×
مجموع رسائل أصول الفقه : مجموعة من رسائل العلامة المعلمي اليماني - رحمه الله - التي تكلم فيها على بعض مسائل الأصول وحررها.

 مجموع رسائل أصول الفقه

تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (1313 - 1386 هـ) رحمه الله تعالى تحقيق محمد عزير شمس

(مقدمة 19/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة من رسائل العلامة المعلمي التي تكلم فيها على بعض مسائل الأصول وحرَّرها، وهي وإن كانت قليلة في العدد فإنها تحتوي على مباحث مهمة اختلفت فيها آراء الأصوليين وكثر الجدل حولها. وقد اتبع المؤلف رحمه الله فيها أسلوبه المعروف في سائر كتبه، وهو عرض المسائل بأدلتها ومناقشتها مناقشة علمية هادئة، ونقد الأحاديث والآثار الواردة في الباب، والتعقيب على أوهام المؤلفين دون الغضّ من شأنهم، وإتحاف القراء بفوائد واستنباطات جديدة من بنات فكره لم يُسبق إليها. ونرى في أثنائها استطرادات في تفسير بعض الآيات، والكلام على الأحاديث والرجال، والشرح اللغوي لبعض الكلمات، وتحرير موضوعات في البلاغة، وحلّ مشكلات في العقائد والأصول، وبيان مناهج النقّاد في الجرح والتعديل. ومن أهم مباحثها الرد على شُبه منكري حجية السنة النبوية وشُبه المانعين من قبول أخبار الآحاد، فقد فصَّل الكلام عليها بما يكفي ويشفي، كما أورد اعتراضات بعض الأصوليين وناقشهم بالحجج والبراهين. وتوسَّع في بيان حقيقة الكذب وأحكامه في كتابه "إرشاد العَامِه" بما لا نجده في موضع آخر. وقد كان المؤلف رحمه الله بدأ بتأليف رسالة في أصول الفقه بأسلوب سهل مبسَّط، ولكنه للأسف لم يكملها. كما تكلم على نشأة التعصب المذهبي عند أتباع الأئمة وكيفية معالجته.

(مقدمة 19/5)


وإليكم التعريف بأصول هذه الرسائل ومحتوياتها:

  (1) رسالة في فرضية اتباع السنة والكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد:

توجد النسخة الخطية منها في مكتبة الحرم المكي برقم [4665] (ص 21 - 67) ضمن دفتر بقطع طويل، وفيها شطب في مواضع كثيرة منها وإلحاقات وزيادات في الهوامش. وفي كل صفحة منها أكثر من ثلاثين سطرًا. ولم يعنون لها المؤلف بعنوان خاص، ولم يقدم لها بمقدمة، بل بدأ يكتب بعد البسملة تحت عنوان "فرض اتباع السنة"، ثم تطرق إلى الكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد ودفع شبه المنكرين لها بتفصيل. استهل المؤلف هذه الرسالة بذكر إجماع المسلمين على فرض اتباع ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام، وأن التفريق بين الكتاب والسنة تفريق بين الله ورسله. ثم استعرض شبه منكري حجية السنة، وهي كما يلي: الأولى: أن القرآن تبيان لكل شيء وفيه تفصيل كل شيء كما قال الله تعالى، فلا يحتاج إلى شيء آخر. الثانية: أن القرآن يكرر القصة الواحدة في مواضع، وينص على فروع من الأحكام التي قد يبدو للناظر أنها ليست بعظيمة الأهمية كالأمر بكتابة الدين، فكيف يتصور أنه لا يذكر الأمور العظيمة؟ الثالثة: أن السنة إذا كانت مفروضًا اتباعها كالقرآن، فلماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها؟ بل نُقل عنه النهي عن ذلك. ولماذا لم يعتنِ الخلفاء بجمعها؟

(مقدمة 19/6)


بل جاء عنهم ما يخالف ذلك. الرابعة: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته أن يكتب كتابًا قال عمر رضي الله عنه: "عندنا كتاب الله حسبُنا"، وأقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ردَّ على هذه الشُّبه بتفصيل، وبيَّن أن الحجة قائمة على فرضية اتباع السنة، وأن فيها ما ليس في القرآن، وأن الذي يرتاب في ذلك فحقُّه أن تقام عليه الحجج على أصل الإسلام، ولا يُتشاغل معه بالنظر في الجزئيات. ولم يجعل الله حجج الحق بغاية الظهور، لأنها لو كانت كذلك لكانت معرفتها سهلة، ولكان الخلق كالمجبورين على قبولها. وقد جعل الله شبهاتٍ مع هذه الحجج لابتلاء العباد بها، وله فيها حِكَم عديدة كما يظهر من التأمل فيها. أما النهي عن الكتابة فقد ورد بذلك حديث واحد، وأعلَّه البخاري وغيره، وجاءت في الإذن أحاديث. وأكثر الصحابة لم يكونوا يرون بها بأسًا. وما روي عنهم خلاف ذلك فله محمل حسن. وذكر المؤلف أسباب عدم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنة، وأنه كان في ترك الكتابة آنذاك مصلحة عظيمة وهي حثُّ المسلم على الطلب والسماع والحفظ. وفيها حِكَم أخرى يطول بيانها. أما قول عمر رضي الله عنه فقد تواتر عنه امتثاله للسنة وتديُّنه بها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعدها، فلابدَّ من حمل كلمته تلك على ما لا يخالف ذلك. ثم بيَّن المؤلف المقصود منها ومن غيرها من الروايات التي تُروى عن عمر في هذا الباب.

(مقدمة 19/7)


ثم انتقل المؤلف إلى الكلام على تقسيم الأخبار عند الأصوليين إلى ثلاثة أقسام: مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، وما ليس مقطوعًا بكذبه أو بصدقه. فالمقطوع بكذبه ما قام البرهان القاطع على خلافه. وعقَّب المؤلف على ذلك بأنك لن تجد إن شاء الله برهانًا قاطعًا يقينيًّا مخالفًا لحديثٍ إلّا وجدتَ ما يدلُّك على أحد الوجهين: إما أن يكون في إسناده خلل، وإما أن يكون وقع تغيير في متنه بزيادة أو نقص، أو تقديم أو تأخير، أو تبديل لفظٍ بآخر، أو نحو ذلك مما يغير المعنى. ونقل كلام الأصوليين أن من المقطوع بكذبه: المنقول آحادًا، والعادة قاضية بأنه لو صح لنُقِل بالتواتر، لتوفُّر الدواعي على نقله. وعقب عليه المؤلف بأنه ينبغي التثبت في هذا، فقد تقع القضية ولا يحضرها إلا الواحد أو الاثنان، وقد يحضر جماعة ولا يتنبه لها منهم إلّا الواحد أو الاثنان. وقد يشاهدونها ولا يرون لها أهمية فلا ينقلونها، وقد يرون لها أهمية ولكن لا يرون لنقلها أهمية. وقد ذكر المؤلف أمثلة عديدة لها، وتوصَّل إلى أنه ينبغي التثبت في ردّ الأحاديث بما ذُكر، فلا يُقدم على ذلك مع قيام الاحتمال. أما المقطوع بصدقه فذكر الأصوليون منها أمورًا: الأول: خبر الربّ عز وجل، وخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أن يخبر إنسان بمرأى ومسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره عليه. الثالث: المتواتر. الرابع: قد يفيد الآحاد العلم بمعونة القرائن.

(مقدمة 19/8)


الخامس: ما أُجمِع على صحته أو تُلُقِّي بالقبول أو أُجمِع على الحكم الذي يدلُّ عليه. السادس: أن يخبر إنسان بخبرٍ بحضرة قومٍ لو صدَّقوه حصل العلم بصحة الخبر، ولكنهم سكتوا، ولا حاملَ لهم على السكوت عن تكذيبه لو كان كاذبًا. السابع: بقاء الخبر مع توفُّر الدواعي على إبطاله. ذكر المؤلف هذه الأنواع، ثم عقَّب على كلام الأصوليين فيها بما يوضّحه أو يقيّده أو ينقده. وقد فصَّل في موضوع الإجماع تفصيلًا حسنًا، وتكلم على حججه وأنواعه. وذكر عن الأمر السابع أن قاعدته واهية، لأن توفّر الدواعي على الإبطال وإن اقتضى أن تعِزّ رواية الخبر فلا يقتضي أن كلَّ خبر يُروى صحيحٌ، فضلًا عن أن يكون مقطوعًا به. ثم عقد فصلًا في الكلام على قول جماعة من العلماء: إن أحاديث الصحيحين تفيد العلم لأنّها تُلقِّيت بالقبول، عدا أحاديث انتقدها عليهما بعض الحفَّاظ. وقد تحرر للمؤلف أن أحاديث "صحيح البخاري" على أربعة أضرب، وأن الضرب الأول منها هو الذي احتاط له البخاري، فهو الذي يصح أن يقال: إن أئمة الحديث الذين اطلعوا على الكتاب أجمعوا على صحته إلا ما انتقده بعضهم. وأما الباقي فغاية ما هناك أنهم أجمعوا على أنه صالح لموضعه الذي ذكر فيه، أعني المتابعات والشواهد وفضائل الأعمال والعواضد ونحوها. ويقاس عليه "صحيح مسلم".

(مقدمة 19/9)


وفي فصلٍ آخر تكلم على ما نُقل عن بعض الأئمة أن خبر الثقة يفيد العلم مطلقًا، فذكر أنهم أرادوا بذلك الردّ على الجهمية وبعض الغلاة في الرأي الذين كانوا يطعنون في الأحاديث الواردة في الصفات بأنها أخبار آحاد لا تفيد إلّا الظن، ويردُّون الأحاديث بدعوى أنها مخالفةٌ لظاهر القرآن أو القياس. فقال الإمام أحمد وغيره: إن خبر الثقة يفيد العلم، قصدوا بذلك أن الأخذ به واجب لحجج تفيد العلم اليقيني، ومنها إجماع سلف الأمة على الأخذ بخبر الثقة. ثم جعل المؤلف عنوان "أخبار الآحاد"، وذكر أنها القسم الثالث من الأخبار عند الأصوليين، وهو ما لا يُقطع بكذبه ولا بصدقه. وقبل الكلام عليها عقد فصلًا لبيان سبب ضلال أمم الشرك السابقة، فقد كانوا يعلمون وجود الله وعظمته وجلاله، ثم أخذوا يثبتون له ما يرونه كمالًا، فلم يرجعوا إلى هدي الأنبياء والتمسك بسننهم وآثارهم، بل اغتروا بعقولهم واستغنوا بأفكارهم، فضلُّوا وهلكوا. وهذا ما حدث في هذه الأمة، فقد ضلّت الخوارج وغيرها بسبب جهلهم بالهدي النبوي واستغنائهم عن الاهتداء بالعارفين به من الصحابة. ثم بدأ الكلام على وجوب العمل بخبر الواحد، وأنه قد وقع الإجماع على ذلك، وما نقله بعض الأصوليين عن الظاهرية من أنه لا يجب العمل به مطلقًا= خلاف المعروف عن أئمة الظاهرية كداود وابن حزم. نعم حكي عن المعتزلة كالأصمّ وتلميذه إبراهيم بن إسماعيل بن علية أنه لا يُقبل خبر الواحد في السنن والديانات، ويُقبل في سائر الأحكام. وحكي عن هشام والنَّظَّام أنه لا يُقبل إلا بعد قرينة تنضمُّ إليه، وهو علم الضرورة.

(مقدمة 19/10)


ثم ذكر جميع الشبه العقلية والنقلية للمانعين من قبول خبر الواحد والعمل به، وأطال في الرد عليها، ونقل كلام الأصوليين في هذا الموضوع، وعقَّب عليه بما يوضّحه ويُبيِّنه. وقد تكلم بتفصيل على آية {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] التي استدل بها المانعون، وفسَّرها ونظر في معناها من أربع جهات: العربية، وسياق الآيات، ومراعاة نظيرها من الآيات في القرآن، وتفسير السلف. وفنَّد مزاعم المانعين في التعلُّق بهذه الآية. كما تكلم على آية {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] وبيَّن معنى "يُغني" بتتبع الشواهد في القرآن وكلام العرب (1)، ثم شرح معنى "الحق" الذي إذا كرهه الإنسان حاول أن يدفعه بالظنّ، وفصَّل في ذلك تفصيلًا لا يكاد يوجد في موضع آخر، ورجَّح أن المراد بالظنّ الشبهات، وبالحق البراهين القطعية، وعلى ذلك يدلُّ السياق. وفي فصل آخر ردّ على بعض المفسرين الذين جعلوا "لا يُغني" في الآية بمعنى: لا يقوم مقامه، ولا يسدُّ مسدَّه، و"من" بمعنى بدل، واعترض عليهم بوجوه. وفي الفصل الأخير من هذه الرسالة ذكر بعض الشبه النقلية من الأحاديث والآثار التي تدلُّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وغيرهما لم يقبلوا خبر الواحد حتى جاء آخر فأخبر بمثله. تكلم المؤلف عليها واحدًا واحدًا، وبيَّن معناها ووجهها، ونقل كلام الشافعي من "الرسالة" وكلام الآخرين. _________ (1) للمؤلف رسالة في معنى "أغنى عنه" في "مجموع رسائل التفسير"، وأشار إليها في "الأنوار الكاشفة" (ص 193).

(مقدمة 19/11)


وبهذا تنتهي الرسالة. ولا يمكن أن ألخِّص هنا كلَّ ما قاله، وإنما المقصود استعراض المباحث الرئيسة وترتيبها وبيان أجزاء الكتاب، وعلى القراء أن يراجعوا كلام المؤلف في موضعه ويستمتعوا ببيانه واستنباطاته ودقائقه.

  (2) رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه:

توجد هذه الرسالة في مكتبة الحرم المكي برقم [4665] (ص 1 - 20) وهي ضمن دفتر طويل مرقّم الصفحات، في كل صفحة منها أكثر من ثلاثين سطرًا. وقد أصاب هذا الدفتر بللٌ في أطراف الصفحات وخاصةً في أعلاها، أثَّر في الكتابة، فلا تُقرأ بعض الكلمات إلّا بصعوبة. وفي هوامشها زيادات وإلحاقات لم تسعها الصفحة، فكتبها الشيخ في هوامش الصفحات التالية. وفي كثير من صفحاتها شطب وضربٌ على بعض الفقرات والأسطر. وكان سبب تأليفها أن الشيخ أراد تحقيق بعض المسائل المتعلقة بأحكام الجرح والتعديل لما وجد عند المتأخرين كلامًا مخالفًا للصواب وغير وافٍ بالتحقيق، ثم رأى أن يضمّ إليه شيئًا من الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه، فجمع هذه الرسالة، ورتَّبها على ثلاثة أبواب كما قال في المقدمة. والموجود منها بين أيدينا بابان فقط. ولم نجد الباب الثالث ضمن هذا الدفتر ولا في المسوّدات الأخرى. عقد المؤلف الباب الأول للكلام على بعض ما يتعلق بخبر الواحد، وقسَّمه إلى أربعة فصول: الأول: في وجوب العمل بخبر الواحد، نبَّه فيه المؤلف ــ كما قال ــ على ما لم يقف عليه في كتب أهل العلم أو رآه غير مستوفًى. وذكر ثلاثة أنواع من الحجج على ذلك من آيات القرآن الكريم، وتكلم عليها بما يشفي.

(مقدمة 19/12)


ثم ذكر شبه المخالفين، وهي: أن العقل لا يجوِّز أن يتعبد الله عباده بخبر الواحد، وأنه لا يفيد إلّا الظن والظن لا يغني من الحق شيئًا، وأن عامة الأخبار المروية بطرق الآحاد غير مستجمعة لشروط القبول. وقد فنَّد المؤلف جميع هذه الشبه، وردَّ على كتّاب الإفرنج وأتباعهم، وبعض الفرق الغالية كالخوارج والروافض، وأفراد من المعتزلة والجهمية وبعض الغلاة من أهل الرأي الذين خالفوا أهل الحديث في نقدهم للأحاديث والآثار، وبيَّن منهج المحدثين في التمييز بين الصحيح والضعيف، والشروط المتفق عليها لقبول خبر الواحد. وأكَّد في آخره على ضرورة الابتعاد عن الهوى في الحكم على الحديث، والالتزام بتطبيق الأصول والقواعد عند نقده. والفصل الثاني فيما يفيده خبر الواحد، ذكر فيه أن خبر الواحد المستجمع للشروط وإن كان وجوب العمل به ثابتًا قطعًا، فدلالة اجتماع الشرائط على نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ظنية. ونظير ذلك أذان المؤذن وفتوى العالم وشهادة العدلين، فوجوب العمل بها ثابت قطعًا، وإن كان يمكن في كل واحدٍ من هؤلاء أن يخطئ ويغلط. ثم تكلم على ما نُقِل عن بعض الأئمة من أنه يفيد العلم، وذكر تشنيع بعض الناس عليهم بسبب هذا القول، ثم ردّ عليهم وبيَّن المقصود من كلام الأئمة وأنهم أرادوا واحدًا من المعاني الآتية: الأول: أنه يفيد العلم للزوم الحكم الذي تضمَّنه لمن ثبت عنده. الثاني: أنه يفيد العلم بمعنى أن احتمال خلافه احتمالٌ غيرُ ناشئٍ عن دليل. الثالث: أنه يفيد العلم اليقيني في بعض الصور، كالمتلقَّى بالقبول والمحتفَّة به قرائن.

(مقدمة 19/13)


وعقد الفصل الثالث لبيان المعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد، فذكر أن مدار وجوب العمل به على إفادته الظنّ، وهنا احتمالان: الأول أن تكون إفادة الظن هي العلة، والثاني أن تكون هي الحكمة، والعلة ضابطها، وهو نفس إخبار الثقة. والذي رجَّحه المؤلف هو الثاني مع زيادة وصف في الضابط كأن يقال: خبر الثقة خبرًا لم يتبين خطؤه، وهذا معنى قول أهل الحديث: "من غير شذوذ ولا علة قادحة". والفصل الرابع للمقابلة بين الرواية والشهادة، وقد فصَّل الكلام فيه عن وجوه الخلاف بينهما، وذكر استشكال بعضهم التخفيفَ في الرواية بالاكتفاء بخبر واحدٍ، على خلاف الشهادة لإثبات الزنا التي تتطلب أربعة شهود، وفي الدماء ونحوها رجلين، وفي الأموال رجلين أو رجلًا وامرأتين، مع أن القياس عكسه، فإن الشهادة إنما تثبت بها قضية واحدة، وأما الرواية فإنها تكون دينًا يُعمَل به إلى يوم القيامة في قضايا لا تحصى. وردَّ على هذا الإشكال من ثلاثة أوجه، فذكر أن الحاجة داعية إلى معرفة الحكم الشرعي للعمل به، وهذا يقتضي التوسعة فيما يُعرف به، وعارض ذلك خشية غلط الراوي، والموازنة بين هذين مما يصعب على الناظر، فلا يسعه إلا أن يكل الأمر إلى عالم الغيب والشهادة. ثم إن الظن الحاصل بخبر الثقة الواحد الذي يقبله أهل الحديث لا ينقص عن الظن الحاصل بشهادة العدلين التي يقضي بها الحكَّام، بل لعله أقوى منه لوجوه. وأخيرًا فإن الله قد تكفَّل بحفظ الدين، وبيَّنه بلسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلك السنة. فمن المحال أن يُلصَق بالشريعة ما ليس منها على وجهٍ لا يمكن لأهل العلم نفيُه عنها، لأن ذلك منافٍ للحفظ الذي تكفَّل الله به.

(مقدمة 19/14)


أما الباب الثاني فقد عقده المؤلف لبيان شرائط حجية خبر الواحد، وذكر أنها على ثلاثة أنواع، والموجود منها الكلام على النوع الأول فقط، وهو ما يُشترط في المخبر حال الإخبار، تكلم فيه أولًا على العدالة وضوابطها، وتطرق إلى البحث عما إذا روى العدل عن رجل ولم يجرحه، هل يعتبر ذلك تعديلًا له؟ ثم تكلم على الشرط الثاني وهو الضبط، وعرَّف الضبط بأنه اجتماع الثبات والتثبت، فكون الإنسان ضابطًا لميزان نفسه عند التلقي وعند الأداء هو الثبات، ثم إنه قد يكون مع ثباته في نفسه يتفقَّد نفسه عند الأداء، فيعرف حقيقة الحال فيحدِّث بحسبها، فهذا هو المتثبت. وبهذا يخرج خبر المغفَّل والمتساهل. وفي الفصل الأخير ذكر أن غالب ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام مبني على اعتبار أحاديث الراوي، ويدلُّ عليه كلام الأئمة، وتحرَّر للمؤلف باستقراء كثير من كلامهم أن لهم مذاهب: الأول: مذهب ابن حبان، فعنده أن المسلمين محمولون على العدالة، فكل راوٍ لم يُجرَح فالظاهر أنه عدل. وبيَّن ضعف مذهبه، وردَّ عليه، وقال في آخره: والذي تبيَّن لي أن ابن حبان لم يلتزم الاعتبار، بل أخذ "التاريخ الكبير" للبخاري، ونقل غالبه إلى "الثقات". وكثير ممن أخذه عنه لم يعرفه ابن حبان، ولا عرف ما روى، بل وكثير منهم لم يعرف عمن رووا ولا من روى عنهم. هذه فائدة جليلة توصَّل إليها المؤلف بعد دراسة الكتابين والمقارنة بينهما، وانظر تتمة الكلام هناك.

(مقدمة 19/15)


الثاني: مذهب العجلي، وقد توصَّل المؤلف بعد تتبع جماعة من الرواة الذين وثَّقهم إلى أنه انفرد بتوثيق كثير من التابعين الذين لم يذكر لكل منهم إلّا راوٍ واحد ثقة، ثم عدَّد المؤلف بعض أسمائهم وقال: وافقه ابن حبان في هؤلاء أو أكثرهم على قاعدته. وبه ينتهي الموجود من هذه الرسالة، ولم نجد تتمته ضمن مسوّدات المؤلف، كما لم نجد الكلام على النوعين الثاني والثالث حسبما أشار إليه في أول الباب الثاني.

  (3) إرشاد العَامِه إلى معرفة الكذب وأحكامه:

وصل إلينا من هذا الكتاب قطع متفرقة: أولاها في مكتبة الحرم المكي برقم [4697] (ص 1 - 24)، تحتوي على الخطبة وبعض الفصول الأولى من الكتاب. وقطعة ثانية ضمن مسوَّدات المؤلف التي عثرنا عليها أخيرًا ولم تفهرس حتى الآن، وهي الصفحات (33 - 44) من الكتاب. بدأ المؤلف فيها الكلام على موضوع الكذب من جديد، ومهَّد له بتمهيد، ثم ذكر أربعة مطالب، ولم يُتمَّ الكلام فيها على المطلب الرابع، وفي آخرها نقص، والكلام غير متصل مع الصفحات الأخيرة منها، وقد أشرنا إليها في مكانها. ثم قطعة ثالثة ناقصة من أولها (ص 92 - 101) فيها استطراد في ردّ شبهة المشركين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، وفي آخره ذكر تأخير البيان عن وقت الحاجة، ثم الضرب الثاني من المجمل وهو التورية. وقد كتب المفهرس

(مقدمة 19/16)


على هذه القطعة "ورقات تابعة للعبادة"، والواقع أنها ليست من كتاب "العبادة"، فإن المؤلف نفسه يشير في آخرها إلى أن تمام الكلام في "كتاب العبادة". ومما يدلُّ على أنها من "إرشاد العامه" أن الكلام الموجود في الصفحة الأخيرة منها تكرر هنا وفي أول القطعة الرابعة من الكتاب كما سيأتي وصفها. وقد وضع المؤلف في آخر هذه القطعة قبل الكلام المكرر خطًّا فاصلًا، وكتب في الهامش: "آخر الاستطراد". وهذا يفيد أن ما قبله من الكلام استطراد، ثم رجع إلى الكلام على الكذب وأنواعه وما يدخل فيه وما لا يدخل فيه. ثم قطعة رابعة توجد في المكتبة مع القطعة الأولى، وهي مرقمة الصفحات (ص 47 - 86)، وقد ضاعت الصفحات (70 - 73) فلا توجد في الأصل. وهذه القطعة تحتوي على بقية الفصول والمطالب من الكتاب إلى نهاية المطلب الحادي عشر. ثم وجدنا الصفحة (89) ضمن مسوَّدات المؤلف أخيرًا، فوضعناها بعد (ص 86) من الأصل. وهناك قطعة خامسة من الكلام على حقيقة الكذب ضمن مجموع برقم [4658] (الورقة 4 - 10)، وفيها أيضًا بيان معنى الظاهر وحقيقة الظهور وكيفية القرينة، وقد تكلم على هذه الموضوعات باختصار، وهي تناسب موضوعات الكتاب، فألحقناها به، وفي بعض الصفحات من هذه القطعة شطب كثير. وأخيرًا وجدنا ورقتين بخط المؤلف، تحدث فيهما عن بعض الموضوعات التي تناولها في القطعة الأولى، فألحقناها بآخر الكتاب.

(مقدمة 19/17)


وقد ذكر المؤلف في المقدمة سبب التأليف، فإنه لما نظر فيما وقع من الاختلاف في العقائد والأحكام، ورأى كثرة التأويل للنصوص الشرعية، تبيَّن له في كثير من ذلك أنه تكذيب لله ورسله، ثم رأى في كلام بعض الغلاة التصريح بنسبة الكذب إلى الله والرسل، والتلبيس على أكثر المسلمين بذلك، فجرَّه البحث إلى تحقيق معنى الكذب وبيان أحكامه، فألَّف هذه الرسالة. بدأها بذكر معنى "الخَبَر" لغةً واصطلاحًا، والفرق بينه وبين "الخُبْر". وأن الخَبر ما يحتمل الصدق والكذب لذاته. ثم حقَّق معنى "الصدق والكذب" وبيَّن الخلاف فيه بين جمهور أهل السنة والمعتزلة، ثم ذكر أن أهل البيان عند كلامهم في تعريف الصدق والكذب لم يتعرضوا للفرق بين الخبر الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا، والخبر المحتمل لمعنيين فأكثر. ووجه ذلك أن المحتمل للمعنيين إن كان احتماله لهما على السواء بدون رجحان فذلك راجع إلى معنى واحد، وإن كان ظاهرًا راجحًا في أحد المعنيين فالمعنى الذي يجب أن يُحكم به هو الظاهر الراجح. ثم قد يُضمِر المخبر في نفسه المعنى الراجح وقد يُضمِر المرجوح، ولذا فلابد للحكم عليه بالصدق أو الكذب من معرفة "إرادة المخبر وإضماره". وقد فصَّل المؤلف الكلام في هذا الموضوع، وأورد نصوص علماء الأصول والبلاغة وناقشهم. ثم تكلم على "القرينة" وذكر إجماع أهل العلم على أنه لابدّ للمجاز من قرينة، وإذا لم تكن هناك قرينة فالكلام على حقيقته، وإن كان معناه الحقيقي مخالفًا للواقع فأهل السنة والجمهور يسمونه كذبًا، وغيرهم يشترط في تسميته كذبًا أن لا يكون المتكلم يعتقد أنه مطابق للواقع.

(مقدمة 19/18)


إلى هنا كان الكلام في المطلب الأول. والمطلب الثاني في محطّ المطابقة، ذكر فيه أن مدار الصدق والكذب إنما هو على الواقع في نفس الأمر من جهة، وعلى مدلول الخبر نفسه من جهة أخرى، فإن تطابقا فصدقٌ، وإلَّا فكذب. والمطلب الثالث في المجاز، ذكر فيه تعريفه أولًا، ثم الإجماع على أنه لابدّ للمجاز من قرينة معتبرة، إلّا أن كثيرًا من الأصوليين يجعلون القرينة شرطًا لصحة الاستعمال بقصد الإفهام، وصحة الحمل في فهم الكلام. ثم تكلم عن موقف الظاهرية من المجاز، وأنهم يمنعون وقوعه في كلام الله ورسوله، وبيَّن وجهة نظرهم أن كل ذلك من الحقيقة. أما عند علماء البيان فإن الكلمة المستعملة في غير ما وُضِعت له تكون على أقسام، وهي: المجاز، والكناية، والارتجال، والغلط، واللغو. ذكر المؤلف أمثلتها وقال: إن هذا الأخير يصدق عليه تعريف الكذب. ثم تطرَّق إلى ذكر "الفرق بين الاستعارة والكذب" عند البلاغيين، ونقل أقوالهم، وحرَّر الكلام في هذا الموضوع. ثم انتقل إلى بيان "الفرق بين المجاز والكذب" واستعرض أقوال علماء البيان بهذا الشأن، وذكر الخلاف بينهم. إلى هنا انتهت القطعة الأولى من الكتاب. أما القطعة الثانية فتبدأ بذكر تمهيد في فضل الكلام والبيان، ثم تتطرق إلى المطالب الآتية: المطلب الأول: في تعريف الصدق والكذب. المطلب الثاني: فيمن يلحقه معرَّة الكذب. المطلب الثالث: في إرادة المتكلم.

(مقدمة 19/19)


المطلب الرابع: في القرينة. وفي آخره الكلام على نسبة الهداية والإضلال إلى الله تعالى، وبيان حقيقتهما في ضوء القرآن، ومن المستحق لأن يهديه الله وأن يكون القرآن له هدًى، ومن المستحق لأن يُضِلّه وأن يكون القرآن له عمًى. وهذه المطالب الأربعة كأنها تلخيص وتحرير لما كتبه في القطعة الأولى بأسلوب جديد. أما القطعة الثالثة فأولها ناقص، وفيها استطراد لبيان معنى عبادة الشيطان ورد شبهة المشركين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. وفي آخرها ذكر أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا يُعدُّ كذبًا، وهو الضرب الأول من المجمل. والضرب الثاني منه التورية، وهو أيضًا ليس كذبًا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها. والكلام متصل بذكر معنى التورية وأمثلتها في القطعة الرابعة من الكتاب. ثم بقية المطالب إلى المطلب الحادي عشر، وقد شطب أحيانًا على الأرقام أو غيَّرها بأرقام أخرى، مما يدلُّ على أن المؤلف كان يزيد وينقص في ترتيب الموضوعات الرئيسة للكتاب واختيار عناوينها، والموجود منها في هذه القطعة ما يلي: 8 - ما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب. 9 - المعاريض وكلمات إبراهيم عليه السلام. 10 - ما رُخِّص فيه مما يقول الناس: إنه كذب. 11 - ما ورد من التشديد في الكذب. (وقد وجدنا تتمته ضمن مسوَّدات المؤلف).

(مقدمة 19/20)


وقد فصَّل المؤلف في الكلام على هذه المطالب بما لا مزيد عليه، وذكر من الأمثلة والشواهد ما يقرِّرها ويوضِّحها، ومع ذلك قال في آخر بعض الفصول: "قد طال الكلام في هذا المطلب، ولم أبلغ منه كلَّ ما أريد، وأرجو أن أكون قد قاربتُ"! وقد ألحقنا بالكتاب قطعتين وجدناهما ضمن مسوَّدات المؤلف. الأولى بدأها بالكلام على "حقيقة الكذب"، ثم تطرَّق إلى تعريف "الظاهر" و"القرينة" و"المراد بالظهور" و"كيفية الاقتران". وقد سبق الكلام على هذه الموضوعات بتفصيل في أول الكتاب، وتكلم عليها المؤلف من جديد في هذه القطعة. والثانية في كلام علماء البيان عن الاستعارة والمجاز، وأنه لابدَّ لهما من علاقة وقرينة، والفرق بين الاستعارة والدعوى الباطلة، وبين الاستعارة والكذب. وقد سبق نقل أقوال البلاغيين والتعقيب عليها في القسم الأول من الكتاب، وعاد إليه المؤلف من جديد وكتب ورقتين في هذا الموضوع، تركهما ضمن كتاب "فيض الفتاح على حواشي شرح تلخيص المفتاح" (للشربيني)، وقد عثرتُ عليهما عندما كنت أراجع النصوص المنقولة منه. هذا استعراض سريع لمباحث الكتاب، وفي أثنائها تحقيقات وأبحاث أخرى نثرها المؤلف، لا يجنيها إلّا من قرأ الكتاب بعناية واهتمام.

  (4) رسالة في أصول الفقه:

يوجد أصلها في مكتبة الحرم المكي برقم [4678] بخط المؤلف في ستّ صفحات بقطع طويل، وعلى بعضها شطب كثير وزيادات وإلحاقات

(مقدمة 19/21)


في الهوامش. ألَّفها لمن كان يرغب من طلبة العلم في دراسته عليه، وسهَّل فيها المطالب، وأعرض عن كثير من الاصطلاحات والتدقيقات، واقتصر من المباحث الكلامية على ما لابدَّ منه، وسلك فيها مسلك التحقيق. وقد ذكر في مقدمتها أن الكتب المؤلفة في هذا العلم على ضربين: الأول كتب الغزالي ومن بعده. والثاني بعض المختصرات لمن قبله كـ"اللمع" للشيرازي و"الورقات" للجويني. أما الأول فقد مُزِج بمباحث كثيرة من علم الكلام والمنطق، وأما الثاني فإنه بغاية الاختصار، ولا يخلو مع ذلك عن تعقيد. ونظرًا لحاجة طلاب العلم ألَّف هذه الرسالة بأسلوب سهل مبسط ليفهمها الجميع، إلّا أنه لم يتمكن من إكمالها، فالموجود منها يحتوي على مقدمة وفصلين فقط، وتشتمل المقدمة على خمسة مباحث: الأول: أن العلم في أصل الوضع العربي هو المعرفة القطعية. وذكر في أثنائه أنه ينقسم قسمين: الأول ما لا يقبل تشكيكًا البتة. والثاني ما يقبل التشكيك في الجملة. وأشار أيضًا إلى أن العلم قد يطلق على ما يعمُّ الظن، فيشتبه الظن بالعلم، وأن حكم الذهن الجازمَ يسمَّى "اعتقادًا"، وقد يكون عن علم وقد يكون عن ظنٍّ غالب. وكثيرًا ما يطلق الظنّ على الخرص والتخمين، وهو ما يُبنى فيه الحكم على أمارة ضعيفة. وكثيرًا ما يطلق العلم ويُراد به الظن. الثاني: في شرح كلمة "الأصول" في اللغة. الثالث: في شرح كلمة "الفقه" في اللغة والاصطلاح.

(مقدمة 19/22)


الرابع: في معنى "أصول الفقه". الخامس: في تعريف "علم أصول الفقه". أما الفصل الأول فقد بيَّن فيه أن أصول الفقه لابدَّ أن تكون قطعية، وذكر اعتراض بعض العلماء على ذلك وجوابه، ثم ما يرِد على ذلك ومناقشته. والفصل الثاني في الأحكام، ذكر فيه معنى الحكم أولًا، ثم قسَّمه قسمين: الأول: الحكم التكليفي، وهو خمسة (الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهية، والتحريم). والثاني: الحكم الوضعي. والموجود من هذه الرسالة ينتهي بالكلام على المسائل المتعلقة بالحكم التكليفي. ولم نجد في مسوّدات المؤلف بقية المباحث، فلا ندري هل كتبها ولم تصل إلينا، أو لم ينشط لكتابتها بسبب انشغاله بأعمال أخرى. ولو كملت لكانت رسالة محرَّرة في الأصول تناسب المبتدئين والمتوسطين. ومن تواضع المؤلف أنه ينصح طلبة العلم في مقدمتها أن لا يعدُّوه عالمًا، بل يعتبروه واحدًا من جملتهم، يذاكرهم على حسب وسعه. ولا يعتمدوا على قوله ما لم يجدوه موافقًا لقولِ أحدٍ من أئمة العلم ومطابقًا للدليل وقويًّا في النظر. وهذا منه غاية التواضع والإنصاف، وعدم التبجُّح برأيه والاعتداد بنفسه. فرحمه الله رحمة واسعة.

  (5) رسالة في التعصب المذهبي:

توجد أربع صفحات في مكتبة الحرم المكي برقم [4786] ضمن دفتر يحتوي على أشياء مختلفة، وهي في الكلام على نشأة التعصب المذهبي عند أتباع الأئمة وكيفية معالجته. بدأها بذكر أن الدين شرع الله تعالى،

(مقدمة 19/23)


فيؤخذ من كتابه وسنة رسوله مباشرةً إن تيسّر ذلك، وإلّا فبواسطة مُخبِر موثوقٍ به عنهما. ومن المعلوم أن العالم قد تعزُب عنه بعض دلالات الكتاب والسنة، وقد لا تبلغه السنة، وقد يخطئ في التصحيح والتضعيف والترجيح، إلى غير ذلك من الأسباب التي يقع بها العالم في الخطأ في اجتهاده. ومن كان له ممارسة للسنة وطالع كتب الأئمة ومسائلهم مثل الشافعي ومالك وأبي حنيفة علم يقينًا أن كثيرًا من الأحاديث الثابتة لم تبلغهم البتة، أو بلغتْهم من وجهٍ لا يثبت، ولذلك كان كلٌّ منهم إذا تبيَّن له خطأ قولٍ من أقواله رجع عنه. لم يكن أولئك الأئمة يشعرون بأنها ستنشأ لهم مذاهب على هذا النحو المشاهد أو قريب منه، فإنهم كانوا ينهون أصحابهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم، ويأمرونهم بالنظر واتباع الدليل. وكان العاميّ يستفتي مَن يجده من العلماء دونَ تقيُّدٍ بمعيَّن. واستمر الأمر كذلك إلى أصحاب الأئمة وأصحاب أصحابهم، ثم ضعفت الهمم، وقلَّ العلماء، وانتشرت أسباب الهوى، فنشأ التقيُّد بالمذاهب ثم استحكم، وصار المتفقِّهة يتنافسون، كلٌّ يحاول الزيادة في أتباع مذهبه، وأوقع ذلك في محنٍ وفتنٍ معروفة. وأخذ الفقهاء من كل مذهب يحاولون أن يجعلوه كافيًا، فاشتغلوا بالتفريع على أقوال الإمام وأصوله، وألحقوا بها ما لم يذكره بالمقايسة والتشبيه والرأي المحض، مع التفنن في فرض صور نادرة بل مستحيلة. ثم جعلت الطبقة الثانية أقوال من قبلها أصولًا يلحقون بها ما لم يُذكر من الفروع، وهلمَّ جرًّا.

(مقدمة 19/24)


ومن شأن تلك الاجتهادات أن تؤدّي كثيرًا إلى ما يخالف نصوص الشرع ومقاصده، وإلى ما يخالف كلام الأئمة وقدماء أصحابهم، وهذا هو الواقع. كما أن كثرة الاختلاف في كل مذهب وتعارض التصحيح والترجيح مما لا يخفى على أحد، وإن حاول المتأخرون التخفيف من ذلك. ومع انتشار هذه المذاهب فلم تُطبِق الأمة على هجر الكتاب والسنة، بل بقي النظر في التفسير وجمع السنة وترتيبها والكلام في الروايات وجمع الأدلة واستنباطها من الكتاب والسنة مستمرًّا. ومن وطَّن نفسه على الإنصاف علم أنه يقع من المتقيدين من علماء المذاهب في كثير من المواطن ميلٌ عن الإنصاف وحيفٌ على الأدلة، يوقعهم في ذلك حرصُهم على الانتصار للمذهب. هذه خلاصة مباحث هذه الرسالة التي دعا فيها المؤلف فقهاء المذاهب إلى سلوك جادّة الصواب، والاعتناء بالكتاب والسنة، والكلام على الأحاديث والاستنباط منها دون تعصُّب، كما كان عليه الأئمة المتقدمون. وفي الختام أرجو أن أكون قد وُفّقت في قراءة هذه الرسائل والتعليق عليها، وأدعو الله أن ينفع بها طلاب العلم وأهله، ويجزي المؤلف خير الجزاء على ما قام به من خدمة لعلوم الشريعة، إنه سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين. محمد عزير شمس مكة المكرمة 28/ 4/ 1433

(مقدمة 19/25)


نماذج من النُّسخ الخطية

(مقدمة 19/27)


فرض اتباع السنة

(مقدمة 19/29)


خبر الواحد

(مقدمة 19/30)


خبر الواحد

(مقدمة 19/31)


إرشاد العامة

(مقدمة 19/32)


إرشاد العامة

(مقدمة 19/33)


رسالة في أصول الفقه

(مقدمة 19/34)


رسالة في أصول الفقه

(مقدمة 19/35)


رسالة في أصول الفقه

(مقدمة 19/36)


التعصب المذهبي

(مقدمة 19/37)


التعصب المذهبي

(مقدمة 19/38)


 الرسالة الأولى رسالة في فرضية اتباع السنة والكلام على تقسيم الأخبار وحجية أخبار الآحاد

(19/3)


[ص 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فرض اتِّباع السُّنَّة اعلم أنه لم يكن بين المسلمين اختلاف في فرض اتباع ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، بل ذلك من الأمور المعلومة بالضرورة من دين الإسلام. ولكن جاء في أخبار الفتن أنه سيكون قوم يقولون: "إن كان أولنا ضُلَّالًا، ما بالُ خمس صلوات في اليوم والليلة؟ إنما هما صلاتان: الفجر (1) والعصر". "المستدرك" (4/ 419) (2). كأنهم يريدون قول الله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]. وجاء عن المقدام بن معد يكربَ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "يوشِكُ أن يقعد الرجل منكم على أريكته، يُحدَّث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمناه. وإنَّ ما حرَّم رسول الله كما حرَّم الله". أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 109) وغيره (3). _________ (1) في الأصل: "الظهر" سبق قلم. (2) موقوفًا على حذيفة بن اليمان. وأخرجه أيضًا أبو عبيد في "الإيمان" (ص 81) وابن أبي شيبة في "الإيمان" (ص 20) وعبد الله بن أحمد في "السنة" (1/ 323) والآجري في "الشريعة" (298، 299). (3) وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (17194) والترمذي (2664) وابن ماجه (12) والدارقطني (4/ 286، 287) وغيرهم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

(19/5)


وجاء نحوه من حديث أبي رافع، وجابر، والعرباض بن سارية، وابن عباس، ذكرها الخطيب في "الكفاية" (1). ونشأ في الهند أخيرًا فرقة ينحُون هذا المنحى، يسمُّون أنفسهم "أهل القرآن" (2). والقرآن نفسه ينادي بإيجاب طاعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، واتباعه، والتسليم لحكمه، ويقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (3) [النساء: 105]، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. _________ (1) (ص 9 - 11). وحديث أبي رافع أخرجه الشافعي في "الرسالة" (1106) والحميدي في "مسنده" (551) وأحمد (23876) وأبو داود (4605) والحاكم في "المستدرك" (1/ 108) وغيرهم، وإسناده صحيح .. وحديث جابر أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1813) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2340) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 90)، وإسناده ضعيف. وحديث العرباض بن سارية أخرجه أبو داود (3050) والطبراني في "الكبير" (18/ 258) و"الأوسط" (7226) والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 204)، وإسناده ضعيف. أما حديث ابن عباس فلم أجده إلّا مرويًّا في "الكفاية". وإسناده ضعيف. (2) ينظر لتاريخهم ومناقشة آرائهم "القرآنيون" لخادم حسين. (3) كتب الشيخ "فاحكم بينهم بما أراك الله" سهوًا. وفي سورة المائدة: 48. {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}.

(19/6)


وبأنه سبحانه آتى محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - الكتاب والحكمة، وأنه أنزل عليه الكتاب ليبينه للناس. وقال سبحانه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17 - 19]. ويقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]. وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151]. والتفريق بين الكتاب والسنة تفريق بين الله ورسله، ومن ردَّ السنة التي جاء بها الرسول يوشك أن يردَّ الكتاب؛ لأنه إنما جاء به الرسول أيضًا. ولكن شياطين الجن والإنس من سنتهم أن يستدرجوا ضعفاء العقول شيئًا فشيئًا. بل لن يردَّها أحدٌ إلا وقد ردَّ الآيات الموجبة لطاعة الرسول واتباعه، وردُّ بعض القرآن كردِّه كله. هذا، والقول بردِّ السنة البتة كفر صريح منافٍ لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وليس موضوع هذه الرسالة الرد على من كان هذا حالَه، ولكني أنبه على أمور تصلح أن يتشبَّث بها من يميل إلى تلك الضلالة، أو يشكِّك بها العامة. وأسأل الله تعالى التوفيق.

(19/7)


[ص 22] الشبهة الأولى: قال الله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [خاتمة يوسف]. وقال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154]. وقال عز وجل في شأن موسى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]. وقد قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وإذا كانت التوراة فيها تفصيل كل شيء، مع أنها إنما أُنزِلت لدعوة أمة صغيرة، وإلى أجل محدود؛ فكيف لا يكون القرآن كذلك، وهو مهيمن على التوراة، ومنزَّل لدعوة الأمم كلها، ومُعَدٌّ لهدايتها إلى يوم القيامة؟ [ص 23] الشبهة الثانية: أنه قد يستبعد أن يقصَّ الله عز وجل في كتابه من أخبار الأمم السالفة، ويكرر القصة الواحدة منها في عدة سور، وينصّ على فروع من الأحكام التي يبدو للناظر أنها ليست بعظيمة الأهمية، كالأمر بكتابة الدين، ومع ذلك لا يذكر فيه الأمور العظيمة، كعدة ركعات الصلاة وأركانها، وصفة الحج، وغير ذلك.

(19/8)


والجواب: أن الحجة قائمة على فرضية اتباع السنة، وأن فيها ما ليس في القرآن، وإذا ثبت وقوع ما يستبعد الإنسان وقوعه لم يبق موضع للاستبعاد، وإنما هو بعد ذلك أحد رجلين: إما مرتابٌ يعدّ جهلَه بالحكمة دليلًا على عدمها، ثم يطعن في الدين من أصله. وإما مؤمن يعلم أنه لا نسبة لعقله وفهمه وعلمه ومعرفته إلى علم رب العالمين وحكمة أحكم الحاكمين، فإما أن لا يُتعِب نفسه في البحث عن الحكمة؛ لعلمه بأنه لا بدّ من حكمة بالغة، ولا يضره جهلها، والأولى به أن يصرف أوقاته فيما كلِّف به من الطاعات. وإما أن يتضرع إلى الله عزَّ وجلَّ أن يُفهِّمه، ويتدبر ويتفكر لعله يعرفها، فإن عرفها حمِدَ الله عز وجل على ذلك، وإلا لم يَرتَبْ ولم يتزلزل يقينه بأنه لا بد من حكمة بالغة. فأما المؤمن أو من يدعي الإيمان فهذا يكفيه، ولستُ بصدد التفحص عن الحكم، وأما المرتاب فحقه أن تقام عليه الحجج على أصل الإسلام، ولا يُتشاغل معه بالنظر في الجزئيات؛ لوجوه: الأول: أنها كثيرة، فإذا أثبتَّ له الحكمة في شيء أورد عليك غيره، وهكذا. الثاني: أن أحدنا لا يحيط بحِكَم الله عز وجل، فلا بد أن يقف عند بعضها. الثالث: أن من قبِلَ حجج الإسلام واطمأن بها حصل له الجواب عن تلك الأمور كما قدمنا، ومن لم يقبلها ولم يطمئن بها فلا يرجى أن ينتفع بما

(19/9)


دونها من إثبات الحكمة في بعض الجزئيات. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33]. واعلم أن هذا الاشتباه ناشئ عن الجهل بحكمة الله عز وجل في الخلق والتكليف، وقد بحثتُ عنها في موضع آخر، وأكتفي هنا بالإشارة إليه، فأقول مستعينًا بالله عز وجل: إن كمال جوده سبحانه اقتضى أن يجود بالكمال إلى الحد الممكن، فخلق الجن والإنس صالحين لاكتساب الكمال. وأقرب كمالٍ يُعدُّ كمالًا للمخلوق هو ما كان باكتسابه باختياره، مع عناء ومشقة. فجعل الله سبحانه خلقه وأمره على الحال الموافقة لذلك. ثم أمرهم سبحانه بكل ما هو كمال لهم، ونهاهم عن كل ما ينافي الكمال. وامتثال أمره ونهيه هو طاعته، وطاعته هي عبادته، فعبادته هي الكمال الذي خلقوا له. قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ولم يجعل الله سبحانه حجج الحق بغاية الظهور؛ لأنها لو كانت كذلك لكانت معرفتها سهلة، ولكان الخلق كالمجبورين على قبولها، ألا ترى أن ألدَّ الخصوم إذا اتفق أن تقام عليه حجة بغاية الظهور لم يسعه إلا التسليم. ومثل هذا التسليم لا يُعدُّ فضيلة. وكذلك معرفة ما لا صعوبة في معرفته البتة. والمطلوب من الخلق أن يعرفوا الحق معرفةً تكون كمالًا لهم. فمن الحجج ما هو في نفسه على الحال الموصوفة من عدم سهولة معرفته، وعدم كونه بغاية الظهور. ومنها ما ليس في نفسه كذلك، ولكن الله تبارك وتعالى قدر معه شبهات

(19/10)


يصير معها على تلك الحال، [ص 24] فإن الشبهة تُرِيب في ما هو في نفسه بغاية الظهور القطعي. واعتبرْ ذلك بأن تأخذ تفاحة وتنظر إليها وتمسَّها وتشمَّها وتذوقَها، ثم تفكّر هل عندك أدنى أدنى شبهة في كونها تفاحة على الحقيقة، ثم فكِّرْ هل هذا العلم القاطع خاص بك أم بكل من يعرف التفاح ويختبر التفاحة كاختبارك أو دونه؟ ثم ادعُ بدويًّا وناوِلْه التفاحة، وقل له: تأملْ فيها، ثم تقول: مسَّها، ثم تقول: شمَّها، ثم تقول: ذُقْها، ثم سله: هل يرتاب في أنها تفاحة؟ فيوشك أن تراه قد عرض له بعض الارتياب. فدَعْه مدة ثم قل له: إن في محل كذا رجلًا ساحرًا ربما أخذ الحصاة، ثم يناولها الحاضرين فيرون أنها خاتم من ذهب، وربما أخذ البعرة أو ما هو أخبث منها، ثم يناولها الحاضرين فيرونها قطعة سكَّر أو شيئًا من الفاكهة. ثم اذهبْ بذلك البدوي إلى رجل تُوهِمه أنه ذلك الساحر، وقد تواطأتَ معه أن يناولكم تفاحًا! فماذا ترى حال البدوي إذا ناوله ذلك الرجل تفاحة؟ ألا تراه يُحجِم عن تناولها، وإن تناولها وجدته متقذرًا لها، فإذا أُمر بشمِّها لم يكد يدنيها من أنفه، وإن أُمر بذوقها أنكر ذلك ولم يطقه! ولهذا كان علماء السلف يتباعدون عن سماع الشبهات، وينهون الناس عن مجالسة أهلها، أو سماع كلامهم. وإنما ذلك لأنهم عرفوا أنهم وعامة المسلمين قد حصل لهم اليقين الكامل بصحة الدين وأصوله، ولا يرجى من سماع الشبهات فائدة ما، بل يُخشى منها أن تُزلزِل ذلك اليقين.

(19/11)


والمقصود أن الله تبارك وتعالى جعل الشبهات لِتَعرِض لمن شاء من عباده، فمنهم من تَعرِض له فيُعرِض عنها ثقةً بما عنده من الحجة، فيكون هذا كمالًا له. ومنهم من تعرض له قبل معرفة الحجة، فيبذل وسعه في النظر حتى يرزقه الله معرفة الحجة، ويكون ذلك كمالًا له. ومنهم من تعرض له وقد عرف الحجة، ويحس من نفسه قوة على حل الشبهة، فيسعى في ذلك نصيحة لخلق الله عز وجل، فيكون ذلك كمالًا له. ومنهم من يكون له هوى في خلاف الحجة، فإذا بغتَتْه الحجة كرهها، فعرضت له الشبهة فاستراح إليها، فبقي على الحال التي تليق به، إذ لولا الشبهة لربما قهرته الحجة فيقبلها مكرهًا، وليس ذلك بكمال. ومنهم من لا يكون له رغبة في الكمال، ولكنه يأنف من الاعتراف بالجهل، فحاول النظر فعرضت له شبهة، فقنعَ بها، ولم يُتعِب نفسه في طلب الحق. ومنهم من يكون قد عرف الحق ولكنه لا يريد الخضوع له، ويأنف من أن يقال: إنه يردُّ الحق مع علمه به، فتعرِض له الشبهة فيتمسك بها ويدعي أنها الحق. إلى غير ذلك من حِكَم الله عز وجل، وقد يجمعها أو غالبها اسم "الابتلاء". وقال الله تبارك وتعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

(19/12)


[الملك: 1]. وقال عز وجل: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} [الحج: 53]، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. وراجع آيات الفتنة والابتلاء في القرآن، فإنها كثيرة. وقال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. فهذا حال هذه الشبهة ونظائرها. [ص 25] الشبهة الثالثة: أن يقال: إذا كانت السنة مفروضًا اتباعُها كالقرآن فلماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بكتابتها؟ بل نقل عنه النهي عن ذلك. ولماذا لم يعتنِ الخلفاء بجمعها؟ بل جاء عنهم ما يخالف ذلك. أقول: أما نهيه - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الكتابة فإنما ورد بذلك حديث واحد أخرجه مسلم (1)، وأعله البخاري وغيره فقالوا: الصحيح أنه من قول أبي سعيد الخدري (2). وقد جاءت في الإذن أحاديث، وأكثر الصحابة لم يكونوا يرون بها بأسًا. _________ (1) برقم (3004) من حديث أبي سعيد الخدري. (2) انظر "فتح الباري" (1/ 208) و"تقييد العلم" للخطيب (ص 32).

(19/13)


فأما ما روي عن عمر (1): فاستشار الصحابة فأشاروا عليه بكتابة السنن، فطفق يستخير الله تعالى شهرًا، ثم عزم أن لا يفعل، وقال: "إني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبُّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أَلبِس كتابَ الله بشيء أبدًا". ففي هذا الأمر اتفاقهم على أنها حجة، ثم اتفقوا على الكتابة، إلا أن عمر خشي مفسدة أن تؤدي كتابتها إلى إعراض الناس عن القرآن. وليس في هذا ما يخدش في معرفته بأنها حجة، ولاسيما مع ما تواتر عنه من التدين بها والحكم بها. والذي أرى أن الله عز وجل إنما خار له عدم الكتابة، لأنه إن كتب كان الغالب أن لا يستوعب؛ لكثرة السنة، ولغيبة كثير ممن سمع كثيرًا منها، ولنسيان كثير منهم لبعض ما سمعه أو شاهده، فلعل أحدهم إنما كان يذكر عند حدوث واقعة تشبه الواقعة في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونحو ذلك. ولعله أن يظهر لهم من بعض الأقوال أو الأفعال أنه لا حكم فيه، فلا يكتبونه، وقد أعدَّه الله عز وجل لمن يفهمه ممن بعدهم إذا دعت الحاجة إليه، كما يشير إليه حديث: "فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع" (2). فالحاصل أن عمر لو كتب لم يستوعب، ولكان ذلك ذريعة إلى رد كثير _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنّف" (11/ 257 - 258) ومن طريقه الخطيب في "تقييد العلم" (49) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (343). ورواه الخطيب من غير وجه. (2) أخرجه البخاري (1741) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة ضمن خطبته - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر.

(19/14)


من السنن، بأن يقول من يأتي بعدُ: لا أقبل من السنة إلا ما في كتاب عمر، ولو كانت هذه السنة صحيحة لما ترك عمر كتابتها، وأشباه ذلك. فأما عدم أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بكتابتها فلأمور: منها: خشية التباسها بالقرآن. ومنها: أنه لا يتيسر الاستيعاب، لأن جميع حركاته - صلى الله عليه وآله وسلم - وسكناته من السنة. ولو كُتِب مع [عدم] الاستيعاب كان ذلك ذريعة إلى ردِّ ما لم يكتب، كما مرّ. ومنها: كراهية أن يتقاعد الناس عن طلب السنة وتلقِّيها من أهلها، فيكتفي كل واحد بكتاب ينسخ له فيضعه في بيته، وهو جاهل لأكثر ما فيه. وفي ترك الكتابة مصلحة عظيمة، بأن يحتاج المسلم إلى الطلب والسماع والحفظ، وبذلك لا ينال العلم إلا مَن هو مِن أهله. ولهذا لما أطبق الناس على الكتابة اشترط العلماء للرواية أن يكون الرجل قد سمع، واشترط بعضهم الحفظ، ومن لم يشترطه فقد نوَّه بفضل الحفظ وعلو درجته. ووراء هذا كله ما تقدم من حكمة الخلق والتكليف، فتدبر. وحِكَم أخرى يطول بيانها، وقد شرحتُ بعضها في موضع آخر. الشبهة الرابعة: ما جاء عن ابن عباس: "لما اشتدَّ بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعه قال: ائتوني بكتابٍ أكتبْ لكم كتابًا لا تضلّوا بعده. قال عمر: إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسْبُنا، فاختلفوا وكثر اللغطُ، قال: قوموا عني ... " (1). _________ (1) أخرجه البخاري (114) ومسلم (1637).

(19/15)


يقال: فهذا عمر يقول: "عندنا كتاب الله حسبنا"، ثم يقرُّه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ إذ لم ينقل أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنكر عليه هذه الكلمة. أقول: يقع لي أن عمر كان يستحضر حينئذٍ قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فرأى أن الدين قد كمل، فلم يبق موضع للزيادة فيه. غاية الأمر أن يريد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يذكِّرهم ببعض ما قد علموه، أو يؤكِّد عليهم أمره، أو نحو ذلك. فكأنه يقول: إن كان بقي شيء من أمر الدين لم يعلِّمناه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا بد أن يكون في القرآن؛ بدليل أن الدين قد كمل، فلماذا نَشُقُّ على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في شدة وجعه؟ وهذا رأي رآه، وقد كان مأذونًا لهم إذا أمرهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأمر أن يراجعوا، فإذا أعاد عليهم الأمر كان لهم أن يراجعوه الثانية، فإذا أمرهم الثالثةَ تعين الامتثال، كما صرح به جابر في حديثه. "مسند أحمد" ( ... ) (1). والمراجعة ثابتة في أحاديث كثيرة: منها مما وقع لعمر نفسه: مراجعته النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصلاة على عبد الله بن أُبي (2). _________ (1) ترك المؤلف بياضًا بين القوسين، وتصريح جابر بجواز مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين ورد ضمن إحدى روايات قصة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له ببيع جمله في "المسند" (3/ 358 - 359) من الطبعة القديمة، وبرقم (14864) ط. مؤسسة الرسالة. وأصله في "صحيح مسلم" (3/ 1222 برقم 715). (2) أخرجه البخاري (1269، 4670، 4672، 5796) ومسلم (2400، 2774) من حديث ابن عمر.

(19/16)


ومراجعته له لما أمر أبا هريرة أن يبشر الناس (1). [ص 26] وغير ذلك. ومع هذا فقد كان عمر يعتقد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يموت من وجعِه ذلك، كما صرح بذلك بعد موته - صلى الله عليه وآله وسلم -. وبالجملة، فقد تواتر عن عمر امتثالُه سنةَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتديُّنه بها في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعدها، فلا بد من حمل كلمته تلك على ما لا يخالف ذلك. يُعيِّن ذلك أن فرض اتباع السنة متواتر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه، فلو فهموا من كلمة عمر ما يخالف ذلك لاشتد نكيرهم عليه، ولو كان لهذا الحديث أهمية عظيمة كما يتوهمه كثير من الناس لكثر ناقلوه من الصحابة الذين حضروا القصة، ولم ينفرد بنقله أصغرهم سنًّا يومئذ، وهو ابن عباس. وليس مقصودي من هذا توهين رواية ابن عباس كما مال إليه بعض المتأخرين، وإنما مقصودي أن غيره من أكابر الصحابة لم يروا لذلك أهمية فسكتوا عنه. وقد كان ابن عباس يُجِلُّ عمر ويُبجِّلُه في حياته وبعد مماته، وشهادته له بعد أن أصيب مشهورة (2)، وكذلك قوله بعد موت عمر بمدة: "حدثني أناس مرضيُّون وأرضاهم عندي عمر" (3) إلى غير ذلك. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا تَضِلُّوا بعده"، أراد ــ والله أعلم ــ إذا عملتم بما فيه؛ إذ _________ (1) أخرجه مسلم (31) من حديث أبي هريرة ضمن قصته. (2) فقد قال لعمر: "أبشِرْ بالجنة، صاحبتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلتَ صحبتَه، ووليتَ أمر المؤمنين فقويتَ وأديتَ الأمانة". أخرجه أحمد في "المسند" (322) وابن سعد في "الطبقات" (3/ 353)، وإسناده صحيح. (3) أخرجه البخاري (581).

(19/17)


قد علم - صلى الله عليه وآله وسلم - وأخبر بأن أناسًا وفرقًا من أمته سيضلون. والأخبار بذلك كثيرة متواترة في المعنى. وإذ كان الأمر كذلك فهذا المعنى ــ أعني عدم الضلال بشرط العمل بما فيه ــ ثابت للقرآن بلا ريب. وبقيتْ أشياء تتعلق بالحديث ليس هذا موضعها. وقد قدَّر الله سبحانه وتعالى أن تكون تلك القضية من جملة الشبه التي يُضِلّ بها سبحانه من يشاء من عباده، كما تقدم. ومما يذكر هنا ما جاء عن عمر أنه بعث قومًا إلى الكوفة فأوصاهم، قال (1): [إنكم تأتون الكوفة، فتأتون قومًا لهم أزيزٌ بالقرآن، فيقولون: قدم أصحاب محمد، قدم أصحاب محمد، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فأقِلُّوا الروايةَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا شريككم فيه]. وليس في هذا إلا الإقلال من الرواية عندما يخاف أن يُعرض الناس عن القرآن، ويشتغلوا بها. وهذا حق؛ لأن تعلُّم كتاب الله تعالى أهم وأقدم، وليس في ذلك منعٌ من ذكرِ الحديث عندما يحتاج إليه، أو تحديثِ من قد حفظ كتاب الله وتعلَّمه. فأما ما جاء عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عمر قال لابن مسعود، ولأبي الدرداء، ولأبي ذر: "ما هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ ، وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب" ("المستدرك" 1/ 110) = فإنما أنكر عليهم الإكثار، فإن الإكثار مظنة الزلل، ومظنة أن يَشْغَل عن تعلم القرآن، كما مرّ. _________ (1) ترك المؤلف بعده فراغًا، والنصّ من "سنن الدارمي" (286) ..

(19/18)


وقوله: "وأحسبه حبسهم بالمدينة" حُسبانٌ فقط، قد يصح وقد لا يصح، ثم المراد بالحبس بالمدينة إبقاؤهم فيها ومنعهم من الخروج منها، لا السجن كما قد يُتوهَّم. مع أن في منعهم من الخروج من المدينة نظرًا، فقد بعث عمر ابن مسعود إلى الكوفة، وأقام بها مدة. وليراجع التاريخ وتراجم هؤلاء. وقد كان عمر نفسه يحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وحديثه في كتب الحديث كثير. * * * *

(19/19)


[ص 27] تقسيم الأخبار قسم بعض الأصوليين (1) الأخبار إلى مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، وغيرهما. فذكروا من المقطوع بكذبه ما قام البرهان القاطع على خلافه. أقول: الشأن كل الشأن في البرهان القاطع، فإذا صح فالحديث المخالف له لا يخلو عن وجهين: الأول: أن يكون في إسناده خلل. الثاني: أن يكون وقع تغيير في متنه بزيادة أو نقص، أو تقديم أو تأخير، أو تبديل لفظ بآخر، أو نحو ذلك مما يغير المعنى. ولن تجد إن شاء الله تعالى برهانًا قاطعًا يقينيًّا (2) مخالفًا لحديث إلا وجدت ــ إن كنت من أهل الحديث والفهم ـــ ما يدلك على أحد الوجهين المذكورين. قال بعضهم: ومن المقطوع بكذبه ما نُقِّب عنه فلم يوجد عند أهله. وردَّه بعضهم. وأقول: له وجه إذا كان يتضمن حكمًا شرعيًّا لم يثبت بغيره، فإن الله تبارك وتعالى متكفل بحفظ الشريعة؛ لأن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خاتم الأنبياء، _________ (1) انظر: "المستصفى" (1/ 140 وما بعدها) و"إرشاد الفحول" (ص 40، 41) ط. المنيرية 1347 هـ. (2) في الأصل: "يقينًا".

