضع فقط، فأحيانًا يقول: «قال الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية ... » (ص 34، 93) [ط. بيروت 1972 م]، وأحيانًا يقول: «قال صاحب روضة المحبين» (ص 36، 92).
(المقدمة/22)
والواقع أنه نقل عنه كثيرًا، وخاصةً في فصول المقدمة والأبواب الأولى منه. وكل من يقارن بين النصوص المشتركة الواردة في كلٍّ من «ديوان الصبابة» و «روضة المحبين» يتبين له صحة هذا الأمر، ويتأكد له أن ابن أبي حجلة كان عالة على كتاب ابن القيم، وإن كان أضاف إليه فوائد وزوائد، وعقد بعض الأبواب التي لم يرد ذكرها إلا في «ديوان الصبابة»، كما أورد المؤلف من شعره وشعر المتأخرين في مواضع منه، ولم يتورع عن الفحش والمجون والوصف الصريح في هذا الباب، على عكس ابن القيم الذي نزَّه كتابه عن هذا إلا نادرًا. ثم جاء سبط ابن العجمي (ت 884) فنقل عنه في كتابه «كنوز الذهب في تاريخ حلب» (1/ 56)، وكذا نقل عنه صاحب كتاب «صُبَابة المُعَاني وصَبَّابة المعاني» من علماء القرن الحادي عشر، طبع مركز الملك فيصل بالرياض، نقل عنه وسمى كتابه (ص 101)، ونقل عنه دون تسمية عند ذكر الصبابة (ص 127) (1). ثم جاء المؤلف المشهور مرعي بن يوسف الحنبلي (ت 1033)، فألَّف كتابًا في هذا الموضوع، وسمَّاه «مُنْية المحبين وبُغية العاشقين»، وتوجد منه عدة نسخ، منها نسخة في دار الكتب المصرية [أدب 6252]، وأخرى في دار الكتب أيضًا [طلعت أدب 4648]، وثالثة في الإسكندرية [أدب 170]. ولم أتمكن من الحصول على شيء منها لأحكم على قيمة _________ (1) أفادني الشيخ سليمان العمير بالمصدرين السابقين، جزاه الله خيرًا.
(المقدمة/23)
الكتاب العلمية، وعلاقته بكتاب «روضة المحبين». إلا أن عنوان كتابه يُوحي بأنه مختصر من كتاب ابن القيم وتهذيب للأخبار الواردة فيه، فإن المؤلف المذكور معروف بالنقل كثيرًا عن كتب ابن القيم وشيخه شيخ الإسلام. وكلُّ من قرأ شيئًا من مؤلفاته في الموضوعات التي ألَّف فيها الشيخان يعرف أسلوبه في النقل عنها والاعتماد عليها اعتمادًا كبيرًا، مع زيادة بعض الفوائد من المصادر الأخرى. وأرجو ممن يطلع على كتاب مرعي أن يكشف عن حقيقة الأمر، ويبيِّن علاقته بكتاب «روضة المحبين»، وإلى أيّ مدى اعتمد عليه مرعي في كتابه. وممن نقل عن هذا الكتاب: السفّاريني (ت 1188) في كتابه «غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب»، وقد اقتبس منه في مواضع، وسمَّاه «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» أو «روضة المحبين». انظر 1/ 88، 96 - 97، 100 - 101، 102، 2/ 402، 411، 417 - 418، 423 - 424، 435، 440، 441 - 442، 456 - 458، 458 - 459 (طبعة مطبعة الحكومة بمكة 1393). ونقل عنه السفّاريني أيضًا في كتابه «شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد» (1/ 429، 440، 704)، وفي كتابه «كشف اللثام شرح عمدة الأحكام» (5/ 248)، وفي كتابه «القول العلي لشرح أثر الإمام علي» (ص 309، 311) (1). _________ (1) هذه المصادر الثلاثة أفادني بها أيضًا الشيخ سليمان العمير حفظه الله.
(المقدمة/24)
هذه النقول تبيِّن أهمية الكتاب وقيمته العلمية، كما أنها تؤكد صحة نسبته إلى ابن القيم، وتحدِّد العنوان الصحيح له، والذي تحدثنا عنه سابقًا.
مخطوطات الكتاب:
اعتمد الأستاذ أحمد عبيد في نشرته للكتاب على ثلاث نسخ خطية: إحداها: نسخة دمشق التي كان قد ظفر بها سنة 1347. وقد آلت هذه النسخة إلى مكتبة تشستربيتي، وسيأتي وصفها. الثانية: نسخة لبنان التي اشتراها من مكتبة الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف. ولا نعرِف مصير هذه النسخة. الثالثة: نسخة الأمير التي كان قد تفضل بإعارتها صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله أخو الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود. وهي الآن محفوظة في مكتبة الرياض العامة السعودية. وقد ظهرت لي ثلاث نسخ أخرى: إحداها في توبنجن بألمانيا، والثانية في تونس، والثالثة في مكتبة لاله إسماعيل بتركيا. وذُكر في فهرس المتحف العراقي أن فيه نسخة برقم [811 أدب] (258 صفحة، بخط نسخي جيد كتبها أحمد بن عيسى بن محمود سنة 766) بعنوان «روضة العاشق ونزهة الوامق». والواقع أنه ليس «روضة
(المقدمة/25)
المحبين»؛ فبدايته تختلف عن بداية هذا، ونسبته إلى ابن القيم خطأ محض، والصواب أن الكتاب بالعنوان المذكور لأحمد بن سليمان الكسائي (ت 635)، ومنه نسخة أخرى في مكتبة أحمد الثالث برقم [2373] (163 ورقة، كتبت سنة 769). وذكر بعضهم أن في دار الكتب المصرية [6677/أدب] نسخة من «روضة المحبين». والحقيقة أنها مصورة عن نسخة تشستربيتي، وليست نسخة خطية أصلية، فلا ينبغي أن يشار إليها. وفيما يلي وصف مخطوطات الكتاب مرتَّبةً حسب التاريخ: (1) نسخة توبنجن [186]: هذه أقدم نسخة وصلتنا من الكتاب؛ إذ كتبت سنة 759، وقد كتب الناسخ في آخرها: «تم الكتاب بحمد الله وعونه ومنّه وكرمه وحسن توفيقه، وذلك في شهور سنة تسع وخمسين وسبعمئة، بالقاهرة المحروسة، حرسها الله وسائر بلاد المسلمين، آمين يا رب العالمين». وكتب تحته «سنة 759». والنسخة بخط نسخي جميل، ومضبوطة بالشكل الكامل، وعدد أوراقها 185، في كل صفحة 19 سطرًا، ويظهر عليها آثار المقابلة والتصحيح، وقد استدركت كلمات في الهوامش بعلامة «صح». واستخدم الناسخ ـ الذي لم يُعرف اسمه ـ أنواعًا من الزخارف والأشكال لملء الفراغات في أثناء الكتاب، ولتزيينه وتجميله. ومثل
(المقدمة/26)
هذه الزخرفة في صفحة الغلاف وفي نهاية الكتاب، ولعلها كانت ملونة في الأصل، ولكنها في النسخة المصورة لديّ بالسواد، ولا يظهر فيها شيء من الكتابة أو الشكل. وكتبت على صفحة غلافها بخط مغاير: «روضة المحبين لشمس الدين بن أبي بكر بن قيم الجوزية». وهذه نسخة تامة، وتغلب عليها الصحة إلا في مواضع كثيرة من الشعر، ففيها تصحيف وتحريف، بل زيادة ونقص لا يستقيم بهما الوزن. وأما الضبط بالشكل ففيه أيضًا أخطاء في مواضع. (2) نسخة تشستربيتي [3832]: تقع هذه النسخة في 240 ورقة، وفي كل صفحة منها 17 سطرًا. وقد كتب الناسخ اسمه وتاريخ النسخ في آخرها بقوله: «علَّق هذا الكتاب المبارك لنفسه الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه أحمد بن محمود ابن عبد الله بن عبد الملك الشهير بخطيب الصلصي (؟)، غفر الله له ذنوبه، وبصَّره بعيوبه، وشغله بها عن عيوب الناس. وكان الفراغ منه في يوم السبت رابع عشرين ربيع الآخر من شهور تسعين وسبعمئة، أخر الله تعالى بعضها بخير وعافية بمنّه وكرمه، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم». وعلى صفحة الغلاف منها: «كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين للشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام المُفتِي الفِرق شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب إمام المدرسة
(المقدمة/27)
المعمورة بدمشق المحروسة، قدس الله روحه ونوَّر ضريحَه». وكتب تحته: «شعر حسن: لله درُّ كتاب كلُّه دررٌ ... ينال من حاز معناه به رُتَبا فيا مُطالِعَه جُدْ بالدعاء لمن ... كان المؤلّفَ والقاري ومن كَتَبا» وكتب في أعلى هذه الصفحة: «من كتب الفقير إليه عزَّ شأنه السيد عمر ... غفر له». وفي الجانب الأيسر منها كلمات بعضها بالعربي وبعضها بالتركي، مُحِي قسم منها وشُطِب على قسم. وهذه النسخة كثيرة التحريف والتصحيف، وقد سقط منها كلمات وجمل غيَّر بعضُها المعنى تغييرًا فاحشًا. والنسخة بخط نسخي لا بأس به، وليست في الجودة والجمال مثل الأولى. (3) نسخة لبنان: هذه النسخة كانت في مكتبة الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف بلبنان، وقد اشتراها منه الأستاذ أحمد عبيد، ووصفها بقوله: عدد صفحاتها 360 صفحة، في كل صفحة 25 سطرًا ... كتب في الصفحة الأولى منها: «كتاب روضة المحبين ونزهة العاشقين، تأليف الشيخ الإمام العالم العلامة المفنن شمس الدين محمد بن القيم تغمده الله برحمته ... ».
(المقدمة/28)
وكتب في أعلى الصفحة: «من كتب الفقير عبد الباقي الخازن الموزع»، و «في نوبة الفقير السيد زين العابدين بن السيد علي بن السيد محمد غفر الله ذنوبهم وستر عيوبهم». وفي الجانب الأيسر: «الحمد لله على كل حال، في نوبة العبد الحقير صالح التميمي الوفائي في شهر شوال سنة 1054، عدة أوراقه 180 فضه 74». وتحت هذه العبارة طابعان صغير وأكبر منه، كتب في الصغير بالخط الكوفي: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله»، وفي الطابع الآخر: «من ممتلكات الفقير الحاج مصطفى صدقي غُفِر له». وكتب في أسفل الصفحة من جهة اليسار هذان البيتان بعنوان: «لبعض أهل الفضل: من حَمِد الناسَ ولم يَبْلُهم ... ثم بلاهم ذَمَّ من يَحمدُ وصار بالوحدةِ مستأنسًا ... يُوحِشه الأقربُ والأبعدُ» وفي هذه النسخة عشرون ورقة من أولها وورقتان من أثنائها كُتِبت بخط مغاير. وفي الهوامش كلمات وجملٌ سقطت من الأصل فاستُدركت، وبعضُ عناوين لبعض الفوائد، وتصحيحاتٌ ربما كان بعضها إفسادًا، وتفسير لبعض الألفاظ اللغوية. وفي آخر النسخة: «طالعه العبد الفقير إلى الله سبحانه وتعالى خير الله محمد بن عثمان بن سفيان بن مراد خان ... ».
(المقدمة/29)
وقد أشرت فيما مضى أننا لا نعرف عن مصير هذه النسخة، ويظهر من نماذج النسخة التي أثبتها الأستاذ أحمد عبيد أنها من خطوط القرن التاسع. (4) نسخة تونس [18026]: هذه النسخة في مكتبة الشيخ حسن حسني عبد الوهاب، وهي في 165 ورقة، كتبها عبد الحفيظ بن عبد الله العنابي بخط مغربي سنة 1133. لم أطلع عليها، ولم أتمكن من تصويرها. (5) نسخة مكتبة الرياض العامة [445/ 86]: هي مخرومة من أولها وآخرها وأثنائها، أما النقص من الأول فهو بمقدار صفحة واحدة، وقد أُكمِلت بخطّ حديث. وأما النقص من وسطها فمن أثناء الباب الثاني إلى أثناء الباب الرابع. والنقص من آخرها يبدأ من أوائل الباب السابع والعشرين إلى نهاية الكتاب. وعدد الصفحات الباقية من هذه النسخة 258 صفحة، في كلٍّ منها 21 سطرًا. والظاهر من الخط والورق أنها من خطوط القرن الثالث عشر. وفي هذه النسخة أيضًا شيء من التصحيف والتحريف، وكثيرًا ما كُتبت الضاد فيها ظاءً. وفي هوامش بعض الصفحات منها كلمة «بلغ» إشارة إلى أنها قد قرئت أو قُوبلت على الأصل المنسوخ عنه. وعلى النسخة ختم «وقف الشيخ محمد بن عبد اللطيف»، وختم
(المقدمة/30)
مكتبة الرياض العامة السعودية ورقم الكتاب وتاريخه. وكتب على صفحة عنوانها بخط مغاير جديد: «روضة المحبين ونزهة المشتاقين، تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوح جنته، آمين آمين آمين». (6) نسخة لاله إسماعيل بتركيا [265]: ورد ذكرها في معجم المخطوطات الموجودة في مكتبات إستانبول وآناطولي (2/ 1101) إعداد علي رضا قره بلوط. ولا يوجد وصفها في الفهرس المذكور. طبعات الكتاب: أصدر الأستاذ أحمد عبيد أول طبعة له في المطبعة العربية بدمشق سنة 1349، بالاعتماد على ثلاث نسخ كما ذكرنا، وهي طبعة علمية دقيقة، ومحقَّقةٌ تحقيقًا جيدًا، اعتنى فيها المحقق بتمييز الزيادات بين النسخ باستخدام الأقواس الهلالية والمربعة، وأثبت الصواب أو الراجح في المتن، وإن لم يترجح الصواب أشار إليه في الهامش، وقام بعزو الآيات والأحاديث إلى مصادرها وضبطها بالشكل الكامل، وبذل جهدًا كبيرًا في تصحيح الشعر ومقابلته على الدواوين ومجاميع الأدب، وشرح بعض الكلمات الغريبة، وعمل فهارس علمية لموضوعات الكتاب والأحاديث والأعلام والقوافي. ثم صدرت طبعات عديدة للكتاب بالاعتماد على هذه الطبعة دون
(المقدمة/31)
الرجوع إلى نسخة أخرى. وقد راجع بعض المحققين نسخة تشستربيتي، فظنوها نسخة جديدة زيادة على النسخ الثلاث التي اعتمد عليها الأستاذ أحمد عبيد، ولم يعرفوا أنها هي نسخة دمشق التي كان يملكها الأستاذ واستخدمها في طبعته. وأدهى من ذلك وأمرّ أن بعضهم يظنُّها مخطوطة مصرية، والواقع أن ما في دار الكتب المصرية ليست نسخة من الكتاب، وإنما هي مصوَّرة عن نسخة تشستربيتي. فانظر كيف توهَّم هؤلاء أنهم يعتمدون على نسخة جديدة، مع أن الأستاذ ذكر نماذج مصورة عن هذه النسخة في مقدمة الكتاب. وفرح أحد المحققين بوجود نسختين من الكتاب إحداهما مصرية (وهي السابقُ ذكرها)، والثانية من مكتبة الرياض العامة السعودية، وقد ذكرنا أنها أيضًا هي نسخة الأمير التي وصفها الأستاذ أحمد عبيد وصوَّر صفحة منها، واستخدمها في طبعته. وخلاصة القول أن جميع ما صدر من طبعات للكتاب بعد طبعة أحمد عبيد لم يعتمد أصحابها فيها على نسخة جديدة، ولم يعملوا شيئًا بالمقابلة على النسخة التي فرحوا بوجودها، فكلُّ هذه الأمور مفروغ منها ولا طائل تحتها. وكان همُّ بعضهم تخريج الأحاديث دون الاهتمام بتقويم النصّ بالرجوع إلى المصادر التي نقل عنها المؤلف. وأما تخريج الأخبار والأشعار فلم يهتموا به، أو لم يستوفوه، واقتصروا فيه على عزو بعض النصوص إلى بعض المصادر، دون تتبع للمصادر التي استخدمها ابن القيم.
(المقدمة/32)
وانصرف بعضهم إلى شرح الكلمات الغريبة والمشهورة، وأثقلوا الكتاب بالحواشي التي لا داعي لها. ومن بدع النشر في هذا العصر أن بعضهم يُدخِل عناوين فرعية لموضوعات الكتاب بداخل المتن، فلا يتميز العنوان الذي وضعه المؤلف عن الذي وضعه المحقق. ونجد طبعات عديدة من هذا الكتاب خرجت بهذا الشكل. هذه بعض الملاحظات العامة على الطبعات المتداولة للكتاب، ولا أريد الخوض في تفصيلها، ولا بيان الأخطاء والتحريفات الموجودة فيها. ولا تخلو طبعة الأستاذ أحمد عبيد أيضًا من أخطاء وتحريفات في الأسانيد والأعلام وبعض الأخبار والأشعار، وعُذره أنه لم يجد آنذاك الموارد الرئيسية للكتاب ليقابل النصوص عليها، وإنما رجع إلى عامة كتب الحديث وكتب الأدب والتاريخ، فقام بتصحيح ما أمكن تصحيحه، ولم يوفَّق في تصحيح الباقي. وهو معذور مأجور على ذلك إن شاء الله. أما الآن وقد ظهرت هذه المصادر وانتشرت، وتيسَّر لكل أحدٍ الرجوع إليها، فالواجب على من يشتغل بالتحقيق أن يراجعها، ويستفيد منها في تقويم النصوص.
(المقدمة/33)
هذه الطبعة: سبق أن للكتاب نسخًا عديدة، اعتمد على ثلاث منها الأستاذ أحمد عبيد في نشرته، وبعد البحث والتتبع وجدتُ ذكر ثلاث نسخ أخرى في فهارس المكتبات، فسعيتُ للحصول عليها، إلا أنني لم أفلح في تصويرها غير نسخة واحدة هي أقدم النسخ، كتبت سنة 759، أي بعد وفاة المؤلف بثماني سنوات. وهي نسخة مضبوطة بالشكل الكامل، ومكتوبة بخط نسخي جميل كما سبق. وقد صححتُ كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في جميع الطبعات، واستدركت الكلمات والأسطر الساقطة منها. وقمت أيضًا بمراجعة نسخة تشستربيتي، وظهر لي بعد المقابلة أنها كثيرة التحريف والتصحيف والسقط، وليست مثل الأولى في الصحة والجودة. فكان من منهجي في هذه النشرة أن قابلت المطبوعة (م) على نسختي توبنجن (ت) وتشستربيتي (ش)، وأثبتُّ الصواب أو الراجح في المتن، ولم أشر إلى الأخطاء والتحريفات الواضحة، فلا فائدة من إثباتها، وذكرتُ من الفروق ما يكون له وجه في القراءة والإعراب، وأغفلتُ الإشارة إلى السقط والتحريف، وقمتُ بضبط الشعر خاصةً وإصلاح الخلل الواقع فيه بالاعتماد على النسختين والمطبوعة ومصادر التخريج.
(المقدمة/34)
وبعد الانتهاء من إعداد المتن قمتُ بتخريج النصوص والأخبار والأشعار بالرجوع إلى مصادر المؤلف أولًا، ثم مراجعة كتب أخبار العشاق، ثم مراجعة كتب الأدب والمختارات الشعرية والدواوين المفردة، ثم مراجعة كتب المؤلف الأخرى. أما الأحاديث والآثار فلم أتوسع في تخريجها وجمع الطرق لها، بل اكتفيت بذكر المصادر التي نقل عنها المؤلف، وقد أزيد عليها غيرها، وأنقُل كلام النقاد على الحديث وحكمهم عليه، وأشير إلى بعض المصادر التي يوجد فيها التخريج التفصيلي. أما ترجمة الأعلام ورجال الأسانيد والتعريف بالأماكن والقبائل وشرح الكلمات والمصطلحات فلم أهتم بها؛ لأن مصادرها معروفة، وهي الآن في متناول كل قارئ وباحث، يُمكِنه مراجعتها متى شاء. هذا المنهج الذي سرنا عليه في عامة الكتب التي اشتغلنا بها ونشرناها في السنوات الماضية، ونرحِّب بأي نقد علمي أو تصحيح واستدراك من القراء، ونشكرهم على ذلك. وفقنا الله جميعًا لما فيه الخير والصواب، وهدانا إلى سواء الطريق. كتبه محمد عزير شمس
(المقدمة/35)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ربِّ يسِّر يا كريم الحمدُ لله الذي جعلَ المحبَّةَ إلى الظفرِ بالمحبوبِ سبيلًا، ونصبَ طاعتَه والخضوعَ له على صدق المحبَّة دليلًا، وحرَّك بها النفوسَ إلى أنواع الكمالات إيثارًا لطلبها وتحصيلًا، وأودَعها العالم العُلْوِيَّ والسُّفليَّ لإخراج كمالِه من القوة إلى الفعل إيجادًا (1) وإمدادًا وقبولًا، وأثارَ بها الهِمَمَ الساميةَ والعَزَماتِ العاليةَ إلى أشرفِ غاياتِها تخصيصًا لها وتأهيلًا. فسبحانَ من صَرَّفَ عليها القلوبَ كما يشاء ولما يشاء بقدرته، واستخرجَ بها ما خلقَ له كلَّ حيٍّ بحكمته، وصَرَّفَها أنواعًا وأقسامًا بين بَرِيَّتِه، وفصَّلها تفصيلًا (2)، فجعل كلَّ محبوبٍ لمُحِبِّه نصيبًا، مُخطِئًا كان في محبَّته أو مُصِيبًا، وجَعله بحبِّه منعَّمًا أو قتيلًا. فقَسَّمَها بين محبِّ الرحمن، ومحبِّ الأوثان، ومحبِّ النيران، ومحبِّ الصُّلبان، ومحبِّ الأوطان، ومحبِّ الإخوان، ومحبِّ النِّسوان، ومحبِّ الصبيان، ومحبِّ الأثمان، ومحبِّ الإيمان، ومحبِّ الألحان (3)، ومحبِّ القرآن. وفَضَّلَ أهلَ محبتِه ومحبةِ كتابِه ورسولِه على سائر المحبين تفضيلًا، فبالمحبة _________ (1) ش: «ايجدادا»، ويمكن أن تقرأ «إعدادًا». (2) ش: «وفضلها تفضيلا». (3) في ش: «محب الاحان ومحب الإيمان».
(الكتاب/5)
وللمحبة وُجِدَتِ الأرضُ والسموات، وعليها فُطِرَتِ المخلوقاتُ، ولها تحرَّكت الأفلاكُ الدائرات، وبها وَصَلتِ الحركاتُ إلى غاياتِها، واتَّصلتْ بداياتُها بنهاياتِها، وبها ظَفِرتِ النفوسُ بمطالبها، وحَصَلتْ على نَيْلِ مَآرِبها، و تَخَلَّصَتْ من مَعَاطِبها، واتخذت إلى ربها سبيلًا، وكان لها دونَ غيرِه مأمولًا وَسُولًا، وبها نالتِ الحياةَ الطيبةَ، وذاقتْ طعم الإيمان لمَّا رَضِيَتْ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا (1). وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادَةَ مُقرٍّ بربوبيتِه، شاهدٍ بوحدانيتِه، مُنقادٍ إليه بمحبَّته (2)، مُذْعِنٍ له بطاعتِهِ، معترفٍ بنعمتِه (3)، فارٍّ إليه من ذنبه وخطيئته، مُؤَمِّلٍ لعفوِه ورحمتِه، طامعٍ [2 أ] في مغفرته، بريءٍ إليه من حَوْلِه وقوَّتِه، لا يَبْغِيْ (4) سِواه ربًّا، ولا يتخذ من دونه وليًّا ولا وكيلًا، عائذٍ به، مُلْتَجٍ إليه، لا يرومُ عن عبوديتِه انتقالًا ولا تحويلًا. وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وخِيَرَتُه من خَلْقِه، وأمينُه على وَحْيِه، وسَفِيرُه بينه وبينَ عبادِه، أقربُ الخَلْقِ إليه وسيلةً، وأعظمُهم عنده جاهًا، وأَوْسَعُهُم (5) لديه شفاعةً، وأحبُّهم إليه، وأكرمُهم عليه. _________ (1) نظر المؤلف إلى حديث العباس بن عبد المطلب الذي أخرجه مسلم (34). (2) ش: «لمحبته». (3) ش: «بنعمه». (4) ش: «يبتغي». (5) ش: «وأسعهم».
(الكتاب/6)
أرسله للإيمان مناديًا، وإلى الجنة داعيًا، وإلى صراطه المستقيم هاديًا، وفي مَرْضَاتِه ومَحَابِّه ساعيًا، وبكل معروفٍ آمرًا، وعن كل منكرٍ ناهيًا. رفعَ له ذكرَه، وشرَح له صدرَه، ووضعَ عنه وزْرَه (1)، وجعلَ الذِّلَّةَ والصَّغار عَلَى من خالفَ أمره (2)، وأقسمَ بحياته في كتابه المبين (3)، وقرنَ اسمَه باسمِه، فإذا ذُكِر اللهُ ذُكِر معه، كما في الخُطَب والتَّشَهُّدِ والتأذين، فلا يصح لأحدٍ خطبةٌ ولا تشهدٌ ولا أذان حتى يشهدَ أنه عبده ورسوله شهادة اليقين. أغرُّ عليه للنبوة خَاتمٌ ... من اللهِ مَيْمُونٌ يلوحُ ويشْهَدُ وضَمَّ الإلهُ اسْمَ النبيِّ إلى اسمِه ... إِذا قالَ في الخَمْسِ المُؤَذِّنُ أشهدُ وشَقَّ له مِن اسمِه لِيُجِلَّه ... فذو العَرْشِ محمُودٌ وهَذا مُحَمَّدُ (4) أرسله على حين فترةٍ من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السُّبل، وافترضَ على العباد محبَّته، وطاعتَه، وتوقيرَهُ، والقيامَ بحقوقه، _________ (1) كما في سورة الانشراح. (2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده (2/ 50، 92) عن ابن عمر. (3) في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر/72]. (4) الأبيات لحسان بن ثابت في «خزانة الأدب» (1/ 109) نقلًا عن «المواهب اللدنية» (3/ 155). ويوجد البيت الثالث منها ضمن مقطوعة في «ديوانه» (ص 338) برواية السكّري.
(الكتاب/7)
وسَدَّ إلى الجنة جميعَ الطرق، فلم يَفتَحْ لأحدٍ إلا من طريقه. فلا مَطمَعَ في الفوز بجزيل الثواب، والنجاةِ من وَبيل العقاب إلا لمن كان خلفه من السالكين، ولا يُؤمِنُ عبدٌ حتى يكونَ أحبَّ إليه من نفسه وولدِه ووالدِه والناسِ أجمعين (1). فصلَّى الله وملائكتُه وأنبياؤُه ورسلُه وجميعُ عباده المؤمنين عليه، كما وحَّد الله، وعرَّف أمتَه به، [2 ب] ودعا إليه، صلاةً لا تَرُومُ عنه انتقالًا ولا تحويلًا، وعَلَى آلِه الطيبين، وصحبه (2) الطاهرين، وسلّم تسليمًا كثيرًا. أما بعدُ، فإن الله ــ جلَّ ثناؤُه، وتقدَّستْ أسماؤُه ــ جعل هذه القلوبَ أوعيةً، فخيرُها أوعاها للخير والرشاد، وشرُّها أوعاها للغَيِّ والفساد، وسلَّط عليها الهوى، وامتحنها بمخالفته لتنالَ بمخالفته جنَّةَ المأوى، ويستحقَّ من لا يَصْلُحُ للجنة بمتابعته نارًا تلظَّى، وجعله مَرْكَبَ النفسِ الأمارة بالسوء وقُوتَهَا وغذاءها، وداءَ النفس المطمئنة ومخالفتَه دَواءَها، ثم أوجب سبحانه على العبد في هذه المدة القصيرة ــ التي هي بالإضافة إلى الآخرة كساعةٍ من نهار، أو كبَلَلٍ ينالُ الإصبعَ حين يُدخِلها في بحرٍ من البحار (3) ـ عصيانَ النفس الأمارة، ومجانبةَ هواها، ورَدَعَها عن (4) _________ (1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري (15) ومسلم (44) عن أنس بن مالك. (2) «وصحبه» ساقطة من ت. (3) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (2858) عن المستورد بن شداد. (4) ش: «من».
(الكتاب/8)
شهواتها التي في نيلها رَدَاها، ومَنَعَها من الركون إلى لذاتها، ومطالبةِ ما استدعتْه العيونُ الطامحةُ بلحظاتها؛ لتنالَ نصيبَها من كرامتِه وثوابِه موفَّرًا كاملًا، وتلتذَّ آجلًا بأضعاف ما تَركَتْه لله عاجلًا، وأمرَها بالصيام عن محارمه؛ ليكون فطرُها عنده يومَ لقائِه، وأخبرها أنَّ معظمَ نهار الصيام قد ذهب، وأنَّ عيدَ اللقاءِ قد اقترب، فلا يَطولُ عليها الأمدُ باستبطائه. فمَا هي إلا سَاعةٌ ثمَّ تَنْقَضِي ... ويَذهبُ هَذا كُلُّه ويَزُولُ (1) هيَّأها لأمرٍ عظيم، وأعدَّها لخَطْبٍ جَسيم، وذَخَرَ لها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ من النعيم المقيم (2). واقتضَتْ حكمتُه البالغةُ أنَّها لا تَصِلُ إليه إلا من طريق المَكاره والنَّصَب، ولا تَعبُرُ إليه إلا عَلَى جِسْرِ المشقَّةِ والتَّعب، فحَجَبه بالمكروهات صِيانةً له عن الأنفس الدنيّات، المُؤْثِرة للرذائل والسُّفليَّات، وشمَّرت إليه النفوسُ العُلْويَّات، والهممُ العليّات، فامتطَتْ في السير إليه ظهورَ [3 أ] العَزَمات (3)، فسارت في ظهورها إلى أشرف الغايات: _________ (1) ذكره المؤلف في «بدائع الفوائد» (2/ 672) بلا نسبة. وللبهاء زهير بيت يشبهه في ديوانه (ص 210). (2) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3244) ومسلم (2824) عن أبي هريرة. (3) «والهمم .. العزمات» ساقطة من ش.
(الكتاب/9)
وركبٍ سَرَوْا والليلُ (1) مُرْخٍ رِوَاقَه ... عَلَى كُلِّ مُغْبَرِّ المَوارِدِ قاتم حَدَوْا عَزَماتٍ ضاعتِ الأرضُ بينَها ... فصَارَ سُراهم في ظُهورِ العَزائم أَرتْهم نجومُ اللَّيل ما يطلبُونَه ... على عَاتِق الشِّعرى وهَامِ النَّعائم فأَمُّوا حِمًى لا يَنْبغي لِسوَاهُمُ ... ومَا أَخَذَتْهُم فيه لَوْمَةُ لائِمِ (2) أجابوا مُناديَ الحبيب لمَّا أذَّن بهم حيّ على الفلاح، وبذلوا نفوسَهم في مرضاتِه بذلَ المُحِبِّ بالرضا والسَّماح، وواصلوا السيرَ إليه بالغدوِّ والرَّواح، فحمِدوا عند الوصول مَسْرَاهم، وإنما «يَحْمَدُ القومُ السُّرى عند الصَّباحِ» (3). تعبوا قليلًا، فاستراحُوا طويلًا، وتركوا حقيرًا، واعتاضوا عظيمًا. وضعوا اللذةَ العاجلةَ والعاقبةَ الحميدةَ في ميزان العقل، فظهرَ لهم التفاوت، فرأوا من أعظم السَّفه بيعَ الحياة الطيبة الدائمة في النعيم _________ (1) ش: «والركب» تحريف. (2) الأبيات للشريف الرضي في «ديوانه» (2/ 382) باختلافٍ في الرواية. (3) في المثل: «عند الصباح يحمد القوم السرى» كما في «جمهرة الأمثال» (2/ 42)، و «مجمع الأمثال» (2/ 3)، و «المستقصى» (2/ 168) وغيرها. يُضرَب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة.
(الكتاب/10)
المقيم بلذةِ ساعةٍ تذهبُ شهوتُها، وتبقى شقوتُها. هذا وإنّ من أيام اللذات لو صَفَتْ للعبد من أوَّل عمره إلى آخره لكانت كسحابةِ صَيفٍ تتقشَّعُ عن قليلٍ (1)، وخيال طَيفٍ ما استتمَّ الزيارةَ حتى آذنَ بالرحيل. قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء/205 ــ 207]، ومَنْ ظَفِرَ بمأموله من ثواب الله، فكأنَّه لم يُوْتَرْ (2) مِن دهره ما كان يُحاذره ويخشاه، وكان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت: كأنَّكَ لم تُوتَرْ (3) مِن الدَّهرِ مرةً ... إذا أنتَ أدركتَ الذي أنتَ طالبُه فصل وهذا ثمرةُ العقل الذي به عُرِفَ اللهُ سبحانه وتعالى، وأسماؤُهُ، وصفاتُ كماله، ونعوتُ جلاله، وبه آمن المُؤْمِنُون بكتبِه ورُسلِه ولقائِه _________ (1) إشارة إلى شطر بيت: سحابة صيفٍ عن قليل تَقشَّعُ وهو لابن شبرمة في «البيان والتبيين» (3/ 146)، و «عيون الأخبار» (1/ 56)، و «أدب الدنيا والدين» (ص 40). وتمثَّلَ به خالد بن صفوان كما في «العقد الفريد» (4/ 36)، و «مجمع الأمثال» (1/ 344). (2) ش: «لم يوثره» تحريف. (3) ش: «توثر».
(الكتاب/11)
وملائكته، وبه عُرِفَتْ [3 ب] آياتُ ربوبيته، وأدلةُ وحدانيته، ومعجزاتُ رسله، وبه امْتُثِلَتْ أوامرُه، واجْتُنِبَتْ نواهيه. وهو الذي يَلْمَحُ العواقبَ فرَاقبَها، وعَمِلَ بمقتضى مصالحها، وقاوم الهوى، فردَّ جيشَه مفلولًا، وساعدَ الصبرَ حتى ظَفِرَ به بعد أن كانَ بسهامه مقتولًا، وحثَّ عَلَى الفضائل، ونهى عن الرذائل، وَفَتقَ المعاني، وأدركَ الغوامضَ، وشَدَّ أزْرَ العزم، فاستوى على سُوقه، وقَوَّى أزْرَ الحزم حتى حَظِي من الله بتوفيقه، فاستجلبَ ما يَزينُ، ونفى ما يَشينُ، فإذا تُرِكَ وسلطانه أسرَ جنودَ الهوى، فحصرَها في حبس «مَنْ تركَ لله شيئًا عوَّضه الله خيرًا منه» (1)، ونهضَ بصاحبه إلى منازل الملوك، إذا صيَّر الهوى المَلِكَ بمنزلة العبد المملوك، فهو (2) شجرةٌ عُروقُها (3) الفكر في العواقب، وساقُها الصبر، وأغصانُهَا العِلْم، وورقها حسن الخُلُقِ، وثمرها الحكمة، ومادَّتها توفيق مَنْ أزِمَّة الأمور بيديْه، وابتداؤُها منه وانتهاؤُها إليه. وإذا كان هذا وصفه، فقبيحٌ أن يُدال عليه عدوُّه، فيعزِلَه عن مملكته، ويَحُطَّه عن رتبته (4)، وَيَسْتَنْزِلَه عن درجته، فيُصبحَ أسيرًا بعد أنْ كان _________ (1) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/ 363) عن رجل من الصحابة مرفوعًا بلفظ: «إنك لن تدع شيئًا لله إلاّ بدَّلك الله به ما هو خير لك منه» وإسناده صحيح. (2) ش: «فهي». (3) ش: «عرقها». (4) «ويحطه عن رتبته» ساقطة من ش.
(الكتاب/12)
أميرًا، ومحكومًا عليه (1) بعد أن كان حاكمًا، وتابعًا بعد أن كان متبوعًا، ومَنْ صبرَ على حكمه أرتَعَه في رياض الأماني والمُنَى، ومن خرجَ عن حكمه أوردَه حِياضَ الهلاك والرَّدَى. قال علي بن أبي طالب (2) رضي الله عنه: لقد سبقَ إلى جنات عدنٍ أقوامٌ ما كانوا بأكثر الناس صلاةً، ولا صيامًا، ولا حجًّا، ولا اعتمارًا، ولكنهم عقلوا عن الله مواعظَه، فوجِلَتْ منه قلوبُهم، واطمأنتْ إليه نفوسُهم، وَخَشَعَتْ له جوارحُهم، ففاقوا الناسَ بطيب المنزلة، وعلوِّ الدرجة عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة. وقال عمر بن الخطاب (3) رضي الله عنه: ليس العاقلُ الذي يعرفُ الخيرَ من الشر، ولكنه الذي يعرف خيرَ الشرَّينِ [4 أ]. وقالت عائشة (4) رضي الله عنها: قد أفلحَ من جعلَ اللهُ له عقلًا. وقال ابن عباس (5) رضي الله عنهما: وُلد لكسرى مولودٌ، فأحضَرَ _________ (1) «عليه» ساقطة من ش. (2) أخرجه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 7). (3) كما في «العقد الفريد» (2/ 246)، و «ذم الهوى» (ص 7). ورُوِي نحوه عن عمرو بن العاص في «عيون الأخبار» (1/ 280)، و «بهجة المجالس» (1/ 535). وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب «العقل» (ص 27 - 28)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 339) عن سفيان بن عيينة. (4) «ذم الهوى» (ص 8). (5) الخبر عن ابن عائشة في «ذم الهوى» (ص 8)، ونحوه في «أدب الدنيا والدين» (ص 31).
(الكتاب/13)
بعض المؤدِّبينَ، ووَضَعَ الصَّبيَّ بين يديه، وقال: ما خيرُ ما أُوتي هذا المولود؟ قال: عقلٌ يُولد معه. قال: فإن لم يكن؟ قال: فأدبٌ حسنٌ يعيشُ به في الناس. قال: فإن لم يكنْ؟ قال: فصاعقةٌ تُحرِقُه. وقال بعضُ أهل العلم (1): لما أهبطَ الله تبارك وتعالى آدمَ إلى الأرض أتاه جبريلُ عليه السلام بثلاثة أشياء: الدين، والخُلُق، والعقل، فقال: إن الله يُخيِّركَ بين هذه الثلاثة، فقال: يا جبريلُ! ما رأيتُ أحسنَ من هؤُلاءِ إلا في الجنة، ومدَّ يدَه إلى العقل فضمَّه إلى نفسه، فقال للآخرَيْن: اصْعَدَا. فقالا: إنَّا أُمِرْنَا أن نكونَ مع العقل حيثُ كان. فصارت الثلاثة إلى آدمَ عليه السلام. وهذه الثلاثة أعظمُ كرامةٍ أكرمَ الله بها عبدَه، وأجلُّ عطيَّةٍ أعطاه إيَّاها. وجعل لها ثلاثة أعداء: الهوى، والشيطان، والنفس الأمّارة. والحرب بينهما (2) دُوَلٌ وسِجال؛ {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران/126]. وقال وهبُ بن منبِّه: قرأْتُ في بعض ما أنزل الله تعالى: إنَّ الشيطانَ لم يُكَابِدْ شيئًا أشدَّ عليه من مُؤْمنٍ عاقل، وإنه ليسوقُ مئةَ جاهلٍ، فيستجِرُّهم _________ (1) أخرج نحوه ابن أبي الدنيا في كتاب «العقل» (ص 20) عن حماد رجل من أهل مكة. وأخرجه ابن حبان في «روضة العقلاء» (ص 20) عن علي. وانظر: «العقد الفريد» (2/ 245)، و «بهجة المجالس» (1/ 543، 544)، و «ذم الهوى» (ص 9). (2) ت: «بينها».
(الكتاب/14)
حتى يَركبَ رِقابَهم، فينقادون له حيث شاء، ويُكابِد المؤْمنَ العاقلَ، فيَصْعُب عليه حتى ينالَ منه شيئًا من حاجته، قال: وإزالة الجبل صخرةً صخرةً أهونُ (1) على الشيطان من مكابدة المؤمن العاقل، فإذا لم يَقدِرْ عليه تحوَّلَ إلى الجاهل فيستأْسره، ويتمكن من قِيادِه حتى يُسْلِمه إلى الفضائح التي يتعجَّلُ بها في الدنيا: الجَلْد، والرجم، والقطع، والصلب، والفضيحة، وفي الآخرة: العار، والنَّار، والشَّنَار. وإنَّ الرجلين ليستويانِ في البِرِّ، ويكون بينهما في الفضل كما بينَ المشرق والمغرب بالعقل، وما عُبِدَ الله بشيءٍ أفضلَ من [4 ب] العقلِ (2). وقال معاذ بن جبل (3) رضي الله عنه: لو أنَّ العاقل أصبحَ وأمسىَ وله ذنوبٌ بعدد الرمل كان وشيكًا بالنَّجاة والتخلُّصِ منها، ولو أنَّ الجاهلَ أصبحَ وأمسى وله من الحسنات وأعمال البرّ عددُ الرمْلِ لكان وشيكًا أن لا يَسْلمَ له منها مثقالُ ذرَّةٍ. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأنَّ (4) العاقل إذا زلَّ تداركَ ذلك بالتوبة والعقل الذي رُزِقَه، والجاهل بمنزِلة الذي يَبني ويَهدِم، فيأتيه من جهلِه ما يُفسِد صالحَ عمله. _________ (1) ش: «أشد». (2) الجزء الأخير من هذا الأثر أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب «العقل» (ص 18) عن وهب. وهو بتمامه في «ذم الهوى» (ص 9). (3) انظر «ذم الهوى» (ص 9). (4) ش: «إن».
(الكتاب/15)
وقال الحسن (1): لا يَتِمُّ دينُ الرجل حتى يَتمَّ عقلُه، وما أودع الله امرأً عقلًا إلا استنقذه به يومًا. وقال بعضُ الحكماء (2): من لم يكن عقلُه أغلبَ الأشياء عليه كان حتفُه وهلاكُه في أحبِّ الأشياء إليه. وقال يوسف بن أسباط (3): العقل سراجُ ما بطنَ، وزينةُ ما ظهرَ، وسائسُ الجسد، ومِلَاك أمرِ العبد، ولا تَصلُحُ الحياة إلا به، ولا تدورُ الأمورُ إلا عليه. وقيل لعبد الله بن المبارك (4): ما أفضلُ ما أُعطِيَ الرجلُ بعد الإسلام؟ قال: غريزةُ عقل. قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدبٌ حسن. قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخٌ صالحٌ يستشيرهُ. قيل: فإن لم يكن؟ قال: صمتٌ _________ (1) «ذم الهوى» (ص 9). وأخرج الجزء الأول عنه ابن أبي الدنيا في كتاب «العقل» (ص 17)، وابن حبان في «روضة العقلاء» (ص 19)، وانظر: «بهجة المجالس» (1/ 543). وأخرج الجزء الثاني عن حاتم بن إسماعيل في «روضة العقلاء» (ص 18). وهو عن الحسن في «العقد الفريد» (2/ 247). (2) هو أردشير كما في «الكامل» للمبرد (1/ 104)، و «التذكرة الحمدونية» (3/ 233). وانظر: «روضة العقلاء» (ص 22)، و «ربيع الأبرار» (3/ 141)، و «المستطرف» (1/ 54). (3) «ذم الهوى» (ص 10). وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب «العقل» (ص 30) عن عبد الله بن خبيق الأنطاكي. (4) أخرجه عنه ابن حبان في «روضة العقلاء» (ص 17). وانظر «ذم الهوى» (ص 10).
(الكتاب/16)
طويل. قيل: فإن لم يكنْ؟ قال: موتٌ عاجل. وفي ذلك قيل (1): ما وهبَ الله لامرئٍ هِبَةً ... أحسنَ مِن عَقْلهِ ومِن أَدَبِهْ هما جمالُ الفتى فإنْ فُقِدا ... فَفَقْدُه للحَياةِ أجملُ بِهْ فصل وإذا كانت الدولة للعقل سالَمَهُ الهوى، وكان من خَدَمهِ وأتباعهِ، كما أنَّ الدولةَ إذا كانت للهوى صارَ العقلُ أسيرًا في يديْه، محكومًا عليه. ولمَّا كان العبدُ لا ينفكُّ عن الهوى ما دامَ حيًّا ــ فإنَّ هواه لازمٌ له ــ كان الأمرُ بخروجه عن الهوى بالكليَّة كالممتنع. ولكنَّ المقدور له والمأمور به أن يَصرِفَ هواه عن مَراتعِ الهلَكَةِ [5 أ] إلى مواطن الأمن والسَّلامة. مثاله: أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يأْمرْه بصرف قلبه عن هوى النساء جملةً، بل أمره بصرف ذلك الهوى إلى نكاح ما طابَ له منهنَّ من واحدةٍ إلى أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محلٍّ إلى محل، وكانت الريحُ دَبورًا، فاستحالت صَبًا. وكذلك هوى الظفر والغلبة والقهر، لم يأْمر (2) بالخروج عنه، بل أمرَ بصرفه إلى الظفر _________ (1) البيتان بلا نسبة في «العقد الفريد» (2/ 423)، و «معجم الأدباء» (1/ 19) و «عين الأدب والسياسة» (ص 126)، و «غرر الخصائص الواضحة» (ص 83). (2) ت: «لم يؤمر».
(الكتاب/17)
والقهر والغلبة للباطل وحزبه، وشرعَ له من أنواع المغالبات بالسِّباق وغيره مما يُمرِّنه ويُعِدُّه للظَّفر. وكذلك هوى الكِبْر والفخر والخُيَلاء مأْذونٌ فيه بل مستحبٌّ في محاربة أعداء الله. وقد رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا دُجانةَ سِمَاكَ بن خَرَشَة الأنصاريَّ يتبخترُ بين الصفين، فقال: «إنها لَمِشْيَةٌ يُبغِضُها الله إلا في مثل هذا الموطن» (1). وقال: «إنَّ من الخُيَلاء ما يُحِبُّها الله، ومنها ما يُبغِض الله، فالتي يُحِبُّها اختيالُ الرجل في الحرب، وعند الصَّدقة» وذكر الحديث (2). فما حَرَّم الله على عباده شيئًا إلا عوَّضهم خيرًا منه، كما حَرَّم عليهم الاستقسامَ بالأزلام، وعوَّضهم منه دعاءَ الاستخارة، وحرَّم عليهم الرِّبا، وعوَّضهم منه التجارةَ الرابحة، وحرَّم عليهم القِمار، وأعاضَهم (3) منه أكلَ المال بالمسابقة النافعة في الدِّين، بالخيل والإبل والسِّهام، وحرَّم عليهم _________ (1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (6508) من حديث أبي دجانة، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 109): فيه من لم أعرفهم. وأخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 233) من طريق معاوية بن معبد بن كعب بن مالك مرسلًا. ومعاوية مجهول. وأخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (ص 305)، وابن هشام في «السيرة» (2/ 67) عن رجل من الأنصار من بني سلمة مرسلًا. وإسناده ضعيف. (2) أخرجه أحمد (5/ 445، 446)، وأبو داود (2659)، والنسائي (5/ 78) عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه. وابن جابر إن كان عبد الرحمن فهو مجهول كما قال ابن القطان. انظر: «تهذيب التهذيب» (6/ 154). (3) ت: «وعوَّضهم».
(الكتاب/18)
الحريرَ، وأعاضَهم منه أنواعَ الملابس الفاخرة من الصُّوف والكَتَّانِ والقطن، وحرَّمَ عليهم الزِّنا واللِّواط، وأعاضَهم منهما بالنكاح والتَّسَرِّي بصنوف النساء الحِسان، وحرَّم عليهم شُربَ المسكر، وأعاضَهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرَّمَ عليهم سماعَ آلاتِ اللهو من المَعَازف والمَثاني، وأعاضَهم عنها بسماع القرآن العظيم والسَّبع المَثاني، وحرَّم عليهم الخبائثَ من المطعومات، وأعاضَهم عنها بالمطاعم [5 ب] الطيبات. ومن تلمَّحَ هذا وتأمَّلَه هانَ عليه تركُ الهوى المُرْدِيْ، واعتاضَ عنه بالنافع المُجْدِي، وعَرفَ حكمة الله ورحمته وتمامَ نعمته على عباده فيما أمرَهم به ونهاهم عنه وأباحه لهم (1)، وأنه لم يأمرْهم بما أمرَهم به حاجةً منه إليهم، ولا نهاهم عمَّا نهاهم عنه بخلًا منه عليهم، بل أمرهم بما أمرَهم إحسانًا منه ورحمةً، ونهاهم عما نهاهم عنه صِيانةً لهم وحِمْيَةً. فلذلك (2) وضعنا هذا الكتابَ وَضْعَ عَقد الصلح بين الهوى والعقل، وإذا تمَّ عقدُ الصُّلح بينهما سَهُل على العبدِ محاربةُ النفس والشيطان، والله المستعان، وعليه التُّكلان. فما كان فيه من صَوابٍ فمن الله، فهو المُوَفِّقُ له والمُعِينُ عليه، وما كان فيه من خطأ فمِنِّي ومن الشيطان، واللهُ ورسولُه من ذلك بريئانِ. _________ (1) «وأباحه لهم» ساقطة من ش. (2) ت: «ولذلك».
(الكتاب/19)
وقد جعلتُه تسعةً وعشرين بابًا: الباب الأوّل: في أسماء المحبة. الباب الثاني: في اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها. الباب الثالث: في نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض. الباب الرابع: في أنَّ العالم العلوي والسُّفلي إنما وُجِدَ بالمحبة ولأجلها. الباب الخامس: في دواعي المحبة ومتعلَّقِها. الباب السادس: في أحكام النظر وغائلته وما يَجنِي على صاحبه. الباب السابع: في ذكر مناظرة بين القلب والعين. الباب الثامن: في ذكر الشُّبَهِ التي احتجَّ بها من أباحَ النظر إلى من لا يَحِلُّ له الاستمتاعُ به، وأباحَ عشقَه. الباب التاسع: في الجواب عما احتجَّتْ به هذه الطائفة، وما لها وما (1) عليها في هذا الاحتجاج. الباب العاشر: في ذكر حقيقة العشق وأوصافِه وكلام النَّاس فيه. الباب الحادي عشر: في العشق، وهل هو اضطراريٌّ خارجٌ [6 أ] عن الاختيار، أو أمرٌ اختياريٌّ؟ واختلاف الناس في ذلك، وذكر الصواب فيه. _________ (1) «وما» ساقطة من ت.
(الكتاب/20)
الباب الثاني عشر: في سكرة العشَّاق. الباب الثالث عشر: في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان. الباب الرابع عشر: فيمن مدحَ العشقَ وتمنَّاه، وغَبَطَ صاحبَه على ما أُوتِيَه من مُناه. الباب الخامس عشر: فيمَن ذمَّ العشق وتبرَّم به، وما احتجَّ به كلُّ فريقٍ على صحَّة مذهبه. الباب السادس عشر: في الحكم بين الفريقين، وفصل النزاع بين الطائفتين. الباب السابع عشر: في استحباب تخيُّر الصُّورة الجميلة للوصال الذي يُحِبُّه اللهُ ورسولُه. الباب الثامن عشر: في أنَّ دواءَ المحبين في كمالِ الوِصال الذي أباحه ربُّ العالمين. الباب التاسع عشر: في ذكر (1) فضيلة الجمال، وميل النفوس إليه على كل حال. الباب العشرون: في علامات المحبة وشواهدها. الباب الحادي والعشرون: في اقتضاء المحبَّة إفرادَ الحبيب بالحبِّ، وعدمَ التشريكِ بينه وبين غيره فيه. _________ (1) «ذكر» ساقطة من ش.
(الكتاب/21)
الباب الثاني والعشرون: في غيرة المحبين على أحبابهم. الباب الثالث والعشرون: في عفاف المحبين مع أحبابهم. الباب الرابع والعشرون: في ارتكاب سبيلَيِ (1) الحرام، وما يُفضِي إليه من المفاسد والآلام. الباب الخامس والعشرون: في رحمة المحبين، والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوِصال الذي يُبيحه الدين. الباب السادس والعشرون: في ترك المحبين أدنى المحبوبَيْنِ رغبةً في أعلاهما. الباب السابع والعشرون: فيمن ترك [6 ب] محبوبَه (2) حرامًا، فبُذِل له حلالًا، أو أعاضَه الله خيرًا منه. الباب الثامن والعشرون: فيمن آثرَ عاجلَ العقوبة والآلام، على لذَّة الوِصال الحرام. الباب التاسع والعشرون: في (3) ذمِّ الهوى، وما في مخالفته من نَيلِ المُنى. وسمَّيتُه: «روضة المحبِّين ونزهة المشتاقين». والمرغوبُ إلى من يَقِفُ على هذا الكتاب أن يَعذِرَ صاحبَه، فإنه _________ (1) ش: «سبل». (2) ش: «محبوبًا». (3) ش: «من».
(الكتاب/22)
علَّقه في حال بُعْدِه (1) عن وطنه، وغَيبته عن كتبه، فما عسى أن يبلغ خاطرُه المكدود (2) وسعيُه المجهود، مع بضاعته المُزْجاة التي حقيقٌ بحاملها أن يُقال فيه: «تَسمعُ بالمُعَيْدي خيرٌ من أن تراه» (3). وها هو قد نَصبَ نفسَه هدفًا لسهام الراشقين، وغَرَضًا لأسِنَّةِ الطَّاعنينَ، فلقارئه غُنْمُه، وعَلَى مؤلفه غُرْمُهُ. وهذه بضاعتُه تُعرَضُ عليك، ومَوْلِيَّته تُهدَى إليك، فإنْ صَادفتْ كفؤًا كريمًا لن تَعْدَم منه إمساكًا بمعروفٍ أو تسريحًا بإحسان، وإن صَادفتْ غيرَهُ فالله المستعان، وعليه التُّكلان. وقد رضي من مهرها بدعوةٍ خالصةٍ إنْ وافقتْ قبولًا واستحسانًا، وَبِرَدٍّ جميلٍ إن كان حظُّها احتقارًا واستهجانًا. والمنصفُ يَهَبُ خطأَ المخطئ لإصابته، وسيئاتِه لحسناتِه. فهذه سُنَّة الله في عباده جزاءً وثوابًا. ومَن ذا الذي يكون قولُه كلُّه سديدًا، وعملُه كلُّه صوابًا؟ وهل ذلك إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ونطقُه وحيٌ يُوحى، فما صحَّ عنه فهو نقلٌ مُصدَّق عن قائل معصوم، وما جاءَ عن غيره فثبوتُ الأمرين فيه مَعدومٌ، فإن صحّ النقل لم يكن القائلُ معصومًا، وإن لم يصحَّ لم يكن وصوله إليه معلومًا. _________ (1) ت: «بعد». (2) ت: «الكدود». (3) المثل في «البيان والتبيين» (1/ 171، 237)، و «العقد الفريد» (2/ 288)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 266)، و «مجمع الأمثال» (1/ 129). يُضرب لمن خبره خير من مرآه.
(الكتاب/23)
فصل وهذا الكتاب يَصلُح لسائر طبقات الناس، فإنه يَصلُح عونًا على الدِّين وعلى الدُّنيا، ومرقاةً للذة العاجلة ولذة العُقْبى، وفيه من ذكر أقسام المحبَّة، وأحكامها ومتعلقاتها، [7 أ] وصحيحها وفاسدها، وآفاتها وغوائلها، وأسبابها وموانعها، وما يُناسب ذلك من نُكَتٍ تفسيرية، وأحاديثَ نبوية، ومسائلَ فقهية، وآثارٍ سَلَفية، وشواهدَ شعرية، ووقائعَ كونية، ما (1) يكونُ مُمْتِعًا لقارئه، مُرَوِّحًا للناظرِ فيه، فإن شاءَ أوسَعَه جِدًّا، وأعطاه ترغيبًا وترهيبًا، وإن شاءَ أخذَ من هزله ومُلَحه نصيبًا، فتارةً يُضحِكُه، وتارةً يُبكيه، وطورًا يُبعِدُه من أسباب اللذة الفانية، وطورًا يُرغّبه فيها ويُدنيه. فإنْ شئتَ وجدته واعظًا ناصحًا، وإن شئت وجدتَه بنصيبك من اللذة والشهوة ووَصْلِ الحبيب مُسامحًا. وهذا حين الشروع في الأبواب، والله سبحانه الفاتحُ من الخير كلَّ باب، وهو المسؤول سبحانه أن يجعلَه خالصًا لوجهه الكريم، مُدنِيًا من رضاه والفوز بجنَّات النعيم، والله متولي سريرةِ العبد وكَسْبِه، وهو سبحانه عند لسان كل قائلٍ وقلبه. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة/105]. _________ (1) في هامش ت: نسخة «مما».
(الكتاب/24)
الباب الأول في أسماء المحبة
لما كانَ إلْفُهم لهذا المُسمَّى أكثرَ، وهو بقلوبهم أعلقُ، كانت أسماؤُه لديهم أكثر. وهذا عادتُهم في كل ما اشتدَّ إلْفُهم له، أو كَثُر خُطُورُه على قلوبهم؛ تعظيمًا له، أو اهتمامًا به، أو محبةً له. فالأوّل: كالأسد، والسيف. والثاني: كالداهية، والثالث: كالخمر. وقد اجتمعتْ هذه المعاني الثلاثةُ في الحبِّ، فوضعوا له قريبًا من ستين (1) اسمًا: المَحَبَّة، والعلاقة، والهَوى، والصَّبْوة، والصَّبابة، والشَّغَف، والمِقَة، والْوَجْد، والكَلَف، والتَّتيُّم، والعِشق، والجَوى، والدَّنَف، والشَّجْو، والشَّوق، والخِلابة، والبلابل، والتَّباريح، والسَّدَمُ، [7 ب] والغَمَرَات، والوَهَل، والشَّجَن، واللاعِج، والاكتئاب، والوَصَب، والحُزْن، والكَمَد، واللَّذْع، والحُرَق، والسُّهْد، والأَرَق، واللَّهَف، والحَنين، والاستِكانة، والتَّبالة، واللَّوْعة، والفتُون، والجُنون، واللَّمَمُ، والخَبَلُ، والرَّسِيس، _________ (1) لم يذكر المؤلف منها غير خمسين. وانظر بعضها في: «الغريب المصنّف» (1/ 153 - 154)، و «تهذيب الألفاظ» (ص 464 - 469)، و «نظام الغريب» (ص 70 - 71)، و «الواضح المبين» (ص 69 - 70). وترتيبها في «فقه اللغة» للثعالبي (ص 171)، و «الواضح المبين» (ص 59 - 60)، و «تزيين الأسواق» (1/ 51 - 59).
(الكتاب/25)
والدَّاء المُخامِر، والوُدّ، والخُلَّة، والخِلْمُ (1)، والغَرَام، والهُيَام، والتَّدْلِيهُ، والوَلَهُ، [والتعَبُّد] (2). وقد ذُكِر له أسماءٌ غير هذه، وليست من أسمائه، وإنما هي من مُوجباته وأحكامه، فتركنا ذكرَها. _________ (1) ليس الخلم بمعنى الحبّ، بل هو بمعنى الصاحب والخدن، انظر كتاب «الألفاظ» لابن السكيت (341، 398). وسيأتي (ص 79). (2) زيادة من ط.
(الكتاب/26)
الباب الثاني في اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها
فأمَّا المحبَّة، فقيل: أصلُها الصفاء؛ لأنَّ العربَ تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حَبَب الأسنان، وقيل: مأْخوذة من الحَباب، وهو ما يَعلُو الماءَ عند المطر الشديد، فعلى هذا المحبة: غَليان القلب وثورانُه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب. وقيل: مشتقة من اللزوم والثبات، ومنه: أحبَّ البعيرُ: إذا بَركَ فلم يَقُم، قال الشاعر (1): حُلْتَ عليه بالفلاة ضَرْبا ... ضَرْبَ بعيرِ السَّوْءِ إِذ أحبّا فكَأنَّ المحبَّ قد لزم قلبُه محبوبَه فلم يَرُم عنه انتقالًا. وقيل: بل هي مأخوذة من القَلَق والاضطراب، ومنه سُمِّي القُرْط حِبًّا؛ لِقَلَقِه في الأُذُن واضطرابه، قال الشاعر (2): تَبيتُ الحيَّةُ النَّضْنَاضُ منه ... مكانَ الحِبِّ تستمعُ السِّرارَا _________ (1) الشطران من أرجوزةٍ في «الأصمعيات» (ص 163) بلا نسبة. وهما في «لسان العرب» (حبب، قفل) لأبي محمد الفقعسي، وبلا نسبة في «جمهرة اللغة» (ص 65)، و «مقاييس اللغة» (2/ 27)، و «مجمل اللغة» (2/ 29)، و «الاشتقاق» (ص 39). وفيها برواية: «حُلتَ عليه بالقفيل» أي بالسوط. وفي ت، ش: «خِلت» تحريف. (2) البيت للراعي النميري في ديوانه (ص 149)، و «الاقتضاب» (ص 438) من قصيدة له. وهو في «اللسان» (حبب، نضض)، و «تهذيب اللغة» (4/ 100، 11/ 470)، و «جمهرة اللغة» (ص 64) وغيرها.
(الكتاب/27)
وقيل: بل هي مأْخوذة من الحَبِّ جمع حَبَّة، وهو لُبَاب الشيء وخالصُه وأصلُه (1)، فإنَّ الحَبَّ أصلُ النبات والشجر. وقيل: بل هي مأخوذةٌ من الحُبّ الذي هو إنَاءٌ (2) واسعٌ يُوضع فيه الشيء فيمتلئ به بحيث لا يَسَع غيرَه، وكذلك قلبُ المحبِّ ليس فيه سَعَةٌ لغير محبوبه. وقيل: مأخوذة (3) من الحُبّ، وهو الخشَبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع عليها من جَرَّةٍ أو غيرها، فسُمِّي الحبُّ بذلك؛ لأن المحبَّ يَتحمَّل لأجل محبوبِه الأثقالَ، كما تتحمل [8 أ] الخَشَباتُ ثِقَلَ ما يوضع عليها. وقيل: بل هي مأخوذةٌ من حَبَّة القلب وهي سُوَيْدَاؤه، ويقال: ثمرته، فسميت المحبة بذلك؛ لوصولها إلى حَبّة القلب، وذلك قريبٌ من قولهم: ظَهَره: إذا أصاب ظَهْره، وَرَأسَه: إذا أصاب رأْسَه، ورآه: إذا أصاب رِئَته، وبَطَنه: إذا أصاب بَطْنَه، ولكن في هذه الأفعال وصل أثرُ الفاعل إلى المفعول، وأمَّا في المحبة فالأثر إنما وصل إلى المُحِبّ. وبَعْدُ، ففيه لغتان: حَبَّ، وأحَبَّ، قال الشاعر (4): _________ (1) «وأصله» ساقطة من ش. (2) «إناء» ساقطة من ش. (3) ت: «مأخوذ». (4) هو غيلان بن شجاع النهشلي، كما في «اللسان» (حبب)، و «شرح أبيات مغني اللبيب» (6/ 118) و «التنبيه والإيضاح» لابن بري (1/ 75). والبيتان بلا نسبة في «أمالي اليزيدي» (ص 65)، و «المخصص» (12/ 242)، والثاني بلا نسبة في «الاقتضاب» (ص 283)، و «الخصائص» (2/ 220)، و «شرح شواهد المغني» (2/ 780)، و «شرح المفصل» (7/ 138)، و «شروح التلخيص» (3/ 68)، و «مجمع الأمثال» (1/ 362) وغيرها.
(الكتاب/28)
أُحِبُّ أَبا مروانَ من أجلِ تَمْرِهِ ... وأعلمُ أنَّ الرِّفْقَ بالمرءِ أرْفَقُ وواللهِ لولا تَمْرُهُ ما حَبَبْتُهُ ... ولا كانَ أدنى مِن عُبَيْدٍ وَمُشْرِق كذلك أنشدَه الجوهريّ (1) بالإقواء (2)، فجمع بين اللغتين. ولكن في جانب الفعل واسم الفاعل غلَّبوا الرباعي، فقالوا: أحبّه، يُحِبّه، فهو مُحِبٌّ، وفي المفعول غلَّبوا فَعَل، فقالوا في الأكثر محبوبٌ، ولم يقولوا مُحَبٌّ إلا نادرًا، قال الشاعر (3): وَلَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه ... منِّي بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَم فهذا من أفعلَ. وأما حبيب فأكثر استعمالهم له بمعنى المحبوب، قال (4): _________ (1) في «الصحاح» (1/ 105). (2) ورواه المبرد في «الكامل» (1/ 293): وأقسم لولا تمره ما حببتُه ... وكان عياضٌ منه أدنى ومُشرِقُ ولا إقواء فيه. (3) هو عنترة بن شداد العبسي، والبيت من معلقته. انظر: «ديوانه» (ص 187). (4) البيت للفرزدق في «ديوانه» (1/ 84)، و «كتاب» سيبويه (3/ 29)، و «سمط اللآلي» (ص 572) و «لسان العرب» (حنطب)، و «المقاصد النحوية» للعيني (2/ 556)، و «شرح شواهد المغني» (2/ 885)، و «شرح أبيات مغني اللبيب» (7/ 136).
(الكتاب/29)
وما زُرْتُ ليلى أنْ تكونَ حبيبةً ... إليَّ ولا دَينٌ لها أنَا طالِبُه وقد استعملوه بمعنى المُحِبِّ، قال الشاعر (1): وما هجَرَتْكِ النَّفْسُ أنَّكِ عندَها ... قليلٌ ولا أَنْ قلَّ مِنْكِ نصيبُها ولكنَّهم يا أحسنَ النَّاسِ أُولِعُوا ... بقولٍ إذا ما جئتُ: هذا حبيبُها فهذا يحتملُ أن يكونَ بمعنى المحبوب، وأن يكونَ بمعنى المُحِبّ. وأما الحِبُّ بكسر الحاء فلغة في الحُبّ، وغالب استعماله بمعنى المحبوب (2). قال في الصحاح (3): الحُبّ: المحبة، وكذلك الحِبُّ بالكسر. والحِبّ أيضًا الحبيب مثل خِدْنٍ وخَدِين. قلت: وهذا نظير ذِبْحٍ بمعنى مذبوح، ونِهْبٍ بمعنى منهوب، ورِشْقٍ بمعنى مرشوق، ومنه السِّبُّ، [8 ب] ويشترك فيه الفاعل والمفعول. قال أبو عُبيد: السِّبُّ بالكسر: الكثير السِّباب. قال الجوهري (4): وسِبُّك: _________ (1) «الشاعر» ساقطة من ت. والبيتان للمجنون في «ديوانه» (ص 68، 70، 71). ونُسِبا لنُصيب في «شعر نصيب» (ص 68)، وللأحوص أو نصيب في «المحب والمحبوب» (2/ 93، 94). وانظر التخريج واختلاف الروايات في هذه المصادر. (2) «وأن يكون ... المحبوب» ساقطة من ش. (3) (1/ 105). (4) «الصحاح» (1/ 145). ونقل أيضًا قول أبي عبيد.
(الكتاب/30)
الذي يُسَابُّك، قال حسان (1): لا تَسُبَّنَّنِي فلستَ بِسِبِّيْ ... إنَّ سِبِّي من الرجالِ الكريمُ والصَّوابُ أنَّه عبد الرحمن بن حسَّان. وقد يشتركُ فيه المصدر والمفعول نحو: رِزْق. وفي إعطائهم ضمَّة الحاء للمصدر وكسرتها للمفعول سرٌّ لطيف، فإنَّ الكسرةَ أخفُّ من الضمة، والمحبوبُ أخفُّ على قلوبهم من نفس الحُبّ، فأعطَوُا الحركَةَ الخفيفة للأخفِّ، والثقيلَةَ للأثقل. ويُقال: أحَبَّهُ حُبًّا ومحبّةً، والمحبَّة أُمُّ هذه (2) الأسماء. فصل وأما كلامُ النَّاس في حدِّها فكثير. فقيل: هي الميل الدائم بالقلب الهائم. وقيل: إيثار المحبوب على جميع المصحوب. وقيل: موافقة الحبيب في المَشهد والمَغيب. وقيل: اتِّحاد مُراد المحبِّ ومراد المحبوب. وقيل: إيثار مُراد المحبوب على مُراد المحبِّ. وقيل: إقامة الخدمة مع القيام بالحُرْمة. وقيل: استقلالُ الكثير منك لمحبوبك، واستكثارُ القليل منه إليك. وقيل: استيلاء ذكر المحبوب على قلب المحبِّ. وقيل: حقيقتها أن تَهَبَ كلَّكَ لمن أحببتَه، فلا يبقى لك منك _________ (1) في «الصحاح»: «قال الشاعر». والبيت ليس لحسان، بل لابنه عبد الرحمن كما صوَّبه المؤلف، انظر: «لسان العرب» (سبب)، و «تهذيب اللغة» (12/ 312). وهو بلا نسبة في «مقاييس اللغة» (3/ 63)، و «مجمل اللغة» (3/ 57)، و «المخصص» (12/ 175). (2) ت: «أم باب هذه».
(الكتاب/31)
شيء. وقيل: هي أن تمحوَ من قلبك ما سوى المحبوب. وقيل: هي الغَيرة للمحبوب أن تُنْتَقَصَ حُرْمتُه، والغيرة على القلب أن يكون فيه سواه. وقيل: هي الإرادة التي لا تنقُصُ (1) بالجفاء، ولا تزيد بالبِرّ. وقيل: هي حفظ الحدود، فليس بصادقٍ من ادَّعى محبة مَنْ لم يحفظ حدودَه. وقيل: هي قيامُك لمحبوبك بكلِّ ما يُحِبُّه منك. وقيل: هي (2) مُجَانَبَةُ السُّلُوِّ عَلَى كلِّ حال، كما قيل (3): ومن كانَ مِنْ طُول الهَوى ذاقَ سَلْوَةً ... فإنِّيَ مِنْ ليلى لها غيرُ ذَائق [9 أ] وأكبر شيءٍ نِلْتُهُ من وِصَالها ... أمانيُّ لم تَصْدُق كَلَمْعَةِ بَارِق وقيل: نارٌ تحرِقُ من القلب ما سوى مُراد المحبوب. وقيل: ذكر المحبوب على عدد الأنفاس، كما قيل (4): يُرَادُ مِن القلبِ نسيانُكم (5) ... وَتأْبى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِل _________ (1) ش: «لا تنقض». (2) «هي» ساقطة من ت. (3) البيتان لأبي بكر الشبلي في «طبقات الصوفية» (ص 347)، و «البداية والنهاية» (15/ 178، 179). والثاني مع أبيات أخرى للمجنون في «ديوانه» (ص 212). (4) ت: «قال». والبيت للمتنبي في «ديوانه» (3/ 153) بشرح البرقوقي. (5) في هامش ت: «سلوانكم».
(الكتاب/32)
وقيل: عَمَى القلب عن رؤية غير المحبوب، وصَمَمُهُ عن سَمَاع العَذْل فيه، وفي الحديث: «حُبُّكَ الشيءَ (1) يُعْمِي وَيُصِمّ» رواه الإمام أحمد (2). وقيل: ميلُكَ إلى المحبوب بكلِّيَّتِك، ثم إيثاركَ له عَلَى نفسِك وروحِك ومالك، ثم موافقتُك له سرًّا وجهرًا، ثم علمُك بتقصيرك في حُبِّه. وقيل: هي بَذلُكَ (3) المجهود فيما يُرضي الحبيبَ. وقيل: هي سكونٌ بلا اضطراب، واضطرابٌ بلا سكون، فيضطرب القلبُ، فلا يسكن إلا إلى محبوبه، ويضطرب شوقًا إليه، ويسكن عنده. وهذا معنى قول بعضهم: هي حركةُ القلب عَلى الدوام إلى المحبوب وسكونُهُ عنده. وقيل: هي مصاحبة المحبوب عَلى الدوام، كما قيل (4): _________ (1) ش: «للشيئ». (2) في «مسنده» (5/ 194، 6/ 450)، وأبو داود (5130) من حديث أبي الدرداء مرفوعًا. وفي إسناده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم ضعيف. وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (412) عن أبي الدرداء موقوفًا، وإسناده صحيح. (3) ت: «بذل». (4) البيتان بلا نسبة في «محاضرة الأبرار» (1/ 388)، و «الحماسة المغربية» (2/ 1068)، و «ديوان الصبابة» (ص 38)، و «نفح الطيب» (6/ 269)، و «تزيين الأسواق» (1/ 56). وهما للقاضي الفاضل في ديوانه (ص 492).
(الكتاب/33)
ومن عَجَبٍ أنِّي أحِنُّ إليهمُ ... وأسألُ عنهمْ مَن لَقِيتُ وهمْ معي وتَطلُبهُم عَيني وهم في سَوَادِهَا ... ويشتاقُهم قلبي وهمْ بينَ أضلُعي وقيل: هي أن يكون المحبوب أقربَ إلى المحب من رُوحه، كما قيل (1): يا مُقيمًا في خاطِري وجَنانِي ... وبعيدًا عن ناظِري وعِيانِي أنتَ رُوحي إن كُنتُ لستُ أراها ... فهْي أَدْنى إليَّ مِن كلّ دان وقيل: هي حضور المحبوب عند المحبِّ دائمًا، كما قيل (2): خيالُكَ في عيني وذِكركَ في فمي ... ومَثْواكَ في قلبي فأين تَغِيبُ وقيل: هي أن يستوي قربُ دار المحبوب (3) وبعدُها عند المحبِّ، كما قيل (4): _________ (1) البيتان بلا نسبة في «بدائع الفوائد» (2/ 690). (2) البيت بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 38)، و «المستطرف» (1/ 114)، و «تزيين الأسواق» (1/ 56). وهو لأبي الحكم ابن غلندو الإشبيلي في معجم الأدباء (3/ 1194). (3) ت: «الحبيب». (4) الأبيات من قصيدةٍ للصرصري في «فوات الوفيات» (4/ 301). وأوردها المؤلف في «الرسالة التبوكية» (ص 93).
(الكتاب/34)
[9 ب] يا ثاوِيًا بينَ الجَوانِحِ والحَشَا ... مني وإنْ بَعُدَتْ عَليَّ دِيَارُهُ عطفًا على صَبٍّ بحبِّكَ هائمٍ ... إنْ لَم تَصِلْهُ تَصَدَّعَتْ أَعْشَارُهُ لا يستفيقُ مِن الغَرَام وكلَّما ... حَجَبُوكَ عنه تهتَّكَتْ أسْتارُه وقيل: هي ثبات القلب على أحكام الغَرام، واستلذاذُ العَذْل فيه والملام، كما قيل (1): وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي ... مُتَأخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ وأهنتنِي فأهنتُ نفسِي جاهِدًا ... ما مَنْ يَهُونُ عليكِ ممن يُكْرَمُ (2) أشبهتِ أَعْدائِي فصِرتُ أُحبُّهم ... إذ كان حَظِّي منكِ حَظِّي منهمُ _________ (1) ت: «قال». والأبيات لأبي الشيص الخزاعي في «حماسة» أبي تمام (2/ 119 - 120)، و «الشعر والشعراء» (2/ 843)، و «العقد الفريد» (5/ 374، 375)، و «الأغاني» (16/ 402)، و «الأمالي» للقالي (1/ 218). وفي «الأغاني» (22/ 225)، و «اللآلي» للبكري (1/ 507) أنها لعلي بن عبد الله بن جعفر. (2) ت: «أكرم»، وهي رواية الحماسة.
(الكتاب/35)
أجدُ الملامةَ في هَواكِ لذيذةً ... حُبًّا لذكركِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ فصل وأما العَلاقة، وتُسمَّى العَلَقَ بوزن الفَلَق، فهي من أسمائها. قال الجوهري (1): والعَلَق أيضًا: الهوى، يقال: نظرةٌ من ذي عَلَق، قال الشاعر (2): ولقد أردتُ الصبرَ عنكِ فعاقَنِي ... عَلَقٌ بقلبِي من هَواكِ قديمُ وقد عَلِقَهَا بالكسر وعَلِقَ حبُّها بقلبه؛ أي: هَوِيَهَا. وعَلِق بها عُلوقًا. وسميت عَلاقةً؛ لتعلُّق القلب بالمحبوب، قال الشاعر (3): أعلاقةً أُمَّ الوُلَيِّد بعدَ ما ... أفنانُ رأْسِكَ كالثَّغَامِ المُخْلِس _________ (1) في «الصحاح» (4/ 1529). (2) هو كثير عزة، والبيت في «ديوانه» (ص 206)، و «الخصائص» (2/ 171)، و «اللسان» (علق). ويُروى لابن الدمينة في «ديوانه» (ص 48). (3) البيت للمرار بن سعيد الفقعسي في «شعره» (ص 461)، و «كتاب» سيبويه (1/ 116، 2/ 139)، و «إصلاح المنطق» (ص 45)، و «اللسان» (علق، ثغم، فنن)، و «شرح شواهد المغني» (2/ 722)، و «خزانة الأدب» (4/ 493)، و «شرح أبيات مغني اللبيب» (5/ 269).
(الكتاب/36)
فصل وأما الهوى: فهو ميلُ النفس إلى الشيء، وفعله: هَوِيَ، يَهوَى، هَوًى، مثل: عَمِيَ، يَعْمَى، عَمًى. وأمَّا هَوَى يَهْوِي بالفتح فهو السقوط، ومصدرهُ الهُوِيُّ بالضم، ويقال الهوى أيضًا على نفس المحبوب، قال الشاعر (1): إنَّ التي زعمتْ فؤادَكَ مَلَّها ... خُلِقَتْ هواكَ كما خُلِقْتَ هوًى لها ويقال: هذا هوى فلانٍ، وفلانةُ هواه، أي: مَهْوِيَّتُهُ ومحبوبته. وأكثر ما يُستعمل في الحبّ المذموم، كما قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) [10 أ] فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات/40 ــ 41]. ويُقال: إنما سمي هوًى؛ لأنه يهوي بصاحبه. وقد يُستعمل في الحبِّ الممدُوح استعمالًا مقيَّدًا. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» (2). _________ (1) البيت لعروة بن أذينة أو غيره، انظر: «سمط اللآلي» (1/ 409)، و «الحماسة» (2/ 13)، و «أمالي» القالي (1/ 156)، و «عيون الأخبار» (4/ 29)، و «أمالي» المرتضى (1/ 411)، و «الشعر والشعراء» (2/ 572)، و «زهر الآداب» (1/ 166). (2) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (15)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 369)، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 213) من حديث عبد الله بن عمرو. قال النووي في «الأربعين» (41): حديث حسن صحيح، رُوِّيناه في كتاب «الحجة» بإسنادٍ صحيح. وتعقبه ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (2/ 394) فقال: تصحيح هذا الحديث بعيد جدًّا من وجوه. ثم ذكرها.
(الكتاب/37)
وفي الصحيحين (1) عن عُروة قال: كانت خَوْلَةُ بنت حكيم من اللاتي وهَبْنَ أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت عائشة رضي الله عنها: أما تستحي المرأة أنْ تَهَبَ نفسَها للرجل؟ فلما نزلت {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب/51] قلتُ: يا رسول الله! ما أرى ربَّك إلا يُسارعُ في هواكَ. وفي قصة أسارى بدرٍ قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: فهَوِيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر رضي الله عنه ولم يَهْوَ ما قلتُ. وذكر الحديث (2). وفي السنن (3) أنَّ أعرابيًّا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: جئتُ أسألك عن الهوى، فقال: «المَرْءُ مع من أحبَّ». فصل وأما الصَّبْوة والصِّبا: فمن أسمائها أيضًا، قال في الصحاح (4): والصِّبا من الشوق، يقال منه: تَصَابى، وصَبَا، يَصْبُو، صَبْوَةً، وَصُبُوًّا، أي: _________ (1) البخاري (5113)، ومسلم (1464). (2) أخرجه مسلم (1763) من حديث عمر بن الخطاب. (3) أخرجه الترمذي (3536)، والنسائي في الكبرى (6/ 344)، وأحمد (4/ 239، 240) من حديث صفوان بن عسّال المرادي بهذا السياق. وإسناده حسن. (4) (6/ 2398).
(الكتاب/38)
مالَ إلى الجهل، وأَصْبَتْهُ الجاريةُ. وصَبِيَ صَبَاء، مثل: سَمِع سماعًا، أي: لعب مع الصِّبيان. قلت: أصل الكلمة من الميل، يقال: صَبا إلى كذا، أي: مال إليه، وسُمِّيَت الصَّبْوة بذلك؛ لميل صاحبها إلى المرأة الصبِيَّة، والجمع صبايا، مثل: مَطِيَّةٍ ومَطَايا. والتَّصابي: هو تعاطي الصَّبْوة، مثل: التمايل وبابه. والفرق بين الصِّبَا والصَّبْوَة والتَّصَابي: أنَّ التَّصابي هو (1) تعاطي الصِّبا، وأن يفعلَ فعل ذي الصَّبْوة. وأما الصِّبا فهو نفس الميل. وأما الصَّبْوة فالمرَّة من ذلك، مثل: الغَشْوَة، والكَبْوة، وقد يقال على الصفة اللازمة، مثل: القَسْوَة. وقد قال يوسف الصِّدِّيق عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف/33]. فصل وأما الصَّبابة: فقال في الصحاح (2): هي رقة الشوق وحرارته، يقال: رجل صَبٌّ: عاشقٌ مشتاق، وقد صَبِبْتَ يَا رجلُ ــ بالكسر ــ قال الشاعر (3): ولستَ بصَبٍّ إلى الظَّاعنينْ ... إذا ما صديقُك لم يَصْبَب _________ (1) ش: «هي». (2) (1/ 161). (3) البيت للكميت من «هاشمياته» (ص 189)، و «اللسان» (صبب).
(الكتاب/39)
قلت: والصَّبَابة من المضاعف من صبَّ يَصَبُّ، وَالصِّبا وَالصَّبْوةُ من المعتلّ، وهم كثيرًا ما يعاقبون بينهما، فبينهما تناسبٌ لفظي ومعنويّ، قال (1): [10 ب] تَشَكَّى المُحبُّونَ الصَّبابةَ لَيْتَني ... تَحَمَّلْتُ ما يَلقَوْن مِنْ بينهم وَحْدِي ويقال: رجلٌ صَبٌّ وَامْرَأَةٌ صَبٌّ، كما يقال: رجلٌ عَدْلٌ وَامْرَأَةٌ عَدْلٌ. فصل وأما الشَّغَف: فمن أسمائها أيضًا. قال الله تعالى: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف/30]. قال الجوهري (2) وغيره: والشَّغَاف: غِلاف القلب، وهو جلدةٌ دونه كالحجاب، يقال: شَغَفَه الحبُّ، أي: بَلغَ شَغَافَه، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} ثم قال: دخلَ (3) حبُّه تحتَ الشَّغَاف. _________ (1) البيت لمجنون ليلى في «ديوانه» (ص 116)، وبلا نسبة في «حماسة» أبي تمام (2/ 30)، و «الزهرة» (1/ 435)، و «الصناعتين» (ص 131)، و «شرح المضنون به» (ص 241)، و «الموشى» (ص 332). (2) في «الصحاح» (4/ 1382). (3) ش: «دخلت».
(الكتاب/40)
فصل وأما الشَّعَفُ ــ بالعين المهملة ــ ففي الصحاح (1): شَعَفَه الحُبُّ؛ أي: أحرقَ قلبه. وقال أبو زيدٍ: أمرضَه، وقد شُعِف بكذا فهو مَشْعُوفٌ، وقرأ الحسن: {قد شَعَفَها حُبّاً} قال: بَطنَها حُبًّا (2). فصل وأما المِقَةُ: فهي فِعْلة من وَمِق يَمِقُ، وَالمِقَة: المحبَّة، والهاء عوضٌ من الواو، كالْعِظَة والعِدَة والزِّنَة، فإنَّ أصلَها فعل، فحذفوا الفاء فعوَّضوا منها تاء التأنيث جبرًا للكلمة، وتعويضًا لما سقط منها، والفعل: وَمِقَه، يَمِقه بالكسر فيهما، أي: أحبَّه، فهو وامق. فصل وأما الوَجْد: فهو الحبُّ الذي يتبعه الحزن، وأكثر ما يُستعمل الوَجْدُ في الحزن، يقال منه: وَجَدَ وَجْدًا بالفتح، ونحن نذكر هذه المادة وتصاريفها. يقال: وَجَد مطلوبَه يَجِده وُجودًا، فإن تعلّق ذلك (3) بالضالَّةِ؛ سمَّوْهُ وِجْدَانًا، ووَجَدَ عليه في الغضب مَوْجِدَةً، ووجَد في الحزن وَجْدًا _________ (1) (4/ 1382). (2) «حبًّا» ساقطة من ش. (3) «ذلك» ساقطة من ش.
(الكتاب/41)
بالفتح، ووجد في المال، أي: صار واجدًا وَجْدًا ووُجْدًا ووِجْدًا بالفتح والضم والكسر وجِدَةً إذا استغنى. وأما إطلاق اسم الوَجْد على مجرَّد المحبة فغير معروف، وإنما يطلق على محبَّةٍ معها فَقْدٌ يُوجب الحزن. فصل وأما الكَلَف: فهو من أسماء الحبِّ أيضًا، يقال: كَلِفْتُ بهذا الأمر، أي: أُولِعتُ به [11 أ] فأَنا كَلِفٌ به، قال (1): فتعلَّمِي أنْ قد كَلِفْتُ بكُم ... ثم اصنعي ما شئْتِ عن عِلْم وأصل الكلمة (2) من الكُلْفة والمشقَّة، يقال: كلَّفه تكليفًا إذا أمره بما يَشُقُّ. قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/ 286]، ومنه تكلَّفتُ الأمرَ: تجشَّمته، والكُلْفَةُ: ما يُتكَلَّف من نائبةٍ أو حقّ. والمتكلِّف: المتعرّض لِمَا لا يَعنيه، قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص/86]. وقيل: هو مأْخوذٌ من الأثر، وهو شيءٌ يعلو الوجهَ كالسِّمْسِم. _________ (1) البيت لأبي صخر الهذلي في «شرح أشعار الهذليين» (2/ 975) من قصيدة له. وانظر: «الحماسة» (2/ 12)، و «الزهرة» (1/ 86)، و «الأغاني» (24/ 126)، و «ذيل أمالي القالي» (ص 118). (2) ش: «اللفظة».
(الكتاب/42)
والكَلَف أيضًا: لونٌ بين السواد والحُمْرة، وهي حُمْرةٌ كدِرَة تعلو الوجه، والاسم الكُلْفَة. فصل وأما التَّتَيُّم: فهو التعبُّد، قال في الصحاح (1): تَيْمُ الله أي عبدالله، وأصله من قولهم: تيَّمه الحبُّ؛ إذا عبَّده وذلَّله، فهو مُتيَّم. ويقال: تَامَتْه المرأةُ، قال لَقيط بن زُرارة (2): تامَتْ فؤادَك لو يَحْزُنْك ما صَنَعَتْ ... إحدى نساءِ بَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَا فصل وأما العشق: فهو أميرُ هذه الأسماء وآخِيَّتُها (3)، وقلَّما وَلِعَت به العرب، وكأنهم ستروا اسمَه، وَكَنَوْا عنه بهذه الأسماء فلم يكادوا يُفْصحوا به، ولا تكاد تجده في شعرهم القديم، وإنما أُولع به المتأخرون. ولم يقع هذا اللفظ في القرآن، ولا في السُّنَّة إلا في حديث سُوَيد بن سَعِيد، وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى. وبعدُ، فقد استعملوه في _________ (1) (5/ 1879). (2) البيت له في «العقد الفريد» (6/ 84)، و «مجمع الأمثال» (1/ 148)، و «اللسان» (تيم)، و «شرح أبيات مغني اللبيب» (5/ 109). وبلا نسبة في «جمهرة اللغة» (ص 411)، و «شرح شواهد المغني» (2/ 665). (3) ش: «وأرجيتها». ط: «أخبثها».
(الكتاب/43)
كلامهم، قال الشاعر (1): وماذا عسى الواشونَ أنْ يتحدَّثوا ... سوى أن يقولوا إنني لكِ عاشقُ نعم صدقَ الواشون أنتِ حبيبةٌ ... إليَّ وإن لم تَصْفُ منكِ الخلائِقُ قال في الصحاح (2): العِشْق: فَرْط الحبِّ، وقد عشقها عِشْقًا، مثل: عَلِمَ عِلْمًا، وعَشَقًا أيضًا عن الفَرَّاء، قال رُؤْبة (3): ولم يُضِعْها بين فَرْكٍ وَعشَقْ قال ابن السّراج: إنما حرَّكه ضرورةً، وإنما لم يُحرّكه بالكسر إتْباعًا للعين، كأنه كره الجمع بين كسرتين؛ [11 ب] فإنَّ هذا عزيزٌ في الأسماء. ورجلٌ عِشِّيقٌ مثال فِسِّيق، أي: كثير العشق. والتَّعشُّق: تكلّف العِشْق، قال الفرّاء: يقولون امرأةٌ مُحِبٌّ لزوجها وعاشق. وقال ابن سِيده: العِشْق: عجبُ المحبّ بالمحبوب يكون في عفاف الحبِّ ودَعارته، يعني: في العفَّة والفجور. وقيلَ: العِشْقُ الاسم، والعَشَق المصدر، وقيل: هو مأخوذ من شجرة يُقال لها: عاشقة، تخضرّ _________ (1) البيتان لجميل بن معمر في «الحماسة» (2/ 128)، و «الخزانة» (2/ 558)، و «ديوانه» المجموع (ص 142). ولمجنون ليلى في «ديوانه» (ص 202). وانظر مزيد التخريج هناك. (2) (4/ 1525). (3) له في «ديوانه» (ص 104)، و «تهذيب اللغة» (10/ 203)، و «اللسان» (سرر، شبق، عسق، عشق).
(الكتاب/44)
ثم تَدِقُّ وتصفرُّ. قال الزَّجَّاجي (1): واشتقاق العاشق من ذلك. وقال الفرَّاء: عَشِقَ عِشْقًا وَعَشْقًا وعَشَقًا: إذا أفرط في الحبِّ، والعاشق الفاعل، والمعشوق المفعول، والعَشِيقُ يقال لهذا ولهذا، وامرأةٌ عاشقٌ وعاشقةٌ، قال (2): وَلَذٍّ كَطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ طَرَحْتُهُ ... عَشِيَّةَ خِمْسِ القومِ والعَيْنُ عاشِقَهْ وقال الفرَّاء: العشق نبتٌ لَزِجٌ، وسُمِّيَ العشق الذي يكون من الإنسان لِلصُوقهِ بالقلب. وقال ابن الأعرابي: العَشَقَةُ: اللبلابة تخضرُّ، وتصفرُّ، وتَعْلَق بالذي يليها من الأشجار، فاشتقّ من ذلك العاشق. وقد اختلف الناس هل يُطْلَق هذا الاسم في حقّ الله تعالى؟ (3) فقالت طائفةٌ من الصوفية: لا بأس بإطلاقه، وذكروا فيه أثرًا لا يثبتُ، وفيه: «فإذا فعلَ ذلك عَشِقَني وعَشِقتُه» (4). وقال جمهور الناس: لا يُطْلَقُ ذلك في حقِّه سبحانه، فلا يُقال: إنه _________ (1) ط: «الزجاج». (2) البيت للراعي النميري في «ديوانه» (ص 186)، و «اللسان» (صرخد، لذذ)، و «التنبيه والإيضاح» (2/ 31، 71). وبلا نسبة في «مجمل اللغة» (4/ 245). (3) انظر كلام شيخ الإسلام في هذا الموضوع في «مجموع الفتاوى» (10/ 131). وقد اعتمد عليه المؤلف ولخَّصه هنا. (4) هذا لفظ الأثر عن عبد الواحد بن زيد في الحديث القدسي المشهور: «لا يزال عبدي يتقرب إليَّ ... ». انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 131).
(الكتاب/45)
يَعْشَق، ولا يقال: عَشِقَه عبدُه. ثم اختلفوا في سبب المنع على ثلاثة أقوال: أحدها: عدم التوقيف، بخلاف المحبة. الثاني: أنَّ العشقَ إفراطُ المحبَّة، ولا يمكن ذلك في حق الربِّ تعالى، فإن الله تعالى لا يُوصف بالإفراط في الشيء، ولا يبلغ عبدُه ما يستحقُّه من حبِّه، فضلًا أن يُقالَ: أفرطَ في حبّه. الثالث: أنه مأخوذ من التغيُّر، كما يُقال للشجرة المذكورة عاشقة، ولا يُطلق ذلك على الله سبحانه. فصل وأمَّا الجَوَى: ففي الصحاح (1): الجوى: الحُرْقةُ، وشدَّة الوَجْد [12 أ] من عشقٍ، أو حُزْنٍ، تقول منه: جَوِيَ الرجلُ ــ بالكسر ــ فهو جَوٍ، مثل: دَوٍ، ومنه قيل للماء المتغير (2) المُنْتِن: جَوٍ، قال الشاعر (3): ثم كان المزاجُ ماءَ سحابٍ ... لا جَوٍ آجِنٌ ولا مطروقُ _________ (1) (6/ 2306). (2) «المتغير» ساقطة من ش. (3) هو عدي بن زيد العبادي، والبيت له في «ديوانه» (ص 79)، و «المحب والمحبوب» (4/ 163)، و «الأغاني» (6/ 77)، و «قطب السرور» (ص 655)، و «التذكرة الحمدونية» (8/ 355)، و «اللسان» (طرق). وبلا نسبة في تهذيب اللغة (11/ 230، 234)، و «أساس البلاغة»، و «اللسان» (جوا).
(الكتاب/46)
فصل وأمَّا الدَّنَفُ: فلا تكاد تستعمله (1) العرب في الحبِّ، وإنَّما وَلِع به المتأخرون، وإنَّما استعملته العربُ في المرض. قال في الصحاح (2): الدَّنَف بالتحريك: المرض الملازم. ورَجل دَنَفٌ أيضًا ــ يعني بفتح النون ــ وامرأةٌ دَنَفٌ، وقومٌ دَنَف، يستوي فيه المذكر والمؤنَّث، والتثنية والجمع، فإن قلت: رجل دَنِفٌ قلت: امرأَةٌ دَنِفَةٌ، أَنَّثتَ وثنَّيتَ وجمعتَ، وقد دَنِف المريضُ بالكسر: ثقُل. وأدْنَفَ بالألف مثلُه، وأدْنَفَهُ المرضُ يتعدَّى ولا يتعدَّى، فهو مُدْنِفٌ وَمُدْنَف. قلت: وكأنهم استعاروا هذا الاسم للحبّ اللازم تشبيهًا له به، والله أعلم. فصل وأمَّا الشَّجْوُ: فهو حُبٌّ يتبعه همٌّ وحزن. قال في الصحاح (3): الشَّجْوُ: الهمُّ والحُزْن، يقال: شَجَاهُ يَشْجُوهُ شَجْوًا: إذا حَزَنه (4)، وأشْجاه يُشْجيه إشجاءً: إذا أَغَصَّه (5). تقول منهما جميعًا: شَجِيَ بالكسر _________ (1) ش: «يكاد يستعمله». (2) (4/ 1360). (3) (6/ 2389). (4) ش: «أحزنه». (5) ش: «أغضبه» تحريف.
(الكتاب/47)
يَشْجَى شَجًا، قال (1): لا تُنكروا القتلَ وقد سُبِينا ... في حَلْقِكُم عَظْمٌ وقد شَجِينا أرادَ: حلوقكم، والشَّجَا: ما يَنْشَبُ في الحَلْق من عَظْمٍ أو غيره، ورجلٌ شَجٍ، أي: حزينٌ، وامرأةٌ شَجِيَةٌ، على فَعِلة. فأُطلقَ هذا الاسم على الحبِّ للزومه كالشَّجَا الذي يَعْلَقُ (2) بالحَلق، ويَنْشَبُ فيه. فصل وأما الشوق: فهو سفرُ القلب إلى المحبوب، وقد وقعَ هذا الاسم في السُّنَّة، ففي المسند (3) من حديث عمَّار بن ياسر، أنه صلَّى صلاةً، فأوجزَ فيها، فقيل له: أوجزتَ يا أبا اليقظان! فقال: لقد دعوتُ فيها _________ (1) الرجز للمسيب بن زيد مناة في «شرح أبيات سيبويه» (1/ 212)، و «اللسان» (شجا). ولطفيل في «جمهرة اللغة» (ص 1041)، و «المحتسب» (2/ 87) وليس في ديوانه. وبلا نسبة في اللسان (نهر، سمع، أمم، عظم، مأى)، و «الخزانة» (2/ 105)، و «تهذيب اللغة» (2/ 125، 302)، و «المحتسب» (1/ 246)، و «المخصص» (1/ 31، 10/ 30). (2) ت: «تعلّق». (3) (4/ 264). وأخرجه أيضًا النسائي (3/ 54، 55)، وأبو يعلى في «مسنده» (1624)، وابن حبّان في «صحيحه» (1971)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 524)، وإسناده حسن.
(الكتاب/48)
[12 ب] بدَعواتٍ سَمِعْتُهنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بِهنَّ: «اللهم بعلمكَ الغيبَ، وقُدرتكَ على الخلق، أحْينِي إذا كانتِ الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحقِّ في الغضب والرِّضا، وأسألك القصدَ في الفقر والغِنى، وأسألك نعيمًا لا يَنْفَد، وأسألك قرّةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذَّة النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك، في غير ضرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مُهتدين». وجاء في أثرٍ إسرائيليّ (1): «طالَ شوقُ الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائِهم أشوَقُ». وقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت/5]. قال بعضُ العارفين: لما علمَ الله شوقَ المُحبِّين إلى لقائه؛ ضربَ لهم موعدًا للِّقاءِ تَسكنُ به قلوبهم. وبعدُ: فهذه اللفظة من أسماء الحبِّ، قال في الصحاح (2): الشوق (3) _________ (1) ذكره الديلمي في «مسند الفردوس» (5/ 8126)، والغزالي في «الإحياء» (3/ 8). قال العراقي: لم أجد له أصلًا. وذكره الفتني في «تذكرة الموضوعات» (ص 196). (2) (4/ 1504). (3) ش: «التشوق».
(الكتاب/49)
والاشتياق: نِزاع النفس إلى الشيء. يقال: شَاقَنِي الشيءُ يَشُوقُني فهو شائقٌ وأنا مَشُوْق (1)، وشوَّقني، فتشوَّقتُ: إذا هيَّجَ شوقَكَ، قال الراجز (2): يا دارَ ميّةَ بالدَّكادِيكِ البُرَقْ ... سَقْيًا لقَدْ هيَّجتِ شوقَ المشتأَقْ يُريد: المشتاق، قال سِيْبَوَيْه: هَمَز ما ليس بمهموزٍ ضرورةً. فصل واختُلِفَ في الفرق بين الشوق والاشتياق: أَيُّهُما أقوى، فقالت طائفة: الشوق أقوى (3)، فإنه صفةٌ لازمة، والاشتياق فيه نوع افتعالٍ، كما يدلّ عليه بناؤه، كالاكتساب ونحوه. وقالت فرقة: الاشتياق أقوى لكثرة حروفه، وكلَّما قويَ المعنى وزادَ زادوا حروفَه. وحكمتْ فرقةٌ ثالثةٌ بين القولين، وقالت: الاشتياق يكون إلى غائب، وأما الشوق (4) فإنه يكون للحاضر والغائب. _________ (1) «الشيء ... مشوق» ساقطة من ش. (2) الرجز لرؤبة في «شرح شواهد الشافية» (ص 175) وليس في «ديوانه». وهو بلا نسبة في «الخصائص» (3/ 145)، و «سر صناعة الإعراب» (1/ 91)، و «تهذيب اللغة» (5/ 241)، و «اللسان» (بوز، شوق، دكك، حول). (3) «أقوى» ساقطة من ش. (4) ش: «التشوق».
(الكتاب/50)
والصواب [13 أ] أن يقال: الشوق مصدرُ شاقَه، يشُوقه: إذا دعاه إلى الاشتياق إليه، فالشوق داعية الاشتياق ومبدؤه، والاشتياقُ مُوجَبهُ وغايته، فإنه يقال: شاقني فاشتقتُ، فالاشتياق فعلٌ مطاوع لشاقني. واختلف أرباب الشوق: هل يزول الشوق بالوصال أو يزيد؟ فقالت طائفةٌ: يزول، فإنَّ الشوقَ طسفرُ القلب إلى المحبوب، فإذا وصلَ إليه انتهى السفر. وأَلقتْ عَصَاها واستقرَّ بها النَّوَى ... كما قَرَّ عَيْنًا بالإيابِ المسافِرُ (1) قالوا: ولأن الشوق إنَّما يكون لغائبٍ، فلا معنى له مع الحضور، ولهذا إنما يقال للغائب: أنا إليك مشتاق، وأما من لم يزل حاضرًا مع المحبِّ فلا يُوصف بالشَّوق إليه. وقالت طائفة: بل يزيدُ بالقرب واللقاء، واستدلوا بقول الشاعر (2): وأعظمُ ما يكونُ الشوقُ يومًا ... إذا دَنَتِ الخِيَامُ من الخِيَام قالوا: ولأن الشوقَ هو حُرقة المحبَّة والتهابُ نارها في قلب المُحبِّ، وذلك مما يزيدُه القربُ والمواصلةُ. _________ (1) البيت لمعقِّر بن حمار البارقي من قصيدة له في «النقائض» (2/ 676)، وهو له في «الاشتقاق» (ص 481)، و «المؤتلف والمختلف» للآمدي (ص 92)، و «معجم الشعراء» للمرزباني (ص 204). ونسب لغيره في «البيان والتبيين» (3/ 40)، و «اللسان» (عصا). وبلا نسبة في «الأغاني» (15/ 123). (2) البيت بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 36)، و «تزيين الأسواق» (1/ 58).
(الكتاب/51)
والصوابُ أنَّ الشوقَ الحادثَ عند اللقاء والمواصلة غيرُ النوع الذي كان عند الغَيْبة عن المحبِّ، قال ابن الرومي (1): أُعانِقُها والنفسُ بعدُ مَشُوقةٌ ... إليها وهل بعدَ العِناقِ تَدانِي؟! وألثِمُ فاها كي تزولَ صَبابَتِي ... فيشتدُّ ما ألقى من الهيَمانِ ولم يكُ مقدارُ الذي بي من الجَوى ... ليَشْفِيَه ما ترشُفُ الشَّفتانِ كأن فؤادي ليس يَشفي غَلِيلَه ... سوى أن يرى الرُّوحينِ يَمتزجان فصل وأمَّا الخِلابة: فهي الحبُّ الخادِع، وهو الحبُّ الذي وصلَ إلى الخِلْب، وهو الحجابُ الذي بين القلب وسَواد البطن. وسُمِّي الحبُّ خِلابةً؛ لأنه يخدعُ ألبابَ [13 ب] أربابه، والخِلابة: الخديعة باللسان، يقال: خَلَبَهُ يَخْلُبه بالضم، واخْتَلبه مثلُه. وفي المثل: «إذا لم تَغْلِبْ فاخْلِبْ» (2) _________ (1) «ديوانه» (5/ 2475)، و «أمالي» القالي (1/ 226)، و «ديوان المعاني» (1/ 223)، و «زهر الآداب» (1/ 182)، و «التذكرة الحمدونية» (6/ 97). والأولان بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 591)، و «طريق الهجرتين» (2/ 726). (2) المثل في «أمثال» أبي عبيد (ص 156)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 66)، و «مجمع الأمثال» (1/ 34)، و «المستقصى» (1/ 375)، و «اللسان» (خلب).
(الكتاب/52)
أي: فاخدَعْ. والخَلِبة: الخَدَّاعة من النساء (1). قال الشاعر (2): أودى الشبابُ وحُبُّ الخالةِ (3) الخَلِبَهْ ... وقد بَرِئْتُ فما بالقلب مِنْ قَلَبَهْ قال ابن السِّكِّيت (4): رجلٌ خلاَّب، أي: خدَّاعٌ كَذَّاب، ومنه البرق الخُلَّب: الذي لا غيثَ فيه، كأنَّه خادع، ومنه قيل لمن يَعِدُ ولا يُنْجِز: إنما أنت برقٌ خُلَّب. والخُلَّب أيضًا: السَّحابُ الذي لا مطرَ فيه. ومنه الحديث: «إذا بَايَعْتَ فَقُلْ لا خِلابةَ» (5) أي: لا خديعة. والحبُّ أحقُّ ما يُسَمَّى (6) بهذا الاسم؛ لأنه يُعْمِي ويُصِمّ، ويَخْدَعُ لُبَّ المحبِّ وقلبَه. _________ (1) «من النساء» ساقطة من ش. (2) هو النمر بن تولب، والبيت له في «ديوانه» (ص 331)، و «جمهرة اللغة» (ص 1056، 1319)، و «أساس البلاغة» (قلب)، و «اللسان» (خلب، قلب). وبلا نسبة في «جمهرة اللغة» (ص 293)، و «تهذيب اللغة» (7/ 562)، و «اللسان» (خيل). (3) ت، ش: «الخالب». والمثبت من ط ومصادر التخريج. (4) في «إصلاح المنطق» (ص 419). (5) أخرجه البخاري (2117، 2407، 2414، 6964)، ومسلم (1533) من حديث ابن عمر. (6) ت: «سمّي».
(الكتاب/53)
فصل وأمَّا البَلابلُ: فجمعُ بَلْبَلَة، يُقال: بَلابلُ الحبِّ، وبلابلُ الشَّوْق، وهي وَسْواسه وهمُّه. قال في الصِّحاح (1): الْبَلْبَلَةُ، والْبَلْبَال: الهمُّ، ووَسْوَاس الصدر. فصل وأمَّا التَّباريحُ: فيقال: تباريحُ الحبِّ، وتباريحُ الشوق، وتباريحُ الجَوى. وبرَّح به الحبُّ والشوقُ: إذا أصابَه منه البَرْح، وهو الشِّدة. قال في الصحاح (2): لقيتُ منه بَرْحًا بارِحًا؛ أي: شِدَّةً وأذى. قال الشاعر (3): أَجِدَّكَ هذا عَمْرَكَ الله كلَّما ... دعاكَ الْهَوى بَرْحٌ لِعينيْكَ بارحُ ولقيتُ منه بناتِ بَرْحٍ، وبني بَرْحٍ، ولقيتُ منه البِرَحِين والبُرَحِين، بكسر الباء وضمها؛ أي: الشدَائدَ والدَّواهي. فصل وأما السَّدَم ــ بالتحريك ــ: فهو الحبُّ الذي يتبعه ندمٌ وحزن. قال في _________ (1) (4/ 1640). (2) (1/ 355). (3) البيت بلا نسبة في «اللسان» (برح)، و «ديوان الأدب» (1/ 100).
(الكتاب/54)
الصِّحاح (1): السَّدَم ــ بالتحريك ــ: النَّدَم والحُزن، وقد سَدِم بالكسر. ورجلٌ نادمٌ سادِم، ونَدْمَانُ سَدْمَانُ. وهو إتباعٌ. وما له هَمٌّ ولا سَدَمٌ إلا ذاك. فصل وأما الغَمَرَات: فهي جمع غَمْرَة، والغَمْرَةُ: ما يَغْمُرُ القلبَ من حبٍّ أو سُكرٍ أو غفلة. قال الله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ [14 أ] هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات/10 ــ 11] أي: في غفلة قد غَمَرَت قلوبهم. وقال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون/54] ومنه: الماء (2) الغَمْر الكثير الذي يُغطِّي من دخلَ فيه، ومنه: غَمَرَات الموت، أي: شدائده، وكذلك غَمَرَات الحبّ، وهو ما (3) يُغطِّي قلبَ المحبِّ فَيَغْمُرُه، ومنه قولهم: رجلٌ غَمْرُ الرِّدَاءِ، كناية عن السخاء؛ لأنه يَغْمُرُ العيوبَ، أي: يُغطِّيها فلا يظهر مع السخاء عيب. قال كُثَيِّر (4): غَمْرُ الرِّداء إذا تبسَّمَ ضاحِكًا ... غَلِقتْ لضَحْكتِه رِقابُ المال _________ (1) (5/ 1948). (2) «الماء» ساقطة من ش. (3) «ما» ساقطة من ش. (4) «ديوانه» (ص 288)، و «أمالي» القالي (2/ 291)، و «سمط اللآلي» (2/ 934)، و «اللسان» (غمر، ضحك، ردي) وغيرها.
(الكتاب/55)
وقال القُطَامِيّ (1) يصفُ سفينة نوح: إلى الجُودِيّ حتَّى صارَ حَجْرًا ... وكانَ لذلك الغَمْرِ انحسارُ أي: لذلك الماء الذي غمرَ الأرض ومن عليها. فصل وأمَّا الوَهَل: فهو بتحرك الهاء، وأصله: الفَزَعُ، والرَّوعُ، يقال: وَهِلَ يَوْهَلُ وهو وَهِلٌ وَمُسْتَوْهِلٌ. قال القُطَامِيّ (2) يصفُ إبلًا: وترى لِجَيْضَتِهِنَّ عند رَحِيْلِنَا ... وَهَلًا كأنَّ بِهِنَّ جِنَّةَ أوْلَق وإنَّما كان الوَهَل من أسماء الحبِّ لما فيه من الرَّوع، ومنه يقال: جمالٌ رائع. فإن قيل: ما سببُ رَوْعَة الجمال؟ ولأيِّ شيء إذا رأى المحبُّ محبوبَهُ فُجاءةً يرتاعُ لذلك، ويَصفرُّ لونهُ، ويُبْهَتُ؟ قال الشاعر (3): _________ (1) في «ديوانه» (ص 144)، و «اللسان» (غمر، تا)، و «التنبيه والإيضاح» (2/ 179). (2) في «ديوانه» (ص 107)، و «تهذيب اللغة» (11/ 137)، و «اللسان» (جيض، وهل). (3) البيت لعروة بن حزام في «الشعر والشعراء» (2/ 626)، و «ديوان المعاني» (1/ 282)، و «الأغاني» (24/ 159)، و «زهر الآداب» (2/ 949)، و «أمالي» المرتضى (1/ 459)، و «مصارع العشاق» (1/ 318)، و «الخزانة» (1/ 534، 3/ 616)، والتذكرة الحمدونية (6/ 58)، و «ذم الهوى» (ص 408)، و «فوات الوفيات» (2/ 448). ولكثير عزة في «ديوانه» (ص 522)، و «اللآلي» (1/ 400)، و «حماسة» ابن الشجري (ص 153)، وللمجنون في «ديوانه» (ص 59). وللأحوص في ملحق «ديوانه» (ص 213). وانظر: «سمط اللآلي» (1/ 400).
(الكتاب/56)
وما هو إلا أنْ أراها فُجَاءَةً ... فأُبْهَتُ حتّى لا أكادُ أُجيبُ وكثيرٌ من الناس يرى محبوبَه فيَصفرُّ ويَرتعِدُ. قيل: هذا مما خفي سببه على أكثر المحبِّين، فلا يدرون ما سببه، فقيل: سببُه أنَّ للجمالِ سلطانًا (1) على القلوب، وإذا بدا راعَ القلوبَ بسلطانه، كما يَرُوعُها الملِكُ ونحوهُ مِمَّن له سلطانٌ على الأبدان، فسلطانُ الجمال والمحبَّة على القلوب، وسلطانُ الملوك على الأبدان، فإذا كان [14 ب] السلطانُ الذي على الأبدان يَرُوع إذا بدا؛ فكيف بالسلطان الذي هو أعظم منه؟! قالوا: وأيضًا فإنَّ الجمالَ يأْسِرُ القلبَ فيُحِسّ القلبُ بأنه أسيرٌ ولا بُدَّ لتلك الصورة التي بَدتْ له فيرتاع، كما يرتاع الرجلُ إذا أحسَّ بمن يأْسِرُه، ولهذا إذا أمن الناظرُ من ذلك لم تَحْصُل له هذه الرَّوعة. قال _________ (1) ش: «الجمال سلطان».
(الكتاب/57)
الشاعر (1): علامةُ مَنْ كان الهَوَى بفؤادِه ... إذا ما رأى محبوبَهُ يتغيَّرُ (1) فصل وأما الشَّجَن: فهو من أسمائه، فإنَّ الشَّجَنَ: الحاجةُ حيث كانت، وحاجة المحبِّ أشدُّ شيءٍ إلى محبوبه. قال الراجز (2): إنِّي سأُبدي لكَ فيما أُبدي لي شَجَنانِ شَجَنٌ بِنَجْدِ وشجَنٌ لي ببلادِ السِّندِ والجمع شُجون. قال (3): والنفسُ شَتَّى شُجُونُها _________ (1) «الشاعر» ساقطة من ت. (2) البيت في «خزانة الأدب» (3/ 616) بقافية «أن يتحيَّرا». (3) الرجز بلا نسبة في «الموشى» (ص 100)، و «فصل المقال» (ص 68)، و «اللسان» (شجن)، و «مقاييس اللغة» (3/ 249)، و «المخصص» (12/ 223). (4) صدر البيت كما ذكره ابن بري: ذكرتك حيث استأمن الوحش والتقت ... رفاق به والنفس شتَّى شجونُها وهو بلا نسبة في اللسان (شجن)، و «جمهرة اللغة» (ص 478)، و «مقاييس اللغة» (3/ 248)
(الكتاب/58)
ويُجمع على أشجان. قال الشاعر (1): تَحَمَّل أَصْحَابِي ولم يجدوا وجدي ... وللنَّاس أشجانٌ ولي شَجَنٌ وحدي وقد شَجَنَتْنِي الحَاجَةُ، تَشْجُنُنِي، شَجْنًا: إذا حَبَسَتْكَ. ووجهٌ آخر أيضًا، وهو أنَّ الشَّجَن: الحُزْن، والجمع أشجان. وقد شَجِنَ ـ بالكسر ـ فهو شاجنٌ. وأشجنَه غيرُه، وشَجَنَه، أي: أحزنه. والحب فيه الأمران: هذا وهذا. فصل وأما اللاعج: فهو اسم فاعل، من قولهم: لَعَجَه الضربُ: إذا آلَمَه، وأحرقَ جلدَه. قال الهُذَلِيّ (2): ............................ ... ضربًا أليمًا بِسِبْتٍ (3) يَلْعَجُ الجِلِدَا ويُقال: هَوًى لاعجٌ، لِحُرقةِ (4) الفؤاد من الحبِّ. _________ (1) البيت بلا نسبة في «الحماسة» (2/ 115)، وينسب إلى النمر بن تولب ونصيب. (2) هو عبد مناف بن رِبْع الهذلي، كما في «شرح أشعار الهذليين» (2/ 672)، و «نوادر» أبي زيد (ص 30)، و «جمهرة اللغة» (ص 483)، و «اللسان» (لعج، جلد، عجل). والبيت بلا نسبة في «الخصائص» (2/ 333)، و «المنصف» (2/ 308). (3) «بسبت» ساقطة من ت، ش. والمثبت من مصادر التخريج. وصدر البيت: إذا تجرد نوحٌ قامتَا معه (4) ش: «هو اللاعج بحرقة».
(الكتاب/59)
فصل وأمَّا الاكتئاب: فهو افتعالٌ من الكآبةِ، وهي سوء الحال، والانكسار من الحزن، وقد كَئِبَ الرجلُ يَكأبُ، كَأْبةً وكَآبةً (1) كَرَأْفَةٍ وَرَآفة، ونشأةٍ ونَشاءة. فهو كئيب، وامرأةٌ كئيبةٌ، وكأْباءُ أيضًا. قال الراجز (2): أوْ أنْ تُرَىْ كأْبَاءَ لَمْ تَبْرَ نْشِقي واكتأبَ الرجلُ مثله. ورمادٌ مكتئبُ اللون: إذا ضربَ إلى السواد، كما يكون [15 أ] وجهُ الكئيب. والكآبة تتولَّدُ من حصول الحبِّ وفوتِ المحبوب، فتحدُثُ بينهما حالةٌ سيِّئَة تُسمَّى الكآبة. فصل وأمَّا الوَصَبُ: فهو ألمُ الحُبِّ ومرضُه، فإنَّ أصلَ الوَصَب: المرض، وَقَد وَصِبَ الرَّجلُ يَوْصَبُ فهو وَصِبٌ، وَأَوْصَبه اللهُ فهو مُوْصَبٌ (3)، وَالمُوَصَّبُ ــ بالتشديد ــ: الكثير الأوجاع. _________ (1) «وكآبة» ساقطة من ش. (2) في هامش ت: «أوله: عزَّ على عمك أن تُؤوَّقي». والرجز لجندل بن المثنى الطهوي في «اللسان» (كأب، أهق، برشق)، و «التنبيه والإيضاح» (1/ 131)، و «ديوان الأدب» (4/ 229). وبلا نسبة في «جمهرة اللغة» (ص 245، 980، 1217)، و «تهذيب اللغة» (9/ 376)، و «الصحاح» (1/ 207)، و «مقاييس اللغة» (1/ 157)، و «المخصص» (5/ 24). (3) ش: «وصب» تحريف.
(الكتاب/60)
وفي الحديث الصحيح (1): «لا يُصِيبُ المؤْمِنَ مِنْ هَمٍّ وَلا وَصَبٍ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ». ووصَب الشيءُ يَصِبُ وُصُوبًا: إذا دامَ، تقول: وَصَب الرجلُ على الأمر: إذا داومَ عليه. قال الله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات/9]. وقال تعالى: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل/52] أي: الطاعة دائمةً. فصل وأمَّا الحُزْن: فقد عُدَّ (2) من أسماء المحبَّة، والصَّواب أنَّه ليس من أسمائها، وإنَّما هو حالة تحدُثُ للمحبِّ، وهي ورود المكروه عليه، وهو خلاف المسرَّة. ولما كان الحُبُّ لا يخلو من ورود ما لا يَسُرُّ على قلب المحبِّ كان الحزن من لوازمه. وفي الحديث الصحيح (3): أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يقول: «اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَن، وَالعَجْزِ والْكَسَل، وَالجُبْنِ وَالبُخْل، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجال». فاستعاذَ - صلى الله عليه وسلم -من ثمانية أشياء، كل شيئين منها قرينان. فالهمُّ والحزن قرينان، فإن ورود المكروه على القلب إن كان لما مضى فهو الحزن، وإن كان لما يُستقبل فهو الهمُّ. والعجز والكسل قرينان، فإنَّ تخلُّفَ _________ (1) أخرجه البخاري (5641)، ومسلم (2573) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. (2) «عدّ» ساقطة من ش. (3) أخرجه البخاري (6369)، ومسلم (2706) من حديث أنس بن مالك.
(الكتاب/61)
العبد عن كماله إن كان من عدم القدرة فهو العجز، وإن كان من عدم الإرادة فهو الكسل. والجبنُ والبخل قرينان، فإنَّ الرجل يُراد منه النفعُ بماله أو ببدنه، فالجبَان لا يَنفعُ ببدنه، والبخيلُ لا يَنفعُ بماله. وضَلَعُ الدَّين وَغَلَبة الرجال قرينان، فإنَّ قهرَ الناس نوعان: نوعٌ بحقٍّ، فهو ضَلَع الدَّين، ونوعٌ بباطلٍ، فهو غَلَبَةُ الرِّجال. وقد نفى الله سبحانه [15 ب] عن أهل الجنَّة الخوفَ والحزنَ، فلا يحزنون على ما مضى، ولا يخافون ممَّا يأتي، ولا يطيبُ العيش إلا بذلك، والحبُّ يلزمه الخوف والحزن. فصل وأمَّا الكَمَدُ: فمن أحكام المحبَّة في الحقيقة، وليس من أسمائها، ولكن المتكلمون في هذا الباب لا يُفرّقون بين اسم الشيء ولازمه وحكمه. والكَمَد: الحزن المكتوم، تقول منه: كَمِدَ الرجل، فهو كَمِدٌ وكَمِيدٌ، والكُمْدَةُ: تَغَيُّرُ اللون، وأَكْمَدَ القصَّارُ الثوبَ: إذا لم يُنَقِّه. فصل وأمَّا اللَّذْع: فهو من أحكام المحبَّة أيضًا، وأصلُه من لَذْع النار. يقال: لَذَعَتْهُ النَّارُ لَذْعًا: أحرقته، ثم شبَّهوا لَذْع اللِّسان بِلَذْع النار، فقالوا: لَذَعَهُ بلسانه، أي: أحرقَه بكلامه، يُقال: أعوذ بالله من لَوَاذِعِهِ.
(الكتاب/62)
فصل وأمَّا الْحُرَق: فهي أيضًا من عوارض الحُبِّ وآثاره، والحُرقة تكون من الحُبِّ تارةً، ومنه قولهم: ما لك حُرْقةٌ على هذا الأمر، وتكون من الغيظ. ومنه في الحديث: «تَرَكْتُهُمْ يَتَحَرَّقُون عَلَيْكُمْ» (1). فصل وأما السُّهْدُ: فهو أيضًا من آثار المحبَّة ولوازمها، فالسُّهادُ: الأرَقُ. وقد سَهِدَ الرجل ـ بالكسر ـ يَسْهَد سَهَدًا، والسُّهُدُ ـ بضم السين والهاء ـ: القليل النوم. قال أبو كبير الهُذَلي (2): فأَتتْ به حُوشَ الْجَنَانِ مُبَطَّنًا ... سُهُدًا إذا ما نامَ لَيْلُ الهَوْجَل وَسَهَّدْتُه أنا، فهو مُسَهَّد. فصل وأمَّا الأرَقُ: فهو أيضًا من آثار المحبَّة ولوازمها، فإنَّه السَّهَرُ. وقد أرِقتُ ــ بالكسر ــ أي: سَهِرْتُ، وكذلك ائْتَرَقْتُ على افتعلتُ، فأنا أرِقٌ وأرَّقَنِي كذا تَأْريقًا، أي: أسْهرني. _________ (1) ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (3/ 102). (2) البيت له في «الحماسة» (1/ 74)، و «الشعر والشعراء» (2/ 675)، و «شرح أشعار الهذليين» (3/ 1073)، و «اللسان» (سهد، حوش، هجل)، و «خزانة الأدب» (3/ 466)، و «المعاني الكبير» (1/ 519)، و «جمهرة اللغة» (ص 360).
(الكتاب/63)
فصل وأمَّا اللَّهَفُ: فمن أحكامها وآثارها أيضًا، يقال: لَهِفَ ـ بالكسر ـ يَلْهَفُ لَهَفًا؛ أي: حزن وتحسَّر. وكذلك التَّلهف على الشيء. وقولُهم: يا لَهْفَ فلان! كلمةٌ يُتَحَسَّرُ بها على ما فات، واللَّهْفان: المتحسِّر، واللَّهِيف: المضطر. فصل وأمَّا الحنين: فقال في الصحاح (1): الحَنين: الشوقُ وتَوَقَانُ النَّفس. تقول منه: حَنَّ إِلَيْهِ يَحِنُّ حَنينًا، فهو حانٌّ. والحَنَانُ: الرحمة. تقول منه: حَنَّ عليه [16 أ] يَحِنُّ حَنَانًا، ومنه قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم/13]. وتحنَّنَ عليه: تَرَحَّمَ. والعرب تقول: حَنَانَك يَا رَبّ! وحَنَانَيْك، بمعنى واحدٍ، أي: رَحْمَتكَ. قال امْرُؤُ القَيْس (2): ويَمْنَحُها بنو شَمَجى بن جَرْمٍ ... مَعِيزَهُمُ حَنَانَكَ ذا الحَنَان وقال طَرَفَةُ (3): أبا مُنْذِرٍ أَفْنيتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنا ... حَنَانَيكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهونُ مِنْ بَعْض _________ (1) (5/ 2104). و «في الصحاح» ساقطة من ش. (2) «ديوانه» (ص 143)، و «اللسان» (حنن). (3) «ديوانه» (ص 172).
(الكتاب/64)
وفي الحقيقة: الحَنين من آثار الحُب ومُوجباته. وحنينُ الناقة: صوتها في نِزَاعِها إلى ولدها، وحَنَّةُ الرجل: امرأتُهُ. قال (1): وليلةٍ ذاتِ دُجًى سَرَيْتُ ولم تَضِرْني حَنَّةٌ وَبَيْتُ قلت: سُمِّيَت حنَّةً لأن الرجلَ يَحِنُّ إليها أينَ كان. فصل وأمَّا الاستكانة: فهي أيضًا من لوازم الحُبِّ وأحكامه، لا من أسمائه المختصة به، وأصلها: الخضوع. قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون/76]، وقال تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران/146]. _________ (1) الرجز لأبي محمد الفقعسي في «اللسان» (جمم، حنن). ولرؤبة في «إصلاح المنطق» (ص 136)، و «المحتسب» (2/ 290)، و «المخصص» (14/ 20) وليس في ديوانه. وقيل: إنه للعجاج، انظر: «سمط اللآلي» (1/ 201). وهو بلا نسبة في «أمالي» القالي (1/ 52، 2/ 244)، و «الفصوص» لصاعد (1/ 219)، و «مجالس العلماء» (ص 184)، و «سرّ صناعة الإعراب» (2/ 636)، و «تهذيب اللغة» (14/ 320)، و «مقاييس اللغة» (5/ 233)، و «اللسان» (ليت).
(الكتاب/65)
وأصلُها: استفعلَ، من الكون (1)، وهذا الاشتقاق والتصريفُ يُطابق اللفظ (2)، وأما المعنى فالمستكينُ ساكنٌ خاشعٌ، ضدُّ الطائش، ولكن لا يُوافق السكون تصريف اللفظة، فإنه إن كان افْتَعَلَ كان ينبغي أن يُقال اسْتكَنَ؛ لأنه ليس في كلامهم افْتعَالَ، والحقُّ أنه اسْتَفْعَلَ من الكون، فنقلوا حركة الواو إلى الكاف قبلها، فتحرَّكت الواو أصلًا، وانفتح ما قبلها تقديرًا، فقُلبت ألِفًا، كاستقام. والسكون: الحالة التي فيها إنابةٌ وذلٌّ وخضوع. وهذا يُحْمَد إذا كان لله، ويُذَمُّ إذا كان لغيره، ومنه الحديث: «أعُوذُ بِكَ مِنَ الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْن» (3) أي: الرجوع عن الاستقامة بعد ما كنتُ عليها. فصل وأمَّا التَّبالةُ: فهي فعالة من تَبَلَه إذا أفناه. قال [16 ب] الجوهريُّ (4): تَبَلَهم الدهرُ وأتبلَهم: إذا أفناهُم، قال الأعشى (5): أأن (6) رأتْ رَجُلًا أعْشَى أضرَّ به ... رَيْبُ الزَّمانِ ودهْرٌ مُتْبِلٌ خَبِلُ _________ (1) ت: «السكون» وهو خطأ. (2) ت: «مطابق للفظ». (3) أخرجه مسلم (1343) من حديث عبد الله بن سرجس. (4) «الصحاح» (4/ 1643). (5) «ديوانه» (ص 55). (6) ت: «لئن»، ش: «لأن». والمثبت من الديوان.
(الكتاب/66)
أي: مُذهِبٌ بالأهل والولد. وتَبَلَه الحبُّ وأَتْبَلَهُ أي: أسقمَه وأفسدَه. قلت: ومنه قول كعب بن زهير بن أبي سُلْمى (1): بانت سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ ... متيَّمٌ عِنْدَها لم يُفْدَ مَكْبُولُ فصل وأمَّا اللَّوْعة: فقال في الصحاح (2): لَوْعة الحُبِّ: حُرْقته. وقد لاعَهُ الحُبُّ يَلُوعه، والْتَاعَ فُؤادُه أي: احترقَ (3) من الشوق، ومنه قولهم: أتَانٌ لاعَةُ الفُؤَادِ إلى جَحْشِهَا. قال الأصمعي: أي لائعةُ الفؤادِ، وهي التي كأنَّها وَلْهَى من الفَزَع. فصل وأمَّا الفُتون: فهو مصدرُ فتَنَهُ يَفْتِنُهُ فُتُونًا، قال الله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه/40] أي: امتحنَّاك واختبرناكَ. _________ (1) «بن أبي سلمى» ساقطة من ت. والبيت مطلع قصيدته المشهورة في «ديوانه» (ص 6). (2) (3/ 1281، 1282). (3) ش: «أحرق».
(الكتاب/67)
والفِتْنَةُ يُقال عَلَى ثلاثة (1) معانٍ: أحدُها: الامتحان والاختبار، ومنه قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف/155] أي: امتحانُكَ واختبارُكَ (2). والثاني: الافتتان نفسه، يُقال: هذه فِتْنَة فلان، أي افْتِتَانُه، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال/25] يقال: أصابته الفِتْنَةُ، وَفَتَنَتْهُ الدُّنيا، وَفَتَنَتْهُ المرأةُ، وأَفْتَنَتْهُ. قال الأعشى (3): لئن فَتَنَتْني لَهْيَ (4) بالأمس أَفْتَنَتْ ... سَعيدًا فأضحَى قد قَلى كلَّ مُسْلِم وأنكرَ الأصمعيُّ أفتنتْه. والثالث: المفتون به نفسُه يُسَمَّى (5) فتنة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن/15]. _________ (1) ت: «ثلاث». (2) ش: «امتحناك واختبرناك». (3) هو أعشى همدان كما في «اللسان» (فتن)، و «المخصص» (4/ 62). والبيت لابن قيس الرقيات في «الخصائص» (3/ 315) وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في «جمهرة اللغة» (ص 406)، و «تهذيب اللغة» (14/ 289)، و «مقاييس اللغة» (4/ 473)، و «ديوان الأدب» (2/ 334). (4) ت: «إنّ». (5) ت: «سمي».
(الكتاب/68)
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام/23] أي: لم يكن عاقبةُ شركهم إلا أن تبرَّأوا منه وأنكروه. وأما قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات/13 ــ 14]. فقيل: المعنى يُحرَقون، ومنه: فتَنْتُ الذَّهبَ: إذا أدخلتَهُ النَّارَ لتنظرَ ما جَوْدَته، [17 أ] ودينارٌ مفتون. قال الخليل (1): والفَتْنُ: الإحراق، قال الله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات/13]. وورِقٌ فَتِينٌ، أي: فضةٌ مُحْرَقَة. وَافْتَتَنَ الرجل وفُتِنَ: إذا أصابته فتنةٌ فذهبَ مالُه وعقلُه. وفَتَنَتْهُ المرأة: إذا دَلَّهَتْه. وقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات/161 ــ 163] أي: لا تَفتِنُون على عبادته إلا مَنْ سبقَ في علم الله أنه يَصْلَى الجحيم (2)، فذلك الذي يفتتنُ بفتنتكم إياه. وأما قوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم/5 ــ 6] فقيل: الباء زائدة. وقيل: المفتون مصدر، كالمعقول والميْسور (3) والمحلوف والمعسور. والصواب: أنَّ يُبْصِرُ مُضَمَّنٌ معنى يَشْعُرُ ويعلم، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ _________ (1) انظر كتاب «العين» (8/ 127). (2) «أي ... الجحيم» ساقطة من ش. (3) ش: «المنشور».
(الكتاب/69)
بِقَادِرٍ} [الأحقاف/33]، فعدَّى فعل الرؤية بالباء، وفي الحديث: «المُؤْمِنُ أخُو المُؤْمِنِ يَسَعُهُما المَاءُ والشَّجَرُ، ويَتَعاوَنَانِ على الْفتَّانِ» (1). يُروى بفتح الفاء وهو واحدٌ، وبضَمها وهو جمع فاتنٍ، كتاجرٍ وتُجَّار. والمقصود: أنَّ الحُبَّ موضعُ الفتون، فما فُتِن مَنْ فُتِنَ إلا بالمحبَّة. فصل وأمَّا الجنون: فمن الحُبِّ ما يكونُ جنونًا، ومنه قوله (2): قالتْ جُنِنْتَ بمن تهوَى فقلتُ لها ... العشقُ أعظمُ ممَّا بالمجانين العشقُ لا يَستفيقُ الدهرَ صَاحبُه ... وإنما يُصْرَعُ المجنونُ في الحين وأصل المادة من السَّتر في جميع تصاريفها، ومنه: أجنَّه اللَّيلُ، وجَنَّ عليه: إذا سترَه، ومنه الجَنِينَ؛ لاستتاره في بطن أُمِّه، ومنه الجَنَّة؛ لاستتارها بالأشجار، ومنه المِجَنُّ؛ لاستتار الضارب به والمضروب، ومنه الجِنُّ؛ لاستتارهم عن العيون، بخلاف الإنس، فإنَّهم يُؤْنَسُون؛ أي: يُرَون، ومنه الجُنَّة بالضم، وهي ما استترتَ به واتّقيتَ، ومنه قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة/16] وأجننتُ الميّتَ: [17 ب] واريتُه في _________ (1) أخرجه أبو داود (3070)، والترمذي (2814) من حديث قيلة بنت مخرمة. وفي إسناده عبد الله بن حسان العنبري، قال الحافظ في «التقريب»: مقبول. (2) البيتان لمجنون ليلى في «ديوانه» (ص 281)، و «الأغاني» (2/ 36)، و «مصارع العشاق» (1/ 126، 2/ 181)، و «المستطرف» (3/ 32)، و «تزيين الأسواق» (1/ 164).
(الكتاب/70)
القبر، فهو جَنِين. والحُبُّ المفرط يَسترُ العقلَ، فلا يَعْقِلُ المحبُّ ما ينفعه ويضرُّه، فهو شعبةٌ من الجنون. فصل وأمَّا اللَّمم: فهو طَرَفٌ من الجنون، ورجل ملمومٌ، أي به لَمَمٌ، ويقال أيضًا: أصابت فلانًا من الجِنِّ لَمَّةٌ، وهو المَسُّ، والشيء القليل، قاله الجوهري (1). قلت: وأصلُ اللفظة من المقاربة، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم/32] وهي الصغائر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رَأَيتُ أَشبهَ باللّمم مما قال أبو هريرة: «إنَّ العينَ تزني، وزناها النظرُ، واليدَ تزني، وزناها البطشُ، والرِّجْل تزني، وزناها المشي، والفم يزني، وزِناه القُبَل» (2). ومنه: ألمَّ بكذا، أي: قاربَه ودنا منه، وغلامٌ مُلِمٌّ، إذا قاربَ البلوغ، وفي الحديث: «إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ» (3) أي: يقرب من ذلك. _________ (1) «الصحاح» (5/ 2032). (2) أخرجه مسلم (2657). (3) أخرجه البخاري (6427)، ومسلم (1052) من حديث أبي سعيد الخدري.
(الكتاب/71)
وبالجملة فلا يستبين كونُ (1) اللَّمَم من أسماءِ الحبِّ وإن كان قد ذكره جماعة، إلا أن يُقال: إنَّ المحبوبَ قد ألمَّ بقلب المُحبِّ؛ أي نزلَ به، ومنه: ألمِمْ بنا، أي: انزل بنا، ومنه قوله (2): متى تأْتِنا تُلْمِمْ بنا في دِيارنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا ونارًا تأجَّجا فصل وأمَّا الخَبْلُ: فمن مُوجبات العشق وآثاره، لا من أسمائه، وإن ذُكر من أسمائه (3) فإنَّ أصلَه الفساد، وجمعُه خُبُول. والخَبَل ــ بالتحريك ــ: الجنون، يقال: به خَبَلٌ، أي: شيء من أهل الأرض، وقد خَبَله وخَبَّلَه (4) واخْتَبَلَه: إذا أفسدَ عقلَه أو عضوه، ورجلٌ مُخَبَّلٌ، وهو نوع من الجنون والفساد. فصل وأمَّا الرَّسِيسُ فقد كثُر في كلامهم: رَسِيسُ الهوى والشوق، ورَسيسُ الحبّ، فظنّ من أدخلَه في أسماء الحبِّ أنَّه منها، وليس كذلك، بل _________ (1) ت: «أن يكون». (2) البيت لعبيد الله بن الحرّ في شعره المجموع (ص 98) و «شرح أبيات سيبويه» (2/ 66)، و «سرّ صناعة الإعراب» (ص 675)، و «شرح المفصل» (7/ 53)، و «خزانة الأدب» (3/ 660). وبلا نسبة في «اللسان» (نور). (3) «وإن ذكر من أسمائه» ساقطة من ش. (4) ش: «تخبله».
