مجموع رسائل التفسير
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- مجموع
رسائل التفسير
- مقدمة التحقيق
- الرسالة الأولى في تفسير البسملة
- الرسالة الثانية في تفسير سورة الفاتحة
- الرسالة الثالثة في تفسير أول سورة البقرة (1 - 5)
- الرسالة الرابعة في ارتباط الآيات في سورة البقرة
- الرسالة الخامسة في ارتباط قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ... } بما قبله وما بعده
- الرسالة السادسة في تفسير قوله تعالى:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ... } الآيات
- الرسالة السابعة في تفسير أول سورة المائدة (1 - 3)
- الرسالة الثامنة في تفسير قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ... } الآية
- الرسالة التاسعة في تفسير قوله تعالى:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ... } الآية
- الرسالة العاشرة في تفسير قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ومعنى "أهل البيت" في قوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}
- الرسالة الحادية عشرة في إعراب قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
- الرسالة الثانية عشرة في إعراب قوله تعالى:{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}
- الرسالة الثالثة عشرة في إعراب قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} ونحوه
- الرسالة الرابعة عشرة في تفسير آيات خلق الأرض والسماوات
- الرسالة الخامسة عشرة في معنى: {أَغْنَى عَنْهُ}
- الرسالة السادسة عشرة حول تفسير الفخر الرازي وتكملته
- الرسالة السابعة عشرة فوائد من تفسير الرازي مع التعليق على بعضها
مجموع رسائل التفسير
تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله تعالى (1313 - 1386) تحقيق محمد أجمل أيوب الإصلاحي
(مقدمة 7/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(مقدمة 7/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذه مجموعة رسائل في التفسير للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله، ولم ينشر شيء منها من قبل غير بحثه عن تكملة تفسير الفخر الرازي، فإنه قد طبع في حياته في مجلة الحج سنة 1376، ثم طبع ضمن مجموعة من رسائل الشيخ سنة 1417. أُلِّفت هذه الرسائل في أزمنة متباعدة، فمنها ما كتبه يوم كان قاضيًا في حكم الأدارسة في عسير، ومنها ما ألفه ــ فيما يبدو ــ في الهند، ومنها ما حرره بعد عودته من الهند أيام اشتغاله في مكتبة الحرم المكي الشريف. وقد ألف بعضها ابتداء لأهمية موضوعها، وبعضها نتاج مذاكرات جرت بينه وبين السيِّد محمد بن علي الإدريسي أو بعض معاصريه، وكتب بعضها بناء على اقتراح بعض أصدقائه. وهي رسائل متنوعة في موضوعاتها، فرسالة في تفسير البسملة، وأخرى في تفسير سورة الفاتحة، ورسالة في بيان تناسب الآيات وارتباطها في سورة البقرة، وثلاث رسائل في تفسير آيات مشكلة، وثلاث أخرى في الإعراب، ورسالة في تفسير لغوي. وقد ضممنا إليها بحثه المشهور عن تكملة التفسير الكبير لفخر الدين الرازي.
(مقدمة 7/5)
ليست كل الرسائل كاملة، فإن بعضها مخروم الأول والآخر، وقد تكون نسختها التي وصلت إلينا هي الناقصة، ولكن بعض الرسائل يظهر أن المؤلف نفسه لم يتمكن من إتمامها؛ بيد أنها جميعًا ــ سواء أكاملة كانت أم ناقصة ــ رسائل نفيسة تشتمل على فوائد جليلة ونظرات دقيقة، وتحريرات وتنقيحات كثيرة. لم يسمّ الشيخ شيئًا من هذه الرسائل، وإنما سُمِّي كثير منها عند فهرستها في مكتبة الحرم المكي الشريف استنباطًا من مضمونها. وقد بقي بعضها ضمن مجموعات دون عنوان، فاخترنا لها عنوانًا مناسبًا. نعم، عنوان البحث الذي عن تفسير الرازي قد يكون من وضع المؤلف، لأنه طبع في حياته. وهنا أريد أن أنبِّه على أمرين: الأول: أنَّ مسوَّدات المؤلف رحمه الله تضمنت فوائد تفسيرية كثيرة جُمعت في مجلَّد مستقل مع فوائد الفقه والعقيدة وغيرهما بعنوان "فوائد المجاميع". الثاني: أنَّنا وجدنا في مجموع برقم 4718 خطَّة وضعها المؤلف رحمه الله لكتاب في التفسير مع الإشارة إلى مصادره، ونصُّها بعد البسملة: - القراءات: (عن تفسير الآلوسي) أقتصر على ما كان له علاقة بالمعنى، فلا أتعرض للخلاف في الهمزة ونحوه. - اللغة والتصريف والاشتقاق: (عن الراغب وابن الأثير واللسان والقاموس مع شرحه، ونحوها مع التفاسير) وأقتصر على ما له [علاقة] بالمعنى.
(مقدمة 7/6)
- النحو: (أعاريب القرآن للسمين وغيره مع التفاسير) أقتصر على ما فيه غموض. - البلاغة: (الكشاف وغيره مع مراجعة كتب البلاغة). - أسباب النزول: (السيوطي وغيره والتفاسير). - المعنى: وفيه الناسخ والمنسوخ، وذكر الأحاديث المبيِّنة للآية، وما جاء من القصص مما كان إسناده قويًّا، مع بيان ذلك بالأسانيد. أقتصر على نقل الأقوال التي لها محلٌّ من النظر". لم يؤرِّخ المؤلف رحمه الله لتذكرته هذه، فلا نعرف متى فكَّر في وضع هذا التفسير، غير أنَّ الرسائل التي بين أيدينا ليس شيء منها مطابقًا للخطة المذكورة. وإليكم تفصيل الرسائل التي تشتمل عليها هذه المجموعة والأصول الخطية المعتمدة في نشرها، وهي جميعا بخط المؤلف رحمه الله تعالى، وكلها محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف. (1) رسالة في تفسير البسملة
هذه رسالة كاملة، وهي الرسالة الوحيدة التي صدَّرها المؤلف رحمه الله بمقدمة أوضح فيها الغرض من تأليفها، فأشار إلى كثرة الرسائل التي ألفت في شرح البسملة وأنه لا يكاد شرح من شروح الكتب يخلو من الكلام عليها، ثم قال: "ولكنني مع ذلك لم أجد كلامًا عليها يقتصر على إيضاح معناها إيضاحًا تامًّا، يسهّل على الطالب الإحاطة به، ليستظهره عند ذكرها. فسمت بي الهمة إلى محاولة ذلك".
(مقدمة 7/7)
والرسالة قد رتبها المؤلف على ثمانية فصول: أشار في أولها إلى أربعة أمور ينبغي استحضارها قبل البسملة. والفصول الثاني والخامس والسادس والسابع تدور حول معنى "بسم الله"، ومعنى الباء فيها، ومتعلقها، وما إلى ذلك. والفصلان الرابع والثامن في تحقيق لفظ الجلالة والصفتين الرحمن والرحيم. أما الفصل الثالث، وهو أطول الفصول إذ استغرق نصف الرسالة تقريبًا، فقد تكلم فيه على دلالة الاسم في البسملة، ثم ذكر الأقوال المشهورة فيها، وأولها قول ابن جرير: إن كلمة الاسم هنا بمعنى التسمية، وقد ردّه الشيخ المعلمي بأنه قول لا حجة عليه ولا حاجة إليه. وقد تلبست الأهواء قديمًا بمسألة الاسم والمسمى، هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ فتمسك أهل السنة بأنه عين المسمى، وروى اللالكائي عن الأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى قولهما: "إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة" كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 207). وذهبت المعتزلة والخوارج إلى أن الاسم غير المسمى. وأراد المؤلف رحمه الله أن يكشف أصل الخلاف ويحرر المسألة حسب طريقته في تحرير المسائل المشكلة، فخاض في لجة البحث، واقتحم معترك الآراء. فنقل الأقوال المختلفة في المسألة ثم ناقشها، وفي آخر الفصل تكلم على "الأمثلة التي يحتج بها أصحاب هذه الأقوال أو
(مقدمة 7/8)
بعضهم وتحقيق معناها". وهكذا استطال الكلام، واستغرق نصف صفحات الرسالة. وكان للشيخ عز الدين بن عبد السلام النصيب الأوفر من هذه المناقشات، فإن كتابه "مجاز القرآن" (الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز) كان بين يدي المؤلف، فنقل ما كتبه في هذه المسألة، وردّ عليه أكثر ما قال. هذه الرسالة محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف ضمن مجموع رقمه 4693، ومنه مصورة برقم 3593. المجموع في 50 ورقة غير مرقمة، ورسالتنا في آخره في الأوراق 42 - 49. وفي كل صفحة منها نحو 32 سطرًا. وهي مبيضة، ولكن المؤلف تناولها في مواضع كثيرة بالضرب والتصحيح والإلحاق. وقد وجدنا بعد تحقيق هذه الرسالة رسالة أخرى ضمن مجموع سيأتي وصفه، فسَّر فيها المؤلف البسملةَ مع سورة الفاتحة دون فاصل بينهما، فكأنه اعتدَّها آية من الفاتحة. وهي مسودة تكلَّم فيها أولًا على الباء والاسم في "بسم"، وتعرض لمسألة الاسم والمسمى، ولكنه كلام مختصر. وقد بسطه في المبيضة غاية البسط، وبالغ في تفصيله وتنقيحه، وقد ذهب كلامه على المسألة بعُظْم الرسالة كما رأينا. ثم فسَّر "الرحمن الرحيم"، ولكنه لم يتمّ الكلام وضرب على ما كتبه. ثم كتب أربعة فصول لم يتناول معناها في المبيضة. أولها ــ وهو طويل ــ في تعجرف المشركين في شأن الاسم الكريم "الرحمن"، إذ قالوا لما
(مقدمة 7/9)
أُمِروا بالسجود للرحمن: {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]. ذكر المصنف أنَّ وجه هذا التعجرف قد أشكل على المفسرين، فقيل: إن القوم لم يكونوا يعرفون هذه الكلمة لا علَمًا ولا وصفًا. وقد ردَّ المصنف هذا القول بعدَّة أمور. منها أن الاسم المذكور جاء فيما حكاه الله تعالى من كلام المشركين كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]. ومنها أنهم سموا بعبد الرحمن في الجاهلية، وذكر "عبد الرحمن الفزاري" الذي أغار على إبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتله أبو قتادة كما ورد في قصة غزوة ذي قَرَد في صحيح مسلم. ثم نقل من تفسير الطبري بيتين ورد فيهما اسم "الرحمن". أحدهما لسلامة بن جندل التميمي، والآخر "لبعض الجاهلية الجهلاء". قال ابن الكلبي: "وقد رُوي بيت في الجاهلية ولم ينقله الثقات، هو للشنفرى" ثم أورد هذا البيت (الاشتقاق لابن دريد: 59). ثم قال: لا يجوز أن يخاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لا يعرفون. وهذه الوجوه هي التي ردَّ بها العلّامة عبد الحميد الفراهي رحمه الله تعالى القولَ المذكور في كتابه "مفردات القرآن". وقد طبع هذا الكتاب سنة 1358، وكان الشيخ المعلمي رحمه الله حينئذ في الهند، وقد وصل إليها سنة 1345. ولا شك أنه لم يقف على كتاب المفردات حين تسويد هذا الفصل، وإلا لوجد فيه شواهد أخرى ثابتة النسبة من شعر الأعشى والمثقِّب العبدي وحاتم الطائي. وقد تكلم المصنف في هذا الفصل أيضًا على ما ورد في الصحيح في
(مقدمة 7/10)
قصة صلح الحديبية من قول سهيل بن عمرو: "وأما الرحمن فوالله ما أدري ما هي"، ورجَّح أنَّ سهيلًا لم ينكر كلمة "الرحمن"، وإنما أنكر تصديرَ الكتب بالبسملة بدلًا من "باسمك اللهم". وفي الفصل الثاني بيَّن المقصود من اختصاص اسم "الرحمن" بالله تبارك وتعالى. والفصل الثالث في تفسير أهل اللغة وأصحاب الكلام لكلمة "الرحمة"، وتأويلهم إياها إذا جاءت صفةً لله عز وجل. وفي الفصل الأخير ناقش ما احتج به الذين لا يرون البسملة آية من سورة الفاتحة، من جهة النظم فقط. ولما كانت هذه الفصول الممتعة لم يتطرق الكلام إلى معناها في المبيضة ألحقناها بها في آخرها.
(2) رسالة في تفسير سورة الفاتحة أصل هذه الرسالة بخط المصنف رحمه الله، محفوظ في مكتبة الحرم المكي الشريف بعنوان "رسالة في المواريث"، ورقمها 4701. والمصورة الرقمية التي بين أيدينا تشتمل على 77 لوحة، واللوحات (52 ــ 65) في تفسير آية البسملة وسورة الفاتحة، وبلفظ أصح: في تفسير سورة الفاتحة، وضمنها آية البسملة، فإن المؤلف رحمه الله لم يفصل بينهما ــ كما سبق ــ ولا وضع عنوانًا للرسالة. واللوحات (2، 3، 4/أ، 6/أ) أيضًا جزء من هذه الرسالة، ويبدو أنه قد حصل اضطراب في ترتيب الأوراق عند التصوير.
(مقدمة 7/11)
وهي مسودة ناقصة. وقد بيَّض فيما بعد تفسير البسملة في رسالة مستقلة وتوسَّع في الكلام ورتَّبه على فصول. فاعتمدنا عليها في نشرها في الرسالة السابقة، وضممنا إليها الفصول الجديدة التي وجدناها في هذه المسودة للفائدة، كما سبق. أما تفسير سورة الفاتحة بعد آية البسملة، فهو كامل من جهة، وناقص من جهة أخرى. أما كماله، فإنَّ المصنف رحمه الله فسَّر الآيات كلها، وتكلم على قراءاتها ومعانيها وإعرابها. وأما نقصه، فإنه أحال فيه لبسط بعض الموضوعات على ما سمَّاه "الفرائد" فقال في موقع: " ... حتى الفواحش التي يبغضها الله عز وجل ويعذِّب عليها، لولا أن الحكمة اقتضت أن تقع لَما وقعَتْ. وقد أوضحت هذا في (الفرائد) " (ص 10). وفي موضع آخر لما فسَّر الصراط المستقيم قال: "وتمام الكلام على هذا يطول، فله موضع آخر، وعسى أن أبسطه في الفرائد إن شاء الله تعالى" (ص 39). و"الفرائد" هذه لم أجد لها أثرًا في المخطوطة. وهناك إحالات أخرى، كقوله في ذكر الحمد الحالي: "وقد قيل: إن هذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وسيأتي تمام هذا إن شاء الله" (ص 4). ومنها قوله بعد ما ختم كلامه على "رب العالمين" بأن التصرُّف الغيبِيَّ كلَّه بيد الله: "وسيأتي لهذا مزيد إن شاء الله تعالى" (ص 13/ 5).
(مقدمة 7/12)
ومنها قوله في مسألة الإضلال من الله: "وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك" (ص 48). يظهر من أسلوب المؤلف في هذه الإحالات أنه سيأتي الكلام على الموضوعات المذكورة في تفسير سورة الفاتحة نفسه، ولكن لم نجده في مخطوطة التفسير. وثمة إحالات يشير فيها إلى رسائل أخرى له دون تسميتها، ولعله ينوي تأليفها. وقد يكون في نيته تفسير سور أخرى كاملة أو بعض آياتها ويريد أن يفصل القول هناك. وذلك كقوله بعد تفسير معنى العبادة: "وقد ذُكر هنا ما تيسَّر، وإذا أذِن الله فسترى كثيرًا من ذلك في مواضعه" (ص 29). وفي موضع آخر ذكر وجهين فيما أخبر الله تعالى عن المشركين بأنهم يعبدون الشيطان. فذكر الوجه الأول. وأما الوجه الثاني فقال فيه: "قد بينته في رسالة العبادة، ولعله يأتي في موضع آخر إن شاء الله تعالى" (ص 25). وقال بعد تحقيق معنى العبادة: "وقد أقمت بحمد الله تبارك وتعالى البراهينَ على هذا التفصيل في رسالة العبادة. وإذا يسَّر الله تبارك وتعالى فسيأتيك كثير منه في مواضعه". وقد أحال المصنف رحمه الله في هذا التفسير على "رسالة العبادة" له مرة بعد مرة. ويدل كلامه في موضع على أنه لما سوَّد تفسير الفاتحة هذا لم تكن رسالة العبادة قد بلغت مرحلة التمام. وذلك قوله بعد تفسير معنى
(مقدمة 7/13)
العبادة: "وقد استوعبت أكثر ذلك في رسالة العبادة، أسأل الله تعالى من فضله تيسيرَ إتمامها ونشرها" (ص 29). والمؤلف رحمه الله يُعنَى دائمًا بتوضيح الغوامض وحلّ المعضلات وإزالة الشبهات. وقد تجلَّت عنايته بذلك في تفسير البسملة كما رأينا، وفي تفسير سورة الفاتحة أيضًا. فالموضوعات التي تكلم عليها في هذه الرسالة بصورة خاصة أهمُّها: - تفسير معنى الحمد. وقال: إنه يأتي في اللغة نفسيًّا وقوليًّا. والنفسي كقولك: جالست فلانًا فحمدته، وطعمت من عسلك فحمدتُه. وهو يفسَّر بالرضا والموافقة، وهو تقريب. والقوليُّ يفسَّر بالشكر والثناء. والنفسي والقولي مرتبطان، وهو يستلزم الحمد الفعلي والحمد الحالي. - ولما قال ضمن تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: "كلُّ حمدٍ يقع في العالمين فهو سبحانه المستحقُّ له" ذكر إشكالين على ذلك: الأول أنه إذا كان لا يستحق شيئًا من الحمد إلا الله عز وجل لزم أن يكون ثناء الله على بعض الخلق باطلًا. وأجاب عنه بجوابين. والإشكال الثاني: أن نفي استحقاق المخلوق للحمد الذاتي البتة إنما يتخرج على قول المجبرة. ثم زاد إشكالًا ثالثًا: أنه إذا كان كلُّ شيءٍ محمودٍ إنما يستحق الحمد عليه استحقاقًا ذاتيًّا اللهُ عز وجل، فمن أين يقع الذمُّ؟ وأجاب عن الإشكالين. - ذكر المصنف أن في قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ردًّا على المشركين الذين يزعمون أن لمعبوداتهم تدبيرًا غيبيًّا فوضه الله تعالى إليها.
(مقدمة 7/14)
ثم تكلم على أنواع التصرف الغيبي التي تقع في الكون. وقد فسّر كلمة "الرب" بمعنى الملك المدبِّر التدبيرَ التامَّ. - وذكر من فوائد صفة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: تقرير استحقاق الرب عز وجل للحمد واختصاصه به، وتقرير ربوبيته، وتقرير رحمته، وتقرير توحيده. وأحال لتمام الكلام على النقطة الأخيرة، على رسالة العبادة له. - وكتب فصلًا نفيسًا بالغ الأهمية في تفسير كلمة العبادة. نقل فيه أولًا أقوال العلماء في تفسير العبادة، ثم أورد عليها إيراداته. وذكر من تعريفاتهم أن العبادة: التأليه، فمن اتخذ شيئًا إلهًا فقد عبَده. قال: وهذه أقرب عباراتهم، ولكن كلمة "إله" غير مكشوفة المعنى. وأقرب العبارات وأشهرها في تفسيرها أنه: المعبود أو المعبود بحق. ثم نقل كلامًا لبعض المشاهير من معاصريه ــ ولم يسمِّه، والظاهر أنه محمد رشيد رضا صاحب المنار ــ وأورد عليه عدة إيرادات. ثم ذكر أنه اعتنى بهذه المسألة وجمع فيها "رسالة العبادة". ثم أورد تعريفه للعبادة، الذي توصل إليه بعد النظر في النصوص القرآنية ومقابلة بعضها ببعض، والنظر في أحوال المشركين من الأمم المختلفة، وغير ذلك. وهو أن العبادة: خضوع يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. والمراد بالخضوع: ما يشمل الطاعة والتعظيم، وبالنفع الغيبي: ما هو وراء الأسباب العادية. ثم إن كان ذلك الخضوع مأذونًا فيه من الله تعالى بسلطان بيِّن وبرهان واضح، فلا يكون إلا عبادةً له سبحانه، سواء كان في الصورة له أم لغيره.
(مقدمة 7/15)
وبعد شرح هذا التعريف ذكر ستة أمور يجب استحضارها، أولها: أن هذا المعنى كان بيِّنًا في الجملة عند العرب الذين خوطبوا بالقرآن، إلا أن هناك دقائق قد كان يخفى على كثير منهم أنها عبادة وتأليه. وآخرها: أن العقل يستبعد بل يكاد يُحيل أن يكون هذا الأمر الذي هو أسُّ الإسلام وجوهره غفل عنه أكثر العلماء، إن لم نقل كلهم ... حتى آل إلى ما نراه من الخفاء. فصارت تفسيراتهم للإله والعبادة على ما شهدت، وصار الكلام في التفاسير وشروح الحديث وكتب الفقه على ما يعرفه من طالعها. ثم بيَّن السبب الذي أدَّى إلى تلك الغفلة. - في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قرَّر أن الجملتين إنشائيتان. وذكر استشكال كثير من الناس ما اقتضته الآية من نفي الاستعانة بغير الله عز وجل، مع أنَّ مصالح الدنيا وكثيرًا من مصالح الدين لا تقوم إلا بتعاون الناس. وأجاب عنه بأن هذا مبني على أن الجملة خبرية، وليس الأمر كذلك، وإنما هي إنشائية لطلب المعونة، والطلب يُوجَد بنفس الجملة. - فسَّر هداية الطريق بالإرشاد إليه. قال: ولكنها تكون على أوجه. وذكر خمسة أوجه. - وبعد ما فسَّر قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الآية وذكر ما فيها من الهداية والتنبيه، كتب "مسألة"، وتكلم على صفة الغضب من الله جلَّ ذكرُه. وبهذه المسألة انتهت المسوَّدة.
(مقدمة 7/16)
(3) رسالة في تفسير أول سورة البقرة (1 - 5)
هذه الرسالة ضمن دفتر يحتوي على عدة رسائل. رقمها في المكتبة 4658/ 4. وهي في نحو أربع صفحات، وفي كلِّ صفحة نحو 14 سطرًا. لم يضع المؤلف عنوانًا للرسالة، وإنما كتب البسملة، ثم بدأ بتفسير قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ}، فلم يعرِّج على الحروف المقطعات، ولا فسَّر {ذَلِكَ الْكِتَابُ}. وختم الرسالة بالكلام على قوله سبحانه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وتفسير المؤلف رحمه الله تعالى في هذه الرسالة أشبه بالنكت ويغلب عليه الاهتمام بالجانب البياني. فذكر فوائد الصفة الكاشفة عند الكلام على قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، والسرَّ في إعادة الاسم الموصول {الَّذِينَ} في الآية الثالثة، ولماذا جيء باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى}، والسرَّ في إعادته في {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} والاستعارة المكنية في {عَلَى هُدًى}. والنكت في قوله: {مِنْ رَبِّهِمْ}. وشرح كون القرآن هدًى للمتقين، والمراد بـ {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، وهل "الهدى" في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} نفسه في {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. أما اللغة والإعراب، فلم يشرح إلا كلمة "الريب" ومعنى الباء في "بالغيب".
(مقدمة 7/17)
(4) رسالة في ارتباط الآيات في سورة البقرة لعل هذه الرسالة ألفها الشيخ في حيدراباد أيام اشتغاله مصححًا بدائرة المعارف العثمانية، ويدل على ذلك أنه أحال فيها على كتاب "الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح" للعلامة عبد الحميد الفراهي رحمه الله، فقال وهو يذكر ارتباط الآية (144): "وذكر الفاضل المعلم عبد الحميد الفراهي في كتابه (الرأي الصحيح في من هو الذبيح) ــ وهو كتاب نفيس ــ أن في الآيات إشارة إلى أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام ... انظر التفصيل في الكتاب المذكور". وقال مرة أخرى: "وقد حقق هذا البحث المعلم عبد الحميد الفراهي في كتاب الرأي الصحيح، فانظره". وقد طبع كتاب الرأي الصحيح سنة 1338 قبل نحو سبع سنوات من وصول الشيخ المعلمي إلى حيدراباد سنة 1345, ومن المستبعد أن يكون قد وقف عليه من قبل، وهو في الحضرة الإدريسية. وقد أشار الشيخ في تعقيبه على تفسير سورة الفيل للفراهي إلى كتب أخرى له وقف عليها واستفاد منها، وذكر منها "الرأي الصحيح"، مع "إمعان في أقسام القرآن"، و"تفسير سورة الشمس" بصورة خاصة. وقد توفي الفراهي سنة 1349، والتزم الشيخ في رده عليه بالترحم عليه كلما ذكره، خلافًا لهذه الرسالة فإنه ذكره فيها مرتين دون الترحم عليه، فهل ألفها في حياة الفراهي، أي فيما بين سنة 1345 و 1349؟ لا يمكن القطع بذلك، لأن نسخة الرسالة التي بين أيدينا هي المسودة،
(مقدمة 7/18)
وقد افتتحها بقوله: "الحمد لله وسلام" كذا، فترك البياض، ولم يكمل الصلاة والسلام، ولا كتب مقدمة للرسالة. وكان رحمه الله كثير التعديل والتغيير في مسوداته، وقد يشرع في بحث فيكتب صفحة أو أكثر ثم يضرب عليها ويبدأ من جديد، ويفعل هذا ثلاث مرات أو أكثر، فلعله كتب في المرة الأولى الحمد والصلاة على وجه التمام، ثم بدأ التسويد من جديد فاختصر ومضى، وأجّل تكملته لوقت التبييض الأخير. وفي مثل هذه الحالة لا يتوقع منه أن يترحم على الفراهي، وهو لم يكمل الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه لا يقتصر في ذلك على صيغة "صلى الله عليه وسلم" بل يلتزم إضافة "وآله" بعد "عليه". الرسالة في نسختها التي بين أيدينا ليست كاملة، إذ وصل المؤلف رحمه الله في بيان ارتباط الآيات إلى قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ففسر المقصود بالإكراه في الآية، وبيّن ارتباط الآية بما قبلها، ثم شغلته مناقشة ما يمكن إيراده على ما اتفق عليه المفسرون في معنى الجملة المذكورة، وانقطع الكلام. وكذلك أحال في موضع (ص 7) على "فوائد"، وهي غير موجودة في هذه النسخة، والظاهر أنه كان يريد تقييدها بعد إكمال الرسالة. ثم ما الذي بعث الشيخ على تأليف هذه الرسالة، وهل كان ينوي بيان ارتباط الآيات في سور القرآن كلها على هذا النحو، أو أراد قصره على سورة البقرة فحسب، ولماذا اختار سورة البقرة وحدها؟ وهل وقف على تفسير البقاعي أو لا؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة لأن الرسالة خالية من المقدمة، ولم نجد إشارة في أثنائها تُعين على ذلك.
(مقدمة 7/19)
نعم وقف الشيخ على كتب الفراهي، وذكر ثلاثة منها في مقدمة تعقيبه على تفسيره لسورة الفيل كما سبق. وأحدها: تفسير سورة الشمس، وقد طبع سنة 1326. وفي هذه السنة طبع تفسير سورة العصر، وتفسير سورة التحريم، وتفسير سورة الكافرون. وقد طبع تفسير سورة القيامة وسورة اللهب منها سنة 1324، ثم طبع تفسير سورة الذاريات وعبس نحو سنة 1338، وبعدها تفسير سورة التين. أما تفسير سورة المرسلات وتفسير سورة الكوثر فطبعا نحو سنة 1351 هـ. وقد عني الفراهي في تفسيره بارتباط الآي بل بنظام السورة عناية بالغة، وقد سمى تفسيره "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان". و"النظام" ــ وقد يستعمل كلمة النظم ــ عنده يختلف عن "التناسب" الذي اهتم به كثير من المفسرين، فهو قريب من الوحدة الموضوعية عند المعاصرين. ولا يبعد أن يكون الشيخ المعلمي قد لقي في حيدراباد بعض أصحاب الفراهي وتلامذته، وسمع منهم ثناء عاطرًا على الفراهي ومنهجه في تفسير القرآن، ثم وقف على بعض أجزاء تفسيره، مما دفعه إلى تأليف هذه الرسالة في ارتباط الآي في سورة البقرة. وقد ذكر القاضي ابن العربي في سراج المريدين أن "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ... " (الإتقان 5/ 1837). ويقول الفراهي في مقدمة تفسيره: "وقد يسر الله تعالى لي بمحض
(مقدمة 7/20)
نعمته فهم نظم القرآن في سورة البقرة وسورة القصص من نفس القرآن". وانكشاف النظام في سورتين حمله على التدبر في سائر السور، ولكنه فسر في البداية جملة من السور من آخر القرآن، ولما بدأ بالتفسير من أول القرآن على المنهج الذي ارتضاه أخيرًا وصل إلى الآية 62 من البقرة وتوقف. غير أنه كتب مقدمة لتفسير سورة البقرة، تتضمن تحليلًا جيدًا لنظامها الإجمالي، وقد طبع هذا التفسير بأخرة في الهند في نحو ثلاث مائة صفحة. وقد تكلم الشيخ عبد الله دراز رحمه الله (ت 1377) في كتابه "النبأ العظيم" (ص 163 - 210) على نظام سورة البقرة أيضًا. ونظرة الشيخ المعلمي رحمه الله في ارتباط الآي في سورة البقرة وإن لم تكن نظرة كلية شاملة تكشف عن النظام العام للسورة، وإنما تغلب عليها الجزئية، ولكنها مع ذلك تحوي نظرات دقيقة، وهي مع محاولتي العلامة الفراهي والشيخ عبد الله دراز رحمهما الله تقدم مادة ثريَّة لدراسة مقارنة في نظام سورة البقرة. النسخة التي اعتمدنا عليها في نشر هذه الرسالة هي مسودة، رقمها في فهرس مكتبة الحرم المكي الشريف 4714، وهي عبارة عن دفتر مذكرات فيه 54 ورقة، ورسالتنا تبدأ فيها من الورقة الثانية وتنتهي في الورقة 32. ولكن الحقيقة أنها انتهت في ق 25/ب، فإن المؤلف رحمه الله قد أضاف كلامًا في ق 24/ب في السطر الرابع عشر، وبدأ كتابته في الحاشية العليا من الصفحة، واستمر هذا الاستدراك في الحواشي العليا إلى ق 32، وترك الصفحات الثلاث عشرة بيضاء لبيان ارتباط الآيات الباقيات.
(مقدمة 7/21)
(5) رسالة في بيان ارتباط قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} من الآيات المشكلة من ناحية الارتباط والمناسبة: قوله تعالى في سورة البقرة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [238 - 239]. فقد وقعت الآيتان بين أحكام الطلاق وأحكام المتوفى عنهنَّ أزواجهنَّ، ولا مناسبة ظاهرة لهما بالأحكام المذكورة قبلهما ولا بعدهما. وقد بيَّن المؤلف رحمه الله ارتباط الآيتين في الرسالة السابقة. وبعد تحقيقها بزمن طويل عُثِر ضمن أوراق متفرقة بخط المؤلف على كلمة مفردة في بيان ارتباطهما. ولاشتمالها على زيادات أحببت أن ألحقها بالرسالة السابقة. وقد عني المفسرون ببيان مناسبة الآيتين وأشاروا إلى وجوه عديدة، منهم الرازي وأبو حيان والبقاعي والآلوسي، وقد أحال المؤلف على الأخير في الرسالة السابقة، ثم ضرب على الإحالة. والوجوه التي ذكروها متقاربة. ويحسن الرجوع في هذا الموضوع إلى كتاب "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" للفراهي، فإنَّ تحليله لأجزاء سورة البقرة كشف عن وجه جديد في موقع الآيتين، يدلُّ على الفرق بين علم التناسب وفكرة النظام التي دعا إليها الفراهي وبنى عليها كتابه.
(مقدمة 7/22)
هذه الرسالة في ورقة واحدة أعطيت رقم 4920. وليس في أولها بسملة ولا حمدلة، فأخشى أن يكون قد سبقها كلام للمؤلف على الآية السابقة. (6) رسالة في تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ... } الآيات فسَّر المؤلف رحمه الله في هذه الرسالة الآيات (2 - 4) من سورة النساء، وضم إليها الآيات (127 - 130) من السورة أيضا. ذكر فيها أولًا مذهبين في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. المذهب الأول: حمل الآية على العموم، ونقل قولين على هذا المذهب. والمذهب الثاني: حملها على الخصوص، فقال: "وحملها الأكثر على الخصوص على اختلاف بينهم، وذلك على أقوال". ثم نقل قولين: أولهما ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة، والحديث في الصحيحين، قالت: "هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن". والثاني: ما رواه مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أيضًا قالت: أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة، وهو وليها ووارثها، فيُضرُّ بها، ويسيء صحبتها، فقال له: فانكح ما أحللت لك، ودع هذه التي تضر بها.
(مقدمة 7/23)
وبعد نقل الحديث قال: الزهري أجلّ من هشام، لكن قد ينظر فيما في روايته من وجهين ... " فانتقد الصورة المذكورة في رواية الزهري وقال: إن ما في رواية هشام أقرب إلى ظاهر الآية، مع ملاحظة عليها. ثم ذهب إلى أن طريقة المحققين من أئمة التفسير والحديث تحري الجمع بين الروايات، وإذا كانت الآية ظاهرة في العموم لم تصرف عنه إلى الخصوص لظاهر تفسير بعض السلف. وأيد كلامه بقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كثيرًا من تفسيرات السلف إنما أريد بها النص على أن ما ذكره مما يدخل في الآية، لا أنه المعنى كله. وجعل الشيخ المعلمي رحمه الله هذا مدخلًا لتفسير جديد للآية، فقال: "فعلى هذا، يمكن تقرير معنى الآية على ما يشمل ما تقدم وغيره من صور خوف عدم الإقساط، وتسلم مع ذلك عن كثرة الحذف والتقدير". ثم ذكر بعض الأوجه التي يشتبه فيها وجه القسط وقال: "فأرشدهم الله عز وجل إلى أولى الأوجه وأقربها إلى القسط، وهو تحري الطيب في النكاح". وفسر الطيب بأن تكون المرأة مع حلها للرجل معجبة له خَلْقًا وخُلُقًا. فإذا كان تأويل الآية حسب القولين الأولين: وإن خفتم يا معشر الأولياء ألا تقسطوا في اليتامى إذا نكحتموهن، فلا تنكحوهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن، فإن المعنى الثالث عند الشيخ "غني عن تلك التقديرات، وإنما تحتاج إلى تفسير يكشف المعنى، وبيان أن التعليق منحوٌّ به نحو اللازم، فكأنه قيل: وإن ألبس عليكم سبيل الإقساط إلى اليتامى في قضية نكاحهم فخفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فهذا سبيل الإقساط في ذلك وفي النكاح كله: انكحوا ما طاب لكم من النساء ... ".
(مقدمة 7/24)
ثم تكلم الشيخ على تعدد الزوجات ومفهوم العدل في الآيتين. هذه الرسالة كاملة، ومصورتها التي بين يدي في 15 صفحة، وهي الرسالة الأولى في المجموع المحفوظ في مكتبة الحرم المكي الشريف، ورقم مصورته فيها 3556. والمجموع في 21 ورقة، وفي كل صفحة نحو 20 سطرًا. والرسالة مبيضة، ولكنها لا تخلو من الحذف والإضافة والتصحيح، بل كثر ذلك في الصفحات (10 - 13)، فيبدو للناظر أنها مسودة. ولعل الشيخ بيض الصفحات التي سودها من قبل إلى (ص 9)، وكتب ما بعدها لأول مرة هنا. (7) رسالة في تفسير أول سورة المائدة [1 - 3] وقفنا على هذه الرسالة بأخرة ضمن دفتر مذكرات صغير محفوظ في مكتبة الحرم المكي دون رقم. وهي في 8 صفحات (19 - 26) وفي كل صفحة 16 سطرًا. كتب المؤلف رحمه الله في وسط السطر الأول: "سورة المائدة"، ثم كتب البسملة، وجزءًا من الآية الأولى، وبدأ يفسِّر على طريقة تفسير الجلالين ونحوه. وقد عني فيها بتفسير ما جاء في الآيات الثلاث من أحكام بهيمة الأنعام والصيد وطعام أهل الكتاب. فلم يتكلم على قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}، ولا على قوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
(مقدمة 7/25)
شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. وفي آخر كلامه على الآيات المذكورة ذكر مناسبتها لما بعدها، فقال: "ولما ذكر حكم طعام أهل الكتاب أراد أن يذكر حكم نسائهم، وقدَّم قبلهن المؤمنات إشارةً إلى أنَّ الاختيارَ: الاقتصارُ عليهن، فقال". وهنا انقطع الكلام، فلا يظهر أكان ينوي الاستمرار أم الاكتفاء بتفسير الآيات السابقة. (8) رسالة في تفسير قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الآية [الأنعام: 141]. نصَّ المؤلف في مستهل الرسالة على أنها عبارة عن "فائدة في بحث جرى، فحرَّرت ما علِق بفكري منه بالمعنى، بحسب ما بلغ إليه فهمي". وقد جرى الحوار ذات ليلة بين الإمام محمد بن علي الإدريسي (ت 1341) والفقيه السيِّد محمد بن عبد الرحمن الأهدل في قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} في سورة الأنعام: 141. فرأى الإمام أنه راجع إلى الأكل، وذهب الفقيه إلى أنه عامٌّ يشمل كلَّ إسراف، وليس قيدًا في شيء مما قبله، وإنما هو جملة مستأنفة. فدعا الإمامُ المصنفَ رحمه الله، وأشركه في الحوار، وكلَّفه مراجعة نسخته من تفسير الجلالين. وقد أيَّد الشيخ المعلمي رحمه الله ما رجَّحه السيِّد الإمام. وقد وصل المصنف رحمه الله إلى الحضرة الإدريسية في شهر صفر
(مقدمة 7/26)
من سنة 1337 كما ذكر في بعض أوراقه، وتوفي الإدريسي سنة 1341. ويظهر لي من أسلوب المصنف في هذه الرسالة أنَّ الحوار وتقييده مما وقع في بداية عهده بالإدريسي. وأصل الرسالة محفوظ في مكتبة الحرم المكي ضمن مجموع برقم 4690، وهي في ورقة واحدة من القطع الكبير، وفي الصفحة الأولى 24 سطرًا. وقد راجع المصنف فيما بعد ما كتبه، فعدَّل فيه وأضاف إليه في الصفحة الثانية خصوصًا إضافات كثيرة في الحواشي وبين الأسطر. (9) رسالة في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] نسخة هذه الرسالة تمتاز بأن المؤلف رحمه الله بيضها بخط جلي، وتكاد تخلو من التغيير والحذف. وهي في ثماني صفحات كبيرة. وفي كل صفحة 19 سطرًا. ورقم مصورتها في مكتبة الحرم المكي الشريف 3554. وللرسالة ميزة أخرى، وهي أنها رتبت ترتيبًا بديعًا. فهي تشتمل على الفصول الآتية بعد إيراد الآيات الثلاث 34 - 36 من سورة ص: 1 - أجزاء الآية. 2 - ما قيل في تفسير الآية. 3 - تمحيص. 4 - تدبر. 5 - المحصل.
(مقدمة 7/27)
وقد فسر المؤلف في الفصل الأول بعض الكلمات والجمل من الآيات، وأراد بذلك أن يمهد لتفسير القصة بما لا يخالف ألفاظ الآيات وسياقها. ويرى الجمهور أن المراد بالجسد في الآية هو الشيطان، ولكن الشيخ لم يوافقهم على ذلك، فإن الجسد عنده جسم إنسان أو حيوان لا روح فيه، وردّ على صاحب القاموس تفسيره للجسد بأنه جسم الإنسان والجن والملائكة. ولاحظ على المعجمات ملاحظة قيمة جدًّا، وهي خلطها بين الثابت قطعًا، وما يفهم من آية أو حديث أو كلام فصيح. ثم ذكر في الفصل الثاني ثلاثة أقوال في تفسير الآية: القول المشهور الذي فيه أن الشيطان أخذ خاتم سليمان، وتمثل بصورته، وقعد على الكرسي مستوليًا على الملك، وما ذكروا من القصص الشنيعة. وقول النقَّاش الذي أوَّلَ الآية على ما رواه البخاري في صحيحه من قول سليمان: "لأطوفن الليلة" الحديث. والقول الثالث قول أبي مسلم الأصفهاني. وقد رد المؤلف في فصل التمحيص القولين الأخيرين، وقال: "بقي القول الأول، وقد طعن فيه المتأخرون بأنه مأخوذ من أهل الكتاب، وأن في تلك القصص شناعات وتناقضات في بعض الجزئيات. وقد صدقوا، ولكن ذلك لا يمنع من قوة ما اتفقت عليه الروايات القوية، ولم يكن فيه شناعة، وكان ظاهر الانطباق على الآية". ثم ذكر صورًا محتملة للقصة خالية من الشناعة.
(مقدمة 7/28)
وقال: "وقد يكون الواقع هو هذا أو نحوه، ولكن اليهود تناقلوا القصة، وزادوا فيها ونقصوا على عادتهم، وزعموا أن ذلك الجسد شيطان وأنه وأنه". ثم يأتي فصل "تدبر" أشار فيه الشيخ إلى فوائد ذكر القصة، ثم فوائد هذا الإجمال المقصود في ذكرها. وفي الفصل الأخير "المحصل" لخص خمسة أمور من هذا البحث. (10) رسالة في تفسير قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ومعنى "أهل البيت" في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]. قيَّد المؤلف رحمه الله في هذه الرسالة نص مذاكرة جرت بينه وبين الشيخ صالح بن محسن الصيلمي (ت 1349) حول قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، والمقصود بأهل البيت في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] وبآل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث كما صرح رحمه الله في مقدمة الرسالة. لم يشر المؤلف إلى المسألة التي جر الكلام عليها إلى هذا البحث، غير أنه ذكر أن العلامة الصيلمي استدل في أثناء كلامه بقوله تعالى في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} على معنى طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فاحتج الشيخ بسياق الآية على أنها في الفيء، والمراد بالإيتاء
(مقدمة 7/29)
والأخذ هنا ما يفهم منهما في الأشياء المحسوسة، وليس بمعنى الأمر والامتثال. وأنكر الشيخ الصيلمي الاستدلال بالسياق، فإنه لو صحّ هذا الاستدلال هنا لزم أن يكون دليلًا في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} على أن أمهات المؤمنين من أهل البيت، وهو أمر غير مقبول عنده! فردّ عليه الشيخ ردًّا جميلًا، وقال: "إن أمهات المؤمنين داخلات في أهل البيت قطعًا، فإن السياق أمره واضح، وارتباط الآية المعنوي بما قبلها جهله فاضح، وهذا كلام يأخذ بعضه برقاب بعض، فكيف يفصل بينه بجملة لا تعلق لها به؟ ". ومن هنا انفتح باب الكلام على المراد بأهل البيت وآل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث، والتوفيق بينها. وخلص إلى أن لأهل البيت استعمالين: أحدهما بمعنى أهل بيت السكنى فتدخل فيه الأزواج، بل هن أول من يدخل فيه بعد الزوج، والآخر لمن حرم الصدقة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قد وقفنا على رسالة للقاضي عبد الله بن علي العمودي (ت 1398) أشار في أولها إلى هذه المذاكرة، وقال: إنه تحصل له بعد البحث أن محط نزاعهما ينحصر في مقامين. ثم تكلم في المقام الأول على معنى الآل لغةً وشرعًا، ونقل من كلام ابن القيم وغيره. وفي المقام الثاني تكلم على معنى أهل البيت، ونقل أقوال العلماء في تفسير الآية وشرح الأحاديث. وختم الرسالة بقوله: "نقلته مؤازرةً لسيدي الأخ العلامة الوجيه القاضي عبد الرحمن بن يحيى المعلمي حفظه الله تعالى، وساق إليه أشتات
(مقدمة 7/30)
الفضائل. وهو معروض على سيدي الحجة الهادي الناس إلى المحجة قطب التحقيق شيخنا السيد محمد بن علي بن إدريس أمتعنا الله به آمين". والرسالة بخط القاضي نفسه، وهي محفوظة في مكتبة الحرم المكي برقم 4708. لم يذكر القاضي العمودي أطلب ابن إدريس إليه إعداد هذا البحث وعرضه عليه، أم هو الذي تطوع لذلك؟ ثم أجرت المذاكرة بين الشيخ المعلمي والشيخ الصيلمي أمام ابن إدريس أو نمى خبرها إليه؟ ومع أن القاضي حشد في رسالته نقول العلماء، وزعم أنه لخص فيها البحث، لم أر حاجة إلى نشرها لما فيها من الإسهاب مع الخلط. ثم كلام الشيخ المعلمي رحمه الله في رسالته مختصر ودقيق، ويغني عن مؤازرة القاضي. وأصل رسالة الشيخ المعلمي ضمن مجموع برقم 4707، وهي في 6 صفحات، وفي إحداها كَتَب بضعة أسطر بالحمرة. (11) رسالة في إعراب قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. أصل هذه الرسالة في صفحة ونصف [ل 30 - 31]، ضمن مجموع برقم 4696. وقد كتب في أوله: "رسائل علمية وردود في مواضيع شتى يوم أن كان في دولة الأدارسة في منطقة عسير". وهذا يدل على زمن تقييد هذه الرسالة.
(مقدمة 7/31)
وبين يديّ نسخة أخرى مختصرة من هذه الرسالة، ولكن لم أعثر على أصلها الذي نسخت منه، لأتمكن من مقابلتها عليه، فآثرت أن أنشر النسخة الأولى. الجدير بالذكر أن المؤلف رحمه الله كتب اسمه في آخر النسخة المختصرة: "الحقير عبد الرحمن بن يحيى المعلمي". ويظهر منه أنه علّق إعراب الآية إجابة لسؤال من بعض معاصريه أو امتثالًا لأمر الإمام محمد بن علي بن إدريس. وقد بنى جوابه أولًا على نصوص طويلة نقلها من كتاب "همع الهوامع" للسيوطي، ثم بدا له أن يحذفها، ويقتصر على خلاصتها مما يتعلق بإعراب الآية. (12) رسالة في إعراب قوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14]. أصل هذه الرسالة أيضًا في صفحتين ضمن المجموع المذكور (ل 14 - 15) آنفًا، فعلقها المؤلف أيام اتصاله بالإمام ابن إدريس. تكلم المؤلف في هذه الرسالة على "أنْ" في الآية: أمصدرية هي أم مخففة من الثقيلة؟ والظاهر أن نقاشًا دار بينه وبين بعض العلماء في ذلك، وذهب الخصم إلى أن نونها مخففة، واستدل على قوله باختصاص النواصب بالمضارع، ثم عدم دخول المصدرية إلا على الفعل المتصرف. فنقح الشيخ المسألة، وذكر أقوال النحاة ومناقشاتهم ليؤكد أنها في الآية مصدرية لا غير.
(مقدمة 7/32)
(13) رسالة في إعراب قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} ونحوه. هذه الرسالة أيضًا ضمن المجموع المذكور آنفًا، وهي في صفحة واحدة (ل 8). وقد افتتحها المؤلف رحمه الله بقوله: "مما اقتطفه كاتبه من ثمرات المعارف الإدريسية الطيبة اليانعة الجنية، لازال جناها دانيًا علينا، وبركتها مسوقة إلينا، آمين". وهي عبارة عن مذاكرة جرت بينه وبين الإمام محمد بن علي بن إدريس في إعراب قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ}، و {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ}، ونحوهما، فنقل الشيخ المعلمي ما دار بينهما من الكلام، فذكر قوله بعد "قلت"، وكلام الإدريسي بعد "قال سيدنا". المشهور في إعراب {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} ونحوها أن (الحاقة) مبتدأ و (ما) اسم استفهام مبتدأ ثان، و (الحاقة) الثانية خبر ما، وهذه الجملة خبر المبتدأ الأول، والرابط إعادة المبتدأ بلفظه. والشيخ المعلمي لا يرى مانعًا من أن يكون خبر المبتدأ الأول محذوفًا تقديره: أمر عظيم، و (ما الحاقة) مبتدأ وخبر على حاله. وناقشه الإدريسي في ذلك، ثم انتهى بهما الكلام إلى أن تعرب (ما الحاقة) على أن (ما) خبر مقدم و (الحاقة) مبتدأ مؤخر. وأخيرًا راجعا تفسير سورة الحاقة في روح المعاني للألوسي فوجداه يقول في إعرابها: " (ما) مبتدأ والحاقة خبر، أو عكسه، ورجح معنى"، فوافقهما في ترجيح الوجه الثاني من ناحية المعنى.
(مقدمة 7/33)
ومما يستغرب أن المؤلف رحمه الله تعالى بدأ هذه الرسالة بقوله: "قوله تعالى: (الواقعة ما الواقعة)، {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ}، {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ}، ونحوها ... ". فجعل (الواقعة ما الواقعة) آية من القرآن الكريم، وأدار الكلام كلّه عليها، ولم يخطر بباله ولا بال سيّده أنها ليست بآية، فاستمر النقاش بينهما في إعرابها، إلى أن قيّد الشيخ الحوار، وهو يوردها مرة بعد أخرى على أنها من قول الله عز وجل. ولا ريب أن ذلك من أمثلة الذهول الشديد الذي يعتري البشر الذين من طبيعتهم النقص والسهو، والكمال لله وحده. (14) رسالة في تفسير آيات خلق الأرض والسماوات هذه الرسالة مما عُثِر عليه أخيرًا، وصُوِّرت في 24/ 5/1433 برقم 4925. وهي في ثلاث ورقات، وفي كلِّ صفحة نحو 18 سطرًا. وقد كتب المؤلف فيها أولًا الآيات التي قصد تفسيرها من سورة البقرة وسورة فصلت وسورة النازعات بحروف كبيرة، وترك بعدها أو بعد جزء منها بياضًا بقدر سطر أو أقل أو أكثر. فلمَّا أخذ في تفسيرها وضاق الفراغ المقدَّر لها ذهب يكتب يمينًا وشمالًا وأعلى الصفحة وأسفلها، فملأت الكتابة كلَّ جوانب الصفحة. موضوع هذه الرسالة حلُّ إشكال قوله تعالى في سورة النازعات: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [27 - 30] مع قوله تعالى في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
(مقدمة 7/34)
سَمَاوَاتٍ} [29]. وهذا يدلُّ على أنَّ خلق الأرض مقدَّم على خلق السماء. وكذلك قوله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [9 - 11] ولكن آية النازعات توهم خلاف ذلك. وقد استُشكل ذلك قديمًا. فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ. ثم ذكر أربعة أسئلة، منها سؤال عن آيات فصلت والنازعات، فأجاب ابن عباس بأنَّ الله خلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرضَ. ودَحوُها: أن أخرج منها الماء والمرعى، وخَلَق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين .. إلخ (فتح الباري 8/ 555). وذكر ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" (27، 67) أنَّ ذلك مما احتجَّ به الملحدون للطعن في كتاب الله، ثم ردَّ عليهم بنحو قول ابن عباس مع ذكر قول مجاهد: إنَّ (بعد) في آية النازعات بمعنى (مع). ولكن نقل الواحدي في البسيط (9/ 430) عن مقاتل أنه ذهب إلى أنَّ السماء خلقت قبل الأرض، واتبعه في ذلك جماعة من أهل العلم. بل ذكر الآلوسي في "روح المعاني" (1/ 218) أنَّه اختيار المحققين، ثم ختم كلامه بقوله (1/ 219): "وبعد هذا كلِّه لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن".
(مقدمة 7/35)
كان الشيخ المعلمي رحمه الله ــ كما يظهر من رسائله في التفسير ــ كثير المراجعة لـ"روح المعاني"، ولا يبعد أن يكون كلام الآلوسي هذا أو نحوه هو الذي دفعه إلى النظر في الآيات المذكورة وتفسيرها وحلِّ ما أشكل منها، وإن لم يكن تفسير الآلوسي بين يديه عند كتابة هذه الرسالة. وقد ناقش الشيخ أقوال ابن الأنباري والفخر الرازي والجلالين، وذهب في تفسير كلمة "الدحو" في آية النازعات إلى أنها ليست بمعنى البسط، بل المراد به: "إزالة شيء كان على وجه الأرض يمنع إخراج مائها ومرعاها، بدليل أنَّ الله تعالى فسَّره بذلك". وقد اقتصر المؤلف رحمه الله عند تحرير الرسالة على النظر في تفاسير الشَّربيني والجلالين والنسفي، وكتاب "الأضداد" لابن الأنباري، و"مختار الصحاح"؛ فلم يتفق له مراجعة "روح المعاني" (12/ 357) فضلًا عن "تفسير ابن جرير"، ليعلم أنَّ ما ذهب إليه هو قول ابن عباس بعينه، فليس بحاجة إلى تأييد كلامه بإشارة في "تفسير النسفي". وقد حاول الشيخ أن يفسِّر "الدحو" بالمعنى المذكور في قول ابن عباس تفسيرًا لغويًّا، واستدلَّ بما ورد في "مختار الصحاح": "دحا المطرُ الحصى عن وجه الأرض"، وقول أوس بن حجر: ينفي الحصى عن جديد الأرض مُبْتَرِكٌ ... كأنَّه فاحصٌ أو لاعبٌ داحي فلما شَعَر بأنَّ الاستدلال ليس بذاك قال: "فإن ضاقت الحقيقة فالمجاز واسع. وهذا القول متعيِّن لأنَّ الله تعالى فسَّره به، وكفى بتفسيره تعالى حجَّة". وفي الرسالة نكات وفوائد أخرى.
(مقدمة 7/36)
(15) رسالة في معنى {أَغْنَى عَنْهُ}: هذه الرسالة في تحقيق معنى {أَغْنَى عَنْهُ}، والأساس الذي جرى عليه استعمالها في القرآن. وقد أيَّد الشيخ المعلمي رحمه الله ما ذهب إليه بمواقعها الكثيرة في القرآن الكريم وسياقها فيه، وردَّ ما اختلفوا في تفسيره إلى ما قرره. وخلاصة ما أحكمه أن الإغناء: إعدام الحاجة، ومن الأشياء ما يحتاج الإنسان إلى حصوله كالمال، ومنها ما يحتاج إلى دفعه كالعذاب. والإنسان مع المال كالطالب مع المطلوب، ولكنه مع العذاب كالمطلوب مع الطالب. ففي القسم الأول يكون الإنسان منصوبًا والمال مجرورًا بـ"عن" كقولك لأخيك: "قد أغناني الله عن مالك". وفي القسم الثاني يكون العذاب الواقع أو المتوقع منصوبًا والإنسان مجرورًا كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}. وغالب ما في القرآن من استعمالات "أغنى عنه" وارد على هذا القسم الثاني. ولكنه قد يترك المنصوب، وقد يترك المجرور بـ"عن" أو يترك كلاهما، ويقع الاختلاف في التفسير. ثم ذكر أن من أعرب "شيئًا" في قوله تعالى: {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} على أنه مفعول مطلق فإنه قد غفل عن الأساس الذي تقدم بيانه. وهكذا تفسير "من" في قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} في سورة النجم، إذ فسره الجمهور بمعنى أن الظن لا يغني بدل العلم، أي لا
(مقدمة 7/37)
يقوم مقامه، ولكن الشيخ المعلمي رحمه الله خالفهم، وفسره بأن الظن لا يدفع شيئًا من الحق. ثم تكلم على بعض الآيات بشيء من التفصيل، وكأن الإشكال فيها هو الذي دفعه إلى هذا البحث. ومنها قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] وقد فسر بأن الظن لا يغني بدل العلم إغناء ما، أي إنما يُعتدّ بالعلم، وأما الظن فلا اعتداد به. قال الشيخ: "وبهذا قال كثيرون أو الأكثرون، وعليه مشى ابن جرير. ثم يخصون الآية بمعرفة الله وما وليها من العقائد". ثم قال: "وأنت ترى أن هذا التفسير يخالف الأساس في كلمة "يغني"، ويخالف مواقعها الكثيرة في القرآن". ثم فسّر الآية. وقد وردت هذه الجملة {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} في سورة النجم، وقد يتعين فيها المعنى الذي قاله الجمهور، ولا يحتمل المعنى الذي ذكره الشيخ. فتكلم عليها، وبيّن أن السياق يؤيد تفسيره المطابق لأساس الكلمة ولمواقعها الكثيرة في القرآن، خلافًا لتفسير الجمهور. والظاهر أن الشيخ عنى هذه الرسالة حينما قال في كتابه "الأنوار الكاشفة" (193): "أما قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، فلي فيه بحث طويل، حاصله: أنَّ تدبُّرَ مواضع "يغني" في القرآن وغيره، وتدبُّرَ سياق الآية= يقضي بأن المعنى أن الظن لا يدفع شيئًا من الحق". وانظر أيضًا الكتاب المذكور (335 - 337). وانظر أيضًا رسالته في حجيَّة أخبار الآحاد في مجموع رسائل أصول الفقه (93 - 99) ثم (109 - 112). هذه الرسالة في 14 صفحة (19 - 33) ضمن مجموع، رقمه في مكتبة
(مقدمة 7/38)
الحرم المكي 4645، والجدير بالذكر أن المؤلف رحمه الله سوّد هذا المبحث سبع مرات، وفي كل مرة يكتب صفحة واحدة أو يزيد، ثم يعيد كتابته من جديد. وأخيرًا في المرة السابعة أتمّه في خمس صفحات. وقد رأينا في بعض الرسائل أن الشيخ التزم في تخريج الآيات بذكر اسم السورة ثم رقمها ورقم الآية. ولكنه في هذه الرسالة لا يذكر اسم السورة، وإنما يكتفي بذكر رقم السورة ورقم الآية. وقد تعودنا هذا الأسلوب في كتب المستشرقين. (16) حول تفسير الفخر الرازي وتكملته طبع التفسير الكبير لفخر الدين الرازي (ت 606) أول ما طبع في المطبعة الأميرية المصرية (1278 - 1289) في ستة مجلدات، دون إشارة إلى أن الرازي لم يتمه، فضلًا عن التمييز بين الأصل والتكملة وتسمية صاحب التكملة. وتلتها طبعات أخرى على نمطها، مما أوهم أن التفسير كله للرازي. وقد صرح ابن خلكان في ترجمة الرازي أن تفسيره "كبير جدًّا، لكنه لم يكمله". وذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة شمس الدين الخويي (ت 637) أن له تتمة لتفسير الرازي. وهكذا ذكر ابن السبكي وغيره في ترجمة نجم الدين القمولي (ت 727) أن له تكملة على تفسيره أيضًا. فهنا ثلاث قضايا: الأولى: هل أكمل الرازي تفسيره؟ وبعبارة أصح هل التفسير المطبوع بكماله للرازي؟ فإن الصفدي ذكر في الوافي أن الرازي "أكمل التفسير على المنبر إملاءً". والقضية الثانية: من صاحب التكملة
(مقدمة 7/39)
المطبوعة مع الأصل، آلخويي أم القمولي؟ والثالثة: التمييز بين الأصل والتكملة. قد أدار الشيخ المعلمي رحمه الله بحثه على هذه القضايا الثلاث، وكان أصعبها وأشدها تعقيدًا هي القضية الأخيرة، إذ تبين له من دراسة التفسير أن الرازي لم يفسر القرآن على ترتيبه ليتوقف في موضع، فيبدأ منه من يكمله. وقد أحوجه ذلك إلى تتبع وتدقيق وإنعام نظر في منهج التفسير وأسلوب المفسر وغيره من الشواهد الداخلية. وقد توصل أخيرًا إلى النتائج الآتية: 1 - التفسير المطبوع ليس بكماله للرازي. 2 - التكملة المطبوعة مع التفسير لشمس الدين الخويي، لا نجم الدين القمولي. 3 - الأصل منه، وهو الذي فسره الرازي: من أول الكتاب إلى آخر تفسير القصص، ثم من أول تفسير سورة الصافات إلى آخر تفسير سورة الأحقاف، ثم تفسير سور الحديد والمجادلة والحشر، ثم من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب. وهو بحث نفيس يشهد بما أوتي الشيخ المعلمي رحمه الله من أدوات البحث من سعة العلم، ودقة الملاحظة، وتذوق البيان، والحرص على التتبع والاستقصاء دون كلل أو ملل. وقد انفرد هذا البحث عن الرسائل الأخرى التي تضمها هذه المجموعة بأمرين: الأول: أنه قد طبع في حياة المؤلف رحمه الله في مجلة الحج الصادرة
(مقدمة 7/40)
في مكة المكرمة سنة 1376 في ثلاث حلقات (السنة العاشرة، الأجزاء: العاشر ص 670 - 675، الحادي عشر ص 751 - 756، الثاني عشر ص 811 - 815). وقد صدره محرر المجلة بقوله: "هذا بحث علمي جديد قام به العالم الباحث الأستاذ عبد الرحمن المعلمي حول التفسير المشهور للإمام الفخر الرازي، وقد كشف فيه القناع عن القسم الذي لم يكمله الرازي من هذا التفسير". والأمر الثاني: أن هذا البحث ترجم إلى اللغة الأردية، ونشرت الترجمة أيضًا في حياته رحمه الله في أشهر مجلات الهند، وهي مجلة "معارف" الشهرية الصادرة عن "دار المصنفين" بمدينة أعظم كره (في عددي أغسطس وسبتمبر من سنة 1957 م). والمترجم هو الأستاذ ضياء الدين الإصلاحي رحمه الله أحد الباحثين في دار المصنفين ثم مديرها فيما بعد، وقد توفي العام الماضي (1429). وقد صرح المعلمي رحمه الله في مطلع البحث بأن الذي بعثه على تحقيق هذه القضية هو الشيخ العلامة محمد بن عبد العزيز بن مانع رحمه الله، وكان من أجلة علماء نجد، وقد توفي سنة 1385 قبل وفاة المعلمي رحمه الله بسنة. وكان الشيخ المعلمي قد غادر الهند إلى مكة سنة 1371، وعُيّن أمينًا لمكتبة الحرم المكي سنة 1372. والشيخ ابن مانع الذي كان مقيمًا بمكة قد رحل إلى قطر سنة 1374، وطبع البحث في مجلة الحج سنة 1376، فكان تحرير هذا البحث إذن في خلال السنوات (1372 - 1375). أصل هذا البحث محفوظ في مكتبة الحرم المكي، ورقم مصورته فيها
(مقدمة 7/41)
4745، وفيها 13 ورقة، والكتابة في وجه واحد من كل ورقة، وفي كل صفحة 24 سطرًا. وكتب بعضهم في ورقة أضافها إلى الأصل: "بحث قيم حول تفسير الفخر الرازي للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله". وهو مكتوب بخط واضح، ولا نجد فيه إلحاقًا أو تصحيحًا إلا قليلًا. بدأ البحث في الأصل بالبسملة دون عنوان، وقد طبع في مجلة الحج بعنوان "حول تفسير الفخر الرازي"، ولعله من وضع محرر المجلة. ولما كان عمود البحث تكملة التفسير زدت في عنوانه: "وتكملته". وقد نشر البحث مرة أخرى ضمن مجموع لرسائل المعلمي رحمه الله صدر عن المكتبة المكية في مكة المكرمة سنة 1417، ولكن ناشره إذ لم يرجع إلى الأصل واعتمد على مجلة الحج، وقع في نشرته ما وقع في المجلة من الخطأ والسقط، ثم زاد من عنده أخطاء أخرى. (17) فوائد من تفسير الرازي ليست هذه الفوائد رسالة مستقلة ألفها الشيخ المعلمي رحمه الله، وإنما وجدت ضمن مجموع برقم 4645 (ص 38 - 40)، فرأينا أن نلحقها البحث السابق عن تفسير الرازي، وخاصة لأن المعلمي رحمه الله قد علق في بعض المواضع تعليقات قيمة. ومن ذلك تفصيله لجملة من الحكم في كتابة الملائكة لأعمال العباد، إذ لاحظ أن الرازي قد قصر في بيانها عندما فسر قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 - 11].
(مقدمة 7/42)
ومنه تفسير المراد من "الذين كفروا" في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [المدثر: 31] ومنه تفسيره لقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] بأن الرجاء باق على معناه المعروف، والمقصود: ما لكم لا ترجون ثواب تعظيم الله عز وجل؟ * * * * الرسائل التي يحتوي عليها هذا المجموع أصولها محفوظة ــ كما سبق ــ في مكتبة الحرم المكي الشريف، وكلها بخط المؤلف رحمه الله. ومعظمها مصورة على فُلَيمات. وقد تولى بعض الإخوان قديمًا نسخ عدد من هذه الرسائل من مصوراتها أو أصولها، فقابلت ما نسخوه على النسخ المصورة مقابلة دقيقة لاستدراك ما وقع في النسخ من سقط أو سهو أو تصحيف. وقد اضطررت بعض الأحيان إلى مراجعة الأصول الخطية المحفوظة في المكتبة، لعدم وضوح النسخ المصورة من جراء سوء التصوير أو غير ذلك. وبعد قراءة النص وتصحيحه، عنيت بضبطه وتخريج نقوله والتعليق عليه عند الاقتضاء، ثم أعددت فهارس تفصيلية. وقد تولَّى تخريج بعض الأحاديث الأخ الفاضل الشيخ نبيل بن نصار السندي، فجزاه الله خير الجزاء. والجدير بالذكر أنني قد فرغت من تحقيق 13 رسالة من رسائل هذا المجموع والتقديم لها في 21 شعبان عام 1430، ثم عُثِر بأخرة على أربع
(مقدمة 7/43)
رسائل جديدة، فحقَّقتها أيضًا وأضفتها بأرقام 3، 5، 7، 14، وقدَّمت لها. وأرى من واجبي هنا أن أشكر القائمين على مكتبة الحرم المكي الشريف والعاملين فيها جميعًا، إذ لم يألوا جهدًا في تيسير سبل الاستفادة من مخطوطات المكتبة ومصوراتها. وقد تمّ تصوير كثير من مخطوطات الشيخ المعلمي رحمه الله في عهد مديرها السابق الدكتور يوسف الوابل سنة 1423، ثم صوِّرت مجموعة منها في عهد المدير الحالي الدكتور محمد بن عبد الله باجودة، فجزاهما الله خير الجزاء. وصلّى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. محمد أجمل أيوب الإصلاحي الرياض 10/ 6/ 1433
(مقدمة 7/44)
نماذج من النُّسخ الخطية
(مقدمة 7/45)
ورقة من تفسير البسملة
(مقدمة 7/47)
نموذج من تفسير سورة الفاتحة
(مقدمة 7/48)
نموذج من تفسير قوله (حافظوا على الصلوات. . .)