(19/20)


وشريعته خاتمة الشرائع، فلا يجوز أن يذهب حكم من أحكامها بحيث لا يبقى في ما حفظ منها حجة عليه. والحق أنه إذا وجد خبر منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا يخلو عن واحد من أربعة أوجه: الأول: أن يكون هو ــ أو حجةٌ توافق معناه ــ موجودًا في المحفوظ من الشريعة بنقلٍ تقوم به الحجة. الثاني: أن يكون كان شيء فنُسِخ. الثالث: أن يكون وقع في متنه تغيير، كما تقدم. الرابع: أن يكون كذبًا، عمدًا أو خطأً. فإذا قامت الحجة على نفي الثلاثة الأولى تعين الكذب. والله أعلم. قالوا: ومنه المنقول آحادًا، والعادة قاضية بأنه لو صح لنُقِل بالتواتر، لتوفر الدواعي على نقله. وأقول: ينبغي التثبت في هذا، فقد تقع القضية ولا يحضرها إلا الواحد أو الاثنان، وقد يحضر جماعة ولا ينتبه لها منهم إلا الواحد أو الاثنان، وقد يشاهدونها ولا يرون لها أهمية فلا ينقلونها. ومثال هذا: اليوم الذي توفي فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالخلاف فيه بين المتأخرين كثير، ولا يكاد يصح فيه شيء. وقد يشاهدونها ويرون لها أهمية، ولكن لا يرون لنقلها أهمية، إما لاعتقادهم [أنها] قد نُقِلت نقلًا كافيًا في بيانها، وليس هناك من ينكرها، كما في انشقاق القمر؛ لأنهم يرونه ــ مع الشهرة بينهم ــ مذكورًا في القرآن، ولم يبق من العرب من يرتاب في القرآن. وإما لاعتقادهم أنها أمر معلوم

(19/21)


مكشوف لا يحتاج إلى أن يُذكر، ومن هذا ــ والله أعلم ــ معنى "الإله" و"العبادة"، فقد كان واضحًا عند المشركين فضلًا عن المسلمين، ثم صار بعد القرون الأولى مشتبهًا، كما أوضحته في رسالة "العبادة". وقد يخلو عن هذه كلها، ولكن يتواطؤون على الكتمان. نعم، هذه الأمور كلها لا تحتمل فيما مثَّلوا به، وهي دعوى بعض الشيعة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جمع أصحابه وبيَّن لهم بيانًا قاطعًا أن عليًّا رضي الله عنه ولي عهده، وولي أمرهم من بعده. ولكن قد يحتمل بعضها في غير هذا المثال. وقد أشار الحازمي في "الاعتبار" (1) إلى ذلك في بحث الجهر بالبسملة، وإن كان فيه نظر. وقد ثبت أن الأئمة في عهد عثمان تجوَّزوا في الجهر بتكبيرات الصلاة، ومضى على ذلك زمان حتى جهله كثير من الناس، فصلى عكرمة خلف أبي هريرة، فجهر أبو هريرة بالتكبيرات، فذهب عكرمة إلى مولاه ابن عباس فقال: صليت خلف شيخ أحمق، فكبر ... ، فقال ابن عباس: ثكلتك أمك، تلك سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وآله وسلم - (2). وصلى علي رضي الله عنه بالكوفة، فجهر بالتكبيرات، فقال عمران بن حصين: قد ذكَّرني هذا صلاةَ محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - (3). _________ (1) (ص 58). (2) أخرجه البخاري (788). (3) أخرجه البخاري (784، 786) ومسلم (393) من حديث مطرف بن عبد الله. وفي الرواية الأولى للبخاري أنه صلاها بالبصرة. وفي "المسند" (19840، 19860) بالكوفة.

(19/22)


وقال أبو موسى: ذكَّرنا عليٌّ صلاةً كنا نصليها مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، إما نسيناها وإما تركناها عمدًا (1). وجاء عن عمران ما حاصلُه أن عثمان رضي الله عنه لما كبر وضعف صوته لم يكونوا يسمعون تكبيره، فاتخذ أمراؤه أو بعضُهم ذلك سنة بجهلهم (2). والمقصود هنا أنه ينبغي التثبت في رد الأحاديث بما ذُكِر، فلا يُقدَم على ذلك مع قيام الاحتمال. والله الموفق. [ص 28] وأما المقطوع بصدقه فذكروا منه أمورًا: الأول: خبر الرب عز وجل، وخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وذلك واضح، ولكن خبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد يكون عن ظنِّه نصًّا، كقوله: أظن كذا، ولعل كذا. أو بدلالة القرائن. وقد وقع هذا في الأمور الدنيوية. فأما الدينية، فمن قال من أهل العلم: إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قد يقول في الدين باجتهاده، فإنه يقول بوقوع هذا. أقول: وسواء كان خبره عن أنه يظن في أمر ديني أو دنيوي، فهو مقطوع بصدقه فيما أخبر عنه، وهو الظن. أعني أنه أخبر أنه يظن، فالمقطوع به هو كونه يظن، فأما الأمر الذي ظنه فقد لا يكون واقعًا، وليس ذلك من الكذب، وإنما فيه خطأ الظن. _________ (1) أخرجه أحمد في "المسند" (19494) والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 221). وصحَّح الحافظ إسناده في "الفتح" (2/ 270). (2) أخرجه أحمد (19881) وابن خزيمة (581). وهو حديث صحيح.

(19/23)


وقد أخبر الله عز وجل عن آدم أنه ظنّ صِدقَ إبليس لما قاسمه بالله، وكذلك ظن يعقوب صدق بنيه في قولهم: {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} [يوسف: 65]، وكذَّبهم في خبرهم عما جرى لهم من أخذِ أخيهم بتهمة السرقة، فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 83]، وظن موسى أن أخاه قصَّر، فأخذ برأسه يجرُّه إليه، في نظائر لذلك. وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ربما سها في الصلاة وهو يظن أنه لم يَسْهُ، فصلى مرة خمسًا (1)، ومعنى ذلك أنه عند قيامه للخامسة كان يظن أنها الرابعة. وسلَّم مرة من ركعتين في رباعية الحضر، ومعنى ذلك أنه ظن أن قد أتمَّ أربعًا، فأما قوله لما سُئل أقُصِرَت الصلاة أم سهوتَ يا رسول الله؟ : "كل ذلك لم يكن" (2)؛ فهو يتضمن خبرين: أحدهما عن أمر ديني، وهو صدقٌ قطعًا، وهو كون الصلاة لم تُقصَر. والثاني عن أمر دنيوي، وهو كونه لم ينْسَ. ومراده بالنظر إلى هذا أنه يظن أنه لم ينس، بمعونة القرينة، وهي أن هناك جمعًا كثيرًا يغلب عليهم التيقظ لأعمال الصلاة، فإن كان قد نسي فإنهم يعلمون أنه إنما نفى النسيان بالنظر إلى ظنه، فيرجع ذلك إلى الخبر بأنه يظن أنه لم ينس. ومن ذلك: خبر تأبير النخل، وهو في "صحيح مسلم" من حديث طلحة (3)، _________ (1) أخرجه البخاري (1226) ومسلم (572) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم (573) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ. وعند البخاري (842 ومواضع أخرى): "لم أنسَ ولم تُقْصَر". (3) رقم (2361).

(19/24)


ومن حديث رافع بن خديج (1)، ومن رواية حماد بن سلمة بوجهين (2): حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة، وحماد عن ثابت عن أنس. ورواية طلحة صريحة في أنه شهد القصة، وأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يجزم، وإنما قال: "ما أظنُّ يُغنِي ذلك شيئًا"، ثم قال لهم بعدُ: "إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدَّثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله". وفي رواية رافع: قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، ثم قال أخيرًا: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر". قال الراوي: أو نحو هذا. فما وقع في رواية حماد من الوجهين الأخيرين: "لو لم تفعلوا لصلح" من التقصير في الرواية بالمعنى؛ ولهذا قدَّم مسلم رحمه الله رواية طلحة، لأنه شهد القصة وتحرّى في بيانها، ثم عقَّبها برواية رافع لأنها قريبة منها، ثم ذكر رواية حماد من الوجهين على أنها شاهد لأصل القصة. فثبت أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما أخبرهم عن ظنه أن التلقيح لا فائدة له، وإنما وقع له - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا الظن لأنه لم يكن قد عرف حال النخل، وقد عرف بمكة والطائف وغيرهما أن عامة الشجر تثمر ويصلح ثمرها بلا تلقيح، فظن أن النخل كذلك، حملًا للفرد المجهول الحال على ما عرف من حال الغالب. ومن هذا: ما رُوي من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيْلة، ثم _________ (1) رقم (2362). (2) رقم (2363).

(19/25)


نظرتُ في فارس والروم فإذا هم يُغِيلون أولادهم، فلا يضر ذلك أولادَهم شيئًا" (1). فقد كان مشهورًا بين العرب أن الغَيْل يضر بالطفل، فوقع في ظنه - صلى الله عليه وآله وسلم - صحة ذلك وأنه مبني على تجربة صحيحة، فأراد أن ينهى عنه لما فيه من الإضرار، ثم سأل عن حال فارس والروم فأُخبِر أنهم لا يتوقَّون كما يتوقَّى العرب، ثم رأى أنه لا يظهر بأولادهم ضرر، فظن - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الغيل لا يضر، فقال ما تقدم. [ص 29] وجاء عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - حديث آخر: "لا تقتلوا أولادكم [سرًّا]، فإن الغَيْل يدرك الفارسَ فيُدَعْثِره عن فرسه" (2). فإذا صح هذا فلا بد أن يكون متأخرًا؛ لوجوه: الأول: أن هذا نهي صريح، وقوله في الأول: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة" ظاهر في أنه لم يقع منه قبل ذلك نهيٌ، فعُلِم بذلك أن الخبر الصريح بالنهي لم يكن قبل ذلك. الثاني: أن الخبر الأول مبني على الظن في الجانبين، كما تقدم، والخبر الثاني بتٌّ وقطع، فهو مبني على علم. الثالث: أن قوله: "يُدرك الفارسَ فيُدعْثِره" شيء لا يُعرف بالقرائن _________ (1) أخرجه مسلم (1442) من حديث جُدامة بنت وهب. (2) أخرجه أحمد (27562) وأبو داود (3881) وابن ماجه (2012) من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن. وصححه ابن حبان (5984)، وفي إسناده المهاجر بن أبي مسلم، لم يوثقه غير ابن حبان، وبقية رجاله ثقات.

(19/26)


الظاهرة المتيسرة، فالظاهر ــ إن لم نقل: المتيقن ــ أنه علمه - صلى الله عليه وآله وسلم - بالوحي. الرابع: أن في هذا كالإشارة إلى ردِّ ما في الأول من حال فارس والروم، فكأنه يقول: إن ضرر الغيل خفي، فلا يدفعه أن الظاهر من حال فارس والروم أنه لا يضر. هذا، وقد عكس الطحاوي (1) رحمه الله ما تقدم، فذكر أنه ينبغي أن يكون حديث "لا تقتلوا أولادكم ... " كان أولًا، بناه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على ما تعتقده العرب، ثم تبين له بطلان ذلك الاعتقاد فقال: "لقد كنتُ هممتُ ... ". وهذا كما ترى إن كنت ترى! واعلم أن الأدلة على أن ظن الأنبياء في الأمور الدنيوية غير معصوم كثيرة، وفيما ذُكِر كفاية. ولو كان ظنهم معصومًا لما بقي لهم ظنٌّ، بل يكون علمًا. فأما في الأمور الدينية، فإن كان خبرًا عن حكم شرعي، فهم معصومون قطعًا. فإذا جوّزنا أنهم قد يجتهدون فيها، ويخبرون عن اجتهادهم، فإنه إن جاز الخطأ في هذا فإن الله عز وجل لا يُقِرُّه، بل ينبِّههم فورًا على الخطأ، فإذا اجتهدوا وأخبروا ثم لم يقع تنبيه من الله عز وجل ثبت قطعًا صحة اجتهادهم وصدق ما قالوه يقينًا، والله الموفق. الثاني: قال بعضهم: ومن المقطوع بصدقه أن يخبر إنسان بمرأى ومسمعٍ من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا ينكره عليه. _________ (1) في "معاني الآثار" (3/ 47، 48) و"مشكل الآثار" (9/ 284).

(19/27)


أقول: أما أن يخبر رجل بحضرته - صلى الله عليه وآله وسلم - بأمر ديني، بحيث يظهر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما سكت تصديقًا له؛ فهذا حق. وذلك كما روي أن جماعة اختلفوا في القراءة، فذهبوا إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأخبروه، وكان عنده علي رضي الله عنه، فقال لهم علي: يقول لكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (1) .... وأما غير ذلك، ففيه نظر. ولاسيَّما إذا احتمل كونه - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يعلم الواقعة، أو يظنها كما ذكر المخبر. وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يشك في ابن صياد أنه الدجال؛ لعلامات كانت فيه، فقوي ظنُّ عمر بذلك، فحلف بين يدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ابن صياد هو الدجال، ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (2)، ثم جاءت أحاديث تدلُّ أنه تبيَّن للنبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد ذلك أن الدجال غير ابن صياد (3). الثالث: وذكروا من المقطوع بصدقه: المتواتر. قالوا: وهو خبر جماعة يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب عن أمر محسوس. وذلك حق لا ريب فيه، ولكن أشار بعضهم إلى أن هذا ــ أعني المتواتر ــ والخبر الذي يفيد العلم بمعونة القرائن شيء واحد. _________ (1) بعده بياض في الأصل .. والحديث أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (747) والحاكم في "المستدرك" (2/ 223، 224) من طريق زر عن ابن مسعود مطولًا. وفيه: "فقال علي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما عُلِّم، فإنما أهلك من قبلكم الاختلاف". (2) أخرجه البخاري (7355) ومسلم (2929) من حديث جابر بن عبد الله. (3) انظر "الفتح" (13/ 326 - 329).

(19/28)


وشبهتُه إلى أن كثرة العدد لو كانت هي المؤثرة لتعين العدد المؤثر، والأمر بخلاف ذلك، فإنه قد يحصل العلم بخبر الواحد أو الاثنين أو الثلاثة، ولا يحصل بخبر مئة ألف أو أزيد. كما لو أخبر مليون جندي من الألمان بعد هزيمتهم بأن زعيمهم هتلر مات. [ص 30] فالمدار إذًا إنما هو على ما يحتفُّ بالخبر من القرائن. وأقول: الخبر تكون معه قرائن تساعده، وقرائن تخالفه، فعدد التواتر هو الذي يحصل بخبرهم العلم مع فَقْدِ القرائن الموافقة والمخالفة أو تكافُئِها، وإنما يعسُر تعيينه لأنه لا يخلو الخبر عن قرائن من الجانبين، ويعسر العلم بتكافئها. هذا، والمدار على حصول العلم، فسِيَّانِ: كان حصوله بكثرة العدد مع عدم القرائن المخالفة أو مع تكافُؤِ القرائن [من] الجانبين، أو كان حصوله بمعونة القرائن. ولا حرج في تسمية ما حصل به العلم متواترًا، وإن شككنا في حصوله بالوجه الأول أو الثاني. وقد شكَّك بعضهم في حصول العلم بالمتواتر، قال: لأن كثرة العدد قد لا تفيد إذا اقترن بالخبر قرائن تخالفه، فيمكن أن يكون مع الخبر قرائن تخالفه ولكنها خفية، فعلى هذا يتوهم سامعه حصول العلم به. ويتحقق ذلك بأن تفرض أن ألف رجل تواطؤوا سرًّا على خبر، ثم بالغوا في إخفاء ما يُوقِع التهمة بتواطُئِهم، وتفرقوا. فإنه إذا فُرِض أن أحدهم أخبر، ثم جاء الثاني وكأنه لا يعرف الأول ولا يعلم بخبره فأخبره بمثله، وهكذا، فقد يتوهم بعض السامعين حصول العلم، وقد تلوحُ لبعضهم قرينة على احتمال التواطؤ، فلا يكاد يحصل له الظن فضلًا عن العلم.

(19/29)


والجواب: أن النفس إذا خُلِّيتْ وفطرتها لا يخفى عليها موضع احتمال التواطؤ، ولو على بعدٍ، فلا تجزم حتى يجتمع لها من القرائن ما يبين أن احتمال التواطؤ مستحيل. بلى، لا ننكر أن من الناس من يدعي التواتر في خبر وليس كذلك، وإنما يكذب على نفسه في دعوى حصول العلم، أو يغالطها في ذلك، والله المستعان. واعلم أن تواتر الخبر قد يكون مع اتفاق العدد على جميع العوارض، كأن يخبر كل منهم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خطب الناس يوم النحر سنة عشر بمنى في وقت كذا، فقال كيت وكيت. وقد يذكر بعضهم سماع الحديث في زمان ومكان، ويذكر غيره سماعه في زمان أو مكان آخر. وهذا كله تواتر؛ إذ المدار على أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال ذلك. اللهم إلا أن يكون للزمان أو للمكان اختصاص، كأن يقول بعضهم: "وقف بمكان كذا من عرفة فقال: هذا الموقف"، ويقول غيره: "وقف بمكان كذا ــ ويذكر مكانًا آخر ــ وقال: هذا الموقف"، أو نحو ذلك. واعلم أن اختلاف الألفاظ والمعنى واحد لا يقدح في التواتر، وكأنهم قالوا: ذكر كلامًا هذا معناه. وهناك ما يسمى "التواتر المعنوي"، وذلك كأن يروي أحدهم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "من زنى بعد ما أحصن فعليه الرجم" (1)، ويروي آخر أن ماعزًا _________ (1) لم أجد الحديث بهذا اللفظ، وقد أخرج البخاري (6878) ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود بلفظ: "لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني ... ". وأخرج أحمد (452) والنسائي (7/ 103) من حديث عثمان بن عفان بنحوه فيه: " ... رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ... ".

(19/30)


زنى بعد ما أحصن فرجمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (1)، وروى ثالث أن امرأة غامدية زنت بعدما أحصنت فرجمها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (2)، وآخر أن امرأة رجلٍ من أسلم اتُّهِمت بالزنا بعدما أحصنت فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "اغْدُ يا أُنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفَتْ فارجُمْها" (3). وهكذا بحيث يحصل بمجموع هذه الأخبار القطع بما اجتمعت عليه، وهو أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقضي برجم من زنى بعد إحصان. هذا، ولا يخفى أن العلم بصدق خبر العدد فيما كان عن محسوس يُعلَم منه أنهم إذا أخبروا أن فلانًا أخبر؛ إنما يتحصل العلم بأن فلانًا أخبر، فأما صدق خبر فلان ــ إذا لم يكن معصومًا ــ فلا يحصل العلم بصدقه. لكن [إذا] أخبر عدد التواتر أن عددًا آخر مستجمعًا للشروط أخبروا حصل العلمُ بخبر الفريقين. وهكذا، فإذا تعددت الطبقات كأن يخبر عدد عن عدد عن عدد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلا بد أن تتحقَّق الشرائط في كل الطبقات الثلاث، ولا يشترط أن يخبر كل واحد من العدد عن كل واحد من العدد الذي قبله. بل يحصل العلم بأن يخبر كل واحد عن واحد، وآخر عن آخر، وثالث عن ثالث، وهكذا. [ص 31] بل هذا أقوى؛ فإن اجتماع عدد على الإخبار في وقت واحد _________ (1) أخرجه مسلم (1694) من حديث أبي سعيد الخدري. وفي الباب أحاديث أخرى. (2) أخرجه مسلم (1695) من حديث بريدة. (3) أخرجه البخاري (6827، 6828) ومسلم (1697، 1698) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد.

(19/31)


مما يوهم المواطأة. فتدبر. الرابع: قالوا: قد يفيد الآحاد العلم بمعونة القرائن. ومثَّلوه بما فيه نظر. ولكن القول صحيح؛ فإن من القرائن ما يفيد العلم مجردًا عن الخبر، فكيف لا يكون منها ما يفيده مع الخبر؟ كما إذا وضعتَ شيئًا ثقيلًا في صندوق، ثم غبت، ثم رجعت فرفعت الصندوق فإذا هو خفيف، بحيث تعلم قطعًا أنه لا يمكن أن يكون ذلك الشيء فيه. وهكذا إذا وضعتَ حمامة في قفص محكم مقفل، ووضعته بحيث تعلم أنه لم تصل إليه يد إنسان، ثم تفقدته فإذا فيه بيضة! وقس على ذلك. ويدخل في القرائن عدالة المخبر، وكونه معروفًا بالصدق، وكونه ليس له هوى في ذلك الخبر، وكونه مشهودًا له بالإتقان، وذكره للخبر قصة، وكون القصة تتعلق به، إلى غير ذلك مما بسطه أهل العلم في وجوه الترجيح. والعدالة تتفاوت، فأعلاها عدالة من عدَّله الله تعالى، ثم رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشهد له بالجنة. وكذلك الصدق، فأعلاه صدق من أخبر الله تبارك وتعالى بأنه صدوق. وكذلك عدم الهوى، فمن أعلاه أن يكون للمخبر هوى في نقيض ذلك الخبر، كأن يكون في الخبر غضاضةٌ عليه. وكذلك الإتقان، فأعلاه في الثقة أن يصفه جهابذة الحفاظ بأنه لم

(19/32)


يخطئ في حديث قطُّ، أو لم يخطئ إلا في حديث واحد، كما قالوه في إسماعيل بن إبراهيم المشهور بابن عُلَية. وبالجملة، فمن أمعن النظر في كلام المحدثين في دقائق الرواية وأحوال الرجال عرف أنه قد يحصل للجِهْبِذ المتبحّر منهم العلمُ في بعض الأحاديث التي تُروى من طرق صحيحة عن صحابيين أو ثلاثة. ومما يتأيد به الحديث أن يكون له شواهد توافقه، ولو في جنس المعنى، وأن يكون موافقًا لظاهر القرآن، أو مخالفًا له وظهر الحديث في زمن الصحابة وعمل به بعضهم؛ فإنه لو لم يكن ثابتًا عندهم ما تركوا له ظاهر القرآن، ولكانوا أنكروه. ومما يتأيد به أيضًا أن تطمئنَّ إلى لفظه نفسُ الممارس للحديث؛ فإنه لطول ممارسته للكلام النبوي صار عنده تمييزٌ ما بين ما هو منه وما ليس منه. ونحو ذلك أن تطمئن إليه نفس المتبحّر في معرفة الشمائل النبوية والحِكَم الشرعية. وهذا، وقد ضعفت في الأزمنة الأخيرة العنايةُ بالرواية، ولكن بقي بأيدينا حكم الجهابذة المتبحّرين، إذا وجدنا أحدهم صحَّح حديثًا أو احتج به، ويتأكد ذلك بموافقة آخر منهم عليه. فإذا وجدنا في حديث أن مالكًا والثوري وأحمد والشافعي احتجوا به، وأن البخاري ومسلمًا صححاه؛ كان متمكنًا في القوة، فإذا ثبت أن بعض الصحابة عمل به، وعمل به جماعة من التابعين ازداد قوة.

(19/33)


وقد ذهب جماعة من المتأخرين إلى أن أحاديث الصحيحين تفيد العلم. ووجهوا ذلك بأنها تُلقِّيت بالقبول، والتلقي بالقبول عندهم يفيد العلم، وسيأتي ما فيه. لكن رأيت عن العلامة محمد أنور الديوبندي أنه وافقهم في إفادة العلم، ووجَّهه بمعنى ما تقدم (1). ويتأكد ذلك بأن كثيرًا من الأئمة المعاصرين [ص 32] للشيخين والمتأخرين عنهم، اطلعوا على الصحيحين، وشهدوا لما فيهما بالصحة، وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث في ذلك. الخامس: قالوا: ومما يفيد العلم ما أُجمِع على صحته، أو تُلقِّي بالقبول، بأن كان أهل العلم بين محتجٍّ به ومتأولٍ له، أو أُجمِع على الحكم الذي يدل عليه. وردَّ بعضهم ذلك بأنه مبني على الإجماع، والكلام في الإجماع معروف، فإن من سلَّم حجية الإجماع يقول: إن العلم به قطعًا محال؛ لأنه يتوقف على النقل المفيد للعلم عن كل فرد من أهل عصر الإجماع، بحيث يُعلم قطعًا أنه لم يبق أحد منهم إلا ونقل عنه كذلك. وأما الإجماع السكوتي فمختلف فيه، وممن ردَّه الإمامان الشافعي وأحمد، كما أنكرا العلم بالإجماع في غير أركان الدين، كفرضية الصلاة والصيام والحج ونحو ذلك مما إن خالف فيه مخالف كفر، فالعلم بالإجماع فيها إنما هو لهذا، أعني: لأن من خالف كفر، فخرج عن الاعتداد بقوله. _________ (1) انظر "فيض الباري" (1/ 45، 46) من المقدمة.

(19/34)


ومع هذا، فتأويل العالم لحديثٍ لا يستلزم قوله بصحته؛ فإن كثيرًا من أهل العلم يتأولون الحديث وهم متوقفون في صحته، كأن أحدهم يقول: إن صحَّ فهذا تأويله، وربما يضعِّف أحدهم الخبر ثم يتأوله. وهكذا الإجماع على حكم لا يستلزم صحة ما يُروى فيه. ألا ترى أنه لا يمتنع أن يَعمِد كذّاب إلى حكم مجمع عليه فيضع على وفقه حديثًا؟ أقول: قد سلَّم الإمامان الشافعي وأحمد أن العارف بأقوالِ مَن سلف من أهل العلم إذا عرف قول جماعة منهم ولم يعلم لهم مخالفًا بعد البحث= يكون هذا حجة في الجملة. فأقلُّ أحوال هذا أن يكون من أعظم ما يساعد على قطعية الخبر. وتأويل العالم للخبر مع عدم تصريحه بضعفه يدل على أنه لم يعرف فيه مطعنًا، وذلك مما يقوِّيه. وأما قولكم: إن الإجماع على حكم لا يستلزم صحة ما يُروى فيه، فهذا فيما إذا ظهر للإجماع مستندٌ غير ذلك الخبر، فأما إذا لم يظهر غيره ــ وهو في نفسه منقول نقلًا صحيحًا ــ فالظاهر أنه هو مستندهم، وبذلك يكون الظاهر أنهم اتفقوا على صحته. وقد أيَّد هذا بعض الأجلّة بأن تجويز بطلان ذلك الخبر لاحتمال أن يكون المستند غيره= اتهامٌ للأمة بأنها أهملت الحجة الصحيحة فلم تُنبِّه عليها، أو لم تُعْنَ بها، أو لم تنقلْها، واعتنت بنقلِ ما ليس بصحيح في ذلك المعنى بعينه. وهذا بغاية البعد. فإن قيل: استغنتْ عن نقل الحجة الصحيحة بالإجماع.

(19/35)


قيل: فما بالها نقلت غير الصحيحة في ذاك المعنى نفسه؟ وأنا أقول: أما الحكم بالضعف على الخبر المنقول نقلًا تقوم به الحجة، فلا وجه له. غاية الأمر أن يجوز أن يكون مستند الإجماع غيره، وهذا لا يضر ذلك الخبر بل يفيده قوة؛ لأنه على أحد الاحتمالين مجمع على صحته، وعلى الاحتمال الآخر صحيح في نفسه، وله شاهد مجمع عليه. وبعد، فإذا سلِّم الإجماع على الحكم لم تبق فائدةٌ لإنكار كون الخبر مجمعًا على صحته؛ لأن الحكم هو المقصود. [ص 33] وههنا مسائل: الأولى: إذا صح من جهة الرواية خبر، ونُقل تصحيحه عن جماعة، ولم يُعلم لهم مخالف، ونُقل القول بالحكم الذي دل عليه عن جماعة، ولم يُعلم لهم مخالف ممن مضى، فهل يكفر منكره؟ أقول: فيه نظر، وله موضع آخر. الثانية: هل يُعامَل معاملة القطعي في النسخ؟ أقول: أكثر أهل المذاهب يرون نقل الحكم عن جماعة ممن مضى، ولا يُعلم لهم مخالف= إجماعًا يدل على ناسخ، فيجزمون بالنسخ، حتى لو كان الحكم الآخر منصوصًا في كتاب الله عز وجل، ففي هذه الصورة أولى. الثالثة: هل يثبت به الفرض وغير ذلك، عند من يفرق بين القطعي والظني في الأحكام؟ أقول: المفرِّقون يعدّون هذا الإجماع قطعيًّا، وعلى ذلك فيثبت به الفرض وغيره عندهم، ففي هذه الصورة أولى.

(19/36)


الرابعة: إذا وجد دليل يناقض ذلك الخبر وذلك الإجماع، هل يجوز لأحد أن يذهب إلى ذلك الدليل؟ أقول: أما إذا كان الدليل المناقض محتملًا أن يكون منسوخًا بذلك الخبر، فلا يجوز. بل المتعين القول بذلك، إذ القول بعكسه في غاية البعد؛ إذ يلزم منه اتفاق الأمة على التمسك بالمنسوخ وإهمال الناسخ. فإن قيل: اتفاق الأمة لم يسلم؛ لأن الفرض أن الحكم إنما نقل عن جماعة. قلت: الظاهر أنه لو كان هناك مخالف لأظهر قوله وإنكاره لهذا المنكر، وهو التمسك بالمنسوخ واطّراح الناسخ، وإلا كانت الأمة مجمعة على الضلال، بعضها بالتمسك بالمنسوخ واطراح الناسخ، وباقيها بالسكوت على هذا المنكر، والساكت على المنكر مع علمه به وإمكان أن ينكر شريك فيه، فكأنها أجمعت على ضلالة واحدة. فإن قيل: لعل بعض من لم ينقل قوله لم يطلع على تمسك الجماعة بالمنسوخ، ولعل بعضهم اطلع ومنعه مانع من الإنكار، ولعل بعضهم اطلع وأنكر ولم يُنقل إنكاره، ولعل بعضهم اطلع وأنكر ونُقِل إنكاره ولكن لم يبلغنا، بأن يكون في بعض الكتب التي لم نقف عليها. قلت: هذا كله بعيد إذا بحث واسعُ الاطلاع منا فلم يجد، ويتأكد ذلك إذا كان قد نص إمام مطلع ممن قبلنا على الإجماع. وبعد، فهَبْ أن ما ذكرناه لا يكفي للدلالة على كون الخبر الموافق للإجماع ناسخًا للدليل الآخر، فهل هناك إلا مخرج واحد وهو الأخذ

(19/37)


بالراجح؟ فالخبر الموافق للإجماع أرجح، فوجب الأخذ به على كل حال. الخامسة: إذا وجد دليل يناقض الخبر والإجماع ولم يحتمل أن يكون منسوخًا به، كما إذا كان الخبر الموافق للإجماع مؤرخًا بزمان، والدليل المناقض مؤرخ بما بعد ذلك الزمان. فهل يجوز الذهاب إلى ذلك الدليل؟ أقول مستعينًا بالله عز وجل: إن ثبت أنه قد ذهب إلى وفق الدليل المناقض مجتهد من أهل القرون الثلاثة الأولى فذهاب من بعدها إليه موكول إلى اجتهاده، وذلك أن ذهاب ذلك المجتهد من أهل القرون الأولى إلى ذلك خادش في الإجماع، أما في إجماع أهل عصره فواضح، لأنه منهم وهو مخالف، فكيف يقال: أجمعوا؟ وأما من قبله فالظاهر أنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه إلا وقد عرف أنه لم يتقدمه إجماع تمتنع مخالفته، وأما من بعده فالذي تبين لي رجحانه أنه لا يُعتدُّ بالإجماع بعد سبق الخلاف المستقر. وإن لم يثبت، فلا يجوز لمن بعدها الذهاب إليه؛ لأن ظاهر اتفاق الثلاثة القرون على خلاف ذلك الدليل يُوهنه جدًّا، ويتأكد ذلك بأمور: [ص 34] منها: أن الهمم قصرت، والمعرفة ضعفت، والدعاوى كثرت، والأهواء انتشرت، والتقوى خفَّت. فأصبح كثير من الناس يدَّعون العلم وهم قاصرون، فإن وجد راسخ لم يكد يَسلَم من هوى أو ضعف ورعٍ. فإن وُجد مخلصٌ ورعٌ فهو نفسه يتردد فيما عسى أن يظهر له من دليل يدل على قولٍ المنقولُ عن أهل القرون الأولى خلافه، ولم يظفر بنقل عن واحد منهم يستند إليه، وذلك أن هذا المعنى يشككه في دليله، فيقول: لعلي غلطت في ظن صحة هذا الخبر وفي ظن أن هذه العبارة تدل على كذا؛ فإنه

(19/38)


ليس له من معرفة الحديث ورواته ما كان لأئمة السلف، وليس له من الذوق العربي ما كان لهم. فإن فرضنا أنه قَوِيَ في نفسه ما ظهر له، فإن غيره من أهل العلم لا يوافقونه على ذلك، ويرون في فتح هذا الباب مفسدةً عظمى؛ فإن المنتحلين للعلم بلا رسوخ ولا ورعٍ كثيرٌ، فيأخذ كل منهم يتخوض في الدين، ولا يتمكن أهل العلم من إفحامهم بالمناظرة؛ لأن المناظرة إنما تفيد مع الإنصاف، ولا يرجى ذلك من المتخوضين. نعم، قد كان في عهد السلف جماعة من علماء السوء، ولكن كانوا مقهورين، وكان العامة يعرفون علماء الحق؛ لقرب العهد بالسراج المنير - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه، فكان إذا قام رجل يدعي العلم والمعرفة فزع العامة إلى من عرفوه من علماء الحق فيكفيه أن يقول للعامة: ذاك رجل مبتدع، أو لا يوثق بعلمه، أو نحو ذلك. وأما في الأزمنة المتأخرة فإن الحال تغيَّر، بل انعكس، فصار الملوك والأمراء والعامة يرون العالم هو من يوسِّع عليهم، ويوافق أهواءهم. فلهذا عظَّم العلماء شأن الإجماع، حتى [إذا] نبغ نابغ من أولئك المتخوضين كفى أن يقال له وللناس: هذا خرق للإجماع. ولهذا ــ والله أعلم ــ قال جماعة: إن باب الاجتهاد قد انسدَّ، وقال ابن الصلاح (1): إن التصحيح والتحسين للأحاديث قد انتهى. _________ (1) في "علوم الحديث" (ص 13). وردَّ عليه آخرون، انظر "فتح المغيث" (1/ 50، 51) و"تدريب الراوي" (1/ 143 وما بعدها).

(19/39)


أما أنا فلا أوافق على سدِّ باب الاجتهاد وتصحيح الأحاديث، ولكن أرى أنه لا ينبغي مخالفة حكم قد قال به أهل القرون الثلاثة، ولم يُعلَم منهم مخالف، ويبقى مجال الاجتهاد في أمرين: الأول: الأحكام التي اختلف فيها علماء السلف، فيجتهد العالم في الترجيح بينها. الثاني: في الأشياء التي لم يُنقل عن أهل القرون الثلاثة فيها شيء واضح. أما الأول فإن العالم نفسه يطمئن إلى ما ظهر له؛ لأن له سلفًا، فيقول: هَبْني لم أبلغ درجة الاجتهاد فهذا قول مجتهد معروف، فكأنني قلدته، وقد جوَّز الناس تقليد المجتهد وإن لم يظهر للمقلد رجحان دليله، فأما أنا فقد ظهر لي رجحان دليله. وكذلك يطمئن غير هذا العالم إلى قوله، إذا علموا أنه قول مجتهد معروف. ولا يخشى من هذا ما يخشى من إطلاق الاجتهاد من التلاعب بالدين، اللهم إلا أن يدَّعي هذه المرتبة من ليس من أهلها، أو يكون ضعيف الدين، [ص 35] لكن مثل هذا لا يصعب على أهل العلم والدين كشفُ حاله إن شاء الله تعالى. وعلى كل حال، فالشر هنا أخف، والمفسدة التي في سدّ الباب مطلقًا أشدّ، مع أن أكثر أهل العلم من المتأخرين قد فتحوا هذا الباب بجواز التقليد، وهذا خير منه؛ إذ ليس فيه ــ إذا أُعطِي حقَّه ــ تتبعٌ للرخص، وإنما فيه تتبعٌ للراجح من الأدلة، فإذا اتفق في مسألة أن يكون رخصة كان في أخرى شدة.

(19/40)


وفيه مصلحة من أعظم المصالح، وهو إحياء علوم الكتاب والسنة، وإشعار الناس بأنهم إنما يتبعون الكتاب والسنة. وأي فرق أعظم من الفرق بين من يقوم يصلي فيعمل بقول فلان وقول فلان، ومن يقوم يصلي فيعمل بتلك الآية وذلك الحديث؟ فهذا الثاني شاعرٌ تمامَ الشعور بأنه يعبد الله عز وجل بامتثال أمره في كل حركة وسكون، والأول بعيد عن ذلك. وأما الاجتهاد فيما لم يُنقل فيه شيء صريح عن علماء القرون الثلاثة، فلا يمكن سدُّه إلا بأن يوكل إلى المقلدين يجتهدون فيه بالقياس على أقوال شيوخهم وشيوخ شيوخهم، ولعله يكون قياسًا على قياس على قياس! أفليس الأولى من ذلك استنباط حكمه من نصوص الشريعة نفسها؟ هذا، وقد أغفل كثير من فقهاء الشافعية وغيرهم درجة "المرجِّح"، أعني الذي يبلغ من العلم مبلغًا يتمكن به من النظر في أدلة المختلفين، وتعرُّف الراجح منها. وقد رأيت عن الشافعي رحمه الله تعالى ما يثبت هذه الدرجة. ففي ترجمة إسحاق بن الفرات من "تهذيب التهذيب" (1/ 247): "وقال ابن قديد: حدثني ابن عبد الحكم (1) قال: قال لي الشافعي: أشرت على بعض الولاة أن يولي إسحاق بن الفرات القضاء، وقلت: إنه يتخير، وهو عالم باختلاف من مضى". _________ (1) في "الولاة والقضاة" للكندي (ص 78) و"إكمال تهذيب الكمال" (2/ 108): "ابن قديد عن يحيى بن عثمان عن ابن عبد الحكم ... ". وهو الصواب.

(19/41)


فقوله: "يتخير" يعني أنه يرجح بين أقوال المختلفين، ويختار ما رجح دليله. فصل قد بسط أهل العلم حجج الإجماع (1)، وينبغي لطالب الحق أن يتدبرها، ثم ينظر إليها مجتمعة، فكم من قضية استُدِلّ عليها بأدلة قد يكون كل واحد منها إنما يفيد ظنًّا ضعيفًا، فإذا عمد العالم إلى دليل منها فخدشَ فيه وطرحه، ثم في الثاني فكذلك، وهكذا؛ أمكنه ذلك فيها كلها. لكن لو نظر إليها مجتمعة لرأى قوة لم يحسبها. ونظير ذلك: المتواتر إذا كان عن خبر كفار أو فساق مثلًا، فعمدتَ إلى كل فرد منهم فطعنتَ فيه؛ أمكنك ذلك، مع أن المجموع يفيد العلم القطعي. وينبغي له أن ينظر إلى أمور أخرى: الأول: قضاء العادة. فإن المجتهدين كانوا كثيرًا، وطلب العلم ونشره كان محروصًا عليه، وفي المثل المشهور "خالِفْ تُذكر"؛ فالناس حريصون على نقل الأقوال الغريبة، ولاسيَّما إذا كانت مستندة إلى حجة قوية. الثاني: أن هذه الكتب المتداولة بين الناس في هذا العصر هي بالنظر إلى الأدلة جامعة لغالبها. الثالث: أن الله تبارك وتعالى متكفل بحفظ دينه وشريعته، كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى، ولا يتم حفظ الحجة منها إلا بحفظها حفظًا تقوم به الحجة. _________ (1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 65 وما بعدها).

(19/42)


فإذا نُقل عن جماعة من أهل القرون الأولى قول ولم يُنقل خلافه عن أحد منهم، ثم وجدت أنت دليلًا يدل على خلافه، فهذا الدليل لن يكون إلا ظنيًّا في نفسه، والدليل الظني في نفسه تُوهنه الأمارات والقرائن الدالة على خلافه. فإذا وجد طالب الحق دليلًا من تلك الدلائل، ثم نظر في أدلة الإجماع، ما أراه إلا سيرتاب في صحة ذلك الدليل. فإذا كان الأمر كذلك دل هذا على بطلان ذلك الدليل في نفسه؛ لأنه لو كان من الحق [ص 36] لحفظه الله تبارك وتعالى حفظًا تقوم به الحجة، وتطمئن إليه النفس. وعلى كل حال، فليس مقصودي هنا البتّ في هذه القضية، وإنما نبهت على ما قد يخفى. وعلى العالم أن ينظر لنفسه، ويحتاط لدينه، متضرعًا إلى مقلب القلوب سبحانه أن يثبِّت قلبه على دينه، ويهديه لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، والله المستعان، لا رب غيره. السادس مما ذكروا أنه يفيد العلم من الأخبار: أن يخبر إنسان بخبر بحضرة قومٍ لو صدَّقوه حصل العلم بصحة الخبر، ولكنهم سكتوا، ولا حاملَ لهم على السكوت عن تكذبيه لو كان كاذبًا. أقول: الشأن في قولهم "ولا حاملَ لهم"؛ فإذا فُرِض انتفاء كل حامل من الحوامل الممكنة قطعًا فذاك، ولكن هذا مما لا يكاد يتفق؛ فإن الحوامل كثيرة، منها: أن لا يكونوا علموا ــ أو جماعة منهم ــ صدقه ولا كذبه. ومنها: أن يكون لهم ــ أو لمن عرف كذبه منهم ــ هوًى في إيهام صدقه. ومنها: أن يخافوا ــ أو العارفون بكذبه منهم ــ من شره. ومنها: أن يتهاونوا به؛ لأنهم يرون أن كذبه واضح.

(19/43)


إلى غير ذلك. فلا بد أن يحصل القطع بأنه لو كان كاذبًا ــ عمدًا أو خطأً ــ لرد عليه بعضهم. السابع: نقلوا عن الزيدية أن مما يفيد القطع: بقاء الخبر مع توفر الدواعي على إبطاله. ويمثّلون بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبيَّ بعدي". أقول: أما الحديث ففي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص. وفي رواية لهما واللفظ للبخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا، فقال: أتُخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي". وقد رواه عدد عن سعد، منهم: أبناؤه إبراهيم (2) وعامر (3) ومصعب (4). ورواه عنهم جماعة، وسمعه سعيد بن المسيب من عامر بن سعد، قال ابن المسيب (5): "فأحببتُ أن أشافِهَ بها سعدًا، فلقيتُ سعدًا فحدَّثتُه بما حدثني عامر، فقال: أنا سمعته، فقلت: آنت سمعته؟ فوضع أصبعيه على أذنيه فقال: نعم، وإلا فاستكَّتا". _________ (1) البخاري (3706، 4416) ومسلم (2404). (2) من طريقه أخرجه البخاري (3706) ومسلم (2404/ 32) وغيرهما. (3) من طريقه أخرجه مسلم (2404/ 30). (4) من طريقه أخرجه البخاري (4416) ومسلم (2404/ 31) وغيرهما. (5) كما رواه النسائي في "خصائص علي" (50).

(19/44)


وذكر ابن حجر في "الفتح" (1) أنه جاء من غير حديث سعد بن أبي وقاص: عن عمر، وعلي نفسه، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، والبراء، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد، وأنس، وجابر بن سمرة، وحُبشي بن جُنادة، ومعاوية، وأسماء بنت عميس، وغيرهم. أقول: لو قيل إنه من حديث سعد وحده يفيد العلم لم يبعد، فكيف مع ما انضمَّ إليه؟ وأما أن يكون كل حديث روي في فضائل علي مقطوعًا به فلا يقوله عاقل: أولًا: لأن القاعدة واهية، كما يأتي. وثانيًا: لأنه إن كان الحديث في فضيلة ليس فيها تعرضٌ للخلافة؛ فلم تتوفر الدواعي على نقله (2) مطلقًا. نعم، كان بعض ولاة بني أمية يكرهون أن تُروى فضائله، ولكن أهل العلم لم يكونوا يبالون بهم، بل كانوا يروونها، وربما جَبَهوهم بها، على أن زمانهم لم يطل، وفوق ذلك فقد كان جماعة كثيرون من أهل العلم شديدو المحبة لعلي رضي الله عنه، ومنهم من يبالغ في ذلك، وكان أهل الكوفة كلهم شيعة له، ومنهم من يفرط في ذلك. وإن كان في الخلافة فأئمة الزيدية أنفسهم يعترفون أن النص المدَّعى _________ (1) (7/ 74) وقال: وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة علي. (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "على إبطاله".

(19/45)


لعلي رضي الله عنه غير صريح. هذا وهم من أهل البيت، فلو كان هناك نص صريح لحفظه عامة أهل البيت، وأخبروا به أبناءهم والثقات من شيعتهم. وأما القاعدة فواهية؛ لأن توفر الدواعي على الإبطال وإن اقتضى أن تَعِزَّ رواية الخبر، فلا يقتضي أن كل خبر يُروى صحيح، فضلًا عن أن يكون مقطوعًا به. وها نحن نجد الدول تحرِصُ على إخفاء الأخبار التي تخشى أن تبلغ أعداءها، أو أن تُوقِع الاضطراب في رعاياها، ومع ذلك نجد الرعايا يتناجَون بكثير من الأخبار التي من شأنها ما ذُكِر، ولا أصل لها، وقد تَشِيع كثير من هذه التي لا أصلَ لها حتى يسمع به جميع الرعايا. [ص 37] فصل قال جماعة من المتأخرين (1): إن أحاديث الصحيحين تفيد العلم لأنها تُلقِّيت بالقبول، عدا أحاديث انتقدها عليهما بعض الحفاظ الذين جاءوا بعدهما. أقول: في "مقدمة الفتح" (ص 491) (2): "قال أبو جعفر العقيلي: لما صنّف البخاري كتابه الصحيح عرضه على ابن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري. وهي صحيحة". _________ (1) انظر "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص 25) و"فتح المغيث" (1/ 58 - 61) و"تدريب الراوي" (1/ 131 وما بعدها). (2) (489) ط. السلفية ..

(19/46)


وفي مقدمة "شرح مسلم" (1) للنووي: "بلغنا عن مكي بن عبدان ــ أحد حفاظ نيسابور ــ أنه قال: سمعت مسلم بن الحجاج ... ، قال: وسمعت مسلمًا يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علةً تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة خرَّجتُه". وقد يقال: إذا استُثنِيَت الأحاديث التي انتُقِدت عليهما، فإنهما ــ أو أحدهما ــ قد أخرجا لجماعة ممن طُعِن فيهم والطعن في بعضهم مؤثر، فينبغي أن تُستثنى الأحاديث التي ينفرد بها هؤلاء، ولاسيما إذا كان الطعن من بعض أئمة عصرهما أو ممن بعدهما. ويوضح ذلك: أن الأحاديث التي انتقدها الدارقطني عامتها إنما انتقدها بعللٍ أبداها، وهو نفسه يضعِّف جماعة ممن أخرج لهم في الصحيحين، فالظاهر أنه اكتفى بالقدح في الراوي عن انتقاد الأحاديث التي انفرد بها في الصحيحين. والذي يتحرر لي في "صحيح البخاري" أن أحاديثه على أضرب: الضرب الأول: ما يحتج به على قول يجزم به في العقائد أو الأحكام على أنه أصل في ذلك. فهذا يحتاط له البخاري جدًّا، وكذلك ينبغي أن يكون احتاط له الأئمة الذين أقروه على تصحيحه. الضرب الثاني: ما يورده على أنه شاهد أو متابع للضرب الأول. فهذا مما يتسامح فيه، فقوته إنما هي فيما وافق فيه الأصل، فإن كان فيه زيادة عما عقد عليه البخاري الباب فهي نازلة عن الضرب الأول. _________ (1) (1/ 15).

(19/47)


الضرب الثالث: ما هو في الترغيب أو الترهيب أو فضائل الأعمال، ونحوها. فهذا أيضًا مما يتسامح فيه، فإذا أورده البخاري لهذا القصد وكان فيه ما يستدل به على عقيدة أو حكم فليس في قوة الضرب الأول. الضرب الرابع: المعلقات. فإن كان قد أسند المعلق في موضع آخر من "الصحيح" فحكمه حكم الضرب الذي أسند فيه. وإن لم يسنده البتة فالذي يتحرر لي أنه يصلح أن يكون عاضدًا، أو في ترغيب أو ترهيب، أو فضيلة عمل، أو نحو ذلك. فأما أن يُحتجَّ به وحده فلا، حتى يعرف سنده. والحاصل أن الضرب الأول هو الذي احتاط له البخاري رحمه الله، ويظهر أن الذين أقروه على صحة الكتاب احتاطوا أيضًا، فهو الذي يصح أن يقال: إن أئمة الحديث الذين اطلعوا على الكتاب أجمعوا على صحته، إلا ما انتقده بعضهم. وأما الباقي فغاية ما هناك أنهم أجمعوا على أنه صالح لموضعه الذي ذكر فيه. أعني المتابعات والشواهد وفضائل الأعمال والعواضد، ونحوها. [ص 38] ويقاس عليه "صحيح مسلم" فيما يتبيَّن منه. تنبيهات الأول: قد يورد البخاري رحمه الله الحديث على أنه أصل في بابه، ويكون عنده موافقًا لظاهر القرآن، أو في حكم لا يُعلَم فيه مخالفٌ، أو موافقًا للنظر الجلي، أو نحو ذلك؛ فقد لا يشدد البخاري في هذا كما يشدد في الحديث الذي هو وحده الحجة، فينبغي التنبّه لذلك. الثاني: قد يصحح الأئمة الحديث بالنظر إلى المعنى الذي فهموه، ثم يحمله بعض الناس على معنى لو فهموه من الحديث لم يصححوه، لأنه

(19/48)


يكون عندهم منكرًا. فينبغي التيقظ لهذا. الثالث: إذا صححوا الحديث في باب، وكان فيه زيادة، فتصحيحهم قد لا يتجه إلى تلك الزيادة؛ لاحتمال أن تكون منكرة، ولاسيَّما إذا لم يذكروا تلك الزيادة فيما التزموا فيه الصحة. الرابع: قد يتبين في هذا العصر في حديث مما في أحد الصحيحين علة تدل القرائن أن صاحب "الصحيح" لم يطلع عليها. فينبغي التأمل في هذا. [ص 39] فصل وأعمُّ من هذا كله ما نُقل عن الإمام أحمد، وداود إمام أهل الظاهر، والحسين الكرابيسي، والحارث المحاسبي: أن خبر الثقة يفيد العلم مطلقًا. ونصره ابن حزم، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك، واختاره وجنح إليه بعض من جاء بعد هؤلاء (1). وردّ الأكثرون هذا القول، وشنّع بعضهم على من قاله. وقال الغزالي (2) ما معناه: لعلهم أرادوا أنه يجب العمل به قطعًا، أو أطلقوا العلم وأرادوا الظن. أقول: كل من مارس الحديث يعلم أن العالم قد يرى أن هذا الراوي ثقة، ثم يتبين له أو لغيره جرحه، وقد يحكم بصحة الحديث، ثم يتبين له أو لغيره أن له علة قادحة، وقد يخبر كل من الثقتين بخبر يناقض خبر صاحبه، _________ (1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43) و"الإحكام" لابن حزم (1/ 119). (2) "المستصفى" (1/ 145).

(19/49)


والثقة غير معصوم عن الخطأ إجماعًا، والنقل عن الإمام أحمد نفسِه كثير لبيان أغلاط المحدثين الثقات. وظنُّ الغزالي قوي؛ فإن العلم كثيرًا ما يطلق في اللغة على ما يعمُّ اليقين القاطع، والظنَّ الغالب الناشئ عن دليل من شأنه إفادة الظن الجازم، ولذلك قال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5]. وسيأتي لهذا مزيدٌ إن شاء الله تعالى. والإمام أحمد وداود والكرابيسي والمحاسبي بغداديون، وكان في عصرهم ببغداد طائفتان كانوا معهما في نزاع مستمر: الأولى: الجهمية ونحوهم. وكانت تطعن في الأحاديث الواردة في صفات الله عز وجل، وأحوال يوم القيامة، ونحوها، قائلةً: هذه أخبار آحادٍ غاية ما تفيده الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا، والعقائد إنما تستمدُّ من البراهين القطعية. الثانية: بعض الغلاة في الرأي، كبشر المريسي. وكانوا يردون الأحاديث، تارةً بدعوى أنها مخالفة لظاهر القرآن، وتارة بأنها مخالفة للقياس. فإذا قيل لهم: دلالة تلك الظواهر ظنية، والأحاديث تفيد الظن، فالصواب إنما هو العمل بهما بحمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد، ونحو ذلك. قالوا: من الظواهر عندنا ما يفيد العلم، والقياس عندنا قد يفيد العلم.

(19/50)


قيل لهم: كيف ذلك مع احتمال أن هذا الظاهر غير مراد، وأن هذا القياس خطأ؟ قالوا: ذاك احتمال غير ناشئ عن دليل صحيح، فهو كالعدم، وقد قرر متأخرو الحنفية هذا، وقالوا: إن العلم علمان: علم يقين، وعلم طمأنينة، ثم أطلقوا في كل منهما القطع. والحاصل أنهم أطلقوا العلم والقطع على الظن الحاصل ببعض الدلالات، وإطلاق العلم على ذلك قريب لما مرَّ ويأتي، وأما القطع فاصطلاح لهم. فيمكن أن يكون الإمام أحمد وداود والكرابيسي والمحاسبي أرادوا الرد على الطائفتين، فقالوا: إن خبر الثقة يفيد العلم. وأرادوا أن الأخذ به واجب؛ لحجج تفيد العلم اليقيني. وقالوا للجهمية: من تلك الحجج إجماع سلف الأمة، وكان معروفًا عنهم الأخذ بخبر الثقة، حتى في صفات الله عز وجل، وأحوال المحشر. أقول: والسر في ذلك أنهم يطلقون من الصفات ما ثبت إطلاقه عن الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا يكيّفون ذلك ولا يبتغون تأويله، فصار الإطلاق قريبًا من الأحكام الفرعية، كالأذان والتشهد وأذكار الصلاة ونحوها. وما يقع في النفوس من ذلك لا يزيد عما يقع فيها من سماع آيات الصفات وتلاوتها. وإذا رجع المنصف إلى عقله ودينه علمَ أنه لا ضرر من ذلك البتة. ولتوضيح هذا موضع آخر. على أن ما يسميه الجهمية "براهين قطعية" ليست إلا شبهات مُضِلّة،

(19/51)


تُمرِض الصحيح وتزيد المريض مرضًا، فهي في الحقيقة أضعف من أن تفيد ظنًّا سليمًا، فكيف تفيد اليقين؟ [ص 40] وقالوا لأهل الرأي: إذا وجب الأخذ بخبر الثقة قطعًا، فما بقي إلا أننا إذا نظرنا في خبر بعينه بقي عندنا احتمال أن يكون وقع في روايته شيء من الخلل لو بان لنا لسقط ذلك الخبر، ولكن هذا احتمال ناشئ من غير دليل، كما قلتم في ظواهر القرآن سواء , فأما القياس فهو أهون من ذلك. أقول: ولعله يأتي استيفاء هذه الحجة وما لها وما عليها إن شاء الله تعالى، والمقصود هنا غير ذلك كما لا يخفى.

(19/52)


أخبار الآحاد تقدَّم تقسيمُ الأخبار إلى مقطوع بكذبه، ومقطوع بصدقه، وما لا ولا. وتقدم تفصيل القسمين الأولين، وبقي الثالث، وهو المشهور بأخبار الآحاد. وقد قسمها أهل الحديث إلى: صحيح وحسن وضعيف، وحدودها معروفة في كتبهم، وإنما أنبه هنا على ما أراه مهمًّا. وسأسرد ذلك في فصول. فصل كان الثنوية من المجوس يعلمون وجود الله عز وجل وعظمته وجلاله، ثم أخذوا يثبتون له ما يرونه كمالًا، وينفون عنه ما يرونه نقصًا، إلى أن قالوا: هو سبحانه خير محض. فوسوس لهم الشيطان قائلًا: فمن أين جاءت هذه الشرور المشاهدة في العالم؟ فكانوا قد سمعوا عن الأنبياء إثبات وجود الشيطان وسعيه في إضلال العباد، فقالوا: من الشيطان. فقال لهم: والشيطان من أوجده؟ فلم يرجعوا إلى الأنبياء وسننهم، بل اغتروا بعقولهم، فتفكروا قائلين: إن قلنا: أوجده الله عز وجل، لزِمَنا أن يكون الله سبحانه خلق جرثومة الشر، وكيف يكون سبحانه مع ذلك خيرًا محضًا؟ وإن قلنا: أوجده غيره، أثبتنا ربًّا غير الله عز وجل، وذلك أشد. وإن قلنا: وُجِد بغير موجدٍ أوجده، فذاك محال. فتخرَّصوا فقالوا: أوجده الله بغير قصد، وذلك أنه سبحانه فكَّر فكرةً رديئة فكان منها الشيطان. فقال لهم: إذا جاز أن يفكر فكرة رديئة لم يكن خيرًا محضًا.

(19/53)


فوقعوا في المهواة. قالوا: الشيطان قديم. ولم يقنع منهم الشيطان بذلك، بل قال لهم: فقد كان ينبغي أن يُهلِكه الله عز وجل ويقطع دابر الشر. فوقعوا في المهواة الأخرى. قالوا: للشيطان قدرة ذاتية عظيمة، والله عز وجل جادٌّ مجدٌّ في إهلاكه، والحرب بينهما مستمرة. ثم خادعوا أنفسهم فقالوا: في آخر الأمر يتمُّ انتصار الله عز وجل على الشيطان، ويلقيه وحزبه في جهنم، ويتخلص العالم من الشر. كان قدماء المصريين موحدين، ثم طال بهم العهد، فاستغنوا عن هدي الأنبياء، وأخذوا يعظمون الله عز وجل بما تقتضيه عقولهم. فقالوا: إن الرب عز وجل بغاية العظمة والكبرياء، والبشر في غاية من الجهل والفساد والحقارة، ومن شأن ملوك الدنيا أن يأنفوا من مقابلة سقط الناس، ويُعدُّ تعرُّض سقط الناس لمقابلة الملك ومباشرة تعظيمه تحقيرًا له. كما لو اجتمع نفرٌ من كنَّاسي المراحيض وقالوا: نحب مقابلة الملك، لِنُحيِّيه ونُهنِّئه مثلًا؛ لاستحقوا العقوبة. فنسبة البشر إلى الرب عز وجل أبعد بما لا نهاية له من نسبة سقط الناس إلى ملوكهم. فقيل لهم: لكن البشر محتاجون إلى عبادة ربهم وسؤال حوائجهم. وكان قد بلغهم عن الأنبياء إثبات الملائكة. فقالوا: كما أن سقط الناس يجعلون تعظيمهم وسؤال حوائجهم إلى أناس أعلى منهم قليلًا، ثم تكون لهم درجات، إلى أن ينتهي الأمر إلى الوزراء. فمَن دون الوزراء يعظِّم الوزراء ويسألهم، وهم بدورهم يعظِّمون الملك ويسألونه. فكذلك ينبغي للبشر أن يوجِّهوا عبادتهم إلى الملائكة؛

(19/54)


لأنهم فوقهم ودون الرب عز وجل، ثم الملائكة يعبدون الله عز وجل؛ لأنهم مقربون عنده. فجَرَوا على ذلك مدة، ثم نشأ فيهم فرعون، فقال: درجة الملائكة عالية، وبينهم وبين البشر بون بعيد، فعبادة عامة البشر للملائكة فيها توهين للملائكة. فقال قومه: وكيف نصنع؟ قال: إن بين عامة الناس وبين الملائكة واسطة، وهي ملوكهم، فإن المَلِك ما نال المُلكَ إلا بعناية من الملائكة تدل أنه محبوب عندهم مرضي لديهم مقرب إليهم، وعلى كل حال فدرجته فوق درجة العامة. فعلى العامة أن يعبدوا السلطان، [ص 41] والسلطان يعبد الملائكة، والملائكة يعبدون الرب عز وجل. وقد أوضحتُ هذا بأدلته من القرآن والتاريخ في رسالة "العبادة". ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]. أي: أن موسى لم يقنع بأن يذر عبادتك ويساويك فيعبد آلهتك الملائكة، بل ترقَّى عن ذلك فترك عبادة آلهتك الملائكة، وادَّعى مساواتهم في أنه يعبد الرب مباشرة. وقد قصَّ الله عز وجل عن فرعون قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] فتدبر. وتمام هذا والجواب عما يورد عليه في رسالة "العبادة". هذا، ولعامة أمم الشرك أشياء من هذا القبيل. أعني أنهم يكونون على هدى، ثم يقصِّرون في الاهتداء بهدي الأنبياء والتمسك بآثارهم، ويستغنون بعقولهم وأفكارهم؛ فيهلكون.

(19/55)


وفي "الصحيحين" (1) وغيرهما أنه بينا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقسم مالًا إذ قام رجل ... بين عينيه أثر السجود، فقال: يا رسول الله، اتقِ الله. وفي روايةٍ: اعدِلْ يا رسول الله. وهناك روايات أخرى قريبة من ذلك. فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ويلك! أوَ لستُ أحقَّ أهل الأرض أن يتقي الله؟ ". وفي رواية: "ويحك! ومن يَعدِل إذا لم أعدل؟ ". وهناك روايات أخرى قريبة من ذلك. فاستأذن عمر وخالد بن الوليد في قتله، فلم يأذن لهما - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم قال: "إن له أصحابًا يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يَمرُقون من الدين كما يمرق السهمُ من الرميَّة" الحديث. فهذا الرجل أسلم وقرأ القرآن، وأكثر من الصلاة، فتوهَّم أنه قد عرف كل شيء ولم تبق له حاجة في دينه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، بل يمكن عنده أن يقع الجور من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيكون له أن ينكر على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فأخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ذاك الرجل أصل الخوارج، وصدق - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فإن هذه النزغة هي التي استولت على الخوارج، فإنهم قرأوا القرآن، وأكثروا من الصلاة والصيام، فتوهموا (2) أنهم قد عرفوا كل شيء، وأنه لا حاجة بهم إلى عرض ما يفهمونه من القرآن على هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه، وذلك أنه وقع في أنفسهم أن القرآن كلام الله عز وجل، وهو بلسان عربي مبين، وهم عربٌ خلَّص، فاستهواهم هذا حتى وقعوا فيما وقعوا فيه. فمن ذلك: أنهم لما رأوا أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه رضي بأن _________ (1) البخاري (3610، 6163، 6933) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري. (2) في الأصل: "فتوهم".

(19/56)


يعرض ما نشب بينه وبين أهل الشام من الخلاف على رجلين يعرضان ذلك على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، ويبينان ذلك، وقيل للتفويض إلى الرجلين "تحكيم"، وقيل لهما "حكمان" = ذكر الخوارج أن الله عز وجل قد قال في كتابه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57، يوسف: 40، 67]. وقال سبحانه: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام: 62]. وقال تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ} [القصص: 70، 88]، وقال تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12]. فتوهموا أن ذلك الحكم الذي رضي علي رضي الله عنه بجعله للرجلين هو من قبيل الحكم الذي أخبر الله عز وجل في كتابه أنه له وحده. [ص 42] ولو كانوا مؤمنين بقدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وما جعل له من المنزلة، وما جعل لسنته من المنزلة في دينه= لرجعوا إلى من يعلم ذلك، وهو علي رضي الله عنه ومن بقي من الصحابة. ولو رجعوا إليهم لأرشدوهم إلى تدبر سياق الآيات المذكورة، وذكَّروهم بغيرها، كقوله عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ولبينوا لهم أن لفظ "الحكم" يجيء لمعانٍ، أذكر منها ثلاثة: الأول: القضاء المحكم بالوجود أو العدم. أعني الإرادة التي يستحيل أن يتخلف عنها المراد. وهذا هو المعنيُّ في الآيتين الأوليين بدلالة سياقهما: قال الله عز وجل: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي

(19/57)


مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]. يعني ــ والله أعلم ــ أنني وإن أردت ما تستعجلون به فليس إرادتي بالإرادة التي يستحيل أن يتخلف عنها المراد، وإنما ذاك لله عز وجل. وقال سبحانه في شأن يعقوب: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]. المعنى ــ والله أعلم ــ أنني وإن أردت بما أرشدتكم إليه دفعَ الضرر عنكم، فليس إرادتي بالإرادة التي يستحيل أن يتخلف عنها المراد، وإنما ذلك لله عز وجل. الثاني: الحكم الشرعي، بمعنى جعل الشيء حرامًا أو حلالًا، أو نحو ذلك. وهذا أيضَا خاص بالله عز وجل. فأما ما حكي عن المعتزلة من قولهم: "إن للعقل حكمًا"، ففي العبارة تسامح يمكن أن يكون من الناقلين بقصد زيادة التشنيع. وإنما الذي يقوله المعتزلة: أنه يمكن للعقل أن يدرك من غير طريق الشرع بأن حكم الله في هذا الشيء أنه حرام مثلًا. وذلك أنهم يقولون: ما دامت أحكام الله عز وجل لا بد أن تطابق الحكمة فلا بد أن تلازمها، فكلما وجدت الحكمة وجد الحكم الذي تقتضيه. فإذا أدرك العقل الحكمة في شيء وأنها تقتضي التحريم، أدرك أن حكم الله تعالى في ذلك الشيء هو التحريم، وذلك كقتل النفس. فهم موافقون على أن الحكم بهذا المعنى لله وحده، وإنما الخلاف في أمور: الأول: في أحكام الله عز وجل، أهي بمقتضى الحكمة؟

(19/58)


الثاني: في الحكمة، أتستلزم الحكم ولا بد؟ الثالث: في العقل، أيستقل بإدراك أن الحكمة في هذا الشيء تقتضي هذا الحكم حتمًا؟ وللكلام معهم موضع آخر. الثالث: الفصل المحكم فيما يشتبه أو يختلف فيه ببيان أن الحق كذا. وهذا جعله الله عز وجل للناس، كما تقدم بعض الآيات في ذلك، وهو الذي رضي به أمير المؤمنين علي عليه السلام. وزعم بعض من فهم هذه الحجة ممن ينتحل نحلة الخوارج من المتأخرين أن ما رضي به علي من تحكيم الحكمين ليس من الضرب الثالث، بل هو من الثاني، وذلك أن حكم الله عز وجل في أهل الشام منصوص في كتاب الله عز وجل بقوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، فتركُ عليٍّ لتنفيذ هذا الحكم وعدولُه إلى جعل الحكم للرجال معناه أنه جعل للرجال أن يحكموا بغير حكم الله. وحل هذه الشبهة أن أهل الشام لم يكونوا يعترفون بأنهم بغاة، وقد تركوا القتال، ورفعوا المصاحف، ودعَوا إلى تحكيم القرآن، ووعدوا بالرضا بما يتبين أنه حكم الله. [ص 43] وهذا داخل في الفيئة إلى أمر الله. فكأنهم [قالوا: ] إننا نفيء إلى أمر الله، ولكن لا نعرفه بعينه، ونحسبه معنا، ونحن تاركون القتالَ وطالبون البيان. ولا شك أن حكم الله عز وجل بقتالهم إنما هو ما داموا ممتنعين لا يُرجى رجوعهم إلا بالقتال.