(الكتاب/72)
الرَّسِيسُ: الشيء الثابت، فرَسِيسُ الحبِّ: ثباتُه ودوامُه. ويمكن أن يكونَ من رَسِّ الحُمّى ورَسِيسها، وهو أوَّل مسِّها، فشبَّهوا رَسِيسَ الحبِّ بحرارته وحُرْقته برسيسِ الحُمَّى. [18 أ] وكان الواجب عَلَى هؤلاء أن يجعلوا الأُوارَ من أسماء الحبِّ؛ لأنه يُضاف إليه، قال (1): إذا وجدتُ أُوارَ الحبِّ في كَبِدي ... أقبلتُ نحوَ سِقَاءِ القوْمِ أَبتَرِدُ هَبْني بَرَدتُ ببَرْدِ المَاء ظاهِرَهُ ... فمَنْ لِنَارٍ عَلَى الأَحْشاءِ تتَّقدُ وقد وقع إضافة الرَّسِيسِ إلى الهوى في شعر ذي الرُّمَّة (2)، حيث يقول: إذا غيَّرَ النَّأْيُ المُحبِّين لم يَكَدْ ... رَسِيسُ الهَوى من حُبِّ مَيَّة يبرَحُ وفيه إشكالٌ نحْويٌّ (3)، ليس هذا موضعَه. _________ (1) البيتان لعروة بن أذينة في «ديوانه» (ص 316)، و «الشعر والشعراء» (2/ 580)، و «المعارف» (ص 493)، و «أمالي» المرتضى (1/ 413)، و «مصارع العشاق» (2/ 130)، و «سمط اللآلي» (1/ 136). وللراهب المكي في «أساس البلاغة» (برد). وبلا نسبة في «أمالي» القالي (1/ 31)، و «اللسان» (برد). (2) «ديوانه» (ص 1192)، و «اللسان» (رسس)، و «المقاصد النحوية» (3/ 378)، و «خزانة الأدب» (4/ 74)، و «مصارع العشاق» (1/ 31). (3) انظر: «الخزانة» (4/ 74)، و «دلائل الاعجاز» (ص 274، 275).
(الكتاب/73)
فصل وأمَّا الدَّاء المُخَامِرُ: فهو من أوصافه، وسُمِّي مُخَامِرًا لمخالطته لِلْقَلْبِ (1) والرُّوح، يُقال: خامرَه. قال الجوهري (2): والمُخَامَرة: المخالطة. وخامرَ الرجلُ المكانَ: إذا لزمه. وقد يكون أُخِذَ من قولهم: استخمرَ فلانٌ فلانًا: إذا استعبدَه، وكأنَّ العشقَ داءٌ مستعبدٌ للعاشق، ومنه حديث مُعاذ: «مَنِ اسْتَخْمَرَ قَوْمًا» (3) أي: أخذهم قهرًا وتملَّكَ عليهم. فالحبُّ داءٌ مخالِطٌ مُسْتَعْبِد. فصل وأمَّا الودُّ: فهو خالصُ الحبّ وألْطَفُه وأرَقُّه، وهو من الحبِّ بمنزلة الرأْفة من الرحمة، قال الجوهري (4): وَدِدْتُ الرجلَ أوَدُّه وُدًّا: إذا أحببتَه. والوِدُّ، والوَدُّ والوُدُّ: المودَّة. تقول: بودّي أن يكونَ كذا. وأما قول الشاعر (5): أيُّها العائدُ المُسَائِلُ عنَّا ... وبِوِدِّيكَ أنْ تَرى أكفاني _________ (1) ت: «القلب». (2) «الصحاح» (2/ 650). (3) ذكره أبو عبيد في «غريب الحديث» (4/ 138). (4) «الصحاح» (2/ 549). (5) البيت بلا نسبة في «اللسان» (ودد).
(الكتاب/74)
فإنما أشبع كسرةَ الدال ليستقيمَ له البيت، فصارت ياءً. والوِدُّ الوديد بمعنى المودود، والجمع: أوُدٌّ، مثل: قِدْحٍ وأَقْدُح، وذئبٍ وأذْؤُب، وهما يتوادَّان، وهم أوِدَّاء. والوَدُود: المحبُّ، ورجالٌ وُدَدَاء يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ لكونه وصفًا داخلًا على وصفٍ للمبالغة. قلت: الوَدُود من صفات الله سبحانه وتعالى، أصله من المَوَدَّة، واختُلِفَ فيه على قولين: فقيل: هو وَدودٌ بمعنى وادٍّ، كضَرُوبٍ بمعنى ضارب، وقَتُولٍ بمعنى [18 ب] قاتلٍ، ونؤُومٍ بمعنى نائم، ويشهدُ لهذا القول: أنَّ فَعُولًا في صفات الله (1) سبحانه بمعنى فاعلٍ، كغفور بمعنى غافر، وشكورٍ بمعنى شاكر، وصبورٍ بمعنى صابر. وقيل: بل هو بمعنى مَوْدُود وهو الحبيبُ، وبذلك فسَّره البخاري في صحيحه (2)، فقال: الوَدود: الحبيبُ. والأوَّل أظهرُ؛ لاقترانه بالغفور في قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج/14]، وبالرحيم في قوله: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود/90]، وفيه سرٌّ لطيف، _________ (1) ت: «صفاته». (2) انظر: «الصحيح مع الفتح» (8/ 698) في تفسير سورة البروج.
(الكتاب/75)
وهو: أنَّه يحبُّ عبدَه بعد المغفرة، فيغفرُ له ويحبُّه، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة/222]، فالتائب حبيبُ الله. فالودُّ: أصفى الحبِّ وألطفُه. فصل وأمَّا الخُلَّة: فتوحيدُ المحبَّة، فالخليل هو الذي يُوَحِّدُ حبَّه لمحبوبه، وهي مرتبةٌ (1) لا تقبلُ المشاركة، ولهذا اختصَّ بها في العالم الخليلان إبراهيم ومحمدٌ صلوات الله وسلامه عليهما، كما قال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء/125]، وصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال: «إنَّ الله اتَّخَذني خَلِيلًا كمَا اتخَذَ إبْرَاهيمَ خَلِيلًا» (2). وفي الصحيح (3) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الأرْض خَلِيلاً لاتَّخَذتُ أبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمنِ». وفي الصحيح أيضًا (4): «إنِّي أَبْرَأُ إلى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ». ولمَّا كانت الخُلَّة مرتبةً لا تقبل المشاركة؛ امتحنَ الله سبحانه إبراهيمَ الخليل بذبح ولده لمَّا أخذَ شعبةً من قلبه، فأرادَ سبحانه أن يُخْلِصَ تلك الشعبة له، ولا تكون لغيره، فامتحنَه بذبح ولده، والمراد _________ (1) ش: «رتبة». (2) أخرجه مسلم (532) من حديث جندب بن عبد الله. (3) أخرجه مسلم (2383) من حديث ابن مسعود. (4) ضمن الحديث السابق برواية أخرى.
(الكتاب/76)
ذَبحُه من قلبه، لا ذَبْحُه بالمُدْيَة، فلمَّا أسلما لأمر الله، وقدَّم محبَّة الله تعالى عَلَى محبة الولد؛ خَلَصَ مقام الخُلَّة، وَفُدِيَ الولدُ بالذِّبْح. وقيل: إنَّما سُمِّيت خُلَّةً لتخلُّل المحبَّة جميعَ أجزاء الرُّوح، قال (1): قد تخلَّلتِ مَسْلَكَ الرُّوح مِنِّي ... وبِذَا سُمِّي الخليلُ خَليلا والخُلَّةُ: الخليلُ، يستوي فيه المذكر والمؤَنث؛ لأنه في الأصل مصدر قولك: [19 أ] خليلٌ بَيِّنُ الخُلَّة والخُلُولة، قال (2): ألا أبْلِغا خُلَّتي جَابِرًا ... بأنَّ خَلِيلَكَ لَمْ يُقْتَل ويُجمع عَلَى خِلال، مثل: قُلَّة وقِلال. والْخِلُّ: الودُّ والصَّديق. والْخِلاَل أيضًا مصدر بمعنى المُخَالَّة (3)، ومنه قوله تعالى: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} [إبراهيم/31]، وقال في الآية الأخرى: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} [البقرة/254]، وقال امرؤ القيس (4): ولستُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قَالِ _________ (1) البيت بلا نسبة في «المنتخل» (2/ 801)، و «ديوان الصبابة» (ص 37). (2) البيت لأوفى بن مطر المازني في «جمهرة اللغة» (ص 107)، و «اللسان» (خطأ، خلل). وبلا نسبة في «تهذيب اللغة» (6/ 568)، و «ديوان الأدب» (3/ 27). (3) ت: «المخاللة». (4) «ديوانه» (ص 35). وصدره: صرفتُ الهوى عنهن من خشية الردى
(الكتاب/77)
والخليل: الصَّديق، والأنثى خليلة. والخِلالة والخَلالة والخُلالة بكسر الخاء وفتحها وضمِّها: الصَّداقةُ والمودَّة. قال (1): وكيف تُوَاصِلُ مَنْ أصبحتْ ... خِلاَلَتُهُ كأبي مَرْحَب وقد ظنَّ بعضُ مَنْ لا علمَ عنده: أنَّ الحبيبَ أفضلُ من الخليل، وقال: محمَّدٌ حبيبُ الله، وإبراهيمُ خليلُ الله. وهذا باطلٌ من وجوهٍ كثيرة: منها: أنَّ الخُلة خاصةٌ، والمحبَّة عامَّة، فإنَّ الله يحبُّ التَّوابين، ويحبُّ المتطهِّرين، وقال في عباده المؤمنين: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة/54]. ومنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نفى أن يكونَ له من أهل الأرض خليل، وأخبرَ أنَّ أحبَّ النِّساء إليه عائشة، ومن الرجال أبوها (2). ومنها: أنه قال: «إنَّ الله اتَّخَذَني خلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إبرَاهيمَ _________ (1) البيت للنابغة الجعدي في «ديوانه» (ص 26)، و «كتاب» سيبويه (1/ 215)، و «نوادر» أبي زيد (ص 189)، و «أمالي» القالي (1/ 192)، و «سمط اللآلي» (1/ 465)، و «اللسان» (رحب، خلل). وبلا نسبة في «إصلاح المنطق» (ص 112) و «مجالس ثعلب» (ص 77)، و «أمالي المرتضى» (1/ 202)، و «اللسان» (شرب، برر). و «أبو مرحب» كنية الظل، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: مواعيد عرقوب. (2) أخرجه البخاري (3662)، ومسلم (2384) من حديث عمرو بن العاص.
(الكتاب/78)
خَليلًا» (1). ومنها: أنَّه قال: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أهْلِ الأَرْضِ خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ» (2). فصل وأمَّا الخِلْمُ: فهو مأْخوذ من المُخَالَمَة، وهي المصادقة والمودَّة. والخِلْمُ: الصديق، والأخلام: الأصحاب. قال الكُمَيْت (3): إذا ابتسرَ الحربَ أَخْلامُهَا ... كِشافًا وهُيِّجتِ الأفْحُلُ فصل وأمَّا الغرام: فهو الحبُّ اللازم، يُقال: رجلٌ مُغرمٌ بالحبِّ؛ أي: قد لزمه الحبُّ. وأصلُ المادة من اللزوم، ومنه قولهم: رجلٌ مُغْرَمٌ، من الغُرْم أو الدَّيْنِ. قال في الصحاح (4): والغَرَام: [19 ب] الوَلوع، وقد أُغْرِمَ بالشيء، أي: أُولِعَ به، والغريمُ: الذي عليه الدَّيْن، يُقال: خذ من غريم _________ (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه البخاري (3654، 3657)، ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد الخدري. (3) «ديوانه» (2/ 23)، و «المعاني الكبير» (ص 965)، و «تهذيب اللغة» (6/ 344)، و «اللسان» (هيج، خلم). (4) (5/ 1996).
(الكتاب/79)
السَّوء ما سَنَح. ويكون الغريمُ أيضًا: الذي له الدَّين، قال كُثَيِّر (1): قضَى كلُّ ذي دَيْنٍ فَوَفَّى غَرِيمَه ... وَعَزَّةُ مَمْطولٌ مُعَنًّى غريمُهَا ومن المادة قوله تعالى في جهنم: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان/65]. والغرام: الشرُّ الدائم اللازم، والعذاب. قال بِشْر (2): ويومُ النِّسَارِ ويومُ الجِفا ... ركانا عَذابًا وكانا غَراما وقال الأعشى (3): إنْ يُعاقِبْ يَكنْ غرامًا وإنْ يُعْـ ... ــطِ جزيلًا فإنَّه لا يُبالي وقال أبو عبيدة (4): {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} كان هلاكًا ولزَامًا لهم. _________ (1) «ديوانه» (ص 143) و «العقد الفريد» (6/ 141)، و «زهر الآداب» (1/ 246)، و «حماسة ابن الشجري» (ص 154)، و «المقاصد النحوية» (3/ 3)، و «الخزانة» (2/ 382)، و «شرح المفصل» (1/ 8)، و «شرح شواهد الشافية» (ص 421). (2) ابن أبي خازم في «ديوانه» (ص 190)، و «مختارات ابن الشجري» (ص 274)، و «معجم البلدان» (2/ 144 الجفار)، و «معجم ما استعجم (ص 385 الجفار). والبيت للطرماح في ملحق «ديوانه» (ص 584) نقلًا عن «اللسان» (غرم) وهو وهم. والبيت بلا نسبة في «اللسان» (جفر)، و «جمهرة اللغة» (ص 462). (3) في «ديوانه» (ص 59)، و «اللسان» (غرم)، و «مقاييس اللغة» (4/ 419). والبيت بلا نسبة في «تهذيب اللغة» (8/ 131)، و «المخصص» (4/ 62، 12/ 98). (4) في «مجاز القرآن» (2/ 80).
(الكتاب/80)
وللُطْفِ المحبَّة عندهم واستعذابهم لها لم يكادوا يُطلِقون عليها لفظَ الغرام، وإن لهِجَ به المتأخرون. فصل وأما الهُيام: فقال في الصِّحاح (1): هام عَلَى وجهه، يَهِيمُ هيمانًا (2) وهَيْمًا: ذهبَ من العِشْق أو غيره. وقلبٌ مُستهام أي: هائم. والهُيام بالضم: أشدُّ العطش. والهُيَامُ كالجنون من العشق. والهُيام: داء يأخذ الإبلَ فَتَهيمُ في الأرض لا تَرعى، يقال: ناقة هَيْمَاء. قال: والهِيام بالكسر: الإبل العِطَاش، الواحد: هَيْمَانُ، وناقةٌ هَيْمَى، مثل: عطشان وعطشى، وقومٌ هِيمٌ أي: عطاش، وقد هامُوا هُيامًا. وقوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة/55] هي الإبل العِطَاش. قلت: جمع أَهْيَمَ هِيمٌ، مثل أحمر وحُمْر، وهو جمع فَعلاء أيضًا كصفراء وصُفْر. فصل وأمَّا التَّدْليهُ ففي الصِّحاح (3): التّدْلِيهُ: ذهاب العقل من الهوى. _________ (1) (5/ 2063). (2) ش: «هياما». (3) (6/ 2231).
(الكتاب/81)
يُقال: دَلَّهَهُ الحبُّ، أي: حَيَّره وأدهشَه. ودَلِهَ هو يَدْلَهُ. قال أبو زيد: الدَّلُوهُ: الناقة لا تكاد تجيء إلى إلْفٍ ولا ولد. وقد دَلَهَتْ عن إِلْفها وعن ولدها تَدْلَهُ دُلوهًا. فصل وأمَّا الوَلَهُ [20 أ] فقال في الصِّحاح (1): الوَلَهُ: ذهابُ العقل، والتحيُّرُ من شدَّة الوَجْد. ورجلٌ وَالِهٌ، وامرأةٌ والِهٌ ووَالِهَةٌ. قال الأعشى (2): فأَقْبَلَتْ والهًا ثَكْلَى على عَجَلٍ ... كُلٌّ دَهاها وكُلٌّ عِنْدَها اجْتَمَعا وقد وَلِهَ يَوْلَهُ وَلَهًا وَوَلهانًا، وتَوَلَّهَ واتَّلَهَ، وهو افتعلَ، أُدْغِم. قال الشاعر (3): وَاتَّلَهَ الغَيُورُ والتَّوْلِيهُ: أن يُفَرَّق بين الأم وولدها. وفي الحديث: «لا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ _________ (1) (6/ 2256). (2) «ديوانه» (ص 155)، و «تهذيب اللغة» (6/ 421)، و «اللسان» (وله)، و «مقاييس اللغة» (6/ 140). (3) تمام البيت: إذا ما حالَ دونَ كلام سعدى ... تنائي الدارِ واتَّلَهَ الغيورُ وهو لمليح الهذلي في «اللسان» (وله). وفي «شرح» أشعار الهذليين» (3/ 1011) برواية «والحَنِقُ الغيورُ». ولا شاهد فيها
(الكتاب/82)
بِوَلَدِهَا» (1)، أي: لا تُجْعَل والهًا، وذلك في السَّبايا. وناقةٌ والِهٌ: إذا اشتدّ وَجْدُهَا عَلَى ولدها. والمِيلَاهُ: التي من عادتها أن يشتدَّ وَجْدُهَا على ولدها، صارت الواو ياءً لكسرة ما قبلها. وماءٌ مُولَهٌ ومُوَلَّهٌ: أرسل في الصحراء، فذهب، وقول رُؤْبة (2): به تَمَطَّتْ غَوْلَ كلّ مِيلَهِ بنا حَرَاجيجُ المَهَارِي النُّفَّهِ أرادَ البلاد التي تُوَلِّهُ الإنسان، أي: تُحيِّره. فصل وأمَّا التعبُّد: فهو غاية الحبِّ بغاية (3) الذلِّ، يقال: عبَّده الحبُّ أي: ذلَّله. وطريقٌ معبّدٌ بالأقدام؛ أي: مُذَلَّلٌ، وكذلك المحبُّ قد ذلَّله الحبُّ ووطَّأَه، ولا تصلُحُ هذه المرتبة لأحد غير الله عزَّ وجلَّ ولا يَغفِرُ الله سبحانه لمن أشركَ في عبادته، ويغفرُ ما دون ذلك لمن شاء. _________ (1) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 5) من حديث أبي بكر بسندٍ ضعيف. وانظر: تخريجه من طرق أخرى في «التلخيص الحبير» (3/ 15). (2) «ديوانه» (ص 167)، و «تهذيب اللغة» (14/ 43)، و «اللسان» (مهر، نفه، وله، مطا)، وبلا نسبة في «اللسان» (غول، تله)، و «تهذيب اللغة» (6/ 324). (3) ش: «وغاية».
(الكتاب/83)
فمحبَّة العبودية هي (1) أشرفُ أنواع المحبَّة، وهي خالصُ حقِّ الله عَلَى عباده، وفي الصحيح (2) عن مُعاذ أنه قال: كنتُ سائرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معاذ!» فقلت: لَبَّيْكَ يا رسولَ اللهِ وسَعْديْكَ! قال: ثمَّ سارَ ساعةً، ثم قال: «يا معاذ!» قلت: لَبَّيْكَ رسولَ الله وسعديك! ثم سارَ ساعةً فقال: «يا معاذ!»، قلت: لبيكَ رسولَ الله وسعديك! قال: «أتدري ما حَقُّ الله على عباده؟» قلت: اللهُ ورسولُه أعلم، قال: «حقُّه عليهم أن يعبدوه لا يُشركوا به شيئًا. أتدري ما حقُّ العباد عَلَى الله إذا فعلوا ذلك؟ ألا يُعذِّبهم بالنار». وقد ذكرَ الله سبحانه رسولَه بالعبودية في أشرف مقاماته، وهي مقام التحدِّي، [20 ب] ومقام الإسراء، ومقام الدعوة، فقال في التحدِّي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة/23]، وقال في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء/1]، وقال في مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن/19]. وإذا تدافع أولو العزم (3) الشفاعةَ الكبرى يوم القيامة يقول المسيحُ لهم: «اذهبوا إلى محمدٍ، عبدٍ غفرَ الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر» (4)، _________ (1) ت: «من». (2) أخرجه البخاري (6267، 6500)، ومسلم (30). (3) «أولو العزم» ساقطة من ش. (4) قطعة من حديث الشفاعة، أخرجه البخاري (7410)، ومسلم (193) من حديث أنس.
(الكتاب/84)
فنالَ ذلك المقام بكمال العبودية (1) لله، وكمال مغفرة الله له. فأشرفُ صفاتِ العبد صفة العبودية، وأحبُّ أسمائه إلى الله اسم العبودية، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أحبُّ الأسماء إلى الله عَبْدُ الله وَعَبْدُ الرَّحْمنِ، وأَصدقُها حارثٌ وهَمَّام، وأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّة» (2). وإنَّما كان حارث وهمَّام أصدقَها لأنَّ كلَّ أحدٍ لابدَّ له من همٍّ وإرادةٍ وعزمٍ، ينشأ عنه حرثُه وفعلُه، وكلُّ أحدٍ حارثٌ وَهَمَّام، وإنَّما كان أقبَحَهَا حربٌ ومُرَّة؛ لما في مُسمَّى هذين الاسمين من الكراهة ونفور العقل عنها (3)، وبالله التوفيق. _________ (1) ت: «عبوديته». (2) أخرجه أحمد (4/ 345)، والبخاري في «الأدب المفرد» (814)، وأبو داود (4950) من حديث أبي وهب الجشمي. وفي إسناده عقيل بن شبيب مجهول، وأبو وهب ليس صحابيًّا، فروايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2/ 312). والجزء الأول من الحديث صحيح، أخرجه مسلم (2132) من حديث أنس. (3) ش: «عنهما».
(الكتاب/85)
الباب الثالث في نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض هل هي بالترادف أو التباين؟
فالأسماءُ الدالَّة عَلَى مسمًّى واحدٍ نوعان: أحدهما: أن يَدُلَّ عليه باعتبار الذات فقط، فهذا النوع هو المترادفُ ترادفًا محضًا، وهذا كالحِنْطة والقمح والبُرِّ، والاسم (1) والكُنْيَةِ واللَّقب، إذا لم يكن فيه مَدحٌ ولا ذمٌّ، وإنما أُتي به لمجرد التعريف. والنوع الثاني: أن يدلَّ على ذاتٍ واحدة باعتبار تبايُنِ صفاتها، كأسماء الربِّ تعالى، وأسماءِ كلامه، وأسماءِ نبيِّه، وأسماءِ اليوم الآخر. فهذا النوع مُترادِفٌ بالنسبة إلى الذات، متباينٌ بالنسبة إلى الصِّفات. فالربُّ والرحمن والعزيز والقدير والمَلِكُ يدلّ على ذاتٍ واحدةٍ باعتبار صفاتٍ متعدِّدة، وكذلك البشير والنَّذير والحاشر والعاقِبُ والماحِي، وكذلك [21 أ] يوم القيامة ويوم البعث ويوم الجَمْع ويوم التَّغابُن ويوم الآزِفَة، ونحوها، وكذلك القرآن والفرقان والكتاب والهُدى ونحوها، وكذلك أسماء السَّيف، فإنَّ تعدُّدَها بحسب أوصافٍ وإضافاتٍ مختلفةٍ، كالمهنَّد والعَضْب والصَّارم ونحوها، وقد عرَفتَ تبايُنَ الأوصاف في أسماء المحبَّة. _________ (1) «الاسم» ساقطة من ش.
(الكتاب/86)
وقد أنكرَ كثيرٌ من الناس الترادُف في اللغة، وكأنَّهم أرادوا هذا المعنى وأنَّه ما من اسمين لمسمًّى واحدٍ إلا وبينهما فرقٌ في صفةٍ أو نسبةٍ أو إضافةٍ، سواء عُلِمت لنا أو لم تُعْلَم. وهذا الذي قالوه صحيحٌ باعتبار الواضع الواحد، ولكن قد يَقَعُ الترادفُ باعتبار واضعَيْن مختلفَيْن، يُسمِّي أحدُهما المسمَّى باسم، ويُسمِّيه الواضعُ الآخر باسم غيره، ويشتهر الوضعان عند القبيلة الواحدة، وهذا كثيرٌ، ومن ها هنا يقعُ الاشتراك أيضًا. فالأصل في اللغة هو التباينُ، وهو أكثر اللغة. والله أعلم.
(الكتاب/87)
الباب الرابع في أنَّ العالمَ العُلويَّ والسُّفليَّ إنَّما وُجد بالمحبَّة ولأجلها، وأنَّ حركاتِ الأفلاكِ والشَّمسِ والقمرِ والنُّجومِ وحركات الملائكةِ والحيواناتِ، وحركةَ كلِّ متحركٍ إنَّما وُجدت بسبب الحبِّ
وهذا بابٌ شريفٌ من أشرف أبواب الكتاب، وقبل تقريره لابدَّ من بيان مقدمة، وهي أنَّ الحركاتِ ثلاث: حركةٌ إرادية، وحركةٌ طبيعية، وحركةٌ قَسْرية، وبيان الحصر أنَّ مبدأ الحركة إمَّا أن يكون من المُتحرك أو من غيره، فإنْ كانت من المتحرّك، فإمَّا أنْ يُقارنَها شعورُه وعلمُه بها أوْ لا، فإن قارنَها الشعورُ والعلمُ فهي الإراديَّة، وإن لم يُقارنها الشعورُ والعلمُ فهي الطبيعية، وإن كانت من غيره فهي القَسْرية. وإن شئتَ أن تقول: المتحرّك إما أن يتحرّك بإرادته أوْ لا، فإنْ تحرَّك بإرادته فحركته [21 ب] إراديَّة، وإنْ تحرَّك بغير إرادته، فإمَّا أن تكون حركتُه إلى نحو مركزه أوْ لا، فإنْ تحرَّك إلى جهة مركزهِ؛ فحركتُه طبيعية، وإنْ تحرَّك إلى غير جهة مركزه فحركتُه قَسْرية. إذا ثبت هذا فالحركة الإرادية تابعةٌ لإرادة المتحرِّك، والمرادُ إمَّا أن يكون مرادًا (1) لنفسه أو لغيره، ولابدَّ أن ينتهيَ المراد لغيره إلى مرادٍ _________ (1) ش: «مرادها».
(الكتاب/88)
لنفسه؛ دفعًا للدَّور والتسلسل. والإرادة إما أن تكونَ لجلب منفعةٍ ولذةٍ إمَّا للمتحرّك وإمَّا لغيره، أو دفع ألمٍ ومضرَّة إمَّا عن المتحرّك أو عن غيره، والعاقلُ لا يجْلِبُ لغيره منفعةً ولا يدفعُ عنه مَضرَّةً إلا لما له هو في ذلك من اللَّذة ودفع الألم، فصارت حركته الإرادية تابعةً لمحبته، بل هذا حكم كلِّ حيٍّ متحرِّك. وأمَّا الحركة الطبيعية فهي حركة الشيء إلى مستقرِّه ومركزه، وتلك تابعةٌ للحركة التي اقتضت خروجَه عن مركزه، وهي القَسْرية؛ التي إنَّما تكون بقسرِ قاسرٍ أخرجَه عن مركزه، إما باختياره، كحركة الحجر إلى أسفلَ إذا رُمِيَ به إلى جهة فوق، وإمَّا بغير اختيار مُحَرِّكه، كتحريك الرياح للأجسام إلى جهة مَهَابِّها (1)، وهذه الحركة تابعةٌ للقاسر، وحركةُ القاسر ليست منه بل مبدؤها من غيره، فإن الملائكة مُوَكَّلَةٌ بالعالم العُلويِّ والسُّفلي، تُدبِّره بأمر الله عزَّ وجلَّ كما قال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات/5]، وقال: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات/4]. وقال تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات/1 ــ 5]. وقال: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات/1 ــ 5]. _________ (1) ت: «مابها».
(الكتاب/89)
وقد وكَّل الله سبحانه بالأفلاك والشمس والقمر ملائكةً تُحرّكها، ووكَّلَ بالرياح ملائكةً تُصرِّفها بأمره، وهم خَزَنتُها، قال تعالى: [22 أ] {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة/6]. قال غيرُ واحد من السلف: عَتَتْ على الخُزَّان فلم يقدروا على ضبطها. ذكره البخاري في صحيحه (1). ووكَّلَ بالقطر ملائكةً، وبالسَّحاب ملائكةً (2) تسوقه إلى حيث أُمرت به. وقد ثبت في الصحيح (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأرْضِ؛ إذْ سَمِعَ صوتًا في سَحَابةٍ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَتَبَّعَ السَّحابةَ حتَّى انْتَهَتْ إلى حَدِيقةٍ، فَأَفْرَغَتْ مَاءَهَا فِيهَا، فَنَظَرَ فإذا رَجُل في الحَدِيقَةِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمِسْحَاته، فقال لَهُ: ما اسْمُك ياعَبْدَ الله؟ فَقَال: فلانٌ ـ للاسم الَّذي سمِعه في السَّحَابةِ ـ فقالَ: إنّي سمعْتُ قائِلًا يقُولُ في هذه السَّحَابةِ: اسْقِ حَدِيقةَ فُلانٍ، فما تصنع في هذه الحَدِيقةِ؟ فقال: إنِّي أنْظُرُ ما يَخْرُجُ منها، فأجعَلُهُ ثلاثة أثْلَاثٍ: ثُلُثٌ أَتَصَدَّقُ به، وثُلُثٌ أُنْفِقُهُ على عِيالي، وثُلُثٌ أرُدُّهُ فِيهَا». _________ (1) تعليقًا في (6/ 376) (مع الفتح). (2) «وبالسحاب ملائكة» ساقطة من ش. (3) مسلم (2984) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/90)
ووكَّل الله سبحانه بالجبال ملائكةً، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه جاءه ملك الجبال يسلّم عليه، ويستأْذنه في هلاك قومه إن أحبَّ، فقال: «بَلْ أَسْتَأني بهم (1)؛ لَعَلَّ الله أنْ يُخْرِجَ منْ أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُد الله، لا يُشْرِكُ به شيئًا» (2). ووكّل بالرّحِم ملكًا يقول: يا ربِّ نطْفةٌ؟ يا ربِّ علقةٌ؟ يا ربِّ مضغةٌ؟ يا ربّ ذكرٌ أم أُنثى؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ وشقيٌّ أم سعيد؟ (3). ووكّل بكل عبدٍ أربعةً من الملائكة في هذه الدنيا: حافظانِ عن يمينه وعن شماله يكتبان أعماله، ومُعَقِّبَاتٌ من بين يديه ومن خلفه، أقلُّهم اثنان، يحفظونه من أمر الله. ووكَّل بالموت ملائكةً، ووكَّل بمُساءلة الموتى ملائكةً في القبور، ووكَّل بالرَّحمة ملائكةً، وبالعذاب ملائكةً، وبالمؤمن ملائكةً يُثَبِّتونه، ويَؤزُّونه إلى الطاعات أزًّا، ووكَّل بالنَّار ملائكةً يبنونها، ويُوقدونها، ويصنعون [22 ب] أغلالَها وسلاسلَها، ويقُومون بأمرها، ووكَّل بالجنة ملائكةً يبنونها، ويفرشونها (4)، ويصنعونَ أرائكها، وسُرُرَها، وصِحافها، وَنمارِقَها، وزَرابيَّها. _________ (1) ش: «لهم». (2) أخرجه البخاري (3231، 7389)، ومسلم (1795) من حديث عائشة. (3) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (318)، ومسلم (2646) عن أنس. (4) ت: «يغرسونها».
(الكتاب/91)
فأمْرُ العالم العُلويِّ والسُّفليِّ والجنَّة والنَّار بتدبير الملائكة بإذن ربهم تبارك وتعالى وأمرِه، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء/27] و {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم/6]. فأخبرَ أنَّهم لا يعصونه في أمره، وأنَّهم قادرون على تنفيذ أوامره، ليس بهم عجزٌ عنها، بخلاف من يترك ما أُمر به عجزًا، فلا يَعصي الله ما أمره، وإن لم يفعلْ ما أمره (1) به. وكذلك البحارُ قد وُكِّلت بها ملائكةٌ تسجرُها، وتمنعُها أن تفيضَ عَلَى الأرض، فتغرق أهلها. وكذلك أعمالُ بني آدم خيرُها وشرُّها قد وُكِّلت بها ملائكةٌ تُحصيها، وتحفظُها، وتكتُبها. ولهذا كان الإيمانُ بالملائكة أحدَ أركان الإيمان الذي لا يَتمّ إلا به، وهي خمس: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وإذا عُرِفَ ذلك عُرف (2) أنَّ كلَّ حركةٍ في العالم فسببُها الملائكة، وحركتُهم طاعةُ الله (3) بأمره وإرادته، فيرجعُ (4) الأمر كلُّه إلى تنفيذ مراد _________ (1) ت: «أمر». (2) «ذلك عرف» ساقطة من ش. (3) ت: «وحركاتهم طاعة لله». (4) ت: «فرجع».
(الكتاب/92)
الربِّ ـ تعالى ـ شرعًا وقَدَرًا، والملائكةُ هم المنفِّذون ذلك بأمره، ولذلك سُمُّوا ملائكةً، من الأَلُوكَةِ، وهي الرسالة، فهم رُسُل الله في تنفيذ أوامره. والمقصود أنَّ حركاتِ الأفلاك وما حَوَتْه تابعةٌ للحركة الإرادية المستلزمة للمحبَّة، فالحبُّ والإرادة أصلُ كلِّ فعلٍ ومبدؤه، فلا يكون الفعل إلا عن محبةٍ وإرادة، حتى دفعه للأمور التي يُبغضها ويَكرهها، فإنما يدفعُها بإرادته ومحبته لأضدادها، واللَّذة التي يجدُها بالدفع، كما يُقال: شفَى غيظَه، وشَفَى صدرَه، والشفاء والعافية يكون بالمحبوب (1) وإن كان كريهًا، مثل شرب الدواء الذي يُدْفَع به ألمُ المرض، فإنه وإن [23 أ] كان مكروهًا من وجهٍ فهو محبوبٌ؛ لما فيه من زوال المكروه وحصول المحبوب، وكذلك فعلُ الأشياء المخالفة للهوى، فإنَّها وإنْ كانت مكروهةً فإنما تُفْعَل لمحبَّةٍ وإرادة، وإن لم تكن محبوبةً لنفسها فإنها مستلزمةٌ للمحبوب لنفسه. فلا يتركُ الحيُّ ما يُحِبُّه ويهواه إلا لما يُحِبُّه ويهواه، ولكن يترك أضعفَهما محبةً لأقواهما محبَّة، ولذلك كانت المحبَّة والإرادة أصلًا للبُغض والكراهة، فإن البغيضَ المكروه يُنافي وجود المحبوب، والفعل إما أن يتناولَ وجود المحبوب أو دفعَ المكروه المستلزِمَ لوجود المحبوب، فعادَ الفعلُ كلُّه إلى وجود المحبوب. _________ (1) ش: «يكون للمحبوب».
(الكتاب/93)
والحركة الاختيارية أصلُها الإرادة، والقسريةُ والطبيعيةُ تابِعتان لها، فعاد الأمر إلى الحركة الإرادية. فجميعُ حركات العالم العلويِّ والسُّفليِّ تابعةٌ للإرادة والمحبَّة، وبها تحرَّك العالمُ، ولأجلها، فهي العلَّةُ الفاعليَّة والغائيّة، بل هي التي بها ولأجلها وُجدَ العالمُ، فما تحرَّك في العالم العُلويِّ والسفليِّ حركةٌ إلا والمحبَّة (1) سببُها وغايتُها، بل حقيقةُ المحبَّة حركة نفس المحبِّ إلى محبوبه، فالمحبَّة حركةٌ بلا سكون. وكمالُ المحبَّة هي العبودية، والذلُّ، والخضوعُ، والطَّاعة للمحبوب، وهو الحقُّ الذي به وله خُلِقَت السموات والأرض، والدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر/85]، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص/27]، وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون/115]. والحقُّ الذي خُلِق به ولأجله الخلقُ هو عبادة الله وحده، التي هي كمالُ محبته والخضوعُ والذُّلُّ له، ولوازم عبوديته من الأمر والنهي والثواب والعقاب، ولأجل ذلك أرسلَ الرسلَ، وأنزل الكتبَ، وخلقَ الجنَّة والنار. والسمواتُ والأرضُ إنما قامت بالعدل الذي هو صراط الله الذي هو عليه، وهو أحبُّ [23 ب] الأشياء إليه. قال تعالى حاكيًا عن نبيّه _________ (1) ش: «والإرادة».
(الكتاب/94)
شعيب عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود/56]، فهو على صراط مستقيم في شَرْعه وقَدَره، وهو العدل الذي به ظهر الخلق والأمر، والثواب والعقاب (1). وهو الحق الذي به وله خُلقت السمواتُ والأرضُ وما بينهما، ولهذا قال المؤمنون في دعائهم (2): {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران/191]، فنزَّهوا ربَّهم سبحانه أن يكونَ خلق السموات والأرض عبثًا لغير حكمةٍ، ولا غايةٍ محمودة، وهو سبحانه يُحْمَد لهذه الغايات المحمودة، كما يُحْمَد لذاتِه وأوصافه، فالغايات المحمودة في أفعاله هي الحكمة التي يُحبُّها ويرضاها. وخَلَق ما يكره لاستلزامه ما يحبُّه، وتَرَتُّبِ المحبوب له عليه، وكذلك (3) يترك سبحانه فعل بعض ما يحبّه؛ لما يترتب عليه من فوات محبوبٍ له أعظم منه، أو حصولِ مكروهٍ أكرهَ إليه من ذلك المحبوب. وهذا كما ثبَّط قلوب أعدائه عن الإيمان به وطاعته؛ لأنه يكره طاعاتهم، ويُفَوِّت بها ما هو أحبُّ إليه منها من جهادهم، وما يترتب عليه من المُوَالاة فيه والمعاداة فيه، وبذلِ أوليائه نفوسَهم فيه، وإيثار محبته ورضاه على _________ (1) «والعقاب» ساقطة من ت. (2) ش: «عبادتهم». (3) ش: «لذلك».
(الكتاب/95)
نفوسهم، ولأجل هذا خلق الموتَ والحياة، وجعلَ ما على الأرض زينةً لها؛ قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك/2]. وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف/7]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود/7]. فأخبرَ سبحانه عن خلق العالم والموت والحياة وتزيين الأرض بما عليها أنه للابتلاء والامتحان، ليختبرَ خلقه أيهم أحسن عملًا (1)، فيكون عَمَلُهُ موافقًا لمحابِّ الربِّ تعالى، فيُوافق الغايَةَ التي خُلِقَ هو لها، وخُلِق لأجلها العالم، وهي عبوديته المتضمنة لمحبَّته وَطاعتِه، وهي العملُ الأحسنُ، وهو توابعُ محبته ورضاه، وقدَّر [24 أ] سبحانه مقاديرَ تخالفها بحكمته في تقديرها، وامتحنَ خلقَه بين أمره وقَدَره؛ ليبلوَهم أيُّهم أحسنُ عملًا. فانقسمَ الخلقُ في هذا الابتلاء فريقين: فريقًا داروا مع أوامره ومحابِّه، ووقفوا حيث وقفَ بهم الأمر، وتحرَّكوا حيث حرَّكهم الأمر، واستعملوا الأمر في القدر، وركبوا سفينةَ الأمر في بحر القَدَر، وحكَّموا الأمرَ على القَدَر، ونازعوا القَدَر بالقَدَر امتثالًا لأمره، واتِّباعًا لمرضاتِه، فهؤلاء هم الناجون. _________ (1) «فأخبر ... عملاً» ساقطة من ش.
(الكتاب/96)
والفريق الثاني عارضوا بين الأمر والقَدَر، وبين ما يُحبُّه ويرضاه، وبين ما قدَّره وقضَاه، ثم افترقوا أربعَ فِرَقٍ: فرقة كذَّبت بالقدر محافظةً على الأمر، فأبطلتِ الأمرَ من حيث حافظت على القَدَر، فإنَّ الإيمان بالقدر أصلُ الإيمان بالأمر، وهو نظامُ التوحيد، فمن كذَّب بالقدر نَقَضَ تكذيبُه إيمانَه. وفرقةٌ ردَّتِ الأمرَ بالقَدَر، وهؤلاء من أكفر الخلق، وهم الذين حكى الله قولهم في القرآن إذ قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام/148] وقالوا أيضًا (1): {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل/35]، وقالوا أيضًا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف/20]، وقالوا أيضًا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس/47]. فجعلَهم الله سبحانه بذلك مكذِّبين خارصينَ، ليس لهم علم، وأخبرَ أنَّهم في ضَلال مبين. وفرقةٌ دارت مع القَدَر، فسارت بسَيْره، ونزلتْ بنزوله، ودانت به، ولم تُبالِ وافقَ الأمرَ أو خالفَه، بل دينُها القدر، فالحلالُ ما حلَّ بيدها قدرًا، والحرامُ ما حُرِمَتْهُ قَدَرًا، وهم مع منْ غلَب قَدَرًا من مسلمٍ أو كافرٍ، برًّا كان أو فاجرًا (2)، وخواصُّ هؤلاء وعُبَّادُهم لما شهدوا الحقيقة _________ (1) «لو شاء ... أيضًا» ساقطة من ش. (2) ت: «برّ أو فاجر».
(الكتاب/97)
الكونية القدرية صاروا مع الكفَّار المسلَّطين بالقَدَر، وهم خُفراؤُهم، فهؤلاء أيضًا كفَّار. وفرقةٌ وقفت مع القَدَر مع اعترافها بأنَّه خلافُ الأمر، ولم تَدِنْ به، ولكنَّها [24 ب] استرسلت معه، ولم تُحَكِّم عليه الأمر، وعَجَزت عن دفع القدر بالقدر اتّباعًا للأمر، فهؤلاء مفرِّطون، وهم بين عاجزٍ وعاصٍ لله. وهؤلاء الفِرَقُ كلُّهم مُؤْتَمُّون بشيخهم إبليس، فإنه أوّلُ من قدَّم القدر على الأمر وعارضَه به، وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر/39]. و (1) {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف/16]، فردّ أمر الله بقدره، واحتجَّ على ربه بالقدر. وانقسم أتباعهُ أربعَ فِرَق كما رأيت، فإبليس وجنوده أرسلوا بالقدر إرسالًا كونيًّا. فالقَدَرُ دينُهم، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم/83]، فدِينُهم القدر، ومصيرُهم سقر. فبعثَ الله الرسلَ بالأمر، وأمرهم أن يُحاربوا به أهلَ القدر، وشرَعَ لهم من أمره سُفُنًا، وأمرهم أن يركبوا فيها هم وأتباعُهم في بحر القدر، وخصَّ بالنجاةِ من ركبها، كما خَصَّ بالنجاة أصحاب السفينة، وجعل ذلك آيةً للعالمين. _________ (1) «ربّ ... و» ساقطة من ش.
(الكتاب/98)
فأصحابُ الأمر حربٌ لأصحاب القدر حتى يرُدُّوهم إلى الأمر، وأصحابُ القدر يُحاربون أصحابَ الأمر حتى يُخرجوهم منه، فالرسل دينهم الأمرُ مع إيمانهم بالقدر وتحكيم الأمر عليه، وإبليسُ وأتباعهُ دينُهم القدر ودفعُ الأمر به، فتأمَّلْ هذه المسألة في القدر والأمر، وانقسامِ العالم فيها إلى هذه الأقسام الخمسة، وبالله التوفيق. فحركاتُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ وما فيهما مُوافِقةٌ للأمر؛ إمَّا الأمرِ الدينيّ الذي يُحِبُّه الله ويرضاه، وإمَّا الأمرِ الكونيّ الذي قدَّره وقضاه، وهو سبحانه لم يُقدِّره سُدًى، ولا قضاه عبثًا، بل لما له فيه من الحكم (1) والغايات الحميدة، وما يترتب عليه من أمور يحبُّ غاياتِها وإن كره أسبابها ومبادئها، فإنَّه سبحانه وتعالى يُحبُّ المغفرة، وإن كره معاصيَ عباده، ويحبُّ السَّتْر، وإن كره ما يَسْتر عبده عليه [25 أ]، ويحبُّ العتْقَ، وإن كره السبب الذي يَعْتِقُ عليه من النار، ويحبُّ العفو، كما في الحديث: «اللَّهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ تُحِبُّ العفوَ، فَاعْفُ عَنِّي» (2)، وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار، ويحبُّ التوَّابين وتوبتَهم، وإن كره معاصيَهم التي يتوبون إليه منها، ويحبُّ الجهادَ وأهلَه، بل هم أحبُّ خلقه إليه، وإن كره _________ (1) ش: «الحكمة». (2) أخرجه أحمد (6/ 182، 183، 208)، والترمذي (3513)، والنسائي في الكبرى (7665)، وابن ماجه (3850) من حديث عائشة. وصححه الحاكم في المستدرك (1/ 530).
(الكتاب/99)
أفعال من يجاهدونه. وهذا بابٌ واسع قد فُتح لك، فادخل منه؛ يُطلعك على رياضٍ من المعرفة مُؤنِقَةٍ، مات مَنْ فاتته بحسرتها، وبالله التوفيق. وهذا موضعٌ تَضيقُ عنه عِدَّة أسفار، واللَّبيبُ يدخلُ إليه من بابه، وسرُّ هذا الباب: أنَّه سبحانه كاملٌ في أسمائه وصفاته، فله الكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه؛ الذي لا نقصَ فيه بوجهٍ ما، وهو يحبُّ أسماءه وصفاته، ويحب ظهورَ آثارها في خلقه، فإنَّ ذلك من لوازم كماله، فإنَّه سبحانه وتْرٌ يُحِبُّ الوتْرَ (1)، جميلٌ يحبُّ الجمالَ (2)، عليمٌ يحبُّ العلماءَ، جوادٌ يحبُّ الأجواد، قويٌّ، والمؤمنُ القويُّ أحَبُّ إليه من المؤمن الضعيف (3)، حَييٌّ يحبُّ أهل الحياء (4)، وفيٌّ يحبُّ أهلَ الوفاء، شكورٌ يحبُّ الشَّاكرينَ، صادقٌ يحبُّ الصادقين، محسنٌ يحبُّ المحسنين. فإذا كان يُحِبُّ العفوَ والمغفرة والحِلْمَ والصَّفْحَ والسَّتْرَ، لم يكن بُدٌّ من تقديره للأسباب التي تَظهرُ آثارُ هذه الصفات فيها، ويَسْتَدِلُّ بها عبادُه على كمال أسمائه وصفاته، ويكون ذلك أدْعى لهم إلى محبَّتِه، _________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677) عن أبي هريرة. (2) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (91) عن ابن مسعود. (3) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (2664) عن أبي هريرة. (4) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 224)، وأبو داود (4012)، والنسائي (1/ 200) عن يعلى بن أمية.
(الكتاب/100)
وحمدِه، وتمجيدِه، والثناء عليه بما هو أهلُه، فتحصُل الغاية التي خَلَقَ لها الخلق، وإن فاتت من بعضهم، فذلك الفواتُ سببٌ لكمالها وظهورها، فتضمَّن ذلك الفواتُ المكروهُ له أمرًا هو أحبُّ إليه من عدَمه، فتأمَّلْ هذا الموضع حقَّ التأمل. وهذا ينكشف يوم القيامة للخليقة بأجمعهم حين يجمعهم في صعيدٍ واحد، ويُوصِل إلى كلِّ نفسٍ ما ينبغي إيصالُه إليها من الخير والشرّ، [25 ب] واللَّذَّة والألم، حتى مثقال الذَّرة، ويوصل كلَّ نفس إلى غاياتِها (1) التي تشهد هي أنها أوْلى بها، فحينئذٍ يَنْطِق الكونُ بأجمعه بحمده تبارك وتعالى قالًا وحالًا، كما قال سبحانه وتعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر/75]، فحذف فاعل القول لأنَّه غيرُ معيَّن، بل كلُّ أحدٍ يَحمَدُه على ذلك الحُكم الذي حكم به (2)، فَيَحْمَدُه أهلُ السموات وأهلُ الأرض، والأبرارُ والفجَّارُ، والإنسُ والجِنُّ، حتى أهلُ النار. قال الحسن أو غيره: لقد دخلوا النَّارَ وإن حَمْدَه لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلًا، وهذا ـ والله أعلمُ ـ هو السرُّ الذي حذفَ لأجله الفاعل في قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الزمر/72]، _________ (1) ت: «غايتها». (2) ش: «فيه».
(الكتاب/101)
وقوله: {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم/10]، كأنَّ الكونَ كلَّه نطقَ بذلك وقاله لهم. والله أعلم بالصواب (1). _________ (1) «بالصواب» ساقطة من ت.
(الكتاب/102)
الباب الخامس في دَواعي المحبَّة ومتعلَّقها
الدَّاعي قد يُراد به: الشعورُ الذي تتبَعُه الإرادةُ والميل، فذلك قائمٌ بالمحبِّ، وقد يُراد به: السببُ الذي لأجله وُجدت المحبَّةُ، وتعلّقت به، وذلك قائمٌ بالمحبوب، ونحن نُريد بالدَّاعي: مجموعَ الأمرين، وهو ما قام بالمحبوب من الصِّفات التي تدعو إلى محبَّته، وما قامَ بالمُحبِّ من الشُّعور بها، والموافقة التي بين المحبِّ والمحبوب، وهي الرابطة بينهما، وتُسمَّى بين المخلوق والمخلوق: مناسبةً وملاءَمةً. فهاهنا ثلاثة أُمور: وصفُ المحبوب وجمالُه، وشعورُ المحبِّ (1) به، والمناسبةُ، وهي العلاقة والملاءمة التي بين المحبِّ والمحبوب، فمتى قَوِيتِ الثَّلاثةُ وكَمُلَت؛ قوِيت المحبَّةُ واستحكمت، ونقصانُ المحبَّة وضعفُها بحسب ضعفِ هذه الثلاثة أو نَقْصِها (2)، فمتى كان المحبوبُ في غاية الجمال، وشعورُ المحبِّ بجماله أتمَّ شُعور، والمناسبةُ التي بين الرُّوحين قوية؛ فذلك الحبُّ اللازم الدائم، وقد يكون [26 أ] الجمالُ في نفسه ناقصًا، لكن هو في عين المحبِّ كامل، _________ (1) ش: «المحبوب». (2) ت: «بعضها».
(الكتاب/103)
فتكون قوَّة محبته بحسب ذلك الجمال عنده، فإنَّ حُبَّك الشيءَ (1) يُعمي ويُصِمُّ، فلا يرى المحبُّ أحدًا أحسن من محبوبه. كما يُحْكى أنَّ عَزَّة دخلت على الحجَّاج فقال لها: يا عزَّةُ! والله ما أنتِ كما قال فيك كُثَيِّر، فقالت: أيُّها الأمير إنَّه لم يَرَني بالعين التي رأيتَني بها. ولا ريبَ أنَّ المحبوبَ أحلى (2) في عين مُحبِّه، وأكبرُ في صدره من غيره، وقد أفصحَ بهذا القائلُ في قوله (3): فو الله ما أدري أزِيدَتْ ملاحةً ... وحُسْنًا على النِّسوان أم ليس لي عَقْلُ وقد يكون الجمالُ مُوَفَّرًا، لكنَّه ناقصُ الشعور به، فَتَضْعُفُ محبَّتُه لذلك، فلو كُشفَ له عن حقيقته لأسر قلبَه. ولهذا أُمِرَ النساءُ بسَتْرِ وجوههن عن الرِّجال، فإنَّ ظهورَ الوجه يُسفِرُ عن كمال (4) المحاسن، فيقع الافتتان، ولهذا شُرع للخاطب أن ينظرَ إلى المخطوبة، فإنَّه إذا شاهد حسنَها وجمالَها؛ كان ذلك أدعى إلى حصول المحبَّة والأُلفة بينهما، كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «إذا أراد _________ (1) ش: «للشيء». وهذا الحديث سبق تخريجه. (2) ت: «أجلّ». (3) البيت للحكم الخضري في «الحماسة» (2/ 72)، و «سمط اللآلي» (1/ 16). (4) في هامش ت: «جمال».
(الكتاب/104)
أحدُكُم خِطبة امْرَأةٍ فلينظُر إلى ما يدعُوه إلى نِكَاحِها، فإنَّه أَحْرَى أن يُؤْدَم بَيْنَهُمَا» (1) أي: يُلاءم ويُوافقَ ويُصْلَحَ، ومنه الإدام الذي يُصْلَحُ به الخبز. وإذا وُجِد ذلك كلُّه، وانْتَفَتِ المناسبة والعَلاقة التي بينهما لم تَسْتحكم المحبَّة؛ وربما لم تقع ألبتةَ، فإن التناسُبَ الذي بين الأرواح من أقوى أسباب المحبَّة. فكلُّ امرئ يصبُو إلى مَنْ يُناسبُهْ (2) وهذه المناسبة نوعان: أصليةٌ من أصل الخِلْقة، وعارضةٌ بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمرٍ من الأمور، فإنَّ من ناسبَ قصدُك قصدَه حصلَ التوافقُ بين رُوحِك ورُوحِه، فإذا اختلفَ القصدُ زالَ التوافُق، فأمَّا التناسُب الأصلي، فهو اتفاقُ أخلاق، وتشاكُلُ أرواح، وشوقُ كلِّ نفسٍ إلى مُشاكلها، فإنَّ شِبْهَ الشيء (3) يَنجذبُ إليه بالطبع، فتكون الرُّوحان _________ (1) أخرجه أحمد (3/ 334، 360)، وأبو داود (2082)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 165)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 84) من حديث جابر،، وإسناده حسن. والجزء الأخير من الحديث أخرجه أحمد (4/ 244، 245، 246)، والترمذي (1087)، والنسائي (6/ 69)، وابن ماجه (1866) من حديث المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن أنس وغيره من الصحابة. (2) صدره: وكلُّ امرئ يهفو إلى من يحبه. وهو بلا نسبة في «مدارج السالكين» (2/ 386)، و «وبدائع الفوائد» (2/ 673). (3) ت: «سببه الذي».
(الكتاب/105)
متشاكلتين [26 ب] في أصل الخِلقة، فينجذب كلٌّ منهما إلى الأخرى بالطبع، وقد يقعُ الانجذاب والميلُ بالخاصِّيَّةِ، وهذا لا يُعلَّل، ولا يُعرَف سَبَبُه، كانجذاب الحديد إلى الحجر المِغْنَاطيس. ولا ريبَ أنَّ وقوعَ هذا القَدْر بين الأرواح أعظمُ من وقوعه بين الجمادات، كما قيل: محاسنُها هَيُولى كلِّ حسنٍ ... ومِغْنَاطيسُ أَفْئِدَةِ الرِّجال وهذا الذي حَمَلَ بعضَ الناس على أن قال: إنَّ العشقَ لا يقفُ على الحُسْن والجمال، ولا يلزمُ من عَدَمِهِ عَدَمُه، وإنما هو تشاكُل النفوسِ وتمازُجُها في الطباع المخلوقة فيها، كما قيل (1): وما الحُبُّ من حُسْنٍ ولا مِنْ مَلاحةٍ ... ولكنَّه شيءٌ به الرُّوح تَكْلَفُ قال هذا القائل: فحقيقتُه أنَّه مِرْآة يُبْصرُ فيها المحبُّ طباعَه وَرِقَّته في صورة محبوبه، ففي الحقيقة لم يحبَّ إلا نفسه وطباعَه ومُشاكِلَه. وقال بعضُهم لمحبوبه: صادفتُ فيك جوهرَ نفسي، ومُشَاكِلَتَها (2) في كلِّ أحوالها، فانبعثتْ نفسي نحوَك، وانقادتْ إليك، وإنَّما هويتُ نفسي. _________ (1) البيت لمحمد بن داود الظاهري في «مصارع العشاق» (2/ 58)، و «ذم الهوى» (ص 302)، و «ديوان الصبابة» (ص 258)، و «تزيين الأسواق» (2/ 59). وبلا نسبة في «التمثيل والمحاضرة» (ص 212). (2) ت: «مشاكلها».
(الكتاب/106)
وهذا صحيحٌ من وجهٍ، فإنَّ المناسبة عِلَّةُ الضَّمِّ شَرْعًا وقدرًا، وشاهِدُ هذا بالاعتبار: أنَّ أحبَّ الأغذية إلى الحيوان ما كان أشبَه بجوهر بدنه، وأكثرَه مناسبةً له، وكلَّما قويت المناسبة بين الغاذي والغذاء كان ميلُ النفس إليه أكثر، وكلَّما بعدت المناسبة حصلت النُّفرةُ عنه، ولا ريبَ أنَّ هذا قَدْرٌ زائدٌ على مجرَّد الحسن والجمال، ولهذا كانت النفوسُ الشريفة الزكيَّةُ العُلْويَّة تعشقُ صفاتِ الكمال بالذَّات، فأحبُّ شيء إليها العلمُ، والشَّجاعةُ، والعفَّةُ، والجودُ، والإحسانُ، والصبر (1)، والثباتُ؛ لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها، بخلاف النفوس اللئيمة الدنيَّة فإنَّها بِمعْزِلٍ عن محبَّة هذه الصفات، وكثيرٌ من الناس يحملُه على الجود والإحسان فرطُ عشقه ومحبَّتِه له، واللَّذَّةُ التي يجدُها (2) في بذله، كما قال المأمون: لقد حُبِّبَ إليَّ العفوُ حتى خشيتُ ألَّا أُؤْجَر عليه [27 أ]. وقيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى (3): تعلَّمتَ هذا العلمَ لله؟ فقال: أمَّا لله فعزيز، ولكنْ شيءٌ حُبِّبَ إليَّ، ففعلتُه. وقال آخر: إنِّي لأفرحُ بالعطاءِ، وأَلْتَذُّ به أعظمَ مما يفرحُ الآخذُ بما يأخذه مني. _________ (1) ش: «والتصبر». (2) بعدها في ش زيادة «المحب». (3) «بن حنبل ... تعالى» ساقطة من ت.
(الكتاب/107)
وفي هذا قيل في مدح بعض الكُرَماء (1): وتأْخذُه عندَ المَكَارِم هِزَّةٌ ... كما اهْتَزَّ عندَ البَارحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ قال شاعرُ الحماسة (2): تراهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا ... كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائِلُهْ وكثيرٌ من الأجواد يعشقُ الجودَ أعظمَ عِشق، فلا يصبِرُ عنه مع حاجته إلى ما يجودُ به، ولا يقبلُ فيه عَذْلَ عاذلٍ، ولا تأخذُه فيه لومةُ لائم، وأما عشَّاق العلم فأعظمُ شَغَفًا به وعشقًا له من كل عاشقٍ بمعشوقِه، وكثيرٌ منهم لايشْغَلُهُ عنه أجملُ صورة من البشر. وقيل لامرأةِ الزُّبَيْر بن بكَّار ـ أو غيره ـ: هنيئًا لكِ؛ إذ ليست لك ضَرَّة، فقالت: والله لهذه الكتبُ أضرُّ عليَّ من عِدَّة ضرائرَ! _________ (1) البيت لأبي الشغب العبسي كما في «الحماسة» (1/ 154)، و «بهجة المجالس» (1/ 773، 774). وفي «شرح الحماسة» للتبريزي (1/ 144): قال أبو عبيدة: الشعر للأقرع بن معاذ القشيري. والقصيدة التي منها هذا البيت بلا نسبة في «أمالي القالي» (2/ 3)، وانظر: «سمط اللآلي» (2/ 629، 630). (2) هو زهير بن أبي سلمى كما في «ديوانه» (ص 142)، والبيت ليس في «الحماسة»، ولا زهير من شعرائها. نعم نُسِب البيت لعبد الله بن الزَّبير الأسدي ضمن قصيدة له في «الأغاني» (14/ 227)، وهو من شعراء الحماسة.
(الكتاب/108)
وحدثني أخو شيخنا عبد الرحمن بن تيمية عن أبيه، أنه (1) قال: كان الجَدُّ إذا دخل الخلاءَ يقول لي: اقرأْ في هذا الكتاب، وارفعْ صوتَك حتى أسمع. وأعرف مَنْ أصابه مرَضٌ من صُداع، وحُمَّى، وكان الكتابُ عند رأسه، فإذا وجد إفاقةً؛ قرأ فيه، فإذا غُلب؛ وضعَه، فدخل عليه الطبيبُ يومًا وهو كذلك، فقال: إنَّ هذا لا يَحِلُّ لك، فإنَّك تُعِينُ على نفسك، وتكونُ سببًا لفوات مطلوبك. وحدَّثني شيخنا قال: ابتدأ بي مرضٌ، فقال لي الطبيب: إنَّ مطالعتَك، وكلامَك في العلم يزيدُ المرضَ. فقلت له: لا أصبرُ عن (2) ذلك، وأنا أُحاكمك إلى علمك: أليستِ النفسُ إذا فرحتْ وسُرّت قويت الطبيعةُ، فدفعتِ المرض؟ فقال: بلى! فقلت له: فإنَّ نفسي تُسَرُّ بالعلم، فتقوى به الطبيعة، فأجدُ راحةً. فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا، أو كما قال. فعشقُ صفاتِ الكمال من أنفع العشق وأعلاه، [27 ب] وإنَّما يكونُ بالمناسبة التي بينَ الرُّوح وتلك الصِّفاتِ، ولهذا كان أعلى الأرواح وأشرفُها أعلاها وأشرفها معشوقًا، كما قيل (3): _________ (1) «أنه» ساقطة من ش. (2) ش: «على». (3) البيت لابن الفارض في «ديوانه» (ص 90).
(الكتاب/109)
أنت القتيلُ بكلِّ مَنْ أحْبَبْتَه ... فاخْتَرْ لنفسِكَ في الهوى مَنْ تَصْطفي فإذا كانت المحبَّةُ بالمشاكلة والمناسبة ثبتت وتمكَّنت، ولم يُزِلْها إلا مانعٌ أقوى من السَّبب، وإذا لم تكن بالمشاكلة فإنَّما هي محبةٌ لغرضٍ من الأغراض، تزولُ عند انقضائه وتضمحِلُّ. فمن أحبّكَ لأمرٍ ولَّى عند انقضائه، فداعي المحبَّة وباعثُها إن كان غَرَضًا للمحبِّ لم يكن لمحبَّته بقاءٌ، وإن كان أمرًا قائمًا بالمحبوب سريعَ الزوال والانتقال زالت محبَّتُه بزواله، وإن كان صفةً لازمةً له (1) فمحبَّتُه باقيةٌ ببقاء داعيها، ما لم يُعارضْه معارضٌ يُوجب زوالَها، وهو إمَّا تغيُّرُ حالٍ في المُحبِّ، أو أذًى من المحبوب، فإنَّ الأذى إما أن يُضْعِفَ المحبَّة، أو يُزِيلَها. قال (2): خذي العفوَ منِّي تستديمي مَوَدَّتي ... ولا تَنْطِقي في سَوْرتي حين أغضَبُ _________ (1) «له» ساقطة من ش. (2) البيتان لشريح القاضي في «الوحشيات» (ص 185)، و «عيون الأخبار» (3/ 11)، و «حماسة الظرفاء» (1/ 163)، ولأبي الأسود الدؤلي في «ديوانه» (ص 96)، و «الأشباه والنظائر» للخالديين (2/ 274)، و «عيون الأخبار» (4/ 77)، ولأسماء بن خارجة الفزاري في «الأغاني» (18/ 128)، و «الموشي» (ص 149)، والتذكرة الحمدونية (3/ 339)، ولعامر بن عمرو البكائي في «حماسة» ابن الشجري (ص 64)، والحماسة البصرية (2/ 71).
(الكتاب/110)
فإنِّي رأيتُ الحُبَّ في القلبِ والأذى ... إذا اجتمعا لم يَلْبَثِ الحُبُّ يَذْهَبُ وهذا موضعٌ انقسمَ المحبُّون فيه قسمين: ففرقةٌ قالت: ليس (1) بحبٍّ صحيح ما يزيله الأذى، بل علامَةُ الحبِّ الصَّحيح: أنَّه لا ينقص بالجفوة، ولا يُذهِبه الأذى. قالوا: بل المحب يلتذُّ بأذى محبوبه له، كما قال أبو الشِّيص (2): وقفَ الهوى بي حَيْثُ أنتِ فليس لي ... متَأخَّرٌ عَنْهُ ولا مُتَقَدَّمُ وأهَنْتِني فأَهنتُ نفسيَ جاهِدًا ... ما مَنْ يهونُ عليكِ مِمَّن أكرم (3) أَشبهتِ أعدائي فصِرْتُ أُحِبُّهم ... إذ كان حظِّي منك حظِّي منهمُ أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حبًّا لِذكْركِ فلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ [28 أ] فهذا هو الحبُّ على الحقيقة، فإنَّه متضمنٌ لغاية الموافقة، _________ (1) ش: «ليست». (2) تقدمت هذه الأبيات مع تخريجها. (3) ش: «يكرم»، ويُروى بالروايتين كما سبق.
(الكتاب/111)
بحيث قد اتَّحَدَ (1) مرادُه ومرادُ محبوبه من نفسه، فأهانَ نفسَه موافقةً لإهانةِ محبوبه له، وأحبَّ أعداءَه لمَّا أشبههم محبوبُه في أذاه. وهذا وإن كانت الطِّباع تأْباه؛ لكنه مُوجَبُ الحبِّ التامِّ ومقتضاه. وقالت فرقةٌ: بل الأذى مزيلٌ للحبِّ، فإنَّ الطِّباعَ مجبولةٌ على كراهة من يُؤذيها، كما أنَّ القلوبَ مجبولةٌ على حبِّ من يُحسِنُ إليها. وما ذكرَه أُولئك فدعوى منهم. والإنصاف أن يُقال: يجتمعُ (2) في القلب بغضُ أذى الحبيب وكراهتُه ومحبَّتُه من وجهٍ آخر، فيحبُّه ويُبغض أذاه، وهذا هو الواقع، والغالبُ منهما (3) يوازي المغلوبَ ويبقى الحكم له، وقد كشفَ عن هذا المعنى الشاعرُ في قوله (4): ولو قُلْتِ طَأْ في النَّارِ أَعْلَمُ أنَّه ... رِضًا لكِ أو مُدْنٍ لنا مِنْ وِصَالِك لقدَّمتُ رِجْلي نحوَها فَوَطِئْتُها ... هُدًى منكِ لي أو ضَلَّةً من ضَلالِك _________ (1) ش: «ا تخذ». (2) ت: «يجمع». (3) ش: «منها». (4) الأبيات لابن الدُّمينة في «الحماسة» (2/ 62)، و «ديوانه» (ص 17 - 18)، وانظر هناك التخريج واختلاف النسبة (ص 218).
(الكتاب/112)
وإنْ ساءَني أن نِلْتِنِي بِمَسَاءةٍ ... فقد سَرَّني أنِّي خَطَرْتُ بِبَالِك فهذا قد أنصفَ حيث أخبر: أنَّه يسوؤهُ (1) أن ينالَه محبوبُه بمساءة، ويسرُّه خطورُه بباله، لا كمن (2) ادَّعى أنَّه يلتذُّ بأذى محبوبه له، فإنَّ هذا خارج عن الطِّباع، اللهمَّ إلا أن يكون ذلك الأذى وسيلةً إلى رضا المحبوب وقربه، فإنَّه يلتذُّ به إذا لاحظ غايتَهُ وعاقبتَه، فهذا يقعُ. وقد أخبرني بعضُ الأطباء قال: إني أَلْتَذُّ بالدواء الكريه إذا علمتُ ما يحصُل به من الشِّفاء، وأضعُه عَلَى لساني، وأَتَرَشَّفُه محبةً له. ومن هذا التذَاذُ المُحبِّينَ بالمشاقِّ التي تُوصلُهم إلى وصَال محبوبهم وقُربِه، وكلَّما ذكروا روحَ الوصَال، وأنَّ ما هم فيه طريقٌ موصلٌ إليهم؛ لذَّ لهم مُقَاساتُه، وطابَ لهم تحمُّلُه، كما قال (3): لها أحاديثُ من ذِكْرَاكَ تشْغَلُهَا ... عن الشَّرابِ وتُلْهيها عن الزَّاد _________ (1) ش: «يسره» تحريف. (2) ش: «لكن». (3) الأبيات لإدريس بن أبي حفصة في «ديوان المعاني» (1/ 63)، و «مجموعة المعاني» (ص 95)، و «زهر الآداب» (1/ 507، 508)، و «الحماسة البصرية» (1/ 157). وتُنسب لمروان بن أبي حفصة في «ديوانه» (ص 53).
(الكتاب/113)
لها بوجهِكَ نورٌ تستضيءُ به ... ومِن حَدِيثكَ في أعْقَابِهَا حادِي إذا شَكَتْ من كَلالِ السَّيْرِ أوعَدَها ... رَوْحُ اللقاء فتَقوى عندَ ميعاد والمقصودُ أنَّ المحبَّة تستدعي مشاكلةً ومناسبةً. وقد ذكرَ الإمام أحمد بن حنبل ــ رحمه الله تعالى (1) ــ في مسنده (2) من حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ امرأةً كانت تدخلُ على قريش، فتُضحكُهم، فقدمتِ المدينة، فنزلتْ على امرأةٍ تُضْحِكُ النَّاسَ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «على مَنْ نزلتْ فلانة؟» فقالت: على فلانَةَ المُضْحِكَة، فقال: «الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، ومَا تَنَاكَر مِنْها اخْتَلَف». وأصلُ الحديث في الصحيح (3). _________ (1) «بن ... تعالى» ساقطة من ت. (2) لم أجده في المسند. وبهذا السياق أخرجه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 216) من طريق علي بن أبي علي اللهبي عن الزهري عن عروة عن عائشة. وعلي له مناكير كما قال أحمد، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء. انظر: «ميزان الاعتدال» (3/ 147). (3) أصل الحديث دون ذكر القصة أخرجه البخاري (3336) تعليقًا، ووصله في «الأدب المفرد» (900) من حديث عائشة، وأخرجه مسلم (2638)، والبخاري في «الأدب المفرد» (901) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/114)
وذُكر لبقراط (1) رجلٌ من أهل النقص يحبُّه، فاغتمَّ لذلك، وقال: ما أحبَّني إلا وقد وافقْتُه في بعض أخلاقِهِ، وأخذَ المتنبي هذا المعنى فقلبَه، وأجادَ، فقال (2): وإذا أتتكَ مَذَمَّتِي مِن ناقصٍ ... فهي الشَّهادةُ لي بأنِّي فاضلُ وقال بعض الأطباء (3): العشقُ: امتزاجُ الرُّوح بالرُّوح؛ لما بينهما من التناسب والتشاكل، فإذا امتزج الماءُ بالماء امتنعَ تخليصُ بعضِه من بعض، وكذلك (4) تبْلُغُ المحبَّةُ بين الشخصين حتى يتألَّم أحدُهما بتألُّم الآخر، ويَسْقَم بسقمِه وهو لا يشْعُر. ويُذكَر (5) أنَّ رجلًا كان يُحِبُّ شخصًا، فمرضَ، فدخل عليه أصحابه يعودونه، فوجدوا به خِفَّةً، فانبسط معهم، وقال: من أين جئتم؟ قالوا: من عند فلانٍ عُدْناهُ، فقال: أوَ كان عليلًا؟ قالوا: نعم، وقد عُوفِي، فقال: والله لقد أنكرتُ عِلَّتي هذه ولم أعرفْ لها سببًا، غير أني توهَّمْتُ: أنَّ ذلك لعلَّةٍ نالت بعض من أُحبُّ، ولقد وجدتُ في (6) يومي هذا _________ (1) الخبر في «الواضح المبين» (ص 55). (2) «ديوانه» (3/ 376). وفيه: «كامل». (3) كما في «الواضح المبين» (ص 55). (4) ش: «لذلك». (5) الخبر في «الواضح المبين» (ص 54). (6) «في» ساقطة من ت.
(الكتاب/115)
راحةً، ففرحْتُ طمعًا أن يكون الله سبحانه وتعالى شفاه، ثم دعا بدواةٍ، فكتب إلى محبوبه (1): إنِّي حُمِمْتُ ولم أشعُرْ بِحُمَّاك ... حتى تحدَّثَ عُوَّادِي بشكواكِ [29 أ] فقلتُ ما كانتِ الحُمَّى لِتَطْرُقَنِيْ ... مِن غيرِ ما سَبَبٍ إلا لِحُمَّاك وخَصْلَةٍ كنتُ فيها غيرَ مُتَّهَمٍ ... عافانيَ اللهُ منها حينَ عافاك حتى إذا اتفقت نفسي ونفسك في ... هذا وذاك وفي هذا وفي ذاكِ (2) ويُحْكى (3) أنَّ رجلًا مرِضَ مَن يُحِبُّه، فعادَه المحبُّ، فمرضَ من وقته، فعوفيَ محبوبُه، فجاءَ يعودُه، فلما رآه عُوفي من وقته، وأنشد (4): _________ (1) الأبيات لأبي نواس في «ديوانه» (ص 299) مفتوحة القافية، وكما هنا في «ديوان الصبابة» (ص 68)، و «تزيين الأسواق» (1/ 61 - 62)، و «الواضح المبين» (ص 54). (2) هذا البيت ساقط من ش. وجواب «إذا» في البيت التالي في الديوان. (3) الخبر في «الواضح المبين» (ص 54). (4) الشعر للشافعي في القسم المنسوب له في «ديوانه» (ص 139)، و «الواضح المبين» (ص 54)، و «تزيين الأسواق» (1/ 62). وبلا نسبة في «العقد الفريد» (2/ 450)، و «حماسة الظرفاء» (2/ 90).
(الكتاب/116)
مَرِضَ الْحَبيبُ فَعُدْتُه ... فمَرِضْتُ مِنْ حَذَرِي عليهِ وأتى الحبيبُ يَعُودُوني ... فبرئتُ مِنْ نَظري إلَيْه وأنت إذا تأمَّلْتَ الوجودَ؛ لا تكاد تجد اثنين يتحابَّان إلا وبينهما مشاكلةٌ، أو اتفاقٌ في فعلٍ أو حالٍ أو مَقْصِدٍ، فإذا تباينت المقاصدُ والأوصافُ والأفعالُ والطرائقُ لم يكن هناك إلا النُّفْرَةُ والبعدُ بين القلوب، ويكفي في هذا الحديثُ الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ المُؤمِنينَ في توادِّهمْ، وترَاحُمِهِمْ، وتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَل الجَسَدِ الْوَاحِد، إذا اشْتَكى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسَّهَر» (1). فإن قيل: فهذا الذي ذَكرتم يقتضي أنَّه إذا أحبَّ شخصٌ شخصًا أن (2) يكونَ الآخرُ يحبُّه فيشتركان في المحبَّة، والواقعُ يشهدُ بخلافه، فكم من محبٍّ غير محبوب، بل بسيف البغض مضروب. قيل (3): قد اختلفَ الناس في جواب هذا السؤال، فأما أبو محمد بن حزم فإنَّه قال (4): الذي أذهبُ إليه أنَّ العشقَ اتصالٌ بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخلقة في أصل عُنْصُرها الرفيع، لا على ما حكاه _________ (1) أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير. (2) ش: «إلا أن». (3) ش: «فقيل». (4) «طوق الحمامة» (ص 21).
(الكتاب/117)
محمَّد بن داود (1) عن بعض أهلِ الفلسفة أن الأرواح أُكَرٌ (2) مقسومةٌ، لكن على سبيل مناسبةِ قواها في مَقَرِّ عالَمها العُلويِّ، ومجاورتها في هيئة تركيبها. وقد علمنا أن سرَّ (3) التمازج والتباين في المخلوقات إنَّما هو الاتصال والانفصال، فالشكلُ دائمًا (4) يستدعي شكلَه، والمثلُ إلى مثله ساكنٌ. وللمجانسة [29 ب] عملٌ محسوس، وتأْثيرٌ مشاهد. والتنافُرُ في الأضداد، والموافقةُ في الأنداد، والنِّزاعُ فيما تشابَه موجود بيننا، فكيف بالنفس وعالَمُها العالمُ الصَّافي الخفيف، وجوهرُها الجوهرُ الصَّعَّاد المعتدلُ، وسِنْخُها المُهَيَّأُ لقَبول الاتفاق والميل والتَّوْق، والانحراف والشهوة والنِّفار؟ والله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف/ 189]، فجعل عِلَّةَ السكُون أنَّها منه، ولو كان عِلَّةَ الحبِّ حسنُ الصورة الجسدية لوجبَ ألا يُسْتَحْسَنَ الأنقصُ (5) من الصُّور، ونحن نجد كثيرًا ممن يُؤْثِرُ الأدنى ويعلمُ فضل غيره، ولا يجدُ محيدًا لقلبه عنه، ولو كان للموافقة في الأخلاق لما _________ (1) انظر: «الزهرة» (1/ 53). (2) «أكر» ساقطة من ت. (3) ت: «شر» تصحيف. (4) ش: «إنما». وفي «طوق الحمامة»: «دأبا». (5) ش: «إلا بعض» تحريف.
(الكتاب/118)
أحبَّ المرءُ من لا يُساعدهُ ولا يُوافقه، فعلمنا أنَّه شيءٌ في ذات النفس، وربما كانت المحبَّةُ لسببٍ من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها. قال (1): ومما يؤكِّد (2) هذا القول أنَّنا قد علمنا أنَّ المحبَّة ضُروب، فأفضلُها محبَّةُ المتحابِّين في الله، إمَّا لاجتهادٍ في العمل، وإمَّا لاتفاق في أصل المذهب، وإمَّا لفضل علمٍ يُمْنَحُه الإنسانُ. ومحبَّةُ القرابة، ومحبَّةُ الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبَّةُ التَّصاحُب والمعرفة، ومحبَّةٌ لبرٍّ يضعهُ المرء (3) عند أخيه، ومحبَّةٌ لطمعٍ في جاه المحبوب، ومحبَّةُ المتحابَّيْن لسرٍّ يجتمعان عليه يلزمهما سَتْرُه، ومحبَّةٌ لبلوغ اللَّذَّة وقضاء الوَطَرِ، ومحبَّةُ العشق التي لا عِلَّةَ لها إلا ما ذكرنا من اتصال (4) النفوس. وكلُّ هذه الأجناس فمنقضيةٌ مع انقضاء عِلَلها، وزائدةٌ بزيادتها، وناقصةٌ بنقصانها، متأكِّدَةٌ بدُنوِّها، فاترةٌ (5) ببعدها، حاشا محبَّةِ العشق الصَّحيح المُتمكِّن من النفس. ثم أورَدَ هذا السُّؤال، قال (6): والجوابُ: أنَّ نفسَ الذي لا يحبُّ من _________ (1) «طوق الحمامة» (ص 22). (2) ت: «يؤيد». (3) ت: «العبد». (4) «اتصال» ساقطة من ش. (5) ت: «فائزة» تحريف. (6) طوق الحمامة (ص 22).
(الكتاب/119)
يُحبه مُكْتَنِفَةُ الجهات ببعض الأعراض الساترة، والْحُجُب المحيطة بها من الطبائع الأرضية، فلم تُحِسَّ بالجزء الذي كان متصلًا بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلَّصت لاستويا (1) في الاتصال والمحبَّة (2). ونفس [30 أ] المحبِّ متخلِّصةٌ عالمةٌ بمكان ما كان يَشْرَكُها في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدةٌ إليه، باحثة عنه، مشتهيةٌ لملاقاته، جاذبةٌ له لو أمكنها كالمِغْنَاطِيس والحديد، وكالنَّار في الحجر (3). وأجابت طائفةٌ أخرى: أنَّ الأرواح خُلِقتْ على هيئة الكُرة، ثُم قُسِمت، فأيُّ رُوحين تَلاقَتا هناك وتجاورتا؛ تآلفتا في هذا العالم، وتحابَّتا، وإن تنافرتا هناك تنافرتا هنا، وإن تآلفتا من وجهٍ وتنافرتا من وجهٍ؛ كانتا كذلك ها هنا. وهذا الجواب مبنيٌّ على الأصل الفاسد الذي أصَّله هؤلاء: أنَّ الأرواح موجودةٌ قبل الأجساد، وأنَّها كانت متعارفةً متجاورة هناك، تتلاقى وتتعارف، وهذا خطأ، بل الصَّحيح الذي دلَّ عليه الشرعُ والعقلُ: أنَّ الأرواحَ مخلوقةٌ مع الأجساد، وأن الملك المُوَكَّل بنفخ الرُّوح في الجسد ينفُخ فيه الرُّوح إذا مضى على النطفة أربعةُ أشهر، ودخلتْ في الخامس، وذلك أوَّل حدوثِ الرُّوح فيه. _________ (1) ش: «لو تخلصت لاستوت». ت: «لو تخلصا لاستويا». والمثبت من «طوق الحمامة». (2) «في الاتصال والمحبة» ساقطة من ت، ش. (3) هنا انتهى النقل من «طوق الحمامة».
(الكتاب/120)
ومن قال: إنَّها مخلوقةٌ قبل ذلك فقد غلط، وأقبحُ منه قولُ من قال: هي قديمةٌ، أو تَوَقَّفَ في ذلك، بل الصَّوابُ في الجواب أن يقال: المحبَّةُ كما تقدَّم قسمان: محبةٌ عَرَضِيَّةٌ غَرَضِيَّةٌ، فهذه لا يجبُ الاشتراك فيها، بل يقارنها مَقْتُ المحبوب وبغضُه للمحبِّ كَثيرًا، إلا إذا كان له معه غرضٌ نظيرُ غرضه، فإنَّه يحبُّه لغرضه منه، كما يكون بين الرَّجل والمرأة اللَّذَيْن لكلٍّ منهما غرضٌ مع صاحبه. والقسم الثاني: محبَّةٌ رُوحانية سببُها المشاكلة والاتفاق بين الرُّوحين، فهذه لا تكون إلا من الجانِبَيْن ولابدَّ، فلو فَتَّش المُحبُّ المحبَّةَ الصادقةَ قلبَ المحبوب لوجدَ عنده من محبَّته نظيرَ ما عنده، أو دونه، أو فوقه. فصل وإذا كانت المحبَّةُ من الجانِبَيْن استراحَ بها كلُّ واحدٍ من المُحبَّيْن، وسكَّن ذلك بعضَ ما به، وعدَّه نوعًا من الوِصَال، وقالت امرأةٌ من [30 ب] العرب (1): حَجَجْتُ ولم أحْجُجْ لذنبٍ عمِلتُه ... ولكن لتُعْدِيني عَلَى قاطع الحَبْلِ _________ (1) الأبيات لامرأة في «الواضح المبين» (ص 52). وتُنسب لقيس بن الملوح (المجنون) في «لباب الآداب» لابن منقذ (ص 414)، وعنه في «ديوانه» (ص 232).
(الكتاب/121)
ذهبتُ بعقلي في هَواهُ صغيرةً ... وقد كَبِرَتْ سِنِّي فرُدَّ به عَقلي وإلا فسوِّ الحبَّ بيني وبينَه ... فإنَّك يا مولايَ تُوصَفُ بالعَدْل وقال آخر (1): فيا ربِّ أشْغِلْها بحبِّي كما بِها ... شَغَلْتَ فُؤادي كي يَخِفَّ الذي بِيا وقالت امرأةٌ تعاتب بَعْلَها: أسألُ الذي قسمَ بين العباد معايشَهم أن يَقْسِم الحبَّ بيني وبينَك، ثم أنشدت (2): أدعو الذي صَرَفَ الهَوى ... منِّي إليكَ وَمِنْكَ عَنِّي أنْ يَبْتَلِيْكَ بما ابتَلا ... نِي أو يَسُلَّ الحبَّ مني وقال آخر (3): فيا ربِّ إنْ لم تَقْسِمِ الحُبَّ بيننا ... بشَطْرَينِ فاجْعلْني عَلَى هجْرِها جَلْدا وأعْقِبْنيَ السُّلوانَ عنها ورُدَّ لي ... فُؤاديَ مِن سَلْمى أُثِبْك به (4) حمدًا _________ (1) بلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 52). (2) كما في «الواضح المبين» (ص 52). (3) البيتان لرجل من بني العشق في «الواضح المبين» (ص 52). والأول للمجنون في «لسان العرب» (سوا)، و «شرح أبيات مغني اللبيب» (3/ 215)، و «ديوانه» (ص 120). (4) ت: «بها».
(الكتاب/122)
وقال أبو الهُذَيْل العَلَّاف (1): لا يجوز في دَوْر الفلك، ولا في تركيب الطبائع، ولا في الواجب، ولا في المُمكن أن يكونَ محبٌّ ليس لمحبوبه إليه ميلٌ، وإلى هذا المذهب ذهبَ أبو العباس الناشئ حيث يقول (2): عيناكِ شاهِدَتان أنَّكِ مِن ... حَرِّ الهَوى تجدينَ ما أجِدُ بكِ ما بِنا لكنْ على مَضضٍ ... تتَجَلَّدِينَ ومَا بِنَا جَلَدُ وقال أبو عُيَيْنَة (3): تبيتُ بنا تَهْذِي وأَهْذِي بذكرِها ... كِلانا يُقاسي اللَّيل وهو مُسهَّدُ وما رَقدت إلا رأتني ضَجِيعَها ... كذاك أراها في الكرى حين أرقُدُ تُقِرُّ بذنبي حين أغفُو ونلتقي ... وأسألُها يقظان عنه فتجحدُ كلانا سواءٌ في الهوى غير أنَّها ... تجلَّدُ أحيانًا وما لي تجلُّدُ وقال عُرْوَةُ بن أُذيْنة (4): _________ (1) انظر: «منازل الأحباب» (ص 43)، و «الواضح المبين» (ص 52). (2) له في «منازل الأحباب» (ص 219)، و «الواضح المبين» (ص 53)، وفيه: أن الشعر لكثير، وقال الحصري في «المصون»: للناشئ. (3) الأبيات له في «الواضح المبين» (ص 53)، وأخلَّ بها ديوانه المجموع المنشور في مجلة المعهد الفرنسي «بدمشق». والبيت الرابع مع آخر بلا نسبة في «مصارع العشاق» (2/ 245)، و «منازل الأحباب» (ص 44)، و «تزيين الأسواق» (1/ 340). (4) سبق الأول منهما، وهناك التخريج.
(الكتاب/123)
إنَّ التي زَعمت فؤادك ملَّها ... خُلِقَتْ هواكَ كما خُلِقْتَ هوىً لها [31 أ] فبك الذي زعمتْ بها فكلاكُما ... أبدى لصاحبِه الصَّبابةَ كلَّها فإذا تشاكلت النفوس وتمازجت الأرواح وتفاعلت؛ تفاعلت عنها الأبدان، وطلبت نظير الامتزاج والجوار الذي بين الأرواح، فإن البدن آلة الرُّوح ومَركَبُه، وبهذا ركَّب الله سبحانه شهوة الجماع بين الذكر والأنثى طلبًا للامتزاج والاختلاط بين البدنين، كما هو بين الرُّوحين، ولهذا يُسمَّى جماعًا وخِلاطًا ونكاحًا وإفضاء؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما يُفضي إلى صاحبه، فيزول الفضاءُ بينهما. فإن قيل: فهذا يُوجِب تأكُّد الحبِّ بالجماع وقوّتَه به، والواقعُ خلافه، فإنَّ الجماع يُطْفِئ نارَ المحبَّة، ويُبَرِّد حرارتَها، ويُسكِّن نفس المحبِّ. قيل: الناس مختلفون في هذا، فمنهم من يكون بعد الجماع أقوى محبَّةً، وأمكنَ وأثبت ممَّا قبله، ويكون بمنزلة من وُصف له شيء ملائمٌ، فأحبَّه، فلمَّا ذاقه كان له أشدَّ محبَّة، وإليه أشدَّ اشتياقًا. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عروج الملائكة _________ (1) أخرجه البخاري (6408)، ومسلم (2689) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/124)
إلى ربِّهم، أنه سبحانه يسألهم عن عباده ــ وهو أعلم بهم ــ فيقولون: «إنهم يُسبِّحونكَ، ويُمجِّدونك (1)، ويقدّسونك، فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فتقولُ الملائكة: لو رأوك لكانوا أشدَّ تسبيحًا وتقديسًا وتمجيدًا، ثم يقولون: ويسألونك الجنَّة، فيقولُ: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقولُ: فكيف لو رأوها؟ فتقولُ الملائكة: لو رأوها لكانوا أشدَّ لها طلبًا» وذكر الحديث. ومعلومٌ: أنَّ محبةَ من ذاق الشيء الملائمَ وعَدِمَ صَبْرَه عنه أقوى من محبة من لم يَذُقْهُ، بل نفسه مفطومة (2) عنه، والمودَّةُ التي بين الزوجين والمحبةُ بعد الْجماع أعظمُ من التي كانت قبله. والسببُ الطبيعي أنَّ شهوةَ القلب ممتزجةٌ بلذَّة العين، فإذا رأتِ العينُ اشتهى القلبُ، فإذا باشر الجسمُ الجسمَ؛ اجتمعَ [31 ب] شهوةُ القلب ولذَّة العين ولذة المباشرة، فإذا فارق هذه الحال كان نِزَاعُ نفسه إليها أشدَّ، وشوقُه إليها أعظمَ، كما قيل (3): _________ (1) ش: «ويحمدونك». (2) ت: «منطوية». (3) البيت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي في «الموشح» (ص 271)، و «معجم الأدباء» (2/ 605)، و «نهاية الأرب» (3/ 88)، و «بغية الطلب» (2/ 237). وقد غيَّر الشاعر لما عِيبَ عليه الشطر الأول وقال: وكل مسافرٍ يزداد شوقًا ... = = ... وهو بهذه الرواية في «عيون الأخبار» (1/ 141)، و «أمالي القالي» (1/ 55)، و «الأغاني» (9/ 385)، و «زهر الآداب» (1/ 510)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص 90).
(الكتاب/125)
وأكثرُ (1) ما يكونُ الشَّوقُ يومًا ... إذا دَنَتِ الدِّيارُ من الدِّيار ولذلك يتضاعفُ الألم والحسرةُ على من رأى محبوبَه أو باشرَه، ثم حِيلَ بينه وبينَه، فتضاعُفُ ألَمِه وحسرتِه في مقابلة مضاعفة لذّة من عاوده، وهذا في جانب المرأة أقوى، فإنها إذا ذاقت عُسَيْلَةَ الرَّجل ــ ولا سيما أوَّل عُسَيْلَة ــ لم تكدْ تصبرُ عنه بعد ذلك، قال أيمن بن خُرَيم (2): يُميتُ العتابَ خِلاطُ النساءِ ... ويُحيي اجتنابُ الخِلاطِ العِتابا وتزوَّج زهير بن مسكين الفِهْري جاريةً، ولم يكن عنده ما يُرضيها به، فلما أمكنته من نفسها لم تَرَ عنده ما ترضى به، فذهبت ولم تَعُدْ إليه (3)، فقال في ذلك أشعارًا كثيرةً، منها (4): تقولُ وقد قَبَّلْتُها ألفَ قُبْلَةٍ ... كفاكَ أمَا شيءٌ لَدَيْكَ سِوى القُبَلْ فقلتُ لها حبٌّ على القلب حفظُه ... وطولُ بُكاءٍ تستفيضُ له المُقَلْ _________ (1) ت: «وأقتل». (2) له في «عيون الأخبار» (4/ 102)، و «الشعر والشعراء» (1/ 543)، و «شرح المختار من شعر بشار» (ص 212)، و «الواضح المبين» (ص 77). (3) «إليه» ساقطة من ش. (4) الأبيات في «ديوان الصبابة» (ص 209)، و «الواضح المبين» (ص 78).
(الكتاب/126)
فقالت لعمرُ الله ما لَذّةُ الفتى ... من الحبِّ في قولٍ يُخالفه الفِعَلْ (1) وقال آخر (2): رأت حُبِّي سعادُ بلا جماعٍ ... فقالت حَبلُنَا حَبْلُ انقطاعِ ولستُ أُرِيدُ حُبًّا ليس فيه ... متاعٌ منكَ يدخلُ في متاعي فلو قبَّلْتَنِي ألفًا وألفًا ... لما أُرضيتُ إلا بالجِمَاعِ إذا ما الصَّبُّ لم يكُ ذا جِمَاعٍ ... يَرى المحبوبَ كالشيءِ المُضَاعِ جِماعُ الصَّبِّ غايةُ كُلِّ أُنْثَى ... وداعيهِ لأهلِ العِشْق دَاعِي فقلْتُ لها وقد ولَّتْ تعالَيْ ... فإنَّكِ بعد هذا لن تُرَاعِي وإنكِ لو سألتِ بقاءَ يومٍ ... خليٍّ (3) عن جِمَاعِك لن تُطاعي فقالتْ مَرْحَبًا بفتىً كريمٍ ... ولا أهلًا بِذي الخَنَعِ اليَرَاعِ [32 أ] إذا ما البعلُ لم يكُ ذا جِماعٍ ... يُرى في البيت مِنْ سَقَطِ المَتاع وقال آخر (4): ولما شكوتُ الحبَّ قالت كذبتَني ... فكم زَورةٍ منِّي قصدتُك خاليا فما حُلَّ فيها من إزارٍ للذَّةٍ ... فعدتُ وحاجاتُ الفُؤادِ كما هِيا _________ (1) ت: «العمل». (2) بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 210)، و «الواضح المبين» (ص 77). (3) ت: «خلا». (4) ت: «وقال أيضًا».
(الكتاب/127)
وهل راحةٌ للمرءِ في وِردِ مَنْهَلٍ ... ويَرْجعُ بعد الوِرْد ظمآنَ صادِيا؟ وقال العباس بن الأحنف (1): لم يَصْفُ وصلٌ لمعشوقَين لم يَذُقا ... وصلًا يَجِلُّ على كل اللَّذاذات وقال هُدْبَة بن الخَشْرَم (2): والله ما يَشْفي الفؤادَ الهائما نفثُ الرُّقَى وعَقْدُكَ التَّمائما ولا الحديثُ دون أنْ تُلازِما ولا اللِّزامُ دُون أن تُفاغِما وتعْلُوَ القَوائِمُ القَوائِما وقال آخر (3): قولا لعاتكَة التي ... في نظرةٍ قضَتِ الوَطَرْ إنِّي أُريدكِ للنكَا ... ح ولا أُريدكِ للنظرْ _________ (1) «ديوانه» (ص 70)، و «الواضح المبين» (ص 74)، و «ديوان الصبابة» (ص 209). (2) الرجز له في شعره المجموع (ص 133) و «الشعر والشعراء» (2/ 691، 692)، و «الأغاني» (21/ 258)، و «الواضح المبين» (ص 74)، و «شرح الحماسة» للتبريزي (2/ 14)، و «المقاصد النحوية» (2/ 428)، و «خزانة الأدب» (4/ 85)، و «ديوان الصبابة» (ص 209). (3) الأبيات بلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 74)، و «ديوان الصبابة» (ص 209).
(الكتاب/128)
لوْ كانَ هذا بُغْيَتي ... لَقَنِعْتُ منها بالقَمَرْ وقال آخر (1): دواءُ الحبّ تقبيلٌ وشَمٌّ ... ووضعٌ للبُطونِ على البُطونِ ورَهْزٌ تذرفُ العينانِ منه ... وأخذٌ بالمناكب والقرون وقالت امرأةٌ وقد طُلبت منها المحادثة (2): لَيْسَ بِهذا أَمَرتْنِي أُمِّي ولا بتقبيلٍ ولا بِشَمِّ لكن جِمَاعًا قد يُسلِّي هَمِّي يَسْقُطُ منه خاتَمِي في كُمِّي وقد كشف الشاعر سبب ذلك حيث يقول (3): _________ (1) هما لأم الضحاك المحاربية في «اللآلي» للبكري (2/ 692)، و «حماسة» ابن الشجري (ص 277)، و «شرح المقامات» للشريشي (1/ 162)، وبلا نسبة في «العقد الفريد» (6/ 140)، و «الواضح المبين» (ص 75)، و «ديوان الصبابة» (ص 207). والأول فقط في «البيان والتبيين» (3/ 206). (2) ت: «طلب منها محادثة». والرجز لامرأة العجاج (وهي الدهناء بنت مسحل) في «اللآلي» للبكري (2/ 692)، و «تهذيب الألفاظ» (ص 348)، و «بلاغات النساء» (ص 119). ولأم الورد في «الواضح المبين» (ص 75). وبلا نسبة في «البيان والتبيين» (3/ 207)، و «التذكرة الحمدونية» (6/ 228). (3) بلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 77).
(الكتاب/129)
لو ضَمَّ صَبٌّ إِلْفَه ألْفًا لَمَا ... أجدَى وزادتْ لوعةٌ وغَرامُ أرواحُهم من قَبْلِ ذاك تألَّفَتْ ... فتألَّفَتْ مِن بَعْدِها الأجسامُ وقال (1): سألتُ فقيهَ الحُبِّ عن عِلَّة الهَوى ... وقلتُ له أشكُو إلى الشَّيْخ حَالِيا فقالَ دواءُ الحبِّ أن تُلْصِقَ الحَشا ... بأحشاءِ منْ تهوى إذا كنتَ خَالِيا وتَتَّحدَا من بعد ذاك تعانُقًا ... وتَلْثِمَه حتى يُرى لك ناهِيا فتقضيَ حاجاتِ الفُؤادِ بأسرِها ... على الأمن ما دامَ الحبيبُ مُواتيا إذا كانَ هذا في حلالٍ فحبَّذا ... وصالٌ به الرَّحمنُ تلقاهُ راضيا وإن كان هذا في حرامٍ فإنَّه ... عذابٌ به تَلْقَى العَنا والمَكاوِيا قال هؤلاء: ولا يستحكم الحبُّ إلا بعد أن يَشُقَّ الرجلُ رداءَه، وتشقُّ (2) المرأة المعشوقةُ بُرْقُعَهَا. كما قال (3): إذا شُقَّ بُرْدٌ شُقَّ بالبُرْد بُرْقعٌ ... دَوَالَيْكَ حتى كلُّنا غيرُ لابسِ فَكَمْ قد شَقَقْنا مِن رِداءٍ مُحَبَّرٍ ... ومن بُرْقُعٍ عن طَفْلةٍ غيرِ عانس _________ (1) في ش بعدها زيادة: «المؤلف رحمه الله تعالى». والبيت الثاني منها في «الواضح المبين» (ص 75). فليُنظر هل الشعر للمؤلف، وضمَّنه البيت الثاني؟ (2) «تشق» ساقطة من ش. (3) البيتان لسحيم عبد بني الحسحاس في «ديوانه» (ص 16)، و «المقاصد النحوية» (3/ 401)، و «خزانة الأدب» (1/ 272). وبلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 74).
(الكتاب/130)
ولما بلغ بعضَ الظرفاء قولُ المأْمون: ما الحبُّ إلا قبلةٌ ... الأبيات (1). قال: كذبَ المأمون، ثم قال (2): وباض الحبُّ في قلبي ... فَوا ويلًا إذا فرَّخْ وما يَنْفَعُني حُبِّي ... إذا لم أكنُس البَرْبَخْ وإن لم يَضع الأصْلَـ ... ــعُ خُرْجَيْه على المطْبَخ وقال ابن الرُّومي (3): أُعانقها والنفسُ بعدُ مشوْقَةٌ ... إليْها وهَلْ بعد العِنَاقِ تَدانِ؟! وأَلْثِمُ فاها كي تَزُولَ صَبابَتِي ... فيشتدُّ ما ألقى من الهيمَانِ ولَمْ يَكُ مِقْدَارُ الذي بي من الجَوَى ... لِيَشْفِيه ما ترشُفُ الشَّفَتَانِ كأنَّ فُؤادِي ليسَ يَشْفِي غَليلَه ... سوى أن أرى الرُّوحين تمتزجان وقال الطَّبرانيُّ في معجمه الأوسط (4): حدَّثنا بكر بن سهل، حدَّثنا _________ (1) ستأتي قريبًا. (2) الأبيات لأبي العبر في «الأغاني» (23/ 199)، و «الواضح المبين» (ص 76)، و «ديوان الصبابة» (ص 208). (3) تقدمت الأبيات وتخريجها. وانظر: الواضح المبين» (ص 76). (4) رقم (3177). وأخرجه أيضًا ابن ماجه (1847)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 160)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 78) من طريق محمد بن مسلم به. ورُوي أيضًا عن إبراهيم عن طاوس مرسلًا، أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (2747)، وسعيد بن منصور في «سننه» (492)، وعبد الرزاق في «المصنف» (6/ 151). وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (624).
(الكتاب/131)
عبد الله بن يوسف، حدَّثنا محمَّد بن مسلم، عن إبراهيم بن مَيْسَرَة، عن طاوس، عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: أن رجلًا قال: يا رسول الله! عندنا يتيمةٌ قد خطبَها رجلان: مُوسرٌ ومُعْسرٌ، وهي تهوى المُعْسِرَ، ونحنُ نهوى المُوسِرَ، فقال: «لَمْ يُرَ للْمُتَحابَّيْن مِثلُ التَّزْويج». قال أبو القاسم الطبرانيُّ: لم يَرْوِه عن طاوس إلا إبراهيم، ولا رواه عن إبراهيم إلا محمد بن مسلم وسفيان الثوري، تفرَّد به مُؤَمَّل بن إسماعيل عن الثوريِّ. انتهى. وقد رواه أبو الفرج بن الجوزي (1) من حديث حَيَّان بن بِشْر: حدَّثنا أحمد بن حَرْب، حدّثنا ابن عيينة، حدّثنا عمرو عن جابر، فذكره. وقال المعافى بن عمران: حدَّثنا إبراهيم بن يزيد، عن [33 أ] سليمان ابن موسى، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وحدَّثنا علي بن حرب الطَّائيُّ، حدَّثنا ابن عُيَيْنَة، عن إبراهيم بن مَيْسَرة، عن طاوس. _________ (1) في «ذم الهوى» (ص 601).
(الكتاب/132)
وذكره الدَّارقطني في كتاب «الغرائب» (1) وقال: تفرَّد به يزيد بن مروان، عن عمر بن هارون، عن عثمان بن الأسود المَكِّيِّ، عن إبراهيم بن مَيْسَرة، عن طاوس. وقالت هند بنت المُهلَّب: ما رأيتُ لصالحي النساء وشِرارهن خيرًا من إلحاقهنَّ بمن يَسْكُنَّ إليه من الرِّجال، ولَربَّ مسكونٍ إليه غير طائلٍ، والسَّكن على كلِّ حالٍ أوفق. وذكر الحاكم في تاريخ نَيْسابور (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: «أرْبَعٌ لا يَشْبَعْنَ منْ أَرْبع: أرضٌ من مَطَرٍ، وأُنثى من ذَكَرٍ، وعينٌ من نَظَرٍ، وعالِمٌ من عِلمٍ». وهذا باطلٌ قطعًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو كثيرٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه. _________ (1) انظر: «أطراف الغرائب» (3/ 194). (2) وأخرجه أيضًا أبو نعيم في «الحلية» (2/ 281)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 234) من طريق محمد يعني ابن الفضل عن التيمي عن ابن سيرين عن أبي هريرة. وفيه محمد بن الفضل كذاب. ورواه العقيلي في «الضعفاء» (2/ 297)، وابن حبان في «المجروحين» (2/ 19، 20)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 234) من طريق محمد بن الحسن بن زبالة ثنا عبد الله بن محمد بن العجلان عن أبيه عن جده عن أبي هريرة. قال العقيلي: لا أصل له، عبد الله بن محمد بن عجلان منكر الحديث، لا يتابع على هذا الحديث.
(الكتاب/133)
وذكر الطبرانيُّ في معجمه الأوسط (1) من حديث ابن عمر يرفعه: «فضلُ ما بين لذَّة المَرْأة ولذَّة الرَّجُلِ كأَثرِ المِخْيَط في الطِّين، إلا أنَّ الله سَتَرهنَّ بِالحَيَاءِ». وقال: لم يَرْوِه عن ليث إلا أبو المسيب سَلْم بن سلام، عن سويد، عن (2) عبد الله بن أسامة، عن يعقوب بن خالد، عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما. قلت: وهذا أيضًا لا يَصِحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإسناده مظلمٌ، لا يُحتجُّ بمثله. فصل ورأت طائفةٌ: أنَّ الجماع يُفسِد العشقَ ويُبطِله أو يُضعفه، واحتجت بأُمور: منها: أن الجماع هو الغاية التي تُطْلَب بالعشق، فما دام العاشقُ طالبًا فعشقه ثابتٌ، فإذا وصل إلى الغاية قضى وطرَه، وبَرَدَت حرارةُ طلبه، وطَفِئَتْ نارُ عشقه. قالوا: وهذا شأنُ كلِّ طالبٍ لشيءٍ إذا ظَفِر به، كالظمآن إذا رَوِيَ، والجائع إذا شَبع، فلا معنى للطَّلب بعد الظَّفر. _________ (1) رقم (7374). قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 293): فيه أحمد بن علي بن شوذب، لم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات. (2) كذا في ت، ش. والصواب: «عن يزيد بن ... ». كما في «المعجم الأوسط».
(الكتاب/134)
ومنها: أنَّ سبب العِشْقِ فكريٌّ، وكلَّما قَوِيَ الفكرُ زادَ العشقُ، وبعد الوصول لا يَبْقى الفكر. ومنها: أنَّه قبل الظفر ممنوعٌ، والنفسُ مُولَعَةٌ بحبِّ ما مُنِعَتْ منه، كما قال (1) [33 ب]: وزادَني كَلَفًا في الحُبِّ أنْ مُنِعَتْ ... أحَبُّ شيءٍ إلى الإنسانِ ما مُنِعا وقال الآخر (2): لولا اطِّرادُ الصَّيْدِ لم تَكُ لَذَّةٌ ... فَتَطَارَدِي لي بالوِصَالِ قليلا قالوا: وكانت الجاهلية الجهلاء في كفرهم لا يرجون ثوابًا، ولا يخافون عقابًا، وكانوا يصونون العِشْق عن الجماع، كما ذُكر أنَّ أعرابيًّا عَلِق امرأةً، فكانَ يأتيها سنينَ، وما جرى بينهما ريبةٌ، قال: فرأيتُ ليلةً بياضَ كفِّها في ليلةٍ ظلماء، فوضعتُ يدي على يدها، فقالت: مه، لا _________ (1) البيت للأحوص في «ديوانه» (ص 153)، و «نوادر» أبي زيد (ص 198)، و «الزهرة» (1/ 236)، و «الأغاني» (4/ 299)، و «العقد الفريد» (3/ 306)، و «زهر الآداب» (1/ 350)، و «حماسة» ابن الشجري (ص 152). ويُنسب للمجنون في «ديوانه» (ص 201). وهو بلا نسبة في «عيون الأخبار» (2/ 3)، و «العقد الفريد» (3/ 141)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص 209)، و «لسان العرب» (حبب). (2) البيت لكشاجم السندي في «ديوانه» (ص 465). وبلا نسبة في «زهر الآداب» (1/ 11).
(الكتاب/135)
تُفسدْ ما صَلُحَ؛ فإنَّه ما نُكِحَ حبٌّ إلا فسد. فأخذ ذلك المأْمون فقال (1): ما الحبُّ إلا نظرةٌ ... وَغَمْزُ كفٍّ وعَضُدْ أو كُتُبٌ فيها رُقًى ... أَجَلُّ من نَفْثِ العُقَدْ ما الحُبُّ إلا هكذا ... إن نُكِحَ الحبُّ فَسَدْ مَنْ كانَ هذا حُبُّهُ ... فإنَّما يَبْغِي الوَلَدْ وهَوِي آخرُ امرأةً، فدامتِ (2) الحالُ بينهما في اجتماعٍ وحديثٍ ونظرٍ، ثم إنَّه جامعَها، فقطعت الوصلَ بينهما، فقال (3): لَوْ لَمْ أُواقعْ دامَ لي وَصْلُها ... فليتَنِي لا كُنْتُ واقَعْتُها وقيل لآخرَ شكا فِراق محبوبةٍ له، فقال (4): أكثرتَ منْ وَطْئِها والوَطءُ مَسْأَمَةٌ ... فارفُقْ بنفسكَ إنَّ الرِّفْقَ مَحْمُودُ _________ (1) الأبيات للمأمون في «أشعار أولاد الخلفاء» (ص 327). وهي في «الأغاني» (23/ 199)، و «الموشى» (ص 118)، و «حماسة الظرفاء» (2/ 124)، و «أخبار النساء» (ص 51)، و «سمط اللآلي» (2/ 691)، و «شرح مقامات الحريري» (1/ 161)، و «الواضح المبين» (ص 76)، و «المستطرف» (3/ 41). (2) ش: «فدام». (3) البيت في «الواضح المبين» (ص 79) برواية أخرى. (4) البيت لعلي بن يحيى في «الواضح المبين» (ص 79)، و «ديوان الصبابة» (ص 208).
(الكتاب/136)
وذكر عمر بن شَبَّة (1) عن بعض علماء أهل المدينة قال: كان الرَّجل يحبُّ الفتاةَ، فإن ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار، واليومَ يُشير إليها وتشيرُ إليه، فيعدُها وتَعِدُه، فإذا التقيا لم يَشْكُ حبًّا، ولم يُنشِدْ شعرًا، وقام إليها، كأنَّه أشهدَ على نكاحِها أبا هريرة رضي الله عنه: لم يَخْطُ مِنْ داخل الدِّهليز مُنْصَرِفًا ... إلا وخَلْخَالُها قد قاربَ الشّنفا (2) قال الأصمعيُّ (3): قلتُ لأعرابيةٍ: ما تعدُّون العِشْقَ فيكم؟ قالت: العِنَاقُ، والضَّمَّةُ، والغَمْزةُ، والمُحادَثَةُ. ثم قالت: يا حضريُّ! فكيف هو عندكم؟ قلت: يقعدُ بين شُعَبِها الأربع، ثم يَجْهَدُها. قالت: يا بنَ أخي! ما هذا عاشقٌ، هذا طالبُ ولد. وسُئل أعرابيٌّ (4) عن ذلك، فقال: مَصُّ الرِّيق، ولَثْمُ العشيقة، والأخذُ من أطايب الحديث، [34 أ] فكيف هو فيكم أيُّها الحضريّ؟ _________ (1) أخرج عنه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 83، 84)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 231). والخبر في «ربيع الأبرار» (4/ 25)، و «المستطرف» (3/ 41). (2) ش: «الساقا». (3) رواه الخرائطي (ص 84). وهو في «أخبار النساء» (ص 42)، و «الواضح المبين» (ص 85). (4) الخبر في «الواضح المبين» (ص 85).
(الكتاب/137)
فقال: العَفْسُ الشديد، والجمعُ بين الركبة والوريد، ورَهْزٌ يُوقظ النائم، ويَشْفي القلبَ الهائم. فقال: بالله (1) ما يفعلُ هذا العدوُّ الشديدُ! فكيف الحبيبُ الودود؟! وقال بعضهم (2): الحبُّ يطيبُ بالنظر، ويَفْسُد بالعهر. قال هؤلاء: والحبُّ الصَّحيح يُوجب إعظامَ المحبوب، وإجلالَه، والحياءَ منه، فلا يُطاوع نفسَه أن يُلقيَ جلبابَ الحياء عند محبوبه، وأن يُلْقِيه عنه، ففي ذلك غاية إذلاله وقهره، كما قيل (3): إذا كان حظُّ المرءِ مِمَّن يُحبُّه ... حرامًا فحَظِّي ما يَحِلُّ ويَجمُلُ حديثٌ كماءِ المُزْنِ بين فُصُولِه ... عتابٌ به حسنُ الحديث يُفصَّل (4) ولَثْمُ فمٍ عَذْبِ اللِّثَاتِ كأنَّما ... جناهُنَّ شهدٌ فُتَّ فيه القَرَنْفُلُ وما العِشْقُ إلا عفةٌ ونزاهةٌ ... وأنسُ قُلوبٍ أُنْسُهنَّ التَّغزُّلُ وإني لأستحيي الحبيب من التي ... تَرِيبُ وأُدْعى للجميلِ فَأُجْمِلُ وزعم بعضُهم أنَّه كان يُشْرَط (5) بين العشيقة والعاشق أنَّ له مِنْ _________ (1) ت: «تالله». (2) الخبر في «الواضح المبين» (ص 86). (3) الأبيات بلا نسبة في الواضح المبين (ص 86). (4) هذا البيت ساقط من ت. (5) ت: «شرط».
(الكتاب/138)
نصفها الأعلى إلى سُرَّتها، ينال منه ما يشاءُ من ضمٍّ وتقبيلٍ ورَشْفٍ، والنِّصْفُ الأسفلُ يَحْرُم عليه، وفي ذلك قال شاعر القوم (1): فَلِلْحِبِّ شطرٌ مُطْلَقٌ مِنْ عِقَالِه ... وللبَعْلِ شَطْرٌ ما يُرامُ مَنِيعُ وقال الآخر (2): لها شَطْرٌ فَمِنْ حِلٍّ وَبِلٍّ ... وشطرٌ (3) كالبَحِيْرَة ما يُهاجُ وهذا كان من (4) دين الجاهلية، فأبطلته الشَّريعةُ، وجعلتِ الشَّطرين كليهما للبَعْل. والشُّعراءُ قاطبةً لا يرون بالمحادثة والنَّظر للأجنبيات بأسًا، وهو مخالفٌ للشَّرع والعقلِ، فإنَّ فيه تعريضًا للطبع لما هو مجبولٌ على الميل إليه، والطبعُ يَسْرِق ويَغْلِبُ، وكم من مفتونٍ بذلك في دينه ودنياه، فإن قيل: فقد أنشد الحاكم في «مناقب الشافعي» له (5): _________ (1) البيت بلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 87). (2) بلا نسبة في المصدر السابق (ص 87). (3) ش: «ونصف». (4) «من» ساقطة من ت. (5) البيتان لابن الدمينة في «ديوانه» (ص 201)، ولابن مناذر في «المحب والمحبوب» (2/ 143)، وللخضل بن عبيد في «معجم البلدان» (5/ 354). والبيت الأول لجميل في «ديوانه» (ص 82)، وللمجنون في «ديوانه» (ص 123). وقال مغلطاي في «الواضح المبين» (ص 88) بعد نسبتهما للشافعي: زعم ابن أبي طاهر في كتابه المنثور والمنظوم أنهما لرجل من غطفان في أبيات طويلة.
(الكتاب/139)
يقولون لا تنظُرْ وتلكَ بليَّةٌ ... ألا كلُّ ذي عَيْنينِ لابدَّ ناظِرُ [34 ب] وليس اكتحالُ العَيْنِ بالعينِ ريبةً ... إذا عَفَّ فيما بينَ ذاكَ الضَّمائرُ فإن صحَّت عن الشَّافعي؛ فإنَّما أراد النظر الذي لا يدخلُ تحت التكليف، كنظر الفَجْأَة، أو النظر المباح. وقد ذهبَ أبو بكر بن داودَ الأصفهانيُّ إلى جواز النظر إلى من لا يحلُّ له، كما سيأتي كلامُه إن شاء الله، قال أبو الفرج بن الجوزي (1): وأخطأ في ذلك، وجرَّ عليه خطؤه اشتهارَه بين الناس، وافتضاحَه. وذهب أبو محمد بن حزم إلى جواز العِشْق للأجنبية من غير ريبةٍ، وأخطأَ في ذلك خطأً ظاهرًا، فإنَّ ذَرِيعةَ العِشْق (2) أعظمُ من ذَرِيعة النظر، وإذا كان الشرعُ قد حرَّم النظرَ لما يُؤدِّي إليه من المفاسد، كما سيأتي بيانُه ــ إن شاء الله تعالى ــ فكيف يجوز تعاطي عِشْق الرجل (3) لِمَنْ لا يحلُّ له؟! والمقصود أنَّ هذه الفرقة رأت أنَّ (4) الجِماعَ يُفْسد العشْقَ، فغارت عليه مِمَّا يُفْسِدُه، وإن لم تتركْه ديانةً. _________ (1) «ذم الهوى» (ص 121). (2) «فإن صحت الرواية ... ذريعة العشق» ساقطة من ش. (3) ش: «العشق الرجل». (4) «أن» ساقطة من ت.
(الكتاب/140)
وقيل لبعض الأعراب: ما ينالُ أحدُكم من عشيقته إذا خلا بها؟ قال: اللَّمس، والقُبَل، وما يشاكلها (1). قال: فهل يتطاولان إلى الجماع؟ فقال: بأبي وأُمي ليس هذا بعاشقٍ! هذا طالبُ ولد. ويُحكى (2): أنَّ رجلًا عشقَ امرأةً، فقالت له يومًا: أنت صحيحُ الحبِّ غير سقيمه ــ وكانوا يُسَمُّون الحبَّ على الخنا: الحبَّ السقيم ــ فقال: نعم، فقالت: اذهبْ بنا إلى المنزل، فما هو إلا أن حَصَلَتْ في منزله، فلم يكن له نَهْمةٌ (3) غيرَ جماعها، فقالت له وهو كذلك: أسرفتَ في وطئنا والوَطءُ مَقْطَعَةٌ ... فارفُقْ بنفسِكَ إنَّ الرِّفْقَ محمودُ فقال لها وهو على حاله: لَوْ لَمْ أطأكِ لما دامتْ محبَّتُنا ... لكنَّ فِعْلِيَ هذا فعلُ مجهُود فنفرت مِنْ تحته، وقالت: يا خبيثُ أراكَ خلافَ ما قلتَ مِنْ صحَّة الحبِّ، ولم تجعل جماعي إلا سببًا لذهاب حبِّك، والله لا ضمَّني وإياك سقفٌ أبدًا! وسيأتي تمامُ الكلام في هذا في باب عفاف المحبين، إن شاء الله تعالى. _________ (1) ت: «يشاكلهما». (2) الخبر مع الشعر في «الواضح المبين» (ص 87)، و «ديوان الصبابة» (ص 208 - 209). (3) ش: «همة».
(الكتاب/141)
وفصل الخطاب بين الفريقين أنَّ الجماعَ [35 أ] الحرامَ يُفسِدُ الحبَّ، ولابدَّ أن تنتهيَ المحبَّةُ بينهما إلى المعاداة والتباغُض والقِلى، كما هو مشاهَدٌ بالعيَانِ، فكلُّ محبَّةٍ لغير الله آخرُها قِلًى وبغضٌ فكيف إذا قارنَها ما هو من أكبر الكبائر؟ وهذه عداوةٌ بين يدَي العداوة الكبرى التي قال الله تعالى فيها: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف/ 67]. وسنذكر (1) إن شاء الله تعالى مَنْ ظَفِرَ بمحبوبه، وترك قضاء وَطَرِه منه رغبةً في بقاء محبَّته، وخشية أن تنقلب قِلًى وبغضًا (2)، في الباب (3) الموعود به؛ فإنَّ ذلك أليقُ به. وأمَّا الجماعُ المباحُ فإنَّه يزيدُ الحبَّ؛ إذا صادفَ مرادَ المحبِّ، فإنَّه إذا ذاق لذَّته وطَعْمَه؛ أوجب له ذلك رغبةً أُخرى لم تكن حاصلةً قبل الذَّوق. ولهذا لا يكاد البِكْران يصبرُ أحدُهما عن الآخر، هذا ما لم يَعْرِض للحبِّ ما يُفسده، ويُوجب نقلَه إلى غيرِ المحبوب. وأمَّا ما احتجَّ به الآخرون فجوابُه: أنَّ الشهوةَ والإرادة (4) لم تُطْفَأْ نارُها بالكليَّة، بل فترت شهوةُ ذلك الوقت، ثم تعودُ أمثالها (5)، وإنَّما _________ (1) ت: «سيذكر». (2) ت: «بعضة». (3) «الباب» ساقطة من ت. (4) ت: «اللذاذة». (5) ت: «آمالها».
(الكتاب/142)
يظهر (1) هذا إذا غابَ أحدُهما عن حبيبه، وإلا فما دامَ بمرأًى منه وهو قادرٌ عليه متى (2) أحبَّ؛ فإنَّ النفسَ تسْكُن بذلك، وتطمئنُّ به، وهذا حالُ كلِّ مَنْ كان بحضرته ما يحتاج إليه من طعام وشرابٍ ولباسٍ، وهو قادرٌ عليه، فإنَّ نفسَه تسكُن عنده، فإذا حيل بينه وبينه اشتدَّ طلبُه له، ونِزاعُ نفسه إليه، على أنَّ المحبَّ للشيء متى أفرطَ في تناوُل محبوبه؛ نَفَرَتْ نفسُه منه، وربَّما انقلبتْ محبّتُهُ كراهةً. وسيأتي مَزِيدُ بيانٍ لهذا في باب سُلُوِّ المحبِّين إن شاء الله تعالى. فصل وداعي الحبِّ من المحبوب جمالُه، إمَّا الظاهرُ أو الباطنُ أو هما معًا، فمتى كان جميلَ الصُّورة، جميلَ الأخلاق والشِّيم والأوصاف؛ كان الدَّاعي منه أقوى. وداعي الحبِّ مِنَ المُحبِّ أربعة أشياء: أوّلُها: النظر إمَّا بالعين، أو بالقلب إذا وُصف له، فكثيرٌ من الناس يحبُّ غيرَه ويفنى [35 ب] فيه محبَّةً وما رآه، لكن وُصِفَ له. ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المرْأَة أن تَنْعَتَ المَرْأَةَ لِزَوْجِهَا، حتَّى كأنَّه يَنْظُرُ إلَيْهَا. والحديث في الصَّحيح (3). _________ (1) ت: «نظير». (2) ت: «ممن». (3) أخرجه البخاري (5240، 5241) من حديث عبد الله بن مسعود.
(الكتاب/143)
الثاني: الاستحسان، فإن لم يُورث نظرُه استحسانًا لم تقع المحبَّةُ. الثالث: الفكر في المنظور، وحديثُ النفس به، فإن شُغِل عنه بغيره ممَّا هو أهمُّ عنده منه لم يَعْلَق حبُّه بقلبه، وإن كان لا يعدم خطراتٍ وسوانحَ، ولهذا قيل: العشق حركة قلب فارغ. ومتى صادفَ هذا النظرُ والاستحسانُ والفكرُ قلبًا خاليًا؛ تمكَّن منه، كما قيل (1): أتاني هَواها قبلَ أن أعرِفَ الهوى ... فصادفَ قلبًا خاليًا (2) فتمكَّنا فإن قيل: فهل يتوقف على الطَّمع في الوصول إلى المُحَبِّ أم لا؟ قيل: الناسُ في هذا على أقسام: منهم من يعشق الجمال المُطْلَق، فقلبُه مُعَلّقٌ به أين (3) استقلَّت ركائبُه، وأين (4) حلَّت مَضَارِبُه، وهذا لا يتوقَّف عشقُه على الطمع. ومنهم من يعشقُ الجمالَ المقيَّد، سواءٌ طَمِعت نفسهُ في وِصَاله أو لم تطمع. _________ (1) البيت للمجنون في «البيان والتبيين» (2/ 42)، و «الحيوان» (1/ 169، 4/ 167)، و «تزيين الأسواق» (1/ 180)، و «ديوانه» (ص 282). ويُنسب ليزيد بن الطثرية في «الزهرة» (1/ 62)، و «حماسة» ابن الشجري (ص 145)، و «وفيات الأعيان» (6/ 370)، و «شعره» (ص 95). (2) ت: «فارغًا». (3) ش: «إن». (4) ش: «وإن».
(الكتاب/144)
ومنهم من لا يعشق إلا من طمعتْ نفسُه في وصاله، فإن يئسَ منه لم يَعْلَق حبُّه بقلبه. والأقسام الثلاثة واقعةٌ في الناس، فإذا وُجد النظرُ والاستحسانُ والفكرُ والطمعُ؛ هاجت بلابلُه، وأمكن من معشوقه مقاتلَه، واستحكمَ داؤُه، وعجَزَ عن الأطباء دواؤه. تالله ما أسَرَ الهوى مِن عاشقٍ ... إلا وعزَّ عَلى النفوس فِكَاكُهُ وإذا كان النظرُ مبدأ العشق؛ فحقيقٌ بالمُطْلَق ألا يعرِّضَ نفسَه للإسار الدائم بواسطة عينه (1)، وإذ قد أفضى بنا الكلام إلى النظر فلنذكرْ حُكْمَه وغائلَته. _________ (1) ت: «حبه».
(الكتاب/145)
الباب السادس في أحكام النظر، وغائلته، وما يجني على صاحبه
قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الآية [النور/30 ــ 31]، فلمَّا كان غضُّ البصر أصلًا لحفظ الفرج؛ بدأ بذكره، ولمَّا كان تحريمُه تحريمَ الوسائل، فيُباح للمصلحة الرَّاجحة، ويَحْرُمُ إذا خِيفَ منه الفسادُ، ولم يُعارضْه مصلحةٌ أرجحُ من تلك المفسدة؛ لم يأمر سبحانه بغَضِّه مطلقًا، بل أمر بالغضِّ منه، وأمَّا حفظ الفرج فواجبٌ بكلِّ حالٍ، لا يُباح إلا بحقِّه، فلذلك عمَّ الأمر بحفظه. وقد جعل الله سبحانه العينَ مِرْآة القلب، فإذا غضَّ العبدُ بصرَه غضَّ القلبُ شهوتَه وإرادتَه، وإذا أطلق بصره أطلق القلبُ شهوتَه. وفي الصحيح (1): أنَّ الفضل بن عباس رضي الله عنهما كان رَدِيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر من مُزْدَلِفَة إلى مِنًى، فمرَّت ظُعُنٌ يَجْرِيْن، فَطفِق الفضل ينظرُ إليهنَّ، فحوَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأْسَهُ إلى الشِّقِّ الآخر. وهذا منعٌ وإنكارٌ بالفعل. فلو كان النظرُ جائزًا لأقرَّه عليه. _________ (1) أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر الطويل في حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(الكتاب/146)
وفي الصحيح (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إن الله عزَّ وجلَّ كتب على ابن آدم حَظَّهُ من الزِّنَى، أدْرَك ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فالعَيْنُ تَزْنِي، وَزِنَاهَا النَّظَرُ، واللِّسَانُ يَزْني، وزِنَاهُ النُّطْقُ، والرِّجْلُ تَزْنِي، وَزِنَاهَا الخُطَا، واليَدُ تَزْنِي، وزِنَاهَا البَطْشُ، والقَلْبُ يَهْوَى ويَتَمنَّى، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلِك أوْ يُكَذِّبُه». فبدأ بزنى العينِ؛ لأنَّه أصلُ زنى اليد والرِّجل والقلبِ والفَرْج، ونبَّه بزنى اللسان بالكلام على زنى الفم بالقُبَل، وجعلَ الفرجَ مُصدِّقًا لذلك إن حقَّق الفعلَ، أو مكذبًا له إن لم يُحَقِّقْهُ. وهذا الحديث من أبين الأشياء على أنَّ العينَ تعصي بالنظر، وأنَّ ذلك زناها، ففيه ردٌّ على مَنْ أباح النظر مطلقًا. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «يا عَليُّ لا تُتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَة، فإنَّ (2) لك الأُولى، ولَيْسَتْ لكَ الثَّانِيَة» (3). ووقعت [36 ب] مسألة: ما تقولُ السَّادة العلماء (4) في رجلٍ نظرَ إلى امرأةٍ نظرةً، فعلقَ حبُّها بقلبه، واشتدَّ عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كلُّه _________ (1) أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة. (2) ت: «فإنما». (3) أخرجه أحمد (5/ 351، 353، 357)، وأبوداود (2149)، والترمذي (2777) من حديث بريدة، وهو حديث حسن. (4) ت: «الفقهاء».
(الكتاب/147)
من أوَّل نظرةٍ، فلو أعَدْتَ النظرَ إليها لرأيتَها دون ما في نفسكَ، فسلوتَ عنها، فهل يجوزُ له تعمُّد النظر ثانيًا لهذا المعنى؟ فكان الجواب: الحمد لله، لا يجوز هذا لعشرة أوْجُهٍ: أحدها: أنَّ الله سبحانه أمر بغضِّ البصر، ولم يجعلْ شفاءَ القلب فيما حرَّمه على العبد. الثاني: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن نظر الفَجْأَة، وقد علم أنه يُؤثِّر في القلب فأمرَ بمداواتِه بصرف البصر، لا بتكرار النَّظر. الثالث: أنَّه صرَّح بأن الأولى له، وليست له الثانية، ومحالٌ أن يكونَ داؤه ممَّا له، ودواؤه ممّا ليس له. الرابع: أنَّ الظَّاهر قوةُ الأمر بالنظرة الثانية لا تَناقُصُه، والتجربةُ شاهدةٌ به، والظَّاهر أنَّ الأمرَ كما رآه أولَ مرَّةٍ، فلا تحسنُ المخاطرة بالإعادة. الخامس: أنَّه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه، فزادَ عذابُه. السادس: أنَّ إبليسَ عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه، فيزيِّن له ما ليس بحسن لِتَتِمَّ البلية. السابع: أنَّه لا يُعانُ على بَليَّتِه إذا أعرضَ عن امتثال أوامر الشرع، وتداوى بما حرَّمه عليه، بل هو جديرٌ أن تتخلَّفَ عنه المعونة. الثامن: أنَّ النظرة الأولى سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، ومعلومٌ أنَّ الثانية أشدُّ سُمًّا، فكيف يتداوى من السُّمِّ بالسُّمِّ؟
(الكتاب/148)
التاسع: أنَّ صاحبَ هذا المقام في مقام معاملة الحقِّ ــ عزَّ وجلَّ ــ في ترك محبوب ــ كما زعم (1) ــ وهو يُريد بالنَّظرة الثانية أن يتبيَّن حال المنظور إليه، فإن لم يكن مرضيًّا تركه، فإذًا يكون تركُهُ لأنَّه لا يُلائم غرضَه لا لله تعالى، فأين معاملةُ الله ــ سبحانه ــ بترك المحبوب لأجله؟ العاشر: يتبيَّن بضرب مثلٍ مطابقٍ للحال، وهو أنَّك إذا ركبتَ فرسًا حديدًا، فمالتْ بك إلى درْبٍ ضيِّق لا ينفذُ، ولا يمكنها أن تستدير فيه للخروج، فإذا همَّت بالدُّخول فيه فاكبحْها (2)؛ لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوةً أو خطوتين فَصِحْ بها، ورُدَّها إلى وراء عاجلًا قبل أن يتمكَّن دخولُها، فإن رَدَدْتها إلى ورائها سهُل الأمر، وإن توانيتَ حتى ولَجَتْ، وسُقْتَها داخلًا، ثم قمت تجذِبُها بذَنبها؛ عَسُر عليك، أو تعذَّر خروجُها، فهل يقول عاقل: إنَّ طريق تخليصها سَوْقها إلى داخل؟ فكذلك النَّظرة إذا أثَّرت في القلب، فإنْ عَجِل الحازمُ، وحَسَم المادَّة من أوَّلها؛ سَهُل علاجُه، وإنْ كرَّر النظر، ونَقَّبَ عن محاسن الصُّورة، ونقلها إلى قلب فارغٍ، فنقشها فيه؛ تمكَّنت المحبَّة، وكلَّما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزالُ تَنْمي حتى يفسدَ القلبُ، ويُعْرِض عن الفكر فيما أُمِر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكابَ المحظورات، ويُلقي القلبَ في التلف. _________ (1) ت: «يزعم». (2) ت: «فاجذبها».
(الكتاب/149)
والسَّبَبُ في هذا أنَّ الناظر التذَّت عينُه بأوَّل نظرةٍ، فطلبتِ المعاودة، كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمةً، ولو أنَّه غضَّ أوَّلًا؛ لاستراح قلبُه، وسَلِم. وتأمَّل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «النظرة سهْمٌ مَسْمُومٌ من سهام إبليس» (1)، فإن السَّهْم (2) شأْنُه أن يسري في القلب، فيعمل فيه عمل السُّمِّ (3) الذي يُسقاه المسموم، فإن بادر واستفرَغه، وإلا قتله ولابدَّ. قال المرُّوذي (4): قلت لأحمد: الرجلُ ينظرُ إلى المملوكة؟ قال: أخافُ عليه (5) الفتنة، كم نظرةٍ قد ألقتْ في قلبِ صاحبها البلابل!. وقال ابن عباس (6): الشيطان من الرَّجل في ثلاثة: في بصره (7)، _________ (1) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 314)، والخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 143) من حديث عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة بن زفر عن حذيفة. وقال: صحيح. وتعقبه الذهبي بقوله: إسحاق بن عبد الواحد واهٍ، وعبد الرحمن الواسطي ضعفوه. (2) ش: «السم». (3) ش: «السهم». (4) أخرج من طريقه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 93). (5) ش: «إن خاف عليه». (6) أخرجه وكيع في «الزهد» (3/ 485)، وهناد في «الزهد» (2/ 1426)، ومن طريقه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 92). (7) ش: «نظره».
(الكتاب/150)
وقلبه، وذكره، وهو من المرأة في ثلاثة: في بصرها، وقلبها، وعجُزِها. فصل ولمَّا كان النظرُ من أقرب الوسائل إلى المحرَّم اقتضت الشَّريعة تحريمه، وأباحَتْه في موضع الحاجة. وهذا شأن كلِّ ما حُرِّم تحريمَ (1) الوسائل، فإنَّه يُباح للمصلحة الراجحة [37 ب]، كما حُرِّمت الصَّلاة في أوقات النهي؛ لئلا تكون وسيلة إلى التشبُّه بالكفَّار في سجودهم للشَّمس، وأُبيحت للمصلحة الرَّاجحة، كقضاءِ الفوائت، وصلاة الجنازة، وفعل ذوات الأسباب على الصَّحيح. وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: «النظرةُ سهمٌ مسمومٌ من سهام إبْليس، فمن غَضَّ بَصَرَهُ عن محاسن امْرَأَةٍ؛ أوْرَثَ الله قلبَهُ حلاوةً يجِدُها إلى يوم يَلْقَاهُ»، أو كما قال. وقال جريرُ بن عبد الله رضي الله عنهما: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفَجْأَة، فأمرني أن أصرف بصري (3). _________ (1) ت: «بتحريم». (2) لم أجده في «المسند»، وهو الحديث الذي سبق تخريجه قريبًا. وقد أخرجه أيضًا الطبراني في «المعجم الكبير» (10363) من حديث ابن مسعود، وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف. (3) أخرجه مسلم (2159).
(الكتاب/151)
ونظرةُ الفَجْأة: هي النظرةُ الأولى؛ التي تقع بغير قصدٍ من الناظر، فما لم يَعْتَمدْه القلبُ؛ لا يُعاقب عليه، فإذا نظر الثانية تعمُّدًا؛ أَثِمَ، فأمرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نظرة الفجأة أن يَصْرِفَ بصرَه، ولا يستديم النظر، فإنَّ استدامته كتكريره، وأرشد من ابْتُلي بنظرة الفَجْأة أن يداويه بإتيان امرأته، وقال: «إنَّ معَها مِثْل الّذي معها» (1) فإن في ذلك التسلِّي عن المطلوب بجنسه. والثاني: أن النظر يثير قوَّة الشَّهوة، فأمره بتنقيصها بإتيان أهله، ففتنة النظر أصلُ كلِّ فتنةٍ، كما ثبت في الصَّحيح (2) من حديث أُسامة بن زيد رضي الله عنهما: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما تركتُ بَعْدِي فتنةً أضَرَّ على الرِّجالِ من النِّساء». وفي صحيح مسلم (3) من حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقوا الدُّنْيَا، واتَّقُوا النِّساء». وفي مسند محمد بن إسحاق السَّراج (4) من حديث علي بن أبي _________ (1) أخرجه مسلم (1403) من حديث جابر بن عبد الله. (2) أخرجه البخاري (5096)، ومسلم (2740). (3) رقم (2742). (4) لم أجده في المطبوع منه وهو ناقص، ومن طريقه أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (14/ 79)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 155، 156)، وأخرجه أيضًا الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 121). وفي إسناده موسى بن هلال النخعي وهو ضعيف.
(الكتاب/152)
طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَخْوَفُ ما أَخافُ على أُمَّتي النساءُ والخَمْرُ». وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يكفُر مَنْ كفر ممَّن مضى إلا من قِبَلِ النساءِ، وكفرُ من بقي مِنْ قِبَل النساء. فصل وفي غضِّ البصر عِدَّة فوائد (1): أحدُها: تخليصُ القلب من ألمِ الحَسْرة، فإنَّ مَنْ أطلق نظرَه دامت حسرتُه؛ فأضرُّ شيءٍ على القلب إرسالُ البصر، فإنَّه يُريه ما يشتدُّ طلبُه، ولا صبرَ له عنه، ولا وصولَ له إليه، [38 أ] وذلك غايةُ ألمه وعذابه. قال الأصمعي (2): رأيت جاريةً في الطَّواف، كأنَّها مَهَاةٌ، فجعلتُ أنظر إليها، وأملأُ عيني من محاسنها، فقالت لي: يا هذا! ما شأنُكَ؟ قلت: وما عليكِ من النَّظر؟ فأنشأتْ تقول: _________ (1) ذكر شيخ الإسلام ثلاث فوائد منها في «مجموع الفتاوى» (15/ 420 - 427، وتكرر ذكرها في 21/ 252 - 259)، وقد أدرجها المؤلف في كلامه هنا. (2) أخرج عنه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 143). والشعر بلا نسبة في «عيون الأخبار» (4/ 22)، و «الزهرة» (1/ 45)، و «حماسة» أبي تمام (2/ 15)، و «بهجة المجالس» (2/ 21)، و «مصارع العشاق» (2/ 194)، و «منازل الأحباب» (ص 299)، و «ديوان الصبابة» (ص 88)، و «الحماسة البصرية» (2/ 121).
