عمارة القبور في الإسلام
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- مقدمة التحقيق
- التعريف بالكتاب في نسختيه
- [ص 3] المقدمة
- [ص 13] الفصل الأول فيما ثبت في كيفية القبر المشروعة
- [ص 23] الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة
- [الأحاديث والآثار الواردة في مسألة البناء على القبر]
- [ص 94] الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة
- [ص 100] الزيادة على القبر
- الخاتمة (1)
عمارة القبور في الإسلام
تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (1313 - 1386 هـ) رحمه الله تعالى تحقيق علي بن محمد العمران
(مقدمة 5/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فهذه رسالة محررة من مؤلفات الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى في مسألة من مسائل الفقه من حيثُ أصلُها، ولها تعلُّق بالعقيدة من حيث نتائجُها وما تفضي إليه، وهي مسألة البناء على القبور وحكمها في الإسلام؛ فحرّر القولَ فيها على طريقة الاجتهاد؛ من ذكر النصوص في المسألة، ثم النظر فيها ثبوتًا ودلالةً، على نحوٍ لم يسبقه إليه أحد ممن تكلم في المسألة، على عادة المصنف رحمه الله في التحقيق والتحرير. وقد كُتب في هذه المسألة عدة مصنفات، وذكر المؤلف في مقدمة رسالته هذه أنه اطلع على بعض ما أُلف في هذه المسألة، فأراد هو أن ينظر فيها نظرَ متحرٍّ للحق بدليله من الكتاب والسنة. فكان ذلك ولله الحمد. * فمِن المصنفات في المسألة على نهج أهل السنة ما يلي: 1 - رسالة في أن ما يوضع على القبور باطل، لنوح الرومي (ت 1070 هـ)، مخطوط في دار الكتب المصرية (1). _________ (1) انظر "معجم الموضوعات المطروقة": (2/ 955).
(مقدمة 5/5)
2 - شرح الصدور في تحريم رفع القبور، للشوكاني (ت 1250 هـ). وهي رسالة صغيرة لا تزيد على ست عشرة صفحة. وقد اطلع عليها المؤلف ونقل منها في مسوّداته لهذا الكتاب، انظر مجموع رقم (4717) في مكتبة الحرم المكي ص 57. لكنه لم ينقل منه في هاتين النسختين (المبيضة والمسوّدة) اللتين بين يديك. 3 - العِلْم المأثور والعَلَم المشهور واللواء المنشور في بدع القبور (1). 4 - كتاب القاضي العدل في حكم البناء على القبور، كلاهما لتقي الدين محمد بن عبد القادر الهلالي (ت 1407 هـ). وهذا الأخير طبع سنة 1346 هـ. وكان قد نُشر قبل ذلك في السنة نفسها في "مجلة المنار"، ثم أعيد طبعه سنة 1430 هـ بتحقيق د. صادق بن سليم. وهو رد على القزويني الرافضي. * ومن المصنفات على طريقة أهل البدع: 5 - البيت المعمور في عمارة القبور، لعلي النقوي اللكهنوي الرافضي (ت 1408 هـ). وقد طبع في الهند سنة 1345 هـ (2). وهو ردّ على الوهّابية كما ذكر مؤلفه (3)! _________ (1) ونُشرت هذه الرسالة أولًا في "مجلة الهدي النبوي" مجلد 30 الأعداد 3 - 5، 7 - 10 عام 1385 هـ بعنوان "العلم المأثور والعَلَم المنصور واللواء المنشور في الرد على أهل الغرور المستنجدين بالمقبور". (2) انظر "معجم المطبوعات العربية في شبه القارة الهندية" (ص 317 - 318). (3) انظر ترجمته لنفسه المنشورة في مجلة ينابيع عدد 32 لعام 1430 هـ.
(مقدمة 5/6)
6 - إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء القباب على القبور، لأحمد بن الصديق الغماري (ت 1381 هـ). ولا أدري هل اطلع المصنف على هاتين الرسالتين؟ 7 - الردّ على الوهابية، لحسن صدر الدين الكاظمي الرافضي (ت 1354 هـ). وهذه الرسالة طبعت سنة 1345 هـ. وهي لا تختصّ بمسألة البناء على القبور، بل معها جملة من المسائل في التوحيد والتوسل والشفاعة. وهذه الرسالة هي التي تعرّض المصنف لها بالنقد في عدّة مواضع من الكتاب، وسمّى مؤلِّفَها صراحةً، كما سيأتي في مبحث سبب تأليف الكتاب. * * * * ورسالتنا هذه كتبها المؤلّف عدة مرات في عدة نسخ، وقفتُ منها على ثلاث (سيأتي وصفها ص 22 - 24)، مع تقييدات أخرى متفرقة في المجاميع تتعلق بالموضوع، لكن ليست فيها نسخة مبيّضة نهائيّة، فكلها مسوّدات يكثر فيها الضرب والشطب والإلحاق والبياضات ... ، لكن أكملها وأمثلها ترتيبًا هي التي أطلقتُ عليها (المبيضة)، وسميت النسخة الأخرى (المسوّدة). وأوضحت في مبحث مستقل (انظر ص 20 - 22) الفروق بينهما ودواعي نشر النسختين معًا، ولماذا لم نكتف بما اعتبرناه (المبيّضة). وقد قدّمتُ بين يدي هذه الرسالة في نسختيها عددًا من المباحث لمزيد التعريف بها، وهي: - أولًا: اسم الكتاب. - ثانيًا: ثبوت نسبته للمؤلف وتاريخ تأليفه.
(مقدمة 5/7)
- ثالثًا: سبب تأليفه. -رابعًا: عرض موضوعات الكتاب في نسختيه. - خامسًا: بين المسوّدة والمبيضة، ودواعي طبعهما. - سادسًا: وصف النسخ الخطية. - سابعًا: منهج التحقيق. وختمته بالفهارس المتنوّعة، اللفظية والعلمية. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب في 23 ربيع الأول 1432 هـ [email protected]
(مقدمة 5/8)
التعريف بالكتاب في نسختيه
* أولًا: اسم الكتاب: ترك المصنف عدة نسخ من هذه الرسالة (كما سيأتي الكلام عليها) ليس على شيء منها اسمٌ لا على صفحة العنوان ولا في مقدمة الكتاب. لكن وجدت المؤلف قد ذكر اسم الكتاب صريحًا في مسوّدة الكتاب ضمن المجموع رقم (4717) إذ قال في ص 4 ما نصّه: "يلحق برسالة عمارة القبور في الإسلام". فهذا هو الاسم الكامل الذي وجدناه للكتاب. ويؤيده ولا يناقضه أن المؤلف قد ذكره في كتابه الكبير "العبادة" في موضعين، وسماه هناك (عمارة القبور). قال في الموضع الأول: "وقد بسطنا الكلام على ذلك في رسالتنا (عمارة القبور) " (1). وفي الثاني: "وقد عَثَرْتُ له على عِلَّةٍ قادحةٍ بيَّنتُها في رسالَتي (عمارة القبور) " (2). وعدم ذكر عبارة "في الإسلام" لا يعدو أن يكون اختصارًا أو تخفيفًا كما جرت العادة بذلك. وهذه التسمية لا نجزم أنها التسمية العَلَمية للكتاب، ولا أنها التي استقرّ المصنف على إطلاقها على كتابه؛ لأنه من عادة المؤلف أن يختار عنوانات مسجوعة لكتبه كما ذكرتُ في موضع آخر، ولأنه عادةً ما يُتسامح في تسمية الكتب إذا جاءت في غير صفحة العنوان أو مقدّمة المؤلف، فتُذكر بموضوع الرسالة أو يُختصر العنوان أو يُتصرّف فيه. ومهما يكن من أمر فإن ذِكر المؤلف له بهذا العنوان في ثلاثة مواضع قد قرّب لنا تسمية هذه الرسالة. _________ (1) (ص 729). (2) (ص 815).
(مقدمة 5/9)
* ثانيًا: ثبوت نسبته للمؤلف وتاريخ تأليفه: الكتاب ثابت النسبة لمؤلفه، فهو بخط مصنّفه المعروف في كل نسخه التي وُجدت، وهي نسخ (كما سيأتي وصفها) مسوّدة كثيرة الضرب والتعديل، وهذه لا تكون إلا من صنيع مؤلف الكتاب أو الرسالة كما هو معروف. ومما يدلّ على ثبوت الكتاب له أنه قد ذكره في كتابه الكبير "العبادة" في موضعين (ص 729، 815) قال في الموضع الأول: "وقد بسطنا الكلام على ذلك في رسالتنا (عمارة القبور) "، وقال في الثاني: "وقد عَثَرْتُ له على عِلَّةٍ قادحةٍ بيَّنتُها في رسالَتي (عمارة القبور) ". ولكن يُشكل على هذا أننا لم نجد هذين البحثين في الكتاب، ولعلهما في أوراق لم نعثر عليها. ثم هو جارٍ على طريقة الشيخ المعهودة في عرض المسائل والاستدلال عليها، والتمكّنُ في الكلام على الحديث والعلل والرجال ظاهر في الرسالة. أما وقت تأليفها، فلم يظهر بالتحديد وقت تأليفها لكني أميل إلى أنه ألّفها بعد مَقدمه إلى مكة المكرمة بعد سنة 1371 هـ، وذلك أن المؤلف تعرّض في ردّ الشبهات إلى ما أورده حَسَنٌ الصدر في رسالته "الرد على الوهابية" وسمى مؤلفها في (المبيّضة ص 126). أما في (المسوّدة ص 58) فلم يذكره صراحة، لكنه ذَكَر أن بعض المتطرّفين الجهّال الذين يستحبّون البناء على القبور ... وأنه إذا أنكر عليهم أحدٌ قالوا: "وهّابي" ... وظني أن قضية الوهابية والنبز بها إنما برزت عند الشيخ ولمسها لمّا جاء إلى مكة، فالله أعلم.
(مقدمة 5/10)
* ثالثًا: سبب تأليفه: بين المؤلف سبب تأليفه لرسالته هذه فقال في مقدمتها: "فإني اطلعت على بعض الرسائل التي ألفت في هذه الأيام في شأن البناء على القبور، وسمعت بما جرى في هذه المسألة من النزاع، فأردتُ أن أنظر فيها نظرَ طالبٍ للحق، متحرٍّ للصواب، عملًا بقول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} " (1). ولم يسمّ المصنف هذه الكتب المؤلفة في هذه المسألة، لكنه ذكر واحدًا منها في أثناء كتابه، وهو كتاب "الرد على الوهابية" لحسن صدر الدين الكاظمي الرافضي (ت 1354 هـ)، فذكره صراحة في موضع واحد، فبعد أن ذكر رواية موضوعة أوردها هذا الرافضي قال: "من أراد الاطلاع على تلك الرواية، فلينظرها في رسالة حسن صدر الدين الكاظمي" (2). وكان المؤلف قد ذكرها باسمها "الرد ... " إلا أنه ضرب عليه. وذكر المؤلف كلام الصدر الرافضي في مواضع أخرى من الكتاب وردّ عليه، فإياه عنى بقوله (ص 62): "وزعم بعض الجهال أن الحديث مضطرب". وإياه عنى بقوله: "وقد قال قائل ... " فذكر قوله ثم قال: "والجواب: أن هذا كذب من ثلاثة أوجه"، وكذلك عناه (ص 124) حين قال: "وقال آخر" ثم ردّ عليه. فهذه أربعة مواضع من المبيّضة رد فيها على _________ (1) (ص 3 - المبيضة) وبنحوه في المسوّدة. (2) (ص 126 - المبيضة).