(19/59)


ألا ترى أنه أمر بالإصلاح أولًا وآخرًا، فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 9 - 10]. والبغي لا بد أن يكون متحققًا من أول الأمر؛ فإنه لا يمكن أن تقتتل طائفتان إلا وإحداهما باغية. فعلم أنه إنما أمر بالقتال إذا أصرَّت الباغية على بغيها وأبت الصلح، فإذا وقع منها ذلك ثم بعد شيء من القتال رجعت إلى طلب الصلح زالت علة الأمر بقتالنا إياها في الحال. ويوضح هذا قوله في الآية: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}. وقريب من القصة أن يرفع رجل رجلًا إلى قاض ويُثبت عليه أنه قذفه، ويكون بين القاضي والقاذف عداوة، فيريد القاضي أن يحدَّه حد القذف، فيقول القاذف للقاضي: أنت عدوي، ولا آمن أن تكون جُرْتَ علي، فارفعني إلى قاضٍ أخر. فإذا توقف القاضي عن حده ورفعه إلى قاضٍ آخر، عالمًا أنه إن قضى بالحق فإنما يقضي بحده؛ لم يكن في هذا رائحة مما تقدم في الشبهة. فكذلك كانت القصة، بل القصة أولى من هذا؛ لأن القتال ليس حكمًا حتمًا كالحد، وإنما هو وسيلة للإرجاع إلى ترك البغي. ومن ذلك أن الخوارج [لمَّا] سمعوا قول الله عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]، وقوله

(19/60)


تعالى: {يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]، ونحوها = توهموا أن كل طاعة للشيطان فهي عبادة له وشرك بالله عز وجل، فقالوا: من ارتكب كبيرة فقد أطاع الشيطان، ومن أطاعه فقد عبده وأشرك بالله، فكل مرتكب كبيرة مشرك. وأحسبهم إنما اقتصروا على الكبائر لأنهم رأوا أن الصغائر لا يخلو منها أحد، أو لقول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. ولو رجعوا إلى من يعلم هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويستضيء به في فهم القرآن، لقال لهم: أين يُذهَب بكم؟ إنكم تعلمون من العربية والقرآن أنه ليس كل طاعة عبادة؛ فقد أمر الله عز وجل بطاعة رسوله وأولي الأمر والوالدين، وعلم أن الناس يطيع بعضهم بعضًا في أشياء كثيرة تقع منكم ومن غيركم، وليس ذلك بعبادة ولا شرك. وتعلمون ثانيًا: أن طاعة الشيطان في الصغائر ليست شركًا، وإذا تدبرتم سياق الآية التي تمسكتم بها عرفتم الحقيقة. قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 118 - 121]. والمعنى الذي يدل عليه السياق هو ما يوضحه ما ورد في أسباب

(19/61)


النزول (1) أن المشركين قالوا للمسلمين: أما ما ذبحتم بأيديكم فتأكلون، وأما ما ذبح الله بيده ــ يعنون: الميتة ــ فتحرّمون! يعنون: إن كانت الميتة حرامًا وهي من ذبح الله فما ذبح الإنسان بيده أولى بالتحريم، وإن كان ما ذبح الإنسان بيده حلالًا فما ذبح الله ــ أي الميتة ــ أولى بالحل. وكان محتملًا أن تؤثر هذه الشبهة في قلب بعض حديثي العهد بالإسلام، فيستحل الميتة أو يمتنع من أكلها ومن أكل المذكَّاة أيضًا، فيكون بذلك مطيعًا للشيطان في شرع الدين. أعني أنه يتدين بما وسوس به الشيطان. فحِلُّ الميتة من وسوسة الشيطان، فمن استحلها فقد أطاعه متدينًا بطاعته. [ص 44] وتحريم المذكّاة من وسوسة الشيطان، فمن امتنع عنها تدينًا فقد أطاعة متدينًا بطاعته. إذن، فطاعة الشيطان المذكورة في هذه الآية طاعة خاصة، وهي طاعته في شرع الدين، بأن يتخذ ما يوسوس به دينًا. وهذا موافق للعربية؛ فإن العبادة في اللغة هي ما يفعله الإنسان من خضوع ونحوه طلبًا لنفع غيبي. والطاعة المذكورة تنطبق على هذا، بخلاف طاعة الشيطان في ارتكاب المعصية، مع العلم والاعتراف بأنها معصية، وتألُّم القلب منها، واستحيائه من ربه عز وجل، وخوفه من عقابه؛ فإن من كان هذا حاله فلم يتدين بتلك الطاعة ولم يطلب بها نفعًا غيبيًّا. _________ (1) أخرجه أبو داود (2819) وابن ماجه (3173) والطبراني في "الكبير" (12295) والحاكم في "المستدرك" (4/ 233) والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 240) من حديث ابن عباس. وإسناده صحيح.

(19/62)


فأما الآيات الأخرى كقوله تعالى: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] فلا إشكال فيها، لأن العبادة معروفة، كما تقدم، وليس طاعته في المعصية منها، وإن كانت منهيًّا عنها بغير هذه الآية. كما أن قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] الشرك فيها معروف، وليس منه الصغائر اتفاقًا، وإن كانت منهيًّا عنها بغير هذه الآية. ومما يوضح ما تقدم أن الله عز وجل جعل طاعة الأحبار والرهبان في شرع الدين عبادةً لهم. قال تعالى في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31]. وقد ذكر عدي بن حاتم للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان، فبيَّن له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنهم كانوا يُحِلُّون لهم ما قد عرفوا أنه حرام فيستحلونه، ويحرِّمون عليهم ما قد عرفوا أنه حلال فيحرمونه، ثم قال: "فتلك عبادتهم" (1). وجعل الله تعالى طاعة الرؤساء في شرع الدين عبادة لهم، وطاعة الهوى عبادة له. وقد أوضحت جميع ذلك في رسالة "العبادة". _________ (1) أخرجه الترمذي (3095) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 116) وغيرهما، قال الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث". وللحديث شواهد وطُرق يحسَّن بها، انظر "السلسلة الصحيحة" (3293).

(19/63)


هذا، والخوارج عرب فصحاء، بِلُغتهم نزل القرآن، وإنما أُتُوا من جهلهم بالهدي النبوي، واستغنائهم عن الاهتداء بالعارفين به من الصحابة. فما بالك بزماننا هذا وأنت تجد فيه أفرادًا من الأعاجم لا يستطيع أحدهم تركيب جملة صحيحة بالعربية، وليس عنده من معرفة السنة وتفاسير السلف قليل ولا كثير، ثم تجده يخوض في آيات الله عز وجل خوض المُدِلِّ بنفسه، فينظر في الآية، ثم يتتبع معاني ما فيها من الكلمات في كتب اللغة، ثم يلفق من ذلك معنى كما يوافق هواه، فيزعم أنه مراد الله عز وجل، ثم يبني على ذلك دينًا جديدًا وشريعة مخترعة، ويضلِّل سلف الأمة ويكذّب السنة، إلى غير ذلك؟! فإلى الله المشتكى. وإنما سقت هذا الفصل تمهيدًا للذي بعده. [ص 45] فصل في "جمع الجوامع" (1): "يجب العمل به ــ أي بخبر الواحد ــ في الفتوى والشهادة إجماعًا، وكذا سائر الأمور الدينية ... ، وقالت الظاهرية: لا يجب مطلقًا". أقول: المعروف عن إمام الظاهرية داود أن خبر الثقة يفيد العلم، كما تقدم، واختار ذلك فحلهم ابن حزم، وكان منهم جماعة محدثون يحتجون بأخبار الآحاد. وإنما يُحكى هذا القول عن الظاهرية عن محمد بن داود والقاساني (2)، ولا أدري ما صحة النقل، فقد يحتمل أن يقول من يرى أنه _________ (1) (2/ 158) بشرح المحلي وحاشية العطار. (2) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43).

(19/64)


يفيد العلم: "لا يجب العمل بما لا يفيد إلا الظن من الآحاد"، فيتوهم سامعه أنه يريد رد أخبار الآحاد مطلقًا، وهو إنما يردُّ أخبار غير الثقات، لأن أخبار الثقات عنده تفيد العلم. فتأمل. هذا، ومحمد بن داود لم يُذكر عنه معرفة بالسنة، فإنه كان مشغولًا بالعشق، وذكر عن نفسه أنه ابتُلِي بالعشق مذ كان في الكُتّاب، ثم لازمه حتى مات عشقًا؛ لأنه كان يستحل النظر ويتعفف (1)، كما قال عنترة (2): أغشىَ الوغَى وأعِفُّ عند المغنمِ فقد لزمه العشق المُضْنِي من المهد إلى اللحد، وكان غاية في الأدب والظرف. وأما القاساني (3) فهو من أصحاب داود، ولا شهرة له، وإنما ذكروا أنه خالف دواد في مسائل نقضها عليه ابن المغلِّس. وحكي عن عبد الرحمن بن كيسان الأصم ــ من قدماء المعتزلة ــ، وعن تلميذه إبراهيم بن إسماعيل بن علية: أنه لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات، ويقبل في سائر الأحكام (4). _________ (1) انظر "تاريخ بغداد" (5/ 259، 262). (2) شطر بيت من معلقته، وصدره: يُخبِرْك من شهد الوقيعةَ أنني (3) هو أبو بكر محمد بن إسحاق القاساني، ترجمته في "طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص 176). (4) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43).

(19/65)


والأصم لم يُذكَر عنه أنه سمع حديثًا أو رواه، فقد كان بعيدًا عن الهدي النبوي، وإنما عمدته على عقله وفكره (1)، وقد علمت في الفصل السابق حال من كان هكذا. وأما إبراهيم فقد كان أبوه من جِلَّة المحدثين، ولكنه هو رغب عن السماع، وتبع الأصم. وله ترجمة في "الميزان" و "لسانه" (2). وحكي عن هشام والنظَّام: أنه لا يقبل إلا بعد قرينة تنضم إليه، وهو علم الضرورة، بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق. قيل: وإليه ذهب أبو الحسين بن اللبان الفرضي (3). أقول: إن أراد قائل هذا بـ "علم الضرورة" علم اليقين الذي لا يقبل التشكيك فهو كما ترى، فإن ما يفيد من أخبار الآحاد العلم بمعونة القرائن ونحوها مما تقدم سببه معروف، فأما أن يقع اليقين بلا سبب فمحال في العادة. وإن أراد أن يطمئن القلب بصدقه فهذا قريب، فإن أئمة الحديث لا يكادون يصححون حديثًا إلا وهو كذلك. ولا تتخلف طمأنينة القلب عن خبر الواحد الثقة إلا لعلةٍ إذا بحث عنها العارف عرفها، وبذلك يعرف أن الخبر معلول. هذا، وهشام والنّظام من بابة الأصم، وأسوأ ذكرًا منه. وثَمَّ أقوال جزئية ستأتي إن شاء الله تعالى. _________ (1) انظر ترجمته في "لسان الميزان" (5/ 121). (2) "الميزان" (1/ 20) و"اللسان" (1/ 243). (3) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43).

(19/66)


[ص 46] شبههم وحلُّها شبهة: ذكروا عن هؤلاء أنهم استدلوا على منع القبول بأمرين: الأول: أن الحكم الشرعي يترتب عليه أمور عظيمة، كإزهاق النفوس، وإحلال الفروج، وغير ذلك. وخبر الواحد يجوز أن يكون كذبًا، فإثبات الحكم الشرعي به يؤدي إلى إزهاق نفوس لا تحصى، وإحلال فروج لا تحصى، بخبر قد يكون كذبًا. والجواب: أنكم تعلمون أن هذه النشأة الدنيا يشتبك فيها الخير بالشر، ألا ترون أن الخلق والتكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب جرَّ إلى كثير من الشر؟ وتعلمون أن المدار إنما هو على الموازنة، فإذا كان شيء يترتب عليه خير وشر بُنِيت الحكمة على الراجح. فإذا كان الخير أكثر وأعظم اقتضت الحكمة وقوعه. ووجوب العمل بأخبار الثقات يترتب عليه من الخير والمصالح ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، من تيسُّرِ نقل الشريعة، والعلم والعمل بها، وما يترتب على ذلك من الثواب وقيام الحجة وتوسيع دائرة الابتلاء وغير ذلك. وكل ذلك داخل في حكمة الخلق والتكليف، وهذا كله متحقق لا ريب فيه. وأما المفسدة التي حصرتم نظركم فيها فمع قلتها وصغرها في جانب ما ذكر من الخير هي محتملة فقط؛ لأن الغالب على أخبار الثقات الصحة، ولاسيّما إذا اعتبر فيها ما يعتبره أهل الحديث من شرائط القبول، ويعتبره الفقهاء في الاجتهاد والترجيح.

(19/67)


وحسبك أنك لا تكاد [تجد] حديثًا صحيحَا قامت الحجة على كذبه، فإن كان فقليل جدًّا، وقد يكون ذاك القليل هو جميع ما اتفق فيه الكذب عمدًا أو خطأ. وهذا كافٍ في حلِّ هذه الشبهة لمن يريد الحق. وفوق ذلك، فقد تكفَّل الله عز وجل بحفظ شريعته، فإن اتفق أن فاجرًا تظاهر بالثقة فاغتر به بعض الناس، فكذب في حديثٍ؛ فإما أن يفضحه الله عز وجل، وإما أن يرشد الناظر إلى ما يرد خبره، فإن تركه ففي بعض الأحوال والوقائع لحكمة يعلمها سبحانه، ثم يبين حاله في غير ذلك. فإن قيل: قد يأخذ به آخذٌ، فيخطئ فيتبعه طائفة إلى يوم القيامة. قلت: يبينه الله تعالى لغيره، ويكون على من تمكَّن من النظر من أتباعه أن ينظر، أو يسمع كلام من خالف متبوعه، أو يسأل، فيبين الله تعالى له. فإن أصرَّ الأتباع على رأي متبوعهم ولم يلتفتوا إلى غيره، فذاك ضلالٌ ارتضوه لأنفسهم، والدين بريء منه. ومثل هذا يقع كثيرًا في النظر العقلي، وفي فهم القرآن، كما لا يخفى. وذلك غير خارج عن الحكمة، قال الله عز وجل: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. ومنكرو أخبار الآحاد يعترفون بالدلائل الظنية من القرآن، ومنهم من يعترف بالرأي والقياس، ويحتمل فيها مثل ما قالوا؛ بأن يذهب ذاهب إلى فهمٍ ظهَر له من القرآن، أو رأيٍ خطرَ له، ثم تتبعه طائفة أو طوائف.

(19/68)


[ص 47] شبهة أخرى: قد يقال: إن خبر الثقة يمكن أن يكون باطلًا؛ إما لتعمده الكذب، وإما لغلطه. والغالب أن في الأخبار التي ظاهرها استجماع شرائط القبول ــ عند من يراه ــ عدة أخبار من هذا القبيل، أي باطلة. فلو جاز أن يتعبد الله عز وجل عباده بالعمل بالأخبار وفيها الباطل، للزم من ذلك أن يكون تعبدَهم بالباطل، وهو محال. والجواب كما تقدم عن الشبهة الأولى، وقد تعبَّد الله الخلقَ بما فهموه من القرآن وقد يخطئون، وتعبَّد العامةَ بما يفتيهم العلماء وقد يفتونهم بالباطل، وتعبَّد الناسَ أن يبنوا في أمر صلاتهم وصيامهم على سماع الأذان، وقد يخطئ المؤذن، وتعبَّد القضاةَ بالحكم بما شهد به الشهود بشرطه، وقد يكذب الشهود أو يغلطون، وتعبَّد المرأةَ بأن تُمكِّن من عهدته زوجَها أو سيدها، وقد يحتمل أن يكون محرمًا لها في نفس الأمر أو يكون قد طلقها أو أعتقها ولا تعلم، وتعبَّد المسلمَ بأن يقتل من يراه في صف الكفار وعهده منهم أو لم يعرفه، وقد يكون مؤمنًا. وأمثال هذا كثيرة. وفي الجواب عن الشبهة الأولى ما يفسر جميع ذلك، ولله الحمد. شبهة ثالثة: قد يقال: قد ثبت امتناع تكليف الغافل، وإنما ذلك لأنه لا بد لاستحقاق العبد العقابَ من قيام الحجة عليه. وخبر الواحد لا يتم به قيام الحجة؛ لأن للعبد أن يقول: يا رب، لم يبلغني هذا من وجه قاطع، وإنما بلغني من وجه

(19/69)


يجوز فيه الكذب والخطأ. والجواب: لله الحجة البالغة، فسنثبت ــ إن شاء الله تعالى ــ أن وجوب العمل بخبر الثقة بشرطه ثابت بالدلائل القطعية، إذا ثبت ذلك فقد صار عمل المكلف بما يبلغه من ذلك واجبًا عليه قطعًا، ولا ينفعه كونه يجوز في نقل ذلك الخبر الكذب والخطأ؛ فإن الله تعالى يقول له: قد علمتَ قطعًا أنه يجب عليك العمل بمثله، وكفى. ومع ذلك، فيقال لمن حاول الاعتذار بما ذكر: أرأيت لو أخبرك من تثق به بأن في هذا الجُحر حية، أتُدخِل يدك فيه وأنت تحب الحياة؟ أرأيت لو أخبرك من تثق به بأن في القارورة التي لا يُدرى ما فيها سمٌّ قاتل، أكنت شاربه وأنت تريد الحياة؟ أرأيت لو جاءك رجل تثق به، فقال لك: أنا رسول الأمير إليك، يأمرك أن تحضر في وقت كذا، فإن حضرت أنعم عليك، وإن لم تحضر عاقبك، أتتكاسل عن الحضور وأنت تعلم قدرة الأمير على نفعك وضرك؟ أرأيت؟ أرأيت؟ ثم يقال له: فلو كنتَ تؤمن بالله وترجو رحمته وتخاف عقابه لعملت بخبر الثقة عن رسوله. فإن كنت مؤمنًا ولكن غلب عليك الهوى فخالفتَ، فأنت تعلم أنك معرِّضٌ نفسَك للعقاب، وأنك إذا عُوقبتَ فعلى نفسك اللوم!

(19/70)


[ص 48] شبه ذكرها الآمدي (1): 1 - لو جاز قبول خبر الواحد عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بدون قرينة تبلغه القطع لجاز قبول دعوى مدعي النبوة بغير معجزة. وأجاب بأن مدعي النبوة بغير معجزة لا يغلب أن يكون صادقًا، بل الغالب أن يكون كاذبًا. وبأننا إنما نوجب العمل بخبر الواحد لقيام الحجة القطعية على وجوب العمل به، ولا حجة على وجوب تصديق مدعي النبوة بدون معجزة. ثم ذكر اعتراضًا على هذا، وهو أنه لو فُرض أن نبيًّا معلوم النبوة قال للناس: إذا ادعى إنسان النبوة وظننتم صدقه فاتبعوه = لكان هذا حجة قطعية على وجوب اتباع من يدعي النبوة ويُظن صدقُه، ومع ذلك لا يجوز الاتباع. وأجاب بمنع عدم الجواز. يعني: يجب الاتباع حينئذٍ حتمًا، وهو ظاهر. ثم ذكر أن الفرق بين الأمرين أن المفسدة اللازمة على دعوى النبوة أعظم. أقول: هذا الفرق يبين أنه يمتنع أن يقول نبي معلوم النبوة: كل من ادعى النبوة وظننتم صدقه فاتبعوه. لا أنه على فرض وقوع ذلك لا يجب الاتباع. ثم أقول: أما بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم عليهم أجمعين فقد عُلِم سدُّ الباب قطعًا، فمدَّعيها ممن لم يُعلم أنه كان نبيًّا من قبلُ كاذب قطعًا. _________ (1) "الإحكام" (2/ 70 وما بعدها).

(19/71)


ونحن إنما نقبل خبر من عرفناه ثقة بشرط أن لا يتبين كذبه أو غلطه، كما يأتي إن شاء الله. بل بادعاء من ذكر يتبين أنه كافر أو مجنون، فتزول ثقته إن كان قبل ذلك ثقة. وأما إذ كان باب النبوة مفتوحًا فإنه كان إذا ادعى رجل أنه يوحى إليه فقط، أعني: أنه لم يُخبر عن حكم لا يُعلم إلا مِن قِبَله = كان على الناس إذا عرفوا منه قبل ذلك الصدق والأمانة والخير والصلاح، واستمر يتزايد في ذلك؛ أن يظنوا صدقه. ولا حرج في ذلك؛ إذ لا ينبني عليه حكم إلا زيادة الاحترام له، ولا ضير فيه. وإن ادعى الرسالة وأخبر بأمور من الدين على أنه بُعِث بها = فعلى الذين بلغهم خبره ودعواه أنه مبعوث إليهم أن يبحثوا عن حاله، ويسائلوه، مع العزم على اتباعه إن كان صادقًا. فإذا فعلوا ذلك فلا بد أن يهديهم الله عز وجل للحق؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وتفصيل ذلك: أنه إن كان في نفس الأمر كاذبًا فلا بد أن يبين الله عز وجل كذبه، وذلك بأن يخبر بما عُلِم قطعًا أنه محال، أو يخبر عن أشياء أنها كانت ويتبين قطعًا أنها لم تكن، أو نحو ذلك. وإن كان صادقًا فلا بد أن يبين الله عز وجل لهم صدقه. نعم، من جملة الجهاد في الله عز وجل أن يتبعوا ذاك الرجل إذا كان ما يدعو إليه خيرًا مما هم عليه في فِطَر الناس وعقولهم وفيما عُلِم من الشرائع الأولى.

(19/72)


قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. فهؤلاء كانوا قد أسلموا طائعين، وبذلك تبين أنه ليس عندهم عناد ولا استكبار، وهذا هو الذي يمنع من الإيمان بعد الاطلاع على المعجزة القاطعة، فبان أن عدم دخول الإيمان في قلوبهم إنما هو [لأنه] لم يتفق لهم بعدُ ما يقطع الريبة، كالمعجزة القاطعة. ومع ذلك لم يذمهم الله عز وجل على الإسلام قبل التيقن، بل وعدهم بأن يدخل الإيمان في قلوبهم، كما تقتضيه كلمة "لمّا"، ووعدهم أنهم إذا أطاعوا أثابهم، وأوعد ــ في غير هذه الآية ــ غيرهم ممن لم يؤمن بعد بلوغ الدعوة بالعذاب. فثبت بذلك أن تصديق مدَّعي الرسالة واتباعَه لا يتوقف وجوبه على المعجزة القاطعة، بل قد يجب بدونها إذا كان معروفًا من المدعي الصدقُ والأمانة والخير والصلاح، ودعا إلى ما يتبين للعقول أنه حق، أو يترجح أنه حق، ولم يظهر من أقواله وأفعاله وأحواله ما ينافي النبوة. وأما قول الآمدي (1): "إنه لا حجة على وجوب تصديق مدعي النبوة بغير معجزة"= فليس بمستقيم. بل الحجة قائمة، وهي ما يعلمه الناس بفطرهم وعقولهم، وبما بلغهم من الشرائع المتقدمة، أن على الإنسان اتباع ما يترجح أنه حق واجتناب ما يترجح أنه معصية. _________ (1) "الإحكام" (2/ 73).

(19/73)


وسيأتي إن شاء الله تعالى تقرير ذلك، ويأتي إن شاء الله الجواب عما جاءت به الشريعة من إبطال بعض ما يقال: إنه يفيد الظن، كخبر بعض الكفار وبعض الفساق وبعض الصبيان، ونحو ذلك. [ص 49] 2 - لو جاز في الفروع لجاز في الأصول. وأجاب (1) بأن المطلوب في الأصول القطع، وخبر الواحد لا يفيده. يعني: أن الخبر المعين لا يفيد ثبوت مدلوله قطعًا. وأما الفروع فيكفي فيها الظن. يعني: كالدلالات الظنية من القرآن، وكفتوى المجتهد، وغير ذلك. وأقول: إن أريد بالأصول العقائد فإننا نلتزم جوازَ ــ بل وجوبَ ــ قبول الأحاديث الصحيحة فيها. فإن العقائد على أضرب: الضرب الأول: ما لا يكون الإنسان مؤمنًا إلا باعتقاده. فما كان في هذا من الأحاديث الصحيحة فهو بالانضمام إلى غيره من الأدلة مفيد للقطع. وإن فُرِض أنه بلغ إنسانًا لم يبلغه غيره من الأدلة في معناه، فإنه يلزمه قبوله، ويحصل له به الظن، وهو خيرٌ من الجهل، وقد يكفيه ذلك إذا كان معذورًا، كحديث العهد بالإسلام، على ما تقدم في الجواب عن الشبهة السابقة. الضرب الثاني: ما لا يتوقف عليه الإيمان، ولكن الشارع حثَّ على اعتقاده. وفائدة الحديث في هذا أظهر. _________ (1) أي الآمدي في "الإحكام" (2/ 74).

(19/74)


الثالث: ما لم ينصّ على الحثّ على اعتقاده. والأمر فيه واضح. فإن قلت: إنما تمشَّى لك هذا لأنك بنيتَ على أن الحديث الصحيح إذا ورد بعقيدة فإنما يرِدُ بما هو حق في نفس الأمر، وليس هذا بلازم؛ لجواز أن يرِدَ بما هو باطل، ضرورةَ جوازِ الخطأ والغلط على الرواة، بل والكذب أيضًا. فالجواب: أن ما ذكرته يجري في هذا أيضًا، وذلك أنه إن ورد حديث بعقيدة باطلة ــ على أنها من الضرب الأول ــ فهذا لا يكون صحيحَا؛ لأنه على فرض أن رواته ثقات يكون شاذًّا منكرًا، لوجهين: الأول: أن الضرب الأول لِعِظَم شأنه اعتنى به الشارع، وأشاعه وأذاعه، واعتنى به أصحابه ثم أتباعهم، وهلمَّ جرًّا، فلو كان هذا منه لنُقِل إلينا بالتواتر. الوجه الثاني: أن الله عز وجل جعل محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، ولذلك تكفّل بحفظها إلى يوم القيامة، ولا يتم الحفظ إلا بأن يكون على وجه تقوم به الحجة، ويحصل به المطلوب. والمطلوب في الضرب الأول هو استيقانه، وذلك لا يحصل بمجرد خبر الواحد. فإذا لم نجد في الشريعة إلا خبرًا واحدًا، ومدلوله أصل اعتقادي، على أنه من الضرب الأول، علمنا بطلانه. لا يقال: فلعله يقع إلى حديث العهد بالإسلام.

(19/75)


فإننا نقول: إنه إذا وقع إليه لا يعلم وثاقة رجاله، وعلى فرض أنه علم فإنه إن كان ذا عقل يتوقف عنه حتى يعرف حاله؛ لاحتمال أنه لا يوجد في الشريعة في معناه غيره، فيكون باطلًا للوجهين السابقين. وإن ورد بعقيدة باطلة لا على أنها من الضرب الأول، فإن دل العقل الصريح أو النقل الذي هو أعلى من ذلك الخبر على بطلانها فذلك الخبر ليس بصحيح، وإلا ــ إن جاز هذا ــ فإن من بلغه وعرف صحته الظاهرة يظن مدلوله بطبيعة حاله، فإذا ألزمناه أن يظن فإنما ألزمنا بأمر لا محيصَ له منه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. لكنني أقول: إن هذا إن اتفق لشخص أو جماعة لا يستمر، ضرورةَ أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ شريعته. وكما أن مِن الحفظ أن لا يذهب منها شيء حتى لا يوجد فيها البتة، فكذلك منه أن لا يلتبس بها شيء حتى لا يوجد البتة دليل على أنه ليس منها. قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (1). والذكر يعمُّ السنةَ، إن لم يكن بلفظه فبمعناه، لأن المقصود بقاء الحجة والهداية في الأرض، كما مر. هذا، وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم، ثم عن التابعين وأتباعهم أنهم كانوا يروون الأحاديث في العقائد، ويسمعونها، وينقلونها، وينكرون على من أنكرها لمجرد هوًى أو تخرُّصٍ أو جهلٍ، والله المستعان. _________ (1) انظر "الكفاية" (ص 77).

(19/76)


[ص 50] وإن أريد بالأصول: أصول الفقه، فإننا نلتزم وجوب قبول الأحاديث الصحيحة فيها أيضًا. ثم إن كان الأصل من الأصول العظمى التي تكثر فروعها في الشريعة جدًّا، فالكلام في هذه كالكلام في الضرب الأول من العقائد، فإذا انفرد حديث بأصلٍ ــ على أنه من ذلك ــ فهذا لا يكون صحيحَا؛ لما تقدم. وإن كان في الأصول التي تقلُّ فروعها فنقول: إن قامت الحجة فيها على أنها لا تثبت إلا بحجة قاطعة فكالأصول العظمى، وإلا فكالفروع، فتقبل فيها الدلائل الظنية، ومنها الحديث الصحيح. والله أعلم. 3 - لو جاز لجاز في نقل القرآن. وأجاب (1) بأن القرآن معجزة الرسول، فالمطلوب منه إقامة الحجة القاطعة على رسالته. أقول: بل نلتزم وجوب قبول الحديث الصحيح في هذا أيضًا. وقد كان في أول الإسلام يثبت القرآن بخبر الواحد، فقد كان الرجل يسلم ويتعلم سورًا من القرآن، ثم يذهب إلى قبيلته فيدعوهم، ويعلِّم من يُسلِم منهم (2) تلك السور، ويتلونها، ويصلّون بها، ويعملون بها. ولو ذهب الآن رجل مسلم إلى جزيرة منقطعة فدعا أهلها إلى الإسلام، فأسلموا، وعلَّمهم سورًا من القرآن، فتلَوها، وصلَّوا بها، وعملوا بها= لكانوا محسنين. فإن فُرِض أنه أدخل في القرآن ما ليس منه، وكانوا قد اختبروه _________ (1) أي الآمدي في "الإحكام" (2/ 74). (2) في الأصل: "منه".

(19/77)


فظنوه ثقةً، فلا إثم عليهم، إلا أن تقوم عليهم الحجة، أو يتحقق تقصيرهم. وأما قول أهل العلم: لا يثبت القرآن بخبر الواحد؛ فالمعنى في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا القرآن، واتفقوا على أنه لم يبق منه آية محكمة إلا وهي فيما جمعوه، ثم تواتر ذلك المجموع إلينا، فثبت بذلك أن ما لم يكن في ذلك المجموع فليس من القرآن المحكم. بل إما أن لا يكون كان منه البتة، وإما إن يكون كان منه فنُسِخ. فما ثبت بالأحاديث الصحيحة على أنه من القرآن، ولم يكن فيما جمعه الصحابة رضي الله عنهم، فالظاهر أنه كان منه فنسخ. ويجب قبول تلك الأحاديث على هذا المعنى. ثم إن وجدنا في الكتاب أو السنة ما هو صريح في خلاف معنى ذلك الكلام الذي نقول بأنه كان من القرآن فنُسِخ، تبين لنا أنه نُسِخ معناه كما نُسِخت تلاوته. وإن وجدنا فيهما ما يوافق معناه تبين لنا أن الحكم باقٍ. وإن لم نجد لا ذا ولا ذاك، وقلنا بأن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ممكن شرعًا= كان حجة، كما لو نُقِل على أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقد احتج أهل العلم بأشياء من ذلك كما هو معروف. والحاصل أن عدم ثبوت أنه قرآن محكم إنما هو لقيام الحجة على أنه ليس منه، ولو اتفق مثل هذا في الأحكام الفرعية بأن يصح حديث في شيء بأنه من أركان الصلاة، وتكون عندنا حجة أقوى منه على أنه ليس منها؛ فإننا نقضي بأنه ليس منها.

(19/78)


ولا يلزم من سقوط حجية الدليل إذا عارضه ما هو أقوى منه أن تسقط حجيته البتة. وهذا بغاية الوضوح، ولله الحمد. 4 - قد يتعارض خبران، فيلزم من القول بوجوب الأخذ به أن يجب الأخذ بالمتضادَّينِ. وهو محال. وأجاب (1) بأنه إن أمكن الترجيح فالحجة في الراجح ويسقط المرجوح، وإلا فإن قلنا بالتخيير فهو من قبيل الواجب المخير مع امتناع الجمع، وإلا فغايته امتناع التعبد بمثل هذا لتعذر العمل، ولا يلزم من ذلك امتناعه عند الإمكان. أقول: قد يقع التعارض بين آيتين، وبين دليلين عقليين، فهل يقول مُورِد هذه الشبهة إنه لا يجوز الاحتجاج بالقرآن ولا بالمعقول أيضًا؟ فإن قال: أما الآيتان فناسخة ومنسوخة، وأما الدليلان [ص 51] العقليان ففي أحدهما خلل. قلت: فكذلك نقول في الحديثين إذا تعارضا: إنهما إما ناسخ ومنسوخ، وإما في أحدهما خلل. والكلام فيما ينبغي اعتماده في أشباه ذلك مبسوط في موضعه. 5 - الأصل براءة الذمة عن الحقوق والعبادات وتحمُّل المشاقّ، وهو مقطوع به، فلا يجوز مخالفته بخبر الواحد مع كونه مظنونًا. وأجاب (2) بأنه لم يبق القطع بعد الوجود والتكليف في نفس الأمر، _________ (1) الآمدي في "الإحكام" (2/ 74) .. (2) المصدر السابق (2/ 99).

(19/79)


قال: ثم هو منتقض بالفتوى والشهادة. أقول: قولكم "مقطوع به"، أتريدون مقطوع بأنه قد كان، أم بأنه مستمر؟ لا سبيل إلى الثاني، كما لا يخفى، وأما الأول فلا يلزم من كون زيد كان حيًّا العامَ الماضي قطعًا أن يكون حيًّا اليوم. إذن، فحياته اليوم محتملة فقط، وأما الحكم باستصحاب الأصل فإنما هو لمعانٍ: منها: أنه قد يساعده الظاهر، كما لو كان حيًّا صحيحًا بالأمس، فإن الظاهر أنه حيٌّ اليومَ؛ لأنّ موت الفجأة قليل. ومنها: أن يكون الأصل عدمًا، وإقامة الحجة على بقاء العدم مما يصعب، وذلك كما لو عهدناها زوجته فإنه من الصعب إقامة الحجة على أنه لم يطلق. إلى غير ذلك. وكذلك هنا، فإن الأشياء لا تحصى، والأفعال لا نهاية لها، فلم يعتن الشارع بتعداد المباحات لأنها لا تحصى، ولا بتعداد ما ليس بعبادة من الأفعال لأنها لا نهاية لها. بل اعتنى بالدلالة على المحرمات والمكروهات من الأشياء والأفعال، وعلى الواجبات والمندوبات من الأفعال، فكان إثبات النص في كل شيء أن الشارع لم يحرمه ولم يكرهه، وفي كل فعل أنه لم يحرمه ولم يكرهه، ولم يوجبه ولم يندبه = متعذرًا. فإذا لم نجد في الشرع دليلًا على تحريم شيء أو فعل ولا كراهته، كان الظاهر أنه مما ترك، وإنما ترك الشارع المباحات. وكذلك إذا لم نجد دليلًا على وجوب الفعل ولا ندبه، كان الظاهر أنه مما ترك، وإنما ترك الشارع ما ليس بعبادة.

(19/80)


وهذا الظاهر لا يبقى بعد قيام الدليل الظني المعتبر. 6 - قبوله تقليدٌ، فلا يجوز للمجتهد. وأجاب (1) بما حاصله أننا إنما منعنا تقليد مجتهد لآخر لاستوائهما، ولا مساواة هنا فإن الراوي استبدَّ بمعرفة الحديث. أقول: هذا يحتاج إلى إيضاح، وهو أن زيدًا المجتهد إن أراد أن يقلد بكرًا المجتهد، فإن كان معه في المجلس ــ مثلًا ــ فلا معنى للتقليد، بل عليه أن يبحث معه، فإن نبَّهه على دليل لم يكن عرفه، أو كان غافلًا عنه، أخذ بذلك الدليل اجتهادًا لا تقليدًا. وإن لم يذكر له دليلًا، أو ذكر دليلًا لا يراه زيد كافيًا، فلا وجه للتقليد؛ لأنه إذا لم يذكر دليلًا بعد السؤال فالظاهر أنه لا دليل له. وإن ذكر دليلًا لا يراه زيدٌ كافيًا فكيف يقلد من يعلم أنه إنما استند إلى ما لا يكفي؟ وإن كان بكرٌ بعيدًا عن زيد بحيث لا يتيسر له البحث معه، أو كان قد هلك، فبعد أن بحث زيدٌ ونظر، ولم يجد دليلًا صحيحًا موافقًا لقول بكرٍ، فقد حصل له ظن أنه لم يكن لبكرٍ دليل صحيح على ما ذهب إليه، فكيف يقلده مع هذا؟! ثم أقول: نعم، إذا تحير زيدٌ بعد البحث والتفتيش، فلم يجد دليلًا على ما يوافق بكرًا ولا على ما يخالفه، فقد قيل بأنه إذا غلب على ظنه أن بكرًا وقف على دليلٍ لم يقف عليه هو= أن يقلده. وهذا قوي. _________ (1) أي الآمدي في "الإحكام" (2/ 99، 100).

(19/81)


[ص 52] أقول: فأما قبول الخبر من الراوي فليس من التقليد الاصطلاحي في شيء، فإنه قبول قول من تقلّده بلا حجة. والتابعي ــ مثلًا ــ إنما قَبِلَ رواية الصحابي بحجة، وهي إخباره ــ مع ثقته ــ بأنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقس على ذلك. ولو كان هذا تقليدًا لكان حكم القاضي بشهادة الشهود تقليدًا لهم، وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقضي بشهادة الشهود، وأخبر بأنه إنما يقضي على حسب ما يسمع، أي أنه لا يتوقف قضاؤه على علمه بما في نفس الأمر. فدل ذلك أنه يقضي بشهادة من ظاهرهم العدالة، ولا يتوقف قضاؤه على أن يعلم أن ما شهدوا به حق في نفس الأمر. فلو كان هذا تقليدًا لكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مقلدًا. وليس الرواية إلا ضربًا من الشهادة، فإن الراوي يشهد على من فوقه أنه قال كيت وكيت مثلًا. وقد قبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خبر تميم الداري، وحكاه عنه (1). فإن قيل: نعم، ليس هو من التقليد الاصطلاحي، ولكن يصح أن يسمى تقليدًا. قلت: لا حرج، ولكن ليس داخلًا في قولهم: المجتهد لا يقلد مجتهدًا، ولا هو في معنى ذلك، وإنما هو قريب من قبول القاضي شهادة العدل. [ص 53] الشبهة النقليَّة: خبر الواحد لا يفيد العلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا _________ (1) كما في "صحيح مسلم" (2942).

(19/82)


ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وإنما يفيد الظن، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] في آيات أخرى. أقول: أما الآية الأولى فينبغي النظر في معناها، وذلك من أربع جهات: الأولى: العربية. فأقول: ذكر أهل اللغة أن القفا اسم لمؤخر العنق، وأخذ منه الفعل، قالوا: قفا زيدٌ بكرًا، إذا ضرب قفاه، كما قالوا: دَمَغه وأَمَّه، أي: أصاب دماغَه وأُمَّ رأسه. وأمثال ذلك. قالوا: وقفاه: تبعه. أقول: ووجهه أن التابع ينحو قفا المتبوع، وقضية هذا أن يكون أصل ذلك في الاتباع عن قرب، بحيث يرى التابع قفا المتبوع. وقالوا: وقفاه: رماه بسوء، كالقذف بالزنا ونحوه. أقول: زعم أبو عبيد أنه مأخوذ من القفو بمعنى الاتباع، ففي "لسان العرب" (1): "قفا فلان فلانًا، قال أبو عبيد: معناه: أتبعه كلامًا قبيحًا". أقول: والوجه أنه (2) من قفاه بمعنى: ضرب قفاه؛ لوضوح المناسبة، فإن في كل من ضرب القفا والرمي بالقبيح إيذاءً وإهانة وإلحاقَ عارٍ بالمضروب أو المرميّ. وقد قالوا في الرمي بالسوء: رماه وقذفه وطعن فيه _________ (1) (20/ 55) مادة "قفو". (2) في الأصل: "أن".

(19/83)


وجرحه، إلى غير ذلك. قالوا: "وقفا أثره: إذا تبعه". أقول: وذلك أن من يريد أن يدرك رجلًا ولا يدري أين يذهب، ينظر أثر رجله في الأرض، فإذا وجده اقتصَّه وسار عليه. ثم تُجُوِّز به عن الاقتداء بالأثر المعنوي (1)، فيقال: فلان يقفو أثر فلان، إذا كان يقتدي به في سيرته وأفعاله وأخلاقه. ويقال: قفا الأثر وقافه: إذا تتبعه يتأمل فيه، ليعرف من صاحبه، كما ينظر في أثر السارق والخارب ونحوهما ليعرف من هو. هذا خلاصة ما يتعلق بهذه الكلمة من اللغة مما يحتاج إليه هنا. فالذي يحتمل في قوله تعالى: {تَقْفُ} مما ذُكِر ثلاثة معان: الأول: الرَّمي بالسوء. الثاني: اتباع آثار من مضى. أي: الاقتداء بأقوالهم وأفعالهم في الدين. الثالث: اقتفاء آثار الناس. أي: أحوالهم في مجالسهم ومداخلهم ومخارجهم ومسالكهم؛ للاطلاع على أسرارهم. فأما المعنى الأول فيقويه شيوعه في اللغة، كما يعلم من كتبها، حتى جعله ابن جرير أصلًا. قال (2): "وأصل القفو: العَضْه والبَهْت، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أُمّنا، ولا ننتفي من أبينا" (3). _________ (1) في الأصل: "بالآثار المعنوي". (2) في "تفسيره" (14/ 595). (3) أخرجه أحمد في "مسنده" (21839، 21845) وابن ماجه (2612) وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس، وإسناده حسن.

(19/84)


وسبقه إلى نحوه أبو عبيد، ففي "لسان العرب" (1) عنه: "الأصل في القفو والتقافي: البهتان يرمي به الرجل صاحبه". وفي "النهاية" (2) لابن الأثير: "حديث القاسم بن مُخَيمِرة: لا حدّ إلا في القفو البين. أي: القذف الظاهر. وحديث حسان بن عطية: من قفا رجلًا بما ليس فيه وَقَفَه الله في رَدْغَة الخَبال". وأنشدوا للكميت (3): ولا أرمي البريءَ بغير ذنبٍ ... ولا أقفو الحواصنَ إن رُمِينا والرامي بالسوء قد يُسنده إلى سمعه أو بصره أو قلبه. يقول: سمعت فلانًا يقول كذا، ويذكر كلامًا قبيحًا، أو سمعت الناس يرمونه بكذا، أو رأيته يفعل كذا، أو أنا أعلم أو أظن أنه كذا. فتعليل النهي بقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] مناسب لهذا المعنى، ولكن يخدش فيه أنه لو كان المرادَ لكان الظاهر أن يقال: "ولا تقفُ أحدًا بما ليس لك به علم". فإن قيل: إن "أحدًا" مفعول، وهو عام، وحذفه حسن، بل هو الأولى في مثل هذا. قلت: نعم، ولكن بقيت الباء، إذ كان الظاهر أن يقال: ولا تقف بما ليس _________ (1) (20/ 55). (2) (4/ 95). قوله: "القاسم بن مخيمرة" كذا فيه نقلًا عن نسخة من "المجموع المغيث" لأبي موسى المديني. والصواب: "القاسم بن محمد" كما في "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 407) والنسخة المطبوعة من "المجموع المغيث" (2/ 740). (3) البيت من نونيته المشهورة في ذيل "الديوان" (ص 466).

(19/85)


لك به علم. وأما المعنى الثاني: فيقويه سلامته من الخدش المذكور، فإنه إذا كان المراد كانت كلمة "ما" مرادًا بها الآثار. فكأنه قيل: ولا تتبع الآثار التي ليس لك بها علم، أي: بأنها حق. لكن يُعكِّر عليه أنه لا يظهر معه تعليل النهي بقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ... }. وأما المعنى الثالث: فهو سالم من ذاك الخدش وهذا التعكير. فإن كلمة "ما" يكون المراد بها: الآثار التي لا يعلم القافي غرضَ صاحبها منها وسرَّه فيها، فيقفوها يتسمع ويسترق البصر ويتظنّى، وذلك كأن ترى زيدًا ذاهبًا فتنظر أين ذهب، فتراه سلك دربًا، ثم دخل دارًا، ثم جلس فيها إلى إنسانٍ، فمخرجه ومسلكه ومدخله ومجلسه من جملة آثاره، فإذا لم تعلم غرضَه منها وسرَّه فيها، فتتبَّعتَها تبحث وتتسمع وتسترق البصر [ص 54] وتتظنّى = فقد قفوت آثاره التي ليس لك بها علم. وذاك هو التجسس. ويقويه أنه قد قرئ في الشّواذّ: (ولا تَقُفْ) بضم القاف وسكون الفاء، من القوف. وأنشد في "لسان العرب" (1): أعوذ بالله الجليل الأعظمِ ... من قَوفِيَ الشيءَ الذي لم أعلم ولكن الذوق لا يطمئن إلى أن يكون المراد بقوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: مداخل الناس، ومخارجهم، ومسالكهم، ومجالسهم. _________ (1) (11/ 202) مادة "قوف". وانظر "تهذيب اللغة" (9/ 326).

(19/86)


الجهة الثانية: سياق الآيات. قال الله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ ... (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ... (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ... وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ... (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ... (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ... } [الإسراء: 31 - 37]. فالسياق في النهي عن مظالم تقع بين الناس، كما ترى، وذلك يقتضي أن يكون قفو ما ليس به علم من هذا القبيل. وهذا إنما يصلح له المعنى الأول والثالث. الجهة الثالثة: مراعاة نظير الآيات في القرآن. قال الله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ ... وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ ... وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ... (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ... وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 151 - 152]. والذي يقابل قوله تعالى في "الإسراء": {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} هو قوله في "الأنعام": {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}. فينبغي تقاربهما في المعنى إن لم يمكن اتفاقهما. وهذا إنما يصلح في المعنى الأول للقفو، فإنه رمي الناس بالسوء بغير علم، وهو قول بغير عدل. ثم نقول: قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} عام في كل قول في معاملات الناس؛ لأن قوله {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} لا يوجب تخصيصه

(19/87)


بالحكم والشهادة ونحوهما؛ لأن في الكلام حذفًا حسَّنه ظهور المقصود. وذلك أنه من المعلوم أن الجور في القول محظور مطلقًا، فذِكْر ما يقتضي تخصيص ذلك بالحكم والشهادة لا يمكن أن يكون للدلالة على الإذن فيما عداهما، وإنما هو تنبيه على عظم الشأن فيهما. وكأن التقدير: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان في حكم أو شهادة [بحيث] يكون أحد الخصمين ذا قربى. وعليه، فالآيتان متفقتان؛ لأن من جملة قفو الإنسان أن تحكم عليه أو تشهد؛ لأن من لازمِ ذلك غالبًا أن تنسبه إلى الظلم أو الخيانة أو الكذب أو المخاصمة بالباطل، وكل ذلك من القبائح. وإن أبيتَ إلا اختصاص آية "الأنعام" بالحكم والشهادة ونحوهما، فلا حرج، وتكون آية الإسراء أعمَّ منها، وكلتاهما فيما يتعلق بالمظالم التي تقع بين الناس. وهذا كافٍ في ترجيح المعنى الأول. الجهة الرابعة: تفسير السلف. أخرج ابن جرير (1) عن ابن عباس أنه فسر {وَلَا تَقْفُ} بقوله: "لا تقل". وعنه أنه فسره بقوله: "لا ترْمِ أحدًا بما ليس لك به علم". وعن مجاهد أنه فسره بقوله: "لا ترم". وعن قتادة قال: "لا تقل: رأيتُ ولم تر، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ _________ (1) في "تفسيره" (14/ 593 وما بعدها).

(19/88)


ولم تعلم". وعن ابن الحنفية قال: "هي شهادة الزور". أقول: أما تفسير ابن عباس ومجاهد فصريح في المعنى الأول، وأما قول قتادة فظاهر فيه؛ لأنه لا يوافق المعنى الثاني والثالث، فحمله على الأول مع ظهور احتماله له أولى من حمله على معنى آخر. وقد قدمنا أن الرامي لغيره بالسوء قد يسنده إلى سمعه، أو إلى بصره، أو إلى قلبه. وأما قول ابن الحنفية فكأنه أخذه من آيات "الأنعام"، وهذا يدلك على اعتناء السلف بالنظر في النظائر من القرآن، وحَمْل ما قد يخفى منها على ما يظهر في نظيره، ويدل على أهمية ذلك. ثم أقول: يمكن أنه إنما نص على شهادة الزور لعظم شأنها، لا لأنه يراها كل المعنى. ومثل هذا معروف عن السلف من تفسير الآية ببعض معناها. يريدون أن هذا مما تدلّ عليه. وأولى من هذا أن يقال: إنه أراد بالشهادة مطلق الإخبار بما يسوء الناس. كأن تقول: رأيت زيدًا يشرب المسكر، أو سمعته [55] يقول كذا، أو نحو ذلك؛ فإن هذا في معنى الشهادة في نسبة ذلك إلى زيدٍ، وإن لم يكن عند حاكم. وبهذا تتفق أقوال السلف. فقد اتفقت الجهات الثلاث الأخيرة على تعيين المعنى الأول، ولم يبق دون الجزم به إلا تلك الخدشة. وهي أنه لو كان المراد لكان الظاهر أن يقال: "ولا تقفُ أحدًا بما ليس لك به علم".

(19/89)


فأقول مستعينًا بالله عز وجل: قد أشار إلى الجواب عن هذا حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فإنه قال: "لا ترْمِ أحدًا ... ". فبيَّن أن التقدير: "لا تقفُ أحدًا". ولكن "أحدًا" حُذِف، وحَذْف المفعول إذا كان عامًّا شائع ذائع في القرآن وغيره. وأشار بقوله مرةً: "لا تقل" إلى أن {تَقْفُ} ضُمِّن معنى "تقل"، وإذا ضُمِّن الفعل معنى فعل آخر كانت التعدية وعدمها تابعة لذلك الفعل الآخر. وقد ذكر ابن هشام قاعدة التضمين في أواخر "المغني" (1)، وذكر من أمثلتها قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]، وزعم أن {تَعْزِمُوا} ضُمِّن معنى تنووا، وإلا لعُدِّي بـ "على". أقول: والأولى أن يُضمَّن معنى تعقدوا. وبذلك يُستغنى عما قيل: إن التقدير "ولا تعزموا على عقدِ عقدة النكاح" فحذف الجار والمضاف. وذكروا أن التضمين يقدر بأن يصاغ من الفعل المطوي حالًا، وعليه فالتقدير هنا: "ولا تقفُ قائلًا ما ليس لك به علم". وقد قال الله عز وجل في قصة الإفك: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15]. فصل إذا لم تطمئن نفسك بأن معنى الآية إنما هو النهي عن عَضْه الناس وبَهْتهم، وترجح عندك معنى آخر يصلح لأن يستدل به المنكرون، فدونك أجوبة عن ذلك: _________ (1) (ص 762 - 764).

(19/90)


الأول: أن كلمة {عِلْمٌ} في الآية الأولى، و {تَعْلَمُونَ} في الثانية، يحتمل أن يكون مرادًا به ما يعم اليقين والظن الغالب، نحو دليل من شأنه ذلك، والقرينة على ذلك معرفة المخاطبين أن عامة مصالح الدنيا ــ ومنها ما يتعلق بالدين ــ إنما تقوم على اعتماد الظن الغالب، وأن الله عز وجل لم يبعث رسوله ليُحرِج العباد ويُضيِّق عليهم، بل قد عرفوا قبل نزول الآية التوسعة في ذلك، وفي أمور الدين أيضًا، كإيجاب اتباع الدلائل الظنية من الكتاب ومن كلام الرسول. كيف ولولا ذلك لكانت الآيتان مانعتين عن العمل بهما أنفسهما؛ لأن دلالتهما ظنية. وقد قال تعالى في سياق الآية الثانية: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. وقال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]. وهذه كلها أقوال لم يقم عليها دليل من شأنه أن يفيد الظن الغالب. الثاني: كلمة "ما" في قوله تعالى: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} عامة،

(19/91)


فتخصَّص بأدلة العمل بأخبار الثقات، ولاسيما عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. كيف وقد خصصت بغير ذلك من النصوص إجماعًا، وذلك بجواز أو إيجاب العمل بالظن الغالب في أشياء، كالدلائل الظنية من الكتاب والسنة المعلومة، والقضاء بالشهادة، وعمل العامي بفتوى المجتهد، والاعتماد في الصلاة والصوم على الأذان، واشتراء الأشياء ممن هي في يده مع احتمال أنه سرقها أو غصبها مثلًا، واشتراء اللُّحمان مع احتمال أنها ميتة أو لحم ما لا يحل، وقتل من نراه مع العدو في صفهم إذا لم نعرف أنه مسلم، والرأي في الحرب مع ما فيه من المخاطرة بالمسلمين، وغير ذلك. وشكك بعضهم في هذا بأن للخصم أن يقول: إنما أقبل من هذا ما ثبت وجوب العمل به بدليل قاطع، كالدلائل الظنية من القرآن، ولا أجيز تخصيص الدلائل الظنية من القرآن إلا بدليل قاطع، أو بما قام على وجوب العمل به دليل قاطع. أقول: لا حاجة للمناقشة مع هذا، بل يكفينا هنا ما يأتي. الثالث: أن العمل بخبر الثقة ــ ولاسيّما الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ ثابت بحجج تفيد العلم، كما يأتي إن شاء الله تعالى. وعليه فالعمل به اتباعٌ للعلم. أولا ترى أن القاضي إذا قضى في الأموال مثلًا بشهادة عدلين، فقد قضى بما أنزل الله عز وجل قطعًا، وإن كان صدق الشاهدين مظنونًا فقط. فهكذا مَن عمل بخبر الثقة فيما قامت الحجة القطعية على وجوب العمل بخبر الثقة من (1) جنسه، والله أعلم. _________ (1) في الأصل: "في".

(19/92)


[ص 57] فصل وأما قول الله عز وجل: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} فإنها في موضعين من القرآن. الأولى: في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) ... قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [31 - 36]. الثانية: في سورة النجم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) .... إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [19 - 30]. وينبغي النظر في معناها. فأول النظر في معنى قول العرب: "أغنى".

(19/93)


وجدناهم يقولون: "غني زيدٌ"، بمعنى صار ذا غنى، أي: حصل له من المال ما يُعدُّ في العرف غِنًى. ويقولون: "غني بكذا عن كذا"، مثل: "غني الطفل بالطعام عن اللبن"، أي: اجتزأ به واكتفى. ثم يقولون: 1 - أغنى الله زيدًا، أي: جعله ذا غنى، أي: آتاه من المال ما يُعدُّ في العرف غنى. 2 - أغنى الله الطفل بالطعام عن اللبن. هذا بمنزلة: أشبع الله الطفل بالطعام ــ في الإسناد. 3 - أغنى الطفلَ الطعامُ عن اللبن. وهذا بمنزلة: أشبع الطفلَ الطعامُ ــ في الإسناد. [ص 58] ووجدناهم قالوا: "أغْنِ شرَّك عني". وأرى أصله من باب: "أغنى الله الطفل بالطعام عن اللبن". وأصله هكذا: (أغْنِ) ني (عن) دفْعِ (ي) شرَّك بدفعِك (شرَّك). فخذفوا مفعول "أغنِ"، والمضاف المجرور بـ "عن" ومفعوله، وضمَّنوا "أغنِ" معنى ادفَعْ، فاستغْنَوا بذلك عن "بدفعك". هذا، وأكثر ما يحتاج الإنسان إلى أن يُغنيه عنه غيره: دفع المضار، إذ جلب المصالح دفعٌ لما يقابلها من المضار، فلهذا كثر هذا التركيب في الكلام، فتجده في القرآن في أكثر من ثلاثين موضعًا، تارة من باب "أغنى الله الطفل بالطعام"، وتارة من باب: "أغنى الطفلَ الطعامُ".

(19/94)


فمن الأول قول الله عز وجل: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]. وقوله سبحانه: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67]. وقوله تبارك وتعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]. وقوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21]. وقوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [المؤمن: 47]. وقوله عز وجل: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 18 - 19]. وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان: 41]. وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ

(19/95)


شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10]. ومن الثاني قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 116]. [ص 59] وقوله عز وجل في خطاب أهل النار: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 30 - 31]. وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 6 - 7]. فروع الأول: قد علمت أن العرب نطقت بهذا الاستعمال، وجعلت لـ "أغنى عن" مفعولًا، قالوا: "أغْنِ عني شرَّك". وقال الشاعر: .................... ............ الحِماما (1) وفي "الصحيح" (2) قصة عثمان في الصحيفة التي عُرِضت عليه، فقال: "أغْنِها عنّا". وقد صرح بالمفعول في بعض هذه الآيات، وأصرحها آية الجاثية: _________ (1) تمام البيت: لعمرك والمنايا غالباتٌ ... وما تُغني التميماتُ الحِمامَا وهو لصخر الغي الهذلي في "شرح أشعار الهذليين" (1/ 287)، ولأبي مثلم الهذلي في "لسان العرب" (غنا). (2) البخاري (3111).

(19/96)


{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 47]، وهو في كثير من الآيات لفظ "شيء" إما منصوبًا، وإما مجرورًا بـ "من" المؤكدة للعموم. هذا هو الذي ينبغي اعتماده. وبعضهم يحمل لفظ "شيء" في كثير من الآيات على أنه مفعول مطلق، ويفسر بـ "شيئًا من الإغناء"، وهو تكلف لا ضرورة إليه. وهو في كثير من الآيات اسم استفهام مقدم، كقوله عز وجل: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11]، وقوله حكايةً عن الكافر حين يرى العذاب: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28]، وقوله سبحانه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2]. فـ "ما" في هذه الآيات استفهامية بمعنى "أي شيء"، والاستفهام إنكاري فيه معنى النفي. ولا حاجة إلى جعل كلمة "ما" في الآيات نافية، لأن الفعل يخلو عن المفهوم، فإما أن يُدَّعى قصْرُه أو يُقدَّر، وكلاهما خلاف الأصل. وكذلك في قوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5]، والمعنى: أي شيء من الكفر، كما يأتي في التي بعدها. وقوله سبحانه: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. والمعنى: أي شيء من الرجس وهو الكفر؛ فإن قبلها: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي} الآية.

(19/97)


فأما قوله تعالى: {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31]، وقوله: {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7] فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. الثاني: كلمة "عن" ومجرورها ثابتة في أكثر الآيات، وتُرِكت في بعضها، والذي يترجح تقديرها؛ لتجري الآيات على وتيرة واحدة. ففي قوله تعالى: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} أي عنهم، أي الكفار المتقدم ذكرهم قبلُ، أو {عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} كما في الآية الأخرى، أو "عن المكذبين المتبعين أهواءهم"؛ لأن قبلها {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}. وإذا قلنا بتقديره في {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} فتقديره: "عن المستظل به". وفي {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} يقدر: "عن آكله". الثالث: اضطربت الأقاويل في كلمة "من" التي تجيء في هذا التركيب في نحو قوله تعالى: {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19]. والذي يترجح حملها على ما بينته آية "المؤمن": {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}. فيقال في {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}: إن تقدير المعنى: "لن يغنوا عنك شيئًا من أمر الله"، وفي آيتي "يوسف": "شيئًا من قضاء الله"، وفي آية "التحريم": "شيئًا من عذاب الله" وكذلك في آية "آل عمران". وعلى هذا فالظاهر أن يقدر في آيتي "المرسلات" و "الغاشية": "شيئًا" أي: ولا يُغني عن المستظلِّ به شيئًا من اللهب، ولا يُغني عن آكله شيئًا من

(19/98)


جوع. وأما التقدير النحوي فعلى نحو ذلك، إلا أنه قد عُرِف أن النعت إذا تقدم على المنعوت أُعرِب حالًا. والله أعلم. [ص 60] إذا تقرر هذا فقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] معناها: إن الظن لا يدفع عن صاحبه شيئًا من الحق. والحق الذي من شأنه أن يتوجه إلى الإنسان فيحاول إذا كرهه أن يدفعه بالظن= لا يخرج عن أربعة أشياء: الأول: اليقين. الثاني: البراهين اليقينية. الثالث: ما ثبت بالبراهين اليقينية. الرابع: العقاب المتوجه إلى العصاة. أما اليقين فإنه قد يحصل للإنسان بشيء، ثم تَعرِض له شبهة لا يتيسر له حلها، فتورثه ضربًا من الوسواس، فإن أعرض عن ذلك وصرف ذهنه عنه سَلِم له يقينه. ومن هذا ــ والله أعلم ــ ما ورد في الأحاديث في شأن الخواطر التي تَعرِض للمؤمن مخالفةً لإيمانه. ففي "الصحيحين" (1) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى _________ (1) البخاري (3276) ومسلم (134/ 214) ..

(19/99)


يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعِذْ بالله ولْينتهِ". وفي "الصحيحين" (1) عنه أيضًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل: آمنت بالله ورسله". وفي "صحيح مسلم" (2) عنه أن جماعة من الصحابة قالوا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "أوقد وجدتموه؟ "، قالوا: نعم، قال: "ذاك صريح الإيمان". فأمرهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالإعراض عن الشبهة، وصرف الذهن عنها؛ ولهذا كان أئمة السلف يجتنبون مجالسة أهل الأهواء، وينهون عن مجالستهم وعن سماع كلامهم. فإن لم يُعرِض عنها فقد يتأتى له حلُّها، فيسلَم له يقينه، وقد لا يتأتى فتقوى في نفسه، لوجهين: الأول: أن النفس تدعي أنها أهل للفهم والمعرفة، فإذا لم يتأتَّ لها حلُّ الشبهة توهمت أن ذلك لقوتها، وأنها لعلها حقٌّ لا شبهةٌ، ولعل الحجج التي تخالفها شبهات! الثاني: أن الذهن يشتغل بالنظر فيها، فيغفُل عن الحجج المخالفة لها. هذا، والحكمة التي اقتضت الخلقَ والتكليفَ اقتضت أن لا تكون _________ (1) أخرجه مسلم (134/ 212)، ولم أجده عند البخاري بهذا اللفظ. وأصله فيه (7296) من حديث أنس. وانظر "الفتح" (6/ 341). (2) رقم (132).

(19/100)


حجج الحق في أقصى غاية الوضوح؛ لأنه يفوت بذلك الابتلاء والاختبار، وبفواته يفوت مقصود الخلق والتكليف، كما أوضحته في موضع آخر. مع أن الناس قد شككوا في الحسيات، وفي العقليات الأولية، كما حكي عن السوفسطائية. ثم يصير هذا الرجل: إن رجع إلى الحجج وتدبرها رجع له يقينه، فإن رجع إلى الشبهة وتابعها فقد يرجع له ارتيابه، وهكذا، فيكون ــ كما في الحديث (1) ــ مِثلَ المنافق كالشاة [العائرة] بين الغنمين، تارةً إلى هذه وتارةً إلى هذه. وقد تكون الشبهة واهية ولكن يقوِّيها الهوى، فيمنع صاحبها عن فحصها، كما يمنعه عن تدبر ما يقابلها. وأكثر ما يتفق هذا إذا كان عند الإنسان يقين، وله هوى في رأي لا يستحضر أنه مخالف لذلك اليقين، فيقوم من ينازعه في ذلك الهوى، ويحتج عليه بذلك اليقين. فمن هذا أن مشركي قريش كانوا يعلمون بفطرهم، وبما وصل إليهم من شرع إبراهيم عليه السلام، وما بلغهم عن غيره من الأنبياء المتقدمين: أن الإنسان مخيَّر في أفعاله، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وأن الناس كثيرًا ما يعصون أمر الله عز وجل ويرتكبون مناهيه، وأنه يبعث إليهم الأنبياء فيدعونهم، فإن عصَوهم وأصرُّوا عُذِّبوا. [ص 61] هذا كان متيقنًا عندهم، لا يخالجهم فيه شك، وكانوا يعلمون أن أصحاب الفيل عَصَوا الله عز وجل بقصدهم هدم بيته، فعذبهم، وكانوا _________ (1) الذي أخرجه مسلم (2784) من حديث عبد الله بن عمر.