(مقدمة 7/49)
نموذج من تفسير قوله (هو الذي خلق لكم ما في الأرض. . .)
(مقدمة 7/50)
نموذج من إعراب قوله (الحاقة ما الحاقة. .)
(مقدمة 7/51)
نموذج من رسالة "حول تفسير الرازي وتكملته"
(مقدمة 7/52)
نموذج من تفسير أوائل سورة المائدة
(مقدمة 7/53)
نموذج من تفسير (وما أتاكم الرسول فخذوه. . .)
(مقدمة 7/54)
نموذج من تفسير (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)
(مقدمة 7/55)
نموذج من تفسير قوله (أن كان ذا مالٍ وبنين)
(مقدمة 7/56)
مجموع رسائل التفسير تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله تعالى (1313 - 1386) تحقيق محمد أجمل أيوب الإصلاحي
(7/1)
الرسالة الأولى في تفسير البسملة
(7/3)
[42/أ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، نحمده على أن جعلنا من عباده المسلمين، وقسم لنا حظًّا من فهم كتابه المبين، ونسأله أن يرزقنا كمال اليقين، ويجعلنا من خيار المتقين، ويثبِّت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وينجينا من القوم الظالمين. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميد مجيد. أما بعد: فقد كثر الكلام على هذه الكلمة الشريفة (بِسْمِاللَّهِالرَّحْمَنِالرَّحِيمِ) وأُلِّفَتْ فيها رسائل، ولا يكاد يخلو شرح من شروح الكتب عن الكلام عليها، ولكنني مع ذلك لم أجد كلامًا عليها يقتصر على إيضاح معناها إيضاحًا تامًّا يُسَهِّل على الطالب الإحاطةَ به، ليستظهره عند ذكرها. فسَمَتْ بي الهمّةُ إلى محاولة ذلك. فإذا يسَّر الله تبارك وتعالى لي الوفاء بذلك، فمن محض فضله العظيم، وإلا فعذري القصور والتقصير، وقلة العلم الذي يتوقف عليه التحقيق، وقلة العمل المقتضي لحسن التوفيق. وأستغفر الله العظيم، اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.
(7/5)
الفصل الأول ينبغي أن يستحضر الإنسان قبل البسملة أمورًا: الأول: أنه يقولها امتثالًا لأمر الله عز وجل؛ لأنه سبحانه وتعالى أمرنا بقولها. أمَّا في أول القراءة، فيقول عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] فإنَّ الراجح في تفسيرها أنَّ المعنى: اقرأ القرآن مُسَمِّيًا ربَّك، أي ذاكرًا اسمه، كما يأتي إن شاء الله. ثم بيَّن لنا كيف نذكر اسمه بقوله: (بِسْمِاللَّهِالرَّحْمَنِالرَّحِيمِ) وأما عند ذكاة الحيوان، فالآيات في ذلك كثيرة، كقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج: 36]، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. والأحاديث في ذلك كثيرة أيضًا. وفي بقية الأمور بالفهم من الآيات والأحاديث والإجماع. الثاني: أن (بِسْمِاللَّهِالرَّحْمَنِالرَّحِيمِ) من كلام الله عز وجل، فأما استحضار ذلك عند القراءة فواضح، وأما عند التسمية على الذبيحة وغيرها فليس بشرط، ولكن يظهر أنَّ استحضار ذلك أكمل. الأمر الثالث: أن يعبر بها عن نفسه، كما في غيرها من الأذكار من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً .. } الآية [البقرة: 201]، وفي الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا}. ولا
(7/6)
منافاة بين ذلك وبين تلاوتها على أنها من القرآن، ولاسيما في البسملة، وقوله في الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلخ؛ لأن الله تبارك وتعالى تكلم بها وأنزلها وأمر الإنسان أن يقولها معبرًا بها عن نفسه. وكذلك في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين. وقد استشكل فيها ثبوت كلمة {قُلْ}، وجاء عن بعض الصحابة أنه قرأ بدونها، وزعم بعضهم أنه ينبغي للإنسان أن ينوي بكلمة {قُلْ} أمر نفسه (1). وهو بعيد، ولا يدفع الإشكال. والذي يظهر أنه ينبغي أن يستحضر عند كلمة {قُلْ} أنها أمر من الله تعالى له بقول ما بعدها، ثم ينوي بما بعدها التعبير عن نفسه، فكأنه يقدر ما يأتي: يقول الله تعالى: {قُلْ} ما يأتي، فأنا أقول {أعوذ ... } إلخ. [42/ب] الأمر الرابع: أنَّ الباء في قوله: (بسم ... ) حرف جرّ، وحرف الجرّ يحتاج إلى كلمة يتعلق بها، فإذا وقع في الكلام: "من البيت" أو "بالقلم" أو "بسلاحه" فلا يتم الكلام إلا بكلمة تدل على الأمر الواقع من البيت وبالقلم وبسلاحه. فإذا قيل: زيد خرج أو يخرج أو خارج من البيت، فالجارُّ والمجرور وهو قولك: "من البيت" متعلق بخرج، أو يخرج، أو خارج؛ لأن الواقع من البيت هو الخروج. وقس عليه: كتبت بالقلم، وخرج زيد بسلاحه. _________ (1) انظر: "روح المعاني" (30/ 273). ونسبت القراءة المذكورة إلى ابن مسعود وأبي بن كعب. انظر: "إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم" لابن خالويه (228)، و"الكشاف" (4/ 817).
(7/7)
وكثيرًا ما يحذف المتعلق، إما لعمومه كقولهم: العَصَا من العُصَيَّة (1)، أي كائنة؛ وإما لدلالة الحال عليه، كأن يرى رجلًا يضرب ولده بيده، فيقول: بالعصا، أي اضْرِبْه بالعصا. ومتعلَّق (بسم الله) في القراءة محذوف لدلالة الحال عليه، وهو: "أقرأ". وفي غيرها يقدره الإنسان بحسب ما يسمِّي عليه. والغالب حذفه لدلالة الحال، ففي الأكل: آكل، وفي الشرب: أشرب، وفي الوضوء: أتوضأ، وهكذا. هذا هو المشهور، وسيأتي في تقرير المعنى احتمال غيره. هذا، والأصلُ في الكلمة التي يتعلق بها الجار والمجرور تقدُّمُها عليه، ولكن المختار في تسمية الإنسان عن نفسه تأخير المتعلق؛ لأن الحال التي تدل عليه من شأنها التأخير. فإن أراد أن يقوم فقال: "بسم الله" وقام، فالقيام إنما يشاهدَ بعد التسمية، فكذلك ينبغي تقدير الفعل الذي دلَّ عليه القيام، وهو "أقُوم". = ولوجوه أخرى أهمها أنَّ التأخير يبيِّن أنَّ في الكلام اختصاصًا، ومعنى الاختصاص أن يكون الكلام يدل مع ثبوت الأمر للشيء على انتفائه عن غيره، كقولك: ما جاء إلا زيدٌ، أثبتَّ المجيء لزيد، ونفيتَه عن غيره. وهذا المعنى يفيده تقدم الجار والمجرور على متعلقه، كقولك: بقلمي أكتبُ، وبسلاحي أخرج. فيكون معنى الأول: أكتب بقلمي، ولا أكتب بغيره؛ _________ (1) العصا فرس جَذيمة الأبرش، والعُصَيّة أمُّها. يضرب في مناسبة الشيء أصله. انظر: "نسب الخيل" للكلبي (54)، و"أسماء الخيل" للغندجاني (169)، و"المستقصى" (1/ 334). وللمثل تفسير آخر ذكره الزمخشري وغيره، وهو أن الشيء الجليل يكون في بدئه حقيرًا.
(7/8)
ومعنى الثاني: أخرج بسلاحي، ولا أخرج بغيره. وهذا المعنى مقصود في البسملة، ردًّا على الشيطان الذي يوسوس لك أن لا تذكر اسم الله، أو بأن تذكر غيره دونه أو معه، وفيه مع ذلك تعريض بمن يطيع الشيطان من المشركين وغيرهم. ولذلك فموضعه بعد تمام البسملة حيث ذكرت بتمامها، وبعد "بسم الله" حيث اقتصر عليها. والله أعلم.
(7/9)
الفصل الثاني باء الجرِّ تأتي لعدة معاني (1)، اقتصر الأكثر هنا على معنيين، وذكروا أن غيرها لا يأتي إلا بتعسف: أحدهما: الاستعانة. الثاني: المصاحبة. قالوا ــ والعبارة للصبَّان في "رسالة البسملة" ــ: "وباء الاستعانة هي الداخلة على واسطة الفعل المذكور معها التي يتوقف وجوده عليها، كما في كتبت بالقلم، وتسمى باء الآلة ... وباء المصاحبة هي التي يصلح موضعها "مع" ويغني عنها وعن مصحوبها الحال، كما في {اهْبِطْ بِسَلَامٍ} [هود: 48] أي مع سلام، أو مسلِّمًا" (2). أقول: أما باء الاستعانة، فظاهر عباراتهم اختصاصها بالدخول على الآلات، نحو كتبتُ بالقلم، ونَجَرتُ بالقَدُوم، وخِطْتُ بالإبرة؛ ولكن قد يُنَزَّل ما ليس بآلة منزلةَ الآلة. وفي ذلك نظر ليس هذا موضعه، وربما يأتي شيء منه عند تقرير المعنى، إن شاء الله تعالى. وأما المصاحبة، فهو معنى واضح، ولكن الأولى في تفسير {اهْبِطْ بِسَلَامٍ} أن يقال: اهبط معك سلام؛ [43/أ] فإنَّ كلمة "مع" تُشعر بأنَّ ما تضاف إليه متبوع، تقول: حج الخادم مع سيَّده، ولا يحسن أن يقال: حجَّ _________ (1) كذا في الأصل بثبوت الياء. (2) "الرسالة الكبرى" للصبان (8 - 9).
(7/10)
السيِّدُ مع خادمه، بل يقال: ومعه خادمه. والمراد: التبعية في المعنى المقصود، وقد يكون التابع أشرف، كما في قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] فإنَّ الإنسان هو الأصل في التنقل والتحول، وعلمُ الله تعالى وحفظُه تبع له في ذلك، يعني: أنهما تصحبانه حيثما توجَّهَ. وأما باء المصاحبة، فعلى عكس ذلك، تقول: خرج زيد بسلاحه، فيحسن أن يقدَّر: معه سلاحه، ومع ذلك فإنما يحصل الاتفاق في أصل المعنى كما لا يخفى. وأما قوله: "ويغني عنها وعن مصحوبها الحال"، فالمراد كما يوضحُه المثال: حال مشتقة من المجرور. ولكن قد لا يتأتى ذلك، إما بأن لا يمكن الاشتقاق، كما في قولك: خرج العالم بكتبه، أو يمكن ولكن يتغير المعنى، كأن تقول: خرج بعمامته في يده؛ ففي هاتين الصورتين يحتاج إلى تقدير حال تغني عن الباء فقط. والأكثر أن تشتق من لفظ الصحبة، كأن يقال: مستصحبًا كتبه، ومستصحبًا عمامته. إذا علمت ذلك فحقُّ تقدير الحال في التسمية أن يقال: "مسميًا"، إلا أن يتغير المعنى. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
(7/11)
الفصل الثالث "اسم" لفظ "اسم" في المعروف المتواتر من اللغة: هو اسم للفظ الدالِّ على المسمَّى. وأقرب ما يضبط به أنه اللفظ الذي يصلح جوابًا مطابقًا للسؤال عن اسم الشيء، كأن يقال: ما اسم هذا الرجل؟ فيقال: زيد. أي لفظ "زيد". وما اسم الإنسان في بطن أمه؟ فيقال: جنين. وما اسم الواحد من بني آدم؟ فيقال: إنسان. وما اسم الواحد من هذه التي تلمع في السماء؟ فيقال: نجم أو كوكب. وما اسم هذا الفعل؟ فيقال: قيام. وقس على ذلك. وتقول: كتبت اسم محمد، تريد كتبت هذا اللفظ "محمد". واسم الله هو هذه الكلمة "الله"، وله سبحانه الأسماء الحسنى، كالرحمن والرحيم وغيرهما. وهاهنا أقوال مشهورة، لا بأس بذكرها: الأول: زعم ابن جرير أنَّ كلمة "اسم" هنا بمعنى التسمية، كما يطلق "عطاء" بمعنى إعطاء، و"كلام" بمعنى تكليم (1). وهذا قول لا حجة عليه، ولا حاجة إليه. الثاني: زعم ابن عبد السلام (2) أن لفظ "اسم" قد يطلق بمعنى "مسمى" _________ (1) "تفسير ابن جرير" (شاكر 1/ 115 - 118). وقد نصر قوله الأستاذ محمود شاكر. (2) لم أجده في موضعه من كتابه "مجاز القرآن". نعم ذكر أمثلة للتعبير بالمصدر عن المفعول في موضع آخر، وأولها قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أي مخلوق الله (ص 116) ولم يذكر آية الإسراء.
(7/12)
كما يطلق "خَلْق" بمعنى "مخلوق"، كقول الله عز وجل: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50 - 51]. واحتج على ذلك بأمور سنعقد لها فصلًا، ونبين إن شاء الله تعالى أنه لا حجة فيها. ويردُّ قولَه هذا أمور: منها: أن كلمة "اسم" ليست بمصدر. ومنها: أن اسم المفعول وما في معناه أكثر ما يضاف إلى الفاعل، مثل: خلق الله، بمعنى مخلوقه. وقد يضاف إلى غير ذلك، ولكن إضافة لفظ "مسمَّى" إلى الاسم الدالِّ على المسمَّى لا أراها تصح. نعم، استعمل المولدون قولهم: "مسمَّى زيد" يريدون مسمَّى هذا الاسم. وهذا مع أني لا أُثبِتُ صحته لا يأتي في نحو "بسم الله"؛ لظهور أنه ليس المراد هنا بلفظ الجلالة نفس اللفظ، بل المراد مدلولها، وهو الربّ عز وجل. وجعل ابن عبد السلام (1) من هذا قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: "معناه: سبح ربك الأعلى". وكذلك صنع في أمثلة بحذف لفظ "مسمى" (2)، كأنه رأى أن الكلام يسمح بالتصريح به. الثالث: قال البغوي في أوائل تفسيره في الكلام على البسملة: "والاسم هو المسمَّى وعينُه وذاتُه، قال الله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] ثم نادى الاسم فقال: {يَايَحْيَى} [مريم: 8]. وقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ _________ (1) "مجاز القرآن" ــ طبعة طرابلس (197). (2) كذا في الأصل.
(7/13)
إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسمَّيات. وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 18]. ثم يقال للتسمية أيضًا: اسم، فاستعماله في التسمية أكثر من المسمَّى" (1). [43/ب] أقول: ينبغي أن يحقَّق أولًا المراد بقولهم: "الاسم عين المسمى"، هل المراد لفظ "اسم" أو مدلوله في كل كلمة دالة على مسمًّى مثل زيد ورجل ونخلة وفهم؟ فإن كان الأول، فما المراد بلفظ "مسمَّى"؟ أهذا اللفظ على نحو ما مرَّ عن ابن عبد السلام، وهذا الوجه الأول. أو ذاته صاحب الاسم، فيكون لفظ "اسم" بمعنى ذات، وهو الثاني. أو الاسم الخاص، بأن يقال: إن لفظ "اسم" في قولنا: اسم الله، هو لفظ الله. وهذا الثالث. أو صاحب الاسم عينه، فيقال: إن لفظ "اسم" في قولنا: اسم الله، هو الربُّ عز وجل. وهذا الرابع. أما الأول: فقد مرَّ ما فيه، ولا حجة عليه في قوله تعالى: {يَايَحْيَى} [مريم: 8]؛ لأن لفظ "يحيى" ليس بمصدر، ولا بينه وبين ذات الرجل اشتقاق، كما بين لفظي "خَلْق"، و"مخلوق". وعجيب من ابن عبد السلام أنه قرَّر التجوَّز على هذا الوجه على ما مر عنه، ثم قال: "واستدل بعضهم على ذلك بقوله تعالى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ... } [مريم: 8] ". وأما الثاني، فلا دليل عليه، والأمثلة التي ذكرها هو وغيره سيأتي الكلام عليها، إن شاء الله تعالى. _________ (1) "معالم التنزيل" (1/ 1 - 2).
(7/14)
وأما الثالث، فبطلانه واضح؛ لأنه إذا كان لفظ "اسم" بمعنى الله، فكيف أضيف إلى الله؟ إلا أن يريد أن مدلول اسم الله هو هذه الكلمة "الله"، فهذا لا نزاع فيه، وليس مراده؛ لأنه يقول في {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]: إنَّ المعنى سَبِّحْ رَبَّكَ. ولو كان ذاك مراده، لكان المعنى: سبح اللفظ الذي هو اسم ربك، مثل لفظ "الله"، ولفظ "الرحمن"، وهو لا يقول ذلك. وأما الرابع، فبطلانه واضح. وإن كان الثاني، أي أن المراد بالاسم مدلوله من كل لفظ دالٍّ على مسمًّى، مثل زيد ورجل ونخلة وفهم، فهذا حقٌّ، فإن من قال: بايعت زيدًا، إنما يريد بقوله: "زيد" الرجلَ عينَه، وكذلك الباقي. هذا هو الحقيقة، وقد يطلق الاسم ويراد به نفسه، كقولك: كتبت "زيد"، وقوله تعالى: {اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 8]، وغير ذلك. فإذا كان المعنى الثاني هو مراد من قال: الاسم عين المسمى، فمراده أن ذلك هو الحقيقة. وهذا حق لا ريب فيه، ولكنه لا دليل فيه على أن لفظ "اسم" في قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أريد به الرب تعالى؛ لأن لفظ "اسم" هو في نفسه فرد من أفراد الاسم، فإنك تقول: ما اسم اللفظ الذي يوضع للشخص ليعرف به؟ فيقال: اسم. ومقتضى القاعدة أن لفظ "اسم" حيث يطلق فالمراد به مدلوله إذا كان الكلام على حقيقته، ومدلول لفظ "اسم" هو اللفظ الموضوع للشيء ليعرف به، وهذا حق، فإننا نقول لزيد: كتبنا اسمك، أي كتبنا لفظ: "زيد".
(7/15)
فقضية القاعدة أن لفظ "اسم" في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أريد به اللفظ الذي تسمى به الله عز وجل، كلفظ الله، ولفظ الرحمن. وهذا عكس مراده. وإيضاح هذا أن للفظ "اسم" مسمًّى هو لفظ يحيى مثلًا، وللفظ "يحيى" مسمًّى هو الرجل، فإذا أريد بالقاعدة أن لفظ يحيى إذا أطلق على وجه الحقيقة، فالمراد به الرجل، فقضية ذلك أن لفظ "اسم" إذا أطلق على وجه الحقيقة، فالمراد به لفظ "يحيى" مثلًا، فأما إطلاق لفظ "اسم" على الرجل، فلو أريد لقيل: الاسم هو المسمى بالمسمى به؛ فتدبَّرْ هذا، فإنّ فيه شبه غموض. ومن العجب أن في كلام ابن عبد السلام (1) ما يظهر منه أن إطلاق الاسم وإرادة مدلوله، كقوله تعالى: {يَايَحْيَى} وقوله: {يَازَكَرِيَّا}، وقولك: ركبت الفرس، بل وقولنا: عبدت الله= مجاز غالب، وإنما الحقيقة هي أن يراد بالكلمة نفسها كيحيى في قوله تعالى: {اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 8]، وقولك: كتبت "جعفر"، تريد كتبت هذا اللفظ؛ ونحو ذلك. لكنه مع ذلك عاد فقال: إن إطلاق الأسماء على الألفاظ المسمى بها حقيقة. وكأن ذلك منه مبني على أصل الوهم، وهو أن وزان لفظ "اسم" إلى الرجل، كوزان لفظ "يحيى" إلى الرجل. وبالجملة، ففي كلامه تخليط، ولكن هذا القول ــ أعني أن إطلاق الاسم مثل "يحيى" مرادًا به مدلوله مجاز ــ قد يفسر لنا أصل النزاع في _________ (1) الإشارة إلى الإيجاز، طبعة دار الكتب العلمية (49).
(7/16)
الاسم والمسمى، فإنه اشتهر أنَّ مذهب أهل السنة أنَّ الاسم عين المسمى، ومذهب المعتزلة والخوارج ــ كما قال الأشعري في كتاب المقالات ــ أن الاسم غير المسمى (1). وقد تحير المتأخرون في معنى الخلاف. قالوا: لأنه إن أريد بالاسم لفظه، فهو غير المسمى قطعًا، ولا يقول عاقل ــ فضلًا عن أهل السنة ــ إنه عينه. وإن أريد مدلوله فهو عين المسمى، ولا يخالف في ذلك المعتزلة ولا الخوارج. أقول: لا يبعد أن يكون أول الأمر زعم بعض المبتدعة أنَّ الدلالة الحقيقية للألفاظ إنما هي على أنفسها، كما في قوله تعالى: {اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 8]، وأما دلالتها على المسمى فإنما هي مجاز، وروَّج ذلك بأن دلالة الشيء على نفسه أسبق وأوضح من دلالته على غيره، فالدخان مثلًا يدل على نفسه ثم على النار، ودلالته على نفسه أسبق وأوضح. [44/أ] ثم عبَّر عن ذلك بقوله: "الاسم غير المسمى" أي هو غيره في نفس الأمر، فإن لفظ "يحيى" غير ذات الرجل قطعًا، أي فينبغي أن يكون كذلك في حقيقة الدلالة. وكأن غرض ذلك المبتدع أن يوصل بهذا القول إلى ترويج تأويلاتهم لنصوص الكتاب والسنة قائلًا: المعاني التي تحملون عليها النصوص ــ معشر أهل الحديث ــ كلها مجازات، والتي نحملها نحن عليها هي أيضًا مجازات، فلا مزية لكم علينا من هذا الوجه. _________ (1) حكى الأشعري في "المقالات" من جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة "أن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج" (290) وأنهم "يقولون: أسماء الله هي الله" (293). وانظر: "روح المعاني" (1/ 52).
(7/17)
ثم يقول: لا ريب أنه لا يمكن تركيب جملة واحدة مفيدة سالمة عن المجاز، فثبت بذلك أنَّ جميع نصوص الكتاب والسنة مجاز، ووجوه المجاز كثيرة، فقد يمكن احتمال عدة مجازات في الكلمة الواحدة، بعضها ينقض بعضًا. غاية الأمر أن مجازًا أقرب من مجاز، وهذا رجحان ظني، إنما يكفي فيما يكفي فيه الظن من فروع الأحكام. فأما ما يطلب فيه القطع ــ وهو العقائد ــ فلا، فدعوا نصوصكم، وهلموا إلى العقل. فأجاب أهل السنة بقولهم: "الاسم عين المسمى" أي أن دلالته الحقيقية التي لا يجوز العدول عنها إلا بقرينة واضحة، هي دلالته على عين المسمى، أي والمعاني التي تحمل عليها النصوص هي حقائقها، وما يزعمه المبتدعة من قرينة العقل باطلة كما هو مبين في موضعه. ثم كأن المبتدعة رأوا أنَّ دعواهم تلك واضحة البطلان، فحولوا العبارة إلى معنى آخر، وهو قولهم: إن المراد بالاسم هو الصفة التي يدل عليها بعض الأسماء كالعليم والقدير، فقالوا: مرادنا أن العلم والقدرة ونحوهما مما تثبتونه لربكم عز وجل هي غيره سبحانه، وأنتم تقولون: إنها قديمة، فقد أثبتم عدة قدماء غير الله تعالى. فأجابهم أهل السنة بالتفصيل المعروف. هذا، والقول بأن الألفاظ إنما تدل حقيقة على أنفسها مختلٌّ كما مر، وقد ظهر من كلام ابن عبد السلام القول به، فلا بأس بأن نبين الحجة على بطلانه، فأقول: قد تقرر أن الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما وُضِعت له، والمجاز بخلافها، وقد وجدنا الألفاظ تستعمل للدلالة على معانيها، كقوله تعالى {يا يَحْيَى} وللدلالة على أنفسها، كقوله سبحانه {اسْمُهُ يَحْيَى}. فحاصل القول
(7/18)
المتقدم أن الواضع إنما وضع الألفاظ للدلالة على أنفسها، وأنها إنما استعملت للدلالة على معانيها على سبيل المجاز. فيقال لمن يلتزم ذلك القول: حاصل قولك أن الواضع بدأ فركب الألفاظ ورتّبها، ثم استعملت في المعاني تجوُّزًا. وقد علمنا أن المجاز يعتمد العلاقة الواضحة، فأي علاقة بين المعاني وبين الألفاظ التي لا معاني لها إلا دلالتها على أنفسها. وافرض أن أحدنا ركَّب ألف لفظ مخترع، ثم أراد أن يستعملها في المعاني تجوزًا، فأنّى ذلك، وما العلاقة؟ فإن تشبث بما يذكره المدققون في بعض الألفاظ الدالة على الأصوات، أو على ما يُفهم الصوت، من أنها مناسبة لتلك الأصوات، كما في: صرَّ، وصرصر، ودقَّ، وجرَّ؛ وفي بعض الألفاظ من مناسبة بين صفات حروفها من الشدة والهمس وغيرهما، وبين معانيها. قيل له: إن الألفاظ التي يُدَّعى فيها ذلك قليلة جدًّا بالنسبة إلى غيرها، وتلك المناسبات تعتمد في الغالب التوهم والتخيل، وذلك مما يختلف باختلاف الناس، وأجمع الناس على أنه لا يجوز اعتماد هذه المناسبة في إثبات اللغة بدون سماع. فإن قال: من أصلي في المعقولات أنه يستحيل الترجيح بدون مرجح، فإن لم تسلموا ذلك فناظروني فيه. وإنْ سلمتم، فمن قولكم إن الواضع إنما كان يتصور المعنى، ثم يضع له لفظًا، فيلزمكم أن تقولوا: إنه إنما رجح لفظًا على آخر لمرجِّح، فأنا أقول: إن ذلك المرجح هو العلاقة. قلنا: إنه يمكن أحدنا أن يعمد إلى المعاني ويضع لها ألفاظًا مخترعة، فيجمع مائة لفظ لمائة معنى، أو يبدأ فيركب مائة لفظ مخترع ثم يعين لكل
(7/19)
لفظ معنى، ولعله يقضي عمله هذا في بضع دقائق، كل هذا بدون تصور مرجِّح في غالب تلك الألفاظ. بل لو فكر بعد ذلك العمل أيامًا ليبين لكل لفظ من تلك الألفاظ مرجحًا لما أمكنه ذلك، والذي يمكنه من ذلك يغلب فيه التعسف بحيث يعلم قطعًا أنه عند التعيين لم يستحضر ذلك المرجح، وهذا أمر يمكنك أن تجربه إن شككت فيه، فماذا ترى في تفسير ذلك؟ [44/ب] فإن قال: لابد من مرجح، إلا أنه في مثل هذا يكفي المرجح العارض والوهمي الذي يؤثر أثره في النفس بدون أن يثبته العقل. قلنا: فلا علينا إن نسلم لك هذا، ثم نقول: إن هذه هي حال الواضع إذا كان من البشر في وضع الألفاظ للمعاني، ولا يمكنك أن تجعل ذلك علاقة للمجاز، لأنها غير معلومة ولا مستقرة. فلو اقتصر الواضع على تركيب الألفاظ وتعيينها، ثم قال للناس: يجوز لكم أن تستعملوها في المعاني للمناسبات، لما أمكنهم أن يعتمدوا ذاك المعنى في المناسبة لعدم العلم، وعدم استقراره، وغلبة الاختلاف فيه. وبيان ذلك: أننا لو عيَّنَّا معنى، ثم قلنا لمائة رجل: ليضع كل منكم لهذا المعنى لفظًا مخترعًا لاختلفوا، حتى لقد يندر أن يتفق ثلاثة منهم على لفظ. وكذلك لو اخترعنا لفظًا، ثم قلنا لهم: ليضعه كل منكم لمعنى. فإن قال: أنا أقول إن الواضع لم يَكِلْ هذا التجوز إلى الناس، بل نص عليه، وقال: هذا اللفظ يصح أن يُتجوَّز به عن هذا المعنى، وهذا عن هذا، وهكذا.
(7/20)
قلنا: فإذا فعل الواضع هذا، فهذا وضع، لا تجوُّز. فإن قال: لكني أسمِّيه تجوّزًا. قلنا: سمِّه ما شئت، فقد ثبت وضع الألفاظ للمعاني، ولم يبق إلا دعواك أن الواضع بدأ فوضع الألفاظ لأنفسها، فنسألك: ما فائدة وضع الألفاظ لأنفسها، والناس لا يحتاجون إلى ذلك، وإنما احتاجوا إليه في الجملة بعد أن وضعت الألفاظ للمعاني؟ فإنه بعد أن تقرر أن لكل شجرة اسمها دعت الحاجة إلى أن يقال: ما اسم هذه الشجرة؟ فيقال: نخلة، وغير ذلك، فأما قبل أن تعرف علاقة ما بين الألفاظ والمعاني فأي حاجة بالإنسان إلى أن يقول لصاحبه: "نخلة"، ليعرف صاحبه أن لفظ "نخلة" يدل على هذا اللفظ "نخلة"؟ أولا ترانا لا نكاد نحتاج إلى ذكر الألفاظ المهملة؟ وهل تذكر أنك نطقت، أو سمعت من نطق بلفظ: "ضصقح"؟ ولهذا لما احتاج علماء اللغة إلى ذكر الألفاظ المهملة استعانوا بالمستعملة، فمثلّوها بقولهم: "ديز" مقلوب "زيد". ثم أي حاجة بالألفاظ في دلالتها على نفسها إلى الوضع؟ فإن المقصود من الوضع إنما هو أن يعرف العلاقة بين الشيئين، حتى إذا أريد إحضار أحدهما في ذهن المخاطب توصل إلى ذلك بإحضار الآخر. وهذا إنما هو في وضع الألفاظ للمعاني، مثاله: أن الإنسان قد يحتاج إلى أن يخاطب صاحبه بشيء يتعلق بهذا الطائر الأسود، ولا يستطيع في كل وقت إحضار الطائر نفسه والإشارة إليه، فوضع له لفظ "غراب"، حتى إذا عرف ذلك كفاك أن تقول: "غراب" فيحضر ذاك الطائر في ذهن صاحبك.
(7/21)
فأما اللفظ نفسه، فإنه يكفيك أن تنطق به، فيحضر في ذهن صاحبك. وها نحن نحضر الألفاظ المهملة بذلك كما نقول: "ضصقح لفظ مهمل". فإن قال: إنما أريد بوضع الألفاظ لأنفسها أولًا أن الواضع بدأ فانتقى الألفاظ، وركَّبها، وجمعها. قلنا: فهذا ليس بوضع (1)، فكيف يقتضي أن دلالتها على أنفسها هي الحقيقة؟ ثم ما الحاجة إلى أن يبدأ الواضع بجمع الألفاظ وهي عرضة له، يمكنه أن يكتفي بعمل واحد، هو أن يتصور المعنى، ثم يقتطع له لفظًا، وهكذا. فإن قال: دعوا هذا، ولكني أقول: إن دلالة الألفاظ على أنفسها طبيعية، بمعنى أن الإنسان إذا نطق باللفظ حضر ذاك اللفظ في ذهن صاحبه بدون حاجة إلى شيء آخر. وهذه الدلالة مقدمة على الدلالة الوضعية، فأنا أسمي الدلالة الطبيعية حقيقة، والوضعية مجازًا. قلنا: هذا خلاف ما عليه الناس في تعريف الحقيقة والمجاز. ثم قد بينَّا أن حاجة الناس إلى الألفاظ إنما هي من جهة دلالتها على المعاني، وأنه إنما احتيج إليها للدلالة على أنفسها للاستعانة بذلك على معرفة الدلالة على المعاني، كما في قوله تعالى: {اسْمُهُ يَحْيَى}. وإذا كان الأمر كذلك علم أن المعتمد في فهم كلام الناس وفهم دلالات الألفاظ إنما هو دلالتها على المعاني. ومثال ذلك: المرايا، فإن المرآة تدل على نفسها، بمعنى أن الإنسان إذا _________ (1) في الأصل: "يوضع".
(7/22)
رآها علم أنها مرآة، ولكن هل تجد أحدًا يشتري مرآة لتكون عنده فقط، أو إنما يشتري الناس المرايا ليروا فيها صورهم؟ وإنما نزاعنا معك في فهم الألفاظ في كلام الناس، وقد عُلِم مما مرَّ أن الأصل في ذلك هو أن يفهم منها معانيها، فلا يضرُّها بعد ذلك أن تسميها مجازًا. [45/أ] واعلم أن المحققين من علماء الوضع اتفقوا على أن الواضع إنما قصد وضع الألفاظ للمعاني، ولكنهم اختلفوا في دلالة الألفاظ على أنفسها حيث وقعت في الكلام، كقول النحاة: "قام" فعل ماض، و"من" حرف جر، وأشباه ذلك، فقال السعد التفتازاني وجماعة: إنها دلالة وضعية وضعًا تبعيًّا. وأنكر السيد الشريف الجرجاني وجماعة ذلك، وقالوا: لا يدل صحة استعمالها في الكلام على الوضع لأنه يصح استعمال المهمل، كأن يقال: "ديز" مقلوب "زيد"، وأشباه ذلك. والذي أراه أن الخلاف صوري، والتحقيق مع السعد، وذلك أن الواضع لما وضع الألفاظ للمعاني دعت الحاجة إلى استعمالها في الدلالة على أنفسها، فأقرَّها الواضع، ونطق بها العرب كذلك حيث احتاجوا إليها، فكان هذا وضعًا تبعيًّا. أَوَلا ترى أن الإنسان إذا نطق باللفظ المستعمل كان متكلّمًا بالعربية، سواء أراد به معناه أم لفظه، كقول القائل: طلع القمر، وقوله: كتبت "قمر"؛ وأنه إذا نطق باللفظ الأعجمي كان خارجًا عن العربية، كقولك: طلعتْ "جانْدْ" (1) (اسم للقمر بالفارسية)، وكتبت "جاند"؟ _________ (1) كلمة "جانْدْ" بالجيم الفارسية وإخفاء النون: كلمة هندية تستعمل باللغة الأردية. أما اللغة الفارسية فيقال للقمر فيها: "ماه". ولا أدري لماذا أنَّث الفعل "طلعتْ"، فإن الاسم المذكور مذكر.
(7/23)
وإنما يستثنى من هذا الألفاظ الأعجمية التي تقبلها العرب، فصارت في حكم العربية، فلفظ "قمر" له علاقة بالوضع العربي، سواء أعُبِّر به للدلالة على معناه أم على نفسه، ولفظ " جاند" لا علاقة له بالوضع العربي. القول الرابع: زعم بعضهم أن لفظ "اسم" قد يأتي بمعنى الصفة كما مرَّ عن المتكلمين. وذكر ابن عبد السلام (1) قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إن لله تسعةً وتسعين اسمًا" (2)، وقوله تعالى: {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 11] وقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ثم قال: "ويجوز أن يراد بالأسماء الحسنى الصفات، فيكون تعبيرًا بالأسماء عن المسميات، فإنّ الحسن والشرف إنما يتحقق في المسميات دون التسميات، لأنها ألفاظ، ولا تتصف الألفاظ بالحسن إلا إذا كانت خفيفة على اللسان، فصيحةً في البيان. وكذلك لا تتصف الأجرام بالشرف والحسن، إلا إذا قامت بها الصفات الشراف الحسان". أقول: لم يقم دليل على صحة إطلاق الاسم بمعنى الصفة. وقوله: "تعبيرًا بالأسماء عن المسميات" قد مرَّ ما فيه. وقوله: "إن الألفاظ لا تتصف بالحسن إلا لخفة على اللسان، وفصاحة في البيان" من عثراته التي لا تقال، فإن الألفاظ تكتسب الحسن والشرف من _________ (1) "مجاز القرآن" (199). (2) أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الأشراط ... (2736) ومسلم في كتاب الذكر، باب في أسماء الله تعالى (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7/24)
معانيها ومدلولاتها والمتكلم بها، وعلى التنزُّل فيمكن أن يقال: إن حسنها باعتبار معانيها، فكأنه قيل: "الحسنى معانيها". ولو فرضنا أن الاسم قد يطلق بمعنى الصفة، فسياق الحديث والآيات يأبى هذا المعنى، ولا حاجة للإطالة ببيان ذلك. والله المستعان. القول الخامس: إن لفظ "اسم" قد يقحم في الكلام، فيكون زائدًا. وقد حكى ابن جرير هذا عن بعضهم، وردَّه (1). والبصريون من النحاة يمنعون زيادة الأسماء. وقد ذكر ابن هشام ذلك في "المغني" في الكلام على "مَنْ" بفتح الميم (2). وقال في الكلام على "ماذا": "التحقيق أن الأسماء لا تزاد" (3). وقد أنكر بعض أهل العلم أن يكون في القرآن لفظ زائد حرفًا أو غيره. وأجاب المحققون بأنَّ المراد الزيادة بحسب صناعة الإعراب، وأما في المعنى فما من لفظ يقال بزيادته إلا ولذكره معنى وفائدة لا تحصل بدونه. وأقول: إن ثبت ما زعمه بعضهم من جواز زيادة الأسماء، فذاك في أسماء تُشبه الحروف مثل "مَنْ". ولو ثبت في غيرها فليس في فصيح _________ (1) انظر: "تفسير ابن جرير" (1/ 119 - 120). والذي ردّ عليه ابن جرير هو أبو عبيدة معمر بن المثنى الذي قال في "المجاز" (1/ 16): " (بسم الله) إنما هو الله، لأن اسم الشيء هو الشيء بعينه". ونقل اللالكائي عن الأصمعي وأبي عبيدة قولهما: "إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة". "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (2/ 207). (2) "المغني" (433). (3) "المغني" (397).
(7/25)
الكلام، ولو ثبت في فصيح الكلام فليس مما يقاس عليه. وحملُ القرآن على ما لم يثبت لا يجوز، ما دام يحتمل غيره. وسنبيِّن إن شاء الله تعالى أن الآيات التي زعموا زيادة لفظ "اسم" فيها لا حاجة بها إلى ذلك. [45/ب] القول السادس: إن لفظ "اسم" في نحو {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] بمنزلة المجلس والحضرة في قولهم: سلام على المجلس العالي، والحضرة الشريفة (1). أقول: هاتان الكلمتان من تنطعات المولَّدين تبعًا للأعاجم. ونظير ذلك أو أقرب منه قول بعضهم (2) في قوله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] واحتجاجه ببيت الشماخ: ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه ... مقامَ الذئبِ كالرجلِ اللَّعينِ (3) وليس بشيء، فقد فسّر السلف ومن يقرب منهم {مَقَامَ رَبِّهِ} بما يليق به. وأما بيت الشماخ، فـ "مقام" فيه بمعنى "قيام"، يريد: أزلت عنه قيام الذئب، أي وقوفه. وأما المولدون، فيستعملون "المقام" بمعنى مكان الإقامة، ثم يقولون: سلام على ذلك المقام، ونحو ذلك. والعارف منهم يشبه هذا بقول _________ (1) وهو قول أبي حامد الغزالي في كتابه "المقصد الأسنى" (38). (2) انظر: "روح المعاني" (25/ 4) و (27/ 116). (3) "ديوان الشمَّاخ" (321).
(7/26)
العربي (1): إنَّ السَّماحةَ والمروءةَ والندى ... في قُبَّةٍ ضُرِبتْ على ابنِ الحَشْرَج ويقول: إذا سلَّمتُ على المحلّة التي يقيم فيها، فكأني قد غمرتُه بالسلام من جميع جوانبه. هذا، ولا يتجه نحو هذا في لفظ "اسم"، وأقرب ما يُدَّعى فيه مما يقرب من هذا أن يقال: إن في الكلام كناية، كما يقول الرجل: إني أحبُّ اسم علي، يكني بذلك عن حبه لعلي بن أبي طالب عليه السلام. ومن شأن الكناية أنه يصلح معها إرادة المعنى الحقيقي بأن يكون هذا الرجل لشدة حبه لعلي عليه السلام قد أحبَّ هذا الاسم لأنه يذكر به. وهذا يلاقي المعنى المختار في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، كما يأتي إن شاء الله تعالى. _________ (1) هو زياد الأعجم، وممدوحه عبد الله بن الحشرج كان سيِّدًا من سادات قيس. انظر: "الأغاني" (12/ 20) و (15/ 312).
(7/27)
تتمة في الأمثلة التي يحتج بها أصحاب هذه الأقوال أو بعضهم وتحقيق معناها الأول: قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً} [يوسف: 40]. وهذه الآية من جملة ما قصه الله تعالى من محاورة يوسف عليه السلام لصاحبي السجن، وهما من المصريين، والقوم ــ كما دللت عليه في رسالة "العبادة" (1) ــ كانوا يعتقدون وجود ذوات علوية، ينعتونها بنعوت غير نعوت الملائكة، ثم سمَّوها بأسماء اخترعوها، وكانوا يدعونها بتلك الأسماء، ويتضرَّعون إليها. فبيَّن يوسف عليه السلام أنَّ ما توهموه من وجود ذواتٍ بالصفة التي يزعمون لا حقيقة له، وأنه لا يوجد من تلك الذوات إلا أسماؤها التي اخترعوها، كما نقول نحن في العَنْقاء: إنه اسم بلا مسمًّى وإنه لا يوجد منها إلا اسمها، وفي الأثر في حال آخر الزمان: أنه لا يبقى من الدين إلا اسمه (2). ولمَّا كانوا إنما يعبدون من تلك الذوات ما هو في ظنّهم موجود، والموجود منها أسماؤها فقط، وهم مع ذلك يعلِّقون العبادة بالأسماء= قيل لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً} [يوسف: 40]. _________ (1) (ص 625، 687 وما بعدها). (2) أخرجه البيهقي في "الشعب" عن علي موقوفًا (1910)، وعنه مرفوعًا (1908، 1909).
(7/28)
فحملُ الأسماءِ هنا على المسمَّيات أو الأشخاص نقيض قصد القرآن. والذي أوقع هؤلاء فيه إنما هو عدم تدبر القرآن، والجهل بما عليه المشركون. ونظير هذه قوله تعالى فيما قصَّه عن هود عليه السلام: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} [الأعراف: 71]، وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23]. وقد أوضحتُ ذلك بأدلته في رسالة "العبادة" (1). وقد ذهب بعض المفسرين إلى نحو هذا، ولكنَّه توهم أنّ المراد أسماء الأصنام، وأنّ ذواتِ الأصنام نُزِّلَتْ منزلةَ العدم. وقد عرفتَ ــ بحمد الله تعالى ــ الحقيقة. المثال الثاني: قوله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]. قالوا: وقد أخرج الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: سبحان ربي الأعلى" (2). وعن عقبة بن عامر: أنها لما نزلت قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "اجعلوها في سجودكم" (3). ومعلوم أنه يقال في السجود: سبحان ربي الأعلى. _________ (1) إيضاح ذلك في القسم المفقود من رسالة العبادة. وانظر (ص 685) منها. (2) "المسند" برقم 2066 (3/ 495). وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء في الصلاة (883) وقال: "خولف وكيع في هذا الحديث. رواه أبو وكيع وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا". (3) أخرجه أحمد في "المسند" برقم 17414 (28/ 630) وأبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (869) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة باب التسبيح في الركوع والسجود (887).
(7/29)
وعن علي رضي الله عنه: أنه قرأها في الصلاة، فقال: سبحان ربي الأعلى. فقيل له في ذلك، فقال: إنما أمرنا بشيء (1). وروي نحو هذا عن غيره (2). قالوا: ومعقول أن التسبيح هو قول "سبحان". والمعروف في الشريعة "سبحان الله" [46/أ] ونحوه، ولا يعرف فيها "سبحان اسم الله"، أو نحوه. أقول: أصل التسبيح في اللغة: التنزيه، ثم كثر استعماله في النطق بـ "سبحان". وجاء هاهنا على أصله بقرينة أنه لم يعرف: "سبحان اسم الله"، كما قلتم. وتنزيه أسماء الله عز وجل حق لا ريب فيه، ومنه أن لا يسمى غيره بما اختص به أو غلب، كلفظ الله والرحمن والقدوس والحكيم العليم، وغير ذلك، وأن لا تذكر أسماؤه في الهزل واللعب، ولا تذكر عند ملامسة القاذورات، إلى غير ذلك. والأمر بتنزيه الاسم يدل بفحواه على الأمر بتنزيه المسمَّى؛ لأن تنزيهه سبحانه أوجب وأولى، فقد دلت الآية على كلا الأمرين. فأما تنزيه الرب عز وجل فإنه يكون بالقول، وقد جعل له الشارع علمًا، وهو لفظ "سبحان". وأما تنزيه الاسم فإنه يكون بالعمل، كما تقدم. فكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم أصحابه يمتثلون الأمر الثابت بالأولى بقول _________ (1) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 483) إلى الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وغيرهم. (2) انظر المصدر السابق.
(7/30)
"سبحان ربي الأعلى"، ويمتثلون الأمر بتنزيه الاسم بعملهم، كما نهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن أن يقال لإنسان: "ملك الأملاك" (1). وغيَّر كنية من كان يكنى "أبا الحكم"، وقال: "الحَكَم الله" (2). وغيَّر اسم من كان يسمَّى "عزيزًا" (3). بل جاء عنه أنه جاءه رجل، فذكر له أنه طبيب، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "أنت رفيق، والله هو الطبيب" (4). وأن قومًا جاؤوه، وقالوا: أنت سيدنا، فقال: "السيد الله" (5). وتبعه أصحابه رضي الله عنهم، بل جاء عن عمر أنه كره التسمِّي بأسماء الملائكة والأنبياء (6). _________ (1) يشير إلى حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري في الأدب، باب أبغض الأسماء إلى الله (6206) ومسلم في الأدب، باب تحريم التسمّي بملك الأملاك (2143). (2) وكناه أبا شريح. أخرجه أبو داود في الأدب، باب تغيير الأسماء (4955) والنسائي في آداب القضاة، باب إذا حكّموا رجلًا فقضى بينهم (5402) بإسناد صحيح. (3) ذكره أبو داود في باب تغيير الاسم القبيح (4956) مع أسماء أخرى غيّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك أسانيدها للاختصار. (4) أخرجه أبو داود في كتاب الترجل، باب الخضاب (4207) بإسناد صحيح. (5) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في الرفق (4808) بإسناد صحيح. (6) أخرج إسحاق بن راهويه في "مسنده" (كما في "المطالب العالية": 12/ 131، و"إتحاف المهرة": 6/ 43) عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع كل غلام اسمه اسم نبي، فأدخلهم دارًا، وأراد أن يغيِّر أسماءهم، فشهد آباؤهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماهم ... وإسناده حسن. وأخرج ابن سعد (5/ 6) أن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان اسمه إبراهيم، فدخل على عمر في ولايته حين أراد أن يغيِّر اسم مَن تسمَّى بأسماء الأنبياء، فغيَّر اسمه، فسمَّاه "عبد الرحمن"، فثبت اسمه إلى اليوم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ (العظمة: 4/ 1480) وغيرهم عن عمر أنه سمع رجلًا ينادي بمنى: يا ذا القرنين. فقال له عمر: اللهم غفرًا! ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء، فما بالكم وأسماء الملائكة! وانظر: "الروض الأنف": (2/ 66)، و"تحفة المودود" (185).
(7/31)
وفي هذا كفاية لمن يفهم. المثال الثالث: قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78]. وقد قرأ ابن عامر وأهل الشام: "ذو" (1). قالوا: ولفظ "تبارك" يجيء في الغالب مسندًا إلى الله عز وجل، كقوله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] وغير ذلك. وكذلك في السنَّة، كما في حديث: "تباركت ربنا وتعاليت" (2). والجواب: أن إسناده إلى الاسم نفسه قد جاء في الكتاب، كهذه الآية وغيرها، وفي السنّة كما في الدعاء الآخر: "تبارك اسمك وتعالى جدُّك" (3). _________ (1) الإقناع في القراءات السبع (779). (2) أخرجه أحمد برقم 1718 (3/ 245) وأبو داود في الصلاة، باب القنوت في الوتر (1425) والترمذي في أبواب الوتر، باب ما جاء في القنوت في الوتر (463) والنسائي في قيام الليل، باب الدعاء في الوتر (1745) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. (3) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري وعائشة وغيرهما. انظر الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة (242، 243)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك (775، 776) والنسائي في الافتتاح، باب القراءة في العشاء الآخرة بالشمس وضحاها (898)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب افتتاح الصلاة (804).
(7/32)
ولا داعي إلى تأويله؛ لأن معنى "تبارك": تكاثرت بركته أي خيرُه. وأسماء الله تبارك وتعالى كثيرة البركة، فبها تستفاد الخيرات، إذ بها يدعى سبحانه فيجيب، ويُستعان فيعين، ويُستغاث فيغيث، ويُستغفر فيغفر، وبه يُوحَّد ويُمجَّد ويُحمَد ويُسبَّح، إلى غير ذلك. وقد قال ابن الأنباري: "تبارك الله: أي يتبرك باسمه في كل شيء". ذكره صاحب لسان العرب وغيره (1). فإن قيل: لكن السورة من أولها إنما عددت نعم الرب وبركاته وخيراته عز وجل، ولا يظهر فيها ما يتعلق بالاسم. قلت: هذا سؤال قوي، وجوابه بحمد الله عز وجل سهل، وهو أن تلك النعم تتعلق باسمين من أسمائه سبحانه، أحدهما: الرحمن، والثاني: الربّ. ودلّ على ذلك بناؤه السورة على الأول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ... }. ثم عقب تفصيلها بعنوان الثاني، وذلك قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ومعنى الرحمن والرب موافق لذلك، فقد يكون أحد هذين أو كلاهما هو المراد بالاسم. فإن قلت: إن النعم لا تتعلق بالاسم نفسه، وإنما تتعلق بالصفة التي دلَّ _________ (1) "اللسان" (برك 10/ 396). ونص كلامه في "الزاهر" (1/ 147 - 148): " وقولهم (تبارك اسمك وتعالى جدك) فيه قولان: معنى تبارك: تقدس أي تطهر ... وقال قوم: معنى تبارك اسمك، تفاعل من البركة، أي البركة تكتسب وتنال بذكر اسمك".
(7/33)
عليها، وهي الرحمانية والربوبية. قلت: لا مانع من أن يقال: تبارَكَ الاسم الدالُّ على تلك الصفة. هذا، وإذا أسند التبارك إلى الاسم، فثبوته للصفة من باب أولى، وللربِّ عز وجل أولى وأولى. وهذا معنى مقصود فيه زيادة في الحمد والثناء والتعظيم. والخروج عن الظاهر بالقول بزيادة لفظ "اسم"، أو بما يصير في معنى الزائد، يلزمه نقص في ذلك المعنى العظيم. فأما قراءة ابن عامر وأهل الشام، فإن استكثرت على اسم الله عز وجل أن يوصف بأنه ذو الجلال والإكرام، فاجعل قوله: {ذُو} خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: هو، أي الرب، وبهذا توافق هذه القراءة معنى قراءة الجمهور. وإن شئت فاجعل {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} بيانًا للاسم، أي تبارك هذا الاسم، وهو "ذو الجلال والإكرام" لدلالته على ما تضمنته السورة من عظم جلال الله عز وجل، وكثرة إكرامه بالنعم. وهذا اسم عظيم الشأن، حتى قيل: إنه الاسم الأعظم. وفي حديث رواه أهل السنن وصححه الحاكم على شرط مسلم (1): "أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سمع _________ (1) أخرجه الترمذي في الدعوات (3776) وأبو داود في الصلاة باب الدعاء (1495) والنسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر (1299) وابن ماجه في الدعاء، باب اسم الله الأعظم (3858)، والحاكم في المستدرك (1856) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في "المسند" (12611) وقال محققه: إن الحاكم قد وهم في تصحيحه على شرط مسلم، فإن حفصًا لم يخرِّج له مسلم شيئًا (20/ 63). ولم أجد لفظ "الحنّان" في السنن والمستدرك، ولعل المؤلف نقل الحديث من "المشكاة" (2290) وفيه: "الحنان المنان".
(7/34)
رجلًا: "اللهم إني أسألك بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت الحنَّان المنَّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم". فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "دعا الله باسمه الأعظم ... " الحديث. وفي حديث صححه الحاكم أيضًا (1): "ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام". والإلظاظ: اللزوم والمثابرة. والله أعلم. المثال الرابع: في الدعاء النبوي: "باسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" (2). قالوا: إنما المعنى: "لا يضرُّ معه" أي مع الله عز وجل، لأنَّ هذا هو الواقع، وذلك أنه سبحانه وتعالى هو المدبِّر للسماوات والأرض، [46/ب] فما لم يقدِّر الضرر لم يقع، فهو الضار النافع. وأما الاسم نفسه، فأنى له ذلك! ومعية الاسم أظهر ما يتحقق بذكره، وكثيرًا ما يذكر الإنسان اسم الله تعالى، ومع ذلك يصيبه الضرر. _________ (1) "المستدرك" (1836، 1837) من حديث ربيعة بن عامر وأبي هريرة رضي الله عنهما. (2) أخرجه أحمد في "المسند" (446) والترمذي في الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى (3612) وأبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح (5088) وابن ماجه في الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى (3869) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(7/35)
والجواب: أنَّ المعنى على قولكم يصير حاصله: أنه لا ضارَّ إلا أنت يا ربنا. ولا يخفى ما فيه، وبعده عن الأدعية النبوية التي منها: "الخير كله بيديك، والشر ليس إليك" (1). وقال بعض [أهل] (2) العلم: المعنى: "لا يضر مع ذكر اسمه شيء" (3). ويجاب عما تقدم: بأن المراد الذكر الكامل، وهو ما كان على وفق المشروع، مع صدق خشوع وقوة يقين. وقد يشهد لهذا تمامُ الحديث وقصته، ففي المشكاة (4): " [فكان أبان (راوي الحديث عن أبيه عثمان) قد أصابه طرفُ فالجٍ، فجعل الرجل (الذي سمع الحديث من أبان) ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر إلي؟ أمَا، إنَّ الحديث كما حدَّثتك، ولكنِّي لم أقُله يومئذ ليُمضي الله عليَّ قدرَه] ". ولعل الأولى أن يكون المراد: لا يضرُّ مع بركة اسمه شيء، وذلك أنَّ من ذكر اسم الله تعالى على وفق المشروع، مع صدق الخشوع وقوة اليقين، استحقَّ أن يحُفَّه الله تعالى ببركة لا يضرُّه معها شيء ما دامت معه. ولما كانت تلك البركة مسبَّبةً عن ذكر الاسم نُسِبت إليه، ثم نزلت معيتها منزلة معية الاسم نفسه. وأرى هذا تحقيقًا بالغًا. والحمد لله رب العالمين. _________ (1) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (2) ساقط من الأصل سهوًا. (3) "مرقاة المفاتيح" (8/ 259). (4) "مشكاة المصابيح" (2391). وقد ترك المؤلف بعده بياضًا نحو سطرين مع وضع علامة التنصيص، لينقل القصة فيما بعد، فنقلناها.
(7/36)
المثال الخامس: في الدعاء النبوي: "اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت". ذكره ابن عبد السلام، وقال: "معناه: اللهم بك أحيا، وبك أموت، أي: بقدرتك" (1). أقول: هذا الدعاء كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -[يقوله] (2) عند اضطجاعه للنوم كما في "صحيح مسلم" عن البراء (3): أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا أخذ مضجعه قال: "اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت"، وإذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور". فالحياة والموت فيه بمعنى اليقظة والنوم، والإنسان عند أخذ مضجعه بين يقظة حاضرة ونوم منتظر عن قرب، فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يذكر اسم الله تعالى على الأمرين معًا. وقد فسّره صاحب "فتح الباري" بقوله: "بذكر اسمك أحيا، وعليه أموت" (4). وأقول: هذا، وقوله في المثال السابق: "بسم الله" وأمثلة أخرى ذكروها كلها من أفراد التسمية، كقول من بدأ الأكل: بسم الله. وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. _________ (1) "مجاز القرآن" (198). (2) زيادة يقتضيها السياق. (3) في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم (2711). وأخرجه البخاري في الدعوات، باب ما يقول إذا نام (6312) من حديث حذيفة رضي الله عنه. (4) "فتح الباري" (11/ 113).
(7/37)
المثال السادس: البيت المنسوب إلى لبيد (1): إلى الحول ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ومَن يبكِ حولًا كاملًا فقدِ اعْتَذَرْ أقول: هذا البيت في قطعة ذكرها صاحب الأغاني (14/ 98) (2) في قصة ذكر فيها أن لبيدًا لما حضره الموت جرى له كيت وكيت، وفيها ذكر قصيدة طويلة. والقطعة التي فيها هذا البيت زعم الراوي أنَّ لبيدًا قالها في تلك الحال. وفي رجال السند من لم أعرفه (3). والمشهور أنَّ لبيدًا لم يقل شعرًا بعد إسلامه، وقد ذكر صاحب الأغاني ذلك عن أبي عبيدة، إلا أنه استثنى بيتًا واحدًا، وهو: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيتُ من الإسلام سربالًا (4) _________ (1) ديوانه (214). (2) يعني: طبعة بولاق. وانظر: طبعة الثقافة (15/ 305 - 306). (3) رواها أبو الفرج عن أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد. ولعل الذي ذكر المؤلف أنه لم يعرفه هو عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي البصري. وقد ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (728) ولكن لم يزد على أنه روى عن خالد بن سعيد عن عمرو بن سعيد بن العاص وأنه روى عنه عمر بن شبة. وكذلك ذكره في "تهذيب الكمال" في ترجمة خالد (618) ممن روى عنه. (4) "الأغاني" طبعة الثقافة (15/ 29) ورجح ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 307) أن البيت المذكور لقَرَدة بن نُفَاثة السَّلولي، وهو ثالث أبيات ثلاثة له ذكرها ابن عبد البر في ترجمته (3/ 260). هذا، ويرى إحسان عباس أن أكثر من عشر قصائد قالها لبيد في الإسلام. انظر: مقدمته لديوان لبيد (27).
(7/38)
وفي كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1): " [ولم يقل في الإسلام إلا بيتًا واحدًا. واختُلِف في البيت، قال أبو اليقظان: هو ... " وذكر البيت السابق، ثم قال: "وقال غيره: بل هو قوله: ما عاتَبَ المرءَ الكريمَ كنفسِه ... والمرءُ يُصلِحُه الجليسُ الصالحُ وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنشدْني (من شعرك) فقرأ سورة البقرة، وقال: ما كنت لأقول شعرًا بعد إذ علّمني الله (سورة) البقرة وآل عمران ... ] ". وهَبْ أن نسبة هذا البيت: "إلى الحول ... " إلخ صحت إلى لبيد، أو إلى غيره ممن يحتج بكلامه، فقد حمله ابن جرير على أن قوله: "السلام" أراد به الاسم المعروف من أسماء الله عز وجل، ثم يقول: إما أن يكون أراد: ثم عليكما اسم السلام، أي: ثم الزما اسم الله. يريد: الزما ذكر اسم الله، ودعا ذكري. وإما أن يكون أراد التبريك عليهما، أي: ثم بركة اسم الله عليكما (2). وأقول: لو فرضنا أنه لم يكن له وجه إلا ما حملوه عليه من الزيادة، فهو شذوذ وضرورة، فلا يجوز حمل كلام الله عز وجل عليه. وهب أن ذلك صحيح فصيح غير ضرورة، فلا شك أنه خلاف الأصل. وقد ذكرنا الأمثلة التي ذكروها من الكتاب والسنة، وظهر أنه لا حاجة بها إلى الحمل على هذا. والله أعلم. _________ (1) (1/ 275 - 276). وقد وضع المؤلف رحمه الله علامة التنصيص وترك بعدها بياضًا لنقل كلام ابن قتيبة فأوردناه. (2) "تفسير الطبري" (شاكر 1/ 120 - 121).
(7/39)
[47/أ] الفصل الرابع لفظ "الله" هذا اللفظ اسم لربنا عز وجل، وهو عَلَم، وقد اختلفوا في علميته: أبالوضع، أم بالغلبة التقديرية؟ وفي كونه مشتقًّا أم لا، وعلى الاشتقاق، فمن أي مادة؟ ولا أرى ضرورةً هنا إلى تفصيل ذلك، فإنه لا يتوقف عليه معرفة المعنى. وظاهر أن المراد من هذا اللفظ بالتسمية مدلوله، فمعنى: "باسم الله": باسم رب العالمين تبارك وتعالى. وزعم بعضهم أنه يحتمل أن يكون المراد به لفظه، وتكون الإضافة بيانية، أي: باسمٍ هو هذا اللفظ: "الله". وليس هذا القول بشيء. نعم، مدلول "اسم الله" إما لفظ "الله"، لأنه هو اسم الله؛ وإما جميع أسماء الله عز وجل، لأن المفرد المضاف قد يعمُّ، تقول (1): ابن آدم ضعيف. أي: كل أحد من بني آدم. وستعلم المختار من هذين في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى. _________ (1) في الأصل: "يقول"، وهو سبق قلم.
(7/40)
الفصل الخامس معنى "باسم الله" قد عرفت أن المنصور عند المتأخرين في الباء قولان: أحدهما: أنها للاستعانة. والآخر: أنها للمصاحبة. فأما على الاستعانة، فقالوا في تسمية الآكل مثلًا: إن التقدير: باسم الله آكل، وإنها على وزان: "بالقلم أكتب". فاسم الله بمنزلة القلم، أي أنه يتوقف وجود الأكل عليه، كما يتوقف وجود الكتابة على القلم. قالوا: والمتوقف في الحقيقة هو سلامة الأكل عن النقصان، على ما في الحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أجذم" (1). ومعنى "أجذم": ناقص البركة، ولكن نُزِّل الأجذمُ منزلةَ المعدوم، فأقيم توقف سلامة الفعل من النقصان مقام توقف وجوده. وفيه: أن إفادة السلامة ليس (2) هي أثرًا من آثار الاسم من حيث هو، بل هي أثر بركة يجعلها الله عز وجل لذاكره إذا شاء. _________ (1) بهذا اللفظ أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1219) مرفوعًا من حديث أبي هريرة. وهو ضعيف، والمحفوظ لفظ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله ... " مع كونه مرسلًا. انظر: "تخريج الكشاف" للزيلعي (1/ 24) و"التحجيل" للطريفي (ص 3). (2) كذا في الأصل.
(7/41)
فإن قيل: وكذلك الكتابة ليست أثرًا للقلم من حيث هو، وإنما توجد بأخذه باليد وغمسه في المداد، ثم إمراره على الكاغد مثلًا على الوجه المخصوص، فكما لا يقدح هذا هناك، فلا يقدح ما ذكرتم هنا. قلنا: الفرق واضح، وهو أن الفعل في "كتبت بالقلم" ينبئ عن بقية الأمور، بخلاف الفعل في قوله: "باسم الله آكل". ولو سلم ما ذكرتم لم يغن عن الاحتياج إلى توضيح المعنى، فإن المعنى في قولك: "كتبت بالقلم" واضح، ولا كذلك في "باسم الله آكل". فلا بد لتوضيح المعنى من أن يقال: أصل الكلام: ببركة ذكر اسم الله التي أرجو أن يمنَّ الله عليَّ بها أدفع النقصان عن أكلي. وأما على المصاحبة، فقد عرفت قولهم: "إن باء المصاحبة هي التي يصلح موضعها "مع"، ويغني عنها وعن مصحوبها الحال". فيقال في "باسم الله آكل": مع اسم الله آكل، ومسمِّيًا اللهَ آكل. ولكن لما كانت التسمية تطلق على وضع الاسم، وعلى ذكره، والمقصود هنا الثاني، كان الواضح أن يقال في تقدير الحال: ذاكرًا اسم الله آكل. وقد قالوا في قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41]: "الباء للملابسة، والملابسة هي المصاحبة، ولما كانت ملابسة اسم الله عز اسمه بذكره، قالوا: المعنى: اركبوا مسمِّين الله" (1). لكن يتراءى هنا فرق ما بين قولنا: "مع اسم اللهَ آكل"، وقولنا: "مسمِّيًا الله آكل" , أو "ذاكرًا اسم الله آكل". وقد يوفَّق بينهما بأن المراد بمعية اسم الله _________ (1) "روح المعاني" (12/ 56).
(7/42)
معيَّةُ ذكره، كما تقدم عنهم، فالمعنى: "مع ذكر اسم الله آكل". لكنهم عدلوا عن هذا، وقالوا: المعنى: "مع اسم الله آكل"، أو "مصاحبًا اسمَ الله آكل". فيقال لهم: وما معنى معية اسم الله ومصاحبته؟ فإن قالوا: بذكره، كما قالوه في {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41] فقد عاد الأمر إلى: "مع ذكر اسم الله"، أو "ذاكرًا اسم الله". وهو الموافق لقولهم في باء المصاحبة: يغني عنها وعن مصحوبها الحال. وإن قالوا: معية بركته ومصاحبتها. قلنا: إن أردتم البركة الموعود بها في حديث: "كل أمر ذي بال ... " ونحوه، فهي بركة يجعلها الله تعالى إذا شاء لمن ذكر اسمه. وعلى هذا، فينبغي أن يتركوا التقدير على أصله: ذاكرًا اسم الله آكل، [47/ب] ويقولوا: المعنى: ذاكرًا اسمَ الله رجاءَ البركة الموعود بها. أو يقولوا: المعنى: مستصحبًا بركة ذكر اسم الله آكل، ومعنى "مستصحبًا": سائلًا الصحبة، فكأنه يقول: سائلًا الله تعالى أن تصحبني بركة ذكر اسمه. وقد قدَّر ابن عبد السلام التسمية بقوله: "أتبرك بذكر اسم الله" (1)، وهو يلاقي ما ذكرنا. وزعم ابن جرير أن الاسم هنا بمعنى التسمية، وأن المعنى: أقرأ بتسمية الله (2). وقد عرفت أن المراد من التسمية ذكر الاسم، فيصير التقدير: أقرأ _________ (1) "مجاز القرآن" (197). (2) "تفسير الطبري" (شاكر 1/ 115 - 118).