(الكتاب/153)
وكنتَ متى أرسلْتَ طَرْفَك رائدًا ... لقلبِكَ يومًا أتعَبَتْك المناظرُ رأيتَ الذي لا كلُّه أنتَ قادرٌ ... عليه ولا عَنْ بعضِه أنتَ صابرُ والنَّظرة تفعلُ في القلب ما يفعلُ السَّهم في الرَّميَّة، فإن لم تقتله جرحتْه، وهي بمنزلة الشَّرارة من النَّار تُرْمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقْه كلَّه؛ أحرقتْ بعضَه، كما قيل (1): كلُّ الحوادث مَبْداها من النَّظر ... ومُعْظَمُ النَّار من مُسْتَصْغَرِ الشَّررِ كم نظرةٍ فتكَتْ في قلبِ صاحبها ... فَتْكَ السِّهام بلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ والمرءُ ما دامَ ذا عينٍ يُقَلِّبُهَا ... في أعينِ الغيدِ موقوفٌ على الخطرِ يَسُرُّ مقلتَه ما ضرَّ مهجتَه ... لا مرحبًا بسرورٍ عاد (2) بالضَّرر والناظر يَرْمي مَنْ نظرَه بسهامٍ غَرَضُها قلبُه وهو لا يَشْعُر، فهو إنما يرْمي قلبَه. ولي من أبيات (3): يا راميًا بسهام اللَّحْظِ مُجتهدًا ... أنتَ القتيلُ بِما ترمي فلا تُصبِ وباعثَ الطَّرفِ يَرتَادُ الشِّفاءَ له ... تَوقَّهُ إنَّه يأْتيكَ بالعَطَب _________ (1) الأبيات بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 87). والأولان ذكرهما المؤلف في «بدائع الفوائد» (ص 817، 1212)، «والداء والدواء» (ص 224). (2) ت: «جاء». (3) البيتان من قصيدة للمؤلف في «بدائع الفوائد» (ص 818 - 819). وفي «الفوائد» (ص 107 - 109) ما عدا هذين البيتين.
(الكتاب/154)
وقال الفرزدق (1): تزوَّدَ منها نظرةً لم تَدَعْ له ... فؤادًا ولم يَشْعُرْ بما قَدْ تزوَّدا فَلَمْ أرَ مَقْتُولًا وَلَمْ أرَ قاتِلًا ... بغيرِ سلاحٍ مثلَها حِيْنَ أقصَدا وقال آخر (2): ومن كان يُؤْتَى من عدُوٍّ وحاسدٍ ... فإنِّيَ مِنْ عيني أُتيتُ ومِنْ قلبي هُما اعْتَوَرَاني نظرةً ثُمَّ فِكْرَةً ... فما أبقيا لي من رقادٍ ولا لُبّ وقال آخر (3): رماني بها طَرْفي فلم تُخْطِ مَقْتَلي ... وما كلُّ من يُرْمى تُصابُ مَقَاتِلُهْ إذا مِتُّ فابكُوني قتيلًا لطَرْفِه ... قتيلُ صديق حاضرٍ ما يُزايلُهْ وقال ابن المعتز (4): متيَّمٌ يَرعى نجومَ الدُّجى ... يَبْكي عليهِ رحمةً عاذِلُهْ عيني أشاطتْ بدمي في الهَوى ... فابكُوا قتيلًا بعضُه قاتلُهْ _________ (1) له في «ذم الهوى» (ص 95)، وليس في ديوانه. (2) البيتان لإبراهيم بن العباس الصولي في «ديوانه» (ص 140 ضمن «الطرائف الأدبية»)، و «ذم الهوى» (ص 95)، و «نهاية الأرب» (2/ 142). (3) بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 154)، و «ذم الهوى» (ص 96). (4) له في «ديوانه» (1/ 380)، و «ذم الهوى» (ص 97).
(الكتاب/155)
ومثله للمتنبي (1): وأنا الذي اجْتَلَبَ المَنِيَّةَ طَرْفُهُ ... فمَنِ المُطَالَبُ والقَتِيلُ القاتِلُ؟! وقال أيضًا (2): يا نظرةً نفتِ الرُّقَادَ وغادرتْ ... في حدِّ قلبي ما بَقيتُ فُلولا كانت من الكَحْلاءِ سُؤْلي إنَّما ... أجَلي تَمَثَّل في فؤَادي سُولا وقال أيضًا (3): وُقِيَ الأميرُ مِنَ العُيُونِ فإنَّه ... ما لا يَزُولُ ببأْسِهِ وسَخَائِهِ يستَأسِرُ البطَلَ الكَمِيَّ بنظرةٍ ... ويحولُ بَين فُؤادِه وعَزَائِه وقال الصُّوري (4): إذا أنت لم تَرْعَ البروقَ اللَّوامحا ... ونمتَ جَرى مِنْ تحتِك السَّيْلُ سائِحا _________ (1) «ديوانه» (3/ 367). (2) «ديوانه» (3/ 349). (3) «ديوانه» (1/ 132، 133). (4) هو عبد المحسن بن محمد، والأبيات له في «ذم الهوى» (ص 100).
(الكتاب/156)
غَرَسْتَ الهوى باللَّحظِ ثُمَّ احتقرته (1) ... وأهمَلْتَه مُسْتَأْنِسًا مُتسامحا ولم تَدْرِ حتَّى أينعَتْ شَجَراتُه ... وهبّت رياحُ الوَجْدِ فيه لواقحا فأمسيتَ تستدعي من الصبر عازبًا ... عليك وتستدني من النَّوم نازحا ودخل أصبهان مُغَنٍّ (2)، فكان يتغنَّى بهذين البيتين (3): سماعًا يا عبادَ الله منِّي ... وكفُّوا عن مُلاحظةِ المِلاح فإنَّ الحبَّ آخِرُه المَنايا ... وأوَّلُهُ شبيهٌ بالمُزاح وقال آخر (4): وشادنٍ لمَّا بدا ... أسْلَمَنِي إلى الرَّدى بطرفهِ ولُطْفِهِ ... وظَرْفِه لمَّا بَدا _________ (1) ش: «احترمته». (2) ت: «معن» تحريف. (3) «ذم الهوى» (ص 98)، و «ديوان الصبابة» (ص 89). (4) بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 99).
(الكتاب/157)
أردتُ أنْ أصيدَه ... فصادَ قَلْبِي وعَدا (1) وقال آخرُ يعاتب عينه (2): والله يا بصَري الجاني على جَسَدي ... لأُطْفِئَنَّ بدمْعِي لوعةَ الحَزَن تالله (3) تطمَعُ أنْ أبكِي هوًى وضَنًى ... وأنتَ تشبعُ مِن غُمْضٍ ومِن وَسَن هيهات حتَّى تُرى طَرْفًا بلا نَظَرٍ ... كما أُرَى في الهوَى شخصًا بلا بَدَن وقال آخر (4) [39 أ]: يا مَنْ يَرى سُقْمِي يزيـ ... ــدُ وعِلَّتي أعْيَتْ طَبِيبي لا تَعْجَبَنَّ فهكذا ... تَجْني العُيونُ على القُلوب _________ (1) ت: «وغدا». (2) «ذم الهوى» (ص 99). والأولان في «مصارع العشاق» (1/ 64)، و «تزيين الأسواق» (2/ 294). والأول مع بيت آخر في «الأغاني» (14/ 117)، و «التذكرة الحمدونية» (6/ 212) ضمن خبر طويل. (3) ت: «بالله». (4) البيتان لأبي عبد الله ابن الحجاج في «ذم الهوى» (ص 99)، و «ديوان الصبابة» (ص 90).
(الكتاب/158)
وقال آخر (1): لواحظُنا تَجْنِي ولا عِلْمَ عندنا ... وأنفسُنا مأْخوذةٌ بالجَرائِرِ ولم أَرَ أَغبى من نفوسٍ عفائفٍ ... تُصَدِّق أخمارَ العُيون الفَواجرِ ومَنْ كانتِ الأجفانُ حُجَّابَ قلبهِ ... أذِنَّ على أحشائِه بالفواقِر وقال آخر (2): ومستفتح بابَ البلاءِ بنظرةٍ ... تزوَّدَ منها قلبُه حَسْرة الدَّهْرِ فوالله ما تدْرِي أيدْري بِما جنتْ ... على قَلْبِهِ أم أهلكَتْه وما يَدْري؟ وقال آخر (3): أنا ما بين عدُوَّيْـ ... ــنِ هُمَا قَلْبِي وطَرْفِي ينظرُ الطَّرفُ ويَهوى الـ ... ــقلبُ والمقصودُ حَتْفِي وقال الخفَاجيُّ (4): رَمتْ عينَها عَيْني وراحتْ سليمةً ... فَمَنْ حاكِمٌ بينَ الكَحِيلةِ والعَبْرى فيا طَرْفُ قد حذَّرتُك النَّظْرَة التي ... خَلَسْتَ فما راقبت نَهْيًا ولا زَجْرا _________ (1) الأبيات لأبي منصور ابن الفضل في «ذم الهوى» (ص 99). (2) هما بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 103). (3) بلا نسبة في «ذم الهوى» (103). (4) هو ابن سنان، والأبيات له في «ديوانه» (ص 104)، و «ذم الهوى» (ص 100).
(الكتاب/159)
ويا قلبُ قدْ أرداكَ طَرْفيَ مرَّةً ... فوَيحَك لِمْ طاوَعْتَه مرَّةً أُخرى؟! ولي من أبياتٍ لعلَّ معناها مبتكَر: ألم أقُل لك لا تَسْرقْ ملاحظةً ... فسارقُ اللَّحْظِ لا ينجُو مِن الدَّرَكِ نصبتُ طَرْفي له لمَّا بدا شركًا ... فكانَ قَلْبِي أوْلى منه بالشَّرك الفائدة الثانية: أنه يُورِثُ القلبَ نورًا وإشراقًا يظهر في العين، وفي الوجه والجوارح، كما أنَّ إطلاقَ البصر يُورثه ظلمةً تظهر في وجهه وجوارِحه. ولهذا ـ والله أعلم ـ ذكر الله سبحانه أنه (1) النُّور في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور/35] عقيب قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور/30] وجاءَ الحديثُ مطابقًا لهذا، حتى كأنَّه مشتقٌّ منه، وهو قوله: «النَّظرة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس، فمن غضَّ بصره عن محاسن امرأةٍ أورثَ الله قَلْبَه نُورًا» (2) الحديث. الفائدة الثالثة: أنَّه يُورث صحَّةَ الفِراسة [39 ب]، فإنَّها من النُّور وثمَرَاته، وإذا استنارَ القلبُ صحَّتِ الفِراسةُ، لأنَّه يصيرُ بمنزلة المِرْآة التي تظهرُ فيها المعلوماتُ كما هي، والنظرُ بمنزلة التنفُّس فيها، فإذا أطلق العبدُ نظرَه؛ تنَفَّسَتْ نفسُه الصُّعَداء في مِرْآة قلبه، فطَمَسَتْ نورَها، كما قيل: _________ (1) ش: «آية». (2) سبق تخريجه.
(الكتاب/160)
مِرْآةُ قلبِكَ لا تُريكَ صَلاحَه ... والنَّفْسُ فيها دائِمًا تَتَنَفَّسُ قال شجاع الكَرْماني (1): مَنْ عَمَر ظاهرَه باتِّباع السُّنَّة، وباطنَه بدوام المُراقبة، وغضَّ بصرَه عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشَّهوات، وأكلَ من الحَلال؛ لم تُخطئ فِراستُه. وكان شجاع لا تُخطئ له فراسة. والله سبحانه يَجزي العبدَ على عملِهِ بما هو من جنسِه، فمَنْ غضَّ بَصَرَه عن المحارم؛ عوَّضه الله سبحانه إطلاقَ نورِ بَصِيرتِه، فلمَّا حبسَ بصرَه لله (2)؛ أطلق الله له بَصِيرتَه، ومن أطلق بصرَه في المحارمِ؛ حبس الله عنه بَصِيرتَه. الفائدة الرابعة: أنْ يفتحَ له طرقَ العلم وأبوابَه، ويُسهِّلَ (3) عليه أسبابَه، وذلك بسبب نور القلب، فإنَّه إذا استنارَ ظهرتْ فيه حقائقُ المعلوماتِ، وانكشفتْ له بسرعة، ونفَذَ من بعضها إلى بعض. ومن أرسلَ بصره (4) تكدَّر عليه قلبُه، وأظلمَ، وانسدَّ عليه بابُ العلم وطُرُقُه. الفائدة الخامسة: أنَّه يُورث قُوَّة القلب، وثباتَه، وشجاعتَه، فيجعلُ الله سبحانَه له سلطانَ البصيرة مع سلطان الحجَّة. وفي الأثر: إنَّ الذي يُخالفُ _________ (1) بل شاه بن شجاع، وقوله هذا في «حلية الأولياء» (10/ 237)، و «صفة الصفوة» (4/ 43). (2) «لله» ساقطة من ت. (3) ت: «وسهل». (4) ش: «نظره».
(الكتاب/161)
هواه يفْرَقُ الشَّيطان من ظلِّه، ولهذا يُوجد في المتَّبع لهواه مِنْ ذلِّ القلب وضعفِه، ومهانةِ النَّفس وحقارتِها، ما جعله (1) الله لمن آثر هواه على رضاه. قال الحسن: إنَّهم وإن هَمْلَجَتْ بهم البغالُ، وطَقْطَقَتْ بهم البراذين؛ إنَّ ذلَّ المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذِلَّ مَنْ عصاه. وقال بعض الشيوخ: الناسُ يطلبون العزَّ بأبواب (2) الملوك، ولا يجدونَه إلا في طاعة الله، ومَنْ أطاع الله؛ فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه [40 أ] فقد عاداه فيما عَصاه فيه، وفيه قِسْطٌ ونصيبٌ من فعل من عاداه بمعاصيه، وفي دعاء القنوت: «إنه لا يَذِلُّ مَنْ واليتَ، ولا يَعِزُّ من عادَيْت» (3). الفائدة السادسة: أنَّه يُورث القلبَ سرورًا، وفرحةً، وانشراحًا أعظمَ من اللذَّة والسُّرور الحاصل بالنظر، وذلك لقهره عدوَّه بمخالفته، ومخالفة نفسه وهواه، وأيضًا فإنَّه لما كفَّ لذَّتَه، وحبسَ شهوتَه لله، وفيها مسرّةُ نفسه الأمَّارة؛ أعاضَه الله سبحانه مسرَّةً، ولذَّةً أكمل منها، كما قال بعضهم: والله لَلَذَّةُ العفَّة أعظمُ من لذَّة الذنب! ولا ريبَ أنَّ النفسَ إذا _________ (1) ش: «جعله». (2) ت: «في أبواب». (3) أخرجه أحمد (1/ 200)، وأبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (3/ 248)، وابن ماجه (1178) من حديث الحسن بن علي. وهو حديث صحيح.
(الكتاب/162)
خالفت هواها؛ أعقَبها ذلك فرحًا، وسرورًا، ولذةً أكملَ من لذَّة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما. وها هنا يمتاز العقل من الهوى. الفائدة السابعة: أنه يُخَلِّصُ القلبَ من أسر الشَّهوة، فإنَّ الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه، فهو (1) كما قيل: ............................ ... طليقٌ برأْي العَيْنِ وهو أسيرُ ومتى أسرتِ الشهوةُ والهوى القلبَ تمكَّن منه عدوُّه، وسامَه سوءَ العذَاب، وصارَ (2): كعُصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يَسومُها ... حياضَ الرَّدَى والطِّفلُ يَلْهُو ويَلْعَبُ الفائدة الثامنة: أنَّه يسدُّ عنه بابًا من أبواب جهنم، فإنَّ النَّظرَ بابُ الشَّهوة الحاملة على مُواقعة الفِعْل، وتحريمُ الربِّ تعالى وشرعُه حجابٌ مانعٌ مِنَ الوصول، فمتى (3) هتَكَ الحجابَ ضرِيَ على المحظور، ولم تَقِفْ نفسُه منه (4) عند غاية، فإنَّ النفسَ في هذا الباب لا تَقْنَع بغايةٍ تقفُ عندها، وذلك أنَّ لذَّتَه في الشيءِ الجديد، فصاحبُ الطارف لا يُقْنِعُه التليد، وإن كان _________ (1) «فهو» ساقطة من ت. (2) البيت مع آخرين بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 279). وهو لمجنون ليلى في «ديوانه» (ص 44). (3) ت: «فمن». (4) «منه» ساقطة من ت.
(الكتاب/163)
أحسن منه منظرًا، وأطيب مخْبَرًا، فغضُّ البصر يَسُدُّ عنه هذا الباب؛ الذي عجَزَت الملوكُ عن استيفاء أغراضِهم فيه. الفائدة التَّاسعة: أنه يقوِّي عقلَه، ويزيده، ويثبِّته، فإنَّ إطلاقَ البصر وإرسالَه لا يَحصُل إلا من خِفَّة العقل، وطَيْشه، وعدم ملاحظته للعواقب، فإنَّ خاصَّة العقل ملاحظةُ العواقب. [40 ب] ومُرْسِلُ النظرِ لو علمَ ما تجني عواقبُ نظره عليه لما أطلق بصرَه، قال (1): وأعقلُ النَّاسِ مَنْ لم يرتكبْ سَببًا ... حتَّى يُفكِّرَ ما تَجْني عَواقبُهُ الفائدة العاشرة: أنَّه يُخلِّص القلب منْ سُكر الشَّهوة، ورَقْدة الغفلة، فإنَّ إطلاقَ البصر يُوجب استحكامَ الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويُوقع في سكرة العشق، كما قال الله تعالى عن عشَّاق الصُّوَر: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر/72]. فالنظرةُ كأسٌ من خمر، والعشقُ هو سكرُ ذلك الشَّراب. وسكرُ العشق أعظمُ من سكر الخمر، فإنَّ سكرانَ الخمر يُفيقُ، وسكران العشق قلَّما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات، كما قيل (2): سُكرانِ سكرُ هوًى وسكرُ مدامةٍ ... ومتى إفاقةُ مَنْ به سُكْرانِ؟ _________ (1) البيت بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 14). (2) البيت لديك الجن في «ديوانه» (ص 224).
(الكتاب/164)
وفوائد غضِّ البصر وآفاتُ إرساله أضعافُ أضعافِ ما ذكرنا، وإنَّما نبَّهْنا عليها (1) تنبيهًا، ولاسيَّما النَّظر إلى مَنْ لم يجعل الله سبيلًا إلى قضاء الوَطَر منه شرعًا، كالمُرْدان الحِسان، فإنَّ إطلاق النظر إليهم السُّمُّ الناقع والدَّاءُ العُضَال. وقد روى الحافظ محمَّدُ بن ناصر (2) من حديث الشَّعْبي مُرْسلًا، قال: قدم وفدُ عبد القيس على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وفيهم غلامٌ أمردُ ظاهرُ الوَضَاءَةِ، فأجلسه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وراءَ ظهره وقال: «كانتْ خَطِيئةُ مَنْ مَضَى مِنْ النَّظَر». وقال سعيدُ بن المسيَّب (3): إذا رأيتُم الرجل يُحِدُّ النظرَ إلى الغلام الأمرد؛ فاتَّهِموه. وقد ذكَر ابن عديٍّ في كامله (4) من حديث بقيَّةَ عن الوازع، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُحِدَّ _________ (1) ش: «عليه». (2) لم يروِه ابن ناصر، بل روى حديثًا آخر. أما هذا الحديث فقد أخرجه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 106). وهو حديث موضوع، قال ابن الصلاح: لا أصل لهذا الحديث. انظر: «ذيل اللآلئ المصنوعة» (ص 122)، و «تنزيه الشريعة» (1/ 308). (3) انظر: «ذم الهوى» (ص 108). (4) (7/ 96). ومن طريقه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 106). وفي إسناده الوازع ابن نافع العقيلي، وهو ضعيف، والحديث من مناكيره.
(الكتاب/165)
الرجلُ النظرَ إلى الغلام الأمرد. وكان إبراهيم النَّخَعيُّ، وسفيانُ الثوريُّ، وغيرُهما من السلف يَنْهون عن مجالسة المُرْدَان. قال النَّخَعيُّ (1): مجالستُهم فتنةٌ، وإنَّما هم بمنزلة النساء. وبالجملة: فكم من مُرْسلٍ لحظاتِه رجعَ جيشُ صَبْره [41 أ] مفلولًا، ولم يُقلعْ حتى تَشَحَّط بينهنَّ قتيلًا (2): يا ناظرًا ما أقلعتْ لَحَظاتُه ... حتى تَشَحَّطَ بينهنَّ قتيلا _________ (1) أخرج عنه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 139)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 108). (2) البيت بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 90).
(الكتاب/166)
الباب السابع في ذكر مناظرةٍ بين القلب والعين، ولوم كلٍّ منهما صاحبه (1)، والحكم بينهما
لمَّا كانت العين رائدًا، والقلب باغيًا وطالبًا، وهذه لها لذَّةُ الرؤية، وهذا له لذة الظفر؛ كانا في الهوى شريكَيْ عِنان. ولمَّا وقعا في العَنَاءِ، واشتركا في البلاء؛ أقبلَ كلٌّ منهما يلوم صاحبَه، ويعاتبه. فقال القلب للعين: أنتِ التي سُقْتِني إلى موارد الهَلَكاتِ، وأوقعتني في الحَسَرات بمُتابعتِك اللَّحَظات، ونزَّهْت طرفَك في تلك الرياض، وطلبتِ الشِّفاء من الحَدَق المِراض، وخالفت قولَ أحكم الحاكمين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور/30] وقول رسوله (2) - صلى الله عليه وسلم -: «النَّظر إلى المَرْأَةِ سهْمٌ مسمُومٌ منْ سهام إبليس، فمنْ تركَه خَوْفَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ أثابَهُ الله إيمانًا يجِدُ حلاوَتَهُ في قَلْبه». رواه الإمام أحمد (3): حدَّثنا هشيم، حدّثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن محارب بن دِثار، عن صِلة، عن حذيفة. _________ (1) ت: «لصاحبه». (2) ت: «النبي». (3) لم أجده في «مسنده». وسبق تخريج الحديث.
(الكتاب/167)
وقال عمر بن شَبَّة (1): حدَّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدَّثنا عنبسة بن عبد الرحمن القرشيُّ، حدَّثنا أبو الحسن المدنيُّ، حدَّثنا عليُّ ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نظَرُ الرَّجُلِ في محَاسِن المَرأة سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إبلِيسَ مَسْمُومٌ، فمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذلك السَّهْمِ أعْقَبَهُ الله عبادَةً تَسُرُّه». فَمَنِ الملومُ سوى من رمى صاحبَه بالسَّهم المسموم؟ أَوَ ما علمتِ أنَّه ليسَ شيءٌ أضَرَّ على الإنسان من العين واللسان؟ فما عَطِبَ أكثرُ من عطِبَ إلا بهما، وما هَلَكَ أكثرُ من هلكَ إلا بسببهما، فَلِلّهِ كم من موْرِد هلكةٍ أوردَاه، ومصدَر ردًى عنه أصدراه، فمن أحبَّ أن يحيا سعيدًا، ويعيش حميدًا؛ فليَغُضَّ من عِنان طَرْفه ولسانه؛ ليسلمَ من الضَّرر، فإنَّه كامنٌ في فضول الكلام، وفضول النظر. وقد صرَّح الصَّادقُ المصدوقُ بأنَّ (2) العينين تزنيان، وهما أصلُ زنى الفرج (3)، فإنَّهما له رائدان، وإليه داعيان. وقد سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - [41 ب] عن نظرة الفَجْأة، فأمر السائل أن _________ (1) أخرجه من طريقه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 143). وفي إسناده عنبسة ابن عبد الرحمن القرشي، وهو ضعيف. (2) ت: «أن». (3) تقدم تخريجه.
(الكتاب/168)
يَصْرف بصره (1)، فأرشده إلى ما ينفعه، ويدفع عنه ضرره، وقال لابن عمِّه عليٍّ رضي الله عنه محذِّرًا له ممَّا يوقع الفتنة، ويورث الحسرة: «لا تُتْبع النَّظْرَة النَّظْرَة» (2). أوَ ما سمعتِ قول العقلاء: مَنْ سَرَّح ناظره؛ أتعبَ خاطره، ومن كثرت لَحظاتُه؛ دامت حَسَرَاتُه، وضاعت عليه أوقاتُه. وقال الناظم (3): نظرُ العيونِ إلى العيونِ هو الَّذي ... جَعَلَ الهلاكَ إلى الفُؤادِ سَبيلا ما زالتِ اللَّحَظاتُ تغزو قلبَه ... حتَّى تَشَحَّطَ بَينهنَّ قتيلا وقال آخر (4): تمَتَّعْتُما يا مُقْلَتيَّ بنظرةٍ ... وَأَوْرَدْتُما قلبي أمَرَّ المَوَارد فعينايَ كُفَّا عن فُؤادي فإنَّه ... من الظُّلمِ سعيُ اثنينِ في قَتْلِ واحد فصل قالت العين: ظلمتَني أوَّلًا وآخرًا، وبُؤْتَ بإثمي باطنًا وظاهرًا، وما أنا إلا رسولُك الدَّاعي إليكَ، ورائدُك الدالُّ عليك (5): _________ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) لعله المؤلف، والبيتان بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 90). (4) البيتان للأرجاني في «تزيين الأسواق» (2/ 239)، و «ديوان الصبابة» (ص 89). (5) البيت لابن سنان الخفاجي في «ديوانه» (ص 105) باختلاف الرواية.
(الكتاب/169)
وإذا بعثتَ برائدٍ نحوَ الذي ... تهْوى وتَعْتِبُه ظلمتَ الرَّائدَا فأنت الملكُ المطاع، ونحن الجنودُ والأتباع، أركبتني في حاجتك خيلَ البريد، ثم أقبلتَ عليَّ بالتَّهديد والوعيد. فلو أمرتني أن أُغلقَ عليَّ بابي، وأُرخيَ عليَّ حجابي؛ لسمعتُ، وأطعتُ، ولَمَا رَعَيْت في الحِمى ورتعت؛ أرسلتني لصيدٍ قد نُصِبَت لك حبائلُه، وأشراكُه، واستدارت حولَك فِخَاخُه، وشبَاكُه، فغدوتَ أسيرًا بعد أن كنتَ أميرًا، وأصبحت مملوكًا بعدأن كنت مليكًا. هذا، وقد حكم لي عليك سَيِّدُ الأنام، وأعدلُ الحكَّام ــ عليه الصَّلاةُ والسَّلام ــ حيث يقول: «إنَّ في الجَسدِ مُضْغَةً إذا صلحَتْ؛ صلُحَ لها سائِرُ الجَسَدِ، وإذا فَسَدتْ؛ فسَدَ لها سَائِرُ الجَسَدِ، ألا وهِي القلبُ» (1). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: القلبُ مَلِكٌ، والأعضاءُ جنودُه، فإن طابَ الملِكُ؛ طابتْ جنوده، وإن (2) خبُثَ الملك؛ خبثتْ جنودُه. ولو أنعمتَ النظرَ لعلمتَ أنَّ فسادَ رعيتك بفسادِك، وبقاءَها (3) وصلاحَها ورشدَها برشادِك، ولكنَّكَ هلكتَ، وأهلكتَ رعيَّتك، [42 أ] وحمَلت على العين الضَّعيفة خطيئتك، وأصلُ بليَّتِكَ أنَّه قد خلا منك _________ (1) أخرجه البخاري (52، 2051)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير. (2) ش: «وإذا». (3) «وبقاءها» ساقطة من ش.
(الكتاب/170)
حبُّ الله، وحبُّ ذكرِه، وكلامِهِ، وأسمائِهِ، وصفاته، وأقبلتَ على غيره، وأعرضت عنه، وتعوَّضت بحبِّ مَنْ سواه والرغبة فيه منه. هذا وقد سمعتَ ما قصَّ عليك من إنكاره سبحانه على بني إسرائيل استبدالَهم طعامًا بطعام أدنى منه، فذمَّهم على ذلك، ونعاه عليهم، وقال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة/61] فكيف بمن استبدلَ بمحبة خالقه، وفاطره، ووليِّه ومالكِ أمره؛ الذي لا صلاحَ له، ولا فلاحَ، ولا نعيم، ولا سرور، ولا فرحة، ولا نجاة إلا بأن يوحِّدَه في الحبِّ، ويكونَ أحبَّ إليه ممَّا سواه، فانظر بالله بِمَن استبدلتَ؟ وبمحبَّة من تعوَّضت؟ رضيت لنفسك بالحَبْس في الحشِّ، وقلوبُ مُحبِّيه تجولُ حولَ العرش. فلو أقبلتَ عليه، وأعرضت عمَّا سواه؛ لرأيتَ العجائب، ولأمِنْتَ من المتالفِ والمعاطب، أوَ ما علمتَ أنَّه خصَّ بالفوز والنعيم من أتاه بقلبٍ سليم، أي سليم مما سواه، ليس فيه غير حبّه واتباع رضاه. قالت: وبين ذنبي وذنبك عند الناس كما بين عَمَايَ وعَمَاكَ في القياس. وقد قال مَنْ بيده أزِمَّةُ الأمور: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج/46]. فصل فلمَّا سمعت الكبدُ تحاوُرَهما الكلام، وتناوُلَهما الخِصامَ؛ قالت: أنتما على هلاكي تَسَاعَدْتُما، وعلى قتلي تعاونتما. ولقد أنصفَ مَنْ
(الكتاب/171)
حكى مناظرتكما، وقال (1) على لساني متظلِّمًا منكما (2): يقولُ طَرْفي لقلبي هِجْتَ لي سَقَمًا ... والعينُ تزعمُ أنَّ القلبَ أنكاها (3) والجِسْمُ يشهدُ أنَّ العينَ كاذبةٌ ... وَهْيَ الَّتي هيَّجتْ للقلبِ بَلْواها لولا العيونُ وما يَجْنينَ مِنْ سَقَمٍ ... ما كنتُ مُطَّرَحًا من بعض قَتْلاها فقالتِ الكَبِدُ المظلومةُ اتَّئِدا ... قطَّعْتُمانِي وما راقَبْتُما الله وقال آخر (4) [42 ب]: يقول قلبي لطَرْفي (5) أنْ بكى جزَعًا ... تبكي وأنتَ الذي حَمَّلتني الوَجَعَا؟! فقالَ طَرْفي له فيما يُعاتبهُ ... بل أنتَ حَمَّلْتَني الآمالَ والطَّمَعَا حتَّى إذا ما خَلا كلٌّ بصاحبِه ... كلاهُما بطويلِ السُّقْمِ قد قَنِعَا _________ (1) «قال» ساقطة من ش. (2) الأبيات بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 154)، و «ذم الهوى» (ص 96). (3) ت: «أبكاها». (4) الأبيات بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 154)، و «ذم الهوى» (ص 96)، و «ديوان الصبابة» (ص 91). (5) ت: «طرفي لقلبي».
(الكتاب/172)
نادتهما كَبدِي لا تَبْعُدا فلقد ... قطَّعْتُماني بما لا قَيْتُما قِطَعا وقال آخر (1): عاتَبْتُ قلبيَ لمَّا ... رأيتُ جسمِي نَحِيْلا فألزمَ القلبُ طَرْفِي ... وقالَ كُنْتَ الرَّسُولا فقالَ طَرْفِي لِقَلْبي ... بل كنتَ أنت (2) الدَّلِيْلا فقلتُ كُفَّا جَمِيْعًا ... تَرَكْتُمانِي قَتِيْلا ثم قالت: أنا أتولَّى الحُكْمَ بينكما. أنتما في البليَّة شريكا عِنان، كما أنَّكما في اللذَّة والمَسَرَّة فرَسا رِهان. فالعينُ تلتذُّ، والقلبُ يتمنَّى، ويشتهي، ولهذا قال فيكما القائل: ولما شَكَوْتُ (3) الحبَّ بَشَّر ناظِري ... لقلبي فقالَ القلبُ لي ولكَ الهنا تخلَّصتَ من إحياء ليلكَ ساهِرًا ... وخلَّصتَني من لوعةِ الهَجْرِ والضَّنَى _________ (1) الأبيات بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 98)، و «ديوان الصبابة» (ص 91). (2) ت: «أنت كنت». (3) ت: «سلوت».
(الكتاب/173)
كِلانا مُهَنًّا (1) بالبَقَاءِ فإنْ تَعُدْ ... فلا أنتَ يُبقيكَ الغرامُ ولا أنا وإن لم تُدْرِكْكُما عنايةُ مُقَلِّبِ القلوب والأبصار، وإلا فما لكِ من قُرَّةٍ ولا للقلب من قرار، قال الشاعر (2): فواللهِ ما أدْري أنفسي ألومُها ... على الحُبِّ أم عيني المشومةَ أم قَلْبي فإن لُمْتُ قَلْبي قالَ لي العينُ أبصرَتْ ... وإن لُمْتُ عيني قالتِ الذنبُ للقلب فعيني وقلبي قد تَقَاسَمْتُما دَمي ... فيا ربِّ كنْ عونًا على العين والقَلْب قالت: ولما سقيتِ القلبَ ماء المحبة بكؤوسك؛ أوقدتِ عليه نارَ الشوق، فارتفعَ إليك البُخارُ، فتقاطرَ منك، فشَرِقتِ بشُربه أوَّلًا، وشرِقتِ بحرمانه (3) ثانيًا، قال (4): _________ (1) ت: «يهنّى». (2) الأبيات بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 91). (3) ش: «بجريانه». (4) البيتان لبشار في «ديوانه» (4/ 62).
(الكتاب/174)
خذي بيدي ثمَّ اكشفي الثوبَ فانظري ... ضنى جَسَدي لكِنَّني أتستَّرُ وليس الذي يَجرِي من العين مَاؤُها ... ولكنَّها رُوحٌ (1) تذوبُ فَتَقْطُرُ [43 أ] قالت: والحاكمُ بينكما الذي يحكمُ بين الرُّوح والجسد إذا اختصما بين يديه، فإنَّ في الأثر المشهور (2): «لا تزالُ الخصومةُ يوْمَ القيامةِ بينَ الخلائِق حتَّى يختصم الرُّوحُ والجسدُ، فيقولَ الجسدُ للرُّوحِ: أنتَ الذي حرَّكتَنِي، وَأمَرْتَني، وصرَّفْتَني، وإلا فأنَا لمْ أكُنْ أتحركُ، ولا أفعل بدونك. فتقول الرّوحُ له: وأنت الذي أكلت، وشرِبْتَ، وباشرْت، وتنَعَّمتَ، فأنتَ الذي تستحقُّ العقُوبة، فيُرْسِلُ الله سبحانه إليهما ملكًا يحكمُ بينهما، فيقولُ: مَثَلُكُما مَثَلُ مُقْعَدٍ بصيرٍ، وأعمَى يمشي، دخلا بستانًا، فقال المقعدُ للأعمى: أنا أرَى ما فيهِ من الثمارِ، ولكن لا أستطيعُ القيامَ. وقال الأعمى: أنا أستطيعُ القيام، ولكنْ لا أُبصِرُ شيئًا. فقال له المقعدُ: تعالَ فاحملني، فأنت تمشي، وأنا أتناوَلُ. فعلى من تكونُ العقوبةُ؟ فيقولُ: عليهما. قال: فكذلك أنتُما». وبالله التوفيق. _________ (1) ت: «نفس». (2) أخرجه ابن مندة عن ابن عباس موقوفًا، كما في «شرح الصدور» للسيوطي (ص 327).
(الكتاب/175)
الباب الثامن في ذكر الشُّبَهِ الَّتي احتجَّ بها من أباح النظر إلى من لا يحلُّ له الاستمتاع به، وأباح عشْقَهُ
قالت هذه الطائفة: بيننا وبينكم الكتابُ، والسُّنَّةُ، وأقوالُ أئمة الإسلام، والمعقولُ الصَّحيح. أمَّا الكتاب فقولُه تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف/185] وهذا يعُمُّ جميع ما خلق الله، فما الَّذي أخرج من عمومه الوجه المليح، وهو من أحسن ما خلق؟ وموضع الاستدلال به (1) والاعتبار أقوى، ولذلك يُسَبَّحُ الخالقُ سبحانه عند رؤيته، كما قال بعضُ الناظرين إلى جميل الصُّورة: ذي طلعةٍ سبحانَ فالِق صُبْحِه ... ومَعَاطِفٍ جلَّت يمينُ الغارس مرَّت بأرجاءِ الخَيالِ طُيوفُه ... فَبَكتْ على رَسمِ السُّلُوِّ الدَّارس ورؤية الجمال البديع تُنْطِق ألْسنة الناظرين بقولهم: سبحان الله ربِّ العالمين! وتباركَ الله أحسنُ الخالقين! والله تعالى لم يخلق هذه المحاسن عبثًا، وإنَّما أظهرها؛ ليستدل [43 ب] الناظرُ إليها على قدرته _________ (1) «به» ساقطة من ت.
(الكتاب/176)
ووحدانيته وبديع صُنْعِه، فلا تُعَطَّلُ عما خُلقت له. وأما السُّنَّة فالحديثُ المشهور: «النَّظرُ إلى الوجهِ المليح (1) عبادةٌ» (2). وفي الحديث الآخر: «اطْلُبُوا الخير من حسانِ الوجوه» (3). وفي هذا إرشادٌ إلى تصفُّح الوجوه، وتأمُّلها. وخطب رجلٌ امرأةً، فاستشار النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نكاحها، فقال: «هل نظرت إليها؟» فقال: لا، قال: «اذهب فانظر إليها» (4). ولو كان النَّظرُ حرامًا؛ لما أطلق له أن ينظر، فإنه لا يأمن الفتنة. _________ (1) ت: «الجميل». (2) باطل، ذكره ابن القيم في «المنار المنيف» (ص 62، 99) وقال: لا يُشبه الوحي، بل لا يُشبه كلام الصحابة. وسيأتي الكلام عليه في الباب التاسع. (3) أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (4759)، والخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 164) من حديث عائشة، وإسناده ضعيف جدًّا. والحديث طرقه كلها ضعيفة، وبعضها أشد في ذلك من بعض، كما في «المقاصد الحسنة» (ص 81). وقال المؤلف في «المنار المنيف» (ص 63): كل حديث فيه ذكر حسان الوجوه أو الثناء عليهم أو الأمر بالنظر إليهم أو التماس الحوائج منهم أو أن النار لا تمسُّهم فكذب مختلق، وإفك مفترى. وحكم الألباني عليه بالوضع في السلسلة الضعيفة (2855، 1585) وجمع طرقه وتوسع في الكلام عليها. (4) أخرجه مسلم (1424) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/177)
وأمَّا أقوال الأئمة؛ فحكى السَّمعانيُّ (1): أنَّ الشافعي كتب إليه رجل في رقعة: سل المفتي المكيَّ هل في تزاوُرٍ ... ونظرةِ مُشتاقِ الفؤادِ جُناحُ؟ فأجابه الشافعي: معاذَ إلهِ العرشِ أن يُذْهِبَ التُّقى ... تلاصقُ أكبادٍ بهن جِرَاحُ وذكر الخرائطيُّ (2) هذا السؤال والجواب عن عطاء بن أبي رباح، وأوَّلُه سألتُ عطا المكيَّ. وذكر الحاكمُ في «مناقب الشافعي» (3) رضي الله عنه من شعره: يقولون لا تنظر وتِلكَ بليَّةٌ ... ألا كلُّ ذي عينين لابُدَّ ناظرُ وليس اكتحالُ العينِ بالعين ريبةً ... إذا عفَّ فيما بين ذاك الضَّمائرُ _________ (1) كما في «الواضح المبين» (ص 89). وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/ 150، 151)، والبيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 94). وانظر: «ديوان الشافعي» (ص 64)، و «شرح المختار من شعر بشار» (ص 48)، و «معجم الأدباء» (6/ 2406)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (1/ 303، 304)، و «تزيين الأسواق» (1/ 34). (2) في «اعتلال القلوب» (ص 86). والخبر مع الشعر في «الكامل» للمبرد (1/ 379، 380)، و «نكت الهميان» (ص 89)، و «أخبار النساء» (ص 34)، و «محاضرات الأدباء» (3/ 132). (3) نقل عنه في «الواضح المبين» (ص 88)، وقال: وزعم ابن أبي طاهر في كتابه المنثور والمنظوم أنهما لرجل من غطفان في أبيات طويلة.
(الكتاب/178)
وذكر الإستراباذيُّ في كتاب «مناقب الشافعي» (1) أنَّ رجلًا كتب إلى سعيد بن المسيَّب: يا سيِّدَ التَّابعين والبَرَرَهْ ... نسيتُ في العِشْق سورة البقره فكُن بفتواك (2) مُشْفقًا رَفِقًا ... باهَى بك الله أكرمُ البرره هل حرَّم الله لَثْم خدِّ فتًى ... أوصافُه بالجمالِ مشتهره؟ فأجابه سعيد: يا سائلي عن خفيِّ لَوْعَتِه ... عليك بالصَّبرِ تَحْمَدَنْ أثرَه ولا تكن طالبًا لفاحِشةٍ ... أوْ كالَّذي ساق سيلُه مطرهْ (3) وراقب الله واخش سطوته ... وخالفِ الفاسِقِين والفجرهْ [44 أ] وقبِّل الخدَّ من حبيبك ذا ... في كلِّ يومٍ وليلةٍ عشره وقال أبو العباس المبرِّد في «الكامل» (4): قال أعرابيٌّ، أنشدنيه أبو العالية: سألت الفتى المكيَّ ذا العِلْمِ ما الَّذي ... يَحِلُّ من التَّقبيل في رَمَضانِ _________ (1) نقل عنه في «الواضح المبين» (ص 89). (2) ت: «بفتياك». (3) ت: «نظره». (4) (1/ 374). ونقل عنه في «الواضح المبين» (ص 90).
(الكتاب/179)
فقال لي المكيُّ أمَّا لِزَوجةٍ ... فسَبعٌ وأما خُلَّةٍ فثمان وذكر أبو بكر الخطيب في كتاب «رواة مالك» (1) عن بعضهم: أقولُ لمُفْتٍ بين مكَّة والصَّفا ... لكَ الخيرُ هل في وَصْلِهنَّ حرامُ؟ وهل في صَمُوتِ الحَجْلِ مهضومة الحشا .. عذاب الثَّنايا إنْ لَثمتُ أثامُ فقال ليَ المفتي وسالت دموعُه ... على الخدِّ من عينيه فهي تُؤَامُ ألا ليتني قبَّلتُ تلك (2) عشيةً ... ببطن منًى والمُحْرِمونَ نيامُ وقال الحاكم في كتاب «مناقب الشافعي» (3): حدَّثنا أبو العلاء بن كُوشيار الحاري، أنبأنا عليُّ بن سليمان الأخفش، عن محمد بن الجهم قال: سمعتُ الربيع يقول: حضرتُ الشافعيَّ بمكة، وقد دفع إليه رجلٌ _________ (1) كما في «الواضح المبين» (ص 90). (2) ت: «ذاك». (3) نقل عنه في «الواضح المبين» (ص 90 - 91).
(الكتاب/180)
رقعةً فيها: أقولُ لمُفتي خَيْفِ مَكَّة والصفا ... لك الخيرُ هل في وَصْلِهنَّ حرامُ؟ وهل في صَمُوت الحَجْلِ مهْضُومة الحشا ... عذابِ الثَّنايا إنْ لَثمْتُ أثامُ؟ قال: فوقَّع الشافعيُّ فيها: فقال ليَ المفتي وفاضتْ دموعهُ ... على الخدِّ من عين وهنَّ تؤَامُ ألا ليتني قبَّلتُ ذاك عشيةً ... ببطنِ منًى والمُحْرمون نيامُ وقال عمرو بن سفيان بن ابنة جامع بن مُرْخِيَة (1): إنَّا سألنا مالِكًا وقرينه ... ليث بن سعدٍ عن لِثام الوامقِ أيجوزُ؟ قالا والذي خلق الورى ... ما حرَّمَ الرَّحمنُ قُبلَة عاشِق ذكر ذلك صاحب كتاب «رستاق الاتفاق» وهو شاعر المصريين، فأنشد فيه (2) لعمرو بن سفيان هذا، وكتب بها إلى [44 ب] ابن عُيَيْنَة: _________ (1) كما في «الواضح المبين» (ص 91 - 92) نقلًا عن «رستاق الاتفاق». (2) نقل عنه في «الواضح المبين» (ص 92).
(الكتاب/181)
قلنا لسفيان الهلالي مرَّةً ... أيَحْرُمُ ضمُّ العاشق المُشتاق لحبيبه من بعد نَأْي ناله ... فأجاب لا والواحد الخلاَّق وأنشد فيه (1) لجَدِّه جامع، وكتب بها إلى عليِّ بن زيد بن جُدْعَان: سألنا ابنَ جُدْعان بن عمرو أخا العُلا ... أيَحْرُم لثمُ الحِبِّ في ليلةِ القدر؟ فقال لنا المكّي وناهِيْكَ عِلْمُهُ ... ألا لا ومَنْ قدْ جاءَ بالشَّفْعِ والوَتْر وأنشد لإبراهيم بن المدبَّر (2)، وكتب بها إلى أبي بكر بن عيَّاش أحد أئمة القُرَّاء: سألتُ ابن عَيَّاشٍ وكانَ مُعلِّمًا ... لك الخيرُ هل في ضَمَّةِ الحِبِّ من وزْرِ؟ فقالَ أبو بكرٍ ولا في لِثَامه ... ألم يأْتِنَا التنزيلُ بالوَضْعِ للإصْرِ؟! وأنشدَ لآخرَ (3) وكتبَ بها إلى الإمام أحمد بن حنبل، قال: وزعم _________ (1) نقل عنه في المصدر السابق (ص 92). (2) نقل عنه في «الواضح المبين» (ص 92). (3) كما في «الواضح المبين» (ص 92).
(الكتاب/182)
بعضُهم أنَّه إسحاق بن مُعاذ بن زهير شاعر أهل مصر في وقته: سألتُ إمام الناس نَجْلَ ابنِ حَنْبَلٍ ... عن الضَّمِّ والتَّقبيلِ هل فيه من باسِ؟ فقال إذا جلَّ العَزَاءُ فواجبٌ ... لأنَّكَ قد أحييتَ عبدًا مِن النَّاس وأنشد لابن مُرْخِيَةَ (1)، وكتبَ بها إلى أبي حنيفة: كتبنا إلى النعمانِ يومًا رسالةً ... نُسائِلُه عن لَثْمِ حِبٍّ مُمَنَّعِ فقالَ لنا لا إثمَ فيه وإنَّه ... شهيٌّ إذا كانتْ لِعَشْرٍ وَأَرْبَع وكتبَ رجل إلى أبي جعفر الطحاويِّ (2): أبا جعفرٍ ماذا تقولُ فإنَّه ... إذا نابنا خَطْبٌ عَلَيْكَ المعَوَّلُ فلا تُنْكِرَنْ قولي وَأَبشرْ برحمةِ الـ ... إله عن الأمْرِ الَّذي عنه تُسألُ أبِالحُبِّ عارٌ أمْ مِن الحُبِّ مَهْرَبٌ ... وهلْ مَنْ لحا أمر الصَّبَابةِ يَجْهلُ؟ وهل بمُبَاحٍ فيه قَتْلُ مُتيَّمٍ ... يهاجِرُه أحبابُه وَهو يوصِلُ؟ [45 أ] فرأْيَكَ في ردِّ الجَوابِ فإنَّني ... بما فيه تَقْضِي أيُّها الشَّيْخُ أفعلُ _________ (1) انظر: المصدر السابق (ص 92 - 93). (2) كما في «الواضح المبين» (ص 93) نقلًا عن كتاب «المحنة».
(الكتاب/183)
فأجابه الطَّحاوي: سأقضي قضاءً في الذي عنه تَسأَلُ ... وأحكُمُ بين العاشِقَيْن فأعْدِلُ فديتُكَ ما بالحُبِّ عارٌ عَلِمْتُه ... بلِ العارُ تركُ الحُبِّ إِنْ كُنْتَ تَعقِلُ (1) ومهما لحَا في الحُبِّ لاحٍ فإنَّه ... لعمرُكَ عندي من ذَوي الجَهْل أجْهَلُ وليس مُباحًا عندنا قتلُ مُسْلِمٍ ... بلا تِرَةٍ بل قاتلُ النَّفسِ يُقْتَلُ ولكنَّه إنْ ماتَ في الحُبِّ لم يكنْ ... له قَوَدٌ فيه ولا عنه يُعقلُ وِصَالُكَ من تهوى وإنْ صدَّ واجبٌ ... عليكَ كذا حكمُ المُتيَّمِ يَفْعَلُ فهذا جوابٌ فيه عندي قناعةٌ ... لما جئتَ عنه أيُّها الصَّبُّ تَسْأَلُ ويكفي أنَّ المعتزلة مِنْ أشدِّ الناس تعظيمًا للذنوب، وهم يُخلِّدون أصحابَ الكبائر، ولا يَرَوْنَ تحريمَ ذلك، كما ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه المشهور (2) لبعض المعتزلة: سألنا أبا عثمان عَمْرًا وواصِلًا ... عن الضَّمِّ والتَّقبيلِ للخَدِّ والجِيْدِ فقالا جميعًا والَّذي هو عادلٌ ... يجوزُ بلا إثمٍ فدعْ قَوْلَ تفنيد وقال إسحاق بن شبيب (3): سألنا شيوخَ الواسطيِّين كلَّهم ... عن الرَّشْفِ والتَّقبيلِ هل فيهما إثمُ؟ _________ (1) ت: «تفعل». (2) نقل عنه مغلطاي في «الواضح المبين» (ص 91). (3) كما في المصدر السابق (ص 91).
(الكتاب/184)
فقالُوا جميعًا ليس إثمًا لزوجةٍ ... ولا خُلَّةٍ والضَّمُّ من هذه غُنْمُ وأنشد أبو الحسن علي بن إبراهيم بن محمَّد بن سعد الخير في كتابه «شرح الكامل» (1): فلمَّا أنْ أُبيحَ لنا التَّلاقِي ... تعانَقْنا كما اعْتَنق الصَّدِيقُ وهل حرَجًا تَراهُ أو حَرامًا ... مَشوقٌ ضمَّه صَبٌّ مَشُوقُ؟! وقال الخطيب في تاريخ بغداد (2): حدَّثنا أبو الحسن علي بن أيوب ابن الحسين إملاءً، حدَّثنا أبو عبيد الله المَرْزُبانيُّ وابن حَيَّويه وابن شاذان قالوا: حدّثنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن [45 ب] عرفة نِفْطوَيْه، قال: دخلتُ على محمَّد بن داود الأصبهاني في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف تجدُك؟ قال: حبُّ مَنْ تَعْلَمُ أورثني ما ترى! فقلت له: ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ قال: الاستمتاعُ على وجهين: أحَدُهما: النظرُ المباح، والثاني: اللَّذَّة المحظورة، فأمَّا النظرُ المباحُ؛ فأورثني ما ترى، وذكرَ القِصَّة. وستأتي في باب عَفَافِ العُشَّاق. _________ (1) كما في «الواضح المبين» (91). والأبيات أربعة في «القرط على الكامل» (ص 354)، وأبو الحسن علي بن إبراهيم جمع في «القرط» حواشي أبي الوليد الوقشي وابن السيد البطليوسي على «الكامل»، وهي مهمة جدًّا. (2) (5/ 262).
(الكتاب/185)
والمقصود أنه لم يَرَ النظرَ إلى معشوقه ولا عِشْقَه حرامًا. وجرى على هذا المذهب أبو محمد بن حَزْم في كتاب «طوق الحمامة» له. قالوا: ونحن نحاكمُكم إلى واحدٍ يُعدّ بآلافٍ مؤلَّفةٍ، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية فإنَّه سُئل (1): ما تقول السَّادة الفقهاء رضي الله عنهم في رجل عاشقٍ في صورةٍ، وهي مُصِرَّةٌ على هجره منذ زمنٍ طويل، لا تزيده إلا بُعدًا، ولا يزداد لها إلا حُبًّا، وعشقُه لهذه الصُّورة من غير فسقٍ ولا خَنَا، ولا هو ممَّن يُدَنِّسُ عشقه بزنى، وقد أفْضى به الحالُ إلى الهلاكِ لا مَحالة؛ إن بقي مع محبوبه على هذه الحالة، فهل يَحِلّ لمن هذه حالُهُ أن يُهْجَرَ؟ وهل يجبُ وِصَالُه على المحبوب (2) المذكور؟ وهل يأثم ببقائه على هجره؟ وماذا يجبُ من تفاصيل أمرهما؟ وما لكلِّ واحدٍ منهما على الآخر من الحقوق ممَّا يُوافقُ الشرعَ؟ فأجاب بخطِّه بجوابٍ طويل، قال في أثنائه: فالعاشقُ له ثلاثُ مقامات: ابتداءٌ، وتوسُّطٌ، ونهاية، أمَّا ابتداؤه فواجبٌ عليه فيه (3) كتمانُ ذلك، وعدمُ إفشائه للخلق، مراعيًا في ذلك شرائط الفُتوَّة من العفَّة مع _________ (1) نشرت هذه الفتيا بتمامها في «جامع المسائل» (1/ 175 - 186)، وسيأتي مناقشة المؤلف لها وبيان أنها لا تصح لشيخ الإسلام. (2) «على المحبوب» ساقطة من ت. (3) «فيه» ساقطة من ت.
(الكتاب/186)
القدرة، فإنْ زادَ به الحال إلى المقام الأوسط؛ فلا بأْس بإعلام محبوبه بمحبَّته (1) إيَّاه، فيخفَّ بإعلامه وشكواه إليه ما يجدُ منه، ويحذر من اطلاع الناس على ذلك، فإنْ زادَ به الأمرُ حتى خرجَ عن الحدود والضَّوابط التحقَ بالمجانين والموسوسين. فانقسمَ العشَّاقُ قسمين: قسمٌ قَنِعُوا بالنظرة بعد النَّظرة، فمنهم من يموتُ وهو كذلك، ولا يُظْهِرُ سِرَّه [46 أ] لأحدٍ، حتى محبوبُه لا يدري به. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عَشِقَ، فَعَفَّ، فكتمَ، فماتَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ» (2). والقسمُ الثاني: أباحُوا لمن وصلَ إلى حدٍّ يُخاف على نفسه منه القُبْلَة في الحين، قالوا: لأنَّ تركها قد يُؤدِّي إلى هلاك النفس، والقُبلةُ صغيرةٌ وهلاكُ النفس كبيرةٌ. وإذا وقعَ الإنسان في مَرَضين داوَى الأخطرَ، ولا خطرَ أعظمُ منْ _________ (1) ت: «تعشقه». (2) أخرجه ابن حبان في «المجروحين» (1/ 349)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 156، 262)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 1263) من طرق عن سويد بن سعيد الحدثاني عن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس. واتفق الأئمة على تضعيف هذا الحديث، وسيأتي كلام المؤلف عليه.
(الكتاب/187)
قتل النفس، حتَّى أوجبوا على المحبوب مطاوعته على ذلك؛ إذا علمَ أنَّ تركَ ذلك يؤدِّي إلى هلاكه، واحتجُّوا بقول الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء/31] وبقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم/32] وبحديث الذي قال: يا رسول الله! إني لقيتُ امرأةً أجنبيةً، فأصبت منها كلَّ شيءٍ إلاَّ النكاح. قال: «أصَلَّيت معنا؟» قال: نعم، قال: «إن الله قد غفر لك» (1) فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود/114]. ثم قال (2): فإنْ كان هذا السَّائلُ كما زعمَ مِمَّن لا يُدنِّسُ عِشْقَه بزِنى، ولا يَصْحبُه بِخَنَا (3)، فَيُنْظَرُ في حاله، فإنْ كان من الطبقة الأولى؛ فالنظر كافٍ لهم؛ إن صدقت دعواهم. وإن كان من الطبقة الثانية فلا بأْس بشكواه إلى محبوبه؛ كي يَرِقَّ عليه ويرحَمَه، وإن غلبَ عليه الحال، فالتحقَ بالثالثة، أُبيح له ما ذكرنا بشرط ألاَّ يكون أُنْمُوذَجًا لفعل القبيح المحرَّم، فيلتحقَ بالكبائر ويستحق (4) القتل عند ذلك، ويزولَ عنه _________ (1) أخرجه البخاري (526، 4687)، ومسلم (2763) من حديث ابن مسعود. (2) أي: شيخ الإسلام في الفتيا المشار إليها. (3) ت: «خنا». (4) ت: «ويتحقق».
(الكتاب/188)
العُذر، ويحقَّ عليه كلمةُ العذاب. انتهى ما ذكرناه من جوابه. قالوا: وقد جوَّزت (1) طائفةٌ من فقهاء السَّلف والخلف استمناءَ الإنسان بيده إذا خافَ الزنى، وقد جوَّز طائفةٌ من الفقهاء لمن خاف على نفسه في الصَّوم الواجب من شدَّة الشَّبَق أن تتشقَّق أُنْثَيَاه أن يجامع امرأته، وبَنَوْا على ذلك فرعًا: وهو إذا كان له امرأتان حائضٌ وصائمة؛ فهل يطأُ هذه أو هذه علَى وجهين. ولا ريبَ أنَّ النظرَ والقبلة والضمَّ إذا تضمَّن شفاءَه مِنْ دائه؛ كان أسهلَ من الاستمناء باليد، والوطء في نهارِ رمضان. وقد جَوَّزَ بعضُ الفقهاء للمرأة إذا خافت الزنى أن تتَّخذ لها شيئًا تُدخله في فرجها، وتُخرجه؛ لئلا تقعَ في محظور الزنى. ولا ريبَ أنَّ الشَّريعةَ جاءت بالتزام (2) الدُّخول في أدنى المفسدتين؛ دفعًا لأعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين؛ تحصيلًا لأعلاهما، فأينَ مفسدةُ النَّظرِ، والقبلةِ، والضمِّ من مفسدة المرض، والجنون، أو الهلاك جملةً؟! فهذا ما احتجَّت به هذه الفرقة، ونحن نذكر ما لها وما عليها في ذلك بحول الله وقوَّته. _________ (1) ت: «جوزوا». (2) ت: «بإلزام».
(الكتاب/189)
الباب التاسع في الجواب عمَّا احتجَّت به هذه الطَّائفة، وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج
وشُبَهُهُمُ التي ذكروها دائرةٌ بين ثلاثة أقسام: أحدها: نُقولٌ صحيحةٌ لا حجَّة لهم فيها. الثاني: نُقولٌ كاذبةٌ عمَّن نُسبت إليه من وضع الفُسَّاق، والفُجَّار، كما سنبيِّنُه. الثالثُ: نُقولٌ مُجْمَلةٌ، محتملةٌ لخلاف ما ذهبوا إليه. فأمَّا احتجاجُهم بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف/185] فهو نَظيرُ احتجاجهم بعينه على إباحة السَّماع الشَّيطانيِّ الفِسْقيِّ بقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر/17 ــ 18]، قالوا: والقولُ عامٌّ، فحمَّلوا لفظَه ومعناه ما هو بريءٌ منه. وإنَّما القولُ ها هنا ما أمرَهم الله باستماعه، وهو وَحْيُهُ الذي أنزلَه علَى رسوله، وهو الذي قال فيه: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون/68]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص/51]. فهذا هو القول الذي أُمروا باتِّباع أحسنِه، كما قال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ
(الكتاب/190)
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر/55] والنَّظر الذي أمَرَنا سبحانه به النظر (1) المُؤَدِّي إلى معرفته، والإيمان به، ومحبَّته، والاستدلالِ على صدق رُسُله فيما أخبروا به عنه من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وثوابه، وعقابه لا النظرُ الذي [47 أ] يُوجب تعلُّق الناظر بالصُّورة التي يَحْرُمُ عليه الاستمتاع بها نظرًا ومباشرةً، فهذا النظر الذي أمرَ الله سبحانه صاحبه بغضِّ بصره، هذا مع أنَّ القومَ لم يُبْتَلَوْا بالمُرْدان، وهم كانوا أشرفَ نفوسًا، وأطهر قلوبًا من ذلك، فإذا أمرَهم بغضِّ أبصارِهم عن الصُّورة التي تُباح لهم في بعض الأحوال خشيةَ الافتتان، فكيف بالنظر (2) إلى صورةٍ لا تُباح بحال؟ ثم يُقال لهذه الطائفة: النظر الذي ندبَ الله إليه نظرٌ يُثاب عليه الناظر، وهو نظرٌ مُوافقٌ لأمره، يقصدُ به معرفة ربِّه ومحبَّته، لا النظرُ الشَّيطانيُّ. ويُشبه هذا الاستدلال استدلال بعض الزنادقة المنتَسبين إلى الفقه على حِلِّ الفاحشة بمملوك الرَّجل، بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون/6]، ومُعْتَقِدُ ذلك كافرٌ حلالُ الدَّم بعد قيام الحُجَّة عليه، وإنما تستَّرت هذه الطائفةُ لهواها وشهواتها، وأوهمت أنَّها تنظُر عِبرةً، واستدلالًا، حتى آل ببعضِهُمُ الأمرُ _________ (1) «النظر» ساقطة من ش. (2) ش: «النظر».
(الكتاب/191)
إلى أن ظنُّوا أنَّ نظرهم عبادةٌ؛ لأنَّهم ينظرون إلى مظاهر (1) الجمال الإلهيِّ، ويزعمون أنَّ الله ـ سبحانه وتعالى عن قول إخوان النصارى ـ يظهر في تلك الصُّورة الجميلة، ويجعلونَ هذا طريقًا إلى الله، كما وقعَ فيه طوائفُ كثيرةٌ مِمَّن يدَّعي المعرفة والسُّلوك. قال شيخنا (2) رحمه الله تعالى: وكفرُ هؤلاء شرٌّ من كفر قوم لوط، وشرٌّ من كفر عُبَّاد الأصنام، فإنَّ أولئك لم يقولوا: إنَّ الله سبحانه يتجلَّى في تلك الصُّور، وعُبَّادُ الأصنام غايةُ ما قالوه: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر/3]، وهؤلاء قالوا: نعبدُهم؛ لأنَّ الله ظهرَ في صُوَرهم. وحكى لي شيخنا: أنَّ رجلًا من هؤلاء مرَّ به شابٌّ جميلٌ، فجعلَ يُتبعه بصرَه، فأنكرَ عليه جليسٌ له، وقال: لا يَصلُحُ هذا لمثلِكَ، فقال: إنِّي أرى فيه صفاتِ مَعبودي، وهو يظهر في [47 ب] مظاهر جماله. فقال: لقد فعلتُ به وصنعتُ، فقال: وإن. قال شيخنا: فلعنَ الله أُمَّةً معبودُها مَوْطُوؤها. قال (3): وسُئل أفضلُ متأخريهم العفيفُ التِّلِمْسَانيُّ، فقيل له: إذا كان الوجودُ واحدًا؛ فما الفرقُ بين الأُختِ، والبنتِ، والأجنبيَّةِ حتى تحِلَّ هذه وتحرمَ هذه؟! فقال: الجميعُ عندنا سواء، ولكنْ هؤلاء _________ (1) ت: «تظاهر». (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (15/ 423). (3) «مجموع الفتاوى» (15/ 424).
(الكتاب/192)
المحجوبون قالوا: حرامٌ، فقلنا: حرامٌ عليكم. وَمِنْ هؤلاء الزنادقة مَنْ يخصُّ ذلك ببعض الصُّوَر، فهؤلاء من جنس النَّصارى بل هم إخوانُهم، فالنَّظرُ عند هؤلاءِ إلى الصُّور المحرَّمة عبادةٌ، ويشبه أن يكون هذا الحديثُ من وَضْعِ بعضِ هؤلاء الزَّنادقةِ، أو مُجَّانِ الفُسَّاق، وإلاَّ فرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بريءٌ منه. وسُئل شيخُنا (1) عَمَّنْ يقول: النظر إلى الوجه الحسن عبادةٌ، ويروي ذلك عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهل ذلك صحيحٌ أم لا؟ فأجابَ بأن قال: هذا كذبٌ باطلٌ، ومن روى ذلك عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو ما يُشبهه؛ فقد كذبَ عليه - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ هذا لم يَرْوِه أحدٌ من أهل الحديث، لا بإسنادٍ صحيح، ولا ضعيفٍ، بل هو من الموضوعات، وهو مخالفٌ لإجماع المسلمين، فإنَّه لم يقل أحدٌ: إنَّ النظر إلى المرأة الأجنبية والصَّبيِّ الأمردِ عبادةٌ. ومن زعمَ ذلك فإنَّه يُستتاب، فإن تابَ وإلا قُتل، فإنَّ النظرَ منه ما هو حرامٌ، ومنه ما هو مكروهٌ، ومنه ما هو مباحٌ، والله أعلم. وأمَّا الحديث الآخر، وهو: «اطْلُبُوا الخَيْرَ منْ حِسَانِ الْوُجوه» فهذا وإن كان قد رُوي بإسنادٍ، إلا أنَّه باطلٌ، لم يصحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) السؤال في «المجموع» (15/ 410)، ولكن لم يرد الجواب عنه في كلام شيخ الإسلام، فلعل فيه نقصًا. وقد تكرر ورود هذه الفتوى في «مجموع الفتاوى» (21/ 243 - 259) دون الجواب عن هذا السؤال.
(الكتاب/193)
ولو صحَّ لم يكن فيه حُجَّةٌ لهذه الطائفة، فإنَّه إنَّما أمرَ بطلب الخير منهم لا بطلب وِصَالهم، ونيل المحرَّم منهم، فإنّ (1) الوجه الجميل مَظِنَّةُ الفِعْل الجميل، فإنَّ الأخلاقَ في الغالب مناسبةٌ للخِلْقة، بينهما نسبٌ قريب. وأمَّا أمرُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للخاطب بأن ينظر إلى المخطوبة؛ فذلك نظرٌ للحاجة، وهو مأمورٌ به أمْرَ استحبابٍ [48 أ] عند الجمهور، وأمْرَ إيجاب عند بعض أهل الظَّاهر، وهو من النَّظر المأْذون فيه لمصلحةٍ راجحةٍ، وهو دخولُ الزَّوج على بصيرةٍ، وأبعدُ من ندمه ونُفْرَته عن المرأة، فالنَّظرُ المباحُ أنواعٌ، هذا أحدُها، بخلاف النظر إلى الصُّورة المحرَّمة. فصل وأما ما ذكره السمعانيُّ عن الشَّافعي رحمه الله تعالى فَمِن تحريف النَّاقل، والسَّائلُ لم يذكر لفظ الشَّافعيِّ، والبيتان هكذا هما (2): سألتُ الفتى المكيَّ هل في تزاوُرٍ ... ونظرةِ مُشتاقِ الفؤاد جُناحُ؟ فقالَ مَعاذَ اللهِ أن يُذهبَ التُّقى ... تلاصُقُ أكبادٍ بهنَّ جراحُ فهذا السَّائل هو الذي ذكر السؤَال والجواب، وهو مجهولٌ لا يُعْرَف؛ _________ (1) ت: «كأن». (2) سبق ذكرهما وتخريجهما.
(الكتاب/194)
هل هو ثقةٌ، أم لا؟ ثم إنَّ الجوابَ لا يَدُلُّ على مقصود هذه الفِرْقة بوجه ما، بل هو حجةٌ عليها، فإنَّه نهى أن يُذهبَ التُّقى تلاصُق هذه الأكباد، فكأنَّه قال: لا تتلاصق هذه الأكباد؛ لئلا يُذهبَ التُّقى تلاصقُها، فالتَّلاصقُ المذكور فاعلٌ، والتُّقى مفعولٌ، فكأنَّه قال: لا تفعل؛ لئلا يُذهب التلاصُق التُّقى. وجوابٌ آخرُ: وهو أنَّ هذا التَّلاصُق إنَّما يكون غيرَ مُذْهبٍ للتُّقى إذا كان في عِشْقٍ مُبَاحٍ، بل يُستحبُّ، كعشق الزوجة والأمة. وأمَّا ما ذكروا عن سعيد بن المسيَّب رحمه الله تعالى فقد أجاب عنه سعيدٌ نفسُه، فإنَّه لما مرّ به [جامع بن] (1) مُرْخِيَةَ ــ هذا السائلُ، وكان من بني كلاب ــ قال سعيد: هذا من أكذبِ العرب، قيل: كيف يا أبا محمد؟! قال أليس الذي يقول (2): سألتُ سعيدَ بن المُسَيَّبِ مفتيَ الـ ... ـمدينةِ هل في حبِّ دَهماءَ مِنْ وِزْرِ؟ فقالَ سعيدُ بنُ المسيَّب إنَّما ... تُلام على ما تستطيع من الأمْر _________ (1) الزيادة من المصادر الآتي ذكرها. (2) الشعر مع الخبر في «الأغاني» (9/ 147). وتصحيح الاسم منه، و «الموشى» (ص 160 - 161)، و «الواضح المبين» (ص 36). وتحرف الاسم في الموشى، إلى «ابن مرجانة».
(الكتاب/195)
كذبَ والله! ما سألني عن شيءٍ مِنْ هذا قطُّ، ولا أفتيتُه. وإذا كان هذا جواب سعيدٍ في مثل هذا؛ فما جوابُه لمن سأله أن يُقبِّل حبيبًا أجنبيًّا كلَّ يوم وليلةٍ عشرة؟ فقبَّح الله الفسقة الكذَّابين على العلماء، ولاسيَّما على مثل سعيدٍ، فهؤلاء كلُّهم فسقةٌ كاذبون، أرادوا تنفيق [48 ب] فسقهم بالكذب على علماءِ وقتهم، كما نفَّق الفاسقُ أبو نُوَاس كذبه على إسحاق ابن يوسف الأزرق. قال عبيد الله بن محمد بن عائشة (1): أتيتُ إسحاق بن يوسف الأزرق يومًا، فلمَّا رآني؛ بكى، قلت: ما يبكيك؟ قال: هذا أبو نُوَاس، قلت: ما لَه؟ قال: يا جاريةُ! ائتيني بالقرطاس، فإذا فيه مكتوبٌ: يا ساحرَ المُقلتين والجِيْد ... وقاتِلي مِنْهُ بالمَواعيدِ تُوعِدُني الوَصْلَ ثم تُخْلِفُني ... ويْلاه مِن مُخْلِفٍ لموْعُودي حدَّثني الأزرقُ المُحَدِّث عن ... شِمْرٍ وَعَوْفٍ عن ابن مسعودِ لا يُخلفُ الوعدَ غيرُ كافرةٍ ... أو كافرٍ في الجَحِيْم مَصْفُود كذب والله عليَّ، وعلى التابعين، وعَلَى الصَّحابة! ولو صحَّ عنْ سعيد لم يكن لكم فيه حُجَّةٌ، فإنَّ سعيدًا أمره بالصَّبْر _________ (1) الخبر مع الشعر في «نور القبس» (ص 201، 202). والبيتان الأخيران لأبي نواس في «عيون الأخبار» (2/ 139، 140)، و «أخبار أبي نواس» (1/ 151)، ولا يوجد الشعر في ديوانه. وانظر «خاص الخاص» (ص 234) طبعة الهند.
(الكتاب/196)
أوَّلًا، ومراقبةِ الله، وخوفِ سَطْوَتِه، ومخالفةِ الفَسَقَةِ، ثمَّ أمره بتقبيل خدِّ من يحبُّه كلَّ يوم عشر مرات، وهذا قطعًا إنَّما أراد به مَنْ يَحِلُّ له تقبيلُه من زوجةٍ، أو سُرِّية، فأمرَه أن يعتاضَ بقُبلتها عن قُبْلة من لا تحلُّ له، ولا يَظُنُّ بعلماء الإسلام غير هذا إلا مُفْرِطٌ في الجهْلِ، أو مُتَّهَمٌ على الدِّين. وأمَّا ما ذكره المبرِّد عن الأعرابيّ الذي سأل الفتى المكيَّ عن القُبلة في رمضان، فقال: للزَّوجة سبعٌ، وللخُلَّة ثمان، فهذا المُستفتي والمُفتي لا يُعرَف واحدٌ منهما حتَّى يُقْبل خبرُه، ولو صحَّ ذلك، وعُرف المستفتي والمُفتي؛ لكانت الخُلَّةُ هي أمَته الجميلة، وهي التي يَحِلُّ تقبيلُها ثمانيًا فأكثر. وأما أن يُفتيَ أحدٌ من أهل الإسلام بأنَّه يحِلُّ تقبيلُ المرأة الأجنبية المحرَّمة عليه ثمانيًا في رمضان، فمعاذ الله من ذلك!. وهكذا حكمُ الأثر الذي ذكره (1) الخطيبُ في كتاب «رواة مالك»، ولا يُظَنُّ بعالم أنَّه تمنَّى أن يقبِّل امرأةً أجنبيةً وهو مُحْرِم ببطن مِنًى؛ فإنَّ القُبلة المذكورة تُعَرِّضُ الحجَّ للفساد، وتُبطلهُ عند طائفة، فإن صحَّ هذا فإنَّما أراد امرأته، أو أمته. وأمَّا الأثر الذي [49 أ] ذكره الحاكم في مناقب الشَّافعي رحمه الله تعالى فليس بين الحاكم وبين الرَّبيع من يُحْتَجُّ به، ويدلُّ على أنَّ القِصَّة _________ (1) ت: «رواه».
(الكتاب/197)
كذب ظاهرٌ أنَّ المُستفتي زعم: أنَّ الشافعيَّ أجاب بقوله: فقال لي المُفتي وفاضت دموعُه وهذا إنَّما هو حكاية المُستفتي قول المُفتي، فمن هو الحاكي عن الشَّافعيِّ؟ فدَعُوا هذه الأكاذيب والتُّرَّهات! وأما ما ذكرتم عن عمرو بن سفيان بن بنت جامع، فمن ذكر هذا عن عمرو؟ ومن عمرو بن سفيان ابن بنت جامع بن مُرْخيَة هذا؟ وهذا موضعُ البيتين المشهورين (1): سألْنا عن ثُمالَة كلَّ حيٍّ ... فقال القائلون: ومنْ ثُمَالَهْ؟ فقلتُ محمَّدُ بن يزيدَ منهم ... فقالُوا زدتَنا بهمُ جَهالهْ وهل يحلُّ لأحدٍ أن يُصدِّق عن مالكٍ والليثِ بن سعد أنَّهما أجازا تقبيلَ خدِّ المرأة الأجنبية المعشوقة، أو خدِّ الأمرد الجميل الصُّورة؟ هذا وقصَّةُ مالك مع الذي ضمَّ صبيًا إليه، فأفتى بضربه ستمئة سوطٍ، فمات، فقال له أبو الفتى: قتلت ابني! فقال: قتلَه الله. فمن هذا تشديدُه وفتواه؛ هل _________ (1) لعبد الصمد بن المعذل كما في «ديوانه» (ص 156)، و «أمالي» القالي (1/ 113)، و «سمط اللآلي» (1/ 339). وانظر: العقد الفريد» (3/ 386، 5/ 300)، و «التنبيهات على أغاليط الرواة» (ص 144)، و «وفيات الأعيان» (4/ 320). وفيه: ويقال إن هذه الأبيات للمبرد، وكان يشتهي أن يشتهر بهذه القبيلة، فصنع هذه الأبيات، فشاعت وحصل له مقصوده من الاشتهار.
(الكتاب/198)
يُفتي بجواز تقبيل خدود المُرْد الحِسان؟ نعم ما حرَّم الرحمنُ قُبلةَ عاشقٍ يَحِلُّ لمعشوقه مواصلتُه، ولا قُبلة الرَّجل خدَّ ولده، كما قبَّل أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه خدَّ ابنته عائشة رضي الله عنها. ورأى أعرابيٌّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّل أحد ابنيْ ابنته فقال: وإنكم لتُقبِّلون الصِّبيان؟ إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُهم! فقال: «أوَ أمْلِكُ إن نزَعَ الله الرَّحْمَة منْ قلْبِك» (1). وأما صاحبُ كتاب «رُسْتاق الاتفاق» وهو شاعر المصريين، فلعمرُ الله لقد أفسدْتَ؛ إذ أسندتَ، فإنَّه الفاسقُ الماجنُ المسمى أبا الرّقَعْمَق، ولكن لا يُنكر هذا المتنُ بهذا الإسناد، فإنَّه لا يليق إلاَّ به. وأمَّا قِصَّة إبراهيم بن المدبَّر عن أبي بكر بن عيَّاش، فنقلٌ غير مُصدَّقٍ عن قائلٍ غيرِ معصوم. وأمَّا ما ذكروا عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى فو الذي لا إله غيرُه إنَّه لمنْ أقبح الكذب عليه! [49 ب] ولو أنَّ هذا الكاذبَ الفاسق نفَّق هذه الكذبة بغيره؛ لراج أمرُها بعض الرَّواج، ولكن منْ شدَّة جهله نفَّقها بأحمد بن حنبل، وهو كمن ينسب إليه القولَ بأنَّ القرآن مخلوقٌ، أو تقديمَ عليٍّ على أبي بكر، أو تقديمَ الرأْي على السُّنَّة، وأمثالَ ذلك. وكذلك ما ذُكِر عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولو صحَّ لم تكن فيه _________ (1) أخرجه البخاري (5998)، ومسلم (2317) من حديث عائشة.
(الكتاب/199)
حجَّةٌ لهذه الطائفة، فإنَّه قال: لا إثمَ فيه إذا كانت لعشرٍ وأربع، ولم يقل إذا كانت أجنبيةً، ونحن نقول بما قال به أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا كان المعشوق حلالًا. وأمَّا ما ذُكر عن الطحاويِّ؛ فلا نعلم صحته عنه، وإن صحَّ فإنما أراد به التقبيلَ المباح، فإنَّ الرجل قد يُبتلى بهجر زوجته، أو أمَته له، فيسألُ أطبَّاءَ الدِّين، وأطباءَ الجِسْم، وأطباءَ الحبِّ عن دوائه، فيجيبه كلٌّ منهم بمقتضى علمِه، وما عندَه. وقد شكا مُغِيثٌ زوجُ بَرِيرَة حبَّه لها فشفعَ عندَها [النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -] أن تراجعَه، فلم تفعل (1). وشكا إليه رجلٌ أنَّ امرأَته لا تردُّ يدَ لامسٍ، فقال: «طلِّقها» فقال: إنِّي أخافُ أن تتبعَها نفسي، فقال: «استمتعْ بها». ذكره الإمام أحمد والنَّسائيُّ (2). قال بعضُ أهل العلم: راعى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دفعَ أعلى المفسدتين _________ (1) أخرجه البخاري (5280 - 5283) من حديث ابن عباس. (2) لم أجده في «المسند»، وأخرجه النسائي (6/ 67، 169)، وأبو داود (2049) من حديث ابن عباس. وقال النسائي: عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه، قال: وهذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه وقد أرسل الحديث.
(الكتاب/200)
بأدناهما، فإنه لما شكا إليه أنَّها لا ترُدُّ يدَ لامسٍ؛ أمرَه بطلاقها، فلمَّا أخبرَه عن حبِّها وأنَّه يخافُ ألاَّ يصبِرَ عنها، ولعلَّ حبَّه لها يدعوه إلى معصيةٍ؛ أمره أن يمسكها؛ مداواةً لقلبه، ودفعًا للمفسدة التي يخافُها باحتمال المفسدة التي يشتكي منها. وأجاب أبو عبيد عنه بأنّها كانت لا ترُدُّ يدَ لامسٍ يطلبُ منها العطاء، فكانت لا تَرُدُّ يد من سألها شيئًا من مال الزَّوج، ورُدَّ عليه هذا التأْويل بأنَّه لا يُقال لطالب العطاء: لامسٌ، وإنَّما يقال له: ملتمسٌ. وأجابت طائفة أُخرى عنه بأنَّ طريان المعصية على النكاح لا تُوجب فساده. وقال النَّسائيُّ: هذا الحديث مُنكر. وعندي أنَّ له وجهًا غيرَ هذا كلِّه، فإنَّ الرَّجل لم يشكُ من المرأة أنَّها تزني بكلِّ مَنْ أراد ذلك منها، ولو [50 أ] سألَ عن ذلك لما أقرَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يقيم مع بَغِيٍّ، ويكون زوج بَغيٍّ دَيُّوثًا، وإنَّما شكا إليه أنَّها لا تجذِبُ نفسها مِمَّن لاعبَها، ووضع يده عليها، أو جذبَ ثوبها، ونحو ذلك، فإنَّ من النِّساء من تلين عند الحديث واللَّعب ونحوه. وهي حَصانٌ عفيفةٌ إذا أُريد منها الزنى، وهذا كان عادة كثيرٍ من نساء العرب، ولا يَعُدُّون ذلك عيبًا، بل كانوا في الجاهلية يرون للزَّوج النِّصفَ الأسفلَ، وللعشيق النصف الأعلى (1). _________ (1) ش: «الآخر».
(الكتاب/201)
فللحِبِّ ما ضمَّتْ عليه نِقابَها ... وللبَعْلِ ما ضُمَّتْ عليه المآزِرُ والمقصودُ أنَّ القومَ كانوا مع العاشق على معشوقه إذا كان يُباح له وصالُه، وسنذكر ذلك في باب: مساعدة العشَّاق بالمُباح من التَّلاقِي إن شاء الله تعالى. وأمَّا ما ذكروا عن شيوخ المعتزلة، وشيوخ الواسطيِّين، فأبو عثمان المذكور هو عمرو بن عُبيد، وواصلٌ هو واصلُ بن عطاء، وهما شيخا القوم، ولو أفتيا بذلك لكانت فُتْيا من مبتدعَيْن مذمومَيْن عند السَّلَفِ والخَلف، فكيف والمخبرُ بذلك رجلٌ مجهولٌ من المعتزلة، كذبَ على من يُعظِّمُهما المعتزلةُ؛ لينفِّقَ فِسْقَه؟ وأمَّا قصَّة محمد بن داود الأصبهانيِّ؛ فغايتُها أن تكونَ من سعيه المغفور، لا من عمله المشكور، وسلَّط الناس بذلك على عرضِه، والله يغفر لنا وله، فإنه تعرَّض بالنظر إلى السَّقم الذي صار به صاحب فِراش، وهذا لو كان مِمَّن يُباح له؛ لكان نقصًا وعيبًا، فكيف من صبيٍّ أجنبيٍّ؟ وأرضاه الشيطان بحبِّه والنظر إليه عن مواصلتِه، إذ لم يطمع في ذلك منه، فنالَ منه ما عرَف أنَّ كيدَه لا يتجاوزه، وجعله قدوةً لمن يأْتَمُّ به بعده كأبي محمد بن حزم الظاهريِّ وغيره، وكيدُ الشيطان أدقُّ من هذا. وأمَّا أبو محمد فإنَّه على قدر يُبْسه وقَسْوته في التمسُّك بالظاهر، وإلغائه المعاني والمناسبات والحِكَم والعِلَل الشَّرعية، انماعَ في باب العشق والنظر وسماع الملاهي [50 ب] المحرَّمة، فوسَّع هذا الباب جدًّا،
(الكتاب/202)
وضيَّق بابَ المناسبات، والمعاني، والحِكَم الشرعية جدًّا، وهو من انحرافه في الطَّرفين حتى ردَّ الحديث الذي رواه البخاريُّ في صحيحه (1) في تحريم آلات اللهو بأنَّه معلَّق غيرُ مسْنَد، وخَفِيَ عليه: أنَّ البخاريَّ لقي من علَّقه عنه، وسمع منه، وهو هشام بن عمَّار، وخفي عليه: أنَّ الحديث قد أسنده غير واحدٍ من أئمَّة الحديث عن هشام بن عمَّار (2)، فأبطل سُنَّةً صحيحةً ثابتةً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مَطْعَنَ فيها بوجهٍ. وأمَّا مَنْ حاكمونا إليه وهو شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فنحن راضون بحكمه، فأين أباحَ لكم النظر المحرَّم، وعِشْقَ المُردان، والنِّساء الأجانب؟ وهل هذا إلا كذبٌ ظاهر عليه؟ وهذه تصانيفُه وفتاواه كلُّها ناطقةٌ بخلاف ما حكيتموه عنه؟ وأما الفُتْيا التي حكيتموها؛ فكذبٌ عليه، لا تُناسب كلامَه بوجهٍ، ولولا الإطالة لذكرناها جميعَها حتى يعلمَ الواقف عليها: أنَّها لا تصدُر عمَّن دونه فضلًا عنه، وقلت لمن أوقفني عليها: هذه كذبٌ عليه، لا تُشبه كلامه، وكان بعض الأُمراء قد أوقفني عليها قديمًا، وهي بخط رجلٍ متَّهَمٍ بالكذب، وقال لي: ما كنت أظنُّ الشيخَ برِقَّة هذه الحاشية، ثمَّ تأملتُها فإذا هي كذبٌ عليه، ولولا الإطالة _________ (1) رقم (5590). (2) أخرجه موصولًا أبو داود (4039)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 221). وانظر: «فتح الباري» (10/ 52 - 53)
(الكتاب/203)
لذكرنا من فتاويه ما يُبيِّن: أنَّ هذه كذب. وأمَّا ما ذكرتُم من مسألة التزام أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فنحن لا ننكر هذه القاعدة، بل هي من أصحِّ قواعد الشريعة، ولكنَّ الشأن في إدخال هذه الصورة فيها، ونحن نحاكمكم إلى هذه القاعدة نفسها، فإنَّ احتمال مفسدة ألم الحبِّ مع غضِّ البصر، وعدم تقبيل المحبوب، وضمِّه، ونحو ذلك أقلّ من مفسدة النَّظر والتَّقبيل، فإنَّ هذه المفسدة تَجُرُّ إلى هلاك القلب وفساد الدين، وغايةُ ما يُقَدَّر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقمُ الجسد، أو الموتُ تفاديًا عن التعرُّض للحرام، [51 أ] فأين إحدى المفسدتين من الأخرى؟ على أنَّ النظر، والقُبلة، والضمَّ لا يمنع السُّقم والموت الحاصل بسبب الحبِّ، فإنَّ الْعِشْقَ يزيدُ بذلك، ولا يزول. فما صبابَةُ مشتاقٍ على أمَلٍ ... من الوِصال كمشتاقٍ بلا أمَلِ (1) ولا ريب أنَّ محبَّة من طَمِعَ أقوى من محبَّة من يئس من محبوبه، ولهذا قيل: وأبرحُ ما يكونُ الحبُّ يومًا ... إذا دَنتِ الدِّيارُ من الدِّيارِ (2) فإن قيل: فقد أباح الله سبحانه للمُضطر الميتةَ، والدَّمَ، ولحمَ _________ (1) البيت للمتنبي في «ديوانه» (3/ 199). (2) سبق تخريجه.
(الكتاب/204)
الخنزير، وتناوُلُها في هذا الحال واجبٌ عليه. قال مسروق والإمام أحمد رحمهما الله تعالى: من اضْطُرَّ إلى أكل الميتة، فلم يأكلْ، فماتَ؛ دخل النَّار، فغايةُ النَّظرة، والقُبْلة، والضَّمة أن تكون محرَّمةً، فإذا اضْطُرَّ العاشق إليها، فإن لم تكن واجبةً، فلا أقلَّ من أن تكون مباحةً، فهذا قياسٌ واعتبارٌ صحيح، وأين مفسدةُ موتِ العاشق إلى مفسدة ضمِّه، ولثمه؟ فالجواب: أنَّ هذا يتبين بذكر قاعدة، وهي: أنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يجعل في العبد اضطرارًا إلى الجماع، بحيث إن لم يفعلْه؛ مات، بخلاف اضطراره إلى الأكل، والشرب، واللباس، فإنَّه من قِوام البدن؛ الذي إن لم يباشره؛ هلك. ولهذا لم يُبحْ من الوَطْءِ الحرام ما أباح من تناوُل الغذاء والشراب المحرَّم، فإنَّ هذا من قبيل الشهوة واللَّذة؛ التي هي تتمةٌ وفَضْلَة، ولهذا يمكن الإنسانَ أن يعيش طول عمره بغير تزوُّج، وغير تَسَرٍّ، ولا يمكنه أن يعيش بغير طعام ولا شرابٍ، ولهذا أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشباب أن يداووا هذه الشَّهوة بالصَّوم (1)، وقال تعالى عن عشَّاق المُرْدان: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف/81]. فأخبر أنَّ الحامل على ذلك مجرَّدُ الشهوة، لا الحاجةُ، فضلًا عن _________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400) عن ابن مسعود.
(الكتاب/205)
الضَّرورة، والشَّهوةُ المجرَّدة لا تلتحق بالضرورات، ولا بالحاجات، والحِمْيَةُ [51 ب] عنها خشيةَ إفضائها إلى مرضٍ أصعبَ منها، جارٍ مجرى الحمية عن تناول ما يضرُّ من الأطعمة والأشربة، وذلك لا تدعو الضرورةُ إلى تناوُله؛ وإنْ كانت النفسُ قد تشتهيه، فالقُبْلة، والنَّظرُ، والضَّمُّ، ونحوها جارٍ مجرى تناول الفاكهة المضرَّة، والزَّفرِ المُضرِّ للمحموم، وَمن به مرض يضرُّه معه تناولُ ذلك. فإذا قال المريض: أنا إنْ لم أتناول ذلك، وإلا خشيتُ الموت لم يكن صادقًا في قوله، وإنما الحاملُ له على ذلك مجردُ الشهوة، وربما زاد تناول ذلك في مرضه، فالطبيبُ الناصح لا يفسحُ له فيه، فكيف يفسحُ الشارع الحكيم الذي شريعته غاية طبِّ القلوب والأديان، وبها تُحفظ صحَّتُها، وتدفع موادُّها الفاسدة في تناوُل ما يزيد الدَّاء ويقوِّيه ويمدُّه؟ هذا من المُحال، بل الشريعةُ تأْمر بالحِمْيَةِ عن أسباب هذا الدَّاء؛ خوفًا من استحكامه، وتولُّدِ داءٍ آخر أصعبَ منه. وأمَّا مسألة مَنْ خاف تشقُّق أُنْثَيَيْه، وأنَّه يباح له الوَطْءُ في رمضان؛ فهذا ليس على إطلاقه، بل إنْ أمكنه إخراجُ مائه بغير الوَطءِ لم يجُزْ له الوَطءُ بلا نزاع، وإن لم يمكنه ذلك إلا بالوطء المباح؛ فإنَّه يجري مجرى الإفطار لعذر المرض، ثمَّ يقضي ذلك اليوم، والإفطار بالمرض لا يتوقَّف على خوف الهلاك، فكيف إذا خاف تلف عُضو من أعضاء القايل، بل هذا نظيرُ من اشتدَّ عطشه، وخاف إن لم يشرب أن يَحْدُثَ له داءٌ من الأدواء، أو يتلفَ عضوٌ من أعضائه، فإنَّه يجوز له الشربُ، ثم
(الكتاب/206)
يقضي يومًا مكانه. فإنْ قيل: فلو اتفق له ذلك، ولم يكن عنده إلاَّ أجنبيةٌ؛ هل يُباح له وَطْؤُها؛ لئلا تتلف أُنْثَيَاه؟ قيل: لا يُباح له ذلك، ولكن له أن يُخرج ماءه باستمنائه، فإن تعذَّر عليه، فهل يجوز له أن يمكنها من استخراج مائه بيدها؟ هذا فيه نظر، فإن أُبيح؛ جرى مجرى تطبيب المرأة الأجنبية للرَّجل، ومسِّها منه ما تدعو الحاجة إلى مَسِّه، وكذلك تطبيبُ [52 أ] الرَّجل للمرأة الأجنبية، ومسُّه ما تدعو الحاجة إليه، والله أعلم. وقد سُئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكَلْوَذاني في رقعة: قلْ لأبي الخَطَّاب نجمِ الهُدى ... وقدْوةِ العالمِ في عَصْرِهِ لازلتَ في فتواكَ مستأْمنًا ... مِن خُدَع الشيطانِ أو مَكْرهِ ماذا ترى في رَشَأٍ أَغْيَدٍ ... حازَ اللَّمى والدُّرَّ في ثَغْرهِ لَمْ يَحْكِ بدرَ التِّمِّ في حُسْنِه ... حتَّى حكَى الزُّنْبُورَ في خَصْرهِ فهلْ يُجيزُ الشَّرعُ تقبيلَه ... لمُسْتَهامٍ خافَ مِنْ وِزْرهِ أم هَلْ عَلَى المُشْتاقِ في ضَمِّه ... مِنْ غير إدناءٍ إلى صَدْرهِ الشربإثمٌ إذا ما لَمْ يكنْ مُضْمِرًا ... غَيْرَ الَّذي قدَّم مِن ذِكْرِه؟ فأجاب: يا أيُّها الشَّيخُ الأديبُ الَّذي ... قَدْ فاقَ أهلَ العَصْرِ في شعرِه
(الكتاب/207)
تسألُ عَنْ تقبيل بَدْرِ الدُّجى ... وعَطْفِ زَنْدَيْك عَلَى نَحْرِه هلْ وردَ الشَّرعُ بتحليله ... لمُستهامٍ خاف مِنْ وِزْرِه؟ منْ قارفَ الفتْنَة ثمَّ ادَّعى الـ ... ــعصمةَ قدْ نافق في أمرهِ هل فتنةُ المرْءِ سوى الضمِّ والتَّـ ... ـقبيل للحِبِّ عَلَى ثَغْرهِ؟! وهل دواعي ذلك المُشتَهى ... إلا عِنَاقُ البَدْرِ في خِدْرهِ؟! وبذْلُه ذاكَ لمشتاقِه ... يُزريْ على هاروت في سِحْره ولا يُجيزُ الشَّرْعُ أسباب ما ... يورِّط المُسْلِمَ في حظْره فانجُ ودعْ عنكَ صُدَاع الهوى ... عسَاكَ أنْ تَسْلَمَ مِنْ شرِّه (1) هذا جوابُ الكَلْوَذَانِيِّ قَدْ ... جاءَكَ يرجُو الله في أجْرِه فهذا جواب أهل العلم، وهو مطابقٌ لما ذكرناه، والله تعالى أعلم. وسئل (2) الإمام أبو الفرج بن الجوزيِّ رحمه الله بأبيات: يا أيُّها العالمُ ماذا تَرى ... في عاشقٍ ذابَ من الْوَجْدِ؟ منْ حبِّ ظبيٍ أغيدٍ أهيفٍ ... سهْل المُحَيَّا حَسَنِ القدِّ فهلْ ترى تقبيله جائزًا ... في الفَمِ والعَيْنَين والخدِّ _________ (1) هذا البيت ساقط من ت. (2) من هنا إلى آخر الفصل ساقط من النسختين، وأثبتناه من ط. وهذا السؤال موجَّه لأبي الطيب الطبري في «طبقات الشافعية» للسبكي (5/ 16 - 17)، وعنه في «تزيين الأسواق» (1/ 35 - 36). وجوابه يختلف عما هنا.
(الكتاب/208)
مِنْ غيرِ ما فُحْشٍ ولا ريبةٍ ... بل بعناقٍ جائزِ الحدِّ إنْ كنتَ ما تُفتِي فإنِّي إذًا ... أصيحُ من وَجْدي وأسْتعدي؟ فكتب رحمه الله تعالى الجواب: يا ذا الذي ذابَ من الوَجْد ... وظلَّ في ضُرٍّ وفي جَهْدِ اسمعْ فَدَتْكَ النَّفْسُ مِنْ ناصحٍ ... بنصحِه يَهْدِي إلى الرُّشْدِ لو صحَّ منك العِشْقُ ما جئتني ... تسألُني عنه وتَسْتَعْدِي فالعاشقُ الصَّادقُ في حُبِّه ... ما باله يسألُ ما عِنْدي غيَّبَه العِشْقُ فَمَا إنْ يُرى ... يعيدُ في العِشْقِ ولاَ يُبْدي وكلُّ ما تَذْكُرُ مستفتيًا ... حرَّمَه الله على العَبْدِ إلا لِمَا حلَّله ربُّنا ... في الشَّرعِ بالإبرام والعَقْدِ فَعَدِّ عن طُرْق الهوى مُعْرِضًا ... وقفْ ببابِ الواحدِ الفَرْدِ وسَلْه يَشْفيْكَ ولا يَبتلي ... قلبَكَ بالتَّعذيبِ والصَّدِّ وعِفَّ في العِشْقِ ولا تُبْدِهِ ... واصْبِرْ وَكاتمْ غايَةَ الجُهْدِ فإن تَمُتْ مُحتسبًا صابِرًا ... تفُزْ غدًا في جنَّة الخُلْد
(الكتاب/209)
الباب العاشر في ذكر حقيقة العشق وأوصافه [52 ب]
وكلام النَّاس فيه (1) فالَّذي عليه الأطباء قاطبةً: أنَّه مرض وَسْوَاسي شبيهٌ بالماليخوليا، يَجْلِبُهُ المرءُ إلى نفسه بتسليط فكره على استحسانِ بعض الصُّور والشمائل، وسببُه النفسانيُّ: الاستحسانُ والفكر، وسببُه البَدَنيُّ: ارتفاعُ بخارٍ رديءٍ إلى الدِّماغ من مَنِيٍّ مُحْتَقِنٍ، ولذلك أكثر ما يعتري العُزَّاب، وكثرةُ الجماع تزيلهُ بسرعة. وقال بعضُ الفلاسفة (2): العشق طمعٌ يتولَّد في القلب، ويتحرَّك، ويَنْمي، ثم يَتربَّى، وتجتمعُ إليه موادُّ من الحرص، وكلَّما قويَ؛ ازداد صاحبُه في الاهتياج واللَّجاج والتَّمادي في الطمع والحرص على الطَّلب، حتى يؤديه ذلك إلى الغمّ والقلق (3)، ويكون احتراقُ الدَّم عند ذلك باستحالته إلى السوداء، والتهاب الصَّفراء، وانقلابها إليها. ومن غلبَتْهُ السَّوداء يحصُلُ له فساد الفكر، ومع فساد الفكر يكون زوالُ العقل، ورجاءُ ما لا يكون، وتمنِّي ما لا يتمّ، حتى يؤدِّيَ ذلك إلى _________ (1) هذا الباب كله مأخوذ من «الواضح المبين» (ص 40 ـ 50). (2) هو فيثاغورس، كما في «ذم الهوى» (ص 289). (3) ت: «المقلق».
(الكتاب/210)
الجنون، فحينئذٍ ربَّما قتل العاشقُ نفسه، وربَّما مات غمًّا، وربَّما نظرَ إلى معشوقه، فمات فرحًا، وربما شَهِقَ شَهْقَةً فتختنق رُوحُه، فيبقى أربعًا وعشرين ساعةً فيُظَنُّ: أنَّه قد ماتَ، فيدفن وهو حيّ، وربَّما تنفَّس الصُّعداء، فتختنق نفسُه في تَامُور قلبه، وينضمُّ عليها القلبُ، ولا ينفرج حتى يموت، وتراه إذا ذُكر له مَنْ يهواه؛ هرب دمُه، واستحال لونُه. وقال أفلاطون: العِشْق حركةُ النَّفس الفارغة. وقال أرسطاطاليس: العِشْقُ عمى الحِسِّ عن إدراك عيوب المحبوب. ومن هذا أخذ جرير قوله (1): فلست براءٍ عيبَ ذي الودِّ كلَّه ... ولا بعضَ ما فيه إذا كنتُ راضيا فعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كَليلَةٌ ... ولكنَّ عينَ السُّخط تُبْدِي المَساويا وقال أرسطو: العشقُ جهلٌ عارضٌ، صادفَ قلبًا فارغًا لا شُغْل له من تجارةٍ وصناعةٍ. وقال غيره (2) هو سوءُ اختيارٍ صادفَ نفسًا فارغة. _________ (1) البيتان لعبد الله بن معاوية في «عيون الأخبار» (3/ 11، 76)، و «الكامل» للمبرد (1/ 277)، و «حماسة ابن الشجري» (ص 66)، و «مجموعة المعاني» (ص 106)، و «ثمار القلوب» (ص 327)، و «بهجة المجالس» (1/ 709)، و «شرح أبيات مغني اللبيب» (4/ 267)، و «الحماسة البصرية» (2/ 55)، و «التذكرة الحمدونية» (5/ 35). ولم أجده مرويًّا لجرير. وانظر «الواضح المبين» (ص 44). (2) هو ذيوجانس، كما في «ذم الهوى» (ص 289).
(الكتاب/211)
قال [53 أ] قيس بن الملوَّح (1): أتاني هَواها قبلَ أنْ أعرِفَ الهوى ... فَصَادَفَ قلبًا خاليًا فتمكَّنًا وقال بعضُهم (2): لم أرَ حقًّا أشبه بباطلٍ، ولا باطلًا أشبَهَ بحقٍّ من العِشْق، هزلُه جِدٌّ، وجِدُّه هزلٌ، وَأَوَّلُه لَعِبٌ، وآخرُه عَطَبٌ. وقال الجاحظ (3): العِشْقُ اسمٌ لما فَضَل عن المحبَّة، كما أنَّ السَّرَف اسم لما جاوزَ الجود، والبُخلَ اسمٌ لِمَا جاوزَ الاقتصاد، فكلُّ عشقٍ يُسمَّى حبًّا، وليس كل حبٍّ يُسمَّى عِشْقًا، والمحبةُ جنسٌ، والعشقُ نوعٌ منها. ألا ترى أنَّ كلَّ محبَّةٍ شوقٌ، وليس كلُّ شوق محبةً؟ وقالت فرقةٌ أُخرى: العِشْقُ هو الاستهيام، والتضرُّع، واللَّوَذَانُ بالمعشوق. والوَجْدُ هو الحب الساكن. والهوى أن يهوى الشَّيء فيتبعه، غيًّا كان أو رشدًا، والحُبُّ حرفٌ ينتظم هذه الثلاثة. وقال المأمون ليحيى ابن أكثم (4): ما العشقُ؟ فقال: سوانحُ تسنح للمرء، فيهيم بها قلبُه وتؤثرُها _________ (1) هو المجنون، انظر: «ديوانه» (ص 282)، و «البيان والتبيين» (2/ 42)، و «الحيوان» (1/ 169، 4/ 167). ونُسب لابن الطثرية في «الزهرة» (ص 21 - 22)، و «وفيات الأعيان» (6/ 370). (2) هذا مروي عن بعض الفلاسفة، انظر: «مصارع العشاق» (1/ 12)، و «ذم الهوى» (ص 290). (3) كما في «ذم الهوى» (ص 295)، و «ربيع الأبرار» (4/ 18)، و «المستطرف» (3/ 30). (4) رواه المعافى في «الجليس الصالح» (3/ 142)، والسراج في «مصارع العشاق» (1/ 11 - 12) وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 290). وانظر: «التذكرة الحمدونية» (6/ 162)، و «المستطرف» (3/ 31).
(الكتاب/212)
نفسُه. فقال له ثُمامةُ بن أشرس: اسكت يا يحيى! إنَّما عليك أن تجيب في مسألة طلاق، أو مُحْرِم صاد ظبيًا، فأمَّا هذه فمن مسائلنا نحن! فقال له المأمون: قل يا ثُمامة! قال: العشقُ: جليسٌ مُمْتِع، وأليِفٌ مُؤْنِسٌ، وصاحبُ ملكٍ مسالكه لطيفةٌ، ومذاهبه غامضةٌ، وأحكامُه جاريةٌ، ملكَ الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعقول وآراءها، قد أُعطي عِنان طاعتها، وقوَّة تصرفها، توارى عن الأبصار مَدْخَلُه، وعَمِيَ في القلوب مسلكُه. فقال له المأمون: أحسنت يا ثُمامة! وأمر له بألف دينار. وقال بعضهم (1): قلتُ لمجنون قد أذهبَ عقلَه العشْقُ: أَجِزْ هذا البيت: وما الحبُّ إلا شُعْلَةٌ قدحتْ بها ... عيونُ المها باللَّحْظِ بين الجوانح فقال بديهًا: ونارُ الهوى تخفى وفي القلب فعلُها ... كَفِعْلِ الَّذي جاءتْ به كفُّ قادح وقال الأصمعيُّ (2): سألت أعرابيًّا عن العشق فقال: جلَّ والله عن أن _________ (1) هو مساور الوراق، كما في «مصارع العشاق» (1/ 13)، و «أمالي» القالي (2/ 126)، و «ذم الهوى» (ص 320 - 321). والبيتان بلا نسبة في «تزيين الأسواق» (2/ 290). (2) الخبر في «ربيع الأبرار» (4/ 23)، و «المستطرف» (3/ 30).
(الكتاب/213)
يُرى! وخَفِي [53 ب] عن أبصار الورى، فهو في الصُّدور كامنٌ ككُمون النار في الحجر، إن قُدح؛ أورى، وإن تُرك؛ تَوارى. وقال بعضُهم (1): العشقُ نوعٌ من الجنون، والجنون فنونٌ، فالعِشْق فنٌّ من فنونه. واحتجَّ بقول قيس (2): قالوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهوى فقلتُ لهم ... العِشْقُ أعظمُ مِمَّا بالمجانينِ العِشْقُ لا يستفيقُ الدَّهرَ صاحبُه ... وإنَّما يُصْرَع المجنونُ في الحين وقال آخر (3): إذا امتزجت جواهرُ النُّفوس بوصف المشاكلة؛ أنتجت لمح نورٍ ساطعٍ تستضيءُ به النَّفسُ في معرفة محاسنِ المعشوق، فتسلك طريق الوصول إليه. وقال أعرابيٌّ: العِشْقُ أعظمُ مسلكًا في القلب من الرُّوح في الجسم، وأمْلَكُ بالنَّفس من ذاتها، بطنَ، وظهر، فامتنع وصفُه على اللسان، وخَفيَ نعتُه عن البيان، فهو بين السِّحر والجنون، لطِيفُ المَسْلَكِ والكُمون. وقيل: العشق ملكٌ غشومٌ، مُسلَّطٌ ظلومٌ، دانت له القلوب، وانقادت له الألبابُ، وخضعت له النُّفوس. العقل أسيرُه، والنظرُ رسولُه، واللحظُ لفظه، دقيقُ المسلك، عسيرُ المَخْرَج. _________ (1) هو سقراط، كما في «مصارع العشاق» (1/ 15)، و «ذم الهوى» (ص 289). (2) تقدم البيتان وتخريجهما. (3) هو ثمامة بن أشرس، كما في «ذم الهوى» (ص 291).
(الكتاب/214)
وقيل لآخر (1): ما تقولُ في العشق؟ فقال: إن لم يكن طرفًا من الجنون؛ فهو نوعٌ من السِّحر. وأما الفلاسفةُ المشَّاؤون فقالوا: هو اتِّفاق أخلاقٍ، وتشاكل محَبَّاتٍ وتجانُسُها، وشوقُ كُلِّ نفس إلى مُشاكِلِها ومُجانِسها في الخلْقَة القديمة قبل إهباطها إلى الأجساد. قلت: وهذا مبنيٌّ على قولهم الفاسد بتقدُّم النفوس على الأبدان، وعليه بنَى ابنُ سينا قصيدته المشهورة (2): هَبَطَتْ إليكَ من المَحلِّ الأرفَعِ وسمعتُ شيخنا يحكي عن بعض فُضلاء المغاربة، وهو جمالُ الدِّين بنُ الشرِيشيِّ شارحُ المقامات: أنَّه كان ينكر أن تكون هذه له، قال: وهي مُخالِفةٌ لما قرَّره في كتبه من أنَّ حدوثَ النفس الناطقة مع البدن. وقال آخرون في وصفه: دَقَّ عن الأفهام مسْلَكُه، وخَفِيَ عن الأبصار [54 أ] موضعُه، وحارت العقولُ في كيفية تمكُّنه، غير أنَّ ابتداء _________ (1) انظر: «ذم الهوى» (ص 292). (2) عجزه: ورقاء ذات تعزُّزٍ وتمنُّعِ وقصيدته هذه في «معجم الأدباء» (3/ 1076)، و «وفيات الأعيان» (2/ 160، 161)، و «عيون الأنباء» (3/ 15، 16)، و «جلاء العينين» (ص 172 - 173).
(الكتاب/215)
حركته، وعظم سلطانه من القلب، ثم يتغشَّى على سائر الأعضاء، فيُبْدي الرِّعدةَ في الأطراف، والصُّفْرةَ في الوجه (1)، والضَّعفَ في الرأْي، واللَّجْلَجَةَ في الكلام، والزَّللَ والعِثار، حتى يُنْسَب صاحبُه إلى الجنون. وقيل لأبي زهير المديني (2): ما العشق؟ قال: الجنون والذلُّ، وهو داء أهل الظَّرْف. ونظر عاشقٌ إلى معشوقه (3)، فارتعدتْ فرائصُهُ، وغُشيَ عليه، فقيل لحكيم: ما الَّذي أصابَه؟ فقال: نظرَ إلى من يُحِبُّه، فانفرج له قلبُه، فتحرَّكَ الجسم بانفراج القلب. فقيل له: نحن نحبُّ أولادنا، وأهلَنا، ولا يُصيبُنا ذلك، فقال: تلك محبَّةُ العقل، وهذه محبَّةُ الرُّوح، قال (4): وما هو إلا أن يَراها فُجَاءَةً ... فتَصْطَكَّ رِجْلاهُ وَيسْقُطَ للجَنْب وقال: العشقُ ملكٌ مُسلَّطٌ على قهر النفوس، وأسْرِ القُلوب، قال الشاعر: ملك القلوبَ فأصبحتْ في أسرِه ... وبِودِّها ألَّا يُفَكَّ إِسارُها _________ (1) ش: «الألوان». (2) انظر: «مصارع العشاق» (1/ 12) و «ذم الهوى» (ص 292). (3) الخبر في «ذم الهوى»، (ص 295). (4) البيت بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 53).
(الكتاب/216)
وقال أعرابي في وصفه: بالقلب وَثْبَتُه، وبالفؤاد وَجْبَتُه، وبالأحشاء نارُه، وسائرُ الأعضاء خُدَّامُه، فالقلبُ من العاشق ذاهلٌ، والدمعُ منه هاملٌ، والجسمُ منه ناحلٌ. مرورُ الليالي تُجدِّده، وإساءة المحبوب لا تُفسده. وقيل: ليس هو موقوفًا على الحُسْن والجمال، وإنما هو تشاكُلُ النُّفوس، وتمازُجها في الطِّباع المخلوقة فيها، كما قيل (1): وما الحبُّ مِنْ حُسْنٍ ولا من مَلاحةٍ ... ولكنَّه شيءٌ به الرُّوحُ تَكْلَفُ وقيل: أوَّلُ العشق عَناء، وأوسطُه سُقْم، وآخرُه قتل. كما قال القائل (2): هو الحبُّ فاسْلَمْ بالحشا ما الهوى سَهْلُ ... فما اختارَه مُضْنًى به وله عَقْلُ وعِشْ خاليًا فالحُبُّ أوَّلُه عَنَا ... وأوْسَطُه سُقْمٌ وآخرُه قتْلُ _________ (1) البيت لمحمد بن داود الأصفهاني في «مصارع العشاق» (2/ 58)، و «ديوان الصبابة» (ص 53). وبلا نسبة في «تزيين الأسواق» (1/ 55). وسبق ذكره فيما مضى. (2) في هامش ت: ابن الفارض. والبيتان في «ديوانه» (ص 134).
(الكتاب/217)
الباب الحادي عشر في العشق: هل هو اضطراريٌّ خارجٌ [54 ب] عن الاختيار أو أمرٌ اختياريٌّ؟ واختلاف النَّاس في ذلك، وذكر الصَّواب فيه
فنقول: اختلف الناس في العشق: هل هو أمر اختياريٌّ أو اضطراريٌّ خارجٌ عن مقدور البشر؟ فقالت فرقة: هو اضطراريٌّ، وليس باختياريٍّ، قالوا: وهو بمنزلة محبَّة الظمآن للماء البارد، والجائع للطعام، وهذا ممَّا لا يُمْلَكُ. وقال بعضهم: والله لو كان لي من الأمر شيءٌ ما عذَّبتُ عاشقًا! لأن ذنوبَ العُشَّاق اضطراريةٌ، فإذا كان هذا قولَه فيما تولَّد عن العِشْقِ مِنْ فعلٍ اختياريٍّ، فما الظنُّ بالعشق نفسه؟ وقال أبو محمد بنُ حزم: قال رجلٌ لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: يا أميرَ المؤمنين! إني رأيت امرأةً فعَشِقْتُها! فقال عمر: ذاك ممَّا لا يُمْلك. وقال كامل في سَلْمى (1): يلومُونني في حُبِّ سَلْمَى كأنَّما ... يَرَوْنَ الهَوى شيئًا تَيَمَّمْتُه عَمْدَا _________ (1) البيتان في «ديوان الصبابة» (ص 51). والصواب «كاهل» كما في الواضح المبين (ص 30).
(الكتاب/218)
ألا إنَّما الحبُّ الذي صَدَع الحَشَا ... قضاءٌ من الرَّحمن يَبْلو به العَبْدَا وقال التميمي في كتاب «امتزاج الأرواح»: سُئل بعض الأطباء عن العشق، فقال: إنَّ وقوعَه بأهله ليس باختيارٍ منهم، ولا بحرصهم عليه، ولا لَذَّة لأكثرهم فيه، ولكنَّ وقوعَه بهم كوقوع العِلَل المُدْنِفَة، والأمراض المُتْلِفَةِ، لا فرقَ بينه وبين ذلك. وقال المدائنيُّ (1): لامَ رجلٌ رجلًا من أهل الهوى، فقال: لو صحَّ لذي هوًى اختيارٌ؛ لاختارَ ألاَّ يهوى. ويَدُلّ على ذلك من السُّنَّة ما رواه البخاريُّ في صحيحه (2) من قصَّة بَرِيرة: أنَّ زوجَها كان يمشي خلفها بعد فراقها له، وقد صارت أجنبيةً منه، ودموعُه تسيلُ على خدَّيه، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عبَّاسُ ألا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَة، ومن بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغيثًا؟»، ثم قال لها: «لو رَاجَعْتِيه» فقالت: أَتَأْمُرُنِي؟ فقال: «إنَّما أنا شافِعٌ» قالت: لا حاجةَ لي فيه. ولم يَنْهَهُ عن عشقها في هذه الحالة؛ إذ ذلك شيءٌ لا يُملكُ، ولا يدخلُ تحت الاختيار، وقال جامع (3): _________ (1) أخرج عنه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 71). وانظر: «ديوان الصبابة» (ص 51). (2) رقم (5283) من حديث ابن عباس. (3) تقدم البيتان.
(الكتاب/219)
سألتُ سعيدَ بن المسيَّب مفتيَ الـ ... ـمدينة هل في حبِّ دَهْمَاء منْ وِزْرِ؟ فقال سعيدُ بن المسيب إنَّما ... يُلامُ على ما يُسْتطاعُ من الأمر قالوا: والعشقُ نوعٌ من العذاب، والعاقلُ لا يختارُ عذابَ نفسه، وفي هذا قال المؤَمَّل (1): شَفَّ المُؤَمَّلَ يومَ الحِيرَة النظرُ ... ليتَ المؤمَّل لم يُخْلَق له بَصَرُ يكفي المحبِّينَ في الدنيا عذابُهمُ ... والله لا عَذَّبتْهُمْ بعدَها سَقَرُ فيقال: إنَّه عَمِيَ بعد هذا. وقال آخر: ليس الهوى إلى الرأْي فيَمْلِكَهُ، ولا إلى العقل فَيُدْرِكَهُ، ثم أنشد (2): ليس خَطْبُ الهوى بخطبٍ يسير ... لا يُنَبِّيْك عنه مثلُ خبيرِ ليس أمرُ الهوى يُدَبَّر بالرأْ ... ي ولا بالقياس والتَّفكير إنَّما الأمرُ في الهوى خطَرَاتٌ ... محْدِثَاتُ الأمورِ بعدَ الأمور وقال القاضي أبو عمر محمَّد بن أحمد بن محمد بن سليمان النُّوقَاتي في كتابه «محنة الظرّاف»: العشاقُ معذورون علَى الأحوال؛ إذ العشقُ إنَّما _________ (1) ابن أُميل المحاربي، والشعر له في «الأغاني» (22/ 251)، و «الزهرة» (1/ 134)، و «الحماسة البصرية» (2/ 116)، و «خزانة الأدب» (3/ 523)، و «ديوان الصبابة» (ص 51)، و «نكت الهميان» (ص 299). (2) الشعر لعلية بنت المهدي في «أشعار أولاد الخلفاء» (ص 65)، و «الأغاني» (10/ 185)، و «زهر الآداب» (2/ 725)، و «تزيين الأسواق» (1/ 48).
(الكتاب/220)
دهاهم عن غير اختيار، بل اعتراهم عن جبرٍ واضطرار، والمرءُ إنَّما يُلامُ على ما يستطيع من الأمور، لا على المقْضِيّ عليه والمقدور. فقد قيل: إن الحامل كانت ترى يوسف عليه الصلاة والسلام، فتضعُ حَمْلها، فكيف ترى هذه وضَعَتْهُ؟! أباختيارٍ كان ذلك أم باضطرارٍ؟ قال غيره: وهؤلاء النِّسوة قَطَّعنَ أيديَهنَّ لما بدا لهنَّ حسنُ يوسف عليه السلام وما تمكَّن حبُّه من قلوبهنَّ، فكيف لو شُغِفْن حُبًّا؟! وكان مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيْر إذا رأته المرأة؛ حاضتْ لحسنه، وجماله. كما قال فيه الشاعر (1): إنَّما مُصْعَبٌ شِهابٌ من الله ... تجلَّتْ عن وجهِه الظَّلْمَاءُ ومن ها هنا أخذَ أحمدُ بن الحسين الكندي المتنبي قوله (2): تَقِ الله واستُرْ ذا الجمال بِبُرْقُعٍ ... فإن لُحْتَ حاضَتْ في الخدور العواتِقُ فإذا كان هذا من مجرَّد الرؤية، فكيف بالمحبة التي لا تُمْلَك؟! وقال هشام بن عُرْوة عن أبيه: مات بالمدينة عاشقٌ، فصلى عليه زيد بن ثابتٍ، فقيل له في ذلك، فقال: إنِّي رَحِمْتُه. [55 ب] _________ (1) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات في «ديوانه» (ص 91)، و «الكامل» للمبرد (2/ 827)، و «الشعر والشعراء» (1/ 539)، و «الأغاني» (5/ 79)، و «خزانة الأدب» (3/ 268). (2) «ديوانه» (3/ 89).
(الكتاب/221)
ورُئي أبو السَّائب المخزوميُّ (1) ـ وكان من العلم والدِّين بمكان ـ متعلِّقًا بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهم ارحمِ العاشقينَ، وقوِّ قلوبَهم! واعطفْ عليهم قلوبَ المعشوقين! فقيل له في ذلك، فقال: والله للدُّعاءُ لهم أفضلُ من عُمرَةٍ من الجِعْرَانَة! ثم أنشد (2): يا هَجْرُ كُفَّ عن الهوى ودعِ الهوَى ... للعاشقينَ يطيبُ يا هَجْرُ ماذا تريدُ من الذين جُفونُهم ... قرْحى وَحَشْوُ قُلوبهم جَمْرُ؟! مُتَبَلِّدِين مِن الهوى ألوانُهم ... مما تُجِنُّ قلوبُهم صُفْرُ وسوابقُ العَبَرَات فوقَ خُدودِهم ... دُرَرٌ تَفِيضُ كأنَّها قَطْرُ ويُذكَرُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بجاريةٍ تتغنَّى: هل عليَّ وَيْحَكُما ... إنْ لَهَوْتُ مِن حَرَج فتبسَّم، وقال: «لا حَرَجَ إن شاء الله» (3). _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 237). وانظر: «ذم الهوى» (ص 347)، و «الموشى» (ص 158 - 159)، و «الواضح المبين» (ص 33)، و «ديوان الصبابة» (ص 50). (2) الأبيات للعباس بن الأحنف في «ديوانه» (ص 146)، وأنشدها أبو السائب المخزومي في المصادر السابقة. (3) أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 116) من حديث ابن عباس. ولا يصح، انظر: «اللآلئ المصنوعة» (2/ 207)، و «تنزيه الشريعة» (2/ 223). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الاستقامة» (1/ 296): هذا الحديث موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
(الكتاب/222)
قالوا: وقد فسَّر كثيرٌ من السَّلَف قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة/286] بالعشق. وهذا لم يُريدوا به التَّخصيص، وإنَّما أرادوا به التمثيلَ، وأنَّ العشق من تحميل ما لا يُطاق. والمراد بالتَّحميل ها هنا التحميلُ القدَريُّ، لا الشَّرعيُّ الأمريُّ. قالوا: وقد رأينا جماعةً من العُشَّاق يطوفون على مَنْ يدعو لهم أن يُعافِيَهم الله من العِشْق، ولو كان اختيارًا؛ لأزالوه عن نفوسهم. ومن ها هنا يتبيَّن خطأ كثيرٍ من العاذلين، وعَذْلُهم في هذه الحال بمنزلة عَذْلِ المريض في مرضه، قال (1): يا عاذلي والأمرُ في يَدِه ... هَلَّا عَذَلْتَ وفي يَدِي الأمرُ وإنَّما ينبغي هذا العذلُ قبلَ تعلُّق هذا الدَّاء بالقلب، كما قيل (2): يُذكِّرُني {حم} والرُّمحُ شاجِرٌ ... فهلَّا تلا {حم} قبلَ التَّقَدُّم _________ (1) البيت في «ديوان الصبابة» (ص 52). (2) البيت للمقشعر بن جديع النضري في «الحماسة البصرية» (1/ 69). ولشريح بن أبي أوفى العبسي في «مجاز القرآن» (2/ 193)، و «اللسان» (حمم). وينسب لغيرهما، انظر: «الاقتضاب» (ص 439)، و «معجم الشعراء» للمرزباني (ص 270)، و «فتح الباري» (8/ 553، 554)، و «طبقات ابن سعد» (5/ 39)، و «نسب قريش» للزبير (ص 281)، و «الأمثال» لأبي عبيد (ص 217)، و «فصل المقال» (ص 313)، و «المعارف» (ص 231)، و «الاشتقاق» (ص 145).
(الكتاب/223)
وقالت فرقةٌ أُخرى: بل هو اختياريٌّ تابعٌ لهوى النفس وإرادتها، بل هو استحكامُ الهوى الذي مدح الله مَنْ نهى عنه نفسَه، فقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ [56 أ] هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات/40 ــ 41]. فمحالٌ أن ينهى الإنسانُ نفسَه عما لا يدخلُ تحت قدرته. قالوا: والعشقُ حركةٌ اختياريةٌ للنَّفس إلى نحو محبوبها، وليس بمنزلة الحركات الاضطرارية التي لا تدخلُ تحت قدرة العبد. قالوا: وقد ذمَّ الله سبحانه وتعالى أصحاب المحبَّة الفاسدة الذي يُحبُّون من دونه أندادًا، ولو كانت المحبَّةُ اضطراريةً، لما ذُمُّوا على ذلك. قالوا: ولأن المحبَّةَ إرادةٌ قويَّةٌ، والعبدُ يُحْمدُ، ويُذَمُّ على إرادتِه، ولهذا يُحْمَد مُريدُ الخير، وإن لم يفعلْه، ويُذَمّ مريدُ الشرِّ، وإن لم يفعلْه. وقد ذمَّ الله تعالى الذين يُحِبُّون أن تَشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا، وأخبرَ أنَّ لهم عذابًا أليمًا. ولو كانت المحبَّةُ لا تُملك لم يتوعَّدْهم بالعذابِ على ما لا يدخلُ تحت قُدرتهم. قالوا: والعقلاءُ قاطبةً مُطْبِقُون على لوم من يُحِبُّ ما يتضرَّر بمحبَّتِه، وهذا فطرةٌ فطرَ الله عليها الخلقَ، فلو اعتذرَ بأني لا أملكُ قلبي؛ لم يقبلُوا له عذرًا.
(الكتاب/224)
وفصل النِّزاع بين الفرقتين: أنَّ مبادئ العشق وأسبابَهُ اختياريةٌ داخلةٌ تحت التكليف، فإنَّ النظرَ والتفكُّر والتعرُّض للمحبَّة أمرٌ اختياريٌّ، فإذا أتى بالأسباب كان تَرَتُّبُ المُسبَّبِ عليها بغير اختياره، كما قيل (1): تَوَلَّعَ بالعِشْق حتى عَشِقْ ... فلما استقلَّ بهِ لَمْ يُطِقْ رأى لُجَّةً ظنَّها مَوْجَةً ... فلمَّا تمكَّن منها غَرِقْ ولما رأى أدْمُعًا تَسْتَهلّ ... وأبصر أحشاءه تحترقْ (2) تمنَّى الإقالةَ مِنْ ذنبه ... فلم يستطعْها ولم يسْتفقْ وهذا بمنزلة السُّكر مع شُرْب الخمر، فإنَّ تناوُلَ المُسكر اختياريٌّ، وما يتولَّد عنه من السُّكر اضطراريٌّ، فمتى كان السببُ واقعًا باختياره لم يكن معذورًا فيما تولَّد عنه بغير اختياره، فمتى كان السببُ محظورًا لم يكن السَّكرانُ معذورًا. ولا ريبَ أنَّ متابعة النظر، واستدامةَ الفكر بمنزلة شُرب المُسكر، فهو يُلام على السَّبب، ولهذا إذا حصلَ العِشْقُ بسببٍ غير محظورٍ؛ لم يُلَمْ عليه صاحبُه، كمن كان [56 ب] يعشقُ امرأتَه، أو جاريته، ثم فارقها، وبقي عشقُها غير مفارقٍ له، فهذا لا يُلام على ذلك، كما تقدَّم في قصَّة بَرِيرَة ومُغِيث. _________ (1) الأبيات بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 586)، و «ديوان الصبابة» (ص 54). (2) هذا البيت لم يرد في النسختين، والزيادة من «ذم الهوى» ليستقيم المعنى.
(الكتاب/225)
وكذلك إذا نظر نظرة فجَاءَةٍ، ثم صرفَ بصرَه، وقد تمكَّن العِشْقُ من قلبه بغير اختياره، على أنَّ عليه مُدافعتَه، وصرفَه عن قلبه بضدِّه، فإذا جاءَ أمرٌ يَغْلِبُه؛ فهناك لا يُلام بعد بذل الجهد في دفعه. ومِمَّا يُبيِّنُ ما قلناه: أنَّ سكرَ العشق أعظمُ من سُكر الخمر، كما قال تعالى عن عُشَّاق الصُّور من قوم لوطٍ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر/72]. وإذا كان أدنى السُّكرَين لا يُعْذَر صاحبُه إذا تعاطَى أسبابَه؛ فكيف يُعْذر صاحبُ السُّكر الأقوى مع تعاطِي أسبابه؟ وإذ قد وصلنا إلى هذا الموضع؛ فلنذكرْ بابًا في سَكْرةِ الحُبِّ وسببها.
(الكتاب/226)
الباب الثاني عشر في سَكْرَةِ العُشَّاق
ولابدَّ قبل الخوض في ذلك من بيان حقيقة السُّكْرِ وسببه وتَولُّده، فنقول: السُّكْر لذّةٌ يغيبُ معها العقلُ الذي يُعْلَم به القولُ، ويحصل معه التمييز. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء/43] فجعل الغاية التي يزول بها حكمُ السكر أن يعلم ما يقول، فمتى لم يعلم ما يقولُ فهو في السُّكْر، وإذا علم ما يقول خرج عن حكمه، وهذا هو حدُّ السكران عند جمهور أهل العلم. قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: بماذا يُعلم أنَّه سكران؟ فقال: إذا لم يعرف ثوبه من ثوب غيره، ونعله من نعل غيره. ويُذْكر عن الشافعي رحمه الله تعالى: أنه قال: إذا اختلط كلامه المنظوم، وأفشى سرَّه المكتوم. قال محمد بن داود الأصبهاني: إذا عزبت عنه الهُموم، وباح بسرِّه المكتوم. فالسُّكر يجمع مَعْنَيين: وجودَ لذَّة، وعدم تمييز. والذي يقصِد السُّكرَ قد يقصد أحدهما، وقد يقصدُ كليهما، فإنَّ النَّفس لها هوًى وشهواتٌ تلتذُّ بإدراكها، والعلم بما في تلك اللذّات من المفاسد العاجلةِ والآجلة يمنعُها من تناوُلِها، والعقلُ [57 أ] يأْمرُها بأن لا تفعلي،
(الكتاب/227)
فإذا زالَ العقل الآمرُ، والعلمُ الكاشفُ؛ انبسطتِ النفسُ في هواها، وصادفتْ مجالاً واسعًا. وحرَّم الله سبحانه السُّكْرَ لشيئين ذكرهما في كتابه في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة/91] فأخبر سبحانه: أنَّه يُوجب المفسدة الناشئة من النفس بواسطة زوال العقل، ويمنعُ المصلحة التي لا تَتِمُّ إلا بالعقل. وقد يكون سبب السُّكر ألمًا، كما يكونُ لذَّةً، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج/1 ــ 2] وقد يكونُ سببه قوَّة الفرح بإدراك المحبوب، بحيث يختلط كلامُه، وتتغيَّرُ أفعالُه بحيثُ يزول عقلُه، وربما قتله الفرحُ بسببٍ طبيعيٍّ، وهو انبساطُ دم القلب انبساطًا خارجًا عن العادة، والدَّمُ حاملُ الحارِّ الغريزي، فيبرُد القلبُ بسبب انبساط دمِه، فيحدث الموتُ. وقد جرى هذا لمحمد (1) بن طُولون أميرِ مصر، فإنه مرَّ بصيادٍ في يوم باردٍ، وعنده بُنَيٌّ له، فرقَّ عليهما، وأمر غلامه أن يدفع إليه ما معه من _________ (1) كذا في النسختين «محمد». والصواب «أحمد»، وهو صاحب مصر والشام.
(الكتاب/228)
الذهب، فصبَّه في حِجْره، ومضى، فاشتدَّ فرحُه به، فلم يحمل ما ورد عليه من الفرح، فقضى مكانه، فعاد الأمير من شأنه، فوجد الرجل ميِّتًا، والصَّبيُّ يبكي عند رأسه، فقال: منْ قتله؟ فقال: مرَّ بنا رجلٌ ــ لا جزاه الله خيرًا ــ فصبَّ في حِجْر أبي شيئًا، فقتله مكانه، فقال الأمير: صدقَ، نحنُ قتلناه! أتاه الغنى وهلةً واحدة، فعجز عن احتماله، فقتله، ولو أعطينْاه ذلك بالتدريج لم يقتلْه، فحرص على الصَّبي أن يأخذ الذهب فأبى، وقال: والله لا أُمسك شيئًا قتل أبي! والمقصودُ أنَّ السُّكْرَ يُوجب اللَّذة، ويمنعُ العلم، فمنه السُّكْرُ بالأطعمة [57 ب] والأشربة، فإنَّ صاحبَها يحصل له لذَّةٌ وسرورٌ بها، يحملُه على تناوُلها، لأنها تغيِّب عنه عقله، فتغيِّب عنه الهموم والغموم، والأحزان تلك الساعة، ولكن يغْلَطُ في ذلك، فإنَّها لا تزولُ، ولكن تتوارى، فإذا صحا عادت أعظم ما كانت وأوفرَه، فيدعُوه عَوْدُها إلى العَوْد، كما قال الشاعر (1): وكأْسٍ شربتُ على لذَّةٍ ... وأُخرى تَداوَيتُ مِنْها بِها ومن النَّاس من يقصدُ بها منفعة البدن، وهو غالطٌ، فإنَّه يترتب عليها من المضرَّة المتولِّدة عن السُّكْر ما هو أعظمُ من تلك المنفعة بكثير، واللَّذَّة الحاصلةُ بذكر الله والصَّلاة عاجلًا وآجلًا أعظمُ، وأبقى، وأدفع _________ (1) البيت للأعشى في «ديوانه» (ص 173).
(الكتاب/229)
للهموم والغموم والأحزان. وتلك اللَّذَّة أجلبُ شيءٍ للهُموم والغُموم عاجلًا وآجلًا، ففي لذَّة ذكر الله، والإقبال عليه، والصلاة بالقلب والبدن من المنفعة الشَّريفة العظيمة، السَّالمة عن المفاسد الدَّافعة للمضارِّ: غنىً وعِوَضٌ للإنسان ــ الذي هو إنسانٌ ــ عن تلك اللَّذَّة النَّاقصة القاصرة المانعة لما هو أكملُ منها، الجالبة لألمٍ أعظم منها. فصل ومن أسباب السُّكْر حبُّ الصُّوَر، فإنَّه إذا استحكم الحبُّ، وقوِيَ؛ أسكر المُحِبَّ، وأشعارُهم بذلك مشهورةٌ كثيرةٌ، ولاسيَّما إذا اتَّصلَ الجماعُ بذلك الحُبِّ، فإنَّ صاحبه ينقصُ تمييزه، أو يعدمُ في تلك الحالة، بحيث لا يميِّز، فإن انضاف ذلك السُّكر إلى سُكْر الشراب، بحيث يجتمعُ عليه سُكْرُ الهوى، وسُكْرُ الخمر، وسُكْرُ لذَّة الجِماع؛ فذلك غاية السُّكْر. ومنه ما يكون سببُه حبَّ المال، والرِّئاسة، وقوَّة الغضب، فإنَّ الغضب إذا قَوِيَ أوجبَ سكرًا يقرُب مِنْ سُكْرِ الخمر. ويدخل ذلك في الإغلاق الذي أبطل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقوع الطلاق فيه بقوله: «لا طلاق في إغْلاق» رواه أبو داود (1)، وقال: أظنُّه الغضب. _________ (1) رقم (2193). وأخرجه أيضًا أحمد (6/ 276)، وابن ماجه (2046)، وهو حديث حسن، انظر: «تلخيص الحبير» (3/ 210).
(الكتاب/230)
وفسَّره الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أيضًا بالغضب. وممَّا يدُلُّ على صحَّة ذلك قولُهُ تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس/11] قال السَّلف في تفسيرها: [58 أ] هو الرَّجل يدعو على نفسه وأهله في وقت الغضب من غير إرادةٍ منه لذلك، فلو استجابَ الله دعاءَه؛ لأهلَكه، وأهلك من دعا عليه، ولكن لرحمته لما علم أنَّ الحاملَ له على ذلك سُكْرُ الغضب، لا يُجيب دعاءَه. ومن هذا قولُ الواجد لراحلته بعد يأْسه منها، وإيقانه بالهلاك: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفرحِ» (1) ولم يكن بذلك كافرًا؛ لعدم قصْدِه. وذكر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك تحقيقًا لشدَّة الفرح؛ الذي أفضى به إلى ذلك. وإنَّما كانت هذه الأشياء قد تُوجب السكر؛ لأن السُّكر سببُه يُوجب اللذَّة القاهرة؛ التي تغمرُ العقل، وسببُ اللذَّة إدراكُ المحبوب، فإذا كانت المحبَّةُ قويَّةً، وإدراكُ المحبوب قويًّا، والعقلُ ضعيفًا؛ حدث السُّكر، لكن ضعف العقل يكون تارةً من ضعف المحبِّ، وتارةً من قوَّة السَّبب الوارد، ولهذا يَحْصُل من السُّكْر للمبتدئين في إدراك الرئاسة والمال والعشق والخمر ما لا يحصُل لمن اعتادَ ذلك، وتمكَّن فيه. _________ (1) أخرجه البخاري (6309)، ومسلم (2747) من حديث أنس.
(الكتاب/231)
فصل ومن أقوى أسباب السكر الموجبة له: سماعُ الأصوات المطربة من جهتين: مِنْ جهة: أنَّها في نفسها تُوجب لذَّةً قويةً، ينغمر معها العقل، ومن جهة: أنَّها تُحرِّك النفسَ إلى نحو محبوبها كائنًا ما كان، فيحصُل بتلك الحركة والشوقِ والطلبِ، مع التخيُّل للمحبوب، وإدناءِ صورته إلى القلب واستيلائها على الفكرة لذَّةٌ عظيمةٌ تقهرُ العقل، فتجتمع لذَّةُ الألحان ولذَّة الأشجان، ولهذا يَقْرِنُ المعتنون بهذه اللذَّات سماعَ الألحان بالشراب كثيرًا؛ ليكمل لهم السُّكْر بالشراب، والعشقِ، والصوتِ المُطْرِبِ، فيجدون من لذَّة الوِصال، وسكرِه في هذه الحال ما لا يجدونه بدونها. فالخمرُ شرابُ الأجسام، والعشق شراب النفوس، والألحانُ شراب الأرواح، ولاسيَّما إذا اقترن بها من الأقوال ما فيه ذكر المحبوب، ووصفُ حال المُحِبِّ على مقتضى الحال التي هو فيها، فيجتمع سماعُ الأصوات الطيِّبة، وإدراكُ المعاني [58 ب] المناسبة، وذلك أقوى بكثيرٍ من اللَّذَّة الحاصلة بكل واحد منها على انفراده، فتستولي اللَّذَّة على النَّفس، والرُّوح، والبدن أتمَّ استيلاء، فيحدث غايةُ السُّكْر. فكيف يدَّعي العذر من تعاطى هذه الأسباب، ويقول: إنَّ ما تولَّد عنها اضطراريٌّ غيرُ اختياريٍّ، وبالله التوفيق (1). _________ (1) «اضطراري ... التوفيق» ساقطة من ش.