(19/101)


يرون الحج واجبًا، واحترام البيت واجبًا، ويرون في بعض الأشياء أنها حرام، ثم يعلمون أن منهم من يترك الواجب، ومنهم من يرتكب الحرام، ويرون أنه عاصٍ، ويوبِّخونه على ذلك. ولما بُعِث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ودعاهم إلى نبذ ما كانوا عليه من الشرك والمحدثات = أنكروا عليه وعلى أصحابه، وآذَوهم، وزعموا أنهم مسيئون وكاذبون وضالُّون، إلى غير ذلك مما هو معروف. وكان عندهم يقين بوجود الله عز وجل وربوبيته، وأنه الخالق الرازق المدبر، إلى غير ذلك مما قررهم به الله عز وجل في كتابه. وكان لهم مع هذا اليقين الثاني أشياء من الشرك، ومن تحريم ما لم يحرمه الله عز وجل، وغير ذلك، ولا يستحضرون أن هذا منافٍ لليقين الثاني. فلما بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - فقرَّرهم باليقين الثاني، وبيَّن لهم أن ما هم عليه من الشرك والتحريم منافٍ له= فزعوا إلى شبهة تخالف اليقين الأول، ولكن استروحوا إليها؛ لظنهم أنها تدفع المنافاة بين يقينهم الثاني وبين شركهم وتحريمهم. وذلك ما قصَّه الله عز وجل بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]. وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ

(19/102)


شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 35 - 36]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} الآيات [الزخرف: 20]. وحاصل شبهتهم: أن الله على كل شيء قدير، وهو المدبِّر الأمرِ في السماوات والأرض، فلو كان يكره الشرك والتحريم من دونه لمنعنا وآباءنا من ذلك بقدرته، فلما لم يفعل علمنا أنه لا يكره ذلك، وإذا كان لا يكرهه فمن المحال أن ينهى عنه، فالقول بأنه يكرهه وينهى عنه ويعذب عليه باطلٌ. فأنت ترى شبهتهم هذه منقوضة بما تقدم من يقينهم الأول، وهو اعتقاد لا يفارقهم حتى في هذه الشبهة نفسها؛ فإن الأشياء التي حرَّموها يزعمون أنها حرام على كل حال، وأن من استحلها فقد عصى، مع أنهم يعلمون أن من الناس من يستحلها. وكذلك زعموا في شبهتهم هذه أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - مُبطِلٌ وأنه مُسِيء في ذلك، مع أنهم لا يقبلون ممن استحل تلك المحرمات أن يقول لهم: لو شاء الله لم أستحلها، ولا يقبلون من محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه أن يقولوا لهم: لو شاء الله لما سفَّهنا أحلامكم وطعنّا في دينكم، وفعلنا وفعلنا! [ص 62] وأشدُّ قِحَةً وعنادًا منهم: اليهود، يعلمون ويعلم الناس أنه لا

(19/103)


مستند لهم إلا زعمهم أنهم أهل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على موسى، ثم لم يمنعهم ذلك إذا أرادوا أن يبالغوا في تكذيب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أن قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. قال الله عز وجل: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. والمقصود أن ما تُحدِثه الشبهة من الوسواس في الصدر قد يقوى حتى يدافع اليقين. وأما الثاني، أعني البراهين اليقينية، فمحاولة دفعها بالظن أوضح؛ لأنه لا يلزم من ذلك اجتماع الظن واليقين لرجل واحد، بل قد يكون سبقت إلى نفسه شبهة وافقت هوى فأورثه ذلك ظنًّا، ثم لما دُعي إلى خلاف ذلك، وعُرِضت عليه البراهين اليقينية، أعرض عنها ولم يتدبَّرها، وحاول دفعها عن نفسه بما عنده من الظن. وقد يكون موقنًا بما قامت عليه البراهين ولكنه جاحد معاند، كما قال موسى لفرعون ــ فيما قصه الله تعالى ــ: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102]. وقال الله عز وجل في الآيات التي أراها الله تعالى فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. فمن كان هذه حاله فإنه يلفِّق شبهاتٍ من شأنها أن توقع ترددًا ما، أو من شأنها ــ لو لم يكن في مقابلها برهان ــ أن تكون غايتها أن تقتضي ظنًّا، ثم يحاول أن يدفع بها البراهين.

(19/104)


وإذا حملت الآية على هذا تعين حمل الظن في الآية على الشبهات المذكورة. وقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [المؤمن: 5]. وأما الثالث، وهو ما ثبت بالبراهين القطعية، فمحاولة الإنسان دفعه بالظن يكون على أوجه: منها: نحو ما تقدم في الأول، وفي الثاني؛ لأن من يحاول دفع اليقين أو البراهين اليقينية فقد حاول دفع ما يترتب عليها. وذلك كبطلان الشرك، فإن من استيقن بطلانه، ثم عرضت له شبهة فحصل له بها ارتياب، فحاول أن يدفع به اليقين، فقد حاول بذلك دفع ما يترتب على ذلك اليقين من بطلان الشرك. وكذلك من كانت عنده شبهة فحاول أن يدفع بها البراهين المثبتة لبطلان الشرك، فقد حاول دفع ما ثبت بتلك البراهين من بطلان الشرك. ومنها: أن يكون الرجل على أمرٍ وعنده شبهة فيه، فيبلغه أن داعيًا دعا إلى خلافه، وأنه يزعم أن عنده براهين قطعية، فيعرض الرجل عن ذلك قائلًا: أظنه كاذبًا، وأظن ما أنا عليه حق، فإن كان في نفس الأمر صادقًا فأنا معذور لظني هذا، فلا يلزمني ما يدعو إليه. وتضعف شبهة هذا إذا قامت قرينة على صدق الداعي، وقد يكون من هذا قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. وأما الرابع، وهو العذاب، فيعرف حاله مما تقدم في الرابع (1). _________ (1) كذا في الأصل.

(19/105)


وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]. [ص 63] فظنُّهم أنه سيغفر لهم لا يدفع عنهم ما حق على العصاة من العذاب. وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ... (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 34 - 36]. فظنُّه أنها لن تبيد، وأن الساعة لا تقوم، وأنها إن قامت وجد خيرًا منها= لا يدفع عنه شيئًا مما حق على أمثاله من العذاب. وكذلك ظنُّ المشركين أن آلهتهم ستشفع لهم، وغير ذلك. والذي يترجح أن المراد بالظن الشبهات، وبالحق البراهين القطعية. قال الله عز وجل: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56]. وعلى ذلك يدل السياق؛ فإن الله سبحانه قرر في آية "يونس" (1) البراهين المبطلة للشرك، وقد انضمَّ أيضًا خبر الرسول المؤيد بالمعجزات، وخبر القرآن المعجز، ثم قال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ _________ (1) في الأصل: "يوسف" سهوًا.

(19/106)


شَيْئًا} [يونس: 36]. فكأنه يقول: هذه براهين قطعية، وهم يعرضون عنها، ويتبعون شبهات غايتها أن تورث ظنًّا ما، أي في بعض الأحوال، كما تقدم توضيحه. و {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، أي: وإن تلك الشبهات لا تدفع عنهم شيئًا من البراهين القطعية، أي: من قيام الحجة بها، ووجوب اتباعها عليهم، وما يترتب على ذلك في الدنيا والآخرة. وكذلك في آيات "النجم". وإنما قال في آية "يونس": {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} لأن منهم من كان يعلم بطلان الشبهات، وإنما أصرَّ على الكفر اتباعًا للهوى فقط، ولذلك قال في آية "النجم" الأولى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}، وذلك على التوزيع، والله أعلم. أي: أكثرهم يتبعون الظن والهوى، وأقلهم يتبعون الهوى فحسب. فأما الآية الثانية فقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ}. أي: أكثرهم، والله أعلم. وعلى هذا، فالآية عامة محكمة لا يخص منها شيء البتة، والمسلمون جميعًا قائلون بموجبها، فإنهم إنما يحتجون بالدلائل الظنية ــ ومنها خبر الواحد ــ ما لم تعارضها براهين قطعية. فإن قيل: قد يكون هناك برهان قطعي لم يعرفه العالم، فيعمل بالدليل الظني. قلت: هذا غير داخل في الآية، لأن تقديرها كنظائرها كما علمت: "إن الظن (1) لا يدفع عن صاحبه من الحق شيئًا". ودفع الشيء إنما يكون بعد _________ (1) الأصل: "الحق" سبق قلم.

(19/107)


توجهه، والعالم إذا لم يعرف الدليل القطعي ولم يسمع به لا يصدُق عليه أن الدليل اتجه إليه فدفعه بالظن. فتدبر. والله الموفق. قد يقال: فإن البراءة الأصلية يقينية، فهي من الحق، فعلى هذا لا يرفعها الظن، فلا تُرفع بخبر الواحد. قلت: قولك "يقينية" إن أردت به أن استمرارها متيقن فباطل، وإن أردت أنه متيقنٌ أنها قد كانت قبلُ، فمسلَّم. ولكن المدار على ما هو يقين في الحالة الراهنة، وليست كذلك، بل قد يُتيقن ارتفاعها، كما إذا بُيِّن رفعُها بيقين. وقد يُظنّ، كما إذا كان الدليل الرافع عنها ظنًّا، فيصير بقاؤها وهمًا فقط، والوهم أضعف من الظن. ولا يلزم من كون الظن لا يرفع اليقين الذي هو أقوى منه أن لا يرفع الوهم الذي هو دونه. بل الحق أنه كما أن الظن لا يرفع اليقين، فكذلك الوهم لا يرفع الظن. فإن قلت: لكن البراءة الأصلية حجة إجماعًا، فهي مستندة إلى يقين، وخبر الواحد اختلف فيه. قلت: أما أولًا فسنوضح أن خبر الواحد مستند إلى اليقين أيضًا. وأما ثانيًا فالبراءة الأصلية إنما أُجمِع على صحة الاستناد إليها عند عدم الدليل. فإن قلت: لكن لا نسلِّم أن خبر الواحد دليل. قلت: أما أولًا فسنثبت ذلك بحججه إن شاء الله تعالى.

(19/108)


وأما ثانيًا فالإجماع الذي ذكرته في البراءة الأصلية إنما هو حيث لم يصح الخبر بما يرفعها ولم يكن هناك دليل آخر، فأما إذا صح الخبر فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم أصحابه وسلف الأمة متفقون على أنه يرفعها. وهَبْ أن دعوانا هذه لا تقوم عليها الحجة، فالذي لا تنكره أنت ولا تستطيع إنكاره أن جمهور أهل العلم على أن الخبر يرفعها. وهذا كافٍ في دفع ما ادعيته من الإجماع. فإن قلت: من رأيي أنا استصحاب الإجماع. قلت: هو رأي ضعيف، ويكفينا هنا أن نقول: استصحاب الإجماع غير الإجماع، والإجماع المحقق قد يفيد اليقين، وأما استصحابه فيما تحقق فيه الخلاف فغايته أن يكون ظنًّا، فإذا عارضه ظنٌّ أقوى منه صار وهمًا، والوهم لا يدفع الظن. فأما معارضة خبر الواحد لظاهر القرآن ونحوه من الدلائل المستندة إلى اليقين، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. فصل [ص 64] ذهب كثير إلى أن {يُغْنِي} في الآية هي نحوها في قولك: "إن الطعام لا يُغني عن الشراب". أي لا يقوم مقامه، ولا يسدُّ مسدَّه، وجعلوا "من" بمعنى بدل، كهي في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، وجعلوا {شَيْئًا} مفعولًا مطلقًا، على أن المعنى: "شيئًا من الإغناء".

(19/109)


وهذا معترَضٌ بوجوه: الأول: أنه إخراجٌ لكلمة {يُغْنِي} عن المعنى الذي اطرد في القرآن في نحو هذا التركيب استعمالها فيه. فإن كان أصله مجازًا فقد صار بالاطراد في تلك المواضع ــ مع كثرتها ــ في قوة الحقيقة، إن لم نقل: حقيقة. وفي إخراجه عن ذلك إخراجٌ للآية عن نظائرها الكثيرة في القرآن، وقد تقدم طائفة منها. ومنها قوله تعالى: {لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31]، {وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7]، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21]، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 47]. والاسم الذي يلي "من" في هذه الآيات مدفوع، أي: متجه إليه ما في معنى "يغني" من الدفع، ولو جعلت "من" فيها للبدل لانعكس المعنى. إذ يصير المعنى: أن اللهب يغني، وكذلك الجوع، والعذاب، والنار. وذلك باطل قطعًا، فالواجب حمل هذه الآية على نظائرها الكثيرة، وإن أمكن حملها على خلافها. الثاني: أن "من" البدلية قليلة، وإنما تحسُنُ حيث كان المعنى على الاستبدال والمعاوضة، كما في {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، فقد قال تعالى: {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [البقرة: 86]، وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74].

(19/110)


الثالث: أن حمْلَ "شيئًا" على المفعولية المطلقة، أي: "شيئًا من الإغناء"= بعيدٌ. ومع ذلك، فقد يقال: أقصى ما هناك أن يصير المعنى: إن الظن لا يغني عن الحق، فيكون المراد بالحق هو اليقين. وحاصله أن الظن لا يقوم مقام اليقين ولا يسدُّ مسدَّه، فوِزانُه قولنا: إن الشرطة لا يُغنُون عن الجند شيئًا من الإغناء. فحاصله: أن هناك مقاصد لا يغني فيها إلا الجند، كمهاجمة الأعداء الأقوياء، وصدّ هجماتهم، ونحو ذلك. وأن الشرطة لا يغنون في ذلك عن الجند شيئًا من الإغناء، وهذا لا يدفع أن يكون الشرطة محتاجًا إليهم ومنتفَعًا بهم، وتقوم بهم كثير من المصالح. أقول: في هذا نظر، إذ قد يقال: عدم المنافاة إنما استُفيد من خارج، فأما ظاهر العبارة فالعموم، وذلك في قولك: "إن الظن لا يغني عن اليقين شيئًا من الإغناء"= واضح؛ فإنه ما من شيء يُتصور أن يُنتفَع فيه بالظن إلا وينفع فيه اليقين، فلو كان الانتفاع بالظن ثابتًا لكان قد أغنى عن اليقين في تلك الجزئية. فإن قيل: فنقول بأن هذا العموم مخصوص، أما أولًا فأمور الدنيا غالبها قائم على الظن، والظن في كثير من الأشياء يغني عن اليقين. ألا ترى أنه كثيرًا ما ينتفع المريض بالدواء وإن لم يكن يتيقن أن الدواء ينفعه؟ وأن التجار كثيرًا ما يربحون وإن لم يكونوا متيقنين أنهم سيربحون؟ إلى غير ذلك. وأما أمور الدين فتُخصَّص بالأدلة الموجبة العملَ بالظن في مواضعه. قلت: نعم، هذا جواب، ولكنني أرى لزوم هذا مما يوهن هذا المعنى،

(19/111)


ويرجح المعنى الأول. وذلك أن قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] مرسلةٌ إرسالَ المثل، وموضوعة وضع القاعدة، وما كان هكذا فحقه أن يكون سالمًا من التخصيص. والمعنى الذي قدمناه سالم من التخصيص كما تقدم، فهو أرجح من هذا. وقد أجيب عن الآية بناءً على هذا المعنى الأخير أو نحوِه، بأجوبة قد أغنانا الله عنها بما تقدم، على أن بعضها قريب مما مرَّ في الأجوبة عن الآية الأولى. والله الموفق. [ص 65] فصل ومما يذكر هاهنا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يعمل بخبر ذي اليدين حتى سأل الناس فصدقوه (1). وأن أبا بكر رضي الله عنه سأل الناس في شأن ميراث الجدة، فأخبره المغيرة بن شعبة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فأخبر بمثله (2). وأن عمر جاءه أبو موسى الأشعري فاستأذن ثلاثًا، ثم رجع، فسأله عمر بعد ذلك، فذكر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر بمثل ذلك، فقال عمر: لتأتيَّن [على هذا _________ (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 513) وأبو داود (2894) والترمذي (2101) من رواية قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر، وإسناده منقطع. وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.

(19/112)


ببيِّنةٍ] (1) أو لأفعلنّ وأفعلنّ. فذهب أبو موسى إلى مجلس الأنصار، فجاء معه بعضهم، فحدث بذلك عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (2). وأنه ردَّ خبر فاطمة بنت قيس في جواز خروج المبتوتة من بيت زوجها في العدة، وقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت (3). وأن ابن عباس لم يقبل خبر أبي هريرة، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "الوضوء مما مست النار، ولو من ثَورِ أَقِطٍ"، وقال له: "يا أبا هريرة، أتوضَّأ من الدهن؟ أتوضأ من الحميم؟ " (4). أقول: أما خبر ذي اليدين فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يرى أنه صلى أربعًا، فلما أخبره ذو اليدين بخلاف ذلك توقف؛ لأنه ليس احتمال كونه - صلى الله عليه وآله وسلم - سها بأولى من أن يكون ذو اليدين غفل، وكان سكوت غيره من أكابر الصحابة وانفراده من بينهم مما يقوي احتمال أنه غفل. وأما قصة أبي بكر ففيه أنه قضى بخبر الاثنين، وتبعه الناس إلى يوم القيامة. وخبر الاثنين من جملة أخبار الآحاد اتفاقًا، فهذا من جملة الحجج على حجيته. ثم نقول: إن أبا بكر لم يردَّ خبر المغيرة، ولا ترك العمل به، وإنما سأل: _________ (1) ترك المؤلف هنا بياضًا. (2) أخرجه البخاري (6245) ومسلم (2153، 2154). (3) أخرجه مسلم (1480/ 46). (4) أخرجه الترمذي (79) وابن ماجه (485).

(19/113)


هل معك غيرك؟ وهذا محمول على التثبت والاحتياط، كما يأتي. والمجتهد لا يكتفي بالآية من كتاب الله عز وجل حتى ينظر غيرها من الأدلة؛ لاحتمال أن يكون في غيرها ما يقيِّدها أو يخصِّصها، أو غير ذلك. ومعلوم أنه إذا لم يجد شيئًا من ذلك بعد البحث عمل بها، ولا بد. وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم العمل بخبر الواحد وحده إذا لم يجدوا ما يعارضه. فبان بذلك أن قول أبي بكر: هل معك غيرك؟ إنما محمله ما ذكرنا. وأما قصة عمر مع أبي موسى ففيها أن عمر قنعَ بمتابعة أبي سعيد لأبي موسى، وهما اثنان. ثم قد أجاب عنها الشافعي رحمه الله، قال في "الرسالة" (1): "فإن قال قائل: ... قيل له: لا يطلب عمر ... إلا على أحد ثلاث معانٍ: إما أن يحتاط فيكون، وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد فخبر اثنين أكثر، وهو لا يزيدها إلا ثبوتًا. وقد رأيت ممن أثبت خبر الواحد من يطلب معه خبرًا ثانيًا، ويكون في يده السنة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من خمسة وجوه، فيحدَّث بسادس فيكتبه؛ لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كانت أثبت للحجة، وأطيب لنفس السامع. وقد رأيت من الحكام من يثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثة، فيقول للمشهود له: زدني شهودًا، وإنما يريد أن يكون أطيب لنفسه، ولو لم يزده المشهود له على شاهدين لحكم له بهما .... _________ (1) (ص 432 وما بعدها).

(19/114)


قد روى مالك (1) عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم حديث أبي موسى، وأن عمر قال لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ... ". أقول: وفي "الفتح" (2) عن رواية أخرى: "فقال عمر لأبي موسى: والله إن كنت لأمينًا على حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولكن أحببت أن أستثبت". وفيه (3) عن رواية أخرى: أن أُبي بن كعب أنكر على عمر مقالته لأبي موسى، وقال: يا ابن الخطاب، فلا تكوننَّ عذابًا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبَّت. وفيه (4): "قال ابن بطال: ... وقد قبل عمر خبر العدل الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها، وأخذ الجزية من المجوس، إلى غير ذلك، لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك. وقال ابن عبد البر (5): [66] يحتمل أن يكون حضر عند عمر من قرُبَ عهده بالإسلام، فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عند الرغبة والرهبة ... فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئًا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج". _________ (1) في "الموطأ" (2/ 964). (2) (11/ 30). (3) (11/ 28، 29). وفيه: "فلا تكون"، "وأن أثبت". والتصويب من "صحيح مسلم" (2154). (4) (11/ 30). (5) كما في "الفتح" (11/ 30). وانظر "التمهيد" (3/ 200).

(19/115)


وفي "الصحيح" أن عمر لما أخبره أبو سعيد قال: "خفي علي هذا من أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ألهاني الصفق بالأسواق ... ". أخرجه البخاري في "الاعتصام" (1). والحاصل أن الاستئذان مما تعم به البلوى، وقد صحب عمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولازمه أكثر من صحبة أبي موسى، فلما أخبره بهذا كان مظنة أن يقع له تردد؛ لأن الظاهر أنه لو كان هذا الحكم ثابتًا لما خفي عنه. ولهذا قال أخيرًا: "شغلني الصفق بالأسواق". وكان أبو موسى دافعًا عن نفسه، فإن عمر أنكر عليه رجوعه وعدم انتظاره، فاحتج بالحديث، فأراد عمر ما تقدم عن ابن عبد البر. وقد جاء في حديث ابن عمر أن سعدًا حدثه بحديث المسح على الخفين، فسأل أباه عنه، فقال: إذا حدثك سعد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تسل عنه غيره (2). وقال الشافعي: "وفي كتاب الله تعالى دليل على ما وصفت ... ". "الرسالة" (ص 60) (3). وأما توقف عمر عن خبر فاطمة بنت قيس، فإنه قال: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت"، فبين أنه إنما توقف _________ (1) رقم (7353). (2) أخرجه البخاري (202). (3) (ص 435) تحقيق أحمد شاكر.

(19/116)


لمخالفة خبرها عنده للكتاب والسنة، فأما الكتاب فإنه قول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [أول سورة الطلاق]. وهذا يعم المبتوتة، وإن نُوزِع في العموم. وأما السنة فلا ندري أي سنة كانت عند عمر، فقد يكون كانت عنده سنة يراها نصًّا في وجوب السكنى للمبتوتة، وقوَّاها عموم الكتاب عنده. وإذا كان كذلك، رد خبرها لمعارضته لما هو عنده أقوى منه. وقد استدل بعض الحنفية بالقصة على أن مذهب عمر أن خبر الواحد لا يخصص القرآن. وإنما يقوى هذا لو لم يقل عمر: "وسنة نبينا". [ص 67] وأما قصة ابن عباس فلم يردَّ الحديث بمجرد الرأي، كما يتوهم. وقد قال محمد بن عمرو بن عطاء: كنت مع ابن عباس في بيت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المسجد، فجعل يعجب ممن يزعم أن الوضوء مما مست النار، ويضرب فيه الأمثال، ويقول: إنا نستحم بالماء المسخن، ونتوضأ به، وندهن بالدهن المطبوخ، وذكر أشياء مما يصيب الناس مما قد مست النار، ثم قال: لقد رأيتني في هذا البيت عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد توضأ، ثم لبس ثيابه، فجاءه المؤذن، فخرج إلى الصلاة، حتى إذا كان في الحجرة خارجًا من البيت لقيتْه هديةُ عضوٍ من شاة، فأكل منها لقمة أو لقمتين، ثم صلى وما مسَّ ماء". هكذا ساقه البيهقي في "السنن" (1/ 153). وأصله في "صحيح

(19/117)


مسلم" (1). وقد روت خالته ميمونة نحو ذلك (2). فلا يخلو حاله عن أحد وجهين: الأول: أن يكون قد علم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر أولًا بالوضوء مما مست النار، ثم نسخ ذلك، فهو إنما ينكر على من بقي يأخذ بالمنسوخ، ويضرب له الأمثال ليثبت له أنه لو بقي الحكم الأول لزم التضييق على الناس في أمور كثيرة. الوجه الثاني: أن لا يكون سمع الحديث إلا من أبي هريرة، فخاف أن لا يكون أبو هريرة أتقن لفظه، فأراد بضرب الأمثال تنبيهه. والظاهر هو الأول؛ فإن خبر الوضوء مما مست النار كان مشهورًا بينهم، رواه عدد من الصحابة غير أبي هريرة. وقد روي عن أبي هريرة قال: "أكل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثورَ أقطٍ فتوضأ، وأكل كتفًا ولم يتوضأ". أخرجه البيهقي (1/ 156). فالظاهر أن أبا هريرة كان يرى أن لحم الغنم مخصوص من العموم، أو يرى أن النسخ كان خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. والمقصود هنا أن ابن عباس إنما عمدته ما رآه من فعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، والظاهر أنه عارف بأن خبر أبي هريرة صحيح، ولكنه يراه منسوخًا، وقال مقالته تقويةً للنسخ. وفي القصة أن أبا هريرة أجابه بقوله: "يا ابن أخي، إذا حدثتك عن النبي _________ (1) رقم (359). (2) أخرجه مسلم (356).

(19/118)


- صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تضرب له الأمثال". والقصة في "سنن الترمذي" (1). وهذا يدل أن أبا هريرة كان يرى الوضوء مما مست النار، ولا يراه من الادِّهان بالدهن المطبوخ، ولا يرى بأسًا بالوضوء بالماء الحار. وكلام ابن عباس يحتمل أنه إنما بناه على ما يفهم من لفظ الحديث، على ما ذكره أبو هريرة: "الوضوء مما مست النار"، فإنه إذا قلنا بعموم المقتضي يعم الادِّهان بالدهن المطبوخ، واستعمال الماء الحميم. فأما إذا كان المراد بالوضوء مما مست النار: ما غيَّرت النار كما ثبت في بعض الروايات، فلا يدخل ما لم تغيِّره تغييرًا ظاهرًا، كالماء. وإذا كان المراد بالوضوء من ذلك الوضوء منه إذا طعمه الإنسان ــ كما هو المعروف عنهم ــ فلا يدخل الادهان والاغتسال، وإلحاقه بالقياس غير ظاهر؛ إذ غير مستنكر أن يورث أكل الشيء حالًا في البدن لا يورثها الادهان به ونحوه، كما في الخمر والسم وغير ذلك. هذا، وقد زعم بعض أهل الرأي أن ابن عباس ردَّ خبر أبي هريرة بمجرد القياس، وجعل ذلك أصلًا في أن الصحابي الذي لم يشتهر بالفقه إذا أخبر بخبر مخالف للقياس كان القياس أرجح منه (2). كذا قال، ولعله يأتي الكلام في هذا إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا التنبيه على أن هذه القصة ليست كما زعم، والله المستعان. _________ (1) رقم (79). (2) انظر "أصول البزدوي" (159) و"أصول السرخسي" (1/ 340) وغيرهما. وردَّ عليه من الحنفية: عبد العزيز البخاري وغيره، انظر "كشف الأسرار" (2/ 558) و"غاية التحقيق" (ص 164 - 165) و"دراسات اللبيب" (ص 207 - 212).

(19/119)


هذا، وقد صح عن ابن عباس من عدة وجوه قبوله خبر الواحد، واحتجاجه به، وذلك مما يفيد بمجموعه اليقين، والله الموفق.

(19/120)


 الرسالة الثانية رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه

(19/121)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله حمدًا يوافي نِعمَه، ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أما بعد، وجدتُ كلام المتقدمين في أحكام الجرح والتعديل قليلًا ومنتشرًا، وكلام من بعدهم مختلفًا غير وافٍ بالتحقيق. ورأيت لبعض المتأخرين كلامًا حاد فيه عن الصواب، ويُسِّر لي في تحقيق بعض المسائل ما لم أعثر عليه في كتب القوم ــ والله المستعان ــ؛ فأردت أن أقيِّدَ ذلك، ثم رأيت أن أضمَّ إلى ذلك شيئًا من الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه، فجمعتُ هذه الرسالة، ورتبتُها على ثلاثة أبواب، ومِن الله تعالى أسأل الإعانة والتوفيق.

(19/123)


الباب الأول في بعض ما يتعلق بخبر الواحد وفيه فصول: الفصل الأول في وجوب العمل بخبر الواحد هذا أمر مشروح في كتب أهل العلم، وإنما أنبه فيه على ما لم أقف عليه في كتبهم ابتداء، أو رأيتُه غير مستوفًى. فأقول: أمر الله تبارك وتعالى بطاعة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والتحذير من معصيته في عدة آيات من كتابه: منها قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. ولا مخالفَ في ذلك من الأمة، والعرب لا تفرِّق في إطلاق الطاعة والمعصية بين أن يَثبُتَ الأمر عند المأمور يقينًا وأن يثبت ظنًّا، بل كما يقولون لمن واجهه أبوه بالأمر فامتثل: إنه أطاع أباه، وإن لم يمتثل: إنه قد عصى أباه؛ فكذلك يقولون لمن بلغه من وجهٍ يُوثَق به أن أباه أمره، كمن أخبره رجل ثقة عن أبيه، أو ثقة عن ثقة عن أبيه. وهذا أمر لا يجهله من يعرف لسان العرب، بل والأمر كذلك في سائر الألسنة. فإذا ثبت هذا ثبت وجوبُ العملِ بخبر الواحد المفيد للظن، وأن من بلغه من وجهٍ يفيد الظن، إن امتثل فقد أطاع، وإلا فقد عصى.

(19/124)


حجة أخرى: قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. وواضح أن قوله: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} معناه: بما عرَّفكه وفهَّمكه من الكتاب (1). وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 79]. ونعت الله سبحانه التوراة بقوله: {تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 154، الأعراف: 145]، ثم أنزل القرآن مهيمنًا على ما قبله. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. [ص 2] وكل من له حظٌّ من العلم، يعلم أنه لا يمكن العالمَ أن يعرف من القرآن وحده، أو منه ومن السنن المتواترة جميع الأحكام التي يحتاج إليها الناس فيما يشجر بينهم، ويختلفون فيه، ويريدون العمل به. وعُلِم كذلك أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خاتم الأنبياء، وشريعتهُ خالدةٌ إلى يوم القيامة، وأن الله تعالى لا يُخلِي الأرضَ عن الحجة (2). وقد قال تعالى: _________ (1) انظر: "تفسير القرطبي" (5/ 321). (2) يريد علماء أهل السنة من قولهم: إن الله لا يُخلي الأرض عن الحجة، أو عن القائم لله بالحجة: أهلَ الحق القائمين بكتاب الله، ولا يخلو منهم زمان كما ورد في أحاديث الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وتجديد أمر الدين على رأس كل مئة عام، خلافًا لما يدعيه أهل البدع من الرافضة وغيرهم. "فتح الباري" (6/ 494)، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (25/ 130)، "إعلام الموقعين" (2/ 276).

(19/125)


{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9]، والذكر يشمل أحكام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، إن لم يكن بلفظه فبمعناه، لأن المقصود من حفظ القرآن هو أن تبقى الحجة قائمة إلى يوم القيامة، وأحكامه - صلى الله عليه وآله وسلم - مما يُحتاج إليه في قيام الحجة في فروع الشريعة. وقد قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (1). فاحتج بالآية على أنه لا يمكن أن يُلْصَقَ بالشريعة ما ليس منها، بحيث لا يتيسر لعالم بيانُ أنه ليس منها. فكذلك يُحتجُّ بها على أنه لا يمكن أن يسقط من الشريعة شيء، بحيث لا يبقى لعالمٍ طريقٌ إلى إثبات أنه منها (2). فنحن نسأل المخالف أو المرتاب: هل كانت جميع الأحكام التي حكم بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مما ليس بظاهر لنا من القرآن خاصةً بأصحابه، أم عامةً لهم ولمن بعدهم؟ فإن قال: خاصة، فقد كابر وجحد ما هو معلوم من الإسلام بالضرورة. وإن قال: ما ثبت ثبوتًا قطعيًّا فهو لازم لمن بعد الصحابة، وما لم يثبت _________ (1) "الكفاية" (ص 77)، "فتح المغيث" (1/ 260). (2) انظر في هذا الوجه من الاستدلال: "الإحكام" (3/ 746)، "الموافقات" (2/ 59).

(19/126)


كذلك فليس بلازم، سألناه عمَّا لم يثبت قطعًا: أمقطوعٌ عنده بكذبٍ كلُّ ما رُوِي من ذلك؟ فإن قال: نعم، كابر. وإن قال: لا، بل منه ما هو صحيح في نفس الأمر. قلنا: فما كان منه صحيحًا في نفس الأمر، هل كان من الشريعة في حق الصحابة الذين ثبت عندهم قطعًا لسماعهم من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مواجهةً، وفي حق من تواتر عنده من التابعين، أو قَطَعَ بصحته لقرائنَ اقترنت بالخبر عنده؟ فإن قال: لا، كابر. وإن قال: نعم. قلنا: فهذه الأمور التي كانت من الشريعة لو لم تبقَ الآن من الشريعة لكانت الشريعة الآن ناقصة، ولكانت الحجة مفقودة في كثير من الأحكام التي يحتاج إليها الناس، وذلك خلاف وعد الله تبارك وتعالى، وخلاف حكمته في ختم النبوة , وغير ذلك. فإن قال: فما تقولون أنتم في الأحاديث الضعيفة؟ قلنا: ما كان ضعيفًا اتفاقًا وانفرد بأمر ليس عليه دليلٌ آخر تقوم به الحجة فذاك الضعيف باطلٌ قطعًا، وأحسن أحواله أن يكون: كان شيءٌ فَنُسِخَ؛ لأن ما تكفَّلَ به الرب عز وجل من حفظ الشريعة إنما يحصل المقصود منه بحفظ أحكامها حفظًا تقوم به الحجة، والضعيف لا تقوم به الحجة. وقد أوضحتُ هذا في رسالة "الكلام في العمل بالضعيف" (1)، فليُطلَب تمامُه من هناك. _________ (1) ضمن "مجموع الرسائل الحديثية" (ص 151 - 213).

(19/127)


حجة ثالثة: قال الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] (1). وقد تواتر تواترًا معنويًّا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكتفي في كثير من الأحكام بإخبار الواحد أو الاثنين، فلو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة لما حصل به مقصود التبليغ، إذ المقصود تبليغ يتيسَّرُ علم الناس به، ويُبلِّغه الحاضرُ الغائبَ، ثم يتناقله الناس إلى يوم القيامة؛ لما تقدم (2). ولو كان كذلك (3) لما اكتفى - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك، ولا أقرَّه ربه عز وجل عليه. فإن قيل: فإن الذي سمع ذلك إن كان واحدًا أو اثنين قد يموت قبل أن يُخبر غيره، وقد ينسى، وقد يرتدُّ أو يَفسُق، فكيف يكتفي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإخباره؟ [ص 3] فالجواب: أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعلم أن ربه عز وجل حافظ له، وحافظ لدينه، وأنه إن علم عز وجل من ذلك الرجل الذي بلَّغه شيئًا مما مرَّ لنبَّه سبحانه نبيَّه، وهداه إلى تبليغ غيره ممن يعلم أنه سيبلِّغ مَن بعده على وجهٍ تقوم به الحجة. _________ (1) في المخطوط: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ فا} وترك بعده بياض. (2) انظر في هذا الوجه من الاستدلال: "قواطع الأدلة" (1/ 322)، "رفع الحاجب" (2/ 338). (3) أي: ولو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة.

(19/128)


هذا، وفي كتب أهل العلم حجج كثيرة في هذه المسألة، وإنما نبَّهتُ على ما لا أعلمه في كتبهم مشروحًا، كما سلف، والله الموفق (1). فإن فُرِض أنه ليس في الحجج على وجوب العمل بخبر الواحد ما يفيد القطعَ بمفردها، فلا ريب أنها باجتماعها تفيد القطع، كما حققه الشاطبي في "الموافقات" (2). شبهة المخالف: ذكروا أن بعض من خالف في هذا زعم أن العقل لا يُجوِّز أن يتعبد الله عز وجل عباده بخبر الواحد. وظهور بطلان هذا أغناني عن البحث عن توجيه هذا القول، إلا أنه يخطر لي أن وجهه: أن الخبر قد يكون باطلًا، بأن يكون الراوي غلِطَ، أو يكون بخلاف ما ظهر لنا من ثقته فكذبَ، وإذا احتمل البطلان كان التعبد به في صورة بطلانه تعبدًا بالباطل، وذلك محال على الله عز وجل. والجواب عن هذه الشبهة وغيرها: أنها في معارضة ما ثبت قطعًا، فلا يُعتدُّ بها، وإن كانت قد تُشكِّك الناظر حتى يكاد يرتاب في أن تلك الحجج تفيد القطع، فإن هذا شأن الشُّبه، كما رأينا السوفسطائية يثيرون شبهًا على _________ (1) انظر في أدلة حجية خبر الواحد: "الرسالة" (383)، "الإحكام" لابن حزم (1/ 112)، "البرهان" (1/ 388)، "أصول السرخسي" (1/ 490)، "المحصول" لابن العربي (543)؛ "التحبير شرح التحرير" (4/ 1801). (2) (1/ 29، 30) ط. مشهور.

(19/129)


المحسوسات والمعقولات الأولية وغيرها مما هو من أجلى القطعيات، فإذا سمع الناظر تلك الشبهات تزلزلَ اعتقادُه قطعيةَ تلك القطعيات أو كاد يتزلزل. ولهذا كان حكماء الأئمة من سلف الأمة يتجنبون سماع الشبهات، وينهون الناس عن مخالطة أهلها وسماع كلامهم. وحلُّ هذه الشبهة أن من أصل المخالف وغيره من مثبتي الحكمة: أنه لا يُعتدُّ بالشر القليل الناشئ عما ينشأ عنه الخير الكثير، ولا تُترك المصلحة الكبرى لانطوائها على مفسدة صغرى. فالتعبد بخبر الواحد ــ بشرطه ــ فيه خير كثير ومصالح عظمى، فلا ينظر إلى احتمال أن يكون في بعض الجزئيات باطلًا. وأمثلة ذلك في خلق الله عز وجل معروفة مشهورة. وقد قال تعالى: {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. وكذلك له أمثلة فيما اتفق عليه من أمره سبحانه، وهو الشريعة، كالتعبد بما يظهر للعالم من دلالة القرآن، وتعبُّدِ القاضي بأن يحكم بالاعتراف وشهادةِ عدلين، والتعبد بركوب البحر وغيره وإن احتمل أن يؤدي إلى الهلاك، وتعبُّدِ المرأة بتمكينها مَن عهدته زوجَها أو سيدَها، وإن احتمل أنه قد طلق أو أعتق، إلى غير ذلك. ولو اشتُرِط في ذلك وأمثاله حصولُ القطع بالعلم اليقيني لفسدت الأرض، إلا أن يجعل الله عز وجل جميع بني آدم أنبياء يوحى إليهم في كل شيء، وذلك خلاف الحكمة في خلقهم، كما هو مقرر في موضعه. على أننا لا نسلِّم أن العمل بخبر الواحد ــ الجامعِ للشروط ظاهرًا، الباطلِ باطنًا ــ ليس فيه مصلحة، بل فيه المصلحة العظمى، وهي طاعة الله

(19/130)


ورسوله، وذلك هو العبادة التي خلق الله الخلق لأجلها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فلا يضرُّها احتمالُ أن يكون الخبر في نفس الأمر باطلًا. أوَلا ترى أن المرأة إذا مكَّنتْ من عهدته زوجَها أو سيدَها امتثالًا لأمر الله عز وجل، ثبت لها الأجر والثواب، حتى في صورة أن يكون ذلك البعل أو السيد لا يحلُّ لها في الباطن، كأن يكون قد طلق أو أعتق ولم تعلَمْ هي، وكأن يكون في نفس الأمر أخاها أو أباها أو ابنها وهي لا تعلم. على أننا نقول: إن الله تبارك وتعالى رقيبٌ على كل حركة تقع في العالم، فيعدِل بقضائه وقدره ما عساه أن يقع من الخلل بسبب قواعد شريعته، وعلمه سبحانه محيط، وحكمته بالغة، وعلمنا وحكمتنا ناقصان محدودان، فإذا قامت الحجة الشرعية على شيء ولم نفهم وجه الحكمة فيه، أو رأينا أنه خلاف الحكمة فذلك ثمرة قصور علمنا، والله أعلم. [ص 4] شبهة أخرى: زعموا أن بعض الظاهرية زعم أن العمل بخبر الواحد وإن لم يمنعه العقل، فقد منع منه الشرع؛ لأنه إنما يفيد الظن (1)، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] وما في معناها من الآيات. وأجيب عنه بأجوبة: منها: أن الظن في الآيتين هو الخرص، كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا _________ (1) انظر لنفي نسبة هذا القول إلى الظاهرية ما سبق في (ص 64 - 65).

(19/131)


الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]. وعلى ذلك يدُّل السياق في الآيتين، فإنهما في صدد إقامة الحجة على المشركين في قولهم: إن الملائكة بنات الله، وإنهن يشفعن عنده ويستحقِقْنَ العبادة. فإن هذا من الخرص الذي ينبني على خاطر تخيلي. كمن يرى إنسانًا لم يره قبل ذلك، فيقع في نفسه أنه يريد به شرًّا، فإذا تدبَّر في سبب هذا الظن وجد أن قد كان ناله شرٌّ قبل مدة من إنسان يُشبِهه هذا في الصورة بعضَ الشبه، وإذا رجع إلى عقله علم أن مثل ذلك الشبه الصوري لا يلزم منه ما ظنه، وقد قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. ومنها: أن الظن هنا المراد به الظن المعارض لما هو أرجح منه، فإنَّ ظن المشركين الذي نعاه الله تعالى عليهم في الآيتين معارض للقواطع. ومنها: أن المراد به الظن فيما لا يكفي فيه إلا القطع، كما في ظن المشركين المنْعِيِّ عليهم في الآيتين، فإنه في العقائد. وقد يُنظر في هذه الأجوبة بأنها تقتضي تخصيصَ الظن ببعض صوره لخصوص السبب، والمقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويجاب عن هذا بأن هذا من التخصيص بالسياق لا بالسبب، وعلى كلٍّ فدلالة العام ظنية، ولاسيما في مثل هذا. فيقال للمخالف: دلالة الآيتين على خصوص خبر الواحد ظنية، فالآيتان بعمومهما تقتضيان بطلانَ هذه الدلالة.

(19/132)


فإن قال: أما الدلالة الظنية من القرآن فقد قام الدليل على خروجها من ذلك العموم. قلنا: وكذلك خبر الواحد قد ذكر أهل العلم عدة حجج على وجوب العمل به، وذكرنا بعض الحجج كما مر. ومن الأجوبة: أن العمل بخبر الواحد ليس عملًا به من حيث هو خبر واحد، ولا من حيث إنه يفيد الظن، بل من حيث إن الشارع أمر بالعمل به، وذاك الأمر ثابت قطعًا بما ذكره أهل العلم من الحجج، وما قدّمتُه منها، فالعمل به اتباع للحق المقطوع به لا للظن. وكذلك نقول في جميع الأدلة التي تفيد الظن وقام الدليل القاطع على وجوب العمل بها. أوَلا ترى أنه إذا اعترف رجل بالغ عاقل مختار عند القاضي، ولم يكن هناك ما يدل على بطلان اعترافه ولا صحته، فقضى عليه بمجرد اعترافه؛ فقد قضى بما أنزل الله قطعًا؛ لأن وجوب الحكم بالاعتراف مقطوع به، وإن كان الاعتراف لا يفيد إلا الظن. وهكذا إذا قضى بشهادة شاهدين بشرطهما. وعن ذلك صاروا إلى أن أصول الفقه قطعية، والأمر كذلك، إلا أن من الأصول ما يكون فرعًا لأصلٍ أعلى منه، فيكفي القطع للأصل الأعلى. شبهة ثالثة: عرف جماعة من العقلاء أن الطعن في وجوب العمل بخبر الواحد المستجمع للشروط مكابرة لا تُجدِي، فعدلوا إلى دعوى أن عامة الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بطرق الآحاد غير مستجمعةٍ للشروط.

(19/133)


فمن هؤلاء: كتّاب الإفرنج في العصور المتأخرة وأذنابهم. وشبهتهم: أن المسلمين فشتْ فيهم من القرن الأول الأهواءُ السياسية، والحزبية، والمذهبية، والقومية، والوطنية، وغيرها. واستخدم كلٌّ منهم الأحاديث في ما يوافق هواه ويخالف خصمه، [ص 5] وكان فيهم من يضع الأحاديث احتسابًا، ومن يضعها لنصرة الحق في زعمه، ومن يضعها لترغيب العامة، دَعْ وضع الزنادقة المتظاهرين بالإسلام والزهد والتقوى، الساعين سرًّا في هدم الإسلام وتشويهه. والجواب عن هذه الشبهة: أنها بمنزلة من يقول: إن الناس قد أكثروا من صنع ما يُشبِه المسك والعنبر، وتفننوا في ذلك كثيرًا، فلم يبقَ وثوقٌ بوجود مسك وعنبر حقيقي، وكذلك السمن والعسل، وكذلك الذهب والجواهر الثمينة. ولو خالط أهل الخبرة، وأطال مِن صحبتهم، لعلم أن عندهم من العلم والمعرفة والخبرة الفنية ما يميِّزون به بين الحقيقي من تلك الأشياء وبين غيره. ومن أدوى الأدواء في كتّاب الإفرنج أنهم يقيسون أئمة المسلمين على أنفسهم، فكما يعلمون من أنفسهم أنهم لا يُحجِمون عن الكذب والافتراء إذا كان وسيلةً إلى تحصيل أغراضهم؛ يظنون أن أئمة المسلمين كذلك. ولم يعلموا أن في المسلمين الآن رجالًا ــ رغمًا عن بُعدِهم من العهد النبوي، وتقصيرهم في الواجبات، وركوبهم لكثير من المحرمات ــ لأن يُلقَى أحدهم هو وولده وأهله وقبيلته في النار أحبُّ إليه من أن يكذِب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ومن ذاق طعم الإيمان، ومارس كتب الحديث والرجال، علم يقينًا أن في رجال الحديث عددًا لا يُحصى كانوا أحرصَ على الصدق منهم على الحياة،

(19/134)


وكانوا في البعد عن الكذب بحيث نرى أنه يستحيل عليهم أن يتعمَّدوه. ومع ذلك، فإن أئمة الحديث كانوا لا يكادونَ يقنَعون بالعدالة الظاهرة حتى يسألوا عنه، ويتتبعوا سيرته. قال الحسن بن صالح (1): [كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه حتى يقال لنا: أتريدون أن تزوِّجوه؟]. وإذا علموا حسن سيرته لم يكتفوا بذلك حتى يختبروا حديثه، فيسألونه عن الحديث مرة بعد أخرى. قال شعبة (2): [سمعت من طلحة بن مصرّف حديثًا واحدًا، وكنتُ كلما مررتُ به سألته عنه. فقيل له: لِمَ يا أبا بسطام؟ قال: أردتُ أن أنظر إلى حفظه، فإن غيَّر فيه شيئًا تركتُه]. ثم لا يكتفون بذلك حتى يعتبروا حديثه، فلا يعتمدونه حتى يجدوا أن غيره من الثقات قد روى عن شيخه مثل ما روى، أو أن غير شيخه قد روى عن شيخ شيخه كما روى. ثم لا يَقْنَعون بذلك في حديث أو حديثين، بل لا يُقنِعهم منه إلا أن يكون ذلك في أحاديث كثيرة، بحيث يستقر في أنفسهم أن الصدق والضبط ملكة له. على أن غالب الأحاديث الصحيحة طرقها متعددة. ومنهم: بعض الفرق الغالية، كالخوارج والروافض، فإن هؤلاء يزعمون أن مخالفيهم كفَّار؛ فلا تقبل روايتهم. والجواب عن هذا معروف. _________ (1) بعده بياض في الأصل، والنصّ في "الكفاية" (ص 93). (2) بعده بياض في الأصل. والنصّ في "الكفاية" (ص 113).

(19/135)


ومنهم: أفراد من المعتزلة والجهمية، رأوا في الأحاديث ما يرد عليهم كثيرًا من آرائهم، ولم يقنعوا بما وافقهم عليه أهل الحديث من أن الحديث إذا خالف صريح العقل لا يقبل؛ لعلمهم بأن آراءهم التي تخالف السنن ليست مبنية على عقل صريح، بل ولا قريبٍ من الصراحة، وإنما هي شبهات مشكِّكة. فاحتاجوا إلى الطعن في الأحاديث، فعَمَدوا إلى الطعن في بعض الصحابة، ثم في أئمة الحديث، حتى حاول بعضهم الطعنَ في شعبة بأنه كثير الغلط، وفي حماد بن سلمة بأنه كان له ربيبٌ زنديق يدُسُّ في كتبه. وعَمَدوا إلى بعض الأحاديث التي ظاهرها الإشكال والتعارض، فجمعوها يشنِّعون بها على أهل الحديث. وقد أجاب أهل الحديث عنها بأن منها ما لا يصح عندهم، فلا يحتاجون إلى الجواب عنه. [ص 6] ومنها ما ليس بمشكل وإن استشكله أهل الأهواء، وأمثلته في كتاب الله تعالى موجودة، وباقيها يوجد في كتاب الله عز وجل نظيره في أنه يظهر أنه مشكل أو معارض لغيره مما يثبت، فيفسَّر بنحو ما تُفسَّر نظائره من القرآن، ولا يدل ذلك على عدم صحته. وأسرف بعض الجهمية فوضع أحاديث باطلة، ورواها عن أهل الحديث لما أعجزه أن يجد في صحاح الأحاديث وفي مرويات الأثبات ما يُعلم بطلانه قطعًا. ومن وضع أهل الأهواء حديث: "إن الله تعالى خلق الفرس ثم أجراه حتى عرِقَ، فخلق سبحانه نفسه من ذلك العرق" (1). _________ (1) وضعه محمد بن شجاع الثلجي، كما في "الكامل" لابن عدي (6/ 291) و"الأسماء والصفات" للبيهقي (ص 373) و"الموضوعات" لابن الجوزي (1/ 105) و"ميزان الاعتدال" (3/ 579). قال الحافظ في "اللسان" (3/ 96): حديث إجراء الخيل موضوع، وضعه بعض الزنادقة ليشنع به على أصحاب الحديث في روايتهم المستحيل، فحمله بعض مَن لا عقل له، ورواه، وهو مما يُقطع ببطلانه عقلًا وشرعًا.

(19/136)


ومنهم: بعض الغلاة في الرأي، حاولوا أن يثبتوا أن في الأحاديث التي يصححها أهل الحديث ما هو معارض للقرآن، أو معارض للقواعد الشرعية. ولم يصنعوا شيئًا. وبالجملة، فهذه الأقوال الأخيرة ليست طعنًا في حجية خبر الواحد من حيث هو، وإنما هي محاولة توهينه في الجملة، ليسهُلَ على أولئك المحاولين ردُّ ما يخالف أهواءهم. وحقيقة الحال أنهم يحاولون أن يزيدوا في شروط قبول خبر الواحد. وذلك أن من الشروط المتفق عليها: أن لا يخالف صريح المعقول. وأهل الأهواء يحاولون زيادة: أن لا يخالف ما زعم أئمتهم ــ كجهم، والجبائي، وابن سينا، وأضرابهم ــ أنه معقول. حتى يحاول الأشاعرة أن لا يخالف قول الأشعري، ولا قول الباقلاني، إلى غير ذلك. وجرى مثل ذلك للمقلدين في الفروع. ومن الشروط المتفق عليها في الجملة: أن لا يخالف نصًّا قطعيًّا من كتاب الله عز وجل. وبعض الفقهاء حاولوا توسيع دائرة القطعية في دلالة الكتاب، وللكلام معهم موضع آخر. فأما النزاع في الجزئيات، كطعن بعض الجهمية في حماد بن سلمة؛ فليس هذا موضع الكلام فيه، ولكن هاهنا تنبيه كلي، وهو أن من هذا الضرب أن تكون أشعريًّا مثلًا، فتنظر في مسألة قد خُولِف فيها الأشاعرة، وأنت

(19/137)


تذهب إليها، وتجد مخالفيهم قد احتجوا بحديث، وأجاب بعض الأشاعرة بالطعن في بعض رواته، كحماد بن سلمة. فحقُّك إن أردتَ الله والدار الآخرة أن تقوم للحق على نفسك، فتتدبر حجة الأشاعرة، فإذا وجدتها ليست بالقاطعة فرضتَ مسألة أخرى قد ذهب إليها الأشاعرة وخالفهم غيرهم، وليست حجة الأشاعرة بالقاطعة، ولكنهم احتجوا بحديث، فنظرتَ في رواية ذلك الحديث، فإذا هو من رواية ذلك الرجل أو مثله. ثم وازِنْ بين حالَيْك: حالك وأنت تنظر في حال ذلك الرجل بسبب روايته الحديث المخالف للأشاعرة، وحالك وأنت تنظر في حاله أو في حال نظيره بسبب روايته للحديث الموافق للأشاعرة. فإذا وجدت نفسك تميل إلى توهينه في الأولى وتثبيته في الثانية، فاعلم أن لهوى نفسِك تأثيرًا شديدًا عليك، فاعرِفْه وجاهِدْ نفسك، فإن لم تستطع فعلى الأقل ينبغي أن تكُفَّ نفسك عن الكلام في مثل ذلك، وتَعذِرَ مخالفك عالمًا أنه أحد رجلين: إما رجل بريء من الهوى، يتبيَّنُ الحقَّ من حيث يصدُّك هواك عن تبيُّنِه. وإما رجل له هوى مخالفٌ لهواك، فحاله مثل حالك، فكما تجنَحُ إلى عذرِ نفسك ورجاءِ أن يُغفَر لك، وتقبيح شناعة من شنَّع عليك؛ فكذلك ينبغي أن ترى لمخالفك، فترجو له العذر والمغفرة، ولا ترضى بتشنيع عليه. وفي الحديث: " [لا يؤمن أحدكم] حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه" (1). _________ (1) أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) من حديث أنس بن مالك. وما بين المعكوفتين منهما.

(19/138)


وإن من أبين الظلم وأشنعِه أن ترجو لنفسك العذر والمغفرة، وتأبى ذلك لمن حاله مثل حالك في الجملة. ومثل هذا الظلم واقع كثيرًا، وإظهار شناعته يحتمل كلامًا أكثر من هذا، ولكن لذلك موضع آخر. وقد وجدتُ من نفسي ومن غيري دليلَ وجود الهوى المشار إليه. وحسبك أن تكون شافعيًّا مثلًا، فتجد الشافعيةَ قد احتجوا بحديث، ومخالفيهم كالحنفية قد احتجوا بآخر، وأنت تريد النظر في الحديثين، هل تجد نفسَك تتمنَّى أن تجد حديثَ أصحابك قويًّا وحديثَ مخالفيهم ضعيفًا؟ فإذا وجدتَها كذلك فهذا هو الهوى. وقد ترى أنه لا يضرك وجوده، وقد أوافقك على هذا، لكنك إذا نظرت أثر ذلك الهوى في نظرك، فحملك على الطعن في حديث الحنفية بوجهٍ يوجد مثلُه أو أشدُّ منه في حديث أصحابك، وأنت تعمى أو تتعامى عنه في حديث أصحابك، أو تدفعه أو تتأوله بدافعٍ أو تأويلٍ قد يوجد مثله أو أقوى منه لحديث الحنفية، ولكنك تعمى عنه أو تتعامى أو لا تراه شيئًا. هذا وقد انفتح لك الباب، فإن كنت تحبُّ الحق فأَنْعِم النظر واعملْ بما ينبغي. وكذلك إذا كنت عثمانيًّا تميل إلى تفضيل عثمان رضي الله عنه، ثم وجدتَ حديثين، أحدهما فيه فضيلة لعثمان، والآخر فيه غضاضة عليه، فإنك قد تكتفي في الأول بأن أئمة الحديث صححوه، ثم لا تكتفي في الثاني بمثل ذلك، بل يبقى في نفسك منه حزازةٌ، فإذا نظرتَ في حال رواته وجدته ينفرد به رجل قد عُرِف بشيء من التشيع، فتقدح فيه بذلك، ولعلك تكتفي بذلك. ولعلك لو نظرت في رواة الأول لوجدته ينفرد به رجل كان فيه ميلٌ ما عن أهل البيت.

(19/139)


بل قد يغلو بك الهوى فتتلمس الاعتذار عن راوي الفضيلة، والطعن على راوي الغضاضة. بل وقد لا يكون راوي الغضاضة موصوفًا بالتشيع، فتحاول أنت أن تدلَّ على اتصافه بذلك بوجهٍ يمكن إثبات مثله أو أقوى منه في الدلالة على ميل راوي الفضيلة عن أهل البيت. بل وقد تميل إلى الطعن في راوي الغضاضة لمجرد تفرده بذلك الحديث، وقد تحاول إبداء دلالةٍ على بُعْد أن يكون الحديث صحيحًا وينفرد به ذلك الرجل، ولا تلتفت إلى مثل ذلكَ أو أقوى منه في راوي الفضيلة. وبالجملة فهذا باب واسع جدًّا، قد انفتح لمن يريد أن يناقش نفسَه الحسابَ، ويحرِص على نجاتها من العذاب، والتوفيق بيد الله سبحانه.

(19/140)


الفصل الثاني فيما يفيده خبر الواحد الجمهور على أن خبر الواحد المستجمع للشروط، وإن كان وجوب العمل به ثابتًا قطعًا، فدلالة اجتماع الشرائط على نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ظنية قطعًا. ونظير ذلك أذان المؤذن الثقة، وفتوى العالم الثقة، وشهادة العدلين؛ وجوب العمل بها ثابت قطعًا، وإن كان يمكن في هذا المؤذن أن يؤذن قبل دخول الوقت لغلطٍ أو غيره، وفي هذا العالم أن يفتي بغير الحق لغلطٍ أو غيره، وفي هذين الشاهدين أن يكونا شهدا بغير الحق كذلك. ونُقِل عن بعض أهل العلم ــ كالإمام أحمد بن حنبل، والحسين الكرابيسي، والحارث المحاسبي ــ أنه يفيد العلم (1). وقد شنَّع بعض الناس على هذا القول، [ص 7] ولعل القائلين بأنه يفيد العلم لم يريدوا ما ظنَّه المشنِّع، وهناك معانٍ يمكن أنهم أرادوا واحدًا منها: الأول: أنه يفيد العلم بلزوم الحكم الذي تضمَّنه لمن ثبت عنده. وحاصل هذا أنك قد علمت أن الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد ــ بشرطه ــ قطعية، أي تفيد العلم، فعلى هذا أيُّ مجتهدٍ بلغه خبر واحد بشرطه فقد لزمه العمل به قطعًا. فذاك الخبر بمعونة الأدلة العامة يفيد العلم بأنه يلزم ذاك المجتهدَ الحكمُ بما تضمَّنه. _________ (1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 43).

(19/141)


ونظيره: شهادة شاهدين مستجمعة للشرائط، بأن زيدًا هو قتل عمرًا المكافئ له عمدًا وعدوانًا. فإنه إذا طلب الورثة كلُّهم القصاص كانت تلك الشهادة بمعونة الحجة القاطعة على وجوب العمل بمثلها تفيد العلم بوجوب الحكم بقتل زيد، فتدبَّر. الثاني: أنه يفيد العلم بالمعنى الذي يقوله متأخرو الحنفية، تبعًا لمشايخ العراق من متقدميهم، في نحو دلالة العموم الذي لم يخص من الكتاب أنها قطعية تفيد العلم. ويُفسِّرون ذلك بأن احتمال خلافها احتمال غير ناشئ عن دليل. يريدون أن المجتهد إذا وقف على آية تفيد حكمًا عامًّا، وبحثَ فلم يجد ما يدل على أن ذاك عام مراد به الخصوص، أو عام مخصوص= لم يبقَ بينه وبين اليقين الباتِّ إلا احتمالُ أن يكون هناك دليل لم يقف عليه، أو لم يتنبه له. فلم يعتدُّوا بهذا الاحتمال، وقالوا: إن دلالة العموم حينئذٍ قطعية تفيد العلم. فالحاصل أنهم أرادوا قطعًا وعلمًا غير المشهورينِ، ثم قالوا: لا يجوز تخصيصُ عامٍّ في القرآن بخبرِ واحدٍ؛ لأن خبر الواحد إنما يفيد الظن. فكأن القائلين بأنه يفيد العلم أرادوا دفْعَ كلام أولئك، فقالوا: بل إن خبر الواحد ــ بشرطه ــ يفيد العلم، أي علمًا كالعلم الذي يفيده العموم. وذلك أن وجوب العمل بخبر الواحد قطعي، وإنما لا يفيد هو اليقينَ لاحتمال أن بعض الرواة أخطأ أو غلط، وهذا احتمال غير ناشئ عن دليل، فكما لم يعتدُّوا بالاحتمال الناشئ عن غير دليل في دلالة العام، فكذلك في ثبوت خبر الواحد بشرطه. وتخصيص العمومات أكثر من غلط الثقات،

(19/142)


والمخالفون في حجية العام أكثر وأشهر من المخالفين في وجوب العمل بخبر الواحد. الثالث: أنه يفيد العلم اليقيني في بعض الصور، كالمتلقَّى بالقبول، والمحتفَّةِ به قرائن. والله أعلم.

(19/143)


[ص 8] الفصل الثالث المعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد لا نزاعَ أن مدار وجوب العمل بخبر الواحد على إفادته الظن. وقد دلَّ عليه قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. فعلّل وجوب التبيُّن في خبر الفاسق بأن العمل به بلا تبيُّن أخذٌ بجهالة، والجهالة عدم العلم، وهي هاهنا عدمُ العلم الذي هو الظن؛ لأن الآية قد دلّت على أنه لا يجب التبيُّن في خبر العدل، فدلَّ ذلك أن الأخذ به ليس أخذًا بجهالة، وقد عُلِم أنه يفيد الظن. ولكن هنا احتمالان: الأول: أن تكون إفادة الظن هي العلة. الثاني: أن تكون هي الحكمة، والعلة ضابطها، وهو نفس إخبار الثقة. وذكر بعض أهل العلم أن الأول قد يُنقَض بخبر بعض الصبيان المميّزين، وبعض الكفّار، وبعض الفسّاق. فقد يكون الصبي المميّز أديبًا ذكيًّا نشأ على الصدق والأمانة والتدين، يُعرف منه شدةُ الحرص على الصدق والتباعد عن الكذب. وكذلك بعض الفسّاق بنحو شرب الخمر، قد يكون معروفًا بالصدق، شديدَ الحرصِ عليه والتباعدِ عن الكذب في أمور الناس، فضلًا عن الكذب على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وكذلك بعض الكفار قد يكون معروفًا بتحرِّي الصدق وتجنُّب الكذب.

(19/144)


وأجاب: بأن ردَّ خبر الصبي والفاسق والكافر مطلقًا من تخصيص العلة، وهو غير قادح عند جماعة من علماء الأصول، كما هو رأي الحنفية. قال عبد الرحمن: الحق أن العلة لا بدَّ من سلامتها من النقض، لكن قد ينتفي الحكم مع وجودها، لفقد شرطٍ أو لوجود مانعٍ منعَ من تأثيرها. فإذا عُرِف في الصورة التي ينتفي فيها الحكم مع وجود العلة أنه انتفى فيها شرطٌ أو وُجِد مانع= لم يكن ذلك نقضًا. وذلك كالزوجية علة للإرث، ولا ينقضها أن أحد الزوجين إذا قتل الآخر لم يرِثْه، لأن ذاك لمانع، وهو القتل. فأما أن تنتفي مع وجودها بشروطها وعدمِ مانعٍ، فلا يجوز. فإن اعتُرِض على علة بمثل هذا فهو قادح فيها البتةَ. فإن كانت منصوصةً فلا تخلو عن وجوه: أحدها: أن يكون هناك وصف لا بد أن يُضمَّ إليها، وهو غير موجود في صورة النقض. الثاني: أن يكون لها شرط كذلك، أي غير موجود في صورة النقض. الثالث: أن يكون في صورة النقض مانع. وقبل أن يتبين واحد من هذه الثلاثة لا يمكن الجزمُ بأنها علة تامة. وعلى هذا، فقد يجاب عن المذكور بجواب أصح مما ذكر: فيقال: أما الصبي فلا نسلِّم أن خبره يفيد الظن في الأمور المهمة، وذلك أن المانع من الكذب إمّا خشية الله والخوف من عذاب الآخرة، وإمّا الخوف من الضعة عند الناس، والصبي خالٍ من الأول، لعلمِه أن القلم مرفوع عنه. وعن الثاني لأنه لم يبلغ المبلغ الذي يكون للشرف عند صاحبه

(19/145)


قيمةٌ، بل يرى أنه إن تبيَّن كذبُه فالناس يعذرونه بالصغر. وأما الفاسق فقد تبين بظهور فسقه ضعفُ خشيته من الله، وخوفِه من عذاب الآخرة، وضعفُ خوفه من الضعة عند الناس. ومع ذلك، فالفسق مانع من قبول خبره، زجرًا له وتنفيرًا له ولغيره عن الفسق؛ لأن الإنسان إذا رأى أن الفسق يحطُّه عن درجة من يُقبَل خبره كان ذلك مما يردعه ويزجره. وأما الكافر فلا يصدُّه عن الكذب على المسلمين خشيةٌ من الله ولا من عذاب الآخرة. وخشية الضعة عندهم إذا ظهر كذبه يعارضها رجاؤه الرفعةَ عند إخوانه من الكفار؛ لأنه هو وهم أعداء للإسلام وأهله، ومع ذلك فهذه العداوة مانع من قبول خبره، والمانع الذي ذكرناه في الفاسق قائم هنا أيضًا. [ص 9] وقد يُخدَش في بعض هذا الجواب بما قد يمكن دفعه، وقد يُعترض بغير ما ذكر، وبسط ذلك يطول. وعلى كل حال، فلا يخلو الاحتمال الأول من خدشةٍ، فلننظر في الاحتمال الثاني. فأقول: قد يشهد له ما عُرف من تفاوت درجات الظن، ومن ضبط الشارع له في الشهادة ضوابط مختلفة، تارة بأربعة رجال بشرطهم، وتارة برجلين كذلك، وتارة برجل وامرأتين، إلى غير ذلك. وقد يُعترض عليه باتفاق أهل العلم في الجملة على رد بعض أخبار الثقات، والحكمِ عليها بأنها خطأ، وتوقفهم فيها، مع اختلافهم في ما علل بالمظنة، وهي ضابط الحكمة: هل يثبت الحكم مع ثبوته حتى في الصور التي يتبين فيها عدم الحكمة، كلحوق نسب ولد المرأة بزوجها الذي لم يجتمع بها قطعًا؟

(19/146)


والجواب: أنه إن صح أن من المجتهدين من كان يجزم بهذه القاعدة بإطلاق، وهي أن العبرة بوجود الضابط، وإن علم انتفاء الحكمة قطعًا= فلعله غفل عن أصله هنا، أو رأى أن العلة هنا هي مجرد إفادة الظن، أو رأى زيادة وصف في الضابط، كأن يقال: خبر الثقة خبرًا لم يتبين خطؤه. وهذا معنى قول أهل الحديث: "من غير شذوذ ولا علة قادحة". فالشذوذ والعلة القادحة بمعنى قولي: "لم يتبين خطؤه". فالذي يتحرر رجحان الاحتمال الثاني، لكن بهذا القيد، والله الموفق.