(7/43)
بذكر اسم الله، وهو يقارب ما ذكرنا. وزعم أن ذلك معنى ما رواه عن ابن عباس (1)، والمقصود هنا: إنما هو الموافقة على تقدير "ذكر". وإن أردتم بركة اسم الله مطلقًا، وقلتم: إنَّ لأسماء الله عز وجل بركةً يمنُّ اللهُ بها على من يشاء، ممن ذكر الأسماء اسمًا اسمًا، وممن لم يذكرها، فيصح أن يقول الداعي: اللهم أصحِبْني بركةَ أسمائك. قلنا: هذا يحتاج إلى إثبات من الشريعة، والذي نعرفه أن بركة أسماء الله عز وجل إنما يُتوسَّلُ إلى حصولها بذكر الأسماء على الوجه المشروع. فإن ثبت ما قلتم، بقي التقدير على هذا المعنى: "مستصحِبًا بركةَ اسم الله"، أي سائلًا الله أن يصحبني بركة أسمائه. ثم نقول لهم: ما الذي اضطركم إلى العدول عن تقدير المعنى بأن تقولوا: "مسمِّيًا اللهَ آكل"، أي: "ذاكرًا اسمَ الله آكل" على ما هو الأصل في باء المصاحبة، وقد قلتم به في قوله تعالى: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} (2) [هود: 41]؟ وعسى أن يكون جوابكم أن المعنى يختل بذلك. أولًا: لأن المسمِّي عن نفسه يقول: "باسم الله" على سبيل الدعاء والتبرك، وتقدير: "مسمِّيًا الله آكل"، أو "ذاكرًا اسم الله آكل"، ليس فيه إلا الإخبار عن نفسه بأنه يأكل ذاكرًا اسم الله. _________ (1) وهو قوله: "اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله". (2) "فيها" ساقط من الأصل سهوًا.
(7/44)
ثانيًا: بأنه لا يعرف في الأدعية والأذكار الشرعية نظير لهذا، وعامة الأدعية والأذكار الشرعية كل منها يكون لفظه بنفسه وحده، أو مع ما تدلُّ القرائن على تقديره دالًّا على التعظيم أو السؤال. وقد قال بعض الأجِلَّة (1): إن ذكر كلمة الجلالة أو تكرارها ليس بذكر شرعي، لأن الاسم وحده لا يفيد معنىً. ثالثًا: هذا الخبر ــ وهو "ذاكرًا اسم الله" ــ يحتاج إلى ما يصدق عليه، والغالب أن المسمّي يقتصر من ذكر الله على قوله "باسم الله"، فإذا جعلناها خبرًا فأين المخبَر عنه. وإيضاحه: أن قول القائل: "ذاكرًا (2) اسم الله آكل" إنما يكون صادقًا إذا وقع منه حال أكله ذكر لاسم الله غير هذه الجملة، إذ لا يمكن أن يكون الجملة الواحدة مخبرًا بها عن نفسها، أي هي الخبر، وهي المخبر عنه. [48/أ] والجواب عن الأمر الأول: أن "باسم الله" على معنى "ذاكرًا اسم الله" أقيمت عند الشروع في الأمور مقام جميع الأذكار والأدعية التي تناسب الحال. ونوضح ذلك بمثال: وهو أن يجتمع أربعة، ويقدَّم لكل منهم طعامه، فأما أحدهم فنصراني شرع يذكر اسم يسوع، شاكرًا له على أن رزقه الطعام بزعمه، ويتضرع إليه أن يهنئه أكله، وأن يبارك له فيه، وأن يصرف عنه ضرَّه، وأن ينفعه به، إلى غير ذلك من المطالب. _________ (1) لعل المقصود شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر كلامه في "مجموع الفتاوى" (10/ 226)، وانظر: "طريق الهجرتين" لابن القيم (739). (2) في الأصل: "ذاكر".
(7/45)
وأما الثاني، فشرع يذكر اسم الله، واسم غيره، بنحو ذلك. وأما الثالث، فشرع يأكل بدون ذكر. وأما الرابع، فموحِّد قد رأى وسمع صنيع أولئك الثلاثة، وحضر طعامه، وهو على عجل، فقال: باسم الله، أي: ذاكرًا اسم الله آكل، أي: أذكر اسم الله لهذه المطالب التي تقدمت ونحوها، ولا آكل بغير ذكر اسمه، ولا بذكر اسم غيره، ولا دونه ولا معه. غاية الأمر أنك قد تتردد في قوله: "أذكر اسم الله لجميع المطالب المناسبة للحال"، هل يقوم هذا مقام التفصيل، كأن يقول: اللهم لك الحمد على ما رزقتني، اللهم أعذني من الشيطان، اللهم هنئني طعامي، اللهم بارك لي فيه، اللهم اصرف عني ضرره، اللهم انفعني به، اللهم ... اللهم ... فنقول: لا بدع في أن يرحم الله عباده، ويخفف عنهم، فيقيم تلك الكلمة مقام تلك الكلمات كلها، وهذا هو الواقع، ولكن بلفظ "باسم الله". وبهذا عرف الجواب عن الأمر الثاني، فقد عرف من قرائن الحال، وقصد الشارع، وما ينويه المسلم= ما يتم به الكلام، كما تقولون أنتم: إن تقدير المعنى: مصاحبًا اسم الله، وإن القرينة تدل على التبرك. وأما الأمر الثالث؛ فقد علمت أنّ قولنا: "ذاكرًا اسم الله" قد صار من حيث الدلالة على الدعاء شبيهًا بقولهم: "متبرِّكًا باسم الله"، بل أوضح منه في ذلك وأجمع. وقد اعترض على تقديرهم بنحو ما ذكر في الوجه الثالث، فأجاب بعضهم بأنَّ ذلك خبر عن نفسه "قياسًا على ما قيل في قولك: أتكلم أنه يجوز أن يكون خبرًا عن تكلم حاصل بهذا القول".
(7/46)
والذي ارتضاه الصبَّان، وقرره البناني في "حواشيه على شرح جمع الجوامع" (1): أن قوله: "باسم الله أو متبركًا باسم الله" إنشاءٌ. قال البناني: "لصدق حد الإنشاء عليه، هو ما يتحقق مدلوله بذكر دالِّه فقط ... والتبرك لا يتحقق مدلوله بدون ذكر اللفظ الدال عليه". وقد نظر فيه بعضهم بما اشتهر أن الحال لا تكون إنشاء. والجواب: أنّ ذلك في الجملة الحالية، والإنشاء اللفظي، أي: أنَّ الجملة الحالية لا تكون إنشائية لفظًا، فلا يقع فعل الأمر مثلًا، أو الفعل المنقول إلى الإنشاء لإيقاع العقود مثل بعت وطلَّقت حالًا. فأما الإنشاء المعنوي فقط، فلا مانع من وقوعه حالًا مفردة، كقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [غافر: 14]، وجملة كقوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. ومن الأول قوله تعالى: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41]، وقد قدروه: "مسمِّين الله"، كما علمت، والمعنى: أمرهم بالتسمية عند الركوب. وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى. _________ (1) طبعة دار الفكر (1/ 3).
(7/47)
[48/ب] الفصل السادس إن قيل: لا يزال في النفس من كلمة "اسم" شيء، إذ قد يقال: فلو قيل: "بالله" على معنى "ذاكرًا الله"، لكان أخصر. والجواب: أنه لو قيل: "بالله" لما ظهر ذاك المعنى، بل يكون الظاهر حينئذٍ أن المعنى: بقدرة الله آكل. فإن قيل: قد يدعى دلالة القرائن على أن المعنى: "بذكر الله". قلت: ليست القرائن بغاية القوة حتى تكفي لدفع ذاك المعنى الظاهر: "بقدرة الله آكل"، وإنما كانت كافية في "باسم الله" بتقدير (1) احتمال ذاك المعنى، أعني بتقدير القدرة. فإن قيل: فلم لم يقل: "بذكر الله"؟ قلت: لو قيل ذلك لكان على تقدير: "بذكر اسم الله"، لأن الذكر هنا هو اللساني، وما دام على أصله، فإنما يقع على الاسم، إلا أنه كثيرًا ما يحذف الاسم لظهور المعنى، أو يضمن الذكر معنى المدح والتعظيم، كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 203]، أو الذم ونحوه كما في قوله تعالى فيما قصه عن قوم إبراهيم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] أي: يذكر الأصنام، أي: يتوعدها أو يذمّها. وقد جاء في القرآن الإثبات وعدمه، قال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ _________ (1) في الأصل: "تقدير".
(7/48)
تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]. {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25]. وقال عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} [آل عمران: 41]. {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف: 205]. فإن قيل: فكلٌّ من لفظ "ذكر"، ولفظ "اسم" إذا اقتصر عليه، اقتضى تقدير الآخر، فلماذا أوثر "باسم الله" على "بذكر الله" هنا، وعكس في مواضع مثل قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]؟ قلت: لكل مقام مقال، فقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} المراد بالذكر: الصلاة والخطبة، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، والجزء هو الذكر، لا نفس الاسم. والمقصود في التسمية على الأكل ونحوه: هو أن يقع من الإنسان كلام هو في نفسه ذكر، و "باسم الله" أدلُّ على ذلك من "بذكر الله"، ولأنه دار الأمر بين أن يترك لفظ "ذكر" أو أن يترك لفظ "اسم"، والأولى في مثل هذا حذف "ذكر". أما أولًا: فلأن الأصل "ذكر اسم الله" والمعروف في الحذف هو حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. وعليه، يبقى لفظ الجلالة على أصله. ولو قيل: "بذكر الله" لكان المعنى أن لفظ "اسم" حذف، وأقيم لفظ الجلالة مقامه، والتنازع إنما كان بين لفظي ذكر واسم؛ فلأن يحذف أحدهما ويقام الآخر مقامه أولى من أن يحذف أحدهما ويقام لفظ ثالث مقامه. وأما ثانيًا: فلأن ذكر الاسم ينحل إلى شيء من الإنسان، وهو الذكر، وشيء لله عز وجل، وهو الاسم، فاطراح الأول أولى.
(7/49)
وأما ثالثًا: فلأن باء المصاحبة في "باسم الله" بمنزلة العوض عن لفظ "ذكر"، لما مر أن التقدير يكون: "مسميًا الله"، والتسمية هنا هي ذكر الاسم، فيكون التقدير: "ذاكرًا اسم الله". ولو قيل: "بذكر الله" لما كان هناك ما يكون بمنزلة العوض عن لفظ "اسم". وأما رابعًا: فلأنه ــ كما تقدم ــ يقصد بالتسمية الرد على المشركين، فلو قيل: "بذكر الله" لكان المتبادر الرد على من يذكر غير الله تعالى، أي من الذوات، فلا يظهر منه الرد على من يذكر من المشركين أسماء لا مسمى لها، كما تقدم، بخلاف "باسم الله" فإن فيها إشارة إلى ذلك. ولنكتف بهذا القدر، فإن أمثال هذه الأسئلة لا نهاية لها، ولا ينبغي التشاغل بها إلا بما هو كالأنموذج مما يكون إيراده ظاهرًا. والله أعلم.
(7/50)
[49/أ] الفصل السابع قد ينطق بالمتعلق، فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم (1) من حديث أبي سعيد: أن جبريل (2) أتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: "يا محمد اشتكيت؟ فقال: نعم. قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك". والأولى في هذا الموضع أن تكون الباء للإلصاق، على تضمين "أرقيك" معنى "أستشفي لي (3) "، فكأنه قال: أسأل الله باسمه أن يشفيك. وسؤال الله تعالى باسمه وارد كما في الدعاء النبوي: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك ... " (4). ويجوز أن تكون للاستعانة، على معنى: أرقيك بذكر اسم الله، فإن الرقية تكون بالكلام، كما تقول: أرقيك بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ... }. وتقرأ السورة. وفي "صحيح مسلم" (5) أيضًا من حديث عائشة قالت: "كان إذا اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقاه جبريل، قال: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن _________ (1) في كتاب السلام، باب الطب والمرض والرقى (2186). (2) في الأصل: "جبر". (3) كذا في الأصل، ولعل المقصود: لك. (4) أخرجه أحمد (6/ 246) برقم 3712 وغيره. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 136): رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. (5) في كتاب السلام، باب الطب والمرض والرقى (2185).
(7/51)
شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين". وسند حديث أبي سعيد أثبت. وقوله في هذا: "بسم الله يبريك" يحتمل أن المتعلق محذوف، والتقدير: "باسم الله أرقيك، هو يبريك" ليوافق الرواية الأولى. ويحتمل غير ذلك. وقد تقدم في الفصل الثالث دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عند النوم: "اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت" (1). وتقدم أن المراد بالحياة والموت فيه: اليقظة والنوم، ومعنى الباء المصاحبة، على ما قدمناه، أي: ذاكرًا اسمك أُتِمّ يقظتي، وذاكرًا اسمك أنام، أي: أذكر اسمك لكل ما يهمني في يقظتي ونومي. وفي حديث آخر: "باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه" (2). والمعنى أيضًا: ذاكرًا اسمَك ربِّي وضعتُ جنبي. وأما قوله: "وبك أرفعه" فالمعنى ــ والله أعلم ــ: وبمشيئتك أرفعه. وقد جاء في رواية: "بك وضعت جنبي" وهو من تصرف الرواة. وبقيت أحاديث غير هذه، فينبغي أن يفسَّر كلٌّ منها بما هو الظاهر فيه، ولا ملجئ إلى تكلف جعل الجميع على وتيرة واحدة. _________ (1) سبق في (ص 37). (2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، بعد باب التعوذ والقراءة عند المنام (6320) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم (2714) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7/52)
مهمة جاء من حديث عائشة وغيرها فيمن نسي أن يسمِّي أول طعامه أنه ينبغي له أن يقول حين يذكر: "باسم الله أوله وآخره" (1). ولم أر من تعرض لتوجيهه، والذي يظهر لي أن "بسم الله" على أصلها، والمعنى: ذاكرًا اسم الله آكل. وقوله: "أوله وآخره" ظرف، والتقدير: أقولها أوله وآخره، أي: قضاءً لقولها أوله، وأداءً لقولها آخره. والله أعلم. _________ (1) حديث عائشة أخرجه الترمذي (1920) وأبو داود (3767) وابن ماجه (3264) كلهم في كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(7/53)
[49/ب] الفصل الثامن {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هما اسمان مشتقان من الرحمة، وقد كثر الكلام فيهما، والذي يتلخص لي أنهما اسمان مشتقان من الرحمة، يدلَّان على المبالغة، إلا أن "الرحمن" اشتق من (رحم) معتبرًا فيه اللزوم، حملًا له على ضدِّه: "خشي". قال سيبويه: وأما خشيتُه، فأنا خاشٍ، والقياس خشٍ، فالأصل أيضًا: خشيت منه، فحمل على رحِمْتُه، حملَ الضدِّ على الضدِّ. ولهذا جاء الفاعل منه على خاشٍ والقياس: خشٍ، لأن قياس صفة اللازم من هذا الباب "فَعِل". وكذا كان قياس مصدره "خَشىً"، فقيل: خشية، حملًا على رحمة (1). أقول: وقد عرف من عادتهم أنهم إذا حملوا لفظًا على آخر في شيء عادوا فحملوا الآخر عليه في شيء آخر. فلما حملوا "خشي" على "رحم" في تعديته بنفسه، وفي صيغة الصفة منه، والمصدر = عادوا فحملوا "رحم" على "خشي" في اعتباراته كأنه لازم حتى اشتقوا منه صيغة فعلان، فقالوا: رحمان، كما قالوا: رجل خشيان. ولا يلزم من حمل اللفظ على اللفظ حمله عليه في كل شيء. _________ (1) هذا النص منقول من "شرح شافية ابن الحاجب" للرضي (1/ 73). ولفظ سيبويه في "كتابه" (4/ 19): "وقالوا: خشيتُه خَشْيةً وهو خاشٍ، كما قالوا: رحِمَ وهو راحِم، فلم يجيئوا باللفظ كلفظ ما معناه كمعناه، ولكن جاؤوا بالمصدر والاسم على ما بناءُ فعله كبناء فعله".
(7/54)
هذا، وصيغة "فعلان" فيها مبالغة، فإن من مواقعها عندهم أن تكون من المواد التي تدل على الامتلاء، مثل شبعان، وريّان. ثم قد يعتبرون الامتلاء المعنوي، فتجيء المبالغة، وذلك في قولهم: غضبان، وقد قالوا: غضب كفرح. ومن قواعدهم أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، فغضبان أبلغ من غَضِب. وقال الصغاني: "امرأة خشيانة: تخشى كل شيء" (1). وذاك هو المبالغة. _________ (1) "التكملة والذيل والصلة" (6/ 408).
(7/55)
فصول ملحقة (1) [ل 55/أ] فصل [تعجرُف المشركين في اسم "الرحمن"] وقع من مشركي قريش تعجرُفٌ في شأن الاسم الكريم "الرحمن". قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]. أخرج ابنُ جرير وغيره (2) عن ابن عباس قال: صلَّى [رسولُ] (3) الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى، فقال في دعائه: يا اللهُ، يا رحمنُ، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ! ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين! وفي "الصحيحين" وغيرهما (4) عنه قال: نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مختفٍ بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن. فإذا سمع ذلك _________ (1) الفصول الآتية مأخوذة من مسودة أخرى للمصنف في تفسير البسملة. انظر: مقدمة التحقيق. (2) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (9/ 461) إلى ابن جرير وابن مردويه. والمصنف صادر عن "روح المعاني" (8/ 180). وانظر "تفسير الطبري" (15/ 123). (3) زيادة لازمة. (4) البخاري (4722)، ومسلم (446).
(7/56)
المشركون سبُّوا القرآن، ومَن أنزله، ومَنْ جاء به. فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -: {وَلَا تَجْهَرْ}. وفي بعض الآثار: كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان مسيلمة قد تسمَّى الرحمنَ، فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قالوا: قد ذكر مسيلمة [إله اليمامة، ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير، فأنزل الله تعالى هذه الآية] (1) أخرجه ابن أبي شيبة كما في "روح المعاني" (2). وقال تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]. في "روح المعاني" (4/ 185) (3): "وعن قتادة وابن جريج [ومقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية. وقد كتب فيه عليٌّ كرَّم الله تعالى وجهه: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة] (4). _________ (1) ما بين الحاصرتين مكانه في الأصل نقاط، ولعل المصنف أجَّل تكملة كتابة الأثر لحين التبييض. (2) "روح المعاني" (8/ 183). وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن سعيد (1884). (3) طبعة دار الكتب العلمية (7/ 145). (4) ترك المصنف هنا بياضًا في الأصل فأكملناه من مصدره. وانظر الأثر في "تفسير البغوي" (2/ 531).
(7/57)
وقال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36]. وفي "روح المعاني" (5/ 358) (1): "وقيل: المراد بذكر الرحمن: ذكرُه - صلى الله عليه وسلم - هذا اللفظَ وإطلاقه عليه، والمراد بكفرهم به قولهم: ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة ... ". وفي "صحيح البخاري" في كتاب الشروط ــ باب الشروط في الجهاد إلخ (2): " ... فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاتب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل (أي ابن عمرو، وكان يومئذ مشركًا، وهو سفير المشركين للصلح): أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب .... ". وقد أشكل وجهُ هذا التعجرف، فقيل: إن القوم لم يكونوا يعرفون هذه الكلمة لا عَلمًا ولا وصفًا. وهذا مردود بأمور: الأول: أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أخبر عنهم بقوله في شأن عبادتهم الملائكة: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]. كما أخبر عنهم بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} _________ (1) طبعة العلمية (9/ 46). (2) برقمي (2731، 2732).
(7/58)
[الأنعام: 148] (1). وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. وفي "صحيح مسلم" وغيره (2) في قصة غزوة ذي قَرَد: أنَّ عبد الرحمن الفزاري أغار على إبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنَّه قتَل بعضَ الفرسان من الصحابة، ثم قتله أبو قتادة. فهذا الرجل كان مشركًا، والغالب أن يكون ولد قبل المبعث ثم قُتل مشركًا. [ل 55/ب] قال ابن جرير (3): وقد أُنشِد لبعض الجاهلية الجهلاء (4): ألا ضربت تلك الفتاةُ هجينَها ... ألا قضَب الرحمنُ ربِّي يمينَها قال: وقال سلامة بن جَندل الطُّهَوي (5): عجِلتم علينا عجلتَينا عليكم ... وما يشأ الرحمنُ يعقِدْ ويُطلق الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يجوز أن يخاطبهم بما لا يعرفون بنحو: _________ (1) تخريج الآية من المصنف. (2) "صحيح مسلم" (1807) وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (16518) وأبو داود (2754) وابن حبان (7173) وغيرهم. وانظر: "مفردات القرآن" للفراهي (187). (3) في "تفسيره" (1/ 131). (4) البيت للشنفرى. انظر: "الاشتقاق" لابن دريد (59) وروايته في "ديوانه" (40) خالية من الشاهد. (5) انظر: "ديوانه" (184) و"الأصمعيات" (152). وانظر شواهد أخرى في "مفردات القرآن" للفراهي (186 ــ 189).
(7/59)
{اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 60]. الثالث: أنَّ الله تعالى ذمَّهم على قولهم: "وما الرحمن". ولو كانوا غير عارفين معناه ما استحقُّوا الذمَّ. وقال الأكثر: إنَّ تعجرفهم من تعنُّتهم. وهذا هو الظاهر، ولكنه يحتاج إلى بيان. فأقول: قد أخبر الله تبارك وتعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. فبان بهذا أنَّ القوم لم يكونوا يراعون في معارضة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الإنصافَ ولا ما يقرب منه، بل إن تيسَّرت لهم شبهة قد ينخدع بها من لم يسمع كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بتمامه طاروا بها فرحًا، ورقصوا لها طربًا. وإن لم يتيسَّر لهم ذلك تشبثوا بمغالطة يعرفون بطلانها كأن يحملوا كلامه على ما يعرفون أنه غير مراده، ثم يلغَون بذلك، ويشنِّعون به، ويبنُون عليه. وكان يلذُّ لهم ذلك لعلمهم أنَّ ذلك يُحزن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يكاد يبخَع نفسَه ــ بأبي هو وأمي ــ لأنَّ الناصح الشفيق لا يُحزنه أن يعارضه المنصوح بشبهة قد يظنها المنصوح حقًّا، كما يُحزنه أن يشغب عليه بمغالطة يعرف الشاغبُ نفسه بطلانها، ولاسيما إذا نسب إلى الناصح ما ينافي نصحه، ولكن القوم ــ كما هو متواتر عنهم ــ لم يبلغوا في الوقاحة إلى درجة المكابرة المكشوفة أو الكذب المكشوف. إذا تقرر هذا، فالظاهر أنَّ بعض سفهائهم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا الله، يا رحمن"، كما في الأثر السابق أو نحو ذلك، فأوحى الشيطان إلى ذلك
(7/60)
السفيه أن يشغب بأنَّ معنى ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو إثباتُ أنَّ الرحمن إله آخر غيرُ الله عزَّ وجلَّ، فأخذها منه السفهاء ولَغَوا بها. وأكثرهم يعلم حقيقة الحال، ولكنَّ مقصودَهم الغلَبُ بأيِّ وجه كان، كما أخبر الله تعالى عنهم لما قيل لهم: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} بنوا على ذلك الشغب المتقدم، فقالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} زاعمين أنه قد عُرِف عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه يعني بالرحمن إلهًا غير الله، وأنهم لا يدرون ما ذلك الإله. ثم صاروا يشغبون ويستهزئون كلَّما سمعوا من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كلمة "الرحمن" زاعمين أنه قد عُرِف عنه أنه يعني بها غير الله. وكان مما يغيظهم من هذا الاسم وقوعُه في البسملة المخالفة لتسميتهم. فإنهم كانوا يقولون في أوائل كتبهم ونحوها: "باسمك اللهم"، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فيقولون في أنفسهم: إنَّ هذا الرجل إنما يريد خلافنا، هَبْه اضطُرَّ إلى مخالفتنا في عبادة غير الله تعالى لأنه يراها باطلًا، فما باله يخالفنا في هذه الكلمة التي مضى عليها سلفُنا، وليس في معناها شيء ينكره محمد، وهي: "باسمك اللهم"! فمخالفته لنا ولسلفنا فيها دليل ظاهر على أنه يحبُّ خلافَنا وهدمَ كلِّ ما نحن عليه، وإن كان يعلم أنه حقٌّ. وهذه شبهة من شبههم تؤثِّر على من لم يكثُر منهم سماعُ القرآن أو سماعُ كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فأمر الله تبارك وتعالى رسوله أن لا يجهر في صلاته بأصحابه بقراءته، ولاسيما ما كان فيه ذكرُ الرحمن، ولاسيما البسملة التي يشتدُّ إنكار المشركين بها. وذلك لئلا يسمعوه، فيلغَوا، وينغِّصوا عليه وعلى أصحابه صلاتهم.
(7/61)
ويظهر أنَّ هذا أصلُ مشروعية الإسرار بالبسملة في الصلاة، بقيتْ على رأي من يقول بذلك، كما بقي الرمل والاضطباع في الطواف وغيره من الأعمال التي شُرعت لمعنًى، ثم زال ذلك المعنى، وبقيت لحِكَمٍ أخرى، منها: تذكير المسلمين بما كان عليه أول هذا الدين. [ل 56/أ] وأما ما في "الصحيح" من كلام سهيل بن عمرو، فقد اختلفت الروايات في حكاية قوله. والذي عند ابن إسحاق عن الزهري في هذه القصة: "ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم". قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا. ولكن اكتب "باسمك اللهم" (1). فظاهر هذا مع ما تقدَّم أنَّ سهيلًا إنما أنكر البسملة لمخالفتها ما مضوا عليه من قولهم: "باسمك اللهم". وقوله: "لا أعرف هذا" يعني أنَّ السنة التي نعرفها هي: "باسمك اللهم". و"بسم الله الرحمن الرحيم" غير معروفة عندهم، أي غير معروف الابتداء بها. فأما ما وقع في "الصحيح" من قوله: "أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي" (2) ربما يكون من الرواية بالمعنى، كأنَّ بعض الرواة فهم أنَّ إنكار سهيل _________ (1) "سيرة ابن هشام" (2/ 317). وقد وضع المصنف تخرجة بعد كلمة "هذا" وكتب في الحاشية: "وصله في مسند أحمد (4/ 325) ". وهو برقم (18910) في طبعة الرسالة. أخرجه من طريق يزيد بن هارون عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم. (2) "فتح الباري" (5/ 331).
(7/62)
لـ "بسم الله الرحمن الرحيم" إنما هو لما عُرِف عنهم من الشغب في هذا الاسم الشريف "الرحمن". ويحتمل أن يكون من إطلاق الجزء وإرادة الكل. أُطلق "الرحمن"، وأُريد البسملة كلها. وقد يشهد له قوله: "ما هي" كما في أكثر روايات "الصحيح" وأوثقها. وما وقع في بعض الروايات "ما هو" من تصرُّف الرواة (1). ظنَّ أنَّ الضمير [عائد] على الاسم "الرحمن" بمعناه الحقيقي. والحديث في "الصحيح" من رواية عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق، فوقع في نسخة المسند المطبوعة (4/ 330) (2): "فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو. وقال ابن المبارك: ما هو". كذا، والظاهر أن الأولى: "ما هي". وهي [رواية] (3) عبد الرزاق عن معمر. وتكون رواية ابن المبارك عن معمر: "ما هو". ورواية عبد الرزاق أثبت؛ لأنه لزم معمرًا، وسمع من كتبه. وسماعُ [ابن] (4) المبارك من معمر كان من حفظه كما يعرف من ترجمة معمر. وقوله: "فوالله لا أدري ما هي" ــ يريد والله أعلم البسملة ــ محملُه: أنه لا يدري أينبغي أن يصدَّر بها الكتب أم لا، أو أحقٌّ هي أم باطل. _________ (1) "فتح الباري" (7/ 502). (2) وكذا في طبعة مؤسسة الرسالة (31/ 249) برقم (18928). (3) زيادة لازمة. (4) ساقط من الأصل.
(7/63)
وبالجملة، فالظاهر أنَّ سهيلاً إنما أنكر البسملة، والله أعلم. وأما ما في بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة (1)، فإن صحَّ فمرادهم: لا نعرف الرحمن الذي هو غير الله. _________ (1) رُوي ذلك عن مجاهد عند ابن المنذر ــ كما في "الدر المنثور" (9/ 514 - 515) ــ، وعن عطاء عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2715).
(7/64)
فصل [اختصاص "الرحمن" بالله تبارك وتعالى] اشتهر بين أهل العلم أنَّ "الرحمن" مختصٌّ بالله تبارك وتعالى، فاعتُرض بإطلاق أهل اليمامة على مسيلمة، فأجيب بأنَّ ذاك من تعنُّتهم في كفرهم، فتوهَّم بعضُ الناس أنَّ معنى الاختصاص أنَّ الله تعالى منع بقدرته التسمِّيَ فلا يستطاع أن يسمَّى به غيرُه، كما قيل به في "الله". وتوهَّم غيرُه أنَّ المعنى أنه لم يُطلَق في لغة العرب على غيره، فاعترضوا ذاك الجواب وطوَّلوا. وإنما معنى الاختصاص ما قاله ابن جرير (1): "لله جلَّ ذِكرُه أسماءٌ قد حرَّم على خلقه أن يتسمَّوا بها، خصَّ بها نفسه دونهم، وذلك مثل الله والرحمن والخالق. وأسماءٌ أباح لهم أن يسمِّي بعضهم بعضًا بها، وذلك كالرحيم والسميع والبصير ... ". وقد كان ذلك محرَّمًا قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بما قام على الناس من الحجة وبلغهم من شرائع الأنبياء من وجوب تعظيم الربِّ عزَّ وجلَّ والتأدُّب مع أسمائه وصفاته. فقد علم أهل اليمامة أنَّ "الرحمن" اسم لله عزَّ وجلَّ، وأنه لم يتسمَّ به غيرُه ممن سبق، فصار بذلك مختصًّا به. فإقدامُهم مع ذلك على التسمية به مخالفٌ لما قامت عليهم الحجةُ به من وجوب تعظيم الله عزَّ وجلَّ. فذاك معنى التعنُّت في كفرهم. _________ (1) في "تفسيره" (1/ 133).
(7/65)
وأما المنع، فقال ابن جرير (1): " ... ثم ثنَّى باسمه الذي هو الرحمن، إذ كان قد منع أيضًا خلقَه التسمِّي به ... ". _________ (1) المصدر السابق.
(7/66)
[ل 56/ب] الرحمة العرب بلسانها وفطرتها تعرف معنى الرحمة، وتصف بها الخالق عزَّ وجلَّ مع علمها بأنه سبحانه ليس من جنس البشر ولا غيرهم من الخلق. وجاء الكتاب والسنة مملوئين بوصف الرب تعالى بالرحمة. وجاء أول كتابه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وسمَّى نفسه: الرحمن، الرحيم، الرؤوف، أرحم الراحمين. ولم يشتبه معنى ذلك على أحد من العرب، ولا شكَّ فيه أو تأوَّله أحد من الصحابة والتابعين، فثبت أنَّ وصفَ الله تبارك وتعالى بالرحمة على ما يفهمه الناس بفِطَرهم حتى لا يجوز أن يرتاب فيه مؤمن بالله وكتبه ورسوله. ولكن كثيرًا من الناس أبوا ذلك، وقالوا: "الرحمة" لغةً: رقَّة القلب، كما فسَّرها بذلك أهل اللغة، وهذا مستحيل في حقِّ الله تبارك وتعالى. والمتكلمون يعرِّفونها تعريفًا يُعلم منه أنها مستحيلة في حق الله تبارك وتعالى، فلابد من تأويل الرحمة إذا وُصِف بها الرب عزَّ وجلَّ بالإحسان أو إرادته. فيقال لهم: أما تفسيرها برقة القلب فهو تفسير غير محقَّق، وإنما رقة القلب كناية عن الرحمة. وإنما فسَّرها بذلك المتكلِّفون من أهل اللغة وغيرهم، فإنَّ معنى الرحمة أظهر من أن يحتاج إلى تفسير. ولذلك لم يتعرَّضْ لها الأوائل كابن جرير وغيره. وهذه الألفاظ الواضحة المعنى إذا تكلَّف الإنسان تفسيرَها وقع غالبًا في التخليط؛ على أننا نعلم أنَّ أهلَ اللغة ولاسيما المتأخرين منهم يتسامحون كثيرًا في تفسير الألفاظ.
(7/67)
ونحن نجد من بقي على الفطرة من العرب يصفون الرجل بالرحمة مع ذهولهم عن القلب ورقَّته، ويصفون الربَّ عزَّ وجلَّ بالرحمة ولا يتصورون له قلبًا ولا رقَّةَ قلب. وأما تفسير المتكلمين إياها، فينظر فيه، فإن كان ظاهر الاختصاص بالمخلوق فهو تفسير لرحمة المخلوق فقط. والمعنى المطلق إذا فُسِّر باعتبار تقيُّده كان التفسير مقيَّدًا. ولا ينافي ذلك ثبوتَ الرحمة لله عزَّ وجلَّ بغير ذاك التفسير المقيَّد. وإن كان تفسيرًا مطابقًا للرحمة المطلقة على الحقيقة فلابد أن يكون ثابتًا لله تبارك وتعالى. وأما تأويلكم إياها بالإحسان أو إرادته، فمردودٌ عليكم. فإننا نعلم أنَّ العرب الذي سمعوا القرآنَ وصحبوا النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كانوا يفهمون من رحمة الله عزَّ وجلَّ معنًى وراء ذلك. فإن قلتم: وما هو؟ قلنا: هو الرحمة. فإن قلتم: وما هي الرحمة؟ قلنا: إن كنتم تعرفون العربية حقَّ معرفتها، فسؤالُكم تعنُّت؛ وإلا فأخبرونا: أيَّ لسانٍ تتقنونه حتى ننظر من يترجم لكم به! فإن قلتم: نحن نعرف اللسان المنطقي الذي يفسِّر بالحدِّ المبني على الجنس والفصل، كقولنا في الإنسان: حيوان ناطق. قلنا: قولكم هذا رأس مالكم في الحدود، وليس هو عندكم حدًّا صحيحًا، وقد ملأتم الكتب بالاعتراضات عليه والأجوبة! ومع ذلك فهو بألفاظ عربية، والعربي يفهم المقصود بالإنسان أوضحَ مما يُفهِم قولُكم: "حيوان ناطق".
(7/68)
فكذلك الرحمة المطلقة، لو حاولنا أن نحُدَّها بمنطقكم فقد لا يتأتَّى، وإن تأتَّى فقد يحتمل المناقشات. ولو سلِمَ لكان أخفى في الدلالة على المعنى من لفظ الرحمة! وأنتم تسمُّون الحدَّ: "القول الشارح"، والشرح إنما يُحتاج إليه فيما ليس بالواضح، وإنما يكون بأوضح من المشروح، ومعنى الرحمة بيِّن بنفسه. فإن أبيتم وقلتم: قلوبُنا غُلْف عن فهم الرحمة حتى تحدُّوها لنا حدًّا منطقيًّا. قلنا: فدعوها لأهلها، وهم المؤمنون بها! وهذا آخر الكلام معكم هنا. والله المستعان.
(7/69)
مسألة اختلف الناس في البسملة، فقال بعضهم: هي آية من الفاتحة. وقال بعضهم: ليست من نفس السورة، وإنما هي آية نزلت للفصل بين السور. وتفصيلُ الأقوال وحججها (1) وبيانُ الراجح منها، له موضع آخر. وإنما أذكر هنا الحجج التي من نفس النظم الكريم، فأقول: مما احتج به النفاة على أنها ليست آية من الفاتحة بأنها لو كانت منها لكان الظاهر أن يقال: "والحمد لله رب العالمين" بالعطف؛ وبأن فيها "الرحمن الرحيم"، ثم جاء هذان الاسمان في الفاتحة. ومثل هذا التكرار إنما يقع في السورة الواحدة بعد فصلٍ بكلام تكون فيه مناسبة لذلك. فأما الحجة الأولى فليست بقائمة؛ لأنَّ للوصل شروطًا لم تجتمع هنا، واذكر قول الله عزَّ وجلَّ: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [المؤمن: 65] (2)، وقوله فيما أخبر به من دعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي} الآية [سورة إبراهيم: 38 ــ 39] (3)، وقوله تعالى فيما أخبر به عن بلقيس: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 ــ 31]. _________ (1) في الأصل: "حجاجها"، وكذلك فيما بعد: "الحجاج التي". وهو من سبق القلم. (2) تخريج الآية من المصنف. والمقصود سورة غافر، وكذا اسمها في المصاحف الهندية. (3) هذا التخريج أيضًا من المصنف.
(7/70)
وأما الحجة الثانية، فإن ابن جرير مع أنه يرى أن البسملة ليست من الفاتحة حكاها متبرِّئًا منها (1). وهي أيضًا غير سديدة، إذ قد يقال: إن الاسمين الكريمين ذُكِرا في البسملة تقريرًا لاستحقاق الله عزَّ وجلَّ البداءةَ باسمه، وإشارةً إلى حصول مطالب المبتدئ التي تقدمت الإشارة إليها. وذُكرا بعد الحمد لما يأتي. وقد حكى ابن جرير عن المحتجين أنهم يزعمون أن أصل التركيب: الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله (2). ولو صح لما أفادهم؛ لأن الاسمين الكريمين بعد الحمد لله على كل حال. _________ (1) "تفسير الطبري" (1/ 146). (2) انظر ما يأتي في تفسير سورة الفاتحة (ص 93).
(7/71)
الرسالة الثانية في تفسير سورة الفاتحة
(7/73)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " [ل 57/أ] {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ذكر ابن جرير وغيره (1) أن هذا تعليم من الله تعالى لعباده، فكأنه قيل: قولوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. فعلى المسلم إذا تلا الفاتحة أن يستحضر أنه مع تلاوته كلامَ الله عزَّ وجلَّ متكلمٌ عن نفسه، كما علَّم اللهُ نبيَّه بقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "رب زدني علمًا" (2). وينوي بضمير المتكلم نفسه. وإذا قالها غيره نوى بضمير المتكلم نفسه. ولا خلاف بين أهل العلم في هذا. وإنما استشكل بعضهم ثبوت كلمة "قل" في أول الإخلاص والمعوِّذتين في القراءات المتواترة، إذ قد جاء عن بعض الصحابة تركُها، فكانوا يقرؤون: "بسم الله الرحمن الرحيم، هو الله أحد" (3). وأجاب الماتريدي بأنَّ "قل" في ذلك أمرٌ لكل أحد (4)، وعلى هذا فينبغي للتالي أن يستحضر أن كلمة "قل" أمرٌ من الله عزَّ وجلَّ له بقول ما يأتي، ثم يقول: "أعوذ برب الفلق" إلى آخرها عن نفسه. _________ (1) "تفسير الطبري" ــ شاكر (1/ 139). وانظر: "معاني القرآن" للنحاس (1/ 23)، و"تفسير البغوي" (1/ 4) و"القرطبي" (1/ 209). (2) أخرجه ابن ماجه (251) والترمذي (3599) من حديث أبي هريرة. (3) انظر ما سبق في أول رسالة البسملة. (4) ومصدر المؤلف: "روح المعاني" للآلوسي (15/ 511).
(7/75)
وقيل: بل ينبغي أن يستحضر أنه مأمور بأن يقول: "قل أعوذ" أي قل لنفسك: قل. فيستحضر بقوله: "قل" أنه يأمر نفسه (1). وهذا بعيد، والأول هو الظاهر. ويؤيده ما صحّ عن أُبي بن كعب أنه سُئل عن المعوذتين، فقال: "سألت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: "قيل لي، فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". كذا أخرجه البخاري في تفسير سورة الفلق (2). وقد أخرجه الإمام أحمد وغيره (3). وفي بعض الروايات: "قيل لي: قل، فقلت، فقولوا. فنحن نقول" إلخ (4). وواضح أن التقدير: "قيل لي: قل أعوذ إلخ، فقلت: أعوذ إلخ، فقولوا، أي فليقل كل أحد منكم: أعوذ إلخ. والجمع بين هذا وبين قراءة "قل" هو ما قدَّمت، والله أعلم. فأما الفاتحة، فلا إشكال فيها. قال ابن جرير (5): "لدخول الألف واللام في "الحمد" معنًى لا يؤديه قول القائل: "حمدًا" بإسقاط الألف واللام. وذلك أن دخولها (6) في "الحمد" مبني على (7) أن معناه: جميع المحامد". _________ (1) "روح المعاني" (15/ 511). (2) برقم (4977) (3) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (21189) والنسائي في "الكبرى" (11653) وابن حبان (4429) وغيرهم. (4) "الدر المنثور" (15/ 784) والمصنف صادر عن "روح المعاني" (15/ 517). (5) في "تفسيره" ــ شاكر (1/ 138). (6) في الأصل: "دخولهم" سبق القلم. (7) كذا في مطبوعة التفسير التي كانت بين يدي المصنف. والصواب: "منبئ عن" كما أثبته الأستاذ محمود شاكر.
(7/76)
وهذا معنى ما يقوله النحاة وغيرهم أن "أل" للاستغراق وأنها هي التي يصلح محلَّها "كُلّ"، كما في قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، أي خُلِق كلُّ إنسان. ولذلك يصح الاستثناء من مدخولها (1)، كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2 ــ 3]. فالمعنى إذن: كلُّ حمدٍ. وقد روي عن ... (2). والحمد: مصدر حمِد يحمَد. ويأتي في اللغة نفسيًّا وقوليًّا. أمَّا النفسي، فكقولك لمن أهدى إليك عسلًا: طعمتُ من عسلك، فحمدتُه؛ ولمن أعطاك دواءً: استعملتُ دواءك، فحمدتُه. وتقول: جالستُ فلانًا، فحمدته. وقال الراجز (3): عند الصباح يحمد القومُ السُّرَى وأهل اللغة يفسرون هذا بالرضا والموافقة ونحو ذلك، وذلك تقريب. ولم أظفر بكلمة تؤدي معناه، ولكني أقول: إن معنى "حمدتُ العسل": رضيتْه نفسي، واستلذَّتْه، واستطابته، واستجادته. ثم في كل شيء بحسبه، إلا أنَّ هنا فرقًا لطيفًا، وهو أنّ الظاهر أن المزكوم إذا شَمَّ الوردَ الجيَّد فضَرَّه، والمريضَ إذا ذاق الطعامَ الجيِّدَ _________ (1) في الأصل: "مدخولهم"، سهو. (2) في الأصل بياض بقدر ثلاثة أسطر تقريبًا. (3) قال المفضل: إن أول من قال ذلك خالد بن الوليد. وذكر الخبر. انظر: "مجمع الأمثال" (2/ 318) وذكر أبو عبيد أن المثل للأغلب العجلي. وقيل: للجليح الثعلبي. انظر: "فصل المقال" (254، 334). و"ديوان الشماخ" (384).
(7/77)
فتكرَّهه؛ لا يحسن به أن يقول: شممتُ الوردَ، فلم أحمده؛ ولا ذقت ذاك الطعام، فلم أحمده. فكأنه يشرط مع رضا النفس واستلذاذها واستطابتها واستجادتها أن يكون ذاك الشيء في نفسه أهلًا لذلك. فإذا انتفى أحد الأمرين لم يحسن أن يُطلق الحمدُ، فتدَّبرْ. فكأنَّك إذا قلت: طعمتُ من ذاك العسل، فحمدتُه؛ تقول: رضيته نفسي، واستطابته، وهو حقيق بالرضا والاستطابة عند النفوس السليمة. وأما القوليُّ، فمنهم من يفسِّره بالشكر وبالثناء وبالمدح. وأكثر المتأخرين يقول: إنه يوافق كلًّا من هذه في شيء، ويفارقه في شيء. وأطالوا في ذلك. والذي نختاره أنَّ حمدَك لزيد مثلًا هو ثناؤك عليه (1) بذكر صفة له أو فعل تحمده القلوب السليمة والعقول المستقيمة. فالحمد النفسي واللساني مرتبطان، وكأنَّ الأصل هو النفسي، والمراد هنا إن كان ما يشملهما فذاك، وإن كان أحدهما فالآخر لازم له، لأن المعتَدَّ به من الحمد القولي هو ما طابق النفسيَّ. فإذا كان النفسيُّ كلُّه لله لزم أن يكون القولي كذلك. والحمد النفسي قد عُبِّر عن الكثير منه بالقول، وباقيه معرض لذلك، فإذا كان القوليُّ كلُّه لله لزم أن يكون النفسيُّ كذلك. على أنه إن كان المرادُ القوليَّ، فالمراد به ما كان، وما يكون، وما يمكن أن يكون. فيدخل في ذلك ما هو مقدر من الحمد على ما لم يعلمه الخلق، ولو علموه لحمدوه رضًا وقولًا، والحمد المقدر بما لم يعلموه [ل 3/ب]، ولو علموه لحمدوا به. _________ (1) في الأصل: "عليك"، سهو.
(7/78)
وأيًّا ما كان، فإنه يستلزم الحمد الفعلي، وهو فعل يقوم في الدلالة على الحمد النفسي مقامَ الحمد القولي كالتعظيم. ويستلزم أيضًا الحمدَ الحاليَّ، وهو كون الشيء على حال تدل على الحمد. وما من موجود إلا وهو على حال تنبئ عن حمد الله تعالى. وقد قيل: إن هذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وسيأتي تمام هذا إن شاء الله تعالى. واللام في {لِلَّهِ} للاستحقاق، والجملة تفيد القصر، كما تقرر في علم المعاني. والتقدير: الحمد أي كل حمد أو جميع المحامد مستحَقٌّ لله دون غيره. وعبارة ابن جرير (1): " {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي الشكر خالصًا لله جل ثناؤه، دون سائر ما يُعبد من دونه، ودون كل ما يرى (لعله: برأ) (2) من خلقه". والحاصل أن الجملة مع إثباتها استحقاقَ الحمد لله عزَّ وجلَّ تنفي أن يكون لغيره دونه أو معه. ثم أقام الله تعالى الحجة على ذلك بقوله: " {رَبِّ الْعَالَمِينَ} و"الرَّبُّ" هنا بمعنى المالك المدبِّر التدبيرَ التامَّ، لا كما يرى أحدنا شجرةً يغرسها أو سَخْلةً ينتجها، فإنَّ أحدنا عاجز عن تمام التربية، إذ لا يعلم بكل ما يصلح للتربية، ولا يقدر على كل ما يعلم. والله عزَّ وجلَّ هو اللطيف الخبير الملك القدير. _________ (1) في "تفسيره" (1/ 135). (2) هو الصواب، و"يرى" تصحيف.
(7/79)
و"العالمين": جمع أو اسم جمع لِعالَم (1). وجاء عن بعض السلف أنَّ المراد بهم الإنس، على أنَّ كل صنف منهم عالَم، وكل قَرْن منهم عالَم. وعن جماعة من السلف قالوا: الجنُّ والإنس، على نحو ما تقدَّم. وقال غيرهم: الجنّ والإنس والملائكة. وقال آخرون: بل كلُّ صنفٍ من أصناف الخلق. أخرج ابن جريرُ (2) عن ابن عباس قال: "الحمد لله الذي له الخلقُ كلُّه: السماواتُ كلهن ومن فيهن، والأرض كلهن ومن فيهن، وما بينهنَّ مما يُعلَم ومما لا يُعلم". وهذا هو الظاهر المناسب للسياق، كما لا يخفى. وإذ كان سبحانه وتعالى هو ربَّ العالمين، فإنَّ كل حمد يقع في العالمين فهو سبحانه وتعالى المستحقُّ له. فإذا كان مثلًا يُحمد العسلُ لحلاوتِه ونفعِه وغير ذلك، فالمستحقُّ للحمد هو الذي خلَقَه وهيَّأه وأقدرَه ويسَّرَه. وهاهنا إشكالان (3): الأول: أن يقال: قد أثنى الله تبارك وتعالى على بعض خلقه، وأمرهم بالثناء على بعضهم، وكان الأنبياءُ يثنون على بعض الخلق؛ فإذا كان لا _________ (1) "روح المعاني" (1/ 81). (2) في "تفسيره" (1/ 144) وانظر الأقوال السابقة فيه، وفي "زاد المسير" (1/ 12) وغيرهما. (3) وسيذكر إشكالًا ثالثًا ويجيب عنه.
(7/80)
يستحقُّ شيئًا من الحمد إلا اللهُ عزَّ وجلَّ لزم أن يكون ذلك الثناءُ باطلًا؛ لأنه حمدٌ لمن لا يستحقُّه. وقد ظهر لي جوابان: الأول: أن يقال: إن الثناء على المخلوق هو في الحقيقة ثناء على الخالق، كما أنَّ الثناء على العسل بالحلاوة والنفع ونحو ذلك هو في الحقيقة ثناءٌ على الخالق الذي جعله كذلك. أو لا ترى أنَّ الثناء على الخط بالحسن والإتقان إنما هو ثناء على كاتبه؟ فكذلك الثناء على الكاتب إنما هو ثناء على ربِّه الذي خلقه ويسَّره وعلَّمه وأقدَره. هذا حكم الثناء في ذاته. فأما الأجر والثواب فإنه يتوقف على النية وموافقة الشرع. فلا يُعَدُّ الثناءُ على الكاتب بحسن الخطِّ وجودته ثناءً على الله عزَّ وجلَّ باعتبار الأجر والثواب إلا أن ينوي المُثْني ذلك ويشير إليه. فلا يُشكِلْ عليك هذا! وقد قال بعض المدققين: إن عبادة المشركين لآلهتهم هي في الحقيقة عبادة لله. ووجهه ما سمعت، فإنَّ العبادة داخلة في الحمد، وليس المراد أن حكمها حكم عبادة الله، بل هي في الحكم عبادةٌ لغير الله وشركٌ، فلا تغفلْ. هذا، والتحقيق في عبادة غير الله عزَّ وجلَّ الاكتفاءُ بأنها حمدٌ لغير مستحقه، فهي باطلة البتة. ولا حاجة للتعمق، فإنَّ معنى "الحمدُ لله": الحمد مستحَقٌّ لله، لا أنه لا يقع إلا لله. الجواب الثاني: أن المراد بالاستحقاق الاستحقاق الذاتي. فالذي يستحق أن يُحمَد استحقاقًا ذاتيًّا هو الله عزَّ وجلَّ وحده، ولكنه سبحانه
(7/81)
وتعالى قد يجعل لبعض خلقه حقًّا في أن يُحمَد، فيُثني هو سبحانه عليه أو يأمر بحمده أو يأذَن فيه. فإن قيل: فهل يجعل الله تبارك وتعالى الحقَّ لغير المستحق؟ قلت: أما على إثبات الحكمة، فالجواب أن الله تبارك وتعالى إنما يجعل لبعض خلقه حقًّا في أن يُحمد إذا اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يجعل له ذلك، واقتضاء الحكمة لا أسمِّيه استحقاقًا. فإن أبيتَ إلا أن تسمِّيه فهو استحقاق لأن يجعل له حقًّا أن يُحمد. وليس ذلك باستحقاق لأن يُحمد، وإنما يستحق أن يُحمد بجعل الله عزَّ وجلَّ له حقًّا؛ على أنَّ الاقتضاءَ التامَّ لا يتخلَّف عن الجعل. وهذا كما تقول في التحريم مثلًا: إن الله تبارك وتعالى إنما حرَّم لحم الخنزير لاقتضاء حكمته تحريمَه، وإن اقتضاء الحكمة ليس هو نفسُه موجِبًا للحرمة، وإنما هو مقتضٍ لأن يحرِّمه الله، فلا يكون حرامًا حتى يحرِّمه الله عزَّ وجلَّ. ثم تقول: إنه إذا تمَّ اقتضاءُ الحكمة للتحريم، فلابد أن يقع التحريم. ثم اختلف القائلون بهذا، فزعم بعض الناس أن الإنسان قد يدرك بعقله تمامَ اقتضاء الحكمة لتحريم شيء مثلًا، فيَعلم بذلك حكمَ الله تعالى بتحريمه، فيكون حرامًا عليه، لا لمجرد اقتضاء الحكمة، بل لقيام البرهان على أن الله تعالى حرَّمه. وأهل الحق على خلاف هذا القول، لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وغيرها من الأدلة. ووجه ذلك أن العقل البشري لا يتهيأ له إدراكُ تمامِ اقتضاء الحكمة، ولكننا نقول: إذا تمَّ
(7/82)
اقتضاءُ الحكمة لتحريم شيء، فإن الله تبارك وتعالى يحرِّمه بواسطة رسوله، وقدرةُ الله تبارك وتعالى محيطة، وتدبيرُه شامل. فلمَّا تمَّ اقتضاءُ الحكمة لتحريم الخمر حرَّمها الله تعالى بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. واختلفت الحكمة باختلاف الناس، فمن كان من الناس بحضرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد تمَّ اقتضاءُ الحكمة تحريمَها عليهم حين إنزال التحريم. ومن كان في بيته فإنما تمَّ اقتضاءُ التحريم عليه حين يسَّر الله تعالى بلوغَ الخبر إليه، وهكذا. فإن قلتَ: فالأحكام التي لا يُعذَر بجهلها؟ قلتُ: الذي لا يُعذَر بالجهل لابدّ أن يكون مقصِّرًا، فتعلقُ الأحكام به يكون عند ثبوت تقصيره؛ على أن التحقيق أن عقوبته إنما هي على تقصيره وإن اعتبرت بغيرها. كما أقوله في السكران إذا أُخِذ بمعاصي ارتكبها حالَ زوالِ عقله بسكره: أن مؤاخذته بذلك هي في الحقيقة عقوبةٌ على تناوله المسكِر. فإنَّ عقوبةَ الذنب تزداد بازدياد ما ترتَّب عليه من الفساد. ولإيضاح هذا موضع آخر، والله أعلم. الإشكال الثاني: أن يقال: نفيُ استحقاقِ المخلوق للحمد الذاتي البتة إنما يتخرَّج على قول المجبرة الذين يقولون: ليس للإنسان فعل ولا اختيار، وإنما الله تعالى هو الذي يحرِّكه ويسكِّنه ويتصرَّف فيه كما يشاء، لا فرق بينه وبين الجماد في ذلك. والجواب ــ بعون الله وله الحمد ــ: أنَّ الله تبارك وتعالى إنما خلق الخلقَ لعبادته. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وهم
(7/83)
وأجسامهم وقواهم وأموالهم وكل شيء لهم مِلكُه. ووجودهم وأجسامهم وأرواحهم وعقولهم وأسماعهم وأبصارهم وغير ذلك نعمةٌ عليهم منه سبحانه وتعالى. وكذلك هدايتُه لهم وتيسيرُه إياهم للخير وغيرُ ذلك نعمةٌ منه عليهم. قال تعالى: [ل 57/ب] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. ثم وعدهم سبحانه من الثواب بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وتوعَّدهم من العقاب بما لا يكاد أحدهم يقوَى على تصوُّرِ وصفه، فضلًا عن مشاهدته، فكيف بالوقوع فيه، فكيف بالخلود. فلما كانوا مِلكًا له، وإنما خلقهم لعبادته، فالمحمود من أعمالهم هو ما كان عبادةً لربِّهم عزَّ وجلَّ. وعبادتُهم لربهم لا تفي بأداء ما عليهم من شكر نعمه، ومع ذلك فإنهم يعملونها راجين عليها الثوابَ، خائفين من العقاب أو النقصان. ولا تلتفِتْ إلى تنطُّعاتِ بعض المتصوفة! وإذا كان الأمر كذلك، فالمؤدِّي ما عليه طامعًا بالثواب العظيم على فعله، خائفًا من العقاب أو النقصان إن لم يفعله= لا يستحقُّ استحقاقًا ذاتيًّا أن يُحمد، ولكن الله تبارك كما تفضَّل على الخلق بخلقهم، وتفضَّل عليهم بما لا يُحصَى من النعم التي منها: هدايةُ من هداه منهم، وتوفيقه وتيسيره للعمل الصالح؛ تفضَّلَ عليهم بأن أثنى عليهم، وأمر أو أذِن بحمدهم. فله الحمد في الأولى والآخرة. الإشكال الثالث: أن يقال: إذا كان كلُّ شيءٍ محمودٍ في العالم إنما يستحقُّ الحمدَ عليه استحقاقًا ذاتيًّا اللهُ عزَّ وجلَّ؛ لأنه ربُّ العالمين ومالكُهم ومدبِّرُهم، فإنَّ الشيطان يلقي في أنفسنا السؤال عن الذمِّ، فهل عندك من بيانٍ دامغٍ لوسوسته؟
(7/84)
والجواب بتوفيق الله تبارك وتعالى: أنَّ الله تبارك وتعالى ربُّ العالمين، وهو العليّ القدير الحكيم العليم، فلا يقع في العالم حركةٌ ولا سكون إلا والحكمةُ اقتضت أن يقع، حتى الفواحش التي يبغضها الله عزَّ وجلَّ ويعذِّب عليها، لولا أن الحكمة اقتضت أن تقع لما وقعَتْ. وقد أوضحتُ هذا في (الفرائد) (1). ولْنقرِّبْ ذلك بمثال، فنقول: إذا علم الحاكم من إنسان أنه خائن، ثم أراد أن يجازيه بما يستحقُّ، ولم تكن قد ظهرت خيانته ظهورًا يقف عليه الأشهاد فيعرفوا استحقاقه العقوبةَ، فرأى الحاكم أن يقيم شهودًا من حيث لا يعلم الرجل، ويأتمنه على شيء يريد لذلك أن يخون، فتظهر خيانته، ويعرف الأشهاد استحقاقَه للعقاب. ألا ترى فعل الحاكم هذا، وهو تعريضُه الرجلَ للخيانة وتمكينه له منها فعلًا تقتضيه الحكمة؟ أَوَلا ترى أنَّ وقوعَ الخيانة من الرجل أوفقُ لمقتضى الحكمة، وأنَّ ذلك لا ينافي أن تكون تلك الخيانةُ بالنظر إلى ذلك الخائن قبيحةً يستحقُّ أن يعاقب عليها؟ فتدبَّرْ وأمعِنْ النظرَ يتبيَّنْ لك إن شاء الله أنَّ جميع الحركات والسكنات التي تقع في العالم إنما تقع على مقتضى الحكمة، فهي بالنظر إلى تعلُّقِها بخلق الله عزَّ وجلَّ وتمكينِه وقضائه وقدرِه محمودةٌ لا يلصق بها الذمُّ البتة، وإنما يعلَق الذمُّ ما يعلَقه منها من جهة الخلق. ولا بدع أن يخفى على الإنسان وجهُ الحكمة في أمور كثيرة، فأين علمه من علمِ عالمِ الغيب والشهادة اللطيفِ الخبير! وأين حكمته من حكمة أحكمِ الحاكمين! _________ (1) قوله: "وقد أوضحت ... الفرائد" أضافه المؤلف فيما بعد، ولكن لم نجد في المخطوط شيئًا من الفرائد التي أحال عليها.
(7/85)
وبهذا يتبيَّن أنَّ لله الحمدَ على كلِّ شيء، وفي كلِّ حال. وأنَّ المسلم إذا أصابته مصيبة، فقال: الحمد لله على كل حال، فليس ذلك من باب قول العامة: "يدٌ ما تقدِرُ على كسرها قبِّلْها" (1)، وإنما هو من باب العلم أن كل ما يقع فعلى مقتضى حكمة الله تعالى وَقَع، وأنه من تلك الجهة محمودٌ ينبغي حمدُ الله تعالى عليه. وقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وقال بعضُ السلف في حق الكفار: "إنهم يدخلون النار وحمدُ الله في قلوبهم"، وذلك لأنه انكشف لهم أنَّ دخولهم النار هو الذي تقتضيه الحكمة والعدل المحض. ولولا الطمع في الرحمة وعدم الصبر على الألم لرضُوا بمقامهم في النار. ولولا انكشافُ الحقيقة لأهل الجنة لما طاب لهم عيش، وأقاربُهم في النار، بل ولا غيرُ أقاربهم؛ فإنَّ نفوسَ أهل الجنة بغاية الطهارة، فما بالهم كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34 ــ 36]. إنما ذلك لأنه انكشف لهم حقيقة الأمر، وهي أنَّ تعذيبَ الكفار هو الأمر المطابق للحكمة، الموافق للعدل، الذي تفرح النفوس الطاهرة بوقوعه. وقد يقع شيء من ذلك في الدنيا، فإنك لو رأيت أخاك وأحبَّ الناس إليك أخذ يتعدَّى على الضعفاء والأرامل والأيتام، وأكثر من ذلك، ولم يُصغِ إلى لوم لائم، حتى تعدَّى على بعض الضعفاء [ل 58/أ] فاغتصبَه حليلتَه، _________ (1) ورد في "الأمثال المولدة" للخوارزمي (124) بلفظ: "يدٌ لا يمكنك قطعُها قبِّلْها".
(7/86)
وعلى بعض اليتامى فذبحه كما تُذبح الشاة، وغير ذلك من القبائح التي تعقل النفوس قبحَها، ثم رأيت بعد ذلك كلِّه الحاكمَ قد أخذ أخاك، وأمر بعقوبته= فإنك إن كان في قلبك حبٌّ للحق وفرحٌ بالخير تفرَحْ بعقاب أخيك، وتلتذَّ به. هذا مع تراكمِ الحجب في الدنيا، وخفاءِ الحقائق، ودنسِ النفوس. فما بالك بأهل الجنة الذين هُذِّبوا ونُقُّوا! والظاهر أن تمام الطهارة وانكشاف الحقائق إنما يقع بعد دخول الجنة. وعلى هذا فمن فضل الله تعالى ورحمته أن أذن للمؤمنين في الشفاعة قبل دخولهم الجنة كما في الأحاديث الصحيحة المفسرة. وانظر الحديث الصحيح: "يَلقَى إبراهيمُ أباه، فيقول: يا ربِّ إنَّك وعدتَني أن لا تُخزيني يومَ يُبعثون، وأيُّ خزيٍ أخزَى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرَّمتُ الجنة على الكافرين. ثم يقال لإبراهيم: ما تحت رجليك؟ انظر. فينظر، فإذا هو بذِيخٍ مُتلطِّخٍ، فيؤخَذ بقوائمه، فيُلْقَى في النار". هكذا في "صحيح البخاري" (1). وثبت في الروايات الصحاح عند غيره: "فينظر، فإذا ذيخٌ متلطخٌ في نتنه" (2). وفي أخرى: "فيمسخ الله أباه ضبعًا، فيأخذ بأنفه، فيقول: يا عبدي، أبوك هو؟ فيقول: لا، وعزَّتك! ". _________ (1) برقم (3350). (2) كذا في الأصل. ومصدر المؤلف: فتح الباري، كما سيأتي. وفيه: "فإذا ذيخ يتمرَّغ في نتنه". وهو ما ورد في "السنن الكبرى" للنسائي (11375). وانظر: "تغليق التعليق" (4/ 274).
(7/87)
وفي أخرى: "فإذا رآه كذا تبرَّأ منه، قال: لست أبي". راجع "فتح الباري" في تفسير سورة الشعراء، باب {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] (1). وتأويل الحديث أنَّ الله تبارك وتعالى يكشف لخليله إبراهيم عليه السلام عن حقيقة حال آزر، فإذا انكشفت له علِمَ أنه لا يصلح إلا للنار، ولا يصلح لإبراهيم إلا أن يرضى له بها ويبالغ في البراءة منه. وقول إبراهيم ــ وقد قيل: أبوك هو؟ ــ: "لا وعزتك"، وفي الرواية الأخرى: "لستَ أبي"= إنما هو ــ والله أعلم ــ مبالغة في البراءة منه، كما يقول الرجل لابنه الذي أكثَرَ من مخالفته وعصيانه: لستَ ابني. والله أعلم. وبقية الكلام على هذا الحديث لها موضع آخر. وفي قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ردٌّ على المشركين الذين يزعمون أنَّ لمعبوداتهم تدبيرًا غيبيًّا فوَّضه الله تعالى إليها. فبيَّن سبحانه أن الربوبية والتدبير له وحده. وبيان ذلك أن التصرفات التي تقع في الكون على وجهين: الأول: ما يكون بمجرد أمر الله عزَّ وجلَّ. الثاني: ما يكون على يد مخلوق من خلقه. وانفرادُه سبحانه بالأول ظاهر. وأما الثاني فهو إما غيبي، وإما عادي. _________ (1) "فتح الباري" (8/ 500).
(7/88)
والمراد بالغيبي ما هو خارج عن الحسِّ والمشاهدة، ومنه: تصرُّف الملائكة. وقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ بآيات أخر أنه بيده، وأن الملائكة إنما يتصرفون بأمره، فلا شأن لهواهم وإرادتهم فيه، على أنَّ هواهم وإرادتهم طاعةُ خالقهم وتنفيذُ أمره ومحبتُه وتعظيمُه ومحبةُ من يوحِّده، وبغضُ من يدعو غيره حتى من يدعوهم وعبادتهم. قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 ــ 29]. وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} الآية من باب الفرض؛ كقوله تعالى لرسوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 64 ــ 65]. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 ــ 50]. وأكثر المشركين يتوهمون أن حال الملائكة كحال البشر في تصرُّفهم باختيارهم ظاهرًا وبهواهم ورغبتهم، ولذلك يزعمون أنه يقع منهم الطاعة والعصيان، وأنهم يتغالبون ويتحاربون، ويتسالبون ويتناهبون وغير ذلك. ثم
(7/89)
يبنُون على هذا أنه كما أنَّ للناس أن يستعين بعضها بعضًا، ويسأل بعضهم بعضًا، ويعظِّم بعضهم بعضًا، لأجل ما أوتوه من الاختيار في النفع والضرّ؛ فدعاؤهم الملائكة سائغ من باب أولى؛ لأنهم على كل حال أعلى من البشر وأعظم قدرة. وقد أبطل الله تعالى ذلك بما مضى وبقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] على ما حققته في "رسالة العبادة" (1). والفرق بين البشر والملائكة واضح. وهو أنَّ البشر في دور الابتلاء ليظهر من يطيع منهم ممن يعصي. وذلك يتوقف على التمكين والاختيار، فلذلك جعله الله تعالى لهم. والملائكة في دور الطاعة المحضة والعبادة الخالصة، إلى غير ذلك من الفروق، كما أوضحته في "رسالة العبادة" (2). أما مشركو العرب فكانوا يعترفون بأنَّ التدبير الغيبي لله وحده. وإنما يثبتون للملائكة الشفاعة ويعبدونهم لأجلها. قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 ــ 32]. وقال سبحانه: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ _________ (1) رسالة "العبادة" (ص 348 - 361، 518 - 521). (2) رسالة "العبادة" (ص 520، 789 - 794).