(الكتاب/232)
الباب الثالث عشر في أنَّ اللذَّة تابعةٌ لِلْمَحَبَّة في الكمال والنُّقصان
فكلَّما قَوِيَتِ المحبَّةُ قويت اللذَّةُ بإدراك المحبوب، وهذا البابُ من أجلِّ أبواب الكتاب، وأنفعِها، ونذكرُ فيه بيانَ معرفة اللذَّة، وأقسامها، ومراتبها، فنقول: أما اللذَّة ففُسِّرت بأنَّها إدراكُ المُلائم، كما أنَّ الألم إدراك المُنافي. قال شيخنا: والصَّوابُ: أنْ يُقال: إدراكُ المُلائم يُسببُ اللذَّة، وإدراك المُنافي يُسبب الألم، فاللذَّة والألم يَنْشآن عن إدراك المُلائم والمُنافي، والإدراك سببٌ لهما، واللذَّة أظهر من كل ما يُعرَّف به، فإنها أمرٌ وجدانيٌّ، وإنما تُعْرَف بأسبابها وأحكامها. واللذَّة، والبهجةُ، والسرورُ، وقُرَّة العين، وطيب النَّفس، والنَّعيمُ ألفاظٌ مُتقاربةُ المعنى، وهي أمرٌ مطلوبٌ في الجملة، بل ذلك مقصود كلِّ حيٍّ، وذلك أمرٌ ضروريٌّ مِنْ وجوده، وذلك في المقاصد والغايات بمنزلة الحِسِّ والعلوم البديهية في المبادئ والمقدّمات، فإنَّ كل حيٍّ له علمٌ وإحساسٌ، وله عملٌ وإرادةٌ، وعلمُ الإنسان لا يجوزُ أن يكون كلُّه نظريًّا استدلاليًّا؛ لاستحالة الدَّور والتسلسل، بل لابدَّ له مِنْ علمٍ أوَّليٍّ بديهيٍّ، يَبْدَهُ النَّفسَ، ويبتدئ فيها، فلذلك يُسمَّى بديهيًّا وأوَّليًّا، وهو من نوع ما تُضطرُّ إليه النَّفس، فيُسمَّى ضروريًّا.
(الكتاب/233)
فإنَّ النفس تُضطرُّ إلى العلم تارةً، وإلى العمل أُخرى، وكذلك العملُ الاختياريُّ المراديُّ له مُرادٌ، فذلك المرادُ إمَّا أن يُراد لنفسه، أو لشيءٍ آخر، ولا يجوزُ أن يكون كلُّ مرادٍ مرادًا لغيره؛ حذرًا من الدَّور والتَّسلسل، فلابدَّ من مرادٍ مطلوبٍ محبوبٍ لنفسه، فإذا حصل المطلوبُ المرادُ المحبوب؛ فاقترانُ اللذَّة، والنِّعمة، [59 أ] والفرح، والسُّرور، وقُرَّة العين به على قدر قوَّة محبته، وإرادته ورغبته فيه، وذلك أمرٌ ذَوْقِيٌّ وجديٌّ، ولهذا يغلِب على أهل الإرادة والعمل من السَّالكين اسمُ الذوق والوَجد؛ لما في وجود المراد المطلوب من الذَّوق والوجد الموجب للفرح، والسُّرور، والنَّعيم. فها هنا ثلاثةُ أنواعٍ من الأسماء متقاربة المعاني: أحدُها: الشَّهوةُ، والإرادةُ، والميل، والطلب، والمحبَّة، والرغبةُ، ونحوُها. الثاني: الذَّوقُ، والوَجدُ، والوصولُ، والظَّفَرُ، والإدراكُ، والحصولُ، والنَّيْلُ، ونحوُها. الثالث: اللذَّةُ، والفرَح، والنعيم، والسرور، وطيب النفس، وقرّة العين، ونحوُها. وهذه الأمور الثلاثة متلازمةٌ.
(الكتاب/234)
فصل وإذا كانت اللذَّةُ مطلوبةً لنفسها فهي إنَّما تُذَمُّ؛ إذا أعقبتْ ألمًا أعظمَ منها، أو منعت لذَّةً خيرًا منها، وتُحْمَدُ؛ إذا أعانت على اللذَّة الدائمة المستقرة، وهي لذةُ الدار الآخرة ونعيمها؛ الذي هو أفضلُ نعيم وأجلُّه، كما قال الله تعالى: {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف/ 56 ــ 57]، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل/ 30]، وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى/ 16 ــ 17]. وقال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت/ 64] وقال العارفون بتفاوتِ مابين الأمرين لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه/ 72 ــ 73]. والله سبحانه إنما خلق الخلق لدار القرار، وجعل اللذة كلَّها بأسرها فيها، كما قال الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف/ 71]، وقال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة/ 17]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى: أَعْدَدْتُ لعِبَادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا
(الكتاب/235)
أُذُنٌ سمعتْ، ولا خطر [59 ب] على قلب بشرٍ، بَلْه ما اطَّلَعْتُمْ عليه» (1) أي: غير ما اطلعتم عليه، وهذا هو الذي قصده النَّاصحُ لقومه، الشفيقُ عليهم؛ حيث قال: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر/ 38 ــ 39] فأخبرهم أنَّ الدُّنيا متاعٌ يُتَمتعُ بها إلى غيرها، والآخرة هي المستقرُّ والغاية. فصل وإذا عُرِفَ (2) أنَّ لَذّاتِ الدنيا ونعيمها متاعٌ، ووسيلةٌ إلى لَذَّات الدَّار الآخرة، ولذلك خُلقت، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّنيا مَتَاعٌ، وخَيْرُ مَتاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (3) = فكلُّ لذَّة أعانتْ على لَذَّات الدار الآخرة؛ فهي محبوبةٌ مَرْضِيَّةٌ للرَّب تعالى، فصاحبُها يلتذُّ بها من وجهين: من جهة تنعُّمه وقُرَّة عينه بها، ومن جهة إيصالها له إلى مرضاة ربِّه، وإفضائها إلى لذَّةٍ أكمل منها، فهذه هي اللذَّة التي ينبغي للعاقل أن يسعى في تحصيلها، لا اللذَّة التي تُعْقِبُهُ غايةَ الألم، وتفوِّتُ عليه أعظمَ اللذَّات. _________ (1) أخرجه البخاري (3244، 4779، 7498)، ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة. (2) ت: «عرفت». (3) أخرجه مسلم (1467) من حديث عبد الله بن عمرو.
(الكتاب/236)
ولهذا يثابُ المؤمنُ على كلِّ ما يلتذُّ به من المباحات؛ إذا قصد به الإعانة، والتوصُّل إلى لذَّة الآخرة، ونعيمها، فلا نسبة بين لذَّة الحرام ولذَّة صاحب الزَّوجة، أو الأمةِ الجميلة؛ التي يحبها، وعينُه قد قَرَّت بها، فإنَّه إذا باشرها، والتذَّ قلبُه، وبدنُه، ونفسُه بوصالها؛ أُثيب على تلك اللذة في مقابلة عقوبة صاحب اللذَّة المحرَّمة على لذَّته،، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وفي بُضْع أحَدِكُمْ أجْرٌ». قَالُوا: يا رسول الله! يأْتي أحدُنا شهْوتَهُ ويكون لهُ فيها أجْرٌ؟! قال: «أرأيْتُمْ لَوْ وَضَعها في الحَرامِ أكانَ عليهِ وِزْرٌ؟» قالوا: نعم. قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال يكونُ لهُ أجرٌ» (1). واعلم أنَّ هذه اللذَّةَ تتضاعف، وتتزايد بحسب ما عند العبد من الإقبال على الله، وإخلاص العمل له، والرَّغبة في الدار الآخرة، فإنَّ الشهوة واللذاذة المنقسمة في الصُّور اجتمعت [60 أ] له في صورةٍ واحدة، والخوف والهمَّ والغمَّ الذي في اللَّذة المحرَّمة معدومٌ في لذَّته، فإذا اتفق له مع هذا صورةٌ جميلةٌ، ورُزق حُبَّها، ورُزقت حُبَّه، وانصرفت دواعي شهوته إليها، وقصر بصره عن النَّظر إلى سواها، ونفسه عن التطلُّع إلى غيرها، فلا مناسبة بين لذَّته ولذَّة صاحب الصورة المحرَّمة، وهذا أطيب نعيم يُنالُ من الدُّنيا، وجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ثالث ثلاثة بها يُنال خيرُ الدُّنيا والآخرة، وهي: «قلبٌ شاكرٌ، ولسانٌ ذاكرٌ، وزوجةٌ حسناءُ، _________ (1) أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر.
(الكتاب/237)
إن نظر إليها؛ سرَّته، وإن غاب عنها، حفظته في نفسها وماله» (1)، والله المستعان. وقال القاسم بن عبد الرحمن (2): كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقرأُ القرآن، فإذا فرغ قال: أين العُزّاب؟ فيقول: ادنوا مني، قولوا: اللهم ارزقني امرأةً إذا نظرتُ إليها سرتني، وإذا أمرتُها أطاعتني، وإذا غِبْت عنها حفظت غيبتي في نفسها ومالي. والألمُ، والحزنُ، والهمُّ، والغمُّ ينشأُ من عدم العلم بالمحبوب النَّافع، أو من عدم إرادته وإيثاره مع العلم به، أو من عدم إدراكه والظَّفر به مع محبته، وإرادته، وهذا من أعظم الألم. ولهذا يكون ألمُ الإنسان في البرزخ وفي دار الحيوان بفوات محبوبه أعظم من ألمه بفواته في الدُّنيا من ثلاثة أوجه: أحدُها: معرفتُه هناك بكمال ما فاته، ومقداره. الثاني: شدَّةُ حاجته إليه، وشوقُ نفسه إليه، مع أنَّه قد حيل بينه وبينه، كما قال الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ/ 54]. _________ (1) أخرجه أحمد (5/ 285)، والترمذي (1856)، وابن ماجه (3094) من حديث ثوبان. وقال الترمذي: حديث حسن. (2) أخرجه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 99)، وأبو الشيخ في «العظمة» (رقم 576).
(الكتاب/238)
الثالث: حصولُ ضدِّه المؤلم له. فليتأمل العاقلُ هذا الموضع، وليُنْزِل نفسه منزلة من قد فاته أعظمُ محبوب، وأنفعُه، وهو أفقرُ شيءٍ، وأحوجُهُ إليه فواتًا لا يُرْجى تدارُكُه. وحصل على ضِدِّه، فيا لها من مصيبةٍ ما أوجعَها! وحالةٍ ما أفْظعها! فأين هذه الحال من حالة من يلتذُّ في الدُّنيا بكل ما يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى من الأكل، والشُّرب، واللِّباس، [60 ب] والنكاح، وشفاء الغيظ بقهر العدو، وجهادٍ في سبيله؟! فضلًا عمَّا يلتذُّ به من معرفة ربه، وحبِّه له، وتوحيده، والإنابة إليه، والتوكُّل عليه، والإقبال عليه، وإخلاص العمل له، والرِّضا به، وعنه، والتفويض إليه، وفرح القلب وسروره بقربه، والأنس به، والشوق إلى لقائه، كما في الحديث الذي صحَّحه ابن حِبَّان، والحاكم: «وأسألُك لذَّة النَّظرِ إلى وجْهِكَ، والشوق إلى لِقَائِكَ» (1). وهذه اللذَّةُ لا تزال في الدُّنيا في زيادةٍ مع تنغيصها بالعدوِّ الباطن من الشيطان، والهوى، والنَّفس، والدُّنيا، والعدوِّ الظاهر، فكيف إذا تجرَّدت الروح، وفارقت دار الأحزان والآفات، واتَّصلت بالرفيق الأعلى {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء/ 69 ــ 70]. _________ (1) سبق تخريجه من حديث عمار. وهو في «صحيح ابن حبان» (1971)، و «المستدرك» (1/ 524).
(الكتاب/239)
فإذا أفضى إلى دار النَّعيم؛ فهناك من أنواع اللَّذة، والبهجة، والسُّرور ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فبؤْسًا، وتعسًا للنفوس الوضيعة الدنيئة؛ التي لا يَهُزُّها الشوقُ إلى ذلك طربًا، ولا تَتَّقِدُ نارُ إرادتها لذلك رغبًا، ولا تبعد عمَّا يَصُدُّ عن ذلك رهبًا، فبصائرُها كما قيل (1): خفافيشُ أعشاها النَّهارُ بضوئه ... ولاءَمَها قِطْعٌ من اللَّيل مظلمُ تجول حول الحُشِّ؛ إذا جالت النفوس العلويَّةُ حول العرش، وتندسُّ في الأحجار؛ إذا طارت النُّفوس الزكيَّة إلى أعلى الأوكار. فلم تَرَ أمثال الرِّجالِ تَفاوَتُوا ... إلى الفَضْلِ حتَّى عُدَّ أَلفٌ بواحدِ (2) فصل وكلُّ لذَّةٍ أعقبت ألمًا، أو منعت لذَّةً أكمل منها؛ فليست بلذَّةٍ في الحقيقة، وإن غالطت النفس في الالتذاذ بها، فأيُّ لذَّة لآكل طعامٍ شهيٍّ مسمومٍ يُقَطِّع أمعاءَه عن قريب؟ وهذه هي لذَّات الكُفَّار والفُسَّاق بعلوِّهم في الأرض، وفسادهم، _________ (1) البيت لابن الرومي في «ديوانه» (ص 92)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص 374) وقافيته «غَيْهبُ». (2) البيت للبحتري في «ديوانه» (1/ 625)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص 435)، و «زهر الآداب» (1/ 275). وفي النسختين: «ألف ألف بواحد».
(الكتاب/240)
وفرحهم فيها بغير الحق، ومرحهم، وذلك مثل لذَّة الذين اتَّخذوا من دون [61 أ] الله أولياء يُحِبُّونهم كحبِّ الله، فنالوا بهم مودّةَ بَيْنِهمْ في الحياة الدُّنيا، ثم استحالت تلك اللذَّة أعظمَ ألمٍ وأمرَّه. ومن ذلك لذَّةُ العقائد الفاسدة، والفرحُ بها، ولذَّةُ غلبة أهل الجور، والظلم، والعدوان، والزِّنى، والسرقة، وشرب المسكرات؛ وقد أخبر الله ــ سبحانه وتعالى ــ: أنَّه لم يُمكِّنهم من ذلك لخيرٍ يريده بهم، إنَّما هو استدراج منه ليُنِيلَهم به أعظم الألم، قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون/ 55 ــ 56] وقال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة/ 55]. فصل وأمَّا اللذَّة التي لا تُعقب ألمًا في دار القرار، ولا تُوصل إلى لذَّةٍ هناك؛ فهي لذَّةٌ باطلةٌ؛ إذ لا منفعة فيها ولا مضرَّة، وزمنُها يسيرٌ، ليس لتمتُّع النفس بها قدر، وهي لابد أن تشغل عما هو خيرٌ وأنفعُ منها في العاجلة والآجلة؛ وإن لم تشغل عن أصل اللذَّة في الآخرة، وهذا القسم هو الذي عناه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «كلُّ لهْوٍ يِلْهُو به الرَّجُل فهو باطِلٌ إلا رَمْيَهُ بقوسهِ، وتَأْدِيبَهُ فرَسَهُ، ومُلاعبَتَهُ أهْلَهُ؛ فإنَّهُنَّ من الحَقِّ» رواه مسلم (1). _________ (1) الذي أخرجه مسلم (1918) من حديث عقبة بن عامر بلفظ: «ستفتح عليكم أرضون، ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه». والحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه أحمد (4/ 144)، وأبو داود (2513)، والترمذي (1637)، والنسائي (6/ 28، 222 - 223)، وابن ماجه (2811) من حديث عقبة بن عامر، وهو حديث صحيح.
(الكتاب/241)
ولهذا كانت لذَّة اللَّعب بالدفِّ في العُرس جائزةً؛ فإنها تُعين على النكاح، كما تُعين لذّةُ الرمي بالقوس وتأْديبِ الفرس على الجهاد، وكلاهما محبوبٌ لله. فما أعانَ على حصول محبوبه؛ فهو من الحقِّ، ولهذا عدّ ملاعبة الرجل امرأته من الحقِّ؛ لإعانتها على مقاصد النكاح الذي يُحبُّه الله سبحانه وتعالى، وما لم يُعِنْ على محبوب الربِّ تعالى؛ فهو باطلٌ، لا فائدة فيه، ولكن إذا لم تكن فيه مضرَّةٌ راجحةٌ؛ لم يَحْرُم، ولم يُنْه عنه، ولكن إذا صدَّ عن ذكر الله، وعن الصَّلاة؛ صارَ مكروهًا بغيضًا للربِّ عزَّ وجلَّ مَقِيتًا عنده، إمَّا بأصله، [61 ب] وإما بالتَّجاوُز فيه. وكلُّ ما صدَّ عن اللذَّة المطلوبة؛ فهو وبالٌ على صاحبه، فإنَّه لو اشتغل حين مباشرته له بما ينفعه، ويَجْلِبُ له اللذَّةَ المطلوبة الباقية؛ لكان خيرًا له، وأنفع. ولمَّا كانت النفوس الضَّعيفةُ كنفوس النساء والصِّبيان، لا تنقاد إلى أسباب اللذَّة العظمى إلاَّ بإعطائها شيئًا من لذة اللهو واللَّعب، بحيث لو فطمتْ عنه كل الفطام طلبت ما هو شرٌّ لها منه، رخِّص لها من ذلك ما لم يُرخَّصْ فيه لغيرها، وهذا كما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(الكتاب/242)
على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده جَوارٍ يَضربْنَ بالدُّفِّ، فأسكتهنَّ لدخوله، وقال: «هذا رجُلٌ لا يُحِبُّ الْباطِل» (1) فأخبر: أنَّ ذلك باطل، ولم يمنعهنَّ منه؛ لما يترتب لهن عليه من المصلحة الراجحة، ويترُكنَ به مفسدةً أرجح من مفسدته، وأيضًا: فيحصلُ لهم من التَّأَلُّمِ بتركه مفسدةٌ هي أعظم من مفسدته، فتمكينُهم من ذلك من باب الرَّحمة، والشَّفقة، والإحسان، كما مكَّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا عُمَيرٍ من اللعب بالعصفور بحضرته (2)، ومكَّنَ الجاريتين من الغناء بحضرته (3)، ومكَّن عائشة رضي الله عنها من النظر إلى الحَبَشة وهم يلعبون في المسجد (4)، ومكَّن تلك المرأة أن تضربَ على رأْسه بالدُّف (5)، ونظائر ذلك. فأين هذا من اتِّخاذ الشيوخ المشار إليهم المُقْتَدى بهم ذلك دينًا، _________ (1) أخرجه أحمد (3/ 435) من حديث الأسود بن سريع، وليس فيه قصة ضرب الجواري بالدف. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. ولكن أصل الحديث صحيح كما سيأتي. (2) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (6129، 6203)، ومسلم (2150) عن أنس. (3) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (949)، ومسلم (892) عن عائشة. (4) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (454)، ومسلم (892) عن عائشة. (5) أخرجه أبو داود (3312)، والبيهقي (10/ 77) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وله شاهد من حديث بريدة، أخرجه أحمد (5/ 353، 356)، والترمذي (3691)، والبيهقي (10/ 77).
(الكتاب/243)
وطريقًا مع التوسُّع فيه غاية التوسُّع بما لا ريبَ في تحريمه؟ ونظيرُ هذا إعطاء النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المؤلفة قلوبهم من الزكاة والغنيمة؛ لضعف قلوبهم عن قلوب الرَّاسخين في الإيمان من أصحابه، ولهذا أعطى هؤلاء، ومنع هؤلاء، وقال: أكِلُهُم إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغَنَاءِ والخير. ونظير هذا: مزاحُه - صلى الله عليه وسلم - مع من كان يمزح معه من الأعراب، والصبيان، والنساء؛ تطييبًا لقلوبهم، واستجلابًا لإيمانهم، وتفريحًا لهم. وفي مراسيل الشَّعبيِّ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على أصحاب الدِّرَكْلَة فقال: «خذوا يا بني أرفدة حتَّى تعلمَ الْيَهُودُ والنَّصَارى [62 أ] أنَّ في دِيننا فُسْحةً». ذكره أبو عُبيد (1)، وقال: الدِّركلة: لعبة العجم. فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يبذُل للنفوس من الأموال والمنافع ما يتألَّفُها به على الحقِّ المأْمور به، ويكون المبذول ممَّا يلتذُّ به الآخذ، ويحبُّه، لأنَّ ذلك وسيلةٌ إلى غيره، ولا يفعل ذلك مع من لا يحتاج إليه، كالمهاجرين، والأنصار، بل يبذلُ لهم أنواعًا أُخر من الإحسان إليهم، والمنافع في دينهم ودنياهم. ولمَّا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ممَّن لا يحبُّ هذا الباطل ولا سماعه، ولا يحتاج أن يُتَأَلَّف بما يُتألف به غيرُه، وليس مأْمورًا بما _________ (1) في «غريب الحديث» (1/ 327). وأخرجه أحمد (6/ 116، 233) من حديث عائشة، والفقرة الأولى منه عند البخاري (950)، ومسلم (892) من حديث عائشة.
(الكتاب/244)
أُمر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من التأليف على الإيمان به، وطاعته بكل طريقٍ؛ كان إعراضُه عنه كمالًا بالنسبة إليه، وحالُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أكملُ. فصل إذا عُرف هذا، فأقسامُ اللذّات ثلاثةٌ: لذَّةٌ جُثمانية، ولذة خيالية وَهْمِية، ولذَّةٌ عقليةٌ رُوحانية. فاللذَّة الجثمانيةُ: لذَّةُ الأكل، والشُّرب، والجماع، وهذه اللذَّة يشتركُ فيها مع الإنسان الحيوانُ البهيمُ، فليس كمالُ الإنسان بهذه اللذَّة؛ لمشاركة أنقص الحيوانات له فيها، ولأنَّها لو كانت كمالًا لكان أفضلُ الإنسان، وأشرفُهم، وأكملُهم أكثرَهم أكلًا، وشربًا، وجماعًا، وأيضًا: لو كانت كمالًا؛ لكان نصيبُ رُسُل الله وأنبيائه وأوليائه منها في هذه الدار أكملَ من نصيب أعدائه. فلمَّا كان الأمرُ بالضدّ؛ تبيَّن أنَّها ليست في نفسها كمالًا، وإنَّما تكون كمالًا إذا تضمَّنت إعانةً على اللذَّة الدائمة العظمى، كما تقدَّم. فصل وأمَّا اللذَّة الوهميَّةُ الخيالية: فلذَّةُ الرِّئاسة، والتعاظُم على الخلق، والفخر، والاستطالة عليهم. وهذه اللذَّة وإن كان طُلّابُها أشرف نفوسًا من طلَّاب اللذَّة الأولى؛ فإن آلامَها وما تُوجبه من المفاسد والمضار أعظمُ من التذاذ النَّفس بها،
(الكتاب/245)
فإنَّ صاحبَها منتصبٌ لمعاداة كلِّ منْ تعاظم وترأَس عليه. ولها شروطٌ وحقوقٌ [62 ب] تُفوِّت على صاحبها كثيرًا من لذاته الحسِّيَّة، ولا يتمُّ إلا بتحمُّل مشاقّ وآلام أعظمَ منها. فليست هذه في الحقيقة بلذَّةٍ؛ وإن فرحت بها النفسُ، وسُرَّت بحصولها. وقد قيل: إنَّه لا حقيقة للذَّة في الدُّنيا، وإنَّما غايتُها دفعُ آلامٍ، كما يُدفع ألمُ الجوع، والعطش، وألمُ الشهوة، بالأكل، والشرب، والجماع، وكذلك يُدفع ألمُ الخمول وسقوطِ القَدْرِ عند الناس بالرِّئاسة والجاه. والتحقيقُ: أنَّ اللذَّة أمرٌ وجوديٌّ يستلزم دفع الألم بما بينهما من التضادِّ. فصل وأمَّا اللذَّة العقليةُ الرُّوحانية: فهي كلذَّةِ المعرفة، والعلم، والاتصاف بصفات الكمال: من الكرم، والجود، والعفَّة، والشَّجاعة، والصبر، والحِلْمِ، والمروءة وغيرها، فإن الالتذاذ بذلك من أعظم اللذَّات، وهو لذَّةُ النَّفس الفاضلة العُلوية الشريفة، فإذا انضمَّت اللذَّة بذلك إلى لذَّة معرفة الله تعالى، ومحبَّته، وعبادته وحده لا شريك له، والرِّضا به؛ عوضًا من كلِّ شيءٍ ــ ولا يُتعوَّض بغيره عنه ــ فصاحبُ هذه اللذَّة في جنَّةٍ عاجلةٍ نِسْبتُها إلى لذَّاتِ الدنيا، كنسبة لذَّة الجنَّة إلى لذَّة الدنيا، فإنه ليس للقلب والرُّوح ألذُّ، ولا أطيبُ، ولا أحلى، ولا أنعمُ من محبَّةِ الله، والإقبالِ عليه، وعبادته وحده، وقرة العين به، والأنس بقربه،
(الكتاب/246)
والشوق إلى لقائه ورؤيته، وإن مثقال ذرَّةٍ من هذه اللَّذة لا يُعدل بأمثال الجبال من لذات الدنيا؛ وكذلك كان أدنى مثقال ذرَّةٍ من إيمانٍ بالله ورسوله يُخَلِّص من الخلود في دار الآلام، فكيف بالإيمان الذي يمنعُ دخولها؟ قال بعض العارفين: من قرَّت عينهُ بالله؛ قرَّت به كلُّ عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله؛ تقطَّعت نفسه حسرات على الدنيا، ويكفي في فضل هذه اللذَّة وشرفها: أنَّها تُخرج من القلب ألمَ الحسرة على ما يفوت من هذه الدنيا، حتى إنَّه ليتألَّم بأعظم ما يلتذُّ به أهلُها، ويفِرُّ منه فرارهم من المؤلم. وهذا موضعٌ الحاكمُ فيه الذوقُ، لا مجرَّدُ لسان العلم. وكان بعضُ العارفين يقول: مساكين أهل الدُّنيا، [63 أ] خرجوا من الدنيا، ولم يذوقوا أطيبَ نعيمها، فيقال له: وما هو؟ فيقول: محبَّةُ الله، والأنسُ به، والشَّوقُ إلى لقائه، ومعرفة أسمائه وصفاته. وقال آخر: أطيبُ ما في الدُّنيا: معرفتُه، ومحبَّتُه، وألذُّ ما في الآخرة: رؤيتُه، وسماعُ كلامه بلا واسطة. وقال آخر: والله إنَّه ليَمُرُّ بالقلب أوقاتٌ أقول فيها: إن كان أهل الجنَّة في مثل هذه الحال إنَّهم لفي عيش طيِّب. وأنت ترى محبَّة من في محبَّتِه عذاب القلب والرُّوح؛ كيف تُوجب لصاحبها لذَّةً يتمنَّى: أنَّه لا يُفارقه حبُّه؟
(الكتاب/247)
كما قال شاعرُ الحماسة (1): تشكَّى المحبُّون الصَّبابَةَ ليتني ... تحمَّلْتُ ما يَلْقَوْنَ منْ بينهم وَحدِي فكانتْ لقلبي لذَّةُ الحبِّ كلُّها ... فلم يَلْقَها قبلي مُحِبٌّ ولا بَعدِي قالت رابعة (2): شَغلُوا قلوبهم بحبِّ الدُّنيا عن الله، ولو تركوها؛ لجالت في الملكوت، ثمَّ رجعت إليهم بطرائف الفوائد. وقال سَلْم الخوّاص (3): تركتموه، وأقبل بعضُكم على بعض، ولو أقبلتم عليه؛ لرأيتُم العجائب. وقالت امرأةٌ من العابدات (4): لو طالعتْ قلوب المؤمنين بفكرها ما ذُخر لها من حُجُب الغيوب من خير الآخرة؛ لم يصف لها في الدُّنيا عيش، ولم تقرَّ لها عين في الدنيا. وقال بعضُ المحبِّين (5): إنَّ حُبَّه عزَّ وجلَّ شغل قلوب مُحبِّيه عن التلذُّذِ بمحبَّة غيره، فليس لهم في الدُّنيا مع حُبِّه عزَّ وجلَّ لذَّةٌ تُداني محبَّتَه، ولا يؤمِّلون في الآخرة من كرامة الثواب أكبرَ عندهم من النَّظر إلى وَجه محبوبهم. _________ (1) تقدم البيت الأول في (ص 40)، وانظر التخريج هناك. (2) أخرج عنها الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 49)، وابن الجوزي (ص 65). (3) أخرج عنه الخرائطي (ص 49)، وابن الجوزي (ص 78). (4) أخرج عنها الخرائطي (ص 50)، وابن الجوزي (ص 66). (5) هو ضيغم، كما أخرج عنه الخرائطي (ص 51)، وابن الجوزي (ص 78).
(الكتاب/248)
وقال بعض السَّلف (1): ما مِنْ عبدٍ إلا وله عينان في وجهه يُبصر بهما أمرَ الدُّنيا، وعينان في قلبه يُبصر بهما أمرَ الآخرة، فإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا؛ فتح عينيه اللَّتينِ في قلبه، فأبصرَ بهما من اللذَّةِ والنعيم ما لا خطر له، مِمَّا وعَدَ به من لا أصدق منه حديثًا، وإذا أراد به غير ذلك؛ تركه على ما هو عليه، ثمَّ قرأ: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد/ 24] ولو لم يكن للقلب [63 ب] المشتغل بمحبَّة غير الله، المعرِضِ عن ذكره من العقوبة؛ إلا صدؤهُ، وقسوته، وتعطُّله عمَّا خُلِق له؛ لكفى بذلك عقوبة. وقد روى عبد العزيز بن أبي رَوَّاد عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ هذه القُلُوب تصْدَأُ كما يصدَأُ الحديد» قيل: يا رسُول الله! فما جلاؤُها؟ قال: «تِلاوَةُ القُرْآنِ» (2). وقال بعضُ العارفين (3): إنَّ الحديد إذا لم يُستعمل غَشِيَه الصدَأُ حتى يفسده، كذلك القلب إذا عُطِّل من حبِّ الله، والشوق إليه، وذكره؛ _________ (1) هو خالد بن معدان، أخرج عنه الخرائطي (ص 52 - 53)، وابن الجوزي (ص 75 - 76). (2) أخرجه الخرائطي (ص 55)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 197)، والقضاعي في «مسند الشهاب (2/ 199)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/ 85)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 68) من طريق عبد الرحيم بن هارون عن عبد العزيز به. وعبدالرحيم ضعيف، كذّبه الدارقطني. (3) عند الخرائطي (ص 55): قال بعض الحكماء.
(الكتاب/249)
غلبه الجهلُ حتى يميتَه، ويُهْلِكَه. وقال رجلٌ للحسن (1): يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي! قال: أذِبْه بالذِّكر. وأبعدُ القلوب من الله القلبُ القاسي، ولا يُذهبُ قساوته إلا حبٌّ مقلقٌ، أو خوفٌ مزعج. فإن قيل: ما السبب الذي لأجله يلتذُّ المحبُّ بحبّه، وإنْ لم يظفر بحبه؟ قيل: الحبُّ يُوجب حركة النفس، وشدَّة طلبها، والنفسُ خُلقت متحركة بالطَّبع، كحركة النار، فالحبُّ حركتُها الطبيعيةُ، فكلُّ من أحبَّ شيئًا من الأشياء؛ وجد في حبه لذَّة وروحًا، فإذا خلا عن الحُبِّ مطلقًا تعطَّلت النفسُ عن حركتها، وثَقُلت، وكسِلتْ، وفارقها خفةُ النشاط. ولهذا تجد الكُسالى أكثر الناس همًّا، وغمًّا، وحزنًا، ليس لهم فرحٌ، ولا سرورٌ، بخلاف أرباب النَّشاط، والجدِّ في العمل أيِّ عمل كان، فإن كان النشاطُ في عملٍ هم عالمون بحسن عواقبه، وحلاوة غايته؛ كان التذاذُهم بحبِّه، ونشاطُهم فيه أقوى. وبالله التوفيق. _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 55)، وابن الجوزي (ص 69).
(الكتاب/250)
الباب الرابع عشر فيمنْ مدح العِشْقَ وتمنَّاه، وَغَبَطَ صاحبَه على ما أُوتِيَهُ مِنْ مُناه
هذا موضعٌ انقسم الناس فيه قسمين، وربما كان للشخص الواحد فيه مجموع الحالتين. فقسمٌ مدحوا العشق، وتمنَّوْه، ورغبوا فيه، وزعموا أن من لم يذُق طعمه؛ لم يذقْ طعم العيش. قالوا: وقد تبيَّن أنَّ كمالَ اللذَّة تابعٌ لكمال الحبِّ، فأعظمُ الناس لذَّةً بالشيء أكثرُهم محبةً له، وقد تقدم تقريرُه. [64 أ] قالوا: وقد حبَّبَ الله سبحانه وتعالى إلى رُسُله وأنبيائه نساءهم وسراريهم، فكان آدم أبو البشر شديد المحبة لحواء، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى: أنه خلق زوجته منه؛ ليسكن إليها. قالوا: وحبُّه لها هو الذي حمله على موافقتها في الأكل من الشجرة. قالوا: وأوَّلُ حبٍّ كان في هذا العالم حبُّ آدم لحوَّاء، وصار ذلك سنةً في ولده في المحبَّة بين الزَّوجين. قالوا: وهذا داود من محبَّته للنساء جمع بين مئة امرأةٍ، وكذلك ابنُه سليمان. قالوا: وقد عاب اليهودُ ـ عليهم لعائن الله ـ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحبه النساء وكثرة تزوُّجه، فأنزل الله سبحانه وتعالى ذبًّا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإخبارًا بأن ذلك من فضله، ونعمه عليه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا
(الكتاب/251)
آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء/ 54]. قالوا: وقد كان عند إبراهيم خليل الرحمن أجمل النساء سارة، ثم تسرَّى بهاجر، وكان شديد المحبة لها. قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان إبراهيم الخليل يحبُّ سُرِّيَّته هاجر محبَّةً شديدةً، وكان يزورها في كل يومٍ على البُراق من الشام من شغفه بها. قال الخرائطيُّ (1): حدثنا نصرُ بن داود، حدَّثنا الواقديُّ عن محمد بن صالح، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه، فذكره. وقد ثبت في الصحيح (2) من حديث الشعبيِّ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جيش وفيهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، فلما رجعت قلت: يا رسول الله! من أحبُّ الناس إليك؟ قال: «وما تُريد؟» قلت: أُحبُّ أن أعلم. قال: «عائشة» قلت: إنما أعني من الرجال، قال: «أبوها». وذكر مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن عمته، عن عائشة: أن فاطمة ذكرتها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: «يا بُنيَّة إنها حبيبة أبيك» (3). _________ (1) في «اعتلال القلوب» (ص 311)، وأول السند فيه: «حدثنا الصاغاني قال حدثنا الواقدي». (2) البخاري (3662)، ومسلم (2384). وتقدم. (3) أخرجه الخرائطي (ص 44)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 45) بهذا الطريق.
(الكتاب/252)
وأصلُ الحديث في الصحيح (1)، من حديث الليث، عن ابن شهاب، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، فدخلت [64 ب] وهو مضطجعٌ معي في مِرْطي، فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قُحافة، وأنا ساكتة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألست تُحِبِّين ما أُحِبُّ؟» قالت: بلى! قال: «فأحِبِّي هذه». وثبت في الصحيح (2) من حديث حمَّاد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسِمُ بين نسائه، فيعدلُ، ويقول: «اللهمَّ هذا فعلي فيما أملك، فلا تَلُمْني فيما تملك، ولا أملك» يُريد - صلى الله عليه وسلم -: أنه يُطيق العدل بينهنَّ في النفقة عليهنَّ، والقسم بينهنَّ، وأمَّا التسوية بينهنَّ في المحبَّة؛ فليست إليه، ولا يملكها. وقال ابن سيرين (3): سألت عبيدة عن قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء/ 129] فقال: يعني: الحب، والجماع. _________ (1) البخاري (2581) ومسلم (2442). (2) لم يروه البخاري ولا مسلم، بل أخرجه أحمد (6/ 144)، وأبو داود (2134)، والترمذي (1140)، والنسائي (7/ 64)، وابن ماجه (1971) بهذا الإسناد. (3) أخرجه الخرائطي (ص 43)، والطبري في «تفسيره» (5/ 313).
(الكتاب/253)
وقال ابن عباس (1): لا تستطيع أن تعدل بينهنَّ في الشَّهوة، ولو حرصتَ. وقال أبو قيس مولى عمرو بن العاص (2): بعثني عمروٌ إلى أمّ سلمة، فقال: سلها أكانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ أهله وهو صائم؟ فإن قالت: لا؛ فقل لها: إن عائشة رضي الله عنها حدَّثتنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبِّلها وهو صائم. فسألها، فقالت: لا، فأخبرَها بما قال عمرو، فقالت أُمّ سلمة رضي الله عنها: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى عائشة لم يتمالك عنها، أمَّا أنا فلا. وقال بيان عن الشَّعبيِّ (3): أتاني رجلٌ، فقال: كُلّ أُمَّهات المؤمنين أُحِبّ إلا عائشة. فقلت: أمَّا أنت فقد خالفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت عائشة رضي الله عنها أحبَّهنَّ إلى قلبه. وقال مُصْعَبُ بن سعد (4): فرض عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لأُمهات المؤمنين رضي الله عنهن عشرة آلاف، عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين وقال: إنَّها حبيبةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 43)، والطبري (5/ 314). (2) أخرجه الخرائطي (ص 43 - 44)، وأحمد (6/ 317) عنه. (3) أخرجه الخرائطي (ص 44). (4) أخرجه الخرائطي (ص 45)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 350).
(الكتاب/254)
وكان مسروق (1) إذا حدَّث عن عائشة رضي الله عنها يقول: حدَّثتني الصَّدِّيقَةُ بنت الصِّدِّيق، حبيبةُ رسول ربّ العالمين، المبرَّأةُ من فوق سبع سموات. قال أبو محمد بن حزم (2): وقد أحبَّ من [65 أ] الخلفاء الراشدين والأئمة المهْدِيِّين كثيرٌ. قال الخرائطي (3): واشترى عبد الله بن عمرَ جاريةً روميَّةً، فكان يُحِبُّها حبًّا شديدًا، فوقعت ذات يوم عن بغلةٍ له، فجعل يمسحُ التراب عن وجهها، ويُفدِّيها، وكانت تقول له: أنت قالون، تعني: جيد، ثم إنها هربت منه، فوجدَ عليها وجدًا شديدًا، وقال: قد كنتُ أحسِبُني قالونَ فانصرفتْ ... فاليومَ أحسب أنِّي غيرُ قالون وقصة مُغيث وعشقِهِ بَرِيرة، حتى إنه كان يطوف وراءَها، ودموعُه تسيلُ على خدّيه في الصَّحيح (4). وكان عُرْوة (5) بن أُذيْنَة شيخُ مالكٍ من العلماء الثِّقات، الصُّلَحاء، _________ (1) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 44). (2) «طوق الحمامة» (ص 35). (3) لم أجد النص في «اعتلال القلوب». وانظر «تاريخ دمشق»، و «لسان العرب» (قلن). ومصدر المؤلف: «الواضح المبين» (ص 29). (4) تقدم تخريجها. (5) في النسختين: «عمرو».
(الكتاب/255)
وقفت عليه امرأةٌ فقالت: أنت الذي يقال له: الرجلُ الصَّالح، وأنت تقول (1): إذا وجَدْتُ لهيبَ الحبِّ في كَبِدي ... عَمَدْتُ نحو سِقاءِ القوم أبْتَرِدُ هَبْني بَرَدْتُ ببَرْدِ الماء ظاهرَه ... فمنْ لنارٍ على الأحْشَاء تتَّقِدُ؟ وكان محمد بن سيرين ينشد (2): إذا خَدِرَتْ رِجْلي تذكّرتُ منْ لها ... فناديتُ لُبْنى باسمِها ودعَوْتُ دعوتُ التي لو أنَّ نفسي تُطيعُني ... لألقيتُ نفسي نحوَها وقضَيْتُ وقال صالح عن ابن شهاب: حدّثني عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَةَ: أنَّ ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قريبٍ من ثمانين رجلًا، ليس فيهم إلا قرشيٌّ، والله ما رأيتُ صفحة وجوهٍ قطُّ أحسن من وجوههم يومئذٍ، قال: فذكروا النساء، فتحدَّثوا فيهنَّ، وتحدَّثت معهم، حتى أحببتُ أن نسكتَ. قالوا: ولولا لطافةُ الحبِّ ولذَّتُه لما تمنَّاه المُتَمنُّون. قال شاعر _________ (1) سبق تخريج البيتين. والخبر والشعر في «العقد الفريد» (6/ 16)، و «الأغاني» (18/ 329)، و «أمالي المرتضى» (1/ 413)، و «مصارع العشاق» (2/ 130)، و «التذكرة الحمدونية» (6/ 189)، و «الشعر والشعراء» (2/ 580)، و «المعارف» (ص 493). (2) البيتان لقيس بن ذريح في «ديوانه» (ص 69)، و «الأغاني» (9/ 193)، و «تزيين الأسواق» (1/ 134).
(الكتاب/256)
الحماسة (1): تَشَكَّى المحبُّون الصَّبابةَ ليتني ... تحمَّلتُ ما يَلْقَوْن مِنْ بينهم وَحدي فكانتْ لقلبي لذَّةُ الحبِّ كلُّها ... فلم يَلْقَها قبلي مُحِبٌّ ولا بَعدي قالوا: والعشقُ المباحُ مما يُؤجر عليه العُشّاقُ، كما قال شريك بن عبد الله (2) ـ وقد سُئل عن العُشّاق ـ فقال: أشدُّهم حُبًّا أعظمُهم أجرًا. وصدق والله إذا كان المعشوق ممَّنْ يُحِبُّ الله للعاشق قربَه ووصلَه، وقالت امرأة (3): لن يقبل اللهُ من معشوقةٍ عملًا ... يومًا وعاشقُها لَهْفَانُ مَهْجُورُ ليستْ بمأْجورةٍ في قتلِ عاشقِها ... لكنَّ عاشِقَها في ذاك مأْجورُ ونحن نقول: متى باتت مهاجرةً لفراش عاشقها الذي هو بعلُها؛ لعنتها الملائكة حتى تُصْبِحَ. قالوا (4): والعشقُ يُصفِّي الهمَّ، ويهذّب العقل، ويبعثُ على حسن _________ (1) البيتان لمجنون ليلى في «ديوانه» (ص 116). وبلا نسبة في «الحماسة» (2/ 30)، و «شرح المضنون به على غير أهله» (ص 241). (2) كما في «الواضح المبين» (ص 22) نقلًا عن الجاحظ. (3) البيتان في «الموشى» (ص 162)، و «مصارع العشاق» (2/ 177، 217)، و «الواضح المبين» (ص 22). ويأتي ذكرهما مع خبر عند المؤلف فيما بعد. (4) من هنا إلى (ص 265) مختصر من «الواضح المبين» (ص 60 - 65).
(الكتاب/257)
اللباس، وطيب المطعم، ومكارم الأخلاق، ويُعلي الهمَّة، ويحملُ على طيب الرائحة، وكرم العشرة، وحفظ الأدب والمُروءة، وهو بلاءُ الصَّالحين، ومحنة العابدين، وهو ميزان العقول، وجلاء الأذهان، وهو خُلُق الكرام، كما قيل (1): وما أحببتُها فُحْشًا ولكن ... رأيتُ الحُبَّ أخلاقَ الكِرام قالوا: وأرواحُ العُشَّاقِ عَطِرَةٌ لطيفة، وأبدانهم رقيقةٌ ضعيفة، وأرواحُهم بطيئةُ الانقياد لمن قادَها، حاشا سكنَها الذي سكنت إليه، وعقدت حبَّها عليه، وكلامُهم، ومنادمتهم تزيد في العقول، وتُحرِّكُ النفوسَ، وتُطيّب الأرواح، وتلهو بأخبارهم أُولو الألباب. فأحاديثُ العُشّاقِ زينة مجالسهم، ورُوح محادثتهم، ويكفي أن يكون الأعرابي الذي لا يُذْكر مع الملوك ولا مع الشجعان الأبطال يعشقُ، ويشتهر بالعِشْق، فيُذْكَر في مجالس الملوك والخلفاء ومَنْ دونَهم، وتدوَّن أخبارُه، وتُرْوى أشعارُه، ويُبقي له العشقُ ذكرًا مخلَّدًا، ولولا العشقُ لم يُذكر له اسمٌ، ولم يَرْفَعْ به رأسا. وقال بعض العقلاء: العشقُ للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان، إن تركتَه ضرّك، وإن أكثرتَ منه قتلك. _________ (1) بلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 61). ولأبي إسحاق الشيرازي في «الروض المعطار» (ص 444).
(الكتاب/258)
وقال [66 أ] ابنُ عبد البَرّ في كتابه «بهجة المجالس» (1): وُجد في صحيفةٍ لبعض أهل الهند: العشقُ ارتياحٌ جُعِل في الرُّوح، وهو معنًى تُنْتِجُه النجومُ في مطارح شُعاعِها، ويتولَّد في الطِّباع بوصلة أشكالها، وتَقْبَلُه الرُّوح بلطيف جوهرها، وهو بَعْدُ جلاءُ القلوب، وصيقلُ الأذهان ما لم يُفْرِط، فإذا أفرط صارَ شقاء قاتلًا، ومرضًا مُنْهِكًا، لا تنفُذُ فيه الآراء، ولا تَنْجَعُ فيه الْحِيل، والعلاجُ منه زيادةٌ فيه. وقال أعرابيٌّ: هو أنس النفس، ومحادث العقل، تُجِنُّه الضَّمائر، وتخدمُه الجوارح. وقال عبد الله بن طاهر أميرُ خُراسان لولده: اعشَقُوا تَظْرُفُوا، وعفُّوا تشرفوا. وقال قُدامة: وصفه بعضُ البلغاء فقال: يشجِّع الجبان، ويسخِّي البخيل، ويُصَفِّي ذهن البليد، ويُفْصِح لسان العييّ، ويبعثُ حَزْم العاجز، ويذِلُّ له عزُّ الملوك، ويصرع له صَوْلَةُ الشجاع، وهو داعيةُ الأدب، وأوّلُ بابٍ تُفْتَق به الأذهانُ والفِطَن، وتستخرجُ به دقائق المكايد والحِيَل، وإليه تستروحُ الهمم، وتسكنُ نوافرُ الأخلاق والشِّيَم، يُمْتعُ جليسَه، ويؤنس أليفه، وله سرورٌ يجول في النفوس، وفرحٌ يسكُن في القلوب. وقيل لبعض الرؤساء: إن ابنَك قد عشقَ، فقال: الحمد لله! الآن _________ (1) (1/ 817).
(الكتاب/259)
رقَّت حواشيه، ولَطُفَتْ معانيه، ومَلُحتْ إشاراته، وظَرُفت حركاته، وحسُنت عباراته، وجادت رسائله، وحلتْ شمائله، فواظبَ على المليح، واجتنب القبيح. وقيل لآخر ذلك فقال: إذا عشق لَطُف، وظرُف، ودقَّ، ورَقَّ. وقيل لبعضهم (1): متى يكون الفتى بليغًا؟ قال: إذا صنَّف كتابًا، أو وصف هوًى، أو حبيبًا. وقيل لسعيد بن سلم: إنَّ ابنك شرع في الرَّقيق من الشِّعر، فقال: دعوه يظرُف وينظف ويلْطُف. وقال العباس بن الأحنف (2): وما الناسُ إلا العاشقونَ ذوو الهوى ... ولا خيرَ فِيْمن لا يُحِبُّ ويعْشَقُ وقال الحسين بن مُطير (3) [66 ب]: إنَّ الغواني جَنَّةٌ رَيْحانُها ... نضر الحياة فأينَ عنها تَعزِفُ لولا ملاحتهنَّ ما كانتْ لنا ... دنيا نَلَذُّ بها ولا نتصرَّفُ _________ (1) في «الواضح المبين» (ص 63): قال أنوشروان لبزرجمهر. (2) «ديوانه» (ص 197)، و «منازل الأحباب» (ص 50)، و «الواضح المبين» (ص 63)، و «تزيين الأسواق» (1/ 43). (3) البيتان له في «اعتلال القلوب» (ص 332)، و «الواضح المبين» (ص 63 - 64). وأخلَّ بهما الديوان المجموع.
(الكتاب/260)
وقال غيره (1): ولا خيرَ في الدُّنيا ولا في نعيمِها ... وأنتَ وحيدٌ مفردٌ غيرُ عاشِق وقال آخر (2): هل العَيْشُ إلا أنْ تروح وتغتدي ... وأنت بكأسِ العِشْقِ في النَّاس نشوانُ وقال العَطوي (3): ما دِنتُ بالحبِّ إلَّا ... والحبُّ دينُ الكرام وقال آخر (4): نظرتُ إليها نظرةً فهوِيتُها ... ومن ذا له عقلٌ سليمٌ ولا يَهوى؟! وقال آخر (5): _________ (1) بلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 64)، و «منازل الأحباب» (ص 51). (2) البيت لمسلم بن الوليد في «الواضح المبين» (ص 64) برواية: هل العيش إلا أن تروح من الصبا ... وتغدو صريع الكأس والأعين النجلِ (3) «الواضح المبين» (ص 64). (4) البيت مع آخر في المصدر السابق (ص 64). (5) البيت في «الواضح المبين» (ص 64)، و «منازل الأحباب» (ص 52)، و «الصناعتين» (ص 112)، و «محاضرة الأبرار» (2/ 485)، و «تزيين الأسواق» (1/ 43)، و «الموشى» (ص 123)، و «ديوان الصبابة» (ص 42). وهو للمجنون في «العقد الفريد» (5/ 344)، و «سر الفصاحة» (ص 246).
(الكتاب/261)
وما سرَّني أنِّي خَلِيٌّ مِن الهوى ... ولو أنَّ لي ما بين شَرْقٍ ومَغْرب وقال آخر (1): وما تلفَتْ إلا من العشق مُهْجَتي ... وهلْ طاب عيشٌ لامرئ غير عاشق؟! وقال آخر (2): ولا خيرَ في الدُّنيا بغير صَبابةٍ ... ولا في نعيمٍ ليس فيه حَبيبُ وقال الكُمَيْت (3): ما ذاق بُؤْسَ معيشةٍ ونعيمَها ... فيما مضَى أحدٌ إذا لم يَعْشقِ العشقُ فيه حلاوةٌ ومَرارةٌ ... فاسأل بذلك من تطعَّم أوْ ذُق _________ (1) البيت في «الواضح المبين» (ص 64)، و «منازل الأحباب» (ص 52)، والموشى (ص 123). (2) البيت بلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 64)، و «منازل الأحباب» (ص 51)، و «ديوان الصبابة» (ص 42). (3) «ديوانه» (1/ 217 - 218)، وحواشي «أمالي المرتضى» (1/ 60)، و «الحماسة البصرية» (2/ 226)، و «مجالس ثعلب» (2/ 462)، و «الموشى» (ص 153)، و «الزهرة» (1/ 108)، و «أخبار النساء» (ص 67)، و «ديوان الصبابة» (ص 42).
(الكتاب/262)
وقال آخر: وما طابتِ الدُّنيا بغير محبَّةٍ ... وأيُّ نعيمٍ لامرئ غيرِ عاشق؟! وقال آخر (1): اسكُنْ إلى سكنٍ تلذُّ بحبِّه ... ذهب الزمانُ وأنت خالٍ مُفْردُ وقال آخر (2): إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى ... فأنت وعَيْرٌ في الفلاة سواءٌ وقال آخر (3): إذا أنت لم تعشقْ ولم تَدْرِ ما الهوى ... فكن حجرًا من يابس الصَّخرِ جَلْمَدا وقال آخر (4): إذا أنت لم تعشقْ ولم تَدْرِ ما الهوى ... فقم فاعتلف تِبْنًا فأنت حمارُ _________ (1) البيت بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 42). (2) البيت في «ذم الهوى» (ص 306)، و «الواضح المبين» (ص 65)، و «تزيين الأسواق» (1/ 43). (3) البيت للأحوص في «ديوانه» (ص 99)، و «الموشى» (ص 122)، و «الحماسة البصرية» (1/ 127)، و «زهر الآداب» (1/ 350)، و «منازل الأحباب» (ص 50)، ولعمر بن أبي ربيعة في «ديوانه» (ص 51). وبلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 65)، و «تزيين الأسواق» (1/ 43). (4) البيت بلا نسبة في «الموشى» (ص 122)، و «منازل الأحباب» (ص 50).
(الكتاب/263)
وقال آخر (1): إذا لم تذُق في هذه الدار صبْوةً ... فموتُك فيها والحياةُ سواءُ وقال الأقرعُ بنُ مُعاذ (2): ولا خيرَ في الدُّنيا إذا أنت لم تَزُرْ ... حبيبًا ولا وافَى إليك حبيبُ وقال آخر: وما ذاق طعم العيش من لم يكن له ... حبيبٌ إليه يطمئنُّ ويسكُنُ [67 أ] وقال علي بن أبي كثير (3) لابن أبي الزرقاء: هل عشقت قطُّ حتى تُكاتب، وتراسل، وتُواعد؟ قال: لا. فقال: لا يجيء منك شيء. وكان لبعض الملوك (4) ولدٌ واحدٌ ساقطُ الهِمَّة، دنيء النفس، فأراد أن يُرشحه للمُلْكِ، فسلّط عليه الجواري والقِيان، فعشق منهنَّ واحدة، فأُعْلِمَ بذلك المَلِكُ، فسُرَّ، وأرسل إلى المعشوقة أن تجنَّي عليه، _________ (1) البيت بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 42). (2) البيت له في «الواضح المبين» (ص 66)، و «ديوان الصبابة» (ص 42)، و «تزيين الأسواق» (1/ 44)، وللمجنون في «ديوانه» (ص 50)، ولابن الدمينة في «الحماسة البصرية» (2/ 194). ولرجل من بني عبس في أمالي القالي» (2/ 40). وبلا نسبة في «الموشى» (ص 123). (3) الخبر في «الواضح المبين» (65). (4) الخبر مطولًا في «المحاسن والمساوئ» (1/ 280)، و «المستطرف» (3/ 32).
(الكتاب/264)
وقُولي: إنِّي لا أصلُح إلاَّ لملكٍ، أو عالم. فلمَّا قالت له ذلك؛ أخذ في التعلُّم، وما عليه الملوك من آداب المُلْكِ حتى برع في ذلك. وقال المرْزُباني (1) سُئل أبو نَوْفَل: هل يسلمُ أحدٌ من العِشْق؟ فقال: نعم! الجِلْفُ الجافي؛ الذي ليس له فضلٌ، ولا عنده فهم، فأما من في طبعه أدنى ظُرْفٍ، أو معه دماثة أهل الحجاز وظُرْفُ أهل العراق؛ فهيهات! وقال علي بن عبدة (2): لا يخلو أحدٌ من صبْوةٍ؛ إلا أن يكون جافي الخِلْقة ناقصًا، أو منقوص الهمَّة، على خلاف تركيب الاعتدال. قالوا: ولم يكمُل أحدٌ قطُّ إلا من عشقُه لأهل الكمال وتشبُّهه بهم، فالعالم يبلغُ في العلم بحسب عشقه له، وكذلك صاحبُ كلِّ صناعةٍ وحرفةٍ. ويكفي أنَّ العاشق يرتاحُ لكريم الأخلاق، والأفعال، والشِّيم؛ لِتُحْمَدَ شمائلُه عند معشوقه، كما قال (3): ويرتاحُ للمعروفِ في طلبِ العُلا ... لِتُحْمَدَ يومًا عند ليلى شمائلُه وقال أبو المِنْجاب (4): رأيت في الطواف فتًى نحيفَ الجسم، بَيِّن _________ (1) نقل عنه مغلطاي في «الواضح المبين» (ص 65). (2) كما في «الواضح المبين» (ص 65). (3) البيت لكثير عزة في ديوانه (ص 246). وبلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 44). (4) أخرج عنه الخرائطي (ص 336). والخبر والشعر في ديوان الصبابة (ص 44).
(الكتاب/265)
الضعف يلوذُ، ويتعوَّذ، ويقول: وَدِدْتُ بأن الحبَّ يُجمعُ كلُّه ... فيُقذفُ في قلبي وينغلقُ الصدرُ فلا ينقضي ما في فُؤادي من الهوى ... ومنْ فرحي بالحبِّ أو ينقضي العُمْرُ فقلت: يا فتى! أما لهذه البنيَّة حُرمةٌ تمنعُك من هذا الكلام؟ فقال: بلى والله! ولكن الحبَّ ملأ قلبي بفرح التَّذَكُّر، ففاضت الفكرةُ في سرعة الأوبة إلى من لا يشذُّ عنه معرفةُ ما بي، فتمنَّيتُ المُنى. والله ما يسُرُّني ما بقلبي منه ما فيه أميرُ المؤمنين من المُلك [67 ب]، وإنِّي أدعو الله أن يُثبته في قلبي عمري، ويجعله ضجيعي في قبري، دريْتُ به، أو لم أدر! هذا دعائي. وانصرف من جهتي، ثم بكى، فقلتُ: ما يُبكيك؟ قال: خوف ألاَّ يُستجاب دعائي، وله قصدت، وفيه رغبت مما يعطي الله سائر خلقه. ثم مضى. قالت هذه الفرقة: وغايةُ ما يقدَّر في أمر العشق: أنَّه يقتُل صاحبَه، كما هو معروف عن جماعة من العُشَّاق، فقد قال سُوَيْدُ بن سعيد الحَدَثاني: حدَّثنا عليُّ بن مُسْهِر عن أبي يحيى القَتّات، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «من عَشِقَ فكَتَم، وعفَّ، وصبر، فمات؛ فهُو شهيدٌ» (1) رواه عن سُويدٍ جماعةٌ. _________ (1) تقدم تخريجه.
(الكتاب/266)
وقال الخطيب (1): حدَّثنا أبو الحسن علي بن أيوب إملاءً، حدَّثنا أبو عبد الله المَرْزُباني وابنُ حَيَّويه وابن شاذان، قالوا: حدّثنا أبو عبد الله إبراهيمُ بن محمد بن عرفة نفْطويه قال: دخلتُ على محمد بن داود الأصبهانيِّ في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف تجدك؟ قال: حبُّ مَنْ تعلم أورثني ما ترى! فقلت: ما منعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما: النظر المباح. والثاني: اللذَّة المحظورة. فأمَّا النظرُ المباحُ فإنه أورثني ما ترى، وأمَّا اللذَّة المحظورةُ فإنَّه منعني منها ما حدَّثني أبي، حدَّثنا سويد بن سعيد، حدّثنا عليُّ بن مُسْهر عن أبي يحيى القتَّات، عن مجاهد، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عَشِقَ وكتَمَ، وعفَّ، وصبر؛ غفر اللهُ له، وأدْخلَهُ الجَنَّة». قال الحاكم أبو عبد الله: إنَّما أتعجَّب من هذا الحديث، فإنَّه لم يحدِّث به غير سُويد، وهو وداود بن علي وابنه أبو بكر ثقاتٌ. ثم رواه الخطيب (2) حدّثنا الأزهريُّ، حدَّثنا المُعافى بنُ زكريا، حدَّثنا قُطْبة بنُ المفضل بن إبراهيم الأنصاريُّ، حدَّثنا أحمد بن محمَّد ابن مسروق، حدَّثنا سُويد، حدَّثنا ابنُ مُسْهِر عن هشام بن عُرْوة، عن _________ (1) في «تاريخ بغداد» (5/ 262). ومن طريقه السراج في «مصارع العشاق» (1/ 13 - 14). (2) في «تاريخ بغداد» (12/ 479).
(الكتاب/267)
أبيه، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. ورواه الزُّبيرُ بنُ بكَّار عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجِشُون، عن عبد العزيز بن أبي [68 أ] حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به، ولفظه: «من عشق، فعفَّ، فمات؛ فهو شهيدٌ». رواه أبو بكر محمَّدُ بن جعفر بن سهل الخرائطيُّ في كتاب «اعتلال القلوب» (1): حدَّثنا أبو يوسف يعقوب بن عيسى منْ ولد عبد الرحمن بن عوف، عن الزُّبير، فذكره، فخرج سُويد عن عُهدة التفرُّد به، على أنه لو تفرَّد به فهو ثقةٌ، احتجَّ به مسلمٌ في صحيحه. وقال عبدُ الله بن أحمد: قال لي أبي: اكتبْ عنه حديث ضمام. وقال البغوي: كان حافظًا، وكان أحمد ينتقي لولدَيْهِ عليه: صالح، وعبد الله، فكانا يختلفان إليه، وقال مسلم: ثقةٌ، ثقة. وقال أبو حاتم الرازي ويعقوبُ ابن شيبة: هو صدوق، وأكثرُ ما عيب به التَّدليسُ، وقد صرَّح هاهنا بالتَّحديث، وعيب بأنَّه ذهب بصرُه في آخر عمره، فربَّما أُدخل عليه هذا الحديث في كتبه، ولكنَّ رواية الأكابر عنه هذا الحديث كان قبل ذهاب بصره؛ لأنه إنما عميَ في آخر عمره، وليس هذا بقادحٍ في حديثه. _________ (1) (ص 79). ومن طريقه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 326)، و «العلل المتناهية» (2/ 285 - 286).
(الكتاب/268)
قلت: وهذا حديثٌ باطلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعًا، لا يُشْبِهُ كلامه، وقد صحَّ عنه: أنَّه عَدَّ الشهداء ستة، فلم يذكر فيهم قتيل العِشْق، ولا يُمكن أن يكون كلُّ قتيل بالعشق شهيدًا، فإنَّه قد يعشق عشقًا يستحقُّ عليه العقوبة. وقد أنكر حُفَّاظ الإسلام هذا الحديث على سُوَيد، وقد تكلَّم الناسُ فيه، فقال ابنُ المديني: ليس بشيء، والضريرُ إذا كان عنده كتبٌ، فهو عيب شديد. وقال يعقوب بن شيبة: صدوقٌ مضطربُ الحفظ، ولاسيَّما بعدما عميَ، وقال البخاريُّ: كان قد عميَ فتلقَّن ما ليس من حديثه. وقال أبو أحمد الجرجاني: هذا الحديث أحد ما أُنكر على سُويد (1)، وأنكره البيهقيُّ، وأبو الفضل بن طاهر، وأبو الفرج بن الجوزي، وأدخله في كتابه «الموضوعات» (2). ولمَّا رواه أبو بكر بن الأزرق عن [68 ب] سُويد عاتبه عليه ابن المرْزُبان، فأسقط ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - منه. فكان سويدٌ إذا سُئل عنه؛ لا يرفعه، وهذا أحسنُ أحواله أن يكون موقوفًا؛ وكذلك رواه أبو محمد بن _________ (1) انظر: ترجمة سويد وأقوال النقاد فيه في «تهذيب التهذيب» (4/ 272 - 275). (2) لم أجده في «الموضوعات». وقد رواه في «العلل المتناهية» (2/ 285 - 286) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم بيَّن علله. وانظر الكلام على الحديث عند المؤلف في «زاد المعاد» (2/ 252 - 253)، و «الجواب الكافي» (أو) «الداء والدواء» (ص 353 - 354)، و «المنار المنيف» (ص 140). وانظر: «تلخيص الحبير» (2/ 142)، و «المقاصد الحسنة» (ص 419)، و «السلسلة الضعيفة» (409).
(الكتاب/269)
الحسين القاري من حديث أبي سعد البقَّال عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأمَّا سياق الخطيب له من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها فلا يشُكُّ منْ شمَّ رائحة الحديث: أنَّ هذا باطلٌ على هشام عن أبيه، عن عائشة، ولا يحتمل هذا المتنُ هذا الإسناد بوجهٍ، والتحاكمُ في ذلك إلى أهل الحديث لا إلى العارين الغرباء منه. والظاهر: أنَّ ابن مسروقٍ سرقه، وغيَّر إسناده. وأمّا حديث الزُّبير بن بكار؛ فمن رواية يعقوب بن عيسى، وهو ضعيفٌ، لا تقوم به حجَّةٌ، قد ضعَّفه أهلُ الحديث، ونسبوه إلى الكذب.
(الكتاب/270)
الباب الخامس عشر فيمن ذمَّ العِشْقَ، وتبرَّم به، وما احتجَّ به كلُّ فريقٍ على صحَّة مذهبه
قال الله تعالى إخبارًا عن المؤمنين: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة/286] فأثنى عليهم سبحانه بهذا الدُّعاء؛ الذي سألوه فيه ألاَّ يحمِّلهم ما لا طاقة لهم به، وقد فُسِّر ذلك بالعشق، وليس المُرادُ اختصاصه به، بل المُراد: أنَّ العشق ممَّا لا طاقة للعبد به. وقال مكحول: هو شدة الغُلْمة. وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي للمرءِ أنْ يُذِلّ نفسه» (1). قال الإمام أحمدُ: تفسيرُه أن يتعرَّض من البلاء لما لا يطيق، وهذا _________ (1) أخرجه أحمد (5/ 405)، والترمذي (2254)، وابن ماجه (4016) من حديث حذيفة بن اليمان. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وسئل أبو حاتم عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر. انظر: «العلل» (2/ 138). ولكن له شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الطبراني في «الكبير» (13507) و «الأوسط» (5353)، والبزار (3323). انظر: «السلسلة الصحيحة» (613).
(الكتاب/271)
مطابق لحال العاشق، فإنَّه أذَلُّ الناس لمعشوقه، ولما يُحَصِّل به رضاه، والحبُّ مبناه على الذُّلِّ، والخضوع للمحبوب، كما قيل (1): اخْضَعْ وَذِلَّ لِمَنْ تحبُّ فَلَيْسَ في ... شرعِ الهَوى أَنْفٌ يُشالُ ويُعْقَدُ [69 أ] وقال آخر (2): مساكينُ أهلُ العشقِ حتَّى قبورُهم ... عليها ترابُ الذُّلِّ بين المَقابر وقال آخر (3): قالوا عهدناك ذا عزٍّ فقلتُ لهم ... لا يعجبُ الناسُ من ذلِّ المُحبِّينا لا تُنكروا ذلَّة العُشّاقِ إنَّهمُ ... مستعبَدون برِقِّ الحُبِّ راضُونا قالوا: وإذا اقتحم العبدُ بحرَ العشْق، ولعبتْ به أمواجهُ، فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السَّلامة، كما ذكر الخرائطيُّ (4): أنَّه كان بالمدينة جاريةٌ ظريفةٌ، فهوِيَتْ رجلًا من قريشٍ، وكان لا يُفارقها، ولا تُفارقه، فملَّها، وزاد حبُّها له، فسقِمتْ، وجعل مولاها لا يَعْبَأُ بشكواها، ولا يَرِقُّ _________ (1) البيت لأبي تراب في «بدائع البدائه» (ص 17). وبلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 47). (2) البيت بلا نسبة في «مصارع العشاق» (1/ 130)، و «ديوان الصبابة» (ص 47). (3) البيتان بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 325). (4) في «اعتلال القلوب» (ص 324). وانظر: «مصارع العشاق» (1/ 53)، و «ذم الهوى» (ص 334). والأبيات لجميل في «ديوانه» (ص 83)، و «محاضرة الأبرار» (2/ 423)، وللعباس بن الأحنف في «ديوانه» (139)، و «الأغاني» (5/ 211)، وللمجنون في «الموشى» (ص 123).
(الكتاب/272)
لها، حتى هامتْ وسعتْ على وجهها، ومزَّقت ثيابها، وأفضتْ إلى أمرٍ عظيم. فلما رأى ما صارت إليه عالجَها فلم يَنْجَعْ فيها العلاج، وكانت تدورُ في السِّكَكِ بالليل، وتقول: الحبُّ أوَّلُ ما يكونُ لَجاجة ... تأْتي به وتسوقُهُ الأقدارُ حتَّى إذا اقتحم الفتى لُجَجَ الهوى ... جاءتْ أُمورٌ لا تُطاقُ كِبارُ مَنْ ذا يُطيق كما أُطيق من الهوى ... غلبَ العزاءُ وباحتِ الأسرارُ قال الخرائطي (1): وأنشدني بعض أصحابنا: الحبُّ أوَّلهُ شيءٌ يهيمُ به ... قلبُ المحبِّ فيَلْقَى الموتَ كاللَّعِب يكون مبدؤه منْ نظرةٍ عرَضَتْ ... ومَزْحَةٍ أَشْعَلَتْ في القَلْبِ كاللَّهَبِ كالنَّارِ مبدؤها من قدْحةٍ فإذا ... تضرَّمتْ أحرقتْ مُسْتَجْمَعَ الحطَب قالوا: وكيف يُمْدَح أمرٌ يمنع القرار، ويسلُب المنام، ويُوَلِّه العقل، ويُحْدِث الجنون، بل هو نفسه جنون، كما قال بعض الحكماء: الجنون فنون، والعشق فنٌّ من فنونه، كما قال بعضُ العُشَّاق (2): _________ (1) «اعتلال القلوب» (ص 324 - 325). والأبيات في «الواضح المبين» (ص 59)، و «تزيين الأسواق» (1/ 57). (2) البيتان بلا نسبة في «اعتلال القلوب» (ص 326)، و «ذم الهوى» (ص 317)، وبهجة المجالس (1/ 554). وللمجنون في «ديوانه» (ص 281)، و «مصارع العشاق» (1/ 126، 2/ 181)، و «ديوان الصبابة» (ص 25)، «وتزيين الأسواق» (1/ 164). وقد تقدم البيتان في أول الكتاب.
(الكتاب/273)
قالت جُنِنْتَ على رأسي فقلتُ لها ... العشقُ أعظمُ مِمَّا بالمَجانين العشقُ لا يستفيقُ الدَّهر صاحبُه ... وإنَّما يُصْرَعُ المجنونُ في الحِيْن قالوا: وكم من عاشقٍ أتلف في معشوقه مالَه، وعِرْضَه، ونفسَه، وضيَّع أهله، ومصالحَ دينه [69 ب] ودنياه! قال الزُّبَيْرُ بن بكَّار (1): جاءت بدويةٌ إلى أُختٍ لها، فقالت: كيف بك من حبِّ فلان؟ قالت: حرَّكَ واللهِ حبُّه الساكن! وسكَّن المتحرِّك، ثم أنشأت تقول (2): فلو أنَّ ما بي بالحَصَى فلقَ الْحَصى ... وبالرِّيح لم يُسْمَعْ لهنَّ هُبُوبُ ولو أنَّني أستغفرُ الله كلَّما ... ذكرتُكَ لم تُكْتَبْ عليَّ ذنوبُ فقلت: والله لأسألنَّه كيف هو مِنْ حُبِّكِ. فجاءته، فسألتُه، فقال: إنَّما الهوى هوانٌ، ولكنَّه خُولِفَ باسمه، وإنَّما يَعْرِفُ ذلك من اسْتَبْكَتْهُ المعالم والطُّلول. _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 326 - 327)، وانظر ذم الهوى (ص 316). (2) البيتان لابن الدمينة في «ديوانه» (ص 111)، و «الأشباه والنظائر» للخالديين (2/ 140)، و «أمالي» الزجاجي (ص 157)، و «الحماسة البصرية» (2/ 193). ولغصين بن براق أو ابن الدمينة في «المؤتلف» للآمدي (ص 67، 68)، وللمجنون في «ديوانه» (ص 59)، و «الموشى» (ص 139).
(الكتاب/274)
وأنشدَ أبو الفضل الربعي (1): قَدْ أمطرَتْ عيني دمًا فدِماؤُها ... بعدَ الدُّموع من الجُفون هوامِلُ كيف العزاءُ ولا يزالُ من الضَّنى ... في الجسم مني والجوانح نازلُ لَهْفي على زمنٍ مضى تجتازني ... فيه صروفُ الدَّهرِ وهْي غوافل قالوا (2): والعشق هو الدَّاء الدَّويُّ؛ الذي تذوب معه الأرواح، ولا يقع معه الارتياح، بل هو بحرٌ؛ مَنْ رَكبَه غَرِق، فإنه لا ساحلَ له، ولا نجاةَ منه، وهو الذي قال فيه القائل (3): وما أحدٌ في النَّاس يُحْمَدُ أمرُه ... فيُوجَدُ إلا وهو في الحبِّ أحمقُ وما أحدٌ ما ذاقَ بُؤْسَ معيشةٍ ... فيَعْشَقُ إلا ذاقها حِيْنَ يعْشقُ وقال العبّاس بن الأحنف (4): ويحَ المُحبِّين ما أشقى نفوسَهُمُ ... إنْ كان مثلُ الذي بي بالمحبّينا _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 327). (2) كما في «الواضح المبين» (ص 66) نقلًا عن «سلوة المسافر» للفخر الفارسي. (3) البيتان لعبد الله بن بهلول في «عقلاء المجانين» (ص 27). ولامرأة من قيس في «الزهرة» (1/ 63). وبلا نسبة في «الموشى» (ص 157) و «ذم الهوى» (ص 314) و «الواضح المبين» (ص 66). (4) «ديوانه» (ص 286)، و «مصارع العشاق» (1/ 248)، و «الواضح المبين» (ص 66)، و «تزيين الأسواق» (1/ 33).
(الكتاب/275)
يشْقَوْنَ في هذه الدُّنيا بِعِشْقِهمِ ... لا يُرْزقونَ به دُنيا ولا دينا وقال آخر (1): العشقُ مَشْغَلَةٌ عن كلِّ صالحةٍ ... وسَكْرَةُ العشْقِ تَنْفي لَذَّة الوَسَن وقال محمَّدُ بن أبي محمَّد اليزيديُّ (2): كيف يُطيقُ النَّاسُ وصف الهوى ... وهو جليلٌ ما له قدْرُ بل كيف يصفُو لِحَليفِ الهوى ... عَيْشٌ وفيه البَيْنُ والهَجْرُ وقال محمَّد بن أبي أميَّة (3) [70 أ]: قرينُ الحبِّ يأْنَسُ بالهُموم ... ويُكثِرُ فكْرة القلب السَّقيم وأعظمُ ما يكونُ به اغتباطًا ... على خطرٍ ومُطَّلعٍ عظيم وقال أبو تمَّام (4): أمَّا الهوى فهو العذابُ فإنْ جرتْ ... فيه النَّوى فأليمُ كلِّ عذاب _________ (1) البيت بلا نسبة في «ذم الهوى» (ص 317)، و «الواضح المبين» (ص 66)، و «ديوان الصبابة» (ص 46). (2) البيتان له في «ذم الهوى» (ص 318)، و «الواضح المبين» (ص 67)، و «ديوان الصبابة» (ص 46). (3) في النسختين: «بن أمية»، والتصويب من «ذم الهوى» (ص 319)، و «الواضح المبين» (ص 67) حيث البيتان. (4) كما في «الواضح المبين» (ص 67)، وليس في دوانه.
(الكتاب/276)
وقال ابن أبي حصِيْنَة (1): والعشقُ يجتذبُ النفوس إلى الرَّدى ... بالطَّبع واحسَدِي لمن لم يَعشَق وقال ابن المعتزّ (2): الحبُّ داءٌ عياء لا دواء له ... يَحارُ فيه الأطبَّاءُ النَّحاريرُ قد كنتُ أحْسَبُ أنَّ العاشِقيْنَ غَلَوْا ... في وصفِه فإذا بالقوم تقصيرُ وقال أعرابيٌّ (3): ألا ما الهوى والحبُّ بالشَّيءِ هكذا ... يدلُّ به طَوْعُ اللِّسانِ فيوصفُ ولكنَّه شيءٌ قَضى اللهُ أنَّه ... هو الموتُ أو شيءٌ منَ المَوْتِ أعْنَفُ فأَوَّلُه سُقْمٌ وآخرُه ضَنًى ... وأوسَطُهُ شَوْقٌ يَشُفُّ ويُتْلِفُ وَرَوْعٌ وتسهيدٌ وهمٌّ وحَسْرَةٌ ... ووجْدٌ على وَجْدٍ يزيدُ ويَضْعُفُ وقال عبد المحسن الصُّوريُّ (4): ما الحبُّ إلا مَسْلكٌ خَطِرٌ ... عَسِرُ النَّجاة ومَوْطئٌ زلَقُ _________ (1) البيت له في «ذم الهوى» (ص 319)، و «الواضح المبين» (ص 67). (2) كما في «الواضح المبين» (ص 67)، والبيتان لابن الرومي في «ديوانه» (ص 993)، و «ذم الهوى» (ص 319). (3) الأبيات في «الواضح المبين» (ص 68). (4) البيت لعلي بن عبد الرحمن العقيلي في «مصارع العشاق» (2/ 69)، و «ذم الهوى» (ص 322)، و «تزيين الأسواق» (2/ 289)، وبلا نسبة في «الواضح المبين» (ص 68).
(الكتاب/277)
وقال آخر (1): وكان ابتداءُ الَّذي بي مُجُونا ... فلمَّا تمكَّنَ أمسى جُنونا وكنتُ أَظُنُّ الهَوى هيِّنا ... فلاقيتُ مِنْهُ عذابًا مُهينًا وقالت امرأة (2): رأيتُ الهوى حلوًا إذا اجتمع الشَّمْلُ ... ومُرًّا على الهِجْران لا بلْ هُوَ القَتْلُ ومنْ لم يَذُقْ لِلْهَجْرِ طعمًا فإنَّه ... إذا ذاقَ طعمَ الحُبِّ لم يدْرِ ما الوَصْلُ وقد ذقتُ طَعْمَيْه على القُربِ والنَّوى ... فأبْعَدُه قتلٌ وأقربُه خَبْلُ قالوا: والعشق يترك المَلِكَ مملوكًا، والسُّلطانَ عبدًا، كما قال الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الدَّاخل، وكان ملكَ الأندلس (3): ظلَّ مِن فَرْطِ حُبِّه مَمْلوكا ... وَلَقَدْ كانَ قبلَ ذاكَ مَلِيْكا [70 ب] تركَتْهُ جآذِرُ القَصْر صبًّا ... مُستهامًا على الصَّعيد تريكا يجعلُ الخدَّ واضعًا فوق تُرْبٍ ... لِلَّذي يجعلُ الحريرَ أريكا _________ (1) البيتان لعبد المحسن الصوري في «الواضح المبين» (ص 68)، و «ذم الهوى» (ص 323)، و «ديوان الصبابة» (ص 45). (2) انظر: «اعتلال القلوب» (ص 288)، و «مصارع العشاق» (1/ 164)، و «ذم الهوى» (ص 346)، و «الواضح المبين» (ص 69)، و «تزيين الأسواق» (1/ 44). (3) الأبيات له في «الواضح المبين» (ص 72)، و «تزيين الأسواق» (1/ 39، 40)، و «ديوان الصبابة» (ص 69).
(الكتاب/278)
هكذا يحسنُ التذلُّل بالحُرِّ ... إذا كان في الهوى مملُوكا وقال الرشيد (1) ــ وقد عشق ثلاثَ جوارٍ من جواريه ــ ويقال: إنه المأمون ــ: مَلَكَ الثلاثُ الآنساتُ عِناني ... وحَلَلْنَ منْ قلبي بكلِّ مَكانِ ما لي تُطاوعني البرِيَّةُ كلُّها ... وأُطيعُهنَّ وهنَّ في عِصْياني ما ذاكَ إلا أنَّ سُلْطَانَ الهَوى ... ــ وبه قَوينَ ــ أعزُّ من سُلطاني وقال بعض الملوك (2) في جاريةٍ له عشقها، وكانت كثيرة التَّجنِّي عليه: أما يكفيكِ أنَّكِ تَمْلِكيني ... وأنَّ الناس كلَّهم عَبيدي وأنَّكِ لو جَهِدتِ على تَلافي ... لَقُلْتُ مِنَ الرِّضا أَحْسَنْتِ زِيدي _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 323). والأبيات في «العقد» (6/ 46) للرشيد، وفي «الأغاني» (16/ 345) للرشيد أو العباس بن الأحنف. وللعباس بن الأحنف في «الواضح المبين» (ص 72). وانظر: «تزيين الأسواق» (1/ 40)، و «الغيث المسجم» (1/ 369). (2) اختُلف في نسبتها، فهي للمأمون في جاريته شادن، وقيل: للمهدي في «الواضح المبين» (ص 72). وللمأمون في «الزهرة» (2/ 566)، و «تاريخ بغداد» (14/ 12). وللمهدي في «حماسة الظرفاء» (2/ 105)، و «فوات الوفيات» (3/ 401). وللمستعين أو الرشيد أو المأمون أو المهدي في «ديوان الصبابة» (ص 69). وانظر «تاريخ الطبري» (8/ 158).
(الكتاب/279)
وقال ابنُ طاهر ملكُ خُراسان (1): فإنِّي وإنْ حنَّت إليك ضمائري ... فما قَدْرُ حُبِّي أن يَذِلَّ له قدري وقال ابن الأحمر ملكُ الأندلس (2): أيا ربَّة الخِدْر التي أذهبتْ نُسْكي ... على كلِّ حالٍ أنتِ لابُدَّ لي منكِ فإمَّا بذلٍّ وهو ألْيَقُ بالهوى ... وإمَّا بعزٍّ وهو أليقُ بالمُلْك قالوا: وكم مِمَّن هرب من الحبّ إلى مظانِّ التَّلَف؛ ليتخلَّصَ من التَّلَف بالتَّلَف. قال دِعْبِل الشَّاعر (3): كنت بالثَّغر، فنُودي بالنَّفير، فخرجتُ مع الناس فإذا بفتًى يَجُرّ رمحَه بين يديَّ، فالتفتُّ، فنظر إليَّ، فقال: أنت دِعْبِل؟ قلت: نعم! قال: اسمع منِّي، ثم أنشدني: أنا في أمرَيْ رشادِ ... بينَ غزوٍ وجهادِ بدَني يَغْزو عَدوّي ... والهَوى يغزو فُؤَادي _________ (1) البيت له في «الواضح المبين» (ص 73)، و «تزيين الأسواق» (1/ 40). ولابن المعتز في «ذم الهوى» (ص 643). وبلا نسبة في «الموشى» (ص 230). (2) انظر: «الواضح المبين» (ص 73)، و «ديوان الصبابة» (ص 70)، و «تزيين الأسواق» (1/ 40). (3) أخرج عنه الخرائطي (ص 215)، ومن طريقه ابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 489 - 490). والخبر والشعر في «العقد الفريد» (5/ 408)، و «ديوان الصبابة» (ص 45).
(الكتاب/280)
[71 أ] ثم قال: كيف ترى؟ قلت: جيد والله! قال: فوالله ما خرجتُ إلا هاربًا من الحبِّ! ثم قاتلَ حتى قُتل. وقال أصرم بن حميد (1): نحن قومٌ تُلينُنا الحَدَقُ النُّجْـ ... ــلُ على أنَّنا نُلِينُ الحديدا طوع أيدي الظِّباءِ تَقتادُنا العِيْنُ ... ونقتادُ بالطِّعان الأسودا يتَّقي سُخْطَنا اللُّيوثُ ونخشى ... صوْلَة الخِشْف حين يُبدي الصُّدودا وترانا عند الكريهة أحرَا ... رًا وفي السِّلم للغَواني عبيدا قالوا: ورأينا الدَّاخل فيه يتمنَّى منه الخلاص، ولات حين مناص. قال الخرائطيُّ (2): أنشدني أبو جعفر العبديُّ: إذا الله نَجَّاني من الحُبِّ لَمْ أَعُدْ ... إليه ولمْ أقبلْ مقالَةَ عاذلي ومنْ لي بمَنْجَاةٍ من الحُبِّ بعدما ... رمتني دَواعي الحُبِّ بينَ الحَبائل قال أبو عبيدة (3): الحبائل: الموت. قال (4): وأنشدني أبو عبيد الله ابن الدولابيِّ: _________ (1) «اعتلال القلوب» (ص 323). وفي «وفيات الأعيان» (3/ 85) لعبد الله بن طاهر، وقيل: لأصرم بن حميد. (2) «اعتلال القلوب» (ص 215). (3) في «اعتلال القلوب»: «أبو عبيد القاسم بن سلام». (4) أي: الخرائطي (ص 215). والأبيات للمعلوط في «الزهرة» (1/ 270، 271).
(الكتاب/281)
دعوتُ ربِّي دعاءً فاستجاب له ... كما دَعا ربَّهُ نوحٌ وأيُّوبُ أن يَنْزعَ الدَّاءَ مِنْ صَدْري ويَجْعَلَهُ ... في صَدْر سلْمى وحمْلُ الدَّاء تعطيب أو يَشْفِ قلبي سريعًا من صبابته ... فلا أحِنُّ إذا حنَّ المَطاريبُ قالوا: وكم أكبَّتْ فتنةُ العِشْق رؤُوسًا على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرَّعتهم بين أطباق النَّار كؤوس الحميم، وكم أخرجت مَنْ شاء الله من العلم والدِّين، كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالتْ من نِعْمَةٍ، وأحلَّتْ منْ نقْمَة، وكم أنزلت من مَعْقِل عزّه عزيزًا، فإذا هو من الأذلِّين ذليلًا، ووضعتْ منْ شريفٍ رفيع القَدْرِ والمَنْصب، فإذا هو في أسفل السَّافلين، وكم كشفت منْ عورة، وأحدثت منْ رَوْعةٍ، وأعقبت منْ ألمٍ، وأحلَّت منْ ندمٍ، وكم أضرمت [71 ب] منْ نارِ حسراتٍ احترقت فيها الأكباد، وأذهبت قدْرًا كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت منْ جهْد البلاء، ودَرْك الشَّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، فقلَّ أن يُفارقها زوالُ نعمةٍ، أو فجاءةُ نقمةٍ، أو تحويلُ عافيةٍ، أو طُروقُ بليَّةٍ، أو حدوث رَزِيَّة، فلو سألت النِّعَمَ: ما الذي أزالك؟ والنِّقَمَ: ما الذي أدالكِ؟ والهمومَ والأحزان: ما الذي جلبك؟ والعافية: ما الذي أبعدك، وجَنَّبَك؟ والسِّتْر: ما الذي
(الكتاب/282)
كشفك؟ والشمس: ما الذي أذهب نورك وكسفك؟ والحياة: ما الذي كدَّرك؟ وشمس الإيمان: ما الذي كوَّرك؟ وعزَّة النفس: ما الذي أذلَّك، وبالهوان بعد الإكرام بدَّلك؟ لأجابَتْك بلسان الحال اعتبارًا، إن لم تُجبْ بالمقال حوارًا. هذا والله بعضُ جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل/52] ويكفي اللبيبَ موعظة واستبصارًا ما قصَّه الله سبحانه وتعالى عليه في سورة الأعراف في شأن أصحاب الهوى المذموم تحذيرًا واعتبارًا، فبدأ سبحانه وتعالى بهوى إبليس الحاملِ له على التكَبُّر عن طاعة الله عزَّ وجلَّ في أمره بالسجود لآدم، فحمله هوى نفسه، وإعجابُه بها على أنْ عصى أمره، وتكبَّر على طاعته، فكان من أمره ما كان، ثم ذكر سبحانه هوى آدم حين رغبَ في الخلود في الجنَّة، وحملَهُ هواه على أنْ أكل من الشَّجرة التي نُهي عنها، وكان الحاملُ له على ذلك هوى النفس ومحبَّتها للخلود، فكان عاقبةُ ذلك الهوى والشَّهوة إخراجه منها إلى دار التَّعب والنَّصَب. وقيل: إنه إنما أكل منها طاعة لحوَّاء، فحمله حبُّه لها أن أطاعها، ودخل في هواها، وإنما توصَّل إليه عدوُّه من طريقها؟ ودخل عليه من بابها. فأوَّل فتنةٍ كانت في هذا العالم بسبب النساء. ثم ذكر سبحانه فتنة الكفَّار؛ الذين أشركوا به [72 أ] ما لم ينزِّل به سلطانًا، وابتدعوا في دينه ما لم يشرعه، وحرَّموا زينته التي أخرج لعباده
(الكتاب/283)
والطيبات من الرزق، وتعبَّدوا له بالفواحش وزعموا أنَّه أمرهم بها؛ واتخذوا الشياطين أولياء من دونه، والحاملُ لهم على ذلك كلِّه الهوى والحبُّ الفاسد، وعليه حاربوا رسله، وكذَّبوا كتُبَه، وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم دونه، حتى خسروا الدُّنيا والآخرة. ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة قوم نوح، وما أصارهم إليه الهوى من الغرق في الدُّنيا، ودخول النَّار في الآخرة. ثم ذكر قصَّة عادٍ، وما أفضى إليه بهم الهوى من الهلاك الفظيع، والعقوبة المستمرة. ثم قصَّة قوم صالح كذلك، ثم قصة العُشَّاق، أئمة الفُسَّاق، وناكحي الذكران، وتاركي النِّسوان، وكيف أخذهم وهم في خوضهم يلعبون، وقطع دابرهم وهم في سكرة عشقهم يعمهون، وكيف جمع عليهم من العقوبات ما لم يجمعه على أُمَّةٍ من الأمم أجمعين، وجعلهم سلفًا لإخوانهم اللُّوطيَّة من المُتقدِّمين والمتأخِّرين، ولما تجرؤوا على هذه المعصية، وتمرَّدوا، ونهجوا لإخوانهم طريقها، وقاموا بأمرها، وقعدوا؛ ضجَّت الملائكةُ إلى الله من ذلك ضجيجًا، وعجَّت الأرض إلى ربِّها من هذا الأمر عجيجًا، وهربت الملائكة إلى أقطار السموات، وشكتهم إلى الله جميعُ المخلوقات، وهو سبحانه وتعالى قد حكم أنه لا يأْخذُ الظالمين إلا بعد إقامة الحُجَّة عليهم، والتقدُّم بالوعد والوعيد إليهم، فأرسل إليهم رسوله الكريم يحذرهم من سوء صنيعهم، وينذرهم عذابه
(الكتاب/284)
الأليم، فأذَّن رسول الله بالدعوة على رؤوس الملأ منهم والأشهاد، وصاح بها بين أظهُرِهم في كلِّ حاضرٍ وباد، وقال وكان في قوله لهم من أعظم الناصحين: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف/80]. ثم أعاد لهم القول نصحًا وتحذيرًا، [72 ب] وهم في سكرة عشقهم لا يعقلون: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف/81] فأجاب العُشَّاق جواب من أُركِس في هواه وغيِّه، فقلبُه بعشقه مفتون، وقالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل/56]. فلمَّا أن حان الوقت المعلوم، وجاء ميقاتُ نفوذ القدر المحتوم، أرسل الرَّحمن ــ تبارك وتعالى ــ لتمام الإنعام والامتحان إلى نبيه لوطٍ ملائكةً في صورة البشر، وأجمل ما يكون من الصُّور، وجاءوه في صورة الأضياف النُّزول بذي الصَّدرِ الرَّحيب، فـ {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود/77]. وجاء الصَّريخ إلى اللوطيّة: أنَّ لوطًا قد نزل به شبابٌ لم يَنْظُر إلى مثل حُسْنهم وجمالهم الناظرون، ولا رأى مثلهم الرَّاءون، فنادى اللُّوطيَّة بعضهم بعضًا أنْ هَلُمُّوا إلى منزل لوط، ففيه قضاءُ الشهوات، ونَيْلُ أكثر اللَّذَّات {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ
(الكتاب/285)
السَّيِّئَاتِ} [هود/78]. فلمَّا دخلوا إليه، وهجموا عليه، قال لهم وهو كظيمٌ من الهمِّ والغمِّ، وقلبُه بالحزن عميد: {يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود/78]. فلما سمع اللُّوطية مقالته؛ أجابوه جواب الفاجر المجاهر العنيد: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود/79] فقال لهم لوطٌ مقالةَ المُضْطَهَد الوحيد: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود/80] فلمَّا رأت رسلُ الله ما يقاسي نبيُّه من اللوطيَّة؛ كشفوا له عن حقيقة الحال، وقالوا: هوِّن عليك، {يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود/81] فسُرَّ نبيُّ الله سرور المحب وأتاه الفرج بغتةً على يد الحبيب، وقيل له: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود/81]. ولما أبو ا إلا مُراودته عن أضيافه، ولم يرعَوْا حقَّ الجار؛ ضرب جبريل [73 أ] بجناحه على أوجههم، فطمس منهم الأعين، وأعمى الأبصار، فخرجوا من عنده عُمْيانًا يتحسَّسون، ويقولون: ستعلم غدًا ما يَحِلُّ بك أيُّها المجنون! فلمَّا انشقَّ عمود الصُّبح جاء النداء منْ عند ربِّ الأرباب: أن اخسف بالأمَّة اللوطيَّة، وأَذِقهم أليم العذاب، فاقتلع القويُّ الأمينُ
(الكتاب/286)
جبريل مدائنهم على ريشةٍ من جناحه، ورفعها في الجوِّ حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، وصياح دِيكَتِهمْ، ثم قلبها، فجعل عاليها سافلها، وأُتبعوا بحجارةٍ من سجِّيلٍ، وهو الطين المستحجِر الشديد. وخوَّف سبحانه إخوانهم على لسان رسوله من هذا الوعيد، فقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود/82 ــ 83] فهذه عاقبة اللوطيَّة عُشَّاقِ الصُّوَر، وهم السَّلف، وإخوانُهم بعدهم على الأثر (1). وإن لم تكونوا قوم لوطٍ بعينهم ... فما قومُ لوطٍ منكمُ ببعيد وإنَّهمُ في الخَسْفِ ينتظرونهم ... على موْردٍ مِنْ مُهلَةٍ وصديد يقولون لا أهلًا ولا مَرْحَبًا بكم ... ألم يتقدَّم ربُّكم بوعيد فقالوا بلى لكنَّكم قد سَنَنْتمُ ... صراطًا لنا في العِشْق غيرَ حميد أتينا به الذُّكْرانَ من عِشْقِنا لهم ... فأوردنا ذا العشقُ شرَّ ورودِ فأنتم بتضعيف العذاب أحقُّ من ... مُتابِعِكم في ذاك غير رشيد فقالوا وأنتم رُسلكم أنذرتكم ... بما قد لقيناه بصدق وعيد فما لكم فضل علينا وكلُّنا ... نذوق عذاب الهون جدَّ شديد _________ (1) الأبيات بلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 72)، و «تزيين الأسواق» (2/ 54). ولعلها لابن القيم، والله أعلم.
(الكتاب/287)
كما كلُّنا قد ذاق لذَّة وصلِهم ... ومجمعُنا في النَّار غيرُ حميد وكذلك قومُ شعيب، إنَّما حملهم على بخس المِكيال والميزان فرطُ محبَّتهم للمال، وغلبهم [73 ب] الهوى على طاعة نبيِّهم، حتى أصابهم العذاب. وكذلك قوم فرعون، حملهم الهوى، والشَّهوةُ، وعشقُ الرئاسة على تكذيب موسى، حتى آل بهم الأمر إلى ما آل. وكذلك أهل السبت؛ الذين مُسخوا قردةً، إنَّما أُتُوا من جهة محبَّة الحيتان، وشهوة أكلها، والحِرْص عليها. وكذلك الذي آتاه الربُّ تبارك وتعالى آياته {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف/175] وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف/176]. وتأمل قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} فأخبر أنَّ ذلك إنما حصل له بإيتاء الربِّ له لا بتحصيله هو. ثم قال: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} ولم يقل: فسلخناه، بل أضاف الانسلاخ إليه، وعبَّر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ الدالة على تخلِّيه عنها بالكلِّية، وهذا شأْنُ الكافر. وأمَّا المؤمن ــ ولو عصى الله تبارك وتعالى ما عصاه ــ فإنَّه لا ينسلخ من الإيمان بالكلية. ثم قال: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} ولم يقل: فتبعه. فإن في «أتبعه»
(الكتاب/288)
إعلامًا بأنَّه أدركه، ولحِقه، كما قال الله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء/60] أي: لحقوهم، ووصلوا إليهم. ثم قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ففي ذلك دليلٌ على أنَّ مجرد العلم لا يرفع صاحبه، فإن هذا قد أخبر الله سبحانه: أنَّه آتاه آياته، ولم يرفعه بها. فالرفعة بالعلم قدرٌ زائدٌ على مجرّد تعليمه، ثم أخبر سبحانه عن السَّبب الذي منعه أن يُرفع بها، فقال: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وقوله: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} أي: سكن إليها، ونزل بطبعه إليها، فكانت نفسه أرضيَّة سفليةً، لا سماويةً عُلْويةً، وبحسب ما يُخْلد العبد إلى الأرض يهبط من السَّماء. قال سهل: قسم الله للأعضاء من الهوى، لكلِّ عضو منه حظًّا. فإذا مال عضوٌ منها إلى الهوى؛ رجع ضررُه إلى القلب. وللنَّفس سبعُ حُجُبٍ سماويَّةٍ، وسبعُ حجبٍ أرضيَّةٍ، فكلما دفن العبد نفسه أرضًا [74 أ] أرضًا؛ سما قلبُه سماءً سماءً، فإذا دفن النفس تحت الثرى؛ وصل القلبُ إلى العرش. ثم ذكر سبحانه مَثَل المُتَّبع لهواه كمثل الكلب الذي لا يفارقه اللَّهْثُ في حالتَي تركِه والحمل عليه، فهكذا هذا لا يفارقُه اللهثُ على الدُّنيا راغبًا وراهبًا. والمقصودُ: أنَّ هذه السورة من أوّلها إلى آخرها في ذكر حال أهل
(الكتاب/289)
الهوى والشَّهوات، وما آل إليه أمرُهم، فالعشقُ والهوى أصلُ كلِّ بليَّة. قال عدِيُّ بن ثابت (1): كان في بني إسرائيل راهبٌ يعبد الله، حتى كان يُؤتى بالمجانين يُعَوِّذهم فيبرؤون على يديه، وإنه أُتي بامرأة ذات شرفٍ من قومها قد جُنَّت، وكان لها إخوةٌ، فأتوه بها، فلم يزل الشيطانُ يُزيِّن له، حتى وقع عليها، فحملت، فلما استبان حملها لم يزل يُخوِّفه، ويُزيِّن له قتلها، حتى قتلها، ودفنها، فذهب الشيطانُ في صورة رجلٍ، حتى أتى بعض إخوتها، فأخبره بالذي فعل الرَّاهب، ثم أتى بقية إخوتها رجلًا رجلًا، فجعل الرجل يلقى أخاه، فيقول: والله لقد أتاني آتٍ، فذكرَ لي شيئًا كبُر عليَّ ذكرُه، فذكر ذلك بعضُهم لبعض، حتى رفعوا ذلك إلى ملكهم، فسار الناس إليه، حتى استزلوه من صومعته، فأقر لهم بالذي فعل، فأُمر به، فصُلِب، فلما رُفع على الخشبة تمثَّل له الشيطان، فقال: أنا الذي زيَّنْتُ لك هذا، وألقيتُك فيه، فهل أنت مُطيعي فيما أقول لك، وأُخلِّصُك؟ قال: نعم! تسجد لي سجدةً واحدةً. فسجد له، وقُتل الرَّجل، فهو قول الله عز وجل: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر/16]. وقال واصل مولى أبي عُيَيْنَة (2): دخلت على محمَّد بن سيرين، _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 115 - 116) عنه. (2) أخرجه الخرائطي (ص 116).
(الكتاب/290)
فقال لي: هل تزوّجت؟ قلتُ: لا، قال: وما يمنعُك؟ قلت: قلَّة الشيء، قال: تزوّجَ عبد الله بن محمَّد بن سيرين ولا شيءَ له، فرزقه الله. ثم حدَّث أنَّ امرأةً من بني إسرائيل ـ يُقال لها: ميسُونة ـ خاصمت إلى حَبْرَيْن من بني إسرائيل، فعلقاها. قال: وكان كلُّ واحدٍ منهما يكتُمُ [74 ب] صاحبه ما يجدُ منها، فأُخبرا أنَّها في حائط تغتسلُ، قال: فجاءا، فتسوَّرا عليها الحائط. فلما رأتهما؛ دخلت غمرًا من الماء، فوارت نفسها، فقالا لها: إنَّك إن لم تفعلي غدونا، فشهدنا عليك بالزُّور، فأَبتْ فشهدا عليها. فلما قُرِّبتْ؛ ليُقام عليها الحدُّ؛ نزل الوحي على دانيال بتكذيبهما. فهذا بعضُ فتنة العشق. وقد روى شعبة (1) عن عبد الملك بن عُمَيْر قال: سمعتُ مُصعب ابن سعدٍ يقول: كان سعدٌ يُعلِّمنا هذا الدُّعاء، ويذكرُه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من فتنة النساء، وأعوذ بك من عذاب القبر». وقال الحسن بن عرفة (2): حدّثنا أبو معاوية الضَّرير عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنَّه لم يكنْ كفرُ من مضى إلا من قبل النساء، وهو كفرُ من بقي أيضًا. _________ (1) أخرج من طريقه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 117)، و «مكارم الأخلاق» (ص 93)، وإسناده ضعيف. (2) أخرج من طريقه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 120 - 121)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 163).
(الكتاب/291)
وقد روى سفيان بن عُيينة (1) عن سليمان التَّيْمي، عن أبي عثمان النَّهْدي، عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركت على أُمَّتِي بعدي أضرَّ على الرِّجال من النِّساءِ». وروى أبو إسحاق (2) عن هُبيرة بن يَرِيم، عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أخوفَ ما أخافُ على أُمَّتي الخمر والنِّسَاءُ». وقال عليُّ بن حرب (3): حدَّثنا سفيان بن عُيَيْنَةَ عن عليِّ بن زيد، عن سعيد بن المسيَّب، قال: ما أيس الشيطانُ من أحدٍ قطُّ إلَّا أتاه من قِبَل النِّساء. وروى سفيان بن حسين (4) عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قيل لآدم: ما حملك على أكلِ الشجرة؟ قال: يا ربّ! زَيَّنتْ لي حوَّاءُ، قال: فإني قد عاقبتُها لا تحملُ إلاَّ كَرْهًا، ولا تضعُ إلا كرهًا، وأدميتُها في الشهر مرَّتين. وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما أو غيرُه: «أوَّلُ فتنة بني إسرائيل _________ (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه بهذا الطريق الخرائطي (ص 121)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (14/ 79)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 155 - 156). وسبق الكلام عليه. (3) أخرجه بهذا الطريق الخرائطي (ص 121)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 166)، وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 164). (4) أخرجه بهذا الطريق الخرائطي (ص 122)، والطبري في «تفسيره» (8/ 144).
(الكتاب/292)
كانت من قبل النساء». قالوا: ويكفي من مضرَّة العشق ما اشتهر من مصارع العشاق، وذلك موجودٌ في كلِّ زمان. فهذا بعضُ ما احتجَّت به هذه الفرقة لقولها. ونحن نعقدُ للحكم بين الطائفتين بابًا مستقلًّا بعون الله تعالى.
(الكتاب/293)
[75 أ] الباب السَّادس عشر في الحُكْم بين الفريقين وفصل النِّزاع بين الطائفتين
فنقول: العشق لا يُحْمدَ مطلقًا، ولا يُذَمُّ مطلقًا، وإنَّما يُحْمَد ويُذَمُّ باعتبار متعلَّقه، فإنَّ الإرادة تابعةٌ لمرادها، والحبُّ تابعٌ للمحبوب، فمتى كان المحبوبُ ممَّا يُحَبُّ لذاته، أو وسيلةً تُوصِله إلى ما يُحَبُّ لذاته؛ لم تُذَمَّ المبالغةُ في محبَّته، بل تُحْمَدُ، وصلاحُ حالِ المُحبِّ لذلك بحسب قوَّة محبته. ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبِّه كلَّها لله تعالى وحده، بحيث يحبُّ الله بكلِّ قلبه، ورُوحه، وجوارحه، فَيُوَحِّد محبوبَه، ويوحِّد حبَّه، وسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ في باب: توحيد المحبوب: أن المحبة لا تصحُّ إلا بذلك، فتوحيدُ المحبوب (1) ألاَّ يتعدَّد محبوبُه، وتوحيدُ الحبِّ ألاَّ يبقى في قلبه بقيةُ حبٍّ، حتى يبذلَها له، فهذا الحبّ وإن سمي: عشقًا، فهو غايةُ صلاح العبد، ونعيمه، وقرَّةِ عينه. وليس لقلبه صلاحٌ، ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن تكون محبتُه لغير الله تابعةً لمحبة الله، فلا يُحبُّ إلا _________ (1) «أن المحبة ... المحبوب» ساقطة من ش.
(الكتاب/294)
الله، كما في الحديث الصحيح (1): «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بِهِنَّ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسُولُهُ أحبَّ إليهِ ممَّا سواهُما، ومن كان يُحب المرءَ لا يُحِبّهُ إلاَّ لله، ومنْ كان يكرهُ أن يرجع في الكُفرِ بعد إذ أنْقذَهُ الله منهُ، كما يكره أن يُلقَى في النَّار». فأخبر أنَّ العبد لا يجدُ حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحبَّ إليه ممَّا سواه، ومحبَّته رسوله هي من محبته، ومحبَّة المرء إن كانت لله؛ فهي من محبَّة الله، وإنْ كانت لغير الله؛ فهي مُنقصةٌ لمحبَّة الله، مُضْعِفةٌ لها، وتصدُق هذه المحبَّة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه ــ وهو الكفر ــ بمنزلة كراهيته لإلقائه في النَّار أو أشدَّ. ولا ريب أنَّ هذا من أعظم المحبة، فإنَّ الإنسان لا يقدِّم على محبَّة [75 ب] نفسه وحياته شيئًا، فإذا قدَّم محبَّة الإيمان بالله على نفسه، بحيث لو خُيِّر بين الكفر وإلقائه في النَّار؛ لاختار أن يُلقى في النَّار، ولا يكفر؛ كان الله أحبَّ إليه من نفسه، وهذه المحبَّةُ فوق ما يجده سائر العُشَّاق والمُحبِّين من محبَّة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبَّة، كما لا مثل لمن تعلَّقتْ به، وهي محبَّةٌ تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس، والمال، والولد، وتقتضي كمال الذُّل، والخضوع، والتعظيم، والإجلال، والطاعةِ، والانقياد ظاهرًا وباطنًا، وهذا لا نظير له في محبَّة مخلوقٍ، _________ (1) أخرجه البخاري (16، 21)، ومسلم (43) من حديث أنس.
(الكتاب/295)
ولو كان المخلوقُ من كان. ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة؛ كان مشركًا شركًا لا يَغفِرهُ الله، كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165] والصحيح أن معنى الآية: أنّ الذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله من أهل الأنداد لأندادهم، كما تقدَّم بيانه: أنَّ محبَّة المؤمنين لربهم لا يُماثلها محبَّةُ مخلوقٍ أصلًا، كما لا يماثل محبوبهم غيره، وكلُّ أذًى في محبة غيره؛ فهو نعيمٌ في محبته، وكلُّ مكروه في محبة غيره؛ فهو قُرّة عين في محبته. ومَنْ ضرب لمحبته الأمثال التي هي في محبة المخلوق للمخلوق، كالوصل، والهجر، والتَّجَنِّي بلا سبب من المحب، وأمثال ذلك ممَّا يتعالى الله عنه عُلوًّا كبيرًا؛ فهو مخطئٌ أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيقٌ بالإبعاد والمقت. والآفة إنَّما هي من نفسه، وقلَّة أدبه مع محبوبه، والله تعالى نهى أن يَضْرب عبادُه له الأمثال، فهو لا يُقاس بخلقه. وما ابتدع من ابتدع إلا من ضَرْبِ الأمثالِ له سبحانه، فأصحابُ الكلام المُحدث المبتدع ضربوا له الأمثال الباطلة في الخبر عنه وما يُوصف به، وأصحابُ الإرادة المنحرفة ضربُوا له الأمثال في الإرادة والطلب، وكلاهما على بِدْعَةٍ وخطأ. والعشقُ إذا تعلَّق بما يحبُّه الله ورسوله، [76 أ] كان عشقًا ممدوحًا
(الكتاب/296)
مثابًا عليه، وذلك أنواع: أحدُها: محبَّةُ القرآن بحيث يغْنَى بسماعه عن سماع غيره، ويَهيم قلبُه في معانيه، ومراد المتكلِّم سبحانه منه، وعلى قدر محبَّة الله تكون محبَّة كلامه، فمن أحبَّ محبوبًا؛ أحبّ حديثه، والحديث عنه، كما قيل (1): إن كنت تزْعُمُ حبِّي ... فَلِمْ هجرتَ كتابي؟ أمَا تأمَّلت مَا فِيـ ... ــه من لذيذ خطابي؟! وكذلك محبَّةُ ذكرهِ سبحانه وتعالى من علامة محبَّته، فإنَّ المحبَّ لا يشبعُ منْ ذكر محبوبه، بل لا ينساه، فيحتاجُ إلى من يُذكِّرهُ به. وكذلك من يحبُّ سماعَ أوصافِه، وأفعاله، وأحكامه، فعشقُ هذا كلِّه من أنفع العِشْق، وهو غايةُ سعادة العاشق، وكذلك عشقُ العلم النَّافع، وعشق أوصافِ الكمال من الكرم، والجود، والعِفَّة، والشَّجاعة، والصَّبر، ومكارم الأخلاق، فإن هذه الصفات لو صُوِّرت صُورًا؛ لكانت من أجمل الصُّور، وأبهاها، ولو صُوِّر العلم صورة؛ لكانت أجمل من صورة الشمس والقمر، ولكنَّ عشق هذه الصِّفات إنَّما يُناسب الأنفس الشريفة الزكيَّة، كما أن محبَّة الله، ورسوله، وكلامه، ودينه إنَّما تناسبُ الأرواح العُلْويَّة، السَّمائيَّة الزكيّة، لا الأرواح الأرضيَّة الدَّنيَّة، فإذا أردت _________ (1) البيتان في «الجواب الكافي» (ص 224).
(الكتاب/297)
أن تعرِف قيمة العبد وقدره؛ فانظر إلى محبوبه ومُراده، واعلم أنَّ العشق المحمود لا يعرِضُ فيه شيءٌ من الآفات المذكورة. بقي ها هنا قسمٌ آخرُ، وهو عشقٌ محمودٌ، يترتَّب عليه مُفارقة المعشوق، كمن يعشقُ امرأته، أو أمته، فيفارقُها بموتٍ أو غيره، فيَذهبُ المعشوقُ، ويبقى العِشْقُ كما هو، فهذا نوعٌ من الابتلاء، إن صبرَ صاحبُه، واحتسب؛ نال ثواب الصَّابرين، وإن سَخِط، وجزع؛ فاته معشوقُه وثوابُه، وإن قابل هذه البلوى بالرِّضا والتسليم، فدرجتُه فوق درجة الصبر. وأعلى من ذلك أن يقابلها بالشُّكر نظرًا إلى حسن اختيار الله له؛ فإنَّه ما يقضي الله [76 ب] للمؤمن قضاءً إلاَّ كان خيرًا له، فإذا علم أنَّ هذا القضاء خيرٌ له؛ اقتضى ذلك شكرَه لله على ذلك الخير الذي قضاه له، وإنْ لم يعلم كونه خيرًا له، فليسلِّم للصَّادق المصدوق في خبره المؤكَّد باليمين، حيث يقول: «والَّذي نَفْسي بيَدِهِ لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلَّا كان خيرًا له، إن أصابَتْهُ سرّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر، فكان خيرًا لهُ، وليس ذلك إلا للمُؤمن» (1). وإيمانُ العبد بأمرِه أن يعتقد أن ذلك القضاءَ خيرٌ له، وذلك يقتضي شكر من قضاه وقدَّره، وبالله التوفيق. _________ (1) أخرجه مسلم (2999) من حديث صهيب بن سنان.
(الكتاب/298)
الباب السابع عشر في استحباب تخيُّر الصورة الجميلة للوِصال الذي يحبُّه الله ورسوله
قال الله تعالى عقيب ذكره ما أحلَّ لعباده من الزَّوجات والإماء، وما حرَّم عليهم: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء/26 ــ 28] أي: لا يصبرُ عن النساء، كما ذكر الثوريُّ عن ابن طاوس عن أبيه {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء/28]. قال: إذا نظر إلى النِّساء لم يصبر. وكذلك قال غيرُ واحدٍ من السلف. ولما كانت الشَّهوةُ في هذا الباب غالبةً، لابدَّ أن توجبَ ما يوجب التوبة؛ كرَّر سبحانه وتعالى ذكر التوبة مرّتين، فأخبر أن مُتَّبعي الشَّهوات يُريدون من عباده أن يميلوا ميلًا عظيمًا، وأخبر سبحانه وتعالى: أنه يُريد التخفيف عنَّا لضعفنا، فأباح لنا أن ننكحَ ما طاب لنا من أطايب النساء أربعًا، وأن نتسرَّى من الإماء بما شئنا. ولمَّا كان العبدُ له في هذا الباب ثلاثة أحوال: حالةُ جهلٍ بما يَحِلُّ له ويحرمُ، وحالةُ تقصيرٍ وتفريط، وحالةُ ضعفٍ وقلَّة صبرٍ؛ قابل سبحانه
(الكتاب/299)
جهل عبده بالبيان والهدى، وتقصيرَه [77 أ] وتفريطه بالتوبة، وضعفه وقلَّة صبره بالتَّخفيف. وقال عبد الله بن أحمد في كتاب «الزُّهد» (1) لأبيه: حدَّثنا أبو مَعْمَر، حدَّثنا يُوسف بن عطية عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاة، وحُبِّب إليَّ النِّسَاءُ، والطِّيبُ، الجائعُ يشبعُ، والظَّمآنُ يَرْوى، وأنا لا أشبع من حُبِّ الصلاةِ والنِّسَاء»، وأصله في صحيح مسلم (2) بدُون هذه الزِّيادة. وفي صحيح مسلم (3): من حديث عُروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أصاب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا بني المُصْطَلِق؛ وقعتْ جُوَيْرِية بنت الحارث بن أبي ضرار في السَّهم لثابت بن قيس بن الشمَّاس، ــ أو لابن عمٍّ له ــ فكاتبتْ على نفسها، وكانت امرأةً جميلةً حُلوةً، لا يراها أحدٌ إلا أخذتْ بنفسه، فأتتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستعينُه على كتابتها. قالت: _________ (1) لم أجده في المطبوع. وقد روى الشطر الأول منه أحمد (3/ 128)، والنسائي (7/ 561) من طريق سلام أبي المنذر عن ثابت عن أنس وحسنه الحافظ في التلخيص (3/ 116). (2) لم أجده فيه. (3) لم يروه مسلم، وقد رواه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/ 294 - 295) و من طريقه أبو داود (3931)، والخرائطي في اعتلال القلوب (ص 150)، والبيهقي في دلائل النبوة (4/ 49 - 50).
(الكتاب/300)
فو الله ما هو إلا أن رأيتُها على باب الحُجْرة، فكرهتُها، وعلمتُ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى منها ما رأيتُ، فقالت: يا رسول الله! أنا جُويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيِّد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يَخْفَ عليك، فوقعتُ في السَّهم لثابت بن قيس بن الشَّمَّاس ــ أو لابن عمٍّ له ــ فجئتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستعينُه. قال: «فهل لك في غير ذلك؟» قالت: وما هو؟ قال: «أقضي كتابَتَكِ، وأتزوَّجُك» قالت: نعم يا رسول الله! قد فعلتُ، وخرج الخبرُ إلى النَّاس: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوَّج جويرية بنت الحارث، فقال النَّاس: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلُوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أُعتِق بتزويجه إيَّاها مئةُ أهل بيتٍ من بني المُصْطلِق، فما أعلمُ امرأةً كانت أعظم بركةً على قومها منها. وقال عبد الله بن عمر (1) رضي الله عنهما: خرج سهمي يوم جلولاء جارية كأنَّ عنقها إبريقُ فِضَّة، فما ملكتُ نفسي أن قمتُ إليها فقبَّلتُها. وفي الصحيحين (2) من حديث أنس رضي الله عنه قال: قدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [77 ب] خيبر، فلما افتتح الله عليه الحِصن، ذُكر له جمالُ صفيَّة بنت حُيَيٍّ، وقد قُتل زوجها، وكانت عروسًا، فاصطفاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، فخرج بها حتى بلغَا سدَّ الرَّوحاء، فبنى بها، ثم صنع حَيْسًا في نِطْع _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 151). (2) البخاري (371، 4211)، ومسلم (1365).
(الكتاب/301)
صغيرٍ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «آذنْ من حولك» فكانت تلك وليمةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صفية، ثم خرجنا إلى المدينة، فرأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحَوِّي لها وراءه بعباءةِ، ثم يجلس عند بعيره فيضعُ ركبته، فتضعُ صفيةُ رجلها عند ركبته حتى تركب. وعند أبي داود (1) في هذه القصَّة قال: وقع في سهم دِحية جاريةٌ جميلةٌ، فاشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعة أرْؤُس، ثمَّ دفعها إلى أُم سُليم، تُصنِّعُها، وتهيئُها، وتعتدُّ في بيتها، وهي صفية بنتُ حُيَيٍّ. وقال أبو عبيدة (2): حجَّ عبد الملك بنُ مروان ومعه خالد بن يزيد بن معاوية، وكان خالد هذا من رجال قريش المعدودين، وكان عظيم القدر عند عبد الملك، فبينا هو يطوفُ بالبيت، إذ بَصُرَ برملة بنت الزُّبير بن العوام، فعشقها عشقًا شديدًا، ووقعت بقلبه وقوعًا متمكِّنًا، فلما أراد عبد الملك القُفُول؛ همَّ خالدٌ بالتخلُّف عنه، فوقع بقلب عبد الملك تهمة، فبعث إليه، فسأله عن أمره، فقال: يا أمير المؤمنين! رملةُ بنت الزُّبير، رأيتها تطوفُ بالبيت، فأذهلت عقلي، والله ما أبديتُ إليك ما بي حتى عِيلَ صبري، ولقد عرضتُ النوم على عيني، فلم تقبله، والسُّلُوَّ على قلبي، فامتنع منه. فأطال عبد الملك التَّعجُّبَ من ذلك، وقال: ما _________ (1) رقم (2997). (2) أخرجه الخرائطي (ص 152 - 153)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 167 - 168).
(الكتاب/302)
كنتُ أقول: إنَّ الهوى يستأسرُ مثلك، قال: فإني لأشدُّ تعجُّبًا من تعجُّبك منِّي. ولقد كنت أقول: إنَّ الهوى لا يتمكَّن إلاَّ من صنفين من النَّاس: الشُّعراء والأعراب. أما الشعراءُ فإنَّهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء، ووصفِهنَّ، والغزل، فمالَ طبعهم إلى [78 أ] النساء، فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى، فاستسلموا إليه منقادين. وأمَّا الأعراب فإنَّ أحدهم يخلو بامرأته، فلا يكون الغالبُ عليه غير حبِّه لها، ولا يشغلُه عنه شيءٌ، فضعفوا عن دفع الهوى، فتمكَّن منهم. فما رأيتُ نظرةً حالت بيني وبين الحزم، وحسَّنت عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه. فتبسَّم عبد الملك، وقال: أوَكلّ هذا قد بلغ بك؟ فقال: والله ما عرتني هذه البليَّةُ قبل وقتي هذا، فوجَّه عبد الملك إلى آل الزُّبير يخطُب رملة على خالد، فذكروا لها ذلك، فقالت: لا والله أو يُطلِّق نساءه! فطلَّق امرأتين كانتا عنده، وظعن بها إلى الشام، وكان يقول (1): أليس يزيدُ الشوقُ في كلِّ ليلةٍ ... وفي كلِّ يومٍ من حبيبتنا قُرْبا خليليَّ ما مِن ساعةٍ تذكُرانِها ... من الدهر إلا فرَّجتْ عنِّي الكرْبا _________ (1) بعض هذه الأبيات لخالد بن يزيد في «الأغاني» (17/ 344)، و «زهر الآداب» (1/ 393)، و «الكامل» للمبرد (1/ 450)، و «الحماسة البصرية» (2/ 228)، و «معجم الأدباء» (3/ 1241)، و «وفيات الأعيان» (2/ 224، 225).
(الكتاب/303)
أحِبُّ بني العوَّام طُرًّا لِحُبِّها ... ومن أجلها أحببتُ أخوالها كلبا تجولُ خلاخيلُ النِّساء ولا أرى ... لرملة خلخالًا جولُ ولا قُلْبَا وذكر الخرائطي (1): أنَّ بشر بن مروان كان إذا ضرب البعث على أحدٍ من جنده، ثمَّ وجده قد أخلّ بمركزه؛ أقامه على كرسيٍّ، ثم سمَّر يديه في الحائط، ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه، فلا يزالُ يتشحط حتى يموت، وأنَّه ضرب البعث على رجلٍ عاشقٍ حديث عهد بعرس ابنة عمِّه، فلما صار في مركزه؛ كتب إلى ابنة عمِّه كتابًا، ثم كتب في أسفله: لولا مخافةُ بشرٍ أو عقوبته ... وأن يُرى بعد ذا في الكف مسمارُ إذًا لعطّلتُ ثغري ثم زُرْتكم ... إنَّ المحبَّ إذا ما اشتاق زوَّارُ فلما ورد عليها الكتاب؛ أجابته عنه، ثم كتبتْ في أسفله: ليس المحبُّ الذي يخشى العقاب ولو ... كانتْ عقوبتُه في فجوةِ النَّارِ [78 ب] بل المحبُّ الذي لا شيء يُفْزِعُه ... أو يَستقِرَّ ومن يهواهُ في الدَّار فلما قرأ الكتاب قال: لا خير في الحياة بعد هذا! وأقبل حتى دخل _________ (1) «اعتلال القلوب» (ص 304 ـ 305)، والخبر والشعر في «الزهرة» (1/ 287، 288). ورواهما القالي في أماليه (2/ 30 ـ 31) بأطول مما هنا عن الأصمعي.
(الكتاب/304)
المدينة، فأتى بشر بن مروان في وقت غدائه، فلمَّا فرغ من غدائه؛ أُدخل عليه، فقال: ما الذي دعاك إلى تعطيل ثغرك؟ أما سمعت النداء؟ فقال: اسمع عُذْري، فإمَّا عفوتَ، وإما عاقبت. فقال: ويلك! وهل لك من عذرٍ؟ فقصَّ عليه قصَّته وقصَّة ابنة عمِّه، فقال: أوْلى لكما. يا غلام! خُطَّ على اسمه من البَعْث، وأعطِهِ عشرة آلاف درهم، والحقْ بابنة عمِّك. سهرتُ ومنْ أهدى لي الشَّوق نائمُ ... وعذَّبَ قلبي بالهوى وهو سالمُ (1) فواحسرتا حتَّى متى أنا قائلٌ ... لمنْ لامني في حُبِّكم أنت ظالمُ وحتَّى متى أُخفي الهوى وأُسِرُّه ... وأدفِنُ شوقي الحَشَا وأُكاتمُ أريدُ الذي قد سرَّكم بمساءتي ... ليفعل واشٍ أو ليعذُر لائمُ وقال آخر (2): بي لا بها ما أُقاسي من تجَنِّيها ... ومن جوى الحُبِّ في الأحْشاء أفْدِيها والله يعلم أني لا أُسرُّ بأن ... تلقى منْ الوجد ما لاقيتُه فيها خوف البكاء كما أبكي فيترُكني ... أبكي على كبدي طورًا وأبكيها وقال العبَّاس بن هشام الكلبي (3): ضرب عبد الملك بن مروان بعثًا إلى اليمن، فأقاموا سنين، حتى إذا كان ذات ليلة وهو بدمشق قال: والله _________ (1) الأبيات في «اعتلال القلوب» (ص 305) وقبلها: «أنشدني الحسين بن زياد». (2) الأبيات في المصدر السابق (ص 305). (3) أخرجه الخرائطي (ص 272). والخبر والشعر في بهجة المجالس (2/ 46، 47).
(الكتاب/305)
لأعُسَّنَّ الليلة مدينة دمشق، ولأسمعنَّ الناسَ ما يقولون في البعث؛ الذي أغزيت فيه رجالهم، وأغرمتُهم أموالهم! فبينا هو في بعض أزقَّتها إذا هو بصوت امرأة قائمة تُصلِّي، فتسمَّع إليها، فلما انصرفتْ إلى مضجعها قالت: اللَّهُمَّ مُسيِّر السحب، ومُنزلَ الكُتب، ومعطي الرغب، أسألك أن تؤدي غائبي، فتكشف به همِّي، وتُقِرَّ به عيني، وأسألك [79 أ] أن تحكم بيني وبين عبد الملك بن مروان، الذي فعل بنا هذا، ثم أنشأت تقول: تطاول هذا اللَّيلُ فالعينُ تدمعُ ... وأرَّقني حُزنٌ لقلبي مُوجِعُ فَبِتُّ أُقاسي اللَّيْل أَرْعى نُجومَه ... وباتَ فُؤادي بالجَوى يتقطَّعُ إذا غاب منها كوكبٌ في مغيبه ... لمَحْتُ بعيني كوكبًا حين يطْلعُ إذا ما تذكَّرتُ الذي كان بيننا ... وجدتُ فُؤادي حسرةً يتصدَّعُ وكلُّ حبيبٍ ذاكرٌ لحبيبه ... يُرَجِّي لقاه كلَّ يومٍ ويطمعُ فذا العرش فَرِّج ما ترى من صبابتي ... فأنت الذي يدعو العبادُ فيسمعُ دعوتُكَ في السَّرَّاءِ والضُرِّ دعوةً ... على حاجةٍ بين الشراسيف تلْذَعُ فقال عبد الملك لحاجبه: تعرِفُ هذا المنزل؟ قال: نعم! هذا منزلُ يزيد بن سنان. قال: فما المرأة منه؟ قال: زوجتُه، فلما أصبح سأل كم تصبرُ المرأة عن زوجها؟ قالوا: ستة أشهر. وقال جرير بن حازم (1)، عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جُبير _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 183 - 184). وأخرجه عن السائب بن جبير بنحوه: السراج في مصارع العشاق (2/ 146)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 282 - 283). وانظر الأوائل (2/ 190)، والمستجاد (ص 229).
(الكتاب/306)
قال: كان عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه إذا أمسى؛ أخذ دِرَّته، ثم طاف بالمدينة، فإذا رأى شيئًا يُنكره؛ أنكرَه، فبينا هو ذات ليلة يعُسُّ؛ إذ مرَّ بامرأةٍ على سطْحٍ، وهي تقول: تطاول هذا اللَّيلُ واخْضَلَّ جانبُه ... وأرَّقَني ألَّا خليلٌ أُلاعبُهْ فوالله لولا الله لا ربَّ غيرُه ... لَحُرِّك من هذا السَّريرِ جَوانبُهْ مخافةُ رَبِّي والحياءُ يكفُّني ... وأُكرِمُ بعلي أنْ تُنالَ مراكبُهْ ثم تنفَّست الصُّعَداء، وقالت: لهان على عمر بن الخطاب ما لقيتُ الليلة، فضرب باب الدَّار، فقالت: من هذا الذي يأْتي إلى امرأة مُغِيبَةٍ هذه السَّاعة؟ فقال: افتحي! فأبتْ، فلمَّا أكثر عليها؛ قالت: أما والله لو بلغ أمير المؤمنين؛ لعاقبَك، فلما رأى عفافها؛ قال: [79 ب] افتحي، فأنا أميرُ المؤمنين، قالت: كذبت، ما أنت أمير المؤمنين! فرفع بها صوته، وجهر لها، فعرفتْ أنَّه هو، ففتحت له، فقال: هِيهِ! كيف قلتِ؟ فأعادتْ عليه ما قالت، فقال: أين زوجُكِ؟ قالت: في بَعْثِ كذا، وكذا، فبعث إلى عامل ذلك الجند: أنْ سَرِّحْ فلان بن فلان، فلمَّا قَدِمَ عليه؛ قال: اذهب إلى أهلك. ثم دخل على حَفْصة ابنتِه، فقال: أي بُنَيَّة! كم تصبِرُ المرأةُ عن زوجها؟ قالت: شهرًا، واثنين، وثلاثة، وفي الرابع يَنْفَد الصَّبرُ،
(الكتاب/307)
فجعل ذلك أجلًا للبَعْث. وهذا مطابقٌ لجعل الله سبحانه وتعالى مُدة الإيلاء أربعةَ أشهرٍ، فإنَّه سبحانه وتعالى علم أنَّ صبر المرأة يضعُف بعد الأربعة، ولا تحتمل قوَّةُ صبرها أكثر من هذه المدَّة، فجعلها أجلًا للمُولي، وخيَّرها بعد الأربعة إن شاءت أقامت معه، وإن شاءتْ فسختْ نكاحه، فإذا مضت الأربعةُ أشهر عِيْلَ صبرُها. قال الشاعر (1): ولما دعوتُ الصَّبْرَ بعدك والبُكا ... أجابَ البُكا طوعًا ولم يُجِبِ الصبرُ _________ (1) البيت ساقط من ش. وهو للعباس بن الأحنف في «ديوانه» (ص 161)، وبلا نسبة في «ديوان الصبابة» (ص 207).
(الكتاب/308)
الباب الثَّامن عشر في أنَّ دواء المُحبِّين في كمال الوصال الذي أباحه ربُّ العالمين
وقد جعل الله سبحانه وتعالى لكلِّ داءٍ دواء، ويسَّر الوصول إلى ذلك الدواء شرعًا وقدرًا، فمن أراد التَّداوي بما شرعه الله له، واستعان عليه بالقدر، وأتى الأمر من بابه؛ صادف الشِّفاء، ومن طلب الدَّواء بما منعه منه شرعًا ــ وإن امتحنه به قدرًا ــ فقد أخطأ طريق المُداواة، وكان كالمتداوي من داءٍ بداءٍ أعظم منه، وقد تقدَّم حديث طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لمْ يُرَ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلُ النكاح» (1). وقد اتفق رأْيُ العقلاء من الأطباء وغيرهم في مواضعة الأدوية: أنَّ شفاء هذا الدَّاءِ في التقاءِ الزَّوجين والتصاق البَدَنَيْنِ. وقد روى مسلم في صحيحه (2): من حديث أبي الزُّبير عن جابرٍ رضي الله عنه أنَّ رسول [80 أ] الله - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأةً، فأتى زينبَ، فقضى حاجتَه منها، وقال: «إنَّ المَرْأةَ تُقْبِلُ في صُورةِ شيطانٍ، وتُدْبِرُ في صُورة _________ (1) تقدم تخريجه. (2) برقم (1403).
(الكتاب/309)
شيطان، فإذا رأى أحدُكم امْرَأةً، فأَعْجَبَتْهُ، فلْيَأْتِ أهْلَهُ؛ فإنَّ ذلك يَرُدُّ ما في نَفْسِهِ». وذكر إسماعيل بنُ عيَّاش (1)، عن شُرَحْبيل بن مسلم عن أبي مسلم الخَولاني رحمه الله أنه كان يقول: يا معشر خَوْلان! زوِّجوا شبابَكم وأياماكم، فإن الغُلْمَة أمرٌ عارمٌ، فأعِدُّوا لها عُدَّتها، واعلموا أنه ليس لمُنْعِظٍ إذن. يُريد أنَّه إذا استأذن عليه أحدٌ فلا إذن له. وذكر العتبيّ (2): أنَّ رجلًا من ولد عثمان، ورجلًا من ولد الحسين خرجا يريدان موضعًا لهما، فنزلا تحت سَرْحَةٍ فأخذ أحدُهما ورقةً، فكتب عليها: خبِّرينا خُصِصْتِ بالغيثِ ياسَرْ ... حُ بصدقٍ والصِّدق فيه شفاءُ وكتب الآخر: هل يموتُ المحبُّ من ألَم الحُبْـ ... ــبِ ويَشفي من الحبيب اللِّقاءُ؟ ثم مضيا، فلما رجعا؛ وجدا مكتوبًا تحت ذلك: إنَّ جهلًا سؤالُك السَّرْحَ عمَّا ... ليس يومًا عليك فيه خَفاءُ ليس للعاشق المُحِبِّ من الحُبْـ ... ــبِ سوى لذَّةِ اللِّقاءِ شفاءُ _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 119). (2) الخبر والأبيات في أدب الغرباء (ص 28، 29)، وبدائع البدائه (ص 89، 90).
(الكتاب/310)
وقال أبو جعفر العدوي (1): لَسكْرُ الهوى أَرْوى لعظمي ومَفصلي ... إذا سكر النَّدمانُ من لذَّةِ الخمرِ وأحسنُ من قَرْعِ المَثاني ونَقْرِها ... تراجيعُ صوتِ الثَّغر يُقْرَعُ بالثغر ولما دعوتُ الصبرَ بعدك والبُكا ... أجاب البُكا طوعًا ولم يُجبِ الصَّبْرُ وقال عبد الله بن صالح (2): كان اللَّيث بنُ سعد إذا أراد الجماعَ؛ خلا في منزلٍ في داره، ودعا بثوبٍ يُقال له البرَّكان، وكان يلبسه إذ ذاك، وكان إذا خلا في ذلك المنزل؛ عُلِم أنَّه يُريد أمرًا، وكان إذا غشي أهله يقول: اللَّهُمَّ شُدّ لي أصله! وارفع لي صَدْرَه! وسهّل عليَّ مدخله ومخرجه! وارزقني لذَّتَه! وهبْ لي ذريَّةً صالحةً [80 ب] تُقاتل في سبيلك! قال: وكان جَهْورِيًّا، فكان يُسْمع ذلك منه. وقال الخرائطيُّ (3): حدَّثنا عمارة بن وثيمة قال: حدَّثني أبي قال: كان عبد الله بن ربيعة من خيار قريش صلاحًا وعفة، وكان ذَكَرُه لا يرقُد، فلم يكن يشهد لقريش خيرًا ولا شرًّا، وكان يتزوّج المرأة، فلا تلبث معه _________ (1) الأبيات لابن كيغلغ في المحب والمحبوب (1/ 129)، والوافي بالوفيات (8/ 401)، ودمية القصر (1/ 167)، وديوان الصبابة (ص 207). (2) أخرجه الخرائطي (ص 119). والخبر في ديوان الصبابة (ص 67). (3) في اعتلال القلوب (ص 119).
(الكتاب/311)
إلاَّ أيامًا حتى تهربَ إلى أهلها، فقالت زينبُ بنت عمر بن أبي سلمة: ما لهنَّ يهربنَ من ابن عمِّهنَّ؟ قيل لها: إنهنَّ لا يُطِقْنَهُ، قالت: فما يمنعُه مني؟ فأنا والله العظيمةُ الخَلْق، الكبيرةُ العَجُز، الفَخْمَةُ الفَرْج! قال: فتزوّجَها، فصبرت عليه، وولدتْ له ستةً من الولد. وقال رشدين بن سعد (1)، عن زهرة بن معبدٍ، عن محمد بن المنكدر: أنَّه كان يدعو في صلاته: اللهمَّ قوِّ لي ذكري! فإنَّ فيه صلاحًا لأهلي. وقال حمَّاد بن زيد (2)، عن هشام بن حَسَّان، عن محمَّد بن سيرين قال: كان لأنس بن مالك غلامٌ، وكان شَبِقًا كثيرًا، فرافعتْه امرأتُه إلى أنسٍ، وقالت: لا أُطِيقُه، ففرض له عليها ستةً في اليوم والليلة. وقال عليّ بنُ عاصم (3): حدَّثنا خالدٌ الحَذَّاء قال: لما خلقَ الله آدم، وخلق حوَّاء؛ قال له: يا آدمُ! اسكنْ إلى زوجِكَ، فقالت له حوَّاء: يا آدمُ! ما أطيبَ هذا! زدنا منه. وفي الصَّحيح (4): أنَّ سليمان بن داود عليهما السلام طاف في ليلةٍ واحدةٍ على تسعين امرأة. _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 119 - 120). (2) أخرجه الخرائطي (ص 120)، والطبراني في الكبير (701). (3) أخرجه الخرائطي (ص 120). (4) أخرجه البخاري (7/ 132)، ومسلم (4523).
(الكتاب/312)
وفي الصَّحيحين (1): أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يطوفُ على نسائه في الليلة الواحدة وهنَّ تسع نسوةٍ، وربما كان يطوفُ عليهنَّ بغسلٍ واحد، وربما كان يغتسلُ عند كلِّ واحدةٍ منهنَّ. وقال المَرُّوذِيُّ: قال أبو عبد الله: ليس العزوبية من أمر الإسلام في شيء، النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تزوَّج أربع عشرةَ، ومات عن تسع، ولو تزوَّج بشرُ بن الحارث تمَّ أمرُه، ولو ترك النَّاسُ النِّكاح؛ لم يكن غزوٌ، ولا حَجٌّ، ولا كذا ولا كذا، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصبح وما عندهم [81 أ] شيء، ومات عن تسع، وكان يختارُ النِّكاحَ، ويَحُثُّ عليه، وينهى عن التَّبَتُّل (2)، فمن رغب عن سنة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فهو على غير الحقِّ. ويعقوبُ في حزنه قد تزوَّج، ووُلد له، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «حُبِّبَ إليَّ النِّساءُ» (3). قلت له: فإنَّ إبراهيم بن أدهم يُحكَى عنه أنَّه قال: لَروعةُ صاحب العيال ... ، فما قدرتُ أن أتمّ الحديث (4)، حتى صاح بي، وقال: وقعتَ في بُنَيَّات الطريق، انظر ما كان عليه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهُ، ثم قال: بكاء الصَّبيِّ بين يديْ أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا. أين يَلحق المتعبّدُ العَزَبُ؟ انتهى كلامه. _________ (1) البخاري (268)، ومسلم (309) من حديث أنس. (2) أخرجه البخاري (5073)، ومسلم (1402) من حديث سعد بن أي وقاص. (3) تقدم تخريجه. (4) تتمته: «أفضل من جميع ما أنا فيه».