(19/147)


الفصل الرابع المقابلة بين الرواية والشهادة قد تقرر في الشهادة أنه لا يثبت الزنا إلا بأربعة شهود بشرطهم، وفي الدماء ونحوها برجلين بشرطهما، وفي الأموال برجلين أو رجل وامرأتين بشرطهم، واكتفى جماعة فيها برجل ويمين المدعي، واختلفوا في نحو الولادة، فاشترط بعضهم أربع نسوة بشرطهن، واكتفى بعضهم بامرأة واحدة بشرطها. واستشكل بعضهم التخفيف في الرواية بالاكتفاء بخبر واحدٍ بشرطه: رجلٍ أو امرأةٍ، مع أن القياس عكسه؛ فإن الشهادة إنما تثبت بها قضية واحدةٌ، وأما الراوية فإنها تكون دينًا يُعمل به إلى يوم القيامة، في قضايا لا تحصى. ونقل عن بعض المتكلمين أنه يشترط في الرواية اثنان كما في الشهادة. والجواب من أوجه: الأول: أن الزنا ــ مثلًا ــ يتعارض فيه أمران: الأول: اقتضاء الحكمة للزجر عنه. الثاني: كراهية أن يُحدَّ من ليس بزانٍ. فالأول يقتضي أن لا يُشترط في ثبوته القطعُ أو ما يقرب منه؛ لأنه إذا اشتُرِط ذلك لم يكد يقع حدٌّ في الأرض، ولم يحصل مقصود الزجر. والثاني يقتضي الاحتياط في ثبوته، حتى لا يُحدَّ من ليس بزانٍ. وعلى هذا فقِسْ.

(19/148)


وإذا نظرتَ وجدت أن هذين الأمرين المتعارضين ليسا على درجة واحدة في جميع الأمور. فأما في الزنا فالثاني أرجح من الأول؛ لأن المفسدة العظمى في الزنا إنما هي في المجاهرة به، فأما وقوعه في الجملة فهو وإن كان فسادًا إلا أنه لا ينافي حكمة الخلق، بل يوافقها. ولما كان في ثبوته عند الحاكم وإقامةِ الحد إعلانٌ له صار ذلك في حكم المجاهرة، فاقتضت الحكمة المنعَ من ذلك ما لم تحصل المجاهرة بغيره. فاشتُرِط أربعة رجال بشرطهم؛ لأن الغالب أن الزانيين بموضع يحتمل أن يكون فيه أو يطرقه أربعة بتلك الشروط= قد جاهرا أو كادا. وأما القتل ــ مثلًا ــ فالأول أرجح؛ إذ لو اشتُرِط في شهوده أن يكونوا أربعة مثلًا لعزَّ إثباتُ القتل، وإذا عزَّ إثباته والقصاص به استرسل الناس في القتل، وجرَّ القتل إلى القتل، وهكذا، وذلك أشدُّ من الاسترسال في الزنا، مع أن القتل أشدُّ من الزنا. فلو فرضنا بلدين متساويين في السكّان وأخلاقهم وطباعهم، في أحدهما حاكم يُثبِت القتل بشاهدين ويُقيم به القصاص، وفي الآخر حاكم لا يُثبته إلّا بأربعة شهود، وأنه في سنة من السنين قُتل في البلد الأول عشرة، وثبَّت القاضي القصاصَ في سبع، وقع العفو في قضيتين، وأقيد خمسة. [ص 10] فكان مجموع من قُتِل في ذلك البلد خمسة عشر. ثم حدَسْنا كيف الحال في البلد الثاني= لظننا (1) أنه وقع فيه من القتل عدوانًا أكثر من هذا، حتى لو قال قائل: لعله قُتِل فيه عدونًا أربعون أو خمسون لما أبعد. وأما الأموال فالتظالم فيها أكثر من القتل، وقد يطول عليها العهد ويموت _________ (1) جواب "فلو فرضنا ... ".

(19/149)


بعض الشهود، مع أنه ليس هناك فرق كبير بين رجلين ورجل وامرأتين. وإنما لم تُقبل شهادة النساء في الزنا والقتل ونحوه لقلة تثبتهن، وسرعة تأثرهن، وغير ذلك مما عبِّر عنه في الحديث بنقص عقولهن. فأما الاكتفاء بشاهد ويمين المدعي فمختلف فيه، إلا أن ما عورض به الدليل على ذلك يختص بما إذا كان أحد الخصمين مدّعيًا والآخر منكرًا، فأما إذا تداعيا شيئًا ليس في يد أحدهما، فأقام أحدهما شاهدًا وأراد أن يحلف معه فالحكم بذلك قوي جدًّا. فأما الرواية فالحاجة داعية إلى معرفة الحكم الشرعي للعمل به، وهذا يقتضي التوسعة في ما يُعرَف به. وعارض ذلك خشيةُ غلطِ الراوي، أو أن يكون في نفس الأمر بخلاف ما ظهر من عدالته، فيُخشى من التوسعة أن يدخل في الدين ما ليس منه، ويُخشى من التشديد أن يتعذر على كثير من الناس ثبوت الحكم الشرعي، فيلزمه الحكم بخلافه أو التوقف. والموازنة بين هذين مما يصعب على الناظر، فلا يسعُه إلا أن يَكِلَ الأمر إلى عالم الغيب والشهادة الحكيم الخبير. [ص 11] الوجه الثاني: أن العارف إذا نظر وتدبر تبين له أن الظن الحاصل بخبر الثقة الواحد الذي يقبله أئمة الحديث لا ينقص عن الظن الحاصل بشهادة العدلين التي تقضي بها الحكّام، بل لعله أقوى منه، وذلك لأمور: الأول: أن الدواعي إلى الكذب أو التساهل في الحديث أقلُّ وجودًا وأضعف تأثيرًا في النفوس، ولاسيما نفوس من جمع شرائط القبول، بخلاف الدواعي إلى الكذب أو التساهل في الشهادة، فإنها كثيرة الوجود

(19/150)


قوية التأثير حتى في نفوس مَن ظاهرُهم العدالة، وذلك كالعداوة والبغضاء المحتمل وجودها بين الشهود والمشهود عليه، وإن لم تظهر، وكالميل والعصبية منهم للمشهود له، وكالرشوة التي يحتمل أنهم أخذوها منه. الأمر الثاني: أن شرائط قبول الرواية للحديث أشد وأحوط من شرائط قبول الشهادة، كما يُعلم بمراجعة الموضعين. ونخص بالذكر منها التعديل، فإن معدِّل الشاهد يكتفي بأنه قد جاوره أو عامله أو رافقه في السفر فلم ير منه ما يُسقط عدالتَه، وأما معدِّل الراوي فإنه لا يكتفي بذلك حتى ينظر في كثير من أحاديث الراوي، وينظر عمن روى، وكيف روى، إلى غير ذلك مما يعلم من محله. الأمر الثالث: أن الرواة غالبًا من أهل العلم والدين الذين اعتنوا بطلب العلم، وكثرت مجالستهم لأهله، وأما الشهود فيكثر أن يكونوا من عامة الناس. الأمر الرابع: أن معدِّلي الرواة أئمة مشهورون بالعلم والدين والتحقيق والزهد والتقوى، ومعدِّلو الشهود ليسوا في الغالب كذلك. الأمر الخامس: أن المنفِّرات عن الكذب والتساهل في الرواية عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أكثر وأشدُّ من المنفِّرات عن الكذب والتساهل في الشهادة: أولًا: أن الكذب على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كفر، كما ذهب إليه جماعة من أهل العلم، وأوضحتُه في موضع آخر (1)، وليس الكذب في الشهادة كذلك. ثانيًا: لأن الراوي يعلم عظم المفسدة إن كذب أو تساهل، وهي أن يُتديَّن بما رواه ويُعمل به ويُحكم به في قضايا لا تحصى، والشاهد يعلم خفة المفسدة إن كذب أو تساهل في شهادته، وإنما هي ــ مثلًا ــ أن يحكم لهذا _________ (1) في "كتاب العبادة".

(19/151)


الرجل بهذه الدار التي لعلها ليست له، وكلما عظمت المفسدة في الأمر كان الامتناع عن ارتكابه أشد. ثالثًا: أن الإنسان يكره أشدَّ الكراهية أن يظهر أنه كذب أو تساهل، والمحدث أبلغُ في ذلك من الشاهد؛ لأن الغالب في راوي الحديث أن تكون الرواية هي مهمّته التي يصرف أكثر عمره فيها، وفضيلته التي تُبنى عليها مكانته بين الناس، وهو يعلم أن الكذب أو التساهل يُبطل عليه تلك الفضيلة، ويُضيع عليه ذلك التعب كله، ويُسقطه من عيون الناس، ويجعله لُعْنةً فيما بينهم. ولهذا جاء عن ابن المبارك أنه سئل عن بعض من روى، فقال: لم يكن الحديث بِيْشَقَه (1). يعنى لم يكن صناعته التي يعتدُّ بها، وإنما اتفق أن روى حديثًا أو حديثين مثلًا. وأما الشهود فالغالب أن لا تكون الشهادة صناعتهم، فكراهيتهم لظهور أنهم كذبوا أو تساهلوا أضعفُ. وكان هذا [12] من جملة الأسباب التي حملت القضاة في العصور السابقة على أن يتخذوا شهودًا معينين تكون حرفتهم الشهادة. رابعًا: أن الطرق التي يوقف بها على كذب الراوي أو تساهله كثيرة، لا يمكنه أن يحيط بها حتى يأمن من ظهور كذب أو تساهلٍ وقع منه، بخلاف الشهود. _________ (1) انظر "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص 149). و"بيشق" بمعنى الصنعة تعريب الكلمة الفهلوية "پيشك"، وهي بالفارسية الحديثة: "پيشه".

(19/152)


خامسًا: أن المقت الذي يتوقعه الراوي إذا ظهر كذبه أو تساهله أشدُّ من المقت الذي يتوقعه الشاهد؛ لأن قولهم: "كذب على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " أفحشُ وأغلظ من قولهم: "شهد زورًا". ولأن كذب الشاهد إن ظهر قد لا يطلع عليه إلا القاضي وبعض من حضر، وكذب الراوي إذا ظهر يتناقله أهل العلم، ويكتبون به إلى البلدان، ويخلِّدونه في الكتب. الوجه الثالث: أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ الدين. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. والذكر يتناول السنة، إن لم يكن بلفظه فبمعناه؛ لأن المقصود من حفظ القرآن هو أن تبقى الحجة قائمة، بحيث ينالها من طلبها إلى يوم القيامة؛ لأن الله تعالى إنما خلق الخلق ليعبدوه، ولذلك بعث الأنبياء، وأنزل الكتب، وجعل محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خاتم الأنبياء، فلا بد أن تُحفظ شريعته إلى يوم القيامة. وقد قيل لابن المبارك (1): هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. وقال الله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17 - 19]. فالبيان الذي تكفَّل الله تعالى به يعمُّ البيانَ للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يُفهِمه ما يَغمُض من معاني القرآن بإلهام أو وحي، والبيانَ للناس بلسانه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتلك السنة. _________ (1) تقدم.

(19/153)


قال ابن جرير: "ثم إنَّ علينا بيان ما فيه من حلاله وحرامه وأحكامه لك مفصلةً ... عن ابن عباس: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يقول: حلاله وحرامه، فذلك بيانه، ... عن ابن عباس: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قال: تبيانه بلسانك". "تفسيره" (29/ 103) (1). وإذ كان كذلك، فمن المحال أن يُلصَق بالشريعة ما ليس منها على وجهٍ لا يمكن أهلَ العلم نفيُه عنها؛ لأن ذلك منافٍ للحفظ الذي تكفّل الله عز وجل به. غاية الأمر أنه قد يشتبه الأمر على بعض أهل العلم، ويبينه الله تعالى لغيره. فإذا استمر الحال على توثيق رجل ولم يطعن فيه أحد بحجة، فقد يقال: إنه من المحال أن يكون ذلك الرجل ممن قد يكذب في الحديث. إذ لو كان كذلك لفضحَه الله تعالى؛ لِما يلزم من سَترِه من التصاقِ مرويِّه بالشريعة، وهو خلاف ما تكفَّل الله عز وجل به من حفظِهَا. نعم، يبقى احتمال الغلط في بعض ما روى، ولكنه لا بد أن ينبه الله عز وجل عليه بعض أهل العلم. فإن استمر الحال على إثبات حديث ولم يتبين فيه خطأ فقد يقال: إنه صار مقطوعًا بصحته. وهذا بخلاف الشهادة؛ فإنها قد تكون باطلة في نفس الأمر ولا يفضحها الله عز وجل؛ لأنها في واقعة واحدة لا تقتضي الحكمة أن لا يقع الحكم بها، كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إنكم تختصمون إليَّ [ولعلَّ بعضكم ألحنُ بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحقّ أخيه شيئًا بقوله فإنما أقطعُ له _________ (1) (23/ 504) ط. هجر.

(19/154)


قطعةً من النار، فلا يأخذْها"] (1). فأما ما ورد من تسديد الله عز وجل للقاضي العدل (2) فهو حق، ولكنه إنما يقتضي أن لا يقع منه ما يأثم به، وغايته أن لا يقع منه غلطٌ في الحكم، والقاضي إذا تداعى عنده رجلان ولم تكن للمدعي بيِّنة، فقضى القاضي بيمين المدعى عليه، فحلف، فهذا حكمه حق قطعًا، سواء أكانت يمين المدعى عليه بارَّة أو فاجرة. فهكذا إذا شهد عنده رجلان وعُدِّلا، فقضى بشهادتهما، فحكمه حق قطعًا، سواء أكان الشاهدان صادقين في نفس الأمر أم لا. والله الموفق. _________ (1) أخرجه البخاري (2680) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة. وترك المؤلف بياضًا بين المعكوفتين. (2) انظر: "نصب الراية" (4/ 68)، و"البدر المنير" (9/ 528).

(19/155)


[ص 13] الباب الثاني في شرائط حجية خبر الواحد هي على ثلاثة أنواع: النوع الأول: ما يشترط في المخبر حال الإخبار. قال الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. دلت الآية بمنطوقها على وجوب التبيُّن في خبر الفاسق، فعُلِم من ذلك أنه لا يكفي للحجة، وبمفهومها على أن خبر من ليس بفاسق على خلاف ذلك، فعُلِم منه أنه يكفي للحجة. وظاهر الآية أن المدار على الفسق في نفس الأمر، وعليه فلا يتبين لنا الحكم إلا فيمن أخبر وهو متلبس بمفسِّقٍ نعلمه، فأما غيره فلا نعلم حاله؛ لأننا إن كنا قد صحبناه طول عمره ولم نر منه إلا الخير والصلاح فإننا لا ندري لعله ــ إذا لم يكن معصومًا ــ يرتكب في السرِّ ما يفسُق به، بل لعله فاسق بنفس ذلك الخبر على احتمال كذبه وتساهله. ومن علمناه قد ارتكب عدة مفسِّقاتٍ ولكنه حالَ الإخبار غيرُ متلبس بشيء منها، لعله قد تاب منها. والحاصل أنه لو كان المراد الفسق في نفس الأمر على التحقيق لكان الحكم منوطًا في هذا الثاني بما لا يمكننا علمه، وهذا منافٍ للحكمة، غير معهود في الشريعة، بل المعهود في الشريعة في الأخبار ــ كخبر المؤذن وغيره، وفي الشهادات، وفي سائر الأحكام ــ أن المدار على الظاهر، فوجب

(19/156)


حمل الآية على أن المراد الفسقُ في نفس الأمر بحسب ما يظهر لنا. وقد دلَّت الآية بفحواها على ذلك، لأن المعقول منها أن المدار على كون الخبر موثوقًا به يغلب صدقه. ونحن نعلم أن من عُلم فسقه ولم تظهر توبته لا يحصل الوثوق بخبره، ولا يغلب صدقه، وأن من صحبناه وخَبَرْناه فلم نطلع منه إلا على الصدق وأعمال الخير والصلاح فإنه يحصل الوثوق بخبره، ويكون الغالب على الظن صدقُه. وكذلك من لم نَخْبُره نحن، ولكن أخبرنا من خَبَرْناه أنه قد خَبَرَه فلم يرَ منه إلا الخير، وهكذا وإن تعددت الوسائط على هذا الشرط. ويبقى النظر فيمن لا خَبَرْناه ولا أُخبِرْنا عنه، فاعلم أن لمن بلغه خبرُ مثلِ هذا حالين: الأولى: أن يمكنه البحثُ والسؤال عن حال ذلك المخبر، فيلزمه ذلك، ويتوقف في الحكم حتي يبحث؛ لأنه إذا وجب التبيُّن في خبر من عُلِم فسقه فهذا أولى. ولا يعمل بخبره لأنه مشكوك، ولا يحصل الوثوق بخبره. الحال الثانية: أن لا يمكن البحث ولا السؤال. [ص 14] فقد يقال: إن مفهوم الآية أنه يُشترط للقبول أن يكون المخبر غير فاسق في نفس الأمر. وقدّمنا أن المراد أن يكون كذلك فيما ظهر لنا بالخبرة أو إخبار الثقة، وهذا مفقود هنا. ويؤكِّده أن المدار كما مرَّ على الوثوق، وهذا لا يحصل به وثوق. وقد يُدفَع هذا بأن حصْر الدلالة على عدم الفسق في نفس الأمر في الخبرة أو إخبار الثقة غير مسلَّم. لماذا لا يُكتفَى بالأصل والظاهر؟

(19/157)


أما الأصل فإن أطفال المسلمين يولدون غير متلبسين بمفسِّق، فيبقى الحكم على ذلك ما لم يثبت خلافه. وأما الظاهر فلأن غالب المسلمين في العصور الأولى عدول. وما ذكرتم من عدم الوثوق فيه نظر من وجهين: الأول: أن لنا أن نقول: قد دلت الآية على قبول خبرِ من كان في الحكم غير فاسق. ونختار أن العلة هي إخبار من ذكر، لا الظن. غاية الأمر أنه قد يُشترط مع إخبار من ذكر أن لا يتبين خطؤه، فإذا حصل هذا فقد لزم الحكم وإن لم يتحقق الظن. وذلك كما قالوا: إن القصر في السفر أصل الحكمة فيه المشقة، ولكنه ضُبِط بالسفر، ثم صار المدار على السفر وإن لم تتحقق المشقة. الوجه الثاني: أننا نشاهد في زماننا هذا أن من لم نعرف حاله يخبر بخبر، فيحصل لنا وثوق بالخبر في الجملة إذا لم تكن هناك قرائنُ تدفعه. فلَأن يحصلَ مثل هذا الوثوق ــ وأقوى منه ــ في المخبر من أهل القرون الأولى أولى. نعم، قد يتزلزل الوثوق بقرائن، كأن يقال: إن هذا المخبر انفرد بهذا الخبر عن الزهري مثلًا، وقد كان الزهري حريصًا على نشر الحديث، وله تلامذة كثيرون معتنون بالرواية، فمن البعيد أن يكون الخبر صحيحًا عن الزهري ولا يُروى إلا من طريق هذا المجهول. ولكن هذا لا يضرنا؛ لأننا إنما ندعي حصول الوثوق عند التجرد عن القرائن، فأما مع القرائن المنافية فقد يتزلزل خبر من اتفق الناس على توثيقه.

(19/158)


وقد يجاب عن هذا فيقال: أما الأصل المذكور فقد عارضه أصل آخر، وهو أن البالغ تلزمه أفعال يفسُق بتركها، كالصلاة والصوم، والأصل عدم فعله لها. ويقدح في ذاك الأصل أنه طرأ على المحل ما هو مظنة قوية لتغيُّر الحال، وهو الهوى والشهوة والكسل. وفي الحديث: "حُفَّت الجنةُ بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات" (1). وأما الظاهر المذكور فلا يتبين فيمن بعد الصحابة غلبةُ العدالة في المسلمين، وهذا حذيفة يقول: " ... " (2). وأما قولكم: "قد دلت الآية" إلى قولكم: "فقد لزم الحكم وإن لم يتحقق الظن"= فمسلَّم إذا سُلِّم لكم أن العلة هي ما ذكرتم، ولكنه لا يفيدكم مع ما ذكرنا. وأما قولكم: "إننا نشاهد في زماننا هذا ... " فغير مسلَّم، وإنما يحصل لنا وثوق ما إذا احتفَّتْ بالخبر قرائنُ تقوِّيه، كأن يكون المخبر حسن الهيأة، والأمر الذي أخبر به مظنة الوقوع، وكانت القضية بحيث يغلب أن يطلع عليها جماعة تسهل مراجعتهم، أو كانت خبرًا عن أمر يتيسر للسامعين الاطلاعُ عليه بعد الخبر؛ فإنه قد يبعد أن يكذب الرجل مع علمه أو خشيته أن _________ (1) أخرجه مسلم (2822) من حديث أنس بن مالك. (2) ترك المؤلف هنا بياضًا، وهو يشير إلى حديث رفع الأمانة الذي أخرجه البخاري (6497) ومسلم (143). وفيه من قول حذيفة: "ولقد أتى عليَّ زمانٌ وما أُبالي أيكم بايعتُ، لئن كان مسلمًا ردَّه عليَّ الإسلام، وإن كان نصرانيًّا ردَّه عليَّ ساعيه. فأما اليوم فما كنتُ أبايعُ إلا فلانًا وفلانًا".

(19/159)


يظهر كذبه بعد قليل، إلى غير ذلك من القرائن. فإذا فرضنا تجردَ الخبر عن القرائن التي تعضُده أو تُبعِده، أو وُجِدتْ معه قرائن متعارضة، فغاية ما يحصل به احتمالٌ لا وثوق معه، ولذلك لا يَبني العقلاءُ على مثله مصالحَ دنياهم، ومثلُه أو أقوى منه قد يحصل بخبر الفاسق؛ ولهذا أمرت الآية بالتبيُّن فيه، ولم تأمر بعدم الالتفات إليه البتة، فافهم. [ص 15] فصل حُكي عن قوم الموافقةُ على اشتراط التعديل، لكن قالوا: إذا روى العدل عن رجل ولم يجرحه فقد عدَّله. قال الخطيب في "الكفاية" (ص 89): "احتج من زعم أن رواية العدل عن غيره تعديل له، بأن العدل لو كان يعلم فيه جرحًا لذكره، وهذا باطل؛ لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته، ... كيف وقد وُجِد جماعة من الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم مع علمهم بأنها غير مرضية، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب ... ". ثم أسند إلى الشعبي قال: "حدثني الحارث وكان كذابًا"، وآثارًا أخرى نحوه، ثم قال (1): "فإن قالوا: هؤلاء قد بينوا حال من رووا عنه بجرحهم له، فلذلك لم تثبت عدالته، وفي هذا دليل على أن من روى عن شيخ ولم يذكر من حاله أمرًا يجرحه به فقد عدَّله= قلنا: هذا خطأ؛ لما قدّمنا ذكره من تجويز كون الراوي غير عارف بعدالة من روى عنه، ولأنه لو عرف جرحًا منه _________ (1) (ص 91).

(19/160)


لم يلزمه ذكره، وإنما يلزم الاجتهاد في معرفة حاله العامل بخبره، ولأن ما قالوه بمثابة من قال: لو علم الراوي عدالة من روى عنه لزكّاه". ثم أسند إلى أبي غسّان أنه قال: نا جرير عن أبي فهر قال: صليت خلف الزهري شهرًا، وكان يقرأ في صلاة الفجر: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فقلت لجرير: من أبو فهر هذا؟ فقال: لص ... ". ثم أسند إلى شعبة قال: "سفيان ثقة يروي عن الكذابين". وعن عمرو بن علي: "قال لي يحيى: لا تكتبْ عن معتمر إلا عمن تعرف؛ فإنه يحدِّث عن كلٍّ". ثم قال: "فإن قالوا: إذا روى الثقة عمن ليس بثقة ولم يذكر حاله كان غاشًّا في الدين، قلنا: نهاية أمره أن يكون حاله كذلك مع معرفته بأنه غير ثقة، وقد لا يعرفه بجرح ولا تعديل، فبطل ما ذكروه". قال عبد الرحمن: أما من بيَّن جرحَ من روى عنه أو أنه لا يعرفه، فلا كلام فيه، وكذلك من لم يبيِّن مرةً وقد بيَّن في أخرى؛ إذ الظنُّ به أنه اتكل على بيانه السابق، ولم ير حاجة لإعادة البيان عند كل رواية، وقد يكون هذا حال شعبة في روايته عن جماعة قد قدح فيهم، مع ما اشتهر عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة. يعني ــ والله أعلم ــ فإذا روى عن غير ثقة فإنه يبين ذلك. وكذلك من روى عن رجل قد اشتهر بين الناس أنه مجروح، وإن لم يُنقل عنه أنه جرحه؛ إذ لعله اكتفى باشتهار حاله. فأما من روى ــ ولم يبيِّن ــ عن رجل لم يجرحه هو ولم يشتهر بالجرح فالكلام فيه.

(19/161)


احتج القائل إن ذلك تعديل بأنه لو كان مجروحًا لبيَّن الراوي ذلك، وإلا كان غاشًّا في الدين. وأجاب الخطيب بثلاثة أجوبة: الأول: أنه قد يكون الراوي جاهلًا بحال الشيخ، لا يعرِف منه عدالةً ولا جرحًا. الثاني: أنه لو علم منه جرحًا لم يلزمه بيانه، وإلا للزمه إذا روى عن عدل أن يبين عدالته. الثالث: أن جماعة من أهل العلم قد رووا عمن علموا جرحه ولم يجرحوه. وقد يُدفَع الجواب الأول بأنه لو كان لا يعرف حاله لبيَّن ذلك، نصيحةً لله ولدينه ولعباده، وفي الحديث: "الدين النصيحة" (1). وبهذا عُلِم ما في الجواب الثاني. أما قوله: "لو لزمه ذلك لزمه إذا روى عن عدل أن يبيِّن" فمدفوع بأن ظاهر الراوية مع السكوت يُفهِم العدالة، فجاز الاكتفاء بذلك. وأما الجواب الثالث فغاية ما يثبت به فعل بعض من العلماء، فحال ذلك كحال التدليس، [ص 16] وعامةُ الناس على أن رواية الثقة عمن عاصره ــ وشرطَ البخاريُّ وشيخه ابن المديني مع المعاصرة اللقاء ــ محمولةٌ على السماع وإن لم يصرِّح به، إلا أن يُعرف بالتدليس. وذلك كأن يقول البخاري: حدثنا الحميدي عن سفيان. فهذه الصيغة عندهم مثل قوله: حدثنا الحميدي _________ (1) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري.

(19/162)


قال حدثنا سفيان. قالوا: لأن الحميدي قد لقي سفيان، ولم يُتَّهم الحميدي بالتدليس، وهو ثقة، والظاهر من حال الثقة التنزهُ عن التدليس. ثم قالوا: التدليس لا يُسقِط الثقة، فإذا صرح المدلس الثقة بالسماع فهو حجة. وحاصل كلامهم أن التدليس ــ من جهة أنه مخالفٌ للأمانة والنصيحة مخالفةً مّا ــ لا يجوز أن يُتهم به من لم يثبت عنه من الثقات، ومن جهة أن تلك المخالفة خفيفة لا يُسقِط العدالة. فكذلك نقول: إن الرواية عن غير ثبتٍ حالها كحال التدليس، فهي مخالِفة للأمانة والنصيحة مخالَفةً مّا، فلا يُتهم بها من لم تثبت عنه، ولا تسقط العدالة. وقد عقد الخطيب نفسه أبوابًا للتحذير من الرواية عن غير الأثبات. راجع "الكفاية" (ص 31، وص 32 - 34، وص 132، وص 135، و 156). [ص 17] هذا، واعلم أن المعروف عن غالب أهل العلم من التابعين وأتباعهم تجنُّب الرواية عمن لا يُعتدُّ بروايته، لكونه كذابًا أو مشهورًا بالفسق أو شديد الغفلة، فإن اضطُرَّ أحدهم إلى الرواية عمن هذا شأنه بيَّن حاله، إلا أن يكون المروي عنه مشهورًا بذلك، فقد يستغني الراوي عنه بالشهرة عن البيان. فالثقة المعروف بالعلم من التابعين أو أتباعهم إذا لم يوصف بالتساهل في الرواية عمن لا يُعتدُّ به، وكذلك الثقة المشهور ممن بعدهم إذا عُرِف بتجنبه الروايةَ عمن لا يُعتدُّ به= إذا روى أحد هذين عن شيخ ولم يبيِّن حاله،

(19/163)


ولم يشتهر ذاك الشيخ بالكذب أو الفسق أو شدة الغفلة؛ فهو عند الراوي عنه إما عدل وإما مجهول الحال. ثم قد تقوم قرينةٌ تُبعد الثاني: منها: أن تتعدد رواية الثقة عن ذاك الشيخ، فيظهر من ذلك أنه طال أو تعدد اجتماعه به. ومنها: أن يذكر الثقة أنه كان جاره أو نحو ذلك. ومنها: أن يروي عن ذلك الشيخ ثقتان؛ إذ قد يبعد أن لا يعرفا ولا واحدٌ منهما حالَه. وهذا، والذي عليه جهابذة الحديث في الغالب هو أن ينظروا فيما روى هذا الشيخ، ويعتبروا روايته بما روى الثقات المشهورون، وبما عُرِف من الشريعة، فإن كان إنما روى حديثًا أو حديثين نظروا، فإن كان قد روى ذلك الحديث أو الحديثين غيرُه من الثقات قبلوه، وربما أخرجوا له في الصحيح على سبيل المتابعة والاستشهاد. وإن لم يروِ غيرُه من الثقات مثلَ ما روى، ولكن ليس هناك قرينة تُوهِن مرويَّه توقَّفوا فيه، وربما أخرجوا له فيما ليس فيه حكم. وإن كانت هناك قرينة تُوهِن مرويَّه غمزوه بأنه روى ما لا يتابع عليه. فإن روى ما يخالف رواية الثقات أو يخالف ما عُرِف من الشريعة ضعفوه. فأما من كثرت روايته ولم يتكلم فيه أهل العلم من أهل عصره وما قرب منه فإن في ذلك دلالةً على أنه عدل؛ لأن الظاهر أن أهل العلم من أهل بلده وما قرب منه قد عرفوا أنه يروي، وذلك يدعوهم إلى تعرُّفِ حاله، فيبعُد

(19/164)


لذلك أن يستمروا على الجهل بحاله، فالظاهر أنهم عرفوا حاله بالعدالة؛ إذ لو عرفوه بالجرح لما سكتوا عنه. ولكن الجهابذة لا يكتفون بهذا لوجهين: الأول: أنه قد يكون عدلًا غير ضابط. الثاني: أن دلالة ما تقدم على عدالته ليست بقاطعة. فلهذا يعتمد الجهابذة النظر في ما رواه على نحو ما تقدم، فإن وجدوا غالب حديثه موافقًا لما رواه الرواة حكموا بأنه ثقة، وإلا ضعَّفوه. وللتوثيق والتضعيف مراتب بحسب مبلغ أحاديث الشيخ، وما وافق فيه الثقات وما انفرد به أو خالف. وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في العدالة.

(19/165)


[ص 18] فصل الشرط الثاني: الضبط من الواضح أن الكذب قد يكون عمدًا ويكون خطأ، وأنه قد يكون كليًّا ويكون جزئيًّا. وأريد بالكلي: أن يكون الخبر كله كذبًا سندًا ومتنًا، وبالجزئي: أن يكون فيه ما هو حق وما هو باطل، فقد يكون السند حقًّا والخبر باطلًا، إما البتَّةَ وإما بذلك السند. وذلك كمن يسمع حديثًا بسندٍ، فيغلَط، فيتوهم أن الذي سمعه بذلك السند كلام آخر، فيروي ذلك الكلام بذلك السند. وقد يكون ذلك الكلام صحيحًا في نفسه، لكن بسند آخر، وقد يكون باطلًا. وقد يكون الكذب الجزئي بإسقاط رجل من السند، أو زيادته، أو إبدال اسم بآخر، أو نحو ذلك. وكذلك يكون في المتن بتغييرٍ فيه يُغيِّر المعنى بزيادة أو نقص، أو تقديم وتأخير، أو إبدال كلمةٍ بأخرى، ونحو ذلك. ومن المعروف المشاهد أيضًا أن صلاح الإنسان في نفسه إنما يحصل به الوثوق أنه لا يتعمد الكذب. ويبقى احتمال الكذب خطأ، فهذا لا يندفع إلا بأمر زائد على صلاح الراوي في نفسه، وهو الضبط. وهو عبارة عن حالٍ تحصلُ للإنسان باجتماع أمرين: ثبات، وتثبُّت. وتوضيحه: أن الرجل إذا سمع كلامًا من رجل، فقد يسمعه كما ينبغي، ويحفظه كما ينبغي، ويفهمه كما ينبغي، ويكون عارفًا أن المتكلم هو فلان بن فلان كما ينبغي. وإنْ كتبه كتبه كما ينبغي، وحفظ كتابه كما ينبغي. وقد لا يكون بعض هذا كما ينبغي؛ فمن الناس من لا يسمع كما ينبغي،

(19/166)


ولكنه يتوهم أنه سمع كما ينبغي، وكذلك في الحفظ وغيره، فهذا غير ضابطٍ إذا كانت هذه عادته وكثرت منه. ومنهم من هو ضابط لميزان نفسه، يعرف غالبًا متى سمع كما ينبغي، ومتى لم يسمع كما ينبغي، وهكذا في الباقي. ثم إذا أراد أن يحدِّث بذلك الخبر، فقد يكون غيرَ ذاكرٍ للقصة كما ينبغي، ولكنه يتوهم أنه ذاكر لها كما ينبغي، وقد يكون ضابطًا لميزان نفسه، يعرف حال ذكره للقصة أكما ينبغي أم لا؟ فكون الإنسان ضابطًا لميزان نفسه عند التلقي وعند الأداء هو الثبات. ثم قد يكون للإنسان ثباتٌ في نفسه ولكنه لا يتفقَّدها عند الأداء، فيخبر بما لم يضبطه، ولو تفقَّد نفسَه لعلم أنه لم يضبطه، فهذا غير متثبِّت، إذ لا فائدة في ثباتٍ في النفس لا يستعمله صاحبه. وقد يكون مع ثباته في نفسه يتفقد نفسه عند الأداء، فيعرف حقيقة الحال، فيحدث بحسبها، فهذا هو المتثبت. فاجتماع الثبات والتثبت هو الضبط. هذا، ومن أهل العلم من أدرج الضبط في العدالة، فجعل العدالة هي الصلاح في الدين والضبط، والخطبُ سهل. ومما يدل على اشتراط الضبط ــ مع الاتفاق عليه ــ الآية السابقة، فقد بينت أن وجوب التبيُّن في نبأ الفاسق إنما هو لأنه لا يُوثَق بخبره، وإذا لم يُوثَق به فالعمل به عمل بجهالة. وخبر المغفَّل والمتساهل كذلك. ويدل عليه قوله تعالى في الشهود: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].

(19/167)


فصل قد يقال: أما ثبات النفس فهو الغالب في الناس، وأما التثبت فهو من تمام العدالة، وقد تقدم الكلام في ثبوت العدالة، فعلى هذا يقال: إذا ثبتت العدالة ثبت الضبط ما لم يثبت خلافه. [ص 19] أقول: أما الثبات عند التلقي فقد يُسلَّم أنه الغالب، وأما عند الأداء ففيه نظر، ولاسيما بعد طول الزمان وبُعد العهد بالقصة، حتى لقد يكون بين سماع الرجل الحديثَ وأدائه سبعون سنة وأكثر. وأما التثبت فمسلَّم أنه من تمام العدالة، ولكن إذا قلنا: إن العدالة تثبتُ بكون الرجل من أهل القرون الأولى فإنما يثبت منها عدم تعمد الفسق فقط، والتثبت أمر زائد على ذلك. وكذلك إذا قلنا: إنها تثبت بكثرة رواية الثقة عن الرجل، أو برواية الثقتين، أو إكثارهما عن الرجل، أو اشتهار الرجل بالتحديث ولم يتكلم فيه أهل عصره؛ لأننا إذا تتبعنا أحوال السلف وجدناهم كثيرًا ما يروون عن الرجل وتشتهر روايته ولا يتكلم فيه أهل عصره، ثم نجد أحاديثه تدل على أنه لم يكن ضابطًا. وبالجملة فغالب ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام مبني على اعتبار حديث الراوي، فإن غالب ذلك من كلام الإمام أحمد وابن معين وأقرانهما وتلامذتهم، وهؤلاء كثيرًا ما يحكمون على من لم يدركوه، وبعض من لم يدركوا من أدركه. وكثير من كلامهم صريح في أنهم إنما بَنوه على اعتبار أحاديث الراوي.

(19/168)


[ص 20] والذي تحرَّر لي باستقراء كثير من كلامهم أن لهم مذاهب: الأول: مذهب ابن حبان، وقد ذكره في "الثقات" (1)، قال: [العدل من لم يُعرَف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يُعلم بجرحٍ فهو عدل إذا لم يبيّن ضدّه، إذ لم يُكلَّف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كُلِّفوا الحكمَ بالظاهر من الأشياء غيرِ المغيب عنهم]. فعنده أن المسلمين محمولون على العدالة، فكل راوٍ لم يُجرح فالظاهر أنه عدل، ولم يبق على المحدث إلا أن ينظر في حديث ذلك الراوي، فإن وجد فيه ما يدل على كذبه أو غلطه أو ضعفه فقد يتبين له بذلك جرحه فيجرحه، وإلا وثَّقه. وهذا مذهب ضعيف، أما العدالة فقد مرَّ الكلام فيها، وبقي مع ذلك الضبط، وقد مرَّ الكلام فيه. وأما الاعتبار فإذا لم يقف المحدث للراوي إلا على حديث واحد مثلًا، فأقصى ما هناك أن يكون ذلك الحديث قد ثبت من رواية غيره، وأقصى ما في هذا هو الدلالة على أن ذلك الراوي صدق في ذلك الحديث وضبطه. وذلك لا يدل على أن الصدق والضبط شيمة له وعادة حتى يستحق التوثيق. ثم ما يُدرِيك؟ لعل له حديثًا آخر لم تقف عليه أنت، ولو وقفت عليه لضعَّفته، ولعل من بعدك يرى توثيقك له فيحتج بذلك الحديث الذي لم تقف عليه! _________ (1) (1/ 13). وما بين المعكوفتين منه، وترك المؤلف هنا بياضًا.

(19/169)


فأما إذا كان الحديث الواحد الذي وقفت عليه لم يثبت من جهة أخرى فالتوثيق أبعد وأبعد؛ إذ ليس في رواية ذلك الراوي ذلك الحديثَ دلالةٌ ما على صدقه وضبطه. ثم ما يُدرِيك؟ لعلك فهمت من ذلك الحديث معنى لم تنكره، ولعل من بعدك يفهم منه ما ينكر، ثم يحتج به على ذلك، عملًا بتوثيقك ذلك الراوي. وهكذا الكلام فيما إذا وقف المحدث للراوي على حديثين فقط، ويبقى النظر فيما زاد. وسيأتي. ولِما ذكرنا ونحوِه تجد ابن حبان ربما يذكر الرجل في "الثقات"، ثم يذكره في "الضعفاء"، وربما يجعل الواحد اثنين، فيذكره في "الثقات" برواية، ويذكره في "الضعفاء" بأخرى. والذي تبيَّن لي أن ابن حبان لم يلتزم الاعتبار، بل أخذ "التاريخ الكبير" للبخاري، ونقل غالبه إلى "الثقات". وكثير ممن أخذه عن "تاريخ البخاري" وذكره في "الثقات" لم يعرفه ابن حبان، ولا عرف ما روى، بل وكثير منهم لم يعرف عمن رووا ولا من روى عنهم. وعادته فيمن ذكره البخاري ولم يذكر عمن روى ولا من روى عنه أن يقول: "روى المراسيل، روى عنه أهل بلده". كما أن عادة ابن أبي حاتم في بعض هؤلاء أن يدع بياضًا. فإنما يقوى توثيق ابن حبان في حق المشاهير الذين يغلب على الظن أنه اطلع على الكثير من حديثهم.

(19/170)


المذهب الثاني: مذهب أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي. ولم أره منقولا عنه، وإنما تتبعت جماعة من الرواة الذين وثَّقهم، فوجدته انفرد بتوثيق كثير من التابعين الذين لم يذكر لكلٍّ منهم إلا راوٍ واحد ثقة. ومنهم: أربدة، وأسماء بن الحكم الفزاري، وأقرع مؤذن عمر، والبراء بن ناجية، والحارث بن لقيط، وحبيب بن أبي سُبَيعة، وحسان بن الضمري، والربيع بن البراء بن عازب، وربيعة بن ناجذ، ورجاء بن أبي رجاء الباهلي، وغيرهم. ووافقه ابن حبان في هؤلاء أو أكثرهم، على قاعدته.

(19/171)


 الرسالة الثالثة إرشاد العَامِه إلى معرفة الكذب وأحكامه

(19/173)


الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فإنني لما نظرت في ما وقع من الاختلاف في العقائد والأحكام، ورأيت كثرة التأويل للنصوص الشرعية، تبين لي في كثير من ذلك أنه تكذيبٌ لله عز وجل ورسله، ثم رأيت في كلام بعض الغلاة ما هو صريح في نسبة الكذب إلى الله تعالى ورسله، وفي كلام من دونهم ما يقرب من ذلك، ووقع التلبيس على أكثر المسلمين لالتباسٍ في حقيقة الكذب، فجرَّني البحث إلى تحقيق معنى الكذب، فرأيت أن أفرد ذلك في رسالتي هذه، وأسأل الله تعالى التوفيق.

(19/175)


الخبر الخَبَر بفتحتين: الاسم من الإخبار، والإخبار: إفعالٌ، من الخُبْر بضم فسكون. وقد اتفقوا على أن الخُبْر ــ بضم فسكون ــ العلم ببواطن الأمور، وعلى أن الأصل في همزة «أفعلَ» أن تكون للتعدية، فقضية هذا أن يكون معنى قولهم: «أخبرت فلانًا» جعلته ذا خبرٍ، أي ذا علمٍ بباطن. فالظاهر أن هذا هو الأصل، ولكن خُصَّ بما يكون بالقول. وعلى هذا فالخَبَر ــ بفتحتين ــ كان ينبغي أن يخص بالقول الذي يحصل به جعْلُ المخاطب ذا خُبْرٍ ــ بضم فسكون ــ، فيختص بما يطابق الواقع، لكنهم توسعوا فيه، فأطلقوه على ما يخالف الواقع أيضًا. وقال أهل العلم: الخبر ما يحتمل الصدق والكذب لذاته. وقال الراغب في «المفردات» (1): الخُبْر ــ بضم فسكون ــ العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر. كذا قال! وهو عكس التحقيق، ومما يدفعه تسمية الله عز وجل نفسه خبيرًا، فتدبر. _________ (1) (ص 273).

(19/176)


الصدق والكذب حكوا (1) عن أهل السنة والجمهور: أن الصدق مطابقة الخبر للواقع في نفس الأمر، والكذب عدم مطابقته له في نفس الأمر. وحكوا عن النظَّام: أن الصدق هو مطابقة الخبر للواقع في اعتقاد المخبِر، والكذب عدم مطابقته له في اعتقاده. وعن الجاحظ: أن الصدق مطابقة الخبر للواقع في نفس الأمر وفي اعتقاد المخبِر، والكذب عدم مطابقته له فيهما، وما دون ذلك لا يسمى صدقًا ولا كذبًا. وذهب الراغب (2) إلى نحو هذا، إلا أنه قال: إن ما دون ذلك صدقٌ من جهةٍ، كذبٌ من جهةٍ. وزعم بعض المتأخرين أن الصدق والكذب إذا نسبا إلى الخبر فكما قاله الجمهور، وإن نسبا إلى المخبر فكما قاله النظَّام. والصواب مع الجمهور، لكن غلب في العرف أن لا يقال للكذب خطأً «كذب»، بل يقال: خطأ وغلط، إلا حيث يقصد نسبة المخبر إلى التقصير، أو يقصد التنفير عن اتباعه. وعلى هذا يُحمل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من قوله: «كذب _________ (1) يراجع في هذا الموضوع: «شرح جمع الجوامع» للمحلي (2/ 111 وما بعدها) و «إرشاد الفحول» (ص 39، 40) و «شروح التلخيص» (1/ 173 وما بعدها). (2) «المفردات» (ص 478، 479).

(19/177)


أبو السنابل» (1)، وبقية الأمثلة التي ذكرها ابن عبد البر (2) وغيره. الخبر المحتمل لمعنيين أو أكثر لم يتعرض أهل البيان عند كلامهم في تعريف الصدق والكذب لفرقٍ بين الخبر الذي لا يحتمل إلا معنى واحدًا، والخبر المحتمل لمعنيين فأكثر. ووجه ذلك أن المحتمل لمعنيين مثلًا، إن كان احتماله لهما على السواء بدون رجحان، فذلك راجع إلى معنى واحد. ألا ترى أنه لو كان لك أخوان غائبان، فجاءك رجل فقال: «مات أحد أخويك» كان هذا معنى واحدًا؟ فهكذا إذا قال ــ حيث لا قرينة ترجِّح أحدهما ــ: «مات أخوك». فهكذا الخبر المحتمل لمعنيين بدون رجحان. وإن كان ظاهرًا راجحًا في أحد المعنيين، والآخر مرجوحٌ، فقد اتفقوا على أن المعنى الذي يجب أن يبنى عليه ويُحكم به هو الظاهر الراجح. فإذا قيل لك: «مات أخوك»، ولا قرينة، فالمعنى الذي يقضى به لهذا الخبر هو أن أخاك الحقيقي قد مات موتًا حقيقيًّا، ولا يلتفت إلى احتمال غير ذلك. فالصدق والكذب في هذا الخبر مدارهما على ذاك المعنى الظاهر الراجح. ثم رأيت في «البيان والتبيين» للجاحظ (1/ 183 (3) طبعة القاهرة سنة _________ (1) أخرجه أحمد في «المسند» (4273) من حديث ابن مسعود، وأعلَّه في كتاب «العلل» (4795) بالإرسال. (2) «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1102 - 1105). وانظر: «التمهيد» (9/ 289، 290). (3) (1/ 337، 338) تحقيق عبد السلام هارون. والنص طويل، ولذا لم يثبته الشيخ ولم نثبته، فليراجع هناك.

(19/178)


1332) ما لفظه: «وسئل (ابن شُبرمة) عن رجل ... كلامًا يطول»، فجَزْم النظَّام بأن ذلك كذبٌ ــ أي حيث لا قرينة ــ موافقٌ لما تقدم، وأما الجاحظ فإنه جزم بأن أدنى منازلِه أن لا يسمى صدقًا، وتوقف عن الجزم بأنه يسمى كذبًا. وكأن علماء البيان لم يلتفتوا إلى هذا التوقف؛ لأن الجاحظ موافقٌ على أن الخبر إذا خالف الواقع ولم يعتقد المخبر مطابقته فهو كذب، وموافقٌ على أن المعنى الذي يُقضى به للخبر هو الظاهر الراجح، فلزمه الجزم بأن ذلك كذبٌ، فلا عبرة بتوقفه. وقد يقال: لعله إنما توقف لأن هناك قرينة قد يعرفها بعض السامعين دون بعض، فلا يطلق على الخبر: كذب؛ لأن منهم من يعرف القرينة فلا يفهم خلاف الواقع، ولا يطلق عليه: صدق؛ لأن منهم من لا يعرف القرينة فيفهم خلاف الواقع. فإن كان إنما لحظ هذا فلا نزاع في ذلك؛ فإن الخبر صدقٌ بالنظر إلى من يعرف القرينة، وكذبٌ بالنظر إلى من لا يعرفها، فليس بصدقٍ مطلقًا، ولا كذبٍ مطلقًا، والجمهور لا ينازعون في هذا. إرادة المخبر وإضماره إذا كان للخبر معنى ظاهر راجح، ويحتمل احتمالًا مرجوحًا معنًى آخر، وقد أراد المخبر عند بناء الخبر أن يكون كذلك= فلا ريب أنه أراد أن يكون المعنى الذي حقه أن يفهم من الخبر هو الظاهر الراجح، ثم قد يضمر في نفسه المعنى الراجح، وقد يضمر المرجوح. ومعنى الإضمار: أن يخيّل لنفسه عند تلفظه بالخبر أنه يقصد به هذا

(19/179)


المعنى أو ذاك، فإن أضمر الراجح فلا خفاء أنه إن كان هو الواقع فالخبر صدق، وإلا فكذبٌ. وإن أضمر المرجوح، فقد يكون خلاف الواقع، وقد يكون هو الواقع، فانظر فيما إذا كان خلاف الواقع، هل يصير الخبر كذبًا، وهل يَلزمُ المخبرَ قبحُ الكذب وذمُّه وإثمه؟ وذلك كأن تعلم أن والد زيد مات في ليلة ولم ينم فيها، فتُبكِّر إلى زيد قاصدًا أن تخبره خبرًا يكون ظاهره الراجح هو الواقع أي الموت، ويحتمل خلاف الواقع وهو النوم، فتقول له: مات أبوك البارحة، وتضمر في نفسك عند قولك: «مات» معنى «نام»، وليس هناك قرينة. أقول: لا يخفى على من يتدبر أن هذا الإضمار لا يصير به الخبر كذبًا، ولا يلزم المخبرَ اسمُ الكذب ولا قبحه ولا ذمه ولا إثمه. نعم، قد يُكره له ذاك التخيل، كما يكره للرجل تخيلُ أنه يلابس معصية، هذا أشد ما قد يقال فيه. ونظيره أن تَعمِد إلى عصير تفاح ــ مثلًا ــ تعلم أنه حلال، فتصبَّه في كأسٍ تُشبه في الجملة الكأسات التي يشرب الفجار فيها الخمر، وتخيِّل لنفسك أنه خمر، وتشربه مع ذاك العلم وذاك التخيل. أو تَعمِد إلى امرأتك فتكسوها ثوبًا يشبه في الجملة ثوبًا رأيته على أجنبية، ثم تواقعها عالمًا بأنها امرأتك، متخيلًا أنها تلك الأجنبية. فهل يلزمك بهذا اسم شرب الخمر والزنا وإثمهما؟ فانظر الآن في عكس هذا، وهو أن يكون المعنى الظاهر الراجح من الخبر هو المخالف للواقع، والمعنى المرجوح مطابق للواقع، وأضمره المخبر، وذلك كأن يكون الواقع أن والد زيدٍ لم يمت وإنما نام، فقصدتَ زيدًا عازمًا على أن تخبره خبرًا يكون الظاهر الراجح منه هو الموت الذي تعلم أنه

(19/180)


خلاف الواقع، ويكون محتملًا احتمالًا مرجوحًا لمعنى مطابق للواقع، وهو النوم، فقلتَ له: «مات أبوك البارحة»، وأضمرت في نفسك معنى «نام»، ولا قرينة. فهل تخرج بهذا عن اسم الكذب وقبحه وذمه وإثمه؟ ونظير هذا أن تعمد إلى خمر تعلم أنها خمر محرمة، فتصبَّها في قعبٍ وتشربها، مخيِّلًا لنفسك أنها حليب. أو تعمد إلى امرأة جارك وأنت بها عارف، فتلقي عليها ثوبًا من ثياب امرأتك، وتواقعها مخيلًا لنفسك أنها امرأتك. فهل يخرجك هذا عن اسم شرب الخمر والزنا وإثمهما؟ وبهذا يتضح أننا إن سمينا تخيل المتكلم للمعنى المرجوح إرادةً، فليست هي إرادة المتكلم التي ينبغي أن يُناط بها الحكم، وإنما إرادته التي ينبغي أن يناط بها الحكم هي إرادته عند بناء الخبر أن يكون ظاهرًا راجحًا في معنى، فإن كان يعتقد أن ذاك المعنى حق وصدق فلم يرد إلا الصدق، وإن كان لا يعتقد ذلك فقد أراد الكذب ولا بدَّ. وقد حصل بيدنا مثالٌ للدعوى الباطلة، لكن إنما يظهر البطلان حيث يظهر عدم التأويل، وإنما يتم ذلك في مثالٍ غير صالح للتأويل، وذلك كأن تشير لصاحبك إلى حصاةٍ وتقول: «أرى أسدًا»، فهذه دعوى باطلةٌ وكذب. أما البطلان؛ فلأن الحصاة لا تكون أسدًا حقيقة، كما هو واضح، ولا مجازًا؛ لفقد العلاقة المعتبرة التي يترتب عليها التأويل. وأما الكذب؛ فلأن الخبر مخالف للواقع، لأن المجاز لا يصح، فيبقى اللفظ على حقيقته، أي أن الحصاة أسد حقيقي، وظهور بطلان هذا لا يوجب العدول عنه، إذ ليس هنا معدلٌ صحيح، فلا معنى للعدول عن باطلٍ

(19/181)


إلى باطل. نعم، قد يقال: الأشبه أن المتكلم لم يرد أن الحصاة أسد حقيقة، وإنما أراد أنها أسد مجازًا، جهلًا منه بوجه المجاز، وظنًّا لصحته في مثل ذلك، فإن احتمال الجهل المركب في هذا أقرب من احتمال دعوى أنها أسد حقيقة. وعلى هذا فالكذب بحاله، فإن حاصل الخبر: «أرى أسدًا مجازيًّا» وهذا أيضًا باطل، ومخالف للواقع. وبالجملة، فهذا الاستعمال لا هو حقيقة ولا مجاز، فهو كما قال السعد في «المطول» (1): من قبيل ما لا يعتدُّ به، ولا يعدُّ في الحقيقة ولا في المجاز، بل ينسب قائله إلى ما يكره، كما صرح به في «المفتاح». وقريب منه قول عبد الحكيم (2): كلامٌ لغوٌ لا يصدر عن عاقل، فضلًا عن أن يكون صادقًا أو كاذبًا. أقول: فكأن السكاكي لاحظ ذلك فسمى نحو قولك ــ مشيرًا إلى حصاة ــ: «أرى أسدًا» دعوى باطلة، ولم يسمها كذبًا. وقريب منه تفسير الشارح العلامة (3) للدعوى الباطلة بأنها ما يكون على خلاف الواقع. _________ (1) انظر «فيض الفتاح» (ج 2/ 160). [المؤلف]. (2) «فيض الفتاح» (ج 2/ 172). [المؤلف]. (3) المصدر السابق (4/ 152). والشارح العلَّامة هو القطب الشيرازي (ت 710).

(19/182)


وأما تفسير السيد (1) لها بالجهل المركب، فقد مر وجهه. وأما ما سمّاه السكاكي كذبًا، فيحتاج بيانه إلى تمهيد. فأقول: إذا قلت: «رأيتُ أسدًا»، وأضمرتَ في نفسك أن تريد بقولك: «أسدًا» رجلًا شجاعًا، ولم تنصب قرينة، فالخبر إنما يعطي أسدًا حقيقيًّا، وهذا مخالف لما أضمرته على كل حال. ثم قد يكون الخبر مخالفًا للواقع في نفس الأمر وفي اعتقادك، كأن يكون الواقع أنك رأيت رجلًا شجاعًا، واعتقدت ذلك وتعمدت ترك القرينة، وقد يكون مخالفًا للواقع في نفس الأمر فقط، كأن تكون رأيت لصًّا رجلًا شجاعًا مختبئًا في غار بعيد، فعرفت ذلك وأردت الإخبار به، وظننت أن هناك قرينة والواقع أنه لا قرينة، أو تكون حسبته أسدًا حقيقيًّا، ولكن أحببت أن تخبر بأنه رجل شجاع، وغفلت عن نصب القرينة. وقد يكون موافقًا للواقع في نفس الأمر فقط، كأن تكون رأيت أسدًا حقيقيًّا في غار، فعرفت ذلك، ولكن أردت الإخبار بأنه رجل شجاع، وغفلت عن نصب القرينة، أو حسبته رجلًا شجاعًا وأردت الإخبار بذلك، وغفلت عن نصب قرينة، أو حسبته رجلًا شجاعًا، ولكن أردت إيهامَ أنه أسد حقيقي، فتأولت في نفسك، وتركت نصب القرينة عمدًا. وأغلب هذه الصور وقوعًا وأقربها إلى الاشتباه بالاستعارة هي الأولى، وهي كذبٌ عمدٌ. _________ (1) انظر «فيض الفتاح» (4/ 152).

(19/183)


فبنى السكاكي عليها فعبَّر بالكذب، وكذلك بنى عليها السيد الجرجاني، ففسَّر الكذب بالكذب العمد. أما الشارح العلامة فكأنه لاحظ تلك الصور كلها، ورأى أن المشترك بينها جميعًا هو مخالفة الخبر لما في الضمير، أي للمعنى الذي يضمره المتكلم في نفسه، ففسر الكذب بذلك. ثم جاء صاحب «تلخيص المفتاح»، فعدل عن عبارة «المفتاح»، إلى قوله (1): [والاستعارة تفارق الكذب بالبناء على التأويل ونصبِ القرينة على إرادة خلاف الظاهر]. والظاهر أنه بنى على تسمية الدعوى الباطلة كذبًا، وقد تقدم وجه ذلك، ثم ضم هذا الكذب إلى الذي سماه السكاكي كذبًا، فكأنه قال: والاستعارة تفارق الكذب الذي سماه السكاكي دعوى باطلة، والكذب الذي سماه كذبًا، بالتأويل والقرينة. وعبارته تحتمل معنيين: الأول: أن يكون أراد أنها تفارق الكذب الذي هو الدعوى الباطلة بالتأويل، وتفارق الكذب الآخر بالقرينة. المعنى الثاني: أن يكون بنى على أن التأويل والقرينة متلازمان، إذا وُجِد أحدهما وجد الآخر، فالاستعارة تفارق كلًّا من الكذب بقسميه بكلٍّ من التأويل والقرينة. _________ (1) (ص 306 بشرح البرقوقي)، وانظر «شروح التلخيص» (4/ 68).

(19/184)


وبيان استلزام التأويل للقرينة ما نبه عليه شارحه السعد التفتازاني في الكلام على التأويل في المجاز العقلي، فإنه قال (1): «ومعنى التأويل: طلب ما يؤول إليه من الحقيقة، أو الموضع الذي يؤول إليه من العقل، وحاصله أن تنصب قرينة». قال الدسوقي في حواشيه (2): «المراد ملاحظة الحقيقة أو الموضع ملاحظة يعتدُّ بها، وهي إنما تكون مع القرينة ... ». فالحاصل أن التأويل الذي يعتد به هو ما كان مع القرينة، فلا اعتداد بالتأويل الذهني الذي لا قرينة معه. وأما استلزام القرينة للتأويل، فلأن القرينة هي الدليل الذي يمنع من إرادة المتكلم للظاهر، ويدل على إرادته غيره، وهذا إنما يتحقق في نحو قولك ــ مشيرًا إلى رجلٍ ــ: «أرى أسدًا»؛ لأمرين: الأول: أن المخاطب يرى أنك عاقل لا تكابر ولا تعبث، فيبعد أن تريد أن الرجل أسد حقيقة. الثاني: أن هناك مسوغًا واضحًا للتأويل، بأن تكون أردت أن الرجل شجاع، فشبهته بالأسد، وادعيت وتأولت على ما هو معروف. فأما إذا أشرت إلى حصاةٍ قائلًا: «أرى أسدًا» فالأمر الثاني منتفٍ، وبانتفائه يضعف الأمر الأول. فالمشاهدة والإشارة قرينة في المثال الأول؛ لأنها مانعة من إرادة _________ (1) انظر «شروح التلخيص» (1/ 234). (2) المصدر السابق.

(19/185)


الظاهر، دالة على إرادة غيره إرادةً سائغة، وليست في المثال الثاني كذلك. فإن قيل: فإذا كان صاحب «التلخيص» بنى على تلازم التأويل والقرينة كما زعمتَ، فهلّا اكتفى بأحدهما؟ قلت: كأنه أراد أن ينبِّه على أن كلًّا منهما مقصودٌ لذاته، فالتأويل هو الذي يدفع الدعوى الباطلة، والقرينة كالشرط له، والقرينة هي التي تدفع الكذب، والتأويل كالشرط لها. وذكر ابن السبكي في «جمع الجوامع» (1) ما نُسب إلى بعض الظاهرية من نفي وقوع المجاز في الكتاب والسنة، فقال المحلي في شرحه (2): «قالوا: لأنه كذب بحسب الظاهر، كما في قولك للبليد: هذا حمار، وكلام الله ورسوله منزه عن الكذب. وأجيب بأنه لا كذب مع اعتبار العلاقة». اعترضه بعضهم (3) بأن الذي يدفع الكذب هو القرينة، فكان ينبغي أن يقول: لا كذب مع وجود القرينة. ويجاب عن هذا بأجوبة: الأول: أن القرينة عند الأصوليين شرط، فالمراد اعتبار العلاقة على الوجه المعتدّ به، وإنما يكون ذلك بوجود الشرط، وهو القرينة. الثاني: أن يقال: مراده باعتبار العلاقة اعتبارها من كلٍّ من المتكلم والمخاطب، فاعتبار المتكلم لها ملاحظته لها بالتشبيه والدعوى والتأويل، _________ (1) (1/ 308) بشرح المحلي .. (2) المصدر السابق. (3) هو البناني صاحب الحاشية على شرح المحلي في الموضع المذكور.

(19/186)


على ما هو معروف في علم البيان. وملاحظة المخاطب لها تصوره لها على حسب ذلك، ومعلوم أن المخاطب إنما يلاحظها إذا كان هناك ما يدل عليها، وهذا الدليل هو القرينة. الثالث ــ وهو التحقيق ــ: أن الكذب الذي زعمه الظاهري إنما هو الكذب بحسب الظاهر، ومقصوده به ما يتراءى في نحو المثال الذي ذكره، وهو قولك للبليد: «هذا حمار». والذي يتراءى هنا ليس هو الكذب الحقيقي، فإن العلاقة موجودة مشهورة، والقرينة واضحة، وهي المشاهدة والإشارة، فالسامع يعلم أن المتكلم لم يدَّعِ أن ذاك الإنسان حمار حقيقة، وإنما أراد وصفه بشدة البلادة، ولكنه مع ذلك يتراءى له أن لفظ الخبر مخالف للواقع؛ لأن الإنسان لا يكون حمارًا، وهذا الترائي لم يأت من غفلة عن القرينة، بل هي بغاية الوضوح، والسامع عارف لها، ولم يأت من عدم العلاقة، فإن العلاقة موجودة معروفة، وإنما يأتي من عدم ملاحظة العلاقة على ما ينبغي، بالتشبيه والدعوى والتأويل، على ما هو مشروح في كتب البيان. فأراد المحلِّي أن المتكلم إذا اعتبر العلاقة على ذاك الوجه لم يكن الخبر كذبًا حقيقيًّا، ولا ظاهرًا، والسامع إذا لاحظ ذلك على ما ينبغي زال ما كان يتراءى له، فإن لم يلاحظ فمن تقصيره أُتي. القرينة أجمع أهل العلم على أنه لا بد للمجاز من قرينة، سواءً من قال منهم: هي ركن، ومن قال: هي شرط.

(19/187)


وأجمعوا أنه إذا لم يكن هناك قرينة فالكلام على حقيقته، وإن كان معناه الحقيقي مخالفًا للواقع فأهل السنة والجمهور يسمونه كذبًا، وغيرهم يشترط في تسميته كذبًا أن لا يكون المتكلم يعتقد أنه مطابق للواقع. والقرينة الصحيحة هي الدليل الصحيح الذي يكون المتكلم عالمًا به وبدلالته على خلاف الظاهر، وبأن من شأنه أن لا يخفى على السامع.

(19/188)


المطلب الثاني (1) في محطِّ المطابقة المتكلم قد يعتقد الواقعة على ما هي عليه، وقد يعتقدها على خلاف ما هي عليه، ثم قد يريد أن يخبر بها على ما اعتقده، وقد يريد أن يخبر بها على خلافه، وقد يريد أن يكون الخبر صالحًا ولو على بعدٍ لما يعتقده، مفهمًا ظاهرًا لخلاف ما يعتقده. ومدار الصدق والكذب إنما هو على الواقع في نفس الأمر من جهة، وعلى مدلول الخبر نفسه من الجهة الأخرى، فإن تطابقا فصدقٌ، وإلا فكذبٌ. ومدلول الخبر هو ما حقُّه أن يفهم منه مع ملاحظة القرائن، فإذا سمعنا خبرًا، فنظرنا فيه، ولاحظنا القرائن فوجدناه مفهمًا لمعنى، فزعم زاعم أنه بذاك المعنى غير مطابق للواقع= كان بزعمه هذا زاعمًا أن الخبر كذب، وأن المخبر به كاذبٌ. ولا يدفع هذا أن يقول: لعل المتكلم أراد بهذا الخبر غير ظاهره، ونقول له: إن كان المتكلم لم يجهل ولم يخطئ، فقد أراد ــ ولا بدَّ ــ أن يكون خبره هذا مفهمًا لما هو مفهم له، فإن كان مع ذلك تأول في نفسه معنى آخر فلا شأن لنا به؛ لأن الكلام إنما وضع للإفهام، وحق المتكلم أن يكون كلامه مع ما ينصبه من القرائن صورة مطابقة للمعنى الذي في نفسه. ولا ريب أن الخبر إنما يطابق حق المطابقة ما أراد المتكلم أن يكون _________ (1) كتب قبله: «بسم الله الرحمن الرحيم».

(19/189)


مفهمًا له، فهذا هو المعنى النفسي الذي حق أن يعتد به، وعليه ينبغي أن يحمل ما يقع في كلام أهل العلم «المراد كذا»، «لعل المراد كذا»، ونحو ذلك، ومن قال غير هذا فقد غلط.