(7/90)
الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 ــ 89]. في آيات أخر قد ذكرتُ طائفةً منها، ونبَّهتُ على الباقي في "رسالة العبادة" (1). وبعد اعترافهم بما ذكر كانوا يفرُّون إلى {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فأبطل الله تعالى ما يتوهَّمونه من الشفاعة، وبيَّن أنَّ ما هو حقٌّ منها لا يقتضي أن يدعوا من دونه، وتمام هذا في "رسالة العبادة" (2). ومنه: تصرُّفُ الجن، وقد بسطت الكلام عليه في "رسالة العبادة" (3)، وحاصله: أن الجن وإن كانوا في دور الابتلاء كالإنس، إلا أن تصرُّفهم لا يتعدى إلى الإنس، وإنما سلَّطهم الله تعالى على الوسوسة، ثم شرع لنا ما ندفعها به. فأما تسليطهم على الإيذاء فإنه نادر، ويكون بتسليطٍ خاصٍّ من الله تعالى عقوبةً لمن يستحقه من الإنس، ثم شرع له ما يتمكن به من دفع ذلك من التوبة والاستغفار والتعوذ. فتصرُّفُهم المتعلِّقُ بالإنس في غير الوسوسة شبيهٌ بتصُّرف الملائكة، وإنما يخالفه في أنه قد يكون معصية، وإنما أذن لهم فيها إذنَ تسليطٍ كما يسلِّط الله تعالى الظالمَ من الإنس على الظالم. ومنه: تصرُّفُ أرواح الصالحين الموتى، وهذا إن قام برهان على ثبوت _________ (1) رسالة "العبادة" (ص 715 - 724). (2) رسالة "العبادة" (ص 348 - 361، 851 وما بعدها). (3) رسالة "العبادة" (ص 817 - 820، 877 - 878).
(7/91)
بعض الجزئيات منه، فحالهم كحال الملائكة، بل أولى بالتوقف على أمر الله عزَّ وجلَّ، كما أوضحته في "رسالة العبادة" (1). ومنه: [تصرُّفُ] (2) أرواحِ الأحياء بالسحر ونحوه. وقد قال تعالى في السحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، يريد والله [أعلم] (3) الإذنَ الخاصَّ، وهو التسليطُ الخاصُّ لحكمةٍ تقتضي ذلك. وبالجملة فالتصرُّفُ الغيبيُّ كلُّه بيد الله. وسيأتي لهذا مزيد إن شاء الله تعالى (4). " {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في الإتيان بهما زيادةُ إيضاحٍ لاستحقاقه سبحانه وتعالى الحمدَ، وبيانُ أنَّ عظمتَه التي دلَّ عليها قولُه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا تنافي رحمتَه، وأنَّ تدبيرَه للعالمين قائمٌ على الرحمة العامة، وإن اقتضت السخطَ في بعض الأشياء. وفي الحديث القدسي: "إن رحمتي سبقت غضبي". وفي رواية: "غلبت غضبي". والحديث في الصحيحين (5). _________ (1) رسالة "العبادة" (ص 816، 878). (2) زيادة يقتضيها السياق. (3) زيادة يقتضيها السياق. (4) لم أجد هذا المزيد في الأصل. (5) البخاري (7553) ومسلم (2751) من رواية أبي هريرة.
(7/92)
وفيه ردٌّ لبعض شبهات المشركين الذين يشركون بالله، فيجعلوا (1) بعض الحمد المختص به لغيره بدون إذنه. قال بعضهم كقدماء المصريين: إن ربَّ العالمين في نهاية العظمة والجلالة والكبرياء، والناسُ في غاية الحقارة، فلا ينبغي لهم أن يتعرضوا لأن يعبدوه، بل ولا أن يذكروا اسمه؛ لأن ذلك إخلالٌ بحقِّ عظمته، وإنما قصاراهم أن يعبدوا الملائكة، ثم الملائكة يعبدون الله (2). وقال بعضهم: إننا لكثرة ذنوبنا وخطايانا لا نطمع في أن يجيب الله تعالى دعاءنا، فدعَوا الملائكة وغيرهم {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]. وتمام هذا في رسالة "العبادة" (3). هذا، وقد زعم بعضهم ــ كما تقدم في الكلام على البسملة (4) ــ أن "الرحمن الرحيم" مؤخران عن تقديم، وأن التقدير: "الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين". ولا أدري ما الباعث على هذا إلا أن يكونوا رأوا اسمي الرحمة متصلين بالجلالة في البسملة، فتوهَّموا أنه يلزم اتصالهما بها هنا أيضًا. وهذا وهمٌ تكفي حكايتُه عن ردِّه! ومناسبة اسمه "الرحمن" لاسم "الرب" واضحة، وقد قال تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} [النبأ: 36 ــ 37]. _________ (1) كذا في الأصل. (2) رسالة "العبادة" (ص 688 وما بعدها). (3) (ص 851 وما بعدها). (4) انظر (ص 71).
(7/93)
" {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} في "مالك" عدة قراءات فصَّلها في "روح المعاني" (1). والذي في السبع منها: "مَلِك" بفتح، فكسر، وبالجرِّ، و"مالك" بإثبات الألف والجرِّ أيضًا (2). وكلا الوصفين ثابت لله تبارك وتعالى. ويوم الدين هو يوم القيامة، كما فسّره القرآن في آخر سورة الانفطار وغيرها. والدين هنا: المجازاة. وشواهده من الكتاب والسنة والآثار وكلام العرب كثيرة. أخرج ابن جرير (3) عن ابن عباس: "يوم الدين" قال: يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، إلا من عفا عنه، فالأمرُ أمرُه. ثم قال: {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] (1/ 51) (4). ومن فوائد هذه الصفة: تقريرُ استحقاقِ الربِّ عزَّ وجلَّ للحمد واختصاصِه به، فإنَّ ظهورَ الفضل والعدل يومئذ أتمُّ، واختصاصَه بالرب تعالى أظهر، كما قال سبحانه: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ _________ (1) (1/ 85). (2) وهي قراءة عاصم والكسائي. وقرأ الباقون: "مَلِك". انظر: كتاب "الإقناع" لابن الباذش (595) وغيره. (3) في "تفسيره" (1/ 156). (4) أحال على نسخة التفسير التي كانت عنده.
(7/94)
لِلَّهِ} [الانفطار: 19]، فإنَّ الخلق في الدنيا (1) متمكنون من كثير من الأعمال التي يُحمدون عليها، وإن كان في الحمد ما تقدم، وتكون منهم باختيارهم؛ فأما يوم القيامة فليس فيه شيء من ذلك. وإنما فيه الشفاعة، وهي نفسها لله عزَّ وجلَّ. قال سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]. ولا تكون إلا بعد إذنه ورضاه. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]. [ل 58/ب] وقال تعالى في الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. والآيات في ذلك كثيرة، والأحاديث الصحيحة في الشفاعة مبيِّنة لذلك. ومن فوائدها: تقريرُ ربوبيته عزَّ وجلَّ، فإنَّ ظهورَ مُلكه بالضم ومِلكه بالكسر واختصاصَه بهما وظهورَ تدبيرِه المتقَن يكون يوم القيامة أوضحَ وأظهَر. ومنها: تقريرُ رحمته عزَّ وجلَّ. وفي "الصحيحين" (2) عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطِف الوحشُ على ولدها. وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمةً يرحم بها عبادَه يوم القيامة". ومنها: تقريرُ توحيده، والردُّ على المشركين الذين يعبدون الملائكة وغيرهم لينفعوهم يوم القيامة. فمنهم من يقول: إن معبوده يأخذ يوم القيامة _________ (1) في الأصل: "الدين"، من سبق القلم. (2) من حديث أبي هريرة. وهذا لفظ مسلم (2752). وانظر: البخاري (6000).
(7/95)
بيده ويُدخله الجنة. ومنهم من يقول: إنه يشفع له، ولا بدَّ، على معنى أنه يشفع لمن شاء وهوِي، وأنه يهوى من كان يدعوه ويلتجئ إليه ويعظِّمه، وأنَّ شفاعته مقبولة حتمًا، سواء في ذلك أكان المشفوع له مستحقًّا في حكم الله أن يشفع له أم لا. ولهم في هذا تخاليط وأغاليط قد سرى كثير منها إلى المسلمين. والله المستعان. وتمام الكلام على هذا في "رسالة العبادة". [ل 59/أ] والعبادة: اختلفت عباراتهم في تفسيرها. فقيل: الطاعة. وقيل: الخضوع والتذلُّل. وقيل: الطاعة والخضوع مع المحبة. وهذه العبارات صالحة لتفسير عبادة الله عزَّ وجلَّ، فأما العبادة المطلقة، فلا؛ لأنَّ الخادم مثلًا يطيع مخدومه، ويخضع له، ويتذلَّل، وهو مع ذلك يحبُّه، ولا يكون ذلك عبادةً منه لمخدومه اتفاقًا. وقيل: أقصى درجات الخضوع. وكاد المتأخرون يطبقون عليه، مع أنه لا يفسِّر لنا العبادة المطلقة. أما أولًا فلأنَّ للخضوع درجات، فما المراد بالأقصى منها؟ وأما ثانيًا فلأنه إن أريد الخضوع الحسِّي فنحن نرى بعض درجاته عبادة، ثم نرى أبلغ منها بكثير ليس بعبادة. فالطائف بالبيت راكبًا إذا مرَّ على الحجر الأسود، فوضع مِحجَنَه عليه، ثم استلم طرفَ المِحجن؛ كان ذلك عبادة لله. والفقير إذا أخذ نعلَ الغني، فقبَّل ظاهرها، ووضعها على عينيه ورأسه؛ لا يكون ذلك عبادة.
(7/96)
وإن أريد الخضوع النفسي، فإن أريد به الخشوعُ وجمعُ الهمة، فحاله كحال الحسِّي؛ فإنا نجد كثيرًا من الناس يدخل على الأمير الكبير، فيقف أو يجلس خاشعًا جامعًا نفسه على استماع كلام الأمير والإقبال عليه، لا يكاد يخطر له خاطر إلا في الإقبال عليه. ونجد كثيرًا من الناس يقوم في صلاته مناجيًا ربَّه، ولا يخشع ذلك الخشوع. والخشوع في الصلاة عبادة وإن قلَّ، وكذلك إذا وقع في الاعتكاف والذكر وغيرها. والخشوعُ للأمير ليس بعبادة. وإن أريد ما يجمع الحسِّي والنفسي بالمعنى المذكور، فحاله كما تقدم والمثال السابق آتٍ فيه. وإن أُريد أمر آخر، فما هو؟ وقيل: العبادة: التأليه، فمن اتخذ شيئًا إلهًا فقد عبَدَه. وهذه أقرب عباراتهم، ولكن كلمة "إله" غير مكشوفة المعنى، وقد اختلفت العبارات في تفسيرها. وفيها نحو ما في هذه العبارات التي في تفسير العبادة. وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وأقرب العبارات وأشهرها في تفسير "الإله" هو: المعبود، أو المعبود بحق. فكلٌّ من العبادة والإله غيرُ بيِّنِ المعنى. ثم فسَّروا كلًّا منهما بما يتوقَّف على معرفة الآخر. وقد اعتنيتُ بهذه المسألة، وجمعتُ فيها "رسالة العبادة"، ونظرتُ في مواقع هاتين الكلمتين وما يُقصد بهما في الكتاب والسنة، وتتبعتُ ما تيسر من معرفة أحوال من حكم الله عليه بالشرك، وفتَّشتُ عما كانوا عليه اعتقادًا وقولًا وعملًا، وتلخصت في تفسير هاتين الكلمتين.
(7/97)
ثم وقفتُ على عبارة لبعض (1) المشاهير من المعاصرين (2)، وهي أن العبادة هي: "كلُّ تعظيمٍ وتقرُّبٍ قوليٍّ أو عمليٍّ لصاحب السلطان العلوي والقدرة الغيبية". وذكر أن هذا تحقيقٌ لمعنى "العبادة" أو حدٌّ لها. وكلُّ ما قيل غيره في تعريفها فهو رسم (3). وذكر في موضع آخر سبب تسمية مشركي العرب دعاء الأصنام وغيرها "عبادة"، وتسميتها "آلهة". قال: "وهو أنهم كانوا أهل اللغة، وكلُّ ما يُدعى ويُعتقد أنَّ له سلطةً وتأثيرًا وراء الأسباب المشتركة بين جميع المخلوقات، فاسمه في لغتهم إله ... وهذا الدعاءُ وكلُّ تعظيمٍ وعملٍ يُوجَّه إلى من يُعتقد فيه ما ذُكر، فاسمه في لغتهم عبادة" (4). ثم قال بعد كلام: "وينفرد اسم الإله بإطلاقه على ما عبد ولم يُعتقَد أنَّ له تأثيرًا في الخلق والتدبير كأصنام جاهلية قريش وغيرها؛ فإنهم لم يتخذوهم أربابًا، وإنما عبدوهم بالدعاء والذبائح ونحو ذلك، ليقرِّبوهم إلى الله تعالى ويشفعوا لهم عنده". ثم قال بعد قليل: "فشرك الإلهية هو: كل دعاء وتعظيم وعمل باعثُه اعتقادُ تأثيرِ المعظَّمِ الموقَّرِ عند الله تعالى بحمله على جلب نفع أو دفع ضر، لولاه لم يفعله تعالى بمحض إرادته، فيكون له اشتراكٌ في حصول ذلك _________ (1) في الأصل: "وقفت لعبارة على بعض" من سبق القلم. (2) الظاهر أنه السيد رشيد رضا صاحب المنار. (3) انظر: "تفسير المنار" (11/ 201) و"الوحي المحمدي" (ص 174). (4) لم أجد هذه العبارة والعبارة الآتية في "تفسير المنار" و"الوحي المحمدي".
(7/98)
بتأثيره في إرادة الله، تعالى الله عن تأثير المؤثرات الحادثة". فتحصَّل من عبارته الثانية أن قوله في الأولى: "لصاحب السلطان العلوي والقدرة الغيبية" المراد بها أن يكون كذلك في ادعاء واعتقاد الذي يدعوه ويتقرب إليه، سواء أكان في نفس الأمر [59/ب] كذلك أم لا. وبهذا يندفع بعض الاعتراض على عبارته، ولكنه يبقى عدة اعتراضات. منها: أنه إن أراد بالسلطان العلوي والقدرة الغيبية مطلق القدرة على التصرف الغيبي ورَدَ عليه أن الملائكة والجن لهم قدرة يتصرفون بها، وليسوا بآلهة اتفاقًا، ولا اعتقاد ذلك فيهم قولًا بأنهم آلهة. وإن أراد القدرة الذاتية أي التي ليست بموهوبة ورَدَ عليه أنَّ المشركين لم يعتقدوا في أصنامهم بل ولا في الملائكة ذلك. وإن أراد القدرة التي يصرفها صاحبها باختياره ورَدَ عليه أن الجن كذلك في الجملة. وإن أراد التي يصرفها صاحبها باختياره، وليس غيره مهيمنًا عليه، ورَدَ عليه أنَّ المشركين لم يعتقدوا في معبوداتهم ذلك. وقد تقدمت الآيات في ذلك. فإن قيل: قد تقدم عنه أنهم اعتقدوا أنَّ معبوداتهم لها سلطة بشفاعة تَحْمِل بها اللهَ عزَّ وجلَّ على جلب نفع أو دفع ضر، لولا شفاعتهم لم يفعله تعالى بمحض إرادته. قلت: الظاهر أنه يريد ما اشتهر عن المشركين من العرب في شأن شفاعة الملائكة، فإن أراد أنهم (1) كانوا يزعمون أنَّ الملائكة يُكرهون الله تعالى على قبول شفاعتهم، أو لا يُكرهونه، ولكنه لقربهم منه يقبل شفاعتهم، _________ (1) في الأصل: "أنها" سبق قلم.
(7/99)
وإن لم يسبق في علمه وإرادته ذلك، فيكون في ذلك اعتقاد البَداء. وهو أنه سبحانه قد يكون يريد شيئًا، ثم يبدو له شيء لم يكن يعلمه قبل، فيدعه؛ أو أنه لا ذا ولا ذاك، ولكنه قد علم أنه في أصل إرادته يريد شيئًا، وأن الملائكة يشفعون بخلافه، وأنه لابد حينئذ من قبول شفاعتهم؛ فليس في اعتقاد مشركي العرب شيء (1) من هذا، كما دلَّت الآيات السابقة وغيرها، ممّا سُقتُه في "رسالة العبادة" (2). والذي يتحصَّل مما كانوا يقفون عنده في شفاعة الملائكة أنهم مقرَّبون عند الله عزَّ وجلَّ، وأنه إن لم يأذن لهم بالشفاعة في شيء أذِن لهم في غيره، وإذا لم يقبل شفاعتهم في شيء قَبِلها في غيره، وأنَّ شفاعتهم من جملة الأسباب التي اعتدَّت بها الشرائع، كدعاء الله عزَّ وجلَّ والتضرع إليه وطاعته، فإنَّ ذلك كلَّه مما يُرجى به رضوانُ الله وعفوُه وغيرُ ذلك من تفضُّلٍ بنفعٍ أو دفعِ ضرٍّ. ومعلومٌ أنَّ اعتقادَ ذلك لا يلزم منه القولُ بالبداء، ولا إنكارُ سبقِ علم الله عزَّ وجلَّ بكل ما يكون. وكيف يلزم ذلك، وبه بعثت الرسل ونزلت الكتب وشرعت الشرائع؟ وإنما كان يبقى عند المشركين أنهم يزعمون أنَّ ذلك القدر الباقي للملائكة من الشفاعة مسوِّغ لأن يدعوهم الإنسان ويعظِّمهم ويسأل منهم الشفاعة وأن الله تعالى يرضى ذلك، وأن الملائكة يشفعون لمن فعل ذلك. وجاء الإسلام بأنَّ ذلك القدر لا يسوِّغ ما ذُكِر، وأنَّ الله لا يرضاه ولا يأذن فيه، وأنَّ الملائكة أنفسهم يتبرؤون ممن فعله، ويبغضونه ويعادونه. _________ (1) في الأصل: "شيئًا"، سهو. (2) انظر (ص 714 وما بعدها).
(7/100)
ثم يَرِد عليه أيضًا أنَّ المشركين لم يكونوا يعتقدون للأصنام قدرةً ما ولا تأثيرًا، وإنما هي عندهم تماثيل للملائكة، فيقولون: إنَّ الصنم إذا جُعل تمثالًا للملَك ورمزًا له صار له علقةٌ معنويةٌ بالملك، بحيث يكون تعظيمُ الصنم تعظيمًا لذلك الملك، كما جرت به العادة في احترام تماثيل البشر العظماء أنه معدود عند الناس احترامًا لصاحب التمثال، ومع ذلك سميت الأصنام آلهة، وتعظيمها عبادة. وقد بقي وجوه أخرى لا أطيل بها. والذي تلخَّص لي في "رسالة العبادة" (1) بعد النظر في النصوص القرآنية ومقابلة بعضها ببعض، والنظر في أحوال المشركين من الأمم المختلفة وغير ذلك= أن العبادة هي: خضوعٌ يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. وأردت بالخضوع ما يشمل الطاعة والتعظيم، وبالنفع الغيبي ما هو وراء الأسباب العادية. ثم إن كان ذلك الخضوع مأذونًا فيه من الله تعالى بسلطان بيِّن وبرهان واضح، فلا يكون إلا عبادةً له سبحانه وتعالى، سواء أكان في الصورة له كالالتجاء والتضرع إليه، أم كان في الصورة لغيره كالطواف بالكعبة وتقبيل الحجر الأسود ووضع الجبهة عليه، وكلِّ ما كان عليه برهان من الله وسلطان منه، من الثناء على الملائكة والصلاة عليهم، والثناء على الأنبياء والصالحين واحترامهم وغير ذلك. وإن لم يكن به برهانٌ من الله عزَّ وجلَّ ولا سلطانٌ منه، فهو عبادةٌ لغيره، ولا يكون شيء [ل 60/أ] من هذا إلا وفيه خضوع لغير الله عزَّ وجلَّ. ومن ذلك: الأحبار والرهبان والرؤساء والآباء والشيطان والهوى. _________ (1) رسالة "العبادة" (ص 733).
(7/101)
ولا فرق في كون الخضوع طلبًا للنفع الغيبي عبادةً بين أن يكون النفع مطلوبًا من المخضوع له نفسه، أم من غيره بواسطة شفاعته، أم من غيره بسبب الخضوع له. فمن الحقِّ في الصورة الأولى: التضرُّعُ إلى الله عزَّ وجلَّ طلبًا للنفع منه. ومنه في الثانية: القدرُ الذي عليه سلطانٌ من الله عزَّ وجلَّ من احترام الأنبياء والصالحين. ومنه في الثالثة: القدرُ الذي عليه سلطان من احترام الكعبة والحجر الأسود. ومن الباطل في الصورة الأولى: التضرعُ إلى الملائكة لينفعوا، على زعم أنهم يفعلون (1) ما يشاؤون. ومنه في الثانية: التضرعُ إليهم ليشفعوا كما كان مشركو العرب يصنعونه. ومنه في الثالثة: تعظيم الأصنام. وكل ما ادُّعِي له أو اعتُقِد أنه يستحق أن يُعبد، فقد ادُّعِي له أو اعتُقِد أنه إله. فالإله هو الذي يستحق أنَ يُعبَد. فإن كان استحقاقه حقًّا فهو إله حق. وهو الله وحده لا شريك له. وإن كان استحقاقه باطلًا، فهو إله باطل. وكلُّ مَن عبد شيئًا من دون الله، أي خضع له طلبًا لنفع غيبي بدون سلطان من الله تبارك وتعالى، فقد اتخذه إلهًا وسوَّاه بربِّ العالمين في استحقاق أن يُعبَد. وذلك أنَّ العقولَ والفِطَر كافيةٌ في العلم بأنَّ الله تبارك وتعالى مستحقٌّ أن يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي، فمن ادَّعى لغيره ذلك بغير سلطان من الله تعالى، فلابدَّ أن يكون مستندًا إلى الكذب على العقل، ولو بواسطة أو وسائط. فكأنه يقول: إن العقل كافٍ في العلم بأنَّ هذا الروح أو _________ (1) في الأصل: "ما يفعلون"، سهو.
(7/102)
غيره مستحق أن يخضع له طلبًا للنفع الغيبي، فتلك تسويةٌ له بربِّ العالمين، فاعلم ذلك. وقد أقمت ــ بحمد الله تبارك وتعالى ــ البراهين على هذا التفصيل في "رسالة العبادة" (1). وإذا يسَّر الله تبارك وتعالى فسيأتيك كثير منه في مواضعه. وهذه أمور يجب استحضارها: الأمر الأول: أن هذا المعنى كان بيِّنًا في الجملة عند العرب الذين خوطبوا بالقرآن، إلا أنَّ هناك دقائقَ قد كان يخفى على كثير منهم أنها عبادة وتأليه. فمن ذلك: الخضوع بالطاعة. فقد روى ابن جرير وغيره (2) عن عدي بن حاتم أنه لما سمع قول الله تعالى في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، قال عدي: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. فقال: "أليس يُحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟ " قال: قلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم". وقد ذكرتُ هذا الحديث والكلام عليه وشواهده من كلام الصحابة _________ (1) رسالة "العبادة" (ص 731 وما بعدها). (2) "تفسير الطبري" (14/ 210). وأخرجه الترمذي (3095) وقال: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث". وحسَّنه الألباني.
(7/103)
والتابعين في "رسالة العبادة" (1). فالقوم أطاعوا أحبارهم ورهبانهم في التحريم والتحليل، وعدُّوا ذلك دينًا ينفعهم الله تعالى به ويجازيهم بحسبه. فتلك الطاعةُ خضوعٌ يُطلَب به نفعٌ غيبي، ولم ينزل الله تعالى به سلطانًا، فهو عبادة لغيره. وقد خفي هذا المعنى على عدي بن حاتم رضي الله عنه حتى فسَّره له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ثم خفي هذا المعنى على بعض رواة هذا الحديث نفسه حسبما رواه الترمذي (2) بلفظ: "أما، إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه". وأخبر الله تعالى عن المشركين بأنهم يعبدون الشيطان. ولذلك وجهان. فأما الوجه الأول، فهو طاعتهم إياه فيما يوسوس لهم به من شرع الدين، واتخاذهم ذلك دينًا يرجون به النفع من الله عزَّ وجلَّ. وتلك عبادة، ولا سلطان لهم، فهي عبادة لغير الله تعالى. وقد خفي هذا عن الخوارج، فتوهموا أنَّ طاعة الشيطان شرك مطلقًا، فحكموا على عصاة المسلمين بأنهم مشركون، مع أنَّ عصاة المسلمين وإن أطاعوا الشيطان فلم يتخذوا ما وسوس لهم به دينًا، وإنما أطاعوا لهوى أنفسهم عالمين معترفين بأن ذلك معصية لله عزَّ وجلَّ يخافون عقابه عليها، فلم يطلبوا بتلك الطاعة نفعًا غيبيًّا. وخفي كذلك على أكثر المفسِّرين، فقالوا: إنَّ ما جاء في القرآن من ذكر _________ (1) رسالة "العبادة" (ص 654 وما بعدها). (2) برقم (3095).
(7/104)
عبادة الشيطان والشرك به ليس على حقيقته، وإنما المراد بذلك مطلق الطاعة المذمومة التي لا تكون عبادةً ولا شركًا على الحقيقة. أما الوجه الثاني، فقد بينته في "رسالة العبادة" (1)، ولعله يأتي في موضع آخر إن شاء الله تعالى. ونحو (2) هذا وقع فيما جاء في القرآن من ذكر تأليه الهوى. ومما كان يخفى على بعض منهم أنه عبادة أو قد يكون عبادة: القسَم بغير الله، والطِّيَرة، وقولهم: ما شاء الله وشاء فلان، والتمائم، والتِّوَلة، وغيرها. وقد بسطت الكلام على ذلك في "رسالة العبادة" (3) والحمد لله. وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعذرهم فيما يخفى عليهم، ويبيِّنه لهم. وهكذا أصحابه رضي الله عنهم. والحاصل أنَّ الخفاء قد يكون في كون الفعل خضوعًا، وقد يكون في كونه يُطلَب به نفع، وقد يكون في كون النفع غيبيًّا، وقد يكون في كونه لا سلطان عليه. ولهذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل" (4). وقد ذكرت هذا الحديث في "رسالة العبادة" بطرقه وشواهده، _________ (1) رسالة "العبادة" (ص 714 وما بعدها). (2) في الأصل: "ونحوه"، سبق قلم. (3) رسالة "العبادة" (ص 947 وما بعدها). (4) أخرجه أحمد (4/ 403) والطبراني في "الكبير" (1567) و"الأوسط" (3479) من حديث أبي موسى الأشعري. وأخرجه أبو بكر المروزي في "مسند أبي بكر" (18) والبخاري في "الأدب المفرد" (716) وأبو يعلى (58 - 60) من حديث أبي بكر الصديق. وله شواهد أخرى. وانظر "المسند" (19606) للكلام عليه.
(7/105)
والدليل على أنه أراد به الشرك الحقيقي لا مجرد الرياء (1). [60/ب] الأمر الثاني: أنه لا يلزم من كون الفعل في نفسه عبادةً لغير الله وشركًا أن يكون الفاعل مشركًا. بل لا يُحكَم بشركه حتى يُعلم أنه ليس له عذر، وأنَّ الحجة قد قامت عليه. وقد بسطتُ هذا حقَّ البسط في "رسالة العبادة" (2)، ودلَّلت عليه بالكتاب والسنة وأقوال السلف ومَن بعدهم من أهل العلم. وبيَّنتُ أنه قد يكون الفعل في نفسه شركًا، والفاعلُ من خيار عباد الله تعالى وأوليائه، لعذره في ذلك الفعل وصلاحه في نفسه. الأمر الثالث: أنَّ البدع في الدين كلها تؤول إلى عبادة غير الله، ولولا العذرُ لكان كلُّ مبتدع مشركًا. وقد بسطتُ هذا في موضعه، ولله الحمد. الأمر الرابع: أنَّ السلطانَ المذكورَ في تعريف العبادة: المرادُ به البرهانُ المفيدُ للقطع، إما بنفسه، وإما بأصله. فالذي بنفسه فكصريح القرآن والسنة القطعية. وأما بأصله فكالدلائل الظنية التي قام البرهان القطعي على وجوب العمل بجنسها. وذلك كدلالة ظنية من الكتاب، فإنَّ كونَ ظواهِر الكتاب حجةً ثابتٌ قطعًا، وكونَه يلزم العالم العمل بما ظهر له من الكتاب بعد النظر والاجتهاد ثابتٌ قطعًا. الأمر الخامس: أنَّ هذا التفسير الذي فسرتُ به العبادةَ مقتبَس من نصوص لا تحصى من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم. ومن أقوالهم ما هو _________ (1) (ص 143 وما بعدها). (2) رسالة "العبادة" (ص 914 وما بعدها).
(7/106)
صريح فيه أو مستلزم (1) له حتمًا؛ ولكنها خبايا في الزوايا، وشذَرات في الفلَوات، قد التقطتُ ما عثرتُ عليه منها في "رسالة العبادة" (2). الأمر السادس: أنني أعترف بأنَّ العقل يستبعد بل يكاد يُحيل أن يكون هذا الأمر الذي هو أسُّ الإسلام وجوهرُه وهو معنى عقد أنه لا إله إلا الله غفل عنه أكثر العلماء، إن لم نقل: كلُّهم، حتى آل إلى ما نراه من الخفاء، فصارت تفسيراتهم للإله والعبادة على ما سمعت، وصار الكلام في التفاسير وشروح الحديث وكتب الفقه على ما يعرفه من طالعها. ولكني لما قام عندي من البراهين مع ما التقطتُه من خبايا الزوايا من كلام العلماء لا أجبُنُ عن إظهار هذا الأمر. وقد بان لي السببُ المؤدِّي إلى تلك الغفلة. وهي أنَّ السلف من الصحابة وعلماء التابعين كانوا يرون أنَّ معنى الإله والعبادة واضح، فقد كان المشركون أنفسهم يعرفونه. وما خفي من دقائقه يُعذَر مَن جَهِله حتى يبيَّن له. ثم إنَّ العلماء اصطدموا بالكلام فيما يتعلق بالعقائد في صفات الله تعالى وغيرها من جهة، وبتقديم الرأي والقياس على السنة من جهة أخرى؛ فانصرفت وجوههم إلى دفع ذلك. ولما حدثت البدع التي هي في نفسها شرك كانوا ربما يفرغون للشيء بعد الشيء منها، فيزجروا عنه ويبيِّنوا (3) أنه بدعة، ويرون أن صاحبه لا يُعدُّ مشركًا لعذره. _________ (1) في الأصل: "مستلزمًا"، سهو. (2) رسالة "العبادة" (ص 737 وما بعدها). (3) كذا ورد الفعلان في الأصل بحذف النون.
(7/107)
ثم انفردت طائفة منهم لحفظ العقائد، وطائفة للفقه، وطائفة لحفظ الحديث، إلى غير ذلك، فاقتصر أهل العقائد على ما اشتهر فيه الخلاف، فذكروا التوحيد في كتبهم، يعنون أنه ليس مع الله ربٌّ غيره قديم، وأهملوا مسألة العبادة لعدم اشتهار الخلاف فيها. وصرَّح بعضهم كالسعد التفتازاني بأنها مسألة شرعية (1)، يعني وهُم إنما يبحثون بالعقليات، فاتَّكلوا فيها على الفقهاء. والفقهاء يقولون: هذه أساس العقائد ورأس الإسلام، فيتَّكلون على علماء العقائد. وأما علماء التفسير وشُرَّاح الحديث فاتكالُهم أظهر. وبعد هذا الاتكال صار من يبحث عن معنى لا إله إلا الله يراجع كتب العقائد، فيجد فيها الكلام على توحيد الربوبية، أي أنه ليس مع الله تعالى ربٌّ قديمٌ غيره. وقد عبَّروا عنها بقولهم: "الإله واحد، هو الله عزَّ وجلَّ، ويمتنع وجود إلهين أو أكثر"، أو نحو ذلك. فيظن هذا المسكين أنَّ معنى (لا إله إلا الله): لا واجب الوجود إلا الله، ثم يظن أن العبادة هي الخضوع والطاعة لمن يعتقد أنه واجب الوجود، إلى أمور أخرى قد شرحتُ بعضها في "رسالة العبادة" (2). والحاصل أنَّ ذلك الاستبعاد العقلي [ل 61/أ] في محلِّه، ولكن الغفلة واقعة يقينًا. وأظهر شواهدها: عباراتهم في تفسير العبادة، وقد رأيتها، ومن نظر وتدبَّر ازداد يقينًا. والشأن إنما هو في تحقيق ما غفل عنه، وقد ذكرتُ هنا ما تيسَّر، وإذا أذن الله تعالى فسترى كثيرًا من ذلك في مواضعه. وقد استوعبتُ أكثر ذلك في "رسالة العبادة" (3)، أسأل الله تعالى من فضله تيسير _________ (1) انظر: "شرح المقاصد" (1/ 10). (2) رسالة "العبادة" (ص 332 وما بعدها). (3) انظر رسالة "العبادة" (ص 731 وما بعدها).
(7/108)
إتمامها ونشرها. والحمد لله أولًا وآخرًا. [ل 61/ب] وإذ قد اتضح إن شاء الله معنى العبادة، فليتمَّمْ تفسيرُ الجملة. فاعلم أنَّ فيها احتمالات، الصحيح منها أنها إنشائية، أريد بها إنشاء معنى يوجد (1) بهذه العبارة، وذاك حقيقة الإنشاء. وذلك أن المؤمن إذا تلا من أول السورة إلى هنا متدبِّرًا حق التدبر امتلأ قلبُه بتعظيم ربِّه عزَّ وجلَّ، واستغرق في ذلك حتى كأنه يرى الأمر مشاهدةً، وانجلى له حقَّ الانجلاء أنه لا يستحق العبادة غيره تعالى، فيقبل (2) القلب إلى الربِّ عزَّ وجلَّ مصدِّقًا ما قام بالقلب وسرى إلى الجوارح، فينشئها بهذه الجملة. فتدل هذه الجملة أولًا وبالذات على العبادة المنشأة بها، ثم تدلُّ بمعونة ما تقدم على العبادة القائمة بالقلب ثم بالجوارح، وتدلُّ بواسطةِ أن المقتضي لما ذكر هو ما تقدَّم من أول السورة إلى هنا، وهي حقائق ثابتة لا تحول ولا تزول، ولا تتغيَّر ولا تتبدَّل= على التزام التالي أن يعبد الله تعالى دون غيره في بقية عمره. وبعد ما كتبتُ ما تقدَّم، أردتُ أن أنظر في وجه التعبير بلفظ الجمع، فرأيتُ ما قدَّمتُه هنا يرشد إلى نكتة لا بأس بذكرها. وهي أنه ــ كما تقدَّم ــ ورد الخضوعُ أولًا على القلب، ثم سرى إلى الجوارح، ثم تلاها اللسان، فأشير إلى ذلك بصيغة الجمع، حتى كأنَّ اللسان عبَّر عن نفسه وعن القلب والجوارح. ونكتة أخرى، وهي أنَّ مِن شأن الإنسان المتواضع الذي يعرف قدر نفسه أنه إذا اتفق له ظهورٌ بمظهر يدلُّ على العظمة زاده ذلك خضوعًا في _________ (1) تكررت في الأصل. (2) قبل هذه الكلمة: "أن تعبد الله كأنك تراه". وقد نسي المؤلف رحمه الله أن يضرب عليها ضمن العبارة المضروب عليها.
(7/109)
نفسه وتمسكنًا، كما روي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما دخل [مكة] يوم فتحها دخل وذقنُه على رحله متخشِّعًا (1). فالتالي الممتلئ خضوعًا وتذللًا إذا جاء إلى قوله: {نَعْبُدُ} ورأى ما في ظاهر الكلمة من مظهر العظمة زاده ذلك خضوعًا وتخشُّعًا، كأنه يقول في نفسه: ومَنْ أنا! ومَنْ أكون! وهذه وكثير من أمثالها من مُلَح العلم، والذي ينبغي اعتماده أن السورة تعليم من الله عزَّ وجلَّ لعباده، فكأنه قال لهم: قولوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلخ، كما مرَّ عن ابن جرير، فجاء "نعبد ونستعين" على حسب ذلك. وإذا قال العبد مع ما صار فيه من حال الخضوع والخشوع: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وقد سبق أنها بمعونة المقام تدلُّ على التزام العبادة لله تعالى دون غيره في المستقبل، علِمَ ما هو عليه من الضعف والعجز والظلم والجهل، فاضطُرَّ إلى أن يقول: " {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فينشئ بهذه الجملة استعانة بربه دون غيره على ما التزمه من العبادة. وفي "الكشاف" (2): "والأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، ويكون قوله تعالى: {اهْدِنَا} بيانًا للمطلوب من المعونة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا الصراط المستقيم، وإنما كان أحسنَ لتلاؤمِ _________ (1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4365) ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 68 - 69) من حديث أنس، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وسكت عنه الذهبي. وأصله في "صحيح البخاري" (1846). (2) (1/ 15).
(7/110)
الكلام وأخذِ بعضِه بحجزةِ بعض". حكاه في "روح المعاني" (1)، ثم قال: "ووجه التخصيص حينئذ كمالُ احتياج العبادة إلى طلب الإعانة، لكونها على خلاف مقتضى النفس. {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]. [ل 62/أ] والقرينة مقارنة العبادة، ولا خفاء في وضوحها". ثم قال: "والإنصاف عندي أنَّ الحمل على العموم أولى ... ". والحاصل أنه اختار العموم، ثم اختار أن الصراط عامٌّ، فقال: "فإنه أعمُّ من العبادات والاعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية، والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان، ومن عذاب النار، والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العُلى. وكلُّها مفتقِرٌ إلى إعانة الله تعالى وفضله. وأيضًا طرقُ الضلالات التي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالِّين لا نهاية لها ... ". قال عبد الرحمن: لا خفاءَ أنَّ المقام إنما يقتضي الاستعانة على العبادة التي التزموها. وكلُّ الصيد في جوف الفَرا (2). فإنَّ الاعتقادات الدينية ترجع إلى العبادة، فإنَّ في اعتقاد الحق طاعةً لله وخضوعًا له إذا خالف الهوى، وذلك عبادة. والأخلاق المحمودة مع حسن النية عبادة، والأحاديث في فضائل حسن الخلق معروفة. والسياسات المحمود منها ما كان المقصودُ منه إقامةَ الحق والعدل وتنفيذَ أحكام الله عزَّ وجلَّ، وما قُصِد به ذلك كان عبادة. والمعاملات _________ (1) (1/ 93). (2) الفَرا: الحمار الوحشي. وانظر المثل في "مجمع الأمثال" (3/ 11).
(7/111)
إذا التُزِم فيها الأخذُ بالحلال، واجتنابُ الحرام والشبهات، والقيامُ بمصالح المسلمين، والاستعانةُ على طاعة الله عزَّ وجلَّ= كانت عبادة. وكذلك المناكحات. وفي الحديث: "وفي بُضْعِ أحدكم أجرٌ" (1). وعلى هذا القياس. على أنَّ مِن لازمِ الإعانة على العبادة تيسيرَ المعيشة والأمن وغير ذلك، فإنَّ مَن نكِدَ عيشُه انشغل قلبُه عن العبادة، كما هو معروف. وأما الأمور الأخروية فتبعُها للعبادة واضح. وكأنه غلب على أبي الثناء (2) ما جرى به العرفُ الحادثُ من اختصاص العبادات بما يذكر في صدور كتب الفقه، وهو الصلاة والزكاة والصيام والحج. وهو وهْمٌ حتمًا، وقد عرفت حقيقة العبادة. هذا، وكثير من الناس يستشكل ما اقتضته الآية من نفي الاستعانة بغير الله عزَّ وجلَّ، ويقولون: إنَّ مصالح الدنيا وكثيرًا من مصالح الدين إنما تقوم بتعاون الناس، وما من أحدٍ إلا وهو يحتاج إلى أن يستعين غيره من الناس، حتى على العبادة. وهذا مبني على أن الجملة خبر، والمضارع للاستمرار، أي أن من عادتنا المستمرَّة أن لا نستعين إلا بك؛ أو عن الحال، والاستقبال، أي لا نستعين ولن نستعين إلا بك؛ أو عن المستقبل فقط. وليس الأمر كذلك. وإنما هي إنشائية لطلب المعونة، والطلب يُوجَد بنفس الجملة، كما لا يخفى على من عرف الفرق بين الخبر والإنشاء. _________ (1) أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر. وفيه: "صدقة" مكان "أجر". (2) يعني صاحب "روح المعاني".
(7/112)
والنفي إنما هو بحسب ذلك. فكأنهم قالوا: استعانتنا هذه بك، وليست بغيرك. وحَسُنَ ذلك لأن تلك الاستعانة نفسها طلب للنفع الغيبي، فهي عبادة، فناسب أن تُقصَر، كما قُصِرت العبادة، تقريرًا للتوحيد الذي بنيت عليه السورة. وثَمَّ مناسبات أخرى لا أطيل بذكرها، فتدبَّرْ. ونسأل الله التوفيق والهداية. " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} تقدم عن صاحب الكشاف ــ وتبعوه في توجيه ترك العطف إذ لم يقل: "واهدنا" مع أن الجملتين إنشائيتان متناسبتان، كما لا يخفى ــ أن هذه الجملة استئناف بياني. ومعناه أن تكون الجملة الثانية جواب سؤالٍ من شأن مَن يسمع الأولى أن يسأله. فقال كما مرَّ: "كأنه قال: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهدنا". وفي النفس من هذا، فإنَّ وجه الحسن في الاستئناف البياني على ما ذكروه إنما يتحقق في خطاب الناس. فالأولى أن تكون هذه الجملة بدلًا من الأولى. وفي "مغني اللبيب": [الجملة السابعة: التابعةُ لجملةٍ لها محلٌّ. ويقع ذلك في بابي النسق والبدل خاصة ... والثاني شرطُه كونُ الثانيةِ أوفى من الأولى بتأدية المعنى المراد نحو {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 132 ــ 134]، فإنَّ دلالةَ الثانيةِ على نعم الله مفصَّلةٌ بخلاف الأولى، وقوله:
(7/113)
أقولُ لَه ارْحَلْ لا تُقيمنَّ عندَنا (1) فإنَّ دلالة الثانية على ما أراده من إظهار الكراهية لإقامته بالمطابقة، بخلاف الأولى (2)] (3). ولا خفاء أنَّ هذا الشرط مُتحقِّق هنا. وفي البدلية هنا نكتة لطيفة، فإنه اشتهر أن المبدَل منه على نية الطرح. وهذا مناسب هنا لأن مِن لازمِ طلب الإعانة إثباتَ قدرة للنفس. وذاك وإن كان حقًّا في الجملة، ولكنَّ المقامَ مقامُ خضوع وتذلُّل، وهو يستدعي إظهار تمام العجز. وهذا تُعبِّر عنه هذه الجملة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فتأمَّلْ! والله أعلم. [ل 62/ب] والهداية: من هداية الطريق. وقد جاء عن العرب إطلاقُ الهُدَى على الطريق (4). فإما أن يكون هذا هو الأصل، وإن كاد يُنسَى، والهداية مشتقَّة منه وإن اشتهرت؛ وإما العكس، والله أعلم. وهداية الطريق في الجملة: الإرشاد إليها، ولكنها تكون على أوجه: فافْرِضْ أنه رأيتَ عبدًا تائهًا في فلاةٍ فيها سُبُل، وتعلم أنَّ خيره وصلاحه _________ (1) عجزه: وإلَّا فكُنْ في السِّرِّ والجَهرِ مُسْلِما قال البغدادي في "شرح أبيات المغني" (6/ 301) إنه لم يقف على قائله. (2) "مغني اللبيب" (557). (3) ترك المصنف هنا بياضًا، ولعل المقصود ما أثبتناه بين الحاصرتين. (4) ومنه قول الشمَّاخ يصف أتانًا: قد وَكَّلَتْ بالهُدَى إنسانَ صادقةٍ ... كأنه من تمام الظِّمْءِ مسمولُ انظر: "ديوانه" (281).
(7/114)
في الذهاب إلى سيِّده، فقد تكتفي بأن تدلَّه على رأس الطريق التي ينبغي له سلوكُها لِيصلَ إلى بيت سيده، فتقول له: هذه أو تلك هي الطريق التي توصلك. فهذا الوجه الأول. وقد يكون العبد أحمق يستكبر عن قبول إرشادك، أو يكون هناك من يريد به الشرَّ، يشير له إلى طريق أخرى، فيميل إليه، فتأخذ بيد العبد، وتجرُّه إلى الطريق الموصلة إلى بيت سيِّده، وتقيمه عليها، وتحمله على سلوكها، ثم لا تزال تلطُف به مرة وتشتدُّ عليه أخرى، حتى يذعن أخيرًا لسلوكها. فهذا الوجه الثاني. ثم بعد قيامه أو إقامتك إياه على رأس الطريق قد تنعتُ له الطريق من هناك إلى بيت سيِّده. فهذا الوجه الثالث. وقد تتقدَّمه، وتسير معه، تدلُّه على الطريق، تاركًا الخيرة له في كل موضع. فإن استمرَّ على موافقتك لم تفارقه حتى توصله إلى بيت سيِّده. وإن أدركه الحمق في بعض الطريق، فأبى إلا الخروج منها، تركتَه وشأنَه. فهذا هو الوجه الرابع. وقد تتقدَّمه، وتسير معه أيضًا عازمًا أن تُوصِلَه ولابدّ، فأنت تأخذه بالوعد والوعيد، وتُبعد عنه ما من شأنه أن يحمله على المخالفة، وتحرُسُه ممن يريد أن يُضِلَّه، وتَصرِفه عن المخالفة بالإكراه أو قريبٍ منه في بعض الأوقات. وهكذا حتى تُوصلَه. وهذا هو الوجه الخامس. والهداية إلى صراط الحق جارية على نحو هذا. فالوجه الأول يقع من الله عزَّ وجلَّ بإرساله الرسل، ومن الرسل ثم من أتباعهم بالدعوة.
(7/115)
قال تعالى لرسوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 ــ 53]. وقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 73 ــ 74]. والوجه الثاني لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى بتصريفه قلبَ مَن يريد حتى يُدخله في الدين. ولو تركه واختيارَه لما فعَل. وهذا المعنى هو المراد في قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] وآيات أخر. والوجه الثالث من الله تبارك وتعالى بما أوحى إلى رسوله من البيِّنات في العقائد والأحكام، ومِن رسله، ثم من أتباعهم، بالبيان. والوجه الرابع إن كان فإنما يكون من الله تبارك وتعالى في حقِّ العبد الذي يكثر خلافه. والله أعلم. والوجه الخامس: إنما يكون من الله تبارك وتعالى فيمن أراد به الخير، ولا يكاد يرجى ذلك إلا لمن يكون الغالب عليه الخير، وإنما تقع منه الفلتة بعد الفلتة. والمؤمنون يسألون ربهم الهداية التامَّة، وهي الوجه الخامس، وهي المرادة هنا. ولذلك أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها: يقول: ألْهِمْنا الطريق الهادي (1). _________ (1) "تفسير الطبري" (1/ 166).
(7/116)
والإلهام هو الإلقاء في القلب. ومعلومٌ أنَّ تصرفاتِ الإنسان كلها تبعٌ لما يقع في قلبه. فإذا كان الله تعالى يلهمه في كلِّ شيء حبَّ الحق والرغبةَ فيه، وبغضَ الباطل والنفرةَ عنه، جرت أعمالُه كلُّها على الحق. وذلك هو غاية الهداية على الوجه الخامس. وقد تكون بإلقاء خاطر آخر كخوفٍ من الناس وحياءٍ منهم وتذكيرٍ لأمر آخر، أو بإنساء موعد، أو بإقامة مانعٍ يصرف الله تعالى بذلك عن المعاصي، وقد تكون بغير ذلك؛ فإنَّ التدبير بيده عزَّ وجلَّ، فلا يمكن إحصاءُ الأسباب. التي يهدي بها مَن أحبَّ هدايتَه. [ل 64/أ] (1) والصراط المستقيم: قال ابن جرير (2): "أجمعت الحجة من أهل التأويل جميعًا على أنَّ الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه". وقد اختلفت عبارات السلف في المراد به هنا (3). فعن علي وابن مسعود أنه كتاب الله. وجاء هذا مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ورُوي عن جابر وابن عباس وغيرهما، قالوا: هو الإسلام. وعن أبي العالية والحسن: هو رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر. في عبارات أخر لا اختلاف بينها بحمد الله عزَّ وجلَّ، فإنَّ امتثال ما في كتاب الله تعالى هو الإسلام، والذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصاحباه هو _________ (1) اللوحة (63) مكررة. (2) في "تفسيره" (1/ 170). (3) انظر الأقوال الآتية في "تفسير الطبري" (1/ 171 ــ 176).
(7/117)
الإسلام. هذا، وقد عُرِفَ أن لكل إنسان سيرة يسيرها في عمره في اعتقاده وأخلاقه وآدابه وأعماله وأقواله (1)، فهي طريقُه. فمن اتبع في ذلك كلِّه كتابَ الله وسنةَ رسوله والسلف الصالح فهو على الصراط المستقيم. ومن أخلَّ في شيء من ذلك كان في طريقه من العِوج بمقدار إخلاله. ويمكنك أن تتصَّور الصراطَ العامَّ الذي هو الإسلام، وتتصوَّر وسطه طريقًا للتقوى العامة، وتتصوَّر عن يمين طريق التقوى وشمالها طريقين للتقصير في الفضائل دون ما بعده، وعن يمين ذلك وشماله طريقين لارتكاب المكروهات، وعن يمين ذلك وشماله طريقين لارتكاب الصغائر دون ما بعده، وعن يمين ذلك وشماله طريقين لارتكاب الكبائر دون البدع، وعن يمين ذلك وشماله طريقين للبدع. وذلك حدُّ السِّراط (2) يَمنةً ويَسرةً، وليس بعده إلا الكفر. وتمام الكلام على هذا يطول، فله موضع آخر. وعسى أن أبسطه في الفرائد إن شاء الله تعالى (3). هذا، والدعاءُ نفسه عملٌ ينبغي أن يكون على الصراط المستقيم. وذلك بأن يكون عن يقينٍ صادقٍ وافتقارٍ وخضوعٍ إلى غير ذلك. والذي يجب التنبيه عليه ههنا أن يكون الداعي باذلًا جهدَه في حصول ما يدعو به ساعيًا _________ (1) في الأصل: "واقو" لم يكمل كتابة الكلمة. (2) كذا كتب بعض الأحيان بالسين. (3) لم أجد "الفرائد" المشار إليها في الأصل.
(7/118)
في تحصيل أسبابه العادية جهده. فقارئ الفاتحة إذا كان بغاية الحرص على تعرُّف الصراط المستقيم لازمًا جهدَه ما عرف منه، متباعدًا عن خلافه، مؤثِرًا له على هواه؛ وسلطانُ الهوى شديدٌ، ومسالكُه كثير= فبشِّرُه بالإجابة إذا قال: اهدنا السراط المستقيم. وأرى أنَّ الله تبارك وتعالى نبَّهنا على هذا، وأجاب هذا الدعاء في الجملة، فهدانا نوعًا عظيمًا من الهداية بقوله سبحانه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. فإنَّ هذا وإن كان من تتمة الدعاء، ولكن هذه سنَّة معروفة للأذكار والأدعية الواردة في الكتاب والسنة، كما في دعاء الاستغفار الثابت في الصحيح: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك" (1). فلابدَّ أن يعرف الإنسان معاني هذه الكلمات، ويتحقق بها؛ وإلا كان كاذبًا. مثلًا إذا لم يعزم التوبة، فكيف يقول: "وأتوب إليك"! وكذلك في الحديث الآخر في "صحيح البخاري" عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "سيِّدُ الاستغفار أن تقول: اللهمَّ أنتَ ربِّي [لا إله إلا أنت] خلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ" (2). فإذا كان الداعي لهذا مخِلًّا بما يستطيعه مما عاهد عليه ربَّه، ووعد من نفسه من الطاعة والاتباع؛ فكيف يقول هذا! وكذلك إذا تلا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ _________ (1) أخرجه الترمذي (3433) عن أبي هريرة، وأبو داود (4859) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والنسائي (1344) عن عائشة. (2) أخرجه البخاري (6306) من حديث شدَّاد بن أوس.
(7/119)
رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] أو دعا بها في الافتتاح مع أنَّ الظاهر أن المعنى: لله أصلِّي، ولله أنسُكُ، ولله أحيا، ولله أموت= فمن كان يحيا ليأكل ويشرب ويلهو ويلعب في معصية الربِّ، فكيف يقول هذا! وكذلك من كان يكره أن يموت في سبيل الله، وله هوى أو عصبية أو غير ذلك، ولا يكره أن يموت في الدفع عنها. فهذه الأذكار والأدعية وأمثالها، فيها تنبيهٌ للعبد وحملٌ له على أن يُجهد نفسَه أولًا على التحقُّق بما فيها، وعلى الأقلِّ يعقدُ عزمَه وهمتَه، ويُخلِصَ نيتَه للتحقُّقِ بذلك في الحال والتزامِه في الاستقبال، ثم يقولُها. ففي قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} تنبيهٌ لنا أنَّ على المسلم أن يكون حريصًا على اتِّباعِ المنعَمِ عليهم ومخالفةِ المغضوبِ عليهم والضالِّين. فإذا كان ذلك وتلا الفاتحة، وذكر ما فيها من الدعاء، كان شرطُه ــ وهو بذلُ [ل 64/ب] وسعِه فيما يستطيعه مما دعا به ــ حاصلًا، فيستحقُّ الإجابة. وإلَّا كان بمنزلة من يرى حريقًا في جانب البلد، وهو يقدر على أن يباعدَ نفسه عنه، فلا يفعل، بل يقتصر على الدعاء؛ فكيف إذا كان يسعى إلى الحريق، ويدنو منه، ويقول مع ذلك: اللهمَّ باعِدْني عن الحريق! وأما ما في قوله: {سِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1) إلخ من الهداية، فهو الدلالة على أنَّ الصراط المستقيم هو سراطُ هؤلاء دون أولئك. وهذا أصل عظيم، ولاسيما بعد القرن الأول؛ فإنَّ البدع والضلالات انتشرت وأُلصِقت بالدين، وأصبح كثير منها عند كثيرٍ من الناس، أو أكثرِهم، حتى كثيرٍ من _________ (1) كذا كتب هنا "سراط" بالسين، وهي قراءة قنبل. انظر: "الإقناع" لابن الباذش (595).
(7/120)
المشهورين بالعلم والولاية= هو من نفس الدين، بل من صلبه! بل عند جماعة منهم هو الدين! وتمييزُ هذا بمجرد العقل والاستحسان، أو بالنظر في كتب المتأخرين، أو بسؤال أكثرهم= لا مطمع فيه. وإنما يتميَّز ذلك بالرجوع إلى صراط المنعَم عليهم. وكذلك مناظرةُ أصحاب البدع لا تكاد تغني شيئًا إلا بالرجوع إلى هذا الأصل. وبما ذكرته من التنبيه والهداية يندفع إشكالٌ (1) ليس بالهيِّن. وهو أن يقال: إن المتبادر إلى الفهم أنَّ مثل هذا التركيب إنما يُقصَد به بيانُ الصراط المستقيم وتمييزُه حتى يتبيَّن للمخاطب ولا يشتبه عليه. وهذا محال هنا (2)، لأن الله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، فإذا دعاه العبد بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو سبحانه أعلم به. فما الحاجة إلى البيان والتمييز؟ وقد علمتَ بحمد الله أنَّ الأمر هنا بالعكس، وإنَّما هذا في المعنى بيان من الله عزَّ وجلَّ، أراد أن يُبيِّن للتالي ويُميِّز له ما هو الصراط المستقيم، فتدبَّرْ. وقد ذكروا في إعراب "صراطَ" أنه بدل من "الصراطَ" قالوا، والعبارة للبيضاوي (3): "وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة. وفائدته: التوكيد والتنصيص على أنَّ طريقَ المسلمين هو المشهودُ عليه _________ (1) وقفت بأخرة في مكتبة الحرم المكي الشريف على دفتر صغير ضمن أوراق متفرقة للمؤلف رحمه الله، تكلم فيه (ص 5 - 8) على هذا الإشكال، وأجاب بنحو جوابه هذا. (2) في الأصل: "هذا" سبق القلم. (3) في "تفسيره" (1/ 73).
(7/121)
بالاستقامة، على آكدِ وجهٍ وأبلَغِه، لأنه جُعِل كالتفسير والبيان له ... ". قال الشيخ زاده (1): " ... وأنه علم في الاتصاف بها، لأنه لو لم يكن كذلك لما صحَّ جعلُه كالتفسير والبيان للصراط المستقيم، وكالمزيل لما فيه من الإجمال والإبهام". أقول: أما النكتة الأولى، فقد يعارضها ما اشتهر عندهم أن البدل على نية الطرح والرمي. وأما الثانية، فيقال لهم: وما فائدة هذا التنصيص هنا؟ والحاصل أنَّ القوم عرفوا أنَّ الظاهرَ هو التفسير والبيان وإزالةُ الإجمال والإبهام، ولكنهم رأوا أن هذا لا يصح في خطاب الله عزَّ وجلَّ، فتكلَّفوا ما سمعتَ. وقد علمتَ ما عندي، والله يتولَّى هداك! هذا، وقد اختلفت عبارات السلف (2) في بيان مَن هم المنعَم عليهم. فعن ابن عباس: أنهم الملائكة والنبيُّون والصدِّيقون والشهداء والصالحون. وهذا مأخوذ من قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 66 ــ 69]. وعن ابن عباس أيضًا: أنهم المؤمنون. _________ (1) في "حاشيته" على البيضاوي (1/ 47). (2) انظر الأقوال الآتية في "تفسير الطبري" (1/ 178 ــ 179).
(7/122)
وعن الربيع: النبيون. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومَنْ معه. وقد مرَّ عن أبي العالية والحسن ما يفيد أنهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر وعمر. أقول: لا تخالُفَ بحمد الله بين هذه الأقوال. فأما في مقام الدعاء، فهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وكلُّهم مؤمنون مسلمون لربِّهم عزَّ وجلَّ. ومن قال: النبيون، فلأنهم الأصل. وأما في مقام التنبيه على الاتباع والبيان، فعلى التالي أن ينظر من يعرف بسيرتهم من المنعَم عليهم قطعًا، فيتأثرها. فإنه إذا علم أنَّ فلانًا من المنعَم عليهم قطعًا، فلابدَّ أن يكون صراطُه هو صراطَ جميعهِم، وهو الصراط المستقيم. [ل 65/أ] فقد سمَّى الله تعالى لنبيِّه جماعةً ممن قبله من الأنبياء، ثم قال: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وأما أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم -، ورضي عنهم، فقد علموا أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منعَم عليه قطعًا، وأنَّ صراطَه هو صراطُ المنعَم عليهم، وأنه الصراط المستقيم، فكان التنبيه في حقهم والدلالة على اتباعه. وهكذا من جاء بعدهم. ويزاد في حقِّهم بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أصحابُه الذين تحقَّق أنهم منعَم عليهم. فإذا لم يُعرَف الحكم أو السنة أو الأدب أو نحو ذلك من الكتاب والسنة نُظِرَ في إجماع الصحابة. ولذلك خصَّ أبو العالية (1) أبا بكر وعمر لِتيسُّر معرفةِ إجماع الصحابة في عهدهما. وإذا لم _________ (1) في الأصل: "أبا العالية"، سهو، وقد سبق قوله.
(7/123)
يكن إجماعٌ فقولُ الواحد من الصحابة، فقولُ الصحابي أولى من غيره، ولاسيَّما من قامت الحجة على أنه بخصوصه من المنعَم عليهم كالخلفاء الأربعة وغيرهم. وقِسْ على هذا. ومن إجماعهم: تركُهم لكثير من الأمور التي انتشرت بين المسلمين بعدَهم على أنها من الدين. فنقول: هذا الفعل بدعة؛ لأنه لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه. ولو كان من الدين لما اتَّفقوا على تركه. والله أعلم. " {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال أهل العربيّة: إن كلمة "غير" لا تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لتوغُّلها في الإبهام. واستثنى جماعة من محققيهم (1) ما إذا وقعت بين متضادين معرفتين، وذلك لزوال الإبهام؛ وهي ههنا كذلك. فمن قال: لا تتعرَّف، حمَلَها في هذا الموضع على أنها بدل من "الذين". وإبدالُ النكرة من المعرفة جائز عند البصريين بشرط حصول الفائدة. وقال الكوفيون: لا يجوز إلا إذا اتَّحد اللفظُ ونُعِتت النكرةُ (2)، كما في _________ (1) ومنهم ابن السرَّاج والسيرافي. انظر: "توضيح المقاصد" (791) و"حاشية الصبان" (1/ 366). (2) الشرط الأول وهو اتحاد اللفظ نقله ابن مالك عن الكوفيين في "شرح التسهيل" (3/ 331). ولكن إعرابَ الكسائي والفراء لكلمة "قتال" في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] بأنَّ خفضه على نية "عن" مضمرة= لا يؤيد ما نقله. انظر: "معاني القرآن" للفراء (1/ 141) و"إعراب القرآن" للنحاس (1/ 107). ونبَّه على ذلك أبو حيان في "ارتشاف الضرب" (1962) وقال: "ونسب بعض أصحابنا ما نقله ابن مالك عن الكوفيين إلى نحاة بغداد لا إلى نحاة الكوفة".
(7/124)
قوله تعالى: {بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 15 ــ 16]. وقال جماعة ــ وعليه جرى ابن جرير (1) ــ: إن الموصول مع صلته يضعف تعريفه، فيصح إبدالُ النكرة منه. وقال بعضهم: هي نعت لِـ"الذين"، إما بأن تكون هي معرفة لوقوعها بين متضادَّين معرفتين، وإما لضعف تعريف الموصول. والذي يظهر أنه على فرض أن "غير" لا تتعرف بوقوعها بين متضادين معرفتين، فعلى الأقل تقرب من المعرفة. فهي قريبة من المعرفة، و"الذين" بصلته قريب من النكرة، فالتقيا، فيصح البدل والنعت (2). هذا، والأولى هنا البدل، لأن البصريين ــ والاعتماد عليهم ــ لم يشترطوا له إلا حصول الفائدة. وصحته هنا قائمةٌ الحجةُ بها على الكوفيين بما ذكرنا. هذا، والفائدة على نحو ما تقدم. أي أنَّ في هذا تنبيهًا للمؤمنين على أخذ أنفسهم باجتناب ما عليه المغضوب عليهم والضالُّون. وفيه هدايةٌ لهم بأنَّ المغضوب عليهم والضالِّين وإن كانوا في الأصل أو بزعمهم متَّبِعين صراطَ الأنبياء المنعمَ عليهم، فهم أنفسُهم غيرُ منعَم عليهم، فطريقُهم مخالفٌ لصراط المنعَم عليهم، فهو مخالفٌ للصراط المستقيم. _________ (1) الذي جرى عليه ابن جرير في "تفسيره" (1/ 180) هو أن "غير" صفة للاسم الموصول. وهو الوجه الثاني من القول التالي. (2) انظر: "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري (1/ 10).
(7/125)
وقوله: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} كان الظاهر أن يقال: الذين غضبتَ عليهم. ومن الحكمة ــ والله أعلم ــ في العدول عن ذلك هنا أنَّ الفاتحَة سورةُ رحمةٍ مكرَّرةٍ وحمدٍ وثناءٍ، والتصريحُ بنسبة الغضب [إلى] (1) الله تعالى لا يساعد ذلك في بادي النظر، وإن كان غضبُ الله على من غضِبَ عليه هو من لوازم الرحمة العامَّة، وهو مقتضٍ لحمد الله تعالى عليه؛ لأنه مع صرف النظر عن الرحمة العامَّة مقتضى الحكمة البالغة. ومن الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ تنبيهُ المتدبِّر على أنَّ المدار على الرحمة، وأنَّ الغضب كالعارض. ولذلك اشتَقَّ اللهُ لنفسه أسماءً من الرحمة والرأفة ونحوها، ولم يشتقَّ لنفسه اسمًا من الغضب. وفي "الصحيحين" في الحديث القدسي: "إنَّ رحمتي سبقت غضبي" (2). ومن الحكمة ــ والله أعلم ــ تعليمُ العبادِ حسنَ الأدب مع ربِّهم عزَّ وجلَّ، فلا ينسبون إليه تصريحًا ما قد يُوهِم. ومنها ــ والله أعلم ــ تأنيسُ المؤمن؛ لأنه إذا تلا هذه السورة متدِّبرًا حقَّ التدبُّر، فقد صار على حالٍ عظيمةٍ من الخضوع والتعظيم لربِّه عزَّ وجلَّ والتوحيدِ والحرصِ على الاهتداء واتباعِ الصراط المستقيم وصدقِ الإقبال على ربه عزَّ وجلَّ وغير ذلك، فاستحقَّ إيناسَه بأن لا يقع بعد ذلك كلِّه تصريحٌ بنسبة الغضب إلى ربِّه عزَّ وجلَّ. فإنْ تدبَّر وعرَفَ أنَّ المعنى على ذلك آنسه العدولُ عن التصريح لما فيه من التنبيه على الحِكَم المذكورة. _________ (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) سبق تخريجه.
(7/126)
وقوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} أي وغيرِ الضالِّين. والضلالُ خلاف الاهتداء. فالمعنى: وغيرِ الذين ضلُّوا عن سبيل الحق. ولم يقل: "ولا الذين أضللتَ"، لنحو ما تقدَّم، وللتنبيه على أنَّ أصلَ الضلال إنما يجيء من العبد نفسه، فأما إضلالُ الربِّ عزَّ وجلَّ لمن شاء، فإنما يقع عقوبةً لمن اختار الضلال لنفسه وأصرَّ عليه. قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. وسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ الكلام على ذلك (1). هذا وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعن جماعة ممن بعده من الصحابة والتابعين أنَّ المراد بالمغضوب عليهم: اليهود، وبالضالِّين: النصارى (2). وفي القرآن ما يشهد لذلك. وهو الذي يقتضيه السياق، لأنه قد تقدَّم ذكرُ الذين أنعم الله عليهم، وبيَّن أنَّ رؤوسهم الأنبياء ثم أتباعهم. وقد عُرف أنَّ اليهودَ كان أوائلُهم من أتباع الأنبياء كموسى وهارون، وكان فيهم بعد ذلك عدد من الأنبياء، وأنَّ النصارى من أتباع عيسى مع اتباعهم لموسى وهارون ومَن بعدهما، وأواخر الأمتين يزعمون أنهم كأوائلهم ومعروفون بين الناس أنهم في الجملة من أتباع الأنبياء= فقد يُتوهَّم دخولُ اليهود والنصارى في المنعَم عليهم، فربَّما يحمل ذلك على اتباعهم في بعض الأشياء توهُّمًا من الصراط المستقيم. هذا مع كثرة ملابسة المسلمين لهاتين الأمتين. _________ (1) لم أجده في الأصل. (2) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 185 ــ 188)، (1/ 193 ــ 195).