(الكتاب/313)
وقد اختلفَ الفقهاءُ: هل يجبُ على الزَّوج مجامعةُ امرأته؟ فقالت طائفة: لا يجب عليه ذلك، فإنَّه حقٌّ له، فإن شاء استوفاه، وإن شاء تركه، بمنزلة من استأْجرَ دارًا، إن شاء سكنَها، وإن شاء تركَها (1). وهذا من أضعف الأقوالِ، والقرآنُ والسُّنَّةُ والعُرْفُ والقياسُ يرُدُّه، أما القرآن، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة/228] فأخبر أنَّ للمرأة من الحقِّ مثل الذي عليها، فإذا كان الجماعُ حقًّا للزَّوج عليها؛ فهو حقٌ لها على الزَّوج بنصِّ القرآن، وأيضًا فإنَّه سبحانه وتعالى أمرَ الأزواج أن يُعاشروا الزوجات بالمعروف، ومنْ ضدِّ المعروف أن يكون عنده شابَّةٌ، شهوتُها تعدِلُ شهوة الرجل، أو تزيد عليها بأضعاف مضاعفة، ولا يُذيقُها لذَّة الوطء مرَّة واحدةً، ومن زعم: أنَّ هذا من المعروف؛ كفاه طبعُه ردًّا عليه. والله سبحانه وتعالى إنَّما أباح للأزواج إمساك نسائهم على هذا الوجه، لا على غيره، فقال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة/229]. وقال طائفةٌ: يجب عليه وَطْؤُها في العُمْر مرّةً واحدةً؛ ليستقرَّ لها بذلك الصَّداق. وهذا من جنس القول الأوَّل، وهو باطلٌ من وجهٍ آخر، فإنَّ المقصود إنَّما هو المعاشرةُ بالمعروف، والصَّداقُ دخل في العقْد تعظيمًا لحُرْمته، وفرقًا بينه وبين السِّفاح، فوجوبُ المقصود بالنّكاح _________ (1) «فإن شاء استوفاه ... تركها» ساقطة من ت.
(الكتاب/314)
أقوى من وجوب الصَّداق. وقالت طائفةٌ ثالثةٌ: يجبُ عليه [81 ب] أن يطأها في كلِّ أربعة أشهر مرَّة، واحتجُّوا على ذلك بأنَّ الله سبحانه وتعالى أباحَ للمولي تَرَبُّص أربعة أشهر، وخيَّر المرأة بعد ذلك، إنْ شاءت أن تقيمَ عنده، وإن شاءت أن تفارِقه. فلو كان لها حقٌّ في الوَطءِ أكثر من ذلك؛ لم يجعلْ للزَّوج تركَه في تلك المدَّة. وهذا القول وإن كان أقرب من القولين اللَّذين قبله؛ فليس أيضًا بصحيح، فإنه غير المعروف الذي لها وعليها. وأما جعلُ مدَّة الإيلاء أربعة أشهر؛ فنظرًا منه سبحانه للأزواج، فإن الرجل قد يحتاج إلى ترك وطءِ امرأته مدَّة لعارضٍ منْ سفرٍ، أو تأْديبٍ، أو راحةِ نفس، أو اشتغال بمهم، فجعل الله سبحانه وتعالى له أجلًا أربعة أشهر، ولا يلزم من ذلك أن يكون الْوَطءُ مؤقتًا في كلِّ أربعة أشهر مرَّة. وقالت طائفة أُخرى: بل يجبُ عليه أن يَطَأها بالمعروف، كما ينفق عليها، ويكسوها، ويُعاشرها بالمعروف، بل هذا عمدةُ المعاشرة ومقصودُها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرَها بالمعروف، فالوَطْءُ داخلٌ في هذه المعاشرة ولابدَّ. قالوا: وعليه أن يُشبعها وَطْأً إذا أمكنه ذلك، كما عليه أن يُشبعَها قوتًا. وكان شيخنا ــ رحمه الله تعالى ــ يرجِّح هذا القول ويختاره. وقد حضَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على استعمال هذا الدواء، ورغَّب فيه، وعلَّق
(الكتاب/315)
عليه الأجرَ، وجعله صدقةً لفاعله، فقال: «وفي بُضْعِ أحدِكُمْ صدَقَةٌ» (1). ومن تراجم النَّسائي على هذا: الترغيب في المُباضعة، ثم ذكر هذا الحديث، ففي هذا كمال اللذَّة، وكمال الإحسان إلى الحبيبة، وحصول الأجر، وثواب الصدقة، وفرح النفس، وذهاب أفكارها الرديئة عنها، وخفَّةُ الرُّوح، وذهابُ كثافتها وغِلَظها، وخفَّةُ الجسم، واعتدالُ المزاج، وجلبُ الصِّحة، ودفع الموادِّ الرديئة، فإن صادف ذلك وجهًا حسنًا، وخُلقًا دَمِثًا، وعشقًا وافرًا، ورغبةً تامةً، واحتسابًا للثواب؛ فذلك اللذَّة التي لا يُعادلها شيءٌ، ولاسيَّما إذا وافقتْ كمالها، فإنَّها [82 أ] لا تكمل حتى يأخذَ كلُّ جزءٍ من البدن بِقسْطه من اللَّذَّة، فتلتذُّ العين بالنَّظر إلى المحبوب، والأُذُن بسماع كلامه، والأنفُ بشمِّ رائحته، والفم بتقبيله، واليد بلمسه، وتعتكفُ كلُّ جارحةٍ على ما تطلبُه من لذَّتها، وتُقابله من المحبوب؛ فإن فُقِدَ من ذلك شيءٌ، لم تزل النفسُ متطلِّعةً إليه، متقاضيةً له، فلا تسكُن كلَّ السُّكون. ولذلك تسمَّى المرأة سكنًا؛ لسكون النفس إليها، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم/21]. ولذلك فُضِّلَ جماعُ النهار على جماع الليل، ولسببٍ آخر طبيعي، وهو أن الليلَ وقتٌ تبرُد فيه الحواسُّ،، وتطلبُ حظَّها من السُّكون، _________ (1) أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر.
(الكتاب/316)
والنَّهارُ محلُّ انتشار الحركات، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان/47]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس/67] وتمامُ النِّعمة في ذلك فرحة المحب برضا ربِّه تعالى بذلك، واحتسابُ هذه اللَّذَّة، ورجاءُ تثقيل ميزانه بها. ولذلك كان أحبَّ شيءٍ إلى الشيطان أن يُفرّق بين الرجل وبين حبيبه؛ ليتوصل إلى تعويض كلٍّ منهما عن صاحبه بالحرام، كما في السنن (1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «أَبْغضُ الحَلال إلى الله الطَّلاق». وفي صحيح مسلم (2) من حديث جابرٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ إبليس ينصبُ عرشه على الماء، ثُمَّ يَبُثُّ سراياهُ في النَّاس، فأقرَبُهم منهُ منزلةً أعْظَمُهُمْ فتنةً، فيقولُ أحدُهُم: ما زلتُ به حتَّى زنى، فيقولُ: يَتُوبُ، فيقُول الآخرُ: ما زلتُ به حتى فرَّقتُ بينهُ وبين أهله، فيُدْنِيهِ وَيَلْتَزِمُه، ويقولُ: نعمَ أنت! نِعمَ أنت!». فهذا الوصال لما كان أحبَّ شيءٍ إلى الله ورسوله؛ كان أبغض شيء _________ (1) أخرجه أبو داود (2178)، وابن ماجه (2018) من حديث ابن عمر. وأخرجه أبو داود (2177)، والبيهقي (7/ 322) عن محارب مرسلًا، ورجح أبو حاتم المرسل. والحديث ضعيف، انظر الإرواء (2040). (2) رقم (2813).
(الكتاب/317)
إلى عدوِّ الله، فهو يسعى في التفريق بين المتحابين في الله المحبَّة التي يُحبُّها الله، ويؤلِّف بين الاثنين في المحبَّة التي يُبغضها الله ويسخطها، وأكثرُ العُشاق من جنده [28 ب] وعسكره، ويرتقي بهم الحال حتى يصيرَ هو من جندهم وعسكرهم، يقود لهم، ويزيِّن لهم الفواحش، ويؤلفُ بينهم عليها، كما قيل (1): عجبتُ من إبليس في نخْوتِه ... وقبح ما أظهر من سيرته تاهَ على آدم في سَجْدَةٍ ... وصارَ قوَّادًا لذُرِّيتهْ وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الشباب الذين هم مظنَّة العشق إلى أنفع أدويتهم. ففي الصحيحين (2): من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب! من استطاع منكمُ الباءَة؛ فليتزوجْ، فإنَّهُ أغضُّ للْبَصر، وأحْصَنُ للْفَرْج». وفي لفظٍ آخر ذكره أبو عبيد (3): حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكُم بالباءة ... » وذكر الحديث، وبين اللفظين فرقٌ، فإن الأوّل يقتضي أمر العزب بالتزويج، والثاني يقتضي أمر المتزوِّج بالباءة، والباءة: اسمٌ من أسماء _________ (1) البيتان لأبي نواس في ديوانه (ص 315). وبلا نسبة في البيان والتبيين (1/ 32، 3/ 152). (2) البخاري (5065)، ومسلم (1400)، وقد تقدم. (3) أخرجه الخرائطي (ص 85) عنه.
(الكتاب/318)
الوطء، وقوله: «من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج» فُسِّرت الباءة بالوَطء، وفُسِّرت بمؤن النكاح، ولا ينافي التفسير الأوَّل؛ إذ المعنى على هذا: مُؤَنُ الباءة ثم قال: «ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاءٌ» فأرشدهم إلى الدَّواء الشافي؛ الذي وُضِع لهذا الأمر. ثم نقلهم عنه عند العجز إلى البدل وهو الصَّومُ، فإنَّه يكسرُ شهوة النَّفس، ويُضيِّق عليها مجاري الشهوة، فإنَّ هذه الشَّهوة تقوى بكثرة الغذاء وكيفيته، فكمِّيَّةُ الغذاء، وكيفيتُه يزيدان في توليدها، والصَّومُ يُضيِّق عليها ذلك، فيَصيرُ بمنزلة وِجَاء الفحْل، وقلَّ من أَدْمن الصَّومَ إلا وماتت شهوتُه، أو ضعُفت جدًّا، والصَّومُ المشروع يُعَدِّلها، واعتدالُها حسنةٌ بين سيئتين، ووسطٌ بين طرفين مذمومين، وهما العُنَّة والغُلْمة الشَّديدة المُفْرِطة، وكلاهما خارجٌ عن الاعتدال: كلا طَرَفي قَصدِ الأمور ذميمُ و «خيرُ الأمور أوساطها» والأخلاقُ الفاضلة كلُّها [83 أ] وسطٌ بين طرفي إفراطٍ وتفريط، وكذلك الدِّين المستقيم وسطٌ بين انحرافين، وكذلك السُّنَّة وسطٌ بين بِدْعتين، وكذلك الصوابُ في مسائل النِّزاع إذا شئت أن تحظَى به؛ فهو القولُ الوسط بين الطرفين المتباعدين، وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة، فإنَّا لم نقصد له، وبالله التوفيق.
(الكتاب/319)
الباب التاسع عشر في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كلِّ حال
اعلم أنَّ الجمال ينقسمُ قسمين: ظاهر وباطن، والجمال هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم، والعقل، والجود، والعفَّة، والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبد ه وموضع محبته، كما في الحديث الصحيح (1): «إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وهذا الجمال الباطن يُزيِّن الصورة الظاهرة، وإن لم تكن ذات جمالٍ، فيكسو صاحبه من الجمال، والمهابة، والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصفات، فإن المؤمن يُعطى مهابة، وحلاوة بحسب إيمانه، فمن رآه هابه ومن خالطه أحبه. وهذا أمرٌ مشهودٌ بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح، الحسن، ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة، وإن كان أسود، أو غير جميل، ولاسيَّما إذا رُزق حظًّا من صلاة الليل، فإنَّها تُنوّر الوجه، وتحسِّنُه. وقد كان بعضُ النساء تكثرُ صلاة الليل، فقيل لها في ذلك، فقالت: _________ (1) أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/320)
إنها تحسِّنُ الوجه، وأنا أحبُّ أن يحسن وجهي. ومما يدلُّ على أن الجمال الباطن أحسن من الظاهر: أن القلوب لا تنفكُّ عن تعظيم صاحبه، ومحبته، والميل إليه. فصل وأما الجمال الظاهر؛ فزينةٌ خصَّ الله بها بعض الصُّور عن بعض، وهي من زيادة الخلق؛ التي قال الله تعالى فيها: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر/1] قالوا: هو الصوت الحسن، والصُّورة الحسنة. والقلوب كالمطبوعة على محبته كما هي مفطورةٌ على استحسانه [83 ب]. وقد ثبت في الصحيح (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر» قالوا: يا رسول الله! الرجل يُحبُّ أن تكون نعله حسنة، وثوبه حسنًا؛ أفذلك من الكبر؟ فقال: «لا، إن الله جميل يحبُّ الجمال. الكِبْرُ بطرُ الحقِّ، وغمط الناس». فبطر الحقِّ: جحدُه، ودفعه بعد معرفته، وغمط الناس: النظرُ إليهم بعين الازدراء، والاحتقار، والاستصغار لهم، ولا بأس بهذا إذا كان لله، وعلامتُه: أن يكون لنفسه أشدَّ ازدراءً واستصغارًا منه لهم. فأمَّا إن احتقرهم لعظمة نفسه عنده، فهذا الذي لا يدخل صاحبُه الجنَّة. _________ (1) أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود.
(الكتاب/321)
فصل وكما أنَّ الجمال الباطن من أعظم نعم الله على عبده؛ فالجمالُ الظاهر نعمةٌ منه أيضًا على عبده، يُوجب شكرًا، فإن شكره بتقواه وصيانته؛ ازداد جمالًا على جماله، وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه؛ قلبه له شَيْنًا ظاهرًا في الدنيا قبل الآخرة، فتعودُ تلك المحاسنُ وحشةً، وقبحًا، وشينًا، وينفر عنه من رآه، فكلُّ منْ لم يتَّقِ الله في حسنه وجماله؛ انقلب قبحًا وشينًا يشينه به بين الناس، فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبحُ الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر، كما قال جرير بن عبد الله، وكان عمر بن الخطاب يُسميه: يوسف هذه الأمة، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنت امرُؤٌ قد أحسنَ الله خَلْقك، فأحسِنْ خُلُقك» (1). وقال بعض الحكماء (2): ينبغي للعبد أن ينظر كلَّ يوم في المرآة، فإن رأى صورته حسنةً؛ لم يشنها بقبيح فعله، وإن رآها قبيحةً؛ لم يجمعْ بين قُبح الصورة، وقُبح الفعل. ولمَّا كان الجمال من حيث هو محبوبًا للنفوس، معظمًا في القلوب؛ _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 160). (2) انظر اعتلال القلوب (ص 165).
(الكتاب/322)
لم يبعث الله نبيًّا إلا جميل الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت، كذا قال عليُّ بن أبي طالب. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -[84 أ] أجمل خلق الله، وأحسنهم وجهًا، كما قال البراء بن عازب وقد سُئل: أكان وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر (1). وفي صفته - صلى الله عليه وسلم -: كأنَّ الشمس تجري في وجهه، يقول واصفُه: لم أرَ قبله، ولا بعده مثله (2). وقال ربيعةُ الجُرشي (3): قُسِم الحُسْنُ نصفين: فبين سارة ويوسف نصفُ الحسن، ونصفٌ بين سائر الناس. وفي الصحيح (4) عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه رأى يوسف ليلة الإسراء، وقد أُعطي شطر الحُسن. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحبُّ أن يكون الرسول الذي يُرسل إليه حسن الوجه، حسن الاسم، وكان يقول: «إذا أبردتم إليَّ بريدًا؛ فليكن حسن الوجه، حسن الاسم» (5). _________ (1) أخرجه البخاري (3552). (2) أخرجه الترمذي (3648) وغيره. (3) أخرجه الخرائطي (ص 163). (4) أخرجه مسلم (162) من حديث أنس. (5) أخرجه البزار (1986 - كشف الأستار) من حديث أبي هريرة. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 248)، ووافقه المؤلف في المنار المنيف (ص 56).
(الكتاب/323)
وقد روى الخرائطي (1): من حديث ابن جُريج، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس يرفعه: «من آتاهُ الله وجهًا حسنًا، واسمًا حسنًا، وخُلُقًا حسنًا، وجعلهُ في موضع غير شائنٍ له؛ فهو من صفوة الله على خلقه». وقال وهب (2): قال داود: يا ربّ! أي عبادك أحبُّ إليك؟ قال: مؤمن حسن الصورة، قال: فأيُّ عبادك أبغضُ إليك؟ قال: كافرٌ قبيحُ الصورة. ويُذكرُ عن عائشة (3) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظره نفرٌ من أصحابه على الباب، فجعل ينظر في الماء، ويُسَوّي شعره ولحيته، ثم خرج إليهم، فقلت: يارسول الله! وأنت تفعلُ هذا؟ فقال: «نعمْ، إذا خرج الرَّجُلُ إلى إخْوَانِهِ؛ فليُهَيِّئ من نفسه؛ فإن الله جميلٌ يُحِبُّ الجمال». وقال يحيى بن أبي كثير (4): دخل رجلٌ على معاوية غمصًا، يعني: رمص العينين، فحطَّ من عطائه وقال: ما يمنعُ أحدكم إذا خرج من منزله أن يتعاهد أديم وجهه؟! _________ (1) في اعتلال القلوب (ص 162)، وأخرجه الطبراني في الأوسط (4503) والصغير (635). وفي إسناده خلف بن خالد، متهم بالوضع. (2) أخرجه الخرائطي (ص 165)، وأبونعيم في الحلية (4/ 55). (3) أخرجه الخرائطي (ص 166)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (173). وإسناده مظلم. (4) أخرجه الخرائطي (ص 160).
(الكتاب/324)
وكانت عائشةُ بنتُ طلحة (1) من أجمل أهل زمانها، أو أجملهم، فقال لها أنس بن مالك: والله ما رأيتُ أحسنَ منكِ إلا معاوية على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: والله لأنا أحسنُ [84 ب] من النَّار في عين المقرور في الليلة القارَّة! ودخل (2) عليها أنسٌ يومًا في حاجة، فقال: إن القوم يريدون أن يدخلوا عليك، فينظروا جمالك، قالت: أفلا قُلْت لي، فألبس ثيابي؟ وكان مُصعب بن الزُّبير (3) من أجمل الناس، وكان يحسدُ الناس على الجمال، فبينا هو يخطبُ يومًا إذ دخل ابن جودان من ناحية الأزد، وكان جميلًا، فأعرض بوجهه عن تلك الناحية إلى ناحيةٍ أُخرى، فدخل ابن جبران من تلك الناحية، وكان جميلًا، فرمى ببصره إلى مُؤخَّر المسجد، فدخل الحسنُ البصريُّ، وكان من أجمل النَّاس، فنزل مُصْعبٌ عن المنبر. وخرج نسوة (4) يوم العيد ينظرون إلى الناس، فقيل لهنَّ: من أحسن من مرَّ بكنَّ؟ قلن: شيخٌ عليه عمامةٌ سوداء، يَعْنِينَ الحسن البصري. _________ (1) أخرج هذا الخبر الخرائطي (ص 161). وفي إسناده مجاهيل. (2) أخرجه الخرائطي (ص 160). وإسناده مظلم. (3) أخرجه الخرائطي (ص 162). (4) أخرجه الخرائطي (ص 162).
(الكتاب/325)
وأخذ مصعبُ بن الزُّبير (1) رجلًا من أصحاب المختار فأمر بضرب عنقه، فقال الرجل: أيُّها الأمير، ما أقبحُ من أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يُسْتضاء به، فأتعلَّق بأطرافك، وأقول: يا ربِّ! سل مُصْعبًا فيم قتلني؟ فقال مُصعب: أطلقوه. فقال الرَّجُل: أيها الأمير، اجعل ما وُهب لي من حياتي في خفضٍ، فقال مصعب: أعطوه مئة ألف درهم، فقال الرَّجل: إنِّي أُشهد الله أنَّ لعبد الرحمن بن قيس الرُّقيَّات مثلها. قال مصعب: ولم ذلك؟ قال: لقوله: إنَّما مُصعبٌ شهابٌ من الله ... تجلَّت عن وجهه الظَّلْمَاءُ فضحك مُصعب وقال: إن فيك لموضعًا للصَّنيعة. وأمره بلزومه. وقال الزُّبير بن بكار (2): حدَّثنا مُصعب الزبيري، حدَّثنا عبد الرحمن ابن أبي الجيش، قال: خرج أبو حازم يرمي الجمار، ومعه قوم متعبِّدون، وهو يُكلمهم، ويحدِّثهم، ويقصُّ عليهم، فبينا هو يمشي وهم معه؛ إذ نظر إلى فتاة مستترةٍ بخمارها، ترمي النَّاس بطرفها يمنةً [85 أ] ويسرةً، وقد شغلت النَّاس، وهم ينظرون إليها مبهوتين، وقد خَبَط بعضُهم بعضًا _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 162 - 163). والخبر في عيون الأخبار (1/ 103). وسبق تخريج البيت. (2) أخرجه الخرائطي (ص 151 - 152). والخبر مع الشعر في عيون الأخبار (4/ 29)، والأغاني (1/ 404، 19/ 219)، وزهر الآداب (1/ 168) وقال: الشعر للحارث بن خالد المخزومي. ويُروى للعرجي في عامة المصادر.
(الكتاب/326)
في الطريق، فرآها أبو حازم، فقال: يا هذه! اتَّقِي الله، فإنَّك في مشعرٍ من مشاعر الله عظيم، وقد فتنتِ الناسَ، فاضربي بخمارك على جيبك، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور/31] فأقبلت تضحكُ من كلامه وقالت: إنِّي والله: من اللاَّءِ لم يحجُجْن يبغين حِسْبَةً ... ولكن ليقْتُلْن الْبَريء المُغفَّلا فأقبل أبو حازم على أصحابه وقال: تعالوا ندعو الله ألَّا يعذِّب هذه الصُّورة الحسناء بالنَّار. فجعل يدعو، وأصحابُه يُؤمِّنون. وقال ضمرة بن ربيعة (1)، عن عبد الله بن شوذَب: دخلت امرأة جميلةٌ على الحسن البصري، فقالت: يا أبا سعيد! ينبغي للرِّجال أن يتزوَّجوا على النِّساء؟! قال: نعم! قالت: وعلى مثلي؟ ثم أسفرت عن وجه لم يُرَ مثلُه حسنًا، وقالت: يا أبا سعيد! لا تُفتوا الرجال بهذا. ثم ولَّت، فقال الحسن: ما على رجلٍ كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدُّنيا! وقال عبد الملك بنُ قُرَيْب (2): كنتُ في بعض مياه العرب، فسمعتُ الناس يقولون: قد جاءت، قد جاءت، فتحوَّل النَّاسُ، فقمتُ معهم، فإذا جاريةٌ قد وردت الماء، ما رأيتُ مثلها قطُّ في حُسن وجهها، وتمام _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 151). (2) أخرجه الخرائطي (ص 156).
(الكتاب/327)
خلقها، فلما رأت تشوُّف الناس إليها أرسلت بُرقُعها، فكأنَّه غمامةٌ غطَّت شمسًا، فقلت: لِمَ تمنعيننا النظر إلى وجهك هذا الحسن؟ فأنشأت تقول (1): وكنتَ متى أرسلتَ طرفك رائدًا ... لقلبك يومًا أتعبتْك المناظرُ رأيت الذي لا كلُّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ ونظر إليها أعرابيٌّ (2) فقال: أنا والله ممَّنْ قلَّ صبره، ثم قال: أوَحْشِيَّة العينين أين لك الأهلُ ... أبِالْحَزْن حلُّوا أم محلُّهُم السَّهْلُ وأيَّةُ أرضٍ أخرجتك فإنَّني ... أراك من الفِرْدَوْسِ إن فُتِّش الأصلُ قفي خبِّرينا ما طَعِمْتِ وما الذي ... شرِبْتِ ومن أين استقلَّ بك الرَّحْلُ لأنَّ علامات الْجِنان مُبِينَةٌ ... عليك وإنَّ الشَّكل يُشبِهُه الشَّكْلُ تناهيتِ حسنًا في النِّساء فإنْ يكن ... لبدرِ الدُّجى نَسْلٌ فأنتِ له نسلُ وقال آخر (3): يا مُنْسِيَ المحزون أحزانَه ... لما أتته في المُعَزِّينا استقبلتْهنَّ بتمثالها ... فقُمْنَ يَضْحَكْن ويَبْكِينا _________ (1) تقدم البيتان وتخريجهما. (2) أخرجه الخرائطي (ص 156). (3) في اعتلال القلوب (ص 156 - 157): «أنشدني أبو نواس». والأبيات له في ديوانه (ص 242).
(الكتاب/328)
حَقٌّ لهذا الوجه أن يَزْدَهي ... عن حُزْنِهِ منْ كان محْزُونَا وقال آخر (1): أنيري مكان البدر إن أفل البدرُ ... وقُومي مقام الشَّمْسِ ما استأخرَ الفجرُ ففيك من الشَّمسِ المنيرة ضَوْءُها ... وليسَ لها منك التبسُّم والثَّغْرُ وقال آخر (2): رُقاديَ يا طرفي عليك حرامُ ... فخلِّ دموعًا فيضُهنَّ سِجَامُ ففي الدَّمع إطفاءٌ لنار صبابةٍ ... لها بين أحْناء الضُّلوعِ ضِرام ويا كبدي الحرَّى التي قد تصدَّعتْ ... من الوجد ذُوبي ما عليك ملامُ ويا وجه من ذلَّت وجوهٌ أعزَّةٌ ... له وزها عزًّا فليس يُرام أجِرْ مستجيرًا في الهوى بك باسطًا ... إليك يديه والعيونُ نيامُ وذكر الخرائطي (3) عن بعض العلويين قال: بينا أنا عند الحسن بن _________ (1) بلا نسبة في اعتلال القلوب (ص 157)، وللمجنون في ديوانه (ص 128)، ولعمر ابن أبي ربيعة في الإمتاع والمؤانسة (2/ 172)، ولابن كيغلغ في المحب والمحبوب (1/ 183). (2) الأبيات بلا نسبة في اعتلال القلوب (ص 223). (3) في اعتلال القلوب (ص 167).
(الكتاب/329)
هانئ وهو يُنْشِدُ: ويلي على سُود العيو ... نِ النُّهَّدِ الضُّمرِ البطونِ الناطقات عن الضميـ ... ــر لنا بألسنةِ الجُفون فوقف عليه أعرابيٌّ ومعه بُنيُّه، فقال: أعِدْ عليَّ، فأعاد عليه، فقال: يا ابن أخي! ويلك أنت وحدك من هذا؟ ويلي أنا وأنت، وويلُ ابني هذا، وويل هذه الجماعة، وويل جيراننا كلِّهم. وقال الخرائطي (1): حدَّثنا يموت بن المُزرَّع، حدَّثنا محمَّد بن حميد، حدَّثنا محمد بن سلمة [86 أ] قال: حدّثني أبي، قال: أتيتُ عبد العزيز بن المُطلب، أسأله عن بيعة الجنِّ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها، فوجدتُه مستلقيًا يتغنَّى: ما روضةٌ بالحزن طيِّبةٌ الثَّرَى ... يمُجُّ الندى جثجاثُها وعرارُها بأطيب من أردان عزَّة مَوهنًا ... وقد أُوقدت بالمندل الرَّطب نارُها من الخفرات البيض لم تلق شقوة ... وفي الحسب المكنون صافٍ نجارُها فإن برزت كانت لعينك قُرَّةً ... وإن غبْتَ عنها لم يَعُمَّك عارُها _________ (1) في المصدر السابق (ص 167 - 168). والخبر والشعر في جمع الجواهر (ص 58). والأبيات الرائية لكثير في ديوانه (ص 429 - 430)، وبعضها في العقد الفريد (5/ 373)، والأغاني (15/ 283)، وأمالي المرتضى (1/ 221). وستأتي الأبيات ضمن خبر آخر عند المؤلف.
(الكتاب/330)
فقلت له: أتُغني ــ أصلحك الله ــ وأنت في جلالك وشرفك؟! أما والله لأحملنَّها ركبان نجدٍ، قال: فوالله ما اكترثَ بي، وعاد يتغنَّى: فما ظبيةٌ أدْماءُ خفَّاقةُ الحشا ... تجوبُ بظِلْفَيها متون الخمائل بأحسن منها إذ تقولُ تدلُّلًا ... وأدمُعُها يُذْرين حشو المكاحل تمتَّعْ بذا اليوم القصير فإنَّه ... رهينٌ بأيَّام الصُّدود الأطاول قال: فندمت على قولي، وقلت له: أصلحك الله! أتحدِّثني في هذا بشيءٍ؟ قال: نعم! حدَّثني أبي قال: دخلتُ على سالم بن عبد الله بن عمر وأشعث يغنِّيه: مغيبة كالبدر سنّة وجهها ... مُطَهَّرَةُ الأثواب والعِرضُ وافرُ لها حسبٌ زاكٍ وعِرْضٌ مهذَّبٌ ... وعن كل مكروه من الأمر زاجرُ من الخَفراتِ البيض لم تَلْقَ ريبةً ... ولم يَسْتَمِلها عن تُقى الله شاعرُ فقال له سالم: زدني. فغنّاه: ألمَّت بنا والليلُ داجٍ كأنَّه ... جناحُ غُرابٍ عنه قد نفض القَطْرا فقلتُ أعطَّارٌ ثَوى في رِحالِنا ... وما احتملت ليلى سوى طيبها عِطْرا [86 ب] فقال له سالم: والله لولا أن تداوله الرُّواة لأجزلتُ جائزتك! فإنَّك من هذا الأمر بمكان. قال الخرائطي (1): حدَّثنا العبَّاسُ بنُ الفضل، عن بعض أصحابه، _________ (1) في اعتلال القلوب (ص 146).
(الكتاب/331)
قال: حججْتُ سنةً من السنين، فإني لبالرَّبَذة؛ إذ وقفت علينا جاريةٌ على وجهها بُرْقُعٌ، فقالت: يا معشر الحجيج! نفَرٌ من هُذيل، ذهب بنعمهم السَّيلُ، وقعدت بهم الأيام، ما لهم نُجعَة، فمن يراقبُ فيهم الدَّار الآخرة ويعرفُ لهم حقَّ الأخوة؟ جزاه الله خيرًا! قال: فرضخنا لها، فقلت لها: هل قلتِ في ذلك شيئًا؟ فأنشأت تقول: كفُّ الزمان توَسَّدَتنا عنوةً ... شَلَّت أناملُها عن الأعراب قوم إذا حلَّ العُفاة ببابهم ... ألْفَوْا نوافلهم بغيرِ حساب فقلتُ لها: لو أمتعتينا بالنظر إلى وجهك، فكشفت البُرْقُع عن وجهٍ لا تهتدي العقولُ لوصفه، فلما رأتنا قد بُهِتْنا لحسنها؛ أنشأت تقول: الدَّهرُ أبدى صفحةً قد صانها ... أبوايَ قبلَ تمرُّس الأيَّامِ فتمتَّعوا بعيونِكم في حُسْنِها ... وانْهَوْا جوارِحَكُمْ عن الآثام ثم انصرفت. وكان محمدُ بن حميد الطوسي (1) يهوى جاريةً، فأرسل إليها مرَّةً أُتْرُجَّةً، فبكتْ بكاءً شديدًا، فقيل لها: يُوجِّه إليك من تُحبِّينه بهدية، فتبكين هذا البكاء؟ فغنَّت (2): أهدى له أحبابُه أُتْرُجَّةً ... فبكى وأشفق من عِيَافَةِ زاجرِ _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 195 - 197). (2) البيتان للعباس بن الأحنف في ديوانه (ص 150)، وزهر الآداب (2/ 947).
(الكتاب/332)
خاف التلوُّنَ والفِراقَ لأنَّها ... لونانِ باطنُها خِلافُ الظَّاهِر فلمَّا جاءه الرَّسولَ؛ أخبره عنها بما أغاظه، فكتب إليها (1): ضيَّعتِ عهد فتًى لغيبكِ حافظٍ ... في حفظِه عجَبٌ وفي تضييعكِ وصددتِ عنه وماله من حيلةٍ ... إلا الوقوف إلى أوانِ رُجوعكِ [78 أ] إنْ تقتليه وتذهبي بحياته ... فبحسن وجهك لا بحُسْنِ صنيعك فلمَّا وافتها الرُّقعةُ بكتْ، حتى رَحِمها من حولَها، ثم اندفعتْ تقول: هل لعيني إلى الرُّقاد شفيعُ ... إنَّ قلبي من السَّقَامِ مَرُوعُ لا تراني بخلتُ عنك بدمع ... لا وحقِّ الحبيب ما لي دموعُ إنَّ قلبي إليك صَبٌّ حزينٌ ... فاستراحت إلى الحنين الضُّلوع ليس في العطف يا حبيبي بديعٌ ... إنما هجرُ من يُحب بديعُ ثم كتبت إليه: أنا مملوكةٌ، لا أملك من أمري شيئًا، فإن كان لك فيَّ حاجةٌ فاشترني؛ لأكون طوع يديْك، فاشتراها، فمكثتْ عنده، وكانت من أحظى إمائه، حتى قُتل في وقعة بابك الخُرَّمي، فكانت تتمثل في رثائه بقول أبي تمَّام فيه (2): _________ (1) الأبيات لابن أبي عيينة في الأغاني (20/ 82)، وفي المصون في سر الهوى المكنون (ص 51) لأبي عيينة المهلبي، وكذا في معجم الشعراء للمرزباني (ص 267، 268). (2) ديوانه (4/ 137).
(الكتاب/333)
محمَّدُ بنُ حميدٍ أخْلقتْ رِمَمُه ... أُريق ماءُ المعالي مُذْ أُريقَ دَمُهْ رأيتُه بِنِجاد السَّيْفِ محتبيًا ... في النَّوْم بدرًا جلتْ عن وجهه ظُلمُه فقلت والدَّمعُ من حُزْنٍ ومِنْ كمدٍ ... يجري انسكابًا على الخَدَّين مُنْسَجِمُهْ ألم تمُتْ يا شقيق النَّفسِ مُذْ زمنٍ ... فقال لي لم يمتْ من لم يمُت كرَمُه فصل وهذا فصل في ذكر حقيقة الحُسْنِ والجمال ما هي؟ وهذا أمرٌ لا يُدْرَك إلا بالوصف، وقد قيل: إنَّه تناسُب الخِلْقة، واعتدالُها، واستواؤها، وربَّ صُورةٍ متناسبة الخِلْقة، وليست في الحُسن هناك، وقد قيل: الحُسْنُ في الوجه، والملاحةُ في العينين. وقيل: الحُسْنُ أمرٌ مركَّبٌ من أشياء: وضاءة، وصباحة، وحسنُ تشكيل، و تخطيطٍ، ودموثة في البشرة، وقيل: الحسنُ معنى لا تناله العبارة، ولا يُحيط به الوصفُ، وإنَّما للناس منه أوصافٌ أمكن التعبيرُ عنها. وقد كان رسول الله [87 ب]- صلى الله عليه وسلم - في الذُّرْوة العُليا منه، ونظرت إليه عائشة يومًا، ثم تبسَّمتْ، فسألها: «ممَّ ذاك؟» فقالت: كأنَّ أبا كبيرٍ الهذليَّ
(الكتاب/334)
إنَّما عناك بقوله (1): ومُبَرَّأٌ من كلِّ غُبَّر حَيضةٍ ... وفسادِ مُرْضِعَة وداءٍ مُغْيلِ وإذا نظرتَ إلى أسرَّةِ وَجْهِه ... بَرَقتْ كبرْقِ العارِض المُتَهَلِّل ولقي بعضُ الصَّحابة راهبًا، فقال: صف لي محمدًا كأنِّي أنظرُ إليه، فإنِّي رأيتُ صفته في التوراة والإنجيل، فقال: لم يكن بالطويل البائن، ولا بالقصير، فوق الرَّبعة، أبيضَ اللون مُشْرَبًا بالحمرة، جَعْدًا ليس بالقطط، جُمَّتُه إلى شحمة أُذنه، صَلْتَ الجبين، واضحَ الخَدِّ، أدعَج العينين، أقنى الأنف، مفلَّج الثنايا، كأنَّ عنقه إبريقُ فضَّة، ووجهه كدارة القمر. فأسلم الراهب. وفي صفة هند بن أبي هالة له - صلى الله عليه وسلم -: لم يكن بالطويل المُمَغَّطِ ولا بالقصير المتردِّد، كان رَبْعَةً من الرِّجال، ولم يكن بالجَعْد القطط، ولا بالسَّبط، ولم يكن بالمُطهَّم ولا بالمُكَلْثَم، وكان في الوجه تدوير، أبيضُ مُشْرَب، أدعج العينين، أهدَبُ الأشفار، جليلُ المُشاش والكتدِ، شَثْن الكفين والقدمين، دقيقُ المسْرُبة، إذا مشى تقلَّع كأنما ينحطُّ من صبب، وإذا التفت التفت جميعًا، كأن الشمس تجري في وجهه (2). _________ (1) انظر شرح أشعار الهذليين (3/ 1073 - 1074)، وحماسة أبي تمام (1/ 73، 74). والقصة مخرجة في السنن الكبرى للبيهقي (7/ 422). (2) أخرجه أحمد (1/ 9، 11)، والترمذي في الشمائل (11).
(الكتاب/335)
وكان - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الحسن قد أُلقيت عليه المحبَّةُ، والمهابةُ، فمن وقعت عليه عيناه؛ أحبَّه، وهابه، وكمَّل الله سبحانه له مراتب الجمال ظاهرًا وباطنًا. وكان أحسنَ خلقِ الله خَلقًا وخُلقًا، وأجملَهم صورةً ومعنى. وهكذا كان يوسفُ الصِّديق - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالت امرأةُ العزيز للنِّسوة لمَّا أرتْهُنَّ إياه؛ ليعذُرْنَها في محبَّته: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف/32] أي: هذا هو الذي فُتنت به، وشُغِفْتُ بحبِّه، فمن يلومني على محبته، وهذا حسن منظره. [88 أ] ثم قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف/32] أي: ومع هذا الجمال، فباطنُه أحسنُ من ظاهره، فإنَّه في غاية العفَّة، والنَّزاهة، والبُعد عن الخنا، والمحبُّ وإن عِيبَ محبوبه؛ فلا يجري لسانه إلا بمحاسنه، ومدحه. ويتعلَّق بهذا قوله تعالى في صفة أهل الجنة: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان/11]. فجمَّل ظواهرهم بالنَّضْرة، وبواطنهم بالسُّرور، ومثله قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة/22 ــ 23] فإنه لا شيء أشهى إليهم، وأقرُّ لعيونهم، وأنعم لبواطنهم من النَّظر إليه، فنضَّر وجوههم بالحسن، ونعَّم قلوبهم بالنظر إليه. وقريبٌ منه قوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} فهذا زينة الظاهر، ثم قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان/21] أي: مطهرًا لبواطنهم من كل أذىً. فهذا زينة الباطن، ويشبهه قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا
(الكتاب/336)
عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف/26] فهذا زينةُ الظاهر، ثم قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف/26] فهذا زينةُ الباطن، وينظر إليه من طرف خفي قوله تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت/12] فزيَّن ظاهرها بالمصابيح، وباطنها بحفظها من الشيطان. وقريبٌ منه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة/197] فذكر الزَّاد الظاهر، والزاد الباطن، وهذا من زينة القرآن الباطنة المضافة إلى زينة ألفاظه، وفصاحته، وبلاغته الظاهرة. ومنه قوله تعالى لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه/118 ــ 119] فقابل بين الجوع والعُري دون الجوع والظمأ، وبين الظمأ والضَّحْي دون الظمأ والجوع، فإن الجوع عُري الباطن، وذُلُّه، والعُرْي جوعُ الظاهر، وذُلُّه. فقابل بين ذل باطنه وظاهره، وجوع باطنه وظاهره، والظمأُ: حرُّ الباطن، والضحيُ: حرُّ الظاهر، فقابل بينهما. وسُئل المتنبي [88 ب] عن قول امرئ القيس (1): كأنِّي لم أركبْ جوادًا للذَّةٍ ... ولم أتبَطَّنْ كاعِبًا ذات خلخالِ ولم أسبأ الزِّق الروي ولم أقلْ ... لخيلي كُرِّي كرَّةً بعد إجفال _________ (1) ديوانه (ص 35).
(الكتاب/337)
فقيل له: إنه عيب عليه مقابلةُ سبي الزق الروي بالكر، وكان الأحسن مقابلته ببطن الكاعب جمعًا بين اللذتين، وكذلك مقابلة ركوب الجواد للكر أحسن من مقابلته لتبطن الكاعب، فقال: بل الذي أتى به أحسن، فإنه قابل مركوب الشجاعة بمركوب اللذَّة واللهو، فهذا مركوب الطرب، وهذا مركوب الحرب والطلب، ولذلك قابل بين السباءين، سباء الزق وسباء الرَّقيق (1). قلت: وأيضًا فإن الشارب يفتخرُ بالشجاعة، كما قال حسان (2): ونشربُها فتترُكنا مُلوكًا ... وأُسدًا ما يُنهنِهُنا اللقاء وهذه جملةٌ اعتراضية من ألطف الاعتراض. وقيل: الحسنُ ما استنطق أفواه النَّاظرين بالتسبيح والتهليل، كما قال: ذي طلعة سبحان فالق صُبحه ... ومعاطف جلَّت يمينُ الغارس وقال عليُّ بن الجهم (3): طلعتْ فقال الناظرون إلى ... تصويرها ما أعظم الله ودنتْ فلما سلَّمتْ خجلت ... والتفَّ بالتفّاح خدَّاها _________ (1) انظر: يتيمة الدهر (1/ 21، 22). (2) ديوانه (ص 73). (3) ديوانه (ص 190).
(الكتاب/338)
وكأن دِعْصَ الرَّمل أسفلُها ... وكأنَّ غُصْن البانِ أعْلاها حتَّى إذا ثملت بنشوتها ... قرأت كتاب الباه عيناها وقال آخر (1): وإذا بدتْ في بعض حاجتها ... تستنطقُ الأفواه بالتَّسْبيح وقال بشار (2): تُلقى بتسبيحةٍ من حسن ما خُلقتْ ... وتستفزُّ حشا الرائي بإرْعاد ولي من أبيات: يا صورة البدر ولا والَّذي ... صوَّر ليس البدرُ يحكيكِ [89 أ] مُنِّي على العين ولا تبخلي ... بنظرة فالعينُ تفديك وإن تحرَّجت لهذا فكم ... قد سبح الرحمن رائيك هذا بهذا وارتجي أجر من ... إن غبتِ عنه ظلَّ يبكيك قال ابن شُبْرُمة: كفاك من الحسن أنَّه مشتقٌّ من الحسنة. وقال عمر بن الخطاب: إذا تمَّ بياضُ المرأة في حسن شعرها؛ فقد تمَّ حسنُها. وقالت عائشة: البياض شطرُ الحسن. _________ (1) البيت لابن الرومي في ديوانه (1/ 337). (2) ديوانه (2/ 319)، وزهر الآداب (1/ 420)، وجمع الجواهر (ص 135).
(الكتاب/339)
وقال بعضُ السلف: جعل الله البهاء والهوج مع الطول، والدَّهاء والدَّمامة مع القصر، والخير فيما بين ذلك. وممَّا يُذمُّ في النساء المرأة القصيرةُ الغليظة، وهي التي عناها الشاعر بقوله (1): وأنتِ التي حبَّبتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ ولم تشعُر بذاك القصائرُ عَنيتُ قصيرات الحِجال ولم أُرِدْ ... قِصَار النِّسا شرُّ النِّساء البحاترُ والبحاتر: هنَّ القصار الغلاظ، وبعضهم يبالغ في هذا حتى يُفضِّل المهازيل على السِّمان. أنشد الزمخشريُّ (2): لا أعشقُ الأبيض المنفوخ من سمنٍ ... لكنَّني أعشقُ السُّمْر المهازيلا إني امْرُؤٌ أركب المُهْرَ المضمَّر في ... يوم الرِّهان فدَعني واركب الفيلا وطائفةٌ تفضِّل السِّمان، وتقول: السمنُ نصف الحسن، وهو يسترُ كل عيبٍ في المرأة، ويُبدي محاسنها، وخيار الأمور أوساطها. ومما يُستحسن في المرأة طول أربعة، وهنَّ: أطرافُها، وقامتُها، _________ (1) البيتان لكثير في ديوانه (ص 369)، وإصلاح المنطق (ص 184، 274). (2) في ربيع الأبرار (2/ 267)، وانظر البصائر والذخائر (6/ 130)، وديوان الصبابة (ص 105).
(الكتاب/340)
وشعرُها، وعنقُها. وقصرُ أربعة: يدها، ورجلها، ولسانها، وعينها، فلا تبذل ما في بيت زوجها، ولا تخرج من بيتها، ولا تستطيل بلسانها، ولا تطمحُ بعينها. وبياض أربعة: لونها، وفرقها، وثغرها، وبياض عينها، وسوادُ أربعة: أهدابها، وحاجبها، وعينها، وشعرها. وحمرةُ أربعة: لسانها، وخدّها، وشفتها [89 ب] مع لعسٍ، وإشراب بياضها بحمرة. ودقَّة أربعة: أنفها، وبنانها، وخصرها، وحاجبها. وغلظ أربعة: ساقها، ومعصمُها، وعجيزتها، وذاك منها. وسعة أربعة: جبينها، ووجهها، وعينها، وصدرها. وضيقُ أربعة: فمها، ومنخرها، وخرقُ أُذُنها، وذاك منها. فهذه أحقُّ النِّساء بقول كُثير (1): لو أنَّ عَزَّة خاصمتْ شمس الضُّحى ... في الحُسْنِ عند مُوَفَّقٍ لقضى لها وقول الآخر (2): لو أبصر الوجه منها وهو منهزمٌ ... ليلًا وأعداؤُه من خلفه وقفا وقول الآخر (3): يا طيب مرعى مُقلةٍ لم تخفْ ... بوجنتيْها زجْرَ حُرَّاس حلَّت بوجهٍ لم يَغِضْ ماؤُه ... ولم تَخُضْه أعينُ النَّاس _________ (1) ديوانه (ص 394). (2) يشبهه بيت للخبز رزي في المحب والمحبوب (1/ 281)، ونهاية الأرب (2/ 95). (3) البيتان لبريه المصري في الورقة (ص 102).
(الكتاب/341)
وقول الآخر (1): فلم يزلْ خدُّها رُكنًا ألوذُ به ... والخالُ في خدِّها يُغني عن الحجر وقول الآخر، أنشده المبرد (2): وأحسنُ من ربع ومن وصف دمنةٍ ... ومن جبلي طيٍّ ومن وصفكم سَلْعا تلاحظُ عيني عاشقين كلاهُما ... له مُقلةٌ في خد معشوقه ترعى وأنشد ثعلب (3): خُزاعيَّةُ الأطراف مُرِّيَّةُ الحشا ... فزاريَّةُ العينين طائيَّةُ الفم ومكيةٌ في الطيب والعطر دائمًا ... تبدَّتْ لنا بين الحطيم وزمزم ثم قال: وصفها بما يستحسن من كل قبيلة. وقال صالح بن حسَّان (4) يومًا لأصحابه: هل تعرفون بيتًا من الغزل _________ (1) البيت لكشاجم في ديوانه (ص 236)، والمحب والمحبوب (1/ 63)، ونهاية الأرب (2/ 75). (2) كما في اعتلال القلوب (ص 342). (3) انظر: اعتلال القلوب (ص 165)، والشعر لعدي بن الرقاع في ديوانه (ص 268). وبلا نسبة في عيون الأخبار (4/ 27)، والعقد الفريد (6/ 403، 413). (4) أخرجه الخرائطي (ص 95 - 96). والخبر والشعر في الأغاني (17/ 129).
(الكتاب/342)
في امرأةٍ خفرة؟ قلنا: نعم! بيتٌ لحاتم في زوجته ماوية (1): يُضيء لها البيتُ الظَّليلُ خصاصه ... إذا هي يومًا حاولت أن تبسَّما قال: ما صنعتُم شيئًا! قلنا: فبيتُ الأعشى (2): كأنَّ مِشْيتَها منْ بيتِ جارتِها ... مَرُّ السَّحابةِ لا رَيْثٌ ولا عجلُ قال: جعلها تدخلُ و تخرجُ! قلنا: يا أبا محمد! فأيُّ بيت هو؟ قال: قول أبي قيس بن الأسْلت [90 أ] (3): وتُكرمُها جاراتُها فيزُرْنها ... وتعتلُّ عن إتيانِهنَّ فتُعْذرُ قلت: وأحسن من هذا كلِّه ما قاله إبراهيم بن محمَّد الملقَّب بنفْطويهِ (4): وخبَّرها الواشون أنَّ خيالها ... إذا نمتُ يَغْشى مضْجَعِي ووِسادي فخفَّرها فرطُ الحياء فأرسلت ... تُعيِّرني غَضْبَى بطولِ رُقادي _________ (1) ديوانه (ص 81). (2) ديوانه (ص 55). (3) له في الأشباه والنظائر (1/ 21)، والعقد الفريد (4/ 226)، وخزانة الأدب (2/ 48)، والمحب والمحبوب (2/ 157)، وديوان المعاني (1/ 243)، وعيون الأخبار (3/ 25). (4) انظر اعتلال القلوب (ص 96)، وذم الهوى (ص 240).
(الكتاب/343)
ومما يُستحسن في المرأة: رقةُ أديمها، ونعومةُ ملمسه، كما قال قيس بن ذَريح (1): تعلَّق رُوحي رُوحها قبل خلقنا ... ومنْ بعد ما كُنَّا نِطافًا وفي المهدِ فزاد كما زدْنا فأصبح ناميًا ... فليس وإن متنا بِمُنْفَصم العهدِ ولكنَّه باق على كلِّ حادثٍ ... ومؤنسُنا في ظُلمة القبرِ واللَّحْدِ يكادُ مسيلُ الماءِ يخْدِش جلدها ... إذا اغتسلتْ بالماء من رقَّة الجلْد ولي من أبيات: يُدمي الحريرُ أديمها من مَسِّه ... وأديمُها منه أرقُّ وأنعمُ فصل فيا أيُّها العاشقُ سمعُه قبل طَرْفه، فإنَّ الأُذن تعشقُ قبل العين أحيانًا، وجيش المحبَّة قد يدخلُ المدينة من باب السمع، كما يدخلُها من باب البصر، والمؤمنون يشتاقون إلى الجنة وما رأوها، ولو رأوها؛ لكانوا أشدَّ لها شوقًا، والصَّرُورة يكاد قلبُه يذوبُ شوقًا إلى رؤية البيت الحرام، فإنْ شاقتك هذه الصفات، وأخذتْ بقلبك هذه المحاسن: فاسمُ بعينيك إلى نسوةٍ ... مهُورُهنَّ العملُ الصالحُ _________ (1) له في ديوانه (ص 82)، واعتلال القلوب (ص 183)، وعيون الأخبار (4/ 145)، والأغاني (9/ 194، 196)، وفوات الوفيات (3/ 207)، وتزيين الأسواق (1/ 135). ونسبت لقيس بن الملوح في الموشى (ص 146). ولجميل في ديوانه (ص 77).
(الكتاب/344)
وحدِّثِ النَّفس بعشق الأُلى ... في عِشْقِهِنَّ المتْجَرُ الرَّابح واعْملْ على الوصلِ فقد أمكنتْ ... أسبابُه ووقتُها رائحُ (1) فصل وقد وصف الله سبحانه نساء الجنَّة بأحسنِ الصِّفات، وحلَّاهنَّ بأحسن الحُليِّ، وشوَّق الخُطَّاب إليهن، حتى كأنَّهم يرونهنَّ رؤية العين. قال [90 ب] الطبرانيُّ (2): حدَّثنا بكرُ بنُ سهل الدمياطيُّ، حدّثنا عمرو بن هشام البيروتي، حدثنا سليمان بن أبي كريمة، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن أمِّه، عن أُمّ سلمة قالت: قلت يا رسول الله! أخبرني عن قول الله عزَّ وجلَّ: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة/22] قال: «حُورٌ: بيضٌ، عينٌ: ضخامُ العيون، شعرُ الحوراء بمنزلة جناح النَّسْرِ». قلت: أخبرني عن قوله عزَّ وجلَّ: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة/23]. قال: «صفاؤهنَّ صفاء الدُّرِّ الذي في الأصداف؛ الذي لم تَمَسَّه الأيدي» قلت: يا رسول الله! أخبرني عن قوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن/70]. قال: «خيراتُ الأخلاق، حِسَانُ الوجوه». _________ (1) الأبيات لأبي نواس في ديوانه (ص 618)، وبعضها في البيان والتبيين (3/ 198). (2) في الكبير (23/ 368)، والأوسط (3165). وفي إسناده سليمان بن أبي كريمة، ضعّفه أبو حاتم وابن عدي، كما في مجمع الزوائد (7/ 118، 119).
(الكتاب/345)
قلت: أخبرني عن قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات/49]. قال: «رِقَّتُهُنَّ، كرِقَّة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة ممَّا يلي القِشْرَ وهو الغِرْقِئ». قلت: يا رسول الله! أخبرني عن قوله عزَّ وجلَّ: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة/37]. قال: «هُنَّ اللواتي قُبضن في دار الدُّنيا عجائزَ، رُمْصًا، شُمطًا، خلقهنَّ الله بعد الكِبَرِ، فجعلهنَّ عذارى، عُرُبًا: متعشِّقَاتٍ، متحبِّبَاتٍ، أترابًا: على ميلاد واحد». قلت: يا رسول الله! نساء الدُّنيا أفضلُ أم الحور العين؟ قال: «بل نساء الدُّنيا أفضلُ من الحُور العين، كفضل الظِّهارةِ على البِطانة». قلت: يا رسول الله! وبِمَ ذلك؟ قال: «بصلاتهنَّ، وصيامهنَّ، وعبادتهنَّ الله، ألبس الله وجوهَهن النُّور، وأجسادَهنَّ الحرير، بيضُ الألوان، خُضْرُ الثياب، صُفْرُ الحُليِّ، مجامِرُهنَّ الدرُّ، وأمشاطهنَّ الذَّهب، يقُلْن: نحن الخالداتُ، فلا نموت، ونحن النَّاعماتُ، فلا نَبْأسُ أبدًا، نحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ألا ونحن الرَّاضياتُ، فلا نسخط أبدًا، طُوبى لمنْ كنَّا له وكان لنا». قلت: يا رسول الله! المرأةُ منّا تتزوَّج الزَّوجين، والثلاثة، والأربعة، ثم تموتُ، فتدخل الجنَّة، ويدخلون معها، من يكون زوجُها؟ قال: «يا أُمَّ سلمة! إنها تُخيَّر، فتختار أحسنهم خُلُقًا، فتقول: أي ربِّ
(الكتاب/346)
إن هذا كان أحسنهم [19 أ] معي خُلُقًا في دار الدُّنيا، فزوِّجنيه. يا أُمَّ سلمة! ذهب حسنُ الخُلُق بخيري الدُّنيا والآخرة». فصل وقد وصفهنَّ تعالى بأنهنَّ كواعب، وهي جمع كاعِبٍ، وهي المرأة التي قد تكعَّب ثديُها، واستدار، ولم يتدَلَّ إلى أسفل، وهذا من أحسن خلق النِّساء، وهو ملازمٌ لسنِّ الشباب. ووصفهنَّ بالحُور، وهو حُسْنُ ألوانِهنَّ وبياضُهُ، قالت عائشة (1) رضي الله عنها: البياض نصفُ الحسن. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا تمَّ بياضُ المرأة في حسن شعرها؛ فقد تمَّ حسنُها. والعرب تمدحُ المرأة بالبياض، قال الشاعر (2): بِيضٌ أوانسُ ما هممْنَ بريبةٍ ... كظِباءِ مكَّة صَيْدُهنَّ حرامُ يُحْسَبْنَ من لين الحديثِ زوانيًا ... ويَصُدُّهُنَّ عن الخَنَا الإسلامُ والعِينُ: جمعُ عَيْنَاء، وهي المرأةُ الواسعة العين مع شدَّة سوادها، وصفاء بياضها، وطولِ أهدابها وسوادها. _________ (1) أخرج عنها الخرائطي (ص 165). (2) البيتان لبشار بن برد في البيان والتبيين (1/ 276)، والمختار من شعر بشار (ص 197). ولعروة ابن أذينة في الحماسة البصرية (2/ 111، 112). وبلا نسبة في الموشى (ص 162، 163)، والزهرة (1/ 119)، ومصارع العشاق (2/ 177)، وديوان الصبابة (ص 210).
(الكتاب/347)
ووصفهنَّ بأنهنَّ خيْراتٌ حسان، وهو جمع خيْرة، وأصلها خيِّرة بالتَّشديد، كطَيِّبة، ثم خُفِّف الحرف، وهي التي قد جمعت المحاسن ظاهرًا وباطنًا، فكمل خَلْقها، وخُلُقها، فهنَّ خيراتُ الأخلاق، حسانُ الوجوه. ووصفهنَّ بالطَّهارة، فقال: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة/25] طَهُرْنَ من الحيض والبول والنَّجوِ وكلِّ أذًى يكون في نساء الدُّنيا، وطهُرت بواطنُهنَّ من الغيرة، وأذى الأزواج، وتجنِّيهنَّ عليهم، وإرادة غيرهم. ووصفهنَّ بأنَّهنَّ مَقْصُوراتٌ في الخيام، أي: ممنوعاتٌ من التبرُّج، والتبذل لغير أزواجهنَّ، بل قد قُصِرْنَ على أزواجهنَّ، لا يخرجن من منازلهم، وقُصِرْن عليهم، فلا يُرِدن سواهم. ووصفهنَّ سبحانه بأنهنَّ قاصراتُ الطَّرْف، وهذه الصِّفةُ أكمل من الأولى، ولهذا كنَّ لأهل الجنتين الأوليين، فالمرأة منهنَّ قد قصرت طرفها على زوجها من محبتها له، ورضاها به، فلا يتجاوزُ طرفُها عنه إلى [91 ب] غيره، كما قيل (1): أذودُ سَوَامَ الطَّرْفِ عنكَ وماله ... على أحدٍ إلا عليك طريقُ وكذلك حال المقصورات أيضًا، ولكن أولئك مقصوراتٌ، وهؤلاء قاصرات. _________ (1) البيت لقيس بن ذريح في ديوانه (ص 128)، والتذكرة الحمدونية (6/ 164). ولمضرس بن قرط في أمالي القالي (2/ 257). وانظر سمط اللآلي (2/ 893).
(الكتاب/348)
ووصفهنَّ سبحانه بقوله: {أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة/36 ــ 37] وذلك لفضل وطءِ البكر، وحلاوته، ولذاذته على وطء الثَّيِّب. قالت عائشة: يا رسول الله! لو مررت بشجرة قد رُعي منها، وشجرةٍ لم يُرْعَ منها؛ ففي أيِّهما كنت تُرتِع بعيرك؟ قال: «في التي لم يُرع منها» (1) يعني: أنه لم يتزوَّج بكرًا غيرها. وصحَّ عنه: أنَّه قال لجابر لما تزوَّج امرأة ثيبًا: «هلَّا بكرًا تُلاعبُها وتُلاعبك؟» (2). فإن قيل: فهذه الصفة تزول بأوَّل وطْءٍ، فتعود ثيِّبًا، قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ المقصود من وطء البكر أنَّها لم تذُق أحدًا قبل وطئها، فتُزْرع محبته في قلبها، وذلك أكملُ لدوام العشرة، فهذا بالنسبة إليها، وأمَّا بالنسبة إلى الواطئ؛ فإنَّه يَرْعى روضةً أُنفًا، لم يرْعَها أحدٌ قبله، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن/56] ثم بعد هذا تستمرُّ له لذّةُ الوطءِ حال زوال البكارة. والثاني: أنه قد رُوي: «أنَّ أهل الجنة كلما وطئ أحدهم امرأةً؛ عادت بكرًا، كما كانت، فكلَّما أتاها؛ وجدها بكرًا» (3). _________ (1) أخرجه البخاري (5189، 5190)، ومسلم (2448). (2) أخرجه البخاري (443، 5079)، ومسلم (715). (3) سيأتي الحديث قريبًا.
(الكتاب/349)
وأما العُرُبُ: فجمعُ عروب، وهي التي جمعت إلى حلاوة الصُّورة حسن التأتي، والتبعُّل، والتحبُّب إلى الزوج بدَلِّها، وحديثها، وحلاوة منطقها، وحسن حركاتها. قال البخاريُّ في صحيحه (1): وأمَّا الأتراب: فجمع تِرْب، يقال: فلانٌ تِرْبي: إذا كنتما في سنٍّ واحدةٍ، فهنَّ مستوياتٌ في سنِّ الشباب، لم يُقصِّرْ بهنَّ الصغر، ولم يُزْرِبهنَّ الكِبَرُ، بل سنُّهن سنُّ الشباب لأكمل الشبان. وشبههنَّ تعالى باللُّؤْلُؤ المكنون، وبالبيض المكنون، وبالياقوت والمرجان، فخذ من اللؤلؤ صفاء لونه، وحسن بياضه، ونعومة ملمسه، وخذ من البيض المكنون ــ[92 أ] وهو المصون؛ الذي لم تنله الأيدي ــ اعتدال بياضه، وشوْبه بما يُحسِّنهُ من قليل صُفرةٍ، بخلاف الأبيض الأمهق، المتجاوز في البياض، وخذ من الياقوت والمرجان حسن لونه في صفائه، وإشرابه بيسيرٍ من الحمرة. فصل فاسمع الآن وصفهنَّ بخبر الصادق المصدوق، فإن مالت النفسُ وحدَّثتك بالخِطبة، وإلا فالإيمان مدخول. فروى مسلمٌ في صحيحه (2) _________ (1) لم أجده فيه. وفي تفسير سورة (ص) منه: «أتراب: أمثال». (2) رقم (2834). وأخرجه أيضًا البخاري (3327).
(الكتاب/350)
من حديث أيُّوب عن محمد بن سيرين قال: إما تفاخروا، وإما تذاكروا: الرجالُ أكثر في الجنة أم النساء؟ فقال أبو هريرة: أولم يقل أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أوَّل زُمرةٍ يدخلون الجنة على صورة القمر ليلةَ البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دُرِّي في السماء إضاءةً، لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان يُرى مُخُّ سُوقِهما من وراء اللَّحم، وما في الجنَّة عَزَبٌ». وقال الطبراني في معجمه (1): حدَّثنا أحمد بن يحيى الحلواني والحسن بن علي الفسوي قالا: حدَّثنا سعيدُ بن سليمان، حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أوَّلُ زُمرةٍ يدخلون الجنة كأنَّ وجوههُم صورة القمر ليلة البدرِ، والزُّمرة الثانية على أحسن كوكب دُرِّي في السماء، لكلِّ واحد منهم زوجتان من الحُور العين، على كُل زوجة سبعون حُلَّةً، يُرى مُخُّ سُوقهما من وراء لُحُومِهِمَا وحُللِهما، كما يُرى الشَّرابُ الأحمرُ في الزُّجاجة البيضاء». قال الحافظُ أبو عبد الله المقدسي (2): هذا عندي على شرط الصَّحيح. _________ (1) في الكبير (10321)، والأوسط (919). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 411): إسناده صحيح. (2) هو ضياء الدين صاحب «المختارة». وكذا حكم عليه المؤلف في حادي الأرواح (ص 431).
(الكتاب/351)
وفي الصَّحيحين (1) من حديث هَمَّام بن مُنبِّه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أوَّلُ زُمْرةٍ تلِجُ الجنَّة صُوَرُهُم على صورة القمر ليلة البدْر، لا يبصُقُون فيها، ولا يمتخِطُون فيها، ولا يتغوَّطُون فيها، آنيتُهُم وأمشاطُهُمُ الذَّهبُ والفضَّةُ، ومجامِرُهُم الأَلُوَّة، ورشحُهُم المِسْك، [92 ب] ولكلِّ واحد منهم زوجتان، يُرى مخُّ ساقِهما من وراء اللَّحْم من الحُسن، لا اختلاف بينهُم ولا تباغُض، قُلُوبهم على قلب واحدٍ، يُسبِّحون الله بكرةً وعشيةً». وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (2): حدَّثنا يونسُ بنُ محمد، حدَّثنا الخزْرَج بن عثمان السَّعديُّ، حدَّثنا أبو أيوب مولى عثمان بن عفان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قِيْدُ سوْطِ أحَدِكُمْ في الجَنَّةِ خيْرٌ من الدُّنْيَا ومِثْلِها معَهَا. [ولقَابُ قوسِ أحدِكُم من الجنَّة خيرٌ من الدُّنيا ومثلِها معها] (3)، ولنصيف امرأة من الجنَّة خيرٌ من الدُّنيا ومثْلِها معها» قال: قلت: يا أبا هريرة! وما النَّصيف؟ قال: الخِمار، فإذا كان هذا قدْر الخمار، فما قَدْرُ لابِسِه؟! وقال ابن وهب (4): أنبأنا عمرو أنَّ درَّاجًا أبا السَّمح حدَّثه عن أبي _________ (1) البخاري (3245)، ومسلم (2834). (2) 2/ 345. ورجاله ثقات، كما في مجمع الزوائد (10/ 115). (3) زيادة من المسند. (4) أخرجه أحمد (3/ 75). ودرّاج ضعيف.
(الكتاب/352)
الهيثم عن أبي سعيد الخُدْري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الرَّجُل في الجنَّة لتأتيه امْرأةٌ تضرِبُ على منكبه، فينظر وجهه في خدِّها أصفى من المرآة، وإن أدْنى لُؤلُؤة عليها لتُضيءُ ما بين المشرق والمغرب، فتسلمُ عليه، فيرد عليها السلام، ويسألها: من أنت؟ فتقول: أنا المزيدُ، وإنهُ ليكونُ عليها سبعون ثوبًا أدناها مثل النعمان. فينفُذُها بصرُه، حتَّى يرَى مُخَّ ساقِها من وراء ذلك، وإن عليها التيجان، وإنَّ أدنى لُؤلُؤة عليها لتُضيءُ مابين المشرق والمغرب». وبعض هذا الحديث في جامع الترمذي (1)، وهو على شرطه. وفي صحيح البخاري (2) من حديث أنس أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لغَدْوةٌ في سبيل الله، أوْ روْحَةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولقابُ قوس أحدِكُم، أو موضع قِيْدِه ـ يعني: سوطه ـ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولو اطَّلعت امرأةٌ من نساء الجنَّة إلى الأرض؛ لملأت ما بينهما ريحًا، وأضاءتْ ما بينهما، ولنصيفُها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها». وفي المسند (3) من حديث محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «للرَّجُلِ من أهل الجنَّة زوْجتان من الحُور العين، على كُلِّ واحدةٍ سبعون حُلَّةً، [93 أ] يُرى مُخُّ ساقها من وراء الثياب». _________ (1) رقم (2565). (2) رقم (2792، 2796، 6568). وأخرجه أيضًا مسلم (1880). (3) 2/ 345.
(الكتاب/353)
وقال الترمذي: حدَّثنا عمرو أنَّ درَّاجًا أبا السمح حدَّثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدريِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أدْنى أهْل الجنَّة منزلة الَّذي له ثمانُون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجةً، ويُنْصَبُ لهُ قُبَّةٌ من لُؤلُؤٍ، وزبرْجَدٍ، وياقُوتٍ كما بيْنَ الجابِية وصنْعاء» رواه الترمذي (1). وفي معجم الطبراني (2) من حديث أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خُلِق الحورُ العينُ من الزَّعْفَرانِ». فصل فإن أردت سماع غنائهنَّ؛ فاسمع خبره الآن، ففي معجم الطَّبراني (3) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أزْواج أهْلِ الجَنَّة ليُغَنِّين أزْواجَهنُ بأحْسَن أصْوَاتٍ، ما سمعها أحدٌ قطُّ، إن ممَّا يُغَنِّينَ به: نحنُ الخيِّرَاتُ الحِسَانُ، أزواجُ قوم كرام، ينْظُرُون بقُرَّة أعيانٍ، وإنَّ مما يُغنِّين به: نحنُ الخالداتُ، فلا نمُتْنَهْ، نحنُ الآمناتُ، فلا نخفْنَهْ، نحنُ المُقيماتُ، فلا نظعَنَّهْ». _________ (1) برقم (2562). وأخرجه أيضًا أحمد (3/ 75) وإسناده ضعيف. (2) الكبير (7813)، والأوسط (290). وفي الإسناد ضعفاء كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 419). (3) الصغير (734)، والأوسط (4914). ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي (10/ 419).
(الكتاب/354)
وقد قيل في قوله تعالى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم/15]: إنه السماع الطيبُ، ولا ريب أنه من الحبرة. وقال عبد الله بن محمد البغوي (1): حدَّثنا عليٌّ، أنبأنا زهيرٌ عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ قال: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر/73] حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها؛ وجدوا عنده شجرةً، يخرج من تحت ساقها عينان تجريان، فعمدوا إلى إحداهما، فكأنَّما أُمروا به، فشربوا منها، فأذهب الله ما في بطونهم من قذًى، أو أذًى، أو بأْس، ثم عمدوا إلى الأخرى، فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم، ولم تتغيَّر أشعارُهم بعدها أبدًا، ولم تشعث رؤوسهم، كأنهم ادَّهَنُوا بالدِّهان، ثُمَّ انتهوا إلى خزنة الجنة، فقالوا: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر/73] ثم تلقَّاهم الولدان يطيفون بهم، كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم عليهم [93 ب] من غيبته، فيقولون له: أبشر بما أعدَّ الله تعالى لك من الكرامة، ثم ينطلق غلامٌ من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحُور العين، فيقول: جاء فلان باسمه الذي كان يُدْعى به في الدنيا قالت: أنت رأيتُهُ؟ قال: أنا رأيتُه، وهو بِأَثري، فيستخفّ إحداهنَّ الفرحُ حتى تقومُ على أُسْكُفَّة بابها، فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه، فإذا جندلُ اللؤلؤ فوقه صرحٌ أخضر، وأحمرُ، وأصفرُ من كل لون، ثم رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق، ولولا أن الله ــ عزَّ وجلَّ ــ قدَّره؛ لألمَّ أن يذهب بصره، _________ (1) في «مسند علي بن الجعد» (2569).
(الكتاب/355)
ثم طأطأ رأسه، فإذا أزواجه، وأكوابٌ موضوعة، ونمارقُ مصفوفة، وزرابيُّ مبثوثة، ثم اتكأوا فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف/43] ثم ينادي منادٍ: تحيَوْنَ فلا تموتون أبدًا، وتقيمون فلا تظعنون أبدًا، وتصحُّون فلا تمرضون أبدًا. وفي سنن ابن ماجه (1) من حديث أُسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا هل مُشمِّرٌ للجنة! فإن الجنة لا خطر لها، هي وربِّ الكعبة نُورٌ يتلألأُ، وريحانةٌ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مطّرد، وثمرةٌ نضيجة، وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ، وحُلَلٌ كثيرةٌ، ومقامٌ في أبَدٍ في دارٍ سليمةٍ، وفاكهة وخُضرةٍ، وحبْرةٍ ونعمةٍ، في محلَّةٍ عالية بهيَّةٍ». قالوا: نعم يا رسول الله! نحنُ المشمِّرون لها، قال: «قولوا: إن شاء الله». فقال القوم: إن شاء الله. فصل فهذا وصفُهنَّ وحسنُهنَّ، فاسمع الآن لذَّةَ وصالهنَّ، وشأنه، ففي مسند أبي يعلى الموصلي (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثًا طويلًا وفيه: «فأقولُ: يا ربِّ! وعدْتني الشَّفاعةَ فشفِّعْنِي في أهلِ الجنَّة يدخلون الجنَّة، فيقول الله: قد شفَّعْتُك وأذِنْتُ لهم في دُخُولِ الجنَّة». _________ (1) رقم (4332). وهو حديث ضعيف. (2) لم أجده في مسنده.
(الكتاب/356)
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي بعثني بالحقَّ! ما أنتم في الدُّنيا [94 أ] بأعرف بأزواجكم، ومساكنكُم من أهل الجنة بأزواجهم، ومساكنهم، فيدخلُ رجُل منهمْ على ثنتين وسبعين زوجةً مما يُنشئُ الله، وثنتين من ولد آدم، لهما فضلٌ على من أنشأ الله بعبادتهما الله في الدنيا، يدخلُ على الأُولى منْهُما في غُرفةٍ من ياقُوتةٍ، على سرير من ذهب مُكَلّلٍ باللُّؤْلُؤِ، عليه سبعون زوجًا من سُندُسٍ وإسْتَبْرقِ، وإنهُ ليضعُ يده بين كتفيها، ثُمَّ ينظرُ إلى يده من صدرها، ومن وراء ثيابها، وجلدها، ولحمها، وإنه لينظر إلى مخ ساقها، كما ينظر أحدُكم إلى السِّلك في قصبة الياقوت، كبدُهُ لها مرآةٌ ــ يعني: وكبدُها له مرآةٌ ــ فبينا هُو عندها لا يملُّها ولا تملُّه، ولا يأتيها من مرةٍ إلا وجدها عذراء، ما يفتُرُ ذكرُه، ولا تشتكي قُبُلها، فبينا هو كذلك؛ إذ نُودي: إنا قد عرفنا أنك لا تملُّ، ولا تمل إلا أنه لا منيَّ ولا منيَّةَ إلا أن يكون لك أزواجٌ غيرها، فيخرج، فيأتيهنَّ واحدةً واحدةً، كُلما جاء واحدةً قالت: والله ما في الجنة شيءٌ أحسنُ منك! وما في الجنة شيءٌ أحبُّ إليَّ منك». وهذا قطعةٌ من حديث الصُّور الطويل الذي رواه إسماعيل بن نافع (1). وفي صحيح مسلم (2) من حديث أبي موسى الأشعريِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن للمؤمن في الجنَّة لخيمة من لُؤلؤةٍ واحدةٍ مُجَوَّفةٍ، طولُها _________ (1) أخرجه البيهقي في البعث والنشور (609). (2) رقم (2838).
(الكتاب/357)
سِتُّون ميلًا، للمؤمن فيها أهلُون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضُهُم بعضًا» ورواه البخاري (1) وقال: ثلاثون ميلًا. وفي جامع الترمذي (2) من حديث أنسٍ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُعْطى المؤمنُ في الجنة قوَّة كذا وكذا من النساء» قلت: يا رسول الله! ويطيقُ ذلك؟ قال: «يُعْطى قوة مئة». قال: هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ. وفي معجم الطَّبراني (3) من حديث أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله! [94 ب] هل نَصِلُ إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: «إنَّ الرجل ليصلُ في اليوم إلى مئة عذراء» وفي لفظٍ: قلنا: يا رسول الله! نُفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: «إي والذي نفسي بيده! إنَّ الرجل ليُفْضي في الغداة الواحدة إلى مئة امرأة عذراء». قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: ورجالُ هذا الحديث عندي على شرط الصَّحيح. وفي حديث لقيط العقيليِّ الطويل؛ الذي رواه الطبراني (4)، وعبدُ الله بن أحمد في السُّنَّة وغيرهما: أنه قال: قلت: يا رسول الله! أولنا فيها أزواجٌ مصلحات؟ قال: «الصالحاتُ للصالحين، تَلذُّوا بهنَّ مثل لذَّاتِكُم _________ (1) رقم (4879). (2) رقم (2539). (3) الصغير (795)، والأوسط (722). (4) في الكبير (19/ 211)، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (4/ 13 - 14). قال الهيثمي: إسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط.
(الكتاب/358)
في الدنيا ويلذُّوا بكم غير أن لا توالُد». وذكر ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن عبد الرحمن بن حُجَيرة، عن أبي هريرة أنه قال: أنطأُ في الجنة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم والذي نفسي بيده! دحْمًا دحْمًا، وإذا قام عنها رجعتْ مُطَهَّرة بكرًا» (1). قال الحافظ أبو عبد الله (2): دَرّاجٌ اسمه: عبد الرحمن بن سمعان المصري، وثَّقهُ يحيى بن معين؛ وأخرج عنه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، وكان بعض الأئمة ينكر بعض حديثه، والله أعلم. وفي معجم الطَّبراني (3) من حديث أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخُدْري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أهل الجنَّة إذا جامعوا نساءهم، عُدْنَ أبكارًا». وفيه أيضًا (4) من حديث أبي أُمامة أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسُئل: هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال: «بِذَكرٍ لا يملُّ، وشهوة لا تنقطعُ، دحمًا دحمًا». _________ (1) أخرجه ابن حبان (2633 - موارد)، وأبو نعيم في صفة الجنة (393). وإسناده حسن. (2) هو الضياء المقدسي، انظر قوله في كتابه «صفة الجنة» (ص 131، 132). (3) الصغير (249)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 417): فيه معلى بن عبدالرحمن الواسطي وهو كذاب. (4) في الكبير (7674، 7721). وفيه هاشم بن زيد الدمشقي وهو ضعيف.
(الكتاب/359)
وفيه (1) أيضًا عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أيجامع أهل الجنَّة؟ قال: «دَحْمًا دَحْمًا، ولكن لا منيَّ ولا منيةَ». نظم الشيخ شمس الدين المؤلف (2) فيا خاطب الحُور الحسان وطالبًا ... لوصالهنَّ بجنَّة الحيوان لو كنت تدري من خطبت ومن طلبـ ... ــت بذلتَ ما تحوي من الأثمان أو كنت تدري أين مسكنها جعلـ ... ـت السَّعي منك لها على الأجفان [95 أ] أسرِعْ وحُثَّ السَّير جُهدك إنما ... مسراك هذا ساعةٌ لزمان فاعشق وحدّثْ بالوصال النفس وابْـ ... ذُلْ مهرَها ما دُمْت ذا إمكان واجعل صيامك دون لقياها ويو ... م الوَصْل يوم الفطر من رمضان واجعل نعوت جمالها الحادي وسِرْ ... نحو الحبيب ولست بالمُتواني فاسمع إذًا أوصافها ووصالها ... واجعل حديثك ربة الإحسان يا من يطوف بكعبة الحسن التي ... حُفَّت بذاك الحِجْرِ والأركان ويظلُّ يسعى دائمًا حوْل الصَّفا ... ويحثّ من مسعاه كلَّ أوان ويروم قُربان الوصال على مِنًى ... والخَيْفُ يحْجُبه عن القُربان فلذا تراه مُحرمًا أبدًا ومو ... ضعُ حِلِّه منه فليس بدان يبغي التمتُّع مُفرِدًا عن حبِّه ... متجرِّدًا يبغي شفيع قِران _________ (1) في الكبير (7479). وفي إسناده خالد بن يزيد، وهو متروك. (2) في ش: «فصل» بدل هذا العنوان. والأبيات ـ مع بعض الاختلاف ـ للمؤلف من نونيته المعروفة بالكافية الشافية (ص 258، 259، 278، 280 ـ 284). وفي البيت الأول خزم بزيادة الفاء.
(الكتاب/360)
ويظلُّ بالجمرات يرمي قلبه ... هذي مناسكُه بكل أوانِ والنَّاسُ قد قَضَّوا مناسكَهم وقد ... حَثُّوا ركائبهم إلى الأوطان وحدتْ بهم هممٌ لهم وعزائمٌ ... نحو المنازل ربَّة الإحسان رُفِعتْ لهم في السَّيْر أعلامُ الوصا ... ل فشمَّروا يا خيبة الكسلان ورأوا على بُعدٍ خيامًا مُشرفا ... تٍ مشرقاتِ النُّور والبُرهان فتيمَّموا تلك الخيام فآنسوا ... فيهنَّ أقمارًا بلا نُقصان من قاصرات الطَّرْفِ لا تبغي سوى ... محبوبها من سائر الشُّبَّانِ قصَرتْ عليه طرفها من حُسْنِهِ ... والطَّرْفُ منه مُطلقٌ بأمان ويحار منه الطرفُ في الحسن الذي ... قد أُعطيت فالطرفُ كالحيران [95 ب] ويقولُ لمَّا أن يُشاهد حُسنها ... سبحان مُعطي الحُسن والإحسان والطرف يشربُ من كؤوس جمالها ... فتراه مثل الشَّارب النَّشْوانِ كمُلتْ خلائقُها وأُكمِل حسنُها ... كالبدْر ليل السِّتِّ بعد ثمانِ والشمس تجري في محاسن وجهها ... والليل تحت ذوائب الأغصان فيظلُّ يَعجب وهو موضعُ ذاك من ... ليل وشمس كيف يجتمعان ويقول سبحان الذي ذا صنعُهُ ... سبحان مُتْقِنِ صنْعة الإنسانِ لا الليلُ يُدركُ شمسها فتغيب عنـ ... ــد مجيئه حتَّى الصباح الثَّاني والشَّمسُ لا تأتي فتُخفي الليلَ بل ... يتصاحبان كلاهُما أخوانِ وكلاهُما مرآةُ صاحبه إذا ... ما شاء يُبصِرُ وجهه يريان فيرى محاسن وجهه في وجهها ... وترى محاسنها به بعيانِ حُمْر الخُدود ثُغورُهنَّ لآلئٌ ... سودُ العيون فواترُ الأجفانِ
(الكتاب/361)
والبرقُ يبدو حين يبسمُ ثغرُها ... فيضيءُ سقف القصرِ بالجُدْرانِ ريانة الأعطاف منْ ماء الشَّبا ... ب فغصنُها بالماء ذو جريان والقدُّ منها كالقضيب اللَّدْنِ في ... حُسن القوام كأوسط القُضبانِ لما جرى ماء النعيم بغُصنِها ... حملَ الثمارَ كثيرةَ الألوانِ فالوردُ والتفاح والرمّان في ... غصنٍ تعالى غارسُ البستانِ (1) في مغرسٍ كالعاج تَحسبُ أنه ... عالي النَّقا أو واحدُ الكُثْبان لا الظَّهرُ يلحقُه وليس ثُديُّها ... بلواحقٍ للبطن أو بدوانِ لكنَّهنَّ كواعبٌ ونواهدٌ ... فثُدِيُّهُنَّ كأحسن الرُّمانِ والجيدُ ذو طولٍ وحُسنٍ في بيا ... ضٍ واعتدال ليس ذا نُكران يشكو الخَلِيُّ بِعادَه فله مدى الـ ... أيام وسواسٌ من الهِجرانِ [96 أ] والمِعْصمان فإن تشأْ شبِّهْهما ... بسبيكتين عليهما كفَّانِ كالزُّبْدِ لينًا في نعومة ملْمَسٍ ... أصدافُ درٍّ دُوِّرت بوزانِ والصَّدْرُ مُتَّسِعٌ على بطنٍ لها ... والخَصْرُ منها مغرمٌ بثمانِ وعليه أحسن سُرَّةٍ هي زينةٌ ... للبطن قد غارت من الأعكان حُقٌّ من العاج استدار وحشوهُ ... حبَّاتُ مسكٍ جلَّ ذو الإتقان وإذا نزلت رأيت أمرًا هائلًا ... ما للصِّفات عليه من سُلطان لا الحيضُ يغشاه ولا بولٌ ولا ... شيء من الآفات في النِّسوانِ فخذان قدْ حَفَّا به حرسًا لهُ ... فجنابُه في عزَّةٍ وصيانِ _________ (1) البيتان ساقطان من ت.
(الكتاب/362)
قاما بخدمته هو السُّلطان بيـ ... ــنهما وحقٌّ طاعةُ السُّلطان وهو المطاعُ إذا هو استدعى الحبيـ ... ــبَ أتاه طوعًا وهو غيرُ جبانِ وجماعُها فهو الشفاء لصبِّها ... فالصَّبُّ منه ليس بالضَّجْران وإذا أتاها عادت الحسناء بِكْـ ... ــرًا مثل ما كانت مدى الأزمانِ وهو الشَّهيُّ ألذُّ شيء هكذا ... قال الرسولُ لمنْ له أُذنانِ يا ربِّ غفرًا قد طغت أقلامُنا ... يا ربِّ معذرةً من الطُّغيان أقدامُها منْ فضَّةٍ قد رُكِّبتْ ... منْ فوقها ساقان ملتفَّانِ والسَّاقُ مثلُ العاج ملمومٌ به ... مخُّ العِظام تنالُه العينانِ والرّيحُ مسْكٌ والجُسومُ نواعمٌ ... واللونُ كالياقوت والمرْجانِ وكلامُها يسبي العقول بنغمةٍ ... زادتْ على الأوتار والعيدانِ وهي العرُوب بشكلها وبِدلِّها ... وتحبُّبٍ للزَّوْجِ كلَّ أوانِ [96 ب] أترابُ سِنٍّ واحدٍ متماثلٍ ... سنِّ الشَّباب لأجمل الشُّبَّانِ بكرٌ فلم يأْخذ بكارتها سوى الـ ... محبوب منْ إنسٍ ولا من جان يُعْطى المُجامعُ قُوّة المئةِ التي اجـ ... ــتمعت لأقوى واحد الإنسانِ ولقد أتانا أنَّه يغْشى بيو ... م واحدٍ مئةً من النِّسوانِ ورجالُه شرْطُ الصَّحيح رَوَوا لهم ... فيه وذا في مُعجمِ الطَّبراني وبذاك فُسِّر شغلُهم في سورةٍ ... منْ بعدِ فاطر يا أخا العِرْفانِ هذا دليلٌ أنَّ قدْر نسائهم ... عددٌ كمنزلهم من الإيمان (1) _________ (1) الشطر الثاني في ش: «متفاوت بتفاوت الإيمان».
(الكتاب/363)
وبه يزولُ توهُّم الإشكال عنْ ... تلك النُّصوص بمنَّة الرَّحمن في بعضها مئة أتى وأتى بها ... سبعون أيضًا ثمَّ جا ثِنتانِ فتفاوُتُ الزَّوجات مثلُ تفاوت ... الدَّرجات فالأمران مختلفانِ وبقوَّة المئةِ التي حصلتْ له ... أفضى إلى مئةٍ بلا خورانِ وأعفُّهم في هذه الدُّنيا هو الـ ... أقوى هناك لِزُهْدِهِ في الفاني فاجمعْ قُواك لما هُناك وغُضَّ منـ ... ــك الطَّرْف واصبرْ ساعةً لزمانِ ما هاهنا والله ما يَسوَى قُلا ... مة ظُفْرِ واحدةٍ من النِّسوانِ ونصِيفُها خيرٌ من الدُّنيا وما ... فيها إذا كانت من الأثمان لا تؤثرِ الأدنى على الأعلى فإنْ ... تفعلْ رجعْتَ بذلَّةٍ وهوانِ وإذا بدت في حُلَّةٍ منْ لبسها ... وتمايلت كتمايل النَّشوانِ تهتزُّ كالغُصن الرَّطيب وحملُه ... وردٌ وتُفّاحٌ على رُمَّانِ وتبخترت في مشيها ويحقُّ ذا ... ك لمثلها في جنَّة الحيوان [97 أ] ووصائفٌ منْ خلفها وأمامها ... وعلى شمائلها وعن أيمانِ كالبَدْرِ ليلةَ تمِّه قدْ حُفَّ في ... غَسَقِ الدُّجى بكواكب الميزان فلسانُه وفؤادُه والطَّرْفُ في ... دهشٍ وإعجابٍ وفي سبحانِ تستنطقُ الأفواه بالتَّسبيح إذ ... تبدو فسبحان العظيم الشَّانِ والقلبُ قبل زفافها في عُرسه ... والعُرْسُ إثرَ العُرْسِ مُتَّصلانِ حتى إذا ما واجهتْه تقابلا ... أرأيتَ إذ يتقابلُ القمرانِ فسلِ المتَيَّمَ هل يَحِلُّ الصَّبْرُ عنْ ... ضمٍّ وتقبيلٍ وعن فلتانِ وسل المتيَّم أين خلَّف صَبْره ... في أيِّ وادٍ أم بأيِّ مكانِ
(الكتاب/364)
وسلِ المُتيَّم كيف حالتُه وقدْ ... مُلِئتْ له الأذُنان والعينانِ منْ منطقٍ رقَّت حواشيه ووجْـ ... ــهٍ كمْ به للشَّمسِ منْ جريان وسلِ المُتيَّم كيف عيشتُه إذًا ... وهما على فرشيْهما خِلْوانِ يتساقطان لآلئًا منثورةً ... منْ بَيْنِ منظومٍ كنظم جُمانِ وسلِ المُتيَّم كيف مجلسُهُ مع الـ ... ــمحبوب في رَوْحٍ وفي ريحانِ وتدور كاساتُ الرَّحيق عليهما ... بأكُفِّ أقمارٍ من الولدان يتنازعان الكأْسَ هذا مرةً ... والخَوْدُ أخرى ثُمَّ يتَّكئانِ فيضمُّها وتضمُّه أرأيت معْـ ... ــشوقين بعد البُعْدِ يلتقيانِ غابَ الرَّقيبُ وغابَ كلُّ منكِّدٍ ... وهما بثوبِ الوَصْلِ مُشْتملانِ أتراهما ضَجِرينِ من ذا العيشِ لا ... وحياةِ ربك ما هما ضجرانِ (1) يا عاشقًا هانت عليه نفسُه ... إذْ باعها غبْنًا بكل هوانِ أترى يليقُ بعاقلٍ بيعُ الذي ... يبقى ــ وهذا وصفُه ــ بالفاني؟! _________ (1) البيت ساقط من ت.
(الكتاب/365)
[97 ب] الباب العشرون في علامات المحبَّة وشواهدها
وقبل الخوض في ذلك لابدَّ من ذكر أقسام النفوس ومحابِّها، فنقول: النفوس ثلاثة: نفسٌ سماويةٌ عُلوية، فمحبتها منصرفةٌ إلى المعارف، واكتساب الفضائل، والكمالات الممكنة للإنسان، واجتناب الرذائل، وهي مشغوفةٌ بما يقرِّبها من الرفيق الأعلى، وذلك قُوْتُها، وغذاؤُها، ودواؤُها، واشتغالُها بغيره هو داؤُها. ونفسٌ سبعيةٌ غضبيةٌ، فمحبتُها منصرفةٌ إلى القهر، والبغي، والعلوِّ في الأرض، والتكبُّر، والرِّئاسة على الناس بالباطل، فلذَّتها في ذلك، وشغفُها به. ونفسٌ حيوانيةٌ شهوانيةٌ، فمحبَّتها منصرفةٌ إلى المأْكل، والمشرب، والمنكح، وربما جمعت الأمرين، فانصرفت محبَّتُها إلى العلوِّ في الأرض، والفساد، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص/4]. وقال في آخر السورة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص/83].
(الكتاب/366)
والحبُّ في هذا العالم دائرٌ بين هذه النفوس الثلاثة، فأيُّ نفسٍ منها صادفت ما يلائم طبعها؛ استحسنتهُ ومالتْ إليه، ولم تصغ فيه لعاذل، ولم يأخذها فيه لومةُ لائم، وكلُّ قسم من هذه الأقسام يرون أنَّ ما هم فيه أولى بالإيثار، وأنَّ الاشتغال بغيره، والإقبال على سواه غبنٌ، وفوات حظٍّ، فالنَّفسُ السماوية بينها وبين الملائكة والرفيق الأعلى مناسبةٌ طبيعية بها مالت إلى أوصافهم، وأخلاقهم، وأعمالهم. فالملائكةُ أولياء هذا النوع في الدُّنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي [98 أ] أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت/30 ــ 32]. فالملَك يتولَّى من يناسبه بالنُّصح له، والإرشاد، والتَّثبيت، والتعليم، وإلقاء الصواب على لسانه، ودفع عدوِّه عنه، والاستغفار له إذا زلَّ، وتذكيره إذا نسي، وتسليته إذا حزن، وإلقاء السكينة في قلبه إذا خاف، وإيقاظه للصلاة إذا نام عنها، وإيعاد صاحبه بالخير، وحضِّه على التصديق بالوعد، وتحذيره من الرُّكون إلى الدُّنيا، وتقصير أمله، وترغيبه فيما عند الله، فهو أنيسُه في الوحدة، ووليُّه، ومعلِّمه، ومثبّتُه، ومسكِّن جَأْشِه، ومرغِّبه في الخير، ومُحذّره من الشرِّ، يستغفر له إن أَساء، ويدعو له بالثبات إن أحسن، وإن بات طاهرًا يذكر الله؛ بات معه في شعاره، فإن
(الكتاب/367)
قصده عدوٌّ له بسوءٍ وهو نائمٌ؛ دفعه عنه. فصل والشياطين أولياء النوع الثاني، يخرجونهم من النور إلى الظلمات. قال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} [النحل/63] وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج/4] وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء/119 ــ 121]، وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف/50]. فهذا النوعُ بين نفوسهم وبين الشياطين مناسبةٌ طبعية، بها مالت إلى أوصافهم، وأخلاقهم، وأعمالهم، فالشياطينُ تتولاهم بضدِّ ما تتولى به الملائكة من ناسبهم، فتؤُزُّهم إلى المعاصي أزًّا، وتزعجهم إليها إزعاجًا، لا يستقرُّون معه، ويزينون لهم القبائح، ويخففونها على قلوبهم، ويحلونها في نفوسهم، ويثقلون عليهم الطاعات، [98 ب] ويُثبِّطونهم عنها، ويقبِّحُونها في أعينهم، ويلقون على ألسنتهم أنواع القبيح من الكلام، وما لا يفيد، ويزيِّنونه في أسماع من يسمعه منهم، يبيتُون معهم حيث باتوا،
(الكتاب/368)
ويقيلون معهم حيث قالوا، ويشاركونهم في أموالهم وأولادهم ونسائهم، يأكلون معهم، ويشربون معهم، ويجامعون معهم، وينامون معهم. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء/38]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف/36 ــ 38]. فصل وأما النوع الثالث؛ فهم أشباه الحيوان، ونفوسهم أرضيةٌ سفليةٌ، لا تبالي بغير شهواتها، ولا تريد سواها. إذا عرفت هذه المقدمة فعلامات المحبة قائمةٌ في حقّ كل نوع بحسب محبوبه ومراده، فمن تلك العلامات يُعرف من أيِّ هذه الأقسام هو، فنذكر فصولًا من علامات المحبة التي يُستدلُّ بها عليها: فمنها: إدمانُ النظر إلى الشيء، وإقبال العين عليه، فإنَّ العين باب القلب، وهي المعبِّرةُ عن ضمائره، والكاشفة لأسراره، وهي أبلغ في ذلك من اللسان؛ لأن دلالتها حاليةٌ بغير اختيار صاحبها، ودلالةُ اللسان لفظيةٌ تابعةٌ لقصده، فترى ناظر المحب يدور مع محبوبه كيفما دار،
(الكتاب/369)
ويجول معه في النواحي والأقطار، كما قال (1): أَذُودُ سوامَ الطرف عنك وما لهُ ... على أحدٍ إلاَّ عليك طريقُ بل المحب في عين المحبوب تمثاله، كما في قلبه شخصُه ومثالُه، قال القائل (2): ومن عجب أنِّي أحِنُّ إليهمُ ... وأسألُ عنهم من لقيتُ وهم معي وتطلبُهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقُهم قلبي وهم بين أضلعي فالمحبُّ نظره وقفٌ على محبوبه كما قال (3): [99 أ] إن يحجُبوها عن العيون فقدْ ... حجَبْتُ عيني لها عن البشر فصل ومنها: إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه، ورميه بطرفه نحو الأرض، وذلك من مهابته له، وحيائه منه، وعظمته في صدره، ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم، وهو يُحِدُّ النَّظر إليهم، بل يكون خافض الطرف إلى الأرض. _________ (1) سبق البيت. (2) سبق البيتان. (3) البيت لمسلم بن الوليد في ديوانه (ص 291)، والشعر والشعراء (2/ 841)، والمحب والمحبوب (2/ 176).
(الكتاب/370)
قال الله تعالى مخبرًا عن كمال أدب رسوله في ليلة الإسراء: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم/17] وهذا غايةُ الأدب، فإن البصر لم يزغ يمينًا ولا شمالًا، ولا طمح متجاوزًا إلى ما هو رائيه ومقبلٌ عليه، كالمُتشارف إلى ما وراء ذلك. ولهذا اشتدَّ نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - للمصلِّي أن يَرفع بصره إلى السماء، وتوعَّدهم على ذلك بخطف أبصارهم؛ إذ هذا من كمال الأدب مع مَنِ المصلي واقفٌ بين يديه، بل ينبغي له أن يقف ناكس الرَّأس، مطرقًا إلى الأرض، ولولا أن رب العالمين سبحانه فوق سمواته على عرشه؛ لم يكن فرقٌ بين النظر إلى فوق أو إلى أسفل. فصل ومنها: كثرةُ ذكر المحبوب، واللهجُ بذكره وحديثه، فمن أحبَّ شيئًا أكثر من ذكرهِ بقلبه، ولسانه. ولهذا أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال، وأمرهم بذكره أخوفَ ما يكونون، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال/45] والمحبون يفتخرون بذكر أحبابهم وقت المخاوف، وملاقاة الأعداء، كما قال قائلهم (1): _________ (1) البيت لأبي عطاء السندي في الحماسة (1/ 66)، والزهرة (1/ 200)، وشرح شواهد المغني (2/ 840)، وتزيين الأسواق (2/ 207).
(الكتاب/371)
ذكرتُكِ والخطيُّ يخطرُ بيننا ... وقد نهِلتْ منَّا المثقَّفةُ السُّمْرُ وقال غيره (1): ولقد ذكرتك والرماحُ كأنَّها ... أشطانُ بئرٍ في لبان الأدهم فوددْتُ تقبيل السُّيوف لأنها ... برقت كبارق ثغرك المتبسِّم وفي بعض الآثار الإلهية: «إنَّ عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مُلاقٍ قِرْنه» (2). [99 ب] فعلامةُ المحبة الصادقة ذكر المحبوب عند الرَّغب والرهب، قال بعضُ المحبين في محبوبه (3): يذكِّرنِيك الخيرُ والشَّرُّ والذي ... أخافُ وأرجو والَّذي أتوقَّعُ ومن الذكر الدالِّ على صدق المحبة سبقُ ذكر المحبوب إلى قلب المحبِّ ولسانه عند أول يقظته من منامه، وأن يكون ذكره آخر ما ينام عليه، كما قال قائلهم (4): _________ (1) البيتان لعنترة من معلقته، انظر ديوانه (ص 216). (2) أخرجه الترمذي (3580) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي. (3) البيت بلا نسبة في الحماسة (2/ 71). ولأعرابي من هذيل في البيان والتبيين (3/ 330)، والحيوان (7/ 148). ونسب لمجنون ليلى في ديوانه (ص 189). (4) البيت بلا نسبة في الحماسة (2/ 75)، وفي ذيل الأمالي (3/ 70) لامرأة.
(الكتاب/372)
أآخرُ شيءٍ أنتِ في كلِّ هجْعةٍ ... وأوَّلُ شيءٍ أنتِ وقتَ هُبوبي وذكر المحبوب لا يكون على نسيانٍ مستحكم، فإنَّ ذكره بالقوَّة في نفس المحبِّ، ولكن لضيق المحلِّ يرد عليه ما يُغيِّب ذكره، فإذا زال الوارد؛ عاد الذِّكر كما كان. وأعلى أنواع ذكر الحبيب أن يحبِس المحبُّ لسانه على ذكره، ثمَّ يحبسُ قلبه على لسانه، ثم يحبسُ قلبَه ولسانه على شهودِ مذكوره. وكما أن الذِّكر من نتائج الحبِّ، فالحبُّ أيضًا من نتائج الذكر، فكلٌّ منهما يُثْمِرُ الآخر، وزرعُ المحبَّة إنَّما يُسْقَى بماء الذِّكر، وأفضلُ الذِّكر ما صدر عن المحبَّة. فصل ومن علاماتها: الانقيادُ لأمر المحبوب، وإيثارُه على مراد المُحبِّ، بل يتَّحدُ مرادُ المُحبِّ والمحبوب. وهذا هو الاتِّحاد الصَّحيح، لا الاتحاد الذي يقوله إخوان النَّصارى من الملاحِدة، فلا اتِّحاد إلَّا في المراد، وهذا الاتِّحاد علامة المحبة الصادقة، بحيث يكون مرادُ المحبوب والمحبِّ واحدًا، فليس بمحبٍّ صادقٍ من له إرادةٌ تُخالف مُراد محبوبه منه، بل هذا مريدٌ من محبوبه، لا مريدٌ له، وإن كان مريدًا له؛ فليس مُريدًا لمُراده. والمحبُّون ثلاثة أقسام: منهم منْ يُريد من المحبوب، ومنهم من
(الكتاب/373)
يُريد المحبوبَ، ومنهم من يُريد مراد المحبوب مع إرادته للمحبوب، وهذا أعلى أقسام المحبِّين، وزهدُ هذا أعلى أنواع الزُّهد، فإنَّه قد زهد في كل إرادةٍ تُخالف مُراد محبوبه، وبين هذا وبين الزُّهد في الدُّنيا أعظمُ ممَّا بين السماء والأرض. والزُّهد خمسةُ [100 أ] أقسام: زهدٌ في الدُّنيا، وزهدٌ في النَّفس، وزهدٌ في الجاه والرِّئاسة، وزهدٌ فيما سوى المحبوب، وزهدٌ في كلِّ إرادةٍ تُخالف مُراد المحبوب، وهذا إنَّما يحصلُ بكمال المُتابعة لرسول الحبيب. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران/31] فجعل سبحانه متابعة رسوله سببًا لمحبَّتهم له، وكونُ العبد محبوبًا لله أعلى من كونه محبًّا له، فليس الشأْنُ أن تحبَّ الله، ولكن الشأن أن يُحبَّك الله، فالطاعةُ للمحبوب عنوانُ محبته، كما قيل (1): تعصي الإله وأنت تزعمُ حبَّه ... هذا مُحالٌ في القياس بديعُ لو كان حبُّك صادقًا لأطعته ... إنَّ المُحبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ _________ (1) الشعر لمحمود الوراق في العقد الفريد (3/ 215)، وزهر الآداب (1/ 98)، والكامل للمبرد (2/ 513)، والتمثيل والمحاضرة (ص 12). وفي بهجة المجالس (1/ 395) لمحمود الوراق وتنسب للشافعي. وتنسب أيضًا لذي الرمة في زيادات الديوان (ص 670).
(الكتاب/374)
فصل ومن علاماتها: قلةُ صبر المحب عن المحبوب، بل ينصرف صبرُه إلى الصبر على طاعته، والصبر عن معصيته، والصبر على أحكامه، فهذا صبرُ المحب، وأما الصبرُ عنه؛ فصبر الفارغ عن محبته، المشغول بغيره قال (1): والصبرُ يُحمَد في المواطن كلِّها ... وعن الحبيب فإنه لا يُحمَد فمن صبر عن محبوبه، أدَّى به صبره إلى فوات مطلوبه، وقال بعض المُحبِّين: ما أحسن الصبر وأمَّا على ... أن لا أرى وجهك يومًا فلا لو أنَّ يومًا منك أو ساعةً ... تُباعُ بالدُّنيا إذًا ما غلا فصل ومنها: الإقبالُ على حديثه، وإلقاءُ سمعه كلِّه إليه، بحيث يفرغُ لحديثه سمعه، وقلبُه، وإن ظهر منه إقبالٌ على غيره؛ فهو إقبالٌ مستعارٌ، يستبينُ فيه التكلُّف لمن يرمُقُه، كما قال (2): وأُديمُ لَحْظَ مُحدِّثِي ليرى ... أن قد فهمتُ وعندكم عقلي _________ (1) البيت بقافية أخرى لمحمد بن عبد الله العتبي في التذكرة الحمدونية (4/ 263) وشطره الثاني فيه: «إلا عليك فإنه مذموم». وفي الرسالة القشيرية (ص 184): «يجمل» مكان «يحمد» في الموضعين. (2) البيت لمجنون ليلى في ديوانه (ص 234)، والزهرة (1/ 65)، ومصارع العشاق (2/ 91).
(الكتاب/375)
فإن أعوزه حديثُه بنفسه؛ فأحبُّ شيء إليه الحديث عنه، ولاسيَّما إذا حدَّث عنه بكلامه، فإنَّه يقوم مقام خطابه، كما قال القائل: المحبُّون لا شيء ألذُّ [100 ب] لقلوبهم من سماع كلام محبوبهم، وفيه غاية مطلوبهم، ولهذا لم يكن شيءٌ ألذّ لأهل المحبَّة من سماع القرآن، وقد ثبت في الصحيح (1) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأْ عليَّ» قلت: أقرأُ عليك، وعليك أُنزل؟ قال: «إنِّي أُحِبُّ أنْ أسمعهُ من غيري» فقرأْت عليه من أوَّل سورة النِّساء حتى إذا بلغت قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء/41] قال: «حسبك» فرفعت رأْسي فإذا عيناه تذْرِفان! وكان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا؛ أمروا قارئًا يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب إذا دخل عليه أبو موسى؛ يقول: يا أبا موسى! ذكِّرنا ربَّنا، فيقرأُ أبو موسى، وربما بكى عمر. ومرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي موسى وهو يُصلِّي من الليل، فأعجبته قراءتُه، فوقف، واستمع لها، فلما غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد مررتُ بك البارحة؛ وأنت تقرأُ، فوقفت، واستمعتُ لقراءتك» فقال: لو أعلمُ أنَّك كنت تسمعُ؛ لحبَّرته لك تحبيرًا (2). _________ (1) أخرجه البخاري (4582، 5049، 5050، 5056)، ومسلم (800). (2) أخرجه البخاري (5048)، ومسلم (793) دون الجزء الأخير.
(الكتاب/376)
والله سبحانه وهو الذي تكلم بالقرآن يأذن، ويستمعُ للقارئ الحسن الصَّوت منْ محبَّته لسماع كلامه منه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لله أشدُّ أذنًا إلى القارئ الحسن الصَّوتِ من صاحب القيْنَةِ إلى قيْنَتِهِ» (1). والأذَنُ ــ بفتح الهمزة والذَّال ــ مصدر أذِن يأْذنُ: إذا استمع، قال الشاعر (2): أيُّها القلبُ تعلَّل بددنْ ... إن قلبي في سماعٍ وأذنْ وقال - صلى الله عليه وسلم -: «زيِّنوا القُرآن بأصواتكم» (3). وغلِط من قال: إنَّ هذا من المقلوب، والمرادُ: زينوا أصواتكم بالقرآن، فهذا وإن كان حقًّا؛ فالمراد: تحسينُ الصَّوتِ بالقرآن. وصحَّ عنه أنه قال: «ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقُرآن» (4)، ووهِمَ من فسَّره بالغنى الذي هو ضدُّ الفقر من وجوهٍ: أحدُها: أنَّ ذلك المعنى إنما يقال فيه: استغنى، [101 أ] لا تغنَّى. _________ (1) أخرجه أحمد (6/ 19، 420)، وابن ماجه (1340)، وابن حبان (659 - موارد)، والحاكم في المستدرك (1/ 571) من حديث فضالة بن عبيد. وحسنه البوصيري وصححه الحاكم. (2) البيت لعدي بن زيد في ديوانه (ص 172)، ورسالة الغفران (ص 203). (3) أخرجه أحمد (4/ 283، 285، 296، 304)، وأبو داود (1468)، والنسائي (2/ 179، 180) من حديث البراء بن عازب. وإسناده جيد. (4) أخرجه البخاري (7527)، ومسلم (792) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/377)
الثاني: أنَّ تفسيره قد جاء في نفس الحديث: يجهرُ به. هذا لفظُه، قال أحمد: نحن أعلم بهذا من سفيان، إنَّما هو تحسين الصوتِ به، يُحسِّنه ما استطاع. الثالث: أنَّ هذا المعنى لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ، ولو احتمله، فكيف وبنية اللفظ لا تحتمله، كما تقدم؟! وبعد فإذا كان من التغني بالصوت؛ ففيه معنيان: أحدهما: يجعله له مكان الغناء لأصحابه من محبته له، ولهجه به، كما يحبُّ صاحب الغناء لغنائه. والثاني: أنَّه يزيِّنه بصوته، ويحسِّنه ما استطاع، كما يُزيِّن المغنّي غناءه بصوته. وكثيرٌ من المحبين ماتوا عند سماع القرآن بالصوت الشَّجي، فهؤلاء قتلى القرآن، لا قتلى عُشاق المُرْدان، ولا النِّسْوان!! فصل ومنها: محبَّةُ دار المحبوب وبيته، حتى محبَّةُ الموضع الذي حلَّ به، وهذا هو السرُّ الذي لأجله عكفت القلوب على محبَّة الكعبة البيت الحرام، حتى استطاب المحبون في الوصول إليها هجرَ الأوطان والأحباب. ولذَّ لهم فيها السَّفرُ الذي هو قطعةٌ من العذاب، فركبوا الأخطار، وجابوا المفاوز والقفار، واحتملوا في الوصول غاية المشاق، ولو أمكنهم لسَعَوا إليها على الجفون والأحداق.
(الكتاب/378)
نعم أسعى إليك على جفوني ... وإن بَعُدت لمسراك الطريق وسرُّ هذه المحبة هي إضافةُ الربِّ سبحانه له إلى نفسه بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج/26]. لما انتسبتُ إليك صرت معظمًا ... وعلوتُ قدرًا دون من لم ينتسبْ وكلُّ ما نُسِب إلى المحبوب فهو محبوب {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن/19] {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء/1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان/1] {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة/23]. ومن فهم معنى هذا؛ فهم معنى قوله تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران/26] [101 ب] وقول عبد ه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: «لبَّيك، وسعديك، والخير في يديك، والشرُّ ليس إليك» (1). وإذا كان من يحبُّ مخلوقًا مثله؛ يحبُّ داره، كما قال (2): أمُرُّ على الدِّيارِ ديار ليلى ... أقبِّلُ ذا الجدار وذا الجدارا وما حبُّ الدِّيارِ شغفْنَ قلبي ... ولكن حبُّ منْ سكن الدِّيارا _________ (1) أخرجه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب. (2) البيتان للمجنون في ديوانه (ص 170)، وخزانة الأدب (2/ 169، 170). وبلا نسبة في تزيين الأسواق (1/ 60)، وديوان الصبابة (ص 30).
(الكتاب/379)
فكيف بمن ليس كمثله شيء، ومن ليس كمثل محبَّته محبَّة؟! فصل ومنها: الإسراع إليه في السير، وحَثُّ الركاب نحوه، وطيُّ المنازل في الوصول إليه، والاجتهاد في القرب والدُّنوِّ منه، وقطعُ كل قاطع يقطعُ عنه، واطراحُ الأشغال الشَّاغلة عنه، والزُّهد فيها، والرغبةُ عنها، والاستهانةُ بكلِّ ما يكون سببًا لغضبه ومقته، وإن جلَّ، والرغبةُ في كل ما يدني إليه؛ وإن شقَّ (1): ولو قلتِ طَأْ في النار أعلمُ أنه ... رضًا لك أو مُدنٍ لنا من وصالكِ لقدَّمتُ رجلي نحوها فوطئتُها ... هدًى منك لي أو ضَلَّةً من ضلالك فصل ومنها: محبةُ أحباب المحبوب، وجيرانه، وخدمه، وما يتعلق به، حتى حرفته، وصناعته، وآنيته، وطعامه، وشرابه، قال (2): أحبُّ بني العوَّام طُرًّا لِحُبِّها ... ومِنْ أجلها أحببتُ أخوالها كلبا _________ (1) سبق البيتان و تخريجهما. (2) سبق البيت ضمن أبيات مع خبر.
(الكتاب/380)
وقال الآخر (1): يشتاقُ واديَها ولولا حبُّكُم ... ما شاقه وادٍ زهتْ أزهارُهُ وقال الآخر (2): فيا ساكني أكنافِ طيبةَ كلُّكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيبُ وفي أخبار العشَّاق: أنَّ عاشقًا عشق السَّراويلات من أجل سراويل معشوقته، فوُجد في تركته اثنا عشر حملًا، وفردةٌ من السراويلات، ذكره البصري. وعشق آخرُ الهاوُونات من أجل صوت هاوُون محبوبته، فوجد في تركته عدة آلاف منها. وعند الناس من هذا عجائب كثيرةٌ. وكان أنسُ بن مالك يحبُّ الدُّبَّاء كثيرًا، لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [102 أ] يتتبعها من جوانب الصحفة (3). _________ (1) البيت للصرصري في فوات الوفيات (4/ 301). (2) البيت للعباس بن الأحنف في ديوانه (ص 29)، والوافي بالوفيات (16/ 643). وللمجنون في ديوانه (ص 52)، وتزيين الأسواق (1/ 163). وانظر ديوان الصبابة (ص 29). (3) أخرجه البخاري (2092)، ومسلم (2041) عن أنس.
(الكتاب/381)
فصل ومنها: قِصَرُ الطريق حين يزوره ويوافي إليه، كأنها تطوى له، وطولها إذا انصرف عنه، وإن كانت قصيرة، قال (1): وكنت إذا ما جئتُ ليلى أزورُها ... أرى الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ودَّ جليسُها ... إذا حدَّثت أُحدوثة لو تُعيدُها وقال الآخر (2): واللهِ ما جئتكمُ زائرًا ... إلَّا وجدتُ الأرض تُطْوى لي ولا انثنى عزميَ عن بابكم ... إلَّا تعثَّرتُ بأذيالي وقال الآخر (3): وإذا قمتُ عنك لم أمشِ إلَّا ... مشي عانٍ يُقاد نحو الفناء وإذا جئت جئت أَسرعَ في السَّيـ ... ــرِ من الطير نازلًا في الهواء _________ (1) البيتان لمجنون ليلى في ديوانه (ص 106، 108)، وشرح أبيات مغني اللبيب (1/ 77). ويُنسبان لكثير أو ذي الرمة في تزيين الأسواق (1/ 126) وليس في ديوانهما. والأول في الزهرة (1/ 35) بلا نسبة. (2) البيتان للمرتضى الشهرزوري في وفيات الأعيان (3/ 52). وبلا نسبة في كتاب الفوائد (ص 70). (3) الأول مع بيتين آخرين لابن حزم في طوق الحمامة (ص 27).
(الكتاب/382)
وقال الآخر: وتدنو الطريق إذا زرتكم ... وتبعدُ إذْ أنثنيْ راجعا فصل ومنها: انجلاء همومه وغمومه إذا رأى محبوبه أو زاره، وعودها إذا فارقه، كما قال (1): يزور فتنجلي عنِّي هُمومي ... لأنَّ جلاء حُزني في يديه ويمضي بالمسرَّة حين يمضي ... لأنَّ حَوالتي فيها عليه ومن المعلوم: أنه ليس للمحب فرحةٌ، ولا سرورٌ، ولا نعيمٌ إلا بمحبوبه، وبمفارقة محبوبه عذابُه الآجل، والعاجل. فصل ومنها: البهتُ والرَّوعة التي تحصلُ عند مواجهة الحبيب، أو عند سماع ذكره، ولاسيَّما إذا رآه فجاءةً، أو طلع عليه بغتةً، كما قال (2): فما هو إلَّا أن أراها فجاءةً ... فأْبهتَ حتى ما أكادُ أُجيبُ فأرجعُ عن رأْيي الذي كان أولًا ... وأذكرُ ما أعددتُ حين تغيبُ _________ (1) البيتان لإبراهيم بن أحمد الرقي في أعيان العصر (في ترجمته). (2) سبق البيت الأول منهما، وهناك التخريج.
(الكتاب/383)
وقال الآخر (1): ما هو إلاَّ أن يراها فجاءةً ... فتصطكَّ رجلاه ويسقط للجنب وربما اضطرب عند سماع اسمه فجأَةً، كما قال (2): [102 ب] وداعٍ دعا إذْ نحنُ بالخيف من منى ... فهيَّج أشجان الفؤادِ وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنَّما ... أطار بليلى طائرًا كان في صدري وقد اخْتُلف في سبب هذه الرَّوعة، والفزع، والاضطراب، فقيل: سببه أن للمحبوب سلطانًا على قلب مُحبِّه أعظم من سلطان الرعيَّة، فإذا رآه فجْأةً راعه ذلك، كما يرتاع من يرى من يعظِّمه فجأَة، فإن القلب معظمٌ لمحبوبه، خاضعٌ له، والشخص إذا فجئه المعظَّم عنده؛ راعه ذلك. وقيل: سببُه: انفراجُ القلب له، ومبادرته إلى تلقّيه، فيهرب الدم منه فيبرد، ويرعد، ويحدث الاصفرار والرِّعدةُ، وربما مات، وبالجملة فهذا أمرٌ ذوقيٌّ وجدانيٌّ، وإن لم يعرفْ سببه. فصل ومنها: غيرتُه لمحبوبه وعلى محبوبه، فالغيرة له: أن يكره ما يكرهُ، _________ (1) البيت بلا نسبة في الزهرة (1/ 79)، ومصارع العشاق (1/ 292)، ووفيات الأعيان (4/ 317). (2) البيتان لمجنون ليلى في ديوانه (ص 162). وهناك التخريج وبيان اختلاف النسبة. والشعر مع خبر في اعتلال القلوب (ص 342).
(الكتاب/384)
ويغار إذا عُصي محبوبُه، وانْتُهِك حقُّه، وضُيِّع أمرُه، فهذه غيرة المحب حقًّا، والدِّينُ كلُّه تحت هذه الغيرة. فأقوى الناس دينًا أعظمُهم غيرةً، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1): «أتعجبُون من غيرة سعدٍ، لأنا أغْيَرُ منه، والله أغيرُ منِّي!». فمحبُّ الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبَّته وإجلاله، وإذا خلا قلبُه من الغيرة لله ورسوله فهو من المحبة أخلى، وإن زعم أنَّه من المُحبِّين، فكذب من ادَّعى محبَّة محبوبٍ من الناس، وهو يرى غيره ينتهكُ حُرمة محبوبه، ويسعى في أذاه ومساخطه، ويستهين بحقِّه، ويستخفُّ بأمره، وهو لا يغار لذلك، بل قلبه باردٌ، فكيف يصحُّ لعبدٍ أن يدَّعي محبَّة الله؛ وهو لا يغارُ لمحارمه إذا انْتُهِكت، ولا لحقوقه إذا ضُيِّعت. وأقلُّ الأقسام أن يغار له من نفسه، وهواه، وشيطانه، فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقِّه، وارتكابه لمعصيته. وإذا ترحَّلتْ هذه الغيرةُ من القلب؛ ترحَّلتْ منه [103 أ] المحبَّةُ، بل ترحَّل منه الدِّين، وإن بقيت فيه آثاره، وهذه الغيرة هي أصلُ الجهاد، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وهي الحاملة على ذلك، فإن خلتْ من القلب لم يُجاهد، ولم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر، فإنه إنما يأتي _________ (1) أخرجه البخاري (6846، 7416)، ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة.
(الكتاب/385)
بذلك غيرةً منه لربِّه، ولذلك جعل سبحانه علامة محبَّته ومحبوبيه الجهاد، فقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة/54]. فصل وأما الغيرة على المحبوب فإنما تُحمَدُ حيث يُحمَد الاختصاص بالمحبوب، ويُذمُّ الاشتراك فيه شرعًا، وعقلًا، كغيرة الإنسان على زوجته، وأمته، والشيء الذي يختصُّ هو به، فيغارُ من تعرُّض غيره لذكره، ومشاركته له فيه. وهذه الغيرة تختص بالمخلوق، ولا تتصور في حق الخالق، بل المحب لربه يحبُّ أن الناس كلهم يحبونه، ويذكرونه، ويعبدونه، ويحمدونه، ولا شيء أقرَّ لعينه من ذلك، بل هو يدعو إلى ذلك بقوله، وعمله. ولما لم يميِّز كثير من الصُّوفيَّة بين هذين الغيرتين؛ وقع في كلامهم تخبيطٌ قبيح، وأحسن أمره أن يكون من السعي المغفور، لا المشكور. وكان بعض جهلتهم إذا رأى من يذكر الله، أو يحبُّه يغارُ منه، وربما سكَّته؛ إن أمكنه، ويقول: غيرةُ المحب تحملني على هذا، وإنَّما ذلك حسدٌ، وبغْيٌ، وعدوانٌ، ونوعُ معاداةٍ لله، ومراغمةٌ لطريق رسله، أخرجوها في قالب الغيرة، وشبَّهوا محبَّة الله بمحبَّة الصُّور من المخلوقين.
(الكتاب/386)
ولا ريب أنَّ هذه الغيرة محمودةٌ في محبة من لا يحسُن مشاركة المحب فيه، وسيأتي ذلك في باب الغيرة على المحبوب. [103 ب] فصل ومنها: بذلُ المحب في رضا محبوبه ما يقدر عليه مما كان يتمتع به بدون المحبة، وللمحب في هذا ثلاثةُ أحوال: أحدها: بذله ذلك تكلفًا، ومشقَّةً، وهذا في أوَّل الأمر، فإذا قويت المحبةُ، بذله رضًا وطوعًا، فإذا تمكنت من القلب غاية التَّمكن، بذله سؤالًا وتضرُّعًا، كأنَّه يأخذُه من المحبوب حتى إنه ليبذُل نفسه دون محبوبه، كما كان الصحابة يقونَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحرب بنفوسهم، حتى يصرَّعوا حوله: ولي فؤادٌ إذا لجَّ الغرامُ به ... هام اشتياقًا إلى لُقْيا مُعذِّبه (1) يفديك بالنفس صبٌّ لو يكون له ... أعزُّ من نفسه شيءٌ فداك به ومن آثر محبوبه بنفسه فهو له بماله أشدُّ إيثارًا، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب/6] ولا يتمُّ لهم مقام الإيمان حتى يكون الرسول أحبَّ إليهم من أنفسهم فضلًا عن أبنائهم وآبائهم، كما صحَّ _________ (1) البيتان للوأواء الدمشقي في ديوانه (ص 45)، وللبحتري في ديوانه (1/ 303). وقال: وتُروى لابن كيغلغ، ولأبي العتاهية في محاضرات الأدباء (3/ 52)، وعنه في ديوانه (ص 499). وبلا نسبة في الزهرة (1/ 70)، والمحب والمحبوب (2/ 80)، والأول لأبي عثمان الخالدي في التذكرة الحمدونية (6/ 194).
(الكتاب/387)
عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى أكون أحبَّ إليه من ولده، ووالده، والنَّاس أجمعين» (1) وقال له عمر: والله يا رسول الله! لأنت أحبُّ إليَّ منْ كل شيء إلَّا من نفسي. فقال: «لا يا عُمَرُ! حتَّى أكون أحبَّ إليك من نفسك» قال: فوالله لأنت الآن أحب إليّ من نفسي! فقال: «الآن يا عُمر!» (2). فإذا كان هذا شأن محبة عبد ه ورسوله؛ فكيف بمحبته سبحانه؟ وهذا النوع من الحب لا يمكن أن يكون إلا لله ورسوله شرعًا وقدرًا، وإن وجد في الناس من يؤثر محبوبه بنفسه وماله؛ فذاك في الحقيقة إنما هو لمحبة غرضه منه، فحمله محبةُ غرضه على أن بذل فيه نفسه وماله، وليست محبتُه لذلك المحبوب لذاته، بل لغرضه منه، وهذا المحبوب له مثل، ولمحبته مثل، وأما محبة الله؛ فليس لها مثلٌ، ولا للمحبوب مثل، ولهذا حكَّم الصحابة [104 أ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أنفسهم وأموالهم، فقالوا: هذه أموالنا بين يديك، فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسُنا بين يديك، لو استعرضت بنا البحر لخُضْناه، نقاتل من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك. قال قيس بن صرمة الأنصاري (3): _________ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه البخاري (3694، 6264، 6632) من حديث أنس. (3) الأبيات في سيرة ابن هشام (1/ 512)، ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 513 - 514)، والاستيعاب (2/ 203 - 204)، وزاد المعاد (3/ 53، 54)، وفيها اسم القائل: أبو قيس صرمة بن قيس أو صرمة بن أبي أنس. وانظر الإصابة (2/ 182).
(الكتاب/388)
ثوى في قريش بضع عشرة حِجَّةً ... يذكِّرُ لو يلقى حبيبًا مواتيا ويعرضُ في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يُؤْوي ولم ير داعيا فلما أتانا واستقرت به النوى ... وأصبح مسرورًا بطيبة راضيا بذلنا له الأموال من حل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نُعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعًا وإن كان الحبيب المصافيا ونعلم أن الله لا رب غيره ... وأن رسول الله أصبح هاديا فالمحبُّ وصفه الإيثار، والمُدَّعي طبعه الاستئثار. فصل ومنها: سروره بما يُسرُّ به محبوبه كائنًا ما كان، وإن كرهتهُ نفسه، فيكون عنده بمنزلة الدواء الكريه، يكرهه طبعًا، ويحبه لما فيه من الشفاء. وهكذا المحبُّ مع محبوبه، يسره ما يرضى به محبوبه؛ وإن كان كريهًا لنفسه. وأما من كان واقفًا مع ما تشتهيه نفسه من مراضي محبوبه فليست محبته صادقة، بل هي محبة معلولةٌ، حتى يُسَرَّ بما ساءه وسره من مراضي محبوبه. وإذا كان هذا موجودًا في محبة الخلق بعضهم لبعض؛ فالحبيب لذاته أولى بذلك، قال أبو الشيص (1): وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخرٌ عنه ولا متقدَّمُ _________ (1) تقدمت الأبيات.
(الكتاب/389)
وأهنتني فأهنتُ نفسي جاهدًا ... ما من يهونُ عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرتُ أُحبُّهم ... إذْ كان حظِّي منك حظّي منهم [104 ب] أجدُ الملامة في هواك لذيذةً ... حبا لذكرك فليلُمني اللُّوَّمُ وقريب من هذا البيت الأخير قول الآخر (1): لئن ساءني أن نلتني بمساءةٍ ... لقد سرَّني أنِّي خطرتُ ببالك وقال الآخر (2): صدودك عنِّي إن صددت يسرُّني ... ولم أرَ قبلي عاشقًا سُرَّ بالصدِّ سُرِرْتُ به أنِّي تيقّنت أنَّما ... دعاكِ إليه رغبةٌ منك في وُدِّي ولو كنت فيه تزهدين لساءه ... ولكنَّما عَتْب المُحبِّ من الوجدِ فيا فرحة لي أن رأيتُك تعتبي ... عليَّ لذنبٍ كان منِّي على عمد وقال الآخر: أهوى هواها وطول البعد يُعجبُها ... فالبُعدُ قد صار لي في حُبِّها أربا فمن رأى والهًا قبلي أخا كلفٍ ... ينأى إذا حبُّه من أرضه قربا وقريبٌ من هذا قول أحمد بن الحسين (3): يا منْ يعزُّ علينا أنْ نُفارقهم ... وجدانُنا كلَّ شيءٍ بعدكم عدمُ _________ (1) تقدم. (2) الأبيات بلا نسبة في الزهرة (1/ 158). (3) هو المتنبي في ديوانه (4/ 87).
(الكتاب/390)
إن كان سرَّكُم ما قال حاسِدُنا ... فما لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألمُ واهتدمَه بعضهم فقال: يا من يعزُّ علينا أن نُلِمَّ بهم ... إذْ بُعدُنا عنهم قد صار قصدهمُ إنْ كان يُرضيكم هذا البُعاد فما ... فيه لِصبِّكمُ جرحٌ ولا ألمُ ولعمرُ الله أكثر هذه دعاوي لا حقيقة لها، والصادقُ منهم يخبر عن عزمه وإرادته، لا عن حاله وصفته، ولقد أحسن القائل (1): رضُوا بالأماني وابْتُلوا بحظوظهم ... وخاضُوا بحارَ الحبِّ دعوى وما ابتلُّوا فهم في السُّرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلُّوا [105 أ] وإن كان هذا وصف قائلها بعينه وحاله؛ فإنَّه خاض بحار الحبِّ وما ابتلَّ له فيها قدم، فأخبر عن نفسه عند انكشافِ غطائه، وطلَبِ الرسلِ له لقدومه على ربه، فقال، وصدق (2): إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيتُ فقد ضيَّعتُ أيامِي _________ (1) ابن الفارض في ديوانه (ص 134 - 135). (2) ابن الفارض في ديوانه (ص 207).
(الكتاب/391)
أُمنيَّةٌ ظفرتْ نفسي بها زمنًا ... فاليوم أحْسَبُها أضغاث أحلام وهذه حال كل من أحبَّ مع الله شيئًا سواه، فإنه إلى هذه الغاية يصير ولابدَّ، وسيبدو له إذا انكشف الغطاءُ: أنَّه إنما كان مغرورًا، مخدوعًا بأُمنيَّةٍ ظفرت نفسه بها مدَّة حياته، ثم انقطعتْ، وأعقبتِ الحسرة والنَّدامة. قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة/166 ــ 167]. فالأسبابُ التي تقطعت بهم هي: الوصل، والعلائق، والمودَّاتُ التي كانت لغير الله، وفي غير ذات الله، وهي التي تقدم إليها سبحانه فجعلها هباءً منثورًا، فكلُّ محبةٍ لغيره فهي عذابٌ على صاحبها، وحسرةٌ عليه إلا محبَّته، ومحبَّة ما يدعو إلى محبَّته، ويُعينُ على طاعته، ومرضاته، فهذه التي تبقى في القلب يوم تُبلى السرائر، كما قال (1): ستبقى لكم في مُضْمَر القلب والحشا ... سريرةُ حبٍّ يوم تُبلى السرائرُ وقال الآخر (2): إذا تصدَّع شملُ الوصلِ بينهمُ ... فللمُحبِّين شملٌ غيرُ مُنْصدع _________ (1) البيت للأحوص في ديوانه (ص 118). وانظر سمط اللآلي (2/ 786). (2) ذكرهما المؤلف بلا نسبة في الرسالة التبوكية (ص 58).
(الكتاب/392)
وإنْ تقطَّع حبلُ الوصلِ يومئذٍ ... فللمُحبِّين حبْلٌ غيرُ منقطع فصل ومنها: حبُّ الوحدة، والأنس بالخلوة، والتفرُّد عن الناس، وكأنَّ المحبة قد ثبتت على ذلك، فلا شيء أحلى للمحبِّ الصادق من خلوته، وتفرُّده، [105 ب] فإنَّه إن ظفر بمحبوبه أحبَّ خلوته به، وكره من يدخلُ بينهما غاية الكراهة. ولهذا السرِّ ــ والله أعلم ــ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بردِّ المارّ بين يدي المُصلِّي حتى أمر بقتاله، وأخبرَ أنَّه لو يدري ما عليه من الإثم؛ لكان وقوفُه أربعين خيرًا له من مروره بين يديه (1). ولا يجدُ ألم المرور وشدَّته إلا قلب حاضرٌ بين يدي محبوبه، مقبلٌ عليه، قد ارتفعت الأغيار بينه وبينه، فمرورُ المارِّ بينه وبين ربِّه بمنزلة دخول البغيض بين المحب ومحبوبه، وهذا أمرٌ الحاكم فيه الذوق، ولا يُنكره. وقال ابن مسعود: مرور المارِّ بين يدي المُصلِّي يُذهب نصف أجره، ذكره الإمام أحمد. وأيضًا فإنَّ المحب يستأْنس بذكر محبوبه، وكونه في قلبه لا يُفارقه، _________ (1) أخرجه البخاري (510)، ومسلم (507) من حديث أبي جهيم.
(الكتاب/393)
فهو أنيسُه، وجليسه، لا يستأنسُ بسواه، فهو مستوحشٌ مِمَّن يَشْغَلُهُ عنه. وحدَّثني تقيُّ الدِّين بن شُقير، قال: خرج شيخُ الإسلام ابن تيمية يومًا، فخرجتُ خلفه، فلما انتهى إلى الصحراء، وانفرد عن الناس بحيثُ لا يراه أحد؛ سمعته يتمثَّل بقول الشاعر (1): وأخرُج من بين البيوت لعلَّني ... أحدِّث عنك القلب بالسِّرِّ خاليا فخلوةُ المحب بمحبوبه هي غاية أُمنيَّته، فإن ظفر بها؛ وإلَّا خلا به في سرِّه، وأوحشه ذلك من الأغيار. وكان قيسُ بن المُلوَّح إذا رأى إنسانًا هرب منه، فإذا أراد أن يدنو منه ويحادثه؛ ذكر له ليلى وحديثها، فيأنَسُ به، ويسكنُ إليه. وينبغي للمحبِّ أن يكون من الناس كما قال يوسف لإخوته، وقد طلب منهم أخاهم: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} [يوسف/60]. إذا لم تكن فيكُنَّ سُعدى فلا أرى ... لكنَّ وُجوهًا أو أُغيَّبَ في لَحْدي فصل ومنها: استكانةُ المحبِّ لمحبوبه، وخضوعُه، وذلُّه له، والحبُّ _________ (1) البيت للمجنون في ديوانه (ص 294، 301، 314) من قصيدة طويلة، وهناك التخريج وبيان اختلاف النسبة.
(الكتاب/394)
مبنيٌّ على [106 أ] الذُّلِّ، ولا يأنف العزيزُ الذي لا يَذِلُّ لشيءٍ من ذلِّه لمحبوبه، ولا يعُدُّه نقصًا ولا عيبًا، بل كثيرٌ منهم يَعُدُّ ذُلَّه عِزًّا، كما قيل (1): تذلَّل لمن تهوى لتكسبَ عِزَّةً ... فكمْ عِزَّةٍ قد نالها المرءُ بالذُّلِّ! وقال الآخر (2): اخضع وذلَّ لمن تُحبُّ فليس في ... شرع الهوى أنْفٌ يُشالُ ويُعقدُ وقال الآخر (3): ويُعجبني ذُلِّي لديكِ ولم يكن ... لِيُعجبني لولا محبتُكِ الذلُّ وقال الآخر: يَلذُّ له ذلُّ الهوى وخضوعه ... ولولا الهوى ما لذَّ للعاقلِ الذُّلُّ وقال الآخر (4): مساكينُ أهلُ الحب حتى قُبورهم ... عليها ترابُ الذُّلِّ دون المقابر ومتى استحكم الذُّل والحب صار عبوديةً، فيصيرُ قلبُ المحب معبدًا _________ (1) البيت بلا نسبة في ديوان الصبابة (ص 35). (2) تقدم البيت. (3) البيت ساقط من ث. (4) تقدم.
(الكتاب/395)
لمحبوبه، وهذه المرتبة لا تليقُ أن تتعلَّق بمخلوقٍ، ولا تصلح إلا لله وحده. فصل ومنها: امتدادُ النفَس، وتردُّد الأنفاس، وتصاعدُها، وهذا نوعان: أحدهما: ما يُقارنه حزنٌ ولهفٌ، كما قال القائل (1): رُبَّ ليلٍ أمدّ من نفَس العا ... شق طُولاً قطعتُه بانتحاب وقال آخر: تردُّد أنفاس المحب يدُلُّنا ... على كُنْهِ ما أخْفاه من ألم الحُبِّ إذا خطراتُ الحب خامرن قلبه ... تنفَّس حتَّى ظلَّ منصدع القلب والثاني: ما يكون سببه طربًا ولذَّةً. وسببُ وجود النوعين انحصارُ القلب وانفراجه بسبب الوارد الذي ورد عليه، فأحدث للنَّفس الذي تروحه عليه الرئة كيفيَّةً مؤْذيةً، وطلب إخراجها فهو تنفُّس الصُّعداء، وأما تنفس الراحة؛ فإن القلب ينبسط بعد انقباضه، فيدفع الهواء المحيط به، فيطلبُ الخروج. فصل ومنها: هجرُه كل سبب يُقصيه من محبوبه، ويبغضه المحبوب، _________ (1) البيت للوأواء الدمشقي في ديوانه (ص 262). ولخالد بن يزيد في المحب والمحبوب (2/ 241).
(الكتاب/396)
وارتياحه لكل سبب يدنيه منه، ويستحمدهُ عنده إذا بلغه عنه. وفي هذا الباب عجائب للمحبين، [106 ب] فكثيرٌ منهم هجر طعامًا، أو لباسًا، أو أرضًا، أو صناعةً، أو حالةً من الحالات كان محبوبه يمقُتها، فلم يعد إليها أبدًا، ولم تطاوعه نفسه بفعلها ألبتة، وكثيرٌ منهم حمله الحب على اكتساب المعالي، والفضائل، وغيرها مما يعلم أن المحبوب يُعظِّمه، ويحبُّه، وهذا نوعان أيضًا: أحدهما: أن يكون المحبوب مُؤثرًا لذلك محبًّا له، فالمحب يبذُل جهده فيه، لينال منه أعلاه، إن أمكنه، فإن كان المحبوب مشغوفًا بجمع المال، أثَّر ذلك في مُحبّه شغفًا أشدَّ من شغفه، وإن كان مشغوفًا بالعلم، اجتهد المحبُّ في طلبه أشدَّ من اجتهاده، وإن كان مشغوفًا بحرفةٍ، أو صناعةٍ، حرص المحبُّ على تعلُّمها؛ إن وجد إلى ذلك سبيلًا، وإن كان مشغوفًا بالنَّوادر، والحكايات الحِسان، والأخبار المستحسنة بالغ المحبُّ في تحفُّظها. فالمحبَّة النافعة أن تقع على عشِيق كامل يحملك عشقه على طلب الكمال، والبليَّةُ كلُّ البليَّة أن تُبتَلى بمحبَّة فارغٍ بطَّال صفْرٍ من كل خير، فيحمِلُك حبُّه على التشبُّه به. والثاني: أن يكون المحبوب فارغًا من محبة ذلك وإيثاره، ولكنَّ المحبَّة تستخرجُ منْ قلب المُحِبِّ عزمًا، وإرادة، وحرصًا على ما يعظُم به في عين المحبوب وقلبه، فتجده من أحرص الناس على ذلك بحسب
(الكتاب/397)
استعداده، كما قيل (1): ويرتاحُ للمعروف في طلب العُلا ... لتُحْمَدَ يومًا عند ليلى شمائلُهُ وهذا قد يكون له سببٌ آخرُ، وهو معاداةُ الناس له، وتنقُّصهم إيَّاه، وازدراؤُهم به، فيحمله الانتخاء لنفسه، والغيرةُ لها، ومحبتُها على المنافسة في المعالي، واكتساب الحمد، وهذا من شرف النَّفس وعزَّتها كما قيل (2): من كان يشكرُ للصَّديق فإنَّني ... أحبُو بصالحِ شُكْرِي الأعداءَ [107 أ] هم صيَّروا طلب المعالي ديدني ... حتَّى وطئْتُ بنعلي الجوْزاءَ ولربما انتفع الفتى بعدوِّه ... والسمُّ أحيانًا يكونُ شفاءَ وقال الآخر (3): عُداتي لهم فضلٌ عليَّ ومِنَّةٌ ... فلا أعدم الرحمنُ عنِّي الأعاديا همُ بحثوا عن زَلَّتي فاجتنبتُها ... وهم نافسُوني فاكتسبتُ المعاليا _________ (1) سبق تخريجه (ص 265). (2) الأبيات للطغرائي في نفح الطيب (2/ 568). (3) البيتان لأبي حيان الأندلسي في فوات الوفيات (4/ 74)، ونفح الطيب (2/ 536)، وديوانه (ص 415).