(مقدمة 5/11)
ذاك الرافضي. وفي الرسالة مواضع أخر يظهر منها تعرّض الشيخ لبعض الشُّبَه التي أثارها الصدر في كتابه. أما النسخة الأخرى (المسوّدة ص 58 - 59) فقد ذكر بعض شُبه الصدر وأنها شُبَه الغلاة الجهال الذين يَصِمون كلّ مَن خالفهم بأنه "وهّابي"! ثم ردّ عليه. ورسالة الصدر هذه ناقش فيها أهل السنة (ويسميهم الوهابية) في مسائل من توحيد العبادة، وزيارة القبور والبناء عليها والتبرك بها والدعاء عندها، وطلب الشفاعة، وإيقاد السُّرج، والذبائح والنذور عندها. ورأى جواز ذلك كله بل استحبابه! مستدلًّا في كثير من المسائل بمراجع أهل السنة وأحاديثهم زيادة في التلبيس والتضليل! ولأجل هذا التلبيس المتعمّد ــ فيما يظهر ــ خصّه الشيخ بالذكر والتعقّب. * رابعًا: عرض موضوعات الكتاب في نسختيه: 1 - موضوعات المبيّضة: بدأ المؤلف ببيان سبب تأليفه للكتاب، وأنه اطلع على بعض الرسائل المؤلفة في مسألة البناء على القبور، وعَلِم ما في المسألة من نزاع، فأراد أن يجتهد فيها طالبًا للحق، متحرّيًا للصواب بحسب الأدلة من الكتاب والسنة. ثم ذكر أن رسالته مكونة من مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. بدأ بالمقدمة (ص 4 ــ 15) وقد استغرقت اثنتي عشرة صفحة، وتطرق فيها إلى قضيتين: الأولى: كمال الدين، وأنه لا هدي إلا هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، واستدل على ذلك بآيتين وحديثين، ذكرهما في صدر الكلام، ثم تكلم على وجه الاستدلال منها واحدًا واحدًا.
(مقدمة 5/12)
الثانية: أن الأصل في الأشياء التي خلقها الله الإباحة ولا تنتقل عن هذا الأصل إلا بدليل، وأن أمور الدين توقيفية ليس لأحد أن يتدين بشيء إلا إذا ثبت بالكتاب أو السنة. واستدل على ذلك أيضًا بآيتين وحديثين، ذكرهما ثم ذكر وجه الاستدلال منهما، وهذه قاعدة كلية في المقاصد. ثم خَلَص إلى القول في الوسائل وأنها على نوعين: وسيلة لا يمكن أن يؤدَّى المقصَد إلا بها، ووسيلة يمكن أن يؤدَّى بها وبغيرها. ثم نظر المؤلف في النوع الثاني، وجعله ثلاثة أقسام: 1 ــ إن كان للوسيلة مزية دينية لا توجد في غيرها= كان لها حكم المقصد، وضَرَبَ مثالاً عليها. 2 ــ إن لم يكن لها مزية دينية، وإنما اختيرت اتفاقًا= فلا مزية لها على غيرها. 3 ــ إن لم يترجح أحد الجانبين فمحلّ نظر. فإن تعدّدت الوسائل انطبقتْ عليها الأقسام الثلاثة. ثم ذكر مثالًا وهو جمع المصحف وتكييف مشروعيته، ومن أي الوسائل هو؟ وأطال وأطاب، ثم ذكر باقي ما يَستدلّ به مَن يرى جواز بعض البدع وخرّجه على نظرية الوسائل السابقة. ثم بيَّن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سنَّ سنَّة حسنة" وأن المراد بالحُسن الحُسن الشرعي الذي يُعلَم بالكتاب والسنة, وخَلَص إلى أن الحاكم في الأمور الدينية الشرع، وفي الأمور الدنيوية الأمر على الإباحة والسَّعَة.
(مقدمة 5/13)
وبه خلص المؤلف إلى النظر في أمر أحوال القبور هل هي من الأمور الدينية فتكون توقيفية أو لا؟ ورجَّح أنها من الأمور الدينية بدلائل عدّة، فينبغي أن يبحث عن الكيفية التي قررها الشارع للقبور. فبدأ بالفصل الأول (ص 16) فيما ثبت في كيفية القبر المشروعة. ذكر فيه أولًا أن البحث يتركز على الكيفية الظاهرة، ثم ذكر آية {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ... }. وحديث فَضالة بن عُبيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسوية القبور، فَسَاق الحديث من "صحيح مسلم" بلفظه ثم عقد عنوانًا (بيانُ طرقه)، وخلص إلى أن الحديث صحيح نظيف لا غبار عليه وإن وُجد في إحدى طريقيه ابن إسحاق ... ثم ذكر أحاديث أخرى تشهد له وإن اختلفت ألفاظها، ثم ذكر بعض الآثار. بعده عقد المؤلف عنوانًا (الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة)، فبدأ بالآية، ثم حديث فضالة وأطال فيه، وبحث في معنى "التسوية" الواردة في الحديث، وخَلَص إلى القول: "فالمراد بتسوية القبر جعله سويًّا قويمًا على ما اقتضته الحكمة من غير إفراط ولا تفريط، وذلك على الهيئة التي قررها الشارع للقبور". ثم تكلم على الألفاظ الواردة في بقية الأحاديث ومعانيها، وبحث بشيء من التفصيل عن لفظ "مبطوحة" التي وردت في حديث القاسم، ومعانيها المحتملة، وخَلَص إلى أن الراجح هو المعنى الرابع وهو جعل البطحاء على الشيء، وذلك يقتضي تسطيح القبر.
(مقدمة 5/14)
وخلص في آخر المبحث إلى أن ما يتعلق بظاهر القبور من الهيئة المشروعة أمور: 1 - "رد تراب الحفرة إليها وجمعه عليها بهيئة التسنيم حتى ترتفع نحو شبر باعتبار الوسط، ولا يُزَاد على ذلك إلا ما ثبت، كوضع شيء من الحصى لا يزيد في الارتفاع، ووضع حجر عند رأس القبر علامة بشرطه. 2 - إبراز القبر" اهـ. ثم عقد الفصل الثاني وهو تتمّة لبيان الهيئة المشروعة فيما يتصل بالقبر، وذكر صفة الهيئة المشروعة للقبر، وبحث في علة النهي عن الرفع والتجصيص ونحوه، ومال إلى أنها الخشية من أن يؤدي تمييز القبور إلى تعظيمها. - ثم ذكر أثرين في الباب وهما في "صحيح البخاري" الأول: أثر الحسن بن الحسن لما ضربت امرأتُه قبةً على قبره سنة. والثاني: أثر خارجة ابن زيد: رأيتني ونحن شَبَبة ... إلخ. وبيَّن ضعفَ الأثرين سندًا ونكارتهما من جهة المعنى. - ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ... (ص 50 ــ 69) فتكلم على رواياته وألفاظه، ثم تكلم على الاختلاف في أسانيده، ثم تكلم عن الاختلاف في متنه، ثم ذكر تنبيهين يتعلّقان بالصناعة الحديثية. - ثم عقد عنوانًا جانبيًّا (رجوع) ذكر فيه أن ما زعمه بعضُ الجهّال (يعني حسنًا الصدر الرافضي) من أن الحديث مضطرب= مدفوع، وتعقّبه المؤلف أيضًا في قضايا حديثية عدة.
(مقدمة 5/15)
- ثم ذكر حديث جابر (ص 70 - 89): "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقعد الرجل على القبر .... "، فتكلم على طُرقه وأسانيده وألفاظه، وروايات أخرى عن جابر في الباب نفسه. - ثم عقد عنوانًا لبيان حال أبي الزبير المكي (أحد رواة حديث جابر)، وعنوانًا آخر لبيان حال سليمان بن موسى الراوي عن أبي الزبير. - ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُبنى على القبر". فذكر رواياته وأسانيده، وبحث حال القاسم بن مخيمرة أحد رواته (ص 90 ــ 92). - ثم خلص إلى بحث اشتراط اللقاء بين الرَّاويَيْن (ملخّصًا) (1) (ص 93 ــ 99). - ثم ذكر حديث أمّ سلمة: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبنى على القبر أو يجصّص" وتكلم على إسناده ورواته، ثم ذكر أثرين في الباب. (ص 100 ــ 104). - ثم عقد عنوان (الأحكام المستنبطة من هذه الأدلّة) (ص 104 ــ 108) ــ يعني الأدلة التي أوردها في الفصل الثاني ــ من الأثرين المعلّقين في "صحيح البخاري"، فذكر ما يُستنبط منهما على فَرْض صحّتهما، فإنه قد رجّح ضعفَهما. - ثم عقد الفصل الثالث وهو: شرح حديث عليّ المتقدم (ص 50) (ص 109 ــ 128)، وشرح معه بعض الآثار في الباب. _________ (1) توسّع فيه في النسخة المسوّدة.
(مقدمة 5/16)
- ثم تكلم المؤلف على عدة مسائل تتعلق بالقبور هي (الكتابة، الزيادة على القبر، الجلوس على القبر ــ وأطال فيه ــ، البناء على القبر ــ وأطال فيه ــ وأخذ يردّ فيه على بعض شُبه الرافضي حسن صدر الدين الكاظمي (ت 1354 هـ). في البناء على القبور من رسالة له سماها "الرد على الوهّابية". (راجع مبحث سبب تأليف الكتاب). - ثم عقد المؤلف عنوانًا سماه (آية الكهف: 21) وهي قوله تعالى: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}، فذكر الأقوال فيها والخلاف في تفسيرها، ثم نظر فيها نظر اجتهاد وتحليل، واختار في قوله: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ} أي: ابنوا عليهم مسجدًا يكون جداره سادًّا لباب الكهف، وأيّده بأنواع من الأدلة والترجيحات (ص 129 ــ 136). وبنهاية الكلام عليها ينتهي الكتاب. 2 - موضوعات (المسوّدة): - بدأ المؤلف بمقدمة بيَّن فيها سبب تأليفه الكتاب كما سبق في (المبيضة) وأنه لابد من الرد إلى كتاب الله تعالى لتبيين الحق في المسألة، ومن الرد إلى كتاب الله سؤال أهل العلم. - ثم عنون بـ (عرض هذه القضية على كتاب الله) فذكر آية: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21]، وذكر وجه استدلال مَن قال بجواز البناء على القبور منها. - ثم ذكر عنوانًا (تحليل الاستدلال) فذكر فيه ما احتج به مَن يجيز ذلك ثم ناقشه وردّ عليه فقرة فقرة (ص 6 ــ 24).