(7/127)
[ل 65/ب] فاقتضت الحكمةُ أن يبيِّن الله عزَّ وجلَّ لعباده خروجَ اليهود والنصارى عن المنعَم عليهم، وبيِّنٌ سببُ ذلك, وهو أنَّ اليهود خرجوا في الواقع عن الصراط المستقيم الذي كان عليه موسى وهارون ومَن بعدهما من الأنبياء خروجًا أوجَبَ عليهم الغضبَ، وأنَّ النصارى خرجوا عن الصراط المستقيم الذي كان عليه عيسى والأنبياء من قبله، وضلُّوا الضلالَ البعيدَ. فعُلِمَ بذلك أنَّ ما هم عليه مخالفٌ للصراط المستقيم وأنَّ ما بأيديهم من الكتب لا يوثق بها. وزعم جماعة من المتأخرين (1) أن الأَولى حملُ المغضوب عليهم والضالين على العموم، أي كُلِّ مغضوب عليه وكلِّ ضالٍّ. وأقول: لا حاجة إلى هذا؛ لأنه مع مخالفته للمأثور، ومخالفته للسياق، وإخلاله ببعض الفوائد المتقدمة، ليس فيه فائدة. على أنَّ حاصله حاصلٌ أيضًا مع التفسير المأثور، فإنه إذا عُلِمَ أنَّ اليهودَ مغضوبٌ عليهم، لا منعَم عليهم، فصراطُهم مخالفٌ للصراط المستقيم، فعلى المسلم الحذرُ مما هم عليه؛ وأنَّ النصارى ضالُّون غيرُ منعَم عليهم، فكذلك كان في ذلك تنبيه (2) على أنَّ كلَّ من تحقَّق أنه مغضوب عليه أو ضالٌّ، فالحال فيه كذلك. والله الموفق، لا إله إلا هو. * * * * _________ (1) في الأصل: "المتأخرون"، سهو. (2) في الأصل: "تنبيهًا"، سهو.
(7/128)
مسألة قال ابن جرير (1): "اختُلِف في صفة الغضب من الله جلَّ ذكرهُ، فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضِبَ عليه من خلقه إحلالُ عقوبته بمن غضِبَ عليه ... وقال بعضهم: غضبُ الله على من غَضِب عليه من عباده ذمٌّ منه لهم [ولأفعالهم] (2) وشتمٌ منه لهم بالقول. وقال بعضهم: الغضب معنى مفهوم كالذي يُعرف من معاني الغضب، غيرَ أنه وإن كان كذلك من جهة الإثبات، فمخالفٌ معناه [منه] معنى ما يكون مِن غضب [الآدميين] الذين يُزعجهم ويُحرِّكهم ويَشُقُّ عليهم ويؤذيهم، لأنَّ الله جلَّ ثناؤه لا تحلُّ ذاتَه الآفاتُ، ولكنه له صفة، كما العلمُ له صفةٌ، والقدرة له صفة، على ما يُعقَل من جهة الإثبات، وإن خالفتْ معاني ذلك معانيَ علوم العباد، التي هي معارف القلوب وقواهم التي تُوجَد مع وجود الأفعال وتُعدَم مع عدمها". أقول: القولان الأولان كأنهما لبعض معاصريه أو متقدِّميه قليلًا ممن خاض في هذه الأشياء. فأمَّا السلفُ فلم يشتبه عليهم الأمر، لأنَّ معنى الغضب في حدِّ ذاته معنى مكشوف، والعرب تفهمه مطلقًا، ثم تنسبُه وتفهم نسبتَه إلى من اتصف به على حسب ما يليق به. وقد علموا أنَّ الربَّ عزَّ وجلَّ ليس من جنس خلقه، فلا يفهمون من نسبة الغضب إليه سبحانه أنَّ غضبه كغضب الإنسان من كل وجه، حتى يلزمَه كلُّ ما يلزم غضبَ الإنسان. _________ (1) في "تفسيره" (1/ 188 ــ 189). (2) ما بين الحاصرتين هنا وفيما يأتي زدته من "تفسير الطبري".
(7/129)
ومَن تأمَّل المواقع التي نُسب الغضبُ فيها إلى الربِّ عزَّ وجلَّ في الكتاب والسنَّة علم أنَّ غالبها لا يحتمل التأويل. والله الهادي إلى سواء السبيل.
(7/130)
الرسالة الثالثة في تفسير أول سورة البقرة (1 - 5)
(7/131)
[1/ب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {لَا رَيْبَ فِيهِ}: الريبُ ــ والله أعلم ــ شكٌّ في صدق الخبر ونحوه، فإذا شككت في صدق مخبر فذاك ريب، وكذا إذا شككت في عفة مَن يتظاهر بالعفة؛ حتى لقد يقال فيما إذا شككت في نزول المطر، وقد ظهرت أماراته من تراكم السحاب والرعد والبرق. {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}: أي هدى لهم بالفعل، به اهتدوا، وبه يهتدون. فلا ينافي أن يكون هدى لغيرهم بالقوة، لأنّ المتقين قد كانوا غير متقين، وإنّما استفادوا التقوى والهدى منه. فإن لم تستفد منه التقوى والهدى فذاك نقصٌ فيك. ثم يتفاوت الهدى بتفاوت التقوى. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ... }: صفات كاشفة. وللصفة الكاشفة فوائد: الأولى: إحضار المعنى في ذهن السامع مفصَّلًا، إذ قد لا يتدبر المجملَ، كقول الأم لولدها: أنا أمُّك التي حملتك تسعة أشهر ثقلًا، ووضعتك كرهًا، وفعلت، وفعلت؛ فإنّها لو اقتصرت على قولها: أنا أمك، لم يؤثّر كلامها فيه كما يؤثر التفصيل؛ فتدبر. الثانية: النصُّ على صفة قد يجهل المخاطب، أو يجحد، أو يشك أنَّها ملازمة للموصوف؛ كقوله في الآيات: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} فإنَّ أهل الكتاب يجحدون [2/أ] التلازم بينها وبين التقوى.
(7/133)
الثالثة: إخراج صفة قد يزعم المخاطب أو يجوِّز وجودها في الموصوف. {بِالْغَيْبِ}: قيل: إنَّ الباء بمعنى (في)، أي: يؤمنون غائبين. وقيل: إنها للاستعانة، أي: يؤمنون بالقلوب. وكلا القولين ضعيف، والصواب أنّ الباء هي التي يوصف بها الإيمان في نحو: آمنت بالله. وعليه فإن حُملت (ال) على الجنس لزم أن يكون الظاهر أنَّه يكفي الإيمان بشيءٍ ما من الغيب وهو باطل، وإن حُملت على الاستغراق لزم اشتراط الإيمان بكل غيب؛ وهو غير صحيح. فالصواب أنّها للعهد أي: بالغيب الذي دعت الرسل إلى الإيمان به، وذلك الإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر وسائر ما عُلِم أنّ الرسل أخبرت به. { ... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}: هذا كالتفسير للغيب، ولذلك ــ والله أعلم ــ أعاد لفظ "والذين"، فإن الإيمان بما أُنزل إليه وما أُنزل من قبل يتضمن الإيمان بكل ما يجب الإيمان به من الغيب. وقوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يحتمل أن يكون خاصًّا بالقرآن وتدخل السنة بما في القرآن من الشهادة لها، ويحتمل أن يعمَّ القرآن والسنة بالنظر إلى معانيها، فإنَّ معانيها منزَّلة. ونحوه يقال في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. [2/ب] {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: إنما نصَّ عليها مع دخولها في جملة ما أُنزل إليه وما أُنزل من قبله لأهميتها، فإن الانقياد للشريعة يتوقف على الرغبة والرهبة، وإنما يحصل ما يعتدُّ به منهما لمن آمن بالآخرة. فإنَّ الرغبة والرهبة لما في الدنيا ضعيفتان، لما يُشاهد كثيرًا من ابتلاء المؤمن وتنعيم الكافر.
(7/134)
وفي قوله: {هُمْ يُوقِنُونَ} قَصرٌ للإيمان بالآخرة عليهم، فأفاد أن غيرهم كاليهود والنصارى لا يوقنون بالآخرة، وإن زعموا ذلك. وجاء هنا بقوله: {يُوقِنُونَ} إشارة إلى أن غيرهم قد يمكن أنه يؤمن بها ولكنه لا يوقن، وإلى أن المطلوب في حق الآخرة الإيقان بها. ولا يكفي التصديق الخالي عن اليقين، لأنه لا يكفي لحصول الرغبة والرهبة اللتين يدور عليهما الانقياد للشرع. {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى}: أتى باسم الإشارة ليلتفت المخاطب إلى الصفات السابقة، فيستحضرها مُفصَّلة ــ وقد تقدَّم ما في ذلك من الفائدة ــ وليعلم أن الموجِب لكونهم على هدًى هو اتصافهم بتلك الصفات، وليشهد بأنهم إذا اتصفوا بها حقيقون بأن يقال: إنهم على هدى. وقوله: {عَلَى هُدًى} أرى أنّ فيه استعارة بالكناية، حيث شبَّه الهدى بالسراط، وطوى ذكر المشبَّه به، ورمز له بشيءٍ من لوازمه، وهو "على". [3/أ] وأرى أن الهدى هنا غير الهدى السابق في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. فالأول بمعنى الدلالة، وهذا بمعنى التوفيق والإرشاد. وكلاهما قد تضمنهما قوله في الفاتحة: {اهْدِنَا السِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}. والآيات من البقرة كأنها إجابة لذاك الدعاء في الفاتحة ببيان السراط المستقيم، وبيان المنعَم عليهم من غيرهم. {مِنْ رَبِّهِمْ} فيه فوائد:
(7/135)
الأولى: الإشارة إلى أن هذا الهدى من الله تعالى محضًا، أي: بخلاف الهدى السابق في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، فإنه وإن كان منه تعالى لكن اختيارهم فيه كان أقوى من اختيارهم في الثاني، فإن من اختار الهدى بقدر إمكانه فتح الله تعالى له من الهدى أضعاف ذلك. الثانية: الإشارة إلى أن هذا الهدى حصل لهم بمقتضى الربوبية، فيفهم من ذلك أن هذا الهدى متوجِّه إلى كل مربوب، وإنَّما يمتنع حصوله للكفار لقصورٍ فيهم. الثالثة: الإشارة إلى أن هذا الهدى داخل في إجابة قوله: {اهْدِنَا السِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأن هذا الدعاء مبنيٌّ على قوله في الفاتحة: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ لأنها أول الصفات العليا فيها، إذ لم يتقدمها بعد البسملة إلا اسم الجلالة، وهو عَلَم لا يشعر البناء عليه بالعلة. الرابعة: الإشارة إلى أنّ العناية التي تُفهم من لفظ "الرب" لها مزيدُ اختصاص بمن اتصف بالصفات السابقة، فهو سبحانه رب العالمين، وعنايته شاملة لهم جميعًا، ولكن حظ هؤلاء من العناية أتم. ولنقتصر على هذا. [3/ب] {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أعاد اسم الإشارة ليعود المخاطب فيلتفت إلى الصفات السابقة، فيستحضرها تفصيلًا لنحو ما تقدَّم.
(7/136)
الرسالة الرابعة في ارتباط الآيات في سورة البقرة
(7/137)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [2/أ] الحمد لله، وسلامٌ (1). سورة الفاتحة ارتباط آياتها ظاهر، وارتباطها بسورة البقرة سيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ بيانه عند الكلام على الآية (142) من البقرة. وأيضًا، النتيجة المطلوبة في الفاتحة: هداية الصراط المستقيم، صراط المُنْعَم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وفي أول البقرة: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [2] ثم بيَّن فيها أحوال الفرق الثلاث، فكأنه في سورة البقرة شرع في إجابة الدعاء الذي في الفاتحة من وجهٍ، والله أعلم. سورة البقرة بدأ الله ــ عز وجل ــ بذكر القرآن، ووصفه بأنه لا ريب فيه وأنه هدى؛ فاقتضى ذلك قسمة الناس إلى قسمين: مهتدٍ، وغير مهتدٍ. فقدَّم سبحانه وتعالى المهتدين لفضلهم، وبيَّن صفتهم إلى تمام خمس آيات، ختمها ببيان ثوابهم إجمالًا، وهو قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [5]. ثم عقبه بذكر غير المهتدين، وقسمهم إلى قسمين: كافر صريح، ومنافق. وقدَّم الكافر لأمرين: _________ (1) كذا في الأصل. وقد افتتح المؤلف عددًا من رسائله هكذا.
(7/139)
الأول: أنه أقل شرًّا من المنافق. والثاني: لأنه في الطرف الآخر من الأقسام، والمنافق مذبذب، كما تقول: "طويل، وقصير، ومتوسط". فبيَّن تعالى صفة الكافر في آيتين (6 - 7) ختمهما ببيان عقوبتهم إجمالًا، وهو قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [7]. ثم عقَّبه بذكر المنافقين، فذكر وصفهم في ثلاث آيات (8 - 10) ذكر في آخرها عقوبتهم إجمالًا، وهو قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [10]. وخُصَّ الأولون بـ {عَظِيمٌ} لعظمة ذنبهم ظاهرًا لمجاهرتهم. والمنافقون بـ {أَلِيمٌ} لأنّ كفرهم غير عظيم في الصورة، ولكنه أشد ضررًا وإيذاءً، [2/ب] وذلك يناسب الإيلام. ولما كان من المنافقين ذنبان: أحدهما الكفر الذي هو التكذيب، وثانيهما: الكذب= بيَّن الله تعالى أنهم يستحقون على كل منهما عذابًا أليمًا. فنبَّه على الأول بقوله: {بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ} على قراءة من قرأ بالتشديد، وعلى الثاني بقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [10] على قراءة من قرأ بالتخفيف (1). ولما كان كذبهم لم يتقدم منه إلا قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} [8]، وقد أراد _________ (1) قرأ الكوفيون من السبعة بالتخفيف، والباقون منهم بالتشديد. انظر: "الإقناع" في القراءات السبع (597).
(7/140)
الله عز وجل بقوله: {يَكْذِبُونَ} [10] ما هو أعمُّ من ذلك، وقد تقدم في وصفهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [9]، وهذا مجمل= اقتضت الحكمة أن يفصل كذبهم ومخادعتهم، خصوصًا والسورة مدنية، وفتنة المنافقين بالمدينة، وذلك يقتضي الإفاضة في شأنهم. فبيَّن الله عز وجل كذبهم ومخادعتهم، وأفاض في شأنهم إلى تمام عشرين آية من السورة (11 - 20). ثم وجَّه الله عز وجل الخطاب إلى عامة الناس ــ الشامل للثلاث الفرق ــ بالأمر بعبادته، أي: وحده، كما يدل عليه السياق، ونبهنا على حكمة عدم التصريح به في الفوائد (1). وبيَّن مقتضيات إفراده بالعبادة في آيتي (21 - 22)، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا .. } [23 - 24]. وهذا مع اتصاله بما قبله مرتبط بأول السورة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [1 - 2]. [3/أ] وهذا من عجائب القرآن: تجد السورة كالشجرة لها أصل ولها فروع، فإذا طال فرع من الفروع، وانتهى منه، وأراد الشروع في فرعٍ آخر= لم يكتف بالرجوع إلى الأصل، بل يربط أول الفرع الثاني بآخر الفرع الأول؛ فيكون الارتباط من جهتين. ولما جاء في آية (24): {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وكان فيه تفصيل لما أجمل سابقًا من عذاب الكفار والمنافقين _________ (1) لم نجدها في الأصل.
(7/141)
في قوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ}، {عَذَابٌ أَلِيمٌ} = اقتضى الحال أن يفصل أيضًا نعيم المؤمنين الذي أجمل بقوله في أول السورة: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ففصله في آية (25)، وذكر فيها ثمر الجنة وتشابهه والأزواج المطهرة؛ ليرتبط بما بعده من قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... } [آيتي: 26 - 27]؛ [3/ب] فإن الثمرة وتشابهها، والأزواج وطهارتها، يصدق عليهما أنهما مثل لنعيم الجنة. قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]. وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15]. هذا مع أن قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} موجه بالذات إلى إنكار المنافقين المثلين المتقدمين فيهم في أول السورة ــ كما جاء عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة (1) ــ ولكن لم يكتف بهذا الربط لما قدمنا. وعبر في آية (26) بقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} ولم يقل: (نافقوا)، وإن كان السياق يبين أنهم المراد؛ لأمرين: الأول: الإشارة إلى أن الكفار المصرحين قد يشاركون المنافقين في ذلك. _________ (1) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 1/ 398).
(7/142)
الثاني: أن يربط الآيتين بآية: (28)، وهي قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ}، ولم يكتف بارتباطها بما قبل ذلك لما تقدم. وقال في هذه الآية: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ... }، اختار هذه الأوصاف ليربط الآية [4/أ] بآية (29) قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ... } [29]، مع أن هذه الآية مرتبطة بقوله في آية (22): {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}. ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... } [30]، وهذا مرتبط بما قبله من حيث خلق الناس، وخلق السماء والأرض. ثم أفاض في قصة خلق آدم إلى آية: (39)، وجاء في آيتي (38 - 39) ما هو من تمام القصة، ويصلح للارتباط بما بعده، وهو قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وبعده: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ... (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [40 - 41]. وارتباط ذلك بما قبله ظاهر؛ فإن بني إسرائيل ممن دخل تحت قسم الكفار الماضي أول السورة ثم المتكرر ــ كما بينَّا ــ إلى أن ذكر متصلًا بهذه الآية.
(7/143)
وأيضًا، فقد مر أول السورة في صفة المتقين: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [4]. وأيضًا، فإن في صفة الجنة ما يتعلق بأهل الكتاب، فإنهم زعموا أن ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح. وكذا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا ... } [26] إلخ؛ ففي "إنجيل متى" إصحاح (13): "10: فتقدم التلاميذ وقالوا له: لماذا تكلمهم بأمثال؟ 11: فأجاب، وقال: لأنه قد أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، وأما لأولئك فلم يُعطَ. 12: فإنَّ من له سيُعطى ويزاد، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه". وكذا في قصة خلق آدم ما يتعلق بأهل الكتاب، فإن القصة في كتابهم، وقد بدَّلوا فيها وحرَّفوا، ففيما تقدم تصديق القرآن ما معهم، مع إصلاح ما ضلُّوا عنه. ومع هذا، فقوله هنا: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} في وصف الكتاب؛ فهو مرتبط بأول السورة. وهنا احتمالان: الأول: أن يكون قسم الكفار المتقدم شاملًا لأهل الكتاب، ثم خصَّهم بذكر هنا وفيما سيأتي، لما يختصُّ بهم من العبر. الثاني: أن يكون المراد بالكفار سابقًا المشركون خاصة، وأخَّر ذكر أهل الكتاب إلى هنا.
(7/144)
وعلى كل حال، فقد تمت الأقسام العقلية بالنسبة إلى الإيمان بالكتاب، وهي أربعة: مصدق ظاهرًا وباطنًا، وهم المؤمنون. مرتاب ظاهرًا وباطنًا، وهم المشركون. مصدق ظاهرًا فقط، وهم المنافقون. مصدق باطنًا فقط، وهم أهل الكتاب. والله أعلم. ثم أفاض في شأن بني إسرائيل، [4/ب] والارتباط ظاهر، إلى آية (103). وأما آية (104): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} فارتباطها ببني إسرائيل أن العرب تستعمل هذه الكلمة بمعنى: انظرنا، وهي بلسان اليهود شَتْم؛ فكان الصحابة ربما خاطبوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بها، بمعنى"انظرنا"، فاهتبلها اليهود، فكانوا يخاطبونه هم بها مُسرِّين في أنفسهم معنى الشتم، فنهى الله تعالى المؤمنين عن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بها أصلًا؛ ليقطع دسيسة اليهود. آية (105) ارتباطها بأهل الكتاب ظاهر. وأما بالآية قبلها فلأن إنزال الله تعالى الأمر بترك {رَاعِنَا} واستبدالها بـ {انْظُرْنَا} خير أنزله الله، ولا بد أن يكرهه أهل الكتاب لحسمه دسيستهم. ولما كان الحكم عامًّا ضمَّ إلى أهل الكتاب المشركين. وفي الآية تمهيد لنسخ القبلة؛ فإن استقبال الكعبة من الخير والرحمة الذي اختص الله تعالى به المسلمين. [5/أ] (106) قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ
(7/145)
مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: ارتباطها بالذي قبلها من جهة أن المنع من قول {رَاعِنَا} نسخ في الجملة، فإن قولها كان جائزًا قبل ذلك؛ بدليل إقرار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها مدة، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة (104)، وذلك لمَّا اتخذها اليهود وصلة إلى الاستهزاء. ولها ارتباط بالآية التي قبلها؛ لما قدمنا أن فيها تمهيدًا لنسخ القبلة. ولها تعلق بالفرع، وهو شأن بني إسرائيل، من حيث إن فيها ردًّا عليهم لأنهم ينكرون النسخ. وهي مع ذلك متعلقة بأصل السورة، قوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [1 - 2]. وفيها تمهيد لما يأتي من نسخ القبلة، وجعلت قبل ذلك بمدة حتى لا ينزل نسخ القبلة إلا وقد استقر في نفوس المسلمين حكم النسخ، واطمأنوا به، فلا يرد عليهم نسخ القبلة بغتة، فينفروا منه، والله أعلم. فأما تمام الآية، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فالذي يحضرني أنه يظهر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم شقَّ عليهم النسخ؛ لأنه يفتح للكفار من أهل الكتاب والمشركين باب الشغب والطعن في القرآن، كما يشير إليه ربط الآية بأول السورة، وربما يكون ذلك سببًا لامتناع جماعة عن الإسلام، أو ارتداد جماعة من المسلمين. فسلَّى الله عز وجل رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -[5/ب] بقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: فهو يقدر على هداية الناس جميعًا، ويقدر على منعهم من الشغب، ويقدر على إقامة
(7/146)
البرهان على بطلان شغبهم، ويقدر على دفع ما خشيته من كون النسخ ربما يمنع جماعة من الإسلام أو حمل بعض المسلمين على الارتداد. وأكد ذلك بآية (107)، وقال في آخرها: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. علاقتها بما قبلها أن من جملة ما خشوه أن يشغب عليهم الكفار، وأن يمتنع جماعة من الإسلام، ولو أسلموا لكثر المسلمون وتقوَّوا بهم؛ وأن يرتدّ بعض المسلمين، فيقلَّ المسلمون ويذلُّوا. فأخبرهم تعالى أنه ليس لهم ولي ولا نصير غيره، وإذًا فلا معنى لخشيتهم أن لا يكثر أولياؤهم وأنصارهم. وعبَّر بضمير الجمع في هذا على معنى: لك ولأصحابك. وبذلك تتصل الآية بما بعدها. آية (108): {أَمْ تُرِيدُونَ} خطابٌ للصحابة لتضمن قوله: {لَكُمْ} إياهم. ففي الآية هذه اللطيفة، وهو أنه بخطاب واحد وجَّهَ ما يناسب حال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إليه، وما يناسب حاله وحال الصحابة إليهم جميعًا، وما يناسب أصحابه فقط إليهم فقط، وميَّز بين الأخيرين بالقرائن. {أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} تشبيه السؤال بالسؤال في مطلق كون كل منهما سؤالًا فيه جرأة على الله تعالى وعلى رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. فالسؤال الذي أنكره الله على المسلمين يتناول أن [6/أ] يسألوه أن لا يقع في الشرع نسخ في القرآن ولا في الأحكام؛ لخشيتهم الأمور السابقة. وبهذا ظهر علاقة الآية بما قبلها.
(7/147)
وقوله تعالى في آخرها: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} مرتبط بما قبله من جهتين: الأولى: الإشارة إلى أن الإصرار على السؤال المذكور بعد أن نهى الله تعالى عنه كفر. والثاني: تحذير الضعفاء أن يقع في أنفسهم ارتياب بسبب النسخ. (109) {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} هذا يبين ما قدمنا أن الكفار طعنوا في القرآن والإسلام بسبب النسخ ليردُّوا المسلمين عن دينهم. وإخبار الله عز وجل المسلمين بهذا يحملهم على بغض أهل الكتاب وحب الانتقام منهم، فعقبه تعالى بقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فيقدر على أن يهديهم أو يهلكهم أو يسلطكم عليهم. (110) {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [6/ب] مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ارتباطها بما قبلها أن المعنى ــ والله أعلم ــ: أعرضوا عن أهل الكتاب، واشتغلوا عنهم بما كُلِّفتم؛ فإن اشتغالكم بذلك ــ مع ما فيه من الخير الذاتي ــ يغيظ أهل الكتاب ويحزنهم؛ لأنهم يكرهون لكم الخير، ويودون أن يردوكم عن دينكم، كما تقدم في آيتي (105) و (109).
(7/148)
وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ... } (1) تمهيد للرد على أهل الكتاب فيما ادعوه في آية (111). وبذلك علم الربط. أما (112) ظاهر (2). (113) ارتباطها بما قبلها ظاهر أيضًا، وبيَّن بها اختلاف اليهود والنصارى تمهيدًا لما يأتي في شأن القبلة؛ فإن القبلة مما اختلفوا فيه، والمراد بالذين لا يعلمون: المشركون. (114) {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [7/أ] ارتباطها بما قبلها أننا قدمنا أن في الآية التي قبلها إشارة إلى شأن القبلة، وذكر المساجد في هذه الآية إشارة إلى المسجد الحرام. فقد ثبت أن استقباله وحجّه من شريعة إبراهيم وموسى، ولكن اليهود والنصارى لكونهم بني إسحاق حسدوا بني أخيه إسماعيل، فحرفوا آيات التوراة وبدَّلوها، وبذلك منعوا قومهم أن يحجوه فيذكروا الله فيه، وأن يستقبلوه. وسعوا في خرابه، أي بإنكارهم أن يكون له فضل أو مزية. وَبَّخَهم سبحانه على جحدهم فضيلة المسجد الحرام، وحجه، واستقباله، بإشارة لا يتحققها إلا من قرأ التوراة، كرمًا منه تعالى؛ للمعنى الذي تقدم في آية (109) من الأمر بالعفو عنهم والصفح. _________ (1) في الأصل: "وما تعملوا من خير ... "، وهو سهو. (2) كذا في الأصل دون فاء الجواب. وانظر: "شواهد التوضيح والتصحيح" لابن مالك (136).
(7/149)
وقد بيَّن الله تعالى هذا في عدة آيات، منها قوله: { ... وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 1]. ومع هذا فالآية تشمل المشركين في إخراج المسلمين من مكة ومنعهم المسجد، وقد نبَّه على ذلك بذكر المشركين في الآية التي قبلها كما مر، والله أعلم. فلما أمكن أن يقول أهل الكتاب، أو من قرأ التوراة من غيرهم، أو من أوغل في تدبر القرآن: فما بال محمد وأصحابه مع هذا يستقبل بيت المقدس؟ = [7/ب] قال تعالى: آية (115): {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: فاستقبال موضع مخصوص ليس أمرًا مقصودًا لذاته، وإنما يتعيَّن الموضع المخصوص إذا عيَّنه الله عز وجل، فتجب طاعته. وقد أمر محمدًا وأصحابه باستقبال بيت المقدس لحكمةٍ يعلمها، فكان هو قبلتهم حينئذ طاعة لله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الكعبة هي القبلة الأصلية. وبهذا علم الارتباط. ويؤيد التفسير المذكور آية (142) من هذه السورة. (116) {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}: القائلون هم اليهود والنصارى في عزير، والنصارى في عيسى، والمشركون في الملائكة. وقد مر ذكر الثلاث الفرق في آية (113)؛ فإن المراد بالذين لا يعلمون: المشركون. والله أعلم. وبهذا علم الارتباط.
(7/150)
(117) ظاهر. (118) المراد بالذين لا يعلمون: المشركون، كما تقدم، وبالذين من قبلهم: اليهود، وكذا النصارى. والله أعلم. وبهذا علم الارتباط. (119) الآية ردٌّ عليهم في قولهم في الآية السابقة، وإرشادٌ للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن لا يحرص على إحداث آية، ومثله في القرآن كثير، والارتباط ظاهر. [8/أ] (120) ظاهر. (121) {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ... } ارتباطها بما قبلها ظاهر، والآية إشارة إلى كتمانهم شأن الكعبة ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. (122) و (123) مناشدة لأهل الكتاب أن لا يكتموا شأن الكعبة ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. (123) إلى (141): بعد أن لاطفهم الله عز وجل فيما تقدم بأن عاتبهم في شأن ما يعلمونه في الكعبة ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بكلام لا يكاد يفهمه غيرهم، كما هي الطريقة المحمودة في النصيحة أن تكون سرًّا= لم ينجع ذلك فيهم، فتعين أن يصارحهم ويكشف الغطاء عن حقيقة الأمر؛ فكان ذلك في هذه الآية وما بعدها. فظهر تمام الارتباط بحمد الله تعالى. وذكر الفاضل المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتابه "الرأي الصحيح في مَن هو الذبيح" ــ وهو كتاب نفيس ــ أن في الآيات إشارة إلى أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، [8/ب] وأن الله تعالى لم يصرِّح بذلك عفوًا عن أهل الكتاب ــ كما قدمناه ــ وكراهية أن يؤدي التصريح به إلى فتح باب المناقشة في أمرٍ غيرُه أهمُّ منه. انظر التفصيل في الكتاب المذكور (1). _________ (1) (ص 90 - 105).
(7/151)
(142) {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: ارتباطها بما قبلها ظاهر مما ذكرناه، فقد مهَّد الله تعالى للقبلة فيما قبل ــ ونبهنا على ذلك في آية (105) و (106) وغير ذلك بما ذكرناه ــ إلى أن أتم التمهيد بقصة إبراهيم عليه السلام. وقوله في الآية: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ظاهر في أنَّ الكعبة هي القبلة الأصلية. وسيأتي في هذه السورة، وفي هذا السياق، عدة أحكام مما بدله أهل الكتاب، أو اختلفوا فيه، أو كان مشدَّدًا عليهم وخُفِّف عن هذه الأمة، أو نحو ذلك (1). وربما يذكر مع بعضها ما يناسبه مما بدَّله المشركون من شريعة إبراهيم عليه السلام (2). وذكر في أوائل هذا الباب هذه الجملة: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [142]، وفي آخره: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [213]. وهذا كالتفصيل لقوله أول السورة: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [2]. وبهذا علم ارتباط الفاتحة بسورة البقرة، وعلم صحة تفسير المغضوب _________ (1) انظر تحت الآيات (178، 183، 189). (2) انظر تحت الآيات (189 - 203).
(7/152)
عليهم والضالين باليهود والنصارى. والله أعلم. (143) أولها بيان لاستحقاق هذه الأمة الهداية إلى الصراط المستقيم، وآخرها بيان لحكمة أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أولًا باستقبال بيت المقدس، مع أن الكعبة هي القبلة الأصلية. وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: ومنه صلاتكم إلى بيت المقدس. (144) الحكم باستقبال الكعبة، وفضيحة أهل الكتاب [9/أ] بأنهم يعلمون أنه الحق. (145) الارتباط ظاهرٌ. (146) إيضاح لمعرفة أهل الكتاب بأن استقبال الكعبة هو الحق. (147) ظاهرٌ. (148) يريد ــ والله أعلم ــ: {وَلِكُلٍّ} من المسلمين {وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} في استقبال المسجد الحرام، فالشرقيُّ وجهته الغرب، والغربيُّ وجهته الشرق، وهكذا، فأنتم سواء في استقبال المسجد الحرام، وتختلفون بالأعمال، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}. فتضمن هذا أمرين: الأول: تفرقهم في البلاد. الثاني: اجتماعهم في استقبال موضعٍ واحد.
(7/153)
فقال تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي ــ والله أعلم ــ: أنكم متفرقون في البلاد، وقد جمعكم بتوجهكم إلى المسجد الحرام، وسيجمعكم بذواتكم يوم القيامة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وذكر الجمع الأخروي ههنا لمناسبة التفرق والجمع الحكمي وللحض على استباق الخيرات، فظهر الارتباط في الآية. (149) و (150) الارتباط ظاهرٌ. [9/ب] (151) أي ــ والله أعلم ــ جعلنا لكم قبلة في بلادكم {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} بلسانكم. (152) {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} أي: فإن النعم المتقدمة تستدعي منكم ذكري وشكري، على أن ذكركم وشكركم لا أخليه عن ثوابٍ جديد، ولا أكتفي بكونه لي في مقابل تلك النعم. بيَّن هذا بقوله: {أَذْكُرْكُمْ}، واستغنى به وبآيات آخر عن أن يقول: "واشكروني أزدكم". (153) يريد ــ والله أعلم ــ: استعينوا على الذكر والشكر المأمور بهما في الآية السابقة. وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لمعاذ: "إني أحب لك ما أحب لنفسي، فلا تترك أن تقول عند كل صلاة: اللهم أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (1) أو كما قال. _________ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار (1522)، والنسائي في كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء (1303)، وأحمد (36/ 430، 443) برقم (22119، 22125)، والحاكم (1010) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(7/154)
ومناسبته للآية ظاهر (1). فأما الاستعانة بالصبر فظاهر، وأما الاستعانة بالصلاة فلأن من شرائطها وأركانها ما يساعد على ذلك. وأيضًا، فقد أخبر الله تعالى أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. ولما أمرهم في هذه الآية بالصبر، وأخبر أنه مع الصابرين، ضرب لهم مثلًا لتلك المعية، وجعل المثل في أشرف مواطن الصبر وأشرف المعيَّات، وهو آية (154)، فالربط ظاهر. (155) فصل فيها مواطن الصبر، وبيَّن فيها وفي آية (156) صفة الصبر الظاهرة، وهي الاسترجاع [10/أ] عند المصيبة. وليس المراد ــ والله أعلم ــ قول هذه الكلمة مجرَّدًا، بل قولها مع استحضار معناها ورسوخه في القلب، وأن لا يعمل ما يخالفه، إلا ما أذن فيه الشرع مما يغلب الإنسان من البكاء بغير نَوح ولا صوت ولا شكوى. (157) ذكر فيها أجر الصابرين. (158) قد مضى ذكر استقبال البيت الحرام، وآخر آية فيها ذكره (150). ثم فرع عن ذلك الامتنان بهذه النعمة، وذكر نعمٍ أخرى تشابهها وتتصل بها. ثم نبههم على شكر ذلك، وبيَّن لهم طريق الشكر، على حسب ما قدمنا. وفي هذه الآية (158) رجع إلى ما يناسب استقبال البيت ويتصل _________ (1) كذا في الأصل.
(7/155)
به ويشبهه في كتمان بني إسرائيل إياه، وتبديلهم له، وهدى الله سبحانه المسلمين إلى صراط مستقيم. راجع الكلام على آية (242). وهذا الأمر هو شأن الصفا والمروة. وقد حقق هذا البحث المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتاب "الرأي الصحيح"، فانظره (1). وقد مر قبل آيات ذكر إبراهيم عليه السلام، وفيها ذكر المناسك. (159) ذكر فيها إثم الذين يكتمون ما أنزل من البينات والهدى. وعلاقتها بما قبلها ما قدمنا أن أمر الصفا والمروة مما كتموه. [10/ب] (160) تتمة ما قبلها. (161) هي في معنى التعليل للآيتين قبلها؛ فإن في اللتين قبلها لعن الكاتمين لما أنزل إلا من تاب، وفي هذه أن من كفر ولم يتب بأن مات كافرًا استحق اللعن والخلود في العذاب. فكأنه قال: إن الكتمان المذكور كفرٌ، والإصرار عليه إلى الموت موت على الكفر، ومن كفر ومات على الكفر فهذا جزاؤه. (162) تتمة لما قبلها. (163) علاقتها بما قبلها أن الشر كفرٌ، وقد مضى فيما قبلها ذكر الكفر وجزائه، وأبطل في هذه بعض أنواع الكفر، وهو الشرك. ولها علاقة أمتن من هذه، وهو الإشارة إلى بني إسرائيل بأنهم لم يكتفوا من الكفر بكتمان ما أنزل الله، بل كفروا أيضًا بالشرك. _________ (1) انظر: "الرأي الصحيح في من هو الذبيح" (ص 54، 97).
(7/156)
وقد بين تعالى هذا المعنى في آية (165) أي: عقب هذه الآية وتتمتها. (164) تتمة للتي قبلها. (165) بيان لنوع من الشرك، وهو شرك بني إسرائيل، كما صرح به تعالى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. [11/أ] وقال تعالى لرسوله أن يقول لهم: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. وفسَّر الصحابة وغيرهم هذه الآية ــ أعني (165) من البقرة ــ بمثل تفسير الآيتين المذكورتين: أن المراد بالأنداد المتبوعون من البشر، المطاعون في شرع الدين، ولا ينبغي أن يطاع فيه إلا الله تعالى (1). وجاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تفسير اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا بنحو ذلك (2). ويدل عليه آية (166) فإنها مبينة أن الأنداد هم المتبوعون. وكذا آية (167)؛ فإنها تتمة للتي قبلها. (168) قد تبين أنّ في الآيات التي قبلها بيان أن طاعة غير الله تعالى في شرع الدين شرك. وفي هذه الآية النهي عن نوع من ذلك وقع فيه العرب وغيرهم وبدَّلوا شرع إبراهيم، كما بدل أهل الكتاب ما في الكتاب؛ وهو: تحريم ما أحل الله تعالى بغير سلطانٍ منه؛ وبيان أن ذلك من اتباع خطوات _________ (1) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 3/ 280). (2) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 14/ 209 - 211).
(7/157)
الشيطان أي: واتباعه في ذلك عبادة له، كما كان اتباع بني إسرائيل لأحبارهم ورهبانهم في نحو ذلك عبادة لهم. راجع الكلام على آية (142). (169) تتمة للتي قبلها. (170) بيان لتمام مشابهة المشركين لليهود، فإن المشركين يعرضون عما أنزل الله اتباعًا لآبائهم، كما أن اليهود [11/ب] يعرضون عما أنزل الله اتباعًا لآبائهم وأحبارهم. (171) بيانٌ لجهل المشركين في ذلك الفعل، وهو الإعراض عما أنزل الله تعالى مع دعاء الرسول إليه اتباعًا لآبائهم. (172) تحذير للمؤمنين أن يصنعوا كما صنع الكفار من تحريم ما أحل الله تعالى، وبيان أن ذلك شرك. (173) تفصيل لما حرمه الله؛ ليقف المؤمنون عنده فلا يحرموا غيره بغير سلطان من الله تعالى. (174) وعيدٌ للذين يكتمون ما أنزل الله تعالى في الكتاب من الحلال والحرام وغيره، وهو شاملٌ لأهل الكتاب وغيرهم. وكأن أهل الكتاب ــ والله أعلم ــ كانوا يعلمون من الكتاب بطلان تحريم ما حرمه المشركون ويكتمونه. وثَمَّ ارتباط أقوى من هذا، وهو أنه عدَّ في الآية السابقة في المحرمات لحم الخنزير، والنصارى يستحلونه، مع أنه حرامٌ في التوراة والإنجيل، وكأنهم كانوا يكتمون ذلك. (175) تتمة التي قبلها.
(7/158)
(176) تعليل لما تقدم بأن الله نزل الكتاب بالحق، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] (1)، وبيان ضلال أهل الكتاب الذين اختلفوا فيه. ومما اختلفوا فيه: الحلال والحرام، كلحم الخنزير ــ الماضي قريبًا ــ فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. وفي ذلك تحذير للمسلمين من مثل فعلهم. (177) ارتباط الآية بالتي قبلها أن مسألة القبلة مما اختلف فيه أهل الكتاب، فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. وهي مع ذلك منبهة للمسلمين أن لا يغتروا بكون الله تعالى هداهم للقبلة الحق، فيقصروا في البر وعمل الخير. [12/أ] (178) فيها حكم القصاص. وارتباطها بما قبلها: أن حكم القصاص كان مشددًا على بني إسرائيل، والآيات السابقة متعلقة بهم كما علمت. وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي ــ والله أعلم ــ تخفيفًا (2) بالنسبة إلى ما كان عليه الحكم في بني إسرائيل، من تعيُّن القَوَد. صح هذا عن ابن عباس وغيره (3). انظر الكلام على آية (142). (179) تتمة للتي قبلها. (180) ... (4). _________ (1) في الأصل بين القوسين: " وماذا ... "، وهو سهو. (2) كذا في الأصل. (3) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 3/ 373). (4) بياض في الأصل بقدر ثمانية أسطر.
(7/159)
[12/ب] (183) إلى (187) حكم الصيام مما كان ثابتًا على بني إسرائيل، وقد نصَّ الله تعالى على ذلك بقوله: { ... كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. وهو مما اختلفوا فيه، فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. راجع الكلام على آية (142). (188) علاقة الآية بآيات الصيام أن الصيام منعٌ موقَّت عن أكل الطعام مطلقًا، وهذا منعٌ مؤبد عن أكل الأموال بالباطل. وهذا يشبه قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (1). وأمثلة ذلك في الحديث كثيرة. فكأنه قيل هنا: الصائم من صام عن أموال الناس بالباطل. وعلاقتها ببني إسرائيل أن الرشوة كانت فاشيةً فيهم. (189) أحكام الأهلَّة مما بدله بنو إسرائيل. وفي "الزبور" الذي بأيدي اليهود والنصارى الآن، مزمور (81) فقرة 3 - 4: "انفخوا في رأس الشهر بالبُوق عند الهلال لِيوم عِيدِنا؛ لأن هذا فريضة لإسرائيل [حكمٌ لإله _________ (1) قوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" أخرجه البخاري في كتاب الإيمان من حديث عبد الله بن عمرو (10)، واقتصر مسلم على الجزء الأول منه (42). وقوله: "المسلم ... وأموالهم" أخرجه أحمد (14/ 499) والترمذي في أبواب الإيمان، (2762) انظر: "تحفة الأحوذي" (7/ 317) , والنسائي في كتاب الإيمان باب صفة المسلم من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(7/160)
يعقوب] (1)، جعله شهادةً في يوسف عند خروجه على أرض مصر". ومن مزمور (104) فقرة 19: "صَنَع [الربُّ] (2) القمرَ للمواقيت". وهذان النصان ظاهران في أن حكم شريعتهم اعتبار الشهور بالهلال نفسه، كما هو عند المسلمين، ولكنهم بدلوا ذلك وتأولوا. ومما بدَّله المشركون (3) من شريعة إبراهيم عليه السلام، والتبديل أخو التبديل، فهدى الله الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. انظر الكلام على آية (142). وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ ... } إلخ: الصحيح أنه في شأن الحج، كان الأنصار إذا (4). [13/أ] (190) الآية في القتال في الأشهر الحرم. (191) إلى (194): كما منع عن الاعتداء في الأشهر الحرم، فكذلك نهى عنه في المسجد الحرام. (195) مر في الآيات السابقة الأمر بالقتال في الجملة، فنبه على أمرٍ لا بد منه فيه. _________ (1) زيادة منّي من المزمور المذكور، للإيضاح. (2) زيادة من المؤلف. (3) سياق الكلام: أحكام الأهلة مما بدّله بنو إسرائيل ... ومما بدّله المشركون. (4) كتب بعدها: "أحرم أحدهم"، ثم ضرب عليه ولم يكمل. ولعله أراد أن ينقل ما أخرجه البخاري (1803) عن البراء يقول: " ... كانت الأنصار إذا حجُّوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قبل بابه، فكأنه عُيِّر بذلك، فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. وانظر الحديث برقم (4512) أيضًا.
(7/161)
(196) إلى (203): قد بيَّن في آية (189) أن الأهلة مواقيت للناس في الحج، فبيَّن في الآيات السابقة من أحكامها ما بدله المشركون في شأن الأشهر الحرم. وبيَّن في هذه الآيات أحكام الحج؛ لأنه مما بدله أهل الكتاب، وبدل المشركون بعض أحكامه. (204) إلى (207): هذه الآيات كالتكملة للتقسيم المذكور في آية (200)؛ فإنه أمر فيها بذكر الله تعالى عند قضاء المناسك، ثم قال: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 200 - 202]. [13/ب] والأول حال المشركين الذين لا يرجون الآخرة، فكانوا إذا دعوا الله تعالى دعوه لدنياهم، والثاني شأن المؤمنين. وهو تقسيم تامٌّ بالنسبة للدعاء. ولكن التقسيم بحسب الدعاء يتحول إلى التقسيم المطلق، والتقسيم المطلق أن يقال مثلًا: منهم كافر صريح، ومنهم منافق، ومنهم مؤمن يحب الدنيا، ومنهم مؤمن لا يبالي بها. فالمنافق لم يدخل في آية (200) أصلًا؛ لأنها مبنيَّة على دعاء المرء بينه وبين ربه، والنفاق عن هذا بمعزل. وأما المؤمن الذي لا يبالي بالدنيا، فإنه وإن دخل فيها لأنه أيضًا يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، إلا أنه كالخارج عنها؛ لما يوهمه ظاهرها من استواء الدنيا والآخرة عند الداعي.
(7/162)
فبدأ الله عز وجل بما يتعلق بالسياق من أحكام الحج، [14/أ] لأنه الأولى، ولأن الكلام على شأن المنافق يستدعي إطالة. والكلام على المؤمن الذي لا يبالي بالدنيا، الأنسب أن يكون بعد حال المنافق؛ ليتبين فضله، كما يقال: ما يعرف قدر النعمة إلا من قاسى الشدائد قبلها. ثم بين سبحانه وتعالى شأن المنافق في آية (204) إلى (206)، وبيَّن حال المؤمن الذي لا يبالي بالدنيا في آية (207). (208): (السَّلْم) (1): الإسلام، و (كافة) حال منه. أي: ادخلوا في جميع شرائعه. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباسٍ قال في الآية: "يعني مؤمني أهل الكتاب؛ فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيها. يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد، ولا تدعوا منها شيئًا ... " (2). وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: "نزلت في ثعلبة وعبدالله بن سلام و ... ، وكلهم من يهود، قالوا: يا رسول الله! يوم السبت كنا نعظمه، فدعنا فَلْنُسْبِتْ فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل. فنزلت" (3). انظر _________ (1) كذا ضبط المؤلف (السَّلْم) بفتح السين، وهي قراءة نافع وابن كثير والكسائي من السبعة. وقرأ الباقون بكسرها. انظر: "الإقناع في القراءات السبع" لابن الباذش (608). (2) "تفسير ابن أبي حاتم" (1981، 1982). (3) "تفسير الطبري" (شاكر 4/ 256).
(7/163)
الكلام على آية (213). ذكرهما في "الدر المنثور" (1)، وذكر آثارًا أخرى توافق ذلك وتوضحه، منها ... (2). قد يقال: لا مانع من بقاء الآية على عمومها، ويكون الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم -[14/ب] من أهل الكتاب داخلين فيها دخولًا أوّليًّا بمعونة السياق؛ فإن الأحكام السابقة كلها لها علاقة بأهل الكتاب، كما قدمناه، وسيأتي ذكرهم قريبًا وبيان أنهم بدَّلوا نعمة الله كفرًا. وبهذا ظهر الارتباط. (209) و (210) تتمة لما قبلهما. (211) قد تقدم ذكر بني إسرائيل، ولم يزل الكلام متصلًا بهم إلى هنا، كما قدمنا. والمراد بالآيات ما يعمُّ ما تقدَّم تفصيله، فكأنه قال: هذه الآيات التي تقدمت من جملة الآيات التي آتيناهم إياها، وأنعم الله عليهم بها، فبدَّلوا نعمة الله كفرًا. (212) هي بيانٌ لسبب ما تقدم في الآية قبلها، من تبديل بني إسرائيل نعمة الله كفرًا. (213) هذا الكلام جامعٌ لما تقدم تفصيله وغيره مما كان من جنسه، فقد تقدم أن بعض الأشياء بدلت من شريعة إبراهيم عليه السلام فمن بعده _________ (1) (1/ 579). (2) ترك المؤلف هنا بياضًا.
(7/164)
من الأنبياء عليهم السلام. والمراد بقوله في هذه الآية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} آدم عليه السلام وذريته؛ فإنهم كانوا كل الناس، وكانوا أمة واحدة مؤمنة، إلى مدة من الزمان، الله أعلم بها. وقوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ... } يريد ــ والله أعلم ــ: فاختلفوا، فبعث الله ... كما يدل عليه تعليله [15/أ] بقوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي في الكتاب، كما هو ظاهر. كأنه قال ــ والله أعلم ــ: فاختلفوا في الكتاب، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} وهم بنو إسرائيل، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} محمدًا وأمته {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: بنو إسرائيل {مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. انظر ما تقدم من الكلام على آية (142). وقد تقدم في الكلام على آية (208) أن الذين أسلموا من اليهود استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسبتوا، فنهاهم الله عز وجل. وفي "الدر المنثور" (1): "وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: نحن الأولون والآخرون. الأولون يوم القيامة، وأول الناس دخولًا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم؛ فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق. وهذا يومهم الذي اختلفوا _________ (1) (1/ 583).
(7/165)
فيه، فهدانا الله؛ فالناس [15/ب] لنا فيه تبع، فغدًا لليهود وبعد غدٍ للنصارى". والحديث في "الصحيح" (1) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، أخي وهب بن منبه، قال: هذا ما حدثنا [به] أبو هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" فذكره بمعناه. وهو ثابت في "الصحيح" (2) أيضًا من طرق أخرى عن أبي هريرة. وثبت في "الصحيح" (3) أيضًا عن حذيفة. [16/أ] وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب الآن ما يشهد لمعناه، وإن كان غنيًّا عن الشهادة. وهكذا في الأناجيل التي بأيدي النصارى الآن بشارة بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمته وأنهم الآخرون الأولون. وهذا مبسوط في موضع آخر مع بسط معنى الحديث، والمقصود هنا بيان الارتباط. (214) تعلقها بما قبلها ظاهر، ولها نظر إلى الآيات التي ذكر فيها القتال (190 - 195). بيَّن الله عز وجل بالآيات المتقدمة هدايته هذه الأمة إلى ما اختلف فيه من قبلهم، ثم أعقبه بأن هذه الهداية إنما ثمرتها دخول الجنة، ولكن دخول الجنة لابد له من سعي، وكان مقتضى ذلك أن يكون السعي أعظم من سعي الذين قبلنا؛ لأن الهداية التي منحت لنا أعظم من الهداية التي _________ (1) البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6624). (2) البخاري: كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم (238)، ومواضع أخرى. (3) مسلم: كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (856).
(7/166)
كانت لهم، ولكن الله عز وجل خفف عن هذه الأمة فلم يبتلهم بأعظم مما كان على من قبلها، بل جعله مثله. (215) ذكر الله عز وجل في الآية السابقة الابتلاء بالبأساء والضراء وزلزال الخوف، [16/ب] ثم عقبه في هذه بنوعٍ من الابتلاء بالبأساء والضراء وهو إنفاق المال. ولذلك ــ والله أعلم ــ أعرض عن إجابتهم ببيان المقدار الذي ينفقونه، وبين لهم المصرف، فكأنه أحال التقدير إلى اختيارهم؛ لأن ذلك أظهر في الابتلاء. ألا ترى أن الابتلاء بعمل معين، إذا عمله العبد، لا يظهر به إلا امتثاله. فأما محبته لسيده وتفانيه في رضاه، فإنه لا يظهر إلا بأن يرغبه في عملٍ ويدع له فيه طرقًا للاعتذار إن لم يوفه. فإنه إن لم يكن صادق المحبة لسيده، والتفاني في رضاه، لم يبالغ في الشق على نفسه، بل يتكل على أن له معاذير. وإن وفى ذلك العمل، وبالغ فيه جهده، ولم يجنح إلى ما يلوح له من الرخصة، فهو الغاية. وأنت إذا تأملت وجدت هذا الابتلاء بهذه الصفة من أشد الابتلاء. فإن قلت: فماذا صنع الصحابة؟ قلت: [17/أ] في "الدر المنثور" (1): "أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنَّ نفرًا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي _________ (1) (1/ 607).
(7/167)
- صلى الله عليه وآله وسلم - فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ومالا يأكل (1)، حتى يتصدق عليه". وفيه (2): "وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في قوله: {قُلِ الْعَفْوَ}، قال: ذلك أن لا تجد (كذا) (3) مالك، ثم تقعد تسأل الناس". وأخرج الشيخان (4) وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول". وفي رواية لمسلم (5) وغيره: "أفضل الصدقة ما ترك غنًى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟ _________ (1) كذا في الأصل وفي "الدر المنثور"، وصوابه: "ولا ما يأكل" كما في "تفسير ابن أبي حاتم" (2048). (2) "الدر المنثور" (1/ 607). (3) صوابه: "أن لا تجهد"، كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 243) عن عبد بن حميد. (4) البخاري: كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1426). ولم يخرجه مسلم عن أبي هريرة وإنما أخرجه عن حكيم بن حزام في كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى (1034). (5) بل في رواية البخاري: كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال (5355). وقوله: "تقول المرأة ... إلى من تدعني" ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من كلام أبي هريرة رضي الله عنه.
(7/168)
[17/ب] وهذه الآية، أعني: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} تأتي بعد ثلاث آيات؛ فعلم بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم بعد نزول آية (215) بذلوا أقصى مجهودهم، حتى كان أحدهم ينفق جميع ماله ولا يدع لنفسه وأهله شيئًا. وبذلك ظهر حبهم لله عز وجل، وتفانيهم في رضاه، وتمَّ لهم النجاح في ذلك الابتلاء، ولذلك ردهم الله عز وجل إلى الاعتدال ثانية، والله أعلم. (216) ذكر في هذه الآية ما يتعلق بالابتلاء بزلزال الخوف، وهو وجوب القتال المارُّ في آية (214). (217) هي كالتتمة للتي قبلها، مع إيضاح الابتلاء، ولكن أن يكون بيان حكم القتال في الشهر الحرام على هذا الأسلوب فيه ابتلاءٌ أيضًا؛ فإنه قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي: مفسدة كبيرة، {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} يريد ــ والله أعلم ــ أن هاتين المفسدتين متعارضتان، وهما: ابتداء المسلمين القتال في الشهر الحرام، واستمرار المشركين على الصد عن سبيل الله وما معه. ففي هذا التنبيهُ على حلِّ القتال في الشهر الحرام؛ لأنه وإن كان معه مفسدة ففي تركه مفسدة أكبر. ولكن بقي مجالٌ للتكاسل عن القتال فيه، بأن يقال: قد أخبر الله تعالى أنه كبير. وأما مفسدة استمرار المشركين على ما هم عليه، فإنها وإن كانت أكبر إلا أنه بعد انقضاء الشهر الحرام يكون السعي في دفعها. (218) هي تتمة للتي قبلها. وفيها تعرض لبيان ثواب الثابتين، وفي التي قبلها جزاء المرتدين.
(7/169)
[18/أ] (219) أولها في شأن الخمر والميسر، قال تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}. وهذا ابتلاء أيضًا، وحاله كحال القتال في الشهر الحرام، فقد بيَّن هناك أن في القتال فيه مفسدة، وفي عدم القتال مفسدة أكبر، وترك هناك طريقًا للعذر. وكذا هنا، بيَّن أن في الخمر والميسر منافع للناس، وفيهما إثم كبير. وكان محتملًا أن المراد بالإثم فيهما الإثم في مجرد تعاطيهما، أو المتوقع مما يؤديان إليه من العداوة والبغضاء والصد عن الصلاة وغير ذلك. ويمكن الترخُّص بأن يقول قائل: سأتعاطاهما مع الاحتراز عما ينشأ عنهما مما فيه إثم. وبذلك اتضح لك ما قدَّمناه من الابتلاء في شأنهم، وأنه كالابتلاء بالقتال في الشهر الحرام. وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} هذا متعلق بالابتلاء في النفقة المتقدمة، [18/ب] وقد مرَّ البيان في الكلام على آية (215). وأخره إلى هنا إشارة إلى تأخر نزوله مدة؛ ليظهر أن الابتلاء استمر مدة غير قصيرة، وأنهم تماروا فيه. ولذلك لما لم يطل الابتلاء بتقديم الصدقة بين يدي النجوى عقب الأمر بها بنسخه. وليكون فيه تنبيه على ما ينبغي للمؤمنين من الثبات عند الابتلاء، كأن قال: إني ابتليتكم في النفقة فوفيتم وأبلغتم، فلما تحملتم ذلك فرَّجتُ عنكم وخفَّفتُ، فكذلك ينبغي أن تعملوا في الابتلاءات الأخرى، فلا تجنحوا إلى جانب الرخصة، فإنكم إن لم تجنحوا أمكن أن يخفف الله عنكم شيئًا ما، كما خفف عنكم في النفقة.
(7/170)
ولهذا عقب هذا بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. ويمكن أن يكون في جعلها ــ أعني قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} في هذا الموضع ابتلاء آخر؛ فإن المائل إلى الرخصة قد يتشبث بها قائلًا: إن الله تعالى يريد منا اليسر، ولهذا لما شددنا على أنفسنا في النفقة لم يرض لنا ذلك، بل ردَّنا إلى الاعتدال، فكذلك ينبغي أن لا نشدد في القتال في الشهر الحرام، وفي الخمر والميسر. فإن قلت: فهل نجحوا في الابتلاء في القتال في الشهر الحرام، وفي الخمر والميسر، كما نجحوا في الابتلاء بالإنفاق؟ [19/أ] قلت: الذي يظهر لي أنهم نجحوا في شأن القتال، ونجح غالبهم في شأن الخمر والميسر. فإن قلت: فهل خفَّف الله عنهم، كما وعدهم بوضعه آية العفو عقب الابتلاء؟ قلت: أما في شأن القتال في الشهر الحرام فنعم، فقد جاء في الروايات أنهم قاتلوا فيه، ثم نزلت بعد ذلك آيات النهي عن القتال في الشهر الحرام، بعضها في سورة التوبة، وبعضها في سورة المائدة، وكان نزولها بعد هذا. وأما في الخمر والميسر فلم يخفف. والسبب في ذلك ــ والله أعلم ــ أولًا: أن بعضهم ترخَّص في الخمر بعد ذلك، ولعل بعضهم ترخَّص في الميسر أيضًا. وثانيًا: أن الذين لم يترخصوا تبيَّن لهم عظمُ المفسدة في الخمر والميسر، فحرصوا بأنفسهم على أن يحرِّمهما الله عز وجل البتة، كما ثبت
(7/171)
ذلك عن عمر وغيره (1)، والله أعلم. وليس فيما قدمنا ما ينافي الحكمة المشهورة في تحريم الخمر؛ فإن الله تعالى حرمه تدريجًا، فأنزل أولًا الآية المذكورة، ولم يصرح فيها بالتحريم، إلى آخر ما تبين به هذه الحكمة، وعدم المنافاة ظاهرٌ بأدنى تأمل، والله أعلم. (220) أولها متعلق بالتي قبلها، وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية رخصة أخرى تشبه التي قبلها. أخرج أبو داود (2) والنسائي (3) [19/ب] وابن جرير (4) وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما أنزل الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} الآية [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد، فيرمى به. فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فنزلت". (221) هي متعلقة بآية (217) أعني قوله: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}؛ لأن مناكحة المشركين مما يدعو إلى الردة، وقد علل تعالى النهي عن المناكحة بذلك، إذ قال: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}. _________ (1) انظر: "إرشاد الساري" (7/ 301). (2) في كتاب الوصايا، باب مخالطة اليتيم في الطعام (2871). (3) في كتاب الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه (3671). (4) نشرة شاكر (4/ 350).
(7/172)
أما علاقتها بالتي قبلها ــ أعني (220) ــ فهي والله الأعلم ــ أن في آية (220) الإذن بمخالطة اليتامى، وتعليلها بقوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} أي: في الدين. وفي هذه ــ أعني آية (221) ــ النهي عن مناكحة المشركين، والمناكحة تقتضي المخالطة، وعللها بكونهم يدعون إلى النار؛ فالعلاقة كعلاقة أحد الضدين بالآخر، [20/أ] كما في السماء والأرض، والأبيض والأسود، ونحو ذلك. (222) علاقتها بالتي قبلها ظاهرة، ولها نظر إلى الأمور التي اختلف فيها أهل الكتاب، كما تقدم الكلام عليه؛ فإن مخالطة الحائض مما اختلفوا فيه، وشَدَّد فيه اليهود أو شُدِّد عليهم. (223) علاقتها بالتي قبلها ظاهرةٌ، من حيث خصوص قربان النساء، ومن حيث الهداية لما اختلف فيه أهل الكتاب، كما يعلم من سبب النزول. (224) علاقتها بالتي قبلها ظاهرة. فهذه ــ أعني آية (224) ــ كالمقدمة للتي بعدها، أي آية (225)، وعلاقة هذه بآية (223) واضحة. (225 - 237) ارتباط الآيات بما قبلها، والارتباط بينها واضح. ولآيات الطلاق نظرٌ إلى ما تقدم من الأحكام التي اختلف فيها أهل الكتاب، فهدى الله الذين آمنوا الصراط المستقيم فيها؛ فإن الطلاق مما اختلفوا فيه. [20/ب] (238 - 239) في الآية الثانية صلاة الخوف، وإنما يكون ذلك في الجهاد؛ فلها نظرٌ إلى آية (218) وما قبلها التي في شأن الجهاد، والأولى كالمقدمة لها. ثم علاقة الأمر بالصلاة بأحكام النكاح: أولًا: ما يظهر من آخر الآية الثانية: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}، كأنه قال: فكما علمكم الله تعالى من
(7/173)
أحكام النكاح ما فيه صلاحكم، ولم تكونوا تعلمون ذلك، وهداكم لما اختلف فيه الذين من قبلكم= فاشكروه، وأعظم الشكر المحافظة على الصلاة. وفي "الصحيح" (1): "ما تقرَّب إليَّ عبدي بأفضل من أداء ما افترضته عليه". وفيه (2): "خير أعمالكم الصلاة". وثانيًا: أن في آيات الطلاق والنكاح بيان العدل في معاملة النساء، وفي بعضها التخفيف عنهن، وفي بعضها تشديد ما، ولكن الباري عزَّ وجلَّ يرشدنا إلى العفو. ثم في آية (237): {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وفي (239) بيان عفو الله عز وجل عنا بأن لم يكلِّفنا ما يشقُّ علينا من المحافظة على صفة الصلاة في حال الخوف. وأما آية (238) فهي كالمقدمة للتي بعدها، كما مر. فكأنه تعالى يقول: كما عفوت عنكم فاعفوا أنتم أيضًا، وكما خففت عنكم فخففوا أنتم أيضًا. وبهذا عُلِمَ وجهٌ لتوسيط (3) هاتين الآيتين بين أحكام الطلاق وما معه ممَّا يتعلق بالأزواج. [21/أ] وهاهنا نكتة لطيفة لتوسيط هاتين الآيتين، مع ما يظهر من بعد المناسبة. وهي الإشارة إلى عظم شأن الصلاة، لأن عادة الناس أن المتكلم _________ (1) صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع (6502) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه أحمد (22378) وابن ماجه (277) وابن حبان (1037) وغيره من حديث ثوبان رضي الله عنه، ولم أجده في "الصحيح". (3) كذا في الأصل.
(7/174)
إذا كان في أثناء كلامٍ مهمٍّ، أن يحرص على اتصاله، فلا يقطعه بكلام آخر، ثم يعود، إلا إذا كان ذلك الكلام الآخر أعظم أهمية. (240 - 242) من تمام أحكام الأزواج، وقد تقدم وجه توسيط آيتي (238 - 239). ولهاتين ارتباط بهما أيضًا، من جهة أن في تينك إرشادًا إلى شكر تلك النعمة ــ كما مر ــ وفي هاتين نوع من الشكر، وهو الوصية للأزواج، وتمتيع من طلق منهن. وفي تينك ذكر القتال عند الخوف، وفي هاتين ذكر الوفاة (1). (243 - 252) هذه الآيات مرتبطة بآية (239)، ثم بالآيات المتقدمة في شأن الجهاد. ولها نظرٌ إلى شأن بني إسرائيل، كما لا يخفى. وقوله تعالى (251): {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} تنبيه على حكمة الجهاد. قد علم الله عز وجل ما سيحدث من طعن بعض الملحدين في الجهاد، وعلم أن منهم [21/ب] من لا يؤمن بالأنبياء، فأجابه بما ذكر؛ وأن منهم من يدعي الإيمان بالأنبياء، ويطعن على المسلمين في الأمر بالجهاد، فأجابه سبحانه وتعالى بأن الأنبياء الذين يدعي الإيمان بهم كانوا يجاهدون أيضًا. وأوضح هذا بقوله في آخر آية (252): {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي: فلا بدع أن تؤمر بمثل ما أُمِروا به. وكما أن في هذا ردًّا على الطاعنين، ففيه تحريض للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمته على الجهاد، كما لا يخفى. _________ (1) وانظر الرسالة الآتية في ارتباط الآيتين (238 - 239).