(الكتاب/398)
فصل ومنها: الاتفاق الواقع بين المحبّ والمحبوب ولاسيَّما إذا كانت المحبَّةُ محبَّة مشاكَلَةٍ، ومناسبةٍ، فكثيرًا ما يمرضُ المحبُّ بمرض محبوبه. ويتحرَّك بحركته، ولا يشعرُ أحدُهما بالآخر، ويتكلَّم المحبوب بكلام، يتكلم المحب به بعينه اتفاقًا، فانظر إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ بن الخطاب، يوم الحُدَيْبيَة لما قال له: ألسنا على الحقِّ، وعدوُّنا على الباطل؟ قال: «بلى»، قال: فعلام نُعْطي الدَّنيَّةَ في ديننا؟ فقال: «إنِّي رسولُ الله، وهو ناصري، ولستُ أعْصِيه» فقال: ألم تكن تحدِّثنا أنَّا نأتي البيت، فنُطوِّفُ به؟ فقال: «قُلتُ لك إنَّك تأْتيه العامَ؟» قال: لا، قال: «فإنَّك آتيه، ومُطوِّفٌ به». ثم جاء أبا بكرٍ الصديق فقال له: يا أبا بكر! ألسنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدَّنيَّة في ديننا ونرجع ولمَّا يحكم الله بيننا؟ فقال: إنه رسول الله، وهو ناصره، وليس يعصيه، قال: ألم يكن يحدِّثنا أنَّا نأتي البيت، فنطوِّف به؟ قال: بلى، أقال لك: إنك تأتيه العام؟ قال: لا. قال: إنك آتيه ومطوِّفٌ به، فأجاب على جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - حرفًا بحرف من غير تواطُؤٍ، ولا تشاعُرٍ، بل موافقة محبٍّ لمحبوب. هكذا وقع في صحيح البخاري (1)، ووقع في بعض المغازي: أنَّه أتى أبا بكر أوَّلًا، فقال له ذلك، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده، فقال له مثل ما قال أبو بكر. _________ (1) أخرجه البخاري (1694، 2731).
(الكتاب/399)
قال السُّهَيْليُّ (1): [107 أ] وهذا هو الأولى، ويُشبه أن يكون المحفوظ، فإنَّه لا يُظنُّ بعمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ له قولًا، فلا يرضى به حتى يأتي أبا بكر بعد ذلك، والشُّبهة عنده لم تزلْ، فيُعيدها عليه، ولا يُظنُّ ذلك بعمر. ولعمري لقد نزع أبو القاسم بذَنوب صحيح! ولكن المحفوظ هو الذي وقع في البخاري، وعليه عامّة أهل السِّير، والمسانيد، والسُّنن. وأمَّا ما نُسب إلى عمر فقد أُجيب عنه بأنَّه كان يرجو النَّسخ، وموافقة ربِّه له في ذلك، كما تقدم له أمثالها، فإنه كان يقول القول، فينزلُ به الوحي، والثَّاني: أنَّ المقام كان مقام محنةٍ، وابتلاءٍ، عجز عنه صبرُ أكثر الصحابة، ولم يتسع له بطانهم، وداخلهم من الغم، والقلق، والتحرق على أعدائهم أمرٌ عظيم، ولهذا لما أمرهم أن يحلقوا رؤوسهم، وينحروا بُدْنهم، لم يقم منهم رجلٌ واحدٌ، حتى دخل - صلى الله عليه وسلم - على أُم سلمة مُغضبًا، فقالت له: من أغضبك؛ أغضبهُ الله، فقال: «ومالي لا أغضبُ، وأنا آمُرُ بالأمْرِ، فلا أُتَّبَعُ؟» (2). وهذا يردُّ تأويل من تأوَّله على أن القوم كانوا محسنين في ذلك التثبُّت، وأنَّهم كانوا ينتظرون النَّسخ، فلا لومَ عليهم، وهذا خطأ قبيحٌ من _________ (1) الروض الأنف (2/ 304). (2) هو ضمن الحديث السابق في صلح الحديبية.
(الكتاب/400)
هذا المُعتذر، بل كان المبادرة إلى امتثال أوامره - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم، ولو كانوا محسنين في التأخير، لما اشتدَّ غضبُه عليهم، ولكان أولى منهم بانتظار الناسخ، بل هذا من سعيهم المغفور، الذي غفره الله لهم بكمال إيمانهم، ونُصْحهم لله ورسوله، وعذَرهم الله سبحانه، لقوَّة الوارد وضعفهم عن حمله، حتى لم يحتمله عمر في قوَّته، وشدَّته، واحتمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وكان جوابُهما من مشكاةٍ واحدة. ولما احتمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم الكونيَّ الأمرِيَّ؛ الذي حكم الله له به، ورضي به، وأقرَّ به، ودخل تحته طوعًا [108 أ] وانقيادًا ــ وهو الفتحُ الذي فتح الله له ــ أثابه الله عليه بأربعة أشياء: مغفرةِ ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وإتمام نعمته عليه، وهدايته صراطًا مستقيمًا، ونصرِ الله له نصرًا عزيزًا. وبهذا يقع جوابُ السؤال الذي أورده بعضهم هاهنا، فقال: كيف يكون حكم الله له بذلك عِلَّةً لهذه الأمور الأربعة؛ إذ يقول تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية [الفتح/1 ــ 2]. وجوابه ما ذكرنا: أن تسليمه لهذا الحكم، والرِّضا به، والانقياد له، والدخول تحته؛ أوجب له أنْ آتاه الله ذلك. والمقصودُ إنَّما هو ذكر الاتفاق بين المحبِّ والمحبوب، وهذا الذي جرى للصِّدِّيق من أحسن الموافقة، ومن هذا موافقة عمر بن الخطاب لربِّه في عدَّة أُمورٍ قالها، فنزل بها الوحيُ كما قالها.
(الكتاب/401)
وتقوى هذه الموافقة حتى يعلم المُحبُّ بكثير من أحوال محبوبه، وهو غائب عنه، وهذا بحسب تعلُّق الهمَّة به، وتوجُّه القلب إليه، واتِّحاد مراده بمراده، وربما اقتضى ذلك اتِّفاقهما في المرض، والصِّحة، والفرح، والحزن، والخُلُق، فإنْ كان مع ذلك بينهما تشابهٌ في الخلق الظاهر؛ فهو الغاية في الاتفاق، ولنقتصر من العلامات على هذا القدر، وبالله التوفيق.
(الكتاب/402)
الباب الحادي والعشرون في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالحب وعدم التَّشريك بينه وبين غيره فيه
هذا من موجبات المحبة الصادقة وأحكامها، فإن قِوَى الحب متى انصرفت إلى جهة، لم يبق فيها متسع لغيرها، ومن أمثال الناس: «ليس في القلب حُبَّان، ولا في السماءِ ربَّان». متى تقسَّمت قوة الحب بين عدة محالَّ ضعُفت لا محالة، وتأمَّل قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ [108 ب] عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب/1 ــ 3] كيف أمره بتقواه المتضمنة لإفراده بامتثال أمره، ونهيه محبةً له، وخشيةً، ورجاءً، فإن التقوى لا تتمُّ إلا بذلك، وباتباع ما أوحي إليه المتضمن لتركه ما سوى ذلك واتباع المنزل خاصةً، وبالتوكل عليه، وهو يتضمن اعتماد القلب عليه وحده، وثقته به، وسكونه إليه دون غيره. ثم أتبع ذلك بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب/4] فأنت تجد تحت هذا اللفظ: أن القلب ليس له إلَّا وجهةٌ واحدةٌ، إذا مال بها إلى جهة؛ لم يملْ بها إلى غيرها، وليس للعبد قلبان،
(الكتاب/403)
يطيع الله، ويتَّبع أمره، ويتوكَّل عليه بأحدهما، والآخرُ لغيره، بل ليس له إلا قلبٌ واحدٌ، فإن لم يفرد بالتوكل، والمحبة، والتقوى ربَّه، وإلَّا انصرف ذلك إلى غيره. ثم استطرد من ذلك إلى أنه سبحانه لم يجعل زوجة الرجل أُمه، واستطرد منه إلى أنه لم يجعل دعيَّه ابنه؛ فانظر ما أحسن هذا التأصيل، وهذا الاستطراد الذي تسجد له العقولُ والألباب، وله نظائر في القرآن عديدةٌ، فمنها قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف/189 ــ 190]. فالنَّفسُ الواحدةُ وزوجُها آدمُ وحوَّاء، واللَّذان جعلا له شركاء فيما آتاهما المشركون من أولادهما، ولا يُلتفت إلى غير ذلك مما قيل: إن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولدٌ، فأتاهما إبليس، فقال: إن أحببتما أن يعيش لكما ولدٌ؛ فسمِّياه عبد الحارث، ففعلا (1)، فإن الله سبحانه اجتباه وهداه، فلم يكن ليشرك به بعد ذلك. _________ (1) ورد ذلك في حديث أخرجه أحمد (5/ 11)، والترمذي (3077) من طريق عمر ابن إبراهيم عن قتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعًا. وذكر ابن كثير في تفسيره (4/ 1527) أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه، ثم بيَّنها. وأما الآثار الواردة عن بعض الصحابة والتابعين في هذا الباب فأصلها مأخوذ من أهل الكتاب.
(الكتاب/404)
ونظير هذا الاستطراد قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ [109 أ] لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة/189] ثم قال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة/189] فإنهم كانوا يفعلون ذلك في الإحرام، فلما ذكر لهم وقت الإحرام الذي هو من فوائد الأهلة؛ استطرد منه إلى ذكر ما يفعلونه فيه، وهو كثيرٌ جدًّا. والمقصود: أن المحبة تستلزم توحيد المحبوب فيها، وقد بالغ أبو محمد بن حزم في إنكاره على من يزعم أنه يعشق أكثر من واحدٍ، وقال في ذلك شعرًا، ونحن نذكر كلامه وشعره. قال بعد كلام طويل (1): ومن هذا دخل الغلط على من يزعم: أنه يحب اثنين، ويعشقُ شخصين متغايرين، وإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرنا آنفًا، وهي على المجاز تُسمَّى: محبةً، لا على التحقيق وأما نفس المحب فما في الميل به فضلٌ يصرفُه من أسباب دينه ودنياه، فكيف الاشتغال بحبٍّ ثانٍ، وفي ذلك أقول (2): كذب المدَّعي هوى اثنين حتمًا ... مثل ما في الأُصول أُكذِبَ ماني ليس في القلب موضعٌ لحبيبيـ ... ــن ولا أحدثَ الأمورَ اثْنانِ فكما العقلُ واحدٌ ليس يدري ... خالقًا غير واحد رحمن _________ (1) طوق الحمامة (ص 45). (2) المؤلف نقل عن ابن حزم في طوق الحمامة (ص 46).
(الكتاب/405)
فكذا القلبُ واحدٌ ليس يهوى ... غيرَ فردٍ مباعدٍ أو مُدانِ هو في شرعة المودَّة ذو شكٍّ ... بعيدٌ من صحَّة الإيمان وكذا الدِّينُ واحدٌ مستقيمٌ ... وكَفُورٌ من عنده دينان وقد اختلف الناسُ في هذه المسألة، فقالت طائفة: ليس للقلب إلَّا وجهةٌ واحدةٌ، إذا توجَّه إليها؛ لم يمكنه التوجُّه إلى غيرها، قالوا: وكما أنه لا يجتمع فيه إرادتان معًا؛ فلا يكون فيه حُبَّان، وكان الشَّيخُ إبراهيم الرَّقيُّ ــ رحمه الله ــ يميل إلى هذا. وقالت طائفةٌ: بل يمكن أن يكون له وجهتان فأكثر [109 ب] باعتبارين، فيتوجَّه إلى أحدهما، ولا يشغله عن توجُّهه إلى الآخر. قالوا: والقلب حاملٌ، فما حمَّلته تحمَّل، فإذا حمَّلته الأثقال؛ حملها، وإن استعجزته عجز عن حمل غير ما هو فيه، فالقلبُ الواسعُ يجتمع فيه التوجُّه إلى الله سبحانه، وإلى أمره، وإلى مصالح عباده، ولا يشغله واحدٌ من ذلك عن الآخر، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلبه متوجهٌ في الصلاة إلى ربه، وإلى مراعاة أحوال من يُصلي خلفه، وكان يسمع بكاء الصبي، فيخفف الصلاة خشية أن يشُقَّ على أُمه (1)، أفلا ترى قلبه الواسع الكريم، كيف اتَّسع للأمرين؟ ولا يُظَن: أن هذا من خصائص النُّبوة، فهذا عمر بن الخطاب كان يجهز جيشه وهو في الصلاة، فيتَّسع _________ (1) أخرجه البخاري (709، 710)، ومسلم (470) من حديث أنس.
(الكتاب/406)
قلبه للصلاة والجهاد في آنٍ واحدٍ، وهذا بحسب سعة القلب، وضيقه، وقوته، وضعفه، قالوا: وكمال العبودية أن يتَّسع قلب العبد لشهود معبوده. ومراعاة آداب عبوديته فلا يشغله أحدُ الأمرين عن الآخر. قالوا: وهذا موجود في الشاهد، فإن الرجل إذا عمل عملاً للسُّلطان مثلًا بين يديه، وهو ناظر إليه يشاهده؛ فإنَّ قلبه يتسع لمراعاة عمله، وإتقانه، وشهود إقبال السلطان عليه، ورؤيته له، بل هذا شأْن كلِّ محبٍّ يعمل لمحبوبه عملًا بين يديه، أو في غيبته. قالوا: وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكى يوم موت ابنه إبراهيم (1)، فكان بكاؤه رحمة له، فاتسع قلبه لرحمة الولد، وللرضا بقضاء الله، ولم يشغله أحدهما عن الآخر، لكن الفضيل لم يتسع قلبه يوم موت ابنه لذلك، فجعل يضحك، فقيل له: أتضحك وقد مات ابنك؟ فقال: إن الله سبحانه قضى بقضاء، فأحببتُ أن أرضى بقضائه. ومعلوم أن بين هذه الحال وحال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفاوت لا يعلمه [110 أ] إلا الله، ولكن لم يتسع قلبه لما اتسع له قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ونظير هذا اتساع قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغناء الجويريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة (2)، فلم يشغله ذلك عن ربه، ورأى فيه من مصلحة _________ (1) أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315) من حديث أنس. (2) تقدم تخريجه.
(الكتاب/407)
إرضاء النفوس الضعيفة بما يستخرج منها من محبة الله، ورسوله، ودينه، فإن النفوس متى نالت شيئًا من حظِّها؛ طُوِّعت ببذل ما عليها من الحق، ولم يتسع قلب عمر لذلك لما دخل، فأنكره، وكم بين من ترد عليه الواردات فكل منها يثني همته، ويحرك قلبه إلى الله، كما قال القائل (1): يُذكِّرُنيك الخيرُ والشرُّ والذي ... أخافُ وأرجو والذي أتوقعُ وبين من تَرِد عليه الواردات فتشغله عن الله، وتقطعه عن سير قلبه إليه، فالقلب الواسع يسير بالخلق إلى الله ما أمكنه، فلا يهرب منهم، ولا يلحق بالقفار، والجبال والخلوات، بل لو نزل به من نزل سار به إلى الله فإن لم يسر معه سار هو، وتركه. ولا يُنكر هذا فالمحبة الصحيحة تقتضيه، وخذ هذا في المغنّي إذا طرب، فلو نزل به من نزل أطربهم كلهم، فإن لم يطربوا معه لم يدع طربه لغِلَظِ أكبادهم، وكثافة طبعهم. وكان شيخنا يميل إلى هذا القول، وهو كما ترى قوَّته، وحجَّته. والتحقيق: أن المحبوب لذاته لا يمكن أن يكون إلا واحدًا، ويستحيل أن يوجد في القلب محبوبان لذاتهما، كما يستحيل أن يكون في الخارج ذاتان قائمتان بأنفسهما، كلُّ ذات منهما مستغنيةٌ عن الأُخرى من جميع الوجوه، وكما يستحيل أن يكون للعالم ربَّانِ متكافئان مستقلَّان، فليس الذي يُحَبُّ لذاته إلا الإله الحق، الغنيُّ بذاته عن كل ما _________ (1) تقدم البيت.
(الكتاب/408)
سواه، وكل ما سواه فقيرٌ بذاته إليه. وأما ما يُحَبُّ لأجله سبحانه فيتعدَّد، ولا تكون محبة العبد له شاغلةً له عن محبة ربِّه، ولا يشركه معه في الحب، [110 ب] فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب زوجاته، وأحبهن إليه عائشة وكان يحب أباها، ويحبُّ عمر وكان يحب أصحابه، وهم مراتب في حبه لهم، ومع هذا فحبُّه كلُّه لله، وقوى حبه جميعها منصرفةٌ إليه سبحانه. فإن المحبة ثلاثة أقسام: محبة الله، والمحبة له وفيه، والمحبة معه. فالمحبَّة له وفيه من تمام محبته وموجباتها، لا من قواطعها، فإن محبة الحبيب تقتضي محبة ما يحبُّ، ومحبة ما يعين على حبه، ويوصل إلى رضاه وقربه، وكيف لا يحب المؤمن ما يستعين به على مرضاة ربه، ويتوصل به إلى حبه وقربه؟! وأما المحبة مع الله؛ فهي المحبة الشركية، وهي كمحبة أهل الأنداد لأندادهم، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]. وأصلُ الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك في هذه المحبة، فإن المشركين لم يزعموا أن آلهتهم وأوثانهم شاركت الرب سبحانه في خلق السموات والأرض، وإنما كان شركهم بها من جهة محبتها مع الله، فوالَوا عليها، وعادَوا عليها، وتألهوها، وقالوا: هذه آلهةٌ صغار تقربنا إلى الإله الأعظم. ففرقٌ بين محبة الله أصلًا، والمحبة له تبعًا، والمحبة
(الكتاب/409)
معه شركًا. وعليك بتحقيق هذا الموضع، فإنه مفرق الطرق بين أهل التوحيد وأهل الشرك. ويحكى أن الفُضيل دخل على ابنته في مرضها، فقالت له: يا أبه! هل تُحبني؟ قال: نعم. قالت: لا إله إلا الله، والله ما كنت أظن فيك هذا، ولم أكن أظنك تحب مع الله أحدًا، ولكن أفرد الله بالمحبة، واجعل لي منك الرحمة، إن يكن حبك لي حب رحمةٍ جعلها الله في قلب الوالد لولده، لا محبة مع الله. فلله حق من المحبة لا يشركه فيه غيره، وأظلم الظلم وضع تلك المحبة في غير موضعها، والتشريك [111 أ] بين الله وغيره فيها. فليتدبَّر اللبيب هذا الباب، فإنه من أنفع أبواب الكتاب إن شاء الله تعالى.
(الكتاب/410)
الباب الثاني والعشرون في غَيْرَةِ المُحبِّين على أحبابهم
لمَّا كان هذا الباب متصلًا بباب إفراد المحبوب بالمحبة، ومن موجباته، فإن الغيرة بحسب قوة المحبة، وقوَّتها بحسب إفراد المحبوب؛ حسُن ذكره بعده. وأصل الغيرة: الحميَّةُ، والأنفةُ، والغيرة نوعان: غيرةٌ للمحبوب، وغيرة عليه، فالغيرة له فهي الحمية له، والغضب له إذا استهين بحقه، وانتُقصت حرمته، وناله مكروه من عدوه، فيغضب له المحب ويحمى وتأخذه الغيرة له بالمبادرة إلى التغيير ومحاربة من آذاه، فهذه غيرة المحبين حقًّا، وهي غيرة الرسل وأتباعهم لله ممن أشرك به، واستحل محارمه، وعصى أمره. وهذه الغيرة هي التي تحمل على بذل نفس المحب، وماله، وعرضه لمحبوبه حتى يزول ما يكرهه، فهو يغار لمحبوبه أن تكون فيه صفةٌ يكرهها محبوبه، ويمقته عليها، أو يفعل ما يبغضه عليه، ثم يغارُ له بعد ذلك أن يكون في غيره صفةٌ يكرهها ويبغضها. فالدينُ كلُّه في هذه الغيرة، بل هي الدين، وما جاهد مؤمنٌ نفسه، وعدوَّه، ولا أمر بمعروف، ولا نهى عن منكر إلَّا بهذه الغيرة، ومتى خلت من القلب؛ خلا من الدين، فالمؤمن يغارُ لربه من نفسه، ومن غيره
(الكتاب/411)
إذا لم يكن له كما يحب. والغيرة تصفي القلب، وتخرج خبثه، كما يخرج الكير خبث الحديد. فصل وأمَّا الغيرة على المحبوب فهي غيرة أنفة المحب، وحميتُه أن يشاركه في محبوبه سواه، وهذه أيضًا نوعان: غيرةُ المحب أن يشاركه غيره في محبوبه، وغيرةُ المحبوب على محبه أن يحبَّ معه غيره. والغيرةُ من صفات الرب جلَّ جلاله، والأصل فيها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف/ 33]. ومن [111 ب] غيرته تعالى لعبده وعليه: حميتُه مما يضره في آخرته، كما في الترمذي (1) وغيره مرفوعًا: «إن الله يحمي عبد ه المؤمن من الدنيا، كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب». وفي الصحيحين (2): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة الكسوف: «والله يا أُمَّة مُحمَّدٍ! ما أحدٌ أغيرَ من الله أن يزني عبدهُ، أو تزْنِي أمَتُهُ». وفي ذكر هذا الذنب بخصوصه في خطبة الكسوف سرٌّ بديع، قد _________ (1) أخرجه الترمذي (2037)، وابن حبان (2474)، والحاكم (4/ 207، 309) من حديث قتادة بن النعمان. (2) البخاري (1044)، ومسلم (901) من حديث عائشة.
(الكتاب/412)
نبهنا عليه في باب: غضِّ البصر، وأنه يورث نورًا في القلب. ولهذا جمع الله سبحانه بين الأمر به، وبين ذكر آية النور، فجمع سبحانه بين نور القلب بغض البصر، وبين نوره الذي مثله بالمشكاة لتعلُّق أحدهما بالآخر، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظلمة القلب بالزنا وبين ظلمة الوجود بكسوف الشمس، وذكر أحدهما مع الآخر. وفي الصحيحين (1) من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس شيءٌ أغيرَ من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحدٌ أحبَّ إليه المدح من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه، ولا أحد أحبَّ إليه العُذْرُ من الله، من أجل ذلك أرسل الرُّسُل». وروى الثوري عن حماد بن إبراهيم، عن عبد الله قال: «إن الله ليغار للمسلم فليغَرْ» (2). وروي أيضًا عن عبد الأعلى، عن ابن عيينة، عن أبيه، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل يغارُ فليغَرْ أحدكم» (3). _________ (1) البخاري (4634، 4637، 5220، 7403)، ومسلم (2760). (2) رواه الطبراني في الأوسط (1076). (3) رواه أبو يعلى (5087)، والطبراني في الأوسط (1072)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 327): فيه عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وهو ضعيف.
(الكتاب/413)
وفي الصحيح (1) عنه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يغارُ، والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم عليه». وروى القعنبي (2) عن الدَّراوردي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن يغارُ، والله أشدُّ غيرةً». فصل وغيرةُ العبد على محبوبه نوعان: غيرةٌ ممدوحةٌ، يحبُّها الله، وغيرةٌ مذمومة، يكرهها الله، فالَّتي يحبُّها الله: أن يغار عند قيام الرِّيبة، والَّتي يكرهها: أن يغار من غير ريبةٍ، بل من مجرَّد سوء الظن، [112 أ] وهذه الغيرة تُفْسدُ المحبة، وتوقع العداوة بين المحبِّ ومحبوبه. وفي المسند (3) وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «الغيرةُ غيرتان: فغيرةٌ يُحبُّها الله، وأُخرى يكرهها الله» قلنا: يا رسول الله! ما الغيرة التي يُحبُّ الله؟ قال: «أن تُؤْتى معاصيه، وتُنْتهَك محارمُهُ» قلنا: فما الغيرة التي يكرهُ الله؟ _________ (1) أخرجه البخاري (5223)، ومسلم (2761). (2) أخرجه الخرائطي (ص 310) من طريقه. (3) 4/ 154. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (2478)، والحاكم في المستدرك (1/ 418) من حديث عقبة بن عامر. واللفظ الذي ذكره المؤلف أخرجه الخرائطي (ص 310) من حديث كعب بن مالك.
(الكتاب/414)
قال: «غيرةُ أحدكم في غير كُنْهه». وفي الصحيح (1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إن من الغيرة ما يحبُّ الله، ومنها ما يكرهُ اللهُ، فالغيرة التي يُحبُّها الله: الغيرة في الريبة، والغيرة التي يكرهها الله: الغيرة في غير ريبة». وفي الصحيح (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ منِّي». وقال عبد الله بن شدَّاد (3): الغيرةُ غيرتان: غيرةٌ يصلح بها الرَّجل أهله، وغيرةٌ تدخله النَّار. وروى عبد الله بن لهيعة (4) عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة المهري، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد مارية القبطية، وهي حاملٌ بإبراهيم، وعندها نسيبٌ لها قدم معها من مصر، فأسلم، وكان كثيرًا ما يدخل على أُم إبراهيم، وأنه جبَّ نفسه فقطع ما بين رجليه، حتى لم يبق قليلٌ، ولا كثيرٌ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) لم يخرجه البخاري ولا مسلم، وأخرجه أحمد (5/ 445، 446)، وأبو داود (2659)، والنسائي (5/ 78)، وابن ماجه (1996) من حديث جابر بن عتيك. (2) سبق الحديث. (3) أخرجه الخرائطي (ص 310) عنه. (4) أخرجه الخرائطي (ص 310 - 311).
(الكتاب/415)
يومًا عليها، فوجد عندها قريبها، فوجد في نفسه من ذلك شيئًا، كما يقع في أنفس الناس، فخرج متغير اللون، فلقيه عمر بن الخطاب فعرف ذلك في وجهه، فقال: يا رسول الله! أراك متغيِّر اللون، فأخبره ما وقع في نفسه من قريب مارية، فمضى بسيفه، فأقبل يسعى حتى دخل على مارية، فوجد عندها قريبها ذلك، فأهوى بالسيف ليقتله، فلما رأى ذلك منه كشف عن نفسه، فلمَّا رآه عمر رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: «إن جبريل أتاني فأخبرني: أن الله عز وجل قد برأها، وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلامًا، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أُسمِّيه إبراهيم» [112 ب]. وقال الواقدي (1): عن محمد بن صالح، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: كانت سارةُ عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمكثت معه دهرًا لا تُرْزق منه ولدًا، فلمَّا رأت ذلك؛ وهبت له هاجر أمتها، فولدت لإبراهيم، فغارت من ذلك سارة، ووجدتْ في نفسها، وعتبت على هاجر، فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أعضاء، فقال لها إبراهيم: هل لك أن تبرَّ يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: اثقبي أُذنيها، واخفضيها، والخفضُ هو الختان، ففعلت ذلك بها فوضعت هاجرُ في أُذنيها قُرطين، فازدادت بهما حسنًا، فقالت سارة: إنما زدتها جمالًا، فلم _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 311) عنه. ونقل عنه ابن كثير في البداية والنهاية (8/ 242).
(الكتاب/416)
تُقارَّه على كونها معه، ووجد بها إبراهيم وجدًا شديدًا، فنقلها إلى مكة، فكان يزورها كلَّ يومٍ من الشام على البُراق من شغفه بها، وقلَّة صبره عنها. وفي الصحيح (1) من حديث حميد، عن أنس قال: أهدى بعضُ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - له قصعة فيها ثَرِيدٌ، وهو في بيت بعض نسائه، فضربت يد الخادم، فانكسرت القصعة، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ الثَّريد ويردُّه في القصعة، ويقول: «كلوا، غارت أُمُّكم»، ثم انتظر حتى جاءت قصعةٌ صحيحة، فأعطاها التي كُسرتْ قصعتُها. وقالت عائشة: ما غِرتُ على امرأةٍ قطُّ ما غرتُ على خديجة من كثرة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - إيَّاها، ولقد ذكرها يومًا، فقلت: ما تصنع بعجوز حمراء الشِّدْقَيْن، وقد أبدلك الله خيرًا منها؟ فقال: «والله ما أبدَلني الله خيرًا منها!» (2). فانظر هذه الغيرة الشَّديدة على امرأةٍ بعدما ماتت، وذلك لفرط محبَّتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تغار عليه أن يذكر غيرها، وكذلك غيرتُها من صفيَّة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قدم بها المدينة، وقد اتَّخذها لنفسه زوجةً، وعرَّس بها في الطريق، قالت عائشة: تنكرتُ، وخرجتُ أنظرُ، _________ (1) أخرجه البخاري (2481، 5225). (2) أخرجه البخاري (3821، 3824)، ومسلم (2437).
(الكتاب/417)
فعرفني، فأقبل إليَّ، فانقلبت، فأسرع المشي [113 أ]، فلحقني فاحتضنني، وقال: «كيف رأيتها؟» قلت: يهودية بنت يهوديات ــ تعني السَّبْيَ (1) ــ. وفي المسند (2): من حديث الأشعث بن قيس قال: تضيَّفتُ بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام إلى امرأته، فضربها فحجزتُ بينهما، فرجع إلى فراشه، فقال: يا أشعث! احفظ عني شيئًا سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسألنَّ رجلًا فيما يضربُ امرأته». وذكر حمَّاد بن زيد (3) عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة: أن ابن عمر سمع امرأته تكلم رجلًا من وراء جدارٍ، بينها وبينه قرابةٌ لا يعلمها ابن عمر، فجمع لها جرائد، ثم أتاها فضربها، حتى آضَتْ حشيشًا. وذكر الخرائطي (4) عن معاذ بن جبل: أنه كان يأْكل تفاحًا ومعه امرأتُه، فدخل عليه غلامٌ له، فناولته تفاحة قد أكلت منها، فأوجعها معاذٌ ضربًا. ودخل يومًا على امرأته وهي تطَّلع في خباءٍ أدمٍ، فضربها. _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 311)، وابن ماجه (1980) عن عائشة. وإسناده ضعيف. (2) 1/ 20. وأخرجه أيضًا أبو داود (2147)، وابن ماجه (1986)، والخرائطي (ص 312)، والحاكم (4/ 175). وإسناده ضعيف. (3) أخرج عنه الخرائطي (ص 312). (4) (ص 312).
(الكتاب/418)
وذكر الثوري (1) عن أشعث، عن الحسن: أنَّ امرأة جاءت تشكو زوجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لطمها، فدعا الرجل ليأْخذ حقها، فأنزل الله ــ عز وجل ــ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية [النساء/ 34] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أردْنا أمرًا، وأراد الله أمرًا». وكان عمرُ بن الخطاب شديد الغيرة، وكانت امرأتُه تخرُج، فتشهدُ الصلاة، فيكره ذلك، فتقول: إن نهيتني انتهيتُ، فيسكتُ امتثالًا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمْنَعُوا إماء الله مساجد الله» (2). وهو الذي أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحجُب نساءه، وكان عادة العرب: أنَّ المرأة لا تحتجب، لنزاهتهم، ونزاهة نسائهم، ثم قام الإسلام على ذلك، فقال عمر: يا رسول الله! لو حجبت نساءك، فإنَّه يدخل عليهن البَرُّ والفاجر، [113 ب] فأنزل الله آية الحجاب (3). ورُفع إلى عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ رجلٌ قد قتل امرأته، ومعها رجلٌ آخر، فقال أولياءُ المرأة: هذا قتل صاحبتنا، وقال أولياءُ الرجل: إنَّه قتل صاحبنا، فقال عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضربَ الآخرُ _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 312). (2) أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442) من حديث ابن عمر. (3) أخرجه البخاري (402 ومواضع أخرى)، ومسلم (2399).
(الكتاب/419)
فَخِذَيْ امرأته بالسَّيف، فإن كان بينهما أحدٌ فقد قتله، فقال لهم عمر: ما يقول؟ فقالوا: ضرب بسيفه، فقطع فخذي المرأة، فأصاب وسط الرَّجل، فقطعه باثنتين، فقال عمر: إن عادوا فعُدْ. ذكره سعيد بن منصور في سننه (1). وأخذ بهذا جماعةٌ من الفقهاء، منهم الإمام أحمد وأصحابه قالوا: لو وجد رجلًا يزني بامرأته، فقتلهما، فلا قصاص عليه، ولا ضمان، إلا أن تكون المرأة مُكرهةً؛ فعليه القصاصُ بقتلها، ولكن لا يُقبل قولُ الزوج إلا بتصديق الولي، أو بيِّنةٍ، واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في عدد البيِّنة، فرُوي عنه: أنها رجلان، ورُوِي عنه: لابدَّ من أربعة. ووجهُ هذه الرواية ظاهرُ حديث سعد بن عُبادة أنه قال: يا رسول الله! أرأيت إن وجدتُ رجلًا مع امرأتي؛ أُمهله حتى آتي بأربعة شُهداء؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نعم»، فقال: والذي بعثك بالحقّ إن كنتُ لأضربه بالسَّيف غير مصفح! فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تعجبون من غيرة سعدٍ؟! لأنا أغيرُ منْهُ، والله أغيرُ منِّي!» (2). وذكر سعيد بن منصور عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن رجل دخل بيته، فإذا مع امرأته رجلٌ، فقتلها، وقتله، فقال عليٌّ: إن جاء بأربعة شُهداء، وإلاَّ دُفع برُمَّتِه. _________ (1) لم أجده في المطبوع منه. (2) تقدم الحديث.
(الكتاب/420)
ووجهُ رواية الاكتفاء باثنين: أنَّ البينة ليست على إقامة الحدِّ، ولكن على وجود السبب المانع من القصاص، فإن الزوج كان له أن يقتل المعتدي على أهله، ولكن لما أنكر أولياءُ القتيل؛ طُولِب القاتل بالبيِّنة فاكتفي برجلين. ورُفع إلى عمر رجلٌ قد قتل يهوديًّا، فسأله [114 أ] عن قصَّته، فقال: إن فلانًا خرج غازيًا، وأوصاني بامرأته، فبلغني أنَّ يهوديًّا يختلفُ إليها، فكمنتُ له حتى جاء، فجعل ينشد ويقول (1): وأبيضَ غرَّه الإسلامُ منِّي ... خَلَوْتُ بعِرْسه ليل التَّمامِ أبِيتُ على ترائبها ويُمسي ... على جَرْداءَ لاحقةِ الْحِزام كأنَّ مواضع الرَّبلات منها ... فِئامٌ يَنْهضون إلى فِئَام فقمتُ إليه فقتلته، فأهْدر عمر دمه. وليس في هذين الأثرين مطالبةُ عمر للقاتل بالبيِّنة؛ إذ لعلَّه تيقَّن ذلك، أو أقرَّ به الوليُّ. والصَّواب: أنه متى قام على ذلك دلالة ظاهرة، لا تحتمل الكذب؛ أغنت عن البينة. وذكر سفيان بن عُيينة (2): عن الزُّهري، عن القاسم بن محمد، عن _________ (1) الأبيات بلا نسبة في عيون الأخبار (4/ 116)، ومصارع العشاق (1/ 75، 278 ـ 279)، والأوائل (1/ 233، 234)، وذم الهوى (ص 488، 489). (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 113). والخبر في طوق الحمامة (ص 26)، ومصارع العشاق (1/ 69)، وذم الهوى (ص 486).
(الكتاب/421)
عُبيد بن عُمير: أنَّ رجلًا أضاف إنسانًا من هُذيل، فذهبت جاريةٌ لهم تحتطبُ، فأرادها عن نفسها، فرمته بفهرٍ، فقتلته، فرُفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: ذاك قتيلُ الله لا يُودى أبدًا. وذكر حمَّاد بن سلمة (1) عن القاسم بن محمد: أن أبا السيَّارة أُولع بامرأة أبي جُنْدَب، يُراودها عن نفسها، فقالت: لا تفعل! فإن أبا جُنْدَب إن يعلم بهذا يقتلك، فأبى أن يَنزع، فكلَّمت أخا أبي جُندب، فكلَّمه، فأبى أن ينزع، فأخبرت بذلك أبا جُندب، فقال أبو جُندب: إنِّي مخبرٌ القوم أنِّي ذاهب إلى الإبل، فإذا أظلمت جئتُ، فدخلتُ البيت، فإن جاءك؛ فأدخليه قبلي، فودَّع أبو جُندب القوم، وأخبرهم: أنِّي ذاهبٌ إلى الإبل، فلمَّا أظلم اللَّيلُ، جاء، فكمن في البيت. وجاء أبو السيَّارة، وهي تطحنُ في ظلِّها، فراودها عن نفسها، فقالت: وَيْحك؟ أرأيت هذا الأمر الذي تدعوني إليه هل دعوتُك إلى شيء منه قط؟ قال: لا، ولكن لا أصبرُ عنك! قالت: ادخل البيت حتى أتهيَّأ لك، فلمَّا دخل البيت، أغلق أبو جندب الباب، ثمَّ أخذه [114 ب] فدقَّه من عنقه إلى عجب ذنبه، فذهبت المرأة إلى أخي أبي جندب، فقالت: أدرك الرجل، فإن أبا جندب قاتله، فجعل أخوه يُناشده، فتركه، وحمله أبو جُندب إلى مدرجة الإبل، فألقاه، فكان إذا مرَّ به إنسانٌ قال _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 113 - 114).
(الكتاب/422)
له: ما شأنُك؟ قال: وقعتُ من بكرٍ فحطمني، وبلغ الخبر عمر فأرسل إلى أبي جندب، فأخبره بالأمر على وجهه، فأرسل إلى أهل المرأة فصدَّقوه، فجلد عمرُ أبا السيَّارة مئة جلدة، وأبطل ديته. وذكر العباس بن هشام الكلبي (1)، عن أبيه: أنَّ عمرو بن حُمَمة الدَّوْسِيَّ أتى مكة حاجًّا، وكان من أجمل العرب، فنظرت إليه امرأةٌ، فقالت: لا أدري وجهُه أحسنُ أم فرسه! وكانت له جُمَّة تُسمَّى الزينة، فكان إذا جلس مع أصحابه، نشرها وإذا قام عقصها، فقالت له المرأة: أين منزلُك؟ قال: نجد، قالت: ما أنت بنجديٍّ، ولا تِهاميٍّ، فاصدُقني! فقال: رجلٌ من أهل السَّرَاة ــ فيما بين مكَّة واليمن ــ ثُمَّ أشار إليها: ارتدفي خلفي، ففعلت، فمضى بها إلى السَّراة، وتبعها زوجُها، فلم يلحقها، فرجع فلما استقرت عنده؛ قطع عروقها، وقال: والله لا تتبعين بعدي رجلًا أبدًا ثم ردَّها إلى زوجها على تلك الحال. فصل والله سبحانه يغار على قلب عبد ه أن يكون مُعطلًا من حبه وخوفه، ورجائه، وأن يكون فيه غيره، فإنه سبحانه خلقه لنفسه، واختاره من بين خلقه، كما في الأثر الإلهيِّ: «ابنَ آدم خلقتُك لنفسي، وخلقتُ كلَّ شيءٍ لك، فبحقِّي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتُك له»، وفي أثر _________ (1) أخرجه عنه الخرائطي (ص 114).
(الكتاب/423)
آخر: «خلقتُك لنفسي فلا تلعبْ، وتكفَّلتُ لك برزقك فلا تتعبْ، يا ابن آدم اطلبني تجدْني، فإنْ وجدتَّني؛ وجدت كل شيء، وإن فُتُّك؛ فاتك كل شيء، وأنا خيرٌ لك من كل شيء». ويغارُ على لسانه أن يتعطَّل من ذكره ويشتغل بذكر غيره، ويغار على جوارحه أن تتعطَّل من طاعته، وتشتغل بمعصيته، فيقبح بالعبد أن يغار مولاه الحقُّ [115 أ] على قلبه، ولسانه، وجوارحه، وهو لا يغارُ عليها. وإذا أراد الله بعبده خيرًا، سلَّط على قلبه ــ إذا أعرض عنه، واشتغل بحبِّ غيره ــ أنواع العذاب، حتى يرجع قلبُه إليه، وإذا اشتغلتْ جوارحُه بغير طاعته؛ ابتلاها بأنواع البلاء. وهذا من غيرته سبحانه على عبده، وكما أنَّه سبحانه يغار على عبده المؤمن، فهو يغارُ له، ولحُرمته، فلا يُمكِّن المفسد أن يتوصَّل إلى حُرمته؛ غيرةً منه لعبده، فإنَّه سبحانه وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، فيدفع عن قلوبهم، وجوارحهم، وأهلهم، وحريمهم، وأموالهم، يتولَّى سبحانه الدفع عن ذلك كلِّه غيرةً منه لهم، كما غاروا لمحارمه من نفوسهم، ومن غيرهم. والله تعالى يغار على إمائه وعبيده من المفسدين شرعًا وقدرًا، ومن أجل ذلك حرَّم الفواحش، وشرع عليها أعظم القربات، وأشنع القتلات؛ لشدَّة غيرته على إمائه وعبيده. فإن عُطِّلت هذه العقوباتُ شرعًا؛ أجراها سبحانه قدرًا.
(الكتاب/424)
فصل ومن غيْرَته سبحانه: غيرتُه على توحيده، ودينه، وكلامه أن يحظى به من ليس من أهله، بل حال بينهم وبينه؛ غيرةً عليه، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام/ 25]، ولذلك ثبَّط سبحانه أعداءه عن متابعة رسوله، واللَّحاق به؛ غيرةً عليه، كما قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة/ 46 ــ 47] فغار سبحانه على نبيه وأصحابه أن يخرج بينهم المنافقون، فيسعوا بينهم بالفتنة، فثبَّطهم، وأقعدهم عنهم. وسمع الشِّبليُّ قارئًا يقرأ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء/ 45] فقال: أتدرون ما هذا الحجاب؟ هذا حجابُ الغيرة، [115 ب] ولا أحدٌ أغير من الله، يعني: أنَّه سبحانه لم يجعل الكفَّار أهلًا لمعرفته. وهاهنا نوع من غيرة الربِّ تعالى لطيفٌ، لا تهتدي إليه العقول، وهو: أنَّ العبد يُفْتَحُ له بابٌ من الصَّفاء والأُنس، والوجود، فيساكنُه، ويطمئنُّ إليه، وتلتذُّ به نفسه، ويشتغل به عن المقصود، فيغار عليه مولاه الحقُّ، فيخليه منه، ويرُدُّه حينئذٍ إليه بالفقر، والذِّلَّة، والمسكنة، ويُشهده غاية فقره، وإعدامه، وأنَّه ليس معه من نفسه شيء ألبَتَّة، فتعود عزَّةُ ذلك
(الكتاب/425)
الأنس والصفاء والوجود ذلةً، ومسكنةً، وفقرًا، وفاقةً، وذرَّةٌ من هذا أحبُّ إليه سبحانه، وأنفع للعبد من الجبال الرواسي من ذلك الصفاء، والأنس المجرّد عن شهود اليقين، وعن شهود الفقر، والذلَّة، والمسكنة. وهذا بابٌ لا يتسع له قلبُ كلِّ واحد. فصل ومن الغيرة: الغيرة على دقيق العلم، وما لا يُدركه فهم السامع أن يُذكر له، ولهذه الغيرة قال عليُّ بن أبي طالب: حدِّثُوا الناس بما يعرفون، أتحبُّون أن يُكذَّب الله ورسولُه؟ وقال ابن مسعود: ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغُه عقولُهم إلَّا كان لبعضهم فتنةً. فالعالمُ يغارُ على علمه أن يَبْذُلَه لغير أهله، أو يضعه في غير محلّه، كما قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل لا تمنعوا الحكمة أهلها؛ فتظلموهم، ولا تبذلُوها لغير أهلها؛ فتظلمُوها. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق/ 12] فقال للسائل: وما يُؤمِّنُك أنِّي إن أخبرتك بتفسيرها؛ كفرت؟ فإنك تكذِّب بها، وتكذيبُك بها كفرُك بها. فالمسألة الدَّقيقة اللطيفة التي تُبْذَلُ لغير أهلها، كالمرأة الحسناء
(الكتاب/426)
التي تُهْدَى إلى ضريرٍ مُقْعَد، كما قيل (1): خَوْدٌ تُزَفّ إلى ضَريرٍ مُقْعَدِ وكان أبو عليٍّ إذا وقع في خلال مجلسه شيء يشوش الوقت يقول: هذا من غيرة الحق، يُريد ألَّا يجري ما يجري من صفاء [116 أ] الوقت. قال الشاعر (2): همَّت بإتياننا حتَّى إذا نظرتْ ... إلى المراةِ نَهاها وجهُها الحسنُ ما كانَ هذا جَزائي منْ محاسِنها ... عُذِّبتُ بالهَجْرِ حتى شفَّني الحزَنُ قال القُشيْرِيُّ (3): وقيل لبعضهم: أتحبُّ أن تراه؟ قال: لا! قيل: ولِمَ؟ قال: أُنَزِّهُ ذلك الجمال عن نظر مثلي. وفي معناه أَنشدوا: إنِّي لأحسُدُ ناظريَّ عليكا ... حتى أغُضَّ إذا نظرتُ إليكا وأراك تخطرُ في شمائلك التي ... هي قبلتي فأغارُ منك عليكا قلتُ: وهذه غيرةٌ فاسدةٌ، وغايةُ صاحبها أن يُعْفَى عنه، وأن يعدَّ ذلك _________ (1) لأبي عبد الله الحسين بن الحجاج في المنتحل (ص 158). وصدره: وكأنها لما أحلَّت عنده. وبلا نسبة في التمثيل والمحاضرة (ص 136). (2) لعباس بن الأحنف في ديوانه (ص 235)، وبهجة المجالس (2/ 29). (3) الرسالة القشيرية (ص 256)، والشعر للبحتري في ديوان الصبابة (ص 114)، وملحق ديوانه (4/ 2625). ولأبي بكر الشبلي في ديوانه (ص 115). وبلا نسبة في حماسة الظرفاء (2/ 104).
(الكتاب/427)
في شطحاته المذمومة، وأمَّا أن تُعدَّ في مناقبه، وفضائله أن يُقال له: أتحبُّ أن ترى الله؟ فيقول: لا، ورؤيتُه أعلى نعيم أهل الجنَّة، وهو سبحانه يحبُّ من عبده أن يسأله النَّظر إليه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان من دعائه: «اللَّهُمَّ إني أسألُك لذَّةَ النَّظَرِ إلى وجْهِكَ، والشَّوقَ إلى لِقَائك» (1). وقول هذا القائل: أُنزِّه ذلك الجمال عن نظر مثلي، من خدع الشيطان والنَّفس، وهو يُشبه ما يُحكى عن بعضهم: أنَّه قيل له: ألا تذكره؟ فقال: أنزهه أن يجري ذكره على لساني، وطردُ هذا التنزيه الفاسد أن ينزهه أن يجري كلامه على لسانه، أو يخطُر هو أيضًا على قلبه، وقد وقع بعضهم في شيءٍ من هذا، فلاموه، فأنشد يقول (2): يقولون زُرْنا واقضِ واجبَ حقِّنا ... وقد أسقطتْ حالي حقوقَهمُ عنِّي إذا هم رأَوْا حالي ولم يأْنَفُوا لها ... ولم يأْنَفُوا منِّي أَنِفْتُ لهم منِّي وطردُ هذه الغيرة ألَّا يزور بيته؛ غيرةً على بيته أن يزورهُ مثلُه. ولقد لُمْتُ شخْصًا مرَّةً على ترك الصلاة، فقال لي: إنِّي لا أرى نفسي أهلًا أن أدخل بيته. فانظر إلى تلاعب [116 ب] الشَّيطان بهؤلاء! ومن هذا ما ذكره القُشيريُّ (3)، قال: سُئل الشبليُّ متى تستريح؟ فقال: _________ (1) تقدم تخريجه. (2) البيتان لجحظة البرمكي في ديوانه (ص 178)، وديوان المعاني (2/ 203). وبلا نسبة في ديوان الصبابة (ص 112). (3) الأخبار الآتية من الرسالة القشيرية (ص 256 وما بعدها).
(الكتاب/428)
إذا لم أرَ له ذاكرًا. ومات ابنٌ له، فقطَّعتْ أُمُّه شعرها، فدخل هو الحمام، ونوَّر لحيته حتى ذهب شعرها، فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: إنَّهم يُعزُّونني على الغفلة، ويقولون: آجرك الله، ففديتُ ذكرهم لله تعالى على الغفلة بلحيتي، وموافقةً لأهلي. ونظير هذا ما يُحكى عن النوري أنه سمع رجلًا يؤذِّن، فقال: طعنةٌ، وسمُّ الموت. وسمع كلبًا ينبح، فقال: لبَّيك، وسعديْك! فسُئل عن ذلك فقال: أمَّا ذاك فكان يذكره على رأْس الغفلة، وأمَّا الكلب فقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء/ 44]. وسمع الشبلي مرةً رجلًا يقول: جلَّ الله! فقال: أحبُّ أن تُجِلَّه عن هذا. ويا عجبًا ممَّن يَعُدُّ هذا في مناقب رجلٍ، ويجعله قدوةً، ويزيِّن به كتابه! وهل شيءٌ أشدُّ على قلب المؤمن، وأمرُّ عليه من ألَّا يرى لربِّه ذاكرًا؟ وهل شيءٌ أقرُّ لعينه من أن يرى ذاكرين لله بكل مكان، وعذرُ هذا القائل أنه لا يرى ذاكرًا لله بحقِّ الذِّكر، بل لا يرى ذاكرًا إلَّا والغفلةُ والسهو مستولٍ على قلبه، فيذكر ربَّه بلسان فارغ من القلب وحضوره في الذكر، وذلك ذكرٌ لا يليقُ به، فيغارُ محبُّه أن يُذكر بهذا الذكر، فيحبُّ ألا يسمع أحدًا يذكره هذا الذِّكر. ولمَّا اشترك الناس في هذا الذِّكر أخبر أنَّ راحته ألَّا يرى له ذاكرًا، هذا أحسنُ ما يُحمل عليه كلامه، وإلا
(الكتاب/429)
فظاهره إلى العداوة أقربُ منه إلى المحبة، وليس هذا حال الشبلي، فإن المحبة كانت تغلب عليه، ومع ذلك فهذا من شطحاته التي يُرجى أن تُغْفر له بصدقه، ومحبته، وتوحيده، لا أنها مما يُحْمَدُ عليه ويُقتدى به فيه. وقد أمر الله سبحانه عباده أن يذكروه على جميع أحوالهم، وإن كان ذكرهم [117 أ] إيَّاه مراتب، فأعلاها ذكرُ القلب، واللسان مع شهود القلب للمذكور، وجمعيتُه بكليته عليه بأحب الأذكار إليه، ثُمَّ دونه ذكر القلب واللسان، وإن لم يشاهد المذكور، ثم ذكر القلب وحده، ثم ذكر اللسان وحده، فهذه مراتب الذكر، وبعضُها أحبُّ إلى الله من بعض. وكان طردُ قول الشبليِّ أنَّ راحته ألَّا يرى لله مصليًا، ولا لكلامه تاليًا، ولا يرى أحدًا ينطقُ بالشهادتين، فإن هذا كله من ذكره، بل هو أجل أنواع ذكره، فكيف يستريحُ قلبُ المحب؛ إذا لم ير من يفعل ذلك؟! والله سبحانه يحبُّ أن يُذكر، ولو كان من كافر. وقال بعضُ السلف: إن الله يُحب أن يُذكر على جميع الأحوال إلا في حالة الجماع، وقضاء الحاجة. وأوحى الله ــ عز وجلَّ ــ إلى موسى أن اذكرني على جميع أحوالك. والله تعالى لا يُضيع أجر ذكر اللسان المجرَّد، بل يثيب الذاكر، وإن كان قلبه غافلًا، ولكن ثوابٌ دون ثواب.
(الكتاب/430)
قال القشيريُّ (1): وسمعتُ الأستاذ أبا علي يقولُ في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في مبايعته فرسًا من أعرابي، وأنه استقاله، فأقاله، فقال له الأعرابيُّ: عمرك الله؛ فمن أنت؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «امْرُؤٌ من قُريش». فقال له بعضُ الحاضرين: كفاك جفاءً ألَّا تعرف نبيَّك! قال أبو علي: فإنما قال: امرؤٌ من قريش غيرةً، وإلا كان واجبًا عليه التعرُّف إلى كل أحدٍ أنه من هو، ثُمَّ إن الله أجرى على لسان ذلك الصحابي تعريف الأعرابي. فيقال: من العجب أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غار أن يذكر: أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيِّ الذي لا يعرفه، وهو كان دائمًا يذكرُ ذلك لأعدائه من الكفَّار سرًّا وجهرًا، ليلًا ونهارًا، ولا يغارُ من ذلك، فكيف يُظنُّ به: أنه غار أن يعرّف ذلك المسكين: أنه رسول الله؟ هذا من خيالات القوم، وتُرَّهاتِهِم، وإنما سترَ عنه ذلك الوقت معرفته لحكمةٍ لطيفةٍ، فهمها الصَّحابيُّ، وصرَّح بها للأعرابي، وهي: أن هذا الأعرابي كان جافيًا [117 ب] جلفًا، فأحبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرفه جفاءه وجلافته بطريق لا يُبكته بها، ويعرف من نفسه أنه أهلٌ لذلك، فكأنه يقول بلسان الحال: كفاك جفاءً أن تجهلني حتى تسألني: من أنا، فلما فهم الصحابي ذلك بلطف إدراكه، ودقَّة فهمه فبادأه به، وقال: كفاك جفاءً ألَّا تعرف نبيَّك! ثم ذكر القُشيريُّ من كلام الشِّبلي أنه قال: غيْرة الإلهية على الأنفاس أن تضيع فيما سوى الله، وهذا كلامٌ حسن. _________ (1) الرسالة القشيرية (ص 256).
(الكتاب/431)
قال القُشيريُّ (1): والواجب أن يقال: الغيرةُ غيرتان: غيرة الحق على العبد. وهو أن لا يجعله للخلق، فيضن به عليهم، وغيرة العبد للحق، وهو ألَّا يجعل شيئًا من أحواله وأنفاسه لغير الحقِّ سبحانه، فلا يُقال: أنا أغارُ على الله، ولكن يُقال: أنا أغارُ لله، قال: فإذًا الغيرة على الله جهلٌ، وربما يُؤدِّي إلى ترك الدِّين. والغيرة لله تُوجب تعظيم حقوقه، وتصفية الأعمال له، فمن سنَّة الحقِّ مع أوليائه: أنَّهم إذا ساكنوا غيرًا، أو لاحظوا شيئًا، أو صالحوا بقلوبهم شيئًا يُشوش عليهم ذلك، فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه فارغةً، كآدم لما وطَّن نفسه على الخلود في الجنَّة؛ أخرجه منها، وإبراهيم الخليل لما أعجبه إسماعيل أمرهُ بذبحه، حتى أخرجه من قلبه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات/ 103] وصفَّى سرَّه منه، أمره بالفداء عنه. وقال بعضُهم: احذره، فإنه غيور، لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه. وقيل: الحقُّ تعالى غيور، ومن غيْرته: أنه لم يجعل إليه طريقًا سواه. وقال السَّريُّ لرجل عارفٍ: بي علَّةٌ باطنةٌ؛ فما دواؤُها؟ قال: يا _________ (1) الرسالة القشيرية (ص 257).
(الكتاب/432)
سَرِيُّ! إنه غيورٌ، لا يراك تُساكنُ غيره، فتسقط من عينه. فهذه غيرةٌ صحيحة. فصل وهاهنا أقسامٌ أُخرُ من الغيرة مذمومة، منها: غيرةٌ يحمل عليها سوءُ الظَّنِّ، فيؤذي بها المُحبُّ محبوبه، ويُغْري قلبه عليه بالغضب، وهذه الغيرةُ يكرهُها الله؛ إذا كانت في غير ريبةٍ. ومنها: غيرةٌ تحمله على عقوبة المحبوب بأكثر مما يستحقُّه [118 أ]، كما ذُكر عن جماعة أنهم قتلوا محبوبيهم. وكان ديكُ الجن الشاعر (1) له غلام وجاريةٌ في غاية الجمال، يهواهما جميعًا، فدخل المنزل يومًا، فوجد الجارية معانقةً للغلام تقبِّله، فشدَّ عليهما، فقتلهما، ثم جلس عند رأس الجارية، فبكاها طويلًا، ثمَّ قال (2): يا طلعةً طلع الحِمامُ عليها ... وجنى لها ثمر الرَّدى بيديها روَّيْتُ من دمها الثَّرى ولطالما ... روَّى الهوى شفتيَّ منْ شفتَيْها _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 312 - 313). والخبر والشعر في الزهرة (1/ 138، 139)، والأغاني (14/ 57)، ووفيات الأعيان (2/ 359)، وتزيين الأسواق (2/ 21، 22)، وذم الهوى (ص 470 - 471). (2) الأبيات في ديوانه (ص 224 - 226) والمصادر السابقة.
(الكتاب/433)
فوَحَقِّ عينيها فما سكن الثَّرى ... شيءٌ أعزُّ عليَّ من عينيها وأجلتُ سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خدَّيها ما كان قتْلِيها لأنِّي لمْ أكنْ ... أبكي إذا سقط الغُبَارُ عليها لكن بخلتُ على سِواي بِحُسْنِها ... وأنِفْتُ من نظر الغُلام إليها ثم جلس عند رأس الغلام، فبكى، وأنشأ يقول (1): أشفقتُ أن يَرِد الزمانُ بغدرِه ... أو أُبْتَلى بعد الوفاءِ بهجرِهِ قمرٌ أنا استخرجتُه من دَجْنةٍ ... بمودَّتي وجنيتُه من خِدْرِهِ فقتلته وله عليَّ كرامةٌ ... مِلْءَ الحشا وله الفؤادُ بأسره عهدي به ميْتًا كأحْسَنِ نائمٍ ... والدَّمعُ ينحر مُقلتي في نحره لو كان يدري المَيْتُ ماذا بعْدَهُ ... بالحيِّ منه بكى له في قبرِهِ غصصٌ تكاد تفيض منها نفسُه ... ويكاد يخرج قلبُه منْ صدره فصل وقد يغار المحبُّ على محبوبه من نفسه، وهذا من أعجب الغيرة، وله أسباب: منها: خشيةُ أن يكون مفتاحًا لغيره، كما ذُكر (2) أنَّ الحسن بن هانئ _________ (1) ديوانه (ص 108 - 110). (2) أخرج الخبر والشعر الخرائطي (ص 314)، وأبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (22/ 323). واللامية لعلي بن عبد الله الجعفري في سمط اللآلي (1/ 264).
(الكتاب/434)
وعليَّ بن عبد الله الجعفريَّ اجتمعا، فتناشدا، فأنشد الحسنُ: [118 ب] ولما بدا لي أنَّها لا تَوَدُّني ... وأنَّ هواها ليس عني بمنجلي تمنَّيتُ أنْ تُبلى بغيري لعلها ... تذوقُ حراراتِ الهوى فترقَّ لي فأنشده عليٌّ (1): ربما سرَّني صُدودُك عنِّي ... وطلابيك وامتناعك مني حذرًا أن أكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنتَ التمني وكان بعضهم يمتنع من وصف محبوبه، وذكر محاسنه؛ خشية تعريضه لحب غيره له، كما قال عليُّ بن عيسى الرافقي (2): ولست بواصف أبدًا خليلي ... أُعرِّضُه لأهواء الرِّجال وما بالي أشوِّقُ قلبَ غيري ... ودونَ وصاله سترُ الحِجال وكثيرٌ من الجهال وصف امرأته ومحاسنها لغيره، فكان ذلك سبب فراقها له، واتِّصالها به. _________ (1) البيتان له في نصرة الثائر (ص 377)، وديوان الصبابة (ص 115). ولعلي بن المبارك الأحمر في معجم الشعراء (ص 285). ولعلي بن محمد العلوي في الزهرة (1/ 126). (2) انظر: اعتلال القلوب (ص 314) وفيه: أنشد، والبيتان للحكم بن قنبر في المحب والمحبوب (1/ 77). ولإبراهيم بن مهدي ويروى للحكم بن قنبر في خاص الخاص (ص 376، 377). ولصاحب البصرة في ديوان المعاني (1/ 285).
(الكتاب/435)
فصل ومنها: أن يحمله فرطُ الغيرة على أن يُنزِّل نفسه منزلة الأجنبي، فيغار على المحبوب من نفسه، ولا يُنكرُ هذا، فإن في المحبة عجائب، وقد قال أبو تمام الطَّائي (1): بنفسي من أغارُ عليه منِّي ... وأحسدُ أهله نظري إليه ولو أني قدرتُ طمست عنه ... عيون النَّاس من حذري عليه حبيبٌ بثَّ في جسمي هواه ... وأمسك مُهجتي رَهْنًا لديه فرُوحي عنده والجسمُ خالٍ ... بلا رُوحٍ وقلبي في يديه وقال آخر (2): يا منْ إذا ذُكر اسمُه في مجلس ... لذَّ الحديثُ به وطاب المجلس إنِّي لمن نظري أغارُ وإنَّني ... بك عن سواي من الأنام لأنفسُ نفسي فداؤُك لو رأيت تلدُّدي ... خضل المدامع مُطرقًا أتنفَّسُ لعلمت أنِّي في هواك مُعذَّبٌ ... ومن الحياة وروحها مستيئسُ [119 أ] _________ (1) كما في اعتلال القلوب (ص 313)، وديوان الصبابة (ص 115). ولا توجد في ديوانه. (2) الأبيات لابن طيسلة في اعتلال القلوب (ص 314). والأولان في ديوان الصبابة (ص 115).
(الكتاب/436)
وقال عليُّ بنُ نصر (1): أفاتكُ أنت فاتكةٌ بقلبي ... وحُسنُ الوجه يَفْتِكُ بالقلوبِ أصونُك عن جميع النَّاس يا من ... بُليتُ بها فأضحتْ منْ نصيبي وعن نفسي أصونُك ليت نفسي ... تقيك من الحوادث والخُطوب وما حقُّ الحِسانِ عليَّ إلَّا ... صيانتهُنَّ من دنس الذُّنوب فصل ومنها: شدةُ الموافقة للحبيب، والحبيبُ يكره أن تنسب محبته إليه، وأن يذكر ذلك، فهو لموافقته لمحبوبه يغارُ عليه من نفسه، كما يسرُّه هجرُ محبوبه إذا علم أنَّ فيه مراده، قال الشاعر (2): سُرِرتُ بهجرك لمَّا علمـ ... ــتُ أنَّ لقلبك فيه سُرورا ولولا سرورُك ما سرَّني ... ولا كنتُ يومًا عليه صبُورا فصل وملاك الغيرة وأعلاها ثلاثةُ أنواع: غيرةُ العبد لربِّه أن تُنْتهك محارمُهُ، وتُضيَّع حدودُه، وغيرتُه على قلبه أن يسكن إلى غيره، وأن _________ (1) كما في اعتلال القلوب (ص 314 - 315). (2) البيتان لمنصور بن إسماعيل الفقيه في يتيمة الدهر (2/ 380)، ومعجم الأدباء (6/ 2724).
(الكتاب/437)
يأْنس بسواه، وغيرتُه على حُرْمتِه أن يتطلَّع إليها غيره. فالغيرةُ التي يحبُّها الله ورسولُه دارت على هذه الأنواع الثلاثة، وما عداها فإما من خُدَع الشيطان، وإما بلوى من الله، كغيرة المرأة على زوجها أن يتزوَّج عليها. فإن قيل: فمن أيِّ الأنواع تعُدُّون غيرة فاطمة ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عليّ بن أبي طالب لمَّا عزم على نكاح ابنة أبي جهل، وغيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها؟ قيل: من الغيرة التي يحبُّها الله ورسوله، وقد أشار إليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنها بضعةٌ منه، وأنه يؤذيه ما آذاها، ويُريبه ما أرابها، ولم يكن يَحْسُنُ ذلك الاجتماع ألبتَّة، فإن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[119 ب] لا يحسن أن تجتمع مع بنت عدوّه عند رجل، فإن هذا في غاية المنافرة، مع أن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - صهْرَه الذي حدَّثه، فصدَّقه، ووعده فوفى له دليلٌ على أنَّ عليًّا كان كالمشروط عليه في العقد إمَّا لفظًا، وإما عُرْفًا وحالًا ألَّا يُريب فاطمة، ولا يُؤذيها، بل يُمْسكها بالمعروف، وليس من المعروف أن يضُمَّ إليها ابنة عدوِّ الله ورسوله، ويغيظها بها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إلاَّ أنْ يُريد ابْنُ أبي طالبٍ أنْ يُطلِّق ابْنتي، ويتزوَّجَ ابْنة أبي جهلٍ» (1). والشَّرطُ العُرْفيُّ الحاليُّ كالشرط اللفظيِّ عند كثير من الفقهاء، _________ (1) أخرجه البخاري (926، 3110، ومواضع أخرى)، ومسلم (2449) من حديث المسور بن مخرمة.
(الكتاب/438)
كفقهاء المدينة، وأحمد، وأصحابه. على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاف عليها الفتنة في دينها باجتماعها وبنت عدوِّ الله عنده، فلم تكن غيرتُه - صلى الله عليه وسلم - لمجرد كراهة الطَّبع للمشاركة، بل الحاملُ عليها حُرْمةُ الدِّين، وقد أشارَ إلى هذا بقوله: «إنِّي أخافُ أنْ تفتتن في دينها» (1). والله أعلم. _________ (1) تتمة للحديث السابق في بعض الروايات.
(الكتاب/439)
الباب الثالث والعشرون في عفاف المُحبِّين مع أحبابهم
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون/1 ــ 7] ولما نزلت هذه الآيات على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد أُنْزِلتْ عليَّ عشرُ آياتٍ من أقامَهُنَّ دخل الجنة» (1). ثم قرأَ هذه الآيات. وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج/29 ــ 31]، وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ [120 أ] خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الآية [النور/30 ــ 31]. وقال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} _________ (1) أخرجه أحمد (1/ 34)، والترمذي (3172). وفي إسناده يونس بن سليم وهو مجهول.
(الكتاب/440)
[النور/33] وقال تعالى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور/60] وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم/12]. فإن قيل: فقد قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور/32]، وقال في الآية الأخرى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور/33] فأمرهم بالاستعفاف إلى وقت الغنى، وأمرهم بتزويج أولئك مع الفقر، وأخبر أنه تعالى يُغنيهم، فما محمل كل من الآيتين؟ فالجواب: أن قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} في حق الأحرار، أمرهم الله تعالى أن يستعفُّوا حتى يغنيهم، فإنهم إن تزوَّجوا مع الفقر؛ التزموا حقوقًا لم يقدروا عليها، وليس لهم من يقوم بها غيرهم. وأما قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور/32] فإنه سبحانه أمرهم فيها أن ينكحوا الأيامى وهنَّ النساء اللاتي لا أزواج لهنَّ. هذا هو المشهور من لفظ الأيِّم عند الإطلاق؛ وإن استُعْمِل في حقِّ الرَّجل بالتقييد، كما أنَّ العزب عند الإطلاق للرجل وإن استعمل في حق المرأة، ثم أمرهم سبحانه بأن يزوِّجوا عبيدهم، وإماءهم، إذا صلُحوا للنكاح، فالآية الأولى في حكم تزويجهم لأنفسهم، والثانية في حكم تزويجهم لغيرهم. وقوله في هذا القسم: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ}
(الكتاب/441)
[النور/32] يعُمُّ الأنواع التي ذُكرت فيه، فإن الأيِّم تستغني بنفقة زوجها، وكذلك الأمة، وأما العبد؛ فإنَّه لما كان لا مال له، وكان مالُه لسيِّده؛ فهو فقيرٌ ما دام رقيقًا، فلا يمكن أن يجعل لنكاحه غايةٌ، وهي غناه ما دام عبدًا بل غناه إنما يكون إذا عتق، واستغنى بعد العتق، [120 ب] والحاجة تدعوه إلى النكاح في الرق، فأمر سبحانه بإنكاحه، وأخبر أنه يغنيه من فضله، إما بكسبه، وإما بإنفاق سيّده عليه وعلى امرأته، فلم يمكن أن ينتظر بنكاحه الغنى الذي ينتظر بنكاح الحرِّ، والله أعلم. وفي المسند وغيره (1) مرفوعًا: «ثلاثة حقٌّ على الله عونُهمْ: المُتزَوِّجُ يُريدُ العفاف، والمُكاتبُ يُريدُ الأداء ... » وذكر الثالث. فصل وقد ذكر الله سبحانه عن يوسف الصديق - صلى الله عليه وسلم - من العفاف أعظم ما يكون، فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان شابًّا، والشباب مركب الشهوة. وكان عزبًا، ليس عنده ما يعوِّضه، وكان غريبًا عن أهله ووطنه، والمقيمُ بين أهله وأصحابه يستحيي منهم أن يعلموا به، فيسقط من عيونهم، فإذا تغرَّب زال هذا المانع. وكان في صورة المملوك، والعبدُ لا يأنفُ مما يأنفُ منه الحرُّ. _________ (1) أخرجه أحمد (2/ 251، 437)، والترمذي (1655)، والنسائي (6/ 61)، وابن ماجه (2518) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/442)
وكانت المرأة ذات منصبٍ وجمالٍ، والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليست كذلك، وكانت هي المطالبة، فتزول بذلك كُلْفةُ تعرُّض الرَّجل، وطلبه، وخوفه من عدم الإجابة، وزادت مع الطلب الرغبةُ التامَّةُ والمراودةُ التي يزولُ معها ظنُّ الامتحان والاختبار؛ ليعلم عفافه من فجوره، وكانت في محل سُلطانها وبيتها، بحيث تعرف بحال وقت الإمكان ومكانه الذي لا تنالُه العيونُ، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب؛ لتأمن هجوم الدَّاخل على بغتةٍ، وأتته بالرَّغبة، والرَّهبة، ومع هذا كلِّه فعفَّ لله، ولم يُطِعْها، وقدَّم حقَّ الله، وحقَّ سيدها على ذلك كلِّه، وهذا أمر لو ابْتُليَ به سواه؛ لم يُعْلَم كيف كانت تكون حالُه. فإنْ قيل: فقد همَّ بها. قيل عنه جوابان: أحدهما: أنه لم يَهُمَّ بها، بل لولا أن رأى برهان ربِّه لهَمَّ. هذا قولُ بعضهم في تقدير الآية. والثاني ــ وهو [121 أ] الصواب ــ: أن همَّه كان همَّ خطرات، فتركه لله، فأثابه الله عليه، وهمُّها كان همَّ إصرارٍ بذلت معه جُهْدَها، فلم تصلْ إليه، فلم يستوِ الهَمَّان. قال الإمامُ أحمد: الهمُّ همَّان: همُّ خطراتٍ، وهمُّ إصرارٍ، فهمُّ الخطرات لا يُؤاخذ به، وهمُّ الإصرار يُؤاخذ به. فإن قيل: فكيف قال وقت ظهور براءته: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53].
(الكتاب/443)
قيل: هذا قد قاله جماعةٌ من المفسرين، وخالفهم في ذلك آخرون أجلُّ منهم، وقالوا: إنَّ هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف عليه السلام. والصواب معهم؛ لوجوه: أحدها: أنه متصل بكلام المرأة، وهو قولها: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف/51 ــ 53] ومن جعله من كلامه؛ فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل في اللفظ عليه بوجهٍ، والقول في مثل هذا لا يحذف لئلا يوقع في اللَّبْس، فإن غايته أن يحتمل الأمرين، فالكلام الأوَّلُ أولى به قطعًا. الثاني: أنَّ يوسف لم يكن حاضرًا وقت مقالتها هذه، بل كان في السِّجن لمَّا تكلمت بقولها: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف/51] والسياق صريحٌ في ذلك، فإنه لما أرسل الملك إليه يدعوه؛ قال للرسول: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف/50] فأرسل إليهنَّ الملك، وأحضرهنَّ، وسألهنَّ، وفيهنَّ امرأتُه، فشهدنَ ببراءته، ونزاهته في غيبته، ولم يُمكِنْهنَّ إلاَّ قولُ الحق، فقال النسوة: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف/51]. وقالت المرأة: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف/51].
(الكتاب/444)
فإن قيل: لكن قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف/52] الأحسنُ أن يكون من كلام يوسف، أي: إنما كان تأخري عن الحضور مع رسوله؛ [121 ب] ليعلم الملكُ: أنِّي لم أَخنه في امرأته في حال غيبته، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف/53]. وهذا من تمام معرفته - صلى الله عليه وسلم - بربه، ونفسه، فإنه لما أظهر براءته ونزاهته مما قُذِف به؛ أخبر عن حال نفسه، وأنه لا يزكيها، ولا يبرئها، فإنها أمارةٌ بالسوء، لكن رحمةُ ربه، وفضله هو الذي عصمه، فردَّ الأمر إلى الله بعد أن أظهر براءته. قيل: هذا وإن كان قد قاله طائفةٌ؛ فالصوابُ: أنه من تمام كلامها، فإن الضمائر كلها في نسق واحد تدلُّ عليه، وهي قول النسوة: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف/51] وقول امرأة العزيز: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف/51]. فهذه خمسةُ ضمائر بين بارزٍ ومستتر، ثم اتَّصل بها قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف/52] فهذا هو المذكور أوَّلًا بعينه، فلأيّ شيء يفصل الكلام عن نظمه ويُضْمرُ فيه قولٌ لا دليل عليه؟ فإن قيل: فما معنى قولها: {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف/52]؟ قيل: هذا من تمام الاعتذار، قرنت الاعتذار بالاعتراف، فقالت:
(الكتاب/445)
ذلك ــ أي: قولي هذا، وإقراري ببراءته ــ ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته، وإن خنتُه في وجهه في أوَّل الأمر، فالآن يعلم أني لم أخُنْهُ في غيبته، ثم اعتذرت عن نفسها بقولها: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف/53]. ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرِّئ نفسها، وهي: أن النفس أمارةٌ بالسوءِ. فتأمَّل ما أعجب أمر هذه المرأة! أقرَّت بالحقِّ، واعتذرت عن محبوبها، ثُمَّ اعتذرت عن نفسها، ثُمَّ ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت، ثُمَّ ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله ورحمته، وأنه إن لم يرحم عبده، وإلا فهو عُرضةٌ للشر. فوازن بين هذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف لفظًا، ومعنى، وتأمَّل ما بين التَّقديرين [122 أ] من التفاوُت. ولا تستبعد أن تقول المرأةُ هذا وهي على دين الشرك، فإن القوم كانوا يُقرُّون بالرَّبِّ سبحانه وتعالى وبحقِّه؛ وإن أشركوا معه غيره، ولا تنس قول سيِّدها لها في أول الحال: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف/29]. فصل وفي الصحيحين (1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) البخاري (660)، ومسلم (1031).
(الكتاب/446)
«سبعةٌ يُظلهمُ الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه مُعلَّق بالمساجد، ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا على ذلك، وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعتهُ امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال، فقال: إني أخافُ الله ربَّ العالمين، ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ، فأخفاها حتَّى لا تعلم شمالُهُ ما تُنْفِقُ يمينُهُ، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه». وفي الصحيح (1): من حديث أبي هريرة وابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينا ثلاثةٌ يمشون؛ إذ أخذتْهُمُ السَّماءُ، فأووا إلى غارٍ في الجبل، فانحطَّتْ عليهم صخرةٌ من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظرُوا أعمالًا صالحة عملتُمُوها، فادْعوا الله بها، فقال بعضُهُم: اللهم إنك تعلم: أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وامرأةٌ وصبيانٌ، وكنتُ أرْعى عليهم، فإذا رُحتْ عليهم حلبْتُ، فبدأتُ بوالديَّ أسقيهما قبل بنيَّ، وأنه نأى بي الشجر، فلم آت حتى أمسيتُ فوجدتهما قد ناما، فحلبتُ كما كنت أحلب فجئت فقمت عند رؤوسهما أكره أن أُوقظهما من نومهما، وأن أبدأ بالصبية قبلهما، والصِّبية يتضاغون عند قدمي، فلم أزل كذلك حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرُج عنا فُرجةً نرى منها السماء! ففرج الله لهم فُرجةً. _________ (1) البخاري (2215، 2272)، ومسلم (2743) من حديث ابن عمر. أما حديث أبي هريرة فأخرجه البزار والطبراني في الأوسط، كما في مجمع الزوائد (8/ 142 - 143).
(الكتاب/447)
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنةُ عمٍّ فأحببتُها كأشدِّ ما يُحبُّ الرِّجالُ النِّساءَ، فطلبتُ إليها نفسها، فأبتْ حتَّى آتيها بمئة دينار، فسعيتُ حتى جمعتُ [122 ب] مئة دينار، فجئتُها بها، فلما قعدتُ بين رجليها؛ قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تَفُضَّ الخاتم إلاَّ بحقه، فقُمتُ عنها، وتركتُ المئة دينار، فإن كنت تعلم أنِّي فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافْرُج لنا من هذه الصخرة! ففرج الله لهم فرجةً. فقال الآخر: اللهم إني كنت استأْجرتُ أجيرًا بفرق من أرُزٍّ، فلمَّا قضى عمله؛ قال: أعطِني حقِّي، فأعطيتُهُ، فأبى أن يأْخُذَه، فزرعتُه، ونمَّيتُه حتى اشتريتُ له بقرًا ورِعاءَها، فجاءني بعد حين، فقال: يا هذا! اتق الله، ولا تظلمني، وأعطني حقي! فقلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها، فهو لك، فقال: اتَّقِ الله، ولا تهزأْ بي! فقلتُ: لا أستهزئُ بك، فخُذ ذلك، فأخذها، وذهب، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرجْ عَنَّا ما بقي من الصَّخْرة! ففرج الله عنهم، وخرجوا يمشُون». وقال عبيد الله بن موسى (1): حدَّثنا شَيْبَانُ بن عبد الرحمن، عن الأعمش، عن عبد الله عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر قال: لقد سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا لو لم أسمعه إلا مرَّةً، أو مرَّتين ــ حتى عدَّ سبع مرات ــ ما حدَّثت به، ولكن سمعتُه أكثر من ذلك، قال: «كان ذو _________ (1) أخرج من طريقه الخرائطي (77 - 78)، والحاكم في المستدرك (4/ 254). وأخرجه أحمد (2/ 23)، والترمذي (2498) من طريق أسباط بن محمد بن الأعمش به.
(الكتاب/448)
الكِفْل من بني إسرائيل قلَّما يتورَّعُ من ذنب عمله، فأتتهُ امرأةٌ، فأعطاها ستِّين دينارًا على أن يطأَها، فلمَّا قعد منها مقعد الرَّجُل من امرأته أُرْعِدَتْ، وبكت، فقال: ما يُبْكيك، أكرَهْتُك؟ قالتْ: لا، ولكن هذا عملٌ لم أعملْهُ قطُّ! قال: فتفعلين هذا، ولم تفْعَليه قطُّ؟! قالتْ: حملتْني عليه الحاجةُ، فنزل ثمَّ قال: اذْهبي والدَّنانيرُ لك، ثم قال: والله لا يَعصي ذو الكفل أبدًا، فمات من ليْلَتهِ، فأصبح مكتوبًا على بابه: غفر الله لذي الكفْلِ». وفي مسند أحمد (1) من حديث عُقْبةَ بن عامر الجُهنيِّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجب ربُّك من الشَّابّ ليستْ لهُ صبْوةٌ». وذكر المبرِّد (2) عن أبي كامل، عن إسحاق بن إبراهيم، [123 أ] عن رجاء بن عمرو النَّخَعيِّ، قال: كان بالكوفة فتًى جميلُ الوجه، شديدُ التعبُّد والاجتهاد، فنزل في جوار قوم من النَّخع، فنظر إلى جارية منهنَّ جميلةٍ، فهويَها، وهامَ بها عقله، ونزل بالجارية ما نزل به، فأرسل يخطُبها من أبيها، فأخبره أبوها أنها مسمَّاةٌ لابن عمٍّ لها، فلما اشتدَّ عليهما ما يقاسيان منْ ألم الهوى؛ أرسلت إليه الجارية: قد بلغني شدَّةُ محبَّتك لي، وقد اشتدَّ بلائي بك، فإنْ شئت زرتُك، وإن شئت سهّلت _________ (1) 4/ 151. وأخرجه أيضًا الخرائطي (ص 241)، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف. (2) أخرجه عنه الخرائطي (ص 78 - 79)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 263 - 264) وعندهما: «ابن أبي كامل». والخبر في الواضح المبين (ص 191 - 193)، وبرواية أخرى في مصارع العشاق (1/ 160 - 161).
(الكتاب/449)
لك أنْ تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول: ولا واحدةً منْ هاتين الخُلَّتين، {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام/15] أخاف نارًا لا يخبو سعيرُها، ولا يَخْمُدُ لهيبُها. فلمَّا أبلغها الرَّسولُ قوله؛ قالت: وأراه مع هذا يخاف الله؟ والله ما أحدٌ أحقَّ بهذا من أحدٍ، وإنَّ العباد فيه لمشتركون، ثم انخلعت من الدُّنيا، وألقت علائقها خلف ظهرها، وجعلت تتعبَّد، وهي مع ذلك تذوبُ، وتنْحلُ حُبًّا للفتى، وشوقًا إليه حتى ماتت منْ ذلك، فكان الفتى يأتي قبرها، فيبكي عنده، ويدعو لها، فغلبته عينُه ذات يوم على قبرها، فرآها في منامه في أحسن منظرٍ، فقال: كيف أنتِ، وما لقيتِ بعدي؟ فقالت: نعمَ المحبَّةُ يا سُؤْلي محبتُكم ... حبٌّ يقودُ إلى خيرٍ وإحسان فقال: على ذلك إلى ما صرتِ؟ فقالت: إلى نعيمٍ وعَيْشٍ لا زوال له ... في جنَّة الخُلْدِ ملكٌ ليس بالفاني فقال لها: اذكريني هناك، فإني لستُ أنساكِ، فقالت: ولا أنا والله أنساك! ولقد سألتُ مولاي ومولاك أن يجمع بيننا، فأَعِنِّي على ذلك بالاجتهاد، فقال لها: متى أراك؟ قالت: ستأْتينا عنْ قريبٍ، فترانا، فلم يعش الفتى بعد الرؤيا إلا سبع ليالٍ حتى مات. وذكر الزُّبَيرُ بن بكَّار (1): أنَّ عبد الرحمن بن أبي عمَّار نزل بمكة، _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 80 - 81)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 256 - 257) مطولًا.
(الكتاب/450)
وكان من عُبَّاد أهلها، فسُمِّي القَسَّ من عبادته، فمرَّ يومًا بجارية تغنِّي، فوقف، فسمع غناءها [123 ب]، فرآه مولاها، فأمره أن يدخل عليها فأبى، فقال: فاقعدْ في مكانٍ تسمع غناءها، ولا تراها، ففعل، فأعجبته، فقال له مولاها: هل لك أن أحوِّلها إليك؟ فامتنع بعض الامتناع، ثم أجابه إلى ذلك، فنظر إليها، فأعجبته، فشُغِفَ بها، وشُغِفتْ به، وعلم بذلك أهل مكَّة، فقالت له ذات يومٍ: أنا والله أحبُّك! فقال: وأنا والله أحبُّك! قالت: فإني والله أحبُّ أنْ أضع فمي على فمِك! قال: وأنا والله أحبّ ذلك! قالت: فما يمنعك؟ فإنَّ الموضع خالٍ. قال لها: ويحك! إنِّي سمعت الله يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف/67] فأنا والله أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك في الدُّنيا عداوةً في القيامة، ثم نهض وعيناه تذْرِفان بالدُّموع منْ حبِّها. وقال عبد الملك بنُ قُريْبٍ (1): قلت لأعرابي: حدثني عنْ ليلتك مع فلانة. قال: نعم، خلوت بها والقمر يُرينيها، فلما غاب أرتْنيه، قلت: فما كان بينكما؟ قال: أقربُ ما أحلَّ الله مِمَّا حرَّم: الإشارة بغير ما بأس، والدُّنُوُّ بغير إمساس، ولعمري لئن كانت الأيام طالت بعدها لقد كانت قصيرةً معها! وحسبُك بالحبِّ: ما إنْ دعاني الهوى لفاحشةٍ ... إلا نَهاني الحياءُ والكرَمُ _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 86)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 234). وانظر ربيع الأبرار (4/ 21).
(الكتاب/451)
فلا إلى فاحشٍ مدَدْتُ يدي ... ولا مَشَتْ بي لريبةٍ قَدَم (1) وقال آخر (2): وَصفُوها فلم أزلْ علِمَ الله ... كئيبًا مُسْتولهًا مُسْتَهاما هلْ عليها في نظرةٍ منْ جُناحٍ ... منْ فتًى لا يزورُ إلاّ لِماما حالَ فيها الإسلامُ دُوْنَ هواه ... فهو يَهْوى ويَحْفظُ الإسلاما ويميلُ الهوى به ثُمَّ يخشى ... أنْ يُطيعَ الهوى فيَلْقى أثاما وقال الحسين بن مُطير (3): أحبُّكِ يا سَلْمَى على غير رِيْبَةٍ ... ولا بأْس في حبٍّ تَعِفُّ سرائرُهْ [124 أ] أحبُّك حُبًّا لا اُعَنِّفُ بعده ... مُحِبًّا ولكنِّي إذا لِيْمَ عاذرُه وقد مات قلبي أول الحبِّ مرَّةً ... ولو متُّ أضحى الحبُّ قدْ ماتَ آخرُهْ وقال محمد بن أبي زُرعة الدمشقي (4): _________ (1) البيتان عند الخرائطي (ص 82)، وفي مصارع العشاق (2/ 263)، وربيع الأبرار (4/ 21)، وذم الهوى (ص 238). (2) الأبيات لجد الزبير بن بكار في اعتلال القلوب (ص 81)، وذم الهوى (ص 237). (3) كما في الخرائطي (ص 82)، والأغاني (16/ 16)، والواضح المبين (ص 81). والأبيات لمجنون ليلى في ديوانه (ص 144). ولابن الدمينة في أمالي القالي (1/ 78). (4) كما في الخرائطي (ص 82)، ولأبي زرعة الدمشقي في المحب والمحبوب (2/ 129). ومنها بيتان في سمط اللآلي (1/ 517).
(الكتاب/452)
إنَّ حظِّي مِمَّنْ أحبُّ كفافٌ ... لا صدودٌ مُقْصٍ ولا إنصافُ كلما قلتُ قد أنابتْ إلى الوَصْـ ... ــلِ ثناها عمَّا أريدُ العفافُ فكأني بَيْنَ الصُّدود وبَيْنَ الـ ... ــوَصْلِ مِمَّنْ مقامُه الأعرافُ في محلٍّ بَيْنَ الجنان وبين النَّـ ... ــار أرجو طوْرًا وطوْرًا أخافُ وقال عثمان بن الضحاك الحِزَامي (1): خرجْتُ أريدُ الحجَّ، فنزلتُ بالأبْواء، فإذا امرأةٌ جالسةٌ على باب خيمةٍ، فأعجبني ما رأيتُ من حسنِها، فتمثلت بقول نُصَيْب (2). بزينبَ ألمِمْ قبل أن يَرْحَلَ الرَّكْبُ ... وقلْ إنْ تَمَلِّينا فما ملَّكِ القَلْبُ فقالت: يا هذا أتعرف قائل هذا الشعر؟ قلت: نعم، ذاك نُصيب، قالت: فتعرف زينبه؟ قلت: لا! قالت: فأنا زينبُه! قلت: حياكِ الله! قالت: أما إنَّ اليوم موعدُه منْ عند أمير المؤمنين، خرج إليه عام أوَّل، فوعدني هذا اليوم، لعلَّك لا تبرح حتى تراه، قال: فبينا أنا كذلك؛ إذا أنا براكبٍ، قالت: ترى ذلك الرَّاكب؟ إنِّي لأحْسَبُه إيَّاه. فأقبل فإذا هو نُصيب، فنزل قريبًا من الخيمة، ثم أقبل، فسلَّم حتى جلس قريبًا منها يسألها، وتسأله أن ينشدها ما أحدث، فأنشدها، فقلت في نفسي: محبّانِ طال التنائي _________ (1) نقله الخرائطي (ص 83). والخبر في الأغاني (6/ 124)، ومصارع العشاق (2/ 270، 271)، وذم الهوى (226 - 227)، وتزيين الأسواق (1/ 223، 224). (2) ديوانه (ص 60).
(الكتاب/453)
بينهما، لابدَّ أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجةٌ، فقمت إلى بعيري؛ لأشدَّ عليه، فقال: على رِسْلك؛ إنِّي معك، فجلست حتى نهض معي، فتسايرنا، ثم التفت إليَّ، فقال: أقلتَ في نفسك: محبَّان التقيا بعد طول تناءٍ، فلابدَّ أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة؟ قلت: نعم، قد كان ذلك، قال: وربِّ هذه البَنيَّةِ ما جلستُ منها مجلسًا [124 ب] أقربَ من هذا. وقال عُمر بن شبَّة (1) حدَّثنا أبو غسَّان قال: سمعت بعض المدنيين يقول: كان الرَّجل يحب الفتاة، فيطوف بدارها حولًا، يفرح أن يرى منْ يراها، فإن ظَفِر منها بمجلس؛ تشاكيا، وتناشدا الأشعار، واليوم يشير إليها، وتشير إليه، فيَعِدُها، وتعدُهُ، فإذا التقيا؛ لم يَشكُ حُبًّا، ولم ينشد شعرًا، وقام إليها، كأنَّه قد أشهد على نِكاحِها أبا هريرة. وقال محمَّدُ بنُ سيرين (2): كانوا يعشقون في غير ريبةٍ، وكان الرجل يجيء إلى القوم، فيتحدَّث عندهم، لا يستنكر له ذلك، قال هشام بن حسان: لكن اليوم لا يرْضون إلاَّ بالمواقعة. وقيل لأعرابي (3): ما تَعُدُّون العِشْق فيكم؟ قال: القُبْلة، والضمّ، والغمز، وإذا نكح الحبُّ فسد. _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 83 - 84)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 231). وهو في ربيع الأبرار (4/ 25). (2) أخرجه الخرائطي (ص 84). (3) انظر اعتلال القلوب (ص 84)، والمستطرف (3/ 41).
(الكتاب/454)
وقال المُبرِّد (1): كان العتبيُّ يحبُّ جاريةً تسمَّى: مَلك، فكتب إليها: يا مَلْكُ قد صِرْتُ إلى خُطَّةٍ ... رضيتُ منها فيكِ بالضَّيْمِ ما اشْتملتْ عيني على رَقدةٍ ... مُذْ غِبْتِ عن عَيْني إلى اليوم فَبِتُّ مفتوق مجاري البُكا ... معطَّلَ العَيْنِ عنِ النَّوْم ووجديَ الدَّهرَ بكم غُلْمَةٌ ... فالموتُ منْ نفسي على سَوْمِ يلومُني النَّاسُ على حبِّكم ... والنَّاسُ أولى فيكِ باللَّوم قال: فكتبت إليه: إنْ تكُنِ الغُلْمَةُ هَاجتْ بكُمْ ... فعَالِج الغُلْمَةَ بالصَّوْم لَيْسَ بك الحُبُّ ولكنَّمَا ... تَدُوْرُ منْ هذا على كَوْم يقال: كام الفحلُ يكوم كوْمًا: إذا نَزا على الحِجْرَة. وأرادت هذه المعشوقة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشَّباب! من اسْتطاع منكُم الباءَة فلْيَتزَوجْ؛ فإنَّهُ أغضُّ للْبَصَر، وأحْصَنُ لِلْفَرْج، ومَنْ لم يستطع؛ فعليه بالصَّوْمِ؛ فإنَّه له وجاءٌ». وقال أبو الحسن المدائنيّ (2): هَوِيَ بعضُ المسلمين جاريةً بمكَّة، فأرادها، فامتنعت عليه، [125 أ] فقال على لسان عطاء بن أبي رباح: سألتُ عطا المكِّيَّ هَلْ في تعانُقٍ ... وقُبلةِ مُشتاقِ الفؤادِ جُناحُ؟ _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 85)، والخبر مع الشعر في الموشى (ص 168). (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 86). وسبق تخريج الشعر.
(الكتاب/455)
فقال معاذَ اللهِ أن يُذْهِبَ التُّقى ... تلاصُقُ أكبادٍ بهنَّ جِرَاحُ فقالت: آلله سألت عطاءً عنْ ذلك، فقال لك هذا؟! فقال: اللهمَّ نعم! فزارته، وجعلت تقول: إيَّاك أن تتعدَّى ما أفتاك به عطاء. وقال الزُّبير بن بكَّار (1) عن عبد الملك بن عبد العزيز الماجِشُون قال: أنشدتُ محمَّد بن المُنْكَدِر قول وضَّاح الْيَمَن: فما نوَّلتْ حتى تضرَّعتُ حولها ... وأقرأْتُها ما رخَّصَ الله في اللَّمَمْ فضحك محمَّد، وقال: إنْ كان وضَّاحٌ لمُفتيًا في نفسه. وقال الأصمعي (2): قيل لأعرابيٍّ: ماكنت صانعًا لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أُمتِّع عيني منْ وجهها، وقلبي منْ حديثها، وأسترُ منها ما لا يحبه الله ولايرضى كشفه إلاَّ عند حلِّه. قيل: فإن خفتَ ألَّا تجتمعا بعد ذلك؟ قال: أَكِلُ قلبي إلى حبها، ولا أصير بقبيح ذلك الفعل إلى نَقْض عهودها. قال: وقيل لآخر وقد زُوِّجت عشيقتُه من ابن عمِّها، وأهلُها على إهدائها إليه: أيَسُرُّك أن تظفر بها الليلة؟ قال: نعم والذي أمتعني بها، وأشقاني بطلبها! قيل: فما كنت صانعًا؟ قال: كنت أطيع الحبَّ في _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 86 - 87). والشعر في ديوان وضاح اليمن (ص 87). (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 89 - 90).
(الكتاب/456)
لثْمِها، وأعصي الشيطان في إثمها، ولا أُفْسِدُ عشق سنين بما يبقى عارُه، وتُنْشَر قبيحُ أخباره، في ساعةٍ تنفدُ لذَّتُها، وتبقى تبِعَتُها، إني إذًا للئيم، لم يَغْذُني أصلٌ كريم. وقال عباس الدُّوري (1): كان بعضُ أصحابنا يقول: كان سفيان الثوري كثيرًا ما يتمثَّل بهذين البيتين: تفنى اللَّذاذةُ مِمَّنْ نالَ صفوتها ... منَ الحرام ويبقى الوزر والعارُ تبقى عواقبُ سوءٍ في مغبَّتها ... لا خيرَ في لذَّةٍ منْ بعدها النَّارُ [125 ب] وقال الحسين بن مُطير (2): ونفسك أكرِمْ عن أمورٍ كثيرةٍ ... فما لك نفسٌ بعدها تستعيرُها ولا تقرَبِ المَرْعى الحرام فإنَّما ... حلاوتُه تَفْنَى ويبقى مَريرُها وقال الإمام أحمد: الفُتُوَّةُ: تركُ ما تهوى لما تخشى. وقال الخرائطي (3): حدَّثنا إبراهيم بن الجُنَيد، حدَّثنا عبد الله بن أبي بكر المقدّمي، حدَّثنا جعفر بن سليمان الضُّبَعي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: بينا أنا أطوف؛ إذ أنا بجويرية متعبِّدةٍ، متعلِّقةٍ بأستار الكعبة، _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 90)، والشعر لمسعر بن كدام في الزهرة (1/ 119). (2) ذكره الخرائطي (ص 90). والشعر في ديوانه (ص 52)، وذم الهوى (ص 186). (3) ص 90 - 91. والخبر في ربيع الأبرار (1/ 171)، وصفة الصفوة (4/ 414).
(الكتاب/457)
وهي تقول: يا رب! كم من شهوةٍ ذهبت لذَّتُها، وبقيت تَبِعتُها، يا رب! أما لك أدبٌ إلاَّ النار؟ فما زال مقامها حتى طلع الفجر، فلمَّا رأيتُ ذلك؛ وضعتُ يدي على رأسي صارخًا، أقول: ثكلتْ مالكًا أمُّه، جُوَيرِيَةٌ منذ الليلة قد بطَّلته. وطائفةٍ بالبيت والليلُ مظلمُ ... تقولُ ومنها دمعُها يتسجَّمُ (1) أيا ربِّ كمْ من شهوةٍ قد رُزِئتُها ... ولذَّة عيشٍ حبلُها متصرِّمُ أما كان يكفي للعباد عقوبةً ... ولا أدبًا إلاَّ الجحيم المضرَّمُ فما زال ذاك القولُ منها تضرُّعًا ... إلى أنْ بدا فجرُ الصَّباح المقدَّمُ فشبَّكْتُ منِّي الكفَّ أهْتِف خارجًا ... على الرأْس أُبْدِي بعض ما كنتُ أكْتُمُ وقلتُ لنفسي إذْ تطاول مابها ... وأعيا عليها وِرْدُها المتغنَّم ألا ثكلتك اليوم أُمُّك مالكًا ... جوَيرِيةٌ ألهاك منها التكلُّمُ فما زلتَ بَطَّالًا بها طول ليلةٍ ... تنال بها حظًّا جسيمًا وتغنمُ وقال مَخْرَمةُ بن عثمان (2): نُبِّئت أنَّ فتًى من العُبَّاد هَوِيَ جاريةً من أهل البصرة، فبعث إليها يخطبها، فامتنعتْ، وقالت: إن أردت غير ذلك؛ فعلتُ، فأرسل إليها: سبحان الله! أدعوكِ إلى ما لا إثم فيه، وتدعينني _________ (1) قال الخرائطي (ص 91): أنشدني إبراهيم بن الجنيد قال: أنشدني محمد بن الحسين ... ، ثم ذكر الأبيات. (2) أخرجه الخرائطي (92 - 93). ورواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 236) عن الأصمعي بنحو هذا الخبر.
(الكتاب/458)
إلى ما لا يَصْلُح؟ فقالت: قد أخبرتك بالذي عندي، فإن شئت فتقدَّم، وإن شئت فتأَخَّر، فأَنشأَ يقول: وأسأَلُها الحلالَ وَتَدْعُ قلبي ... إلى ما لا أريدُ منَ الحَرَامِ كداعي آلِ فِرْعَونٍ إليه ... وَهُمْ يَدْعُوْنَهُ نحو الأثام فظَلَّ منعَّمًا في الْخُلْد يَسْعَى ... وظلُّوا في الجحيم وفي السَّقام فلمَّا علمتْ أنه قد امتنع من الفاحشة؛ أرسلتْ إليه: أنا بين يديْك على الذي تُحِبُّ. فأرسل إليها: لا حاجةَ لنا فِيْمنْ دعوناه إلى الطَّاعة، فدعانا إلى المَعْصِية ثم أنشد: ولا خيرَ فِيْمَن لا يُراقبُ ربَّه ... عِنْدَ الهوى ويخافُه إيمانا حَجَب التُّقى سُبُل الهوى فأخو التُّقى ... يخشى إذا وافى المَعَاد هوانا وقال عبد الملك بن مروان لِلَيْلى الأخيليَّة (1): بالله هل كان بينكِ وبين توبة سوءٌ قط؟! قالت: والذي ذهب بنفسه، وهو قادرٌ على ذهاب نفسي؛ ما كان بيني وبينه سوءٌ قطُّ، إلا أنَّه قَدِم من سفرٍ، فصافحته، فغمز يدي، فظننتُ أنه يَخْنَعُ لبعض الأمر، قال: فما معنى قولك: وذي حاجةٍ قلْنا له لا تَبُحْ بها ... فليس إليها ما حييتَ سبيلُ لنا صاحبٌ لا ينبغي أنْ نخونَه ... وأنت لأُخرى صاحبٌ وخليلُ _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 96 - 97). والخبر مع الشعر في ديوان ليلى (ص 95)، والأغاني (11/ 207)، وأمالي القالي (1/ 88)، وذم الهوى (ص 224).
(الكتاب/459)
قالت: لا والذي ذهب بنفسه ما كلَّمني بسوءٍ قطُّ حتى فرَّق بيني وبينه الموتُ! وقال ابن أحمد (1): بينا أنا أطوف بالبيت؛ إذ بصُرْتُ بامرأةٍ متبرقعةٍ، تطوف بالبيت، وهي تقول: لا يَقْبَلُ الله من معشوقةٍ عملًا ... يومًا وعاشقُها غضبانُ مهجورُ ليست بمأْجورةٍ في قتل عاشقها ... لكنَّ عاشقها في ذاك مأجورُ فقلت لها: في هذا الموضع؟! فقالت: إليك عنِّي، لا يَعْلَقْك الحبُّ! قلت: وما الحبُّ؟ قالت: جلَّ والله عن أن يخفى! وخفي عن أن يُرى، فهو كالنَّار في أحجارها، إن حرّكتَه أوْرَى، [126 ب] وإن تركتَه توارى، ثم أنشأت تقول: غيدٌ أوانسُ ما همَمْن بريبةٍ ... كظباءِ مكَّة صيدُهُنَّ حرامُ يُحْسَبْنَ من لين الحديث أوانسًا ... ويَصُدُّهُنَّ عن الخَنا الإسلامُ وقد روى محمَّدُ بن عبد الله الأنصاري (2): حدَّثنا عبد الوارث، عن محمد بن جُحادة، عن الوليد، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 95). (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 97) بهذا اللفظ. وأخرجه أحمد (1/ 191) من طريق ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن ابن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف بنحوه.
(الكتاب/460)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلت المرأةُ خمسها، وحفظتْ فرْجها، وأطاعتْ زوجها؛ دخلت الجنَّة». وقال هشامُ بن عمَّار (1): حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا أبي، حدَّثنا ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّما امرأةٍ اتَّقتْ ربَّها، وأحْصَنتْ فرجها، أطاعت زوجها؛ قيل لها يوم القيامة: ادخلي من أي أبواب الجنَّة شئت». وقال الزُّبير بنُ بكار (2): أخبرني سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثني أبي: أن امرأةً لقيت كُثير عزَّة، فقالت: «تسمع بالمُعيديِّ خيرٌ من أن تراه» قال: مه، رحمك الله! فأنا الذي أقول (3): فإن أكُ معرُوق العظام فإنَّني ... إذا ما وزنْتُ القوم بالقوم أُوزَنُ قالت: وكيف تُوزن بالقوم، وأنت لا تُعرف إلا بعزَّة؟ قال: والله لئن قلتِ ذاك؛ لقد رفع الله بها قدري، وزيَّن بها شعري، وإنَّها لكما قلت (4): وما روضةٌ بالحزن طاهرةُ الثَّرى ... يمُجُّ النَّدى جثجاثُها وعرارُها بأطيب من أردان عزَّة موهنًا ... وقد أُوقدت بالمنزل الرَّطب نارها _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 97)، وفي مطبوعته سقط في الإسناد. (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 97 - 98). (3) ديوان كثير (ص 380). (4) سبق تخريجها.
(الكتاب/461)
من الخفرات البيض لم تلق شقوةً ... وبالحسب المكنون صافٍ نجارُها فإن برزتْ كانت لعينيك قُرَّةً ... وإن غبتَ عنها لم يعمَّك عارُها قالت: أرأيت حين تذكرُ طيبها، فلو أنَّ زنجيَّةً تجمرت بالمَنْدَلِ الرَّطبِ؛ لطاب [127 أ] ريحُها، ألا قلت كما قال امرؤ القيس (1): خليليّ مُرّا بي على أُمّ جُنْدَب ... نُقَضِّ لُباناتِ الفؤادِ المُعَذَّبِ ألمْ ترياني كلَّما جئْتُ طارقًا ... وجدتُ لها طيبًا وإن لم تطيَّبِ؟ فقال: والله الحق خيرُ ما قيل، هو والله أنعتُ لصاحبته منِّي. ودخلت عزّةُ على عبد الملك بن مروان (2) ــ وهو لا يعرفها ــ ترفع مظلمةً لها، فلما سمع كلامها تعجَّب منه، فقال له بعض جلسائه هذه عزَّة كُثيِّر، فقال لها عبد الملك: إن أردت أن أرُدَّ عليك مظْلَمَتَكِ فأنشديني ما قال فيك كُثيِّر، فاسْتَحْيَتْ وقالت: والله ما أعرفُ كُثيرًا، ولكني سمعتهم يحكون عنه: أنه قال فيَّ (3): قضى كلُّ ذي دينٍ فوفَّى غريمه ... وعزَّةُ ممطولٌ مُعَنًّى غريمُها فقال عبد الملك: ليس عن هذا أسألك، ولكن أنشديني من _________ (1) ديوانه (ص 41). (2) أخرجه الخرائطي (ص 99 - 100). والخبر بتمامه في الأغاني (9/ 26)، وأمالي القالي (2/ 107). (3) سبق البيت و تخريجه.
(الكتاب/462)
قوله (1): وقد زعمتْ أنِّي تغيَّرتُ بعدها ... ومنْ ذا الذي يا عزُّ لا يتغيَّرُ تغيَّر جسمي والخليقةُ كالَّذي ... عهِدْتِ ولم يُخبِرْ بسرِّك مُخْبِرُ قالت: ما سمعتُ هذا، ولكن سمعتُ الناس يحكون عنه: أنه قال فيَّ: كأنِّي أنادي صخرةً حين أعْرَضَتْ ... من الصُّمِّ لو تمشي بها العُصْمُ زلَّتِ صفوحٌ فما تلقاك إلاَّ بخيلةً ... فمن ملَّ منها ذلك الوصْل ملَّت فقضى حاجتها، وردَّ مظلمتها، وقال: أدخلوها على الجواري يأخذن من أدبها. وقال بعضهم في محبوبته (2): وما نِلتُ منها محرمًا غير أنني ... أقبِّل بسَّامًا من الثَّغْر أفلجا وألْثِمُ فاها تارةً ثُمَّ تارةً ... وأتركُ حاجات النُّفوس تحَرُّجا وقال الزُّبير بن بكار (3)، عن عباس بن سهل الساعدي قال: بينا أنا بالشام؛ إذ [127 ب] لقيني رجلٌ من أصحابي، فقال: هل لك في جميلٍ _________ (1) البيتان في ديوانه (ص 328). (2) كما في اعتلال القلوب (ص 101). والبيتان لابن ميادة في المصون (ص 132). ولمحمد بن أبي أمية في محاضرات الأدباء (3/ 121). وبلا نسبة في عيون الأخبار (4/ 94). (3) أخرج عنه الخرائطي (ص 101). والخبر في الموشى (ص 119)، والمستطرف (3/ 36 - 37).
(الكتاب/463)
نعودُه؟ فدخلنا عليه وهو يجودُ بنفسه، وما تخيل لي أن الموت يكرِثُه، فنظر إليَّ، ثم قال: يا ابن سهل! ما تقولُ في رجل لم يشرب الخمر قطُّ، ولم يزنِ، ولم يقتل نفسًا، يشهد أن لا إله الا الله؟ قلت: أظنُّه قد نجا، وأرجو له الجنَّة؛ فمن هذا الرجل؟ قال: أنا! قلت: والله ما أحْسِبُك سلمت وأنت تُشبِّبُ منذ عشرين سنة في بُثينة، فقال: لا نالتني شفاعةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة ــ فإني في أوّل يوم منْ أيام الآخرة، وآخرِ يومٍ من أيام الدُّنيا ــ إن كنت وضعتُ يدي عليها لريبةٍ. فما برحنا حتَّى مات. وقال عوانة بن الحكم (1): كان عبد المطلب لا يسافرُ إلا ومعه ابنُه الحارث، وكان أكبر ولده، وكان شبيهًا به جمالًا وحُسنًا، فأتى اليمن، وكان يُجالس عظيمًا من عُظمائهم، فقال له: لو أمرتَ ابنك هذا يُجالسني، ويُنادمني، ففعل، فعشقت امرأتُه الحارث، فراسلتْه، فأبى عليها، فألحَّتْ عليه، فأخبر بذلك أباه، فلمَّا يئست منه؛ سقته سُمَّ شهرٍ، فارتحل به عبد المطلب حتَّى إذا قدِم مكَّة؛ مات الحارث. وذكرَها هشام بنُ محمَّد بن السَّائب الكلبيُّ (2) عن أبيه، وذكر رثاء أبيه له بقصيدته التي منها: والحارِثُ الفيَّاضُ أكْرَمُ ماجدٍ ... أيَّامَ نازعه الهُمَامُ الكاسا _________ (1) رواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 219). (2) رواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 220).
(الكتاب/464)
ولما احْتُضِر أبو سفيان بن الحارث هذا ــ وهو ابن عمِّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ــ قال لأهله: لا تبكوا عليَّ، فإنِّي لم أتنطَّف بخطيئةٍ منذ أسلمتُ. ولمَّا قدِم عُرْوةُ بن الزُّبير (1) على الوليد بن عبد الملك؛ خرجتْ برجله الأكلةُ، فاجتمع رأي الأطباء على نشرها، وأنَّه إن لم يفعل سرت إلى جسمه، فهلك، فلمَّا عزم على ذلك؛ قالوا له: نسقيك مُرْقِدًا؟ قال: ولِمَ؟ قالوا: لئلا تُحِسَّ بما نصْنع، قال: لا! بل شأنكم، فنشروا ساقه بالمنشار، فما أزال عضوًا عن عضوٍ حتى فرغوا منها، ثم حسموها، فلما نظر إليها في أيديهم؛ تناولها، وقال: الحمد لله! [128 أ] أما والذي حملني عليك إنَّه ليعلم أني ما مشيتُ بك إلى حرام قطُّ. ولما حضرتْ عُمر بن أبي ربيعة (2) الوفاةُ بكى عليه أخوه الحارث، فقال له عمر: يا أخي! إن كان أسفُك لما سمعتَ من قولي: قلتُ لها، وقالت لي، فكلُّ مملوك لي حرٌّ إن كنتُ كشفتُ حرامًا قطُّ! فقال الحارث: الحمدُ لله طيبتَ نفسي. وقال سفيانُ بن محمَّد (3) دخلتْ يومًا عزَّةُ على أُمِّ البنين أُختِ عمر _________ (1) المصدر السابق (ص 221 ــ 222). والخبر في تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 552)، والمعرفة للفسوي (1/ 553)، وحلية الأولياء (2/ 178) وغيرها. (2) ذم الهوى (ص 224). (3) أخرجه الخرائطي (ص 232)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 224 - 225). وفيهما «مروان بن محمد». والخبر برواية أخرى في مصارع العشاق (2/ 84).
(الكتاب/465)
ابن عبد العزيز، فقالت لها: يا عزةُ! ما قول كُثَيِّر: قضى كلُّ ذي دين فوفَّى غريمه ... وعزَّةُ ممطولٌ مُعَنًّى غريمُها ما كان هذا الدَّين؟ فقالت: كنت وعدتُه بقُبْلةٍ؛ فتحرَّجتُ منها، فقالت أُمّ البنين: أنجزيها وعليَّ إثمُها! قالت: فأعتقت أُمّ البنين لكلمتها هذه أربعين رقبةً، وكانت إذا ذكرتْها بكتْ، وقالت: ليتني خَرِستُ، ولم أتكلَّم بها! ولما احتُضر ذو الرُّمَّة (1)؛ قال: لقد هِمْتُ بميٍّ عشرين سنة في غير ريبةٍ ولا فساد. وكان الحارثُ بن خالد بن هشام المخزوميُّ (2) عاشقًا لعائشة بنت طلحة، وله فيها أشعارٌ، أفرد لها ابن المرزُبان كتابًا، فلمَّا قُتل عنها مُصْعَبُ بن الزُّبير؛ قيل للحارث: ما يمنعُك الآن منها؟ قال: والله لا يتحدَّثُ رجالاتُ قريش: أنَّ تشبيبي بها كان لريبةٍ، ولشيء من الباطل. وقال ابن عُلاثة (3): دخلتُ على رجلٍ من الأعراب خيمته، وهو يئنُّ، فقلت: ما شأنك؟ قالوا: عاشق، فقلت له: مِمَّن الرَّجلُ؟ قال: منْ قوم إذا عشقوا ماتوا أعفَّةً. فجعلتُ أعْذله، وأُزهِّدُه فيما هو فيه، فتنفّس _________ (1) ذم الهوى (ص 225 - 226). (2) المصدر نفسه (ص 227). (3) المصدر نفسه (ص 227 - 228).
(الكتاب/466)
الصُّعداء ثم قال: لَيْسَ لي مُسْعِدٌ فأشْكُو إليه ... إنَّما يُسعِدُ الحزينَ الحزينُ وقال سعيدُ بن عُقْبَة لأعرابي (1): ممَّن الرَّجلُ؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا. قال: عذريٌّ وربِّ الكعبة! فقلت له: وممَّ ذاك؟ قال: في نسائنا صَباحَةٌ، وفي [128 ب] رجالنا عِفَّة. وقال سفيان بن زياد (2): قلت لامرأةٍ من عذرة ــ ورأيتُ بها هوًى غالبًا، خفتُ عليها الموت منه ــ: ما بالُ العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالت: فينا جمالٌ، وتعفُّفٌ، والجمال يحملنا على العفاف، والعفافُ يورثنا رقَّة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإنَّا نرى عيونًا لا ترونها. وقال أبوعبيدة معمر بن المُثنى (3): قال رجلٌ من بني فزارة لرجلٍ من بني عُذْرة: ما يُعدُّ موتُكم من الحبّ مزيَّةً، وإنَّما ذاك من ضعف البنية، ووهن العقل، وضيق الرِّئة. فقال له العذريُّ: أما لو رأيتم المحاجر البُلج، ترشق بالأعين الدُّعج، من فوقها الحواجب الزُّج، والشفاه السمر، تفتر عن الثنايا الغُرِّ، كأنها نظم الدُّر؛ لجعلتموها اللاَّت _________ (1) المصدر نفسه (ص 228). (2) ذم الهوى (ص 228). (3) المصدر نفسه (ص 228 - 229).
(الكتاب/467)
والعُزَّى، ونبذتُم الإسلام وراء ظهوركم! وقال بشرُ بنُ الوليد (1): سمعتُ أبا يوسف يقول في مرضه الذي مات فيه: اللهمَّ إنك تعلمُ أنِّي لم أطَأْ فرْجًا حرامًا قطُّ، وأنا أعلم، ولم آكلْ درهمًا حرامًا قطُّ، وأنا أعلم. وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي (2): دخلت على المعتضد وعلى رأْسه غلمانٌ صباحُ الوجوه أحداث، فنظرتُ إليهم، فرآني المعتضد وأنا أتأمَّلُهم، فلما أردتُ القيام أشار إليَّ، فمكثتُ ساعةً، فلمَّا خلا قال لي: أيُّها القاضي! والله ما حللتُ سراويلي على حرام قطُّ! وقال البريدي (3): جلس محمدُ بن منصور بن بسام وعلى رأسه عشرةُ خدم، لم يُر قط أحسن منهم، ما منهم من ثمنُه ألفُ دينار، بل أكثر، فجعل الناس ينظرون إليهم، فقال محمد: هم أحرارٌ لوجه الله إن كان الله كتب عليَّ ذنبًا مع واحدٍ منهم، فمن عرف خلاف هذا منهم؛ فليمض؛ فإنه قد عتق، وهو في حلٍّ ممَّا يأخذُ من مالي. وقال إبراهيم بن أبي بكر بن عيَّاش (4): شهدتُ أبي عند الموت _________ (1) المصدر نفسه (ص 229). (2) ذم الهوى (ص 229). (3) في ذم الهوى (ص 230): «فضل البريدي». (4) المصدر نفسه (ص 230).
(الكتاب/468)
فبكيتُ، فقال: ما يُبكيك؟ فما أتى أبوك فاحشةً قطّ! وقال عمرُ بنُ حفص بن غياث (1): لمَّا حضرت أبي الوفاةُ، أُغمي عليه، فبكيتُ عند رأْسه، [129 أ] فقال لي حين أفاق: ما يُبكيك؟ قلت: أبكي لفراقك، ولما دخلت فيه من هذا الأمر ــ يعني القضاء ــ قال: لا تَبْكِ! فإنِّي ما حللت سراويلي على حرامٍ قطُّ، ولا جلس بين يديَّ خصمان، فباليتُ على من توجَّه الحكمُ منهما. وقال سفيانُ بنُ أحمد المصِّيصيُّ (2): شهدتُ الهيثم بن جميل وهو يموتُ، وقد سُجِّي نحو القبلة، فقامت جاريتُه تَغْمِزُ رجليه، فقال: اغْمِزيهما، فإنَّ الله يعلمُ أنَّهما ما مشتا إلى حرامٍ قطُّ. وقال محمَّد بن إسحاق (3): نزل السَّريُّ بن دينار في دربٍ بمصر، وكانت فيه امرأة جميلةٌ فتنت النَّاس بجمالها، فعلمت به المرأة، فقالت: لأفتننَّه! فلمَّا دخلتْ من باب الدار؛ تكشَّفَتْ، وأظهرت نفسها، فقال: ما لكِ؟ فقالت: هل لك في فراش وَطِيّ، وعيشٍ رخيّ؟! فأقبل عليها وهو يقول: وكمْ ذي معاصٍ نال منهنَّ لذَّةً ... ومات فخلاَّها وذاق الدَّواهيا _________ (1) المصدر نفسه (ص 230). (2) المصدر نفسه (ص 230). وفيه: «الهيثم بن حميد». (3) المصدر نفسه (ص 234 - 235).
(الكتاب/469)
تصرَّمُ لذَّاتُ المعاصي وتنقضي ... وتبقى تِبَاعاتُ المعاصي كما هِيَا فيا سوْءَتا والله راءٍ وسامعٌ ... لِعَبْدٍ بعينِ الله يَغْشى المعاصيا وقال عمر بن بكير (1): قال أعرابيٌّ: علقْتُ امرأةً كنت آتيها، فأحدِّثها سنين، وما جرت بيننا ريبة قطُّ، إلاَّ أني رأيت بياض كفها في ليلة ظلماء، فوضعتُ يدي على يدها، فقالت: مهْ! لا تُفْسِدْ ما بيني وبينك، فإنه ما نُكح حبٌّ قطّ إلاَّ فسد، قال: فقمتُ، وقد تصبّبْتُ عرقًا؛ حياءً منها، ولم أعُدْ إلى شيءٍ منها. وذكر أبو الفرج (2) وغيره: أنّ امرأةً جميلةً كانت بمكَّة، وكان لها زوجٌ، فنظرت يومًا إلى وجهها في المرآة، فقالت لزوجها: أترى أحدًا يرى هذا الوجه ولا يَفْتَتِنُ به؟! قال: نعم! قالت: منْ؟ قال: عُبيد بن عُمير، قالت: فائذنْ لي فيه، فلأفتننَّه، قال: قد أذِنتُ لك، قال: فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحيةٍ من المسجد الحرام، فأسفرت عن [129 ب] وجه مثل فَلْقَةِ القمر، فقال لها: يا أمَةَ الله استتري! فقالت: إني قد فُتِنْتُ بكَ. قال: إنِّي سائِلُكِ عن شيءٍ، فإنْ أنتِ صدقتِني نظرتُ في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتُك. قال: أخبريني: لو أنَّ ملك الموت أتاك ليقبض روحك؛ أكان يسُرُّك أن أقضي لك هذه _________ (1) المصدر نفسه (ص 235). (2) أي ابن الجوزي في ذم الهوى (265 - 266).
(الكتاب/470)
الحاجة؟ قالت: اللهم لا! قال: صدقتِ. قال: فلو دخلت قبرك، وأُجلست للمساءلة؛ أكان يسرُّك أنِّي قضيتُها لك؟ قالت: اللهمَّ لا! قال: صدقْتِ، قال: فلو أنَّ الناس أُعْطُوا كتبهم، ولا تدرين: أتأخذين كتابك بيمينك أم شمالك؛ أكان يسرُّك أنِّي قضيتُها لك؟ قالت: اللهُمَّ لا! قال: صدقت. قال: فلو أردت المشيَ على الصِّراط، ولا تدرين: هل تنجين، أو لا تنجين؛ أكان يسرُّك أني قضيتُها لك؟ قالت: اللهمَّ لا! قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان، وجيء بك فلا تدرين: أيخِفُّ ميزانُك، أم يثقُلُ؛ أكان يسرُّك أني قضيتُها لك؟ قالت: اللهمَّ لا! قال: صدقت، قال: فلو وقفت بين يدي الله لِلْمُساءلة؛ أكان يسرُّك أنِّي قضيتُها لك؟ قالت: اللهمَّ لا! قال: صدقت، قال: اتَّقي الله! فقد أنعم الله عليك، وأحسن إليك. قال: فرجعتْ إلى زوجها، فقال: ما صنعتِ؟ فقالت: أنْتَ بطَّال، ونحن بطَّالون. فأقبلتْ على الصَّلاة، والصَّوم، والعبادة، فكان زوجُها يقول: ما لي ولعُبيد بن عُمير؟ أفسد عليَّ امرأتي، كانت في كل ليلةٍ عروسًا، فصيَّرها راهبةً. وقال سعيدُ بن عبد الله بن راشد (1): علقتْ فتاةٌ من العرب فتًى من قومها، وكان عاقلًا فاضلًا، فجعلتْ تكثر التردد إليه، فتسأله عن أمورٍ منْ أمور النساء، وما بها إلا النَّظرُ إليه، واستماعُ كلامه فلما طال عليها ذلك؛ _________ (1) أخرج عنه السرَّاج في مصارع العشاق (2/ 108 - 109)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 267).
(الكتاب/471)
مرضتْ، وتغيَّرتْ، واحتالتْ في أن خلا لها وجهُه، فتعرَّضتْ إليه ببعض الأمر، فصرفها، ودفعها عنه، فتزايد المرضُ حتى سقطتْ على الفراش، فقالت أمُّه: إنَّ فلانة قد مرضت، ولها علينا حقٌّ، قال: فعوديها، وقولي لها: يقولُ لك: ما خبرُك؟ فسارت إليها أمُّه وسألتها: ما بكِ؟ قالت: [130 أ] وجعٌ في فُؤادي هو أصلُ عِلَّتي، قالت: فإنَّ ابني يسألك عن علَّتك؟ فتنفَّستْ الصُّعَداءَ، ثم قالت: يسائِلُني عن عِلَّتي وهو عِلَّتي ... عجيبٌ منْ الأنباء جاء به الخبرْ فانصرفت إليه أُمُّه، وأخبرتْه، وقالت له: أحب أن تصير إليك، فقال: نعم، فذكرت أُمُّه لها ذلك، فبكت، وقالت: ويُبعدُني عنْ قربه ولقائه ... فلمَّا أذابَ الجسمَ منِّي تعطَّفا فلستُ بآتٍ موضعًا فيه قاتلي ... كَفاني سَقامًا أنْ أموتَ تلَهُّفا وتزايدت بها العلَّة حتى ماتت. وأحبَّ رجلٌ منْ أهل الكوفة (1) ــ يُسمَّى أبا الشَّعثاء ــ امرأةً جميلةً، فلمَّا علمتْ به كتبت إليه: لأبي الشعثاء حبٌّ دائمٌ ... لَيْسَ فيه تُهْمةٌ لمُتَّهَمْ يا فؤادي فازْدَجِرْ عنه ويا ... عبَثَ الحبِّ به فاقعدْ وقُمْ _________ (1) رواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 274 - 275)، والمرأة هي دنانير جارية ابن كناسة. والخبر برواية أخرى في الأغاني (13/ 345).
(الكتاب/472)
جاءني منْهُ كلامٌ صائدٌ ... ورسالاتُ المُحبِّين الكلِمْ صائدٌ يأْمنُه غِزْلانُه ... مثلَ ما يأْمنُ غِزْلانُ الحرم صلِّ إن أحببت أن تُعْطى المُنى ... يا أبا الشَّعْثاء لله وصُمْ ثُمَّ ميعادُك بعدَ الموت في ... جنَّةِ الخُلْدِ إن الله رَحِمْ حيثُ ألقاك غلامًا ناشئًا ... ناعمًا قد كمُلتْ فيك النِّعمْ وقال الأصمعي (1) عن أبي سفيان بن العلاء قال: بصُرتِ الثُّريا بعمر بن أبي ربيعة، وهو يطوف حول البيت، فتنكرت، وفي كفّها خَلُوقٌ، فزحمته، فأثَّر الْخَلُوق في ثوبه، فجعل الناس يقولون: يا أبا الخطاب! ما هذا زيَّ المحرم! فأنشأ يقول: أدخل الله ربُّ موسى وعيسى ... جنَّة الخُلْد من ملاني خَلُوقا مسحتْ كفَّها بجيب قميصي ... حين طُفنا بالبيت مسْحًا رفيقا فقال له [130 ب] عبد الله بن عمر: مثل هذا القول تقول في هذا الموضع؟ فقال يا أبا عبد الرحمن! قد سمعتَ منِّي ما سمعت، فوربِّ هذه البنيَّةِ ما حللت إزاري على حرامٍ قط! وقيل لليلى الأخيلية (2): هل كان بينك وبين توبة مايكرهُه الله؟ _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 102)، وابن الجوزي (ص 223 - 224)، والأصبهاني في الأغاني (4/ 214). (2) ذكره الخرائطي (ص 103)، وابن الجوزي (ص 224).
(الكتاب/473)
قالت: إذًا أكون منسلخةً من ديني إنْ كنتُ ارتكبت عظيمًا، ثم أُتبعه بالكذب. وقال العُتْبيُّ (1): خرجت إلى المِرْبَد فإذا بأعرابيٍّ غَزِلٍ، فمِلْت إليه، فذكرتُ النِّساء، فتنفَّس ثم قال: يا ابن أخي! إنَّ منْ كلامهنَّ لما يقوم مقام الماء، فيشفي من الظمأ. فقلت: صف لي نساءكم، فقال: نساء الحي تريد؟ قلت: نعم! فأنشأ يقول: رُجْحٌ ولَسْنَ منَ اللَّواتي بالضُّحى ... لِذيُولهنَّ على الطريق غبارُ يأنسن عند بُعولهن إذا خلوا ... وإذا هُم خَرجُوا فهنَّ خِفارُ قال العُتْبيُّ: فأخبرت به أبي، قال: تدري من أين أخذ قوله: وإنَّ من كلامهنَّ ما يقوم مقام الماء، فيشفي من الظمأ؟ قلت: لا، قال: من قول القطاميِّ (2): يقْتُلْننا بحديثٍ ليس يعلَمُه ... منْ يَتَّقينَ ولا مكنونُه بادِ فهنَّ يُبدينَ من قولٍ يُصِبْنَ به ... مواقع الماء من ذي الغُلَّة الصَّادي وهذه الطَّائفةُ لِعفَّتهم أسبابٌ، أقواها: إجلال الجبَّار، ثُمَّ الرَّغبةُ في الحور الحسان في دار القرار، فإن من صرف استمتاعه في هذه الدار إلى ما حرَّم الله عليه؛ منعه من الاستمتاع بالحور الحسان هناك، كما قال _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 94 - 95). والبيتان للفرزدق في ديوانه (1/ 599). (2) في ديوانه (ص 81).
(الكتاب/474)
- صلى الله عليه وسلم -: «منْ لبس الحرير في الدُّنيا؛ لم يلبسه في الآخرة» (1)، و «من شرب الخمر في الدُّنيا؛ لم يشربها في الآخرة» (2). فلا يجمع الله للعبد لذَّة شرب الخمر، ولبس الحرير، والتمتُّع بما حرَّم الله عليه من النساء، والصبيان، ولذَّة التمتُّع بذلك في الآخرة، فليختر العبد [131 أ] لنفسه إحدى اللَّذتين، وليكتف عن إحداهما بالأخرى؛ فمن أبى فلن يجعل الله من أذهب طيباته في حياته الدنيا، واستمتع بها كمن صام عنها ليوم فطره في الدنيا؛ إذا لقي الله، ودون ذلك مرتبةٌ أن يتركها خوف النار فقط، فإن تركها رغبةً ومحبةً أفضلُ من تركها لمجرد خوف العقوبة. ثم أدنى من ذلك أن يحمله عليها خوف العار، والشنار. ومنهم من يحمله على العفة الإبقاء على محبته خشية ذهابها بالوصال. ومنهم من يحمله عليها عفةُ محبوبه، ونزاهتُه. ومنهم من يحمله عليها الحياءُ منه، والاحتشام له، وعظمته في صدره. ومنهم من يحمله عليها الرغبة في جميل الذكر، وحسن الأحدوثة. ومنهم من يحمله عليها الإبقاء على جاهه، ومروءته، وقدره عند محبوبه وعند الناس. ومنهم من يحمله عليها كرم طبعه وشرف نفسه، وعلوُّ همته. ومنهم من يحمله عليها لذَّةُ الظَّفر بالعفَّة، فإنَّ للعفة لذَّةً أعظمُ منْ لذة قضاء الوطر، لكنها لذة _________ (1) أخرجه البخاري (5032)، ومسلم (2073) من حديث أنس. (2) أخرجه البخاري (5775)، ومسلم (2003) من حديث عبد الله بن عمر.
(الكتاب/475)
يتقدَّمها ألمُ حبس النفس، ثم تعقبها اللذة، وأما قضاء الوطر؛ فبالضد من ذلك. ومنهم من يحمله عليها علمه بما تُعْقِبُه اللذَّةُ المحرمةُ من المضارِّ، والمفاسد، وجمع الفجور بخلال الشرِّ كلها، كما ستقفُ عليه في الباب الذي يلي هذا؛ إن شاء الله. فصل ولم يزل الناسُ يفتخرون بالعفَّة قديمًا وحديثًا، قال إبراهيم بن هرْمة (1): وَلَرُبَّ لذَّةِ ليلةٍ قدْ نِلْتُها ... وحرامُها بحلالها مدْفُوعُ وقال غيره: إذا ما هممنا صدَّنا وازعُ التُّقى ... فولَّى على أعقابه الهمُّ خاسئا وقال آخر (2): أتأْذنون لِصَبٍّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر لا يُضْمِرُ السُّوء إن طالت إقامته ... عفُّ الضَّمير ولكن فاسقُ النَّظر وقال مسلم بن الوليد (3): ألا ربَّ يومٍ صادق العيش نلتُه ... بها ونداماي العفافةُ والنُّهى _________ (1) ديوانه (ص 144)، وذم الهوى (ص 238). (2) البيتان للعباس بن الأحنف في ديوانه (ص 147)، والمستطرف (3/ 38). (3) البيت في ديوانه (ص 91)، والزهرة (1/ 124) بقافية «والبذلُ».
(الكتاب/476)
[131 ب] وقال آخر (1): إن تريْني زاني العيـ ... ــنين فالفرجُ عفيفُ ليس إلا النظرُ الفا ... سق والشعرُ الظريف وقال الموسوي (2): بتنا ضجيعين في ثوبي هوًى وتُقًى ... يلُفُّنا الشَّوق من فرق إلى قدم يشي بنا الطيب أحيانًا وآونةً ... يُضِيئنا البرقُ مجتازًا على إضم ثم انثنينا وقد رابتْ ظواهرنا ... وفي بواطننا بُعدٌ عن التُّهم وقال نفطويه (3): كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياءُ وخوفُ الله والحذر وكم ظفرت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهةُ والتجميش والنَّظر أهوى الحسان وأهوى أن أخاطبهم ... وليس لي في حرام منهم وطر كذلك الحبُّ لا إتيانُ معصية ... لا خير في لذَّةٍ من بعدها سقرُ وقال الشهاب محمود بن سلمان (4) صاحب ديوان الإنشاء: لله وقفةُ عاشقين تلاقيا ... من بعد طول نوًى وبُعدِ مزار _________ (1) بلا نسبة في ذم الهوى (ص 268)، ومصارع العشاق (1/ 233، 2/ 200). (2) ديوان الشريف الرضي (2/ 274)، ومنازل الأحباب (ص 83). (3) كما في تاريخ بغداد (6/ 161)، ومصارع العشاق (1/ 159)، والمستطرف (3/ 35)، وتزيين الأسواق (1/ 37). (4) في كتابه «منازل الأحباب» (ص 82). وانظر تزيين الأسواق (1/ 36).
(الكتاب/477)
يتعاطيان من الغرام مُدامةً ... زادتهما بعدًا من الأوزار صدقا الغرام فلم يمل طرفٌ إلى ... فُحْشٍ ولا كفٌّ لحلِّ إزار فتلاقيا وتفرَّقا وكلاهما ... لم يخش مطعن عائبٍ أو زار وقيل لبُثيْنة: هذا جميل لما به، فهل عندك من شيء تُنفِّسين به وجده؟ فقالت: ما عندي أكثرُ من البكاء إلى أن ألقاه في الدَّار الأخرى، أو زيارته وهو ميت تحت الثَّرى. وقيل لعُتبة بعد موت عاشقها: ما كان يضُرُّك لو أمتعتِهِ بوجهك؟ قالت: منعني من ذلك خوف العار، وشماتةُ الجار، ومخافةُ الجبَّار، وإنَّ بقلبي أضعاف ما بقلبه، غير أنِّي أجد ستره أبقى للمودَّة، وأحمد للعاقبة، وأطوع للربِّ، وأخفَّ للذَّنب. وهوي فتًى امرأةً (1)، وهويَتْهُ، وشاع خبرُهما، فاجتمعا يومًا خاليين، فقال لها: [132 أ] هلمِّي نُحقِّق ما يقال فينا، فقالت: لا والله! لا كان هذا أبدًا، وأنا أقرأُ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف/67]. وقيل لبعضهم ــ وقد هوي جاريةً، فطال عشقه لها ــ: ما أنت صانعٌ لو ظفرت بها، ولا يراكما إلا الله؟ قال: والله لا جعلته أهون الناظرين إليَّ، لا أفعل بها خاليًا إلَّا ما أفعله بحضرة أهلها، حنين طويل، ولحظٌ من بعيد، وأترك ما يُسخطُ الربَّ، ويُفسدُ الحبَّ (2): _________ (1) انظر تزيين الأسواق (1/ 36). (2) سبقت الأبيات (ص 138).
(الكتاب/478)
إذا كان حظُّ المرءِ ممَّن يحبُّه ... حرامًا فحظي ما يحلُّ ويجمُلُ حديثٌ كماء المُزن بينَ فُصوله ... عتابٌ به حُسنُ الحديث يُفصل ولثمُ فمٍ عذب اللِّثاتِ كأنما ... جناهن شهدٌ فُتَّ فيه القرنفُلُ وما العشقُ إلا عفة ونزاهة ... وأنس قلوب أنسهنَّ التغزلُ وإني لأستحيي الحبيب من التي ... تُرِيب وأُدعى للجميل فأُجملُ وقال آخر (1): وإني لمشتاقٌ إلى كل غايةٍ ... من المجد يكبو دُونها المُتطاولُ بذولٌ لمالي حين يَبْخَلُ ذو النُّهى ... عفيف عن الفحشاء قرْمٌ حُلاحلُ وما ألطف قوله: «حين يبخل ذو النُّهى» فإن ذا النُّهى لا يبخل إلا في موضع البُخل، فأخبر هذا أنه يبذلُ ماله حين يبخلُ به ربُّه في موضع البُخل. وقال عامر بن حُذافة (2): رأيتُ بصُحَارَ جاريةً قد ألصقت خدَّها بقبرٍ، وهي تبكي، وتقول: خدِّي يقيك خشونة اللَّحْدِ ... وأقلُّ مالك سيِّدي خدِّي يا ساكن التُّرب الذي بوفاته ... عميتْ عليَّ مسالكُ الرُّشدِ اسْمَعْ فديتُك قصَّتي فلعلَّني ... أشفِي بذلك غُلَّة الوجْد _________ (1) اعتلال القلوب (ص 101). (2) رواه الخرائطي (ص 190 - 191). والخبر والشعر الأول في العقد الفريد (3/ 278).