(19/190)


المطلب الثالث في المجاز ليس المراد هنا الإفاضة في أحكام المجاز، وإنما نُلِمُّ منه بما يتعلق بموضوعنا على الاختصار. اتفق القائلون بالمجاز على أن المجاز المفرد هو: «الكلمة المستعملة في غير ما وُضِعت له في اصطلاحٍ به التخاطب على وجهٍ يصح، وذلك بأن يكون بين المعنى الموضوع له والمعنى المستعمل فيه علاقة معتبرة» (1). هذا أصح تعريف استقر عليه الأمر. وبقية التعريفات تحوم حول هذا المعنى. ثم اتفقوا على أنه لا بد للمجاز من قرينة معتبرة، إلا أن كثيرًا من الأصوليين يجعلون القرينة شرطًا لصحة الاستعمال بقصد الإفهام، وصحة الحمل في فهم الكلام. فعندهم أن من رأى إنسانًا مشؤومًا فقال: «رأيت غرابًا» مريدًا بالغراب ذاك الإنسان= كان هذا مجازًا، لكنه يجب على المتكلم إذا أراد الإفهام أن ينصب قرينة. وكذلك لا يسوغ لمن يسمع آخر يقول: «رأيت غرابًا» أن يحمله على معنى «رأيت إنسانًا مشؤومًا» إلا إذا كانت هناك قرينة معتبرة. وعُلم من هذا ــ مع ما تقدم ــ أن من لم ير غرابًا، ولكن رأى إنسانًا _________ (1) انظر «فيض الفتاح» (4/ 132) و «شروح التلخيص» (4/ 22 - 26).

(19/191)


مشؤومًا، فقال مخبرًا لغيره: «رأيت غرابًا»، وأراد إنسانًا مشؤومًا، ولكن لم ينصب قرينة= يكون كاذبًا، ويكون الكلام كذبًا؛ لأن المعنى المفهوم منه غير مطابق للواقع. وهؤلاء قد لا يذكرون القرينة عند تعريف المجاز؛ لأنها عندهم ليست ركنًا له، ولكن يعلم من مواضع أخرى من كلامهم أنه لا بد منها، على حسب ما ذكرنا. ونقلوا عن الظاهرية منع وقوع المجاز في كلام الله عز وجل وكلام رسوله. قال المحلي في «شرح جمع الجوامع» (1): «قالوا: لأنه كذبٌ بحسب الظاهر، كما في قولك للبليد: هذا حمار، وكلام الله ورسوله منزه عن الكذب». ثم قال: «وأجيب: بأنه لا كذب مع اعتبار العلاقة». اعترضه بعضهم (2)، فقال: «إذا تأملت قول المجيب: مع اعتبار العلاقة، وقول المستدل: بحسب الظاهر= وجدت الجواب غير ملاقٍ للدليل، والمناسب سوق الدليل مجردًا عن قوله: بحسب الظاهر». أقول: سوق الدليل مجردًا عنها لا وجه له؛ لأنها من كلام المستدل، فأنى يجوز للحاكي إسقاطها؟ ثم قال المعترض (3): «ثم الكذب لازم لإرادة المعنى الحقيقي، _________ (1) (1/ 308) مع حاشية البناني. (2) هو البناني في حاشيته. (3) أي البناني في الموضع المذكور.

(19/192)


فارتفاعه إنما هو بإرادة المعنى المجازي، والدال عليه هو القرينة، فانتفاء الكذب لأجل وجود القرينة». أقول: الظاهرية يعرفون ويعترفون أن في الكتاب والسنة ما لا يحصى من الكلمات المستعملة في معانٍ لولا القرينة لكانت ظاهرة في غيرها، ولكنهم يزعمون أن ذلك كله من الحقيقة، ويقولون: غاية الأمر أن العرب وضعت الكلمة لهذا المعنى بحيث يفهم منها مطلقًا، ووضعتها لهذا المعنى الثاني بحيث يفهم منها مع القرينة، ككلمة «أسد» للسبع المعروف وللرجل الشجاع، وهي على كلا الحالين حقيقة، إذ لم تستعمل إلا فيما وضعت له. فمحطُّ إنكارهم إنما هو أن تأتي في الكتاب والسنة كلمة مستعملة في معنى لم توضع له في أصل اللغة. وقولهم: «لأنه كذب بحسب الظاهر» يعنون به أن العربي المخاطب بلغة العرب إنما يحمل الكلمة على ما وضعت له في أصل اللغة، فإذا سمع كلمة «أسد» عرف أنها موضوعة للسبع المعروف وللرجل الشجاع، فإذا رآها مجردة عن القرينة عرف أن المراد بها السبع المعروف، وإذا رآها مع القرينة عرف أن المراد بها الرجل الشجاع، فهي عنده بمنزلة حروف (ج ح خ) في الكتابة، الشكل موضوع لكل من الثلاثة، فإذا أهمل عرف أنه الحاء المهملة، وإذا نقط من تحته عرف أنه الجيم، وإذا نقط من فوقه عرف أنه الخاء المعجمة، ومع ذلك فالشكل مشترك بين الحروف الثلاثة، أصلٌ في كل منها. فعلى هذا فإذا أشرت لعربي إلى رجلٍ، فقلت: «هذا أسد» عرف فورًا أنك تريد أنه شجاع، لكن إذا أشرت إلى رجلٍ، فقلت: هذا حمار، فإنه

(19/193)


يتراءى له أن هذا كذب بمنزلة أن تشير له إلى كتابٍ، وتقول: هذا فرس. ثم إذا علم أنك إنما أردت البلادة فهمها، ولكنه كما يفهم المراد من الكلمة الأعجمية. فيقول الظاهرية: إنه ليس في قولك للرجل: «هذا أسد» كذبٌ في الظاهر، فإن الكلمة موضوعة للرجل الشجاع بشرط القرينة، وقد وُجِدت، بخلاف قولك: «هذا حمار» فإنه كذبٌ في الظاهر، لأن الكلمة لم توضع في أصل اللغة لذلك. ونظير قولك: «هذا أسد» أن تشير لكاتبٍ إلى حرف «ح» قائلًا: هذا جيم. ونظير قولك: «هذا حمار» أن تشير له إلى رقم (3) قائلًا: هذا جيم. فإنه يتراءى له أن هذا كذبٌ، حتى يتنبه للمناسبة بأن حرف (ج) يُعدُّ في حساب الجُمَّل بثلاثة. فتدبر ما قدمناه وتحقَّقْه، وبذلك يظهر لك أن جواب المحلي ــ تبعًا لمن تقدمه ــ هو المناسب لقول الظاهرية. وقد ذكر هذا الجواب عينه البهاء السبكي في «عروس الأفراح» (1). وحاصله: أنه قد عُرِف عن العرب أنها إذا وجدت علاقة معتبرة بين المعنيين، يطلقون لفظ أحدهما على الآخر، وينصبون قرينة، وإن لم يسمعوا من تقدمهم استعمل تلك الكلمة في ذاك المعنى. وبهذا عُلِم أن الكلمات كما هي موضوعة لمعانيها الخاصة، فهي _________ (1) انظره ضمن «شروح التلخيص» (4/ 68 - 69).

(19/194)


موضوعة أيضًا لتستعمل مع القرينة في كل ما بينها وبينه علاقة معتبرة. وإذا ثبت وجود الوضع صارت كلمة «حمار» على فرض أنها لم تُسمع عن المتقدمين مستعملة في البليد، بمنزلة كلمة «أسد»؛ لثبوت أن تلك موضوعة، كما أن هذه موضوعة، وإذا ثبت الوضع بحجته لم يلتفت إلى عدم السماع، كما في صيغ اسم الفاعل والمفعول وغيرها. أما البيانيون وغيرهم فعندهم أن نصب القرينة ركنٌ للمجاز، لا شرطٌ فقط، وزادوا في التعريف قولهم (1): «مع قرينة عدم إرادة المعنى الموضوع له». ثم ذكروا أن الكلمة المستعملة فيما لم توضع له في اصطلاحٍ به التخاطب تكون على أقسام: الأول: المجاز، وهو ما لُوحِظت فيه علاقة معتبرة، ونُصبت معه قرينة معتبرة دالة على عدم إرادة المعنى الموضوع له. الثاني: الكناية، وهي كالمجاز، إلا أن القرينة فيها لا تدل على عدم إرادة المعنى الموضوع له، بل تدل على إرادة غيره. الثالث: الارتجال، وهو أن تطلق الكلمة على وجه استئناف وضع جديد، كمن يشير إلى طفل ولد له، فيقول: هذا طلحة، ويريد تسميته بذلك. الرابع: الغلط، كأن تشير إلى كتاب، تريد أن تقول: «هذا كتاب» فيجري على لسانك: «هذا فرس». _________ (1) انظر «فيض الفتاح» (4/ 132) و «شروح التلخيص» (4/ 25).

(19/195)


الخامس: اللغو، كأن تشير لبصيرٍ إلى كتاب، قائلًا: «هذا فرس»، قاصدًا هذا القول، مع عدم ملاحظتك لعلاقة معتبرة، ومع علمك بالقرينة الدالة للمخاطب على أن المشار إليه ليس بفرس. أقول: وهذا الخامس يصدق عليه تعريف الكذب. فإن قيل: فلماذا لم يذكروا في الأقسام ما إذا استعملت الكلمة في غير ما وضعت له لعلاقة معتبرة، ولكن لم تُنصب قرينة معتبرة، كما إذا كنت لم تر غرابًا، وإنما رأيت رجلًا مشؤومًا، فقلت لمن لا يعرف الواقع: «رأيت غرابًا»، ولم تنصب قرينة. قلت: هذه الصورة غير واردة عليهم؛ لأنهم يحكمون فيها بأن الكلمة إنما استعملت فيما وضعت له، ولذلك إذا تبين لهم الواقع جزموا بأن هذا الخبر كذب. فقد ذكروا في الكلام على الإسناد العقلي أن من أقسام الحقيقة قولك: «جاء زيد» وأنت تعلم أنه لم يجئ. وقال السعد في «المطول» (1) بعد هذا المثال: «فهذا أيضًا إسنادٌ إلى ما هو له عنده في الظاهر؛ لأن الكاذب لا ينصب قرينة على خلاف إرادته». ثم ذكر بعد ذلك ما يؤخذ منه أنه لو كانت مع هذا قرينة، فإن كانت هناك علاقة فمجازٌ، وإلا فمن القسم الخامس الذي سميناه لغوًا. فعُلِم من هذا أنه عند عدم القرينة يكون كذبًا، سواءً لوحظت علاقة، أم لا. _________ (1) انظر «فيض الفتاح» (2/ 159).

(19/196)


وذكروا في الفرق بين الاستعارة والكذب ما يفيد هذا أيضًا، ووقع لبعضهم تخليط هناك، فلا بأس بتحرير المقام. ذكر السكاكي في «المفتاح» (1) أن الاستعارة ــ وهي مجاز كما لا يخفى ـ تفارق الدعوى الباطلة ببناء الدعوى في الاستعارة على التأويل، أي بملاحظة العلاقة المعتبرة، وتفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إرادة الظاهر، يعني: والدعوى الباطلة لا تأويل معها، والكاذب لا ينصب قرينة. وهذا صريح ــ كما لا يخفى ــ في أنها إذا فقدت القرينة، والكلام بظاهره غير مطابق للواقع، فهو كذبٌ، سواءٌ أوُجِد تأويل أم لا. وقد فُسِّرت عبارة «المفتاح» على ثلاثة أوجه: الأول: نقل عن شارحه العلامة القطب الشيرازي (2)، ذكروا أنه فسر «الباطل» بما يكون على خلاف الواقع، والكذب بما يكون على خلاف ما في الضمير. الثاني: تفسير شارحه السيد الشريف الجرجاني (3)، ذكر أن السكاكي أراد بالدعوى الباطلة الجهل المركب، وصاحبه مصرٌّ على دعواه، متبرئٌ عن التأويل، فضلًا عن نصب القرينة، وأراد بالكذب: الكذب العمد، وصاحبه لا ينصب القرينة، بل يروج ظاهره، لكن لا مانع من قصد التأويل في ذهنه، فلذا _________ (1) (ص 373). (2) انظر «فيض الفتاح» (4/ 152). (3) المصدر السابق.

(19/197)


خص التأويل بمفارقة الباطل، و [خص] (1) نصب القرينة بمفارقة الكذب. هكذا نقله عبد الحكيم في «حواشي المطول» (2). الثالث: تفسير عبد الحكيم، قال (3): «الأظهر عندي أن الاستعارة من حيث المعنى تشابه الدعوى الباطلة، ومن حيث اللفظ تشابه الكلام الكاذب، فتبيين الفرق بأن مبنى معناها على التأويل، بخلاف الدعوى الباطلة، وأن مبنى لفظها على نصب القرينة، بخلاف الكذب». واعترض السعد في «المطول» كلام العلامة، قال (4): «وأنت تعلم أن تفسيره الكذب خلاف ما عليه الجمهور واختاره السكاكي». واعترض عبد الحكيم كلام السيد الشريف فقال (5): «فيه أنه مع كونه خلاف ظاهر العبارة، إذ لا قرينة على تخصيص الدعوى الباطلة بالجهل المركب، والكذب بالكذب العمد، أنه لا وجه لتخصيص مفارقة الاستعارة بهذين، فإنها تفارق الدعوى الباطلة مطلقًا ــ سواءٌ كان مع اعتقاد المطابقة أو لا ــ بالتأويل، وعن الكذب مطلقًا ــ سواءٌ كان عمدًا أو خطأً ــ بنصب القرينة». أقول: هناك صور: _________ (1) المعكوفتان من المؤلف. (2) «فيض الفتاح» (4/ 152). (3) انظر المصدر السابق. (4) المصدر السابق. (5) المصدر السابق.

(19/198)


الأولى: أن ترى إنسانًا من بعيد، فتظنه غرابًا، فتقول: «رأيت غرابًا»، مريدًا بذلك وفق ما ظننته. الثانية: أن تعلم أنه إنسان، ومع ذلك تقول لمن تراه لا يعرف الواقع: «رأيت غرابًا»، وتتأول في نفسك الغراب بإنسانٍ مشؤومٍ، ولا قرينة. الثالثة: أن تعلم أنه إنسانٌ، ومع ذلك تقول لمن تراه لا يعرف الواقع: «رأيت غرابًا»، ولا تتأول في نفسك. فكل من هذه الصور يصدق عليه أنه دعوى باطلة، وأنه كذب. أما الأولى والثالثة؛ فظاهر، وأما الثانية؛ فبحسب الظاهر المحكوم به، إذ لا عبرة بالتأويل النفسي مع عدم القرينة. لكن الصورة الأولى أولى بأن تسمى دعوى باطلة؛ لأنها كما شاركت الأُخريين في ظهور الدعوى بحسب ظاهر اللفظ، امتازت عنهما بتحقق الدعوى في الاعتقاد. والأولى أبعد عن الكذب؛ لأن صاحبها مخطئ، وقد تقدم أن الغالب في العرف أن لا يقال فيمن كذب خطأً: «كذب»، وإنما يقال: «أخطأ»، ومن الناس من لا يسمي ذلك كذبًا البتة. والاعتقاد أمرٌ معنوي، وكذلك التأويل في النفس. وظاهر الكلام يتعلق باللفظ، وكذلك القرينة. والاستعارة تشتبه من حيث المعنى باعتقاد الباطل؛ لأنها مبنية على دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به، وتخيل ذلك في النفس، فهي من هذه الجهة مشابهة للصورة الأولى، ولكنها تفارقها ببناء الدعوى في الاستعارة على التأويل.

(19/199)


والاستعارة تشتبه بالكذب الذي لا خطأ فيه؛ لأن القائل: «رأيت أسدًا يرمي» يعلم أن الرجل ليس بأسد، فهي من هذه الجهة مشابهة للصورتين الأخريين، لكنها تفارقهما بالقرينة. فقد بان بهذا وجه صنيع السكاكي، وبان به توجيه التفاسير الثلاثة، بل واتفاقها في المآل، فإن العلّامة حمل الدعوى الباطلة على الاعتقاد المخالف للواقع، وهذه هي الصورة الأولى، وحمل الكذب على خلاف ما في الضمير، وذلك في الصورتين الأخريين، فإن ظاهر الكلام فيهما كما هو مخالفٌ للواقع، فهو مخالفٌ لما في الضمير؛ لعلم المتكلم بخلاف ما أفهمه كلامه. وإنما خصَّ السكاكي ثم العلّامة الكذب بذلك لأنه كذبٌ اتفاقًا، لغةً وعرفًا. والسيد فسّر الدعوى الباطلة بالجهل المركب، وهي الصورة الأولى، والكذب بالعمد، وذاك في الصورتين الأخريين، فاتفقا. وعبد الحكيم ذكر أن الاستعارة من حيث المعنى تشابه الدعوى الباطلة، وقد علمت أن ذلك إنما يتحقق في الصورة الأولى؛ لتحقق الدعوى في الاعتقاد، وهو أمر معنوي. وذكر أنها من حيث اللفظ تشابه الكلام الكاذب، والأَولى بملاحظة ذلك الصورتان الأخريان؛ لأنهما كذبٌ اتفاقًا، لغةً وعرفًا، وكذب الكلام فيهما آكد لمخالفته لما في الواقع ولما عند المتكلم، ومدار الكذب فيهما على اللفظ فقط لمطابقة علم المتكلم للواقع. والمقصود أن هؤلاء اتفقوا على أن الصورة الثانية كذبٌ، وأن إضمار التأويل لا يدفع الكذب.

(19/200)


أما صاحب «التلخيص» فقال (1): «الاستعارة تفارق الكذب بالبناء على التأويل ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر». قال السعد في «المطول» (2): «يعني أن في الاستعارة دعوى ... مبنية على تأويل ... ولا تأويل في الكذب. وأيضًا لا بد في الاستعارة من قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي الموضوع له، دالةٍ على أن المراد خلاف الظاهر، بخلاف الكذب، فإنه لا تُنصب فيه قرينة على إرادة خلاف الظاهر، بل يُبذل المجهود في ترويج ظاهره». وهذا الكلام إذا تُدبِّر وقورِن بكلام هذين الرجلين في مواضع أخرى ــ كما سبق لهما في الكلام على الإسناد العقلي ــ تبين أنه غير مخالف لما تقدم، فإن الدعوى الباطلة التي تشابه الدعوى التي في الاستعارة هي ما في الصورة الأولى، كما تقدم. فغاية الأمر أن صاحب «التلخيص» أدرج الصورة الأولى في الكذب، ثم بين أن الفرق بوجهين: الأول: التأويل، وهذا يختصُّ بالصورة الأولى. الثاني: بالقرينة، وهي تعمُّ الصور الثلاث. فكأنه يقول: إن الفرق بين الاستعارة وبين الكذب خطأً ــ وذلك في الصورة الأولى ــ بالتأويل والقرينة. فالتأويل يدفع خطأ الاعتقاد، والقرينة تدفع الأمرين، أي: الخطأ في الاعتقاد ومخالفة الكلام للواقع. _________ (1) (ص 306 بشرح البرقوقي). وانظر «شروح التلخيص» (4/ 68). (2) (ص 584)، وهو في «فيض الفتاح» (4/ 152).

(19/201)


والفرق بينها وبين الكذب عمدًا ــ وذلك في الصورتين الأخريين ــ بالقرينة. الفرق بين المجاز والكذب أجمعوا على أنه لابد للمجاز من علاقة وقرينة، وإنما اختلفوا في القرينة: أركن هي أم شرط؟ ولا ريب أن الخبر إذا كان فيه مجازٌ صحيح العلاقة، ظاهر القرينة= يكون المعنى الظاهر الراجح منه هو المعنى المجازي، فإذا كان المعنى المجازي هو الواقع؛ فالخبر صدق حتمًا. والنظر هنا في أمور: الأول: إذا تجوَّز المخبر في نفسه ولم ينصب قرينة، فلا ريب أن ذلك لا يكون مجازًا؛ لفقد القرينة التي هي ركن أو شرط، وهل يكون حينئذٍ كذبًا؟ لا ريب أنه عند فقد القرينة يكون المعنى الظاهر الراجح غير المعنى المجازي، وأنه إذا كان ذاك الظاهر الواضح غير مطابق للواقع كان الخبر كذبًا، وقد ذكر علماء البيان في بحث الاستعارة أنها مجاز علاقته المشابهة، وأنها مبنية على دعوى دخول المشبه في جنس المشبه به، وأن هذه الدعوى مبنية على تأويلٍ، وهو جعل أفراد المشبه به نوعين، على ما هو مشروح في كتب البيان. وبعد أن ذكر السكاكي في «المفتاح» ذلك، ذكر (1) أن الاستعارة تفارق _________ (1) راجع للنقول الآتية: «فيض الفتاح» (ج 4/ص 151 وما بعدها).

(19/202)


الدعوى الباطلة؛ لبناء الدعوى فيها ــ أي في الاستعارة ــ على التأويل، وتفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إرادة الظاهر. وشارحه العلامة القطب الشيرازي فسر الباطل بما يكون على خلاف الواقع، وفسر الكذب بما يكون على خلاف ما في الضمير. وذكر السيد الجرجاني في «شرح المفتاح» أن المراد بالدعوى الباطلة الجهل المركب، قال: «وصاحبه مصرٌّ على دعوى، متبرئ عن التأويل، فضلًا عن نصب القرينة، وأن المراد بالكذب الكذب العمد، وصاحبه لا ينصب القرينة، بل يروج ظاهره، لكن لا مانع من قصد التأويل في ذهنه». نقل هذا عبد الحكيم في حواشي «المطول»، ثم قال: «لا وجه لتخصيص مفارقة الاستعارة بهذين؛ فإنها تفارق الدعوى الباطلة مطلقًا .. بالتأويل، وعن الكذب مطلقًا، سواء كان عمدًا أو خطأ، بنصب القرينة». وقال عبد الحكيم قبل ذلك: «الأظهر عندي أن الاستعارة من حيث المعنى تشابه الدعوى الباطلة، ومن حيث اللفظ تشابه الكلام الكاذب، فتبين الفرق بأن مبنى معناها على التأويل، بخلاف الدعوى الباطلة، وأن مبنى لفظها على نصب القرينة، بخلاف الكذب». وذكر بعد ذلك قولهم: «رأيت اليوم حاتمًا»، وما ذكره بعضهم من أن الاستعارة فيه مبنية على دعوى جعل المرئي عين حاتم الطائي، وقوله: «فإن المقصود من قولك: رأيت اليوم حاتمًا، أنه عين ذلك الشخص، لا أنه فرد من الجواد». وتعقبه عبد الحكيم قائلًا: «إن كان لا عن قصدٍ فهو غلط، وإن كان

(19/203)


قصدًا فإن كان بإطلاقه عليه ابتداءً فهو وضع جديد، وإن كان بمجرد ادعاء من غير تأويل فهو دعوى باطلة، وكذب محض، فلا بد من التأويل». أقول: تفسير هذا أنك إذا رأيت رجلًا اسمه زيدٌ مثلًا، فأخبرت عن ذلك قائلًا: «رأيت اليوم حاتمًا»، فلك أربع أحوال: الأولى: أن تكون أردت أن تقول: «رأيت اليوم زيدًا»، فسبق لسانك بغير قصد إلى قولك: «حاتمًا»، فهذا هو الغلط. الثانية: أن تكون وضعت لزيدٍ هذا الاسم «حاتم»، كما تضع هذا الاسم لولدك مثلًا، فهذا وضع جديد. الثالثة: أن تكون ادعيت أن زيدًا هو حاتم الطائي عينه، بدون تأويل، فهذه دعوى باطلة، وكذبٌ محضٌ. الرابعة: أن تكون شبهت زيدًا بحاتم الطائي، وتأولت في لفظ «حاتم»، فجعلته كأنه موضوع للجواد، سواء كان ذلك الرجل المعهود من طيء أو غيره. فهذه ــ إذا صحبتها القرينة ــ هي الاستعارة.

(19/204)


[ص 33] (1) إذا فكرنا في حال الإنسان وجميع ما يحتاج إلى العلم به لتحصيل نفعٍ أو دفعِ ضرٍّ في دينه ودنياه، وجدناه في معظم ذلك مفتقرًا إلى الكلام. وقد امتنَّ الله عزَّ وجلَّ على عباده بالسمع والأبصار والأفئدة في عدة آيات، منها: قوله سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. وأكثر ما ينتفع بالسمع في سمع الكلام؛ وينتفع بالبصر في أشياء منها رؤية المتكلم، ورؤية إشارته، وقراءة الكتب؛ وبالأفئدة في أشياء: منها معرفة معاني الكلام حتى يعبر عما في نفسه عبارة صحيحة، ويفهم كلام غيره فهمًا صحيحًا. وامتنَّ الله عزَّ وجلَّ بتعليم الكتابة، وإنما منفعتها أن تنوب عن النطق والحفظ، فيكتب الإنسان الكلامَ المعبِّر عما في نفسه، أو الكلامَ الذي سمعه من غيره، أو الذي رآه في كتاب غيره، ويقرأ كتابَه غيرُه فيفهم المراد. قال تعالى في أول سورة أنزلها على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وآله وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [أول سورة العلق]. وقال سبحانه: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [أول سورة القلم]. وكذلك امتنَّ الله عزَّ وجلَّ بتعليم الكتاب المبين، قال سبحانه أولَ سورة الرحمن: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ _________ (1) من هنا تبدأ القطعة الثانية من الكتاب، وفي آخرها نقص.

(19/205)


الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]. قال بعض المفسرين من السلف: البيان الكلام. وظاهرٌ أن المراد الكلام المبين، فليس كل كلام بيانًا. ولا يخفى أن إفادة المعلومات بالكلام واستفادتها منه إنما تحصل إذا كان الكلام المنطوق به أو المكتوب مبيِّنًا للمعنى المراد إفهامُه، وكان ذاك المعنى واقعًا ينفع علمهُ الذي (1) يسمع [ص 34] أو يقرأ، عارفًا بالكلام المبين. والكلام المُفهِم معنًى غيرَ واقعٍ لا يدخل في «البيان» الذي امتنَّ الله تعالى به، لأن الامتنان به إنما هو من جهة أنه يُتوصَّل به إلى تحصيل العلوم النافعة، والمُبِين لما ليس بواقع إنما يحصل به جهلٌ لا علمٌ، ومن شأنه أن يضرَّ وتترتَّبَ عليه المفاسد. وههنا مطالب: المطلب الأول في تعريف الصدق والكذب جمهور أهل العلم على أن الخبر إن طابقَ الواقع فصِدْق، وإلَّا فكذب، وهذا قول أهل السنة كما في «المصباح» (2). وأدلَّته كثيرة، لكن غلب في العرف أن لا يقال لمن كذبَ خطأً: «كذبَ فلان»، بل يقال: «أخطأ فلان» أو «غَلِط فلان»، إلَّا أن تُقصَد نسبتُه [ص 35] إلى التقصير زجرًا له عن مثل ذلك، أو يُقصَد تأكيد الحكم ببطلان الخبر، أو يُقصَد إظهار التشنيع على المخبر كفًّا للناس عن اتباعه. وعلى هذه الثلاثة تدور الأمثلة التي ذكرها ابن عبد البر في كتاب «العلم» من إطلاق الكذب على الخطأ. _________ (1) لعل «العلم» فاعل، و «الذي» مفعول به، و «عارفًا» حال من الذي. (2) «المصباح المنير» (كذب).

(19/206)


المطلب الثاني فيمن يلحقه معرَّة الكذب العيب والإثم لا يَلحقانِ كلَّ من أخبر بخبرٍ مخالفٍ للواقع، بل يُعذَر المخطئ إذا لم يقصِّر، ويَلحقان المجازفَ. وقد يَلحقُ المخبرَ عارُ الكذب وإثمه مع أن الخبر في نفسه صدقٌ، وذلك إذا جزم بالخبر وهو يراه كذبًا أي غير واقع، أو لا يدري أنه واقع، فيلحقه العيبُ والإثم، كما يلحق من أتى امرأةً يراها أجنبيةً فبانَ أنها امرأتُه، أو كانت له أمةً لا يقربها، فصادف أمةً لا يدري أنها أمتُه فوقع عليها. المطلب الثالث في إرادة المتكلم لا يخفى أن المقصود من الكلام الإفهام، وأن إرادة المتكلم أمر خفيٌّ في نفسه، وإنما يُستدلُّ عليها بنفس الكلام أو بما يقترن به من القرائن الظاهرة، وإنما يوضع الكلام ليصير معربًا [عمَّا] في النفس. فإذا كان الخبر في نفسه أو بمعونة القرائن ظاهرًا بيِّنًا في معنى، وليس هناك قرينةٌ تَصرِف عنه= وجب القضاء بأن ذلك المعنى هو الذي أراده المتكلم. ولهذا قضى أهلُ العلم على الخبر نفسِه فقالوا: إن طابقَ الواقع فصِدْق، وإلَّا فكذب. ثم بينوا أن القرائن معتدٌّ بها في فهم الكلام. فتحرَّر من ذلك أن كل خبر تبيَّن من تدبُّرِه وتأمُّلِ القرائن التي معه إن كانت: أنه ظاهر في معنًى، فذاك المعنى إن كان واقعًا فالخبر صدقٌ، وإلَّا فكذبٌ. وفي «الزواجر» لابن حجر الهيتمي (ص 26): «نقل إمام الحرمين عن الأصوليين أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه [أضمر توريةً] (1) كفرَ ظاهرًا وباطنًا، وأقرَّهم على ذلك». _________ (1) خرم في الأصل مكان الكلمتين.

(19/207)


[ص 37] هذا، وقد نقل أهل العلم عن الظاهرية منع وقوع المجاز في كلام الله عزَّ وجلَّ وكلام رسوله. قال المحلي في «شرح جمع الجوامع»: «قالوا: لأنه كذب بحسب الظاهر، كما في قوله للبليد: هذا حمار. وكلام الله ورسوله منزَّه عن الكذب» ثم قال: «وأجيب بأنه لا كذبَ مع اعتبار العلاقة». والظاهر أن الظاهرية إنما كلامهم في المجاز الصحيح، وهو ما جمع العلاقة والقرينة كما هو شرطه، فزعموا أنه وإن لم يكن كذبًا في التحقيق فلا يكون المتكلم به كاذبًا، ولا يلزمه قبحٌ ولا إثمٌ، لكن صورته في بادئ النظر صورة الكذب، فإن الإنسان لا يكون حمارًا. يدلُّك على هذا أن الظاهرية إنما منعوا وقوعه في كلام الله تعالى وكلام رسوله، ولم يقولوا أنه كذبٌ مطلقًا يوجب القبح والإثم، وقالوا: «كذبٌ بحسب الظاهر» ولم يقولوا: كذب مطلقًا، وعَنَوا بقولهم «بحسب الظاهر» ما يتراءى منه في بادئ النظر. ويوضِّح ما قلناه تمثيلُهم بقولهم: «كما في قولك للبليد: هذا حمار»، فذكروا مثالًا صريحًا في وجود العلاقة ووجود القرينة كما لا يخفى. فالجواب بأنه «لا كذبَ مع اعتبار العلاقة» كأنه مبني على توهُّم أن الظاهرية غفلوا عن شأن العلاقة وتكلموا في المجاز الموجود معه القرينة، فزعموا أن قولك في البليد: «هذا حمار» كقولك في الكتاب: «هذا فرسٌ». وهذا غلطٌ عليهم لما قدمناه. وأبعدُ منه ما اعتُرِض به على المحلِّي، [ص 38] قال البنَّاني في «حواشيه»: قال العلامة: إذا تأملتَ قولَ المجيب مع اعتبار العلاقة، وقولَ المستدلّ بحسب الظاهر= وجدتَ الجواب غيرَ ملاقٍ للدليل، والمناسب

(19/208)


سوق الدليل مجرَّدًا عن قوله بحسب الظاهر. ثم قال: ثم الكذب لازم لإرادة المعنى الحقيقي، فارتفاعه إنما هو بإرادة المعنى المجازي، والدال عليه هو القرينة، فانتفاء الكذب لأجل وجود القرينة. أقول: أولُ كلامه مستقيم، فأما قوله: «والمناسب ... » فعجيب، فإن الشارح حكى استدلال المستدل ليجيب عنه، واستدلال المستدل مبيِّن لدعواه، فأنَّى يكون للشارح أن يتصرف في استدلال المستدل فيغيِّره ويُعمِّي مقصودَه، ثم يجيب بحسب ذلك؟ وأما آخر كلام المعترض فقد عُلِم ما فيه مما تقدم. هذا، والجواب الصحيح عن قول الظاهرية هو أن يقال: ما ذكرتموه من أن المجاز كذب بحسب الظاهر تريدون به أن صورته في بادئ النظر صورة الكذب= ليس مما يقتضي قبحًا في الكلام ولا عيبًا للمتكلم ما دام المقصود واضحًا، بل إنه إذا وقع المجاز موقعَه كان ذاك التصوير أو التخييل من أوكد الوجوه في بلاغة الكلام وقوة تأثيره في المخاطب، وهذه مصلحة عظيمة لا يحسن إهمالها توقِّيًا مما يتراءى في بادئ النظر من المشابهة للكذب. كيف وهذا الترائي لا يشتبه على عاقل؟ نعم، المقال الذي مثّلتم به ــ وهو قولك للبليد: «هذا حمار» ــ فيه شناعة وبشاعة يَجِلُّ عن مثلها الكتابُ والسنة، وليست هي أن الصورة صورة الكذب، بل هي أن فيه تحقيرًا وإهانةً للبليد لا يستحقها، لأن البلادة أمرٌ جِبلِّي لا كسبي، ألا ترى أنه لو قيل: «مثلُه كمثل الحمار» أو «كأنه حمار» لكانت الشناعة والبشاعة بحالها، لكن لما وقع هذا التشبيه [ص 39] موقعَه في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وقوله سبحانه:

(19/209)


{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر: 50]، وقوله عزَّ وجلَّ: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] = اندفعت تلك الشناعة عن الكلام والمتكلم، وانحطَّتْ على المشبَّه لاستحقاقه لها. واعلم أننا إذا فرضنا في كلام أنه يُفهِم خلافَ الواقع، وأنه لم تكن معه قرينة تصرف عن ذلك، ولم يكن هناك وجهٌ لاحتمال أن يكون المتكلم عجزَ أو جهلَ أو أخطأ، فإنه يلزم من ذلك أن يكون المتكلم أراد أن يكون كلامه ذاك مُفهِمًا خلافَ الواقع، وهذه إرادة تبعها العمل بمقتضاها، وهو الإتيان بذاك الكلام، وأقام المتكلم عليها الدليل، وهو ذاك الكلام. فهبْ أنه تأوَّل في نفسه لذاك الكلام معنًى واقعًا، فهل حقُّه أن يؤاخَذ بإرادته التي عمل بمقتضاها وأقام عليها الدليلَ، أم بتأويله في نفسه؟ وتأويله في نفسه غيبٌ عن المخاطب، ومع ذلك فقد أقام المتكلم الدليل على خلافه، ولو ساغ للمتكلم أن يعتدَّ على المخاطب بمثل هذا لساغ من باب أولى أن يعتدَّ عليه بأمرٍ في نفسه لم يتكلَّم به. وهذا هو التكليف بعلم الغيب والتكليف بما لا يُطاق، فإذا كان غيرَ جائز فأولى منه ما أقام المتكلم الدليلَ على خلافه. وما مثل ذاك التأويل إلّا مثل من يَعمِد إلى خمرٍ يعلم أنها خمر محرمة، فيخيِّل لنفسه أنها شراب تفاح أو نحوه من الأشربة المباحة، ثم يشربها مع ذلك العلم وذاك التخيل. ويَعمِد إلى امرأة أجنبية يعلم أنها أجنبية لا تحلُّ له، فيخيِّل لنفسه أنها امرأته، فيواقعها مع ذاك العلم وذاك التخيل، فهل ينفعه ذاك التخيل عند الله تعالى وعند عباده، فلا يُحكَم عليه بأنه شاربُ خمرٍ زانٍ؟ فإن قيل: فلماذا تأول إبراهيم عليه السلام في كلماته، فأراد بقوله «هي

(19/210)


أختي» الأخوة في الدين؟ ولماذا قال جمعٌ من أهل العلم في الكذب المرخَّص فيه: إن شرطه أن يتأول المتكلم في نفسه معنًى صحيحًا؟ قلت: أما كلمات إبراهيم عليه السلام فسيأتي النظر فيها ونوضِّح أن حاله كانت قرينة تدافع ظاهر الخبر، فيبقى معها مجملًا، وتلك الحال هي أنه كان يرى أنه إن [ص 40] لم يُوهِمْهم أن المرأة أخته بطشوا به، وذاك الإيهام لدفع مفسدة، ولا تترتب عليه مفسدة، فهذه الحال مظنة الترخّص في الكلام. فلو لاحظَ المخاطبون هذا لصار الخبر عندهم في معنى المجمل فلا يكون كذبًا، وإذا لم يلاحظوا كانوا هم المقصرون. وهذا إنما يفيد المباعدة عن الكذب الصريح إذا تأوَّل في نفسه تأويلًا قريبًا، وذلك لوجهين: الأول: أنه إن لم يتأوله تأويلًا قريبًا لم تُخرِجْه القرينة ــ وإن كانت صريحة ــ عن أن يكون كاذبًا، كما في قولك مشيرًا إلى كتاب: «هذا فرس»، ومثله ما لو أشرت إلى رجل فقلت: «هذا حمار»، ولم تتأول حتى لو كان الرجل بليدًا في نفس الأمر، فإن هذا لا ينفعك لأنك لم تبْنِ عليه. الوجه الثاني: أن التزام التأويل القريب في النفس يستلزم أن يجيء الكلام قريبَ الاحتمال للمعنى الصحيح، فإذا تنبَّه المخاطب لحال المتكلم ــ وقد قدّمناها ــ قوِي عنده احتمالُ التأويل، وإن كانت تلك الحال كأنها قرينة ضعيفة. وإذا لم يتأول المتكلم في نفسه تأويلًا صحيحًا قريبًا، فقد يجيء الكلام بعيدًا عن احتمال التأويل، فلا يباعده عن الكذب الصريح حتى القرينة الواضحة، فضلًا عن تلك الحال الذي ذكرناها.

(19/211)


ومع هذا كله فسيأتي أن إبراهيم ومحمدًا عليهما الصلاة والسلام قضيا على تلك الكلمات بأنها كذباتٌ وخطايا، وأن إبراهيم عليه السلام يرى يوم القيامة أن صدورها منه يُقصِّر به عن رتبة الشفاعة، ويقضي عليه بأن يستحيي من الله عزَّ وجلَّ لأجلها. فأما ما قاله بعض أهل العلم من الكذب المرخّص فيه، فسيأتي الكلام فيه، والسرّ في قولهم باشتراط التأويل في النفس يُعلَم مما قلناه في حقّ إبراهيم عليه السلام. [ص 41] المطلب الرابع في القرينة أجمع أهل العلم على أنه لابدَّ للمجاز من قرينة، فمنهم من قال: إنها ركن كالبيانيين، ومنهم من قال: شرط، ونُسِب هذا إلى الأصوليين. وأجمعوا أنه إذا لم تكن هناك قرينة فالكلام على حقيقته، فإن كان معناه الحقيقي مخالفًا للواقع فهو كذب. ومن الناس مَن يشترط في تسميته كذبًا أن لا يكون المتكلم مخطئًا يعتقد أنه واقع. واعلم أنه إذا دلّ الخبر بظاهره على معنى، وكان هناك دليلٌ يخالف ذاك الظاهر، فذاك على أوجه: الأول: أن (1) ... _________ (1) يوجد بعده بياض في الصفحة. والكلام غير متصل بما بعدها.

(19/212)


الدنيا، وليس في تلك الجهة غِربانٌ البتةَ، وأهل تلك الجهة سود، ولعل المخاطب أن يعرف ذلك ولو بعد سنين، أو يعرفه مَن بعده ولو بمئات السنين. فمن يبلغه هذا الخبر فحينئذٍ يتبيَّن أنني إنما قصدتُ بالغراب رجلًا أسود، فعلى هذا المخاطب إن راعى هذا الاحتمال [ألَّا] يقطع بظاهر الخبر. وبعدُ، فلو احتمل هذا لاحتمل مثله في نصوص الأحكام من الحلال والحرام وغيرها، إذ لا فرقَ بين أن يعتدّ في القرينة بعقلٍ غير حاصل للمخاطب، وبين أن يعتد بقرينة أخرى غير حاصلة له. ومعلوم بالضرورة أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا يتوقفون عن العمل بما ينزله الله تعالى عليهم مما له معنى ظاهر بيِّن، لاحتمال أن يكون هناك [تأويل] وإن لم يظهر لهم، وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتوقفون عن اعتقاد ظاهر الكتاب والسنة إذا لم يظهر لهم بعد التدبر قرينة صارفة عن ذلك، ولا كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل المراد بهذا الكلام هذا الظاهر؟ بل لو كلِّفوا بذلك لاحتمل مثل ذلك في الكلام الثاني، وهكذا ويتسلسل، ولو كان يلزم الناسَ شيء من ذلك لكان من أحق ما ينبِّههم عليه الله ورسوله، إذ كيف يُقِرُّهم عليه طولَ أعمارهم وهو غلط يؤدي إلى اعتقاد الباطل؟ وفوق هذا فكثيرًا ما يكون في سياق الكلام وسباقه ما يصير به نصًّا في المعنى لا يحتمل التجوُّز أصلًا، وقد يحتمل النص الواحد التجوّزَ ولكنه إذا ورد ذلك المعنى في مواضع كثيرة وكلها تفيد ذلك الظاهر متفقة عليه= استفيد من مجموعها القطعُ بذاك الظاهر. فإن قيل: فإن الله تبارك كما وصف نفسه بأنه يهدي، فقد وصف نفسه بأنه يُضلّ، وكما وصف كتابه بأنه هُدًى، فقد وصفه بأنه يُضلّ به.

(19/213)


قلت: أخبر الله تعالى بأنه يُضِلُّ من يشاء، ثم أخبر بأنه يُضلّ مَن هو مسرف كذاب، ويضل الكافرين، ويضل الظالمين، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 15]، يعني ــ والله أعلم ــ فإذا لم يتقوا تعرضوا لإضلال الله عزَّ وجلَّ. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124 - 125]. وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. فالإضلال بالقرآن ليس منه أن ينزل عزَّ وجلَّ آية لها ظاهر لا يفهم المخاطبون منها غيره، ويكون ذلك المعنى في نفس الأمر باطلًا، فإن هذا ــ مع ما فيه من التلبيس والكذب الذي يتعالى الله عز وجل عنه ــ من شأنه أن

(19/214)


يضل المؤمنين قبلَ غيرهم، لأنهم هم الذين يسارعون إلى تصديق القرآن والعمل به. وإنما الإضلال بالقرآن على وجهين: الأول: أن يكون فيه ما يستنكره مَن في قلبه ريب، أو يخالف هواه لتقليدٍ أو إعجابٍ برأي أو غير ذلك. الثاني: أن يُنزِل الله تعالى آية إذا سمعها المؤمن وتدبَّرها، ونظر في سياقها وفي الآيات الأخرى، عرف المراد بها فاهتدى بها، وإذا سمعها الكافر أو الضال رأى أنها تحتمل ما يُوافق هواه، فتمسَّك بها اتباعًا لهواه لا إيمانًا بكتاب الله. فتدبَّر الآيات المتقدمة، وانظر ما فتح الله عليَّ، تجدْه هو الحق بحمد الله عزَّ وجلَّ، فإياك أن تكون من القسم الأخير، فتضلَّ بقوله عز وجل: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا}، فتكونَ من ذلك الكثير. ثم ارْجعِ النظرَ، فانظر مَن هو المستحق لأن يهديه الله تعالى وأن يكون القرآن له هدًى، ومَن هو المستحق أن يضلَّه وأن يكون القرآن له عَمًى؟ وقد قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [أول سورة البقرة]، فهل الأحق بالهدى والاهتداء بالقرآن مَن يؤمن بالله وكتابه ورسوله، ويجعله إمامًا لا يطلب منه بدلًا، ولا يرضى بغيره حَكمًا، ولا يطلب على صدقِ خبر الله عزَّ وجلَّ دليلًا، ولا يتوقف عن الأخذ به لاحتمال أن يكون تلبيسًا، ولا يردُّه لمخالفته قولَ أفلاطون وأرسطو، والفارابي

(19/215)


وابن سينا، وفلان وفلان، وفلان وفلان، أم مَن هو على خلاف ذلك؟ والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم.

(19/216)


[ص 92] (1) أحبارهم ورهبانهم أربابًا. هذا، وقد أخطأ في معنى عبادة الشيطان فرقتان: الأولى: الخوارج؛ زعموا أن الآيات المتقدمة أو بعضها تدل على أن طاعة الشيطان شرك بالله، وحملوا ذلك على الإطلاق، فقالوا: إن كل من ارتكب كبيرة فقد أطاع الشيطان، فهو مشرك. وقد كان يلزمهم أن يطردوا ذلك في جميع المعاصي حتى الصغائر. وقد علمت الحق، وهو أن الشرك هو طاعة الشيطان في شرع الدين، بأن يوسوس للإنسان أن هذا حلال وهذا حرام، وهذا مقرب إلى الله، وأشباه ذلك، فيطيعه الإنسان، ويتخذ ذلك دينًا بغير سلطان من الله عز وجل. فأما من يطيعه في شرب الخمر مثلًا، إيثارًا لشهوته، عارفًا معترفًا بأن ذلك الفعل معصية لله عز وجل، ضارٌّ في الدين، سببٌ للخسران المبين، راجيًا أن يوفّقه الله للتوبة= فهذا ليس من الشرك في شيء؛ فإنه لم يطلب بترك الطاعة وارتكاب ذاك الفعل نفعًا غيبيًّا، بل هو عارف معترف بأن ذلك مقتضٍ للضرر الغيبي. الفرقة الثانية: جماعة من المفسرين وغيرهم؛ لم يحققوا معنى «العبادة»، ولا تدبروا الآيات حق تدبرها، فقالوا: إن هذه الآيات مما جاء على طريق التشديد، وإلا فطاعة الشيطان لا تكون عبادة له، ولا شركًا بالله عز وجل، إلا أن يطيعه في السجود لصنم مثلًا، فيكون ذلك شركًا، _________ (1) من هنا تبدأ القطعة الثالثة، وفيها استطراد في ردّ شبهة المشركين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}. وفي آخره ذكر تأخير البيان عن وقت الحاجة، ثم الضرب الثاني من المجمل (التورية).

(19/217)


ومع ذلك [ص 93] فليس عبادة للشيطان. وقد علمت الحق، ولله الحمد. وقال الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. أي ــ والله أعلم ــ: أنه لا أحد أضلُّ ممن اتبع هواه في أمر الدين، فتديَّن بالباطل لأنه يهواه، ورفض الدين الحق لأنه لا يهواه. وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]. فمن سوَّلتْ له نفسه شيئًا فهوِيَه، فاتخذه دينًا، فقد أطاع هواه تلك الطاعة التي هي عبادة، كما تقدم. واعلم أن المشركين كانوا يعلمون معنى «العبادة» والتأليه، كيف والشرع إنما خاطبهم بلغتهم، ولكن قد يغفلون عن بعض الفروع حتى ينبههم الشرع. ويتضح ذلك بما يأتي: 1 - كانوا يتخذون الأصنام تماثيل للإناث الغيبيات، التي يزعمون أنها الملائكة، ثم يكرمون تلك الأصنام، ويتبركون بها، ويتمسحون بها، ويعكفون عندها، ونحو ذلك، ويسمون ذلك عبادةً وتأليهًا للأصنام ولتلك الإناث اللواتي جعلت الأصنام تماثيل لهن.

(19/218)


2 - [ص 94] كانوا يدعون تلك الإناث، يسألون منها أن تنفعهم، ويقولون: إنهم إنما يطلبون منها أن تشفع لهم عند الله عز وجل الذي بيده ملكوت كل شيء، ويسمون مع ذلك دعاءهم ذاك عبادةً وتأليهًا لتلك الإناث، أو قل: للملائكة؛ فإنهم كانوا يزعمون أن تلك الإناث هي الملائكة. 3 - كانوا يطيعون أسلافهم ورؤساءهم في شرع الدين، كا تخاذ الأصنام، والتحليل والتحريم، وغير ذلك، ولا يسمون تلك الطاعة عبادة وتأليهًا لمن أطاعوه، فنبههم القرآن والسنة على أنها عبادة وتأليه لمن أطاعوه، وبين لهم أنهم يطيعون بتلك الطاعة الشياطين التي توسوس لهم بأن تلك الأمور من الدين، وأهواءهم التي تزين لهم اتخاذ تلك الأمور دينًا، وأن ذلك عبادة وتأليه للشياطين والأهواء. 4 - كانوا يحترمون الكعبة أبلغ من احترام الأصنام، ويرون ذلك عبادة لله، لا عبادة وتأليهًا للكعبة، وكانوا يرون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والمسلمين يحترمون الكعبة، يطوفون بها، ويقبِّلون الحجر الأسود، ونحو ذلك، ولم يتشبث بذلك أحد من المشركين بأن يقول مثلًا: إن محمدًا يعبد الكعبة، ويتخذها إلهًا، فكيف يزعم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا ينبغي أن يعبد سواه؟ ما ذلك إلا لأنه كان من الواضح المكشوف عندهم أن تلك الأعمال عبادة لله عز وجل، لا للكعبة. 5 - كانوا يعلمون أن المسلمين مما يخاطب أحدهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو بحيث يسمع كلامه عادةً، قائلًا: يا رسول الله، ادع الله لنا. ونحو ذلك. ولم يتشبث أحدٌ منهم بهذا، كأن يقول: [ص 95] إن محمدًا يقر أصحابه أن يدعوه ليشفع لهم إلى الله عز وجل، فكيف ينكر علينا أن ندعو الملائكة؛ ليشفعوا

(19/219)


لنا إلى الله عز وجل؟ وما ذاك إلا لوضوح الفرق عندهم، وعلمهم بأن سؤالهم من الملائكة دعاءٌ وعبادةٌ للملائكة، وأن ما يقع من المسلمين ليس من الدعاء الذي هو عبادة لغير الله تعالى. 6 - كانوا يعلمون طاعة المسلمين للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الأحكام الدينية، ويعلمون أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يدعو الناس إلى طاعته فيها. ولم يتشبث أحد منهم بذلك، كأن يقول: إن محمدًا يزعم أننا نعبد ونؤلِّه رؤساءنا والشياطين والأهواء بطاعتنا لهم في أمور الدين، فكيف يدعو الناس إلى طاعته في الدين، ويقر من اتبعه عليها، ثم يزعم أنه لا إله إلا الله، ولا تنبغي العبادة لغيره تعالى؟ ما ذلك إلا لعلمهم بوضوح الفرق بين الطاعتين، وأن ما وقع منهم مما ذكر حريٌّ أن يكون عبادة وتأليهًا لمن أطاعوه تلك الطاعة، واتخاذًا له ربًّا وندًّا، وأن ما يدعو إليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويقرّ عليه من طاعته في الدين ليس عبادة له ولا تأليهًا. هذا كله يوضح أنهم كانوا يعرفون أن العبادة هي الخضوع، طلبًا للنفع الغيبي. فما كان كذلك، فإن كان الله تعالى أنزل به سلطانًا، وأقام عليه برهانًا، فهو عبادة لله سبحانه، ولو كان يتراءى من ظاهره أن فيه خضوعًا لغيره تعالى. وإن لم يُنزل به الله سلطانًا، فهو عبادة وتأليه لغيره. فقد عرفوا أن الثلاثة الأمور الأولى عبادة؛ لأنها خضوعٌ يُطلَب به نفع غيبي. أما الأول والثالث؛ فظاهر.

(19/220)


وأما الثاني؛ فلأن الملائكة أنفسهم غيب؛ لأنهم لا يعلمون بطريق عادية أنهم منهم بحيث يسمعون خطابهم، أو بحيث يبلغهم بطريقٍ عاديةٍ كما يعلم الإنسان أن صاحبه حي بهذه الحياة الدنيا قريب منه، [ص 96] بحيث يسمع كلامه في العادة، فيخاطبه بكلام يسمعه، أو بعيد عنه فيرسل إليه رسولًا، أو يكتب إليه كتابًا، أو يرفع صوته بمحضر الناس لعل بعضهم يبلغه. وأما الأمر الرابع؛ فقد عرفوا أنه عبادة، كما مرّ. وأما الأمر الخامس؛ فقد عرفوا أنه ليس بعبادة؛ لأن المسلمين إنما كانوا يسألون من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الدعاء وهو حي هذه الحياة الدنيا، وبطريق عادية على نحو ما مرَّ قريبًا، حتى كانوا إذا كانوا بعيدًا منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يمكنهم الإرسال والكتابة، وأحبوا أن يعلم بأمرهم، قالوا: «اللهم بلِّغ عنا رسولك»، كما قال عاصم بن ثابت (1)، أو كما قال الخزاعي (2): اللهم إني ناشدٌ محمدًا ... حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا وكما قال خبيب بن عدي لما أراد المشركون قتله: «اللهم إني لا أجد من يُبلِّغ رسولَك مني السلام، فبلِّغْه» (3). وفي رواية (4): «اللهم إنا قد بلَّغنا رسالة رسولك، فبلِّغه الغداةَ ما يُصنع _________ (1) أخرجه البخاري (3989، 4086) من حديث أبي هريرة ضمن قصة قتله. (2) هو عمرو بن سالم الخزاعي، والرجز في «سيرة ابن هشام» (2/ 394). (3) انظر «فتح الباري» (7/ 383). (4) انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 173) و «حلية الأولياء» (1/ 113).

(19/221)


بنا». انظر «فتح الباري» (1) عند شرح باب غزوة الرجيع، قوله: «ثم قال: اللهم أَحْصِهم عددًا ... ». وانظر «سيرة ابن هشام» (2)، ذكر يوم الرجيع. أما ما يروى أن خُبيبًا نادى: «يا محمد»، فإنما أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3) من طريق الهيثم بن عدي، وهو كذَّاب، كذبه ابن معين والبخاري وغيرهما، وفي السند علل أخرى. ودعاء الإنسان الحي هذه الحياة، أعني أن يدعو الله تعالى لإنسان= ليس هو نفسه نفعًا غيبيًّا؛ لأن قدرته على ذلك واختياره فيه معروف في العادة، كسائر كلامه، والسائل إنما سأل الدعاء، لا ما يرجو أن يترتب عليه من النفع الغيبي. فإذا كان السؤال بطريق عادية، كما كان يقع من الصحابة، فليس من العبادة في شيء، [ص 97] وإنما هو سؤال نفعٍ عادي. بخلاف دعاء المشركين الملائكة ليشفعوا لهم؛ فإن الملائكة غيبٌ، وطريق السؤال مبني على الغيب، فتكون الشفاعة المطلوبة نفعًا غيبيًّا. وأما السادس؛ فقد علموا أنه عبادة. لكن كانوا ــ أعني المشركين ــ قد عرفوا أن الثلاثة الأولى عبادة لم ينزل الله تعالى بها سلطانًا، إنما هي مبنية على الخرص والهوى والتقليد لمن لم ينزل الله سلطانًا باتباعه. وأن الرابع أنزل الله تعالى به سلطانًا مبينًا، يتناقلونه خلفًا عن سلف، عن _________ (1) (7/ 383). (2) (2/ 173). (3) (1/ 245، 246).

(19/222)


خليل الله ورسوله إبراهيم الذي أنزل الله سلطانًا بتصديقه، والأمر باتباعه. وأن الخامس ليس بعبادة، كما مرّ. وأن السادس عبادة، لكن لما كان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: إنه رسول الله، وأن الله أنزل سلطانًا بتصديقه والأمر باتباعه، والمسلمون يقولون ذلك، علم المشركون أنهم إن اعترضوا على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والمسلمين أجابوهم بهذا، فلذلك تركوا ذاك الاعتراض، واقتصروا على التكذيب. الوجه الثاني لدفع شبهة المشركين في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98]: أن المشركين كانوا يعبدون إناثًا غيبيات يزعمون أنهن بنات الله، وأنهن يحببن أن يُعبَدن، وأنهن يشفعن عند الله عز وجل لعبّادهن، ويسمونهن تسمية الأنثى: اللات، العزى، مناة، ويقولون: إنهن هن الملائكة. ولا ريب أن الملائكة ليسوا بهذه الصفة، فصح بهذا الوجه أيضًا أنهم لم يكونوا يعبدون الملائكة. فأما عبادتهم لتلك الإناث، فتارة يجعلها القرآن [ص 98] عبادة لما لا وجود له، وتارة يجعلها عبادة للشياطين. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42]. وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ

(19/223)


وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 19 - 27]. فالمراد هنا باللات والعزى ومناة: تلك الإناث الخياليات التي يزعمون أنها بنات الله، وأنها الملائكة، فوبَّخهم الله عز وجل على نسبة الولد إليه، مع اختيارهم له تعالى الإناث. ثم بين أنه لا وجود لتلك الإناث، وإنما يوجد منها الأسماء، كما قال في آية العنكبوت: {مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}. ثم بيَّن أنه على فرض وجود إناث هن الملائكة، فالملائكة لا يستحقون العبادة؛ لأنهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا، حتى الشفاعة فإنهم إنما يشفعون بعد إذنه ورضاه، وقال في آية أخرى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وفي ذلك آيات كثيرة. ثم بين أن زعمهم أن الملائكة إناث، وتسميتهم إياهم تسمية الإناث، من جهلهم وضلالهم. فبهذا يتبيَّن استقامة الكلام، وانتظامه، وائتلافه. لكن كان المشركون قد جعلوا لتلك الإناث الخياليات [ص 99] تماثيل، وسموها بأسمائها، كما هي عادة المشركين إلى الآن في الهند والصين

(19/224)


وغيرها، وكما جاء في «الصحيح» (1) في شأن ودّ وسُواع ويغوث ويعوق ونسر: أنها أسماء رجالٍ صالحين كانوا في قوم نوح فهلكوا، فاتخذ لهم مَن بعدهم تماثيل، وسمَّوها بأسمائهم وعبدوها، وكما هي العادة العامة في الصور والتماثيل، فيقال في صورة الفرس: «هذا فرس»، ويقال في صورة الرجل المعروف أو تمثاله: «هذا فلان» باسم ذلك الرجل، فاشتهرت تلك الأسماء: اللات والعزى ومناة في تلك التماثيل، وتُنوسِيَ أمر الجاهلية، فظن كثير من المفسرين أنها المرادة في آيات النجم، فوقعوا في خبط شديد. وقد أوضحت هذا المقام في «كتاب العبادة» ولله الحمد، وذكرت أدلته من السنة والتاريخ وغيرهما. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 116 - 117]. وقد مر أن عبادة الشيطان هي طاعته في شرعِ الدين، ولعبادته وجه آخر، وهو: أن من شأنه أن يتعرض لعبادة البشر، لتكون في الصورة له. ولذلك جاء في الحديث: «إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار» (2). فالشمس لا تزال طالعة، تطلع على قطعة من الأرض، ثم على التي غربيها، وهكذا. فإذا طلعت على قطر [ص 100] انتصب الشيطان بين أهل ذلك القطر وبينها؛ لأن من أهل ذاك القطر من يسجدون لها عند طلوعها، _________ (1) البخاري (4920). (2) أخرجه مسلم (832) من حديث عمرو بن عبسة.

(19/225)


فيخيل الشيطان أنهم إنما سجدوا له، مع أنهم عابدون له من جهة الطاعة، كما مر. ولكنه لا يقف عند ذلك، بل يتعرض لعبادة الله عز وجل، فإذا رأى من يصلي لله عز وجل حاول أن يقف أمامه، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - باتخاذ السترة، مع الاستعاذة. وتحقيق هذا يطول، وقد أوضحته في «كتاب العبادة». فلما رأى الشياطين أن المشركين يعبدون إناثًا غيبيات، وسموها: اللات والعزى ومناة، ونصبوا لها التماثيل= قال الشياطين: ليس هناك إناث غيبيات عن الناس يحببن أن يُعبدن إلا من الشياطين، فعمدوا إلى شيطانةٍ سموها «العزى»، ووكلوها بتمثال «العزى»، وهكذا ... ويوضح ذلك ما روي في الحديث في قصة هدم «العزى»، وفيه (1): «فأتاها خالد، وكانت ثلاث سَمُرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره، فقال: ارجع، فإنك لم تصنع شيئًا فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون: يا عزَّى! يا عزَّى! فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها، تحثو التراب على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى». راجع «الدر المنثور» (2)، وغيره. _________ (1) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (11547) والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 77) من حديث أبي الطفيل. (2) (14/ 30، 31).

(19/226)


[ص 101] وفي رواية (1): «فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها ... ». ففي هذا أن السدنة كانوا يقولون بعد الهدم وقطع الشجر: «يا عزّى! يا عزّى» فالعزّى عندهم غير ما هُدِم وقُطِع. وفيه قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في تلك الشيطانة: «تلك العزى». وهو واضح فيما تقدم. هذا، وتمام الكلام في «كتاب العبادة»، وإنما المقصود أن المشركين تمسكوا بتلك الشبهة في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ... } مع ضعفها (2). فلو لم يكن معروفًا عندهم، مشهورًا بينهم أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا يعد كذبًا ولا تلبيسًا ولا تناقضًا؛ لشنَّعوا في النصوص التي جاءت من هذا القبيل. ومع هذا فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى منع تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأجابوا عن تلك النصوص بما هو معروف. ومن الضرب الثاني من المجمل: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها (3). _________ (1) «طبقات ابن سعد» (2/ 146). (2) هنا وضع المؤلف خطًّا فاصلًا، وكتب في آخره في الهامش: «آخر الاستطراد». (3) أخرجه البخاري (2947) ومسلم (2769/ 54) من حديث كعب بن مالك.

(19/227)


ومثلوا لتلك التورية بأن يسأل عن جهة أخرى غير التي يريدها، كيف طرقها ومياهها، وغير ذلك من أحوالها. وذلك أنه كان إذا أراد غزوة أمر الناس أن يتجهزوا ويستعدوا، فيخشى أن يكون هناك من يتجسس للقوم الذي يريد غزوَهم، فيذهب فينذرهم، فيستعدوا ويتحرزوا، فيسأل - صلى الله عليه وآله وسلم - عن جهةٍ أخرى عسى أن يسمع المتجسسون سؤاله.

(19/228)


[ص 47] (1) فقد كانوا يتشبثون بأوهن الشبهات، فلولا أنه كان معروفًا عندهم، مشهورًا بينهم أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا يُعدُّ كذبًا ولا تلبيسًا ولا تناقضًا؛ لشنَّعوا في النصوص التي جاءت على ذلك الوجه. ومع هذا فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى منع تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأجابوا عن تلك النصوص بما هو معروف. ومن الضرب الثاني من المجمل: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها (2). ومثَّل أهل العلم لتلك التورية بأن يسأل عن جهة أخرى غير التي يريدها، أي بأن يسأل عن طرقها ومياهها، وغير ذلك من أحوالها. وذلك أنه كان إذا أراد غزوة أمر أصحابه بأن يستعدوا ويتجهزوا، فيخشى أن يكون هناك من يتجسس للقوم الذين يريد غزوهم، فيذهب فينذرهم فيستعدوا ويتحرزوا، فيسأل - صلى الله عليه وآله وسلم - عن جهة أخرى عسى أن يسمع المتجسسون سؤاله، [ص 48] فيستنبطوا منه احتمال أنه إنما يريد غزو تلك الجهة التي سأل عنها. ففي هذا أولًا: أن سؤاله عن الجهة ليس بخبر. وثانيًا: الخبر الذي يدل عليه محتمل، فقد يسأل عن تلك الجهة خوفًا من أهلها أن يسمعوا بخروجه من المدينة إلى الجهة التي قصدها، فيخالفوه إلى المدينة، فيسأل عن جهتهم؛ ليعلم أيخشى منهم ذلك أم لا. _________ (1) من هنا تبدأ القطعة الرابعة من الكتاب. والكلام الذي قبلها في القطعة الثانية، وتكرَّر جزء منه لأن المؤلف كتبه مرةً ثانية. (2) سبق تخريجه قريبًا.

(19/229)


وقد يسأل عنها ليغزوها يومًا من الدهر، لا ليغزوها بذاك الاستعداد الحاضر. وقد يسأل عنها ليعرفها، لعل معرفتها تفيد يومًا من الدهر، مع صرف أوهام المتجسسين عن الجهة التي يريد غزوها، وظاهر الحال مع ذلك تدافع أنه إنما سأل عن تلك الجهة ليغزوها من فوره، وذلك أن من شأن الإمام المحارب أن يحرص على كتمان مقصوده. فمن تدبر هذا تبين له أن ذاك السؤال لا يظهر منه للمتدبر ما هو خلاف الواقع، بل يبقى عنده محتملًا. * * * *

(19/230)


(1) ما يأتي الخلل في فهمه من تقصير المخاطب قد يكون الكلام بحيث يتراءى منه ظهوره في معنى، فإن قصَّر المخاطب فهم ذلك المعنى، وإن تدبَّر بان له أن الظاهر الحقيقي خلاف ما ظهر أولًا، أو يتدافع الاحتمالان، فيبقى الكلام مجملًا. فمن أمثلة ذلك التي فتح الله ــ وله الحمد ــ عليّ بكشف جلية الحال فيها بما لم أره في كلام أحدٍ من أهل العلم: [ص 49] ما في «الصحيح» (2) عن سهل بن سعد: «نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار». أقول: يُعلم من مجموع الأخبار في هذا الأمر أنه كان من المقرر عند المسلمين قبل نزول هذه الآية حكمان: أحدهما: أن الصائم يحرم عليه الأكل والشرب والجماع في النهار، وهو ما بين طلوع الفجر الصادق وغروب الشمس. هذا هو المعروف في الشرع، وهو الراجح في اللغة. _________ (1) كتب المؤلف هنا «المطلب السادس»، ثم شطب عليه وكتب «الثامن»، ثم شطب عليه أيضًا. (2) البخاري (1917، 4511) ..