(مقدمة 5/17)
- بعده ذكر عنوان (تحديد محلّ النزاع) ذكر فيه أن المقصود من دفن جثث الموتى هو مواراتها، والأصل فيه الاقتصار على القدر الكافي للمواراة، ثم ذكر حكم تعدِّي ذلك، وتتطرّق إلى الدفن في المقبرة المسبّلة، وإلى الدفن في الموات، والوصية بالدفن في المِلك، والدفن في مِلك الدافن. فحرر محل النزاع بقوله: "بقي رفع القبر في غير الملك، بدون إحكام ولا بناء، وإنما هو بزيادة حصى ورمل وتراب يُرْكَم عليه حتى يرتفع. وبقي الرفع، والتوسعة، والإحكام، والبناء فيما إذا كان في ملك الفاعل، وهذا هو الذي يصلح أن يكون محلًّا للنزاع" (ص 25 ــ 28). - ثم بدأ بالكلام على مسألة الرفع في غير الملك، فذكر أدلة المجيزين، ثم أجاب عنها واحدًا واحدًا (ص 29 ــ 38). - ثم عقد فصلًا في تسوية القبور، فذكر حديث فَضالة بن عُبيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها، وذكر طُرقه ورواياته وألفاظه. - ثم عقد عنوانًا في (معنى التسوية) وخلص إلى أن معنى التسوية إذا أُطلقت كان المراد بها تسوية الشيء في نفسه ولا تُحمل على التسوية بالأرض إلا بقرينة. وقد وُجِدت قرينة في الحديث تدل على التسوية بالأرض (ص 43 ــ 46). - بعده ذكر بحثًا عَنونه بـ (تحقيق الحق في هذا البحث) أي في معنى التسوية، وأنها لا تعارض رفع القبر قليلًا من تراب حفرته، وكذلك إذا أريد تمييزه لمقصد شرعي صحيح بوضع علامة عليه ... (ص 47 ــ 49).
(مقدمة 5/18)
- بعده عنون بـ (القدر المشروع لرفع القبر) وذكر في ذلك حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُفع قبره نحوًا من شبر. - ثم تكلم على (كيفية رفع القبر) وعن معنى قوله "مبطوحة" وما قيل فيها، والراحج من ذلك، ثم ذكر جملة من أدلة التسنيم (ص 51 ــ 58). - ثم تكلم على مسألة (البناء على القبر) وهو خاص ببحث مسألة البناء على القبور في المِلك، وذكر أن الناس فريقان: القائلون بالكراهة في المِلك والحرمة في المسبّلة. الفريق الثاني من غلاة الجهّال الذين يقولون بأنه مستحب أو واجب، وهم لفرط جهلهم يتهمون من ينكر عليهم بقولهم (وهابي)! ! وغير ذلك ... ويستدلون على هذا القول بأدلة والرد عليها. - ثم ذكر أدلة النهي عن البناء ونحوه ووجه دلالتها على الحرمة (ص 59 ــ 65). - ثم ذكر المؤلف حديث جابر في النهي عن البناء على القبور، وذكر رواياته وألفاظه، والكلام عليه وما يشهد له. وتضمَّن مباحث حديثية دقيقة. - ثم عنون بـ (تحقيق حال أبي الزبير) (ص 81 ــ 87). - بعده عنون بـ (تحقيق حال سليمان بن موسى) (ص 88 ــ 91). - بعده تكلم على حديث أبي سعيد الخدري، وتكلم على حال القاسم بن مخيمرة (92 ــ 93). ثم عقد بحثًا عنونه بـ (بحث شرط اللقاء) وعقد البحث على صورة مناظرة بين فريقين، جعل لمذهب مسلم رقم (1)، ومقابله رقم (2) وجرى هذا إلى آخر البحث (ص 94 ــ 108).
(مقدمة 5/19)
- ثم ذكر حديث أم سلمة في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبنى على القبر أو يجصص وتكلم على ثبوته (ص 109 ــ 111). - ثم عقد ما يشبه الاستدراك أو الإضافة فقال: (تتمة لحديث جابر وأبي سعيد وناعم) (ص 112 ــ 113). * خامسًا: بين المسوّدة والمبيّضة، ودواعي طبعهما: نعقد هذا المبحث لنوازن بين هاتين النسختين من هذه الرسالة، من حيثُ التقسيمُ، والترتيبُ، والزيادات وما تميّزت به كلٌّ منهما، وبه يظهر لنا دواعي طبعهما معًا وعدم الاكتفاء بإحداهما عن الأخرى، فنقول: 1 - التقسيم: في المبيضة صرّح المؤلف بتقسيمها إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، وقد وفى بترتيبه هذا في الجملة، غير أن الخاتمة لم يتمكن من كتابتها بعد أن كتب عنوانها فقط. أما المسوّدة فلم يقسمها تقسيمًا واضح المعالم، وإنما يعنون عنوانات جانبية ويبحث تحتها المسائل، ويحيل إلى مباحث أنه سيأتي ذكرها ولم نجدها في هذه النسخة. 2 - الترتيب: ظهر من عرض الرسالة في نسختيها أنّ هناك اختلافًا في ترتيبهما، إذ بعد اتفاقهما في التصدير تبدأ المبيّضة بمقدّمة طويلة عقدها المؤلف للتدليل على أن أمور الشرع توقيفية لا تؤخَذ إلا من الشارع، ثم تكلّم على الوسائل وخَلَص إلى أن شأن القبور شأن شرعيّ يجب أن ينظر فيه بنظر الشرع. بينما المسوَّدة تخلو من هذا البحث.
(مقدمة 5/20)
فبدأت المبيضة بالفصل الأول: فيما ثبت في كيفية القبر المشروعة. ثم عقد الفصل الثاني وهو تتمة لبيان الهيئة المشروعة فيما يتصل بالقبر وذكر فيه جملة من أحاديث الباب وشرحها. ثم عقد المؤلف عنوانًا سمّاه (آية الكهف: 21). ثم ختم بالفصل الثالث: شرح حديث عليّ المتقدم. أما المسودة فبدأت بعنوان (عرض هذه القضية على كتاب الله) فذكر آية 21 من سورة الكهف، ثم ذكر في عنوان مستقلّ (تحليل الاستدلال) أي من الآية، وضمَّنه افتراضات عقلية لم ترد في النسخة المبيضة لأنه رأى أن الأمر أوضح من ذلك. بعده ذكر عنوان (تحديد محلّ النزاع)، ثم بدأ بالكلام على مسألة الرفع في غير الملك، ثم عقد فصلًا في (تسوية القبور)، وآخر في (القدر المشروع لرفع القبر)، ثم تكلم على (كيفية رفع القبر)، ثم تكلم على (البناء على القبر) وهو خاص ببحث مسألة البناء على القبور في المِلك، فذكر حديثي جابر وأبي سعيد في النهي عن البناء وتكلم عليهما. ثم عقد بحثًا عنونه بـ (بحث شرط اللقاء) وتوسع فيه على شكل مناظرة بين فريقين، أما المبيّضة فالبحث فيها ملخص وليس على صورة مناظرة. ثم ختم النسخة بحديث أم سلمة في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبنى على القبر أو يجصص، ثم الاستدراك والإضافة. 3 - الزيادات والميزات: تميزت المبيضة بحسن الترتيب ووضوح فكرة المؤلف، واكتمال البحث في صورته الأخيرة، وتحديد موضع النزاع، واستيعاب الأحاديث والآثار في المسألة والكلام عليها سندًا ومتنًا. وفيها أيضًا الرد على الرافضي حسن الصدر الكاظمي في جملة من المسائل. وتمتاز المسودة بالإضافة والإفاضة في بحث آية 21 من سورة الكهف، وبحث شرط اللقاء، وذكر بعض المسائل المتعلقة بالقبور لم تذكر في المبيّضة.
(مقدمة 5/21)
فكانت تلك الأمور مجتمعة داعيةً إلى نشر النسختين لما في كل واحدة منهما من ميزة يحسن الوقوف عليها والإفادة منها. أما ترك المسوّدة دون طباعة فسيفقدنا تلك الفوائد، وأما التلفيق بين النسختين فغير مرضيّ لأنا سنُخرِج حينئذ كتابًا لم يكتبه المؤلف، وأما ذكر الزوائد في الحواشي فسيفقدها قيمتها، وربما تصدُّ القارئَ عن الوقوف عليها. * سادسًا: وصف النسخ الخطية. 1 - نسخة المبيضة: محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4668/ 2] فليم رقم (3592) تقع في 120 ورقة بخط مؤلفها العلامة المعلمي، عدد الأسطر متفاوت في غالب الصفحات، كُتِبت في دفتر مسطّر معتاد بخطٍّ متفاوت في الثخانة والدّقة والوضوح، ويعود ذلك لاختلاف أقلام الكتابة، واختلاف أوقاتها. والرسالة كغالب كتب الشيخ؛ كثيرة الضرب (فقد يضرب على صفحة أو أكثر) واللحق والإضافة والتحويل والبياضات (فقد يترك ورقة كاملة أملًا في إلحاق شيء). وكان من المفترض أن تكون هذه هي مبيّضة الكتاب الأخيرة؛ لأن الشيخ قد كتب عدّة نسخ من هذه الرسالة هذه آخرها فيما أرجح، لكنها عادت مسوّدة كما بدأتْ. وقد أطلقنا عليها (المبيّضة) باعتبارها آخر ما كتب الشيخ من نُسَخ هذه الرسالة، لا باعتبار حقيقة الحال. تبدأ النسخة بعدة صفحات تبلغ التسع فيها مقيّدات لفوائد متنوعة انتقاها الشيخ من كتاب "الاعتصام" للشاطبي (دون أن يصرح باسمه) (1) أشبه _________ (1) وفي مجموع رقم 4717 انتقى أيضًا فوائد من "الاعتصام" مع التصريح باسمه (ص 121 - 137).
(مقدمة 5/22)
بالفهرس للفوائد، يذكر رقم الصفحة ثم يذكر الفائدة كاملة تارة ومُشارًا إلى رأسها تارة أخرى. وقد استمرّت كتابة هذه الفوائد إلى بداية مقدمة الكتاب وصفحة تليها، والظاهر أن الشيخ كان قد ترك ورقات من أول الدفتر فارغة وكتب المقدمة بعد عدة صفحات، فلما قرأ كتاب "الاعتصام" قيّد فوائده في تلك الصفحات الفارغة وطالت حتى تجاوزت مقدمة الرسالة. وكلها تقييدات دون تعليق إلا في موضع واحد فقد استدرك على الشاطبي في معنى "الجماعة" الواردة في الأحاديث فقال: " ... معنى الجماعة في الأحاديث، ولم يأتِ فيها بتحقيق شافٍ. والصواب والله أعلم أن الجماعة هي السواد الأعظم من علماء الأمة المُسلّم كونهم علماء، فيدخل في ذلك عامة الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين وهلمّ جرًّا. والشاذّ من الجماعة المراد به عالم زلّ، وعلى ذلك جاء التحذير من زلّة العالم، فالغاية واحدة، وعلى هذا فعامة أهل البدع خارجون عن الجماعة أصلا إذ ليس عامتهم من العلماء، فإن اتفق أن عالمًا ابتدع فهو الشاذّ في النار ونهبة الشيطان". والله أعلم. وفي آخر الدفتر بعد تمام الرسالة كتب الشيخ منتقيات وفوائد من "مختصر جامع بيان العلم وفضله" و"المعجم الصغير" للطبراني ــ ولم يُسَمّ الأخير ــ في 27 ورقة. 2 - نسخة المسودة: نسختها في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4669] فليم رقم (3591) تقع في 141 ورقة. ويقال في وصفها ما قيل في وصف سابقتها. وفي أول الدفتر خمس صفحات قيد فيها المؤلف بعض الآيات والنقول من "تهذيب التهذيب" وغيره.