(الكتاب/479)
قال: فسألتها عن صاحب القبر، فقالت: فتًى رافقته في الصِّبا، وأنشأت تقول: [132 ب] كُنَّا كزوج حمامةٍ في أيْكةٍ ... متمتعين بصحَّةٍ وشباب فغدا الزَّمان مشتِّتًا بفراقه ... إنَّ الزَّمان مفرِّقُ الأحْباب قال: فبكيت لرِقَّة شعرها، فأنشأتْ تقول: تبكي عليه ولستَ تعرفُ أمره ... فلأُعلِمنَّك حاله ببيان ما كان للعافين غيرُ نواله ... فإذا استُجير ففارسُ الفُرْسان لا يُتبعُ الجيرانَ رِقَّةَ طرفه ... ويتابع الإحسان للجيران عفُّ السريرة والجهيرة مثلها ... فإذا استُضيم أراك فَتْكَ طِعان فقلت: أعلميني مَنْ هو؟ قالت: سنانُ بنُ وبرة الذي يقول فيه الشاعر: يا رائدًا غيْثًا لنُجعة قومه ... يكفيك من غيثٍ نوالُ سنان ثم قالت: يا هذا! والله لولا أنك غريبٌ ما متَّعتُك من حديثي. قلت: فكيف كان حبُّه لك؟ قالت: ما كان يوسِّدني إذا نمتُ إلَّا يده، فمكثتُ معه أربعة أحوال ما توسَّدتُ غيرها إلا في حالٍ يمنعُه مانع. وقال سعيد بن يحيى الأمويُّ (1): حدَّثني عمي محمَّدُ بنُ سعيد، _________ (1) رواه الخرائطي (ص 188 - 189)، ورواه السرَّاج في مصارع العشاق (2/ 208 - 210)، وابن الجوزي (ص 219 - 221) عن عبيدة السلماني بسياق أطول.
(الكتاب/480)
حدثنا عبد الملك بن عمير قال: كان أخوان من ثقيف من بني كُنَّة بينهما من التَّحاب شيءٌ لا يعلمه إلا الله، وكلُّ واحد منهما أخوه عنده عدلُ نفسه، فخرج الأكبر منهما إلى سفرٍ له وله امرأةٌ، فأوصى أخاه بحاجة أهله، فبينا المقيم في دار الظاعن؛ إذ مرَّت امرأة أخيه في درع تجوز من بيتٍ إلى بيت، وكانت من أجمل البشر، فرأى شيئًا حيَّره، فلمَّا رأته؛ ولولت، ووضعت يدها على رأسها، ودخلت بيتًا، ووقع حبُّها في قلبه، فجعل يذوب، وينحلُ جسمه، ويتغيَّر لونه. وقدم أخوه، فقال: مالك ياأخي مُتغيِّرًا! ما وجعك؟ قال: ما فيَّ من وجع، [133 أ] فدعا له الأطبَّاء، فلم يقفْ أحدٌ على دائه غيرُ الحارث بن كلدة، وكان طبيبًا، فقال: أرى عينين صحيحتين، وما أدري ما هذا الوجع، ما أظنُّه إلَّا عاشقًا! فقال له أخوه: سبحان الله! أسألك عن وجع أخي، وأنت تستهزئ بي! فقال: ما فعلتُ! وسأسقيه شرابًا عندي، فإن يك عاشقًا فسيبين لكم، فأتاه بشرابٍ، فجعل يسقيه قليلًا قليلًا، فلمَّا أخذه الشَّراب؛ هاج، وقال: ألِمَّا بي على الأبيا ... ت من خيف نزُرْهُنَّه غزالٌ ما رأيتُ اليو ... م في دُور بني كُنَّهْ أسِيلُ الخدِّ مربوبٌ ... وفي منطِقه غُنَّه فقال: أنت طبيبُ العرب، فبمن؟ قال: سأعيد له الشراب، ولعلَّه يسمِّي، فأعاد له الشَّراب، فسمَّى المرأة، فطلقها أخوه؛ ليتزوَّجها، فقال المريض: عليَّ كذا وكذا إنْ تزوَّجتُها، فقضى، ولم يتزوَّجْها.
(الكتاب/481)
وقال عليُّ بن المبارك السَّراج (1): حدَّثنا أبو مسهر، عن ركين بن عبد الله قال: عرض الحجاجُ بن يوسف سجنه يومًا، فأُتي برجلٍ، فقال: ما كان جُرمك؟ فقال: أصلح الله الأمير! أخذني العسسُ وأنا مخبرُك خبري، فإن كان الكذبُ يُنجي؛ فالصدقُ أولى بالنَّجاة، قال: وما قصَّتُك؟ قال: كنت أخًا لفلان، فضرب الأمير عليه البعث إلى خراسان، فكانت امرأتُه تهواني، وأنا لا أشعر، فبعثتْ إليَّ ذات يوم رسولًا أنْ قد جاء كتابُ صاحبك، فهلمَّ؛ لتقرأه، فمضيتُ إليها، فجعلت تشغلُني بالحديث حتى صلَّينا المغرب، ثم أظهرت لي ما في نفسها منِّي، ودعتني إلى السُّوء، فأبيتُ ذلك، فقالت: والله لئن لمْ تفعل لأصيحنَّ، فلأقولنَّ: إنك لصٌّ، فخفتُها والله أيها الأمير على نفسي! فقلت: أمهلي حتَّى الليل، فلمَّا صلَّيتُ العتمة، وثِقْتُ بشدَّة حرس الأمير، فخرجتُ من عندها هاربًا، وكان القتلُ أيسرَ عليَّ من خيانة أخي، فلقيني عسسُ الأمير، [133 ب] فأخذوني، وقد قلتُ في ذلك شعرًا. قال: وما قلت؟ فقال: ربَّ بيضاءَ آنسٍ ذاتِ دَلٍّ ... قد دعتني لوصلها فأبيتُ لم يكن شأْني العفافُ ولكن ... كنتُ خِلًّا لزوجها فاسْتَحيْتُ فأمر بإطلاقه. _________ (1) رواه الخرائطي (ص 189 - 190). والشعر في البيان والتبيين (3/ 347).
(الكتاب/482)
وقال الرَّبيع بن زياد (1): رأيتُ جارية عند قبرٍ، وهي تقول: بنفسي فتًى أوفى البريَّةِ كلِّها ... وأقواهُمُ في الموتِ صبرًا على الحبّ فقلت: بم صار أوفاهم، وأقواهم؟ قالت: هويني، فكان أهلي إن جاهر بحبِّي لاموه، وإن كتمه عنَّفوه، فلمَّا أخذه الأمر؛ قال: يقولون إنْ جاهرتُ قد عضَّك الهوى ... وإنْ لم أَبُحْ بالحبِّ قالوا تصبَّرا وليس لمنْ يهوى ويكتُم ما به ... من الأمر إلَّا أن يموت فيُعذرا ولم يزل يُردِّد هذين البيتين حتى مات، فوالله يا هذا! لا أبرحُ، أو يتَّصل قبرانا. ثم شهقت شهقة، فصاح النِّساء، وقُلْن: قد قضت. والذي اختار لها الوفاة! فما رأيت أسرع، ولا أوحى من أمرها. قال ابن الدُّمَيْنة (2): وبتنا فُوَيقَ الحيِّ لا نحنُ منهمُ ... ولا نحنُ بالأعداء مُختلطان وبات يقينا ساقطَ الطَّلِّ والنَّدى ... من الليل بُرْدَا يُمْنة عطرانِ نذُودُ بذكر الله عنَّا غوى الصِّبا ... إذا كان قلبانا له يردان ونصْدُر عن ري العفاف وربَّما ... نقعْنا غليل الحُبِّ بالرَّشفان _________ (1) رواه الخرائطي (ص 192)، وابن الجوزي (ص 527 - 528). (2) ديوانه (ص 210 - 211).
(الكتاب/483)
قال أبو الفرج (1): وَشَتْ جارية بثينة بها إلى أبيها وأخيها، وقالت لهما: إنَّ جميلًا عندها، فأتيا مشتملين على سيفيهما، فرأياهُ خاليًا حجرةً منها، تحدّثه، ويشكو إليها بثَّه، ثم قال لها: يا بُثَيْنَةُ أرأيت مابي من الشَّغف والعشق؛ ألا تجربينه؟ [134 أ] قالت له: بماذا؟ قال: بما يكون من المُتحابين، فقالت له: يا جميلُ! أهذا تبغي؟ والله! لقد كنت عندي بعيدًا منه، فإن عاودت تعريضًا بريبةٍ لا رأيت وجهي أبدًا، فضحك، وقال: والله! ما قلتُ لك هذا إلاَّ لأعلم ما عندك، ولو علمتُ أنَّك تجيبينني إليه؛ لعلمت أنَّك تجيبين غيري، ولو رأيتُ منك مساعدةً لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، أو هجرتُك أبدًا، أما سمعت قولي: وإنِّي لأرضى من بُثَيْنة بالذي ... لو أبصرَهُ الواشي لقرَّتْ بلابِلُه بلا وبأن لا أستطيع وبالمُنى ... وبالأمل المرجُوِّ قد خاب آملُه وبالنَّظرة العجلى وبالحوْلِ تنقضي ... أواخِرُه لا نلتقي وأوائلُه؟ قال أبوها لأخيها: قُمْ بنا، فما ينبغي لنا بعد هذا اليوم أنْ نمنع هذا الرَّجل منْ إتيانها! _________ (1) في الأغاني (8/ 105)، وتزيين الأسواق (1/ 103). والأبيات في ديوان جميل (ص 169) وهناك التخريج وبيان اختلاف النسبة.
(الكتاب/484)
الباب الرابع والعشرون في ارتكاب سبيل الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام
حقيقٌ بكل عاقل ألَّا يسلك سبيلًا حتَّى يعلم سلامتها، وآفاتها، وما توصل إليه تلك الطريق من سلامة، أو عطب، وهذان السبيلان هلاك الأولين والآخرين بهما، وفيهما من المعاطب والمهالك ما فيهما، ويفضيان بصاحبهما إلى أقبح الغايات، وشر موارد الهلكات، ولهذا جعل سبحانه سبيل الزنى شر سبيل، فقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء/ 32] فإذا كانت هذه سبيل الزنا فكيف بسبيل اللواط التي تعدل الفعلة منه في الإثم والعقوبة أضعافها، وأضعاف أضعافها من الزنى؟ كما ستقف عليه إن شاء الله. فأما سبيل الزنى؛ فأسوأُ سبيل، ومقيلُ أهلها في الجحيم شرُّ مقيل، ومستقرُّ أرواحهم في البرزخ في تنُّور من نار، يأتيهم لهيبها من تحتهم، [134 ب] فإذا أتاهم اللهب؛ ضجُّوا، وارتفعوا، ثم يعودون إلى موضعهم، فهم هكذا إلى يوم القيامة، كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه، ورؤيا الأنبياء وحيٌ لا شكَّ فيه. فروى البخاريُّ في صحيحه (1) من حديث سمرة بن جندب قال: _________ (1) رقم (845 ومواضع أخرى). وأخرجه أيضًا مسلم (2275).
(الكتاب/485)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممّا يُكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رُؤيا؟» فيُقصُّ عليه ما شاء الله أن يقصَّ، وإنه قال لنا ذات غداةٍ: «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتغياني وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مُضْطجع، وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغُ رأسه، فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر، فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل المرَّة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا فأتينا على رجل مُستلقٍ لقفاه، وإذا آخرُ قائم عليه بكلُّوبٍ من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيُشرشرُ شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثمَّ يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعلُ به مثل ما فعل في الجانب الأوَّل، قال: فما يفرغُ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى. قال: قلتُ: سبحان الله! ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا فأتينا على مثل التَّنُّور، فإذا فيه لغطٌ وأصوات، قال: فاطَّلعنا فيه فإذا فيه رجالٌ، ونساءٌ عُراةٌ، وإذا هم يأتيهم لهيب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوا قال: قلت: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق. قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما سبح، ثم يأتي ذلك الذي جمع عنده الحجارة، فيفغر فاه، فيُلقِمه حجرًا، فينطلق،
(الكتاب/486)
فيسبح، [135 أ] ثمَّ يرجع إليه، كلما رجع إليه؛ فغر فاه، فألقمه حجرًا، قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا، فأتينا على رجلٍ كريهِ المرآة كأكرهِ ما أنت راءٍ رجلًا، وإذا عنده نارٌ يحُشُّها، ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا، فأتينا على روضة مُعتمة فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجلٌ طويل، لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قطُّ، قال: قلت: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق. فانطلقنا فأتينا على دوحةٍ لم أر دوحةً قطُّ أعظم منها، ولا أحسن، قال: قالا لي: ارْقَ فيها، فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلَبِنِ ذهبٍ، ولَبِنِ فضة، قال: فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففتح لنا، فدخلناها، فتلقانا رجال شطرٌ من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ، وشطرٌ منهم كأقبح ما أنت راءٍ، قال: فقالا لهم: اذهبوا فقَعُوا في ذلك النهر. قال: وإذا نهر معترضٌ يجري كأنَّ ماءه المحضُ في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوءُ عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك. قال: فسما بصري صُعدًا، فإذا قصرٌ مثل الرَّبابة البيضاء. قال: قالا لي: هذاك منزلك. قال: قلت لهما: بارك الله فيكما! فذراني، فأدخله. قالا: أما الآن؛ فلا، وأنت داخله! قال: قلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يُثلَغُ رأسُه بالحجر؛ فإنه الرجل يأخذ القرآن، فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة. وأما الرجل
(الكتاب/487)
الذي أتيت عليه يُشرشَر شِدقُه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه؛ فإنه الرجلُ يغدو من بيته، فيكذب الكذبة، [135 ب] تبلغ الآفاق. وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور؛ فإنهم الزُّناةُ والزَّواني. وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر، ويُلقَمُ الحجر؛ فإنه آكل الربا. وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحُشُّها، ويسعى حولَها فإنه مالك خازن جهنم. وأما الرجل الطويل الذي في الروضة؛ فإنه إبراهيم. وأما الولدان الذين حوله؛ فكل مولود مات على الفطرة. فقال بعض المسلمين: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين. وأما القوم الذين كانوا شطرٌ منهم حسنٌ، وشطر منهم قبيح؛ فإنهم قوم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، تجاوز الله عنهم». وقال أبو مسلم الكجي (1): حدثنا صدقة بن جابر عن سليم بن عامر، قال: حدثني أبو أمامة الباهلي قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بينا أنا نائم؛ إذ أتاني رجلان، فأخذا بضَبْعيَّ، فأخرجاني، فأتيا بي جبلًا وعرًا، وقالا لي: اصعد، فقلت: إني لا أُطيقه. فقالا لي: سنُسهِّلُه لك. قال: فصعدتُ حتى إذا كنتُ في سواء الجبل؛ إذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هذه الأصوات؟ فقالا: هذا عُواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا بفوج أشد شيءٍ _________ (1) أخرجه عنه الخرائطي (ص 105). وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى (3273)، وابن خزيمة (1986)، والحاكم (1/ 430) من طرقٍ عن ابن جابر به.
(الكتاب/488)
انتفاخًا، وأنتنه ريحًا، وأسوئه منظرًا، فقلت: من هؤلاء؟ فقالا: هؤلاء قتلى الكفار، ثم انطلق فإذا بفوج أشدِّ شيء انتفاخًا، وأنتنه ريحًا، كأنَّ ريحهم المراحيض، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزَّانون والزَّواني». وقال قُتيبة بن سعيد (1): حدَّثنا نوحُ بن قيس، قال: حدثنا أبو هارون العبديُّ عن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلة أُسري به انْطُلِق بي إلى خلق من خلق الله كثيرٍ، نساءٍ مُعلَّقاتٍ بثديّهنَّ، ومنهن بأرجلهن منكسات، ولهن صراخٌ، وخُوارٌ، فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء اللَّواتي يزنين، ويقتُلن أولادهنَّ، ويجعلن لأزواجهنَّ ورثةً من غيرهم». وقال أبو نعيم الفضل بنُ دُكين (2): حدَّثنا عبد السلام بن شدَّاد، عن غزوان بن جرير، عن أبيه: أنهم تذاكروا عند عليِّ بن أبي طالب الفواحش فقال لهم: هل تدرون أيُّ الزنى أعظمُ؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! كلُّه عظيم. قال: ولكن سأُخبركم بأعظم الزِّنى عند الله تعالى، هو أن يزني الرجلُ بزوجة الرَّجل المسلم، فيصير زانيًا، وقد أفسد على الرَّجل زوجته. ثم قال عند ذلك: إنَّ الناس يُرْسَلُ عليهم يوم القيامة ريحٌ منتنةٌ، حتى يتأذى منها كلُّ برٍّ وفاجرٍ، حتى إذا بلغت منهم كل مبلغ، _________ (1) أخرجه عنه الخرائطي (ص 106). (2) أخرج من طريقه الخرائطي (ص 104)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 195 - 196).
(الكتاب/489)
وألمَّتْ أن تمسك بأنفاس الناس كلِّهم؛ ناداهم منادٍ يُسمعهم الصوت، ويقول لهم: هل تدرون ما هذه الريح التي قد آذتكم؟ فيقولون: لا ندري والله! إلا أنها قد بلغت منا كلَّ مبلغ! فيقال: ألا إنَّها ريح فروج الزُّناة؛ الذين لقُوا الله بزناهم، ولم يتوبوا منه، ثُمَّ يُصرفُ بهم، فلم يُذكرْ عند الصرف بهم جنةٌ ولا نارٌ. وقال الخرائطي (1): حدَّثنا عليُّ بن داود القنطري، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني مسلمة بن علي الخشنيُّ عن أبي عبد الرحمن، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا معشر المسلمين! إياكم والزِّنَى! فإن فيه ستَّ خصال: ثلاثٌ في الدُّنيا، وثلاثٌ في الآخرة، فأما اللَّواتي في الدُّنيا: فذهابُ البهاء، ودوامُ الفقر، وقصرُ العُمُر. وأمَّا اللَّواتي في الآخرة: فسخطُ الله، وسوءُ الحسابِ، ودخول النار». ويُذكر عن أنس بن مالك (2): أنه قال: المقيم على الزنى كعابد وثنٍ. ورفعهُ بعضهم، وهذا أولى أن يُشبه بعابد وثن من مُدمن الخمر. وفي المسند وغيره (3) مرفوعًا: «مُدمنُ الخمر كعابدِ وثنٍ». فإن الزنى أعظم من _________ (1) في اعتلال القلوب (ص 104 - 105). وهو حديث موضوع، انظر السلسلة الضعيفة (141). (2) أخرجه الخرائطي (ص 105) عنه. (3) أخرجه أحمد (1/ 272)، وابن ماجه (3375) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/490)
شرب الخمر. قال الإمام أحمد: ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنى. وفي الصحيحين (1) من حديث أبي وائلٍ عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله! أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله نِدًّا وهو [136 ب] خلقك» قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: قلت: ثُم أيٌّ؟ قال: «أن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان/ 68]. وقال قتيبة بن سعيد (2): حدثنا ابن لهيعة، عن ابن أنعم، عن رجل، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الزاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يُزكيه، ويقولُ: ادخُل النار مع الدَّاخلين». وذكر سفيان بن عُيينة (3)، عن جامع بن شدَّاد، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: إذا بُخس المكيال؛ حُبِس القطر، وإذا ظهر الزنى؛ وقع الطاعون، وإذا كثُر الكذب؛ كثر الهرج. وفي الصحيحين (4) من حديث الأعمش عن أبي حازم، عن أبي _________ (1) البخاري (4761) ومسلم (86). (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 107). (3) أخرجه الخرائطي (ص 108). (4) البخاري (2369) ومسلم (107).
(الكتاب/491)
هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، وملك كذَّابٌ، وعائلٌ مستكبرٌ». وذكر سفيان الثوري (1) عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن أبي ذرٍّ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يبغض ثلاثة: الشيخ الزاني، والمقلَّ المُختال، والبخيل المنان». وذكر الأعمش (2) عن خيثمة، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل الذي يجلس على فراش المُغيبة مثل الذي تنهشه الأساودُ يوم القيامة». المغيبةُ: هي التي قد سافر زوجها في جهادٍ، أو حجٍّ، أو غيرهما. وفي النسائي وغيره (3) من حديث بُريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كأمَّهاتِهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلًا من المجاهدين في أهله إلاَّ نصب الله له يوم القيامة، فيقالُ: يا فُلانُ! [137 أ] هذا فُلانٌ، فخُذ من حسناته ما شئت» ثمَّ التفت النبي - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) أخرجه بهذا الطريق أحمد (5/ 153)، والنسائي في الكبرى (1224)، والخرائطي (ص 106). (2) أخرجه الخرائطي (ص 108). (3) أخرجه مسلم (1897)، وأبو داود (2496)، والنسائي (6/ 50)، وأحمد (5/ 352، 355).
(الكتاب/492)
إلى أصحابه فقال: «ما ترون يدعُ له من حسناته شيئًا؟» وفي لفظٍ: «وإذا خلفه في أهله فخانهُ؛ قيل له يوم القيامة: هذا خانك في أهلك، فخُذ من حسناته ما شئت. فما ظنُّكم؟!». ويكفي في قُبح الزنَى أن الله سبحانه ــ مع كمال رحمته ــ شرع فيه أفحش القتلات، وأصعبها، وأفضحها، وأمر أن يشهد عبادُه المؤمنون تعذيب فاعله. ومن قبحه: أن الله سبحانه فطر عليه بعض الحيوان البهيم الذي لا عقل له، كما روى البخاريُّ في صحيحه (1) عن عمرو بن ميمون الأوديِّ قال: رأيت في الجاهلية قردًا زنى بقردةٍ، فاجتمع عليهما القرودُ، فرجموهما حتى ماتا، وكنتُ فيمنْ رجمهما. فصل والزنى يجمع خلال الشر كلها: من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانيًا معه ورع، ولا وفاءٌ بعهدٍ، ولا صدقٌ في حديث، ولا محافظةٌ على صديق، ولا غيرةٌ تامة على أهله. فالغدر، والكذب، والخيانة، وقلة الحياء، وعدم المراقبة، وعدم الأنفة للحرم، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه، وموجباته. _________ (1) رقم (3849).
(الكتاب/493)
ومن موجباته: غضب الرب بإفساد حرمه وعياله، ولو تعرض رجلٌ إلى ملك من الملوك بذلك؛ لقابله أسوأ مقابلة. ومنها: سواد الوجه، وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين، ومنها: ظلمة القلب، وطمس نوره، وهو الذي أوجب طمسَ نور الوجه، وغشيان الظلمة له. ومنها: الفقر اللازم. وفي أثرٍ: «يقول الله تعالى: أنا الله مهلك الطغاة، ومفقر الزناة» (1). ومنها: أنه يُذهِب حرمة فاعله، ويسقطه من عين ربه، ومن أعين عباده. ومنها: أنه يَسلُبه أحسن الأسماء، وهو اسم العفة، والبر، والعدالة، ويعطيه أضدادها، كاسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن. ومنها: أنه يسلبه اسم المؤمن، كما في الصحيح (2) [137 ب] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». فسلبه اسم الإيمان المطلق، وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان. وسئل جعفر بن محمد عن هذا الحديث، فخطَّ دائرة في الأرض، وقال: هذه دائرة الإيمان، ثم خط دائرة أخرى خارجة عنها، وقال: هذه دائرة الإسلام، فإذا زنى العبد خرج من هذه، ولم يخرج من هذه. ولا يلزم من ثبوت جزء ما من الإيمان له أن يسمى مؤمنًا، كما أن _________ (1) رواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 192) عن ابن عمر. (2) أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/494)
الرجل يكون معه جزءٌ ما من العلم، والفقه، ولا يسمى به: عالمًا فقيهًا، ومعه جزءٌ من الشجاعة، والجود، ولا يسمى بذلك: شجاعًا، ولا جوادًا، وكذلك يكون معه شيءٌ من التقوى ولا يسمى: متقيًا. ونظائره، فالصواب إجراء الحديث على ظاهره، ولا يتأول بما يخالف ظاهره، والله أعلم. ومنها: أنه يعرض نفسه لسكنى التنُّور الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الزناة والزواني. ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف، ويستبدل به الخبث الذي وصف الله به الزناة، كما قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور/ 26]. فقد حرم الله الجنة على كل خبيث، بل جعلها مأوى الطيبين، ولا يدخلها إلا طيب. قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل/ 32]. وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر/ 73]. فإنما استحقوا سلام الملائكة، ودخول الجنة بطيبهم، والزناة من أخبث الخلق، وقد جعل الله سبحانه جهنم دار الخبث وأهله، فإذا كان يوم القيامة ميز الخبيث من الطيب، وجعل الخبيث بعضه على بعض، ثم ألقاه، وألقى أهله في جهنم، فلا يدخل النار طيب ولا يدخل الجنة خبيث. ومنها: الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني، [138 أ] وهي نظير
(الكتاب/495)
الوحشة التي تعلو وجهه، فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أنس، ومن جالسه استأنس به، والزاني تعلو وجهه الوحشة، ومن جالسه استوحش به. ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله، وأصحابه، وغيرهم له، وهو أحقر شيء في نفوسهم، وعيونهم، بخلاف العفيف، فإنه يرزق المهابة، والحلاوة. ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة، ولا يأمنه أحدٌ على حرمته، ولا على ولده. ومنها: الرائحة التي تفوح عليه، يشمها كل ذي قلب سليم، تفوح من فيه وجسده، ولولا الاشتراك بين الناس في هذه الرائحة؛ لفاحت من صاحبها، ونادت عليه، ولكن كما قيل: كلٌّ به مثلُ ما بي غير أنَّهمُ ... من غيرةٍ بعضهم للبعض عُذَّالُ ومنها: ضيقة الصدر وحرجه؛ فإن الزُّناة يُقابلون بضد مقصودهم، فإن من طلب لذة العيش وطِيبَه بما حرمه الله عليه؛ عاقبه الله بنقيض قصده. فإنَّ ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سببًا إلى خيرٍ قط. ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور، وانشراح الصدر، وطيب العيش لرأى: أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له، دع ربح العاقبة، والفوز بثواب الله وكرامته.
(الكتاب/496)
ومنها: أنه يُعرِّض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنَّات عدن، وقد تقدم أن الله سبحانه إذا كان قد عاقب لابس الحرير في الدنيا بحرمانه للبسه يوم القيامة، وشارب الخمر في الدنيا بحرمانه إياها يوم القيامة، فكذلك من تمتع بالصور المحرمة في الدنيا، بل كل ما ناله العبد في الدنيا، فإن توسع في حلاله؛ ضيق من حظه يوم القيامة بقدر ما توسع فيه، وإن [138 ب] ناله من حرام؛ فاته نظيره يوم القيامة. ومنها: أن الزنى يُجرِّئه على قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسرًا إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان عليه بالسحر وبالشرك، وهو يدري، أو لا يدري. فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها. ويتولد عنها أنواعٌ أُخرُ من المعاصي بعدها، فهي محفوفةٌ بجندٍ من المعاصي قبلها، وجند بعدها، وهي أجلب لشرِّ الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة، وإذا علقت بالعبد، فوقع في حبائلها وأشراكها؛ عزَّ على الناصحين استنقاذُه، وأعيا الأطباء دواؤه، فأسيرها لا يُفدى، وقتيلها لا يُودَى، وقد وكلها الله سبحانه بزوال النعم، فإذا ابتلي بها عبد فيودع نعم الله، فإنها ضيف سريع الانتقال، وشيك الزوال. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد/ 11].
(الكتاب/497)
فصل فهذا بعض ما في هذه السبيل من الضرر، وأما سبيل الأمة اللُّوطية؛ فتلك سبيل الهالكين، المفضية بسالكها إلى منازل المعذَّبين؛ الذين جمع الله عليهم من أنواع العقوبات ما لم يجمعه على أمةٍ من الأمم، لا من تأخَّر عنهم ولا من تقدَّم، وجعل ديارهم وآثارهم عبرةً للمُعتبرين، وموعظةً للمتَّقين. وكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق: أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلًا يُنكح، كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر لذلك ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم عليُّ بن أبي طالب فاستشارهم، فكان عليٌّ أشدهم قولًا فيه، فقال: إن هذا لم يعمل به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، فصنع الله بها ما قد علمتم، أرى أن تحرقوه بالنار، فأحرقوه بالنار. وقال عمر بن الخطاب وجماعةٌ من الصحابة والتابعين: يُرجم بالحجارة حتى يموت، [139 أ] أُحصن أو لم يحصن، ووافقه على ذلك الإمام أحمد وإسحاق ومالك. وقال الزهري: يُرجم، أُحصن، أو لم يحصن، سنة ماضيةٌ. وقال جابر بن زيد في رجل غشي رجلًا في دبره قال: الدبر أعظم حرمة من الفرج، يُرجم أُحصن، أو لم يحصن. وقال الشعبي: يُقتل، أُحصن أو لم يحصن. وسئل ابن عباس عن اللُّوطي ما حدُّه؟ قال: يُنظَر أعلى بناء في
(الكتاب/498)
المدينة، فيُرمى منه منكَّسًا، ثم يتبع بالحجارة. ورجم عليٌّ لوطيًا، وأفتى بتحريقه. فكأنه رأى جواز هذا وهذا. وقال إبراهيم النخعي: لو كان أحدٌ ينبغي له أن يرجم مرَّتين؛ لكان ينبغي للُّوطي أن يرجم مرَّتين. وذهبت طائفةٌ إلى أنه يُرجم إن أُحصن، ويجلد إن لم يحصن. وهذا قول الشافعي، وأحمد في رواية عنه، وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وعطاء بن أبي رباح. قال عطاء: شهدتُ ابن الزُّبير أُتي بسبعة أُخذوا في اللواط: أربعة منهم قد أحصنوا، وثلاثة لم يحصنوا، فأمر بالأربعة، فأخرجوا من المسجد الحرام، فرجموا بالحجارة، وأمر بالثلاثة، فضربوا الحد، وفي المسجد ابن عمر، وابن عباس. والصحابة اتفقوا على قتل اللوطي، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فظنَّ بعضُ الناس: أنهم متنازعون في قتله، ولا نزاع بينهم فيه إلا في إلحاقه بالزَّاني، أو في قتله مطلقًا. وقد اختلف الناس في عقوبته على ثلاثة أقوال: أحدُها: أنها أعظم من عقوبة الزنى، كما أن عقوبته في الآخرة أشدُّ. الثاني: أنها مثلها. الثالث: أنها دونها. وذهب بعضُ الشافعية إلى أن عقوبة الفاعل كعقوبة الزاني، وعقوبة المفعول به الجلد مطلقًا، بكرًا كان أو ثيبًا. قال: لأنه لا يلتذُّ بالفعل به بخلاف الفاعل.
(الكتاب/499)
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا حدَّ على واحدٍ منهما، قال: لأنَّ الوازع عن ذلك ما [139 ب] في الطباع من النفرة عنه، واستقباحه، وما كان كذلك لم يحتج إلى أن يزجر الشارع عنه، كأكل العذرة، والميتة، والدم، وشرب البول. ثم قال هؤلاء: إذا أكثر منه اللُّوطي؛ فللإمام قتله تعزيرًا. صرح بذلك أصحاب أبي حنيفة. والصحيح: أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزاني؛ لإجماع الصحابة على ذلك، ولغلظ حرمته، وانتشار فساده، ولأن الله سبحانه لم يعاقب أُمَّةً ما عاقب اللُّوطية. قال ابن أبي نجيح في تفسيره: عن عمرو بن دينار في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت/ 28] قال: ما نزا ذكرٌ على ذكرٍ حتى كان قومُ لوط. وقال محمد بن مخلد: سمعت عباسًا الدُّوريَّ يقول: بلغني أنَّ الأرض تعُجُّ إذا ركب الذكرُ على الذكر. وذكر ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن كعب قال: كان إبراهيم يُشرف على سدوم فيقول: ويلٌ لك سدومُ يومًا مَّا لك! فجاءت إبراهيم الرُّسل، وكلمهم إبراهيم في أمر قوم لوطٍ، قالوا: {يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود/ 76] قال: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} [هود/ 77] فذهب بهم إلى منزله، فدخَّنت امرأتُه، فجاءه {قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود/ 78] فقال: {يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود/ 78] أزوِّجكم بهن، {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ
(الكتاب/500)
رَشِيدٌ} وجعل لوطٌ الأضياف في بيته، ووقف على باب البيت، و {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود/ 80] قال: أي عشيرةٍ تمنعني. قال: ولم يُبعَث نبي بعد لوط إلا في عزٍّ من قومه، فلما رأت الرسل ما قد لقي لوطٌ في سببهم {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود/ 81] فخرج عليهم جبريل فضرب وجوههم بجناحه ضربة طمس أعينهم. قال: والطمسُ: [140 أ] أن تذهب حتى تستوي، واحتمل مدائنهم، حتى سمع أهل سماء الدنيا نبيح كلابهم، وأصوات ديوكهم، ثم قلبها، وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل. قال: على أهل بواديهم، وعلى رعائهم وعلى مسافريهم، فلم ينفلت منهم إنسان. وقال مجاهد: نزل جبريل ــ عليه السلام ــ فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط، فرفعها، حتى سمع أهل السماء نبيح الكلاب، وأصوات الدجاج والديكة، ثم قلبها، فجعل أعلاها أسفلها، ثم أُتبعوا بالحجارة. وفي تفسير أبي صالح عن ابن عباس (1) قال: أغلق لوطٌ على ضيفه البابَ، فخلعوا الباب، ودخلوا، فطمس جبريل أعينهم، فذهبت أبصارهم، فقالوا: يا لوط جئتنا بالسحر، وتوعدوه، فأوجس في نفسه خيفة قال: يذهب هؤلاء ونُؤذَى، فقالوا: لا تخف إنا رسل ربك، إن موعدهم الصبح، قال لوط: الساعة، قال جبريل: أليس الصبح بقريب؟ _________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب «العقوبات» (ص 150).
(الكتاب/501)
قال: فرفعت المدينة حتى سمع أهل السماء نبيح الكلاب، ثم أقلبت، ورموا بالحجارة. وقال حذيفة بن اليمان (1): لما أُرسلت الرسل إلى قوم لوط، لتهلكهم؛ قيل لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطٌ ثلاث مرات، وطريقهم على إبراهيم، قال: فأتَوا إبراهيم، فبشروه بما بشروه {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود/ 74] قال: كان مجادلته إياهم أن قال لهم: إن كان فيهم خمسون؛ أتهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: أفرأيتم إن كان فيهم أربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا. حتى انتهى إلى عشرةٍ، أو خمسةٍ، فأتوا لوطًا وهو في أرض يعمل فيها، فحسبهم ضيفًا، فأقبل بهم حين أمسى إلى أهله، وأتوا معه، فالتفت إليهم فقال: أما ترون ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: وما يصنعون؟ قال: ما من الناس أحد شرٌّ منهم، قال: فانتهى بهم إلى أهله، فانطلقت العجوز السُّوء امرأتُه، فأتت قومه، فقالت: [140 ب] لقد تضيَّف لوطًا الليلة قوم ما رأيت قطُّ أحسن وجوهًا، ولا أطيب ريحًا منهم، فأقبلوا يُهرعون إليه، حتى دفعوا الباب، حتى كادوا أن يقلبوه عليهم، فقال ملك بجناحه، فصفقه دونهم، ثم أغلق الباب، ثم علوا الأجاجير، فجعل يخاطبهم، فقال: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود/ 78] حتى بلغ {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود/ 80 ــ 81] فطمس جبريل أعينهم فما بقي أحدٌ منهم تلك الليلة حتى عمي. قال: فباتوا بشرِّ _________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 495، 518).
(الكتاب/502)
ليلة عُميًا ينتظرون العذاب. قال: وسار بأهله، واستأْذن جبريل ــ عليه السلام ــ في هلكتهم، فأُذن له، فارتفع بالأرض التي كانوا عليها، فألوى بها حتى سمع أهل السماء الدنيا ضُغَاءَ كلابهم، وأوقد تحتها نارًا ثم قلبها بهم. قال: فسمعت امرأتُه الوجْبةَ، وهي معه، فالتفتت، فأصابها العذاب. وفي تفسير العوفي عن ابن عباس: جادل إبراهيم الملائكة في قوم لوط أن يتركوا، فقال: أرأيتم إن كان فيهم عشرة أبيات من المسلمين؛ أتتركونهم؟ فقالت الملائكة: ليس فيها عشرة أبيات، ولا خمسةٌ، ولا أربعة، ولا ثلاثة، ولا اثنان. فحزن إبراهيم على لوط، وأهل بيته و {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت/ 32] فذلك قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود/ 74 ــ 75] فقالت الملائكة: {يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود/ 76] فبعث الله إليهم جبريل، فانتسف المدينة ومن فيها بأحد جناحيه، فجعل عاليها سافلها، وتبعتهم الحجارة بكل أرض. انتهى. فأهلك الله سبحانه الفاعل والمفعول به، والساكت الراضي والدال، المحصن منهم وغير المحصن، العاشق والمعشوق، وأخذهم وهم في سكرة عشقهم يعمهون. [141 أ] وذكر ابن أبي داود في تفسيره عن وهب بن منبه، قال: إن الملائكة حين دخلوا على لوطٍ ظنَّ أنهم أضيافٌ ضافوه، فاحتفل لهم، وحرص
(الكتاب/503)
على كرامتهم، وخالفته امرأتُه إلى فسَّاق قومه، فأخبرتهم: أنه ضاف لوطًا أحسنُ الناس وجوها، وأنضرهم جمالًا، وأطيبهم ريحًا، فكانت هذه خيانتها التي ذكر الله عزَّ وجلَّ في كتابه. وفيه عن ابن عباس في قوله: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم/ 10] قال: والله ما زنتا! ولا بغت امرأةُ نبيٍّ قطُّ. فقيل له: فما كانت خيانةُ امرأة نوحٍ وامرأة لوط؟ فقال: أمَّا امرأة نوحٍ؛ فكانت تخبر أنه مجنون، وأما امرأة لوطٍ؛ فإنها كانت تدلُّ على الضيف. وقال أبو مسلم الكَشي (1) في مسنده: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الوارث، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن محمد ابن عقيل، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخوف ما أخاف على أُمَّتي من بعدي عمل قوم لوطٍ». وقال هشام بن عمَّار: حدثنا عبد العزيز الدَّراوردي عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله من وقع على بهيمةٍ، ولعن الله من عمل عمل قوم لوطٍ» رواه الإمام أحمد (2). وقال القعنبي: حدثنا عبد العزيز هو الدَّراوردي عن عمرو بن أبي _________ (1) من طريقه رواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 198). (2) في المسند (1/ 309، 317) من طرق أخرى عن عمرو به.
(الكتاب/504)
عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله من تولى غير مواليه، ولعن الله من غير تُخُوم الأرض، ولعن الله من كمَّه أعمى عن السبيل، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من عمل عمل قوم لوطٍ، ولعن الله من عمل عمل قوم لوط، ولعن الله من عمل عمل قوم لوط ــ ثلاثًا ــ ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من وقع على بهيمة» (1). هذا الإسناد على شرط البُخاري. وقال أبو داود الطيالسي (2): حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد الحذَّاء، عن محمد بن سيرين، عن أبي موسى الأشعري قال: قال [141 ب] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا باشر الرجل الرجل؛ فهما زانيان» وفي لفظ: «إذا أتى الرجلُ الرجل». وفي المسند والسنن (3) من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: قال _________ (1) أخرجه أحمد (1/ 309)، والنسائي (7/ 232)، وهو حديث صحيح. (2) في مسنده كما عزاه إليه الحافظ في التلخيص (4/ 55)، ولم أجده في المسند المطبوع. وبشر بن الفضل (لا المفضل) البجلي مجهول. كما في لسان الميزان (2/ 309). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 233) من طريق محمد بن عبد الرحمن عن خالد به، ومحمد بن عبد الرحمن متروك الحديث، كذّبه أبو حاتم. (3) أخرجه أحمد (1/ 300)، وأبو داود (4462)، والترمذي (1456)، وابن ماجه (2561).
(الكتاب/505)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» وفي لفظ: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به». وإسناده على شرط البخاري. وروى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوطٍ؛ فارجموه» أو قال: «فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (1). وحرق اللوطية بالنار أربعةٌ من الخلفاء: أبو بكر الصديق، وعليُّ بن أبي طالب، وعبد الله بن الزُّبير، وهشامُ بن عبد الملك (2). وقال حماد بن سلمة: عن قتادة، عن خلاس، عن عبيد الله بن معمر، قال: يقتل اللوطي (3). وقال سعيد بن المسيب: عندنا على اللوطي الرَّجم أُحصن، أو لم يحصن، سنةٌ ماضية (4). وهذا يدل على أن ذلك _________ (1) أخرجه ابن ماجه (2562). وذكره الترمذي عقب حديث ابن عباس (1456): وقال: هذا حديث في إسناده مقال، ولا نعرف أحدًا رواه عن سهيل بن أبي صالح غير عاصم بن عمر العمري، وعاصم يضعف في الحديث من قبل حفظه. (2) انظر تحريم اللواط للآجري (ص 58). (3) أخرجه الآجري في تحريم اللواط (ص 64)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق (453). (4) أخرجه الآجري (ص 70)، والخرائطي (448).
(الكتاب/506)
سنة مضى عليها العمل. وقال الشعبي: يُقتل أُحصن، أو لم يُحصن (1). وقال الزُّهريُّ، وربيعةُ، وابن هُرمز، ومالك بن أنس: عليه الرجم، أُحصن، أو لم يُحصن (2). وقال بعض العلماء: وإنما قال سعيد بن المسيب: إن ذلك سنةٌ ماضيةٌ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقتلوا الفاعل والمفعول» ولم يقل محصنًا، ولا غير محصن. وحرقهم أبو بكر ــ رضي الله عنه ــ بالنار بعد مشورة الصحابة، وأشار عليه بذلك علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ، وحرقهم عليٌّ، وابنُ الزُّبير، كما ذكر الآجريُّ وغيره عن محمد بن المنكدر: أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكرٍ: أنه وجد رجلًا في بعض ضواحي العرب ينكح كما تنكحُ المرأة، فجمع أبو بكر لذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيهم عليُّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ فقال عليٌّ: إن هذا ذنبٌ لم يعمل به إلا أمةٌ واحدةٌ، ففعل الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقهم بالنار، فاجتمع رأي [142 أ] أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق بالنار، فأمر به أبو بكر أن يحرق. _________ (1) أخرجه الآجري (ص 69)، والخرائطي (447). (2) انظر تحريم اللواط (ص 69).
(الكتاب/507)
قال: وقد حرقهم ابن الزُّبير، وهشام بن عبد الملك، وقال ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: يُرجم اللوطي بكرًا كان أو ثيِّبًا (1). وقال عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ: من عمل عمل قوم لُوطٍ، فاقتلوه (2). ولم يفرق أحدٌ منهم بين المحصن وغيره، وصرح بعضهم بعموم الحكم للمحصن وغير المحصن، فلذلك قال ابن المسيب: إن هذا سنةٌ ماضيةٌ. وفي مسائل إسحاق بن منصور الكوسج: قلت لأحمد: يرجم اللُّوطي أُحصن، أو لم يحصن؟ فقال: يرجم، أُحصن، أو لم يحصن. قال إسحاقُ بن راهويه: هو كما قال. قال إسحاق بن راهويه: والسنة في الذي يعمل عمل قوم لوطٍ أن يرجم محصنًا كان، أو غير محصن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه» (3) رواه ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، ثم أفتى ابنُ عباسٍ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن يعمل عمل قوم لوطٍ: أنه يرجم وإن كان بكرًا، فحكم في ذلك بما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق (445). (2) أخرجه الآجري (ص 68). (3) سبق تخريجه.
(الكتاب/508)
وكذلك رُوي عن علي بن أبي طالب مثل هذا القول: إن اللوطي يرجم، ولم يذكر محصنًا كان، أو غير محصن، وكذلك فعل الله سبحانه بقوم لوط، وكذا يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه حرقهم بالنار. هذا كلام إسحاق رحمه الله. وذكر الآجري في «تحريم اللواط» (1) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «سبعةٌ لا ينظرُ الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ويقول: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل والمفعول به، والناكح يده، وناكح البهيمة، وناكح المرأة في دُبرها، والجامع بين المرأة وبنتها، والزاني بحليلة جاره، والمؤذي لجاره حتَّى يلعنهُ». وذكر عن أنس مرفوعًا نحوه (2)، وقال: «ادخلوا النار أوَّل الداخلين إلَّا أن يتوبوا، إلا أن يتوبوا، إلا أن يتوبوا، فمن تاب؛ تاب الله عليه: الناكحُ يده، [142 ب] والفاعل والمفعول به، ومدمن الخمر، والضاربُ أبويه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والزاني بحليلة جاره». وقال مجاهد (3): لو أن الذي يعمل ذلك العمل ــ يعني: عمل قوم لوط ــ _________ (1) ص 73. وإسناده ضعيف. (2) أخرجه الآجري (ص 73)، والبيهقي في شعب الإيمان (5470). وإسناده ضعيف. انظر «إرواء الغليل» (2401). (3) أخرجه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 208).
(الكتاب/509)
اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض؛ لم يزل نجسًا. وقد ذكر الله سبحانه عقوبة اللُّوطية، وما حل بهم من البلاء في عشر سور من القرآن وهي: سورة الأعراف، وهود، والحجر، والأنبياء، والفرقان، والشعراء، والنمل، والعنكبوت، والصافات، واقتربت الساعة. وجمع على القوم بين عمى الأبصار، وخسف الديار، والقذف بالأحجار، ودخول النار. وقال محذرًا لمن عمل عملهم مما حلَّ بهم من العذاب الشديد: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود/ 89]. وقال بعض العلماء: إذا علا الذكرُ الذكرَ؛ هربت الملائكة، وعجَّت الأرض إلى ربها، ونزل سخط الجبار ــ جل جلاله ــ عليهم، وغشيتهم اللعنة، وحفَّت بهم الشياطين، واستأذنت الأرض ربها أن تُخسف بهم، وثقُل العرش على حملته، وكبرت الملائكة، واستعرت الجحيم، فإذا جاءته رسل الله لقبض روحه؛ نقلوها إلى ديار إخوانهم، وموضع عذابهم، فكانت روحه بين أرواحهم. وذلك أضيق مكانًا، وأعظم عذابًا من تنور الزُّناة. فلا كانت لذةٌ توجب هذا العذاب الأليم! وتسوقُ صاحبها إلى مرافقة أصحاب الجحيم. تذهب اللذَّات، وتعقب الحسرات، وتفنى الشهوة، وتبقى الشقوة. وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ينشد (1): _________ (1) سبق تخريج البيتين، وفي «ذم الهوى» (ص 186) أن الثوري كان يتمثل بهما.
(الكتاب/510)
تفنى اللَّذاذةُ ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الخِزي والعار تبقى عواقبُ سوءٍ في مغبَّتها ... لا خير في لذَّةٍ من بعدها النارُ فصل وأما إن كانت الفاحشة مع ذي رحم محرم، فذلك الهُلْكُ كلُّ الهلك، [143 أ] ويجب قتل الفاعل بكل حالٍ عن الإمام أحمد وغيره. واحتجَّ الإمام أحمدُ بحديث عدي بن ثابت عن البراء بن عازبٍ قال: لقيت خالي ومعه الرايةُ، فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجلٍ تزوَّج امرأة أبيه، أضربُ عنقه، وآخذُ ماله. رواه الإمامُ أحمد (1)، واحتجَّ به. وقال شعبة (2): حدثنا الركين بن الربيع عن عدي بن ثابت، عن البراء قال: رأيتُ أُناسًا ينطلقون، فقلت: أين تذهبون؟ قالوا: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل يأْتي امرأةَ أبيه أن نقتله. وذكر عبد الله بن صالح (3): حدثنا يحيى بن أيوب عن ابن جُريج، _________ (1) في مسنده (4/ 290، 292). وأخرجه أيضًا أبو داود (4457)، والترمذي (1362)، والنسائي (6/ 110)، وابن ماجه (2607). وهو حديث صحيح. (2) أخرجه من طريقه أحمد (4/ 292) وفيه: «ربيع بن ركين». والمؤلف اعتمد على رواية الخرائطي في اعتلال القلوب (ص 113). (3) أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق (436، 568)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 232).
(الكتاب/511)
عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اقتلوا الفاعل والمفعول به، والذي يأْتي البهيمة، والذي يأتي كلَّ ذات محرم». وقال هشام بن عمار (1): حدثنا رفدةُ بن قُضاعة، حدثنا صالح بن راشد قال: أُتي الحجاجُ برجلٍ قد اغتصب أُخته على نفسها، فقال: احبسوه، وسَلُوا من هاهنا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فسألوا عبد الرحمن بن [أبي] مُطرف فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من تخطَّى الحرمتين؛ فخُطُّوا وسطهُ بالسيف». وأفتى ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ بمثل ذلك. وقال عمر بن شبَّة (2): حدثنا مُعاذُ بن هشام، حدثنا أبي عن قتادة، قال: أُتي الحجاج برجل زنى بأُخته، فسأل عنها عبد الله، فقال: يُضربُ بالسيف. فأمر به الحجَّاجُ، فضربت عنقُه. وذكر حماد بن سلمة (3)، عن بكر بن عبد الله المُزنِيِّ: أن رجلًا تزوَّجَ خالته، فرُفع إلى عبد الملك بن مروان، فقال: إنِّي ظننتُ أنَّها تَحِلُّ _________ (1) أخرجه من طريقه الخرائطي في اعتلال القلوب (ص 111)، وفي مساوئ الأخلاق (ص 254). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 269) بعد أن عزاه للطبراني: فيه رفدة بن قضاعة، وثقه هشام بن عمار وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. (2) أخرج من طريقه الخرائطي في اعتلال القلوب (ص 112). (3) أخرجه من طريقه الخرائطي في المصدر السابق (ص 112)، وفي مساوئ الأخلاق (570).
(الكتاب/512)
لي، فقال: لا جهالة في الإسلام. وأظنُّ أنَّهُ أمر به، فقُتل. وفي مسائل صالح بن أحمد (1) قال: سألت أبي عن الرجل تزوج ذات محرمٍ منه، فقال: إن كان عمدًا؛ يُقتلُ، ويُؤْخذُ ماله، وإن كان لا يعلم؛ يُفرَّقُ [143 ب] بينهما. وأستحب أن يكون لها ما أخذت منه، ولا يرجع عليها بشيء. وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده (2): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل الجنة من أتى ذات محرم». _________ (1) كما نقل عنها الخرائطي في اعتلال القلوب (ص 112). (2) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (ص 111)، والطبراني في الأوسط (3948). وانظر مجمع الزوائد (6/ 269).
(الكتاب/513)
الباب الخامس والعشرون في رحمة المُحبين، والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين
قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء/ 85] وكل من أعان غيره على أمرٍ بقوله أو فعله فقد صار شفيعًا له، والشفاعة للمشفوع له هذا أصلها، فإن الشافع يشفع لصاحب الحاجة، فيصير له شفعًا في قضائها؛ لعجزه عن الاستقلال بها، فدخل في حكم هذه الآية كل متعاونين على خيرٍ، أو شر بقول، أو عمل. ونظيرها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة/ 2]. وفي الصحيح (1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا جاءه طالب حاجة يقول: «اشفعوا تُؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما أحب». وفي صحيح البخاري (2) أن بريرة لما عتقت؛ اختارت نفسها، فكان زوجها يمشي خلفها، ودموعه تسيلُ على لحيته، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو _________ (1) أخرجه البخاري (6028)، ومسلم (2627) من حديث أبي موسى الأشعري. (2) برقم (5283، 5318) من حديث ابن عباس، وسبق تخريجه.
(الكتاب/514)
راجعتيه فإنه أبو ولدك» فقالت: أتأْمُرني؟ قال: «لا! إنما أنا شافعٌ» قالت: فلا حاجة لي فيه. فهذه شفاعةٌ من سيد الشُّفعاء لمُحب إلى محبوبه، وهي من أفضل الشفاعات، وأعظمها أجرًا عند الله، فإنها تتضمن اجتماع محبوبين على ما يحبه الله ورسوله، ولهذا كان أحبّ ما إلى إبليس وجنوده التفريق بين هذين. وتأمل قوله تعالى في الشفاعة الحسنة {يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} وفي السيئة {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء/ 85] فإن لفظ الكفل يُشعر بالحمل، والثقل، ولفظ النصيب يشعر بالحظّ الذي [144 أ] ينصب طالبه في تحصيله، وإن كان كلٌّ منهما يستعمل في الأمرين عند الانفراد، ولكن لما قرن بينهما؛ حسن اختصاص حظ الخير بالنصيب، وحظ الشر بالكفل. وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده (1): أن رجلًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوَّج ابنةً له، وكان خطبها قبل ذلك عمُّ بنيها، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها كارهةٌ للذي زوجها أبوها، وأنه كان يعجبها أن يزوجها عمَّ بنيها، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح أبيها، وزوجها عم بنيها. _________ (1) أصل الحديث عند البخاري (5138) من حديث خنساء بنت خذام.
(الكتاب/515)
وقد تقدم (1) حديث عمرو بن دينار عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا قال: يا رسول الله! في حجري يتيمةٌ، وقد خطبها رجلٌ موسرٌ، ورجل معدم، فنحن نحبُّ الموسر، وهي تحبُّ المُعْدم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس للمتحابين مثل النكاح». رواه سليمان بن موسى عنه. وقال مخلد بن الحسن (2): حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، قال: كان عمر بن الخطاب يَعُسُّ بالليل، فسمع صوت امرأةٍ تغنِّي وتقول: هل من سبيل إلى خمرٍ فأشربها ... أم هل سبيلٌ إلى نصر بن حجاج فقال: أما وعمرُ حيٌّ؛ فلا. فلما أصبح؛ بعث إلى نصر بن حجَّاج، فإذا رجلٌ جميلٌ، فقال: اخرج، لا تساكنِّي بالمدينة، فخرج حتى أتى البصرة، وكان يدخل على مجاشع بن مسعود، وكانت له امرأة جميلة، فأعجب بها نصرٌ، فأحبَّها وأحبَّته، فكان يقعد هو ومجاشع يتحدَّثان والمرأة معهما، فكتب لها نصر في الأرض كتابًا، فقال: وأنا، فعلم _________ (1) سبق تخريجه. (2) رواه عنه الخرائطي في اعتلال القلوب (ص 339). ورواه أيضًا من طريقٍ آخر بسياقٍ أطول هو (ص 337 - 338)، والسرّاج في مصارع العشاق (2/ 266 - 268)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 123 - 125). والخبر في المستطرف (3/ 42 - 44)، وانظر حواشيه.
(الكتاب/516)
مُجَاشعٌ أنها جوابُ كلامٍ، وكان مجاشعٌ لا يكتب، والمرأة تكتب، فدعا بإناءٍ، فأكفأه على المكتوب، ودعا كاتبًا، فقرأه، فإذا هو: إني لأُحبُّك حبًّا لو كان فوقك؛ لأظلَّك، ولو كان تحتك؛ لأقلَّك، وبلغ نصرًا ما صنع مجاشع، فاستحيا، ولزم بيته، وضَنِي جسمه، حتى [144 ب] صار نصر كالفرخ، فقال مجاشع لامرأته: اذهبي إليه، فأسنديه إلى صدرك، وأطعميه الطعام بيدك، فأبت، فعزم عليها، فأتته، فأسندته إلى صدرها، وأطعمته الطعام بيدها، فلما تحامل؛ خرج من البصرة وهو يقول (1): إن الذين بخيرٍ كُنتَ تذكُرُهمْ ... همْ أهلكوك وعنهم كنتُ أنهاكا لا تطلبنَّ شفاءً عند غيرهم ... فليس يُحييك إلا من توفَّاكا فإن قيل: فهل تبيح الشريعة مثل ذلك؟ قيل: إذا تعيَّن طريقًا للدَّواء، ونجاة العبد من الهلكة؛ لم يكن بأعظم من مداواة المرأة للرَّجل الأجنبي، ومداواته لها، ونظر الطبيب إلى بدن المريض، ومسه بيده للحاجة. وأما التداوي بالجماع؛ فلا يبيحُه الشرع بوجهٍ ما، وأما التداوي بالضم والقُبلة فإن تحقَّق الشفاءُ به؛ كان نظير التَّداوي بالخمر عند من يُبيحه، بل هذا أسهل من التداوي بالخمر، فإن شُربَهُ من الكبائر، وهذا الفعل من الصغائر. والمقصود أن الشفاعة للعشاق فيما يجوز من الوصال والتلاقي سنةٌ ماضيةٌ، وسعيٌ مشكورٌ. _________ (1) البيتان في مصادر التخريج.
(الكتاب/517)
وقد جاء عن غير واحدٍ من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم: أنهم شفعوا هذه الشفاعة. فقال الخرائطي (1): حدثنا عليُّ بن الأعرابي، حدثنا أبو غسان النهدي، قال: مرَّ أبو بكر الصديق ــ رضي الله عنه ــ في خلافته بطريق من طرق المدينة؛ فإذا جاريةٌ تطحنُ برحاها، وهي تقول: وهويتُه من قبلِ قطع تمائمي ... مُتمايسًا مثل القضيب الناعم وكأنَّ نُور البدرِ سُنَّةُ وجهِهِ ... ينمي ويصعد في ذُؤابة هاشم فدق عليها الباب، فخرجت إليه، فقال: ويلك! أحُرَّةٌ أنت أم مملوكةٌ؟ فقالت: بل مملوكةٌ يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قال: فمن هويت؟ فبكت، ثُمَّ قالت: بحق الله إلا انصرفت عني! قال: لا أريمُ، أو تعلميني! فقالت: وأنا التي لعِبَ الغرامُ بقلبها ... فبكت لحب محمد بن القاسم [145 أ] فصار إلى المسجد، وبعث إلى مولاها، فاشتراها منه، وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب، وقال: هؤلاء فِتَنُ الرجال، وكم قد مات بهنَّ من كريم، وعطب عليهنَّ من سليمٍ! ويذكر عن عثمان بن عفان ــ رضي الله عنه ــ: أنه جاءته جاريةٌ تستعدي على رجلٍ من الأنصار، فقال لها عثمان: ما قصَّتُك؟ فقالت: _________ (1) في اعتلال القلوب (ص 231 - 232). والخبر في أخبار النساء (ص 187)، والواضح المبين (ص 31)، وديوان الصبابة (ص 205). وهذا خبر كاذب، وليس في أبناء جعفر من يسمّى قاسمًا. انظر تعليق المحقق على الداء والدواء (ص 513).
(الكتاب/518)
يا أمير المؤمنين! كَلِفْتُ بابن أخيه، فما أزال أُراعيه. فقال له عثمان: إما أن تهبها لابن أخيك، أو أعطيك ثمنها من مالي. فقال: أُشهِدُك يا أمير المؤمنين أنها له! وأُتي عليُّ بن أبي طالب (1) بغلام من العرب، وُجد في دار قوم بالليل، فقال له: ما قصَّتُك؟ فقال: لست بسارقٍ، ولكني أصدُقك. تعلَّقتُ في دار الرياحي خودةً ... يذلُّ لها من حُسنها الشمس والبدر لها في بنات الرُّوم حسنٌ ومنصبٌ ... إذا افتخرت بالحسن صدقها الفخر فلما أتيتُ الدار من حَرِّ مُهجةٍ ... أتيتُ وفيها من توقُّدِها جمرُ تبادر أهل الدار بي ثم صيَّحوا ... هو اللصُّ محتومًا له القتلُ والأسرُ فلما سمع عليٌّ شعره؛ رقَّ له، وقال للمهلَّب بن رباح: اسمح له بها، ونعوضك منها، فقال: يا أمير المؤمنين! سلهُ من هو ليُعرف نسبه؟ فقال: النهاسُ بن عُيينة العِجْليُّ. فقال: خذها، فهي لك! وذكر التميميُّ في كتابه المسمى بـ «امتزاج النفوس» (2) أن معاوية ابن أبي سفيان اشترى جارية من البحرين، فأُعجب بها إعجابًا شديدًا، فسمعها يومًا تنشد أبياتًا، منها: _________ (1) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (ص 232 - 233). وانظر الواضح المبين (ص 31)، وديوان الصبابة (ص 203). (2) نقل عنه مغلطاي في الواضح المبين (ص 32)، وانظر ديوان الصبابة (ص 203).
(الكتاب/519)
وفارقتُه كالغُصنِ يهتزُّ في الثَّرى ... طريرًا وسيمًا بعدما طرَّ شاربُه فسألها، فقالت: هو ابنُ عمي، فردَّها إليه، وفي قلبه منها. وقال سالم بن عبد الله (1): كانت عاتكة بنت زيد تحت عبد الله بن أبي بكر الصديق ــ رضي الله عنه ــ وكانت قد غلبته على رأيه، وشغلته عن سُوقه، فأمره أبو بكر بطلاقها واحدةً، ففعل، فوجد [145 ب] عليها، فقعد لأبيه على طريقه وهو يريد الصلاة، فلما بصر بأبي بكر بكى وأنشأ يقول: ولم أر مثلي طلَّق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير جُرمٍ يطلقُ لها خُلُقٌ جزلٌ وحلمٌ ومنصبٌ ... وخلقٌ سويٌّ في الحياة ومصدق فرقَّ له أبو بكر ــ رضي الله عنه ــ فأمره بمراجعتها، فلما مات؛ قالت: ترثيه (2): _________ (1) أخرج عنه الخرائطي في اعتلال القلوب (ص 208 - 210). ورواه أبو الحسن المدائني في «المردفات من قريش» (ص 61 - 64) مطولًا، وأبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (16/ 127). وانظر الخبر والشعر في ذم الهوى (ص 647 - 648)، وربيع الأبرار (4/ 114)، وتزيين الأسواق (1/ 324 - 325)، والموشى (ص 173)، والاستيعاب (4/ 364)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 366)، وشرح الحماسة للتبريزي (3/ 71)، وشرح أبيات مغني اللبيب (1/ 93 - 95)، وخزانة الأدب (4/ 350). (2) الأبيات في عيون الأخبار (4/ 114)، والحماسة البصرية (1/ 202)، والمصادر السابقة.
(الكتاب/520)
آليتُ لا تنفك عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أغبرا فلله عينا من رأى مثله فتًى ... أعفَّ وأمضى في الهياج وأصبرا إذا شرعت فيه الأسنةُ خاضها ... إلى الموت حتَّى يترك الرمح أحمرا فلما حلَّت تزوجها عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ وأولم عليها، فقال له عليُّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ: أتأذن لي يا أمير المؤمنين! أُدخلُ رأسي إلى عاتكة أكلمها؟ قال: نعم! فأدخل عليٌّ رأسه إليها، وقال: يا عُدَيَّة نفسها: آليتُ لا تنفك عيني قريرةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أصفرا فبكت، فقال له عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن؟! كل النساء يفعلن هذا! فلما قُتل عمر؛ قالت ترثيه (1): عين جودي بعبرةٍ ونحيب ... لا تملِّي على الجواد النجيب فجعتني المنون بالفارس المُعـ ... ــلم يوم الهياج والتثْويب قل لأهل الضراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب فلما حلَّت؛ تزوجها الزُّبير بن العوام، فاستأذنت ليلة أن تخرج إلى المسجد، فشق ذلك عليه، وكره أن يمنعها لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» فأذن لها، ثم انكمى في موضع مظلم من _________ (1) الأبيات في تاريخ المدينة لابن شبة (3/ 948)، وزهر الآداب (1/ 36)، والحماسة البصرية (1/ 203)، ومصادر تخريج الخبر.
(الكتاب/521)
الطريق، فلما مرَّت؛ وضع يده عليها، فكرت راجعةً تسبِّح، فسبقها الزبير إلى المنزل، فلما رجعت؛ قال لها: ما ردَّك عن وجهك؟ قالت: كنا [146 أ] نخرج والناس ناس، وأما اليوم؛ فلا. وتركت المسجد، فلما قُتل الزُّبير؛ قالت ترثيه (1): غدر ابن جُرموز بفارس بهمةٍ ... يوم اللقاء وكان غير معرد يا عمر لو نبهته لوجدته ... لا طائشًا رعش السنان ولا اليد ثكلتك أُمك إن ظفرت بمثله ... فيما مضى حتى تروح وتغتدي كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا بن أُم الفرقد إن الزُّبير لذو بلاءٍ صادقٍ ... سمحٌ سجيته كريم المشهد فلما حلَّت؛ خطبها عليُّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ فقالت: إني لأضنُّ بك عن القتل. وذكر الخرائطيُّ (2): أنَّ المهديَّ خرج إلى الحج، حتى إذا كان بزُبالة؛ جلس يتغدَّى، فأتى بدويٌّ فنادى: يا أمير المؤمنين! إني عاشق، ورفع صوته. فقال للحاجب: ويحك! ما هذا؟ قال: إنسان يصيح إني _________ (1) الأبيات في ذيل أمالي القالي (ص 112)، والحماسة البصرية (1/ 203)، وسير أعلام النبلاء (6/ 43) والمصادر السابقة. ونسبها ابن عبد ربه في العقد (3/ 277) لأسماء، وقال: وتُروى لعاتكة. (2) في اعتلال القلوب (ص 234). والخبر مع الشعر في مصارع العشاق (2/ 222، 223)، والتذكرة الحمدونية (9/ 270)، وديوان الصبابة (ص 203 - 204).
(الكتاب/522)
عاشقٌ، قال: أدخلوه! فأدخلوه عليه، فقال: من عشيقتك؟ قال: ابنةُ عمي، قال: أولها أبٌ؟ قال: نعم! قال: فما له لا يزوجك إياها؟ قال: هاهنا شيءٌ يا أمير المؤمنين! قال: ما هو؟ قال: إني هجينٌ ــ والهجينُ: الذي أمه أمةٌ ليست عربيةً ــ قال له المهدي: فما يكون؟ قال: إنه عندنا عيبٌ، فأرسل في طلب أبيها، فأُتي به، فقال: هذا ابن أخيك؟ قال: نعم! قال: فلم لا تزوجه كريمتك؟ فقال له مثل مقال ابن أخيه، وكان من ولد العباس عنده جماعةٌ، فقال: هؤلاء كلهم بنو العباس، وهم هُجُنٌ، ما الذي يضرُّهم من ذلك؟ قال: هو عندنا عيبٌ! فقال له المهدي: زوِّجه إيَّاها على عشرين ألف درهمٍ، عشرة آلافٍ للعيب، وعشرة آلاف مهرُها، قال: نعم! فحمد الله، وأثنى عليه، وزوجه إياها، فأتى ببدرتين، فدفعهما إليه، فأنشأ الشابُّ يقول: ابْتعتُ ظبيةَ بالغلاء وإنما ... يُعطي الغلاء بمثلها أمثالي [146 ب] وتركتُ أسواق القباح لأهلها ... إن القباح وإن رخُصن غوال وذكر الخرائطي (1) من حديث الهيثم بن عدي عن عوانة بن الحكم: أن عمر بن أبي ربيعة كان قد ترك الشعر، ورغب عنه، ونذر على نفسه بكل بيتٍ يقوله هدي بدنةٍ، فمكث بذلك حينًا، ثم خرج ليلةً يريدُ _________ (1) في اعتلال القلوب (ص 234 - 235). والخبر والشعر في الأغاني (1/ 145)، وأمالي القالي (2/ 9 - 10)، وزهر الآداب (1/ 253، 254). وانظر المستطرف (3/ 39 - 40).
(الكتاب/523)
الطواف بالبيت؛ إذ نظر إلى امرأةٍ ذات جمالٍ تطوف، وإذا رجلٌ يتلوها، كلما رفعت رجلها وضع رجله موضع رجلها، فجعل ينظر إلى ذلك من أمرهما، فلما فرغت المرأة من طوافها تبعها الرجل هُنية، ثُمَّ رجع، فلما رآه عمر؛ وثب إليه وقال: لتُخبرني عن أمرك! قال: نعم! هذه المرأة التي رأيت ابنةُ عمي، وأنا لها عاشقٌ، وليس لي مال، فخطبتها إلى عمي، فرغب عني وسألني من المهر ما لا أقدر عليه، والذي رأيت هو حظي منها، ومالي من الدنيا أمنيةٌ غيرها، وإنما ألقاها عند الطواف، وحظي ما رأيت من فعلي. فقال له عمر: ومن عمك؟ قال: فلان بن فلان. قال: انطلق معي إليه، فانطلقا، فاستخرجه عمر، فخرج مبادرًا، فقال: ما حاجتك يا أبا الخطاب؟ قال: تزوج ابنتك فلانة من ابن أخيك فلان، وهذا المهر الذي تسأله مساقٌ إليك من مالي! قال: فإني قد فعلت. قال عمرُ: إني أُحبُّ ألَّا أبرح حتى يجتمعا، قال: وذلك أيضًا! قال: فلم يبرح حتى جمعهما جميعًا، وأتى منزله فاستلقى على فراشه، فجعل النوم لا يأخذه، وجعل جوفه يجيش بالشعر، فأنكرت جاريته ذلك، فجعلت تسأله عن أمره، وتقول: ويحك! ما الذي دهاك؟ فلما أكثرت عليه؛ جلس، وأنشد (1): تقول وليدتي لما رأتني ... طربتُ وكنتُ قد أقصرتُ حينا أراك اليوم قد أحدثت شوقًا ... وهاج لك البكا داءً دفينا _________ (1) الأبيات في ديوانه (ص 164) طبعة ليبزيج.
(الكتاب/524)
بربك هل أتاك لها رسولٌ ... فشاقك أم رأيت لها خدينا [147 أ] فقلت شكا إليَّ أخٌ محبٌّ ... لبعض زماننا إذْ تعلمينا فعدَّ عليَّ ما يلقى بهندٍ ... فوافق بعض ما كنا لقينا وذو القلب المصاب وإن تعزَّى ... يهيَّجُ حين يلقى العاشقينا وكم من خُلَّةٍ أعرضتُ عنها ... لغير قِلًى وكنتُ بها ضنينا رأيتُ صدودها فصددتُ عنها ... ولو هام الفؤادُ بها جُنونا وعرض خالد بن عبد الله القسريُّ (1) سجنه يومًا، وكان فيه يزيد بن فلان البجليُّ، فقال له خالد: في أيّ شيء حُبست يا يزيدُ؟! قال: في تهمة أصلح الله الأمير! قال: أفتعود إن أطلقتُك؟ قال: نعم أيها الأمير! وكره أن يعرض بقضيته لئلا تفتضح معشوقته، فقال خالد: أحضروا رجال الحي حتى نقطع يده بحضرتهم، وكان ليزيد أخٌ، فكتب شعرًا، ووجه به إلى خالد: أخالدُ قد أُعطيتَ في الخلق رُتْبَةً ... وما العاشقُ المسكينُ فينا بسارق أقرَّ بما لم يأته المرءُ إنه ... رأى القطع خيرًا من فضيحة عاشق ولولا الذي قد خفتُ من قطع كفه ... لألفيتُ في شأن الهوى غير ناطق إذا بدت الرَّاياتُ للسبق في العلى ... فأنت ابن عبد الله أولُ سابق _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 237 - 238). والخبر مع الشعر في مصارع العشاق (2/ 197)، وذم الهوى (ص 350 - 351).
(الكتاب/525)
فلما قرأ خالد الأبيات؛ علم صدق قوله، فأحضر أولياء الجارية، فقال: زوجوا يزيد فتاتكم! فقالوا: أما وقد ظهر عليه ما ظهر؛ فلا، فقال: لئن لم تزوجوه طائعين؛ لتزوجنه كارهين! فزوَّجوه، ونقد خالدٌ المهر من عنده. وذكر أبو العباس المبرد (1)، قال: كان رجل بالكوفة يدعى ليث بن زياد وقد ربَّى جاريةً، وأدَّبها، فخرجت بارعةً في كل فن مع جمال وافرٍ، فلم يزل معها مدة، حتى تبينت منه الحاجة، [147 ب] فقالت: يا مولاي! لو بعتني كان أصلح لك مما أراك به، وإن كنتُ لأظنُّ أني لا أصبرُ عنك، فقصد رجلًا من الأغنياء يعرفها، ويعرف فضلها، فباعها بمئة ألف درهم، فلما قبض المال؛ وجَّه بها إلى مولاها، وجزع عليها جزعًا شديدًا، فلما صارت الجارية إلى سيدها؛ نزل بها من الوحشة للأول ما لم تستطع دفعه، ولا كتمه، فباحت به، وقالت: أتاني البلا حقًّا فما أنا صانع ... أمصطبرٌ للبين أم أنا جازع كفى حزنًا أني على مثل جمرة ... أقاسي نجوم الليل والقلب نازعُ فإن يمنعوني أن أموت بحبه ... فإني قتيلٌ والعيونُ دوامع فبلغ سيدها شعرها، فدعا بها، وأرادها، فامتنعت عليه، وقالت له: يا سيدي! إنك لا تنتفع بي، قال: ولم ذاك؟ قالت: لما بي، قال: وما _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 238 - 239). والخبر بسياق آخر في أمالي القالي (2/ 21 - 22). وانظر سمط اللآلي (2/ 655 - 656).
(الكتاب/526)
بك؟ صفيه لي! قالت: أجد في أحشائي نيرانًا تتوقد، لا يقدر على إطفائها أحدٌ، ولا تسأل عما وراء ذلك، فرحمها، ورقَّ لها، وبعث إلى مولاها فسأل عن خبره، فوجد عنده مثل الذي عندها، فأحضره، فردَّ الجارية عليه، ووهب له من ثمنها خمسين ألفًا، فلم تزل عنده مدةً طويلةً، وبلغ عبد الله بن طاهر خبرها، وهو بخُراسان، فكتب إلى خليفته بالكوفة يأمره أن ينظر، فإن كان هذا الشعر الذي ذُكر له من قبل الجارية؛ أن يشتريها له بما ملكت يمينه، فركب إلى مولى الجارية، فخبَّره بما كتب إليه عبد الله بن طاهر، فلم يجد سيد الجارية بدًّا من عرضها عليه، وهو كارهٌ، فأراد الأمير أن يعلم ما عند الجارية فأنشأ يقول: بديعُ حسنٍ رشيقُ قدٍّ ... جعلته منه لي ملاذا فأجابته الجارية: فعاتبوه فزاد عشقًا ... فمات شوقًا فكان ماذا فعلم أنها تصلح له، فاشتراها بمئتي ألف درهم، فجهزها، وحملها إلى عبد الله بن طاهر إلى خراسان، فلما صارت إليه؛ اختبرها، فوجدها على ما أراد، فغلبته على عقله، ويقال: إنها أمُّ محمد بن عبد الله بن طاهر، ولم تزل ألطافها وجوائزها تأتي مولاها الأول حتى ماتت. وقال عمر بن شبة (1): حدثنا أيوب بن عمر الغفاري قال: طلق عبد الله _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 239).
(الكتاب/527)
ابن عامر امرأته ابنة سهل بن عمرو، فقدمت المدينة ومعها ابنةٌ لها، ومعها وديعةُ جوهر، استودعها إياهُ، فتزوجها الحسن بن علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ ثمَّ أراد ابن عامر الحجَّ، فأتى المدينة، فلقي الحسن، فقال: يا أبا محمد! إن لي إلى ابنة سهل حاجةً، فأُحبُّ أن تأذن لي عليها، فقال لها الحسن: البسي ثيابك، فهذا ابن عامر يستأذنُ عليك، فدخل عليها، فسألها وديعته، فجاءته بها عليها خاتمه. فقال لها: خذي ثلثها! فقالت: ما كنتُ لآخذ على أمانةٍ ائتُمنتُ عليها شيئًا أبدًا! ثم أقبل عليها ابنُ عامر، فقال: إنَّ ابنتي قد بلغت، فأُحبُّ أن تُخلّي بيني وبينها، فبكت، وبكت ابنتُها، فرقَّ ابن عامر، فقال الحسن: فهل لكما؟ فوالله ما من محلل خيرٌ مني، قال: فوالله لا أُخرجها من عندك أبدًا، فكفلها حتى مات. وذكر الزمخشري في «ربيع الأبرار» (1): أن زبيدة بنت أبي جعفر قرأت في طريق مكة على حائط: أما في عباد الله أو في إمائه ... كريمٌ يُجلِّي الهمَّ عن ذاهب العقل له مقلةٌ أما المآقي قريحة ... وأما الحشا فالنارُ منه على رجل فنذرت أن تحتال لقائلها، حتى تجمع بينه وبين من يحبه، قالت: فإني لبالمزدلفة؛ إذ سمعت من ينشدهما، فاستدعيتُ به، فزعم أنه قالهما في بنت عمٍّ له، قد حلف [148 ب] أهلها ألَّا يزوجوها منه، _________ (1) 4/ 26.
(الكتاب/528)
فوجَّهت إلى الحي، وما زالت تبذل لهم المال حتى زوجوه، وإذا المرأة أعشقُ من الرجل، فكانت زبيدة تعدُّه في أعظم حسناتها، وتقول: ما أنا بشيء أسرَّ مني بجمعي بين ذلك الفتى والفتاة. قال الزمخشري (1): وهوي أحمد بن أبي عثمان الكتاب جارية لزبيدة اسمها «نُعْم» حتى مرض، وقال فيها أبياتًا منها: وإني ليرضيني الممرُّ ببابها ... وأقنعُ منها بالشتيمة والزجر فوهبتها له. وذكر الخرائطي (2): أنه كان لبعض الخلفاء غلامٌ وجارية من غلمانه وجواريه متحابَّيْنِ، فكتب الغلام إليها يومًا: ولقد رأيتك في المنام كأنما ... عاطيتني من ريق فيك البارد وكأن كفَّك في يدي وكأننا ... بتنا جميعًا في فراش واحد فطفقتُ يومي كله متراقدًا ... لأراك في نومي ولستُ براقد فأجابته: خيرًا رأيتَ وكلُّ ما أبصرته ... ستنالُه منِّي برغمِ الحاسد _________ (1) في ربيع الأبرار (4/ 26). والبيت في المستطرف (3/ 34) لأحمد بن عثمان الكاتب. (2) لم أجد النص في «اعتلال القلوب» المطبوع. والخبر مع الشعر في «الإماء الشواعر» (ص 193 ـ 194)، والعقد الفريد (6/ 60، 61)، وربيع الأبرار (4/ 18) والمستطرف (3/ 19، 20)، وديوان الصبابة (ص 202).
(الكتاب/529)
إني لأرجو أن تكون مُعانقي ... فتبيتَ مني فوق ثديٍ ناهدِ وأراك بين خلاخلي ودمالجي ... وأراك فوقَ ترائبي ومجاسدي ونبيت ألطفَ عاشقينِ تعاطيا ... طرفَ الحديثِ بلا مخافة واحد فبلغ الخليفة خبرُهما فأنكحهما، وأحسن إليهما على شدةِ غيرته. وقال أبو الفرج بن الجوزي (1) ــ رحمه الله تعالى ــ: سمع المُهلب فتًى يتغنى بشعر في جارية له، فقال المهلب: لعمري إني للمحبين راحمٌ ... وإني بستر العاشقين حقيقُ سأجمع منكم شملَ ودٍّ مبددٍ ... وإني بما قد ترجوان خليقُ ثم وهبها له، ومعها خمسة آلاف دينار. وقال الخرائطي (2): كان رجلٌ نخَّاسٌ عنده جاريةٌ، لم يكن له مالٌ غيرها، وكان يعرضها في المواسم، فتغالى الناس فيها، حتى [149 أ] بلغت مبلغًا كثيرًا من المال، وهو يطلب الزيادة، فعلقها رجل فقيرٌ، فكاد عقله أن يذهب، فلما بلغه ذلك وهبها له، فعوتب في ذلك، فقال: إني سمعت الله يقول: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة/ 32] أفلا أُحيي الناس جميعًا؟! _________ (1) في ذم الهوى (ص 629)، وعنه في ديوان الصبابة (ص 203). (2) لم أجد النص في «اعتلال القلوب».
(الكتاب/530)
وقال علي بن قريش الجرجاني (1): شكوتُ بلاءً لا أطيق احتماله ... وقلبي مطيعٌ للهوى غيرُ دافع فأُقسم ما تركي عتابك عن قلى ... ولكن لعلمي أنه غيرُ نافع وإني متى لم ألزم الصبر طائعًا ... فلا بدَّ منه مكرهًا غير طائع إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعةٌ ... فلا خير في ودٍّ يكون بشافع وكان أبو السائب المخزومي (2) أحد القراء والفقهاء، فرُئي متعلقًا بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهم ارحم العاشقين! واعطف عليهم قلوب المعشوقين. فقيل له في ذلك: فقال: الدعاء لهم أفضلُ من عمرةٍ من الجعرانة. وذكر أحمد بن الفضل الكاتب (3): أن غلامًا وجارية كانا في كتَّاب فهويها الغلام، فلم يزل يتلطَّف لمعلّمه حتى سيَّره قريبًا لها، فلما كان في بعض أيامه في غفلة من الغلمان كتب في لوح الجارية: ماذا تقولين فيمن شفَّه سقمٌ ... من طول حبك حتى صار حيرانا؟ فلما قرأته الجارية؛ اغرورقت عيناها بالدموع رحمةً له، وكتبت تحته: إذا رأينا محبًا قد أضرَّ به ... طولُ الصبابة أوليناهُ إحسانا _________ (1) في اعتلال القلوب (ص 240): «أنشدني علي»، والأبيات للعباس بن الأحنف في ديوانه. (2) سبق تخريج الخبر. (3) أخرج عنه الخرائطي (ص 233). والبيتان في خبر آخر في مصارع العشاق (2/ 207)، وديوان الصبابة (ص 204). وهما لعلي بن الجهم في ديوانه (ص 216).
(الكتاب/531)
وذكر الهيثم بن عدي (1) عن محمد بن زياد: أن الحارث بن السليل الأزدي خرج زائرًا لعلقمة بن حزم الطائي، وكان حليفًا له، فنظر إلى ابنة له تُدعى الرباب، وكانت [149 ب] من أجمل النساء، فأُعجب بها، وعشقها عشقًا حال بينه وبين الانصراف إلى أهله، فقال لعلقمة: إني أتيتك خاطبًا، وقد ينكح الخاطب، ويدرك الطالب، ويمنح الراغب. قال: كفوٌ كريم، فأقم ننظر في أمرك، ثم انكفأ إلى أم الجارية، فقال لها: إن الحارث سيد قومه حسبًا، ومنصبًا، وبيتًا، فلا ينصرفنَّ من عندنا إلا بحاجته، فشاوري ابنتك وأديريها عمَّا في نفسها. فقالت لها: أي بُنيَّة، أي الرجال أعجبُ إليك؟ الكهلُ الجحجاحُ، المُفضلُ الميَّاح، أم الفتى الوضاح، الملولُ الطمَّاح؟ قالت: الفتى الوضاح. فقالت: إن الفتى يُغيرك، وإن الشيخ يُميرك، وليس الكهلُ الفاضلُ، الكثيرُ النَّائل كالحديث السن، الكثير المن. فقالت: يا أمَّاه أُحبُّ الفتى، كحبِّ الرِّعاءِ أنيقَ الكلأ. قالت: أي بُنية! إنَّ الفتى شديد الحِجاب، كثيرُ العتاب. قالت: يا أمَّاه أخشى من الشيخ أن يُدنِّس ثيابي، ويُبلي شبابي، ويشمت بي أترابي. فلم تزل بها الأُمُّ حتى غلبتها على رأْيها، فتزوَّجها الحارثُ على خمسين ومئةٍ من الإبل، وخادم، وألف _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 157 - 158). والخبر في عيون الأخبار (4/ 47، 48). والخبر مع الشعر في المحاسن والأضداد (ص 237 - 238)، وجمهرة الأمثال (1/ 262، 263)، ومجمع الأمثال (1/ 122، 123).
(الكتاب/532)
درهم، فبنى بها، وكانت عنده أحبَّ شيءٍ إليه، فارتحل بها إلى أهله، فإنه لجالسٌ يومًا بفناء مظلَّته وهي إلى جانبه؛ إذا أقبل فِتيةٌ يعتلجون الصراع، فتنفَّست الصُّعداء، ثم أرسلت عينيها بالبُكاء، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: ما لي وللشُّيوخ، الناهضين كالفروخ! فقال: ثكلتك أُمك قد تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها! فسارت مثلًا، أي: لا تكون ظئرًا، وكان أول من نطق بها، ثم قال: لرُبَّ غارةٍ شهدتُها، وسبيَّةٍ أردفتُها، وخمرةٍ شربتُها، الحقي بأهلك، فلا حاجة لي فيك، ثم أنشأ يقول: وعيَّرت أن رأتني لابسًا كبرًا ... وغايةُ النفس بين الموت والكبر فإن بقيت رأيتِ الشيب راغمةً ... وفي التفرق ما يقضي من العبر وإن يكن قد علا رأسي وغيَّره ... صرفُ الزَّمان وتقتيرٌ من الشعر [150 أ] فقد أروحُ للذَّاتِ الفتى جذلًا ... وهمَّتي لم تشب فاستخبري أثري
(الكتاب/533)
الباب السادس والعشرون في ترك المحبين أدنى المحبوبَينِ رغبةً في أعلاهما
هذا بابٌ لا يدخل فيه إلَّا النفوس الفاضلة الشريفة الأبيةُ؛ التي لا تقنع بالدون، ولا تبيع الأعلى بالأدنى بيع العاجز المغبون، ولا يملكها لطخ جمالٍ مُغَشًّى على أنواع من القبائح، كما قال بعض الأعراب وقد نظر إلى امرأةٍ مبرقعة (1): إذا بارك الله في ملبسٍ ... فلا بارك الله في البرقع يُريك عيون المها حسرةً ... ويكشف عن منظر أشنع وقال آخر (2): لا يغرَّنك ما ترى من نقابٍ ... إن تحت النِّقاب داءً دويَّا فالنفس الأبيةُ لا ترضى بالدُّون. وقد عاب الله سبحانه أقوامًا استبدلوا طعامًا بطعام أدنى منه، فنعى ذلك عليهم، وقال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة/ 61]، وذلك دليلٌ _________ (1) البيتان في العقد الفريد (6/ 412) ضمن خبر طويل. (2) أصل هذا البيت (برواية «من أناس» و «تحت الضلوع») لسديف بن ميمون في عيون الأخبار (1/ 208)، والشعر والشعراء (2/ 761)، والكامل للمبرد (3/ 1366)، وطبقات الشعراء لابن المعتز (ص 40)، والأغاني (4/ 348)، والعقد (4/ 486).
(الكتاب/534)
على وضاعة النفس، وقلة قيمتها. وقال الأصمعي (1): خلا رجلٌ من الأعراب بامرأةٍ، فهمَّ بالريبة، فلما تمكن منها تنحَّى سليمًا، وجعل يقول: إن امرأً باع جنةً عرضها السموات والأرض بفتر ما بين رجليك لقليل البصر بالمساحة. وقال أبو أسماء (2): دخل رجلٌ غيضةً، فقال: لو خلوتُ هاهنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع صوتًا ملأ ما بين لابتي الغيضة {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك/ 14]. وقال الإمام أحمد (3): حدثنا هيثم ــ هو ابن خارجة ــ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن عدي البهراني، عن يزيد بن ميسرة، قال: إن الله تعالى يقول: أيها الشابُّ التاركُ شهوته لي، المتبذلُ شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي! وذكر إبراهيم بن الجنيد (4): أن رجلًا راود امرأةً عن نفسها، فقالت له: أنت قد سمعت القرآن والحديث، [150 ب] فأنت أعلم! قال: _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 66)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 260). (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 66). (3) في «الزهد» (ص 106). وأخرجه أيضًا ابن المبارك في الزهد (346)، والخرائطي (ص 60)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 237)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 53 ـ 54). (4) أخرج عنه الخرائطي (ص 66)، وابن الجوزي (ص 274).
(الكتاب/535)
فأغلقي الأبواب، فأغلقتها، فلما دنا منها؛ قالت: بقي بابٌ لم أغلقه! قال: أيُّ باب؟! قالت: الباب الذي بينك وبين الله! فلم يتعرض لها. وذكر أيضًا عن أعرابي قال (1): خرجت في بعض ليالي الظُّلَم، فإذا أنا بجارية كأنها عَلَم، فأردتها عن نفسها، فقالت: ويحك! أما كان لك زاجرٌ من عقل؛ إذ لم يكن لك ناهٍ من دين؟ فقلت: إنه والله ما يرانا إلَّا الكواكب! قالت: فأين مُكَوكبها؟ وجلس زياد (2) مولى ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ إلى بعض إخوانه، فقال: يا عبد الله! فقال له: قل ما تشاء. قال: ما هي إلا الجنة أو النار؟ قلت: نعم. قال: وما بينهما منزل ينزله العباد؟ قلت: لا والله! فقال: والله إن نفسي لنفس أضنُّ بها عن النار، والصبرُ اليوم عن معاصي الله خيرٌ من الصبر على الأغلال. وقال وهبُ بن مُنبِّه (3): قالت امرأة العزيز ليوسف ــ عليه السلام ــ: ادخل معي القيطون ــ تعني: الستر ــ فقال: القيطون لا يستُرني من ربي. وقال اليزيدي (4): دخلتُ على هارون الرشيد، فوجدته مُكبًّا على _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 65). وانظر ذم الهوى (ص 272). (2) أخرجه الخرائطي (ص 65)، وابن الجوزي (ص 61). (3) أخرجه الخرائطي (ص 65). (4) أخرجه الخرائطي (ص 64). والخبر مع الشعر في بهجة المجالس (2/ 310)، والأولان ضمن أبيات لبشار بن بشر في عيون الأخبار (3/ 184)، والثاني ضمن أبيات لهلال بن خثعم في الحيوان (1/ 382). والأول فقط لزياد بن منقذ في حماسة البحتري (ص 140)، والتذكرة الحمدونية (7/ 119).
(الكتاب/536)
ورقةٍ ينظرُ فيها مكتوبةٍ بالذهب، فلما رآني؛ تبسم، فقلت: فائدةٌ أصلح الله أمير المؤمنين؟! قال: نعم وجدتُ هذين البيتين في بعض خزائن بني أُمية فاستحسنتهما، وقد أضفت إليهما ثالثًا، ثُمَّ أنشدني: إذا سدَّ بابٌ عنك من دون حاجةٍ ... فدعه لأخرى ينفتح لك بابها فإن قُراب البطن يكفيك ملؤُهُ ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابُها فلا تك مبذالًا لدينك واجتنب ... ركوب المعاصي يجتنبك عقابها وقال أبو العباس الناشئ (1): إذا المرء يحمي نفسه حِلَّ شهوةٍ ... لصحة أيَّام تبيدُ وتنفدُ فما بالُه لا يحتمي من حرامها ... لصحةِ ما يبقى له ويُخَلَّدُ؟! وقيل: [151 أ] إن علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ كان ينشد هذين البيتين (2): اقدع النَّفس بالكفاف وإلَّا ... طلبتْ منك فوق ما يكفيها _________ (1) كما في اعتلال القلوب (ص 63 - 64). (2) كما في اعتلال القلوب (ص 64). وهما لأبي بكر الصديق في الزهرة (2/ 563). ولأبي العتاهية في قطب السرور (ص 280، 281). والأول بلا نسبة في بهجة المجالس (2/ 312).
(الكتاب/537)
إنما أنت طول عُمرك ما عُمِّـ ... ــرتَ في الساعة التي أنت فيها ومن أحسن شعر العرب، وكان عمرُو بن العاص يتمثلُ بهما (1): إذا المرءُ لم يترك طعامًا أحبه ... ولم ينه قلبًا غاويًا حيث يمَّما قضى وطرًا منه وغادر سُبَّةً ... إذا ذُكرت أمثالها تملأُ الفما وقال شعبة (2) عن منصور، عن إبراهيم: كلم رجلٌ من العباد امرأةً، فلم يزل بها حتى وضع يده على فخذها، فانطلق، فوضع يده على النار حتَّى نشَّت. وقال زيد بن أسلم عن أبيه (3): كان عابدٌ في صومعةٍ يتعبدُ، فأشرف ذات يوم، فرأى امرأةً، ففُتن بها، فأخرج إحدى رجليه من الصومعة يريد النزول إليها، ثم فكر، وادَّكر، فأناب، فأراد أن يعيد رجله إلى الصومعة فقال: والله لا أُدخل رِجْلًا خرجت تريد أن تعصي الله في صومعتي أبدًا! فتركها خارجة من الصومعة، فأصابها الثلج، والبرد، والرياح حتى تقطَّعت. وقال بعض السلف (4): من كان له واعظٌ من قلبه؛ زاده الله ــ عزَّ _________ (1) البيتان له في عيون الأخبار (1/ 37)، والأغاني (9/ 59)، وأنساب الأشراف (1/ 233)، والصاهل والشاحج (ص 309)، ومجموعة المعاني (ص 18) وغيرها. (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 59). (3) أخرج عنه الخرائطي (ص 59 - 60)، وابن الجوزي (ص 249). (4) هو زياد بن عثمان، وأخرج عنه الخرائطي (ص 53).
(الكتاب/538)
وجلَّ ــ عزًّا، والذلُّ في طاعة الله أقربُ من العز في معصيته. وقال أبو العتاهية (1): لقيت أبا نُواس في المسجد الجامع، فعذلته وقلت له: أما آن لك أن ترْعوي، وتزدجر؟! فرفع رأْسه إليَّ، وقال: أتُراني يا عتاهي ... تاركًا تلك الملاهي؟! أتُراني مُفْسِدًا بالنُّسـ ... ــكِ عند القوم جاهي؟! فلما ألحَحْتُ عليه في العذل؛ أنشأ يقول: [151 ب] لا ترجعُ الأنفسُ عن غيِّها ... ما لم يكنْ منها لها زاجرُ فوددتُ أني قلتُ هذا البيت بكل شيءٍ قُلْتُه. وقال ابن السماك (2) عن امرأةٍ كانت تسكنُ البادية: لو طالعتْ قُلُوبُ المؤمنين بفكرها إلى ما ذُخِر لها في حُجُب الغيوب من خير الآخرة، لم يَصْفُ لهم في الدنيا عيشٌ، ولم تقرَّ لهم عينٌ. وقال ضيغم لرجل (3): إن حبه عزَّ وجلَّ شغل قلوب محبيه عن التلذُّذ بمحبة غيره، فليس لهم في الدنيا مع محبته عزَّ وجلّ لذةٌ تداني _________ (1) أخرجه الخرائطي (ص 54)، وابن الجوزي (ص 76). والخبر والشعر في ديوان الصبابة (ص 168)، والأغاني (4/ 103)، ووفيات الأعيان (2/ 102). (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 50)، وابن الجوزي (ص 66). وقد سبق عند المؤلف. (3) أخرج عنه الخرائطي (ص 51)، وابن الجوزي (ص 78). وقد سبق عند المؤلف.
(الكتاب/539)
محبته، ولا يأملون في الآخرة من كرامة الثواب أكبر عندهم من النظر إلى وجه محبوبهم. فسقط الرجل مغشيًّا عليه. وفي مسند الإمام أحمد (1) من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان ــ رضي الله عنه ــ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحةٌ، وعلى الأبواب ستورٌ مُرخاةٌ، وعلى رأس الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا، ولا تُعرِّجوا! وداع يدعو فوق الصراط، فإذا أراد أحدٌ فتح شيء من تلك الأبواب؛ قال: ويحك! لا تفتحهُ؛ فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلامُ، والستور المرخاة حدود الله، والأبواب المفتحةُ محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله ــ عز وجل ــ والداعي من فوق الصراط واعظُ الله في قلب كل مسلم». وقال خالد بن معدان (2): ما من عبد إلا وله عينان في وجهه، يبصرُ بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه، يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيرًا؛ فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعدهُ الله بالغيب، وإذا _________ (1) 4/ 182 - 183. وهو حديث صحيح. وأخرجه أيضًا الخرائطي (ص 52)، وابن الجوزي (ص 75) وغيرهما. (2) أخرج عنه الخرائطي (ص 52 - 53) وابن الجوزي (ص 75 - 76). وسبق (ص 249).
(الكتاب/540)
أراد به غير ذلك؛ تركه على ما فيه، ثم قرأ: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد/ 24]. وفي الترمذي (1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «الكيِّس: من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز: من أتبع نفسه هواها، [152 أ] وتمنَّى على الله الأماني». وفي المسند (2) من حديث فضالة بن عُبيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المجاهد: من جاهد نفسه في ذات الله، والعاجز: من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله». وقال الإمام أحمد (3) ــ رحمه الله تعالى ــ: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب ــ رضي الله عنه ــ قال: من أصبح وأكثرُ همِّه غيرُ الله؛ فليس من الله. _________ (1) برقم (2459) عن شداد بن أوس. وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 124)، وابن ماجه (4260). وفي إسناده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو ضعيف. (2) 6/ 21 و 22 بلفظ: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب». وأخرجه الخرائطي (ص 58) باللفظ الذي ذكره المؤلف. والحديث صحيح، انظر السلسلة الصحيحة (549). (3) في كتاب الزهد (ص 33). وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (474)، وفي إسناده يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك، كما في مجمع الزوائد (10/ 248).
(الكتاب/541)
وقال أحمد (1): حدثنا عبد الرحمن عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار قال: قال موسى: يا رب! مَنْ أَهلُكَ الذين هُمْ أَهْلُكَ، الذين تظلهم في ظل عرشك؟ قال: هم البريئة أيديهم، الطاهرة قلوبهم؛ الذين يتحابُّون بجلالي؛ الذين إذا ذُكرت ذُكِروا بي، وإذا ذُكِروا ذكرتُ بذكرهم؛ الذين يسبغون الوضوء في المكاره، ويُنيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى وُكورها، ويكلفون بحبي، كما يكلف الصبي بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلت، كما يغضب النمر إذا حَرِب. وقال أحمد (2): حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثني عبد الله بن يحيى، قال: سمعتُ وهب بن مُنبِّهٍ يقول: قال موسى ــ عليه السلام ــ: أي رب! أيُّ عبادك أحبُّ إليك؟ قال: من أُذكرُ برؤيته. وقال أحمد (3): حدثنا بشار، حدثنا جعفرُ، حدثنا هشام الدستوائي، قال: بلغني أن في حكمة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: تعملون للدنيا، وأنتم تُرزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، وَيْحَكم علماء السوء! الأجر تأخذون، والعمل تضيعون، توشكون أن تخرجوا من الدنيا إلى ظلمة القبر، _________ (1) في كتاب الزهد (ص 74 - 75). (2) في الزهد (ص 74). وفيه: «عبدالله بن بجير». (3) في الزهد (ص 75 - 76).
(الكتاب/542)
وضيقه، والله ــ عزَّ وجلَّ ــ نهاكم عن المعاصي، كما أمركم بالصوم والصلاة. كيف يكون من أهل العلم من دنياه آثرُ عنده من آخرته، وهو في الدنيا أعظم رغبة؟! كيف يكون من أهل العلم من مسيره [152 ب] إلى آخرته، وهو مقبلٌ على دنياه، وما يضرُّه أشهى إليه ممَّا ينفعه؟! كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في قضائه، فليس يرضى بشيء أصابه؟! كيف يكون من أهل العلم من طلب العلم؛ ليتحدث به، ولم يطلبه ليعمل به؟! وقال عبد الله بن المبارك (1)، عن معمر: قال الصبيانُ ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب. قال: أَوَ لِلَّعب خُلِقْنا؟! وقال أحمد (2): حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، حدثني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب: أنَّ أُمَّه فاطمة حدثته: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ من شرار أُمَّتي الذين غُذُوا بالنعيم؛ الذين يطلبون ألوان الطعام، وألوان الثياب، ويتشدَّقُون بالكلام». وقال أحمد (3): حدثنا أبو قطن، حدثنا شعبة عن أبي سلمة، عن أبي _________ (1) أخرجه من طريقه أحمد في الزهد (ص 76)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق (738). (2) في الزهد (77). وأخرجه أيضًا ابن المبارك في الزهد (ص 262). وإسناده ضعيف. (3) في الزهد (ص 119).
(الكتاب/543)
نضرة، قال: قال عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ لأبي موسى: يا أبا موسى! شوقنا إلى ربنا، قال: فقرأ. فقالوا: الصلاة! فقال عمر: أولسنا في الصلاة؟ فصل ومِلاك الأمر كله: الرغبة في الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه بأنواع الوسائل، والشوق إلى الوصول إليه ولقائه. فإن لم يكن للعبد همَّةٌ إلى ذلك: فالرغبة في الجنة ونعيمها، وما أعدَّ الله فيها لأوليائه. فإن لم تكن همةٌ عالية تطالبه بذلك فخشية النار، وما أعدَّ الله فيها لمن عصاه. فإن لم تطاوعه نفسه لشيء من ذلك؛ فليعلم أنه خُلق للجحيم، لا للنعيم، ولا يقدر على ذلك بعد قدر الله وتوفيقه إلا بمخالفة هواه. فهذه فصول أربعة هي ربيعُ المؤمن، وصيفه، وخريفه، وشتاؤه، وهي منازلُه في سيره إلى الله، وليس له منزلةٌ غيرها. فأما مخالفة الهوى؛ فلم يجعل الله للجنة طريقًا غير مخالفته، ولم يجعل للنار طريقًا غير متابعته، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ [153 أ] عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات/ 37 ــ 41] وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن/ 46] قيل: هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام الله عليه في الدنيا، ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله.
(الكتاب/544)
وقد أخبر تعالى: أن اتباع الهوى يضلُّ عن سبيله، فقال الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص/ 26] ثم ذكر مآل الضالين عن سبيله، ومصيرهم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص/26] وأخبر سبحانه: أن باتباع الهوى يطبع على قلب العبد، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد/ 16] وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن العاجز هو الذي اتبع هواه، وتمنى على الله. وذكر الإمام أحمد (1) من حديث راشد بن سعد، عن أبي أُمامة الباهلي ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما تحت ظل السماء إلهٌ يعبد أعظم عند الله من هوًى مُتَّبَع». وذكر (2) من حديث جعفر بن حبان، عن أبي الحكم، عن أبي برزة _________ (1) لم أجده في المسند وكتبه المعروفة. وقد أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (3)، والخرائطي (ص 67)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 7502)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 118)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 19). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 188): وفيه الحسن بن دينار وهو متروك الحديث. وقال الألباني في تخريج السنة: موضوع مسلسل بالمتروكين. (2) أحمد في المسند (4/ 420، 423). وأخرجه أيضًا الخرائطي (ص 67)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 19). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 188) بعد أن عزاه لأحمد والبزار والطبراني في الثلاثة: رجاله رجال الصحيح.
(الكتاب/545)
الأسلمي ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أخوف ما أخافُ عليكم شهواتُ الغيِّ في بطونكم وفروجكم، ومضلاتُ الهوى». وفي نسخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه، عن جده ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخوف ما أخافُ على أُمَّتي حكم جائرٍ، وزلةُ عالمٍ، وهوًى مُتَّبعٌ» (1). وقيل لبعض الحكماء (2): أيُّ الأصحاب أبرُّ؟ قال: العمل الصالح، قيل: فأيُّ شيء أضرُّ؟ قال: النفسُ والهوى. وقال بعض الحكماء (3): إذا اشتبه عليك أمران؛ فانظر أقربهما من هواك؛ فاجتنبه. وأُتي بعضُ الملوك (4) بأسير عظيم الجرم، فقال: لو كان هواي في العفو عنك لخالفت [153 ب] الهوى إلى قتلك، ولكن لما كان هواي في قتلك خالفته إلى العفو عنك. _________ (1) أخرجه بهذا اللفظ الخرائطي (ص 67 - 68). ورواه أيضًا البزار كما في كشف الأستار (182)، والطبراني في الكبير (17/ 17)، والقضاعي في مسند الشهاب (1127)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 19). وفي إسناده كثير بن عبد الله، وهو متروك. (2) أخرجه الخرائطي (ص 68). (3) كما عند الخرائطي (ص 68). (4) الخبر عند الخرائطي (ص 68).
(الكتاب/546)
وقال الهيثم بن مالك الطائي (1): سمعت النُّعمان بن بشير يقول على المنبر: إن للشيطان فُخُوخًا ومصالي، وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله، والفخر بإعطاء الله، والكبرياء على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله. وفي المسند وغيره (2) من حديث قتادة عن أنس ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ مهلكاتٌ، وثلاثٌ منجياتٌ، فالمهلكاتُ: شُحٌّ مُطاعٌ، وهوًى متبعٌ، وإعجابُ المرء بنفسه. والمنجياتُ: تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصدُ في الفقر والغنى». وفي جامع الترمذي (3) من حديث أسماء بنت عُميس ــ رضي الله _________ (1) أخرج عنه الخرائطي (ص 69). (2) لم أجده في المسند. وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (81)، والخرائطي (ص 69 - 70، 72)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 343)، والقضاعي في مسند الشهاب (325 - 327)، والبيهقي في شعب الإيمان (745) من طريق الفضل بن بكر عن قتادة به. قال الذهبي في الميزان: الفضل بن بكر عن قتادة لا يُعرف، وحديثه منكر. ثم أورد هذا الحديث. وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (1802) لشواهده. (3) برقم (2448). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي. وأخرجه أيضًا الخرائطي (ص 70)، والحاكم في المستدرك (4/ 316) وصححه. وقال الذهبي: إسناده مظلم.
(الكتاب/547)
عنها ــ قالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بئس العبد عبد تجبَّر واعتدى! ونسي الجبار الأعلى. بئس العبد عبد تخيَّل واختال! ونسي الكبير المُتعال. بئس العبدُ عبد سها ولها! ونسي المقابر والبلى. بئس العبدُ عبد بغى وعتا! ونسي المبتدأ والمُنتهى. بئس العبدُ عبد يختلُ الدين بالشُّبُهات! بئس العبدُ عبد طمعٌ يقودُهُ! بئس العبدُ عبد هوًى يُضلُّه!». وقد أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنهُ «لا يؤمن العبد حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به» (1)، فيكون هواه تابعًا، لا متبوعًا، فمن اتبع هواه؛ فهواه متبوعٌ له، ومن خالف هواه لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهواه تابعٌ له، فالمؤمن هواه تابعٌ له، والمنافق الفاجر هواه متبوعٌ له. وقد حكم الله تعالى لتابع هواه بغير هُدًى منه: أنه أظلم الظالمين، فقال الله عزَّ وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص/ 50] وأنت تجد تحت هذا الخطاب: أنَّ الله لا يهدي من اتَّبع هواه. وجعل سبحانه وتعالى المتبع قسمين، لا [154 أ] ثالث لهما: إما ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإما الهوى. فمن اتبع أحدهما؛ لم يمكنه إتباعُ الآخر، والشيطانُ يطيف بالعبد من أين يدخل عليه، فلا يجد عليه _________ (1) سبق تخريجه.
(الكتاب/548)
مدخلًا، ولا إليه طريقًا إلا من هواه. فلذلك كان الذي يخالف هواه يفرقُ الشيطان من ظله. وإنما يُطاق مخالفةُ الهوى بالرغبة في الله وثوابه، والخشية من حجابه وعذابه، ووجد حلاوة الشفاء في مخالفة الهوى، فإن متابعته الداءُ الأكبر، ومخالفته الشفاء الأعظم. قيل لأبي القاسم الجنيد: متى تنال النفوس مُناها؟ فقال: إذا صار داؤها دواءها، فقيل له: ومتى يصير داؤُها دواءها؟ فقال: إذا خالفت هواها. ومعنى قوله: يصير داؤها دواءها: أن داءها هو الهوى، فإذا خالفته؛ تداوت منه بمخالفته. وقد قيل: إنه إنما سمي هوًى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى أسفل السافلين. والهوى ثلاثة أرباع الهوان، وهو شارع النار الأكبر، كما أن مخالفته شارع الجنة الأعظم. وقال أبو دُلفٍ العجلي (1): واسوأتا لفتًى له أدبٌ ... يُضحي هواهُ قاهرًا أدبه يأتي الدَّنيَّة وهو يعرفها ... فيشينُ عرضًا صائنًا أربهُ فإذا ارْعوى عادتْ بصيرتُه ... فبكى على الخير الذي سُلِبَه وقال ابنُ المُرتفق الهُذَليُّ (2): _________ (1) كما في اعتلال القلوب (ص 70). (2) كذا في ت، وسقط الاسم من نسخة ش. والصواب «البُريق الهذلي»، والبيتان له في شرح أشعار الهذليين (2/ 758)، وعيون الأخبار (1/ 38)، واعتلال القلوب (ص 71).
(الكتاب/549)
أبِنْ لي ما تَرى والمَرءُ تأبى ... عزيمته ويغلِبُهُ هواهُ فيَعْمى ما يَرى فيه عليه ... ويحْسَبُ منْ يراه لا يَراهُ فصل وأمَّا الرّغبةُ في الله، وإرادةُ وجهه، والشوقُ إلى لقائه؛ فهي رأْس مال العبد، وملاكُ أمره، وقوامُ حياته الطيبة وأصلُ سعادته، وفلاحه، ونعيمه، وقُرَّة عينه، ولذلك خُلق، وبه أُمر، وبذلك أُرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب، ولا نعيم إلا بأن تكون رغبتُهُ إلى الله ــ عزَّ وجلَّ ــ وحده، فيكون هو وحده مرغوبه، ومطلوبه، ومراده، كما قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح/ 7 ــ 8] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ [154 ب] اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة/ 59]. والرَّاغبون ثلاثةُ أقسام: راغبٌ في الله، وراغبٌ فيما عند الله، وراغبٌ عن الله. فالمحبُّ راغبٌ فيه، والعاملُ راغبٌ فيما عنده، والراضي بالدنيا من الآخرة راغبٌ عنه. ومن كان رغبتُه في الله؛ كفاه الله كلَّ مهم، وتولاه في جميع أُموره، ودفع عنه مالا يستطيع دفعه عن نفسه، ووقاه وقاية الوليد، وصانه من جميع الآفات. ومن آثر الله على غيره؛ آثره الله على غيره. ومن كان لله؛ كان الله له حيث لا يكون لنفسه، ومن عرف الله؛ لم يكن شيءٌ أحبَّ إليه منه، ولم تبق له رغبةٌ فيما سواه، إلاَّ فيما يُقرِّبه إليه، ويعينه على سفره إليه.
(الكتاب/550)
ومن علامات المعرفة: الهيبةُ، فكلما ازدادت معرفة العبد بربه؛ ازدادت هيبتُه له، وخشيتهُ إياه، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر/ 28] أي: العلماء به. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أعرفكم بالله، وأشدكم له خشية» (1) ومن عرف الله؛ صفا له العيشُ، وطابتْ له الحياةُ، وهابه كلُّ شيءٍ، وذهب عنه خوفُ المخلوقين، وأنِسَ بالله، واستوحش من الناس، وأورثته المعرفة الحياء من الله، والتعظيم له، والإجلال، والمراقبة، والمحبة، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضا به، والتسليم لأمره. وقيل للجُنيد (2) ــ رحمه الله تعالى ــ: إن هاهنا أقوامًا يقولون: إنهم يَصِلُون إلى البرِّ بترك الحركات، فقال: هؤلاء قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يزني ويسرقُ أحسنُ حالًا من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإلى الله رجعوا فيها، ولو بقيتُ ألف عامٍ لم أنقص من أعمال البرِّ شيئًا. وقال: لا يكون العارفُ عارفًا حتى يكون كالأرض يطؤه البَرُّ، والفاجر، وكالمطر يسقي ما يُحب وما لا يُحبُّ. وقال يحيى بن مُعاذ: يخرج العارف [155 أ] من الدُّنيا، ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤُه على نفسه، وشوقه إلى ربه. وقال بعضُهم: لا _________ (1) أخرجه البخاري (6101، 7301)، ومسلم (356) من حديث عائشة. (2) من هنا إلى ص 554 منقول من الرسالة القشيرية (ص 315 ـ 328، 430).
(الكتاب/551)
يكون العارف عارفًا حتى لو أُعطي مُلْك سليمان؛ لم يشغلهُ عن الله طرفه عين. وقيل: العارف أنِسَ بالله، فأوحشه من غيره، وافتقر إلى الله، فأغناه عن خلقه، وذلَّ لله، فأعزَّهُ في خلقه. وقال أبو سليمان الدَّارانيُّ: يُفتحُ للعارف على فراشه مالا يُفتح له وهو قائمٌ يُصلي. وقال ذو النون: لكل شيء عقوبةٌ، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله. وبالجملة فحياةُ القلب مع الله لا حياة له بدون ذلك أبدًا، ومتى واطأ اللسانُ القلب في ذكره، واطأَ القلبُ مراد الحبيب منه، واستقلَّ له الكثير من قوله، وعمله، واستكثر له القليل من بره ولطفه، وعانق الطاعة، وفارق المخالفة، وخرج عن كله لمحبوبه، فلم يبق له منه شيءٌ، وامتلأ قلبه بتعظيمه، وإجلاله، وإيثار رضاه، وعز عليه الصبر عنه، وعدم القرار دون ذكره والرغبة إليه، والاشتياق إلى لقائه، ولم يجد الأُنس إلا بذكره، وحفظ حدوده، وآثره على غيره؛ فهو المحب حقًا. وقال الجنيد: سمعت الحارث المُحاسبي يقول: المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارُك له على نفسك، وزوجك، ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه. وقيل: المحبةُ نارٌ في القلب تحرق ما سوى مراد الحبيب من محبِّه. وقيل: بل هي بذل المجهود في رضا الحبيب، ولا تصحُّ إلا
(الكتاب/552)
بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب. وفي بعض الآثار الإلهية: عبد ي! أنا وحقك لك مُحب! فبحقي عليك كن لي محبًّا. وقال عبد الله بن المبارك: من أُعطي شيئًا من المحبة، ولم يعط مثله من الخشية؛ فهو مخدوعٌ. وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلةٍ من الحُبِّ أحبُّ إليَّ من عبادة سبعين سنة بلا حب. وقال أبو بكر الكتَّاني (1): جرت مسألةٌ في المحبة بمكة أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنًّا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأْسه، ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهبٌ عن نفسه، مُتَّصل بذكر ربه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوارُ هويته، وصفا شربه من كأس وده، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكت فمع الله. فهو بالله، ولله، ومع الله، فبكى الشيوخ، وقالوا: ما على هذا مزيد، جزاك الله يا تاج العارفين! وقيل: أوحى الله إلى داود ــ عليه السلام ــ: يا داودُ! إني حرمتُ على القلوب أن يدخلها حبي وحبُّ غيري. وأجمع العارفون كلهم: أن المحبة لا تصحُّ إلا بالموافقة، حتَّى قال بعضهم: حقيقة المحب موافقة المحبوب في مراضيه، ومساخطه، _________ (1) ذكره عنه المؤلف في مدارج السالكين (3/ 16).
(الكتاب/553)
واتفق القوم: أن المحبة لا تصحُّ إلا بتوحيد المحبوب. ويُحْكَى: أن رجلًا ادعى الاستهلاك في محبة شخصٍ، فقال له: كيف وهذا أخي أحسن مني وجهًا، وأتمُّ جمالًا؟ فالتفت الرجل إليه، فدفعه الشابُّ، وقال: من يدعي هوانا ينظر إلى سوانا؟! وذُكرت المحبة عند ذي النُّون، فقال: كُفُّوا عن هذه المسألة، لا تسعها النفوس فتدعيها، ثم أنشأ يقول: الخوف أولى بالمُسي ... ءِ إذا تألَّه والحزنْ والحُبُّ يجملُ بالتقي ... وبالنَّقِيِّ من الدَّرنْ وقال سمنون: ذهب المحبُّون لله بشرف الدُّنيا والآخرة. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرءُ مع من أحبَّ» (1) فهم مع الله في الدنيا والآخرة. وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادقٍ من ادَّعى محبَّته، ثمَّ لم يحفظ حدوده. فصل فالمحبة شجرةٌ في القلب، عروقها الذلُّ للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانُها خشيتُه، وورقُها الحياء منه، وثمرها طاعته، ومادَّتها التي تسقيها ذِكْرُه، فمتى خلا الحبُّ عن شيءٍ من ذلك؛ كان ناقصًا. وقد وصف الله ــ سبحانه ــ نفسه بأنه يحب عباده المؤمنين، _________ (1) سبق تخريجه (ص 38).
(الكتاب/554)
ويحبونه، وأخبر أنهم أشد حبًّا [156 أ] لله، ووصف نفسه بأنه الودود، وهو الحبيب. قاله البخاري (1). والوُدُّ: خالصُ الحب، فهو يودُّ عباده المؤمنين، ويودُّونه. وقد روى البخاري في صحيحه (2) من حديث أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه ــ تبارك وتعالى ــ: أنه قال: «من أهان لي وليًّا؛ فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبد ي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزالُ عبد ي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببته؛ كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويدهُ التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأُعطينه، ولئن استعاذ بي لأُعيذنه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت، وأكره مساءتهُ ولابد له منه». _________ (1) في صحيحه (13/ 403). (2) أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة. وأما حديث أنس فقد أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية (8/ 318 - 319)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 121) من طريق صدقة بن عبد الله عن هشام الكناني عن أنس. وصدقة ضعيف. وانظر الكلام على طرق الحديث وشرحه في جامع العلوم والحكم (2/ 330 وما بعدها)، وفتح الباري (11/ 341 وما بعدها)، والسلسلة الصحيحة (1640).
(الكتاب/555)
وفي لفظ غير البخاري (1): «فإذا أحببته؛ كنت له سمعًا، وبصرًا، ويدًا، ومؤيدًا». فتأمل كمال الموافقة في الكراهة، كيف اقتضى كراهة الرب تعالى لمساءة عبده بالموت لما كره العبد مساخط ربه! وكمال الموافقة في الإرادة، كيف اقتضى موافقته في قضاء حوائجه، وإجابة طلباته، وإعاذته مما استعاذ به، كما قالت عائشة ــ رضي الله عنها ــ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك (2). وقال له عمه أبو طالب: يا ابن أخي! ما أرى ربك إلا يطيعك! فقال: «وأنت يا عم! لو أطعته؛ أطاعك» (3). وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عزَّ وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء/ 125] قال: حبيبًا قريبًا، إذا سألهُ؛ أعطاه، وإذا دعاه؛ أجابه. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى! كن لي كما أُريد؛ أكن لك كما تريد. وتأمل هذه الباء في قوله: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، كيف تجدها مبينة لمعنى قوله: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره _________ (1) في حديث أنس المذكور. (2) أخرجه البخاري (4788)، ومسلم (1464) عن عائشة. (3) أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 102)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 184) من حديث أنس. وفي إسناده هيثم بن جماز البكاء، وهو ضعيف.
(الكتاب/556)
الذي يبصر به ... إلى [156 ب] آخره! فإن سمع؛ سمع بالله، وإن أبصر؛ أبصر به، وإن بطش؛ بطش به، وإن مشى؛ مشى به. وهذا تحقيق قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل/ 128] وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت/ 69] وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال/ 19]، وقوله فيما رواه عنه رسوله: «أنا مع عبد ي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه» (1). وهذا ضد قوله: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء/ 43] فالصحبة التي نفاها هاهنا هي التي أثبتها لأحبابه، وأوليائه وتأمل كيف جعل محبته لعبده متعلقةً بأداء فرائضه! وبالتقرب إليه بالنوافل بعدها لا غير، وفي هذا تعزيةٌ لمدعي محبته بدون ذلك: أنه ليس من أهلها، وإنما معه الأماني الباطلة، والدعاوي الكاذبةُ. وفي الصحيحين (2) من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أحب الله العبد؛ نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبُّوه! فيُحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض». وفي لفظ _________ (1) ذكره البخاري تعليقًا في صحيحه (13/ 499). وأخرجه أحمد (2/ 540) والبخاري في خلق أفعال العباد (344)، وابن المبارك في الزهد (956) من حديث أبي هريرة مرفوعًا. وانظر فتح الباري (13/ 500)، وتغليق التعليق (5/ 363). (2) البخاري (6040)، ومسلم (2637/ 157).
(الكتاب/557)
لمسلم: «إن الله إذا أحبَّ عبدًا؛ دعا جبريل، فقال: إني أحبُّ فلانًا، فأحبهُ، قال: فيحبه جبريل. ثم ينادى في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانًا، فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبدًا؛ دعا جبريل، فيقول: إني أُبغضُ فلانًا، فأبغضهُ، قال: فيُبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا، فأبغضوه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض». وفي لفظٍ آخر له (1) عن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة، فمرَّ عمر بن عبد العزيز، وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه، فقلت لأبي: يا أبت! إني أرى الله يحبُّ عمر بن عبد العزيز! قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحبِّ في قلوب الناس! فقال: إني سمعتُ أبا هريرة ــ رضي الله عنه ــ يُحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر الحديث. وأخرجه الترمذي (2)، ثم زاد في آخره: فذلك قولُ الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ [157 أ] ... الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم/ 96] انتهى. وقال بعضُ السلف في تفسيرها: يحبهم، ويحببهم إلى عباده. وفي الصحيحين (3) من حديث أنسٍ ــ رضي الله عنه ــ: أن رجلًا _________ (1) برقم (2637/ 158). (2) برقم (3160). (3) البخاري (6167)، ومسلم (2639).
(الكتاب/558)
سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، فقال: «وما أعددتَ لها؟» قال: لا شيء إلا أني أُحبُّ الله ورسوله! فقال: «أنت مع من أحببتَ» قال أنس ــ رضي الله عنه ــ: فما فرحنا بشيءٍ فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنت مع من أحببت» قال أنس: فأنا أُحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبِّي إيَّاهم، وإن لم أعمل أعمالهم. وفي الترمذيِّ (1) عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرء مع من أحبَّ، وله ما اكتسب». وفي سنن أبي داود (2) عنه قال: ما رأيتُ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرحوا بشيءٍ أشدَّ منه، قال رجلٌ: يا رسول الله! الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مع من أحب». وهذه المحبة لله توجب المحبة في الله قطعًا، فإن من محبة الحبيب المحبة فيه والبغض فيه. وقد روى مسلم في صحيحه (3) من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى يوم القيامة: أينَ المُتحابُّون بجلالي؟ اليوم أُظِلّهم في ظلي يوم لا ظل إلاَّ ظلي». _________ (1) برقم (2386). وسبق. (2) برقم (5127). (3) برقم (2566).
(الكتاب/559)
وفي جامع الترمذي (1) من حديث مُعاذ بن جبل ــ رضي الله عنه ــ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله عزَّ وجلَّ: المُتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون، والشهداء». وفي لفظ لغيره (2): «المُتحابون بجلال الله يكونون يوم القيامة على منابر من نور يغبطهم أهل الجمع». وفي «الموطأ» (3) من حديث أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتًى برَّاق الثنايا والناس حوله، فإذا اختلفوا في شيءٍ؛ أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقالوا: هذا مُعاذ بن جبل! فلما كان الغدُ هجَّرت فوجدتُه قد سبقني [157 ب] بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرتُه حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمتُ عليه ثم قلت: والله إني لأُحبُّك في الله، فقال: آلله؟ قلت: آلله! فقال: آلله؟ فقلت: آلله! فأخذ بحبوة ردائي، فجبذني إليه، وقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ». وفي سنن أبي داود (4) من حديث أبي ذرٍّ ــ رضي الله عنه ــ قال: قال _________ (1) برقم (2390). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (2) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (6/ 551) وعزاه إلى رزين. (3) 2/ 953، 954. وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 229، 233). (4) برقم (4599)، وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 146)، كلاهما من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن رجل عن أبي ذر به. ويزيد ضعيف لسوء حفظه، والرجل مجهول، فالحديث ضعيف، انظر السلسلة الضعيفة (1310).
(الكتاب/560)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الأعمال: الحب في الله، والبغض في الله». وفيه أيضًا (1) عن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله» قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: «هم قومٌ تحابوا بروح الله على غير أرْحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها. فوالله إن وجوههم لنورٌ! وإنهم لعلى نورٍ، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» وقرأ هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس/ 62]. وفي لفظ لغيره (2): «إن لله عبادًا ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء بمكانهم من الله» قالوا: يا رسول الله! صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا، لعلنا نحبُّهم؟ قال: «هم قومٌ تحابوا بروح الله على غير أموال تباذلوها، ولا أرحامٍ تواصلوها، هم نورٌ، ووجوههم نورٌ، وعلى كراسي من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس/ 62]. _________ (1) أبو داود (3527). وإسناده منقطع، أبو زرعة لم يدرك عمر بن الخطاب. (2) أخرجه ابن حبان في صحيحه (573) عن أبي هريرة.
(الكتاب/561)
وفي صحيح مسلم (1) من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن رجلًا زار أخًا له في قريةٍ أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملَكًا، فلما أتى عليه؛ قال: أين تُريد؟ قال: أُريد أخًا لي في هذه القرية. قال: لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا! غير أني أُحبُّهُ في [158 أ] الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك: أنَّ الله قد أحبَّك كما أحبَبْتَهُ فيه». وقال رجلٌ لمُعاذ: إني أحبك في الله! قال: أحبَّك الذي أحببتني له. وفي سنن أبي داود (2): أن رجلًا كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمرَّ رجلٌ، فقال: يا رسول الله! إنِّي لأُحبُّ هذا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعْلَمْتَهُ؟» قال: لا! قال: «فأعْلِمْهُ»، فلحقه، فقال: إني أُحبُّك في الله! قال: أحبَّك الذي أحببتني له. وفيها أيضًا (3): عن المقدام بن معدي كرب ــ رضي الله عنه ــ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أحبَّ الرَّجُلُ أخاهُ؛ فليُخْبرِهُ أنَّهُ يُحِبُّهُ». _________ (1) برقم (2567). (2) برقم (5125). وأخرجه أيضًا أحمد (3/ 141، 150)، وابن حبان في صحيحه (571)، والحاكم في المستدرك (4/ 171). وهو حديث حسن. (3) أبو داود (5124). وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 130)، والبخاري في الأدب المفرد (542)، والترمذي (239 مكرر)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (206). وقال الترمذي: حديث المقدام حديث حسن صحيح غريب.
(الكتاب/562)
وفي الترمذي (1) من حديث يزيد بن نعامة الضَّبِّيِّ ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا آخى الرَّجُل الرَّجُل؛ فليسأله عن اسمه، واسم أبيه، وممنْ هُو، فإنه أوْصلُ للمودَّة». وفي صحيح مسلم (2) من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده! لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أوَ لا أدُلُّكُمْ على شيءٍ إذا فعلْتُمُوهُ تحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلام بيْنكُمْ». وقال الإمام أحمد (3): حدَّثنا حجاج بن محمد التِّرمذيُّ، أنبأنا إسرائيل، حدثنا شريك، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهُذيل، عن عمَّار بن ياسر: أنَّ أصحابه كانوا ينتظرونه، فلما خرج؛ قالوا: ما أبطأك عنَّا أيها الأمير؟! قال: أما إنِّي سوف أحدِّثكم: أنَّ أخًا لكم ممَّن كان قبلكم، وهو موسى عليه السلام قال: يا ربِّ! حدّثني بأحبِّ الناس إليك، قال: ولِمَ؟ قال: لأحبَّه لِحبِّك إيَّاه، قال: عبد في أقصى الأرض، أو طرف الأرض، سمع به عبد آخرُ في أقصى، أو طرف الأرض، لا يعرفه، _________ (1) برقم (2392). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، ولا نعرف ليزيد بن نعامة سماعًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويُروى عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا، ولا يصح إسناده. (2) برقم (54). (3) في الزهد (ص 87 - 88).
(الكتاب/563)
فإن أصابته مصيبةٌ؛ فكأنَّما أصابته، وإن شاكته شوكةٌ؛ فكأنَّما شاكته، لا يحبُّه إلَّا لي، فذلك أحبُّ خلقي إليَّ. وقال: يا ربّ خلقت خلقًا تدخلهم النار، أو تعذِّبهم، فأوحى الله إليه: كلُّهم [158 ب] خلقي، ثم قال: ازرع زرعًا. فزرعهُ، فقال: اسقه، فسقاه، ثم قال: قم عليه. فقام عليه ما شاء الله من ذلك، فحصده، ورفعه، فقال: ما فعل زرعك يا موسى؟! قال: فرغتُ منه ورفعته، قال: ما تركت منه شيئًا؟ قال: ما لا خيرَ فيه، أو ما لا حاجة لي فيه، قال: فكذلك: أنا لا أُعذّب إلا من لا خير فيه. فصل ولو لم يكن في محبة الله إلَّا أنَّها تنجي مُحِبَّهُ من عذابه؛ لكان ينبغي للعبد ألَّا يتعوَّض عنها بشيءٍ أبدًا. وسئل بعض العلماء: أين تجد في القرآن: أن الحبيب لا يعذِّب حبيبه؟ فقال: في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة/ 18]. وقال الإمام أحمد (1): حدثنا إسماعيل بن يونس عن الحسن ــ رضي الله عنه ــ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لا يعذِّب الله حبيبهُ! ولكن قد يبتليه في الدنيا». _________ (1) في الزهد (ص 54).
(الكتاب/564)
وقال أحمد (1): حدثنا سيَّار، حدَّثنا جعفر، حدثنا أبو غالبٍ، قال: بلغنا أنَّ هذا الكلام في وصية عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الحواريّين! تحبَّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقرَّبوا إليه بالمقت لهم، والتمسوا رضاه بسخطهم. قالوا: يا نبي الله! فمن نجالس؟ قال: جالسوا من يزيدُ في أعمالكُم منطقُه، ومن تذكركم بالله رؤيته، ويزهِّدكم في دنياكم عمله. ويكفي في الإقبال على الله ثوابًا عاجلاً: أن الله ــ سبحانه وتعالى ــ يُقبل بقلوب عباده إلى من أقبل عليه، كما أنه يُعرض بقلوبهم عمَّن أعرض عنه، فقلوب العباد بيد الله لا بأيديهم. وقال الإمام أحمد (2): حدَّثنا حسين في تفسير شيبان عن قتادة قال: ذُكر لنا أنَّ هَرِم بن حيَّان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله ــ عزَّ وجلَّ ــ بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودَّتهم ورحمتهم. وقد روي هذا مرفوعًا (3)، ولفظه: «وما أقبل عبد على الله بقلبه إلَّا أقبل الله عليه بقُلوب عبادهِ، وجعل قُلُوبهم تفدُ إليه بالْوُدِّ، [159 أ] _________ (1) في الزهد (ص 54). (2) في الزهد (ص 232). (3) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (5021) من حديث أبي الدرداء. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 248): فيه محمد بن سعيد بن حسان المصلوب، وهو كذاب.
(الكتاب/565)
والرَّحمة، وكان الله بكل خيرٍ إليه أسرع». وإذا كانت القلوب مجبولةً على حُبِّ من أحسن إليها، وكل إحسان وصل إلى العبد فمن الله ــ عزَّ وجلَّ ــ كما قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل/ 53] فلا ألأمَ ممَّن شغل قلبه بحب غيره دونه. قال الإمام أحمد (1): حدثنا أبو معاوية، قال: حدَّثني الأعمش عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: أوحى الله إلى داود ــ عليه السلام ــ: يا داود! أحببني، وحبِّب عبادي إليَّ، وحببني إلى عبادي. قال: يا ربِّ! هذا أنا أُحبك، وأُحبِّبُ عبادك إليك، فكيف أُحبِّبك إلى عبادك؟ قال: تذكرني عندهم، فإنهم لا يذكرون منِّي إلا الحسن. ومن أفضل ما سئل الله ــ عزَّ وجلَّ ــ حبُّه وحبُّ من يحبُّه، وحبُّ عملٍ يقرب إلى حبِّه، ومن أجمع ذلك أن يقول (2): «اللهمَّ! إني أسألك حُبَّك، وحُبَّ من يحبُّك، وحُبَّ عملٍ يقرِّبني إلى حبك، اللهمَّ! ما رزقتني مما أُحبُّ؛ فاجعله قوَّةً لي فيما تُحبُّ، وما زوْيتَ عني مما لا _________ (1) في الزهد (ص 72). وفيه «المنهال عن أبي عبد الله الجدلي». (2) لم أجد الدعاء بهذا السياق فيما رجعت إليه من المصادر، ولعل المؤلف جمع فيه ما رُوِي مفرقًا، والفقرة الأولى منه أخرجها الترمذي (3235) من حديث معاذ. والفقرة الثانية أخرجها الترمذي (3491) من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي. والفقرة الثالثة أخرجها الترمذي (3490) من حديث أبي الدرداء.
(الكتاب/566)
أحب؛ فاجعله فراغًا لي فيما تُحبُّ؛ اللهم! اجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من أهلي، ومالي، ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم! حبّبني إليك، وإلى ملائكتك، وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين. واجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك وعبادك الصالحين. اللهمَّ! أحي قلبي بحبِّك، واجعلني لك كما تحبُّ. اللهم! اجعلني أُحبُّك بقلبي كلِّهِ، وأرضيك بجهدي كله. اللهم! اجعل حبي كله لك، وسعيي كله في مرضاتك. وهذا الدعاء هو فُسطاط خيمة الإسلام؛ الذي قيامُها به، وهو حقيقةُ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والقائمون بحقيقة ذلك هم: {بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج/ 33] والله سبحانه تعرَّف إلى عباده من أسمائه، وصفاته، وأفعاله بما يوجب محبتهم له، فإن القلوب مفطورةٌ على محبة الكمال، ومن قام به، والله ــ سبحانه وتعالى ــ له الكمالُ المطلق [159 ب] من كل وجهٍ؛ الذي لا نقص فيه بوجهٍ ما، وهو سبحانه الجميل الذي لا أجمل منه، بل لو كان جمالُ الخلق كلهم على رجل واحدٍ منهم، وكانوا جميعُهم بذلك الجمال لما كان لجمالهم نسبةٌ قطُّ إلى جمال الله، بل كانت النسبة أقل من نسبة سراجٍ ضعيفٍ جدًّا إلى جرم الشمس {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل/ 60]. وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «إن الله جميلٌ يحب الجمال» عبد الله
(الكتاب/567)
ابن عمرو بن العاص (1)، وأبو سعيدٍ الخُدْريُّ (2)، وعبد الله بن مسعودٍ (3)، وعبد الله بن عمر بن الخطاب (4)، وثابت بن قيس (5)، وأبو الدَّرداءِ (6)، وأبو هريرة (7)، وأبو ريحانة (8) رضي الله عنهم. ومن أسمائه الحسنى: الجميلُ، ومَنْ أحقُّ بالجمال ممن كلُّ جمالٍ في الوجود فهو من آثار صنعته، فلهُ جمال الذَّات، وجمالُ الأوصاف، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء، فأسماؤه كلُّها حُسْنى، وصفاتُه كلُّها كمالٌ، وأفعالُه كلُّها جميلةٌ، ولا يستطيع بشرٌ النظر إلى جلاله وجماله في هذه الدَّار، فإذا رأوه سبحانه في جنات عدنٍ أنْسَتْهُمْ رؤيتُه ما هم فيه من النعيم، فلا يلتفتون حينئذٍ إلى شيء غيره، ولولا حجابُ النور على وجهه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ــ تبارك وتعالى ــ ما انتهى إليه بصرُه من خلقه، كما في صحيح البخاري (9) من حديث أبي موسى ــ رضي الله عنه ــ _________ (1) أخرجه أحمد (2/ 169، 170)، والحاكم في المستدرك (1/ 26). (2) أخرجه أبو يعلى في مسنده (1055). (3) أخرجه مسلم (91). (4) أخرجه الطبراني في الأوسط (4665). (5) أخرجه الطبراني في الكبير (18/ 366). (6) لم أجده. (7) أخرجه أبو داود (4092)، والحاكم في المستدرك (4/ 181، 182). (8) أخرجه أحمد (4/ 133، 134). (9) لم أجده عند البخاري. وقد أخرجه مسلم (179) وغيره.
(الكتاب/568)
قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلماتٍ، فقال: «إن الله لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينام، يخفضُ القسط، ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابُهُ النُّور لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». وقال عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ: ليس عند ربكم ليلٌ، ولا نهار، نور السموات من نور وجهه، وإنَّ مقدار كل يوم من أيامكم عند الله اثنتا عشرة ساعة، فتُعرضُ عليه أعمالُكم بالأمس أول النهار أو اليوم، فينظرُ فيها ثلاث ساعات، فيطَّلع منها على بعض ما يكره، فيغضبه ذلك، فأوّلُ من يعلمُ بغضبه الذين يحملون العرش، يجدونه يثقُل عليهم فيُسبِّحه الذين [160 أ] يحملون العرش، وسرادقات العرش، والملائكة المقرَّبون، وسائرُ الملائكة، وينفخ جبريلُ في القرن، فلا يبقى شيءٌ إلَّا سمعه إلَّا الثقلين: الجنَّ والإنس، فيسبحونه ثلاث ساعات، حتى يمتلئ الرَّحمن رحمةً، فتلك ستُّ ساعاتٍ، ثم يُؤْتَى بما في الأرحام، فينظر فيها ثلاث ساعات، فيصوركم في الأرحام كيف يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فتلك تسع ساعات، ثم ينظر في أرزاق الخلق كلهم ثلاث ساعات، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيءٍ عليم، ثم قرأ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/ 29]. ثم قال عبد الله: هذا من شأنكم، وشأْن ربِّكم تبارك وتعالى.