(19/231)


وخالف في هذا قوم فقالوا: إنما هو من الإسفار إلى غروب الشمس. فعند هؤلاء لا يحرم على الصائم الأكل وغيره بطلوع الفجر، وإنما يحرم بالإسفار، مع موافقتهم على أن وقت صلاة الصبح يدخل بطلوع الفجر. الحكم الثاني: أنه يحرم على الصائم ذلك كلُّه ليلةَ الصيام بعد النوم فيها، فمن نام بعد المغرب ثم استيقظ وهو يريد أن يصبح صائمًا لم يحل له الأكل ولا الشرب ولا الجماع بقيةَ ليلته، ثم يحرم عليه ذلك أيضًا في تمام اليوم بمقتضى الحكم الأول. ومن لم ينم لم يحرم عليه شيء في ليلته، وإنما يحرم عليه في نهاره بمقتضى الحكم الأول. فكان الأمر كذلك حتى ظهرت في الناس شدة الحكم الثاني ومشقته عليهم، فكان من ذلك أن بعضهم كان يعود إلى بيته في أثناء الليل، فيريد امرأته، فتأبى عليه زاعمة أنها قد نامت في ليلتها تلك، وهي ليلة صيام، تريد أنه بنومها يحرم عليها ما يريده [ص 50] منها، وأنه ليس له أن يوقعها في ما يحرم عليها، وإن كان هو لم ينم، فلم يلتفت بعضهم إلى قول أزواجهم ووقعوا عليهن. وكان بعضهم تغلبه عيناه بعد المغرب قبل أن يأكل، فيمتنع من الأكل بقية ليلته، ويصبح صائمًا، فيشق ذلك عليه، مع أن أكثرهم كانوا أهل عمل، يعملون بأيدهم في حوائطهم وغيرها، فغُشي على بعضهم نصفَ النهار، فأنزل الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ

(19/232)


الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]. فمن عرف الحكمين السابقين، وعرف أن الليل ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم رأى في أثناء الآية {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} = علم أن الكلام مختص بالحكم الثاني، وهو حكم الوقاع ليلة الصيام، وحرمته على من قد نام فيها، وأن هذا ترخيص في ذلك. وإذا فكّر علم أن الأكل والشرب في معنى الوقاع، من جهة منافاته للصوم، ومن جهة شدة تحريمه عليهم في ليلة الصيام على من قد نام فيها. فإذا بلغ قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} استقر عنده ذلك. أي: أن الله عز وجل نسخ الحكم الثاني، فرخص في الوقاع والأكل والشرب في ليلة الصيام، وهي ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، لمن قد نام فيها. فإذا سمع قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، فإنه إن رأى أن تبيُّن الخيطين من الغزل لا يكون إلا بعد خروج الليل بمدة= علم أنه إن حملت الآية على ذلك كان مخالفًا لما دل عليه ما تقدم أن النسخ مختص بالحكم الثاني، [ص 51] مع ما دل عليه أولها وسياقها وسبب النزول، كما مر، فيحمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده على طرف الثُّمام، فإن الكلام دائرٌ على وقت الفجر الذي يختلط فيه بياض النهار بسواد الليل، ويبدو ذلك جليًّا على ما يقرب من صورة الخيطين في الأفق الشرقي، وقد عبروا عنه في أشعارهم بالخيط.

(19/233)


قال أبو دُواد الإيادي (1) ــ وهو جاهلي ــ: فلما تبدَّتْ لنا سُدْفةٌ ... ولاح من الصبح خيطٌ أنارا فيتضح له أن هذا هو المعنى الصحيح، وإن احتمل عنده أن يتبين الخيطان من الغَزْل أول دخول النهار، فقد يتوقف، لكن يبعد عنده ذلك [من] وجوه: الأول: أن الليالي المقمرة يتبين فيها الخيطان من الغزل في أثناء الليل. الثاني: أن هذا يكون مخالفًا لما تقرر سابقًا في الشرع في ما يعرف به خروج الليل ودخول النهار، وليس هناك ما يدعو إلى هذا؛ لأن ما تقرر سابقًا هو الأيسر والأظهر. الثالث: أن من سنة الشرع أن ينوط الأحكام بعلامات جلية، كما في أوقات الصلوات، وليس تبيُّن الخيطين من الغزل مما يشبه ذلك. فيحمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده من كَثَبٍ كما مر. والظاهر أن جمهور الصحابة لم يَخْفَ عليهم الصواب، وإنما وقع في الخطأ أفراد، لعلهم كما قال عياض (2) وتبعه النووي (3): ممن قرب عهده بالإسلام، وكأنهم أخذوا آخر الآية من قوله: {وَكُلُوا}، ولم يتأملوا أولها. _________ (1) «ديوانه» (ص 352) و «لسان العرب» (خيط). (2) «إكمال المعلم» (4/ 25). (3) «شرح صحيح مسلم» (7/ 201).

(19/234)


[ص 52] فقوله تعالى بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ليس هو بيانًا لمجمل، كما توهمه بعضهم، فإن البيان كان حاصلًا قبله، ولكنه زيادة بيان وإيضاح. وفي هذا دليل على عناية الله عز وجل بعباده؛ إذ يبين لهم ما اشتبه على بعضهم، وإن كان بينًا بنفسه لمن تدبر، وفي ذلك ما يوضح قبح دعوى ابن سينا ومن وافقه، كما يأتي. هذا، وإن كان الحكم كان سابقًا ــ كما يقوله بعض أهل العلم ــ أنه إنما كان يحرم الأكل وغيره بالإسفار، فلم يترتب على خطأ الذين أخطأوا مفسدةٌ؛ لأن تبيُّن الخيطين من الغزل في غير الليالي المقمرة لا يتأخر عن الإسفار. وقد زعم بعضهم (1) أن الحكم كان هكذا، فنسخ بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ}. وهذا باطل، كما أوضحه ابن حجر في «الفتح» (2) وغيره. نعم، لو قيل: كان الحكم سابقًا إلى الإسفار، ثم نسخ بقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ... }؛ لكان أقرب. والله الموفق. المثال الثاني: ما روي أن نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اجتمعن عنده يومًا، فقلن له: أيتنا أسرعُ لحوقًا بك؟ فقال: «أطولكن يدًا» (3). فكن بعد ذلك إذا اجتمعن _________ (1) مثل الطحاوي في «معاني الآثار» (2/ 53 - 54). (2) (4/ 135). (3) أخرجه البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة.

(19/235)


يتطاولن في الجدار، ثم كانت أولهن لحوقًا به - صلى الله عليه وآله وسلم - زينب بنت جحش، وكانت من أقصرهن، ولكنها كانت أكثرهن صدقة، فعلمن أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما عنى بطول اليد كثرة الصدقة. أقول: من تدبر أصل القصة بان له أن قوله: «أطولكن يدًا» ليس بظاهر في طول اليد الحقيقي، [ص 53] بل هو ظاهر في كثرة الصدقة، فمن لم يدقق تدافع عنده الاحتمالان، فيبقى الكلام مجملًا. وبيان ذلك بأوجه: الأول: أن التصريح بأن فلانة ستموت قبل صواحبها مخالفٌ للحكمة الشرعية، ما لم تتعلق به مصلحة، ولا تظهر هنا مصلحة. وقوله: «أطولكن يدًا» لو أراد به الحقيقة، لكان تصريحًا؛ لأنهن يتطاولن فيعرفن التي هي أطولهن يدًا. الثاني: أنهن كن معتدلات الخلق، فأطولهن يدًا لابد أن تكون أطولهن مطلقًا، فلو أراد الطول الحقيقي لقال: «أطولكن»، واكتفى به. فما فائدة زيادة «يدًا»؟ ! الثالث: أنه لو أراد الطول الحقيقي لكان تصريحًا، كما مر، فلماذا عدل عن أن يسميها باسمها إلى قوله: «أطولكن يدًا»، وحملُهن على التطاول لا تظهر فيه مصلحة؟ ! الرابع: أن سرعة اللحاق به كانت عندهن فضيلة مرغوبة لهن، فالظاهر أن ترتب على عمل صالح، وليس الطول الحقيقي كذلك.

(19/236)


وفي «صحيح مسلم» (1) أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبر ابنته فاطمة بموته، فبكت، فأخبرها أنها أسرع أهله لحوقًا به، فضحكت. فإخباره لها كان لمصلحة، وهي بشارتها بما تحبه؛ ليخفف ذلك من شدة حزنها، ويعينها على الصبر، وترتب ذلك على عمل صالح، وهو حسن الصبر، ففي بعض الروايات (2) أنه قال لها: «فاتقي الله واصبري». فمن تدبر ما تقدم حمله ذلك على تطلُّب معنى آخر، فيجده قريبًا، فإن الكناية بطول اليد عن كثرة الإنفاق قريبة جدًّا، والمناسب هنا هو الإنفاق في الخير، وهذا المعنى ينفي التصريح المخالف للحكمة، ولا يؤديه أن يقال: «أطولكن»، [ص 54] فلم يكن بدٌّ من زيادة «يدًا»، وليس فيه حملٌ لهن ــ لو تدبرن فعرفنه ــ على التطاول في الجدار، أو غيره مما لا مصلحة فيه. وكثرة الصدقة عمل صالح تناسب أن ترتب عليها تلك الفضيلة المرغوبة. ويُشبه ــ والله أعلم ــ أن لا يكون خفي عليهن هذا كله، ولكن تدافع عندهن الاحتمالان، فتطاولن بناء على أحدهما، وإن كان غير متعين عندهن، فلما ماتت زينب تعين أحد الاحتمالين قطعًا. فإن قيل: ولماذا لم يصرح لهن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يقول: «أكثركن صدقة» أو نحو ذلك؟ قلت: قد يكون خشي عليهن أن يعتقدن أنها غير معينة، وإنما المدار على كثرة الصدقة، فيحملهن ذلك على التباري في كثرة الصدقة، فيضر ذلك _________ (1) رقم (2450) من حديث عائشة. (2) رقم (2450/ 98).

(19/237)


بهن، لشدة رغبتهن في سرعة اللحاق به - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومع أنه ما فيهن إلا من كانت كثيرة الصدقة. فإن قيل: فعلى هذا يكون - صلى الله عليه وآله وسلم - أحب أن لا يفهمهن أن طول اليد معناه كثرة الصدقة. قلت: لا بأس بهذا، فيكون أحب أن يبقى الكلام عندهن محتملًا للمعنيين. فإن قيل: فيكون مجملًا تأخر بيانه إلى أن ماتت زينب بعد موته بمدة. قلت: ليس هو بمجمل في الحقيقة، ورغبته - صلى الله عليه وآله وسلم - في أن يبقى الكلام عندهن محتملًا للمعنيين لا تضر، مع سلامة الكلام في نفسه من الإجمال، على أنه لو كان مجملًا محتملًا فليس في أمر الدين، فلا يضر تأخر بيانه. المثال الثالث: ما يروى من مزاحه - صلى الله عليه وآله وسلم -. كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -[ص 55] ربما لاطف بعض أصحابه بمزاحٍ تدعو إليه مصلحة، ولا يخرج عن الحق. وقد قال له بعض أصحابه: إنك تداعبنا؟ فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إني لا أقول إلا حقًّا» (1). إنما قال هذا لأن أكثر الناس لا يحسنون المزاح بالحق، أو لا يكتفون به. _________ (1) أخرجه أحمد في «مسنده» (8481) والبخاري في «الأدب المفرد» (265) من حديث أبي هريرة. وإسناده صحيح.

(19/238)


رُوي عن أنس: أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فاستحمله، فقال: «إنا حاملوك على ولد ناقة». قال: يا رسول الله، ما أصنع بولد ناقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ؟ ». انظر «مسند أحمد» (3/ 267) (1). «استحمله»: أي سأله بعيرًا يركبه، ويحمل عليه متاعه وزاده في السفر. و«ولد الناقة»: أصله في اللغة ما ولدته الناقة، صغيرًا كان أو كبيرًا، لكن من الحيوان ما لا يعرف للصغير من أولادها اسم خاص، فيقال مثلًا: «ولد زرافة» يراد الصغير , كما يقال: «ابن زرافة». فأما «الإبل» فللكبير منها اسم خاص، كبعير وجمل وناقة، وللصغير اسم خاص كفَصِيل. فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ولد ناقة» قد يتبادر منه الصغير، كما في «ولد زرافة»، والوجه أن يكون محتملًا؛ لأنه إن قيل: لو أراد الكبير لقال: «على بعير» أو «على جمل»، قيل: ولو أراد الصغير لقال: «على فصيل». وإذا كان الأمر كذلك، فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنا حاملوك» ظاهره بيِّن في أنه إنما أراد الكبير؛ لأن الصغير لا يحمل عليه، والرجل إنما سأل الحملان لحاجته إليه في الحال، والصغير لا يغني عنه شيئًا في حاجته، لكن لما كان لا يكاد الناس يقولون: «ولد ناقة»، ويقولون: «ولد زرافة» ونحوه في الصغير= استعجل الرجل، ففهم الصغير. وأراد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أولًا ملاطفة الرجل؛ ليخفَّ عنه ما أصابه من غمّ الانقطاع، ولينبهه إذا أخطأ، فيكون في ذلك تعليم له، ليحتاط بعد ذلك فلا يستعجل في البناء على ما يتراءى له من الكلام حتى يتدبره. _________ (1) رقم (13817). وأخرجه أيضًا البخاري في «الأدب المفرد» (268) وأبو داود (4998) والترمذي (1991) وغيرهم، وإسناده صحيح.

(19/239)


[ص 56] ومما قد يدخل في هذا القبيل: ما روي في إرشاد من أحدث وهو في صلاة الجماعة أن يأخذ بأنفه ويخرج من المسجد (1). قالوا (2): والحكمة في ذلك إيهام أنه رُعِف. وأقول: الأخذ بالأنف هنا عملٌ ليس بكلام، ولكنه يدل على خبر، كأنه يقول: إني رُعِفت. وقد يقال: إن هذا داخلٌ في معنى الكذب. وأقول: أما من علم بما روي في الإرشاد إلى ذلك، فإنه إذا رأى إنسانًا فعله لم يفهم منه معنى «إني رُعِفت»، بل يحتمل عنده أنه رعف، ويحتمل أنه أحدث وإنما أخذ بأنفه اتباعًا للمروي في ذلك، وبهذا يخرج ذاك الفعل عن معنى الكذب البتة. وأما من جهل ما روي في ذلك، فقد ينسب التقصير إليه بجهله. ومن عادة الناس أنهم يعيبون من أحدث في صلاته، ويضحكون منه، فقد يُخشى على من أحدث في صلاته أن يستمر فيها ظاهرًا خوفًا من عيب الناس وضحكهم، ففي الأخذ بالأنف ما يدفع المفسدتين، فإن الناس لا يعيبون من أصابه الرعاف في الصلاة، فإذا علم الإنسان أن أخذه بأنفه يدفع عنه عيب الناس وضحكهم لم يشق عليه قطع الصلاة والخروج. _________ (1) أخرج أبو داود (1114) وابن ماجه (1222) وابن خزيمة (1018) وابن حبان (2238) وغيرهم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أحدث أحدكم وهو في الصلاة فليأخذ على أنفه، ثم لينصرفْ». وإسناده صحيح. (2) انظر «معالم السنن» (2/ 22).

(19/240)


ففي ذاك الفعل دفع مفسدتين، ولا مفسدة فيه، فإنه إذا لوحظ مع ذلك ما روي في أمر من أحدث بأن يأخذ بأنفه، انتفى الكذب البتة، كما مر، والله أعلم (1). * * * * _________ (1) وللمؤلف كلام على هذه المسألة ضمن «فوائد المجاميع» (ص 138 - 141) في شرح حديث «الحياء لا يأتي إلا بخير».

(19/241)


[ص 57] (1) في المعاريض وكلمات إبراهيم يروى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب» (2). وعن عمر: «أما في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب؟» (3). وعن ابن عباس: «ما أحبُّ بمعاريض الكلام حُمْر النعم» (4). قال بعض أهل العلم: وهو كلام يشبه بعضه بعضًا في المعاني، كالرجل تسأله: هل رأيت فلانًا؟ فيكره أن يكذب وقد رآه، فيقول: إن فلانًا لَيُرَى. أقول: كثيرًا ما يحتاج الإنسان إلى الجواب ويكره التصريح، كالمثال المذكور، فإن المسؤول لما سئل احتاج إلى الجواب، وهو لا يريد الإخبار بالصدق، كأن يقول: نعم، ولا بالكذب فيقول: لا. فسلك طريقًا ثالثًا فقال: «إنه لَيُرى»، وعدوله إلى هذا يدل السائل على كراهيته التصريح، ولكنه كره أن يعرض عنه، أو يقول: لا أخبرك، أو لا تسألني؛ لما في ذلك من الإيحاش وخشونة الخلق، وقد يؤدي ذلك إلى ما لا يحمد. _________ (1) كتب المؤلف قبله: «المطلب السابع» ثم شطب عليه، وكتب «التاسع» ثم شطب عليه أيضًا. (2) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 199) من حديث عمران بن حصين مرفوعًا، وقال: تفرد برفعه داود بن الزبرقان، وروي من وجه آخر ضعيف عن علي مرفوعًا. (3) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (884) والطبري في «تهذيب الآثار ــ مسند علي» (242). (4) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8/ 535) والطبري في «تهذيب الآثار» (245) بنحوه.

(19/242)


وقوله: «إنه ليرى» ليس بظاهر في أنه رآه، ولا أنه لم يره، لكن كأنه أقرب إلى الأول، وهو الواقع. فما كان من الكلام هكذا فليس من الكذب في شيء، كما لا يخفى. فأما إذا كان المسؤول لم ير فلانًا، فلما سئل أجاب بما ذكر، فإنه إن صح أن ذلك أقرب إلى الإثبات كان فيه رائحة الكذب. فالحاصل أن الخبر إذا كان أقرب إلى الدلالة على الواقع، أو تعادل الاحتمالان، فهو غير مذموم، بل هو محمودٌ بلا ريب، للتخلص به عن الإيحاش وخشونة الخلق، كما مرَّ. وعلى ذلك ينبغي حمل ما تقدم من الآثار. [ص 58] وعدَّ جماعة من أهل العلم كلمات إبراهيم [عليه] السلام الثلاث من المعاريض (1)، وهي: أنه لما سئل عن امرأته قال: «هي أختي». ولما عرض عليه قومه الخروج معهم إلى زينتهم نظر نظرة في النجوم، فقال: إني سقيم. ولما سألوه في شأن تحطيم أصنامهم: أنت فعلتَ هذا؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون. وفي عدِّها من المعاريض نظرٌ من وجهين: الأول: أن تلك الكلمات ظاهرة في خلاف الواقع، وإن كان الظهور ليس بالواضح. _________ (1) انظر «أحكام القرآن» لابن العربي (3/ 1253) و «تفسير القرطبي» (14/ 221) ط. التركي، و «فتح الباري» (6/ 391).

(19/243)


وفي «الصحيحين» (1) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ... »، فذكر تلك الكلمات. وفي «مسند أحمد» (2) من حديث ابن عباس مرفوعًا نحوه. وفي «الصحيحين» (3) من حديث أنس مرفوعًا في ذكر فزع الناس إلى الأنبياء يوم القيامة يسألونهم الشفاعة، فيأتون آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم، ثم موسى، فيعتذر كل من هؤلاء بتقصير كان منه في الدنيا، فيذكر آدم أكله من الشجرة، وموسى قتله النفس، وفيه في عذر إبراهيم: «فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته»، زاد مسلم: «التي أصاب، فيستحيي ربه منها». وفي رواية للبخاري (4) في كتاب التوحيد: «فيقول: لست هناكم، ويذكر خطاياه التي أصابها». وفي أخرى (5): «ويذكر ثلاث كذبات كذبهن». وفي «الصحيحين» (6) من حديث أبي هريرة مرفوعًا نحوه، وفيه في قول إبراهيم في عذره: «إن ربي قد غضب اليوم ... وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات». لفظ البخاري في تفسير سورة الإسراء، ولفظ مسلم: «إن _________ (1) البخاري (3357، 3358) ومسلم (2371) .. (2) رقم (2546، 2692)، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان. (3) البخاري (6565) ومسلم (193). (4) رقم (7410). (5) عند البخاري (7440). (6) البخاري (4712) ومسلم (194).

(19/244)


ربي قد غضب اليوم ... وذكر كذباته». وقد جاء الحديث من رواية جماعة آخرين من الصحابة. فإطلاق الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام على تلك الكلمات «كذبات» يدفع أن تكون من المعاريض [ص 60] التي لا رائحة للكذب فيها. ويؤكده أن نبينا كان شديد التوقير لأبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. صح عنه أنه قال: «نحن أولى بالشك من إبراهيم» (1). وقال له رجل: يا خير البرية! فقال: «ذاك إبراهيم» (2). فكيف يُظَنُّ به أن يقول: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» وهو يعلم أنها ليست من الكذب في شيء؟ مع أنه تحرى في هذا الحديث الثناء على إبراهيم، فبيَّن أنه لم يقع منه كذب إلا تلك الثلاث، ثم قال: «ثنتين منهن في ذات الله عز وجل، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا. وقال: بينا هو ذات يوم وسارة (يعني امرأته) إذ أتى على جبار من الجبابرة .... ». فإن قيل: قد يكون الكلام من تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقول النابغة (3): ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلولٌ من قِراع الكتائب _________ (1) أخرجه البخاري (4537) ومسلم (151) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه مسلم (2369) من حديث أنس بن مالك. (3) «ديوانه» (ص 44) ط. دار المعارف.

(19/245)


قلت: إنما يحسن مثل هذا حيث يكون المستثنى واضح الخروج من المستثنى منه، وليس الأمر ههنا كذلك. وقد سماها في الحديث الآخر «خطايا»، ونظمها في سلك أكل آدم من الشجرة، وقتل موسى للنفس، وحكم إبراهيم بأنها تقصر به عن مقام الشفاعة، وتقتضي استحياءه من ربه لأجلها. وبالجملة، فالجواب عن تلك الكلمات بأنها ليست بكذب كما ترى (1). وثَمَّ جوابٌ آخر، وهو أن الظاهر أن تلك الكلمات وقعت من إبراهيم عليه السلام قبل نبوته، كما أن قتل موسى [ص 61] النفس كذلك، وقد قصَّ الله تعالى عنه أنه ذُكِّر بتلك الفعلة، فقال: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 20 - 21]. وقريب من ذلك حال آدم، فإن أكله من الشجرة كان في الجنة قبل النبوة المعتادة. وقد قال الله تعالى في القصة التي ذكر فيها قول إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} وهي إحدى الكلمات: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ _________ (1) ذكر المؤلف هنا كلامًا وأحاطه بدائرة، ونصه: (فإن قيل: فما حكمها في شرعنا؟ قلت: أما من جهة الاسم فالظاهر دخولها في الكذب، وأما من جهة الإثم فلا إثم في مثلها إذا وقع ممن ليس بنبي، بل يمكن أن يقال بالاستحباب. فأما الأنبياء فالذي يظهر من الأدلة أنه ينبغي تنزههم عنها؛ لما يأتي في المطلب العاشر، إن شاء الله تعالى).

(19/246)


الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 59 - 63]. والكلمة الثانية وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] كانت قبل ذلك، فأما الثالثة وهي قوله: «هي أختي»، فالظاهر ــ والله أعلم ــ أنها بعد ذلك، لكن في سياق القصة ما قد يُشعِر بأنها كانت قبل النبوة. فإطلاقهم عليه «فتى» ظاهر في أنه يومئذٍ لم يبلغ أربعين سنة، فإن الفتى هو الشاب الحدَث، كما في «المصباح» (1). وقد صرح كثير من أهل العلم أن الأنبياء إنما نُبِّئوا بعد بلوغ كل منهم أربعين سنة، كما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام. وجزم به القاضي أبو بكر ابن العربي وآخرون، وتأولوا ما في قصتي يحيى وعيسى. وقال قوم: إن ذلك هو الغالب. فإن قيل: فإن اثنتين من تلك الكلمات وقعتا في صدد دعوته قومه إلى التوحيد، والثالثة يظهر أنها بعد ذلك، فكيف يدعو قبل النبوة؟ قلت: قد كان هداه الله تعالى [ص 62] من صباه بتوجيه نظره إلى الآيات الكونية. قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ _________ (1) «المصباح المنير» (فتي).

(19/247)


وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}. ثم ذكر القمر والشمس {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 75 - 80]. فكان يُحاجُّ قومه بما هداه الله إليه بنظره. فإن قيل: لو كانت تلك الثلاث قبل النبوة لَذكر معها قوله: «هذا ربي»، فإن هذا أشد. قلت: قد ذكر في بعض الروايات (1)، لكن قيل: إنه خطأ من الراوي (2). وعلى هذا فقد يقال: إنما لم تذكر تلك الكلمة؛ لأنها كانت في الطفولة، كما قاله بعض أهل العلم (3)، وتلك الثلاث كانت بعد البلوغ. وفي هذا نظر؛ فإن قول النبي (- صلى الله عليه وآله وسلم -): «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» يعم الطفولة. وقد يقال: إنما لم يذكرها لأن إبراهيم لم يرد بها الإخبار، وإنما أراد الاستفهام الإنكاري. وهذا القول حكاه ابن جرير (4) عن بعض أهل النظر، وردَّه، وروى عن _________ (1) «صحيح مسلم» (194/ 328). (2) انظر «فتح الباري» (6/ 391). (3) انظر «تفسير القرطبي» (14/ 223، 8/ 438) ط. التركي. (4) «تفسيره» (9/ 359).

(19/248)


ابن عباس (1) ما ينص على أن الكلام على الإخبار، وأن إبراهيم فعل ما يوافق ذلك. ولم يذكر ابن جرير عن أحدٍ من السلف خلافه. ومع هذا، فمن مال إلى هذا التأويل من أهل النظر وجهوه بأن إبراهيم أراد في نفسه الاستفهام، وأراد في الظاهر إيهام قومه أنه موافق لهم، ليكون ذلك أقرب إلى جرِّهم إلى الحق. وعلى هذا، فهذه الكلمة بل الكلمات أشدُّ من تلك الثلاث، والحديث السابق يأبى ذلك، كما مر. فإن قيل: أفليس الأنبياء معصومين من الكفر مطلقًا؟ قلت: ليس هذا بكفر في حكم الشرع؛ فإن إبراهيم عليه السلام قال ذلك قبل أن يفرض عليه، فضلًا عن أن تقوم عليه [حجة] بنظرٍ ولا غيره، وهو حريصٌ على معرفة الحق، باذلٌ وُسْعه في تحصيلها، صادق العزم على اتباع الحق على كل حال، ليس في نفسه شائبة هوى في غير الحق. فإن كان ذلك في الطفولة، فالأمر واضح. فإن قيل: فعلى هذا أيضًا يبقى الإشكال بحاله، أو أشد؛ فإن قوله: «هذا ربي» يكون خبرًا مخالفًا للواقع ظاهرًا وباطنًا، وتلك الثلاث إن كان الخبر فيها بخلاف الواقع فظاهرًا فقط. قلت: تلك الثلاث كانت عمدًا، أي أن إبراهيم كان يعلم أن الظاهر غير واقع، وأما قوله: «هذا ربي» فخطأٌ محضٌ غير مُؤاخَذٍ به. والمتبادر من قولهم: «لم يكذب فلان» نَفْي أن يكون وقع منه إخبارٌ بخلاف الواقع يلام عليه. _________ (1) أخرجه الطبري (9/ 356) وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1328، 1329).

(19/249)


وفي «صحيح مسلم» (1) في أحاديث البكاء على الميت: «فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ». وفي رواية (2): «قالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذَّبين، ولكن السمع يخطئ». وقولهم: «كذب فلان»، المتبادر منه أنه تعمد، أو أخطأ خطأً حقُّه أن يلام عليه. ومن ذلك حديث: «كذب أبو السنابل» (3)، وقول عبادة: «كذب أبو محمد» (4)، وقول ابن عباس: «كذب نوف» (5)، وما أشبه ذلك. والكذب لغة: هو مخالفة الخبر ــ أي ظاهره الذي لم تُنصَبْ قرينة على خلافه ــ للواقع مطلقًا. لكن لشدة قبح الكذب، وأن العمد أغلب من الخطأ، كان قولنا: «كذب فلان» مشعرًا بذمه، فاقتضى ذلك أن لا يؤتى بذلك حيث ينبغي التحرز عن الإشعار بالذم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. هذا، ولم يرد إبراهيم عليه السلام بقوله: «هذا ربي» رب العالمين، وإنما بنى على ما كان يقوله قومه في الكواكب، وهو أن أرواح الملائكة _________ (1) رقم (932/ 27). (2) رقم (929/ 22). (3) سبق تخريجه. (4) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 123) ومن طريقه أبو داود (1420) والنسائي (1/ 230). (5) أخرجه البخاري (122، 3401) ومسلم (2380).

(19/250)


متعلقة بها، مدبرة بواسطتها ما أقدرها الله عليه، أو شافعة إليه، ولما رأو أن الكواكب لا تكون ظاهرة أبدًا اتخذوا الأصنام تذكاراتٍ لها، ولأرواحها، فكانوا يعظِّمون الأصنام والكواكب تقربًا لتلك الأرواح، ويقولون: [ص 63] إن الله تعالى رب الأرباب، وإله الآلهة. وقد أوضحت هذا بدلائله من الكتاب والسنة وأقوال السلف، والآثار التاريخية، والمقالات، وغير ذلك في كتاب «العبادة». ولله الحمد. وعلى كل حال، فتلك الكلمات إن ترجح أنها داخلة فيما يُسمَّى كذبًا فهي من أخفِّ ذلك وأهونِه. ولنبين ذلك في إحداها: دخل إبراهيم ومعه امرأته سارة بلدًا كان ملكه جبارًا، إذا سمع بامرأة جميلة أخذها، فإن كان لها زوج بطش به، فلما سمع الجبار بسارة أرسل إلى إبراهيم فسأله عنها، فخاف أن يقول: امرأتي، فيبطش به، وأن يقول: أجنبية عني، فيقال: فما شأنك معها؟ فقال: «هي أختي»، وأراد الأخوة الدينية، فإطلاق «أخ»، و «أخت» في الأخوة الدينية شائع ذائع، فاحتمال الخبر للمعنى الواقع قريب كما ترى. ومع ذلك، فهناك قرينة من شأنها إذا تنبه لها المخاطب أن توهن الظاهر، وهي أن تلك الحال يحتاج من وقع في مثلها إلى التورية وإيهام خلاف الواقع؛ ليدفع عن نفسه الظلم، ويدفع عن مخاطبيه الوقوع في الظلم، ولا تترتب على ذاك الإيهام مفسدة. فقد يقال: إن هذه الحال قرينة إذا نظر إليها على هذا الوجه، ولوحظ أن

(19/251)


الخبر محتمل احتمالًا قريبًا لغير ظاهره= صار الخبر مجملًا محتملًا لكل من المعنيين على السواء، فعلى هذا لا يكون كذبًا. لكن قد يرد على هذا أن تلك الحال إذا لوحظت إنما تقتضي أن من وقع فيها قد يترخص في الكذب، فالاعتداد بها لا يبرئ الخبر عن اسم الكذب. ألا ترى أنه لو علم الجبار بالواقع لكان له أن يقول لإبراهيم: لم كذبت؟ (1). _________ (1) أشار المؤلف بعدها إلى أن تتمة الكلام في (ص 19). والتتمة في «القائد» ضمن «التنكيل» (2/ 398)، والبحث كله هناك بنحو ما هنا.

(19/252)


المطلب العاشر (1) ما رُخِّص فيه مما يقول الناس: إنه كذب في «الصحيحين» (2) من طريق ابن شهاب الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس، فيَنْمِي خيرًا أو يقول خيرًا». زاد بعضهم (3): «قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرخَّص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها». ولم يسمِّ ابن شهاب من سمع منه الترخيص في هذه الثلاث. وأدرج بعضهم هذه الزيادة في الحديث، فجعلها من كلام أم كلثوم، ولفظه: «وقالت: ولم أسمعه يُرخِّص ... ». هكذا في «صحيح مسلم» (4)، وفي «مسند أحمد» (6/ 403) (5): «وقالت: لم أسمعه ... ». وأشار مسلم والنسائي إلى أن الصواب أنها من قول الزهري، كما في _________ (1) كتب المؤلف أولًا «الثامن»، ثم شطب عليه وكتب «العاشر». (2) البخاري (2692) ومسلم (2605). (3) في رواية مسلم. (4) في الرواية الثانية له. (5) رقم (27272).

(19/253)


«فتح الباري» (1)، وفيه: «وجزم موسى بن هارون وغيره بإدراجها». أي أدرجها بعضهم في الحديث، وإنما هي من قول الزهري. وكان الزهري فقيهًا، يروي الحديث، ثم يذكر كلامًا من عنده في تفسير الحديث، أو فيما يستنبط منه، أو نحو ذلك، فربما توهم بعض السامعين أن ذلك من تمام الحديث. وفي «فتح المغيث» (ص 103) (2): «وقد قال أحمد: كان وكيع يقول في الحديث: «يعني». وربما طرح «يعني» وذكر التفسير في الحديث، وكذا كان الزهري يفسِّر الأحاديث كثيرًا، وربما أسقط أداة التفسير، فكان بعض أقرانه دائمًا يقول له: افصِلْ كلامك من كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -». [ص 64] وقد أخرج أبو داود (3) من طريق أبي الأسود النضر بن عبد الجبار عن نافع بن يزيد عن ابن الهاد أن عبد الوهاب بن أبي بكر حدثه عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يرخِّص في شيء من الكذب إلا في ثلاث، كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «لا أعدُّه كاذبًا: الرجل يُصلِح بين الناس، يقول القول لا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدّث امرأته، والمرأة تحدّث زوجها». _________ (1) (5/ 300). (2) (1/ 287، 288) ط. الهند. (3) رقم (4921). وقد وهم عبد الوهاب في رفعه، قال الدارقطني في «العلل» (9/ 359 طبعة الدباسي): هذا منكر، ولم يأتِ بالحديث المحفوظ الذي عند الناس. وانظر «الفتح» (5/ 300).

(19/254)


ورجاله موثقون، إلا أن النضر بن عبد الجبار اختلط عليه حديثه عن نافع بن يزيد، فكان لا يميز بين ما هو سماعٌ له منه، وما هو إجازةٌ. وأخرج الطبراني في «المعجم الصغير» (ص 37) (1) نحوه من طريق وهب الله بن راشد، ثنا حيوة بن شريح، ثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد، ثنا عبد الوهاب بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن حميد. وقال: لم يروِه عن حيوة بن شريح إلا وهب الله بن راشد. ووهب الله صدوق يخطئ كثيرًا. فإما أن يكون أحد الرواة وقع له الحديث، وفيه تلك الزيادة مدرجة، فروى بالمعنى وقدّم وأخّر. وإما أن يكون ابن شهاب سمع من حميد نفسه الأصل الذي في الصحيحين، وسمع من رجل عن حميد عن أمه الترخيص في الثلاث، فكان ربما اقتصر على ما سمعه من حميد، وربما أتبعه بما سمعه من رجل عن حميد على أنه من كلامه ــ أي الزهري ــ، أو على أنه أرسله عن أم كلثوم. وربما روى ما سمعه من رجل عن حميد فدلّسه، فإن ابن شهاب مدلس، وفي هذه الرواية: ابن شهاب عن حميد. فإن صح هذا الاحتمال الثاني تعين أن يكون ابن شهاب سمع تلك الزيادة من رجل عن حميد، والرجل مجهول، وابن شهاب يروي عن كل أحد. _________ (1) (1/ 70) ط. المكتبة السلفية.

(19/255)


وإن صح الاحتمال الأول، فقد يكون ابن شهاب إنما بلغه تلك الزيادة من طريق شهر بن حوشب. وفي «مسند أحمد» (6/ 404) (1): «ثنا حجاج، قال: ثنا ابن جريج، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة أنها [ص 65] قالت: رخّص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الكذب في ثلاث: في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وقول الرجل لامرأته». وفي هذا ــ مع عنعنة ابن شهاب ــ عنعنة ابن جريج، وهو مدلس أيضًا. فأما حديث شهر بن حوشب، فأخرج الترمذي في كتاب البر والصلة من «جامعه» (2) من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثيم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يصلُح الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس». ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن، لا نعرفه من حديث أسماء إلا من حديث ابن خثيم، وروى داود بن أبي هند هذا [ص 66] الحديث عن شهر بن حوشب عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرسلًا، لم يذكر فيه: عن أسماء. أقول: وابن خثيم وثّقه جماعة، لكن وصفه جماعة بالغلط، حتى قال ابن المديني: إنه منكر الحديث. وداود بن أبي هند أثبت منه، فالراجح أن _________ (1) رقم (27278). (2) رقم (1939). وأخرجه أيضًا أحمد (27597، 27608) والطبراني في «الكبير» (24/ 166).

(19/256)


الحديث مرسل، وشهر تكلم فيه شعبة وغيره، ووثَّقه غير واحد، والله أعلم. وترجم البخاري في كتاب الجهاد: «باب الكذب في الحرب» (1). وأورد فيه قصة قتل كعب بن الأشرف (2)، وفيها أن محمد بن مسلمة رضي الله عنه انتدب لقتله، فذهب وخادع كعبًا، قال له: «إن هذا ــ يعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ قد عنَّانا وسألَنا الصدقة». وذكر البخاري القصة في الباب الثاني (3)، وفيها في محاورة محمد بن مسلمة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عند الانتداب لقتل كعب: «فأْذن لي فأقول , فقال: قد فعلت». ففي هذا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أذن لمحمد بن مسلمة أن يقول، يعني أن يقول ما يحتاج إليه في التوصل إلى قتل ابن الأشرف. وفي «مسند أحمد» (3/ 138) (4): «ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، قال: سمعت ثابتًا يحدث عن أنس قال: لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خيبر قال الحجاج بن عِلاط: يا رسول الله! إن لي بمكة مالًا، وإن لي بها أهلًا، وإني أريد أن آتيهم، فأنا في حلٍّ إن نلتُ منك أو قلت شيئًا؟ فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقول ما شاء، فأتى امرأته حين قدم، فقال: اجمعي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد (- صلى الله عليه وآله وسلم -) وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا، أو أصيبت [ص 67] أموالهم، قال: ففشا ذلك ... فجمعت امرأته ما كان عندها _________ (1) (6/ 158) مع «الفتح». (2) رقم (3031) .. (3) رقم (3032). (4) رقم (12409).

(19/257)


من حليٍّ ومتاع، فجمعتْه ثم دفعته إليه، ثم استمرَّ (1) به .. ». وذكر ابن إسحاق (2) القصة بغير إسناد، وذكر فيها عن الحجاج ما هو كذب ظاهر، فإن فيها عن الحجاج أنه لقي جماعة من قريش، فقالوا له: «بلغنا أن القاطع (يريدون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -) قد سار إلى خيبر ... » وأنه أجابهم بقوله: «قد بلغني»، ثم قال: «قلت: هُزِم هزيمةً لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلًا لم تسمعوا بمثله قط، وأُسِر محمد أسرًا، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة ... ». فهذا لا يصلح للحجة، وإنما الاعتماد على حديث أنس، فإن سنده صحيح. أقول: أما حديث «ليس الكذاب ... » فهذا التركيب يأتي في الكلام على وجهين: الأول: أن يقصد به بيان أن حصول مدلول خبر «ليس» منافٍ لحصول مدلول اسمها على الكمال. كحديث: «ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش البذيء» (3) _________ (1) كذا في الطبعة القديمة من «المسند» و «غاية المقصد» (2729) و «إتحاف الخيرة» (4597). وفي طبعة الرسالة: «انْشَمَر» أي تهيَّأ، وهو كذلك في «مصنّف عبد الرزاق» (9771) و «المعجم الكبير» للطبراني (3196) و «دلائل النبوة» (4/ 268). (2) كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 345 وما بعدها). (3) أخرجه أحمد في «المسند» (3839) والبخاري في «الأدب المفرد» (332) والترمذي (1977) وغيرهم، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي عن عبد الله من غير هذا الوجه. وصححه الحاكم في «المستدرك» (1/ 12) على شرط الشيخين.

(19/258)


فالمعنى أن كل واحدة من هذه الخصال تنافي كمال الإيمان، فكثرة الطعن في أعراض الناس تنافي كمال إيمان الطعان. وقِسْ على ذلك. وكحديث: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس، تردُّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يُغنيه، ولا يُفطَن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» (1). فطواف الفقير على الناس من شأنه أن يحصل به ما يُعيشه، وذلك منافٍ لكمال المسكنة. وكحديث: «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه» (2). الوجه الثاني: أن يقصد به أن حصول مدلول خبر «ليس» لا يحصل به مدلول اسمها على الكمال. كحديث: «ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس» (3). فالمعنى [ص 68] أن كثرة العرض لا يحصل بها الغنى الكامل. وكحديث: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (4). فأما حديث: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعَت رحِمُه وصَلَها» (5)، فيحتمل الوجهين، فإن أريد بالمكافئ من يكافئ على _________ (1) أخرجه البخاري (1476، 4539) ومسلم (1039) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (112) وأبو يعلى (2699) والحاكم في «المستدرك» (4/ 167) من حديث ابن عباس. (3) أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة. (4) أخرجه البخاري (6114) ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة. (5) أخرجه البخاري (5991) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

(19/259)


الوصل ويكافئ على القطع؛ فهو من الوجه الأول، وإن أريد به المكافئ على الصلة بحيث يشمل المتواصلين اللذين لم يقطع أحد منهما صاحبه قطُّ، فهو من الوجه الثاني. فالصلة الكاملة أن تصل قريبك وإن قطعك، فإن اتفق أنه لم يقطعك قط كفاك في كمال الصلة أن تكون عازمًا على أنك لا تقطعه ولو قطعك. والقطيعة الكاملة أن تقطعه وإن وصلك، فإن اتفق أنه لم يصلك قطُّ كفى في كمال القطيعة أن تكون عازمًا على أن لا تصله وإن وصلك. والمكافأة ليست بصلة كاملة، ولا قطيعة كاملة. إذا تقرر هذا، فحديث: «ليس الكذاب بالذي يُصلِح ... » إن حُمل على الوجه الأول، فالمعنى: أن جريان عادة الرجل بالسعي للإصلاح بين الناس، فيقول الخير، ويَنْمي الخير، ينافي أن يكون كذابًا، فإن الكذاب هو من كثر كذبه وفحش، فصار سجية له. وفي حديث «الصحيحين» (1): «وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا». ومن كان كذلك إنما يتحرى ما يراه محصِّلًا لأغراضه في الدنيا، فإذا علم برجلين أو فريقين متخاصمين أتى هذا فجاراه على هواه، فيقول في خصمه الشر، وينمي عنه الشر، ليحصل غرضه منه، وإذا جاء الآخر جاراه على هواه أيضًا، فقال في خصمه الشر ونَمى الشر، فيزيد ذات بينهما فسادًا. فحاله حال المنافق، وفي حديث «الصحيحين» (2) [ص 69]: «علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خان». _________ (1) البخاري (6094) ومسلم (2607) عن ابن مسعود، واللفظ لمسلم. (2) البخاري (33، 6095) ومسلم (59) من حديث أبي هريرة.

(19/260)


وفوق هذا، فإنما يعتاد السعي بالإصلاح من يرجو أن يتيسر له ذلك، وإنما يتيسر لمن عُرف بالصدق، واشتهر به؛ لأنه هو الحريّ بأن يقبل كل من الخصمين قوله، ويعتمد على خبره، ومن عُرف بالكذب وشُهِر به بعيد عن ذلك. فإن قيل: فما فائدة الحديث على هذا الوجه؟ قلت: من فائدته إرشاد المتخاصمينِ إلى أن يقبل كلٌّ منهما كلام المصلح الذي عُرف باعتياد الإصلاح، وقول الخير، ونمي الخير، ويعتمد على خبره؛ لأن تلك الحال شاهدة له أنه ليس بكذاب. وعلى هذا الوجه لا يكون في الحديث ما يدل على الرخصة. وكما أن حديث: «ليس المؤمن بالطعان ... »، وحديث: «ليس المؤمن بالذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه» = لا يقتضيان نفي الإيمان البتة، ولا إثباته في الجملة، فكذلك هذا الحديث لا يقتضي نفي الكذب البتة عمن اعتاد الإصلاح وقول الخير ونمي الخير، ولا إثبات الكذب في الجملة. وكما أن ذينك الحديثين لا يقتضيان أنه على فرض ثبوت الإيمان في الجملة لا حكم له، والأدلة الأخرى تقتضي أن له حكمًا، وأنه نافعٌ في الدنيا والآخرة= فكذلك هذا الحديث لا يقتضي أنه على فرض ثبوت الكذب في الجملة ممن اعتاد الإصلاح لا حكم له، فيطلب حكمه من الأدلة الأخرى، والأدلة العامة في تحريم الكذب تتناوله. وإن حُمل على الوجه الثاني، فالمعنى أن اعتياد الرجل الإصلاحَ فيقول

(19/261)


الخير وينمي الخير، لا يكفي وحده لأن يكون كذابًا. ثم يكون فيه احتمالان: الأول: أن يكون المعنى: أن هذا ليس بالكذاب الراسخ في الكذب، وإن كان فيما يقوله وينميه من الخير ما هو كذب. فعلى هذا لا يكون في الحديث دلالة (1). * * * * [ص 74] وأما قول الزهري: «ولم أسمع يرخَّص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب، إلا في ثلاث .. » فلا يُدرى ممن سمع الترخيص، ولعله إنما بلغه مرسلُ شهرٍ (2). وعدول الزهري عن أن يقول: «في شيء من الكذب» إلى قوله: «في شيء مما يقول الناس إنه كذب» ظاهرٌ في أن المرخَّص فيه عنده ليس هو الكذب حقيقة، وإنما هو ما قد يقرب منه من المعاريض. وحديث أبي داود قد مرَّ ما فيه، ومرَّ ترجيح الأئمة أن ذاك الكلام لم يسنده الزهري، فإما أن يكون الإسناد في تلك الرواية خطأ، وإما أن يكون الزهري لم يسمع ذلك من حميد، وإنما سمعه من رجل عن حميد، فدلَّسه، والثابت سماع الزهري له من حميد هو ما في الصحيحين. وأما حديث الترمذي؛ فقد ترجَّح أن شهرًا أرسله، وشهر مختلف فيه، فلا تقوم الحجة بهذا الحديث. _________ (1) هنا نهاية الورقة (69) في الأصل، والأوراق (70، 71، 72، 73) غير موجودة. (2) شهر بن حوشب.

(19/262)


وأما إذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمحمد بن مسلمة وللحجاج بن علاط أن يقولا، يعني ما يحتاجان إليه في التوصل إلى المقصود، وهو قتل محمدٍ كعبَ بن الأشرف، واستنقاذ الحجاج ماله من المشركين. فالذي كان محمد بن مسلمة يحتاج إليه هو أن يوهم أنه يميل إلى النفاق، والذي كان الحجاج يحتاج إليه هو إيهام أنه على شركه، وأن المسلمين انهزموا عن خيبر، وغنم اليهود أموالهم. وفي استئذان الحجاج من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله: «فأنا في حلٍّ إن نِلتُ منك؟»، ونيل الرجل من صاحبه أن يعيبه وينتقصه. فهل أذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقولا كل ما يحتاجان إليه، ولو كلمة الكفر، كأن يصرح أحدهما بتكذيب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وسبِّه وسبِّ من أرسله؟ فإن قيل: أما التصريح بالكفر، فلا يجوز إلا لمن أُكرِه عليه. قلت: فكما خرج هذا لعموم الأدلة المانعة من قول الكفر، فكذلك يخرج الكذب لعموم الأدلة المحرمة للكذب. وعلى هذا، فإنما أذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ والله أعلم ــ في ما جرت به عادة عقلاء الرجال في مثل تلك الأحوال، من الإيهام، كقول محمد بن مسلمة: «إن هذا ــ يعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ قد عنَّانا، وسألنَا الصدقة» صِدْق؛ فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قد عنّاهم في سبيل الله، وسألهم الصدقة يأخذها من أغنيائهم، فيردها على فقرائهم. غاية الأمر أن تلك الكلمة «قد عنّانا وسألنا الصدقة» تُشعر بأن قائلها قالها على سبيل الشكوى.

(19/263)


نعم، في بقية كلام محمد بن مسلمة في رواية البخاري في المغازي (1): «وإني قد أتيتك أستسلفك ... وقد أردنا أن تُسلِفنا وسقًا أو وسقين ... » ثم ذكر طلب كعبٍ الرهن، وجواب محمد وأصحابه، وفيه: «ولكنا نَرْهنك اللَّأمة». أقول: كان مجيء محمد بن مسلمة ومن معه إلى ابن الأشرف مرتين، جاءوه أولًا وليس معهم سلاح؛ ليطمئن إليهم، وسألوه أن يُسلِفهم طعامًا، كأنهم قد علموا أنه سيطلب منهم الرهن، فيقررون معه أن يرهنوه سلاحًا، فإذا وافقهم على ذلك رجعوا، ثم عادوا إليه ومعهم السلاح؛ ليظن أنهم جاءوا به ليرهنوه، فلا يحذر منهم، فكان الأمر كما ظنوا، استسلفوه فطلب منهم الرهن، فقاولوه إلى أن قالوا: نرهنك اللأمة، أي السلاح، فقبل، فذهبوا وعادوا بسلاحهم، فدعَوه فخرج إليهم فقتلوه. فقول محمد: «أتيتك أستسلفك» صدق؛ لأنه جاء أولًا ليستسلفه، أي: يطلب منه أن يُسلِفه، وإن كان مقصوده بطلب السلف ما قدمنا. أما قوله: «وقد أردنا أن تسلفنا»، فإرادة الإنسان لفعل غيره قد تكون بمعنى الطلب، تقول: أردت من زيد أن يقوم، أي: طلبت منه أن يقوم. وقد تكون بمعنى المحبة. فإن كانت هناك بمعنى الطلب فهو صحيح؛ لأنهم طلبوا أن يسلفهم، [ص 76] وإن كانت بمعنى المحبة فلا مانع من أن يكونوا يحبّون أن يُسلفهم، وإن لم يجيئوه لذلك. _________ (1) رقم (4037).

(19/264)


وأما قوله: «نَرهَنُك اللأمة» فلا يخفى أن معناه: إن أعطيتنا التمر رهنَّاك، وقد علموا أن إعطاء التمر لن يكون. وأما قصة الحجاج بن عِلاط الثابتة بالمسند، فقوله: «فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه» لا مانع من صحته على ظاهره، وأنه كان يريد أن يشتري من الغنائم التي غنمها المسلمون من خيبر. وقوله: «غنائم محمد وأصحابه» إنما يفهم منه أنهم غنموها، لا أن غيرهم غنمها منهم. تقول: هذه غنيمتي، فلا يفهم من هذا ــ حيث لا قرينة ــ إلا أنك غَنِمتَها، ولا يكاد يصح أن تقول ذلك وأنت تريد أنها التي غنمها غيرك منك. ويوضحه: أنك إن قلت: «غنيمتي» بمعنى التي غنمها غيري مني، فالإضافة هنا لا تكون بمعنى «من»؛ لأن ذاك خاصٌّ بإضافة الشيء إلى جنسه، كقولك: «خاتمُ حديدٍ»، فإنما تكون الإضافة إذًا بمعنى «اللام»، كأنك قلت: «غنيمة لي»، وهذا لا يصح إلا على التجوز البعيد، بمعنى أنها قبل أن تغنم كانت مملوكة لي. فإذ قد ثبت أن قوله: «غنائم محمد وأصحابه» إنما يُفهِم الأموال التي غنمها محمد وأصحابه، فنقول: إنه قد كان اشتهر في تلك المدة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خرج بأصحابه يقاتل أهل خيبر، فهذه قرينة أن المراد بقوله: «غنائم محمد وأصحابه» هي الأموال التي غنموها من خيبر. وكان أهل خيبر في حصونهم، فلن تُغنم أموالهم حتى يستباحوا. فقوله: «أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه» يدل على أن أهل خيبر قد استبيحوا، وأصيبت [ص 77] أموالهم.

(19/265)


فقوله بعد ذلك: «فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم» إن نُظِر إليها مع الغفلة عما قبلها، سوى أن فيما قبلها ذكر محمد وأصحابه= فلا ريب أن الظاهر الواضح منها هو أن محمدًا وأصحابه استُبيحوا وغُنِمت أموالهم، وقد كان اشتهر كما تقدم ما يدل أن الذين استباحوا وغنموا هم يهود خيبر. وأما إن نُظِر إليها بعد فَهْم ما قبلها على الوجه، فإن السامع يتردد للتعارض، فإن قوله: «أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه» ظاهرٌ بيِّن في أن محمدًا وأصحابه استباحوا أهل خيبر، وغنموا أموالهم، وقوله: «فإنهم قد استُبيحوا ... » ظاهرٌ في عكس ذلك. وكما يحتمل أن يكون أراد بقوله: «غنائم محمد وأصحابه» أي الأموال التي كانت لمحمد وأصحابه قبل أن تُغنَم، فكذلك يحتمل أن يكون أراد بقوله: «فإنهم» أهل خيبر؛ لأنهم وإن لم يجرِ لهم ذكرٌ تصريحًا، فقد دل الكلام بمعونة القرينة على ذلك. لكن المشركين لما كانوا يتمنَّون الشرَّ لمحمدٍ وأصحابه، ويحملهم تمنِّيه على تخيله= غفل أول من سمع كلام الحجاج منهم عن معنى الجملة الأولى، فلم يستقر في ذهنه منه إلا ذكر محمدٍ وأصحابه، ففهم أنهم هم الذين استبيحوا وغُنِمت أموالهم، ثم ذهب يخبر بحسب ما فهم. فإن قيل: فإنه يبعد في العادة أن يقتصر المشركون على ما تخبر به امرأة الحجاج، أو من سمع الخبر معها، بل الغالب أن جماعة منهم إذا سمعوا الخبر يذهبون إلى الحجاج يستثبتونه. وفي القصة في «مسند أحمد» (1) أن _________ (1) رقم (12409).

(19/266)


العباس رضي الله عنه لما بلغه الخبر أرسل غلامًا له إلى الحجاج يسأله، ثم ذهب الحجاج إلى العباس وأخبره بالواقع، وسأله أن يكتم ذلك ثلاثة أيام، فلا بد أن يكون جماعة من المشركين قد ذهبوا إلى الحجاج فسألوه. قلت: فقد [ص 78] يكون تحرَّى التورية أيضًا، فإن الكلام واسع، و «إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب»، فإن كان ولا بدَّ، فالكلمات الصحيحة الموهمة كما مر في كلمات محمد بن مسلمة. على أنه قد يقال: إنه بعد أن شاع عنه ما تقدم، وظهر أنه يريد أخذ ماله ويذهب به، لو سألوه فغالطهم يخشى أن يتهموه فيحبسوه، فيوشك أن يتبين لهم أنه قد أسلم، وأنه إنما قصد مخادعتهم؛ فيناله منهم شر، فرأى أنه مضطر إلى دفع ذلك، فجاز له الكذب للضرورة، كما يأتي. هذا، وسواء قلنا بجواز الكذب الصريح في الحرب، أو بجواز ما ظاهره كذبٌ، وتأول القائل في نفسه معنًى صحيحًا، أو بجواز الكلمات الموهمة= فإن ذلك يختص بأن لا تترتب على ذلك مفسدة، ومما تترتب عليه مفسدة أن يكون الكلام على وجه تأمين المسلم للكافر الحربي، كقوله له: «لا تخف»، فإن الكافر إذا سمع ذلك فأمن لم يحل للمسلمين الاعتداء عليه حتى يُبلِغوه مأمنه وينذروه؛ لأنهم إذا اعتدَوا عليه وقالوا: ليس ذاك بأمان، شاع عن المسلمين أنهم يغدرون بمن أمَّنوه، ثم لا يكاد كافر يثق بأمان مسلم، وفي ذلك مفسدة عظيمة. وهكذا ما كان على وجه المعاهدة، ولو من بعض أفراد المسلمين.

(19/267)


وفي «صحيح مسلم» (1) عن حذيفة: «قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حُسَيلٌ، قال: فأخذَنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدًا. فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نَفِيْ لهم بعهدهم، ونستعين الله عز وجل عليهم». [ص 79] الظاهر من سياق الكلام أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينئذٍ ببدر، فظن المشركون أن حذيفة وأباه يريدانِ أن يأتياه ببدرٍ ليقاتلا معه. ولا أدري هل كانا قاصدين لذلك، عازمين عليه، حتى في وقت قولهما: «ما نريده»، فيكون ظاهر هذا كذبًا، أم كان أصل قصدهما المدينة، وإنما بدا لهما بعد ذلك أن يمرّا على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ببدر؟ هذا، وكان المسلمون ببدر محتاجين إلى من يكون معهم؛ لقلة عددهم. فقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «انصرفا، نَفِي لهم بعهدهم ... » واضح الدلالة على وجوب الوفاء، وهو مذهب مالك، ويؤكده مع الأدلة العامة في إيجاب الوفاء بالعهد: أنه لو رخص في عدم الوفاء لشاع ذلك عن المسلمين، وقد يتضرر به جماعة ممن يأتي بعد ذلك يريد المسلمين، فيحبسه الكفار ولا يثقون بعهده. فأما معاهدة الإمام، فالأمر فيها أشد، ووجوب الوفاء فيها آكد. وأما المهاجرات في مدة هدنة الحديبية، فإنما أمر الله عز وجل أن لا _________ (1) رقم (1787).

(19/268)


يرجعن إلى الكفار؛ لأنهن لم يدخلن في المعاهدة، فإن لفظها فيما اشترطه المشركون قولهم للمسلمين: «من جاء منكم لم نردَّه عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا» (1). وكلمة «مَنْ» قد تأتي للذكور فقط، كقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25]. وقد تأتي للإناث، كقوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 30 - 31]. وتأتي للجنسين معًا مبينًا ذلك، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النساء: 124]. [ص 80] وقوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل: 97]. وقوله عز وجل: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [غافر: 40]. واختلف أهل العلم فيما إذا جاءت مطلقة، والضمائر بعدها مذكَّرة: فقال جماعة: تختص بالرجال ظاهرًا، ولا يدخل فيها الإناث إلا بدليل، وذلك كالاستواء في التكليف في أحكام الشرع، فإنه يدل على العموم. كيف لا، وكثير من الأحكام جاءت في حق رجلٍ بعينه، فعممت؛ للاستواء في التكليف. وقال آخرون: يدخل فيها الإناث ظاهرًا ولا يخرجن إلا بدليل. _________ (1) انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 317) و «البداية والنهاية» (6/ 217).

(19/269)


فإذا بنينا على الأول؛ فمعاهدة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للمشركين باللفظ المتقدم لم تدخل فيها النساء، ويؤكد ذلك ما يأتي. وإن بنينا على الثاني؛ فهناك قرينتان تدلان على خروجهن: الأولى: أن الذي كان يهم قريشًا إنما هو أمر الرجال؛ لأن لحوق الرجال بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينقص عدد المشركين، ويُكثِر عدد المسلمين، فيكون ذلك من أسباب استعلاء المسلمين على المشركين في القوة بكثرة العدد. وقد شاهدوا رغبة كثير منهم في الإسلام، فخافوا أنه في مدة الهدنة يلحق كثيرون منهم بالمسلمين، فلا تنقضي الهدنة أو تُنْقَض إلا والمسلمون كثير، والمشركون قليل. فأما النساء فلا شأن لهن في القتال، والغالب فيمن يظن بها اللحاق بالمسلمين بعد الهدنة هي من كان زوجها قد أسلم قبل ذلك، وهؤلاء قد كان المشركون أنفسهم قبل الهدنة يخلُّون سبيلهن إذا أرادت إحداهن [ص 81] أن تلحق بزوجها، ولم يكن هناك دخل كبير للغَيرة، لأن من كانت تسلم من نساء المشركين وتهاجر إلى المسلمين كان المسلمون يكرمونها ويغارون عليها أشدَّ من غَيرة أقاربها المشركين ديانةً وعصبيةً، وتجد في المسلمين جماعة من عصبتها. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بلغ أبا سفيان، فقال: هو الفحل لا يُقدَع أنفه (1). القرينة الثانية: أن من شأن المعاهدات المكتوبة أن يُحتاط فيها، ولا _________ (1) كما في «طبقات ابن سعد» (8/ 99).

(19/270)


يُكتفى بالاحتمال أو الظهور الضعيف، فلو قصدوا دخول الإناث في الشرط لكان الظاهر أن يصرحوا بذلك، كما صرح القرآن في الآيات المتقدمة بقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}. فإن قيل: فلماذا طالب المشركون بعد ذلك بردّ النساء، فأنزل الله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]؟ قلت: لما لم تكن المعاهدة صريحة في خروجهن طمعوا في زعم دخولهن، وأكمل الله عز وجل للمسلمين ما فيه المبالغة في الوفاء، فأمرهم أن لا يمسكوا بعِصَمِ الكوافر، ولم يطالبوا قريشًا برد من عسى أن ترتدّ من المسلمات فتلحق بالمشركين، وبذلك فرغت للمشركين عدة من المشركات اللاتي كن في عِصَم المسلمين. ثم أمر الله تعالى المسلمين أن يعوِّضوا الكفار عن أزواجهم اللاتي يهاجرن بأن يدفعوا لأزواجهن من المشركين ما كانوا أنفقوا في زواجهن، فرضي المشركون وطابت نفوسهم. وفي تلك المدة سافر أبو سفيان بن حرب إلى الشام، فدعا به هرقل، وسأله عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن جملة ما قال له هرقل (1): «فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها». ثم قال أبو سفيان بعد إسلامه وإخباره بالقصة: «ولم يُمكنِّي كلمة أُدخِل فيها شيئًا غير هذه الكلمة». وقال أبو سفيان: «لولا الحياء من أن يَأثِروا عليّ كذبًا لكذبت». وكان يومئذٍ من أشد المشركين عداوةً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلو علم أن _________ (1) أخرجه البخاري (7) من حديث ابن عباس عن أبي سفيان ضمن القصة.

(19/271)


النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يرد عليهم من جاءه من النساء [ص 82] في الهدنة، وأن ذلك قد يُعدُّ غدرًا= لذكر ذلك لهرقل. فإن قيل: فقد تكون قصته مع هرقل قبل أن تهاجر بعض النساء، فيمنعها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. قلت: فكان ينبغي عند حصول المنع أن يُكثِر المشركون من التشنيع بأنه غدر، وكان الغدر عندهم من أشنع الأمور، وقد سمعوا هرقل في محاورته لأبي سفيان يقول له: «وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر». ولا ريب أن النساء لو كن داخلاتٍ في المعاهدة، لكان الامتناع من إرجاعهن غدرًا. ولا يدفع ذلك ما زعمه بعضهم من أن القرآن خصص المعاهدة بعد عمومها، أو نسخها فيما يتعلق بالنساء، فإن المشركين لم يكونوا معترفين بالقرآن، ولا ملتزمين لأحكامه، ولو قيل لهم ذلك لقالوا: إن محمدًا يغدر، وينسب الغدر إلى الله عز وجل، ثم يقولون: لا نثق بعهد محمد بعدها، فإنه يعاهد ثم يغدر، ويقول: إن الله خص ذلك أو نسخه. فالصواب ما قدمنا أن النساء لم يدخلن في المعاهدة رأسًا. فإن فرضنا أنهن دخلن، فلا بد أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فاوض المشركين بعد ذلك في إخراج النساء، على الشرائط التي ذكرها الله عز وجل في سورة «الممتحنة»، فرضي المشركون بذلك، فكان ذلك نسخًا برضا الجانبين. ولا ريب أنه لا يسمى غدرًا، ولا رائحة للغدر فيه، وقد جاءت آثار تشير إلى هذا. راجع «تفسير ابن جرير» (28/ 41 - 47) (1). _________ (1) (22/ 578 وما بعدها) ط. التركي.

(19/272)


ولا يخفى أن الإخلال بالعهد تترتب عليه مفاسد عظيمة جدًّا؛ فإنه يُسقِط الثقة بعهود [ص 83] المسلمين وعقودهم وذِمَمهم، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من المفاسد التي لا تحصى. فأما ما ذكره ابن حجر بقوله (1): «واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختفٍ عنده، فله أن ينفي كونه عنده، ويحلف على ذلك، ولا يأثم. والله أعلم». فالضرورة على درجات: منها: أن يخاف الإنسان على نفسه الهلاك إن لم يكذب، فهذا لا شك أنه يجوز له الكذب الذي لا يضر غيره بغير حق، كالمكره يجوز له الكفر. ومنها: أن يخشى على نفسه ضررًا، والذي يظهر أنه إن كان ذاك الضرر شديدًا، بحيث لو هُدِّد به الإنسان إن لم يفعل كذا لكان إكراهًا، فمثله يجوز له الكذب الذي لا يضر غيره بغير حق. وأما إن كان الضرر دون ذلك، ففيه نظر. ومنها: أن لا يخاف الإنسان على نفسه، ولكنه يخاف على غيره، كالمثال الذي ذكره ابن حجر، إذا كان صاحب البيت يرى أنه لا يناله سوء إذا عثر الظالم على الرجل المطلوب مختفيًا عنده، وإنما يخاف على المختفي. والظاهر أنه إن خاف على ذلك الرجل الهلاك أو الضرر الشديد، جاز له الكذب الذي لا يضر غيره بغير حق، وإلا ففيه نظر. _________ (1) في «الفتح» (5/ 300).