(مقدمة 5/23)
3 - المسوّدة الثانية: نسخة مسوّدة كُتبت قبل النسخة السالفة فيما أرجح تقع ضمن مجموع رقم (4717) في مكتبة الحرم المكي الشريف في 87 صفحة بترقيم المؤلف، تبدأ النسخة بتعاليق تتعلق بمسند الإمام أحمد وكأنه تخطيط لترتيب أحاديثه، ثم تقييد لأرقام صفحات كثيرة وكُتب فوقها: "يلحق برسالة عمارة القبور في الإسلام" ولم أهتدِ إلى مراده بهذه الأرقام! ثم تبدأ هذه المسودة من ص 9 بقوله: "الحمد لله، الحكم الذي تدل عليه الأحاديث ... وقدمنا أن المراد ... " فالإشارة إلى ما تقدم لعله في دفتر آخر ولم نقف عليه، والنسخة ينقصها الكثير من المباحث، فلعلها في هذه النسخة المحال إليها. وفي هذه النسخة بعض الفوائد ليست في النسخ الأخرى أثبتُّ بعضها في الهوامش، وبعضها في ملحق آخر الكتاب. وفي المجموع أيضًا مختصر لـ"طبقات المدلسين" لابن حجر، وفوائد من "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية، وفوائد منتقاة من "الاعتصام" للشاطبي. - سابعًا: منهج التحقيق أثبتنا الكتاب في نسختيه كما تركه مؤلفه، وتتبّعنا إلحاقاته وتحويلاته في تقديم مبحث أو نصّ إلى مكانه الذي حوله إليه (انظر ق 55 و 93) وغير ذلك من إشاراته، ولم نتدخّل في كبير شيء إلا في موضع واحد قدمنا فيه جملةً من الآثار كان حقها التقديم. أما المسودة الثانية فاستعرضتُها فرأيت فيها موضعين مفيدين يحسن إثباتهما، فأثبتّ الأول في هامش ص 114 وهو تعليق للشيخ على كلام ابن حجر الهيتمي، والموضع الثاني في مسألة البناء على القبور وشُبهة قد يثيرها
(مقدمة 5/24)
مَن يجيز البناء مع الجواب عليها، ومع أنها مذكورة في (المبيَّضة) إلا أنها هنا تختلف في طريقة عرضها وزيادة الجواب في جوانب منها. فأثبتها في آخر الرسالة للوقوف عليها. وانتهجنا النهجَ نفسَه في خدمة كتب الشيخ كما ذكرناه في غير موضع، وكما شرحناه في مقدمة المشروع. والحمد لله رب العالمين.
(مقدمة 5/25)
نماذج من النُّسخ الخطية
(مقدمة 5/27)
الورقة الأولى من "عمارة القبور - المبيّضة"
(مقدمة 5/29)
ورقة من "عمارة القبور - المبيّضة"
(مقدمة 5/30)
ورقة أخرى من "عمارة القبور - المبيّضة"
(مقدمة 5/31)
الورقة الأولى من "عمارة القبور - المسوّدة"
(مقدمة 5/32)
ورقة من "عمارة القبور - المسوّدة"
(مقدمة 5/33)
ورقة أخرى من "عمارة القبور - المسوّدة"
(مقدمة 5/34)
عِمَارة القُبُور في الإسلام (المُبَيَّضة) تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (1313 - 1386) رحمه الله تعالى تحقيق علي بن محمد العمران
(5 أ/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أوضح لنا سواء السبيل، وحفظ علينا كتابَه وسننَ رسوله، وأشهد ألّا إلـ? هـ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذرِّيته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذرِّيته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فإني اطلعتُ على بعض الرسائل التي أُلِّفت في هذه الأيام في شأن البناء على القبور (1)، وسمعتُ بما جرى في هذه المسألة من النزاع، فأردتُ أن أنظرَ فيها نظرَ طالبٍ للحق، متحرٍّ للصواب، عملًا بقول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ... } إلى قوله جل ذكره: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: 59 - 65]. ولا ريب أن الردَّ إلى الله ورسوله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إنما يحصل بالردِّ إلى الكتاب والسنة، وتحكيمه بتحكيمهما. ومن الرد إلى الله ورسوله سؤال الجاهل للعالم. وهذه الرسالة مؤلفة من مقدّمة، وثلاثة فصول، وخاتمة. ومن الله عزَّ وجلّ نسأل الإعانة والتوفيق. _________ (1) من هذه الرسائل التي ذكرها المؤلف هنا وردَّ عليها رسالة حسن الصدر الرافضي (ت 1354) "الرد على الوهابية". انظر (ص 62، 111، 124).
(5 أ/3)
[ص 3] المقدمة
قال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [سورة المائدة: 3] (1). وقال عزَّ وجلّ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى: 21]. وفي "الصحيحين" (2) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أحْدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ". وفي "صحيح مسلم" (3) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أما بعد، فإنَّ خيرَ الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتها، وكلّ بدعة ضلالة". الآية الأولى صريحةٌ أن الله عزَّ وجلّ أكمل لهذه الأمة دينها قبل وفاة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا ريب أن الدين عبارة عن مجموع الأحكام الشرعية؛ من اعتقادية وعملية، فإكماله عبارة عن إكمالها. _________ (1) اسم السورة من وضع المؤلف في غالب الرسالة، وقد يذكر رقمها، وإن أغفله ذكرناه. (2) البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718). (3) رقم (867).
(5 أ/4)
وفي "الدر المنثور" (1): أخرج ابن جرير (2) وابن المنذر عن ابن عباس قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا تحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمَّه فلا ينقص أبدًا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدًا. وفيه (3): وأخرج ابن جرير (4) عن السُّدِّي في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قال: هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلال ... وأخرج ابن جَرير (5) عن ابن جُريج قال: مكثَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلةً، قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. وفيه (6): وأخرج ابن جرير (7) وابن المنذر عن ابن عباس قال: "كان المشركون والمسلمون يحجّون جميعًا، فلما نزلت (براءة)، فَنُفِي المشركون عن البيت الحرام، وحجَّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحدٌ من المشركين، فكان ذلك من تمام النِّعْمة، وهو قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.اهـ. _________ (1) (2/ 456). (2) تفسيره: (8/ 80). من رواية علي بن أبي طلحة. (3) (2/ 458). (4) تفسيره: (8/ 80). (5) تفسيره: (8/ 81). (6) (2/ 456). (7) تفسيره: (8/ 83).
(5 أ/5)
وعلى هذا يُحْمَل ما في كلام بعض السلف مما يوهم أن هذه الأمور التي عدَّها ابن عباس من تمام النعمة هي إكمال الدين، فمرادهم أنها من تمام النعمة المذكورة في الآية. ومما يدل على ذلك ما ذكره في "الدر المنثور" (1) قال: وأخرج الحُمَيدي وأحمد وعَبْد بن حُمَيد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في "سننه" عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آيةً في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: وأي آيةٍ؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. قال عمر: والله إني لأعلم اليومَ الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشيَّة عرفة في يوم جمعة. وذكر آثارًا أخرى في معنى هذا. ولو كان معنى إكمال الدين هو مُجَرَّد إكمال الحج، وإعزاز الدين في مكة، ونحوه، لما استحقَّ هذه العناية كلها. ثم إن إنزال الله عزَّ وجلّ الآية يوم عرفة، ويوم الجمعة، في أفضل ساعة منه، يدلُّ على عَظَمتها، وإنما تتمّ عظمتُها بما ذكرنا. _________ (1) (2/ 456). أخرجه الحميدي رقم (34)، وأحمد رقم (188)، وعَبْد بن حميد رقم (30 ــ المنتخب)، والبخاري رقم (45)، ومسلم رقم (3017)، والترمذي رقم (3043)، والنسائي رقم (5012)، وابن جرير: (8/ 86)، وابن حبان رقم (185)، والبيهقي: (3/ 181).
(5 أ/6)
هذا مع أن ما ذكرناه هو صريح الآية، لِمَا قدّمنا أن الدين عبارة عن مجموع الأحكام، ولكن أردنا زيادة الإيضاح. فأيُّ شيءٍ أُحْدِث بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فهو خارجٌ عن الدين، ضرورةَ أن الدينَ قد تمّ وكَمُل قبل حدوثه. فإن قيل: قد يكون زيادة كمال. قلنا: وهل يختار الله تعالى لرسوله غير الأكمل؟ مع أن كل متنازَعٍ فيه لا يخلو أن يكون مما شرعه الله أو [لا]. وعلى الثاني فالأمر واضح، وعلى الأول فلا يخلو أن يقال: هو (1) مما أعْلَم الله به رسوله، أو لا؟ والثاني باطلٌ؛ لأنّ كل ما شرعه الله فقد أعْلَم به رسولَه، مع أنه لا يُعْلَم الشرعُ إلا من قِبَلِه، وعلى الأول؛ فلا يخلو أن يكون أمره بتبليغه أو لا؟ إن قيل: لا. قلنا: فهل بلَّغه تبرُّعًا؟ إن قيل: لا. قلنا: فمن أين علمتموه؟ وإن قيل: بلَّغ. قلنا: أرونا ذلك نكن أول التابعين. [ص 4] وعلى الأمر بالتبليغ، فهل بلَّغ؟ إن قيل: نعم. قلنا: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. والآية الثانية تدل أنه ليس لأحدٍ أن يشرع في الدين ما لم يأذن به الله، _________ (1) "يقال هو" تداخلت مع المضروب عليه من الكلام، ومكتوب تحتها: "يكون". وتحتمل العبارة أن تكون: "فلا يخلو أن يكون مما ... ".
(5 أ/7)
والإذن إنما يُعْلَم بالكتاب والسنة، وأن مَن شَرَع ما لم يأذن به الله فقد ادّعى الشرك في الألوهية، والعياذ بالله. ومعنى الحديثين واضحٌ. * * * * وقال الله عزَّ وجلّ في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. وقال جل ذكره: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وفي "الصحيحين" (1) عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا مِن سأل عن شيءٍ لم يحرَّم على الناس، فحُرِّم من أجل مسألته". وأخرج الترمذي وابن ماجه عن سلمان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السَّمْن والخبز والفِراء؟ قال [ص 5]: "الحلال ما أحلَّه الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (2). _________ (1) البخاري رقم (7289)، ومسلم رقم (2358). (2) أخرجه الترمذي رقم (1726)، وابن ماجه رقم (3367)، والدارقطني: (2/ 137)، والبيهقي: (9/ 320). قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قوله، وكأنّ الحديث الموقوف أصحّ. وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أُراه محفوظًا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان موقوفًا. قال البخاري: وسيف بن هارون مقارب الحديث، وسيف بن محمد بن عاصم ذاهب الحديث" اهـ. وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه أبو داود رقم (3800).