(الكتاب/569)
رواه عثمان بن سعيد الدارمي (1): حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة عن الزبير بن عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله الفهري، عن ابن مسعودٍ ــ رضي الله عنه ــ، ورواه الحسن بن إدريس عن خالد بن الهيَّاج، عن أبيه عن عبّاد بن كثير، عن جعفر بن الحارث، عن معدان، عن ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ قال: إنَّ ربكم ليس عنده نهار ولا ليلٌ، وإن السموات مملوءاتٌ نورًا من نور الكرسي، وإن يومًا عند ربك اثنتا عشرة ساعةً، فتُرفعُ فيها أعمال الخلائق في ثلاث ساعات، فيرى فيها ما يكره، فيغضبه ذلك، وإن أوّل من يعلم بغضبه حملةُ العرش، يرونه يثقُل عليهم فيسبّحون له، ويسبح له سُرادقاتُ العرش في ثلاث ساعات من النَّهار، حتى يمتلئ ربنا رضًا، فتلك ستُّ ساعاتٍ من النهار، ثم يأْمر بأرزاق الخلائق، فيعطي من يشاء ويقتر على من يشاء في ثلاث ساعات من النهار، فتلك تسع ساعاتٍ، ثم تُرفع إليه أرحام كل دابة، فيخلق فيها ما يشاء، ويجعل المدة لمن يشاء في ثلاث ساعات من النهار، فتلك اثنتا عشرة ساعةً، ثم تلا ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ هذه الآية: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/ 29] هذا من شأن ربنا تبارك وتعالى. وفي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعا به يوم الطائف: «أعوذُ بنور [160 ب] وجهك الذي أشرقت له الظُّلماتُ، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة أن _________ (1) في ردّه على بشر المريسي (ص 91).
(الكتاب/570)
يحلَّ عليَّ غضبُك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» (1). فإذا جاء سبحانه وتعالى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده تشرق لنوره الأرض كلُّها، كما قال الله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر/ 69] وقولُ عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ: نورُ السموات والأرض من نور وجهه، تفسيرٌ لقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور/ 35]. وفي الصحيحين من حديث أبي بكر (2) ــ رضي الله عنه ــ في استفتاح النبي - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل: «اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن». وفي سنن ابن ماجه (3)، وحرب الكرماني من حديث الفضل بن عيسى الرَّقاشيِّ، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله ــ رضي الله عنهما ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بينا أهل الجنة في نعيمهم؛ إذْ سطع لهم نورٌ، فرفعوا رُؤُوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم، _________ (1) ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (1/ 420). وأخرجه الطبراني في كتاب الدعاء (1036)، والمعجم الكبير (25/ 346) من حديث عبد الله بن جعفر. (2) بل من حديث ابن عباس، كما رواه البخاري (6317)، ومسلم (769). (3) برقم (184). وأخرجه أيضًا البزار (3/ 67)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 274 - 275)، وابن عدي في الكامل (6/ 13)، والآجري في الشريعة (615)، والدارقطني في الرؤية (51). قال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف.
(الكتاب/571)
فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة! وذلك قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس/ 58] فيرفعون رؤوسهم، فينظرون إليه، وينظر إليهم، ولا يلتفتون إلى شيءٍ من النعيم حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم وعلى ديارهم ومنازلهم». لفظ حديث حرب: «فما ظنُّ المُحبين بلذّة النظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم؟». وقد كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أسألُك لذَّة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك». ذكره الإمام أحمد، والنسائيُّ، وابنُ حبان في صحيحه (1). فاسمع الآن شأن أوليائه وأحبائه عند لقائه، ثم اختر لنفسك (2): أنت القتيلُ بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي قال هشامُ بن حسَّان عن الحسن: إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى؛ نسوا نعيم الجنة. وقال هشام بن عمَّار (3): حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، حدثنا سعيد بن عبد الله [161 أ] الجرشي _________ (1) أخرجه أحمد (4/ 264)، والنسائي (3/ 54 - 55)، وابن حبان (1971)، وأبو يعلى في مسنده (1624)، والحاكم في المستدرك (1/ 524). وهو حديث صحيح. (2) البيت لابن الفارض في ديوانه (ص 151). (3) وأخرجه أبو نعيم في صفة الجنة (397) مختصرًا من طريق آخر عن أبي إسحاق به. وفي إسناده الحارث الأعور وهو ضعيف، واتهم بالكذب.
(الكتاب/572)
القاضي: أنه سمع أبا إسحاق الهمدانيَّ يحدث عن الحارث الأعور، عن عليِّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ رفعه قال: «إن الله إذا أسكن أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النار، بعث إلى أهل الجنة الروح الأمين فيقول: يا أهل الجنة! إن ربكم يقرئكم السلام، ويأمركم أن تزوروه إلى فناء الجنة، وهو أبطح الجنة، تُربته المسك، وحصباؤُه الدُّرُّ والياقوت، وشجرهُ الذهب الرطب، وورقه الزُّمُرُّد، فيخرج أهل الجنة مستبشرين مسرورين، فثَمَّ يجمعهم، وثَمَّ كرامةُ الله، والنظر إلى وجهه، وهو موعد الله أنجزهُ لهم، فيأذن الله لهم في السماع، والأكل، والشرب، ويكسون حلل الكرامة، ثم ينادي منادٍ: يا أولياء الله! هل بقي مما وعدكم ربكم شيء؟ فيقولون: لا، وقد أنجزنا ما وعدنا، فما بقي شيءٌ إلا النظر إلى وجهه، فيتجلى لهم الربُّ في حجبٍ، فيقول: يا جبريل! ارفع حجابي لعبادي؛ كي ينظروا إلى وجهي. قال: فيرفع الحجاب الأوَّل، فينظرون إلى نور من نور الرب، فيخرون له سجدًا، فيناديهم الرب: يا عبادي! ارْفعوا رؤوسكم؛ فإنها ليست بدار عملٍ، إنما هي دارُ ثوابٍ، فيرفع الحجاب الثاني، فينظرون أمرًا هو أعظم وأجلُّ، فيخرون لله حامدين ساجدين، فيناديهم الربُّ: ارفعوا رؤوسكم، إنها ليست بدار عمل، إنما هي دارُ ثوابٍ، ونعيم مُقيمٍ. فيرفع الحجاب الثالث، فعند ذلك ينظرون إلى وجه رب العالمين، فيقولون حين ينظرون إلى وجهه: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك، فيقولُ: كرامتي أمكنتكم من النظر إلى وجهي وأحلتْكم داري. فيأذنُ الله للجنَّة أن تتكلم، فتقول: طوبى لمن سكنني!
(الكتاب/573)
وطوبى لمن يخلد فِيَّ! وطوبى لمن أُعددتُ له! وذلك قول الله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد/ 29] وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة/ 22 ــ 23]. وفي الصحيحين (1) من حديث أبي موسى ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جنتان من [161 ب] ذهب، آنيتُهما، وحليتُهُما، وما فيهما، وجنتان من فضةٍ، آنيتهما، وحليتهما، وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلَّا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدنٍ». وذكر عثمان بن سعيد الدَّارميُّ (2): حدثنا أبو الرَّبيع، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن كعب، قال: ما نظر الله إلى الجنة إلا قال: طيبي لأهلك! فزادت طيبًا على ما كانت، وما من يوم كان عيدًا في الدنيا إلا يخرجون في مقداره إلى رياض الجنة، ويبرزُ لهم الربُّ تبارك وتعالى، فينظرون إليه، وتسفي عليهم الريح بالطيب، والمسك، فلا يسألون ربهم ــ تبارك وتعالى ــ شيئًا إلا أعطاهم، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا على ما كانوا عليه من الحسن والجمال سبعين ضعفًا. _________ (1) البخاري (4597)، ومسلم (180). (2) في الرد على الجهمية (ص 201). وأخرجه أيضًا الآجري في الشريعة (573)، وأبو نعيم في صفة الجنة (ص 21). وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.
(الكتاب/574)
وقال عبد بن حميد (1) أخبرني شبابةُ عن إسرائيل، حدثنا ثُوير بن أبي فاختة: سمعت ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أدنى أهل الجنة منزلةً من ينظرُ إلى خدمه، ونعيمه، وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوةً، وعشيَّةً» ثم تلا هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة/ 22 ــ 23] رواه الترمذي (2) في جامعه عنه. وذكر عثمان بن سعيد الدارميُّ (3) عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الجنة إذا بلغ منهم النعيمُ كلَّ مبلغ، وظنُّوا أن لا نعيم أفضلُ منه؛ تجلَّى لهم الربُّ ــ تبارك وتعالى ــ فنظروا إلى وجه الرحمن، فنسوا كلَّ نعيمٍ عاينُوهُ حين نظروا إلى وجه الرحمن». وقال الحسن البصري في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة/ 22 ــ 23] قال: حسَّنها تبارك وتعالى بالنظر إليه ــ سبحانه ــ _________ (1) في المنتخب من مسنده (819). (2) برقم (3330). وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 13، 64)، والحاكم في المستدرك (2/ 509، 510). وفي إسناده ثوير، وهو ضعيف. (3) في الرد على الجهمية (189)، والرد على بشر المريسي (229). وأخرجه الدارقطني في الرؤية (193)، وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو متهم.
(الكتاب/575)
وحقَّ لها أن تنضَر وهي تنظر إلى ربها عزَّ وجلَّ. قال أبو سليمان الدَّارانيُّ: لو لم يكن لأهل المحبَّة ــ أو قال: المعرفة ــ إلا هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة/ 22 ــ 23] لاكتفوا بها. وذكر النسائي (1) من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، [162 أ] عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ قال: قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تُضامُون في رُؤية الشمس في يوم لا غيم فيه،، وفي القمر ليلةَ البدر لا غيمَ فيها؟» قلنا: لا! قال: «فإنكم سترون ربكم حتَّى إن أحدكم ليُحاضرُهُ مُحاضرةً، فيقولُ: عبد ي! هل تعرفُ ذنب كذا وكذا؟ فيقول: ربِّ! ألم تغفر لي؟ فيقول: بمغفرتي صِرتَ إلى هذا». وفي الصحيحين (2) من حديث مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخُدري ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا، وسعديك، والخير في يديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحدًا من خلقك! فيقولُ: ألا أُعطيكُمْ _________ (1) في السنن الكبرى (7763). وإسناده صحيح. (2) البخاري (6549، 7518)، ومسلم (2829).
(الكتاب/576)
أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربِّ! وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخطُ عليكُم أبدًا». وفي الصحيح، والسُّنن، والمسانيد (1) من حديث ثابت البُناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب ــ رضي الله عنه ــ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة؛ نادى مناد: يا أهل الجنَّة! إنَّ لكم عند الله موعدًا يُريد أن يُنجزَكُمُوهُ. فيقولون: ما هو؟! ألمْ يُبَيِّضْ وُجُوهنا، ويُثقِّلْ موازِيننا، ويُدْخِلْنَا الجنَّة، ويُجِرْنَا من النَّارِ؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله! ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقرَّ لأعْيُنِهمْ». وفي صحيح البخاري (2) من حديث جرير بن عبد الله، قال: كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: «إنكم سترون ربَّكم كما ترون هذا القمر لا تُضامُّون في رُؤيتِهِ، فإن استطعتُم ألَّا تُغْلبوا على صلاةٍ قبْل طُلوعِ الشمس، وقبْل غُروبها؛ فافعلوا». وفي الصحيحين (3) من حديث الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ: أنَّ الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى _________ (1) أخرجه مسلم (181)، وأحمد (4/ 332، 333)، والترمذي (2552)، وابن ماجه (187). (2) برقم (7434 ومواضع أخرى)، وأخرجه أيضًا مسلم (633). (3) البخاري (7437)، ومسلم (182).
(الكتاب/577)
ربَّنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل تضارُّون [162 ب] في القمر ليلة البدر؟» قالوا: لا يا رسول الله! قال: «فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله! قال: «فإنكم ترونه كذلك» وفي لفظٍ: «فإنكم لا تُضارُّون في رُؤية ربكم إلَّا كما تُضارُّون في رؤْيتهما». وقال الترمذيُّ (1): حدَّثنا قُتيبة، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة ــ رضي لله عنه ــ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيدٍ واحدٍ، ثم يطلع عليهم ربُّ العالمين ــ تبارك وتعالى ــ فيقول: ألا ليتَّبع كلُّ إنسانٍ ما كان يعبد، فيمثَّل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون، فيطلع عليهم ربُّ العالمين ــ تبارك وتعالى ــ فيقولُ: ألا تتبعون الناس؟ فيقولون: نعوذ بالله منك! نعوذ بالله منك! نعوذ بالله منك! الله ربُّنا! هذا مكانُنا حتى نرى ربَّنا، ثم يأمرهم ويُثبِّتُهم. ثم يتوارى، ثم يطلع عليهم، فيقول: ألا تتبعون الناس؟ فيقولون: نعوذ بالله منك! نعوذ بالله منك! الله ربنا، وهذا مكاننا حتَّى نرى ربنا، وهو يأمرهم ويُثبِّتُهُم». قالوا: وهل نراهُ يا رسول الله؟! قال: «وهل تُضارُّون في رُؤيةِ القمرِ ليلةَ البدر؟» قالوا: لا يا رسول الله! قال: «فإنكم لا تُضارُّون في رُؤيته تلك _________ (1) برقم (2557).
(الكتاب/578)
الساعة». قال: «ثُمَّ يتوارى، ثم يطلعُ، فيُعرِّفهم نفسه فيقول: أنا ربكم فاتبعوني! فيقوم المسلمون، ويوضع الصراطُ، فيمرون عليه مثل جياد الخيل، والركاب، وقولهم عليه: سلِّم سلِّم، ويبقى أهل النار فيطرح منهم فيها فوجٌ، فيقالُ: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ ثم يطرح فيها فوجٌ فيقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ حتى إذا أوعَبُوا فيها؛ وضع الرحمن ــ تبارك وتعالى ــ فيها قدمهُ. فانزوى بعضُها إلى بعض، وقالت: قط قطْ. فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار؛ أُتي بالموت مُلبيًا، فيُوقفُ على السُّور؛ الذي بين أهل الجنة وأهل النار، ثم يقالُ: يا أهل [163 أ] الجنَّة! فيطلعون خائفين، ثم يُقالُ: يا أهل النار! فيطلعون مستبشرين، يرجون الشفاعة، فيُقالُ لأهل الجنة وأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيقولون هؤلاء وهؤلاء: قد عرفناهُ، هو الموت الذي وُكل بنا، فيضجع، فيُذبحُ ذبْحًا على السُّور. ثمَّ يُقالُ: يا أهل الجنة! خلودٌ، ولا موتٌ، ويا أهل النَّار! خُلودٌ، ولا موتٌ». قال التِّرمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأصله في الصحيحين، لكن هذا السياقُ أجمع وأخصر. وفي لفظٍ للترمذي (1): «فلو أن أحدًا مات فرحًا؛ لمات أهلُ الجنة، ولو أن أحدًا مات حزنًا؛ لماتَ أهلُ النَّار». _________ (1) برقم (2558) من حديث أبي سعيد الخدري. وفي إسناده عطية بن سعد العوفي وسفيان بن وكيع، وهما ضعيفان.
(الكتاب/579)
وفي مسند الحارث بن أبي أُسامة (1) من حديث أبي قرَّة عن مالك، عن زياد بن سعد، حدثنا أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد الله ــ رضي الله عنهما ــ يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا كان يوم القيامة جُمعت الأممُ، ودُعي كُلُّ أُناسٍ بإمامهم، فجئنا آخر النَّاس، فيقولُ قائلٌ من الناس: من هذه الأمة؟ قال: فيشرف إلينا الناس، فيقال: هذه الأمة الأمينة، هذه أُمة محمدٍ، وهذا محمدٌ في أُمَّتِهِ. فيُنادي مُناد: إنكم الآخرون الأوَّلون. قال: فنأْتي، نتخطى رقاب الناس حتى نكون أقرب الناس إلى الله تعالى منزلة، ثم يدعى الناس كل أُناس بإمامهم، فيُدعى اليهود، فيقال: من أنتم؟ فيقولون: نحن اليهود. فيقال: من نبيكم؟ فيقولون: نبينا موسى. فيقول: ما كتابكم؟ فيقولون: كتابنا التوراة. فيقول: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزيرًا، ونعبدُ الله. فيقول للملأ حوله: اسلُكُوا بهم في جهنم! ثم يُدعى النصارى، فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن النصارى. فيقول: من نبيكم؟ فيقولون: نبينا عيسى. فيقول: ما كتابكم؟ فيقولون: كتابنا الإنجيل. فيقول: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد عيسى، وأمه، والله. فيقول للملأ حوله: اسلكوا بهؤلاء في جهنم. فيُدعى عيسى، فيقول لعيسى: يا [163 ب] عيسى! {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة/ 116] فيقول: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ _________ (1) لم أجده في «بغية الباحث»، وأخرجه الدارقطني في الرؤية (54). وهو غريب من حديث مالك ..
(الكتاب/580)
مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة/ 116] إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة/ 118]. ثم يدعى كل أُناس بإمامهم، وما كانوا يعبدون، ثم يصرخُ الصارخُ: أيُّها الناس! من كان يعبد إلهًا؛ فليتبعه، تقدمهم آلهتُهُمْ، منها: الخشب والحجارة، ومنها: الشمس والقمر، ومنها: الدَّجَّال، حتى يبقى المسلمون، فيقف عليهم، فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن المسلمون! قال: خيرُ اسمٍ، وخيرُ داعيةٍ، فيقول: من نبيكم؟ فيقولون: محمدٌ! فيقول: ما كتابكم؟ فيقولون: القرآن! فيقول: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله وحده لا شريك له. قال: سينفعكم ذلك إن صدقتم، قالوا: هذا يومنا الذي وعدنا، فيقول: أتعرفون الله إن رأيتُموه؟ فيقولون: نعم! فيقول: وكيف تعرفونه، ولم تروه؟ فيقولون: نعم أنه لا عدل له. قال: فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى، فيقولون: أنت ربنا تباركت أسماؤُك، ويخرُّون لهُ سجدًا، ثم يمضي النُّور بأهله». وفي مسند الإمام أحمد (1) ــ رضي الله عنه ــ من حديث أبي الزبير، قال: سألت جابرًا عن الورود، فأخبرني: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «نجيء يوم القيامة على كوم فوق الناس، فتدعى الأمم بأوثانها، وما كانت تعبد، الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم! فيقولون: حتى ننظر إليك، قال _________ (1) 3/ 345 - 346. وأخرجه أيضًا مسلم (191).
(الكتاب/581)
فيتجلى لهم يضحك، فيتَّبعونهُ». وذكر عثمان بن سعيد الدارمي (1) أن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري أتى عمر بن عبد العزيز، فقال: حدثنا أبو موسى الأشعري ــ رضي الله عنه ــ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يجمع الله الأمم يوم القيامة في صعيد واحد، فإذا بدا له أن يصدع بين خلقه؛ مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون، فيتبعونهم حتى يُقحمُوهم النار، ثم يأتينا ربُّنا؛ ونحن في مكانٍ، فيقول: من أنتم؟ فنقول: نحن المؤمنون! فيقول: ما تنتظرون؟ [164 أ] فنقول: ننتظر ربنا! فيقول: من أين تعلمون أنه ربُّكم؟ فنقول: حدثتنا الرسل ــ أو جاءتنا الرسل ــ فيقول: هل تعرفونه؟ فنقول: نعلم أنه لا عدل له، فيتجلى لنا ضاحكًا، ثم يقول: أبشروا معشر المسلمين! فإنه ليس منكم أحدٌ إلا وقد جعلت مكانه في النار يهوديًا، أو نصرانيًا» فقال عمر لأبي بردة: آلله، لقد سمعت أبا موسى يحدث بهذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قال: إي والله الذي لا إله إلَّا هو لقد سمعت أبي يذكره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مرَّةٍ، ولا مرَّتين، ولا ثلاثًا! فقال عمر بن عبد العزيز: ما سمعت في الإسلام حديثًا هو أحبُّ إليَّ منه. _________ (1) في الرد على الجهمية (180). وأخرجه أيضًا الدارقطني في الرؤية (39). وأخرجه أحمد (4/ 407)، وعبد بن حميد في مسنده (540) مختصرًا. وإسناده ضعيف، فيه علي بن زيد وهو ضعيف.
(الكتاب/582)
وفي الترمذي (1) من حديث الأوزاعي: حدثني حسانُ بن عطية، عن سعيد بن المسيب: أنه لقي أبا هريرة ــ رضي الله عنه ــ فقال أبو هريرة: أسأل الله تعالى أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنَّة، فقال سعيد: أَوَ فيها سوق؟! فقال: نعم، أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن أهل الجنَّة إذا دخلوها؛ نزلوا فيها بفضل أعمالهم، فيُؤذنُ لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون الله تبارك وتعالى، فيبرز لهم عرشه، ويتبدَّى لهم في روضةٍ من رياض الجنة، فيوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم ــ وما فيهم دنيءٌ ــ على كُثبانِ المسكِ والكافور، ما يرون أنَّ أهل الكراسي أفضلُ منهم مجلسًا». قال أبو هريرة: قلتُ: يا رسول الله! وهل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «نعم! هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟» قلنا: لا، قال: «كذلك لا تمارون في رؤية ربكم، ولا يبقى في ذلك المجلس أحدٌ إلَّا حاضرهُ الله تعالى محاضرةً، حتى يقول للرجل منهم: يا فلان بن فلان! أتذكرُ يوم كذا، عملت كذا، وكذا؟ فيُذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟! فيقولُ: بلى! فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه. قال: [164 ب] فبينا هُمْ على ذلك غشيتهم سحابةٌ من فوقهم، _________ (1) برقم (2549). وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4336). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. فالحديث ضعيف.
(الكتاب/583)
فأمطرت عليهم طيبًا، لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قطُّ، ثم يقولُ: قوموا إلى ما أعددتُ لكم من الكرامة، فخذوا ما اشتهيتُم! فنأتي سوقًا قد حفَّت به الملائكة، فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذانُ، ولم يخطر على القلوب، فيُحمل إلينا ما اشتهينا، ليس يُباعُ فيه شيءٌ، ولا يُشترى، وفي ذلك السُّوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضًا، فيُقبلُ الرَّجُل ذو المنزلة الرَّفيعة، فيلقى من هو دونهُ ــ وما فيهم دنيٌّ ــ فيروعه ما يرى عليه من اللباس، فما ينقضي آخرُ حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه، وذلك: أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يحزن فيها، ثم ننصرفُ إلى منازلنا، فتتلقانا أزواجنا، فيقلن: مرحبًا وأهلًا! لقد جئت، وإن بك من الجمال والطيب أكثر مما فارقتنا عليه، فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا». وقال يعقوب بن سفيان في مسنده (1): حدثنا ابن المصفى، حدثنا سويد بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن خالد، عن زيد بن عليٍّ، عن أبيه، عن جدِّه، عن عليِّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يزور أهل الجنة الربَّ تبارك وتعالى في كل يوم جمعة» وذكر ما يعطون. قال: ثم يقول الله تعالى: اكشفوا الحجب! فيكشفون حجابًا، ثم حجابًا، حتى يتجلى لهم عن وجهه ــ تبارك وتعالى ــ وكأنهم لم يروا نعمة قبل ذلك، وهو قول الله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق/ 35]. _________ (1) أخرجه اللالكائي في «شرح اعتقاد أهل السنة» (852). وفي إسناده عمرو بن خالد الواسطي متروك، ورماه وكيع بالكذب. فالحديث موضوع.
(الكتاب/584)
وذكر عثمان بن سعيد الدارمي (1) من حديث الحسن ــ رضي الله عنه ــ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا: أنه قال: «يأتينا ربُّنا يوم القيامة ونحن على مكان رفيع، فيتجلى لنا ضاحكًا» مرسل صحيح. وقال عثمانُ الدارميُّ (2): حدثنا أبو موسى، حدثنا أبو عوانة، حدثنا الأجلحُ، حدثنا الضحاك بن مزاحم، قال: إن الله يأمر السماء يوم القيامة، فتنشقُّ بمن فيها، فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمرُ السماء الثانية ــ حتى ذكر سبع سموات ــ [165 أ] فيكونون سبعة صفوف قد أحاطوا بالناس، ثم ينزل الملك الأعلى ــ جلَّ جلاله ــ في بهائه وجماله، ومعه ما شاء من الملائكة. وقال عثمان بن سعيد (3): حدثنا هشام بن خالد الدمشقي ــ وكان ثقةً ــ حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غُفرة، عن أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جاءني جبريل، وفي كفه مرآةٌ، فيها نُكتةٌ سوداءُ، فقلت: ما هذه _________ (1) في الرد على الجهمية (139). (2) في الرد على الجهمية (143). (3) في الرد على الجهمية (144، 186). وأخرجه أبو يعلى (4089، 4228)، والطبراني في المعجم الأوسط (6731)، والدارقطني في الرؤية (65). قال ابن أبي حاتم في المراسيل (116) بعد ما ذكر الحديث: «قال أبي: عمر مولى غفرة لم يلق أنس بن مالك». والحديث صحيح بطرقه.
(الكتاب/585)
ياجبريل؟! قال: هذه الجمعة، أرسل بها إليك ربك، فتكون هدًى لك ولأمتك من بعدك. فقلت: وما لنا فيها؟ قال: لكم فيها خيرٌ كثيرٌ، أنتم الآخرون السابقون يوم القيامة، وفيها ساعةٌ لا يُوافقُها عبد مؤمنٌ، يصلي، يسأل الله خيرًا هُو له قسم إلَّا أتاهُ، ولا خيرًا ليس له بقسمٍ إلَّا ذُخرَ لهُ أفضلُ منه، ولا يستعيذُ بالله من شر ما هو مكتوب عليه إلَّا دُفع عنه أكثرُ منه. قلت: ماهذه النكتةُ السوداء؟ قال: هذه الساعةُ يوم تقوم القيامة، وهو سيدُ الأيام، ونحن نُسميه عندنا يوم المزيد. قلت: ولم تُسمونه يوم المزيد يا جبريل؟! قال: لأنَّ ربك اتَّخَذَ في الجنَّة واديًا أفْيح من مسكٍ أبيض، فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة؛ هبط الجبارُ عن عرشه إلى كرسيه إلى ذلك الوادي، وقد حفَّ الكرسي بمنابر من نور، يجلس عليها الصديقون، والشهداء يوم القيامة، ثم يجيءُ أهل الغُرف، حتى يُحْفوا بالكثيب، ثم يبدو لهم ذو الجلال والإكرام ــ تبارك وتعالى ــ فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممتُ عليكم نعمتي، وأحللتكم دار كرامتي، فسلوني! فيقولون بأجمعهم: نسأل الرضا عنا! فيشهد لهم على الرضا، ثم يقول لهم: سلوني! فيسألونه حتى تنتهي نهمةُ كل عبد منهم، ثم يقول: سلوني! فيقولون: حسبنا ربنا! رضينا! فيرجع الجبارُ ــ جلَّ جلالُهُ ــ إلى عرشه، فيُفتحُ لهم بقدر إشراقهم من يوم الجمعة ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، [165 ب] ولا خطر على قلب بشر، ويرجع أهل الغُرف إلى غُرفهم، وهي غُرفةٌ من لُؤلؤةٍ بيضاء، وياقوتة حمراء، وزمرُّدةٍ خضراء، ليس فيها قصمٌ، ولا وصمٌ، مطرِدةٌ فيها أنهارُها، مُتدليةٌ فيها
(الكتاب/586)
ثمارُها، فيها أزواجها، وخدمها، ومساكنها، فليسوا إلى يوم أحوج منهم إلى يوم الجمعة؛ ليزدادوا فضلًا من ربهم ورضوانًا». رواه عن أنسٍ جماعةٌ، منهم: عثمان بن عمير أبي اليقظان، ومن طريقه رواه الشافعي في مسنده (1)، وعبد الله بن الإمام أحمد في «السنة» (2)، ومنهم: أبو صالح، والزُّبير بن عديٍّ، وعليُّ بن الحكم البناني، وعبد الملك بن عمير، ويزيد الرَّقاشيُّ، وعبد الله بن بريدة، كلُّهم عن أنسٍ، وصححه جماعةٌ من الحفَّاظ، وزاد الشافعي في مسنده في آخره: «وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش». وساقه عثمان بن أبي شيبة من طرقٍ، وقال في بعضها: «ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممتُ عليكم نعمتي، وهذا محلُّ كرامتي» إلى أن قال: «ثمَّ يرتفعُ على كرسيه، ويرتفع معه النبيُّون، والصديقون، والشهداء، ويرجع أهل الغُرفِ إلى غُرَفِهِم». وروى محمَّد بن الزِّبرقان (3)، عن مقاتل بن حيَّان، عن أبي الزُّبير، عن جابر ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أهلَ الجنَّة ليحتاجون إلى العلماء في الجنَّة، كما يحتاجون إليهم في الدنيا، وذلك _________ (1) 1/ 126 - 127 (من ترتيب السندي). وفيه «عبيدالله» بدل «عثمان»، وهو تحريف. (2) 1/ 250 ـ 251. (3) روى عنه مجاشع بن عمرو، قال الذهبي في الميزان (3/ 437) بعد ذكره للحديث: هذا موضوع.
(الكتاب/587)
أنَّهم يزورون ربهم في كلِّ جمعة، فيقول لهم: تمنَّوا! فيقولون: وما نتمنَّى، وقد أدخلتنا الجنَّة، وأعطيتنا ما أعطيتنا؟ فيقال لهم: تمنَّوا فيلتفتون إلى العلماء» وذكر الحديث في قصَّة الجمعة. وروى ابنُ منده (1) من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة ــ رضي الله عنه ــ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قصَّة الجمعة بطولها، وفيها يقول: «سلوني! فيقولون: أرنا وجهك ربَّ العالمين ننظرُ إليك! فيكشفُ الله تبارك وتعالى تلك الحُجُب، ويتجلَّى لهم، فينظرون إليه». وذكر عثمان الدارمي (2) عن محمد بن كعب القُرَظيِّ: أنَّه حدَّث عمر بن عبد العزيز، قال: إذا فرغ [166 أ] الله من أهل الجنَّة والنار؛ أقبل في ظللٍ من الغمام والملائكة، فيسلِّم على أهل الجنَّة في أوَّل درجةٍ، فيردُّون عليه السلام. قال القُرظي: وهذا في القرآن: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس/ 58] فيقولُ: سلوني! يفعل بهم ذلك في درجهم حتى يستويَ على عرشه، ثمَّ تأتيهم التُّحفُ من الله، تحملها الملائكة إليهم. وقال عبد الواحد بن زيدٍ عن الحسن: لو علم العابدون أنَّهم لا يرون ربَّهم في الآخرة، لذابت أنفسهم في الدنيا. وقال هشام بن حسَّان _________ (1) أخرجه البزار (7/ 288 ـ 290). وفي إسناده القاسم بن مطيب، وهو متروك. انظر: مجمع الزوائد (10/ 422). (2) في الرد على الجهمية (146).
(الكتاب/588)
عنه: أنَّه تبارك وتعالى يتجلَّى لأهل الجنَّة، فإذا رأوه نَسُوا نعيمَ الجنَّة. أعجب الصبر صبرُ المحبين، قال الشاعر (1): والصَّبر يُحمدُ في المواطن كلِّها ... إلَّا عليك فإنه لا يحمد وقف رجل على الشِّبليِّ، فقال: أيُّ الصَّبر أشدُّ على الصابرين؟ قال: الصبر في الله. فقال السَّائل: لا! فقال: الصَّبر لله. قال: لا! قال: فالصَّبر مع الله. قال: لا! قال: فما هو؟ قال: الصبرُ عن الله. فصرخَ الشبليُّ صرخةً كادت روحهُ تزهقُ. قال الشاعر (2): والصبرُ عنك فمذمومٌ عواقبهُ ... والصبرُ في سائر الأشياء محمودُ الخوفُ يبعدك عن معصيته، والرَّجاء يحركك إلى طاعته، والحبُّ يشوقك إليه شوقًا. لمَّا علم الله ــ سبحانه ــ أنَّ قلوب المشتاقين إليه لا تهدأ إلَّا بلقائه؛ ضرب لهم أجلًا لِلِّقاء؛ سكنًا لقلوبهم، فقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5]. يا من شكا شوقه من طول فرقته ... اصبر لعلَّك تلقى من تحب غدا (3) وسِرْ إليه بنار الشوقِ مجتهدًا ... عساك تلقى على نار الغرام هُدَى المحبُّ الصادق كلَّما قرب من محبوبه؛ زاد شوقًا إليه. وأعظمُ ما يكون الشوقُ يومًا ... إذا دنت الخيامُ من الخيام (4) _________ (1) سبق البيت. (2) البيت في الرسالة القشيرية (ص 186)، وإحياء علوم الدين (4/ 80). (3) البيت الأول في الرسالة القشيرية (ص 330). (4) سبق البيت.
(الكتاب/589)
كلَّما وقع بصرُ [166 ب] المحبِّ على محبوبه، أحدثت له رؤيته شوقًا على شوقه. ما يرجعُ الطرفُ عنه حين يُبْصره ... حتَّى يعود إليه الطرف مشتاقا (1) المحبُّ الصادقُ إذا سافر طرفُه في الكون؛ لم يجد له طريقًا إلَّا على محبوبه، فإذا انصرفَ بصره عنه؛ رجع إليه خاسئًا وهو حسير. ويَسْرح طرفي في الأنام وينثني ... وإنسانُ عيني في الدموع غريق فيرجعُ مردودًا إليك وما لَه ... على أحدٍ إلَّا عليكَ طريقُ أقرُّ شيءٍ لعين المحبِّ خلوته بسرِّه مع محبوبه. حدَّثني من رأى شيخنا عُنْفُوان أمره، خرج إلى البريَّة بكرةً، فلمَّا أصحر؛ تنفَّس الصُّعداء، ثمَّ تمثَّل بقول الشاعر (2): وأخرجُ من بين البيوت لعلَّني ... أُحَدِّثُ عنك القلبَ بالسرِّ خاليا الشوق يحمل المحبَّ على العَجَلة في رضا محبوبه، والمبادرة إليها على الفور، ولو كان فيها تَلَفُه. {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه/ 83 ــ 84] قال _________ (1) البيت لأبي نواس في ديوانه (ص 257). وبلا نسبة في العقد (6/ 426)، والموشى (ص 325). (2) سبق البيت.
(الكتاب/590)
بعضهم: أراد شوقًا إليك، فستره بلفظ الرِّضا (1). ولو قلت طَأْ في النار أعلمُ أنَّه ... رضًا لك أو مُدنٍ لنا من وصالكِ لقدَّمتُ رجلي نحوها فوطئتها ... هدًى منك لي أو ضلَّةً من ضلالك لِيَهْنِك إمساكي بكفِّي على الحَشَا ... ورقراقُ عيني خشيةً من زيالك وإن ساءني أن نلتني بمساءةٍ ... لقدْ سرَّني أنِّي خطرتُ ببالك من علامات المحبَّة الصَّادقة أنَّ المحبَّ لا يتمُّ له سرورٌ إلَّا بمحبوبه، وما دام غائبًا عنه غيبته؛ فعيشُه كلُّهُ مُنغَّصٌ (2). نحن في أكمل السُّرور ولكنْ ... ليسَ إلَّا بكم يتمُّ السُّرورُ [167 أ] عيبُ ما نحنُ فيه يا أهلَ وُدِّي ... أنَّكم غُيَّبٌ ونحنُ حضور وقال آخر (3): من سرَّه العيدُ الجَديـ ... ـدُ فقد عدمتُ به السُّرورا كان السُّرورُ يتمُّ لي ... لو كان أحبابي حُضُورا _________ (1) تقدمت الأبيات و تخريجها. (2) الشعر للمهدي في الوافي بالوفيات (3/ 301)، وبهجة المجالس (1/ 821). وهو في الرِّسالة القشيرية (ص 331). (3) البيتان لأبي الفرج سلامة بن بحر القاضي في خاص الخاص (ص 500)، ومن غاب عنه المطرب (ص 105). وبلا نسبة في يتيمة الدهر (1/ 101)، والمنتحل (ص 225). وهما في الرسالة القشيرية (ص 331).
(الكتاب/591)
لو قيل للمُحبِّ على الدَّوام: ما تتمنَّى؟ لقال: لقاء المحبوب (1). ولمَّا نزلنا منزلًا طلَّه الندى ... أنيقًا وبستانًا من النَّور حاليا أجدَّ لنا طيبُ المكان وحسنُه ... مُنىً فتمنَّينا فكنت الأمانيا قال الجنيد: سمعت السَّريَّ يقول: الشوق أجلُّ مقام العارف؛ إذا تحقَّق فيه، وإذا تحقَّق بالشوق؛ لها عن كلِّ ما يشغله عمَّن يشتاق إليه. وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود ــ عليه السلام ــ: قل لِشبَّان بني إسرائيل: لم تشغلون نفوسكم بغيري، وأنا مشتاقٌ إليكم؟ ما هذا الجفاء؟ ولو يعلم المدبرون عنِّي كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، ومحبَّتي لترك معاصيهم؛ لماتوا شوقًا إليَّ، وانقطعت أوصالهم من محبَّتي. هذه إرادتي للمدبرين عنِّي، فكيف إرادتي للمقبلين عليَّ؟! وسئل الجنيد: من أي شيءٍ يكون بكاءُ المحبِّ إذا لقيَ المحبوب؟ فقال: إنَّما يكون ذلك سرورًا به، ووجدًا من شدَّة الشوق إليه. قال: ولقد _________ (1) البيتان لأبي بكر بن عبد الرحمن الزهري في حماسة أبي تمام (2/ 78)، والزهرة (1/ 378)، والتذكرة السعدية (1/ 462)، والحماسة البصرية (2/ 196)، ولمالك بن أسماء في عيون الأخبار (1/ 262)، وبهجة المجالس (1/ 122)، ولابن أبي فروة في اعتلال القلوب (ص 343)، وعنوان المرقصات والمطربات (ص 28)، وبلا نسبة في أخبار أبي القاسم الزجاجي (ص 192)، والصناعتين (ص 77)، وديوان الصبابة (ص 236).
(الكتاب/592)
بلغني: أنَّ أخوين تعانقا، فقال: أحدهما: واشوقاه! وقال الآخر: واوجداه! وكانت عجوزٌ لها غائبٌ، فقدم من السَّفر، فأظهر أهلُها الفرحَ والسُّرورَ به، فجعلت تبكي، فقيل لها: ماهذا البكاء؟ فقالت: ذكَّرني قدومُ هذا الفتى يوم القدوم على الله. وقال بعض المحبِّين: قلوبُ المشتاقين منوَّرةٌ بنور الله، فإذا تحرَّك اشتياقهم؛ أضاء النُّورُ مابين السماء والأرض، فيعرضهم الله ــ سبحانه وتعالى ــ على الملائكة، فيقول: هؤلاء المشتاقون إليَّ، أشهدكم [167 ب] أنِّي إليهم أشوق! فصل قال ابن أبي الحواري (1) ــ رحمه الله ــ: سئل أبو سليمان الدَّارني ــ رحمه الله، وأنا حاضرٌ ــ: ما أقربُ ما يُتقرَّب به إلى الله ــ عزَّ وجلَّ ــ؟ فبكى، ثمَّ قال: مثلي يُسْأل عن هذا؟ أقربُ ما يُتَقرَّب به إليه: أن يطَّلع على قلبك وأنت لا تريد من الدُّنيا والآخرة إلَّا هو. وقال يحيى بن معاذ: النُّسكُ: هو العناية بالسَّرائر، وإخراج ما سوى الله من القلب. _________ (1) الأخبار التالية كلها في ذم الهوى (ص 77).
(الكتاب/593)
وقال سهل بن عبد الله: ما من ساعةٍ إلَّا والله ــ سبحانه ــ يطَّلع فيها على قلوب العباد، فأي قلب رأى فيه غيره سلط عليه إبليس. وقال سهل: من نظر إلى الله ــ عزَّ وجلَّ ــ قريبًا منه؛ بَعُد عن قلبه كل شيء سوى الله، ومن طلب مرضاته أرضاه الله ــ سبحانه وتعالى ــ ومن أسلم قلبه إلى الله؛ تولى الله جوارحه. وقال سهل أيضًا: حرامٌ على قلبٍ أن يَشُمَّ رائحةَ اليقين؛ وفيه سكونٌ إلى غير الله، وحرامٌ على قلبٍ أن يدخله النُّورُ؛ وفيه شيءٌ ممَّا يكره الله. وسئل بعضهم عن أفضل الأعمال؛ فقال: رعايةُ السِّرِّ عن الالتفات إلى شيءٍ سوى الله ــ عزَّ وجلَّ ــ. وقال سلم: تركتموه، وأقبل بعضكم على بعض، لو أقبلتم عليه؛ لرأيتم العجائب. فصل فإن تقاصرت همتك الدَّنيَّة عن ترك الفواحش؛ محبةً لهذا المحبوب الأعلى، ولست هناك؛ فاترُكها محبةً للنِّساء اللَّاتي وصفهنَّ الله في كتابه، وبعث رسوله داعيًا إلى وصالهن في جنَّة المأوى، وقد تقدَّم ذكر بعض صفاتهن، ولذَّة وصالهنَّ. فإن تقاصرت همتُك عنهنَّ، ولم تكن كفؤًا لخطبتهن، ودعتك نفسك إلى إيثار ما هاهنا عليهنَّ؛ فكن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذر. واعلم أنَّ العقوبات تختلف، فتارةً تُعَجَّل، وتارة تؤخَّر، وتارةً يجمعُ الله على العاصي بينهما. وأشدُّ العقوبات العقوبة بسلب الإيمان، ودونها: العقوبة بموت القلب، ومحو لذَّة الذِّكر، والقراءة، [168 أ] والدُّعاء، والمناجاة منه،
(الكتاب/594)
وربما دبَّت عقوبة القلب فيه دبيبَ الظلمة إلى أن يمتلئ القلب بها، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعًا بالبدن في الدُّنيا، وأهونُ منها ما وقع بالمال، وربَّما كانت عقوبة النظر في البصيرة، أو في البصر، أو فيهما. قال الفضيل: يقول الله تعالى: ابنَ آدم! إذا كنتُ أُقلِّبك في نعمتي، وأنت تتقلَّب في معصيتي، فاحذر لئلا أصرعك بين معاصيك. ابن آدم! اتّقني، ونم حيث شئت، إنَّك إن ذكرتني ذكرتك، وإن نسيتني نسيتك، والسَّاعة التي لا تذكرني فيها عليك، لا لك. وقال الفضيل أيضًا: ما يؤمنك أن تكون بارزت الله تعالى بعمل مقتك عليه، فأغلقَ عنك أبواب المغفرة؛ وأنت تضحك؟ وقال علقمة بن مرثد: بينا رجلٌ يطوف بالبيت؛ إذ برق له ساعدُ امرأة، فوضع ساعدَه على ساعدها، فالتذَّ به، فلصقت ساعداهما، فأتى بعض أولئك الشيوخ، فقال: ارجع إلى المكان الَّذي فعلت هذا فيه، فعاهد ربَّ البيت ألَّا تعود، ففعل، فخلِّي عنه. وقال ابن عباس، وأنسٌ ــ رضي الله عنهم ــ: إنَّ للحسنة نورًا في القلب، وزينًا في الوجه، وقوَّة في البدن، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق. وإنَّ للسيئة ظلمة في القلب، وشينًا في الوجه، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرِّزق، وبغضةً في قلوب الخلق. وقال الحسن: ما عصى الله عبدٌ إلَّا أذلَّه. وقال المعتمر بن سليمان:
(الكتاب/595)
إنَّ الرَّجل ليصيب الذنبَ في السرِّ، فيصبح وعليه مذلَّته. وقال الحسن: هانوا عليه، فعصوه، ولو عزُّوا عليه؛ لعصمهم. وكان شيخ من الأعراب يدور على المجالس، ويقول: من سرَّه أن تدوم له العافية؛ فليتَّق الله. وقال أبو سليمان الداراني (1): من صفا صُفِيَ له، ومن كدَّر كُدِّرَ عليه، ومن أحسن في ليله، كُفِيَ في نهاره، ومن أحسن في نهاره؛ كُفِيَ في ليله، ومن ترك لله شهوةً من قلبه؛ فالله أكرمُ أن يُعَذِّب بها قلبَه. وكتبت [168 ب] عائشة أم المؤمنين ــ رضي الله عنها ــ إلى معاوية (2): أمَّا بعد، فإنَّ العامل إذا عمل بمعصية الله؛ عاد حامدُه من الناس ذامًّا. وقال محارب بن دثار (3): إنَّ الرَّجل ليذنب الذنبَ، فيجد له في قلبه وهنًا. وقال الحسين بن مُطَير (4): ونفسَكَ أكرِمْ عن أمورٍ كثيرةٍ ... فما لك نفسٌ بعدها تستعيرها _________ (1) انظر: ذم الهوى (ص 185)، وحلية الأولياء (9/ 256). (2) انظر: المصدر السابق (ص 182). (3) ذم الهوى (ص 183). (4) سبق البيتان و تخريجهما.
(الكتاب/596)
ولا تقرب الأمر الحرام فإنَّما ... حلاوته تفنى ويبقى مريرُها وكان سفيان الثوري يتمثَّل بهذين البيتين (1): تفنى اللَّذاذةُ ممن نال صفوتَها ... من الحرامِ ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوءٍ في مغبَّتها ... لا خيرَ في لذَّةٍ من بعدها النَّار فصل واعلم أنَّ الجزاء من جنس العمل، والقلب المعلَّق بالحرام كلَّما همَّ أن يفارقه، ويخرج منه؛ عاد إليه، ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي الآخرة هكذا. وفي بعض طرق حديث سمرة بن جندب الَّذي في صحيح البخاري (2): أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رأيت الليلة: رجلان أتياني، فأخرجاني، فانطلقت معهما، فإذا بيتٌ مبنيٌّ على مثل بناء التَّنُّور، أعلاهُ ضيِّقٌ، وأسفلُهُ واسع، يوقد تحته نار، فيه رجالٌ ونساءٌ عُراة، فإذا أوقدت النار؛ ارتفعوا حتَّى يكادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، فقلت: ما هؤلاء؟ قال: هم الزُّناة». فتأمَّل مطابقة هذا العذاب لحال قلوبهم في الدنيا، فإنَّه كلَّما همُّوا بالتوبة والإقلاع، والخروج من تنُّور نار الشهوة إلى فضاء التوبة؛ أُركسوا فيه، وعادوا بعد أن كادوا يخرجون. _________ (1) سبقا. (2) برقم (7047).
(الكتاب/597)
ولمَّا كان الكفار في سجن الكفر والشرك وضيقه، وكانوا كلَّما همُّوا بالخروج منه إلى فضاء الإيمان وسعته وروحه؛ رجعوا على حوافرهم؛ كانت عقوبتهم في الآخرة كذلك، قال الله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة/ 20] وقال في موضع آخر: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج/ 22] فالكفرُ والمعاصي، والفسوق [169 أ] كلُّه غموم، وكلَّما عزم العبد أن يخرج منه؛ أبت عليه نفسه وشيطانه ومألفُه، فلا يزالُ في غمِّ ذلك حتَّى يموت، فإن لم يخرج من غمِّ ذلك في الدنيا؛ بقي في غمِّه في البرزخ، وفي القيامة، وإن خرج من غمِّه، وضيقه هاهنا؛ خرج منه هناك، فما حبس العبد عن الله في هذه الدَّار حبسه عنه بعد الموت، وكان معذَّبًا به هناك كما كان قلبه معذبًا به في الدنيا، فليس الفسَّاق والفجرة والظَّلمة في لذَّةٍ في هذه الدار، وإنَّما هم مُعذبون فيها وفي البرزخ وفي القيامة، ولكن سكر الشَّهوة وموت القلوب حال بينهم وبين الشعور بالألم، فإذا حيل بينهم وبين ما يشتهون؛ أحضرت نفوسُهم الألمَ الشديد، وصار يعمل فيها بعد الموت نظير ما يعمل الدود في لحومهم. فالآلام تأكل أرواحهم، غيرَ أنَّها لا تفنى، والدُّودُ يأكل جسومهم. قال الإمام أحمد (1) ــ رضي الله عنه ــ: حدَّثنا إسماعيل بن عبدالكريم، _________ (1) لم أجد النص في كتبه المعروفة.
(الكتاب/598)
قال: حدَّثني عبد الصَّمد بن معقل، حدَّثني وهب بن مُنبِّه، قال: كان حزقيل قائمًا، فأتاه ملكٌ، فذكر حديثًا طويلًا، وفيه: أنَّه مرَّ بقومٍ أمواتٍ، فقيل له: ادعهم! فدعاهم، فأحياهم الله له، فقال: سَلْهم فيم كنتم؟ فقالوا: لمَّا فارقنا الحياة لقينا ملكًا، يقال له: ميكائيل فقال: هلموا أعمالكم، وخذوا أجوركم، فذلك سُنتنا فيكم وفيمن كان قبلكم، وفيمن هو كائنٌ بعدكم، فنظروا في أعمالنا، فوجدونا نعبد الأوثان، فسُلِّطَ الدُّود على أجسادنا، وجعلت الأرواح تألمُ، وسُلِّط الغمُّ على أرواحنا، وجعلت الأجساد تألم، فلم تزل كذلك معذبة حتى دعوتنا.
(الكتاب/599)
الباب السابع والعشرون فيمن ترك محبوبه حرامًا، فبُدِّل له حلالًا أو أعاضه الله خيرًا منه
عنوانُ هذا الباب، وقاعدتُه: أنَّ من ترك لله شيئًا؛ عوَّضه الله خيرًا منه، كما ترك يوسف الصِّديقُ ــ عليه السلام ــ امرأة العزيز لله، واختارَ السِّجن على الفاحشة، فعوَّضه [169 ب] الله: أن مكَّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وأتته المرأة صاغرةً، سائلةً، راغبةً في الوصل الحلال، فتزوَّجها، فلمَّا دخل بها قال: هذا خيرٌ ممَّا كنتِ تريدين. وتأمَّل كيف جزاه الله ــ سبحانه ــ على ضيق السجن: أن مكَّنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء، وأذلَّ له العزيز، وامرأته، وأقرَّت المرأة والنِّسوة ببراءته، وهذه سُنَّته تعالى في عباده قديمًا وحديثًا إلى يوم القيامة. ولمَّا عقر سليمان بن داود ــ عليهما الصلاة والسلام ــ الخيلَ التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس غضبًا لله، أعاضه الله عنها الريحَ يركب هو و عسكره على متنها حيث أراد. ولمَّا ترك المهاجرون ديارَهم لله، وأوطانهم التي هي أحبُّ شيءٍ إليهم أعاضهم الله أن فتح عليهم الدُّنيا، وملَّكهم شرقَ الأرض وغربَها. ولو اتقى الله السَّارقُ، وترك سرقة المال المعصوم لله؛ لآتاه الله مثلَه
(الكتاب/600)
حلالًا. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 ــ 3] فأخبر ــ سبحانه وتعالى ــ: أنَّه إذا اتقاه بترك ما لا يحلُّ له؛ رزقه من حيث لا يحتسب، وكذلك الزاني لو ترك ركوبَ ذلك الفرج حرامًا لله؛ لأثابه الله بركوبه، أو ركوب ما هو خيرٌ منه حلالًا. قال الإمام أحمد (1): حدثنا هشيم، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار، عن صلة، عن حذيفة بن اليمان ــ رضي الله عنهما ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «النظرُ إلى المرأة سهمٌ من سهام إبليس مسمومٌ، من تركه خوف الله؛ أثابه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه». وقال عمر بن شبَّة (2): حدَّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدَّثنا عنبسة بن عبد الرحمن، حدَّثنا أبو الحسن المزنيُّ، عن علي ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نظرُ الرَّجلِ في محاسن المرأة سهم من سهام إبليس مسموم، فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة [170 أ] تسرُّه». وقال أبو الفرج ابن الجوزي (3) ــ رحمه الله تعالى ــ: بلغني عن بعض الأشراف: أنَّه اجتاز بمقبرة، وإذا بجارية حسناءَ عليها ثيابُ سوادٍ، _________ (1) سبق تخريجه. (2) سبق تخريجه. (3) في ذم الهوى (ص 81).
(الكتاب/601)
فنظر إليها، فعلقت بقلبه، فكتب إليها: قد كنتُ أحسب أنَّ الشمس واحدة ... والبدر في منظر بالحسن موصوف حتَّى رأيتُك في أثواب ثاكلة ... سودٍ وصدغُك فوق الخَدِّ معطوف فرحتُ والقلبُ منِّي هائمٌ دنِفٌ ... والكبد حرَّى ودمعُ العين مذروف رُدِّي الجواب ففيه الشكر واغتنمي ... وصل المحبِّ الَّذي بالحُبِّ مشغوفُ ورمى بالرقعة إليها، فلمَّا قرأتها كتبت: إن كنت ذا حسبٍ زاكٍ وذا نسبٍ ... إنَّ الشريف بغضِّ الطرف معروف إنَّ الزُّناةَ أُناسٌ لا خلاقَ لهم ... فاعْلم بأنَّك يوم الدين موقوف واقطع رجاك لحاك الله من رجلٍ ... فإنَّ قلبي عن الفحشاء مصروف فلمَّا قرأ الرُّقعة؛ زجر نفسه، وقال: أليس امرأةٌ تكون أشجع منك؟ ثمَّ تاب، ولبس مدرعةً من الصُّوف، والتجأ إلى الحرم، فبينا هو في الطَّواف يومًا؛ وإذا بتلك الجارية عليها جبَّة من صوفٍ، فقالت له: ما أليق هذا بالشريف، هل لك في المباح؟ فقال: قد كنت أروم هذا قبل أن أعرف الله، وأُحبَّه، والآن فقد شغلني حبُّه عن حبِّ غيره، فقالت له: أحسنت! والله ما قلتُ لك هذا إلَّا لاختبارك؛ لأعلم حدَّ ما انتهيت إليه،
(الكتاب/602)
ثمَّ طافت، وأنشدت: فطفنا فلاحت في الطواف لوائحٌ ... غنينا بها عن كل مرأًى ومسمع وقال الحسن البصري (1): كانت امرأةٌ بغيٌّ قد فاقت أهل عصرها في الحسن، لا تمكِّن من نفسها إلَّا بمائة دينار، وإنَّ رجلًا أبصرها فأعجبته، فذهب فعمل بيديه، وعالج، فجمع مائة دينار، فجاء، فقال: إنَّك قد أعجبتني، فانطلقت، فعملت [170 ب] بيدي، وعالجت حتى جمعت مائة دينار. فقالت: ادفعها إلى القهرمان حتى ينقدها، ويزنها. فلمَّا فعل، قالت: ادخل! وكان لها بيتٌ منجَّدٌ، وسريرٌ من ذهب، فقالت: هلمَّ لك! فلمَّا جلس منها مجلس الخائن؛ تذكَّر مقامه بين يدي الله، فأخذته رِعدةٌ، وطفئت شهوتُه، فقال: اتركيني لأخرج، ولك المائة دينار! فقالت: ما بدا لك، وقد رأيتني كما زعمت، فأعجبتك، فذهبت، فعالجتَ، وكددت حتى جمعت مائة دينار، فلمَّا قدرتَ عليَّ فعلت الَّذي فعلت؟! فقال: ما حملني على ذلك إلاَّ الفرقُ من الله، وذكرت مقامي بين يديه! قالت: لئن كنت صادقًا؛ فما لي زوجٌ غيرُك. قال: ذريني لأخرج! قالت: لا؛ إلاَّ أن تجعل لي عهدًا أن تتزوَّجني. فقال: لا، حتى أخرج. قالت: فلي عليك عهد الله إن أنا أتيتك أن تتزوجني، قال: لعلَّ. فتقنَّع بثوبه، ثمَّ خرج إلى بلده، وارتحلت المرأةُ بدنياها نادمةً على ما كان منها حتى قدمت بلده، فسألت عن اسمه، _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 248 - 249).
(الكتاب/603)
ومنزله، فدُلَّت عليه، فقيل له: الملكة جاءت بنفسها تسأل عنك، فلمَّا رآها؛ شهقَ شهقةً، فمات، فسُقِطَ في يدها، فقالت: أمَّا هذا فقد فاتني، أما له من قريب؟ فقيل: بلى! أخوه رجلٌ فقير. فقالت: إنِّي أتزوجك حُبًّا لأخيك. قال: فتزوجته، فولدت له سبعة. وقال يحيى بن عامر التيمي (1): خرج رجلٌ من الحي حاجًّا، فورد بعض المياه ليلًا، فإذا هو بامرأةٍ ناشرةٍ شعرها، فأعرض عنها، فقالت له: هلمَّ إليَّ، فلم تعرض عني؟ فقال: إني أخاف الله رب العالمين! فتجلببت ثم قالت: هبتَ والله مَهابًا، إنَّ أولى من شركك في ا لهيبة لمن أراد أن يشركك في المعصية! ثم ولَّت، فتبعها، فدخلت بعض خيام الأعراب، قال: فلمَّا أصبحتُ؛ أتيت رجلًا من القوم، فسألته عنها، وقلت: فتاةٌ صفتُها كذا وكذا، فقال: هي والله ابنتي! فقلت: هل أنت مُزوِّجي بها؟ قال: على الأكفاء، فمن أنت؟ فقلت: رجلٌ من تيم الله، قال: [171 أ] كُفؤٌ كريمٌ، فما رِمْتُ حتى تزوَّجتها، ودخلتُ بها، ثمَّ قلت: جهزوها إلى قدومي من الحجِّ، فلمَّا قدمنا حملتها إلى الكوفة، وهاهي ذي عندي، ولي منها بنون وبناتٌ. قال: فقلت: ويحك ما كان تعرُّضُك لي حينئذٍ؟! قالت: يا هذا ما للنساء خيرٌ من الأزواج، فلا تعجبنَّ من امرأةٍ تقول: هويتُ، فوالله لو كان عند بعض السُّودان ما تريد من هواها؛ لكان هو هواها! _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 264 - 265).
(الكتاب/604)
وقال الحسن بن زيد (1): وَلِيَنَا بديار مصر رجلٌ، فوجد على بعض عُمَّاله، فحبسه، وقيَّده، فأشرفت عليه ابنةُ الوالي، فهويته، فكتبت إليه: أيُّها الرَّامي بعينيـ ... ــه وفي الطَّرف الحتُوف إن تُردْ وصلًا فقد أمْـ ... ــكَنَك الظَّبْيُ الألوفُ فأجابها الفتى: إن تريني زاني العيـ ... ــنين فالفرجُ عفيف ليس إلَّا النظر الفا ... ترُ والشِّعْر الظَّريف فكتبت إليه: قد أردناك فألفيـ ... ــناكَ إنسانًا عفيفا فتأبَّيت فلا زِلـ ... ــتَ لقيديك حليفا فكتب إليها: ما تأبَّيتُ لأنِّي ... كنتُ للظبي عيوفا غير أنِّي خفت ربًّا ... كان بي برًّا لطيفا فذاع الشِّعر، وبلغت القصَّة الواليَ، فدعا به، فزوَّجه إيَّاها، ودفعها إليه. _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 267 - 268). والخبر والشعر في الموشى (ص 114)، ومصارع العشاق (1/ 233، 2/ 199) وقد سبقا.
(الكتاب/605)
وذُكر (1): أنَّ رجلًا أحبَّ امرأةً، وأحبَّته، فاجتمعا، فراودته المرأة عن نفسه، فقال: إنَّ أجلي ليس بيدي، وأجلك ليس بيدك، فربما كان الأجل قد دنا، فنلقى الله عاصيين! فقالت: صدقتَ. فتابا، وحسنت حالهما، وتزوجت به. وذكر بكر بن عبد الله المزني (2): أنَّ قصَّابًا ولع بجاريةٍ لبعض جيرانه، فأرسلها أهلُها إلى حاجة في قرية أخرى، فتبعها، فراودها عن نفسها، فقالت: لا تفعل! لأنَّا أشدُّ حبًّا [171 ب] لك منِّي، ولكنِّي أخاف الله! قال: فأنت تخافينه، وأنا لا أخافه؟! فرجع تائبًا، فأصابه العطش حتى كاد ينقطع عنقُه، فإذا هو برسولٍ لبني إسرائيل، فسأله، فقال: ما لك؟ قال: العطش، فقال: تعال حتى ندعوَ الله حتى تظلَّنا سحابةٌ حتَّى ندخل القرية! قال: ما لي من عملٍ، فأدعوه، قال: فأنا أدعوه، وأمِّن أنت، فدعا، وأمَّن الرَّجل، فأظلتهما سحابةٌ حتى انتهيا إلى القرية، فذهب القصَّاب إلى مكانه، فرجعت السَّحابة معه، فرجع إليه الرسولُ، فقال: زعمت أن ليس لك عملٌ، وأنا الذي دعوتُ، وأنت أمَّنت، فأظلتنا سحابةٌ، ثمَّ تبعتك، لتُخْبرنِّي ما أمرُك؟! فأخبره، فقال الرسول: إنَّ التَّائب إلى الله بمكانٍ ليس أحدٌ من الناس بمكانه. _________ (1) أخرجه ابن الجوزي (ص 268). (2) أخرجه ابن الجوزي (ص 269 - 270).
(الكتاب/606)
وقال يحيى بن أيُّوب (1): كان بالمدينة فتًى يُعجب عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ شأنه، فانصرف ليلةً من صلاة العشاء، فتمثَّلت له امرأةٌ بين يديه، فعرَّضت له بنفسها، ففُتِنَ بها، ومضت، فأتبعها حتى وقف على بابها، فأبصر، وجُلِّيَ عن قلبه، وحضرته هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] فخرَّ مغشيًّا عليه، فنظرت إليه المرأة، فإذا هو كالميِّت، فلم تزل هي وجاريةٌ لها يتعاونان عليه حتى ألقياه على باب داره، فخرج أبوه، فرآه مُلقًى على باب الدَّار لمَا به، فحمله، وأدخله، فأفاق، فسأله: ما أصابك يا بنيَّ؟! فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره، فلما تلا الآية شهق شهقةً، فخرجت نفسه، فبلغ عمرَ ــ رضي الله عنه ــ قصَّته فقال: ألا آذنتموني بموته؟ فذهب حتى وقف على قبره، فنادى: يا فلان: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن/ 46] فسمع صوتًا من داخل القبر: قد أعطاني ربي يا عمر! وذكر الحسن (2) هذه القصة عن عمر ــ رضي الله عنه ــ على وجهٍ آخر، قال: كان شابٌّ على عهد عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ ملازمًا للمسجد والعبادة، فهويته جاريةٌ، فحدَّث نفسه بها، ثمَّ إنَّه تذكَّر، _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 252 - 253). (2) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 252).
(الكتاب/607)
وأبصر، فشهق شهقةً، غُشِيَ عليه منها، فجاء عمٌّ له، فحمله إلى [172 أ] بيته، فلمَّا أفاق؛ قال: يا عمُّ! انطلق إلى عمر، فأقرئه منِّي السلام، وقل له: ما جزاءُ من خاف مقام ربه؟ فأخبر عمر، فأتاه وقد مات، فقال: لك جنَّتان! وفي جامع الترمذي (1) من حديث ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان ذو الكفل لا يتورَّع من ذنبٍ عمله، فأتته امرأة، فأعطاها ستِّين دينارًا على أن يطأها، فلمَّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته؛ أرعدت، وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عملٌ لم أعمله قط، وإنَّما حملتني عليه الحاجةُ، قال: فتفعلين هذا وأنت لم تفعليه قط؟ ثمَّ قال: اذهبي والدنانير لك، ثمَّ قال: والله لا يعصي الله ذو الكفل أبدًا! فمات من ليلته، فأصبح مكتوبًا على بابه: قد غفر الله لذي الكفل». قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال أبو هريرة، وابن عباس (2) ــ رضي الله عنهم ــ: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته فقال في خطبته: «ومن قدر على امرأةٍ، أو جاريةٍ حرامًا، فتركها مخافةً من الله آمنه الله يوم الفزع الأكبر، وحرَّمه على النار، وأدخله الجنَّة». _________ (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه عنهما ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 244). وفي إسناده داود بن المحبّر وضَّاع.
(الكتاب/608)
وقال مالك بن دينار (1): جنات النعيم بين جنات الفردوس وبين جنَّات عدن، فيها جوارٍ خُلِقْنَ من ورد الجنَّة، يسكنها الَّذين همُّوا بالمعاصي، فلمَّا ذكروا الله عزَّ وجلَّ؛ راقبوه، فانثنتْ رقابُهم من خشية الله عزَّ وجلَّ. قال ميمون بن مهران (2): الذكر ذكران: فذكر الله ــ عزَّ وجلَّ ــ باللسان حسن، وأفضل منه أن تذكر الله ــ عزَّ وجلَّ ــ عندما تُشرِف على معاصيه. وقال قتادة (3) ــ رضي الله عنه ــ: ذُكِرَ لنا أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «لا يقدر رجلٌ على حرام؛ ثمَّ يدعه، ليس به إلَّا مخافة الله ــ عز وجلَّ ــ إلَّا أبدلَه الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خيرٌ له من ذلك». وقال عبيد بن عمير (4): صِدْقُ الإيمان وبرُّه أن يخلو الرَّجل بالمرأة الحسناء، فيدعها، لا يدعها [172 ب] إلَّا لله عزَّ وجلَّ. وقال أبو عمران الجَوني (5): كان رجلٌ من بني إسرائيل لا يمتنع من شيءٍ، فجهد أهل بيت من بني إسرائيل، فأرسلوا إليه جاريةً منهم، _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 244). (2) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 244). (3) ذكره ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 245). (4) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 245). (5) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 250).
(الكتاب/609)
تسأله شيئًا، فقال: لا، أو تمكِّنيني من نفسك، فرجعت، فجهدوا جهدًا شديدًا فرجعت إليه، فقالت: أعطنا! فقال: لا، أو تمكنيني من نفسك، فرجعت، فجهدوا جهدًا كثيرًا، فأرسلوها إليه، فقال لها ذلك، فقالت: دونك! فلمَّا خلا بها؛ جعلت تنتفض، كما تنتفض السَّعَفَة. فقال لها: ما لك؟! قالت: أخاف الله هذا شيءٌ لم أصنعه قطُّ! قال: أنتِ تخافين الله، ولم تصنعيه، وأفعلُه؟ أُعاهد الله أنِّي لا أرجع إلى شيءٍ ممَّا كنتُ فيه! فأوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائهم: أنَّ كتاب فلان أصبح في كتب أهل الجنَّة! وذُكِر (1): أنَّ شابًّا في بني إسرائيل لم يكن فيهم شابٌّ أحسن منه، كان يبيع المكاتل، فبينا هو ذات يوم يطوف بمكاتله، إذ خرجت امرأة من دار ملكٍ من ملوك بني إسرائيل، فلما رأته رجعت مبادرة فقالت لابنة الملك: إني رأيت شابًّا بالباب يبيع المكاتل، لم أرَ شابًّا قطُّ أحسن منه، قالت: أدخليه! فخرجت، فقالت: ادخل، فدخل، فأغلقت الباب دونه، ثمَّ قالت: ادخل، فدخل، فأغلقت بابًا آخر دونه، ثمَّ استقبلته بنتُ الملك كاشفةً عن وجهها، ونحرها، فقال لها: استتري، عافاك الله! فقالت: إنَّا لم ندعُك لهذا! وإنَّما دعوناك لكذا، وراودته عن نفسه، فقال لها: اتقي الله! فقالت: إنَّك إن لم تطاوعني على ما أريد؛ أخبرت الملك أنَّك إنَّما دخلت تكابدني على نفسي، فقال لها: فضعي لي وضوءًا، _________ (1) أخرجه ابن الجوزي (ص 251 - 252).
(الكتاب/610)
فقالت: أعليَّ تتعلَّل؟ يا جارية! ضعي له وضوءًا فوق الجَوسَق ــ مكانًا لا يستطيع أن يفرَّ منه ــ فلمَّا صار في أعلى الجوسق؛ قال: اللَّهم إنِّي دُعِيْتُ إلى معصيتك، وإنِّي أختار أن أُلقي نفسي من هذا الجوسق، ولا أركب معصيتك! ثمَّ قال: باسم الله، وألقى نفسه من أعلاه، فأهبط الله ملكًا أخذ بضَبْعَيه، فوقع قائمًا على رجليه، [173 أ] فلمَّا صار في الأرض؛ قال: اللَّهم إن شئت رزقتني رزقًا يغنيني عن بيع هذه المكاتل! فأرسل الله عليه رِجلًا من جراد من ذهبٍ، فأخذ منه حتى ملأ ثوبه، فلمَّا صار في ثوبه؛ قال: اللهم إن كان هذا رزقًا رزقتنيه من الدُّنيا؛ فبارك لي فيه! وإن كان ينقصني ممَّا لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي فيه! فنودي: إنَّ هذا الَّذي أعطيناك جزءٌ من خمسة وعشرين جزءًا لصبرك على إلقائك نفسك! فقال: اللهم لا حاجة لي فيما ينقصني ممَّا لي عندك في الآخرة! فرُفِعَ الجراد. وذكر أبو الفرج ابن الجوزي (1) عن رجل من بعض المياسير قال: بينا أنا يومًا في منزلي؛ إذ دخل عليَّ خادمٌ لي، فقال لي: رجلٌ بالباب معه كتاب، فقلت: أدخله، أو خذ كتابه. فأخذ الكتاب منه، فإذا فيه: تجنَّبك الرَّدى ولقيتَ خيرًا ... وسلَّمك المليك من الغموم شكونَ بناتُ أحشائي إليكم ... وما إن يشتكين إلى ظلوم _________ (1) في ذم الهوى (ص 231 - 234) بطوله. والخبر والشعر في مصارع العشاق (2/ 271 - 274)، وتزيين الأسواق (1/ 316).
(الكتاب/611)
وسالتْني الكتابَ إليك فيما ... يخامرها ــ فدتك ــ من الهموم وهُنَّ يقلن يا ابن الجُود إنَّا ... برِمنا من مراعاة النُّجوم وعندك لو مننت شفاءُ سُقْم ... لأعضاءٍ دَمِيْنَ من الكُلُوم قال: فلمَّا قرأت الأبيات؛ قلت: عاشقٌ. فقلت للخادم: أدخله، فخرج، فلم يره، فارتبت في أمره، وجعل الفكر يتردَّد في قلبي، فدعوت جواريَّ كلَّهُنَّ، فجمعتهنَّ، ثمَّ قلت لهنَّ: ما قصة هذا الكتاب؟ فحلفن لي، وقلن: يا سيدنا ما نعرف لهذا الكتاب سببًا فمن جاءك به؟ قلت: قد فاتني وما أردت سؤالكنَّ إلَّا أنِّي ظننتُ له هوًى في بعضكنَّ، فمن عرفت منكنَّ أنَّها صاحبته؛ فهي له، فلتذهب إليه، ولتأخذ كتابي إليه، وكتبتُ كتابًا أشكره على فعله، وأسأله عن حاله، ووضعت الكتاب في موضع من الدار، فمكث الكتاب [173 ب] في موضعه حينًا لا يأخذه أحد، ولا أرى الرَّجل، فاغتممتُ غمًّا شديدًا، ثمَّ قلت: لعلَّه بعض فتياننا، ثمَّ قلت: إنَّ هذا الفتى قد أخبر عن نفسه بالورع، وقد قَنِعَ ممَّن يحبُّه بالنظر، فدبَّرت عليه، فحجبت جواريَّ عن الخروج، فما كان إلَّا يومٌ وبعض الآخر؛ إذ دخل عليَّ الخادم، ومعه كتابٌ، قال: أرسل به إليك فلانٌ، وذكر بعض أصدقائي، ففضضته، فإذا فيه: ماذا أردتَ إلى روح معلَّقةٍ ... عند التَّراقي وحادي الموت يحدوها حثثتَ حاديَها ظُلمًا فجدَّ بها ... في السَّير حتَّى تولَّت عن تراقيها حجبتَ من كان تحيا عند رؤيتها ... رُوحي ومن كان يشفيني ترائيها
(الكتاب/612)
فالنَّفس تجنح نحو الظلم جاهلةً ... والقلبُ منِّي سليمٌ ما يواتيها والله لو قيل لي تأتي بفاحشةٍ ... وإن عُقباك دنيانا وما فيها لقلت لا والَّذي أخشى عقوبته ... ولا بأضعافها ما كنتُ آتيها لولا الحياء لبُحنا بالَّذي كتمت ... بنتُ الفؤادِ وأبدينا تمنِّيها قال: فبهتُّ، وقلتُ: لا أدري ما أحتال في أمر هذا الرَّجل، وقلت للخادم: لا يأتيك أحدٌ بكتابٍ إلَّا قبضت عليه، حتى تدخله عليَّ، ثمَّ لم أعرف له خبرًا بعد ذلك، فبينا أنا أطوف بالكعبة؛ إذا فتًى قد أقبل نحوي، وجعل يطوف إلى جنبي، ويلاحظني، وقد صار مثل العود، فلمَّا قضيت طوافي؛ خرجت، واتَّبعني، فقال: يا هذا! أتعرفني؟ قلت: لا أنكرك لسوءٍ! قال: أنا صاحب الكتابين، فما تمالكتُ أن قبَّلت رأسه، وبين عينيه، وقلت: بأبي أنت وأمِّي! والله قد شغلت قلبي، وأطلت غمِّي بشدَّة كتمانك لأمرك! فهل لك فيما سألت وطلبت؟ قال: بارك الله لك، وأقرَّ عينك، إنَّما أتيتك أستحلُّك من نظرةٍ كنت نظرتها على غير حكم الكتاب والسنَّة، والهوى داعٍ إلى كلِّ بلاء، [174 أ] وأستغفر الله العظيم! فقلت: يا حبيبي! أحب أن تصير معي إلى منزلي، فآنس بك، وتجري الحرمة بيني وبينك، قال: ليس إلى ذلك سبيل! فقلت: غفر الله لك ذنبك، وقد وهبتُها لك، ومعها مائة دينار، ولك في كلِّ سنة كذا وكذا! قال: بارك الله لك فيها، فلولا عهودٌ عاهدت الله عليها، وأشياء أكدتُها عليَّ؛ لم يكن في الدنيا شيءٌ أحبُّ إليَّ من هذا الَّذي تعرضه عليَّ، ولكن ليس إلى
(الكتاب/613)
ذلك سبيل، والدنيا منقطعةٌ. فقلت له: فإذا أبيت أن تقبل منِّي ذلك، فأخبرني من هي حتَّى أكرمها لأجلك ما بقيتُ! فقال: ما كنت لأذكرها لأحدٍ! ثمَّ قام، وتركني. وذكر عبد الملك بن قُرَيب (1)، قال: هويَ رجلٌ من النُّساك جاريةً، فاشتدَّ حبُّه لها، فبعث إليها يخطبها، فامتنعت وأجابته إلى غير ذلك، فأبى، وقال: لا إلَّا ما أحلَّ الله! ثمَّ إنَّ محبَّته ألقيت في قلبها، فبذلت له ما سأل، فقال: لا والله، لا حاجة لي بمن دعوتها إلى طاعة الله، ودعتني إلى معصيته! وحكى المُبرِّدُ (2) عن شيخه أبي عثمان المازنيِّ: أنَّه قصده بعض أهل الذِّمَّة؛ ليقرأ عليه «كتاب سيبويه» وبذل له مائة دينار، فامتنع وردَّه، فقلت له: أترُدُّ هذا القدر مع شدَّة فاقتك؟ فقال: إنَّ هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آيةً من كتاب الله، ولست أرى تمكين هذا الذِّمِّي منها غيرةً على القرآن. فاتَّفق أن غنَّت جاريةٌ بحضرة الواثق بقول _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 236). وسبق عند المؤلف بسياق أطول عن مخرمة بن عثمان. (2) أخرج عنه أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (9/ 234 - 235). والخبر في معجم الأدباء (2/ 759، 760)، وإنباه الرواة (1/ 284)، ووفيات الأعيان (1/ 284، 285)، وطبقات النحويين للزبيدي (ص 87 - 88، 91 - 92). ولعلَّ المؤلف نقل هذا الخبر من درة الغواص (ص 96 - 98).
(الكتاب/614)
العَرْجيِّ (1): أظلومُ إنَّ مصابكم رجلًا ... أهدى السَّلام تحيَّةً ظُلْم فاختلف أهل مجلسه في إعراب «رجل»، فمنهم من قال: هو نصبٌ، وجعله اسم إنَّ، ومنهم من رفعه على أنَّه خبرها، والجارية أصرَّت على النَّصب، وقالت: لقَّنني إيَّاه كذلك شيخي أبو عثمان المازنيُّ، فأمر الواثق بإحضاره إلى بين يديه، قال: فلمَّا مثلتُ بين يديه؛ قال: ممَّن الرَّجل؟ قلت: من [174 ب] بني مازن، قال: أيُّ الموازن؟ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ قلت: من مازن ربيعة، فكلَّمني بكلام قومي، فقال: بَا اسمُك؟ وقومي يقلبون الميم باءً والباء ميمًا، فكرهت أن أواجهه بلفظة مكر فقلت: بكر يا أمير المؤمنين! ففطن لما قصدتُه، وأعجب به، فقال: ما تقول في قول الشاعر: أظلومُ إنَّ مصابكم رجلًا ... أهدى السَّلام تحيَّةً ظُلْم أترفع رجلاً أم تنصبه؟ فقلت: الوجه النَّصبُ يا أمير المؤمنين! فقال: ولم ذاك؟ فقلت: لأنَّ مصابكم مصدرٌ بمعنى إصابتكم. فأخذ اليزيديُّ في معارضتي، فقلت: هو بمنزلة قولك: إنَّ ضربك زيدًا ظُلْمٌ، _________ (1) انظر ديوانه (ص 193). والصواب أنَّ البيت للحارث بن خالد المخزومي، انظر خزانة الأدب (1/ 217)، وشرح أبيات مغني اللبيب (7/ 158)، والحماسة البصرية (2/ 216).
(الكتاب/615)
فرَجُلًا مفعول مصابكم، ومنصوبٌ به، والدَّليل عليه أنَّ الكلام معلَّقٌ إلى أن تقول: ظُلم، فيتمَّ. فاستحسنه الواثق، وقال: هل لك من ولد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين! بُنيَّة. قال: فما قالت لك عند مسيرك إلينا؟ قلت: أنشدَتْ قول الأعشى (1) حيث يقول: أيا أبتا لا تَرِمْ عندنا ... فإنَّا بخير إذا لم ترِمْ ترانا إذا أضمرتك البلا ... دُ نُجفَى وتقطع منَّا الرَّحِمْ قال: فما قلتَ لها؟ قلتُ: قولَ جرير (2): ثقي بالله ليس له شريكٌ ... ومن عند الخليفة بالنَّجاح فقال: عليَّ النجاح إن شاء الله! ثمَّ أمر لي بألف دينار، وردَّني إلى البصرة مُكرَّمًا. قال أبو العباس المبرِّد: فلمَّا عاد إلى البصرة، قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس؟! رددنا لله مائة دينار، فعوَّضنا ألفًا. _________ (1) ديوانه (ص 41). (2) ديوانه (1/ 89).
(الكتاب/616)
الباب الثامن والعشرون فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذَّة الوصال الحرام
هذا بابٌ إنَّما يدخل منه رجلان: أحدهما: من تمكَّن من قلبه الإيمان بالآخرة، وما أعدَّ الله فيها من الثواب والعقاب لمن عصاه، فآثر أدنى الفوتين، واختارَ أسهل العقوبتين. والثاني: رجلٌ غلب عقله على هواه، فعلم ما في الفاحشة من المفاسد، وما في العدول عنها من المصالح، فآثر الأعلى على الأدنى. وقد جمع [175 أ] الله ــ سبحانه وتعالى ــ ليوسف الصِّدِّيق ــ صلواتُ الله وسلامه عليه ــ بين الأمرين، فاختار عقوبة الدُّنيا بالسجن على ارتكاب الحرام، فقالت المرأة: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف/ 32 ــ 33] فاختار السِّجن على الفاحشة، ثمَّ تبرأ إلى الله من حوله وقوَّته، وأخبر أنَّ ذلك ليس إلاَّ بمعونة الله له، وتوفيقه، وتأييده، لا من نفسه، فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف/ 33]. فلا يركن العبد إلى نفسه، وصبره، وحاله، وعفَّته، ومتى ركن إلى ذلك تخلَّت عنه عصمة الله، وأحاط به الخذلان. وقد قال تعالى لأكرم الخلق عليه، وأحبِّهم إليه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا
(الكتاب/617)
قَلِيلًا} [الإسراء/ 74] ولهذا كان من دعائه: «يا مقلِّب القلوب! ثبِّت قلبي على دينك» (1)، وكانت أكثر يمينه: «لا ومقلِّب القلوب!» (2). كيف وهو الَّذي أُنزِل عليه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال/ 24]. وقد جرت سنَّةُ الله تعالى في خلقه: أنَّ من آثر الألم العاجل على الوصال الحرام؛ أعقبه الله ذلك في الدنيا المسرَّة التامَّة، وإن هلك؛ فالفوز العظيم، والله تعالى لا يضيع ما يتحمل عبده لأجله. وفي بعض الآثار الإلهية يقول الله سبحانه وتعالى: «بعيني ما يتحمَّل المتحمِّلون من أجلي». وكلُّ من خرج عن شيءٍ منه لله؛ حفظه الله عليه، أو أعاضه الله ما هو أجلّ منه، ولهذا لما خرج الشُّهداء عن نفوسهم لله؛ جعلهم الله أحياء عنده يرزقون، وعوَّضهم عن أبدانهم التي بذلوها له أبدان طير خضرٍ، جعل الله أرواحهم فيها تسرح في الجنَّة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلَّقة بالعرش، ولمَّا تركوا مساكنهم له؛ عوَّضهم مساكنَ طيبةً في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم. وقال وهب بن منبه: [175 ب] كان عابدٌ من عباد بني إسرائيل يتعبد في صومعته، فجاء رجلٌ من العُتَاة إلى امرأة بغيٍّ، فبذلَ لها مالاً، وقال: _________ (1) أخرجه أحمد (3/ 112)، والترمذي (3522)، وابن ماجه (3834) من حديث أنس. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (2) أخرجه البخاري (6617، 6628، 7391) من حديث ابن عمر.
(الكتاب/618)
لعلَّك أن تفتنيه، فجاءته في ليلة مطيرةٍ، فنادته، فأشرف عليها، فقالت: آوِني إليك! فتركها، وأقبل على صلاته، فقالت: يا عبد الله! آوني إليك! أما ترى الظلمة والمطر؟! فلم تزل به حتى آواها، فاضطجعت قريبًا منه، فجعلت تريه محاسنها، حتى دعته نفسه إليها، فقال: لا والله حتى أنظر كيف صبرك على النَّار، فتقدَّم إلى المصباح، فوضع أصبعًا من أصابعه حتى احترقت، ثمَّ عاد إلى صلاته، فدعته نفسه إليها، فعاود المصباح، فوضع أصبعه الأخرى حتى احترقت، فلم تزل تدعوه نفسه، وهو يعود إلى المصباح حتى احترقت أصابعه جميعًا وهي تنظر، فصعقت، وماتت. وقال الإمام أحمد (1): حدَّثنا إبراهيم بن خالد، حدَّثنا أميَّة بن شبل، عن عبد الله بن وهب، قال: لا أعلمه إلَّا ذكره عن أبيه: أنَّ عابدًا من بني إسرائيل كان في صومعته يتعبَّد، فإذا نفرٌ من الغُواة قالوا: لو استنزلناه بشيءٍ، فذهبوا إلى امرأةٍ بَغيٍّ، فقالوا لها: تعرَّضي له! قال: فجاءته في ليلةٍ مظلمة مطيرة، فقالت: يا عبد الله! آوني إليك! وهو قائم يصلِّي، ومصباحُه ثاقب، فلم يلتفت إليها، فقالت: يا عبد الله! الظُّلمة، والغيث! آوني إليك! فلم تزل به حتى أدخلها إليه، فاضطجعت، وهو قائمٌ يصلِّي، فجعلت تتقلَّب، وتريه محاسن خلقها، حتى دعته نفسه إليها. فقال: لا _________ (1) في كتاب الزهد (ص 100، 101)، وأخرج الخبر ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 250 - 251).
(الكتاب/619)
والله! حتى أنظر كيف صبرك على النَّار. فدنا من المصباح، فوضع أصبعًا من أصابعه فيه، حتى احترقت، قال: ثمَّ رجع إلى مصلَّاه. قال: فدعته نفسه أيضًا، فعاد إلى المصباح، فوضع أصبعه أيضًا حتى احترقت ثمَّ رجع إلى مصلَّاه فدعته نفسه أيضًا، فعاد إلى المصباح حتى احترقت أصابعه، وهي تنظر إليه، فصعقت، فماتت، فلمَّا أصبحوا؛ غدوا؛ لينظروا ما صنعت، فإذا بها ميتة، [176 أ] فقالوا: يا عدو الله! يا مُرائي! وقعت عليها، ثم قتلتها! قال: فذهبوا به إلى ملكهم، فشهدوا عليه، فأمر بقتله، فقال: دعوني حتى أصلِّي ركعتين. قال: فصلَّى، ثمَّ دعاه، فقال: أي ربِّ! إنِّي أعلم أنك لم تكن لتؤاخذني بما لم أفعل، ولكن أسألك ألا أكون عارًا على القراء بعدي! قال: فردَّ الله عليها نفسَها، فقالت: انظروا إلى يده، ثمَّ عادت ميتةً. وقال أحمد ــ رحمه الله تعالى ــ: حدثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة عن منصور، عن إبراهيم، قال: بينما رجلٌ عابدٌ عند امرأةٍ؛ إذ عمد، فضرب بيده على فخذها، فأخذ يده، فوضعها في النار حتى نشَّت. وقال حُصَين بن عبد الرحمن (1): بلغني أنَّ فتًى من أهل المدينة كان يشهد الصلوات كلَّها مع عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ وكان عمر يتفقَّده إذا غاب، فعشقته امرأةٌ من أهل المدينة، فذكرت ذلك لبعض نسائها، فقالت: أنا أحتال لك في إدخاله عليك، فقعدت له في الطريق، _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 253 - 254).
(الكتاب/620)
فلمَّا مرَّ بها قالت له: إنِّي امرأةٌ كبيرةُ السنِّ، ولي شاةٌ ولا أستطيع أن أحلبها، فلو دخلت، فحلبتها لي ــ وكانوا أرغب شيءٍ في الخير ــ فدخل، فلم يرَ شاةً، فقالت: اجلس حتى آتيك بها، فإذا المرأة قد طلعت، فلمَّا رأى ذلك، عمدَ إلى محراب في البيت، فقعد فيه، فأرادته عن نفسه، فأبى، وقال: اتقي الله أيتها المرأة! فجعلت لا تكفُّ عنه، ولا تلتفت إلى قوله. فلما أبى عليها؛ صاحت عليه، فجاؤوا، فقالت: إنَّ هذا دخل عليَّ يريدني عن نفسي، فوثبوا عليه، وجعلوا يضربونه، وأوثقوه، فلمَّا صلَّى عمر الغداة فقده، فبينا هو كذلك؛ إذ جاؤوا به في وثاق، فلمَّا رآه عمر قال: اللَّهم لا تُخلف ظنِّي به. قال: ما لكم؟ قالوا: استغاثت امرأةٌ بالليل، فجئنا، فوجدنا هذا الغلام عندها فضربناه، وأوثقناه! فقال له عمر ــ رضي الله عنه ــ: اصدقني! فأخبره بالقصَّة على وجهها. فقال له عمر ــ رضي الله عنه ــ: أتعرف العجوز؟ فقال: نعم، إن رأيتُها عرفتُها، فأرسل عمر إلى نساء جيرانها، وعجائزهنَّ، فجاء بهنَّ، فعرضهنَّ، فلم يعرفها فيهنَّ، حتى مرَّت [176 ب] به العجوز، فقال: هذه يا أمير المؤمنين! فرفع عمر عليها الدِّرَّةَ، وقال: اصدُقيني، فقصَّت عليه القصَّة، كما قصَّها الفتى، فقال عمر: الحمدُ لله الَّذي جعل فينا شبيه يوسف. وقال أبو الزِّناد (1): كان راهبٌ يتعبَّد في صومعة، فأشرف منها، _________ (1) أخرج عنه الخرائطي في اعتلال القلوب (ص 59 - 60)، وابن الجوزي (ص 249).
(الكتاب/621)
فرأى امرأةً، ففتن بها، فأخرج رجلَه من الصَّومعة؛ لينزل إليها، فنزلت عليه العصمة، فقال: رِجلٌ خرجت من الصومعة؛ لتعصي الله، والله لا تعود معي في صومعتي! فتركها معلقةً خارج الصومعة، يسقط عليها الثلوج والأمطار، حتى تناثرت وسقطت، فشكر الله ذلك من صنيعه، ومدحه في بعض كتبه بذي الرِّجل. وقال مصعب بن عثمان (1): كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهًا، فدخلت عليه امرأةٌ بيته، فسألته نفسه، فامتنع عليها، فقالت: إذًا أفضحك، فخرج هاربًا عن منزله، وتركها فيه. وقال جابر بن نوح (2): كنت بالمدينة جالسًا عند رجلٍ في حاجةٍ، فمرَّ بنا شيخٌ حسنُ الوجه، حسنُ الثياب، فقام إليه ذلك الرَّجل، فسلَّم عليه، وقال: يا أبا محمد! أسأل الله أن يُعْظمَ أجرك، وأن يربطَ على قلبك بالصَّبر، فقال الشَّيخ: وكان يميني في الوغى ومساعدي ... فأصبحت قد خانت يميني ذراعها وقد صرت حيرانًا من الثُّكل تائهًا ... أخا كَلفٍ ضاقَت عليَّ رباعُها فقال له الرجل: أبشر؛ فإنَّ الصبر مُعوَّل المؤمن، وإنِّي لأرجو ألَّا _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 256). (2) أخرج عنه السراج في مصارع العشاق (2/ 54، 56)، وابن الجوزي في ذم الهوى (ص 258 - 260) مطولاً.
(الكتاب/622)
يحرمك الله الأجر على مصيبتك! فقلت له: من هذا الشيخ؟ فقال: رجلٌ منَّا من الأنصار. فقلت: وما قصَّته؟ فقال: أصيب بابنه، وكان به بارًّا، قد كفاه جميعَ ما يعنيه، وميتته عَجَبٌ! قلت: وما كانت؟ قال: أحبَّته امرأةٌ، فأرسلت إليه تشكو حبَّه، وتسأله الزِّيارة، وكان لها زوج، فألحَّت عليه، فأفشى ذلك إلى صديقٍ له، فقال له: لو بعثت إليها بعض أهلك، فوعظها، وزجرها رجوتُ أن تكُفَّ عنك، قال: فأمسك، وأرسلت إليه إمَّا أن تزورني، وإمَّا أن أزورك، [177 أ] فأبى، فلمَّا يئست منه؛ ذهبت إلى امرأةٍ كانت تعمل السِّحْر، فجعلت لها الرَّغائب في تهييجه، فعملت لها في ذلك، فبينا هو ذات ليلةٍ مع أبيه؛ إذ خطر ذكرُها بقلبه، وهاج منه أمرٌ لم يكن يعرفه، واختلط، فقام مسرعًا، فصلى، واستعاذ، والأمر يشتدُّ، فقال: يا أبت! أدركني بقيدٍ. فقال: يا بنيَّ ما قصَّتُك؟ فحدَّثه بالقصَّة، فقام، وقيَّده، وأدخله بيتًا، فجعل يضطرب، ويخور، كما يخور الثَّور، ثمَّ هدأ، فإذا هو ميِّتٌ، والدَّمُ يسيل من منخره. فصل وهذا ليس بعجيب من الرجال، ولكنَّه من النِّساء أعجب! قال أبو إدريس الأودي (1): كان رجلان في بني إسرائيل عابدان، وكانت جاريةٌ جميلةٌ، فأحبَّاها، وكتم كلٌّ منهما صاحبه، واختفى كلٌّ _________ (1) أخرج عنه السراج في مصارع العشاق (1/ 74)، وابن الجوزي (ص 270 - 271).
(الكتاب/623)
منهما خلف شجرةٍ ينظر إليها، فبصُر كلٌّ منهما بالآخر، فأفشى كلٌّ منهما سرَّه إلى صاحبه، فاتفقا على أن يراوداها، فلما قربت منهما؛ قالا لها: قد عرفت منزلتنا في بني إسرائيل، وإنَّك إن لم تؤاتينا، وإلَّا قلنا إذا أصبحنا: إنَّا أصبنا معكِ رجلًا، وإنَّه أفلتنا، وإنَّا أخذناك. فقالت: ما كنتُ لأطيعكما في معصية الله، فأخذاها، وقالا: إنَّا أصبنا معها رجلًا فأفلتنا وأقبل نبيٌّ من أنبيائهم، فوضعوا له كرسيًّا، فجلس عليه، وقال: أقضي بينكم؟ فقالا: نعم! اقضِ بيننا، ففرَّق بين الرَّجلين، وقال لأحدهما: خلف أي شجرةٍ رأيتَها؟ قال: شجرة كذا وكذا. وقال للآخر، فقال: شجرة كذا وكذا ــ غير الَّذي ذكر صاحبه ــ ونزلت نارٌ من السماء، فأحرقتهما، وأَفلتتِ المرأة. وقال عبد الله بن المبارك (1): عشق هارون الرشيد جاريةً من جواريه، فأرادها، فقالت: إنَّ أباك مسَّني، فشُغِفَ بها، وقال: أرى ماءً وبي عطشٌ شديدٌ ... ولكن لا سبيل إلى الوُرود أما يكفيك أنَّك تملكيني ... وأنَّ النَّاس عندي كالعبيد وأنك لو قطعتِ يدي ورجلي ... لقلتُ من الرضا أحسنتِ زيدي فسأل أبا يوسف [177 ب] عن ذلك، فقال: أو كلَّما قالت جاريةٌ شيئًا تصدِّق؟ قال ابنُ المبارك: فلا أدري ممَّن أعجب، من هارون حيث _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 276). وسبق بيتان منها، وهناك التخريج.
(الكتاب/624)
رغب فيها، أو منها حيثُ رغبت عنه، أو من أبي يوسف حيث سوَّغ له إتيانها؟! وقال أبو عثمان التَّيميُّ (1): مرَّ رجل براهبةٍ من أجمل النساء، فافتُتن بها، فتلطَّف في الصُّعود إليها، فراودها عن نفسها، فأبت عليه، وقالت: لا تغترَّ بما ترى، فليس وراءه شيء، فأبى حتى غلبها على نفسها، وكان إلى جانبها مجمرة، فوضعت يدها فيها، حتى احترقت، فقال لها بعد أن قضى حاجته منها: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قالت: إنَّك لمَّا قهرتني على نفسي؛ خفت أن أشاركك في الَّلذة، فأشاركك في المعصية، ففعلت ما رأيت! فقال الرجل: والله لا أعصي الله أبدًا! وتاب مما كان عليه. وذكر الحسين بن محمد الدامغاني (2): أن بعض الملوك خرج يتصيدُ، وانفرد عن أصحابه، فمرَّ بقريةٍ، فرأى امرأةً جميلة، فراودها عن نفسها، فقالت: إنِّي غيْرُ طاهر، فأتطهَّر، وآتيك، فدخلت بيتها، وخرجت إليه بكتاب، فقالت: انظر في هذا حتَّى آتيك، فنظر فيه، فإذا فيه ما أعدَّ الله للزَّاني من العقوبة، فتركها، وذهب، فلمَّا جاء زوجُها؛ أخبرته الخبر، فكره أن يقربَها مخافةَ أن يكون للملك فيها حاجةٌ، فاعتزلها، فاستعدى عليه أهل الزوجة إلى الملك، وقالوا: إنَّ لنا أرضًا في يد هذا الرجل، فلا _________ (1) أخرج عنه ابن الجوزي (ص 276 - 277). (2) الخبر عند ابن الجوزي (ص 278).
(الكتاب/625)
هو يعمرُها، ولا هو يردُّها علينا، وقد عطَّلها! فقال الملك: ما تقول؟ فقال: إنِّي رأيت في هذه الأرض أسدًا، وأنا أتخوَّف دخولَها منه! ففهم الملك القصَّة، فقال: اعمر أرضك، فإنَّ الأسد لا يدخلها، ونعم الأرض أرضُك! وكانت بعض النساء المتعبِّدات (1) وقعت في نفس رجل موسر، وكانت جميلةً، وكانت تُخْطَب فتأبى، فبلغ الرَّجل أنَّها تريد الحجَّ، فاشترى ثلاثمائة بعيرٍ، ونادى: من أراد الحج؛ فليكتر من فلان، فاكترت منه المرأة، فلمَّا كان [178 أ] في بعض الطريق؛ جاءها، فقال: إمَّا أن تزوجيني نفسك، وإمَّا غير ذلك! فقالت: ويحك، اتقِ الله! فقال: ما هو إلَّا ما تسمعين، والله ما أنا بجمَّالٍ! ولا خرجت إلَّا من أجلك. فلمَّا خافت على نفسها قالت: ويحك! انظر أبقيَ في الرِّجال عينٌ لم تنم؟ فقال: لا، ناموا كلُّهم، قالت: أفنامت عينُ ربِّ العالمين؟ ثمَّ شهقت شهقةً خرَّت ميتةً، وخرَّ الرجلُ مغشيًّا عليه. فلمَّا أفاق؛ قال: ويحي! قتلت نفسًا، ولم أبلغ شهوتي. وقال وهب (2): كان في بني إسرائيل رجلٌ متعبِّدٌ شديد الاجتهاد، فرأى يومًا امرأة، فوقعت في نفسه بأوَّل نظرة، فقام مسرعًا حتَّى لحقها، _________ (1) الخبر في ذم الهوى (ص 277). (2) الخبر في ذم الهوى (ص 271).
(الكتاب/626)
فقال: رويدك يا هذه! فوقفت، وعرفته، فقالت: ما حاجتك؟ قال: أذاتُ زوجٍ أنت؟ قالت: نعم! فما تريد؟ قال: لو كان غير هذا؛ لكان لنا رأيٌ، قالت: وما هو؟ قال: عرض بقلبي من أمرك عارضٌ. قالت: وما يمنعك من إنفاذه؟ قال: وتتابعيني على ذلك؟ قالت: نعم! فخلت به في موضع، فلمَّا رأته مُجِدًّا في الَّذي سأل؛ قالت: رويدك يا مسكين! لا تُسقِط جاهك عنده! فانتبه لها، وذهب عنه ما كان يجد، فقال: لا حرمك الله ثواب فعلك! ثمَّ تنحَّى ناحيةً، فقال لنفسه: اختاري إمَّا عمى العين، وإمَّا الجَبَّ، وإمَّا السِّياحة مع الوحوش، فاختارت السياحة مع الوحوش، فكان كذلك إلى أن مات. وأحبَّ رجل (1) جاريةً من العرب، وكانت ذات عقل وأدب، فما زال يحتال في أمرها حتَّى اجتمع معها في ليلةٍ مظلمة شديدة السَّواد، فحادثها ساعة، ثمَّ دعته نفسه إليها، فقال: يا هذه! قد طال شوقي إليك! قالت: وأنا كذلك! فقال: هذا الليل قد ذهب، والصُّبح قد اقترب، قالت: هكذا تفنى الشهوات، وتنقطع اللَّذَّات! فقال: فما لو دنوتِ منِّي، فقالت: هيهات! أخاف البعد من الله. قال: فما الَّذي دعاك إلى الحضور معي؟ قالت: شِقوتي، وبلائي! قال: فمتى أراك؟ قالت: ما أنساك! وأمَّا الاجتماع معك فما أراه يكون. ثمَّ تولَّت. قال: فاستحييت ممَّا [178 ب] _________ (1) الخبر والشعر في مصارع العشاق (2/ 281، 282)، وذم الهوى (ص 272 - 273)، ومنازل الأحباب (ص 328).
(الكتاب/627)
سمعت منها، وأنشد: توقَّت عذابًا لا يطاق انتقامه ... ولم تأت ما تخشى به أن تُعذَّبا وقالت مقالًا كدتُ من شدَّة الحَيَا ... أهيمُ على وجهي حيًا وتعجُّبا ألا أُفِّ للحبِّ الذي يورث العَمَى ... ويورد نارًا لا تملُّ التَّلهُّبا فأقبل عودي فوق بدئي مفكِّرًا ... وقد زال عن قلبي العمى فتسرَّبا وقال ابن خلف (1): أخبرني أبو بكر العامري [عن غيث بن عبد الكريم] (2) قال: عشق عاتكة المُرِّيَّةَ ابنُ عمٍّ لها، فأرادها عن نفسها، فامتنعت عليه، وقالت (3): فما طعمُ ماءٍ من سحاب مروَّقٍ ... تحدَّر من غُرٍّ طِوال الذوائب بمنعرجٍ أو بطن وادٍ تطلَّعت ... عليه رياح الصَّيف من كلِّ جانب ترقرق ماء المزن فيهنَّ والتقت ... عليهنَّ أنفاس الرِّياض الغرائب نفتْ جريةُ الماء القذى عن متونه ... فليس به عيبٌ تراه لشارب بأطيب مما يقصر الطَّرف دونه ... تقى الله واستحياءُ تلك العواقب _________ (1) كما في ذم الهوى (ص 237)، والخبر والشعر في زهر الآداب (1/ 185)، ومنازل الأحباب (ص 83 - 84). (2) الزيادة من ذم الهوى. (3) الشعر لأم فروة الغطفانية في الحيوان (3/ 54، 5/ 142)، والتذكرة الحمدونية (6/ 111)، ولزينب بنت فروة في الزهرة (1/ 121)، ولعاتكة في المصادر السابقة.
(الكتاب/628)
الباب التَّاسع والعشرون في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى
قد تقدَّم ذكرُ الآيات في ذلك، وبعض ما ورد في السنَّة. الهوى: ميلُ الطبع إلى ما يلائمه. وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه. فإنَّه لولا ميله إلى المطعم، والمشرب، والمنكح؛ ما أكل، ولا شرب، ولا نكح. فالهوى مستحبٌّ له لما يريده، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه، فلا ينبغي ذم الهوى مطلقًا، ولا مدحه مطلقًا، كما أنَّ الغضب لا يُذَمُّ مطلقًا، ولا يحمد مطلقًا، وإنما يُذَمُّ المفرط من النوعين، وهو ما زاد على جلب المصالح، ودفع المضار. ولمَّا كان الغالب ممن يطيع هواه وشهوته وغضبه: أنَّه لا يقف فيه على حدِّ المنتفع [179 أ] به؛ أُطلِق ذمُّ الهوى، والشهوة، والغضب؛ لعموم غلبة الضَّرر؛ لأنَّه يندر من يقصد العدل في ذلك، ويقف عنده، كما أنَّه يندر في الأمزجة المزاج المعتدل من كل وجه، بل لا بدَّ من غلبة أحد الأخلاط والكيفيات عليه، فحرص النَّاصح على تعديل قُوَى الشَّهوة والغضب من كلِّ وجهٍ، كحرص الطَّبيب على تعديل المزاج من كلِّ وجه، وهذا أمرٌ يتعذَّر وجودُه إلَّا في حقِّ أفرادٍ من العالم، فلذلك لم يذكر الله الهوى في كتابه إلَّا ذمَّه، وكذلك في السُّنَّة لم يجئ إلَّا
(الكتاب/629)
مذمومًا، إلَّا ما جاء منه مُقَيَّدًا، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمنُ أحدكم حتَّى يكون هواه تبعًا لما جئت به» (1). وقد قيل: الهوى كمينٌ لا يُؤْمَن. قال الشَّعْبي: وسمِّي هوًى؛ لأنَّه يهوي بصاحبه، ومطلقُه يدعو إلى اللَّذَّة الحاضرة من غير فكرٍ في العاقبة، ويحثُّ على نيل الشَّهوات عاجلًا، وإن كانت سببًا لأعظم الآلام عاجلًا وآجلًا، فلِلدُّنيا عاقبةٌ قبل عاقبة الآخرة، والهوى يعمي صاحبه عن ملاحظتها، والمروءة، والدِّين، والعقل ينهى عن لذَّة تعقبُ ألمًا، وشهوة تورثُ ندمًا، فكلٌّ منها يقول للنَّفس إذا أرادت ذلك: لا تفعلي! والطَّاعة لمن غلب، ألا ترى أنَّ الطفل يُؤثر ما يهواه؛ وإن أدَّاه إلى التَّلف؛ لضعف ناهي العقل عنده؟! ومن لا دين له يؤثر ما يهواه؛ وإن أدَّاه إلى هلاكه في الآخرة؛ لضعف ناهي الدِّين، ومن لا مُروءَة له يُؤثر ما يهواه وإن ثَلَمَ مُرُوءته، أو هدمها؛ لضعف ناهي المروءة، فأين هذا من قول الشافعي ــ رحمه الله تعالى ــ: لو علمتُ أنَّ الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته. ولمَّا امتُحِنَ المكلَّف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقت يحدث عليه حوادث؛ جعل فيها حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدِّين؛ وأُمِرَ أن يرفع حوادثَ الهوى دائمًا إلى هذين الحاكمين، وأن ينقاد _________ (1) سبق تخريجه.
(الكتاب/630)
لحكمهما، وينبغي أن يتمرَّن على دفع الهوى المأمون العواقب؛ ليستمرَّ بذلك على ترك ما تؤذي عواقبُه. وليعلم اللَّبيبُ أن مدمني [179 ب] الشَّهوات يصيرون إلى حالةٍ لا يلتذُّون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنَّها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الَّذي لا بُدَّ لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذُّ به عشر معشار التذاذ من يفعله نادرًا في الأحيان، غير أنَّ العادة مقتضيةٌ ذلك، فيلقي نفسه في المهالك؛ لينل ما تطالبه به العادة، ولو زال عنه رَيْنُ الهوى لعلم أنَّه قد سعى من حيث قدَّر السَّعادة، واغتمَّ من حيث ظنَّ الفرح، وألم من حيث أراد اللَّذَّة. فهو كالطائر المخدوع بحبَّة الفخ، لا هو يأكل الحبَّة، ولا هو يخلُص ممَّا وقع فيه. فإن قيل: فكيف يتخلَّص من هذا مَن قد وقع فيه؟ قيل: يمكنه التَّخلُّص بعون الله وتوفيقه له بأمور (1): أحدها: بعزيمة حرٍّ يغار لنفسه وعليها. الثاني: جُرْعةُ صبر تصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة. الثالث: قوَّة نفس تشجِّعه على شرب تلك الجُرعة، والشَّجاعة كلُّها صبر ساعةٍ، وخير عيشٍ أدركه العبد بصبره. _________ (1) انظر ذم الهوى (ص 13 وما بعدها).
(الكتاب/631)
الرَّابع: ملاحظته حسنَ موقع العاقبة، والشفاء بتلك الجُرعة. الخامس: ملاحظته الألم الزَّائد على لذَّة طاعة هواه. السَّادس: إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى، وفي قلوب عباده، وهو خيرٌ وأنفع له من لذَّة مواقعة الهوى. السَّابع: إيثارُه لذَّةَ العفَّة، وعزَّتها، وحلاوتها على لذَّة المعصية. الثامن: فرحه بغلبة عدوِّه، وقهره له، وردِّه خاسئًا بغيظه، وغمِّه، وهمِّه حيث لم ينل منه أُمنيَّته، والله تعالى يحبُّ من عبده أن يُراغم عدوَّه، ويغيظه، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة/ 120]، وقال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح/ 29]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء/ 100] أي: مكانًا يراغم فيه أعداء الله. وعلامة المحبَّة الصَّادقة مغايظةُ أعداء المحبوب، ومراغمتُهم. التاسع: التفكر في أنَّه لم يخلق للهوى، وإنَّما هُيِّئ لأمرٍ عظيم، [180 أ] لا يناله إلَّا بمعصيته للهوى، كما قيل (1): قد هيَّؤوك لأمرٍ لو فطنتَ له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَل _________ (1) آخر بيت من لامية العجم للطغرائي (ضمن المجموع الكبير من المتون ص 539).
(الكتاب/632)
العاشر: ألَّا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيمُ أحسن حالًا منه، فإنَّ الحيوان يميِّز بطبعه بين مواقع ما يضرُّه وما ينفعه، فيؤثر النافع على الضارِّ، والإنسان أُعطي العقل لهذا المعنى، فإذا لم يميِّز به بين ما يضرُّه وما ينفعه، أو عرف ذلك، وآثر ما يضرُّه؛ كان حال الحيوان البهيم أحسنَ منه، ويدُلُّ على ذلك: أنَّ البهيمة تصيب من لذة المطعم، والمشرب، والمنكح ما لا يناله الإنسان مع عيش هنيءٍ خالٍ عن الفكر، والهَمِّ، ولهذا تُساق إلى منحرها، وهي منهمكةٌ على شهواتها؛ لفقدان العلم بالعواقب، والآدمي لا يناله ما يناله الحيوان لقوَّة الفكر الشَّاغل، وضعف الآلة المستعملة، وغير ذلك، فلو كان نيل المشتهى فضيلةً؛ لما بُخِسَ منه حقُّ الآدمي الَّذي هو خلاصة العالم، ووفرَ منه حظُّ البهائم، وفي توفير حظِّ الآدميِّ من العقل، والعلم، والمعرفة عوضٌ عن ذلك. الحادي عشر: أن يسير بفكره في عواقب الهوى، فيتأمَّل كم أفاتت طاعته من فضيلة، وكم أوقعت في رذيلة، وكم أكلةٍ منعت أكلات، وكم من لذَّة فوَّتت لذَّات، وكم من شهوةٍ كسرت جاهًا، ونكَّست رأسًا، وقبَّحت ذكرًا، وأورثت ذمًّا، وأعقبت ذلًّا، وألزمت عارًا لا يغسله الماء، غير أنَّ عين صاحب الهوى عمياء. الثاني عشر: أن يتصوَّر العاقلُ انقضاء غرضه ممَّن يهواه، ثمَّ يتصوَّر حالَه بعد انقضاء الوطر، وما فاته، وما حصل له (1). _________ (1) البيت للببغاء في «ذم الهوى» (ص 662).
(الكتاب/633)
فأفضل النَّاس من لم يرتكب سببًا ... حتَّى يميز ما تجني عواقبُهُ الثالث عشر: أن يتصوَّر ذلك في حقِّ غيرهِ حقَّ التَّصوُّر، ثمَّ ينزل نفسه تلك المنزلة، فحكم الشَّيء حكمُ نظيره. الرَّابع عشر: أن يتفكَّر فيما تطالبه به نفسه من ذلك، ويسأل عنه عقلَه، ودينَه يُخبرانه بأنَّه [180 ب] ليس بشيءٍ. قال عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه ــ: «إذا أعجب أحدكم امرأةٌ؛ فليذكر مناتنها»، وهذا أحسن من قول أحمد بن الحسين (1): لو فكَّر العاشِقُ في منتهى ... حُسنِ الَّذي يَسبيه لم يَسْبِه لأنَّ ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ ذكر الحال الحاضرة اللازمة، والشاعر أحال على أمر متأخر. الخامس عشر: أن يأنفَ لنفسه من ذُلِّ طاعة الهوى، فإنَّه ما أطاع أحدٌ هواه قطُّ إلَّا ووجد في نفسه ذُلًّا، ولا يغترَّ بصولة أتباع الهوى، وكبرهم، فهم أذلُّ النَّاس بواطن، قد جمعوا بين فضيلتي الكبر، والذُّلِّ. السَّادس عشر: أن يُوازن بين سلامة الدِّين، والعرض، والمال، والجاه، ونيل اللَّذَّة المطلوبة، فإنَّه لا يجد بينهما نسبةً ألبتَّة، فليعلم أنَّه من أسفه النَّاس ببيعه هذا بهذا. _________ (1) هو المتنبي، والبيت في ديوانه (1/ 337).
(الكتاب/634)
السَّابع عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه، فإنَّ الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمةٍ وهمةٍ، وميلًا إلى هواه؛ طمع فيه، وصرعه، وألجَمَه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد. ومتى أحسَّ منه بقوَّة عزم، وشرف نفسٍ، وعلوِّ همَّةٍ؛ لم يطمع فيه إلَّا اختلاسًا، وسَرِقَةً. الثامن عشر: أن يعلم أنَّ الهوى ما خالط شيئًا إلَّا أفسده، فإن وقع في العلم؛ أخرجه إلى البدعة، والضَّلالة، وصار صاحبُه من جملة أهل الأهواء. وإن وقع في الزهد؛ أخرج صاحبه إلى الرِّياء، ومخالفة السُّنَّة. وإن وقع في الحكم؛ أخرج صاحبَه إلى الظُّلم، وصدَّه عن الحقِّ. وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجَوْر. وإن وقع في الولاية، والعزل؛ أخرج صاحبه إلى خيانة الله، والمسلمين حيث يُوَلِّي بهواه، ويعزل بهواه. وإن وقع في العبادة؛ خرجت عن أن تكون طاعةً وقربةً. فما قارن شيئًا إلَّا أفسده. التاسع عشر: أن يعلم أنَّ الشيطان ليس له مدخلٌ على ابن آدم إلَّا من باب هواه، فإنَّه يطيف به، من أين يدخل عليه، حتَّى يفسد عليه قلبَه وأعماله، فلا يجد مدخلًا إلَّا من باب الهوى، فيسري معه سرَيان السُّمِّ في الأعضاء. العشرون: [181 أ] أنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ جعل الهوى مضادًّا لما أنزله على رسوله، وجعل اتِّباعه مقابلًا لمتابعة رُسُله، وقسم النَّاس إلى قسمين: أتباع الوحي، وأتباع الهوى، وهذا كثيرٌ في القرآن، كقوله تعالى:
(الكتاب/635)
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص/50]. وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة/ 120] ونظائره. الحادي والعشرون: أنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ شبَّه أتباع الهوى بأخسِّ الحيوانات صورةً ومعنًى، فشبَّههم بالكلب تارةً كقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف/ 176]، وبالحمر تارة كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر/ 50 ــ 51] وقلب صورهم إلى صورة القِردة والخنازير تارةً. الثاني والعشرون: أنَّ متَّبع الهوى ليس أهلًا أن يطاع، ولا يكون إمامًا، ولا متبوعًا، فإنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ عزله عن الإمامة، ونهى عن طاعته. أما عزله فإن الله سبحانه وتعالى قال لخليله إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة/ 124] أي: لا ينال عهدي بالإمامة ظالمًا. وكلُّ من اتَّبع هواه فهو ظالمٌ، كما قال الله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم/ 29]. وأمَّا النَّهيُ عن طاعته؛ فلقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف/ 28]. الثالث والعشرون: أنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ جعل متَّبع الهوى بمنزلة عابد الوثن، فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان/ 43] في موضعين من كتابه، قال الحسن: هو المنافق، لا يهوى شيئًا إلَّا
(الكتاب/636)
ركبه. وقال أيضًا: المنافق عبد هواه لا يهوى شيئًا إلَّا فعله. الرَّابع والعشرون: أنَّ الهوى هو حِظار جهنَّم المحيطُ بها حولها، فمن وقع فيه؛ وقع فيها، كما في الصحيحين (1) عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النَّارُ بالشَّهواتِ». وفي الترمذي (2) من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ يرفعه: «لمَّا خلق الله الجنَّة؛ أرسل إليها جبريل، فقال: انظر إليها، وإلى ما [181 ب] أعددتُ لأهلها فيها، فجاء، فنظر إليها، وإلى ما أعدَّه الله لأهلها فيها، فرجع إليها، وقال: وعزَّتك لا يسمع بها أحدٌ من عبادك إلَّا دخلها، فأمرَ بها، فحجبت بالمكاره، وقال: ارجع إليها فانظر إليها، فرجع، فإذا هي قد حُجِبَت بالمكاره، فقال: وعزَّتك! لقد خشيتُ ألَّا يدخلها أحد قال: اذهب إلى النَّار، فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاء، فنظر إليها وإلى ما أعدَّ الله لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إليه فقال: وعزَّتك! لا يسمع بها أحدٌ فيدخلها، فأمر بها، فحُفَّت بالشَّهوات، فقال: ارجع، فانظر إليها، فرجع إليها، فإذا هي قد حُفَّت بالشَّهوات، فرجع إليها وقال: وعزَّتك! لقد خشيت ألَّا ينجو منها أحد». قال الترمذي: هذا حديث حسنٌ صحيح. _________ (1) البخاري (6487)، ومسلم (2823) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه الترمذي (2560)، وأبو داود (4744)، والنسائي (7/ 3)، وأحمد (3/ 332، 333).
(الكتاب/637)
الخامس والعشرون: أنَّه يخاف على من اتَّبع هواه أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر، وقد ثبت عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «لا يؤمن أحدُكُم حتَّى يكون هواهُ تَبَعًا لِمَا جئتُ به» (1). وصحَّ عنه: أنَّه قال: «أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغيِّ في بُطُونكم، وفروجكم، ومُضِلَّات الهوى» (2). السادس والعشرون: أنَّ اتباع الهوى من المهلكات. قال - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ منجيات، وثلاثٌ مهلكاتٌ: فأمَّا المُنجياتُ؛ فتقوى الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في السرِّ والعلانية، والقولُ بالحقِّ في الرِّضا والسَّخَط، والقصد في الغنى والفقر، وأمَّا المهلكات؛ فهوًى مُتَّبَعٌ، وشُحٌّ مُطاعٌ، وإعجابُ المرءِ بنفسه» (3). السَّابع والعشرون: أنَّ مخالفة الهوى تورث العبد قوَّةً في بدنه، وقلبه، ولسانه. قال بعض السلف: الغالب لهواه أشدُّ من الَّذي يفتح المدينة وحدَه. وفي الحديث الصَّحيح (4) المرفوع: «ليس الشديد بالصُّرعة ولكن الشديد الَّذي يملك نفسه عند الغضب» وكلَّما تمرَّن على مخالفة هواه؛ اكتسب قوَّةً إلى قوَّته. _________ (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم. (3) تقدم. (4) البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة.
(الكتاب/638)
الثامن والعشرون: أنَّ أغزر النَّاس مروءةً أشدُّهم مخالفةً لهواه. قال معاوية: [182 أ] المروءة ترك الشَّهوات، وعصيان الهوى. فاتِّباع الهوى يُزمن المُرُوءة، ومخالفته تُنعشها. التَّاسع والعشرون: أنَّه ما من يوم إلَّا والهوى والعقلُ يعتلجان في صاحبه، فأيُّهما قويَ على صاحبه؛ طرده، وتحكَّم، وكان الحكم له. قال أبو الدرداء: إذا أصبح الرجل؛ اجتمع هواه وعقله، فإن كان عقله تبعًا لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعًا لعقله فيومُه يومٌ صالح. الثلاثون: أنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ جعل الخطأ، واتِّباع الهوى قرينين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين، كما قال بعض السلف: إذا أشكل عليك أمران، لا تدري أيهما أرشدُ؛ فخالف أقربهما من هواك، فإنَّ أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى. الحادي والثلاثون: أنَّ الهوى داءٌ، ودواؤه مخالفته، كما قال بعض العارفين: إن شئت؛ أخبرتك بدائك، وإن شئت؛ أخبرتك بدوائك، داؤك هواك، ودواؤك ترك هواك، ومخالفته. وقال بشر الحافي ــ رحمه الله ــ: «البلاء كلُّه في هواك، والشِّفاء كله في مخالفتك إيَّاه». الثاني والثلاثون: أنَّ جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار؛ فليس بدونه. قال رجلٌ للحسن البصري ــ رحمه الله تعالى ــ: يا أبا سعيد! أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك، وسمعت شيخنا
(الكتاب/639)
يقول: جهادُ النفس والهوى أصلُ جهاد الكفَّار والمنافقين، فإنَّه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسَه وهواه أولًا، حتَّى يخرج إليهم. الثالث والثلاثون: أنَّ الهوى تخليطٌ، ومخالفته حِمْيَةٌ، ويُخاف على من أفرط في التخليط، وجانبَ الحِمْية أن يصرعه داؤه. قال عبد الملك ابن قُرَيب: مررتُ بأعرابيٍّ به رمدٌ شديد، ودموعه تسيل على خدَّيه، فقلت: ألا تمسح عينيك؟ قال: نهاني الطَّبيبُ عن ذلك، ولا خير فيمن إذا زُجر، لا ينزجر، وإذا أمر، لا يأتمر! فقلتُ: ألا تشتهي شيئًا! فقال: بلى! ولكنِّي أحتمي، إنَّ أهل النَّار غلبت شهوتُهم حِمْيَتَهُم، فهلكوا. الرَّابع والثلاثون: أنَّ اتباع الهوى يغلقُ [182 ب] عن العبد أبو ابَ التَّوفيق، ويفتح عليه أبوابَ الخِذْلان، فتراه يَلْهج بأنَّ الله لو وفَّق لكان كذا وكذا، وقد سدَّ على نفسه طُرُق التوفيق باتباعه هواه. قال الفُضيل بن عياض: من استحوذَ عليه الهوى واتِّباع الشَّهواتِ؛ انقطعت عنه موارد التَّوفيق. وقال بعض العلماء: الكفر في أربعة أشياء: في الغضب، والشهوة، والرَّغبة، والرَّهبة، ثمَّ قال: رأيت منهنَّ اثنتين: رجلًا غضب فقتل أمَّه، ورجلًا عَشِقَ فتنصَّر. وكان بعض السَّلف يطوفُ بالبيت، فنظر إلى امرأةٍ جميلةٍ، فمشى إلى جانبها، ثمَّ قال (1): _________ (1) هو عبد الله بن حسن بن حسن، كما في ذم الهوى (ص 24 - 25).
(الكتاب/640)
أهوى هوى الدِّين واللَّذَّاتُ تُعجبني ... فكيفَ لي بهوى اللَّذَّات والدِّين؟ فقالت: دعْ أحدَهما؛ تنل الآخر. الخامس والثلاثون: أنَّ من نصر هواه فسد عليه رأيه وعقله؛ لأنَّه قد خان الله في عقله، فأفسده عليه، وهذا شأنه سبحانه في كلِّ من خانه في أمرٍ من الأمور، فإنَّه يفسده عليه. قال المعتصم يومًا لبعض أصحابه: يا فلان! إذا نُصر الهوى؛ ذهب الرَّأي. وسمعتُ رجلًا يقول لشيخنا: إذا خان الرجل في نقد الدَّراهم؛ سلبه الله معرفة النَّقد ــ أو قال: نسيه ــ فقال الشيخ: هكذا من خان الله ورسوله في مسائل العلم. السَّادس والثلاثون: أنَّ من فسح لنفسه في اتباع الهوى ضُيِّق عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيَّق عليها بمخالفة الهوى وُسِّع عليها في قبره ومعاده، وقد أشار تعالى إلى هذا في قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان/ 12]. فلمَّا كان في الصَّبْر ــ الَّذي هو حبس النفس عن الهوى ــ خشونةٌ وتضييقٌ؛ جازاهم على ذلك نعومة الحرير، وسعة الجنَّة. قال أبو سليمان الدَّارانيَّ ــ رحمه الله تعالى ــ في هذه الآية: وجزاهم بما صبروا عن الشهوات. السَّابع والثلاثون: أنَّ اتباع الهوى يصرع العبد عن النُّهوض يوم
(الكتاب/641)
القيامة عن السَّعي مع الناجين، كما صرع قلبه في الدُّنيا عن مرافقتهم. قال محمد بن أبي الورد (1): إنَّ لله ــ عزَّ وجلَّ ــ يومًا لا ينجو من شرِّه منقادٌ [183 أ] لهواه، وإنَّ أبطأ الصَّرعى نهضةً يوم القيامة صريعُ شهوته، وإنَّ العقول لمَّا جرت في ميادين الطَّلب؛ كان أوفرُها حظًّا من يُطالبها بقدر ما صحبه من الصَّبر. والعقل معدنٌ، والفكر معوَّل. الثامن والثلاثون: أنَّ اتباع الهوى يحلُّ العزائم، ويوهنها، ومخالفته تشدُّها وتقويها، والعزائم هي مركب العبد الَّذي يسيره إلى الله والدَّار الآخرة، فمتى تعطَّل المركوب؛ أوشك أن ينقطع المسافر. قيل ليحيى ابن معاذ (2): من أصحُّ الناس عزمًا؟ قال: الغالب لهواه. ودخل خلف بن خليفة (3) على سليمان بن حبيب بن المهلَّب، وعنده جاريةٌ يقال لها: البدر، من أحسن النَّاس وجهًا، فقال له سليمان: كيف ترى هذه الجارية؟ فقال: أصلح الله الأمير! ما رأت عيناي أحسنَ منها قطُّ! فقال له: خذ بيدها! فقال: ما كنت لأفجعَ الأمير بها، وقد رأيت شدَّة عجبه بها! فقال: ويحك! خذها على شدَّة عجبي بها؛ ليعلم هوايَ أنِّي له غالبٌ. وأخذ بيدها، وخرج وهو يقول: لقد حباني وأعطاني وفضَّلني ... عن غير مسألةٍ منه سليمان _________ (1) كما في ذم الهوى (ص 25). (2) المصدر السابق (ص 26). (3) ذم الهوى (ص 26 - 27)، وأمالي اليزيدي (ص 151، 152).
(الكتاب/642)
أعطاني البدر خودًا في محاسنها ... والبدر لم يعطه إنسٌ ولا جان ولستُ يومًا بناسٍ فضله أبدًا ... حتى يغيِّبني لحدٌ وأكفان التاسع والثلاثون: أنَّ مثل راكب الهوى كمثل راكب فرس حديدٍ صعب جموحٍ، لا لجام له، فيوشك أن يصرعه فرسه في خلال جريه به، أو يسير به إلى مهلكٍ. قال بعض العارفين (1): أسرعُ المطايا إلى الجنَّة الزُّهد في الدُّنيا، وأسرعُ المطايا إلى النَّار حبُّ الشهوات، ومن استوى على متن هواه؛ أسرع به إلى وادي الهلكات. وقال آخر (2): أشرف العلماء من هرب بدينه من الدُّنيا، واستصعب قيادُه على الهوى. وقال عطاء (3): من غلب هواه عقله، وجزعُه صبره، افتُضح. الأربعون: أنَّ التَّوحيد واتِّباع الهوى متضادَّان، فإنَّ الهوى [183 ب] صنمٌ، ولكلِّ عبد صنمُ في قلبه بحسب هواه، وإنَّما بعث الله رسله بكسر الأصنام، وعبادته وحده لا شريك له، وليس مرادُ الله ــ سبحانه ــ كسرَ الأصنام المجسَّدة، وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أوَّلًا. قال الحسن بن علي المطَّوِّعي: صنمُ كلِّ إنسانٍ هواه، فمن كسره _________ (1) هو الحسن بن محمد الجريري كما في ذم الهوى (ص 27). (2) رواه ابن الجوزي في ذم الهوى (ص 27) عن بعض العباد. (3) رواه ابن الجوزي (ص 27).
(الكتاب/643)
بالمخالفة؛ استحقَّ اسمَ الفُتُوَّة. وتأمَّل قولَ الخليل لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء/52] كيف تجده مطابقًا للتماثيل التي يهواها القلب، ويعكف عليها، ويعبدها من دون الله، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان/ 43 ــ 44]. الحادي والأربعون: أنَّ مخالفة الهوى مطردة للدَّاء عن القلب والبدن، ومتابعته مجلبةٌ لداء القلب والبدن، فأمراض القلب كلها من متابعة الهوى، ولو فتَّشتَ على أمراض البدن؛ لرأيت غالبَها من إيثار الهوى على ما ينبغي تركُه. الثاني والأربعون: أنَّ أصل العداوة، والشَّرِّ، والحسد الواقع بين النَّاس من اتباع الهوى، فمن خالف هواه؛ أراح قلبه، وبدنه، وجوارحه، فاستراح، وأراح. قال أبو بكر الورَّاق: إذا غلب الهوى؛ أظلمَ القلبُ، وإذا أظلم؛ ضاق الصَّدرُ، وإذا ضاق الصَّدرُ ساء الخُلُق، وإذا ساء الخُلقُ أبغضه الخَلْق وأبغضهم. فانظر ماذا يتولَّد من التِّباغض من الشَّرِّ والعداوة، وترك الحقوق، وغيرها. الثالث والأربعون: أنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ جعل في العبد هوًى، وعقلًا، فأيُّهما ظهر توارى الآخر. كما قال أبو علي الثقفي: من غلبه
(الكتاب/644)
هواه توارى عنه عقله، فانظر عاقبة من استتر عنه عقلُه، وظهر عليه خلافه. وقال عليُّ بن سهل ــ رحمه الله ــ: العقل والهوى يتنازعان، فالتَّوفيق قرينُ العقل، والخِذلان قرينُ الهوى، والنَّفس واقفة بينهما، فأيُّهما غلب؛ كانت النَّفس معه. الرَّابع والأربعون: أنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ جعل القلب ملك الجوارح، ومعدن معرفته، ومحبَّته، [184 أ] وعبوديته، وامتحنه بسلطانين، وجيشين، وعونين، وعُدَّتين، فالحقُّ، والرشد، والهدى سلطانٌ، وأعوانه الملائكة، وجيشه الصِّدق، والإخلاص، ومجانبة الهوى. والباطل سلطانٌ، وأعوانه الشياطين وجنده، وعُدَّته اتباع الهوى، والنَّفس واقعة بين الجيشين، ولا يقدم جيش الباطل على القلب إلَّا من ثغرها، وناحيتها، فهي تخامر على القلب، وتصير مع عدوِّه عليه، فتكون الدَّائرة عليه، فهي التي تُعطي عدوَّها عُدَّةً من قبلها، وتفتح له باب المدينة، فيدخل، ويتملَّك، ويقع الخِذلان على القلب. الخامس والأربعون: أنَّ أعدى عدوٍّ للمرء شيطانُه وهواه، وأصدق صديقٍ له عقله، والملك النَّاصح له، فإذا اتَّبع هواه؛ أعطى بيده لعدوِّه، واستأسر له، وأشمته به، وساء صديقُه ووليُّه، وهذا بعينه هو جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. السَّادس والأربعون: أنَّ لكلِّ عبد بدايةً ونهايةً، فمن كانت بدايته اتباع الهوى؛ كانت نهايته الذُّلّ، والصَّغار، والحرمان، والبلاءَ المتنوع
(الكتاب/645)
بحسب ما اتَّبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذابًا يُعَذَّب به في قلبه، كما قال القائل: مآربُ كانت في الشَّبابِ لأهلها ... عِذابًا فصارت في المشيبِ عذابا فلو تأمَّلت حال كل ذي حالٍ سيئةٍ زَرِيَّةٍ، لرأيت بدايتَه الذَّهاب مع هواه، وإيثارَه على عقله، ومن كانت بدايتُه مخالفةَ هواه، وطاعة داعي رُشْده؛ كانت نهايتُه العزَّ والشَّرفَ، والغنى، والجاه عند الله، وعند النَّاس. قال أبو عليٍّ الدَّقاقُ: من ملك شهوته في حال شبيبته؛ أعزَّه الله ــ تعالى ــ في حال كهولته. وقيل للمُهلَّب بن أبي صُفْرة: بمَ نلتَ ما نلتَ؟ قال: بطاعة الحَزْم، وعصيانِ الهوى. فهذا في بداية الدُّنيا ونهايتها، وأمَّا الآخرة؛ فقد جعل الله ــ سبحانه وتعالى ــ الجنَّة نهاية من خالف هواه، والنَّارَ نهايةَ من اتَّبع هواه. [184 ب] السَّابع والأربعون: أنَّ الهوى رِقٌّ في القلب، وغُلٌّ في العُنُق، وقيدٌ في الرِّجل، ومتابعه أسيرٌ لكلِّ سيئِ الملكة، فمن خالفه عتق من رقِّه، وصار حرًّا، وخلعَ الغُلَّ من عنقه، والقيد من رجله، وصار بمنزلة رجل سَلَمٍ لرجل، بعد أن كان رجلًا فيه شركاء متشاكسون (1). ربَّ مستورٍ سَبَتهُ شَهوةٌ ... فتعرَّى سَتْرُه فانْهَتَكا صاحبُ الشَّهوةِ عبد فإذا ... غلبَ الشَّهوةَ أضحى مَلِكًا _________ (1) البيتان في ذم الهوى (ص 34).
(الكتاب/646)
وقال ابن المبارك (1): ومن البلاء وللبلاء علامةٌ ... ألَّا يُرَى لك عن هواك نُزُوعُ العَبْد عبد النَّفْسِ في شَهَواتِها ... والحُرُّ يشبَع تارةً ويجوعُ الثامن والأربعون: أنَّ مخالفة الهوى تُقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله؛ لأبرَّه، فيقضي له من الحوائج أضعافَ أضعافِ ما فاته من هواه، فهو كَمَن رَغِبَ عن بعرة، فأُعطيَ عوضها دُرَّةً. ومُتَّبعُ الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء مالا نسبة لِمَا ظَفِرَ به من هواه البتَّةَ. فتأمَّل انبساط يد يوسف الصِّديق ــ عليه الصلاة والسلام ــ ولسانه، وقدمِه، ونفسِه بعد خروجه من السِّجن لمَّا قبض نفسَه عن الحرام. قال عبد الرحمن بن مهدي (2): رأيت سفيان الثوري ــ رحمه الله ــ في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلَّا أني وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله ــ تبارك وتعالى ــ فحاسبني حسابًا يسيرًا، ثمَّ أمر بي إلى الجنَّة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها، لا أسمع حِسًّا ولا حركةً؛ إذ سمعتُ قائلاً يقول: سفيانُ بن سعيد؟! فقلتُ: سفيان بن سعيد! فقال: تحفظ أنَّك آثرت الله ــ عزَّ وجلَّ ــ على هواك _________ (1) كما في ذم الهوى (ص 34). وله وقيل لغيره في بهجة المجالس (2/ 306). (2) ذم الهوى (ص 56).
(الكتاب/647)
يومًا؟ قلتُ: إي والله! فأخذني النّثار من كلِّ جانب. وقال عبد الرزاق (1): بعثَ أبو جعفر الخشَّابين حين خرج إلى مكَّة، وقال: إن رأيتم سفيانَ فاصلبُوه، فجاؤوا، ونصبوا الخَشب، وطُلِبَ ورأسُه في حجر الفضيل، فقال له أصحابه: اتقِ الله عزَّ وجلَّ، ولا تشمت بنا الأعداء! فتقدَّم إلى [185 أ] الأستار، ثم أخذها بيده، وقال: برئتُ منه إن دخلها أبو جعفر! فمات قبل أن يدخل مكَّة، فتأمَّل عاقبةَ مخالفة الهوى؛ كيف أقامه في هذا المقام؟! التَّاسع والأربعون: أنَّ مخالفة الهوى توجبُ شرف الدنيا، وشرف الآخرة، وعزَّ الظَّاهر، وعزَّ الباطن، ومتابعته تضع العبد في الدنيا والآخرة، وتُذِلُّه في الظَّاهر وفي الباطن، وإذا جمع الله النَّاس في صعيدٍ واحدٍ نادى منادٍ: ليعلَمْ أهل الجمع من أهل الكرم اليومَ! ألا ليقم المتقون! فيقومون إلى محلِّ الكرامة، وأتباع الهوى ناكسو رؤوسهم في الموقف في حرِّ الهوى، وعَرَقه، وأَلَمِه، وأولئك في ظلِّ العرش. الخمسون: أنَّك إذا تأمَّلت السَّبعة الَّذين يُظلُّهم الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في ظلِّ عرشه يوم لا ظلَّ إلَّا ظله؛ وجدتهم إنَّما نالوا ذلك الظلَّ بمخالفة الهوى، فإنَّ الإمام المُسلَّط القادر لا يتمكَّن من العدل إلَّا بمخالفة هواه. فإن الشَّابَّ المؤثرَ لعبادة ربه على داعي شبابه لولا مخالفةُ هواه؛ لم _________ (1) المصدر نفسه (ص 56).
(الكتاب/648)
يقدر على ذلك، والرَّجل الَّذي تعلق قلبه بالمساجد إنَّما حمله على ذلك مخالفةُ الهوى الدَّاعي له إلى أماكن اللَّذَّات، والمُتَصَدِّق المُخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه؛ لم يقدر على ذلك. والَّذي دعته المرأة الجميلة الشَّريفةُ، فخاف الله عزَّ وجلَّ، وخالف هواه، والَّذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه من خشيته إنَّما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لِحَرِّ الموقف وعَرَقه وشدته سبيلٌ عليهم يوم القيامة، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحَرُّ والعَرق كُلَّ مبلغٍ، وهم منتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى. فالله سبحانه وتعالى المسؤول أن يعيذنا من أهواء نفوسنا الأمَّارة بالسُّوء، وأن يجعل هوانا تبعًا لِمَا يحبُّه ويرضاه، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير (1). _________ (1) بعده في ت: «تم الكتاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل». وفي آخر نسخة ش: «تم الكتاب بعون الله سبحانه وتعالى، والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وآل كلٍّ وسائرِ الصالحين، صلاةً وسلامًا دائمانِ (كذا) إلى يوم الدين، ورضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين».
(الكتاب/649)