(19/273)


وفي «سنن أبي داود» (1) وغيرها من طريق إبراهيم بن عبد الأعلى عن جدته عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرَّج القوم أن يحلفوا، وحلفتُ أنه أخي، فخلَّى سبيله، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأخبرته أن القوم تحرّجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال: صدقتَ، المسلم أخو المسلم». إبراهيم بن عبد الأعلى: ثقة، وجدته لا أعرفها. ومعنى القصة: أنهم كانوا مسافرين ومعهم وائل، [ص 84] فمروا بقومٍ أعداءٍ لقبيلة وائل، فعرفوا القوم أو بعضهم، وأنهم ليسوا من قبيلة وائل، وبقي وائل وهم لا يعرفونه، فقال رفقته ــ والله أعلم ــ: هو رجل منا. فاستحلفوهم على ذلك، فتحرَّجوا، وحلف سويد أنه أخوه. والذي يظهر ــ والله أعلم ــ في مثل هذه الواقعة جواز الكذب. وقد مر الكلام على قول إبراهيم في امرأته: «هي أختي». وجاء أن ابنين لرِبْعي بن حِراش أحد فضلاء التابعين خرجا فيمن خرج على الحجاج، فانهزموا، فعادا، فاختفيا في بيت أبيهما، وكان الحجاج يطلب الخارجين عليه فيقتلهم، فسأل عن ابني رِبْعي، فقيل له: سل أباهما فإنه يزعم أنه لم يكذب قط، فدعا به فسأله، فقال ربعي: هما في البيت، والله المستعان. فحسن موقع ذلك عند الحجاج، فعفا عنهما (2). _________ (1) رقم (3256). وأخرجه أيضًا أحمد في «مسنده» (16726) وابن ماجه (2119) والحاكم في «المستدرك» (4/ 299، 300). (2) انظر «معرفة الثقات» للعجلي (1/ 350) و «تاريخ بغداد» (8/ 433) و «وفيات الأعيان» (2/ 300) و «سير أعلام النبلاء» (4/ 360).

(19/274)


فلا أدري أتحرَّجَ ربعي من الكذب، أم خاف أن يكون قد بلغ الحجاجَ الأمرُ، أو أن يبعث من يفتِّش البيت، فيكون الشر أشد؟ وفي «المعجم الصغير» للطبراني (ص 47) (1): عن عبد القاهر بن السري، قال: اختفى رجل عند أبي السوَّار العدوي زمن الحجاج بن يوسف، فقيل للحجاج: إنه عند أبي السوار، فبعث إليه الحجاج فأحضره، فقال له: الرجل الذي عندك. فقال: ليس عندي. فقال: وإلا أم السوار طالق ــ يعني امرأة أبي السوار ــ. فقال: ما خرجتُ من عندها وأنا أنوي طلاقها. فقال: وإلا أنت بريء من الإسلام. قال: فإلى أين أذهب؟ فخلَّى سبيله». فكأن أبا السوَّار قال: «ليس عندي» يريد هاهنا، ثم كفَّ عن الطلاق خوفًا من أن يتبين الحال، فيُلزِمه الحجاج الطلاقَ، ولا يقبل عذره. هذا، وكلُّ ما ورد فيه الترخيص في الكذب، فإن أمثلته المنقولة كلها تبين أن ذلك فيما إذا لم تترتب على الكذب مفسدة، سوى خشية أن يُنسب القائل فيما بعد إلى الكذب. ويبقى الكلام فيما إذا كان من شأن الكذب وما يقرب منه من الإيهام أن تترتب عليه مفسدة، فقد يقال: إنه حينئذٍ لا يرخص فيه البتة، لا في حرب ولا غيره. وقد يقال: إن كانت تلك المفسدة أخفَّ من المفسدة التي يتعيَّن الكذب لدفعها، جاز. والذي يظهر أن المفسدة التي تترتب على الكذب إن كانت إنما هي _________ (1) (1/ 85).

(19/275)


[ص 85] ضرر على الإنسان نفسه في دنياه جاز له أن يكذب ويتحملها، وإلا فلا. وتفصيل هذا يطول، غير أني أقول: لا يصح إطلاق القول الثاني، فإن قولهم: «إذا تعارضت مفسدتان تعيَّن دفع الكبرى» ليس على إطلاقه، وإن كثرت شواهده. فلو اتفق لك في قضية تعلم منها أنك إن كذبت قُتل رجل واحد ظلمًا، وإن لم تكذب قُتل رجلان آخران ظلمًا، فمفسدة قتل رجلين أشد من مفسدة قتل رجلٍ، ولكن لا قائلَ ــ فيما أعلم ــ بجواز الكذب. وقد يقرب هذا إلى الفهم بأنك لو كذبت فقُتل زيد بسبب كذبتك، فقد أثمتَ بتسبُّبِك في قتله، وإن لم تكذب فقُتل بكر وخالد ظلمًا، ولم تكن قادرًا على تخليصهما إلا بأن تعرِّض زيدًا للقتل، فلا إثم عليك؛ لأنك لم تتسبب في قتلهما، وعدم تسببك في خلاصهما إنما كان لعجزك، لأنك عاجز شرعًا عن الكذب الذي تعرِّض به زيدًا للقتل ظلمًا. هذا، وقد طال الكلام في هذا المطلب، ولم أبلغ منه كل ما أريد، وأرجو أن أكون قد قاربت، والله الموفق.

(19/276)


المطلب الحادي عشر (1) فيما ورد من التشديد في الكذب الكذب على وجهين: أحدهما: الكذب على الله عز وجل، بأن تصفه بما لا علم لك به، أو بما تعلم أنه لا يتصف به، أو تنسب إليه حكمًا لا سلطان عندك بأنه حكم به، أو تعلم أنه لم يحكم به، ونحو ذلك. والآيات في شدة هذا كثيرة، منها: 1 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]. 2 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]. 3 - {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]. 4, 5 - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأعراف: 37، _________ (1) كتب المؤلف أولًا «التاسع»، ثم شطب عليه وكتب «الحادي عشر».

(19/277)


يونس: 17]. 6 - {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]. 7 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ... } [هود: 18]. 8 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} [الصف: 7]. 9 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]. 10 - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. [ص 89] (1) الوجه الثاني: الكذب على غير الله، قال الله عز وجل: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ... إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 101 - 105]. يتمسك بهذه الآية الأخيرة مَن يقول إن الكذب كفر وإن كان على غير الله. وأجيب عن [هذا بوجوه: منها: ] (2) أن المراد هنا الكذب على الله بقرينة ما تقدم. ومنها: أن الحصر إضافي بقرينة ما تقدم، فإن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنما أنت مفترٍ»، فأجابهم الله عزَّ وجلَّ بما ذكر، كأنه قال: «إنما يفتري _________ (1) وجدنا هذه الصفحة ضمن مسوَّدات المؤلف أخيرًا. (2) هنا خرم. ولعله قريب مما أثبت.

(19/278)


الكذبَ هم لا النبي». فالنفي المستفاد من الحصر خاص بالنبي، ويبقى غير النبي ممن يؤمن بآيات الله مسكوتًا عنه. ومنها: أن الحصر على إطلاقه، ولكن ليس النفي على سبيل العموم المحقق، بل المعنى أن افتراء الكذب ليس من شأن مَن يؤمن بآيات الله ولا يناسبه، ولا هو مظنته، وهذا كما لو قال لك قائل وقد وقف عليكما سائل، فأردت أن تعطيه: ما أراه فقيرًا، فقلت: إنما يسأل الفقير. ويظهر أن هذا الأخير أقرب الأجوبة، وهو وإن كان خلاف الظاهر فالأدلة الشرعية الأخرى تبيِّنه. وفي «الصحيحين» (1) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». زاد مسلم بعد قوله: «ثلاث»: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم». وفي «الصحيحين» (2) من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أربع مَن كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق». * * * * _________ (1) البخاري (33) ومسلم (59). (2) البخاري (34) ومسلم (58).

(19/279)


حقيقة الكذب (1) قد تكلّم أهل المعاني وغيرهم في حقيقة الكذب لغةً فلا أطيل بذلك، وإنّما أذكر معناه حكمًا، وهو الذي يتعلق به القبح والإثم. فأقول: يختلف معناه باختلاف النسبة إلى الخبر أو المخبر، فالخبر الكاذب هو ما كان ظاهره مخالفًا للواقع، وسيأتي تحقيق المراد بالظاهر فلا تعجلْ. والمخبر الكاذب هو من أخبر بخبر يرى أن ظاهره مخالف للواقع. ولا يدفع عنه معرةَ الكذب خطاؤه في ظن ظاهر ذلك الخبر مخالفًا للواقع بأن يكون في نفس الأمر مطابقًا للواقع. وعلى هذا فقد يكون الخبر كاذبًا والمخبر صادقٌ وعكسه. هذا فيمن يجوز عليه الخطأ. فأمّا الله عز وجل فخبره كله صدق، فمن حمل خبرًا من أخبار الله عز وجل على معنى لو كان هو المراد لكان الخبر كاذبًا، فقد نسب الكذب إلى الله عز وجل، ويلزمه حكم ذلك إذا علم أو قامت عليه الحجة بهذا، أي: بأنَّ حَمْل ذلك الخبر على ذلك المعنى يلزمه ما ذكر، وإلاّ فهو معذور كما قُرّر في موضعه، وأوضحته في «رسالة العبادة»، ولعلّه يأتي ما يتعلق به إن شاء الله تعالى. وأمّا الأنبياء فإنّ أخبارهم تختلف، فما كان منها تبليغًا عن الله عز وجل وبيانًا لدينه فلا يجوز الخطأ فيه، ومن العلماء من جوّز أن يبدر الخطأ من _________ (1) من هنا قطعة كتب فيها المؤلف عن حقيقة الكذب وغيرها من الموضوعات باختصار.

(19/280)


النبي فينبهه الله عز وجل عليه فورًا فيبين ذلك للناس. وفي «الصحيحين» (1) وغيرهما حديث ذي اليدين، وفيه قوله للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمّا سلّم من ركعتين في الظهر أو العصر: «أنسيتَ أم قُصِرت الصلاة؟ فقال: «لم أنسَ ولم تُقصَر»، قال: بلى، قد نسيت. وفيه سؤال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لبقية من كان معه، وتصديقهم الرجل، وقيام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لإتمام صلاته. وأحاديث سهوه - صلى الله عليه وآله وسلم - كثيرة مروية عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة (2)، وعمران بن حصين (3)، وعبدالله بن مسعود (4)، وغيرهم. وفي حديث ابن مسعود في «صحيح مسلم»: «قالوا يا رسول الله، هل زِيدَ في الصلاة؟ قال: لا! قالوا: فإنّك قد صليت خمسًا! فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلّم ثم قال: إنّما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون» (ج 2/ ص 85) (5). قال الحافظ في «الفتح» (6) في شرح حديث ذي اليدين: «وهو حجة لمن قال: إنّ السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وإن كان عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية وخصّ الخلاف بالأفعال، لكنّهم تعقبوه. نعم اتفق من جوّز ذلك على أنّه لا يُقَرُّ عليه، بل يقع له بيان ذلك». «الفتح» (ج 3 ص 65). _________ (1) البخاري (1229) ومسلم (573) من حديث أبي هريرة. (2) هو الحديث السابق. (3) أخرجه مسلم (574). (4) أخرجه البخاري (1226) ومسلم (572). (5) رقم (572/ 92). (6) (3/ 101) ط. السلفية الأولى.

(19/281)


[ص 5] أقول: وثَمّ أحاديث أُخرى يؤخذ منها جواز ما ذكر، وفي قصص الأنبياء الثابتة في الكتاب والسنة ما يفيده، ولاستيفاء ذلك موضع آخر. وأمّا الأمور الدنيوية فجواز الخطأ فيها أشهر، فمن ذلك أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما ورد المدينة رآهم يؤبِّرون النخل، فظن أن لا حاجة لذلك؛ لأنّه كان قد رأى كثيرًا من الأشجار فرآها تؤتي ثمرها بدون تأبير، فقال لبعضهم: «ما أظن يغني ذلك شيئًا» فتركوا ذلك. فخرج شِيصًا، فمرّ بهم فقال: «ما لنخلكم؟ » قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم». وفي رواية: «إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عزَّ وجلَّ». وفي رواية: «إنّما أنا بشرٌ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر». والحديث في «صحيح مسلم» (1) وغيره من حديث أم المؤمنين عائشة وطلحة بن عبيدالله وثابت بن قيس ورافع بن خَدِيج رضي الله عنهم. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فإني لن أكذب على الله عز وجل» يريد الكذب خطأ، فأما الكذب عمدًا فقد علم براءته منه مطلقًا، ومفهوم تلك العبارة جواز الكذب خطأً في الأمور الدنيوية كما هو واضح. وعُلم من هذه القصة أنّه لا يلزم تنبيه الله عز وجل على الخطأ في الأمور الدنيوية فورًا بخلاف الأمور الدينية كما مرّ. وعُلِم منها أيضًا أنّ المراد بالأمور الدنيوية ما كان دنيويًّا بالذات وإن تفرّع عليه أمرٌ له مساس بالدين، فترك التأبير يلزمه نقص الثمر، وفيه شبه _________ (1) بأرقام (2361، 2362، 2363).

(19/282)


بإضاعة المال، والدين يكره ذلك. وقد يُقال: القوم هم المقصِّرون؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم ينههم عن التأبير، ولم يخبرهم بأن تركه لا يضر، وإنّما أخبرهم بأنّه يظن، ومعلوم عندهم أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - عاش بمكة، ولا نخل بها، وأنّه لو بنى على أمرٍ ديني لجزم، ولَما اكتفى بالإخبار بالظن، فيثبت من ذلك أنّه إنّما استند إلى أمرٍ عادي، فكان عليهم أن يقولوا له: إنّه معروف عندنا بالتجربة أنّ النّخلة إذا لم تؤبَّر يخرج ثمرها شِيصًا، قد جرَّبنا هذا مرارًا لا تحصى، ثم ينظرون ما يقول لهم. وفي «صحيح مسلم» (1) عن جُدامة (2) بنت وهب قالت: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في أناس، وهو يقول: «لقد هممتُ أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضرُّ أولادَهم ذلك شيئًا .. ». الحديث. وفيه (3) عن سعد بن أبي وقاص أنّ رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: إنّي أَعزِل عن امرأتي. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: لِمَ تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أُشفِق على ولدها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارس والروم». وفي «مسند أحمد» و «سنن أبي داود» (4) عن أسماء بنت يزيد قالت: _________ (1) رقم (1442). (2) قال مسلم في «صحيحه» (2/ 1066): «أما خلف فقال: عن جذامة الأسدية، والصحيح ما قاله يحيى بالدال». (3) رقم (1443) عن أسامة بن زيد أنه أخبر سعد بن أبي وقاص. (4) أحمد (27562) وأبو داود (3881). وإسناده ضعيف.

(19/283)


سمعت رسول الله ــ - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ يقول: «لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فإنّ الغيل يدرك الفارس فيُدَعْثِره عن فرسه». [ص 7] زعم الطحاوي (1) أنّ الحديث الأخير منسوخ، وأنّ النّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قاله لما كان يظن أنّ الغيل يضرّ، ثمّ لما تبيّن له أنّه لا يضرّ ذكر الحديث الأول والثاني. هذا حاصل كلامه، والظاهر خلاف ما قال لوجوه: الأول: أنّ أقواله - صلى الله عليه وآله وسلم - التي يبنيها على الظن يصرّح أو ينبه أنّه إنّما بناها على الظن، كما تقدّم في تأبير النخل، وأمّا في حديث ذي اليدين فاكتفى بقرينة الحال؛ لأنّ الحاضرين إن كانوا علموا أنه نسي علموا أنّه إذ قال: لم أنس، إنّما يعني في ظنه واعتقاده، وحديث أسماء جزم. الوجه الثاني: أنّ قوله في حديث أسماء: «فإنّ الغيل يدرك الفارس فيدعثره» ظاهر في أنّه علم ذلك بالوحي، إذ لا يتأتّى علم مثل ذلك بالقياس. الثالث: أنّ قوله في الحديث الأول: «لقد هممت» ظاهر في أنه لم يكن قد نهى، فالصواب أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - أراد أن ينهى عن الغيل لما اشتهر بين العرب من أنّه يضرّ، ثم علم أن فارس والروم يغيلون، ولم ير ضررًا ظاهرًا يعتريهم؛ فظن أنّ الغيل لا يضر، فذكر الحديث الأول، وجاءه السائل عن العزل فنبهه على النظر في فارس والروم أيضًا، ثم أطلعه الله عز وجل على أنّ للغيل ضررًا وإن كان يخفى، فصرّح بذلك في حديث أسماء. ولحديث أسماء شواهد، منها: أنّ النّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمّا تزوج أمّ سلمة كانت _________ (1) في «معاني الآثار» (3/ 47).

(19/284)


ترضع، فلم يقربْها حتى دفعت ابنتها إلى مرضعة أخرى (1)! واسترضع - صلى الله عليه وآله وسلم - لابنه إبراهيم (2)، وجاء عن الصحابة ما يوافق هذا، فجاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّ رجلًا أخبره أنه حلف لزوجته أن لا يقربها حتى تفطم ولدها. فقال له: إنّ هذا ليس بإيلاء، إنّما أردت الإصلاح، أو كما قال (3). ويؤخذ من هذه الأحاديث ما أخذ من حديث التأبير أنّ الخطأ في الأمور الدنيوية لا يلزم التنبيه عليه فورًا، وأنّ الحكم يتناول كل ما كان دنيويًّا بالذات، وإن نشأ عنه ما له مساس بالدين، فإنّ إلحاق الضرر بالولد لا يجوز في الدين. [ص 6] وإيضاح هذا البحث أنّ من الأحكام الشرعية ما يكون مبنيًّا على معنى يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه، ويوكل الحكم بوجود المعنى أو عدمه إلى اجتهاد المكلف، فقد ينظر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى صورة من الصور بصفته مكلفًا من المكلفين فيظهر له أن ذلك المعنى موجود فيها والواقع خلافه، أو أنّه مفقود والواقع خلافه، مع إعلامه بأنّ المدار على وجود المعنى، فإضاعة المال والإضرار بالأطفال منهي عنهما في الشرع، ولا يجوز أن يقع الخطأ من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيخبر بأنهما جائزان، ولكن النظر في كون هذا الفعل إضاعة للمال أو يلزمه ذلك، أو ضررًا بالطفل أو يلزمه ذلك= موكول إلى المكلف، فنظر - صلى الله عليه وآله وسلم - بصفته مكلفًا، فظن أنّ ترك التأبير ليس فيه إضاعة للمال ولا تلزمه _________ (1) انظر «السنن الكبرى» للنسائي (8926). (2) كما في «صحيح مسلم» (2316). (3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11632) وسعيد بن منصور في «سننه» (1874) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 382).

(19/285)


إضاعة، وأن الغيل ليس فيه إضرار بالطفل، ولا يلزمه إضرار. ومن أمثلة ذلك أنّ الحكم لأحدٍ بما لا يستحقه حرام شرعًا، ولكن العلم بأنه يستحق أو لا يستحق موكول إلى اجتهاد الحاكم. وفي «الصحيحين» (1) عن أم سلمة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إنّما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّه، فإنّما أقطع له قطعة من النار». وتناول السم حرام، ولكن [العلم] بأنّ هذا الطعام مسموم أو ليس بمسموم موكول إلى اجتهاد المكلف، فظن النّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّ الطعام الذي قدم له بخيبر [غير] مسموم فتناول منه، وأقرّ بعض أصحابه على الأكل منه، فلمّا علم أنّه مسموم كفّ وأمرهم بالكف، فمات بعضهم من ذلك، ولم يزل السم يُعادُّ النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى كان سبب موته (2)، بأبي هو وأمي! [ص 8] الظاهر يقول الأصوليون في تعريف الظاهر: «ما دلّ دلالة ظنية» (3)، ويمثلون له بالكلمة يكون ظاهرها هو معناها الحقيقي لغة أو عرفًا أو شرعًا، ومن ذلك الكلمة العامة في معناها الشمولي. ثم عرَّفوا التأويل بأنه «حمل الظاهر على المحتمل المرجوح»، يعنون _________ (1) البخاري (7169) ومسلم (1713). (2) انظر «صحيح البخاري» (4428). (3) «شرح جمع الجوامع» للمحلي (2/ 52).

(19/286)


اللفظ الذي له معنى ظاهر على معنى آخر يحتمله احتمالًا ضعيفًا. قالوا (1): «فإن حُمِل لدليلٍ فصحيح، أو لما يُظنُّ دليلًا ففاسد، أو لا لشيء فلعب». وكلامهم صحيح في نفسه، ولكن فيه إيهامٌ تركَ للمبطلين مجالًا رحبًا؛ فلذلك آثرت مخالفتهم في التعبير، فأقول: ينبغي أن يكون البحث عن الكلام لا عن الكلمة، وعليه فالظاهر هو المعنى الذي يدل عليه الكلام مع ملاحظة القرائن الصحيحة دلالة راجحة. ومدار التحقيق على بيان القرائن الصحيحة. القرينة هي كل شيء يقترن بالكلام ويكون له تأثير في المعنى، وذلك على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أن يكون الكلام لولا ذلك الأمر ظاهرًا في معنى مخصوص، ولكن صار بذلك الأمر مجملًا. الضرب الثاني: أن يكون الكلام لولا ذلك الأمر مجملًا، ولكن صار بذلك الأمر ظاهرًا في معنى مخصوص. الضرب الثالث: أن يكون الكلام لولا ذلك الأمر ظاهرًا في معنى مخصوص به، ولكنّه صار بذلك الأمر ظاهرًا في معنى مخصوص آخر. _________ (1) المصدر نفسه (2/ 53).

(19/287)


[ص 9] المراد بالظهور المراد بالظهور هو الظهور للمخاطب الذي أريد إفهامه، ومن هنا يُعلم أن القرينة الصحيحة هي التي يعلم المتكلم أو يظن إن كان ممن يجوز عليه الظن أن المخاطب يدركها، بحيث لو غفل عنها عُدّ مقصرًا. قال لك عاميّ أميّ: إنّي اشتريت أربع عشرة ربطةَ مناديل، في كل ربطة اثنا عشر منديلًا، ودفعت الثمن اثني عشر جنيهًا، ورجع لي البائع ثلاثين قرشًا، وأريد أبيع المناديل فرادى، فأخبِرْني كم يخص كلّ منديل من أصل الثمن؟ وتعرف أنّ الجنيه صرفه سبعة وتسعون قرشًا، فحسَبْتَ فوجدت ثمن كل منديل ستة قروش وثلاثة أرباعٍ قرشٍ، فقلت لسائلك الأمي: يخص كل منديلٍ ستة وثمن! ونويتَ ستةً وثُمُنَ الستة وهو ثلاثة أرباع، فهل لك أن تزعم أنك بهذه التورية مع قيام الدلالة العقلية القاطعة المدركة بطريق الحساب لم تكذب على ذلك المسكين، وقد صدَّقك، ولم تغشَّه إذ ائتمنك، وأنّك غير مؤاخذ بما يناله من خيبة الأمل ونقصان رأس المال وضياع التعب، وما ينجرّ إلى ذلك من افتقاره واحتياجه وجوع أهله وعُرْيهم وغير ذلك، وأنّ لك الحق فوق ذلك أن تلوم [ص 10] ذلك المسكين وتوبِّخه على فهمه وما نشأ عنه، وتعاقبه إن كان أجيرك مثلًا؟ هذا في القرينة العقلية، ومثله يقال في اللفظية، كأن قلت في الجواب: «ستة وثُمنها» ولكن أخفيتَ الهاء عمدًا، فلم يسمع إلا «ستة وثُمن». وقس على ذلك الحالية والعادية.

(19/288)


وقد يشكل عليك تطبيق هذا في النصوص الشرعية، وسيأتي حلّ الإشكال إن شاء الله تعالى. كيف الاقتران المتبادر من قولنا: «قرينة» أن تكون مقترنة بالكلام، ومعنى الاقتران الاجتماع، وذلك على ثلاثة أوجه: الأول: أن تكون موجودة قبل الكلام ومعه وبعده، وهذا يتحقق في العقلية والعادية، وقد يتحقق في الحالية، وكذا في اللفظية بالنظر إلى العلم بها؛ فإنّه إذا قدم المتكلم كلامًا يدل على أنّ زيدًا (1) حي اليوم، ثم قال: إنّ زيدًا مات البارحة، والمخاطب قد سمع الكلام الأول، كان علمه بالكلام الأول قرينة يُصرف بها الكلام الثاني عن ظاهره، والعلم بها موجود قبل الكلام الثاني ومعه وبعده. والثاني: أن تكون معه وبعده. والثالث: أن تكون بعده متصلة به. _________ (1) في الأصل: «زيد» مرفوعًا ..

(19/289)


وصرَّح (1) البيانيون بأنه لابدّ للمجاز ــ سواء أكان استعارةً أم غيرها ــ من علاقة ومن قرينة، وذكروا في بحث الاستعارة أنها مجازٌ علاقته التشبيه، وأنها مبنية على دعوى دخول المشبَّه في جنس المشبَّه به. وبعد أن بيَّن السكّاكي في «المفتاح» (2) هذا، ذكر أن الاستعارة تفارق الدعوى الباطلة ببناء الدعوى فيها ــ أي الاستعارة ــ على التأويل، وتفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إرادة الظاهر. والذي يظهر لي أنه لما ذكر أن الاستعارة مبنية على الدعوى، أراد أن يبيِّن أن تلك الدعوى ليست بباطلة، إذ ليس المدَّعى دخول المشبَّه في جنس المشبَّه به حقيقةً فتكون دعوى باطلة، وإنما ذلك على جهة التأويل. فهذا معنى قوله: «إن الاستعارة تفارق الدعوى الباطلة ببناء الدعوى فيها على التأويل». ثم كأنه استشعر أن التأويل عمل ذهني لا يظهر في الكلام، فلا يخرج به الكلام عن البطلان الظاهر وهو الكذب. ولعل هذا الذي قررته هو مراد عبد الحكيم بقوله في «حواشي المطول» (3): «الأظهر عندي أن الاستعارة من حيث المعنى تشابه الدعوى الباطلة، ومن حيث اللفظ تشابه الكلام الكاذب، فتبيَّن الفرق بأن مبنى معناها على التأويل بخلاف الدعوى الباطلة، وأن مبنى لفظها على نصب القرينة بخلاف الكذب. وفي «شرح المفتاح الشريفي» (يعني شرح السيد الشريف الجرجاني _________ (1) وجدنا ورقتين بخط المؤلف فيهما خرم في مواضع وتآكل في الأطراف، تحدث فيهما عن بعض الموضوعات التي تناولها في القطعة الأولى. فألحقناهما في آخر الكتاب. (2) (ص 373). (3) انظر «فيض الفتَّاح على حواشي شرح تلخيص المفتاح» (4/ 152).

(19/290)


للمفتاح) أنه أراد بالدعوى الباطلة الـ[ـجهل المركب، وصاحبه مصرٌّ على دعواه متبرئ عن التأويل فضلًا عن نصب القرينة]» عبد الحكيم .... مع كونه خلاف ظاهر العبارة .... لا وجه لتخصيص مفارقة الاستعارة لهذين بأنها تفارق الدعوى الباطلة مطلقًا ... بالتأويل، وعن الكذب مطلقًا ... بنصب [القرينة]. وفي «المطوّل»: «[والشارح] العلامة (يعني السعدُ شارحَ المفتاح) فسَّر الباطل بما يكون على خلاف الواقع، والكذب بما يكون على خلاف ما في الضمير. وأنت تعلم أن تفسيره الكذب خلاف ما عليه الجمهور واختاره السكاكي». أقول: إذا رأيت [جرمًا منيرًا على جبلٍ كأنه متصل بالجبل في رأي العين فقلت: «رأيتُ نجمًا يُصطلى به»، فقولك «يُصطلى به»] (1) قرينة أخرجت الكلامَ عن دلالته على أنك رأيت نجمًا حقيقيًّا. فالذي يستفاد من هذا أنك أردت أن تُفهِم مخاطبك أنك رأيت نارًا تُشبه النجم، ومع ذلك فقد يكون الذي رأيته هو في نفس الأمر نجمًا حقيقيًّا، ولكنك حسبته نارًا، أو علمت أنه نجمٌ حقيقةً، ولكنك أردتَ أن تُفهم مخاطبك أنه نار. فلعل العلامة أراد بقوله: «ما في الضمير» أي ما يريد المتكلم إفهامه. وعلى هذا فلكلامه وجه. فإن قيل: لكن مخالفة الخبر لما يريد المتكلم إفهامَه ليست هي الكذب عند الجمهور، ومنهم السكاكي. _________ (1) ما بين المعكوفتين قد أتى التآكل في طرف الورقة على أكثره، وقد أكملناه من كلام ضرب عليه المؤلف.

(19/291)


قلت: هذا لا يمنع أن يظن العلامة أن السكاكي أراد بالكذب في ذاك الموضع هذا المعنى، لكن قد يقال: فكذلك التأويل لا يطّرد فيه إخراجه الدعوى عن البطلان في نفس الأمر. ففي المثال المتقدم قد يكون المرئي نجمًا في نفس الأمر، واعتقدتَ أنه نار فقلتَ: «رأيتُ نجمًا» مدّعيًا دخول تلك النار في جنس النجم. وهذه الدعوى ــ لولا التأويل ــ صحيحة في نفس الأمر، باطلة في اعتقادك، فالتأويل إنما أخرجها عن البطلان في اعتقادك. وقد يكون المرئي نجمًا وعرفت أنه نجم، ولكنك بنيتَ على زعم أنه نار، فقلتَ: رأيت نجمًا، على دعوى دخول المرئي في جنس النجم، فهذه الدعوى صحيحة في نفس الأمر، صحيحة في اعتقادك، وإنما أخرجها التأويل من الصحة إلى البطلان. فقد كان على العلامة أن يلاحظ ما تقدم أن تفسير الدعوى الباطلة بما يكون على خلاف ما في الضمير ويريد به زعم المتكلم أنه قد أراد إفهامه. وقد يقال: لا مانع أن يلاحظ ما تقدم في شيء ويغفل عنه في غيره. وقد عدل صاحب «التلخيص» عن صنيع السكاكي فقال (1): «والاستعارة تفارق الكذب بوجهين: بالبناء على التأويل ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر». كأنه فهم أن مراد السكاكي بالدعوى الباطلة الدعوة الكاذبة، وأن مراده بالكذب مطلق الكذب. وعلى هذا جرى السعد في «شرحه»، زعم أن الباطل والكذب متحدان بالذات. _________ (1) (ص 306). وانظر «فيض الفتاح» (4/ 151 - 152).

(19/292)


فإن قيل: فإذا كان لابدَّ من القرينة، فكان ينبغي الاكتفاء بها، والإعراض عن التأويل. فالجواب: أن التأويل لابد منه في الإخراج عن الكذب. وقد زعم السيِّد في «شرح المفتاح» (1) أن الاستعارة تدخل في الاسم العلم على وجه المبالغة، بجعل المشبَّه عينَ المشبَّه به، قال: «فإن المقصود من قولك: «رأيت اليوم حاتمًا» أنه عين ذلك الشخص (أي حاتم الطائي المشهور)، لا أنه فرد من الجُوَّاد». اعترضه عبد الحكيم فقال: «جَعْلُه عينه ... إن كان لا عن قصدٍ فهو غلط، وإن كان قصدًا فإن كان بإطلاقه عليه ابتداءً فهو وضع جديد، وإن كان بمجرد ادعاءٍ من غير تأويل فهو دعوى باطلة وكذب محض، فلابدّ من التأويل». قال الشربيني: «قول المحشي: «فهو دعوى باطلة»، إذ كونُ ذاتٍ ذاتًا أخرى ظاهر البطلان، ولا معنى للمبالغة بذلك ... ». هذا، مع أن القرينة هنا موجودة، وهي أن حاتمًا المشهور بالجود قد هلك منذ زمان. وهكذا قال بعضهم فيمن يشير لبصيرٍ إلى كتابٍ قائلًا: هذا فرس، إنه إن لم يكن غلطًا أو على قصْدِ وضع جديد فهو كذب. هذا مع وجود القرينة وهي المشاهدة. وإنما ذلك لأنه ليس هنا علاقة يُبنى عليها تأويل سائغ. فإن قيل: فعلى هذا إنما ينتفي الكذب باجتماع الأمرين: التأويل السائغ والقرينة، وعبارة صاحب «التلخيص» تُشعِر بأن كلَّ واحد منهما كافٍ في دفع الكذب، وعبارة السعد في شرحه توافق ذلك. _________ (1) انظر «فيض الفتاح» (4/ 153).

(19/293)


ويَرِد على ما في «التلخيص» أمران: الأول: أن كلًّا من التأويل والقرينة لا يطَّرد فيه الإخراج عن الكذب كما تقدم بيانه. وقد يجاب بأن الكلام إنما هو في دفع أن تكون الاستعارة كذبًا من جهة التعبير عن الشيء باسم غيره، فبنى على الغالب من أن يكون اعتقاد المخبر مطابقًا في نفس الأمر، وأنه إنما يريد إفهامه ولكن أتى بالاستعارة. مثاله: أن تفرض أنه رأى نارًا على جبلٍ، فعرف أنها نار، وأراد إفهام ذلك فقال: «رأيت نجمًا يُصطَلى به». فقد يتوهم في هذا أنه كذب، لأن الواقع أنه رأى نارًا، وفي الخبر أنه رأى نجمًا، فمقصود صاحب التلخيص دفعُ هذا الوهم فقط. الأمر الثاني: أن الكذب هو عدم مطابقة الخبر للواقع، والتأويل عمل ذهني لا أثر له في الخبر، فكيف يُعدُّ مخرجًا له من الكذب؟ ويتبين فيما إذا لم يُؤتَ بالقرينة بل قال في المثال المذكور «رأيت نجمًا»، فمدلول الخبر أنه رأى نجمًا على الحقيقة، والواقع أنه رأى نارًا. وقد فسَّر السيد الشريف الجرجاني قول صاحب «المفتاح»: «وتفارق الكذب بنصب القرينة» بقوله (1): «أراد بالكذب الكذب العمد، وصاحبه لا ينصب القرينة، بل يروج [ظاهره]». _________ (1) «فيض الفتاح» (4/ 152).

(19/294)


 الرسالة الرابعة رسالة في أصول الفقه

(19/295)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي هدانا لدينه الذي ارتضاه، وعلَّمنا من أصول الفقه ما أوضح لنا سبيلَ هداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه. أما بعد، فإني ممن عُدَّ لقلة العلماء عالمًا، فصار ينتابني بعض طلبة العلم، فلا يَسَعُني إلا أن أُسعِفهم بمرادهم، لا على أنني عالم معلِّمٌ، بل على أنِّي طالبُ علمٍ من جملتهم، أذاكرهم على حسب وُسْعي. ومن جملة ما التمس مني القراءة في علم أصول الفقه، فوجدتُ الكتب التي بين أيدي الناس في هذا العلم على ضربين: الضرب الأول: كتب الغزالي ومن بعده. الضرب الثاني: بعض مختصرات لمن قبله، كاللمع للشيخ أبي إسحاق، والورقات للجويني. فأما الضرب الأول فإنه قد مُزِجَ بمباحثَ كثيرةٍ من علم الكلام والأصول المنطقية. وأنا وإن كان لا يتعسَّر عليَّ فهمُ كثيرٍ من هذين الفنين راغبٌ بنفسي عنهما، متحرِّجٌ من الخوض فيهما. وأما الضرب الثاني فإنه بغاية الاختصار، ولا يخلو مع ذلك عن تعقيد. فرأيتُ أن أجمع رسالة، أعدُّها لمن يرغب من طلبة العلم في مطالعة هذا العلم معي، أُسهِّل فيها أمهاتِ المطالب بقدر ما أستطيع، معرضًا عن كثير من الاصطلاحات والتدقيقات، مقتصرًا من المباحث الكلامية على ما

(19/297)


لا بدَّ منه، سالكًا ــ على قلَّة بضاعتي ــ مسلكَ التحقيق. وأنا أنصح طلبة العلم دائمًا أن لا يعدُّوني عالمًا، وأن لا يعتمدوا على قولي، إلا أنني أقول لهم: من اختبرني منكم زمانًا، ثم رأى من قولي ما هو موافق لإمام من أئمة العلم، وفهم الدليلَ، وقوِيَ في نظره= فلا حرجَ عليه إن شاء الله تعالى من اعتماده، وأسأل الله تعالى لي ولهم التوفيق.

(19/298)


المقدمة وفيها فصول: الفصل الأول في معنى قولهم: "أصول الفقه" فيه خمس (1) مباحث: الأول العلم في أصل الوضع العربي هو المعرفة القطعية مثال ذلك: أن تُسأل في أواخر النهار: هل غَرَبتِ الشمسُ؟ فتكون قد رأيتها بعينك تغربُ، أو تراها لم تغربْ، أو ترى شعاعَها الذي لا مِريةَ فيه، فأنت هنا عالم بغروبها أو بعدم غروبها. ووراء ذلك حالان: الأولى: أن لا تكون رأيتَها تغرب، ولا أنت بحيث تراها، ولكن ترى من حال الجوّ ظلمةً وإنارةً ما يُرجِّح في ظنِّك غروبَها أو عدمَ غروبها، أو يخبرك ثقةٌ بأنها غربت أو أنها لم تغرب، أو تكون عندك ساعةٌ فتستدلُّ بها على الغروب أو عدمه. فالحكم الذي في نفسك في هذه الحال يُسمى "ظنًّا"، ومقابله يُسمى "وهمًا". الثانية: أن لا يحصل لك ما يوجب علمًا ولا ظنًّا، وتكون مترددًا، وهذا يسمى "شكًّا" و"جهلًا". _________ (1) كذا في الأصل بدون هاء.

(19/299)


* فوائد: الأولى: قد يطلق العلم على ما يعمُّ الظنَّ. الثانية: ينقسم العلم إلى قسمين: الأول: ما لا يقبل تشكيكًا البتةَ، مثل العلم بأنَّ الاثني عشر إذا قُسِّمتْ بين اثنين على السواء بدون تكسير كان لكل منهما ستة، أو بين ثلاثةٍ كان لكل منهم أربعة، أو بين أربعةٍ كان لكل منهم ثلاثة، أو بين ستةٍ كان لكل منهم اثنان، أو بين خمسة أو سبعة أو تسعة لم تنقسم. الثاني: ما يقبل التشكيك في الجملة، كمن يرى الشمسَ رائعةَ النهار, فيقال له: لعلك مسحور، فأنت تتوهم أنك ترى الشمس توهُّمًا، أو لعلك مُصابٌ في عقلك، فإنَّ المصاب في عقله يتراءى له ما لا حقيقة له، ولا يشعر بأنه مصاب. وأمثال هذه التشكيكات لا تقدح في القطع. قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15]، أخبر سبحانه وتعالى بأنَّ هذا التشكُّك عِنادٌ منهم وحمقٌ وجهلٌ. الفائدة الثالثة: كثيرًا ما يشتبه الظن بالعلم، كأن تُحضِر بدويًّا لم يسمع بالحاكي "الفونغراف"، ولا المذياع "الراديو"، وتُقعِده عند باب حجرة فيها مذياع فيسمعه، فإنه يقطع بأنَّ في الحجرة إنسانًا يتكلَّم. ومن تفكَّر في هذا وأمثاله خاف أن يكون كثير من الأمور التي يقطع بها

(19/300)


ويرى أنه عالمٌ بها، إنما هي ظنونٌ قد تتخلف. وطريق الخلاص من هذا مشروحةٌ في موضع آخر. [ص 2] الفائدة الرابعة: حكم الذهن الجازم يسمَّى "اعتقادًا"، وقد يكون عن علمٍ، وقد يكون عن ظنٍّ غالبٍ. والفصل بينهما أنَّ الحكم إن كان خطأً فهو عن ظنٍّ، وهذا هو الذي يُسمَّى بالجهل المركب؛ لأنَّ صاحبه يجهل، ويجهل أنه يجهل، أي لا يعلم حقيقة الحال، ويرى أنه عالمٌ. وأما الجهل البسيط فهو أن يجهل حقيقة الحال، ويعلم أنه جاهل بها. وإن كان الحكم صوابًا، فللمعتقد حالان: الأول: أن يكون بنى اعتقاده على دليل يفيد العلم؛ سواءٌ أكان دليلًا معيَّنًا، أم مجموعَ أمورٍ إنما يفيد كلٌّ منها بانفراده ظنًّا ما، ولكنها بمجموعها تفيد القطع، وسواءٌ استطاع المعتقد أن يُعبِّر عن ذلك الدليل أم لم يستطع، وهذا كله علم. الحال الثانية: أن يكون بنى اعتقاده على دليل يجوز أن يتخلَّف، ولكنه لم يشعر بجواز تخلُّفه؛ كالبدوي الذي تقدم آنفًا، إذا وَقَفْتَه قريبًا من حجرة يسمع فيها غناءً، فإنه يقطع أنَّ فيها إنسانًا يُغنِّي. ودليله قد يتخلَّف كما مر، فهذا اعتقادٌ ليس بعلم، وإن صادف الواقع. الفائدة الخامسة: كثيرًا ما يطلق الظنّ على الخرْص والتخمين، وهو ما يُبنَى فيه الحكم على أمارة ضعيفة محتملةٍ للتخلُّف احتمالًا ظاهرًا. والعاقل لا يبني على مثله إلَّا حيث لا خطر، ولكن كثيرًا ما يتقوَّى مثل

(19/301)


هذا الأمر بجهل الخطر، ثم بهوًى أو عصبية، فيمنع صاحبه بحرصه عليه عن أن يسمح لنفسه بالتشكك فيه، فيُبنَى عليه أمرٌ عظيم الخطر، فيسمَّى "اعتقادًا". الفائدة السادسة: كثيرًا ما يطلق العلم ويراد به الفن، يقال: هذا الكتاب في علم المعاني، أي: في فن المعاني. * * * * المبحث الثاني الأصول جمع أصل، وأصل الشيء ما يقوم أي ينبني عليه؛ كأصل الشجرة، وهو جُرثومتها النابتة في الأرض، وأصل الجدار، وهو أساسه. قال الراغب (1): "أصل الشيء: قاعدته التي لو توهمت مرتفعةً لارتفع بارتفاعه سائره لذلك، قال تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] ". * * * * المبحث الثالث الفقه في اللغة: العلم وحسن الفهم. قال الراغب (2): "هو التوصل إلى علم غائب بعلمٍ شاهد، وهو أخصُّ من العلم، قال: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] ". _________ (1) "مفردات القرآن" (ص 79). (2) المصدر نفسه (ص 642).

(19/302)


والفقه في العرف: العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. قالوا: والمراد بالعلم هنا ما يشمل الظن؛ لأنَّ غالب أدلَّة الأحكام الشرعية ظني. تنبيه: عُلِم مما ذُكِر أنَّ الفقيه هو المجتهد، فالمقلِّد ليس بفقيه، ولكن الفقه كثيرًا ما يطلق على كلام المجتهد، وما بُنِي عليه. فإذا عرف المقلِّد ذلك قيل له: "فقيه"؛ بمعنى أنه عارف بما حصل عن فقه المجتهد. فائدة: الدليل فعيل بمعنى فاعل، مِن "دلَّ على كذا" أي: أوصل إلى معرفته. ومنها: دللتُ فلانًا على الطريق، والدخان يدلُّ على النار، وعرضُ القفا يدلُّ على البلادة. وقد تكون الدلالة قاطعة، وقد تكون ظنية، وتخصيص بعضهم الدليلَ بما يُعطِي القطعَ اصطلاح. * * * * المبحث الرابع قولهم: "أصول الفقه"، معناه: الأشياء التي ينبني عليها الفقه. والفقه ينبني على أمور: أولها: أصول الدين. ثانيها: علم اللسان. ثالثها: الكتاب والسنة وما دلَّا عليه من الأدلة الإجمالية، وما اشتمل عليه ذلك من الأدلة التفصيلية.

(19/303)


رابعها: قواعد كلية يتوقَّف عليها فهم الأحكام من الأدلة التفصيلية. وهذه هي (1) أصول الفقه اصطلاحًا، وذلك كقولنا: "ظاهر القرآن حجة"، و"الأمر يقتضي الوجوب"، و"النهي يقتضي التحريم"، و"الخاصّ يخصُّ العام"، و"العامُّ حجة فيما بقي"، وأشباه ذلك. * * * * المبحث الخامس (2) قد عُرِف مما تقدَّم معنى قولهم: "علم أصول الفقه"، فلا نُطيل ببيانه. _________ (1) في الأصل: "هو". (2) في الأصل: "الرابع".

(19/304)


الفصل الثاني في أنَّ أصول الفقه لا بدَّ أن تكون قطعيةً (1) شاع بين أهل العلم أنَّ أصول الفقه لا يكفي فيها غلبةُ الظن، بل لا يصحُّ البناء عليها حتى تكون قطعية. ونازع فيه بعض أهل العلم؛ بأنَّ كثيرًا من القواعد التي تُذكَر في أصول الفقه ظنّي. [ص 3] كيف وغالبها مختلف فيه بين أهل العلم، ونجد العالم منهم إنما يحتج لقوله بحجة ظنية، وكثيرًا ما يعبِّرون بما يفيد أنه ليس عندهم إلَّا الظن، كقولهم: الأصح، الظاهر، الراجح، وغير ذلك. وقد أُجيب بأنَّ من القواعد ما هو قطعي بمجموع أدلّةٍ كلٌّ منها بانفراده _________ (1) كتب المؤلف صفحة حول هذا الموضوع ضمن المجموع رقم [4658]، وهو ما يلي: اعلم أنَّ مسألتنا هذه أصل من أصول الفقه، وقد نصّ العلماء أنَّ أصول الفقه لا تثبت إلا بالقطع. ونظر فيه بعض المتأخرين قال: في الأصول مسائل لا يتحقق فيها القطع. وجوابه: أنّ أصول الفقه ما هو مستند إلى أصلٍ فوقه قطعي، فيكون الثاني قطعيًّا بهذا المعنى، وهكذا المسائل الفرعية الظنية المستندة إلى الأصول القطعية تكون قطعية بهذا المعنى، فلو شافه ملك زيدًا وعمرًا قائلًا: من جاء منكما إلى رجل فبلّغه عني أمرًا، فإن ظنَّ صدقَه فواجب عليه العمل بذلك الأمر، وإن ظنَّ كذبه فواجب عليه أن لا يعمل به، ثم جاءهما رجلٌ فبلّغهما أمرًا عن الملك فظنَّه زيد صادقًا وظنَّه عمرو كاذبًا، فإن العمل واجب على زيد وإن كان ثبوت ذلك الأمر بخصوصه عن الملك ظنيًّا، وحرام على عمرو وإن كان عدم صحة ذلك الأمر بخصوصه عن الملك ظنيًّا ..

(19/305)


ظني؛ فيعترض بعضُ الناس كلَّ دليلٍ منها بانفراده، فيتوهم أن تلك القاعدة ظنية. وهذا جواب قد يصحُّ في بعض القواعد لا جميعها، فإنَّ كثيرًا منها لا ترتفع دلالةُ أدلتِه بمجموعها عن الظن. وقد يجاب بأن تلك القواعد وإن لم تكن قطعية في صحتها، فهي قطعية في وجوب الأخذ بها. فقولنا: "الأمر يقتضي الوجوب" إذا لم يتيسَّر للمجتهد القطعُ بصحتها، فإنه قد يتتبع عدةَ أوامرَ خاليةٍ عن القرينة المقتضية للوجوب والصارفة عنه، فيستظهر اقتضاءها الوجوبَ، وأنَّ اقتضاء الوجوب مقتضَى الأمر، فيلزمه قطعًا الأخذُ بذلك؛ لاندراجه تحت أصل قطعي، وهو وجوب حمل الكلام على ظاهره ما لم يَصرِفْ عنه صارف. ولا شك أن المراد بالظاهر هنا ما يشمل الظاهر للمجتهد: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وقد يُقدَح في هذا الجواب بوجهين: الأول: أن ظاهر عبارات مشترطي قطعية الأصول، وصريحَ كلام بعضهم أنَّ مرادهم قطعية الصحة، لا قطعية وجوب الأخذ. الوجه الثاني: أن قطعية وجوب الأخذ عامة في جزئيات الشريعة، فلا وجه لتخصيص الأصول منها. وبيانه أنه ليس للمجتهد أن يقول في الدين إلا بما رآه دليلًا شرعيًّا، والأخذ بما رآه دليلًا شرعيًّا واجب قطعًا. فيقول في كل جزئية: أرى هذا دليلًا شرعيًّا، والأخذ بما أراه دليلًا شرعيًّا واجبٌ عليّ قطعًا.

(19/306)


نعم، قد يستفاد من هذا جواب آخر، وهو أنَّ القواعد التي تُذكر في أصول الفقه على ضربين: الأول: الأصول الحقَّة. الثاني: ضوابط تحيط بجزئياتٍ تندرج تحت أصل من الضرب الأول؛ فكما أنَّ المجتهد إذا سمع قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ [الْكِتَابَ] ... } [النور: 33]. فرأى أنَّ ظاهر الكلام وجوب المكاتبة بشرطها، لزمه القول بها قطعًا؛ للقطع بوجوب حمل الكلام على ظاهره ما لم يصرف عنه صارف. فقد وجب الأخذ هنا قبل استحضار قولنا: "الأمر يقتضي الوجوب"، غاية الأمر أنه قد يتبع عدة أوامر إلى آخر ما تقدم، فيضع هذا الضابط: "الأمر يقتضي الوجوب". وعلى هذا فتسمية هذه الضوابط أصولًا لا يخلو من تسمُّح. [ص 4] ويجاب بأنَّ كثيرًا من القواعد إنما هي ضوابط لجزئيات كثيرة تندرج كلها في أصول قطعية. فمن هذا قولهم: "الأمر يقتضي الوجوب"، و"النهي يقتضي التحريم"؛ فإنَّ الجزئيات التي تدخل تحت كل منهما تدخل تحت أصل "الكلام محمول على ظاهره ما لم يَصرِفْ عنه صارف". ولا ريب أنَّ الظاهر هنا يشمل الظاهر عند المجتهد ــ وقد خالفه غيره ــ، ويشمل الظاهر عنده ظنًّا، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}. فإذا نظر المجتهد في نص فيه أمرٌ، فوجد الظاهر اقتضاء الوجوب، علم أنَّ تلك الجزئية داخلة في أصل "الكلام محمول على ظاهره ... إلخ"، فلزمه

(19/307)


القول فيها بالوجوب. ثم ينظر في أوامر أخرى فكذلك، فينظر في سبب ظهور اقتضاء الوجوب في تلك النصوص، فيجده الأمر، فينتظم له ضابطُ: "الأمر يقتضي الوجوب". فإن تيسر القطع في هذا فذاك، وإلَّا كفى فيه الظن. وقِسْ على هذا قولهم: "النهي يقتضي التحريم". وربما يندرج تحت الأصل القطعي قاعدة، وتندرج تحت هذه القاعدة قاعدة أخرى، وقد تتعدَّدُ الوسائط.

(19/308)


[ص 5] الفصل الثاني (1) في الأحكام الحكم في الأصل: القضاء، والمراد به هنا: قضاء الله تعالى على عباده إيجابًا أو تحريمًا أو غيرهما مما يأتي. * والأحكام على ضربين: الضرب الأول: التكليفي: وهو خمسة: الأول: الوجوب، وهو الأمر المحتَّم، على معنى أنه إن لم يفعل كان عاصيًا. الثاني: الندب، وهو المرغَّب فيه، على أنه إن فعل فقد أحسن، وإلَّا فليس بعاصٍ. الثالث: الإباحة، وهو الإذن على وجهٍ يُعلَم به استواءُ الفعل والترك. الرابع: الكراهية، وهي التنفير عن الفعل، على أنَّه إن فعل فقد أساء، ولم يبلغ أن يكون عاصيًا. الخامس: التحريم، وهو حظر الفعل، على أنَّه إن فعل فهو عاصٍ. وهنا مسائل: الأولى: لا خلاف أن الوجوب له درجات، يتفاوت بها ما للعامل من الأجر، وما على التارك من الوزر. فوجوب ردِّ السلام ليس كوجوب الصلوات الخمس. _________ (1) كذا في الأصل ..

(19/309)


والفرض والوجوب يتواردان على معنى واحد، إلَّا أنَّ الفرض يُشعِر بتأكد الوجوب. وقد اصطلح الحنفية على تخصيص الفرض لما ثبت بدليل قاطع، والواجب لما ثبت بدليل ظني. كذا نُقل عنهم، ولهم تفصيل، قيل: والخلاف لفظي. أقول: لكنه يتعلق به خلاف معنوي، سنُلِمُّ به في محله إن شاء الله تعالى. المسألة الثانية: الوجوب منه عيني؛ وهو ما لا يسقط الحرج عن المكلَّف بفعل غيره له. وإما كفائي؛ وهو ما يطلب حصوله، فإذا قام به بعض المكلَّفين لم يأثم الباقون بتركه. المسألة الثالثة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وذلك كغسل شيء من حدود الوجه مع الوجه، والسفر لأداء الحج، وتحصيل ما يستر العورة وسترها للصلاة، ونحو ذلك. فإنَّ الرجل إذا كان هو وولده خارجَ حجرةٍ مقفلةٍ فيها مصحف، وهو يعلم ذلك كله، وقال لولده: ناوِلْني المصحف؛ عُلِم من هذا الأمر أمرُه بالحركة إلى الحجرة وفتحها ونحو ذلك مما لا بدَّ منه للتوصُّل إلى مناولة المصحف. فأما ما لا يتم الوجوب إلَّا به فلا يجب؛ فالتوبة من الذنب واجبة، ولا يتم وجوبها إلَّا بإتيان الذنب، وليس بواجب. وقضاء الدين واجب، ولا يتمُّ وجوبه إلَّا بأخذ الدين، وليس بواجب. وهكذا تحصيل النصاب للزكاة، وغيره.

(19/310)


المسألة الرابعة: الواجب المخيَّر، يكفي المكلَّفَ أن يأتي بواحدٍ مما خُيِّر فيه، وهذا مقطوعٌ به متّفق عليه. واختلف في الثواب والعقاب إذا فعل اثنين منها فأكثر معًا، أو تركها كلها. ومما يدل على الحق فيها: أنه لو أتلف زيد سلعةً لعمرو تساوي عشرة دراهم مثلًا، وكان عمرو محتاجًا إلى سكنى دارٍ لزيد، وأجرتها في الشهر نحو ثلاثة عشر درهمًا، وكان الصرف: الدينار (1) باثني عشر درهمًا = جاز أن يقول الحاكم لزيد: أَسكِنْ عمرًا دارَك شهرًا، أو ادفَعْ إليه دينارًا أو عشرة دراهم. فلا ريب أنَّ الواجب في نفس الأمر هو عشرة دراهم أو ما يعدِلُها، والتخيير بين ذلك وبين ما زاد عليه هو على طريق الفضل، فإذا لم يفعل شيئًا مما ذُكِر لم يكن عليه إثم إلا بمقدار عشرة دراهم، كما لا يخفى. المسألة الخامسة: الندب تختلف درجاته في التأكيد وعدمه، وهو والمسنون والمستحبُّ والمرغَّب فيه بمعنى. واصطلح الحنفية على تخصيص كل منها بدرجة، ولا يتعلَّق بذلك خلافٌ معنوي فيما أعلم. المسألة السادسة: المكروه تختلف درجاته، وكثيرًا ما يطلق على الحرام، ويميِّزون بينهما بقولهم: "مكروه تنزيهًا" و "مكروه تحريمًا". وفي المنقول عن السلف ما يقتضي أنهم إنما يطلقون المكروه بمعنى الحرام حيث لم يكن التحريم منصوصًا؛ يتباعدون عن مقتضى قوله تعالى: _________ (1) كذا في الأصل.

(19/311)


{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية [النحل: 116]. المسألة السابعة: الحرمة تختلف درجاتها، ويقسم في الجملة إلى قسمين: لَمَم أو صغائر، وكبائر. وجاء في بعض الذنوب أنها من أكبر الكبائر. المسألة الثامنة: في التحريم المخيَّر، هناك ثلاث صور: الأولى: ما يحدث بتعاطي أحد الشيئين مفسدةٌ في تعاطي الآخر، كالمرأة وابنتها في النكاح؛ فإنه إذا نكح البنتَ حرمتْ عليه الأم، وإذا نكح الأم ودخل بها حرمتْ عليه البنتُ. الصورة الثانية: ما تكون المفسدة في الجمع، كالأختين في النكاح. ومعلوم في هاتين الصورتين أنه قبلَ تعاطِي أحدِ الأمرين يكون تعاطِيْ كلٍّ منهما حلالًا.

(19/312)


 الرسالة الخامسة رسالة في التعصب المذهبي

(19/313)


[ص 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الدين شَرْعُ الله تعالى، فإنما يؤخذ من كتابه وسنة رسوله، مباشرةً إذا تيسَّر ذلك، وإلَّا فبواسطة مُخبِر موثوق به عنهما. وقد علم الله تبارك وتعالى أن العالِم قد تعزُب عنه بعض دِلالات الكتاب أو السنة، وقد لا تبلغه السنة، مع أسبابٍ أخرى يقع بها العالِم في الخطأ، فتجاوز سبحانه عن العالِم وأثابه على اجتهاده المأمور به، وفَرَض على المخطئ أن يرجع إلى الحق إذا تبيَّن أو بُيِّن له. فكان العلماء من سلف الأمة يجتهدون ويقضون ويفتون بما رأوا أنه الحق، مع علم كلّ منهم وغيره أنه معرَّض للخطأ، إذ قد يغفل عن بعض دلالات القرآن، وقد تخفى عنه السنة، وقد يخطئ في التصحيح والتضعيف والترجيح، وقد وقد ... ومن ادعى لواحد من الأئمة انتفاء الخطأ والغلط والزلل عنه، فقد ادَّعى له العصمة، وكفى بذلك خروجًا على الإسلام! ومن كان له ممارسة للسنة وطالع كتب الشافعي رحمه الله عَلِم يقينًا أن كثيرًا من الأحاديث الثابتة لم تبلغه البتة، أو بلغته من وجه لا يثبت، وهي ثابتة عند غيره من أوجه أُخَر. وإن كان قد بلغه وثبت عنده من الأحاديث ما لم يبلغ أستاذَه مالكًا أو لم يعرف ثبوته، كما بلغ كلًّا منهما وثبت عنده أشياء لم تبلغ أبا حنيفة وما لم يعرف ثبوته. وكانوا هم يعرفون هذا يقينًا ولذلك كان كل منهم إذا تبيَّن له خطأ قولٍ من أقواله رجع عنه، ثم لم يعمل ولم يقضِ

(19/315)


ولم يُفتِ إلا بما تبيَّن له بعدُ أنه الحق. وكان العاميُّ يأخذ بفتوى عالم (1)، ثم إذا قيل له: إنه أخطأ، رجع فأخذ بما يترجح عنده أو احتاط لدينه. وامتاز جماعة من العلماء بالتوسّع في العلم والتجرُّد لنشره مع الفضل والصلاح إلى أسباب أُخَر اقتضت أن يكثر أصحابهم ويُعنَوا بأقوالهم ويُمعنوا في ذلك. فهؤلاء أصحاب المذاهب. لم يكن أولئك الأئمة يشعرون بأنها ستنشأ لهم مذاهب على هذا النحو المشاهَد أو قريب منه، وأقوالُهم وأحوالهم تبيِّن ذلك. ومن ألَّف منهم الكتب إنما ألَّفها تبليغًا لما فيها من السنة وتنبيهًا على ما تنبَّه له من الدّلالات وتعليمًا لوجوه النظر والاستنباط. وكانوا هم أنفسهم يمتنعون عن الجواب في كثير من المسائل، ويتوقفون عن الجزم في حكمها إذا ذكروها في كتبهم، ويقولون القول ثم يظهر لهم خطاؤه فيرجعون عنه، [ص 2] وينهون أصحابهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم، ويأمرونهم بالنظر لأنفسهم واتباع الدليل كما ذكره المزني في أول "مختصره" عن الشافعي (2)، وذلك فرضُ الله تبارك وتعالى على هؤلاء وهؤلاء. وكانوا يقرُّون العامة على ما جروا عليه إلى زمانهم؛ يستفتي العاميُّ فيما ينوبه مَن يلقاه من العلماء بدون تقيُّدٍ بمعيَّن. وجرى على ذلك أصحابُهم _________ (1) من قوله: "إذا تبيَّن له" إلى هنا ضرب عليه المؤلف أولًا ثم كتب فوقه: "صح" عدة مرات لطول الكلام. (2) قال: "اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومن معنى قوله لأقرِّبه على من أراده مع إعْلامِيه نهيَه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه. وبالله التوفيق".

(19/316)


وأصحابُ أصحابهم، ثم أخذت الهممُ تضعف والعلماء يقلُّون وأسباب الهوى تشرى، فنشأ التقيُّد بالمذاهب، ثم استحكم وصار المتفقِّهة يتنافسون؛ كلٌّ يحاول الزيادة في أتباع مذهبه، وأوقع ذلك في إحَن ومِحَن وفتن معروفة. وأخذ متفقّهة كل مذهب يحاولون أن يجعلوه كافيًا بأن يُوجدوا فيه أحكامًا للفروع الكثيرة التي لم يذكرها الإمام، فأخذوا في الاجتهاد جاعلين أقوال الإمام أصولًا يُلحقون بها ما لم يذكره بالمقايسة والتشبيه والرأي المحض مع التفنُّن في فَرْض صور نادرة بل مستحيلةٍ. ثم تتَّخذ الطبقة الثانية أقوال مَن قبلها أصولًا يُلحقون بها ما لم يُذكر من الفروع، وهلمَّ جرًّا. حتى في عصرنا هذا ــ رغمًا عن تضخُّم المذهب ــ فما أكثر الوقائع التي تقع فلا يجدها المتفقِّه في كتب مذهبه، فيشمِّر للاجتهاد متَّخذًا أقوال من قبله ــ ولو عن قربٍ ــ أصولًا [ص 3] يستنبط منها ويقيس ويشبِّه ويتكلَّف. ومن شأن تلك الاجتهادات أن تؤدِّي كثيرًا إلى ما يخالف نصوص الشرع ومقاصده، وإلى ما يخالف كلام الأئمة وقدماء أصحابهم، وهذا هو الواقع. فأما كثرة الاختلاف في كل مذهب وتعارض التصحيح والترجيح فحدِّثْ عنه ولا حرج، وإن حاول المتأخرون التخفيف من ذلك! ومع هذا كله، فلم تُطبِق الأمة على هجر الكتاب والسنة، بل بقي النظر في التفسير وجمع السنة وترتيبها والكلام في الروايات وجمع الأدلة واستنباطها من الكتاب والسنة مستمرًّا وإن تفاوتت المقاصد؛ فمِنْ عالم مستقلٍّ وإن انتسب إلى مذهب فنسبة اسمية فقط، وثانٍ منتسب ملتزم، غير أنه إذا بان له في مسألة رجحانُ خلاف مذهبه دليلًا أخذ بالدليل، وثالث متقيد بمذهب لا يستطيع التخلُّص من شيء منه. والملتزمون كثيرون، ولا يكاد يخلو واحد منهم عن الرغبة في الانتصار

(19/317)


للمذهب، ولكنهم متفاوتون في هذه الرغبة وفي مراتبها، وبحسب التفاوت في ذلك يكون التفاوت في إنصاف الأدلة والحَيْف عليها. [ص 4] وأما المتقيِّد فقد أعلن عن نفسه بأنه "محامي" (1). وقد كان عمل المحامي الألدِّ قاصرًا على ما ذكره إياس بن معاوية، عن صالح السدوسي أنه يقول لموكله: "اجحدْ ما عليك، وادَّعِ ما ليس لك، واستشهد الغُيَّب" (2). فزاد بعد ذلك باستشهاد شهود الزور ومحاولة جرح شهود المخالف العدول؛ وقع هذا وأكثر منه من هؤلاء المحامين عن المذاهب. نعم، إنهم متفاوتون ولكن أحسَبُهم (3) إلى أصحاب مذهبه أَلَدُّهم وأَلَجُّهم؛ يُطرونه بقوة العارضة، والصلابة في المذهب، وشدّة الوطأة على المخالفين، مع أنهم يرمون من خالفهم ــ وإن كان مستقلًّا أو ملتزمًا غير متقيِّد ــ بالتعصب واتباع الهوى والتعامي عن الحق وأشباه ذلك. ومَن وطَّن نفسه على الإنصاف وتحرِّي الحقِّ على كل حال، عَلِمَ ــ وإن كان متقيِّدًا ــ بأن الملتزمين والمتقيدين من علماء مذهبه كغيرهم في أنه يقع منهم في كثير من المواطن ميلٌ عن الإنصاف وحيف على الأدلة؛ يوقعهم في ذلك حرصُهم على الانتصار للمذهب. وإذ كان كل مذهب من المذاهب غيرَ معصوم، فلا بُدَّ أن يكون وقع في كل منها فروع مخالفة للحق، يقع محاولُ الانتصار لها في الميل والحيف ولا بد (4). _________ (1) كذا في الأصل بإثبات الياء، وهو جائز في الوقف. (2) انظر "أخبار القضاة" (1/ 350) و"تاريخ بغداد" (6/ 12). (3) كذا في الأصل، وله وجه. ويمكن أن يُقرأ "أحسنهم" بالنون. (4) هنا ينتهي ما وجد من كلام الشيخ بخطه.

(19/318)