(7/175)
وعلم سبحانه وتعالى أن الطاعنين ربما يقولون: إن الجهاد في شريعة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أوسع مما كان أمر به الأنبياء الأولون عليهم السلام، فأجابهم تعالى بقوله: (253): {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ .. } كأنه تعالى يقول: فإن فضلك الله تعالى بشيء، كالرسالة إلى الخلق كافة، والأمر بجهاد جميع الأمم؛ فلا بدع في ذلك، فإنه تعالى كذلك فضَّل بين الأنبياء السابقين في الشرائع والأحكام والآيات. [22/أ] وعلم عز وجل أن الطاعنين ربما يقولون: سلمنا ظهور الحكم في مشروعية جهاد الوثنيين، فأي حجة لمشروعية جهاد أتباع الأنبياء السابقين؟ فأجابهم تعالى بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}، فكأنه تعالى يقول: إن المنتسبين إلى الأنبياء، كاليهود والنصارى، قد قاتل بعضهم بعضًا، وحجتهم أن المؤمنين منهم قاتلوا الكافرين منهم أيضًا، فتبين بهذا اعتراف من يدعي الإيمان منهم بوجوب قتال من كفر منهم. فثبت بذلك صحة قتال محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمته لمن ثبت لديهم كفره من أهل الكتاب، وقد ثبت أن كل من لم يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم فهو كافر. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فيه رد على الطاعنين في الجهاد، مع اعترافهم بربوبية الله عز وجل؛ فإن اعترافهم بربوبيته تعالى يتضمن اعترافهم بأن اقتتال أهل الكتاب كان بقضائه وقدره، لحكمة يعلمها عزَّ وجلَّ. وإذا كان كذلك فاستبعادهم أن يأمر بالقتال مع
(7/176)
ظهور ... (1)، كيف وهو سبحانه عز وجل يفعل ما يريد؟ [22/ب] (254) علاقتها بما قبلها ظاهرة؛ لأن ما قبلها في شأن الجهاد، وهي في الإنفاق في الجهاد وإن شملت الإنفاق في غيره. ولها ارتباط بآخر الآية التي قبلها، أعني قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}؛ فإن هذا كالتمهيد لقوله في آية (254): {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ}. والمراد ــ والله أعلم ــ خلة وشفاعة تخالف ما يريد الله تعالى. دل عليه السياق، وقوله في الآية التي بعدها: {إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وآيات أخرى. ثم إنّ نفي الخلة والشفاعة (أي: بالقيد المذكور) عامٌّ في حقِّ المؤمنين وغيرهم. أما المؤمنون فالخطاب لهم، وأما غيرهم فنبه الله تعالى عليه بقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وتضمنت هذه الجملة ردًّا على الطاعنين في الجهاد أيضًا، فإنهم يزعمون أنه ظلم، فبين تعالى أن الكافرين هم الظالمون بإلجائهم المسلمين إلى قتالهم. وتضمنت أيضًا الحض على الإنفاق، وأن البخل بالمال عن سبيل الله هو من شأن الكافرين، فلا ينبغي للمؤمنين. (255) آية الكرسي علاقتها بما قبلها أن في تلك نفي الخلة والشفاعة _________ (1) هنا كلمات لم تظهر في الأصل.
(7/177)
التي يرجوها المشركون، كما علمت؛ وفي هذه ــ آية الكرسي ــ البرهان على انقضائها. [23/أ] وقوله في أولها: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وإن كان المشركون لا يعترفون به، فإنه لم يلتفت إلى إنكارهم؛ لأنه عقبه بالبرهان على ذلك. وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية مما يعترف به المشركون، كما نص تعالى عليه في آيات أخرى، وبسطناه في موضعه. وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} مما يعترف به المشركون، كما بينه تعالى بقوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88 - 89]. ولهذا ــ والله أعلم ــ ذكره في آية الكرسي بالاستفهام. ولعل في هذا إشارة إلى حقِّيِّة جهادهم؛ لأنه ظهر به أنه لا عذر لهم في البقاء على الشرك. وهذا لا يشمل أهل الكتاب، ولكن قد بيَّن في آيات أخر ما يماثله في حق أهل الكتاب، بل هو أقوى منه. وذلك قوله تعالى فيما تقدم من هذه السورة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ... الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ... } [البقرة: 144 - 146]. وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضمير للشفعاء المفهومين مما
(7/178)
سبق، وخصه ابن عباس ثم مقاتل بالملائكة (1)؛ لأمور: الأول: أن المشركين إنما يرجون شفاعة الملائكة. الثاني: أن نظائره في القرآن هي في شأن الملائكة؛ كقوله تعالى: [23/ب] {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]. الثالث: قوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، وهذا دفع لما يتوهم أنه محتاج إلى من يعينه على حفظهما، وإنما يتوهم احتياجه في حفظهما إلى الملائكة. وقد يكون في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} إشارة إلى معنى يدفع شبهات الطاعنين على الجهاد؛ لأن فيها بيان إحاطة علمه تعالى، وقصور علم ملائكته، فضلًا عن غيرهم. فكأنه يقول: هَبُوا يا معشر الطاعنين أنكم لم تفهموا حكمة الجهاد وعدله، فذلك لا يدل على عدم الحكمة والعدل فيه؛ لأن علمكم قاصر، وعلم الله تعالى ــ وهو شارع الجهاد ــ محيط. فينبغي لكم أن تنظروا في الأدلة الأخرى القاضية بأن هذا الجهاد من أمر الله تعالى، وتقنعوا بذلك، وإن لم يظهر لكم حكمة الجهاد وعدله في نفسه. _________ (1) انظر: "الدر المنثور" (2/ 10)، و"زاد المسير" (1/ 302).
(7/179)
(256) {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... } قد علمت مما تقدم في الكلام على الآيات المتقدمة، من آية (243) إلى هنا، أنها تدور على بيان حكمة الجهاد، ودفع المطاعن التي ربما تورد عليه. وأيضًا، [24/أ] فهذه قرينة توجب حمل هذه الجملة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} على ما لا ينافي الجهاد، ما دام يمكن حملها على ذلك، ولو بنوعٍ من التجوُّز. هذه هي القاعدة العقلية المطردة في فهم الكلام، ولا ينكرها أحد من العقلاء. وأيضًا، الكلام بعد هذه الجملة كله مما يؤيد الأمر بالجهاد، كما يأتي إن شاء الله. وهاك تفصيل ذلك: أولًا: حكمة الجهاد التي تقدمت في آية (215). 2 - ما تقدم من كونه كان مشروعًا في الشرائع المتقدمة. 3 - ما تقدمت الإشارة إليه في آية (254). 4، 5 - ما تقدمت إليه الإشارة في الكلام على آية الكرسي (255). 6 - قوله تعالى عقب هذه الجملة: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. 7 - قوله تعالى عقب ذلك: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} (1) على ما يأتي إيضاحه أيضًا إن شاء الله تعالى. _________ (1) في الأصل: " ... فقد هدي إلى صراط مستقيم"، وهو سهو.
(7/180)
8 - قوله تعالى عقب ذلك: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] على ما يأتي إيضاحه أيضًا إن شاء الله تعالى. [24/ب] 9 - الآيات الآتية في الأمر بالإنفاق، وهي في هذا السياق، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وختام العشرة: ختام هذه السورة: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (1) [البقرة: 286]. وهناك وجوه أخرى تدل على ما قدمناه، أو على تخصيص الجملة المذكورة، أو نسخها؛ فيترجح دلالتها على المعنى الأول لموافقته بقية الأدلة. منها: أن نزول سورة البقرة كان عقب الهجرة، وقد نزل بعدها سور وآيات في الأمر بالجهاد، وجاهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بنفسه، واستمر حكم الجهاد إلى وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنه عند وفاته كان قد جهز جيشًا مع أسامة بن زيد، ولم يزل يحض على تنفيذه إلى آخر رمق. دع جهاد الصحابة وإجماعهم ــ والأمة من بعدهم ــ على الجهاد. إذا علمت ما تقدم (2) فاعلم أن المفسرين متفقون ــ فيما أعلم ــ على أن المعنى: لا إكراه على الدخول في الدين. واختار الصاوي في "حواشيه على الجلالين" بأن (3) (في) بمعنى (على)، _________ (1) في الأصل: "وانصرنا ... "، وهو أيضًا سهو. (2) الكلام من "فاعلم" إلى "نتكلم على هذا المعنى" ألحقه المؤلف في أعلى الأوراق (24/ب- 32/أ). (3) كذا "بأن" في الأصل.
(7/181)
كما في قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] (1)؛ فالمعنى: لا إكراه على الدين. ولكن من يقول بأن استعمال (في) موضع (على) لا يكون إلا لنكتة يطلب النكتة هنا، ولم أستحضر نكتة. وعندي أن في الكلام تضمينًا، ضمن الإكراه معنى الإدخال لتؤدي الكلمة المعنيين معًا، ونبه على ذلك بتعدية الإكراه بـ (في) التي يعدى بها الإدخال، فصار المعنى: لا إدخال في الدين بالإكراه. والتضمين كثير في القرآن وغيره. والمراد بالنفي عندي ظاهر (2)، أي: لا يمكن الإدخال في الدين بالإكراه. والمراد بالدين هنا الإيمان، بدليل قوله في السياق: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ... } [البقرة: 256]. ودليل ثانٍ وهو: أن الإيمان هو الذي لا يمكن الإدخال فيه بالإكراه. ودليل ثالث وهو قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ولك أن تبقي كلمة "الدين" على عمومها الشامل للإيمان والإسلام _________ (1) "حاشية الصاوي" (1/ 121) فسره الجلال بمعنى "على الدخول فيه"، وقال الصاوي: "والمعنى: لا يكره أحد أحدًا على الدخول في الإسلام" دون التصريح بأن "في" بمعنى "على" والاستشهاد بقوله تعالى: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}. (2) في الأصل: "ظاهرة".
(7/182)
والإحسان، كما في حديث جبريل (1). والإيمان هو الأعظم. مع أن الإسلام والإحسان لا يمكن الإدخال فيه بالإكراه؛ لأن تحققه متوقف على الإيمان، فغير المؤمن لا يمكن أن يصلي أو يصوم أو يحج أو يعمل شيئًا من الأعمال الدينية؛ لأنه إذا عمل الأعمال التي تسمى في الظاهر صلاةً لم تكن أعماله تلك صلاة شرعية التي هي من الدين. وهكذا. وأيضًا، فالأعمال الدينية يتوقف الاعتداد بها من الدين على النية، والنية لا يمكن تحصيلها بالإكراه. فإن قلت: فما وجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها؟ فالجواب: أن الله عز وجل لما قدم بيان حكمة الجهاد، وكونه حقًّا من عنده ــ كما تقدم بيانه ــ وبيَّن وضوح الحق وسقوط أعذار الكفار، وأنهم هم الظالمون= كان ذلك مظنة لأن يحمل المسلمين على الغلو في الجهاد حبًّا للحق ورغبة في قبول الناس به، فدفع الله تعالى هذا ببيانه أن الدين لا يحصل بالإكراه. فدل بذلك على أن الجهاد ليس المقصود منه الإكراه على الدين، وإنما المقصود منه حكم أخرى بيَّن الله تعالى بعضها فيما سبق، وبعضها يفهمه العقلاء، وباقيها يعلمها الله تعالى، كما تقدمت الإشارة إليه في آية الكرسي. فإذا كان كذلك فعلى المسلمين أن يقتصروا من الجهاد على ما شرعه الله تعالى، ولا يغلوا فيه؛ فإن الغلو إنما يبعثهم عليه الرغبة في دخول الناس _________ (1) البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان (50)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام (9، 10).
(7/183)
في الدين، ودخول الناس في الدين لا يحصل بالجهاد. وقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} كأنه ــ والله أعلم ــ جوابٌ عن سؤال مقدر، كأن المسلمين قالوا: فكيف نصنع في حمل الناس على الحق؟ فأجابهم تعالى بذلك، أي: إنه ليس عليكم إلا البلاغ. وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ... } من تتمة الجواب، أي إن من قبل الإيمان برضاه واختياره، فنفسَه نَفَعَ، ومن أبى فنفسه ضرَّ. والله أعلم. ويمكن بيان الارتباط بأكثر من هذا، ولكن يحتاج إلى إطالة، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى. فإن قال قائل: أنا لا أسلِّم أن معنى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}: لا إكراه على الدين ــ كما قلت ــ وإن اتفق عليه المفسرون، بل الظاهر عندي أن المعنى: ليس في أحكام الدين حكم بالإكراه. أي أعم من أن يكون إكراهًا على الإيمان أو على عملٍ ما من الأعمال مطلقًا. قلت: السياق يأبى هذا، ولاسيما قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}، وقوله في آية يونس: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. ومع ذلك، فلا بأس أن نتكلم على هذا المعنى (1)، فأقول: المتبادر إلى _________ (1) هنا تم اللحق الذي بدأ في أعلى الورقة (24/ب).
(7/184)
الأذهان أن الإكراه ظلمٌ مذموم؛ فلو قيل لك: إن في إقليم كذا ملكًا يكره الناس، [25/أ] تبادر إلى ذهنك أنه ظالم. فإذا وافقت على هذا ساغ لنا أن ندعي أن الإكراه الحقيقي هو ما يكون ظلمًا، بدليل التبادر المذكور. فلا يشمل ما يسمى إكراهًا وليس بظلم، كإكراه المريض على الدواء، والصبي على التعليم. ولو قيل لك ــ بدل المثال المتقدم ــ: إن في بلد كذا ملكًا يكره الأطفال على التعلم، ويكره العامَّة على تعلُّم الصنائع المفيدة، ويكره الرعية على القيام بما تتوقف عليه مصلحة شرف الأمة واستقلالها من النفقات، ويُكره الصالحين للقتال على القتال في الدفاع عن الأمة وشرفها، وأشباه ذلك= لم يتبادر إلى ذهنك من هذه الصفات أن الملك ظالم، بل بالعكس نفهم أن الواصف يصفه بالحكمة والعدل. فإن سلمت هذا، قلنا: إن الإكراه في الآية المراد به الإكراه الحقيقي، وهو ما يكون ظلمًا. [25/ب] وإن بقي في نفسك شيء من هذا، فلا بأس أن نفرض أن الإكراه يشمل الضربين حقيقة، ولكن نقول: أريد منه هاهنا الضرب الأول خاصة، بمعونة القرائن والأدلة التي قدمناها، وذلك على سبيل المجاز، لما كان الضرب الثاني المقصود منه المصلحة والعدل والمنفعة مما يحسِّنه العقل، فكان ينبغي للناس أن يقبلوه برضاهم واختيارهم، ولا يلجئوا المصلح إلى إكراههم عليه. ولذلك صح تخصيص الإكراه بالضرب الأول، وكان الثاني غير معتدٍّ به ولا منظورٍ إليه.
(7/185)
وعليه فالمعنى: وليس في أحكام الدين إكراه يكون ظلمًا. وهذا صحيح، بل ليس فيها ظلمٌ البتة، والحمد لله. وقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} الآية يؤيد ذلك (1). _________ (1) هنا انتهت مسودة هذه الرسالة.
(7/186)
الرسالة الخامسة في ارتباط قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ... } بما قبله وما بعده
(7/187)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (238 - 239) {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. في الآية الثانية صلاة الخوف، وإنما يكون ذاك في الجهاد، فلها نظر إلى آية (218) وما قبلها، فإنها في شأن الجهاد. وأما الآية الأولى فهي كالمقدمة للثانية. وللآيتين علاقة بآيات النكاح والطلاق من وجهين: الأول: أن في آيات النكاح والطلاق بيان العدل في معاملة النساء. وفي بعضها التخفيف عنهن، وفي بعضها تشديدٌ ما مع إرشاد الرجال إلى العفو. وفي آية (237): {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. وفي آية (239) بيان عفو الله عزَّ وجلَّ وتخفيفه عنَّا بأن لم يكلِّفنا ما يشقُّ علينا من المحافظة على إتمام صفة الصلاة عند الخوف. فكأنه تعالى يقول: كما عفوت عنكم، وخفَّفت عليكم؛ فاعفوا أنتم عن أزواجكم، وخفِّفوا عليهن. وأما الآية الأولى، فكالمقدمة للثانية، كما مرَّ. الوجه الثاني: أن أحكام النكاح والطلاق من عظيم نعم الله علينا، فعلينا أن نشكره، والمحافظة على الصلاة هي أعظم الشكر. وقد نبَّه على ذلك بقوله في آخر الآيتين: {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. فكأنه تعالى قال: كما علَّمكم من أحكام النكاح والطلاق ما فيه صلاحكم،
(7/189)
وهداكم لما اختلف فيه الذين من قبلكم من الحقِّ، وخفَّف عنكم بعض ما كان مشدَّدًا عليهم؛ فاشكروه، وأعظم الشكر: المحافظة على الصلاة. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} إلى أن قال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [240 - 241]. علاقة هاتين الآيتين بآيات النكاح والطلاق واضحة. وأما علاقتهما بآيتي (238 - 239) فمن أوجه: الأول: أنَّ للأوليين تعلُّقًا بالخوف والقتال كما مرَّ. وفي آية (240): {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... وَصِيَّةً}. ومعنى "يتوفون": أي يشارفون الوفاة، لأنَّ المتوفَّى حقيقةً لا يمكن أن يوصي. فكأنه قيل: إنَّكم معرَّضون للجهاد والقتل، وبذلك تكونون دائمًا مشارفين للوفاة، وينبغي لمن كان مشارفًا للوفاة أن يوصي لزوجته. وأما المتعة للمطلقة، فكأنها في مقابل الوصية للمتوفى عنها. الوجه الثاني: أنَّ في الأوليين الإشارة إلى الترغيب في العفو والتخفيف عن النساء كما مرَّ، وفي الأخريين الترغيب في الإحسان إليهن بالوصية والمتعة. الوجه الثالث: أنَّ في الأوليين الإشارة إلى الأمر بشكر الله عزَّ وجلَّ على ما علَّم وذلك بالصلاة؛ وفي هاتين شكر الأزواج على ما كان من خلطتهن وخدمتهن وغير ذلك، بأن يوصي لها بعد موته أو يمتِّعها إذا طلَّقها.
(7/190)
وفي الحديث: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" (1). [ص 2] هذا، وفي سَوقِ الكلام هذا المساقَ الذي يتراءى منه أنَّ آيتي الصلاة مقحمتان بين آيات النكاح: نكتة، وذلك أنَّ المعروف من سنَّة الكلام أنَّ المتكلِّم لا يقطع كلامه ما لم يتمَّ غرضُه، ولا يفصل بين أجزائه بكلام أجنبيٍّ إلَّا إذا عرض أمر مهم، كالخطيب يكون في أثناء خطبته، ثم يرى جماعةً يتكلمون، فيُقحم في خطبته كلامًا يتعلَّق بالزجر عن الكلام وقتَ سماع الخطبة. وبالجملة يبين بهذا أنَّ إقحام الحكيم كلامًا بين أجزاء كلامه إنما يكون لأهمية ذلك المقحَم. وإذ كان يتراءى من آيتي الصلاة أنهما مقحمتان، ففي ذلك دلالة عِظَمِ أهمية الصلاة؛ وهذا بحسب ما يتراءى، والله أعلم. _________ (1) أخرجه أحمد (7504)، والبخاري في "الأدب المفرد" (218)، والترمذي (1954)، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
(7/191)
الرسالة السادسة في تفسير قوله تعالى:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ... } الآيات
(7/193)
[ص 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تعالى في سورة النساء: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً .. } [النساء: 2 - 4]. وقال سبحانه فيها: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 127 - 130]. التفسير: {الْيَتَامَى}: جمع يتيم، وهو مَنْ دون البلوغ إذا كان قد مات أبوه، ويشمل الذكور والإناث.
(7/195)
وإيتاؤهم أموالهم: يشمل ــ والله أعلم ــ الإنفاق عليهم منها قبل بلوغ الرشد، وتسليم بقيتها إليهم بعده. وتبدل الخبيث بالطيب: أخذ الخبيث، والمراد به الحرام، وإعطاء الطيب، والمراد به الحلال. [ص 2] وذلك أخذُ الولي الجيدَ من مال اليتيم، وإبداله بالرديء من مال نفسه، قائلاً: إن كنتُ أخذتُ من ماله، فقد عوَّضتُه. قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} الأصل في "إن" كما قاله علماء المعاني: "عدم الجزم بوقوع الشرط" (1)، وذلك يقتضي أن يكون خوف عدم الإقساط غير مجزوم بوقوعه. والأصل في "الخوف" أن يكون لما يتوقع ــ أي يظن ــ وقوعه، لا لما يجزم بوقوعه، لا يقول الشيخ الهرم: أخاف أن لا يعود لي شبابي في الدنيا. وهذا يقتضي أن يكون عدم الإقساط غير مجزوم بوقوعه. وقوله: {أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} حَمَله جماعة على العموم، فقال بعضهم (2): المعنى: كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى، فكذلك خافوا أن لا تقسطوا في النساء {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} إن لم تخافوا أن لا تعدلوا {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. وقال غيره (3): المعنى: كما تخافون من الجور، فكذلك خافوا من الزنا _________ (1) انظر: "الإيضاح في علوم البلاغة" (88). (2) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 362). (3) "تفسير الطبري" (6/ 366).
(7/196)
{فَانْكِحُوا ... }. وحمله الأكثر على الخصوص، على اختلاف بينهم، وذلك على أقوال: 1 - [ص 3] في "الصحيحين" (1) ــ واللفظ لمسلم ــ من طريق الزهري عن عروة عن عائشة: ذكرت الآية الثالثة، ثم قالت: "هي اليتيمة تكون في حِجْر وليها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالُها وجمالُها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها، فيعطيها مثلَ ما يعطيها غيره، فنُهُوا أن ينكحوهن، إلا أن يُقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من الصداق، وأُمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن". 2 - وفي "صحيح مسلم" (2) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}، قالت: "أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة، وهو وليها ووارثها، ولها مال، وليس لها أحد يخاصم دونها، فلا يُنكحها لمالها، فيُضِرُّ بها، ويسيء صحبتها، فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} يقول: ما أحللت لكم، ودع هذه التي تُضِرُّ بها". وفي "صحيح البخاري" ما يوافقه (3). _________ (1) "صحيح البخاري": كتاب الشركة، باب شركة اليتيم وأهل الميراث (2494)، و"صحيح مسلم"، كتاب التفسير (3018 - 6). (2) كتاب التفسير (3018 - 7). (3) كتاب التفسير، باب قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} (4600).
(7/197)
الزهري أجلُّ من هشام، لكن قد ينظر فيما في روايته من وجهين: الأول: أن صداق المثل، وهو المعبَّر عنه بـ"أعلى سنتها" لا بد أن يكون معروفًا، فإن بذله الولي فقد وُجد الإقساط يقينًا، فلا محل لخوف عدمه. وإن نقص عنه فقد وجد عدم الإقساط يقينًا، وذلك [ص 4] خلاف الأصل في "إن"، وفي "الخوف" كما تقدم. الثاني: أن اليتيمة إذا أعجب وليَّها جمالُها ومالُها، فهو بنكاحه لها يرى أنه قد احتفظ بمالها له أو لورثته، فيبعد مع هذا أن ينقصها من مهر المثل، وهو يرى أن سبيله كسبيل أصل مالها، أي أنه محفوظ له ولورثته، فاحتمال النقص هنا كأنّه نادر، والأولى حمل القرآن على ما يكثر وقوعه. وقد يزاد وجه ثالث: وهو أن نكاحه إياها إنما يكون برضاها بعد بلوغها، فإذا رضيت بدون مهر المثل، فأي حرج على الولي في ذلك؟ وهي لو وهبته جميع مالها برضاها لحلَّ له أخذه بلا شبهة. لكن قد يقال: لعلها لم تسمح بنقص المهر ابتداءً، ولكنه عضلها عن أن تنكح غيره، ولم يكن لها من يخاصم عنها، فرأت أنها إذا لم تسمح بقيت عانسًا، فاضطرت إلى السماح. وفي الوجهين الأولين كفاية. وما في رواية هشام أقرب إلى ظاهر الآية، إلا أن قوله: "وليس لها أحد يخاصم عنها، فلا يُنكحها (بضم الياء) "، لا أرى له حاجة. فالأولى أن تشمل الآية هذا، بأن كان أجنبي قد رغب فيها، فعضلها الولي؟ وتشمل ما إذا لم يرغب فيها أجنبي بعد، وأحب الولي أن يبادر إلى خطبتها ونكاحها؛ ليحتفظ بمالها، فرضيت المسكينة متوهمةً أنها قد أعجبت الولي لنفسها، وعدَّت ذلك غنيمةً؛ لأنها لعدم جمالها تشكُّ في رغبة غيره فيها.
(7/198)
وفي "تفسير البغوي" (1): "قال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام، وفيهن من يحل له نكاحها، فيتزوجها لأجل مالها، وهي لا تعجبه، كراهية أن يدخل غريب فيشاركه في مالها، ثم يسيءُ صحبتها، ويتربص أن تموت، فيرثها، فعاب الله تعالى ذلك، وأنزل الله هذه الآية". هذا يوافق رواية هشام، مع شموله للصورتين. [ص 5] وقوله في رواية الزهري: (ما طاب لهم من النساء سواهن) معناه كما هو واضح: سوى اليتامى اللاتي لا يقسطون في صداقهن. ومثله ما في رواية هشام: (ودع هذه التي تضرّ بها). ومثله يفهم مما روي عن الحسن. فأما ما أخرجه ابن جرير (2) بسند صحيح عن الحسن: " {مَا طَابَ لَكُمْ} أي ما حلَّ لكم من يتاماكم من قراباتكم مثنى وثلاث ورباع ... " فكأنه أراد: "ولو من يتاماكم اللاتي لا تخافون ألا تقسطوا إليهن"، ولم يصرح به استغناءً بدلالة الآية على ذلك. وأحسن من هذا عندي أن يلحظ في معنى الطيب: الطيب طبعًا، كما اختاره جمع من المتأخرين، وفسروه بقولهم: "ما مالت له نفوسكم واستطابته" (3). ثم إما أن يقال: المعنى: ما طاب شرعًا وطبعًا. _________ (1) "تفسير البغوي" (1/ 473). (2) انظر: "تفسيره" (6/ 367). (3) "روح المعاني" (4/ 190).
(7/199)
وإما أن يقال: الخطاب مع المؤمنين، والمؤمن لا يطيب له طبعًا نكاح محرمة، كبنت ابنه، أو بنت أخيه. هذا، وطريقة المحققين من أئمة التفسير والحديث تحرِّي الجمع بين الروايات، وإذا كانت الآية ظاهرة في العموم لم تصرف عنه إلى الخصوص لظاهر تفسير بعض السلف. فقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية أن كثيرًا من تفسيرات السلف إنما أريد بها النصُّ على أنَّ ما ذكره مما يدخل في الآية، لا أنه المعنى كله (1). فعلى هذا، يمكن تقرير معنى الآية [ص 6] على ما يشمل ما تقدم وغيره من صور خوف عدم الإقساط، وتسلم مع ذلك عن كثرة الحذف والتقدير، ودونكه: 3 - قال الله عز وجل أولًا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فهذا خطاب للناس جميعًا، فكذلك قوله في الآية الثانية: {وَآتُوا ... وَلَا تَتَبَدَّلُوا ... وَلَا تَأْكُلُوا ... } وكذلك قوله في الثالثة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا ... } فالناس جميعًا مكلفون بالإقساط إلى اليتامى، كلٌّ بحسبه، فالولي يقسط في معاملة اليتيم، وسائر الناس يأمرونه بذلك، ويحثونه عليه، ويمنعونه من الجور. وهناك صور يعلم فيها وجه القسط، فأمرها بيِّن. وهناك صور يشتبه فيها وجه القسط، فيقول الولي: إن فعلت كذا خفت عدم الإقساط، وإن فعلت كذا فكذلك. وهكذا يلتبس الأمر على غيره، فلا يدري بماذا يأمره؟ وعلى ماذا يعينه؟ _________ (1) مقدمة التفسير في "مجموع الفتاوى" (13/ 337).
(7/200)
يقول الولي: إن نكحت هذه اليتيمة فلعلِّي لا أقسط لها، ولعلِّي لو أبقيتها تيسَّر لها أجنبي يبذل في صداقها أكثر مما أبذل، ولعلي إذا نكحتها أن لا أحسن معاملتها، وكذلك إذا فكر في إنكاحها ابنه، أو ابن أخيه مثلًا. ثم يقول: ولعلي إذا تركتها لا يرغب فيها أجنبي فتتضرر، وإن رغب فلعله يحتال على مالها فيأكله، ولعله يتمتع بشبابها ثم يجفوها، ويضرّ بها؛ لأنه أجنبي، لا يعطفه عليها إلا جمالها ومالها. وهكذا يلتبس الأمر على غيره، فلا يدري بماذا يأمره؟ فأرشدهم الله عز وجل إلى أولى الأوجه، وأقربها إلى القسط، وهو تحري الطيب في النكاح، والطيب أن تكون المرأة مع حِلّها للرجل معجِبة له خَلْقًا وخُلُقًا، بحيث يغلب على الظن أنه إذا نكحها عاش معها عيشة طيبة، ولن يكون ذلك حتى يكون معجبًا لها خَلْقًا وخُلُقًا، وحتى تكون راضية بنكاحه رضًا تامًّا، فلن تطيب لمن هي كارهة له، ولن تطيب لمن هواها في غيره. [ص 7] ولن تطيب إذا عرض عليها الوليُّ مهرًا دونًا، فتمنعت، فعضلها حتى ألجأها إلى القبول لنكاحه، أو نكاح ابنه، أو ابن أخيه مثلاً. ومتى تحرَّى الولي وغيره إنكاح اليتيمة مَن تطيب له ذاك الطيب، سواء أكان هو الولي، أم ابنه، أو ابن أخيه، أم أجنبيًا؛ فقد أدوا ما عليهم من رعاية الإقساط، فلا يمنعهم عنه تخوُّف من عدم الإقساط. ولما كان الطيب بهذا المعنى هو مظنة استقامة النكاح، وائتلاف الزوجين مطلقًا، أي في اليتيمة وغيرها، سيقت الآية هذا المساق {فَانْكِحُوا مَا
(7/201)
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أي لينكح الولي ما طاب له، ولينكح ابنه أو ابن أخيه ما طاب له، ولينكح كل منكم ما طاب له، وليأمر الناس بعضهم بعضًا بذلك، وليتعاونوا عليه. وعلم بذلك أنه ينكح اليتيمة من طابت له، سواء أكان هو الولي، أم أحد أقاربه، أم أجنبيًا؛ وأن من نكح امرأة لا تطيب له ذلك الطيب، أو أنكحها من لا تطيب له ذاك الطيب، أو أمر بذلك، أو أعان عليه، فلم يقسط، حتى الأب إذا أنكح ابنته من لا تطيب له ذاك الطيب فلم يقسط إليها، ولا إلى الزوج، ولا إلى نفسه؛ لأن الثلاثة معرضون للإثم، ولما ينشأ عن مثل ذلك النكاح من الخصومة والنكد. وكذلك من ألجأ ابنه إلى نكاح امرأة لا تطيب له، أو منعه من نكاح امرأة تطيب له، أو ألجأه إلى فراقها، فلم يقسط إلى ابنه، ولا إلى المرأة، ولا إلى نفسه. وكذلك من أمر، أو أعان على نكاح رجل لامرأة لا تطيب له، أو منعه من نكاح من تطيب له، أو التفريق بينهما، فلم يقسط إلى الرجل، ولا إلى المرأة، ولا إلى نفسه. فتدبر لو أن المسلمين راعوا هذا الأمر، فكلما وُجد الطيب بادروا إلى النكاح، والأمر به، والإعانة عليه؛ وكلما عُدم الطيب امتنعوا عن النكاح، ومنعوا منه = كيف يكون حالهم؟ هذا، والآخذون بظاهر أحد القولين الأولين يعذرون؛ لما يأتي: {وَإِنْ خِفْتُمْ} يا معشر الأولياء {أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} إذا نكحتموهن
(7/202)
{فَـ} لا تنكحوهن، و {انكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} سواهن. والمعنى الثالث غني عن تلك التقديرات، وإنما تحتاج إلى تفسير يكشف [ص 8] المعنى، وبيان أن التعليق منحوٌّ به نحو اللازم، فكأنه قيل: {وَإِنْ} ألبس عليكم سبيل الإقساط إلى اليتامى في قضية نكاحهم فَـ {خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَـ} هذا سبيل الإقساط في ذلك وفي النكاح كله {? نكِحُوا ... مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إلى آخر ما تقدم. وقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} يفيد أن الأصل في سبيل الإقساط هو الجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع، ومما يوجَّه به ذلك أن الرجل قد يكون عنده المرأة، ثم تطيب له أخرى، فإذا امتنع، أو مُنِع من الجمع فهو بين أمرين: إما أن يطلِّق الأولى، فيسيء إليها، وإلى أطفالها، وإلى أهلها , وإلى نفسه. ثم لعل النوبة تصل إلى هذه الأخرى، بأن يطلقها إذا طابت له ثالثة. وإما أن لا ينكح الأخرى، فتبقى بغير زوج، فتتضرر، وقد تسقط أو تضطر إلى نكاح من لا يطيب لها؛ فيكون المانع من نكاحها قد أساء إليها، وإلى أهلها , وإلى الذي تطيب له، وإلى الذي يتزوجها وهي لا تطيب له. ثم لعل الرجل امتنع من طلاق الأولى وهي لا تغنيه، وإنما أبقاها لأجل أولادها أو غير ذلك، فيحتاج إلى التعرض للفجور، فيفسد بعض النساء، فيسيء بذلك إليهن، وإلى أهلهن، وإلى المجتمع كله، وإلى المرأة التي عنده أيضًا.
(7/203)
والمرأة تحيض، وتحمل، وتنفس، وترضع، وتمرض، وتكبر، وتكون (1) عاقرًا، ويغيب عنها الزوج، وغير ذلك مما يجعل الزوج بحاجة إلى غيرها. وقد يكون الرجل قويًّا غنيًّا يمكنه أن يعف ويغني أكثر من واحدة، والإقساطُ تمكينُه من ذلك لينتفع جماعة من النساء، وإن نال بعضهن أوكلا منهن بعض الضرر، فذلك أولى من أن تستبدّ به واحدة [ص 9] ويحرم غيرها من خيره كله، على أن هذه الواحدة معرضة للضرر، كما مرَّ. ولا ريب أن المرأة تحب أن تستبد بالرجل، لكن كثيرًا منهن ترى مصلحتها في أن ينكحها فلان، وإن كان عنده غيرها: واحدة أو اثنتان أو ثلاث، ولهذا يمكن الجمع، فإن النكاح مشروط فيه رضا المرأة، ولولا رضا الكثيرات بما ذُكِر لم يمكن الجمع. ولا ريب أن المرأة تكره غالبًا أن يتزوج عليها زوجها، ولكن لو خُيِّرت بين ذلك، وبين أن يطلقها لاختارت البقاء على ما فيه، والعاقلة منهن إذا كانت تحب زوجها، ورأت أنها لا تحمل، تحبُّ أن ينكح زوجها عليها غيرها، لعل الله يرزقه ولدًا (2)، كما أنها إذا رأت أنها لا تغنيه لمرضها أو كبرها، أحبّت أن ينكح غيرها عليها، خوفًا من أن يميل إلى الفجور، فيخرب البيت كله. وبالجملة، إن المرأة التي ينكحها رجل عنده غيرها، إنما ينكحها برضاها وطيب نفسها، فلا وجه لعدِّ ذلك مخالفًا للإقساط إليها. وأما التي تكون عند الرجل فينكح غيرها، فإذا رأت أن ذلك مخالف للإقساط إليها، فإنها تستطيع أن تسأله الطلاق، فإن أبى شاقَّته، ورفعت الأمر إلى الحاكم، _________ (1) في الأصل: "يكون" (2) في الأصل: "ولد".
(7/204)
فيبعث حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها، فتصل إلى الطلاق إن أحبت. وإن قالت: لا أرضى أن ينكح عليّ، ولا أحبّ فراقه، قيل لها: قد تكون مصلحتك في ذلك، ولكن في المنع من غيره ضرر على غيرك، بل قد يعود الضرر عليك، وعلى أولادك إن كانوا. قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} قد تقدم بيان الأصل في "إن"، وفي "الخوف". ولا مانع أن يكون الخطاب على عمومه، أي للأزواج وغيرهم؛ لأن الناس كلهم مأمورون بالإقساط، كما تقدم. والخوف قد يكون من الزوج، أو من الزوجة، أو وليها، أو من غيرهم ممن يتمكن من أمرهم ونهيهم، ومعونتهم. [ص 11] (1) {أَلَّا تَعْدِلُوا} إذا لم يعدل الزوج كانت تبعة ذلك عليه، وعلى كل من أمره بالزواج، أو أعانه عليه، أو لم ينهه عنه، إذا علموا أن ذلك الزوج مظنة أن لا يعدل. وكذا من قصّر بعد وقوع الزواج عن أمره بالعدل، ونهيه عن الجور، ومنعه منه، ولكن أصل المدار على عدل الزوج. [ص 12] والعدل على ضربين: الأول: في الحقوق المالية. والثاني: في الحبِّ والعشرة. وكل منهما يطلب من جهة في النساء، بتوفيتهن حقوقهن، وهذا يأتي في حال الجمع، وفي حال الواحدة. ومن جهة يطلب بين النساء، بأن لا يزيد واحدة، وينقص أخرى مثلاً، وهذا إنما يأتي حال الجمع. _________ (1) الصفحة (10) مضروب عليها.
(7/205)
وخوف الزوج من أن لا يعدل يقتضي أنه يحب العدل، ويحرص عليه، ومن كان كذلك فإنما يخاف أن لا يعدل إذا كان يتوقع وجود مانع يمنعه من العدل. والعادة المستمرة أن ينكح الرجل واحدة، ثم قد يبدو له، فينكح أخرى، وهكذا. فمن كانت عنده واحدة، وفكر في نكاح أخرى، وطابت له، فلماذا يخاف أن لا يعدل؟ لا ريب أنه إذا كان قليل المال، ضعيف الكسب، فإنه يخاف إذا نكح الثانية أن لا يتمكن من الوفاء بالحقوق المالية، بل إما أن يقصر بكل من المرأتين، وإما أن يفي لواحدة، ويقصر بالأخرى، كما أنه إذا كان عزبًا، وأراد أن يتزوج حرّة، وطابت له، فقد يخاف أن لا يتمكن من الوفاء بحقوقها المالية، فينطبق على هذا أن يؤمر بمملوكة، على ما يأتي بيانه. وقد يأتي نحو هذا فيما يتعلق بالعشرة، وذلك أن يكون الرجل ضعيف الشهوة، يخاف أن لا تفي قوّته بما يرضي امرأتين مثلاً، وقد يشتد ضعفه فيخاف أن لا يفي بما يرضي الواحدة. فحال هذا في حقوق العشرة كحال قليل المال، ضعيف الكسب في الحقوق المالية. وهل ثمَّ مانعٌ آخر يتصور في الغني القوي؟ [ص 13] لا ريب أن من جمع بين امرأتين مثلاً، لا بد أن يميل إلى إحداهما؛ لقول الله عز وجل: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (1) [النساء: 129]. _________ (1) في الأصل: "كالمطلقة"، وهو سبق قلم.
(7/206)
وفسَّر السلف ما لا يستطاع بالحب والجماع، فالحب لا يملك الإنسان التصرف فيه، والجماع ليس في ملكه دائمًا، فقد ينشط مع التي يحبها، ويعيا مع الأخرى. لكن ذاك العدل الذي لا يستطاع لا يمكن أن يفسَّر به العدل هنا في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا}؛ لوجوه: الأول: أن انتفاء ذاك مجزوم بوقوعه، وانتفاء هذا غير مجزوم بوقوعه؛ لقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} وقد تقدم إيضاح ذلك. [ص 14] الوجه الثاني: أن انتفاء ذاك لا يحتمل في الواحدة، وانتفاء هذا محتمل فيها لدليلين: أحدهما: قوله: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والمعنى على ما قاله ابن جرير وأسنده عن سعيد بن جبير وقتادة والربيع: فإن خفتم ألا تعدلوا في الحرة الواحدة فما ملكت أيمانكم (1). وثانيهما: قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} ومعناه ــ كما لا يخفى ــ: "الاقتصار على واحدة حرة أو مملوكة أقرب إلى أن لا تعولوا"، وكونه أقرب فقط يقتضي أن العول فيه، أي في الاقتصار على واحدة حرة أو مملوكة، محتمل. وتفسير العول بكثرة العيال أو بالافتقار ظاهر في أن العدل في الآية هو الوفاء بالحقوق المالية. _________ (1) انظر: "تفسير الطبري" (شاكر 7/ 537، 539) قول قتادة برقم 8468، وقول الربيع برقم 8474. أما سعيد بن جبير (8469 - 8471) فلم يقل بذلك.
(7/207)
وتفسيره بالجور قابل لذلك، أو يصدق على ترك الوفاء للواحدة بحقوقها أنه جور عليها. وكذلك تفسيره بالميل إذا أريد به الميل عن الاستقامة. فأما إذا أريد الميل عن بعضهن إلى غيرها، فهو مردود بما تراه. الوجه الثالث: أن في أول الآية الترغيب في الجمع؛ لأن أصل صيغة الأمر للوجوب، لكن لا قائل ــ فيما أعلم ــ بوجوب الجمع، فعلى الأقل يكون للترغيب؛ إذ هو أقرب إلى الوجوب الذي هو الأصل، من الإباحة؛ لأن السياق يدل على [أن] قوله: {فَانْكِحُوا} بيان سبيل الإقساط، والإقساط واجب، فأقل الحال في سبيله أن يكون مرغبًا فيه. وفي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} الآية إقرار الناس على الجمع، مع بيان عدم استطاعتهم لذلك العدل، ووجود الميل الشديد منهم، وإنما نهوا فيها عن الميل كل الميل. وفي الآية التي قبلها إرشاد المرأة إلى ملاطفة الزوج، بأن تدع له بعض حقها. وفي الآية التي بعدها: إرشاد المرأة التي لا تصبر على الميل إلى سؤالها الطلاق. في ذلك كله [ص 15] تأكيد لإقرار الجمع، وأقر الله عز وجل ورسوله كثيرًا من الصحابة على الجمع، وشرعت لذلك عدة أحكام، ومضت الأمة على ذلك إلى اليوم. وفي بعض هذا ــ فضلاً عن كلّه ــ ما يمنع من حمل قوله: {أَلَّا تَعْدِلُوا} على ما يناقض ذلك ما دام غيره محتملاً، بل هو الظاهر البين، بل المتعين. فالعدل في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} هو العدل الذي يستطيعه
(7/208)
الغني القوي، وقد يعجز عنه الفقير أو الضعيف، ويأتي في الجمع، وفي الواحدة، وهو الوفاء بالحقوق الواجبة. والعدل في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 129] هو العدل الذي لا يستطيعه أحد، وهو التسوية بين النساء في الحب والجماع، وإنما يأتي في حال الجمع.
(7/209)
الرسالة السابعة في تفسير أول سورة المائدة (1 - 3)
(7/211)
[ص 19] سورة المائدة [1 - 3] {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بينكم وبين الله والناس. ومما بينكم وبين الله إحلالُ ما أحَلَّ وتحريمُ ما حرَّم، وهاكم إيضاح ما أحلَّ وحرَّم من البهائم: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ} وغيرها من الآيات، وذلك: الميتة والدم المسفوح وما أهل لغير الله به {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} حال من ضمير "أوفوا" فيما يظهر. ثم رأيت الزمخشري (1) نقله عن الأخفش (2). {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ} من إحرامكم {فَاصْطَادُوا} كلَّ ما يسمَّى أخْذُه في اللغه صيدًا {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} ثم رجع إلى بقية إيضاح المحرمات، فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} المراد بها ما يقال لها في اللغة: "ميتة" وأهل اللغة يطلقون الميتة على ما مات بغير ذكاة، فيدخل فيها المنخنقة وما يأتي معها. وإنما عُطِفن على الميتة من باب _________ (1) انظر: "الكشاف" (1/ 601) و"معاني القرآن" للأخفش (1/ 271). (2) عبارة "ثم رأيت ... الأخفش" ألحقها في الحاشية.
(7/213)
عطف الخاص على العام دفعًا لما يتوهم من قياس الخنق ونحوه على الذبح. قال: {وَالدَّمُ} المسفوح {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} واللحم يتناول الشحم كما بُيِّن في موضعه {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في "القاموس" (1): "وأهَلَّ: نظر إلى الهلال. والسيفُ بفلان: قطع منه". وعليه فقوله في الآية: "أُهِلَّ به" معناه: ذُبِحَ أو نُحِرَ، وليس من الإهلال الذي هو رفع الصوت. وهكذا في سائر الآيات التي في هذه الجملة. وقوله: {لِغَيْرِ اللَّهِ} يتناول كلَّ ما لم يُذبَح له. وقد بيَّن الشرع معنى الذبح لله بأنه ما لم يُذكر عليه اسمُه (2). قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا [ص 21] لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي صاده. هذه داخلة في الميتة كما تقدَّم، وأعيدت على سبيل عطف الخاص على العام دفعًا لتوهم أنها كالمذكَّاة لأنها لم تمت حتف أنفها. نعم، قوله: {مَا أَكَلَ السَّبُعُ} يتناول لفظًا ما أدرك حيًّا فذُكِّيَ، وما كان أكل السبعُ منه ذكاةً، وسيأتي تفصيله. وهذان ليسا داخلين في الميتة، فقال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}. وفيه إجمال سيأتي تفصيله. {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وإن ذُكِر اسمُ الله عليه {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا _________ (1) انظر: "تاج العروس" (31/ 150). (2) كذا في الأصل، وهو معنى الذبح لغير الله.
(7/214)
بِالْأَزْلَامِ} على ذبح بهيمة أو صيد، فإنَّ تلك البهيمة أو الصيد لا تحلُّ لكم وإن ذكَّيتموها، أو اصطدتموها، أو ذكرتم اسم الله عليها؛ لأن استقسامكم بالأزلام فيها شركٌ كالذبح على النصب. {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} شرك. {الْيَوْمَ} وهو يوم الجمعة يوم عرفة من حجة الودراع {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص 22] ... مِنْ دِينِكُمْ} أن يبطلوه، أو يُحلُّوا بعضَ ما حُرِّم أو يحرِّموا بعضَ ما أُحِلَّ {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الإكمالَ المطلقَ بحيث بيَّنتُ لكم جميع الأحكام التي تحتاجون إليها في دينكم إلى يوم القيامة في شأن الحلال والحرام من اللحوم وغيره من جميع الأحكام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بإكمال الدين وإظهاره حتى لم يحجَّ (1) مشرك وغير ذلك. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} لا أرضى غيره في الحلال أو الحرام أو غيره. {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى تناول شيء مما حرَّمتُه عليه {فِي مَخْمَصَةٍ} أي جوع. وربما كان التقييد بها لإخراج المضطر للتداوي وغيره، فتأمَّلْ {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} مائل {لِإِثْمٍ} معصيةٍ بأن تكون المعصية هي سبب اضطراره {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)} لا يعاقبه إن أكل. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} من صيد السِّباع كما يُعرف من السياق [ص 23] فقد تقدَّم تحريمُ ما أكل السبع، واستثناءُ ما ذُكِّي، وهذا مجمل ــ كما تقدَّم ــ يُسأل عن بيانه وتفصيله. والبيان والتفصيل الآتي خاصٌّ بذلك، كما سترى إن _________ (1) كذا في الأصل.
(7/215)
شاء الله. ويدلُّ على ذلك سبب نزول الآية. أخرج ابن جرير (1) من طريق الشعبي أنَّ عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجلٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت هذه الآية: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}. وأخرج ابن أبي حاتم (3) عن سعيد بن جبير أنَّ عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالا: يا رسول الله، إنَّا قوم نصيد بالكلاب والبُزاة، وإنَّ كلاب آل ذريح تصيد البقر والحمير والظباء، وقد حرَّم الله الميتة، فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}. وأخرج الحاكم (4) وقال: صحيح ــ وأقرَّه الذهبي ــ عن أبي رافع قال: أمَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب. قالوا: يا رسولَ الله، ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرتَ بقتلها؟ فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}. وروى الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع أيضًا نحوه مطوَّلًا (5). _________ (1) في "تفسيره" ــ شاكر (9/ 553)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 193) إليه وإلى عبد بن حميد. (2) في الأصل هنا وفيما يأتي حرف الصاد اختصار الصلاة والسلام. (3) انظر: "الدر المنثور" (5/ 192). (4) في "المستدرك" (2/ 311). (5) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 191) إلى الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي. ورواية الحاكم هي السابقة. وأخرجه الطبراني (965) والبيهقي في "السنن" (9/ 235).
(7/216)
وأخرج ابن جرير (1) عن عكرمة نحوه. [ص 24] {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} المراد به ــ والله أعلم ــ ما هو داخل تحت المُحَلِّ بما تقدَّم، وذلك غير الخنزير وغير الميتة. والمراد بالميتة ما لم يدرَكْ حيًّا فيُذَكَّى أو كان أخذ السبع له ذكاة. ولما كان في هذا الخبر إجمال بيَّنه الله عز وجل بقوله: {وَمَا} شرطية {عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} مُضَرِّين [ص 25] {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} من حيل الصيد وآدابه {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} بخلاف ما أمسكن على أنفسهن. وعلامة إمساكها على نفسها أن تأكل منه كما في "الصحيحين" (2) {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} عند الإرسال كما بيَّنتْه السنة الصحيحة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فلا تتعدوا حدوده {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}. {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} المتقدِّم بيانها. أعاده تأكيدًا، وليبني عليه ما يأتي؛ فإن إحلال المذكَّاة يصدُق بما ذكَّاه المسلم، وما ذكَّاه المشرك، وما ذكَّاه الكتابي. فأما ما ذكَّاه المسلم، فلا شبهة في حلِّه إذا ذكر اسم الله عليه. وأما ما ذكَّاه المشرك، فلا شبهة في حرمته لأنه إن لم يكن على نصب أو _________ (1) في "تفسيره" ــ شاكر (9/ 546). (2) من حديث عدي بن حاتم. البخاري (5483، 5487) ومسلم (1929).
(7/217)
مع الاستقسام بالأزلام أو مع ذكر اسم إله عليه، فإنه لا يذكر اسم الله. وإنْ ذكَره، فذكرُه له غير معتبر [ص 26]، لأنه مشرك لا عبرة بعبادته. وأما ما ذكَّاه الكتابي، فهو مفتقر إلى البيات، فبيَّنه الله عزَّ وجلَّ بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فكلوا مما بأيديهم من اللحوم المستوفية لشروط الحل المتقدمة بأن لا تكون ميتة ولا لحم خنزير ولا غير ذلك مما تقدَّم بيان حرمته. {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} فائدة هذا ــ والله أعلم ــ بيان أنه يجوز لنا إطعامهم. ولما ذكر حكم طعام أهل الكتاب أراد أن يذكر حكم نسائهم، وقدَّم قبلهن المؤمنات إشارةً إلى أنَّ الاختيارَ الاقتصارُ عليهن، فقال (1): _________ (1) انتهت المسودة هنا.
(7/218)
الرسالة الثامنة في تفسير قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ... } الآية
(7/219)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فائدةٌ في بحثٍ جرى فحرّرتُ ما عَلِق بفكري منه بالمعنى بحسب ما بلغ إليه فهمي، والله الهادي. دعاني سيدنا الإمام (1) أيده الله تعالى ليلةً، وعنده السيد العلَّامة محمد بن عبد الرحمن الأهدل، وأخبرني أنهما تذاكرا في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، فذكر ــ أيَّده الله ــ وجهًا، وذكر السيد محمد بن عبد الرحمن وجهًا، وأمرني بنظر "الجلَالَيْن"، فنظرته، فإذا السيوطي يقول في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قبل النضج {وَآتُوا حَقَّهُ} زكاته {يَوْمَ حَصَادِهِ} ... {وَلَا تُسْرِفُوا} بإعطاء كله، فلا يبقى لعيالكم شيء" (2). فخَطَر للحقير أنَّ قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} يرجع إلى الأكل؛ لأنه المحتاج إلى التقييد؛ لأنَّ البعض الذي يستفاد مِنْ (مِنْ) مطلقٌ يصدق على الربع فما فوقه، ما دام لم يستغرق؛ فاحتاج إلى تقييد الإذن بعدم الإسراف، كما احتاج الأكل والشرب للتقييد بعدم الإسراف، والإذنُ بالوصيّة إلى التقييد بعدم المضارَّة (3). وقدَّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا بالربع أو الثلث، والثلثُ هو الغاية (4)، كما _________ (1) محمد بن علي الإدريسي. (2) "تفسير الجلالين" (146). (3) يعني في سورة النساء: 12. (4) انظر حديث سعد بن أبي وقاص في البخاري (2744) ومسلم (1628)، وحديث ابن عباس في البخاري (2743) ومسلم (1629).
(7/221)
أنَّ الأكل والشرب والوصية كذلك. ثم لمحتُ على الحواشي (1) ما كتبه سيِّدُنا أيَّده الله، فإذا هو هذا الوجه، أعني: رجوع {وَلَا تُسْرِفُوا} إلى الأكل. قال: ويؤيِّده قوله تعالى في آية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. فعلمتُ أنَّ الخاطر الذي خطر لي إنما هو من توجُّه قلبِ سيِّدنا أيّده الله تعالى (2). ثم قرَّر سيّدنا ــ أيَّده الله ــ هذا الوجه، وقال: إنه رَجَح بوجهين: الأول: آية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}. فقوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} فيها راجع إلى الأكل والشرب مطلقًا، ففي آية البحث الأَوْلى موافقتها. الثاني: أنَّ إعطاء الكلّ ليس ممّا يُنهى عنه، لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقصةِ سيِّدنا أبي بكر (3)، وغير ذلك. وإنما يُنهى عن إعطاء الكل في حقِّ أهل القصور عن اليقين. وحملُ القرآن على الأوّل أولى، بل يتعيَّن؛ لأنه الأشرف، والقرآن يُحمل _________ (1) يعني حواشي الجلالين. (2) كذا جرت هذه العبارة على قلم الشيخ في هذا الموضع، ولم يتكرر مثلها في كتبه. وهذه الرسالة مما قيَّده الشيخ في مقتبل شبابه حين اتصاله بالإدريسي. وكان الإدريسي متصوفًا، وتوجُّه القلب مصطلح معروف عند الصوفية شائع في مجالسهم. (3) أخرجها أبو داود (1680) وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وخلاصتها: أنَّ عمر رضي الله عنه أراد أن يسابق أبا بكر رضي الله عنه في الصدقة، فجاء بنصف ماله. وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له عمر: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.
(7/222)
على أحسن المحامل وأكملها. ثالثًا: أنَّ الأكل هو المحتاج إلى التقييد، ولذلك قدَّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يدعه الخارص بالثلث أو الربع (1). فقلت: وأيضًا: المأمور بإيتائه معلوم مقدَّر، وهو الحقّ الذي قد بيَّنه الشارع، فتقييده بعدم الإسراف خالٍ عن الفائدة. فقال سيّدنا أيَّده الله: هو كذلك مع الإيتاء المذكور، فأمّا أن يرجع إلى صدقة التطوّع فهو بعيد، مع أنه قد مرَّ أنَّ إعطاء الكل مطلوب في حقِّ أهل اليقين، والأولى حملُ القرآن على حالهم، كما مرّ. أقول: وأيضًا: إنَّ جَعْلَ {وَلَا تُسْرِفُوا} قيدًا لشيء غير مذكور ــ وهو صدقة التطوع ــ بعيد، إن لم يكن ممتنعًا، ولا سيَّما مع وجود ما يحتاج إلى التقييد وهو الأكل، مع غير ذلك من الأدلة. ثم قال سيّدنا أيَّده الله تعالى: وهل في الآية دليل على جواز الأكل بعد تتمُّرِ الرُّطَب ونحوه، أو حظره أو لا؟ ثم أخذ يقرِّر أن الظاهر ليس له ذلك. فقلت: قد يقال: إنَّ قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يُفهِم أنَّ ما تمَّ صلاحُه حتى صار مستحقًّا للحصاد لا يجوز الأكل منه وإن لم يُحْصَد بالفعل. _________ (1) أخرجه الإمام أحمد (5713) وأبو داود (1607) والترمذي (643) والنسائي (2491) وغيرهم من حديث سهل بن أبي حثمة.
(7/223)
فقال أيَّده الله: فسَّرتَ مقصودي. أقول: وأمّا أمرُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الخرَّاصين أن يدَعوا الثلث أو الربع، فذلك قبل حلول الحصاد، ليأكلوا منه ويتصدَّقوا ويُهدوا؛ لأنَّ ما قد خُرِص فقد لزمت الزكاة بقدر الخرص. ولو بقي من هذا الثلث المتروك لهم شيء إلى حلول الحصاد، فهل تجب فيه الزكاة أو لا؟ الظاهرُ: نعم، للآية، وتكون فائدة السنَّة في أنه لو أكله لم تلزمه زكاته. والظاهر: أنَّ ما جاز له أن يأكله جاز له أن يتصرَّف فيه بغير ذلك. والظاهر: استمرارُ الجواز إلى استحقاق الحصاد كما هو ظاهر الآية. وإيَّاه رجَّح سيّدُنا أيَّده الله. وأما السيد محمد بن عبد الرحمن فقال: إن قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} ليس قيدًا في شيء مما قبله، بل هو جملة مستأنفة عامّة؛ لمجيء الفعل في حيِّز النهي، والنهي كالنفي، والفعل كالنكرة؛ فيشمل كلَّ إسراف. فقال سيدنا أيَّده الله: ويقوِّيه أنهم يقولون: حذفُ المعمول يُؤذِن بالعموم. فقلت: وحينئذ يدخل تحت عمومه إعطاءُ الكل في صدقة التطوّع، فيحتاج إلى تخصيص كون ذلك محمودًا في حقِّ أهل اليقين بأدلّته، كآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] وغيرها. فقال سيّدنا أيَّده الله: وحينئذ لا يبقى محملٌ للإطلاق إلّا على ضعفاء اليقين بالنظر إلى صدقة التطوع.
(7/224)
فيَرِد عليه ما ورد على الوجه الذي ذكره المفسِّر (1)، هذا مع أنَّ ظاهر السياق لا يحُدُّه (2). ثم قلت: ومع كون الوجه الأول هو الراجح نظرًا، فهو المتبادر، وحكيتُ ما خطر لي أوّلًا. وبعد ذلك قال سيِّدنا أيَّده الله: قد سبق لي مثل هذا في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فقال الخطيب (3): إنَّ المجيء بِـ (مِنْ) التبعيضيّة إشارةٌ إلى منع إعطاء الكلّ (4). فقلت: كلا، وإنما فائدتها تعريف المخاطبين أن الأجر والمدح يحصل بإعطاء البعض، ولا يتوقف على إعطاء الكلّ، كما في قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" (5)، وغيره. فقلت: فنصُّه على أن البعض موجبٌ للأجر والثواب يدلُّ على أن الكلّ من باب أولى. ولو نصَّ على الكلِّ لكان الظاهر توقُّف المدح عليه دون البعض، والأمر بخلافه. أقول: وعلى ما تقرّر، فيكون هذا من مفهوم الموافقة لا مفهوم المخالفة، فإن مفهوم المخالفة شرطه كما في "اللبّ" أن لا يظهر لتخصيص المنطوق _________ (1) يعني الجلال السيوطي في تفسير الجلَالين، كما سبق. (2) الكلمة في الأصل تشبه ما أثبت. (3) يعني الرازي، وهو معروف بابن الخطيب أو ابن خطيب الري. (4) "مفاتيح الغيب" (2/ 35). (5) أخرجه البخاري (6023) ومسلم (1016) من حديث عدي بن حاتم.
(7/225)
بالذكر فائدةٌ غير نفي حكم غيره (1). وهاهنا قد ظهرت فائدةٌ غير نفي حكم غيره، وهي ما قرّره سيّدنا أيَّده الله تعالى. قال في "شرح اللّبّ" بعد أن حكى بعض الصور لِما يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره ــ ما لفظه: "والمقصود ممّا مرّ أنه لا مفهوم للمذكور في الأمثلة المذكورة، ونحوها. ويُعْلَم حكم المسكوت فيها من خارجٍ بالمخالفة، كما في الغنم المعلوفة؛ أو بالموافقة كما في آية الرَّبيبة (2)، للمعنى، وهو أنَّ الرَّبيبة حرمت لئلا يقع بينها وبين أمّها التباغض لو أبيحت، نظرًا للعادة في مثل ذلك، سواء أكانت في حِجْر الزوج أم لا" (3) اهـ. أي: فقد ظهرت فيه لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره، ودلّ المعنى على موافقة المسكوت للمنطوق في الحكم. وكذلك قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فإنها ظهرت فيها لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره، ودلّ المعنى على موافقة المسكوت للمنطوق؛ إذ المعنى أنَّ المدح تسبَّب عن البذل والإنفاق، ومن المعلوم أنه كلما كثر البذل والإنفاق زاد المدح. بل هو في هذه أوضح منه في آية الربيبة، لأنَّ ذلك مساوٍ، وهو المسمَّى بـ "لحن الخطاب"، وهذا بالأَوْلى، وهو المسمَّى بـ "فحوى الخطاب" (4)، والله أعلم. _________ (1) "غاية الوصول شرح لبِّ الأصول" (39). (2) النساء: 23. (3) "غاية الوصول" (40). (4) انظر: "غاية الوصول" (39).
(7/226)
بعد هذا رأيتُ في "حاشية العلامة الصاوي على الجلَالَيْن" (1) ما لفظه: "قوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} أي: تتجاوزوا الحدّ بإخراج كلّه للفقراء، أو بعدم الإخراج من أصله، أو بإنفاقه في المعاصي. والأقربُ الأوّل الذي اقتصر عليه المفسِّر؛ لأن سبب نزولها أنَّ ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة يوم أُحُد، ففرَّقها ولم يترك لأهله شيئًا". وفي "أسباب النزول" للسيوطي (2) ما لفظه: "قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا} الآية: أخرج ابن جرير عن أبي العالية، قال: كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة، ثم تسارفوا، فنزلت هذه الآية. وأخرج عن ابن جريج أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، جَدَّ نخله، فأطعَمَ حتى أمسى وليست له ثمرة". وعلى صحة هذا، فلا مانع من أن يكون قوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} عائد (3) إلى قوله: {كُلُوا}، كما قررناه. وتكون مناسبة سبب النزول في قوله: {حَقَّهُ}، أو يكون {وَلَا تُسْرِفُوا} عائد (4) إليهما معًا: إلى {كُلُوا} وإلى {وَآتُوا} تأكيدًا لمفهوم {حَقَّهُ}. ويُجْمَع بين هذا وبين أدلَّة الإيثار بأنَّ الإيثار مستحبٌّ إذا كان على النفس، _________ (1) (2/ 45 ــ 46). (2) على حاشية "تفسير الجلَالَين" (207). وانظر: "تفسير الطبري" (12/ 174). (3) كذا في الأصل بدلًا من "عائدًا". (4) كذا في الأصل.
(7/227)
وأمَّا إذا كان على المتصدِّق حقٌّ لأهله فتصدَّق بالكلِّ بغير رضاهم، فإنه حينئذ ظالم لهم. وعلى الأول يُحمَل حال من نزلت فيه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9]، ونحوها، وقصَّة الصِّدِّيق، وعلى الثاني تُحَمل هذه الآية ــ على صحّة السبب في حقِّ ثابت بن قيس ــ، وحديث: "لا صدقة إلَّا عن ظهر غنًى، وابدأ بمَن تعول" (1)، ونحو ذلك، والله أعلم. _________ (1) أخرجه البخاري (1426) من حديث أبي هريرة.
(7/228)
الرسالة التاسعة في تفسير قوله تعالى:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ... } الآية
(7/229)
[ص 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ... } الآيات [ص: 34 - 36]. أجزاء الآية 1 ــ {فَتَنَّا} معناه: بلونا، اختبرنا، امتحنا. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، ففتنة الله عز وجل لعبده هو أن يعرضه لأمر يعترك فيه خوفه من الله عز وجل وهواه، بأن يكون في ذلك الأمر ما تميل إليه النفس وتشتهيه وترغب فيه مما نهى الله عز وجل عنه. فالخير كالغنى ــ مثلاً ــ فتنة، لأن نفس الغني تميل إلى الأشر والبطر والشهوات المحظورة. والشر كالفقر ــ مثلاً ــ فتنة، لأن نفس الفقير تميل إلى طلب المال، ولو من غير حِلِّه. وإذا فتن الله عز وجل عبدًا، أي بلاه بشيء، فقد يغلب إيمانه وتقواه هواه فيفوز، وقد يغلب هواه تقواه فيسقط. فيتحصّل من هذا: أن الله عز وجل إذا أخبر أنه فتن عبدًا، فليس في هذا الخبر وحده ما يدل على وقوع العبد في المعصية، وإنما يدل على أنه سبحانه عرّض العبد لأمرٍ، كما مرَّ، فليس في كلمة {فَتَنَّا} في هذه الآية ما
(7/231)
يدل على وقوع معصية من سليمان عليه السلام. 2 - {جَسَدًا} معناه ــ والله أعلم ــ: جسم إنسان أو حيوان لا روح فيه (1). قال الله عز وجل في شأن الأنبياء: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: 8]. [ص 2] أخرج ابن جرير (2) عن الضحاك يقول: "لم أجعلهم جسدًا ليس فيهم أرواح لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم جسدًا فيها أرواح يأكلون الطعام". وقال تعالى في شأن بني إسرائيل: {عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148، وطه: 88]. وقد اختلف في عجل السامري: أصار حيًّا، أم لا؟ وجاء نفي حياته عن بعض التابعين (3)، ونصره أكثر المتأخرين، وهو الذي يقتضيه تعقيب الله عز وجل قوله: {عِجْلًا} بقوله: {جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}. وقول صاحب القاموس (4): "الجسد محركة: جسم الإنسان والجنّ والملائكة" لا أرى ذكر الجنِّ والملائكة إلا مبنيًّا على ما قيل في تفسير آية الأنبياء: إن المعنى: "وما جعلناهم ملائكة .. "، وما قيل من أن الملقى على كرسي سليمان شيطان، وليس في هذا ما تقوم به حجة. وليته فُصِل في _________ (1) وهو قول الزجاج في "معاني القرآن" (2/ 377) وابن الأنباري (زاد المسير 3/ 261). (2) "تفسيره" (16/ 230). (3) انظر قول مجاهد في "تفسير القرطبي" (14/ 121). (4) (348 جسد).
(7/232)
المعاجم بين ما هو ثابت قطعًا، وما فُهِمَ من سياق آية أو حديث أو شعر أو كلام فصيح، وبُيِّن في الثاني مأخذ الاجتهاد، ليتمكن طالب الحق من التمحيص. 3 - {ثُمَّ أَنَابَ}: قال الراغب (1): "الإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل". وتدبُّر مواقع الإنابة في القرآن يقضي بأن بين الإنابة والتوبة فرقًا، فالتوبة تقتضي سبقَ مخالفةٍ لها بال، والإنابة تصدُق بالتوجه إليه سبحانه بعد غفلة، ولو بغير معصية. 4 - {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} سؤال المغفرة لا يستلزم سبق معصية، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكثرون من الاستغفار؛ لأنهم لا يأمنون أن يكون وقع منهم شيء من التقصير أو الاشتغال عن ذكر الله عز وجل [ص 3] ونحو ذلك، وقد قال الله عز وجل لخاتم أنبيائه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]. فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يُكثر من قول: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه" كما في "مسند أحمد" (2)، و"صحيح مسلم" (3) عن عائشة. والأدلة على هذا المعنى كثيرة. _________ (1) "مفردات ألفاظ القرآن" (827). (2) برقم 24065 (40/ 75) ورقم 25508 (42/ 326). (3) كتاب الصلاة: باب ما يقال في الركوع والسجود برقم (484).