(5 أ/8)
فالآية الأولى صريحةٌ في أن جميع ما في الأرض [مخلوق] (1) لبني آدم. وإذا كان لهم، فهو مباح لهم. ففي الآية عموم الإباحة، فهي الأصل، وتحريم بعض ما في الأرض تخصيصٌ لهذا العموم، فلا يُصَار إليه إلا بدليل. ونحوها الآية الثانية. وكذا الحديث الأول، فإنه لو كان الأصل الحَظْر لكان الظاهر أن يقول: "عن شيءٍ قد أبيح" كما هو واضح. والحديث الثاني ظاهرٌ، والمراد بـ"كتاب الله" فيه حُكْمُه، أو القرآن، وما السنةُ إلا تفصيل لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ونحوها. [ص 6] فتقرر أن أمور الدين توقيفية، أي أنه ليس لأحدٍ أن يتديَّن بشيءٍ إلا إذا ثبت بكتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه كُلِّية لا تُنْقَض بالنسبة إلى المقاصد. فأما الوسائل فهي على نوعين: وسيلة لا يمكن أن يؤدَّى المقصدُ إلا بها، وهذه لا كلام فيها. ووسيلة يمكن أن يؤدّى المقصدُ بها، ويمكن أن يؤدّى بغيرها. فهذا النوع يُنْظر فيه إلى الوسيلة التي أُدّيَ بها المقصد في حياته _________ (1) بعد "الأرض" بياض بمقدار كلمة، والسياق يناسب مع أثبتّ.
(5 أ/9)
صلى الله عليه وآله وسلم، ونَزِنُها بباقي الوسائل، فإن ترجَّح لنا أن لها مزيَّة دينية لا توجد في غيرها، كان لها حكم المقصد، إلا أن يطرأ عليها ما يوهّنها حتى يُخْشى من الجمود عليها الإخلال بالمقصد الأصلي. فمن ذلك: المساجد، مقصد ديني، يمكن أن يؤدَّى ببناء غير مزخرف، وببناء مزخرف، فنظرنا إلى الطريق التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي عدم الزخرفة، هل لها مزية دينية؟ فكانت النتيجة إيجابًا، كما تدل عليه الأحاديث؛ فوجب أن نتمسّك بها، فهي السنة، وخلافها بدعة. لكن لو أن حكومةً ظالمة منعت أهل بلدٍ أن يبنوا مسجدًا إلا مزخرفًا، فقد يقال: إنه يجوز لهم ذلك للضرورة، وإلا فات المقصد من أصله. [ص 7] ونعني بالزخرف: ما ليس حرامًا لذاته، فأما الحرام لذاته، كالصور فلا يجوز بحال. وإن ترجَّح لنا أن الوسيلة التي أُدِّي به المقصد في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ليس لها مزية دينية على غيرها، وإنما اختيرت اتفاقًا، أو لكونها أرفق، أو لكونه لم يمكن ذلك الوقت غيرها، فالجمهور لا يرون لها مزيَّة على غيرها، وابن عمر يرى الاتباع أفضل. وإن لم يترجَّح أحد الجانبين، فمحلّ نظر. والظاهر أن له حكم الأول. هذا فيما إذا كان المأتيّ به في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة واحدة. فأما إذا تعددت، فإن ترجّح لنا أن لها جميعها مزايا دينية لا توجد في
(5 أ/10)
سائر الوسائل الممكنة، فكالقسم الأول. وإن ترجح أنه ليس لشيء منها مزية فكالثاني، وإن لم يترجح شيءٌ فكالثالث. أما إذا ترجَّح أن بعضها لم يكن لها مزية، فهي وسائر الوسائل الممكنة، كالقسم الثاني، وتمتاز الأخرى عنها بالأفضلية فقط، وبقيت تفريعات تُعْلَم بالتأمل. ومن هذا الأخير مسألة جمع القرآن في مصحف [ص 8] فالمقصد، وهو دوام سلامة القرآن من التغيير، يمكن أن يؤدّى بالحفظ استظهارًا، ويمكن أن يؤدَّى بجمعه بالكتابة. والذي كان مستعملًا في عهده صلى الله عليه وآله وسلم الحفظ، لكن مع جواز الجمع بالكتابة، بدليل أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، وهذا الأمر أعمّ من أن يُكْتب متفرقًا أو مجتمعًا، وإنما جاء التفريق من قلة القراطيس، فكان يكتب في العُسُب، واللِّخاف، ونحوهما مما لا تسع القطعة منه إلا قليلًا. ومع ذلك فلم يبلغنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن لا يكتب في القطعة الواحدة إلا آية واحدة، أو نحو ذلك، ولا أنه نهى أن يُكْتَب من القرآن إلا ما يُكْتَب بين يديه عقب نزوله، فبقي الأمر على إطلاقه. ولا أنه نهى أن تُجْمع طائفةٌ من القِطَع المكتوب فيها القرآن في مكان واحد، وذلك معرّض للوقوع بلا ريب، فَتَرْك النهي عنه إذْن فيه (1). والإذن بجمع طائفة من القِطَع مؤذِنٌ بجواز جمع جميع القطع. وجواز جمعها في قطع متفرقة يدل على جواز جمعها متصلة. _________ (1) من قوله: "وذلك معرض .. " إلى هنا ضرب عليه المؤلف أولًا، ثم كتب فوقه بخط واضح (صح) على طول العبارة، إشارةً منه إلى إلغاء الضرب.
(5 أ/11)
ومع أن الصحابة كانوا يبتدرون الآية إذا نزلت فيحفظونها، فكان الأمر بالكتابة مستمرًّا، وهذا يدلّ صريحًا أن الحفظ لا يُغْني عن الكتابة، وأنهما لازمان معًا، وإذًا فكما جاز جمع القرآن حفظًا، فكذا كتابةً، لا يظهر فرقٌ في شيء من ذلك. [ص 9] نعم، للحفظ مزايا لا تُنكر: منها: أن يكون القرآن نُصْب عيني المؤمن. ومنها: العدل بين القرآن في الصلاة. ومنها: تمكّن الإنسان من التلاوة كل وقت. إلى غير ذلك. ولكن للكتابة مزيَّة أيضًا، وهي كونها أبعد عن الاشتباه والالتباس والخطأ والنسيان، إلا أن شيوعها يَحْمِل على التهاون بالحفظ، لاتّكال كل أحدٍ على أن في بيته مصحفًا، ويحصل الجمع بين المصلحتين بوجود مصحف واحد في القرية مثلًا، وأن يُقْبِل الناسُ على الحفظ. وعلى هذا كان الحال في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وفي خلافة الشيخين. أما في عهده صلى الله عليه وآله وسلم فكان في قِطَع متفرقة بأيدي الصحابة، وذلك أقرب إلى الإنصاف من جَمْع القطع في يدِ واحدٍ وحدَه، سواءً أبقيت كما هي، أم نُسِخت في مصحف واحد. أما جمعها ثم أخذها مناوبة، فمع كونه تكلُّفًا لا يخلو من المحذور المذكور، لاتّكال كلِّ أحدٍ على أن المصحف سيصل إليه ويبقى في نوبته مدة، فيتهاون في الحفظ والمدارسة، وهذا الذي قَدَرْنا عليه، ولا يضرُّنا
(5 أ/12)
القدحُ فيه شيئًا، لما قدّمنا أن الجمع كان جائزًا في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يقع بالفعل، وربما تُصُوّرت موانعُ أُخر لا حاجة إلى الإطالة بها. فلما كان في عهد أبي بكر واستحرَّ القتلُ بالقُرَّاء في اليمامة خشي الشيخان من تزلزل الوسيلة العظمى وهي الحفظ، ففزعا إلى تأييد الوسيلة الأخرى، وهي [ص 10] الكتابة، فاقتصرا على جمعها في مصحف واحد يبقى ببيت الخليفة، فكان ثمرةُ عملهما ذلك الاحتياطَ من أن تضيع قطعة من تلك القطع، أو يطرأ عليها شيءٌ. وبقي الناس مقبلين على الحفظ مُسْتَغْنين به خلافةَ أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان، وكتب بعضهم مصحفًا لنفسه (1) كابن مسعود، وأُبَيّ بن كعب. ثم غزا صاحبُ سِرِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان، فسمع بعضَ اختلاف في القراءات، منه ما نشأ عن اختلاف الأحرف، وكلٌّ صحيحٌ ولكنه أدى إلى النزاع، ومنه ما نشأ عن خطأ من الأعاجم الذين أسلموا ونحوهم، فأفزعه ذلك، فجاء فأشار على عثمان بتدارك القضية، فتداركها بنسخ عدة مصاحف، وإرسال كل مصحف إلى مِصْرٍ، وهو تقريبًا كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه، مصحفٌ بالمدينة، فصارت كل مدينة محتاجة إلى مصحف، وهذا هو فعل عثمان. وأما بعد ذلك فهُجِرَت الوسيلة العظمى وهي الحفظ، وفترت الهِمَم، _________ (1) يحتمل أن تكون مضروبًا عليها.
(5 أ/13)
حتى لو لم توجد المصاحف بكثرة لهجروا القرآن رأسًا، فتعيَّن حينئذٍ تكثير المصاحف. والمقصود أن جمع القرآن في مصحف واحد مع كونه جائزًا في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يُقْدِم عليه الصحابة إلا عند الاضطرار إليه. وأحد هذين الأمرين كافٍ في الجواز، ولكنهم لم يكتفوا إلا بهما معًا، رضي الله عنهم. وأما إجلاء يهود خيبر، فهو توصيته صلى الله عليه وآله وسلم. [ص 11] وصلاة التروايح سُنته، وإنما تركها خشيةَ أن تُفْرض، وزال هذا المانع بوفاته. وجَمْع كتب الحديث سنته بإذنه لعبد الله بن عَمْرو، وغير ذلك. واختراع النحو والصرف من القسم الأول والثاني معًا؛ لأن العربية يحتاجها الناس لدينهم ودنياهم، وكانت أولًا محفوظة متوارثة، فلما اختلطت العرب بالعجم ضَعُف الحفظ والتوارث، ففزع العلماء رحمهم الله إلى وسيلة أخرى تضمن سلامة اللغة. فهذا جُلُّ ما يتمسك به أنصار البدع، قد أوضحنا حقيقته، ولله الحمد. * * * * وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سن سنةً حسنة ... " الحديث. فالمراد بالحُسْن، الحُسْن الشرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يتكلم بلسان الشرع، والحُسْن الشرعي إنما يُعْلَم من الكتاب والسنة. مع
(5 أ/14)
أن القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي يعترفون أن بعد ورود الشرع وبلوغ الدعوة لا حاكم إلا الشرع. قال في "إرشاد الفحول" (1) (ص 7): "اعلم أنه لا خلاف في كون الحاكم: الشرعَ بعد البعثة وبلوغ الدعوة" اهـ. فهذا ما يتعلق بالأمور الدينية. [ص 12] وأما الدنيوية؛ فقد ثبت بالأدلة السابقة أنها موسَّعة، ليس لأحد أن يحظر شيئًا منها إلا إذا ثبت الحَظْر بكتاب الله عزَّ وجلّ، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. إذا علمت هذا، فألقِ نظرةً في أحوال القبور، أهي من الأمور الدينية، فتكون توقيفية، يجب أن يُقْتَصر فيها على ما ثبت بالشرع، أم دنيوية فتكون موسَّعة، إلا ما ثبت حظره بدليل شرعي؟ لا ريب بأنها من الأمور الدينية؛ ألا ترى إلى الأمر بأن تكون مستقبِلَة، وأن يوضع الميت فيها على يمينه مستقبلًا، وأن لا يوضع إلا مغسولًا مكفَّنًا، إلى غير ذلك. إذن، فأول ما يلزمنا أن نبحث عن الكيفية التي قررها الشارع للقبور، ثم نعضّ عليها بالنواجذ، ولا نعتدي إن الله لا يحب المعتدين (2). _________ (1) (1/ 78 ــ دار الفضيلة). (2) اقتباس من سورة الأعراف {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [55].
(5 أ/15)
[ص 13] الفصل الأول فيما ثبت في كيفية القبر المشروعة
الذي يهمنا من كيفية القبر الكيفية الظاهرة؛ لأنها موضع النزاع، ولا نتعرض لغيرها إلا تبعًا. قال الله تبارك وتعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31]. * حديث فَضَالة. "صحيح مسلم" (1): أبو الطاهر أحمد بن عَمْرو بن سَرْح، نا ابن وهب، أخبرني عَمْرو بن الحارث، ح وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، نا ابن وهب، حدثني عَمْرو بن الحارث ــ في رواية أبي الطاهر: ــ أنَّ أبا عليّ الهَمْداني حدَّثه، ــ وفي رواية هارون: أن ثمامة بن شُفَيّ حدّثه ــ قال: كنا مع فَضَالة بن عُبيد بأرض الروم، فتوفي صاحبٌ لنا، فأمر فضالة بقبره فسوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها. اهـ. * بيانُ طرقه: حدث أبو علي ثُمامة بن شُفَي الهَمْداني قال: كنا مع فَضَالة بن عُبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسُوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها. _________ (1) رقم (968).
(5 أ/16)
رواه عن ثمامة عَمْرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري، ومحمد بن إسحاق. أما عَمْرو؛ فعنه ابن وهب. وعن ابن وهبٍ أبو الطاهر أحمد بن عَمْرو بن السَّرْح، وهارون بن سعيد الأيلي، وسليمان بن داود (1). فعن ابنِ السرح مسلمٌ في "صحيحه" (2)، وأبو داود في "سننه" (3)، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في "سننه" (4). [ص 14] وعن هارونَ مسلمٌ في "صحيحه" (5) أيضًا، ومحمد بن إسماعيل الإسماعيلي عند البيهقي (6). وعن سليمانَ النسائيُّ في "سننه" (7). والروايات كلها مسلسلة بمعنى التحديث، والألفاظ متقاربة، وجميعها مشتركة في قوله: "فأمر فَضالة بقبره فسُوِّي ... " إلخ. _________ (1) ويضاف: يونس بن عبد الأعلى عند الطحاوي في "مشكل الآثار" (3267)، وعبدالعزيز بن مقلاص المصري عند الطبراني في "الكبير": (18/ رقم 811). (2) تقدم. (3) رقم (3219). (4) (4/ 2). (5) الموضع السالف. (6) الموضع السالف أيضًا. (7) رقم (2030).
(5 أ/17)
وأما ابن إسحاق؛ فعنه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عُبيد بن أبي أمية الطنافسي، وأحمد بن خالد الوهبي (1). فعن الأوَّلَيْنِ: الإمام أحمد في "مسنده" (2) (جزء 6/ص 18)؛ إلا أن في النسخة في رواية محمد بن عبيد: ثنا محمد (بن يحيى) (3) بن إسحاق عن ثمامة. وأما في رواية إبراهيم فقال الإمام (4): ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني ثُمامة ... إلخ. وعن الثالث: أبو زُرْعة الدمشقي، وهو عبد الرحمن بن عَمْرو بن صفوان النصري، وعنه أبو العباس الأصم، وعن الأصم الحاكم وغيره، كما في "سنن البيهقي" (5). وفي هذه الرواية عنعن ابن إسحاق. ولفظ رواية محمد بن عبيد: " ... فأصيب ابنُ عمٍّ لنا، فصلى عليه فَضَالة، وقام على حفرته حتى واراه، فلما سوَّينا على حفرته، قال: أخِفّوا عنه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور". _________ (1) ويضاف: عبد الأعلى عند ابن أبي شيبة (3/ 222)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3268). (2) رقم (23934). (3) يعني أن "ابن يحيى" مقحمة وإنما هو محمد بن إسحاق، وهكذا جزم في النسخة الأخرى (42)، ومحققو المسند. (4) رقم (23936). (5) (3/ 411).
(5 أ/18)
وفي رواية إبراهيم: "فقال فضالة: خَفِّفوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسوية القبور". وفي رواية أحمد بن خالد عند البيهقي: " ... فتوفي ابنُ عمٍّ لنا يقال له: نافع بن عبد، قال: فقام فَضالة في حفرته، فلما دفناه قال: خَفِّفوا عليه التراب، [ص 19] فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور". هذا الحديث صحيحٌ، نظيفٌ لا غبار عليه، ووجود ابن إسحاق في إحدى الطريقين لا يقدح، مع أنه إنما يُخْشى منه التدليس، وقد صرح بالتحديث. نعم، قال الذهبي في "الميزان" (1) في آخر ترجمة ابن إسحاق: "ما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا". وقد انفرد بزيادة "أخِفّوا عنه" كما في رواية، أو "خَفِّفوا" كما في أخرى، أو "خَفِّفوا عليه التراب" كما في ثالثة، لكنها في الحقيقة ليست بزيادة، وإنما هي في مقابل ما في رواية عَمْرو: "فأمر فضالة بقبره فسُوِّي"، فهي تفسير لها، مع أن ههنا قرينة تدلّ على أن ثمامة أوضح القصة لابن إسحاق أتمّ من عَمْرو، وهي وجود اسم المتوفى في رواية ابن إسحاق، وذِكْر ابن إسحاق لاسم المتوفى واسم أبيه (نافع بن عبد) يدل على جودة حفظه للقصة. على أن الذهبي لم يقل: إن ما انفرد به فهو منكر، بل قال: "ففيه نكارة"، أي نكارة خفيفة، بدليل قوله عقبه: "فإن في حفظه شيئًا"، والنكارة اليسيرة، _________ (1) (4/ 395).
(5 أ/19)
وإن كانت تقتضي التوقف، فذلك إذا لم تقم قرينة على الحفظ، كما هنا. * في "كنز العمال" (1): "سووا القبور على وجه الأرض إذا دفنتم". طب عن فَضَالة بن عبيد. * [ص 20] ابن حبان في "صحيحه" (2): أخبرنا السجستاني ثنا أبو كامل الجحدري ثنا الفضل بن سليمان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُلْحِد له، ونُصِب عليه اللبن نصبًا، ورُفع قبره من الأرض نحوًا من شبر". * القاسم بن محمد في "سنن أبي داود" (3): عن القاسم بن محمد قال: "دخلت على عائشة فقلت: يا أُمَّاه! اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العَرْصة الحمراء". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4): وزاد: "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقدّمًا، وأبا بكر رأسه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم". قال الحاكم: صحيح. وأقره الذهبي. * [ص 21] أبو جعفر بن شاهين في "كتاب الجنائز" له: بسنده عن جابر _________ (1) رقم (42387). وهو عند الطبراني في "الكبير": (18/رقم 812). وانظر "السلسلة الضعيفة" (5897). (2) رقم (6635). (3) رقم (3220). (4) (1/ 369).
(5 أ/20)
قال: "سألتُ ثلاثةً كلهم له في قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبٌ: أبا جعفر محمد بن علي، وسألت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسألت سالم بن عبد الله: أَخْبِروني عن قبور آبائكم في بيت عائشة؟ فكلهم قالوا: إنها مُسَنَّمة". نقلته من "مِرْقاة المفاتيح" (1)، ولا أدري ما صحته! وقد مرَّ عن جابر صفةُ دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويبعد أن لا يحضر دفن الشيخين، فكيف يحتاج إلى السؤال، مع أن الصحابة كانوا يدخلون بيت عائشة، فيسلمون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه. * "فتح الباري" (2): روى أبو بكر الآجُرِّي في "كتاب صفة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم" من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند عن غُنَيم بن بسطام المديني قال: "رأيت قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا نحو أربع أصابع ... " إلخ. لا أدري ما صحته. * ابن الهمام في "شرح الهداية" (3): روى ابن الحسن (4) أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال: أخبرني من رأى قبر النبي _________ (1) (2/ 371). (2) (3/ 302). (3) (2/ 140). وكان المؤلف قد ضرب على هذه الجملة، ثم كتب فوقها (صح) مطولة على كامل الجملة. (4) في كتاب "الآثار": (2/ 182).
(5 أ/21)
صلى الله عليه وآله وسلم، وقبر أبي بكر وعمر ناشِزةً من الأرض، وعليها فِلْق من مَدَرٍ أبيض". نقلته من "المرقاة" (1)، ونحوه في "جامع المسانيد" (2)، وفيه: أن حمادًا لم يسمّ شيخَه. * [ص 22] ابن أبي شيبة (3): حدثنا عيسى بن يونس عن سفيان التمَّار: "دخلتُ البيتَ الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأيتُ قبره وقبر أبي بكر وعمر مُسَنَّمة". أيضًا: ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي حصين عن الشعبي: "رأيت قبور شهداء أحد جثىً مُسنَّمة". اهـ. نقلتهما من "الجوهر النقي" (4). والأثر الأول: في "صحيح البخاري" (5)، ولفظه: "أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مُسنَّمًا". والثاني: رجاله رجال الصحيح، ولا تضر عنعنة سفيان ههنا؛ لأن الراوي عنه القطان، وهو لا يروي عنه إلا ما ثبت سماعه. انظر "فتح _________ (1) (2/ 371). (2) (1/ 454). (3) (3/ 215). وأخرجه أبو داود في "المراسيل" (423)، وعبدالرزاق: (3/ 505) من طريق الثوري أخبرني بعض أصحابنا عن الشعبي بمثله. (4) (4/ 4 ــ بهامش سنن البيهقي). (5) كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. عقب حديث رقم (1390).
(5 أ/22)
المغيث" (1) (ص 77). * الشافعي (2): أخبرنا إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رشّ على قبر إبراهيم ابنه، ووضع عليه حصباء. والحصباء لا تثبت إلا على قبرٍ مسطَّح. أقول: إبراهيم بن محمد أجمع الأئمة على تضعيفه، إلا ابن الأصبهاني والشافعي، قال الشافعي: كان لأن يخرّ من السماء ــ أو قال: من بُعْد ــ أحبّ إليه من أن يكذب. وصرَّح جماعةٌ من الأئمة بأنه يكذب، وقال الإمام أحمد: يضع. وقال ابن عدي: قد نظرت أنا الكثير من حديثه، فلم أجد له حديثًا منكرًا، إلا عن شيوخ [ص 19] يُحْتَمَلون، وقد حدَّث عنه الثوري وابن جريج والكبار. وعلى كل حال، فالرجل ضعيف، ومع هذا فالحديث مرسل. وفي الاحتجاج بالمرسل خلافٌ، لا حاجة لذكره. * المطلب، أبو داود (3): روى بسنده إلى المطلب بن أبي وداعة قال: _________ (1) (1/ 219 ــ ط الجامعة السلفية). (2) في "المسند" رقم (599 ــ مع تخريجه). وله شاهد عند أبي داود في "المراسيل": (424). (3) رقم (3206). وأخرجه من طريقه البيهقي: (3/ 412)، ولفظهما: "أتعلَّم". والمطلب ليس صحابيًّا. قال الحافظ في "التلخيص": (2/ 141): "وإسناده حسن ليس فيه إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب، وهو صدوق. وقد بيّن المطلب أن مخبرًا أخبره ولم يسمّه، ولا يضر إبهام الصحابي ... ".