(7/233)
5 - {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} وقوع هذه الجملة عقب ما تقدَّم يُشعِر بأنّ لقضية الفتنة وإلقاء الجسد والإنابة علاقةً بالمُلك. ويقوِّي ذلك أنه لم يؤتَ بين قوله: {أَنَابَ} وقوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} بالواو، فدلَّ عدم الإتيان بها على أن قوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} تفسير لإنابته، وقد وصل الإنابة بقوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}. ما قيل في تفسير الآية القول الأول منقول عن المتقدمين. في "الدر المنثور" ج 5 ص 310: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أربع آيات من كتاب الله لم أدر ما هي حتى سألت عنهن كعب الأحبار ... وسألته عن قوله: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قال: الشيطان أخذ خاتم سليمان عليه السلام الذي فيه ملكه ... ". وجاء نحو هذا عن جماعة، فذكر بعضهم: أنه جرى من سليمان تقصير، فمنهم من قال: احتجب عن مصالح الناس ثلاثة أيام. ومنهم من قال: سألته امرأته أن يأمر بصنع تمثال لأبيها، فأمر به، وكان جائزًا في شريعته، لكن المرأة أخذت التمثال عندها، وصارت تسجد له هي وجواريها، وغفل سليمان عن ذلك، ثم فطن وخرَّب [ص 4] التمثال، وعاقب المرأة، فكان تقصيرُه الغفلةَ تلك المدة. ومنهم من قال: خاصم أهل امرأته قومًا إليه، فودّ أن يكون الحق لهم. ومنهم من قال: سألته امرأته أن يقضي لأخيها، فقال: نعم، ولم يفعل.
(7/234)
وذكروا ما حاصله: أن ملكه كان في خاتمه، فوقع الخاتم إلى شيطان، فتمثَّل بصورة سليمان، وقعد على الكرسي مستوليًا على الملك، وأنكر الناس سليمان، وطردوه، فذهب يكدح طلبًا للقوت مدة، ثم وجد خاتمه في بطن سمكة، فلبسه، فعاد إليه ملكه. وفي القصص طول، فراجعها في "الدر المنثور" إن أحببت. القول الثاني: زعم النقاش ــ واسمه محمد بن الحسن بن زياد، توفي سنة 351 ــ أن هذه القصة هي التي ورد فيها الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "قال سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلة على سبعين (وفي رواية: تسعين، وفي أخرى: مئة) امرأة، تحمل كل امرأة فارسًا يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: إن شاء الله. فلم يقل، ولم تحمل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا أحد شِقَّيه". فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لو قالها لجاهدوا في سبيل الله" لفظ البخاري في ذكر سليمان من أحاديث الأنبياء (1). قال ابن حجر في "الفتح" (2): حكى النقاش في تفسيره أن الشقّ المذكور هو الجسد الذي ألقي على كرسيه، وقد تقدم قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالجسد المذكور: شيطان، وهو المعتمد، والنقاش صاحب مناكير". القول الثالث لأبي مسلم محمد بن بحر الأصبهاني المعتزلي، قال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} بسبب مرض شديد ألقاه الله عليه {وَأَلْقَيْنَا [ص 5] عَلَى _________ (1) باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (3424). (2) (6/ 461).
(7/235)
كُرْسِيِّهِ} منه {جَسَدًا} وذلك لشدة المرض، والعرب تقول في المريض: إنه لحم على وَضَم، وجسم بلا روح، {ثُمَّ أَنَابَ} أي: رجع إلى حال الصحة. ذكره الرازي في "تفسيره" (1) ولم ينسبه، وفي "روح المعاني" (2) أنه يُروى عن أبي مسلم. والرازي كثيرًا ما يأخذ عن أبي مسلم هذا. تمحيص هذا ما ظفرت به من الأقوال، ولو كان الحديث المتقدم في القول الثاني أشار إلى أنه في هذه القصة، أو كان انطباقه عليها ظاهرًا، لوجب الوقوف عنده، لكن ليس فيه إشارة، ولا هو ظاهر الانطباق على القصة، بل يحتاج حملها عليه إلى تعسُّف. وأما القول الثالث فحَدْس محض، وهو مع ذلك متعسف. بقي القول الأول، وقد طعن فيه المتأخرون بأنه مأخوذ عن أهل الكتاب، وأن في تلك القصص شناعات وتناقضات في بعض الجزئيات، وقد صدقوا، ولكن ذلك لا يمنع من قوة ما اتفقت عليه الروايات القوية، ولم يكن فيه شناعة، وكان ظاهر الانطباق على الآية. وحكاية نفرٍ من السلف له تدل على أنهم لم ينكروه، وعدم إنكارهم له أقوى في النفس من حَدْس النقاش وأبي مسلم، وموافقة مَن وافقهما. فعلى هذا الأساس يمكن أن يقال: لعله جرى من سليمان عليه السلام _________ (1) "مفاتيح الغيب" (26/ 209). (2) (23/ 199).
(7/236)
تقصير مما لا تمنع العصمة صدوره من مثله، وذلك كاحتجابه ثلاثة أيام، فابتلاه ربه عز وجل بأن أبعده عن ملكه، وذلك كأن يكون خرج وحده للصيد ــ مثلاً ــ فألقى الله تعالى على كرسيه جسدًا يشبه جسد سليمان، خلقه الله تعالى كذلك، وليس بإنسان ولا ملك ولا شيطان، فظن أصحاب سليمان أن ذاك الجسد هو سليمان [ص 6] نفسه على كرسيه. وربما كان له عادة أن يستغرق مدة فلا يجسر أحد أن يدنو منه، كما قد يؤخذ من قول الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14]. وإذا أراد الله تعالى أمرًا هيَّأ أسبابه. ثم قد يكون الله عز وجل حال بين سليمان وبين الرجوع إلى أصحابه، أو رجع ولكن غيَّر الله تعالى صورته فلم يعرف، أو عرفت صورته، ولكن لما كانوا يعتقدون أن سليمان هو الذي على كرسيه اعتقدوا أن هذا رجل آخر يشبه سليمان وليس به، فلم يقبلوه، وكأن هذا الأخير أقرب. ولعل الأمر بقي هكذا مدة اضطرب فيها حبل الملك لضعف التدبير، وخاف سليمان أن يقوم متغلِّب فيستولي على الملك ويفسد أمر الدين والدنيا، فأناب إلى ربه واستغفره، وسأله ملكًا يجمع بين العظمة والأمن من أن يصير إلى متغلب. وذلك ــ والله أعلم ــ معنى قوله: {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، فإن الملك الذي لا ينبغي من حيث الجملة لأحد بعده إلى يوم القيامة لا بدَّ أن يكون بغاية العظمة، كأنه عليه السلام قال: ليعط الله تعالى أيَّ مَلِك بعدي من الملك ما شاء، ولكني أطلب أن يعطيني أعظم مما قدر سبحانه لأي إنسان كان إلى يوم القيامة. فلم يقصد عليه السلام حرمان غيره، وإنما قصد عظمة نصيبه.
(7/237)
والفرق واضح بين أجير يقول لمؤجِّره: أعط غيري من أجرائك ما شئت، وزدهم ما شئت، لكني أسألك أن تعطيني أكثر مما تعطيهم. وآخر يعطيه سيده أجره، فيقول: أسألك أن لا تعطي أحدًا غيري إلا أقل مما أعطيتني. [ص 7] وإذا كان الملك بحيث لا ينبغي لأحد غيره عليه السلام، فقد أمن أن يتغلب عيه متغلب. وقد يكون الواقع هو هذا أو نحوه، ولكن اليهود تناقلوا القصة، وزادوا فيها ونقصوا على عادتهم، فزعموا أن ذلك الجسد شيطان وأنه وأنه ... تدبر كما أن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة في كتابه لحكمة بالغة، فكذلك هذا الإجمال الذي نراه لا بد أن يكون لحكمة بالغة. فأما ذكر القصة، فيظهر من فوائده الكف عن القنوط، وعن احتقار من أذنب ثم تاب، وعن الغلو في الاعتقاد أو التعظيم، وعن الغلو في تقليد العلماء. وبيان ذلك أنه يعلم من القصة أن الزلّة لا تُقصي صاحبها عن بلوغ أعلى درجات الفضل إذا تاب وأناب، وأن الأنبياء عباد الله فقراء إليه، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، وأنه قد يقع من أحدهم ــ فضلاً عمن دونهم ــ ما لا ينبغي لغيره الاقتداء به فيه. فأما هم فإنه إن وقع من أحدهم شيءٌ من ذلك فلا بد أن يعقبه بيان أنه ليس مما يشرع فيه الاقتداء، وأما من دونهم من العلماء والصالحين، فلا يعرف زللهم إلا بالعرض على الكتاب والسنة.
(7/238)
وأما الإجمال، فمن فوائده ــ والله أعلم ــ رعاية ما تقدم، إذ لعله لو فصل لضعفت بعض الفوائد السابقة. ومنها: تعليمنا أنه إذا دعت المصلحة لذكر مسلم بزلل وقع منه أن يقتصر على الإجمال، وأن يشفع ببيان توبته إن تاب، وبالثناء عليه بما فيه من الخير، وقد جرى على هذا أئمة الحديث في كثير من كلامهم في الرواة. [ص 8] المحصل تحصل مما تقدم أمور: الأول: أن الأقوال المعروفة في تفصيل القصة ليس منها ما تقوم به الحجة. الثاني: أننا إذا حاولنا التفحص لم تكد تخرج عن الإجمال إلا يسيرًا على وجه الاحتمال. الثالث: أنها على إجمالها محصِّلة للمقصود من قصِّ الله تعالى القصص في القرآن من الذكرى والعبرة والتبصرة من عدة أوجه. الرابع: أن للإجمال فوائد يجدر أن يكون مقصودًا لأجلها. الخامس: أن إعادة النظر في هذه الأمور كلها يدل دلالة واضحة على أن الإجمال مقصود.
(7/239)
الرسالة العاشرة في تفسير قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ومعنى "أهل البيت" في قوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}
(7/241)
[ل 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم وفق بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين جرتِ المذاكرة بين الحقير وبين السيد العلامة الضياء صالح بن محسن الصيلمي ــ عافاه الله ــ في بعض المسائل، فاستدلّ بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. فقلتُ له: قَدْرُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عظيم، وطاعته من طاعة الله تعالى، وكلُّ ما ورد عنه ولم يختصَّ به فنحن مأمورون باتباعه. والآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وغيرها. وإنما لو قال قائلٌ: إنّ قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] الظاهر أنّها خاصة الدلالة في الفيء؛ لأنَّ السياق فيه= قيل: هذه الآية وكذا بعدها على قول من قال: إنّ قوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ ... } [الحشر: 8] عائدٌ إلى الفيء، كأنَّه تقييدٌ لقوله تعالى: { ... وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... } [الحشر: 7]. وهذا القول ذكره التاج السبكي في "طبقات الشافعية" (1) بعنوان: (أنه ليس للرافضيِّ حقٌّ في الفيء)؛ لأنَّ المهاجرين والأنصار قد مضوا، ولم يبق إلا القسم الثالث، وقد قيدهم تعالى بكونهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ _________ (1) نشرة الحلو والطناحي (2/ 117). وليس فيها العنوان المذكور، وإنما نقل في ترجمة أبي علي الزعفراني أنه قال: قال الشافعي في الرافضي يحضر الوقعة: لا يُعطى من الفيء شيئًا، واستدل بالآية المذكورة.
(7/243)
لَنَا ... } الآية [الحشر: 10]، والرافضي بمعزل عن ذلك. وعليه فالتقدير: ذلك للفقراء إلخ. وإن قلنا: إن التقدير "اعجبوا للفقراء" كما في الجلَالَين وغيره (1)، فذلك مستأنفٌ. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ} إلخ في سياق تقسيم الفيء، وإن لم يذكر بعدها. وأيضًا قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الإيتاء والأخذ حقيقةٌ في الأشياء المحسوسة، والأصل في الكلام الحقيقة، وإن كان قد وردا في غيرها مجازًا في القرآن وغيره (2). فقال المُحاوِر: أما السياق فلا نسلم دلالته، وأمَّا الإيتاء والأخذ فهما بمعنى الأمر والامتثال، لقوله في مقابل ذلك: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. وإنما عَدَل عن لفظ الأمر والامتثال، لوجود ذلك المقابل. فقلتُ له: أمَّا دلالة السياق فلا يصح إنكارها فإنها لا تخفى، وأمَّا جوابك عن الإيتاء والأخذ فلا يكفي، بل لو وقع ذلك في كلام الناس بالمعنى الذي تقول لربما اختير لفظ الأمر والائتمار [ل 16/أ] على الإيتاء والأخذ لأجل المقابلة. وأيضًا لفظ "الإيتاء والأخذ" هل المقصود به هنا الحقيقة أو المجاز؟ فإن قلتم: الحقيقة، فإمَّا أن يكون خاصًّا بالفيء، وهذا قول؛ وإمَّا عامًّا فيه وفي الغنيمة ونحوه. وإن قلتم: المجاز، فما هو؟ _________ (1) "تفسير الجلالين" (731)، و"التبيان" للعكبري (1215). (2) وانظر: "فوائد المجاميع" للمعلمي (ص 69).
(7/244)
فإن قلتم: الأمر والامتثال، قلنا: فحينئذٍ لا تدل على الأموال التي يصدق فيها الإيتاء والأخذ حقيقةً. فإن قلتم: دَلَّا على الحقيقة والمجاز معًا، أو على القدر المشترك بين ما يصدق عليه الإيتاء والأخذ حقيقةً وغيره، فقولوا: حتى ننظر (1). ثم رأيت في "حاشية العلامة الصاوي على الجلَالَين" ما لفظه: " (قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ... إلخ) أي: ما أعطاكم من مال الغنيمة، وما نهاكم عنه من الأخذ والقول فانتهوا. وقيل في تفسيرها: ما آتاكم من طاعتي فافعلوا، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. فالآية محمولةٌ على العموم في جميع أوامره [ونواهيه] (2)، لأنَّه لا يأمر إلاَّ بإصلاح، ولا ينهى إلا عن _________ (1) علّق المؤلف العبارة الآتية من "قلت" إلى آخر النقل من شرح اللبّ (45 - 46) في وريقة مستقلة، ووضع علامة عليها وهنا في المتن للربط بينهما: قلت: وكلاهما جائز. قال شيخ الإسلام في اللب: "مسألة: الأصح أن المشترك واقع جوازًا وأنه يصح لغةً إطلاقه على معنييه معا مجازًا، وأن جمعه باعتبارهما مبنيٌّ عليه، وأنّ ذلك آت في الحقيقة والمجاز، وفي المجازين فنحو: (افعلوا الخير) يعمُّ الواجب والمندوب". هـ. قال في الشرح بعد المندوب ما لفظه: "حملًا لصيغة افعل على الحقيقة والمجاز في الوجوب والندب بقرينة كون متعلقهما كالخير شاملًا للواجب والمندوب، وقيل: يختص بالواجب بناءً على أنه لا يراد المجاز مع الحقيقة، وقيل: هو للقدر المشترك بين الواجب والمندوب أي: مطلوب الفعل بناءً على القول الآتي إن الصيغة حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب أي: طلب الفعل، وإطلاق الحقيقة والمجاز على المعنى ــ كما هنا ــ مجازي من إطلاق اسم الدالّ على المدلول".هـ. (2) زيادة من حاشية الصاوي.
(7/245)
إفساد. فينتج من هذه الآية أنّ كل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمرٌ من الله، وأنّ كلَّ ما نهى عنه النبي نهيٌ من الله، فقد جمعت أمور الدين، كما هو معلوم. هـ (1) فالقول الأول وهو الذي اعتمده لتقديمه وتضعيف مقابله بـ (قيل) هو القول الثاني المذكور آنفًا، ومراده بالغنيمة ما يشمل الفيء. والثاني هو الأول لأنَّه يعمُّ الفيء الذي السياق فيه، فلم يطرح السياق. وإذا لوحظ أحد الوجهين اللذين نقلنا عليهما كلام "اللُّبِّ" اتّضح الأمر، ولله الحمد. وقال المحاوِرُ: لو استُدِلَّ بالسياق هنا لزم أن يكون دليلًا في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. ودلالة السياق غير مسلَّمة. فقلتُ له: إنَّ أمهات المؤمنين داخلاتٌ في أهل البيت قطعًا، فإنَّ السياق أمره واضح، وارتباط الآية المعنوي بما قبلها جهله فاضح، وهذا كلام يأخذ بعضُه برقاب بعض، فكيف يُفصل بينه بجملةٍ لا تعلّق لها به؟ فقال: قد يُفصل بين أجزاء الكلام المترابط، كما إذا كنتُ أكلمك، فناداني رجلٌ، فأجبتُه، ثم أتممتُ كلامي. فقلتُ: هذا لعارضٍ. فقال: والآية لعارضٍ. قلتُ: ما هو؟ قال: لمّا أثنى تعالى على الأزواج أراد أن لا يتوهم [ل 16/ب] أنهنَّ _________ (1) "حاشية الصاوي" (4/ 189).
(7/246)
أفضلُ من أهل البيت، فعجَّل بذكرهم. فقلتُ: وهذا عندك مقبول! قال: هو الحقُّ. قلتُ: أمَّا إذا [وصل] (1) الحال إلى هنا فلا كلام معك. أقول: إنه يظهر أن المراد هنا بأهل البيت من كان في بيت النبي ــ عليه وآله الصلاة والسلام ــ وهم: هو - صلى الله عليه وآله وسلم - وأزواجه وابنته وبعلها، ومن كان موجودًا من ذريتهما، فإنهم كانوا في بيوته - صلى الله عليه وآله وسلم -. فالبيت المراد به هنا المسكن لا القرابة، كما هو كذلك في قوله تعالى في خطاب الملائكة لزوج إبراهيم عليه السلام: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]. فأصلُ الخطاب للزوجة، وعمَّ جميع أهل البيت. وأصل الخطاب في آية البحث للزوجات، وعمَّ جميع أهل البيت، فهما من باب واحد (2). والصلاة الإبراهيمية مبنيّةٌ على هذا، فالصلاة والبركات، كما في الصيغ الصحيحة المشهورة ــ وما في بعض الروايات من زيادة الترحم والتحنّن والتسليم فيعود إليهما ــ فالصلاة هي الرحمة كما عليه الجمهور، والدلالة هنا عليه واضحة، إذ قوله: "كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" يلحظ الآية إلا أنه أبدل لفظ الرحمة بالصلاة، وهو في حكم المرادف _________ (1) هذا الموضع متأكل، ولعل الصواب ما أثبتنا. (2) وانظر: "فوائد المجاميع" للمؤلف (ص 58).
(7/247)
لها. وختمها بقوله: "إنك حميد مجيد" (1). ثم قال: "وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، فأتى بلفظ البركة، وهو بنصِّه في الآية. وختمها أيضًا بـ"حميد مجيد". وفي ذلك دليل على دخول إبراهيم في لفظ أهل البيت، إذ ليس في الآية إلا قوله في خطاب الزوجة: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}، وفي الصلاة: "على إبراهيم وعلى آل إبراهيم". وأيضًا يدل على أنَّ الآل وأهل البيت في الصلاة بمعنىً، إذ الذي في الصلاة: "على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"، وفي الآية: {عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}. وفي صيغةٍ متَّفقٍ عليها عن أبي حميد الساعدي قال: قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صلَّيت على آل إبراهيم. وبارِكْ على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (2). فوضع "آل إبراهيم" موضع {أَهْلَ الْبَيْتِ} في الآية، وهو شامل لإبراهيم إذْ يبعُد خلافُه، ووضع "وأزواجه وذريته" موضع "آله" في بقية الصيغ، و"اسمه وأزواجه وذريته" في مقابل "آل إبراهيم" الذي هو في مقابل {أَهْلَ الْبَيْتِ} في الآية. ولا يخفى ما في هذا من الدلالة على أنَّه هو وأزواجه وذريته أهل _________ (1) تأكل ما بعد هذه الكلمة فلا أدري هل بقي شيء من كلام المؤلف. (2) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3369)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد التشهد (407).
(7/248)
البيت، ولا يُزاد عليهم إلا بدليل، كما في حقِّ سيدنا علي عليه السلام. وسيأتي حديث أبي هريرة عند أبي داود إن شاء الله تعالى. وحديث أبي حميد غير حديث كعب بن عُجْرة (1)، [ل 17/أ] وإن حُمِلت رواية مسلم على رواية البخاري في زيادتها، فإنَّ الراوي هنا أخَّر. وفي أوّل حديث كعب: "كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإنَّ الله قد علَّمنا كيف نسلّم عليك". وصيغة الصلاة فيه: "على محمد وعلى آل محمد"، ولا يمكن الجمع مع ذلك كلّه، ولا حاجةَ إليه. وأصل المقابلة بين الآية والصلاة الإبراهيمية استفدته من إملاء سيدنا الإمام أيَّده الله آمين. وأمَّا قولكم: دلالة السياق غير مسلّمة، فعجيب: وليس يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ ... ....................... إلخ (2) ولاسيّما في الآية فإنَّ الخطاب قبلها وبعدها لنساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وفيها ضمير خطاب، وغاية ما فيه أنَّه مذكَّر. فنقول: وفي آية إبراهيم مذكّر مجموع مع أنَّ الخطاب لامرأةٍ واحدة، فحيث قيل هناك خطاب للمخاطبة وغيرها، فغُلِّبَ التذكير لوجود الذَّكَر في مَن دخل في لفظ أهل البيت، وغُلِّبَ الحاضر في مخاطبته مع غائبين= فهنا كذلك، فإنَّ إبراهيم من أهل _________ (1) البخاري (3370)، مسلم (406). (2) كذا في الأصل. وهو من الأبيات السائرة لأبي الطيب وعجزه (شرح الواحدي: 497): إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ
(7/249)
بيته، ومحمدًا من أهل بيته، كما سبق البرهان على ذلك (1). وممَّا يدلّ عليه: حديث "الصحيحين" (2) عن كعب بن عجرة قال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقلنا: كيف الصلاة عليكم أهل البيت ... الحديث، وحديث أبي هريرة عند أبي داود (3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "مَن سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلَّى علينا أهلَ البيت فليقلْ: اللهم صلِّ على محمد النبي الأمِّي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد". وقوله: "وأهل بيته" مِن عطف العام على الخاص إذْ قد قام الدليل على أنَّه وذريته من أهل بيته داخلون بالاتفاق، وأزواجه كذلك. وكأنَّ حكمةَ تقديمه لهنَّ على الذرية وأهل البيت هي أنهنَّ أول مَنْ تدلُّ عليه الآية، مع كونهنّ موردَ الخطاب. ثم ظهر لي أنَّ قوله في حديث أبي هريرة: "وأهل بيته" [ل 17/ب] هو بالاستعمال الذي بمعنى القرابة، فيشمل من حرُمت عليه الزكاة. وهذا أولى ممَّا مرَّ. وهو بهذا الاستعمال في حديث الترمذي (4) عن زيد بن أرقم قال: قال _________ (1) وقد كثر في كلام العرب مخاطبة المرأة الواحدة بضمير الجمع المذكر. انظر شواهده في "مفردات القرآن" للفراهي (ص 260). (2) سبق تخريجه آنفًا. (3) كتاب الصلاة، باب ما يقول بعد التشهد (982). (4) في أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (4040).
(7/250)
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوضَ فانظروا كيف تخلفوني فيهما". ثم رأيت أصله في "صحيح مسلم" (1) عن زيد بن أرقم، وفيه: قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يومًا فينا خطيبًا بماءٍ يُدعى خُمًّا ــ بين مكة والمدينة ــ فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ، وذكَّر، ثم قال: "أمَّا بعد، ألا أيُّها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسولُ ربِّي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثَقَلَين: أولهما كتابُ الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به". فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي أذكِّركم اللهُ في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي". فقال له حصين: ومَن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته مَنْ حُرم الصدقة بعده. قال: ومَن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كلُّ هؤلاء حُرِمَ الصدقةَ؟ قال: نعم". وفي رواية: "كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومَن أخطأه ضلَّ". وفي رواية: "ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومَن تركه كان على ضلالة". وفيه: "فقلنا: مَن أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا، وأيمُ الله إن المرأة تكون مع الرجل العصرَ من الدهر، ثم يطلِّقها، فترجع إلى أبيها وقومها. أهلُ بيته أصلُه وعُصْبَتُه الذين حُرموا الصدقة بعده". _________ (1) كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي رضي الله عنه (2408).
(7/251)
فقوله: "نساؤه من أهل بيته" [ل 18/أ] أي: يطلق عليهم "أهل بيتٍ" في الجملة. وقوله: "ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده"، أي المراد بأهل البيت في هذا الحديث [مَنْ] (1) حُرِمَ الصدقة بعده. فاتَّضح من هذا الحديث أنَّ لأهل البيت استعمالين: أحدهما: بمعنى أهل بيت السكنى، فتدخل فيه الأزواج، بل هنَّ أول من يدخل فيه بعد الزوج. وليس مرادًا في حديث زيد، ولذا أثبت دخول الأزواج في "أهل البيت" في الجملة، ثم نفى ذلك باعتبار حديثه. وفي الرواية الأخرى نفاه، واقتصر الراوي على النفي لأنَّ زيدًا إنما سئل عن لفظ "أهل البيت" الذي ذُكِرَ، فيكفي في الجواب نفي دخولهن فيه؛ إذْ لا يلزم من نفي دخولهن فيه نفيُ دخولهن في لفظ "أهل البيت" باستعمال آخر، فافهم. فقد اتضح ما قلناه، ولله الحمدُ، وبه يُردُّ ما قاله التُّورِبِشْتي: "إنَّ العترة تستعمل على أنحاء كثيرة، وقد بيَّنها - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: "أهل بيتي" ليُعلم أنَّه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه" (2). _________ (1) تأكلت في طرف الورقة. (2) انظر "مرقاة المفاتيح" (11/ 307).
(7/252)
الرسالة الحادية عشرة في إعراب قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
(7/253)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ل 30] قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، الواو حرف عطف، عطفت المصدر المؤول من أن واسمها وخبرها على ما قبلها، وهو {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]. والمعطوف عليه إما في محل رفع، خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو، فيكون هنا استئناف بياني، كأنه عندما قيل له: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36 ــ 37]، قال قائل: وما هو الذي فيها؟ فقال: هو أن لا تزر إلخ (1). وإما في محل جر عطف بيان، أو بدل شيء من شيء، من (ما) من قوله: {بِمَا فِي صُحُفِ ... } إلخ. (أن) مخففة من الثقيلة، وعبارة السيوطي عنها في "همع الهوامع": "تخفف أنَّ المفتوحة، وفي إعمالها حينئذ مذاهب: أحدها: أنها لا تعمل شيئًا، لا في ظاهر ولا في مضمر، وتكون حرفًا مصدريًّا مهملًا كسائر الحروف المصدرية، وعليه سيبويه والكوفيون. الثاني: أنها تعمل في المضمر وفي الظاهر، نحو: علمت أن زيدًا قائم، وقرئ {أَنْ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9] عليه طائفة من المغاربة. الثالث: أنها تعمل جوازًا في مضمر، لا ظاهر، وعليه الجمهور. _________ (1) في النسخة المختصرة ذكر وجهًا آخر أيضًا في الرفع، وهو أن يكون "مبتدأ لخبر محذوف، كأنه قيل: وما فيها؟ فقال: فيها ألا تزر ... إلخ".
(7/255)
وقال (1) ابن مالك: فإن قيل: ما الذي دعا إلى تقدير اسم لها محذوف، وجعلِ الجملة بعدها في موضع خبرها؟ وهلَّا قيل: إنها ملغاة ولم يتكلف الحذف! فالجواب: أن سبب عملها الاختصاص بالاسم، فما دام الاختصاص ينبغي أن يعتقد أنها عاملة، وكون العرب تستقبح وقوع الفعل (2) بعدها إلا بفصل. ثم لا يلزم أن يكون ذلك الضمير المحذوف ضمير الشأن، كما زعم بعض المغاربة، بل إذا أمكن عوده إلى حاضر أو غائب معلوم كان أولى. ولذا قدَّر سيبويه في {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105] أنْك. ولا يكون خبرها مفردًا، بل جملة إما اسمية مجردة صدرها المبتدأ نحو {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [يونس: 10] أو الخبر نحو: أنْ هَالِكٌ كلُّ مَنْ يَحْفى وَيَنْتَعِلُ (3) أو مقرونة بـ"لا" نحو {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [هود: 14] أو بأداة شرط نحو {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [النساء: 140] أو بـ"رُبَّ" نحو: _________ (1) لا توجد الواو في مطبوعة "الهمع". (2) كذا في الأصل. وفي مطبوعة الهمع: "الأفعال". (3) من شواهد سيبويه (2/ 137)، (3/ 74، 454)، وصدره: في فتية كسيوف الهند قد علموا والبيت للأعشى، وسيأتي كاملًا في ص (271).
(7/256)
تَيَقّنْتُ أنْ رُبَّ امْرئ خِيلَ خَائِنًا ... أمينٌ، وخَوّانٍ يُخَالُ أَمِينَا (1) أو فعلية، فإن كان فعلها جامدًا أو دعاء لم يحتج إلى اقتران شيء نحو {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ} [الأعراف: 185]. أّنْ نِعْم مُعْتَركُ الجيَاع إذَا (2) {وَالْخَامِسَةَ أَنْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهَا} [النور: 9]. وإن كان متصرفا غير دعاء قُرن غالبًا بنفي نحو {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} [طه: 89] {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] {أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 7]. قال أبو حيان: ولم يحفظ في (ما) ولا في (لما)، فينبغي أن لا يقدم على جوازه حتى يسمع. أو بـ"لو" نحو {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100] {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن: 16] {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} [سبأ: 14] {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ} [الرعد: 31] أو بـ"قد" نحو {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113]. _________ (1) استشهد به ابن مالك في "شرح التسهيل" (2/ 42) دون عزو. وانظر "ارتشاف الضرب" (3/ 1276، 4/ 1741). (2) عجزه: خبَّ السفيرُ وسابئُ الخمرِ والبيت لزهير بن أبي سلمى في "ديوانه" (78).
(7/257)
أو بحرف تنفيس نحو {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20]. وندر خلوُّها من جميع ما ذكر كقوله: عَلِمُوا أَنْ يُؤَمَّلُونَ فجَادُوا (1) وخُرِّج عليه قراءة {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] بالرفع (2). وكذا ندر إعمالها في بارز كقوله: فلو أنْكِ في يَوْم الرخَاء سَألْتنِي (3) هـ بحروفه (4). وقد أطلنا بذكره لعظم نفعه. أقول: فقد علمت أنّ (أن) إذا خففت فالجمهور أنها تعمل في ضمير محذوف، فإن أمكن عوده على حاضر أو غائب فذاك، وإلا فهو ضمير الشأن، ففي الآية هو ضمير الشأن. والخبر جملة فعلية غير مقترنة بشيء لأن الفعل جامد، كما مثّل بنفس _________ (1) عجزه: قبل أن يُسألوا بأعظم سُولِ استشهد به ابن مالك في "شرح التسهيل" (2/ 44، 4/ 10) دون عزو. وانظر "شرح ابن عقيل" (1/ 388) وغيره. (2) نسبت إلى مجاهد. انظر "البحر المحيط" (2/ 499). (3) عجزه: طلاقَكِ لم أبخَلْ وأنتِ صديقُ أنشده الفراء في "معانيه" (2/ 90) دون عزو. وانظر "الخزانة" (5/ 426). (4) "همع الهوامع" (2/ 184 - 187).
(7/258)
الآية في كلام "الهمع". و{لَيْسَ} فعل جامد ناقص يعمل [عمل] (1) كان: يرفع الاسم وينصب الخبر. {لِلْإِنْسَانِ} جار ومجرور. وما العامل في الجارِّ والمجرور؟ اختُلِفَ (2). [ل 31] قال في "الهمع" (3): "إذا وقع الظرف أو الجار والمجرور خبرًا فشرطه أن يكون تامًّا، نحو: زيد أمامك، وزيد في الدار؛ بخلاف الناقص، وهو ما لا يفهم بمجرد ذكره وذكر معموله ما يتعلق به، نحو: زيد بك، أو فيك، أو عنك، أي واثق بك، وراغب فيك، ومعرض عنك فلا معه خبر (4)، إذ لا فائدة فيه. ثم هنا مسائل: الأولى: اختلف في عامل الظرف والمجرور الواقعين خبرًا. فالأصح أنه كونٌ مقدَّر. وقيل: المبتدأ، وعليه ابن خروف، ونسبه ابن أبي العافية إلى سيبويه. وأنه عمل فيه النصب لا الرفع، لأنه ليس الأول في المعنى. ورُدَّ بأنه مخالف للمشهور من غير دليل، وبأنه يلزم منه تركيب كلام من ناصب ومنصوب بدون ثالث. وقيل: المخالفة (5)، وعليه الكوفيون. وإذا قلت: زيد أخوك، فالأخ هو زيد، أو زيد خلفك، فالخلف ليس بزيد، فمخالفته له _________ (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) كلمة مهملة يشبه رسمها: "اقلب"، ولعل الصواب ما قرأت. (3) (2/ 21 - 23). (4) كذا في الأصل من الطبعة الأولى. وفي نشرة الأستاذ عبد العال: فلا يقع خبرًا. (5) كذا في الأصل من الطبعة الأولى. وفي نشرة الأستاذ عبد العال: بالمخالفة.
(7/259)
عملت النصب. ورُدَّ بأن المخالفة معنى لا يختص إلا بالأسماء دون الأفعال، فلا يصح أن يكون عامله، لأن العامل اللفظي شرطه أن يكون مختصًّا، فالمعنوي الأضعف أولى. وعلى الأول يجوز تقدير الكون باسم الفاعل وبالفعل، فالتقدير في زيد عندك أو في الدار: زيد كائن، أو مستقر، أو كان، أو استقر. واختلف في الأولى منهما، فرجح ابن مالك وغيره تقدير اسم الفاعل، لأن الأصل في الخبر الإفراد، والتصريح به في قوله: فأنْتَ لدَى بُحْبُوحَةِ الهُون كَائنُ (1) ولتعينه في بعض المواضع، وهو ما لا يصلح فيه الفعل (2) نحو: أمّا عندك فزيد، وخرجت فإذا عندك زيد، لأن (أمّا) و (إذا الفجائية) لا يليهما فعل. ورجَّح ابن الحاجب تبعًا للزمخشري والفارسي تقدير الفعل، لأنه الأصل في العمل، ولتعيُّنه في الصلة. وأجيب بالفرق، فإنه في الصلة واقع موقع الجملة، وفي الخبر واقع موقع المفرد. ثم إن قدَّرت اسم الفاعل كان من قبيل الخبر المفرد، وإن قدَّرت الفعل كان من قبيل الجملة، فلا يخرج _________ (1) صدره: لك العزُّ إن مولاك عزَّ وإن يَهُنْ والبيت من شواهد "شرح التسهيل" (1/ 317)، ولم يذكر قائله. وانظر شرح أبيات "المغني" (6/ 342). (2) في نشرة عبد العال: فيه خبرا الفعل.
(7/260)
الخبر عن القسمين. وقيل: هو قِسْم برأسه مطلقًا وعليه ابن السرَّاج. الثانية: ذهب ابن كيسان إلى أن الخبر في الحقيقة هو العامل المحذوف، وأن تسمية الظرف خبرًا مجاز. وتابعه ابن مالك. هذا هو التحقيق. وذهب الفارسي وابن جني إلى أن الظرف [هو الخبر] (1) حقيقة، وأن العامل صار نسيًا منسيًّا. والقولان (2) جاريان في عمله الرفع: هل هو له حقيقة أو للمقدَّر؟ وفي تحمله الضمير: هل هو فيه حقيقة أو في المقدر؟ والأكثرون في المسائل الثلاث على أن الحكم للظرف حقيقة. الثالثة: البصريون على أن الظرف يتحمل ضمير المبتدأ كالمشتق سواء تقدم أم تأخر. وقال الفراء: لا ضمير فيه إلا إذا تأخر، فإن تقدم فلا، وإلا جاز أن يؤكد ويعطف عليه ويبدل منه، كما يفعل ذلك مع التأخير. ومن تأكيده متأخرًا قوله: فإنّ فؤادي عِنْدكِ الدَّهْرَ أَجْمَعُ (3) ". (4) إذا تأملت ذلك علمت أن {لِلْإِنْسَانِ} جار ومجرور تام، والعامل فيه على الأصح كونٌ مقدَّر. وهو على ترجيح ابن مالك: كائن، أو مستقر. وعلى _________ (1) ساقط من الأصل تبعًا للطبعة الأولى. (2) في نشرة عبد العال: وأجمعوا أن القولين. (3) صدره: فإن يكُ جُثماني بأرضٍ سواكمُ والبيت لجميل في "ديوانه" (118). وانظر "الخزانة" (1/ 395). (4) انتهى النقل من "همع الهوامع".
(7/261)
ترجيح ابن الحاجب: كان أو استقر. ثم العامل هو الخبر على رأي ابن كيسان ــ قال السيوطي: وهو التحقيق ــ أو نفس الجار والمجرور على رأي الفارسي وابن جني والأكثرين. ثم في الجار والمجرور أو العامل على الخلاف المذكور ضمير يعود على اسم (ليس) عند البصريين لقولهم: تقدم أو تأخر. ولا ضمير فيه على قول الفراء لتقدمه (1). ثم اعلم أن الخبر هنا واجب التقديم لأن في الاسم ضميرًا يعود عليه. {إِلَّا} عبارة "الهمع": "ثم المستثنى منه تارة يكون محذوفًا، وتارة يكون مذكورًا. فالأول يجري على حسب ما يقتضيه العامل قبله من رفع ونصب وجر (2) بحرفه، لتفريغه له، ووجود (إلا) كسقوطها" (3) إلخ. فقد علمت أن (إلا) أداة استثناء ملغاة. {مَا سَعَى} عبارة "جمع الجوامع" في الموصول الحرفي: "و (أن) توصل بمبتدأ وخبر. و (لو) التالية غالبًا مُفْهِمَ تمنٍّ أثبت مصدريتها الفراء والفارسي والتبريزي وأبو البقاء وابن مالك، ومنعه الجمهور. و (ما)، وزعمها قوم اسمًا. ويوصلان بمتصرف غير أمر، والأكثر بماضٍ" (4) إلخ. _________ (1) في الأصل هنا: "هـ"، ولعله يشير بها إلى انتهاء البحث السابق، لا انتهاء النقل من "الهمع" فإنه انتهى قبل أسطر. (2) في نشرة عبد العال: رفع أو نصب أو جر. (3) "همع الهوامع" (3/ 250). (4) "الهمع" (1/ 279).
(7/262)
فعلمنا أن (ما) مصدرية حرف على الأصح. و (سعى) فعل ماض صلتها، والمصدر المنسبك منها، والفعل في محل رفع، اسم "ليس" مؤخر. وجملة ليس ومعموليها في محل رفع خبر أن. وأن ومعمولاها في محل رفع خبر، أو جرّ على ما مرّ (1). فإن قلت: أما يقتضي كون خبر (أن) جملةً احتياجَ الخبر إلى رابط يربطه بالمبتدأ؟ قلت: قال في "الهمع": "السابع: ضمير الشأن، فإن مفسره الجملة بعده. قال أبو حيان: وهو ضمير غائب يأتي صدر الجملة الخبرية دالًّا على قصد المتكلم استعظامَ السامع حديثَه. وتسميه البصريون ضمير الشأن والحديث إذا كان مذكرًا، وضمير القصة إذا كان مؤنثًا. قدّروا من معنى الجملة اسمًا جعلوا ذلك الضمير يفسِّره ذلك الاسم المقدر، حتى يصح الإخبار بتلك الجملة عن الضمير. ولا يحتاج فيها إلى رابط به لأنها نفس المبتدأ في المعنى" (2) هـ. _________ (1) في النسخة المختصرة: "وأن ومعمولاها معطوفة على {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فمحلها الرفع على وجهيه، أو الجر على وجهيه، كما مرّ". (2) "همع الهوامع" (1/ 232).
(7/263)
الرسالة الثانية عشرة في إعراب قوله تعالى:{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}
(7/265)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ل 14] قولُه سبحانه وتعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [سورة القلم: 10 - 14]. هل (أنْ) هذه المصدريّة، أو المخفّفةُ من الثقيلة؟ أقول: لم يزدْ في "الجلَالَين" على أنْ قال: " أي: لأنْ ". وقال في الجَمَل في حواشيه على قول الجلال بعد ذلك: " وفي قراءةٍ: أَأَنْ بهمزتين مفتوحتين" (1) ما لفظُه: "الأولى همزة الاستفهام التقريعي التوبيخي، والثانية همزة أنْ المصدريّة، واللام مقدّرة كما سبق ... " إلخ. وفي آخره: هـ شيخنا هـ (2). وقول العبّاس بن مِرْداس: أبا خُراشةَ أمَّا أنت ذا نَفَرٍ ... فإنَّ قوميَ لم تأكلْهُمُ الضَّبُعُ (3) على ما قرَّره س (4) والجمهور من أنَّ (أمَّا) أصلها: أنْ ما، (أنْ) المصدرية و (ما) العوضُ عن كان، والأصل: أَلِأنْ كنتَ. حُذِفت همزة _________ (1) انظر "الكشف" لمكي (2/ 231)، و"الإقناع" (369). (2) "حاشية الجمل" (4/ 385). (3) "ديوان العباس بن مرداس" (106). وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة، وكان بينهما مهاجاة. (4) "كتاب سيبويه" (1/ 193).
(7/267)
الاستفهام، ولام التعليل، فصار: (أنْ كنتَ) ثم حُذفت (كان)، فانفصل الضميرُ، وعُوّضت (ما) عنْ (كان) فصار: (أمَّا أنتَ) (1). وكذا في قوله: أما أنت، من قول الشاعر (2): إمَّا أقمتَ وأمَّا أنتَ مُرْتحلاً ... فاللهُ يكلأُ ما تأتي وما تذرُ (3) وأمَّا قول الكوفيين: إنّها شرطيّة، وتقويةُ الرضيِّ وابن هشام له (4)، فلا يردُّ دليلنا، لأنّهم لم يقولوه من حيث إنّ المصدريّة لا تدخل على (كان) بل لأدلّةٍ أخرى، وقد ردّها الدمامينيُّ (5). وناقض ابن هشام نفسه في فَصْل (ما) (6). فإنْ قيل: والمخففة أيضًا مصدريّة فلعله أرادها. قلنا: ذلك ممنوع، لأنّها لا يطلق عليها ذلك في الاستعمال. فإنْ قيل: فكيف دخلت (أنْ) المصدريّة على الماضي مع أنّها ناصبةٌ، والأصل اختصاصُ النواصب بالمضارع كـ (لن)؟ قلت: قال في "المغني" في بابها (7): "وتُوصل بالفعل المتصرّف مضارعًا _________ (1) "شرح الكافية" للرضي، (1/ 806 - 807). (2) كذا في الأصل. (3) قال البغدادي في "الخزانة" (4/ 19): "وهذا البيت مع استفاضته في كتب النحو لم أظفر بقائله ولا تتمته". (4) انظر: "شرح الرضي" (1/ 807) و"المغني" (53). (5) وقال البغدادي في "الخزانة" (4/ 21): "وقد ناقش الدماميني كلام ابن هشام في الأدلة الثلاثة بالتعسف، كما لا يخفى على من تأمله". (6) "المغني" (410). (7) "المغني" (43 - 44). وقارن المحكي عن سيبويه بالكتاب (3/ 162).
(7/268)
كان ــ كما مرَّ ــ أو ماضيًا نحو: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص: 82]، {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74]، أو أمراً كحكاية س: كتبتُ إليه بأنْ قُمْ. هذا هو الصحيح". ثم ذكر أنَّ ابن طاهر (1) خالف في كون الموصولة بالماضي والأمر هي عين الموصولة بالمضارع أي: مدّعيًا أنها غيرها، وذكر دليله، وردَّ عليه. ثم ذكر أنَّ أبا حيّان خالف في كونها توصل بالأمر، وادّعى أن ما سُمِعَ من ذلك فهي فيه تفسيرية، ثم ردَّ عليه. وقد ذكر السيوطيُّ أنَّ أبا حيّان ناقضَ نفسه بقوله في البحر: إنَّ (أنْ) مصدريةٌ من قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 49] عطفًا على الكتاب أو الحقّ أو محذوفة الخبر أي: من الواجب حُكْمُكَ (2). وفي "حاشية الأمير": "قال ابن جنّي: إنّما لم توصل بالحال؛ لأنّه يؤخذ من المصدر الصريح أي: لأنّ الأصل أنّه الحدث الواقعُ في الحال، ولمّا أرادوا الاستقبال أو المضيّ احتاجوا لأن والفعل الدالّ على الزمن المراد. قال: ونظير ذلك (ذو) تُجلب للوصف بالجواهر؛ إذ لا يمكن الوصف بها نحو: مررتُ برجلٍ ذي مالٍ، فإن كان معنىً لم يحتج لـ (ذي)؛ تقول في الوصف بالصلاح: صالحٌ. وكذلك (الذي) يؤتى به لوصف المعرفة _________ (1) أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي المعروف بالخِدَبّ، شيخ ابن خروف، أبو بكر رئيس النحويين بالمغرب في زمانه. توفي سنة 580 هـ. "الذيل والتكملة" للمراكشي، القسم الخامس (2/ 648)، "بغية الوعاة" (1/ 28). (2) "حاشية الأمير" (1/ 28). وانظر "البحر المحيط" (4/ 285).
(7/269)
بالجمل، ولو كان الموصوف نكرةً لم يحتج لـ (الذي)؛ لأنّ النكرة توصف بالجملة. قال: ويناسب عدم وصلها بالحال أنّها لا تقع بعد اليقين لأنّ شأن الحال التيقّن بالمشاهدة" (1). هـ. وبه يُعلم ما نقله المحشّي عن الشارح بعد ذلك، وأشرنا إليه في السؤال من أنّ الأصل أنَّ نواصب المضارع لا تدخل على غيره كـ (لن). فإن قيل: بين مطلق الفعل الماضي وبين (كان) فرقٌ. قلتُ: إن أريد أنّ (كان) ناقصة لا تدلُّ على الحدث، فهذا الفرقُ لا يؤثّر على هذا الحكم مع ما فيه. وإن أريد أنّ كان الناقصة لا مصدر لها، كما يقوله آباء عباس وبكر وعلي والفتح (2)، فمع ضعفه لورود ذلك كقوله: ببذلٍ وحلمٍ ساد في قومه الفتى ... وكونك إيّاه عليك ثقيلُ (3) مع أنّ الأصل في الفعل التصرف، ولاسيّما ما قد سلم أكثر تصرّفه، فقد نقل الأمير في "حاشيته على المغني" عند قوله: (فَصْلٌ في أن المصدرية: وأن _________ (1) "حاشية الأمير" (1/ 27 - 28). (2) يعني المبرد، وابن السرّاج، والفارسي، وابن جني. وهؤلاء وغيرهم منعوا دلالتها على الحدث كما في "الهمع" (2/ 74). (3) كذا في الأصل، والصواب في قافية البيت: "يسير". وقد استشهد به ابن مالك في "شرح التسهيل" (1/ 339) ثم شراح "الألفية". انظر: "أوضح المسالك" (1/ 244)، و"المقاصد الشافية" (2/ 182) و"شرح الأشموني" مع حاشية الصبان (1/ 231). ولم يعرف قائل البيت.
(7/270)
هذه موصول حرفيٌّ وتوصل بالفعل المتصرف) عن ابن الحاجب أنّه قد يدخل المصدريّ على الجامد نحو: {وَأَنْ عَسَى ... } [الأعراف: 185] (1) فيكون المصدر من المعنى" (2). ويظهر أنّ مراده بالمصدريّ (أنْ) الخفيفة. فأمّا المخففة فإنها تدخل حتى على الاسميّة كقول الأعشى: وقد غدوتُ إلى الحانوتِ يَتبَعُني ... شاوٍ مِشَلٌّ شَلولٌ شُلْشُلٌ شُلُلُ (3) في فتيةٍ كسيوف الهند قد عَلِموا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يحفَى وينتعِلُ (4) ولكن قد صرّح الرضيُّ وغيره أن الخفيفة لا تدخل إلا على المتصرّف (5)، وأنّ (أنْ) من قوله تعالى: {وَأَنْ عَسَى ... } [الأعراف: 185] وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ .. } [النجم: 39] (6) هي المخففة (7). فلينظر ما مذهبُ آباء _________ (1) تمام الآية: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}. (2) "حاشية الأمير" (1/ 27). (3) "شلل" كذا في الأصل، والرواية شَوِلٌ. ويروى: شُوَل وشَمِلُ. (4) البيت من شواهد سيبويه (2/ 137، 3/ 74، 454) ورواية العجز في "الديوان" (109): أنْ ليس يدفَعُ عن ذي الحيلة الحِيَلُ وانظر: "الخزانة" (8/ 391 - 392). (5) "شرح الرضي" (2/ 1384). (6) تمام الآية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}. (7) "شرح الرضي" (2/ 1384). وفيه بدلاً من آية النجم قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا} [الجن: 16].
(7/271)
عباس وبكر وعلي والفتح في (أنْ) الداخلة على الفعل الجامد؟ فإنّهم إن كانوا موافقين لما صرّح به الرضيُّ وغيره فـ (أن) عندهم في الآية المتكلّم عليها مخففة، ولكن الجمهور على خلافه. نعم (أنْ) في هذه الآية لم تُسبق بعلمٍ ولا ظنٍّ، وقد قال الرضيُّ ما لفظُه: " فنقول: إنَّ (أنْ) التي ليست بعد العلم ولا ما يؤدي معناه، ولا ما يؤدّي معنى القول ولا بعد الظنّ فهي مصدريّة لا غير، سواءً كانت بعد فِعْل الترقُّب كحسبتُ، وطمعتُ، ورجوت، وأردت، أو بعد غيره من الأفعال ... " إلى أن قال: "أو لا بعد فِعْل كقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ ... } [الحشر: 3] (1). هذا، وقد استدلّ ابن هشام على ترجيح مذهب الكوفيين أنَّ الخفيفة قد تجيء شرطيّة بأنّه قد قرئ قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] بكسر الهمزة وفتحها (2)، واستدلالهم بذلك يشعر أنّ البصريين يجعلونها في حال الفتح مصدرية، كما في بقيّة الأمثلة. وهو ما في التفاسير والأعاريب. [ل 15] واعلم أنّ الأصل في (أنْ) المفتوحة الهمزة الساكنة النون أن تكون كذلك أصلاً، فمن ادّعى أنها مخففة من الثقيلة فعليه الدليل. ولا يكفي مجرّدُ الاحتمال، ولاسيّما مع أنّ القول بأنّها مخففة يستلزم أنّ اسمها ضمير الشأن محذوفًا، ودعوى الحذف خلافُ الأصل، فمن ادعاها فعليه البرهان، _________ (1) "شرح الرضي" (2/ 834 - 835). (2) قرأ بكسر الهمزة من السبعة نافع وحمزة والكسائي. "الإقناع" لابن الباذش (760).
(7/272)
ولا يكفي مجرد الاحتمال. وإذا دار الأمر بين الحذف وعدمه تعيّن عدمُ الحذف، ولله ابنُ المُتْقِنة حيث يقول (1): وإن تكن من أصلها تصحُّ ... فتركُ تطويل الحسابِ ربْحُ فإن قيل: تعارض بأنَّ الأصل أنّ نواصبَ المضارع تختصُّ به كـ (لنْ). قلنا: قد سبق نَقْضُه، مع أنَّه إذا دار الأمرُ بين أن يخالف أصلاً، وأن يخالف أصلين، فخلاف الأصل الواحد أولى من خلاف الأصلين كما هو ظاهرٌ. فائدة: الماضي بعد أنْ المصدرية لا محل له، كما قد يتوهم. قال في "المغني" حاكيًا ما استدلّ به ابنُ طاهرٍ على أنّ الداخلة على الماضي غير الداخلة على المضارع: "والثاني: أنها لو كانت الناصبة لَحُكِمَ على موضعها بالنصب، كما حكم على موضع الماضي بالجزم بعد (إنْ) الشرطية، ولا قائل به". هـ (2). قال الأمير في "الحاشية": " قوله: (ولا قائل به) منه يُعلم فساد قول الشيخ خالد في شرح الآجرومية: وهي تنصب المضارع لفظًا، والماضي محلاًّ" (3). _________ (1) في أرجوزته المشهورة بالرحبية في الفرائض. (2) "المغني" (43 - 44). (3) "حاشية الأمير" (1/ 28).
(7/273)
الرسالة الثالثة عشرة في إعراب قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} ونحوه
(7/275)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ممَّا اقتطفه كاتبُه من ثمرات المعارفِ الإدريسيّةِ الطيّبة اليانعة الجنيَّة، لا زال جناها دانياً علينا، وبركتها مسوقةً إلينا، آمين. قوله تعالى: "الواقعةُ ما الواقعة" (1)، {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ}، {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ} ونحوها يقول فيه المعربون: "الواقعةُ" مبتدأٌ، وما: اسمُ استفهام مبتدأٌ، و"الواقعة" الثانية: خبرُ ما، والمبتدأ الثاني وخبره خبرُ الأول، والرابطُ إعادة المبتدأ بلفظه (2). فقلتُ: ما المانعُ أنْ يقال: "الواقعةُ" مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ يدلّ عليه ما بعده، والتقديرُ: أمرٌ عظيمٌ، و"ما الواقعةُ" مبتدأٌ وخبرٌ على حاله؟ ويكون في نحو قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ} [الواقعة: 41 - 42] "أصحابُ" الأول مبتدأ و"ما أصحاب الشمال": مبتدأٌ وخبرٌ ــ جملةٌ معترضةٌ بين المبتدأ وخبره ــ وقوله: {فِي سَمُومٍ}: خبرُ "أصحاب" الأول. وبذلك نَسْلمُ من إعادة الظاهر عوضًا عن المضمر الذي هو خلافُ الأصل. فقال سيِّدُنا: لا بأسَ، ولكنَّ الحذفَ خلافُ الأصل، والخبر الذي تريدُ أنْ تقدِّره قد عُلِمَ مِن (ما)، فإنَّ المقصودَ بها التهويل والتعظيم. فقلتُ: ففي قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ} لا _________ (1) كذا في الأصل، وقد وهم المؤلف رحمه الله. فلم يرد في القرآن "الواقعة ما الواقعة". (2) انظر: "التبيان" للعكبري (1203)، و"البحر المحيط" (10/ 254، 532).
(7/277)
حذفَ، بل المعربون يقولون بالحذفِ للمبتدأ؛ لأنهم يجعلون قوله: {فِي سَمُومٍ} خبر مبتدأ محذوف. قال: إذا سَلِمْتَ من الحذفِ ورد عليك ادّعاءُ الاعتراض بين المبتدأ والخبر، وهو خلاف الأصل. قلتُ: يَرِدُ عليّ هذا، ويَرِدُ عليهم حذف المبتدأ في قوله: {فِي سَمُومٍ} مع إعادةِ الظاهر مكان المضمر. فواحدةٌ تُقاوِم، وواحدة ترجِّح. ثم قال سيّدنا: خبرُ المبتدأ إذا كان جملةً، ورابطه (1) الإشارة: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، أو إعادتُه لفظًا: "الواقعة ما الواقعة"، أو كونه إيّاه في المعنى: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} = فإنَّ خبر المبتدأ الثاني هو خبر المبتدأ الأول في المعنى، وإنّما جُعل خبرًا للثاني صناعةً. وأمَّا المبتدأ الثاني، فلم يُجَأْ به إلّا لإفادة معنىً غير الإسناد. ألا ترى أنّه لو قيلَ في غير القرآن: "ولباس التقوى خيرٌ"، وقلتَ: "الواقعةُ أمرٌ مَهولٌ"، "وهو أحدٌ"= كان المعنى بحاله. وعلى هذا فقولهم: إنَّ (ما) مبتدأ، و"الواقعة" الثاني خبره، فيه نظرٌ لمَا قررناه؛ إذ المبتدأ الثاني في هذه الثلاثة إنّما هو وُصْلةٌ في المعنى بين المبتدأ الأوّل وخبره. فقلتُ: ويلزم على قولهم أن يُخْبَرَ بالشيء عن نَفْسه. قال: نعم، وذلك باطلٌ. وممَّا يرجّحه كون (ما) هاهنا نكرة مسوِّغة لكونها موصوفةً معنى، والواقعة معرفةٌ، وفي مثل ذلك يترجّح للابتداء _________ (1) في الأصل: "ربطه".
(7/278)
المعرفةُ. قلتُ: فإذا قال قائلٌ: إذا جعلتم (ما) خبرًا للواقعةِ الثانية، فما المانعُ أنْ تجعلوها للأولى؟ يُجاب عليه: بأنَّ (ما) اسمُ استفهامٍ لها الصدرُ، فلا يصحُّ الإخبار بها عمَّا قبلها. قال: نعم. ثم نظرنا في "تفسير الآلوسيّ"، فإذا هو قال: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}: (ما) مبتدأٌ، و (الحاقة) خبر، أو عكسه، ورجح معنىً، والجملة خبر الأوّل (1). ولله الحمد سبحانه وتعالى. _________ (1) "روح المعاني" (29/ 40).
(7/279)
الرسالة الرابعة عشرة في تفسير آيات خلق الأرض والسماوات
(7/281)
[1/ب] الحمد لله. * [البقرة: 28]: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} بأن خلقها، وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وقدَّر فيها أقواتها؛ كما تبيِّنه آية حم السجدة (1)، وسيأتي تفسيرها إن شاء الله. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي وهي دخان، فقال لها وللأرض: ائتيا طائعين؛ كما في آية حم السجدة. {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} هو كقوله في آية [حم] السجدة: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [12]، وكقوله في آية النازعات: {بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [27 - 28]. * [فصلت: 9 - 12]: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)} ظاهره أنَّه سبحانه خلقها قطعة واحدة في هذين اليومين، وأنَّ خلق الجبال هو فيما بعد ذلك لقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} أي أوجد فيها الجبال بأن أمر بعضها أن يرتفع ويصلب إلى غير ذلك. وهذا وما بعده يستلزم دحوَ الأرض بمعنى بسطها. {وَبَارَكَ فِيهَا} بأن جعلها صالحة لعيش الحيوانات، وتوليد المعادن، وإنبات النباتات، وغير ذلك. {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} بأن خصَّ كلَّ قطعة بالصلاحية لتوليد معدن _________ (1) يعني سورة فصلت، وكذا تسمى في المصاحف الهندية.
(7/283)
خاصٍّ، وإنبات نبات خاصٍّ، ونحو ذلك، بالقدر الذي اقتضته حكمته. وهذا كلُّه قدَّره في باطن الأرض، لم يبرز منه شيء، وإنما أبرزه تعالى بعد خلق السماوات، كما سيأتي. {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قال المفسرون: أي في تمام أربعة أيام، ليكون اليومان اللذان خلق فيهما السماء تمام ستِّ، فتوافق قوله تعالى في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [4]. قال صاحب «الأضداد» (1): «فإن قال قائل: كيف يدخل يومَا الخلق في هذه الأربعة حتى يصيرا بعضَها، وقد فصَل الله اليومين من الأربعة؟ قيل له: لما كان الإرساء من الخلق، وانضمَّ إليه تقدير الأقوات؛ نُسِقَ الشيءُ على الشيء للزيادة الواقعة معه، كما يقول الرجل للرجل: قد بنيتُ لك دارًا في شهر، وأحكمتُ أساساتها، وأعليتُ سقوفها، وأكثرتُ ساجَها، ووصلتُها بمثلها في شهرين؛ فيدخل الشهر الأول في الشهرين، ويعطف الكلام الثاني على الأول لما فيه من معنى الزيادة. أنشد الفرَّاء (2): فإنَّ رُشَيدًا وابنَ مروان لم يكن ... لِيفعلَ حتى يُصدر الأمرَ مُصْدَرا فرُشَيد هو ابن مروان، نُسِق عليه لما فيه من زيادة المدح. _________ (1) يعني محمد بن قاسم الأنباري. انظر كتابه «الأضداد» (ص 109 - 110). (2) في «معاني القرآن» (2/ 345) ومنه في «تفسير الطبري» - هجر (19/ 131) و «الضرائر» لابن عصفور (ص 71).
(7/284)
وقال الآخر (1): يظنُّ سعيدٌ وابنُ عمرو بأنني ... إذا سامني ذُلًّا أكون به أرضى فلستُ براضٍ عنه حتى يُنيلني ... كما نال غيري من فوائده خفضا فسعيد هو ابن عمرو (2)، نُسِق عليه لما فيه من زيادة المدح (3)» هـ. قال الشَّرْبيني (4): «فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر خلق الأرض في يومين، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين [آخرين] كان أبعد عن الشبهة وعن الغلط، فلم ترك التصريح بذكر الكلام الجمل؟ أجيبَ بأنَّ قوله تعالى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} أي استوت الأربعة استواءً لا يزيد ولا ينقص= فيه فائدة زائدة على ما إذا قال: خلقت هذه الثلاثة في يومين؛ لأنه لو قال تعالى: خلقت هذه الأشياء في يومين لا يفيد هذا الكلام كونَ اليومين مستغرقين بتلك الأعمال، لأنه قد يقال [2/أ]: عملتُ هذا العمل في يومين، مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل، بخلافه لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} = دلَّ على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان» هـ. وقد يقال: كان يمكن أن يقال عند ذكر اليومين الأولين: «سواء»، ثم _________ (1) نقل ابن الجوزي في «زاد المسير» (4/ 95) البيت الأول. (2) في «زاد المسير» أنه سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان. (3) في مطبوعة «الأضداد»: «نُسِق عليه لأن فيه زيادة مدح». (4) في «السراج المنير» (3/ 599).
(7/285)
يقال بدل «في أربعة»: «في يومين سواءً»، فتحصل الفائدتان: والجواب: أنَّ خلق الأرض كان في اليومين الأولين غير مستغرقين، ثم كان جعلُ الرواسي في بقية اليومين وفيما بعدهما. فلا يصح أن يقال في اليومين الأولين «سواء» لوجود النقص، ولا أن يقال بدل «أربعة أيام»: «يومين سواءً» لوجود الزيادة. فإن قيل: فلمَ لم يقل بدل {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}: «في يومين»، ثم يقال: «فتلك أربعة سواء»؛ كما قال تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]؟ فالجواب: أنَّ هذه العبارة لا تدل على أنَّ خلق الأرض في اليومين الأولين غير مستغرقين، إلى آخر ما مرَّ، فتعيَّن للتعبير عنه ما في الآية فتأمَّلْ. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي سوَّاهن. {فِي يَوْمَيْنِ} هذان اليومان تمام الستة الأيام المذكورة في سورة السجدة وغيرها. {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} الظاهر أنَّ هذا كان بعد انتهاء الستة الأيام. قال في «الجلالين» (1): «{أَمْرَهَا} الذي أمَرَ به مَن فيها من الطاعة والعبادة». والظاهر أنَّه أعمُّ من ذلك، وأنَّ المراد: أوحى في كلِّ سماء شأنَها الذي _________ (1) (ص 478).
(7/286)
أراد كونه فيها، فيشمل جميع الشؤون التي تتعلَّق بكلِّ سماءٍ من مخلوقات أجرام وملائكة وغيرها، ومن أوامر بعبادات ووظائف (1) تتعلَّق بعمارة الكون وغير ذلك. فـ «أمر» هنا عامٌّ، لأنه مفرد مضاف. {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} الظاهر أنَّ هذا دخَلَ في قوله تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}، ولذلك ــ والله أعلم ــ كان الالتفات. وإنما خصَّه تعالى بالذكر لأنه أعظم ما يشاهده أهل الأرض من أحوال السماء. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}. * [النازعات: 27 - 32] {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} ثم فسَّر البناء بقوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} قال الجلال: «تفسيرٌ لكيفيَّة البناء» (2) {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد خلق السماء وما فيها {دَحَاهَا (30)} أي أزال عن وجهها شيئًا كان مانعًا من إخراج مائها ومرعاها. فلذلك فسَّره تعالى بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)}. وقال الجلال: «{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} بسطها، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو» (3) أي: وبذلك يتبيَّن اتفاق الآيات. وفي الشَّربيني (4): «قال الرازي: وهذا الجواب مشكل لأن الله تعالى _________ (1) رسمها في الأصل بالضاد. (2) «تفسير الجلالين» (ص 584). (3) المصدر نفسه. (4) «السراج المنير» (3/ 598).
(7/287)
خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدَّر فيها أقواتها. وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة. ثم إنه تعالى قال بعد ذلك: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} فهذا يقتضي أنَّ الله تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض، وبعد أن جعلها مدحوَّة؛ وحينئذ يعود السؤال. ثم قال: والمختار عندي أن يقال: خلقُ السماء مقدَّم على خلق الأرض. وتأويل الآية أن يقال: الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد. والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد لصار تقديرُ الآية: أوجده من تراب، ثم قال له: كن، فيكون؛ وهذا محال. فثبت أنَّ الخلق ليس عبارة عن الإيجاد، والتقدير في حق الله تعالى هو كلمته بأن سيوجده. إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} معناه أنه قضى بحدوثها في يومين وقضاءُ الله تعالى أنه سيحدث كذا في مدَّة كذا لا يقتضي حدوثَ ذلك الشيء في الحال. فقضاءُ الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدَّم على إحداث السماء، وحينئذ يزول السؤال» (1). [2/ب] أقول: هذا الوجه بعيد جدًّا، لأن الله يقول في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [29]. وقال في حم السجدة: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [9 - 11]. _________ (1) انظر: «مفاتيح الغيب» (27/ 546، 549).
(7/288)
فالآيتان ظاهرتان في تقدُّم خلق الأرض. وجعلُ «خلَقَ» بمعنى «قضى» ضعيف. فأما قوله تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فالمراد ــ والله أعلم ــ: ثم قال له: كن بشرًا حيًّا سويًّا. وهذا ظاهر. فإن قلت: إنَّ تقدير الخلق سببٌ له، فلم لا يجوز إطلاقُه عليه مجازًا من إطلاق المسبَّب وإرادة السبب؟ قلت: الأصل الحقيقة، ولا يُعدل عنه إلا بدليل، ولاسيَّما والسياق يؤيد الحقيقة. فإن قلت: فالدليل آية النازعات. قلت: لا نسلِّم أنَّها تدلُّ على أنَّ بسط الأرض كان بعد خلق السماء. وذلك أنَّا نقول: إنَّ المراد بالدحو في قوله تعالى: {دَحَاهَا} إزالةُ شيءٍ كان على وجه الأرض يمنع إخراج مائها ومرعاها، بدليل أن الله تعالى فسَّره بذلك. قال تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}. وقد أشار في «المدارك» (1) إلى هذا. وهو كقوله تعالى قبل: {السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)} وقد مرَّ. _________ (1) فسَّر النسفي الدحو بمعنى البسط ثم قال: «وكانت مخلوقة غير مدحوة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام. ثم فسَّر البسط فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} بتفجير العيون {وَمَرْعَاهَا} كلأها ... ». «مدارك التنزيل» (3/ 598 - 599).