(5 أ/23)
لما مات عثمان بن مظعون أُخرج بجنازته فدُفِن، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلًا أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملها، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحسر عن ذراعيه. قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كأني أنظر إلى بياض ذراعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ص 22] حين حسر عنهما، ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: "أُعَلِّمُ بها قبرَ أخي، وأدفنُ إليه من مات من أهلي". اهـ. * في "الصحيحين" (1): عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قالت: ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبره، غير أنه خشي أن يكون مسجدًا". اهـ. _________ (1) البخاري رقم (1330)، ومسلم رقم (529).
(5 أ/24)
* آثار - الشافعي في "الأم" (1): لم أرَ قبور المهاجرين والأنصار مجصَّصة. - مالك: من مذهبه حُجّية عمل أهل المدينة، وقد قرر التسنيم، وترك التجصيص والبناء، وقضيته أن عمل أهل المدينة كان على التسنيم، وترك التجصيص والبناء (2). - "الجوهر النقي" (3): عن الطبري: هيئة القبور سنة متبعة، ولم يزل المسلمون يُسَنِّمون قبورهم. ثم قال: ثنا ابن بشار ثنا عبد الرحمن ثنا خالد ابن أبي عثمان قال: رأيت قبر ابن عمر مسنَّمًا. - محمد بن الحسن في "الآثار" (4): عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم كان يقال: ارفعوا القبر حتى يُعْرَف أنه قبر فلان. - "النهاية" (5) (جمهر): وفي حديث موسى بن طلحة أنه شهد دفن رجل، فقال: جمهروا قبره، أي اجمعوا عليه التراب جمعًا، ولا تطيّنوه، ولا تسوّوه. _________ (1) (2/ 631). (2) انظر "تهذيب المدونة": (1/ 346)، و"الذخيرة": (2/ 478 - 479). (3) (4/ 4). (4) (2/ 190). (5) (1/ 180).
(5 أ/25)
[ص 23] الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة
أما الآية؛ فيُستدل بها على أن المقصود من شَرْع دفن الميت هو مواراة جثته، فالقَدْر الذي يحصل به تمام المواراة هو الأصل الثابت المقرر، وما زاد عن ذلك فإنه مفتقرٌ إلى دليل؛ لما مرَّ في المقدمة (1): أن أحكام القبور شرعية، والشرع توقيف. وأما حديث فضالة؛ فمداره على كلمة "التسوية"، فنقول: المتبادر من التسوية في الحديث أن يكون وجه القبر مساويًا لوجه الأرض في البقعة المحيطة به. ولكن نوزع بأن هذا إنما هو معنى تسوية القبر بالأرض، والذي في الحديث تسوية القبر فحسب. وتسوية القبر عبارة عن جعله متساوي الأطراف، كما في قوله عزَّ وجلّ: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]. وهذا لا يقتضي التسوية بالأرض، بل أن يسوَّى القبر في ذاته، بأن لا يُترك فيه تسنيم أو زيادة في بعض أطرافه، بل يُجْعَل مسطَّحًا. وأجيب: بأن التسوية إذا أُطْلِقت على شيء ناشز على وجه الأرض كالبناء والربوة، فمعناها: تسويته بالأرض. ومنه قول الله تبارك وتعالى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] قال الراغب (2): أي سوَّى بلادَهم بالأرض. _________ (1) (ص 15). (2) في "المفردات" (ص 440).
(5 أ/26)
ويدل عليه في هذا الحديث نفسه أن الصحابيَّ جعل الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف من التراب، حيث قال: "أخِفُّوا عنه"، "خَفّفوا"، "خَفّفوا عليه التراب فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بتسوية القبور". [ص 26] وإنما يكون الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف إذا أُرِيْد بها التسوية بالأرض، فأما تسوية القبر في ذاته، فإنها تُمْكِن مع كثرة التراب، كما تُمكن مع قلته. والصحابيُّ لم ينقل لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنصِّه حتى يسوغ لنا أن نستقلّ بفهمه، وإن خالف فهم الصحابي، وإنما مؤدَّى كلامه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بتسوية القبور، التسوية المقتضية لتخفيف التراب. أي أن بيان كون التسوية المأمور بها هي التي تقتضي تخفيف التراب مرفوعٌ تقوم به الحجة. وقد مر عن "كنز العمال" (1) حديث: "سووا القبور على وجه الأرض إذا دفنتم". فإن صحَّ فهو صريح في التسوية بالأرض، إذ لا يصح أن يقال: "سووا القبور" أمرٌ بتسويتها في ذاتها، و "على وجه الأرض" حالٌ؛ إذ لا معنى للحال، فالقبور على وجه الأرض على كل حال، فما بقي إلا أن يكون سووها بوجه الأرض. وقال الباجي في "شرح الموطأ" (2): قال ابن حبيب: وروى جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفع القبور أو يُبْنى عليها، وأمر _________ (1) رقم (42387). وانظر (ص 20). (2) (2/ 494).
(5 أ/27)
بهدمها، وأمر بتسويتها بالأرض ... إلخ. وسيأتي (1) في حديث علي رضي الله عنه: "ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته"، فجعل التسوية: إزالة الإشراف، والإشراف هو الارتفاع، أعم من أن يكون القبر متساويًا في نفسه، وأن يكون غير متساوٍ، فالتسوية التي هي إزالة الإشراف، هي التسوية بالأرض، كما هو واضح. [ص 27] أقول: الحقُّ أن التسوية إذا أطلقت (2) كان المراد تسوية الشيء في ذاته. وتسويةُ الشيء في ذاته، لها معنيان: [المعنى] الأول: جَعْل الشيء متساوي الأجزاء، وهذا على ثلاثة أوجه: 1 - (3): أن يكون الشيء المراد تسويته واحدًا اختلفت أجزاؤه، كقطعة من الأرض فيها حُفر وجُثًى، فيؤمر بتسويتها، أي: إزالة تلك الجُثَى، وطمّ تلك الحفر، حتى تكون القطعة سواء. 2 - أن يكون جماعة، ويُراد تسوية كل واحدة منها في نفسه، كقطع من الأرض في كل واحدة منها حُفر وجُثًى، فيؤمر بتسوية القِطَع، أي: تسوية كل واحدة منها في ذاتها، بمثل ما تقدم، مع قطع النظر عن مساواة كل قطعة لبقية القطع أو عدمه. 3 - أن يكون جماعة، ويراد تسويتها، أي: جعلها متساوية. كأنْ يؤمر _________ (1) (ص 50، وشرحه 109). (2) الأصل: "طلقت" سهو. (3) كتب المؤلف: " (1) الأول" وفي التي تليها جعلها بالأرقام فقط فجعلنا الجميع كذلك.
(5 أ/28)
الخبَّاز بتسوية الأرغفة، أي: جعلها كلها على قَدْر واحد، بحيث لا يبقى تفاوت بين رغيف ورغيف. [ص 28] المعنى الثاني: جَعْل الشيء سويًّا، أي: قويمًا على ما اقتضته الحكمة، بلا إفراط ولا تفريط، ومنه قول الله عزَّ وجلّ: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]. وقوله جل ذكره: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37]. قال الراغب (1): أي: جعل خِلْقتك على ما اقتضت الحكمة. ومنه قوله عزَّ وجلّ: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]. أي ــ والله أعلم ــ: كامل الخلقة بالنظر إلى الهيئة المشتركة بين البشر التي اقتضت الحكمة جَعْلَهم عليها. وقال الراغب (2): السويّ: ما يُصان عن الإفراط والتفريط. [ص 29] إذا تقرر هذا، فالوجه الأول من المعنى الأول هو المراد في الآية: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، أي ــ والله أعلم ــ: جعلها متساوية الأجزاء، وهذا كناية عن الخراب البالغ، فإن البلاد العامرة تكون متفاوتة بارتفاع الأبنية على العَرَصات، وارتفاع بعض الأبنية على بعض، وإنما تتساوى إذا خَرِبت الخرابَ البالغ. ولا يأتي هذا الوجه في _________ (1) في "المفردات" (ص 440). (2) نفسه.
(5 أ/29)
حديث فَضَالة، ويمكن أن يأتي في حديث عليّ الذي سيأتي: "ولا قبرًا مُشْرفًا إلا سوَّيته". والتسوية على هذا الوجه لا تنافي التسنيم، فإن القبر إذا كان مُسنَّمًا تسنيمًا محكمًا بأن يكون سطحه أملس، بحيث لو بُسِطَ عليه ثوب للصق بجميع أجزائه، يقال له: مسوّى. ولو رأينا كرتين إحداهما ملساء السطح، والأخرى يوجد في سطحها هنات ناشزة، وحُفيرات منخفضة، فإننا نسمي الأولى مستوية، وإذا أمرنا بإصلاح الثانية، قيل: أمر بتسويتها. ولكنه على كل حال لا يصلح هذا الوجه للتسوية في حديث علي؛ [ص 30] لأن فيه أن التسوية هي إزالة الإشراف، أي: الارتفاع، وتسوية القبر في ذاته على ما قررنا في هذا الوجه لا تنافي الإشراف. الوجه الثاني هو ممكن في حديث فَضالة، والتسوية عليه لا تنافي التسنيم؛ لما مرَّ في الوجه الأول. ولكن يردّ هذا الوجه قولُ فَضالة: "خَفّفوا" الدال على أن التسوية في حديثه هي المقتضية للتخفيف، والتسوية في الوجه الثاني لا تقتضي التخفيف، فإنه يمكن تسوية القبر مع كثرة التراب، كما يمكن مع قلته. ويردّه أيضًا عدم صلاحية هذا المعنى لأن تُفَسَّر به التسوية في حديث علي. والظاهر أن معنى التسوية في الحديثين واحد. الوجه الثالث هو ممكن في حديث فضالة، فيكون المعنى: اجعلوا القبور متساوية لا يزيد قبر على قبر ولا ينقص عنه.