(7/289)
فإن قلت: إنَّ اللغة تأبى هذا، فإنَّ الدحو إنما عُرِف في اللغة بمعنى البسط، وأيُّ بسط في إخراج الماء والمرعى؟ قلت: قال في «المختار»: ودحا (1) المطرُ الحصى عن وجه الأرض (2). وقال الشاعر (3): ينفي الحصَى عن جديد الأرض مُبْتَرِكٌ ... كأنَّه فاحصٌ أو لاعبٌ داحي وهو يدل على صحة ما قلنا: فإن ضاقت الحقيقة فالمجاز واسع. وهذا القول متعيِّن لأن الله تعالى فسَّره به، وكفى بتفسيره تعالى حجة. فإن قلت: لا نسلِّم أنَّ قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} تفسير لـ {دَحَاهَا (30)}، وإنما هو ــ كما قال الجلال (4) ــ: «حال بإضمار «قد» أي مُخْرِجًا». قلت: هذا باطل، لأنَّ قوله: «حال بإضمار قد» يريد أن التقدير عليه: والأرض بعد ذلك دحاها، والحالُ أنه قد أخرج منها ماءها ومرعاها؛ فتكون حالًا محكيَّة، لأنَّ ماضِويَّة الفعل ولاسيَّما مع تقدير «قد» صريحة في أنَّ إخراج الماء والمرعى وقع قبل الدحو، وهذا ظاهر الفساد. _________ (1) رسمها في الأصل: «دحى». والفعل من باب دعا، وعليه اقتصر الجوهري. ومن باب سعى لغة. (2) «مختار الصحاح» (ص 84). يعني: نزَعَه كما في «المحكم» (3/ 275). (3) هو أوس بن حجر، من قصيدة تعزى إلى عبيد بن الأبرص أيضًا. انظر: «ديوان أوس» (16) و «ديوان عبيد» (35). والمؤلف صادر عن «أضداد ابن الأنباري» (111). (4) «تفسير الجلالين» (ص 584).
(7/290)
وإن حاول التفصِّي منه بقوله: أي مُخرِجًا. ومراده الاعتذار بأن الحال تكون مقدَّرة، أي والأرض بعد ذلك دحاها مقدَّرًا أنه سيُخرج منها ماءها ومرعاها. وهذا (1) باطل لما مرَّ، فإنَّ أول الكلام صريح في أنَّ التقدير: والأرضَ بعد ذلك دحاها، والحالُ أنه قد أخرج منها ماءها ومرعاها. وهذا صريح في تقدُّم الإخراج، فمن أين تصحُّ دعوى جعلها حالًا مقدَّرة؟ وكيف يصحُّ أن تكون الحال محكيَّةً مقدَّرةً باعتبار واحد؟ هذا خُلْف. [3/أ] فالحقُّ ــ إن شاء الله تعالى ــ ما قلناه: أنَّ معنى {دَحَاهَا}: أزال عن وجهها شيئًا كان مانعًا لها عن إخراج مائها ومرعاها. وقد قال في «الأضداد» (2) في {بَعْدَ}: «ويكون بمعنى (قبل)، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] فمعناه عند بعض الناس: من قَبل الذكر، لأنَّ الذكر: القرآن. وقال أبو خِراش (3): حمِدتُ إلهي بعدَ عروةَ إذ نجا ... خِراشٌ وبعضُ الشرِّ أهَونُ من بعض أراد: قبل عروة، لأنَّهم زعموا أنَّ خِراشًا نجا قبل عروة (4). وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}» إلى أن قال: «ويجوز أن _________ (1) كذا في الأصل بدلًا من «فهذا» لأنه جواب الشرط. (2) (ص 108). (3) انظر: «شرح أشعار الهذليين» (1230) و «حماسة أبي تمام» (1/ 385). (4) وكذا في «تفسير الطبري» - هجر (24/ 93). وفي قتل خراش روايتان: إحداهما في «الكامل» للمبرد (712) والأخرى في «الأغاني» (21/ 242) والثانية صريحة في أن عروة قُتِل قبل خراش، وليس في الأولى ما يخالف ذلك.
(7/291)
يكون معنى الآية: والأرض مع ذلك دحاها (1)، كما قال عزَّ وجلَّ: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] أراد: مع ذلك. وقال الشاعر (2): فقلتُ لها فِيئي إليكِ فإنَّني ... حرامٌ وإنِّي بعد ذاك لبيبُ أراد: مع ذلك». وتأوَّلها بعضهم بأنَّ (ثم) ليست للترتيب (3). وهذه الأوجه كلُّها بعيدة. ولا ضرورة إليها بحمد الله. {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)} أي ثبَّتها، فلا ينافي أنه قد سبق إيجادُها. وهذا أولى من إنكار الترتيب، والله أعلم. _________ (1) روى ذلك عن مجاهد وغيره. انظر: «تفسير الطبري» - هجر (24/ 94). (2) هو المضرَّب بن كعب بن زهير. أنشده له أبو عبيدة في «مجاز القرآن» (2/ 300). وأنشده أيضًا في (1/ 145) دون عزو. (3) انظر «مفاتيح الغيب» (2/ 143).
(7/292)
الرسالة الخامسة عشرة في معنى: {أَغْنَى عَنْهُ}
(7/293)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ص 29] الغنى: عدم الحاجة، والإغناء: إعدام الحاجة، ثم من الأشياء ما يحتاج الإنسان إلى حصوله كالمال، ومنها ما يحتاج إلى دفعه كالعذاب. فإذا نظرنا إلى حالك مع المال، وجدناك طالبًا، والمال مطلوبًا، فأنت محتاج، والمال محتاج إليه. وإذا نظرنا إلى حالك مع العذاب حين يُخشى أن ينالك، وجدنا الأمر كأنه عكس ما مضى، كأن العذاب هو الطالب المحتاج، وكأنك أنت المطلوب المحتاج إليك. على هذا الأساس جرى استعمال كلمة "أغنى" ومشتقاتها في الكلام. يأتي الطالب مفعولاً به منصوبًا، والمطلوب مجرورًا بـ"عن"، فانقسمت إلى ضربين: الأول: ما كان على ظاهره، كالإنسان والمال. يأتي الإنسان منصوبًا، والمال مجرورًا بـ"عن"، كقولك لأخيك: قد أغناني الله عن مالك. وقال تبارك وتعالى (9/ 82): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. قال ابن إسحاق: "قالوا لَتُقطَعنّ عنا الأسواقُ، ولَتهلكنّ التجارة، ولَيذهبنّ عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق" (1). فكأنه قال: فسوف يغنيكم _________ (1) "سيرة ابن هشام" (2/ 547)، "تفسير الطبري" (شاكر 14/ 197).
(7/295)
الله عن الأموال التي كانت تحصل لكم من التجارة مع المشركين. الضرب الثاني: ما جاء على الاعتبار الآخر، كالإنسان والعذاب الواقع، أو المتوقع. يأتي العذاب منصوبًا، والإنسان مجرورًا بـ"عن". قال الله تبارك وتعالى (40/ 47): {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}. وغالب ما في القرآن من كلمة "أغنى" أو مشتقاتها وارد على هذا الضرب الثاني، [ص 30] ولكنه قد يترك المنصوب، وقد يترك المجرور بـ"عن"، وقد يتركان معًا؛ ويقع الاختلاف في التفسير. وقد فصلت العرب بين الضربين، فجعلت مصدر "أغنى" من الضرب الثاني "الغَناء" بالفتح والمد. وفي "لسان العرب" (1): "قال ابن بري: الغَناء: مصدر أغنى عنك أي كفاك". ثم قال بعد: "أغْنِها عنَّا أي اصرِفْها وكُفَّها". ثم قال: " يقال: أغْنِ عنّي شرَّك، أي اصرِفْه وكُفَّه. ومنه قوله تعالى: {لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19]. وأرى أنه إذا فُهِمَ ما تقدّم، ورُوعي في الفهم والتقدير كان أجدر بالإصابة. ولا ريب أنه إذا حذف المفعول المنصوب، كما في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} [المسد: 2] صح تفسير {أَغْنَى عَنْهُ} بقولك: نفعه، ولذلك _________ (1) (15/ 138 - 139 غني).
(7/296)
يفسّر كثير منهم المصدر وهو "الغناء" بالنفع. وكأنهم لهذا يستغربون نصب الكلمة للمفعول به، فيجعلون {شَيْئًا} في الآية السابقة مفعولاً مطلقًا، يقولون: أي شيئًا من الإغناء، أو نحو ذلك. وهذه ــ فيما أرى ــ غفلة عن الأساس الذي تقدم بيانه. فنرى الزمخشري يقدرها في بعض المواضع بما يقتضيه السياق، فيقول: "من عذاب الله" كما في "تفسيره" (58/ 17) (1) و (66/ 10) (2). مع أنه أولَ ما وقعت (3: 10) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}، قال: " (من) في قوله: {مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} مثله في قوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعة الله {شَيْئًا} أي بدل رحمة الله وطاعته، وبدل الحق" (3). وهذا تعسّف وغفلة عن السياق وعن الأساس الذي مرّ بيانُه. _________ (1) يعني تفسير قوله تعالى في سورة المجادلة (17): {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. قال في "الكشاف" (4/ 495): " {مِنَ اللَّهِ} من عذاب الله {شَيْئًا} قليلاً من الإغناء". (2) وذلك قوله تعالى في سورة التحريم (10): {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. قال الزمخشري: "لم يغن الرسولان عنهما ... إغناءً ما من عذاب الله". "الكشاف" (4/ 571). (3) "الكشاف" (1/ 339).
(7/297)
وذكر الآلوسي (1) في الآية [ص 31] أوجهًا، أولاها بالصواب أن أصل الكلام: شيئًا من عذاب الله، فقوله: "من عذاب الله" في الأصل نعت لقوله: {شَيْئًا}، ولكن تقدم النعت فكان حالاً (2). هذا، وقد تُفسَّر "أغنى" في الضرب الثاني بقولهم: دفع، كفّ، صرف، أبعد؛ تُحْمل؛ بحسب اختلاف المواضع. وهذه كلُّها تُبقي الكلام على نظمه. وقد تفسر بقولهم: "كفى"، وهذه تغيّر نظم الكلام. وكذلك "نفع". وأرى أن كلمة "دفع" تصلح في جميع المواضع، وهي الموافقة لما قدمت في الأساس، وإن كان غيرها في بعض المواضع أنسب منها. وكذلك كلمة "كفى" تصلح، ولكنها تُغيِّر نظم الكلام، وتُوقع في اشتباه المعنى. فأما قوله تعالى (10/ 31): {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} إلى قوله (10/ 36): {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (3) فقد تقدّم عن الكشاف أن المعنى: إن الظن لا يغني بدلَ الحقِّ إغناءً ما. ويفسر الحقّ _________ (1) "روح المعاني" (3/ 93). (2) انظر: "البحر المحيط" (3/ 35). و"شيئًا" في هذا الوجه مفعول به، و"من" للتبعيض. (3) وانظر الكلام على الآية في "الأنوار الكاشفة" للمؤلف (ص 336).
(7/298)
بالعلم. وحاصله: أن الظن لا يغني بدل العلم إغناءً ما، أي أنه إنما يُعتدُّ بالعلم، وأما الظن فلا اعتداد به. وبهذا قال كثيرون، أو الأكثرون، ثم يخصصون الآية بمعرفة الله، وما وليها من العقائد. ويقولون: المعتبر فيها العلم القطعي، ولا يفيد الظن فيها شيئًا، فأما ما عدا ذلك كالأحكام الفقهية فهي مخصوصة من هذا، فإن الظن معتبر فيها. ومنهم من يقول: الظن الذي ثبت شرعًا الاعتداد به يرجع إلى أصول قطعية، فمن قضى بشهادة عدلين [ص 32] فإنما قضى بالدليل القطعي الذي يوجب القضاء بشهادة عدلين. وكذا من اعتدَّ بدلالة ظنية من القرآن، إنما عمل بالدليل القطعي القاضي بوجوب الأخذ بمثل ذلك. وهكذا من أخذ بحديث صحيح، إنما عمل بالدليل القاطع الموجب العملَ بمثل ذلك. وأنت ترى أن هذا التفسير يخالف الأساس في كلمة "يغني" ويخالف مواقعها الكثيرة في القرآن. ومشى ابن جرير على ذلك المعنى (1). واقتصر ابن كثير على قوله: "لا يغني عنهم شيئًا" (2). وقال البغوي: "لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئًا، وقيل: لا تقوم مقام العلم" (3). _________ (1) "تفسير ابن جرير" (شاكر 15/ 89). (2) "تفسير ابن كثير" (2/ 399). (3) "معالم التنزيل" (2/ 363).
(7/299)
وقوله: "لا تقوم مقام العلم" هو المعنى المتقدم، فأما قوله: "لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئًا"، فهو في الجملة المعنى الذي يقتضيه الأساس المتقدم، ومواقع الكلمة في القرآن، إلا أن قوله: "من عذاب الله" لا يخلو من بعد؛ لأن كلمة "الحق" إما أن يكون حملها على أنها اسم الله عز وجل، ثم قدر كلمة "عذاب"؛ وإما أن يكون حملها على أن المراد بها العذاب. والذي يقتضيه السياق أن تكون كلمة "الحق" هنا هي ما تقدم في الآيات في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فالحق هو الأمر الثابت قطعًا. فتوحُّد الله تعالى باستحقاق العبادة أمر ثابت قطعًا، كما تقتضيه الآيات السابقة، وهو حق يُطالَب العباد ليعترفوا به، ويعملوا بحسبه. والمشركون يحاولون دفع هذا الحق بتخرُّصاتهم التي غايتها في نفسها أن تفيد ظنًّا ما، والظنُّ لا يدفع شيئًا من الحق اليقيني، فيتحصَّل من هذا أن الظن لا يعارض القطع. وهذا المعنى ــ مع كونه موافقًا لأساس كلمة "يغني" ولمواقعها في أكثر الآيات ولمقتضى السياق ــ حق في نفسه، لا يرد عليه شيء مما تقدم، ولا ما يورد على ذلك من إنكار بعض أئمة العربية مجيء كلمة "من" للبدلية، ولا غير ذلك. ولكن يبقى علينا أن هذه الجملة: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] [ص 33] وردت في موضع آخر من القرآن، قد لا يحتمل هذا المعنى، بل قد يتعين فيها المعنى الذي قاله الجمهور، فلننظر في ذلك. قال الله تبارك وتعالى (53/ 20): {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا
(7/300)
قِسْمَةٌ ضِيزَى} إلى أن قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} إلى قوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}. جرى الجمهور هنا على ذلك المعنى: أن الظن لا يغني بدل العلم، أي لا يقوم مقامه. وذكر البغوي ما يوافقه، ثم قال: "وقيل: الحق بمعنى العذاب، أي إن ظنهم لا ينقذهم من العذاب" (1). وقد يقال: إن السياق يعيِّن قول الجمهور دون القول الذي قدمناه: أنّ الظنّ لا يدفع شيئًا من الحق. والصواب: أنّ السياق يوافق هذا المعنى، فكلمة "الهدى" من قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} مثل كلمة الحق في قوله تعالى هناك: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} فالهدى هو الحق الثابت قطعًا، فهو المراد في قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}. وكأنه قيل: وجاءهم من ربهم الحق الثابت اليقيني في أنه لم يلد ولم يولد، وأن الملائكة عباد من عباده، ليسوا بنات له ولا إناثًا، وهم في زعمهم أن الملائكة بنات الله ليس لهم علم يستندون إليه سوى الظن، وهوى النفوس. فيتبعون الظن، ويحاولون أن يدفعوا به ذلك الحق اليقيني؛ وإن الظن لا يدفع شيئًا من اليقين، فالظن لا يعارض القطع. _________ (1) "معالم التنزيل" (4/ 259).
(7/301)
فقد بان أنه ليس في هذا الموضع ما يدفع المعنى المختار المطابق لأساس كلمة "يغني" في العربية، ولمواقعها الكثيرة في القرآن مع موافقته للسياق، وأنه لا يرد عليه شيء، كما تقدم.
(7/302)
الرسالة السادسة عشرة حول تفسير الفخر الرازي وتكملته
(7/303)
[ق 1/أ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أفادني فضيلة العلامة الجليل الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع (1) ــ حفظه الله ــ أن صاحب "كشف الظنون" ذكر أن تفسير الفخر الرازي المسمى بـ"مفاتيح الغيب" لم يكمله الفخر، وأنه أكمله نجم الدين أحمد بن محمد القَمُولي، وأن في ترجمة القمولي من "طبقات ابن السبكي" ومن "الدرر الكامنة" أن له تكملة لتفسير الفخر الرازي. وكأن فضيلة الشيخ ــ حفظه الله ــ ندبني لتحقيق هذه القضية، لأن هذا التفسير مطبوع بكماله منسوبًا إلى الفخر الرازي، وليس فيه تمييز بين أصل وتكملة، وآخره جارٍ على طريقة أوله. هذا ولم تكن سبقت لي مطالعة التفسير ولا مراجعة، ولي عنه صوارف، فرجوت أن أجد في كتب التاريخ والتراجم والفهارس ما يغني عن تصفح التفسير، فلم أجد ما يفيد التحديد إلا في بعض الفهارس الحديثة أنه وجد بخط السيد مرتضى الزبيدي عن "شرح الشفاء" للخفاجي أن الرازي وصل إلى سورة الأنبياء، فأحببت أن أقف على عبارة الخفاجي، وشرحه للشفاء مطبوع في أربعة مجلدات كبار، ولم تسبق لي مطالعة له أيضًا، فنظرت أولًا في فهارس مجلداته الأربعة، وراجعت ما رأيت أنه مظنة للعبارة المذكورة، فلم أجد. فتجشمت تصفح ذاك الشرح من أوله، ولم يكلفني ذلك كبير تعب؛ _________ (1) من كبار علماء نجد. ولد سنة 1300 في عنيزة، وتوفي سنة 1385 في بيروت، ودفن في قطر. انظر ترجمته في: "علماء نجد خلال ثمانية قرون" (6/ 100 - 113).
(7/305)
لأنني وجدت العبارة في ص 267 من المجلد الأول طبع القسطنطينية سنة 1267 هـ ــ وسيأتي نصها ــ فرابني قوله: "الثابت في كتب المؤرخين"، فإني قد تتبعت ما وجدته من كتبهم، فلم أجد فيها ذلك التحديد، ولو كان ظاهرًا لنبَّه عليه بعضهم. ثم كيف خفي ذلك على صاحب "كشف الظنون" مع سعة اطلاعه وكثرة تتبعه؟ وكيف خفي على الزبيدي حتى احتاج إلى تعليقه عن كتاب الخفاجي، ثم خفي على من بعده حتى لم يجدوا إلا النقل عن خط الزبيدي عن كتاب الخفاجي؟ إذن لابد من النظر في التفسير نفسه، في تفسير سورة الأنبياء وما قبلها وما بعدها. فزادني ارتيابًا بقول الخفاجي أنني وجدت الروح واحدة والأسلوب واحدًا، حتى إنني كدت أجزم أو جزمت بأن تفسير سورة الأنبياء وسورٍ بعدها من هذا التفسير هو تصنيف مفسر سورة الكهف وسورة مريم وسورة طه منه. وراجعت مواضع من تفسير البقرة وآل عمران، ونظرت نظرة في أواخر التفسير، فوجدته أيضًا موافقًا لذلك. وعثرت على إحالة في تفسير سورة الإخلاص لفظها: "وقد استقصينا في تقرير دلائل الوحدانية في تفسير قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] "، وهذه الآية في سورة الأنبياء، فخطر لي احتمال أن يكون قائل: "إن الرازي وصل إلى سورة الأنبياء" إنما أخذ ذلك من هذه العبارة مضمومةً إلى نصوص المؤرخين أن الرازي لم يكمل التفسير، وإنما أكمله غيره؛ فإن العادة في تصنيف التفاسير أن يبدأ المفسر من أول القرآن ثم يجري على الترتيب. والظاهر أن الرازي هكذا صنع، وقد نصُّوا على أنه لم
(7/306)
يكمل التفسير، إذن فلا بد [2/أ] (1) أن يكون هناك موضع انتهى إليه الأصل، وشرعت منه التكملة. وعباراتهم تعطي أنه بقي على الرازي مقدار له شأن، فتفسير الإخلاص لن يكون إلا من التكملة، فكلمة "وقد استقصينا ... " من كلام المكمل، فتفسير الآية المحال عليها من كلامه. دع هذا، ودع مناقشته، فالمقصود أن الريبة في قول الخفاجي استحكمت، بل اتضح بطلانه، كما سيأتي. واصلت النظر في تفسير سورة الحج والمؤمنين والنور والفرقان والشعراء والقصص متفهمًا تارة، متصفحًا أخرى، وأنا لا أنكر شيئًا من الروح والأسلوب، مع وجود شواهد تدل أن الكلام كلام الرازي، لكن لم أكد أشرع في النظر في تفسير العنكبوت حتى شعرت بأن هذه روح أخرى، وأسلوب يحاول محاكاة السابق وليس به، فأنعمت النظر، فتأكد ذلك وتأيد بوجود عدة فوارق، فقفزت إلى تفسير سورة الروم، ثم إلى تفسير سورة لقمان، فالسجدة، فأجد الطريقة الثانية مستمرة. فرأيت أني قد اكتشفت الحقيقة، وأن الرازي بلغ إلى آخر تفسير القصص، فما بعد ذلك هو التكملة. لكنني تابعت تصفحي لأوائل تفسير سورة سورة، فلما بلغت تفسير الصافات إذا بالطريقة الأولى ماثلة أمامي. فجاوزتها إلى السورة الخامسة أو السادسة بعدها، فوجدت الطريقة الأولى باقية، فجاوزت ذلك إلى السابعة والثامنة فإذا بالطريقة الثانية. وهكذا أجد كلتا الطريقتين تغيب ثم تعود، فعلمت أنه لابد من استقصاء النظر على الترتيب. وسألخص البحث من أوله مرتبًا على أسئلة، كل منها مع جوابه. _________ (1) الكتابة في الأصل في وجه واحد من الورقة.
(7/307)
السؤال الأول ألم يكمل الفخر الرازي تفسيره؟ الجواب يعلم مما يأتي: في "عيون الأنباء" لابن أبي أصيبعة (2/ 29) في ترجمة الفخر، في بيان مؤلفاته: "كتاب التفسير الكبير المسمى "مفاتيح الغيب"، اثنتا عشرة مجلدة بخطه الدقيق سوى الفاتحة، فإنه أفرد لها كتاب تفسير الفاتحة مجلد، تفسير سورة البقرة من الوجه العقلي لا النقلي مجلد ... ". ظاهر هذا أن الفخر أكمل التفسير، لكن ذكر ابن أبي أصيبعة نفسه في كتابه المذكور (2/ 171) في ترجمة شمس الدين أحمد بن خليل الخُوَيِّي أن له "تتمة تفسير القرآن لابن خطيب الري". وابن خطيب الري هو الفخر الرازي. وذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة الخويي أنه ــ أعني ابن أبي أصيبعة ــ أخذ عن الخويي، وأن الخويي أدرك الفخر الرازي وأخذ عنه. والفخر توفي سنة 606 هـ كما هو معروف، وتوفي ابن أبي أصيبعة سنة 668 هـ. وفي "تاريخ ابن خلكان" (1/ 474) في ترجمة الفخر في ذكر مؤلفاته: "منها تفسير القرآن الكريم جمع فيه كل غريب وغريبة، وهو كبير جدًّا لكنه لم يكمله، وشرح سورة الفاتحة في مجلد". توفي ابن خلكان سنة 681 هـ. وذكر ابن السبكي في "طبقاته" (5/ 35) في ترجمة الفخر تفسيره، ولم يبين أكمل أم لا، لكنه قال (5/ 179) في ترجمة نجم الدين أحمد بن محمد القَمولي: "وله تكملة على تفسير الإمام فخر الدين". توفي ابن السبكي سنة 771 هـ.
(7/308)
[3/أ] وفي "شذرات الذهب" (6/ 75) في ترجمة القمولي: "قال الأسنوي: وكمّل تفسير ابن الخطيب". وابن الخطيب هو الفخر، توفى الأسنوي سنة 772 هـ. وفيها (5/ 21) في ترجمة الفخر: "قال ابن قاضي شهبة: ومن تصانيفه تفسير كبير لم يتمه في اثني عشر مجلدًا كبارًا ... " (1). توفي ابن قاضي شهبة سنة 851 هـ. وفي "الدرر الكامنة" لابن حجر (1/ 304) في ترجمة القمولي: "وأكمل تفسير الإمام فخر الدين". توفي ابن حجر سنة 852 هـ. * * * * _________ (1) انظر: "طبقات ابن قاضي شهبة" طبعة حيدراباد (2/ 333).
(7/309)
السؤال الثاني إن لم يكمله فمَنْ أكمله؟ الجواب: قد علم مما مرَّ أنه أكمله كلٌّ من الخويي والقَمولي. فأما الأول فهو شمس الدين قاضي القضاة أحمد بن خليل الخويي توفي سنة 637 هـ. هذا هو الصواب في اسمه ولقبه ونسبته ووفاته، ووقع في عدة كتب تخليط في ذلك. راجع "عيون الأنباء" (2/ 171) و"المرآة" لسبط ابن الجوزي (8/ 730)، و"طبقات ابن السبكي" (5/ 8)، و"السلوك" للمقريزي (1/ 273)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 200). و"البداية والنهاية" لابن كثير (13/ 155)، و"الشذرات" (5/ 183). وراجع "شرح القاموس" (خ وي)، و"كشف الظنون" (مفاتيح الغيب)، و"الشذرات" (5/ 423)، و"فهرس الأزهر" (1/ 299)، و"فهرس الخزانة التيمورية" (1/ 235)، و"معجم المطبوعات". وله ابن اسمه شهاب الدين قاضي القضاة محمد بن أحمد بن خليل الخويي، كان محدثًا فاضلًا، توفي سنة 693 هـ. ذُكِرَ في مواضع من "سلوك المقريزي" و"تاريخ ابن الفرات"، وله ترجمة حسنة في "البداية والنهاية" لابن كثير (13/ 337)، و"فوات الوفيات" (2/ 182)، و"الوافي بالوفيات" (2/ 137)، و"الشذرات" (5/ 423) على تخليط في "الشذرات". ولما كان الغالب أن يُلقب من اسمه محمد: شمس الدين، ومن اسمه أحمد: شهاب الدين، اشتبه الأمر على صاحب "كشف الظنون"، فجعل لقب الأب: شهاب الدين.
(7/310)
وأما الثاني فهو نجم الدين أحمد بن محمد القمولي، توفي سنة 727 هـ، كما في "طبقات ابن السبكي" (5/ 179)، و"الدرر الكامنة" (1/ 304)، و"الشذرات" (6/ 75)، و"كشف الظنون" (مفاتيح الغيب). ووقع في "فهرس الأزهر"، و"فهرس الخزانة التيمورية" ذكر وفاته سنة 777 تبعًا لنسخة "كشف الظنون" الطبعة الأولى، وذلك خطأ. وزعم بعضهم أنّ للسيوطي تكملة على تفسير الفخر، كتب منها من سورة سبح إلى آخر القرآن في مجلد، وإنما ذكر صاحب "كشف الظنون" أن للسيوطي تفسيرًا اسمه "مفاتيح الغيب" كتب منه ذاك المقدار، وهذا هو الظاهر أنه تفسير مستقل، وسيأتي ما يؤكد ذلك إن شاء الله. * * * *
(7/311)
[4/أ] السؤال الثالث إذا لم يكمل الفخر تفسيره فهذا التفسير المتداول الكامل مشتمل على الأصل والتكملة، فهل يُعرَف أحدهما من الآخر؟ الجواب عن هذا يحتاج إلى إطالة. فقد قال الشهاب الخفاجي المتوفى سنة 1069 هـ في شرحه لشفاء القاضي عياض (1/ 267) معترضًا على من نقل عن "التفسير الكبير" للفخر الرازي: "الثابت في كتب التاريخ أن التفسير الكبير وصل إلى سورة الأنبياء وكمَّله تلميذه الخويي". وقد ذكرت ارتيابي في هذا القول ثم نظري في التفسير نفسه، وسألخص ذلك محيلًا على النسخة المطبوعة بمصر سنة 1278 هـ، وهي في ستة مجلدات، وله نسخة مخطوطة محفوظة بمكتبة الحرم المكي. أولًا: في آخر تفسير البقرة من المخطوطة "حكاية تأريخ المصنف": "وقد تم يوم الخميس في المعسكر المتاخم للقرية المسماة بأرصف، سنة أربع وتسعين وخمسمائة". وفي آخر تفسير آل عمران من المخطوطة: "قال رضي الله عنه: تم تفسير هذه السورة يوم الخميس". ونحوه في المطبوعة، وزاد: "أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة". وهكذا ثبت التأريخ في أكثر السور الآتية إلى آخر سورة الكهف حيث ثبت في النسختين: "قال المصنف رحمه الله: تم تفسير هذه السورة يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر سنة اثنتين وستمائة في بلدة غزنين".
(7/312)
ثم انقطعت السلسلة إلى سورة يس، ثم شرعت من آخر تفسير الصافات حيث وقع هناك في المطبوعة: "تم تفسير هذه السورة ضحوة يوم الجمعة السابع عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وستمائة". ثم استمر التأريخ فيما بعد ذلك من السور إلى آخر تفسير الأحقاف حيث وقع في النسختين: "قال المصنف رضي الله عنه: تم تفسير هذه السورة يوم الأربعاء العشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة". ولم يثبت شيء آخر القتال، ووقع في المطبوعة آخر تفسير سورة الفتح: "قال المصنف رحمه الله تعالى: تم تفسير هذه السورة يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة ... ". كذا وقع مع أن أول ذي الحجة تلك السنة "الجمعة" كما تصرح به تواريخ السور السابقة. وفي "الشذرات" (5/ 10) ما يدل على أن أول شوال تلك السنة كان الاثنين، فإذا تم شوال ثلاثين كان أول ذي القعدة الأربعاء كما تقدم، فإذا تم أيضًا ثلاثين ــ ولا مانع من ذلك ــ كان أول ذي الحجة الجمعة. ثانيًا: وقع في القسم الذي زعم الخفاجي أنه التكملة ــ في مواضع منه ــ نصوص تبين أن تلك المواضع من تصنيف الفخر. فمنها ما هو صريح كقوله في تفسير سورة الأنبياء ــ التفسير (4/ 521): "أما المأخذ الأول فقد تكلمنا فيه في الجملة في كتابنا المسمى بالمحصول في الأصول". وفي تفسير الزمر ــ التفسير (5/ 415): "الثالث: كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول ... ".
(7/313)
وفي تفسير الزمر ــ التفسير (5/ 448): "لنا كتاب مفرد في تنزيه الله ... سميناه تأسيس التقديس". [5/أ] وفي تفسير سورة الحشر ــ التفسير (6/ 275): "اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب المحصول في أصول الفقه". وفي تفسير المدثر ــ التفسير (6/ 404): "والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول من أصول الفقه". وفي تفسير سورة الفجر ــ التفسير (6/ 547): "وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات". وكتاب "المحصول في أصول الفقه"، وكتاب "تأسيس التقديس في العقائد"، وكتاب "لباب الإشارات" ــ ملخص من إشارات ابن سينا ــ ثلاثتها من مصنفات الفخر الرازي المشهورة. وضياء الدين عمر هو والد الفخر الرازي وشيخه. ومنها ما هو دون ذلك كقوله في تفسير سورة الفرقان ــ التفسير (5/ 28): "وفي تحقيقه وبسط كلام دقيق يرجع فيه إلى كتبنا العقلية". وفي تفسير سورة القصص ــ التفسير (5/ 135): "وهذه طريقة ركيكة بينا سقوطها في الكتب الكلامية". وفي تفسير سورة فصلت ــ التفسير (5/ 449): "لأنا قد دللنا في المعقولات .. ". وفي تفسر سورة القيامة ــ التفسير (6/ 415): "بينا في الكتب العقلية ضعف تلك الوجوه فلا حاجة هنا إلى ذكرها".
(7/314)
والذي نسبت إليه التكملة لم تعرف له كتب عقلية وكتب كلامية يتأتَّى منه أن يحيل عليها بمثل هذه الكلمات، وإنما ذلك للفخر الرازي. فأما ما وقع في التفسير (5/ 317) في تفسير سورة يس، وهو من القسم الثالث: "قد ذكرنا الدلائل على جواز الخلاء في الكتب العقلية"، فالصواب كما في المخطوطة: "قد ذكر الدلائل .. ". ومنها ما هو دون ذلك كقوله في تفسير سورة النور ــ التفسير (4/ 620): "فقد بينا في أصول الفقه". ونحوه في تفسير النور أيضًا ــ التفسير (4/ 637)، و (4/ 709) وفي تفسير الفرقان (5/ 21) وسورة النمل (5/ 93). وفي تفسير الدخان ــ التفسير (5/ 583): "وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بيناه في أصول الفقه". وفي تفسير سورة الحديد ــ التفسير (6/ 232): "سمعت والدي رحمه الله ... ". وفي تفسير سورة الحشر ــ التفسير (6/ 275): " ... أن المسلم لا يقتل بالذمي، وقد بينا وجهه في الخلافات". وحمل هذه الإحالات على أنها من كلام الفخر هو الظاهر. ثالثًا: الطريقة التي جرى عليها الرازي في الشطر المقطوع بأنه تصنيفه من هذا التفسير استمرت إلى آخر سورة القصص، ومن ثم خلفتها طريقة أخرى في تفسير العنكبوت وما بعدها إلى آخر سورة يس، يتبين ذلك لمن أنعم النظر في القسمين. وهذه طائفة من وجوه الفرق التي يتيسر بيانها:
(7/315)
الأول: أطال الرازي في أول تفسير البقرة القول في الحروف المقطعة أوائل السور، واختار أنها أسماء للسور، واستمر مقتضى هذا القول في أول آل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر ومريم وطه، وكذا في أول سورة الشعراء والنمل والقصص. [6/أ] فأما أول العنكبوت فابتدأ المفسر بكلام طويل في تثبيت قول جديد حاصله أن الحروف المقطعة إنما أتي بها لتنبيه السامع، قال: "الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة ... يقدم على الكلام المقصود شيئًا غيره ليلتفت المخاطب ... وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتًا غير مفهوم، كمن يصفر خلف إنسان ليتلفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه. فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن، فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفًا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه ... ". ثم قال في إعراب "الم": "قد ذكر تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيد هاهنا أن على ما ذكرنا في الحروف [من أنها للتنبيه] لا إعراب لها [أي الم]، لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة". نقلت هذه العبارة الأخيرة من النسخة المخطوطة، وزدت الكلمات المحجوزة إيضاحًا، والعبارة في المطبوعة مغيرة تغييرًا موهمًا. وواضح أنه لا ينكر إحالة صاحب التكملة على الأصل بنحو "قد تقدم ... "، وجرى أول تفسير سورة الروم على هذا القول الجديد، وأحال على العنكبوت، وسكت
(7/316)
في أول لقمان، واقتصر أول السجدة على قوله: "قد علم ما في قوله: {الم} وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} من سورة البقرة وغيرها"، وقال أول يس: "قد ذكرنا كلامًا كليًّا في حروف التهجي في سورة العنكبوت". الوجه الثاني: لم يعن في القسم الأول ببيان ارتباط السورة بالتي قبلها، وعني به في القسم الثاني ــ العنكبوت ويس وما بينهما. الثالث: يكثر في القسم الأول التعرض للقضايا الكلامية ولو لغير مناسبة يعتد بها، بخلاف القسم الثاني. الرابع: يكثر في القسم الأول النقل عن رؤوس المعتزلة كالأصم والجبائي والقاضي عبد الجبار والكعبي وأبي مسلم الأصفهاني، ويظهر من عدة مواضع أن تفاسيرهم كانت عند الرازي. ولا يوجد ذلك في القسم الثاني. الخامس: يكثر في القسم الأول نقل احتجاجات المعتزلة مشروحة، فربما أجاب عنها، وربما اقتصر على المعارضة، وربما اجتزأ بالإشارة إلى الجواب، وربما سكت. ويندر ذلك في القسم الثاني. السادس: يكثر في القسم الأول الألفاظ الجدلية مثل: سلَّمنا، فلم قلتم، ونحوها؛ بخلاف القسم الثاني. السابع: يكثر في القسمين النقل عن الكشاف، والتزم في الأول: "قال صاحب الكشاف" ونحوه. وفي الثاني غالبًا: "قال الزمخشري" ونحوه. الثامن: يغلب في الأول عند إكمال تفسير الآية وإرادة الشروع في غيرها أن يقال: "قوله تعالى ... "، وفي القسم الثاني: "ثم قال تعالى".
(7/317)
التاسع: يكثر في الأول جدًّا تصدير كل مقصد بقوله: "اعلم"، ويندر ذلك في القسم الثاني. العاشر: يندر في الأول تحري السجع، ويكثر في الثاني. [7/أ] الحادي عشر: يقع في القسم الأول التعرض لما يتعلق بقواعد العربية باعتدال. أما في القسم الثاني فنجد كثيرًا محاولة التعمق في ذلك، والتدقيق والإيغال في التعليل، والإغراب بما لا يوجد في كتب العربية نفسها. الثاني عشر: يقع في الأول التعرض للنكات البلاغية باعتدال، ويكثر ذلك في الثاني. عرفنا أن القسم الأول ــ وهو من أول التفسير إلى آخر سورة القصص ــ جرت فيه الطريقة الأولى، وأن القسم الثاني ــ وهو من أول تفسير العنكبوت إلى آخر تفسير يس ــ جرت فيه الطريقة الثانية، فماذا بعد ذلك؟ عادت الطريقة الأولى من أول تفسير الصافات إلى آخر تفسير الأحقاف، فهذا قسم ثالث. ثم رجعت الطريقة الثانية من أول سورة القتال إلى آخر تفسير الواقعة، فهذا قسم رابع. ثم عادت الطريقة الأولى في تفسير الحديد والمجادلة والحشر فقط، فهذا قسم خامس. ثم رجعت الطريقة الثانية من أول تفسير سورة الممتحنة إلى آخر تفسير سورة التحريم، إلا أنه يتبين فيه الاستعجال وترك التدقيق، ويكاد يقتصر فيه على الأخذ من تفسير الواحدي والكشاف، فهذا قسم سادس. ثم عادت الطريقة الأولى من أول تفسير الملك إلى آخر القرآن، فهذا قسم سابع.
(7/318)
ولا ريب أن القسم الأول من تصنيف الفخر، والطريقة الأولى طريقته، إذن فالقسم الثالث والخامس والسابع من تصنيفه. وهذا مطابق للنصوص المتقدمة تحت قولي: "ثانيًا ... "، فإن تلك النصوص كلها في هذه الأقسام. ومطابق أيضًا للأمر الأول، وهو التواريخ في أواخر تفسير السور؛ فإن السلسلة الأولى في أواخر سور القسم الأول، والسلسلة الثانية هي في أواخر سور القسم الثالث خلا التاريخ الذي في آخر تفسير سورة الفتح، فإن تفسير سورة الفتح من القسم الرابع، لكن ذلك التاريخ مخدوش كما تقدم، ويذفِّف عليه أن تفسير سورة الفتح جارٍ على الطريقة الثانية. قد تضافرت الأدلة على أن القسم الأول والثالث والخامس والسابع من تصنيف الفخر الرازي، وبقي النظر في بقية الأقسام، وهي الثاني والرابع والسادس، ويدل على أنها من تصنيف غيره أمور: الأول: اختلاف الطريقة كما تقدم. الثاني: في التفسير (5/ 182) في تفسير سورة الروم، وهو من القسم الثاني: " فأخبرني الشيخ الورع الحافظ الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بحلب ... ". وعبد الرحمن هذا توفي سنة 623 كما في "الشذرات" وغيرها. وفي التفسير (5/ 255) في تفسير سورة سبأ، وهو من القسم الثاني أيضًا: "أخبرني تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي، قال: أخبرني والدي، عن جدي، عن محيي السنة، عن عبد الواحد المليحي، عن أحمد بن عبد الله النعيمي، عن محمد بن يوسف الفربري، عن محمد بن إسماعيل البخاري ... ".
(7/319)
[8/أ] لم أجد ترجمة لعيسى هذا، والظاهر أنه متأخر عن الفخر، فإن بين الراوي عن عيسى وبين محيي السنة ثلاثة. والفخر ــ كما في ترجمته من "طبقات ابن السبكي" ــ أخذ عن أبيه ضياء الدين، وضياء الدين من أصحاب محيي السنة. وفي التفسير (6/ 18) في تفسير سورة ق، وهو من القسم الرابع: "الظلّام بمعنى الظالم كالتمّار بمعنى التامر ... وهذا وجه جيد مستفاد من الإمام زين الدين أدام الله فوائده". لم يتبين لي من زين الدين هذا؟ وظاهر العبارة أنه كان حيًّا حين التصنيف، وربما كان هو ابن معطي صاحب الألفية، توفى سنة 628 هـ. وفي التفسير (6/ 143) في تفسير سورة القمر، وهو من القسم الرابع أيضًا: "روى الواحدي في تفسيره، قال: سمعت (الصواب: في تفسيره ما سمعته على، كما في المخطوطة) الشيخ رضي الدين المؤيد الطوسي بنيسابور قال: سمعت عبد الجبار، قال: أخبرنا الواحدي، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج .. ". والمؤيد الطوسي محدث توفي سنة 617 هـ. هذا وقد عرفت أن هؤلاء الذين روى عنهم المفسر متأخرون عن الفخر، والفخر ليس براوٍ كما في ترجمته من "طبقات ابن السبكي"، ولم أجد في الأقسام الأربعة التي قامت الأدلة على أنها من تصنيفه تعرضًا للرواية، ولا نقلًا عن عالم من أهل عصره غير والده. والظاهر أن المفسر الراوي عن هؤلاء هو أحمد بن خليل الخويي، فهو صاحب هذه التكملة.
(7/320)
فأما القمولي (1) فمتأخر لم يدرك هؤلاء، وفي ترجمة الخويى من "طبقات ابن السبكي" أنه أدرك المؤيد الطوسي وسمع منه. وفي التفسير (6/ 54) في تفسير الذاريات ــ وهو من القسم الرابع ــ كلام في مسألة اعتقادية، ثم قال: "والاستقصاء مفوض في ذلك إلى المتكلم الأصولي لا إلى المفسر". وهذا لا يشبه كلام الفخر بل فيه تعريض به، وعادة الفخر أن يستقصي أو يحيل على كتبه العقلية أو الكلامية أو يسمي بعضها. وفي التفسير (6/ 147) وهو في تفسير سورة القمر، وهو من القسم الرابع: "سادسها ما قاله فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11]. . . وأخذ هذا المفهوم اللغوي. . . وهو قريب إلى اللغة لكنه بعيد الاستعمال في القرآن". وقع في المخطوطة: "سادسها ما قلنا"، وهو من إصلاح الناسخ بزعمه، والسياق يشهد لما في المطبوعة. والآية التي ذكرها في تفسير فصلت، وفيه المعنى الذي حكاه، وتفسير فصلت من القسم الثالث الذي قامت الأدلة على أنه من تصنيف الفخر الرازي، فهذا مما يؤكد ذلك. وفي التفسير (6/ 196) وهو في تفسير الواقعة، وهو من القسم الرابع أيضًا: " ... وشيء من هذا رأيته في كلام الإمام فخر الدين رحمه الله بعد ما فرغت من كتابه هذا مما وافق خاطري خاطره على أني معترف بأني أصبت منه فوائد لا أحصيها". [9/أ] هكذا في النسختين إلا أنه سقط من المخطوطة _________ (1) في الأصل: "القونوي"، وهو سبق قلم.
(7/321)
قوله: "معترف بأني"، والبحث متعلق بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهي في سورة الشورى، وفي تفسيرها بعض ما ذكره هنا، وتفسير الشورى من القسم الثالث الذي قامت الأدلة على أنه من تصنيف الفخر، فهذا مما يؤيد ذلك. وفي التفسير بعدما تقدم بقليل: "وفيه مسائل. الأولى: أصولية ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها، فالأولى: قالت المعتزلة ... وقد أجاب الإمام فخر الدين رحمه الله بأجوبة كثيرة، وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه". هكذا في المطبوعة، ووقع في المخطوطة: "وفيه مسائل أصولية. المسألة الأولى: قالت المعتزلة ... وقد أجاب عنه الإمام فخر الدين الرازي بأجوبة كثيرة وأظن أنه لم يذكر ما أقول فيه". الأمر الثالث: الإحالات، أعني قوله: "قد ذكرنا في ... " ونحوه، وأرى أن أبسط القول في الإحالات بوجه عام. وقعت الإحالات في جميع الأقسام خلا السادس، وذلك من أثر الاستعجال فيه كما سبق. ولا تنكر الإحالة في قسم على ما تقدم منه، أو من قسم آخر لمصنفه، ولا الإحالة في التكملة على الأصل بلفظ "قد تقدم" ونحوه. وإنما الذي يستنكر ضربان مشككان: الأول: الإحالة في التكملة على الأصل بلفظ "قد ذكرنا" ونحوه؛ إذ يقال: كيف ينسب إلى نفسه ما هو من كلام غيره؟ الضرب الثاني: الإحالة فيما هو من الأصل على ما هو من التكملة؛ إذ يقال: كيف يحال على ما لم يوجد بعد بلفظ يفيد أنه قد وجد؟
(7/322)
فأما الضرب الأول فاصطدمت أولًا بعدد من تلك الإحالات في القسم الثاني، فراعني قوله في موضعين أو أكثر من أوائل تفسير العنكبوت: "قد ذكرنا مرارًا" ونحو هذا؛ فإن الدلائل تقضي بأن ما قبل العنكبوت كله من تصنيف الرازي، وأن تفسير العنكبوت من التكملة، وإحالات أخرى في ذاك القسم أعني الثاني على تفسير البقرة وغيرها من سور القسم الأول. حيرني ذلك أولًا لقوَّة جزمي بأن مصنف تفسير العنكبوت غير مفسر ما قبلها، فذهبت أتلمَّس الاحتمالات، وكان أقربها أن صاحب التكملة رأى أنه وصاحب الأصل شريكان في الجملة في هذا التفسير، وأنه يسوغ أن يُنسب فعل أحد الشريكين إليهما، فهو يقول: "ذكرنا" يريد: ذكر مصنف الأصل. ثم بدا لي أن أتتبع المواضع المحال عليها، وأنظر أيوجد فيها المعاني المحال بها عليها أم لا؟ فإذا بي أخلص من إشكال وأقع في آخر. ففي التفسير (5/ 201): "وذكرنا في تفسير الأنفال في أوائلها أن الصلاة ترك التشبه بالسيد .. ". وفيه (5/ 220): "المسألة الرابعة: لِمَ قدم السمع هنا والقلب في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] ... وقد ذكرنا هناك ما هو السبب في تأخير الأبصار ... وهو أن القلب والسمع سلب قوتهما بالطبع ... ". وليس لما أحال به في هاتين الإحالتين وجود في الموضعين المحال عليهما، وهاتان في القسم الثاني. وفيه إحالات أخرى يوجد في المواضع المحال عليها فيها طرف من المعنى المحال به فقط.
(7/323)
وهذه أمثلة من القسم الرابع: [10/أ] في التفسير (6/ 22) في تفسير سورة "ق": "ذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا: قال: بسم الله الرحمن الرحيم إشارة إلى كونه رحمانًا (1) في الدنيا حيث خلقنا، رحيمًا في الدنيا حيث رزقنا رحمة، ثم قال مرة [أخرى] (2) بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي هو رحمان مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانيًا. واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي بخلقنا ثانيًا، ورحيم برزقنا، ويكون هو المالك في ذلك اليوم إذا علمت هذا ... ". وليس في تفسير الفاتحة أثر لهذا الكلام بلفظه، ولا بمعناه. وفي التفسير (6/ 30) في تفسير الذاريات: "المسألة الأولى: قد ذكرنا الحكمة في القسم من المسائل الشريفة والمطالب العظيمة في سورة والصافات، ونعيدها هاهنا، وفيها وجوه: الأول ... واستوفينا الكلام في سورة الصافات". ساق كلامًا طويلًا ليس له أثر في تفسير الصافات، وإنما يوجد بعضه في تفسير يس. هذا وتفسير الصافات من القسم الثالث، وهو من تصنيف الرازي، فأما تفسير يس فمن القسم الثاني، وهو من تصنيف مصنف الرابع. وفي التفسير (6/ 72) في تفسير الطور: "المسألة الرابعة: هذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرًا ما، وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي _________ (1) كذا في الأصل و"تفسير الرازي". (2) زيادة من "تفسير الرازي".
(7/324)
الْقُرْبَى} [الشورى: 23] المراد من قوله: "إلا المودة في القربى" هو أني لا أسألكم عليه أجرًا يعود إلى الدنيا، وإنما أجري المحبة في الزلفى إلى الله تعالى ... وقد ذكرناه هناك". يعني في تفسير الشورى، وتفسير الشورى من القسم الثالث، وليس فيه هذا الذي قال. وفي التفسير (6/ 76) في تفسير الطور أيضًا: "ويكون مستثنًى منهم كما قال تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، وقد ذكرنا هناك أن من اعترف بالحق، وعلم أن الحساب كائن، فإذا وقعت الصيحة يكون كمن يعلم أن الرعد يرعد ويستعد لسماعه، ومن لا يعلم يكون كالغافل ... ". وآية "فصعق ... " في سورة فصلت، وهي من القسم الثالث، وليس في تفسيرها ما أحال به عليه. نعم يوجد نحوه في تفسير سورة "ق"، وهو من القسم الرابع. وبقيت إحالات من هذا القبيل لا أرى ضرورة لاستيفائها. في هذا دلالة بينة على أن لهذه السُّوَر المحال عليها سوى تفسيرها هذا تفسيرًا آخر عليه وقعت الإحالة، والظاهر أنه من تصنيف المحيل نفسه، فيصح قوله: "ذكرنا" ونحوه على ظاهره، فانحل الإشكال، وصح أن مصنف القسم الثاني والرابع والسادس غير مصنف بقية الأقسام. لكن نشأ إشكال جديد هذا حلُّه: قد مر ما يدل على أن مصنف القسم الثاني والرابع والسادس هو الخويي، والمعروف كما سبق أن للخويي تكملة على تفسير الفخر، فكأن تكملة الخويي عبارة عن كتاب يتضمن تعليقًا على السور التي فسرها الفخر
(7/325)
وتفسيرًا تامَّا للسور التي لم يفسرها الفخر، فهو يحيل في التفسير على التعليق لأنهما كتاب واحد. ويشهد لهذا فقدان خطبته لأنها كانت أول الكتاب، ويليها التعليق على القسم الأول، فعمد من بعده إلى تفسيره للسور التي لم يفسرها الفخر، فاقتطعه من التكملة، ووصل به تفسير الفخر، وأهمل التعليق، فذهبت الخطبة معه. [11/أ] الضرب الثاني من الإحالات المشككة ما وقع فيما تبين لنا أنه من تصنيف الرازي على تفسير سور تبين لنا أن تفسيرها في هذا الكتاب من تصنيف غيره. ففي القسم الثالث إحالة واحدة من هذا الضرب، مع أن فيه من الإحالات غير المشككة زهاء سبعين، وهذه الواحدة هي ما في التفسير (5/ 602): "تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان". وفي القسم الخامس منها واحدة، وهي ما في التفسير (6/ 233) بعد ذكر آية: "وهو مفسَّر في سبأ". وفي السابع منها عشر إحالات. وأكثر هذه الإحالات مجمل كما رأيت، فلا يمكن أن نستفيد شيئًا من مقابلة الإحالتين السابقتين على تفسير تينك الآيتين في العنكبوت ولقمان وسبأ من هذا التفسير. بلى وجدت إحالتين من العشر الأخيرة أفادت مقابلتهما!
(7/326)
فالأولى في التفسير (6/ 330) في سورة " ن ". قال: "المسألة الثانية: القراء مختلفون في إظهار النون وإخفائها من قوله: {ن وَالْقَلَمِ} ... وقد ذكرنا هذا في (طس) و (يس) ". وتفسير (يس) من القسم الثاني، وليس فيه تعرض لهذه المسألة. وكذلك لا ذكر لها في (طس) مع أنها من القسم الأول، ولعله يأتي النظر في هذا. الإحالة الثانية في التفسير (6/ 586) في تفسير (اقرأ): "قد مر تفسير النادي عند قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] ". وهذه الآية في سورة العنكبوت، وهي في هذا التفسير (5/ 155) وليس ثمة تفسير للنادي. فهذا يدلك أن هذه الإحالات ليست على هذا التفسير الذي بأيدينا. ويؤكد ذلك أن في تفسير القيامة إحالتين على تفسير الواقعة مع أنه قد تقدم في النصوص النص القاطع على أن تفسير الواقعة لغير الرازي، والنص الواضح على أن تفسير القيامة من تصنيفه، عدا الأدلة الأخرى التي تقضي بذلك. فاتضح أن هذه الإحالات لا تخدش فيما قضت به الأدلة من أن القسم الأول والثالث والخامس والسابع من تصنيف الرازي، وأن القسم الثاني والرابع والسادس من تصنيف غيره بل تؤكد ذلك. وهناك احتمالان: الأول: أن يكون الفخر صنف التفسير كاملًا، ولكن فقدت منه قطع هي التي أكملها الخويي وغيره. الثاني: أن لا يكون فسر تلك السور أصلًا، أعني التي اشتمل عليها القسم الثاني والرابع والسادس.
(7/327)
قد يستدل للأول بأمرين: الأول: الإحالات التي مر ذكرها قريبًا. الثاني: أن العادة على العموم أن يبدأ المفسر من أول القرآن ثم يجري على الترتيب، وأي سبب يحمل الرازي على أن يطفِر، ثم يطفر، ثم يطفر؟ ويستدل للثاني بأمور: الأول: أن الظاهر أنه لو فقد شيء من تفسير الرازي لنقل ذلك. الثاني: أن ابن أبي أصيبعة تلميذ الخويي ذكر تفسير الرازي، وأنه في اثنتي عشرة مجلدة بخطه الدقيق، ولم يذكر فقد شيء منه، وذكر تكملة الخويي. الثالث: أن ابن خلكان مع سعة اطلاعه وتحريه وتثبته ذكر أن الرازي لم يكمل تفسيره. [12/أ] أما الإحالات السابقة ففيها قرائن توهي دلالتها على أن الرازي قد كان فرغ من تفسير جميع السور التي بما قبلها. القرينة الأولى: قلة تلك الإحالات. القرينة الثانية: أن عبارته في أكثرها قريبة الاحتمال لأن يكون إنما أحال على ما عزم عليه، لا على ما قد فرغ منه. وذلك كقوله: "مفسر في سورة سبأ"، "مفسرة في سورة الطور"، "مفسرة في آخر سورة الطور"، "مفسر في سورة النجم". وقوله في بعضها: "قد ذكرنا" ونحوه يحتمل التجوُّز بأن يكون نزَّل
(7/328)
المعزوم عليه منزلة ما قد وقع. وهوَّن عليه ذلك أن تلك السور التي يحيل على تفسيرها متقدمة في ترتيب القرآن، ويرى أنه إذا فسرها بعد ذلك سيكون تفسيره لها متقدمًا في الترتيب على موضع الإحالة، فاستثقل أن يكون في كتابه إحالة على ما تقدم فيه بلفظ "سيأتي" ونحوه. فأما الاستدلال بالعادة واستبعاد الطفر، فيخفف من قوتها أننا نجد في تفسير الرازي إحالات عديدة على تفسير سور مستقبلة بألفاظ صارخة بأنه قد فسرها قبل ذلك. ففي نفس الآية السابعة من سورة البقرة ــ التفسير (1/ 192): "المسألة الثامنة: واستقصينا في بيانه ... في سورة الشعراء". وفي تفسير الآية السادسة من المائدة ــ التفسير (2/ 592): "وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} فليرجع إليه". والآية في سورة البينة. وفي تفسير الآية 54 من الأعراف ــ التفسير (3/ 236): "وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه، فلا نعيده هنا". عثرت على هذه الأمثلة عثورًا، فإني لم أتصفح الشطر الأول من التفسير، ولعلك إن تتبعت تجد فيه كثيرًا من هذا الضرب. وفي التفسير (5/ 340) في تفسير الصافات: "ولعلنا قد شرحنا هذا الكلام في تفسير {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ". ثم قال في صفحة 341: "الاستقصاء فيه مذكور في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ". ثم قال ص 342: "إذا
(7/329)
أضيف ما كتبناه هاهنا إلى ما كتبناه في سورة الملك ... ". وفي التفسير (5/ 521): "يؤكد هذا أنا بيَّنا في تفسير {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ... }. وفي مواضع من القسم السابع إحالات على مواضع أخرى منه، منها من هذا القبيل: قوله في تفسير سورة تبارك (الملك): "ونظير هذه الآية قوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} وقد تقدم الكلام فيه". وهذا في سورة "ن". وقوله في تفسير المعارج: "فقد قررنا هذه المسألة في تفسير قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} ". وهذه في سورة النبأ. وإحالة مجملة، وهي قوله في آخر تفسير الحاقة: "وأما تفسير قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فمذكور في أول {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ". وإحالتان على المتأخر على أنه مستقبل: ففي تفسير الحاقة: "سنذكره في أول سورة القيامة". وفي "التين" بعد الإشارة إلى قصة الفيل: "على ما يأتيك شرحه". وعدة إحالات على المتقدم منه بلفظ: "قد تقدم" ونحوه. ففي المعارج على الملك، وفي المدثر و"هل أتى" على المزمل، وفي التكوير والمطففين والانشقاق على القيامة، وفي المطففين على "هل أتى"، وفي البروج على التكوير، وفي البلد على الجن، وفي العاديات على الانفطار وعلى الغاشية، وفي القارعة على المعارج [13/أ] وعلى الحاقة، وفي التكاثر على الضحى.
(7/330)
وفيه إحالات عديدة على بعض سور القسم الأول: الفاتحة والبقرة والأنعام والأعراف والتوبة والكهف وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والفرقان وطس (النمل). وهذه الأخيرة قد تقدم ذكرها في أوائل"الضرب الثاني من الإحالات المشككة"، وأنه لا يوجد في تفسير طس من هذا الكتاب المعنى المحال به عليه. وبهذا وغيره يتبين أن إحالته على تفسير سورة متقدمة في الترتيب بلفظ "قد تقدم" ونحوه لا يتم دليلًا على أنه عند كتابة الإحالة قد كان فسر تلك السورة المتقدمة، بل يحتمل أنه لم يكن فسرها، وإنما كان عازمًا على تفسيرها فيما بعد، فتجوَّز. ثم من المحتمل أن يكون فسرها بعد ذلك كما في هذا الموضع، وأن يكون مات قبل أن يفسرها كما هو الظاهر في سور القسم الثاني والرابع والسادس على ما تقدم. وفيه إحالة على الزمر وأخرى على الأحقاف، وهما من سور القسم الثالث. هذا، ومقصودي إثبات أن جري الفخر غير المعتاد واقع في الجملة. فأما كيف؟ ولماذا؟ فأدعه لمن يهمّه. ملخص الجواب عن السؤال الثاني (1): الأصل من هذا الكتاب، وهو القدر الذي هو من تصنيف الفخر الرازي، هو: من أول الكتاب إلى آخر تفسير سورة القصص، ثم من أول تفسير الصافات إلى آخر تفسير سورة الأحقاف، ثم تفسير سورة الحديد والمجادلة _________ (1) كذا في الأصل وهو سهو، والمقصود: الثالث.
(7/331)
والحشر، ثم من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب. وما عدا ذلك فهو من تصنيف أحمد بن خليل الخويي، وهو بعض التكملة المنسوبة إليه؛ فإن تكملته تشمل زيادة على ما ذكر تعليقًا على الأصل. هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
(7/332)
الرسالة السابعة عشرة فوائد من تفسير الرازي مع التعليق على بعضها
(7/333)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * [ص 38] الرازي في تفسير سورة النبأ من تفسيره (6/ 456): "واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل" (1). * وفيه (6/ 493) في سورة الانفطار أورد شُبَهًا على الحكمة في وجود الملكين الكاتبين، وفي الحكمة في كتابة الأعمال، وأجاب عنها كالمعذر. ومن الحكمة في الكتابة أمور: الأول: أن يعلم المكلف بذلك، فيتحرَّز؛ لأنه إذا ظن أنه لا يراه أحد من الخلق، وإنما يراه الله تبارك وتعالى وحده، فقد يقول: إن الله تعالى يحب الستر، ولذلك رغَّبَنا فيه، فهو سبحانه أكرم من أن يكون منه ما يخالف الستر، ومن ذلك أن يعاقبني على ذنب لم يطلع عليه إلا هو عز وجل. الثاني: أن الإنسان وإن كان مؤمنًا بعلم الله عز وجل، فقد يغفل عن استحضار ذلك، فإذا علم أن معه كاتبين ملازمين له كان هذا مما يساعد على تنبيهه. الثالث: أن الله عز وجل خلق الملائكة لعبادته، وشرع لهم أعمالًا يطيعونه فيها، فيكون ذلك عبادة لهم. فحَمَلة العرش ــ مثلًا ــ إنما يحملونه بقدرة الله عز وجل، ولو شاء الله ثبت العرش بدون حَمَلة، فعلم من ذلك أنه إنما كلفهم بذلك ليكون عبادة يعبدون بها ربهم تعالى، وكفى بذلك حكمة، _________ (1) يعني دلالة قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29] على كونه عز وجل عالمًا بالجزئيات.
(7/335)
فكذلك يأتي في الكاتبين. * [ص 39] تفسير الرازي (6/ 400): "لما نزل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] قال أبو جهل ... وقال أبو الأشدّ ... قال المسلمون: ويحكم لا تقاس الملائكة بالحدادين! " ثم قال: "والحداد: السَّجَّان" (1). (400) "لما كان العالم محدَثًا، والإله قديمًا، فقد تأخر العالم عن الصانع بتقدير مدة غير متناهية ... ". في هذا أن التقدم زماني، فينظر مع كلامه في تفسير {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ .. } [الحديد: 3] (2). * قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31]. ذكروا فيها وجهين، وفي كل منهما نظر، ولاح لي وجه أحسبه لا يكون دونهما، إن لم يكن أحسن منهما. وهو أن يحمل قوله: {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} على جميع الناس الذين بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ما منهم [إلا] من تلبس بكفر. فكأنه قيل: للذين سبق منهم كفر، فيعم ذلك من بقي على كفره، ومن آمن بلسانه، ومن آمن حقًّا. وعلى هذا فقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ .. } على ظاهره، تعليل _________ (1) وقد جرى قول المسلمين هذا مثلًا، انظره بلفظ "نقيس الملائكة إلى الحدّادين! " في "مجمع الأمثال" للميداني (1/ 238)، وانظر "اللسان" (حدد 3/ 142). (2) انظر تفسير سورة الحديد (3) في "تفسير الرازي" (29/ 210 - 212).
(7/336)
للفتنة بتلك العدّة، والفتنة هي الاختبار. ففتنة أهل الكتاب من جهة أن هذا أمرٌ يعرفون أنه حق، وبذلك يتبين من منهم في قلبه خير وحب للحق من غيره، وذلك بأن يؤمن الأول، ويعاند الثاني. وقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا ... } أي آمنوا إيمانًا حقًّا. وقوله: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... } أي الذين أظهروا الإيمان، ولم يَحُقُّوه. * [ص 40] وفي تفسير الرازي بحث طويل في سورة الجن، فيه ردّ القول بأن الأجسام متماثلة. * في تفسير الفجر في بحث النفس: "وقال آخرون: هو جوهر جسماني ... مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية". * وفي تفسير: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} بيان أن أولئك الأفواج (1) قال: "مع أنَّا نعلم قطعًا أنهم ما كانوا يعرفون (2) حدوث الأجساد بالدليل، ولا إثبات كونه تعالى منزهًا عن الجسمية والمكان والحيز ... والعلم عند الله بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري ... فإما أن يقال: إن أولئك الأعراب كانوا عالمين بجميع مقدمات دلائل هذه المسائل بحيث ما شذَّ عنهم من تلك المقدمات واحدة، وذلك مكابرة؛ أو ما كانوا كذلك، وحينئذٍ ثبت أنهم كانوا مقلدين". _________ (1) كذا في الأصل. ولعل المقصود: بيان إيمان أولئك الأفواج. (2) في الطبعة التي بين يديّ (32/ 156): "ثم إنّا نعلم ... كانوا عالمين".
(7/337)
* في تفسير سورة الملك من تفسير الرازي في الكلام على قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] قال أبو مسلم [الأصفهاني]: كانت العرب مقرين بوجود الإله، لكنهم كانوا يعتقدون أنه في السماء، على وفق قول المشبهة، فكأنه تعالى قال لهم: أتأمنون مَنْ قد أقررتم بأنه في السماء، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء، أن يخسف بكم الأرض". * استعمال الفخر الرازي مثل: "بعد خراب البصرة" (تفسيره 6/ 337) في تفسير المعارج (1). * وفي تفسيره (6/ 362) بعد أن حكى في قوله تعالى: {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] أن الرجاء بمعنى الخوف قال: عندي غير جائز؛ لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة. فلو قلنا: إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف، لكان ذلك مرجحًا للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية المنقولة بالتواتر، وهذا يفضي إلى القدح في القرآن؛ فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتًا، وإثباته نفيًا بهذا الطريق". يظهر لي أن "الوقار" هنا بمعنى التوقير، أي التعظيم، والمقصود: ما لكم لا ترجون ثواب تعظيم الله عز وجل (2). وذلك أنهم لو رجوا ثوابه لما أهملوه، فإهمالهم دليل عدم رجائهم. _________ (1) كذا في الأصل، والصواب: في تفسير سورة القلم، الآية (29). انظر "تفسير الرازي" (30/ 90). والرازي صادر عن "الكشاف" (4/ 590). (2) وهو قول ابن كيسان. انظر: "تفسير البغوي" (4/ 476).
(7/338)