(5 أ/30)
ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حضر دفن جماعة من أصحابه، وقرر كيفية قبورهم، لزم أن تكون تلك القبور هي الإمام، فيُجْعَل كل ما يطرأ من القبور على هيئتها. ويردُّ بأمرين: الأول: بما قدمناه أن هذا المعنى لا يأتي في حديث [ص 31] علي، والظاهر أن معنى التسوية في الحديثين واحد، وقد يُعْتَذر عن هذا بحمل التسوية في حديث عليّ على تسوية القبر المشرف بسائر القبور المعروفة المقررة هيئتها شرعًا. ويردّه ما (1) سبق: أن التسوية إذا أُطلقت كان الأصل أن المراد بها تسوية الشيء في ذاته، لا تسويته بغيره. الثاني: أن حديث وضع الحجر وغيره يدل على جواز تمييز القبر بعلامة يتعرَّف بها لقصدٍ شرعي. وهذا ينافي التسوية على الوجه الثالث، والتزام التخصيص لا حاجة إليه ما دام اللفظ محتملًا لمعنىً آخر لا يحتاج إلى تخصيص. على أن هذا الوجه يؤول إلى موافقة المعنى الثاني الذي هو المختار. المعنى الثاني هو المختار عندي، فالمراد بتسوية القبر جعله سويًّا قويمًا على ما اقتضته الحكمة من غير إفراط ولا تفريط، وذلك على الهيئة التي قررها الشارع للقبور. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد بيَّن لأصحابه الهيئة التي ينبغي _________ (1) الأصل: "بما".
(5 أ/31)
أن تكون القبور عليها، وبعد أن عَقَلوها وعلموا أنها هي الهيئة السوية القويمة، أمرهم بلزومها في ما يطرأ من القبور، وردّ ما خالفها إليها. وهذا هو معنى ما في "كنز العمال" ــ إن صح ــ: "سووا القبور على وجه الأرض ... " إلخ (1). [ص 32] وإنما زاد قوله: "على وجه الأرض" تنبيهًا على ما هو الأهم؛ لأن الغالب أن المخالفة إنما تقع في ظاهر القبور بالتجصيص والإشراف والبناء وغيره، وهذه الأشياء منافية لكون القبر سويًّا بالنسبة لما على وجه الأرض منه، فأمر بتسويتها على وجه الأرض. وأما ما رواه ابن حبيب (2)، وفيه: "وأمر بهدمها وتسويتها بالأرض"؛ فلم يصحّ عندنا، فيلزمنا النظر فيه، على أن الباجيّ قال عقب ذكره: قال ابن حبيب: وينبغي أن يسوّى تسوية تسنيم. قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: ومعنى ذلك عندي ــ والله أعلم ــ أن يسوَّى نفس القبر بالأرض، ويُرْفع رفع تسنيم دون أن يُرْفَع أصله". اهـ. أقول: يعني أن تبقى أطرافه مساويةً للأرض، ويرتفع وسطه مسنمًا، كما هي هيئة المسنم الذي يقتصر على إعادة تراب حفرته إليها، وجمعه عليها. وهذه الهيئة تلاقي الهيئة التي قررها الشارع للقبور، ولكن ليس معنى التسوية هنا، هو المعنى المختار في الحديثين، ولا ضير، فإن هذه الزيادة لم يُعْلَم صحتها كما تقدم، ويمكن أن يكون قوله: "بالأرض" من زيادة بعض _________ (1) تقدم (ص 20). (2) فيما نقله عنه الباجي، في "شرح الموطأ": (2/ 494)، وسبق نقله (ص 31 - 32).
(5 أ/32)
الرواة، رواه بالمعنى الذي فهمه (1). [ص 33] حديث ابن حبان: فيه أن من الهيئة المشروعة رَفْع القبر نحو شبر، وهذا من فعل الصحابة رضي الله عنهم، وخيارهم فيهم، وهم مجتمعون، فلا يصنعون بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما يعلمون أنه المشروع، ولم ينقل عن أحدٍ منهم خلاف، ولا بأيدينا دليل يخالف فعلهم، وعليه فهو حجة. والأصل عدم الخصوصية، فالذي صُنِعَ بقبره صلى الله عليه وآله وسلم هو المشروع في القبور مطلقًا، أعني مما ذكره ابن حبان. فأما الدفن في المُلك، وفي البناء، فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى (2). ولا يظهر فرق فيما تضمَّنه الحديث بين أن يكون القبر في الملك، وأن يكون في غير الملك، فالظاهر أن ذلك الفعل هو المشروع مطلقًا، ويؤيده ما يأتي إن شاء الله تعالى. [ص 34] الخلاصة: رفع القبر نحو شبرٍ مشروع (3). حديث القاسم فيه قوله: "لا مشرفة، ولا لاطئة". المشرف: المرتفع. واللاطئ: اللاصق بالأرض. فمعناه: أنها ناشزة عن الأرض قليلًا. وقد عُلِم من حديث ابن حبان قدر الرفع ابتداءً، ويحتمل أن يكون تناقص، وعلى كل حال فهو مؤيِّد لحديث ابن حبان في هذا. وفيه قوله: "مبطوحة ... " الخ. ومدار الحديث فيه على هذه الكلمة. _________ (1) تقدم (ص 27). (2) في (المسوّدة) (ص 27 - 28). (3) كتب المؤلف الخلاصة عدة مرات، ثم استقر على هذه العبارة.
(5 أ/33)
فأقول: البطح يأتي على معانٍ: 1 - بسط الشيء وجعله مسطَّحًا مستويًا. قال الزمخشري في "الفائق" (1) مادة (رفف): " [ابن الزبير رضي الله عنه] (2) لما أراد هدم الكعبة ... وكانت في المسجد جراثيم، فقال: يا أيها الناس أبْطِحوا. وروي: كان في المسجد حُفَر منكرة، وجراثيم وتَعادٍ، فأهاب بالناس إلى بطحه .... البطح: أن يُجْعَل ما ارتفع منه منخفضًا حتى يستوي ويذهب التفاوت ... ". اهـ. 2 - جعله مرتفعًا ارتفاعًا يسيرًا، وهذا المعنى يؤخذ من الحديث "كانت كِمامُ أصحاب رسول الله [ص 35] صلى الله عليه وآله وسلم بُطْحًا". قال في "النهاية" (3): أي لازقة بالرأس غير ذاهبة في الهواء. الكِمَام: جمع كُمّة، وهي القُلُنسوة. اهـ. 3 - إلقاء الإنسان على وجهه، ومنه قوله في حديث الزكاة: "بُطِحَ لها بِقاعٍ قَرْقَر" (4). وقد يستعمل في غير الإنسان تشبيهًا به في ذلك. 4 - جعل البَطْحاء ــ وهي الحَصْباء ــ على الشيء. _________ (1) (2/ 74). (2) الأقواس من المؤلف. (3) (1/ 83). (4) أخرجه مسلم رقم (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5 أ/34)
قال في "النهاية" (1): "وفي حديث عمر أنه أول من بَطَح المسجد، وقال: ابْطَحْه من الوادي المبارك، أي: ألقى فيه البطحاء". اهـ. فكون القبور مبطوحة بالمعنى الأول يقتضي التسطيح، وقد حاول ابنُ التُّرْكماني (2) أن يدفع ذلك فلم يصنع شيئًا، وذلك أنه نقل عبارة "الفائق": "البطح: أن يجعل ... " إلخ، كما مر، ثم قال: "فعلى هذا قوله: "مبطوحة" معناه ليست بمشرفة، وقوله: "لا مشرفة ولا لاطئة" يدل على ذلك" اهـ. وقد كان له أن يقول: إن استواء الشيء وذهاب تفاوته لا يقتضي التسطيح، بل يصح أن يكون المسنَّم مستويًا لا تفاوت فيه، وذلك باعتبار ظاهر سطحه، بحيث لو بُسِطَ عليه ثوبٌ للصق بجميع [ص 36] أجزاء سطحه، نظير ما قلناه في التسوية، فإن هذا التوجيه لا يخلو من قوة، وإن كان الحق أن "البطح" بالمعنى الأول ينافي "التسنيم"، وبينه وبين لفظ "التسوية" فرقٌ لا يخفى على المتأمل. وبالمعنى الثاني؛ يقتضي التسنيم فيما يظهر. وبالمعنى الثالث؛ يقتضي التسنيم قطعًا؛ لأن القبر المسنَّم يشبه هيئة الإنسان المبطوح، ولا سيما مع اعتبار ظاهر القبر ظهرًا له. وبالمعنى الرابع؛ يقتضي التسطيح على ما ذكره الشافعي في حديث جعفر بن محمد عن أبيه، كما مر (3)، قال: "والحصباء لا تثبت إلا على قبرٍ مسطَّح". _________ (1) (1/ 134). وصُحّح فيها إلى "ابطحوه" من المصادر الأخرى. (2) في "الجوهر النقي": (4/ 3 ــ بهامش سنن البيهقي). (3) (ص 23).
(5 أ/35)
ولا أدري ما وجهه، وإنما يمتنع ثباتُ الحصباء على الشيء المسنَّم إذا كان صلبًا، فأما إذا كان ترابًا غير منعقد، فإن الحصباء تثبت عليه كما لا يخفى. فالذي نفهمه أن البطح بالمعنى الرابع لا يقتضي تسطيحًا ولا تسنيمًا. وأما الترجيح بين هذه المعاني، فالراجح الأخير، [ص 37] لقوله: "ببطحاء العَرْصة الحمراء"، وذلك أن البطحاء على المسيل المتسع الذي فيه صغار الحصى، وتُطلق على نفس الحصى، كما مر. قال الطِّيبي في "شرح المشكاة" (1): "والمراد به ههنا الحصى؛ لإضافته إلى العرصة" اهـ. أي: لأن العرصة هي كل موضع واسع لا بناء فيه. وإضافة المسيل الواسع إلى الموضع الواسع غير ظاهرة. أقول: والباء في قوله: "ببطحاء" تدل على أن المراد بالبطحاء الحصى، وبـ "مبطوحة" موضوع عليها الحصى، وذلك أن الباء على هذا المعنى للتعدية، وعلى غيره للظرفية، ومجيء الباء للظرفية قليلٌ، بخلاف مجيئها للتعدية، كما هو واضح. [ص 38] ولرجحان هذا المعنى على بقية المعاني استغنينا عن الترجيح بين المعاني الباقية. ثم الظاهر أن الحال التي كانت عليها القبور حين رآها القاسم هي الحال التي وُضِعت عليها من أول مرة، إذ يبعُد أن يجترئ أحدٌ من الصحابة على تغييرها عما اتفقوا عليه فيها، ويؤيده أنها في بيت أم المؤمنين عائشة، _________ (1) (4/ 1412).
(5 أ/36)
وهي من الراسخين في العلم والدين. ويؤيد مشروعية وضع الحصى مرسلُ محمد بن علي، وإن كان ضعيفًا كما مرّ (1)، لكن بشرط أن لا يزيد في رفع القبر؛ لأن قدر الرفع في حديث ابن حبان هو الحاصل من التراب والحصباء، فلا يُزاد عليه. الخلاصة: رفع القبر قليلًا، وإلقاء الحصى عليه مشروع. [ص 39] جابر ــ برواية أبي حفص بن شاهين ــ: نصٌّ في أن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه كانت مسنَّمة، ولكننا لم نعلم صحته. غُنيم بن بسطام المديني: "رأيتُ قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا نحو أربع أصابع" اهـ. فيه دليل على أن المشروع ترك تعاهد القبور بالزيادة عليها، وإن نقصت عن القدر المشروع أول مرة، وذلك أن القدر المشروع في الرفع والمصنوع بالفعل في قبره صلى الله عليه وآله وسلم هو نحو شبر، كما في حديث ابن حبان، فدل كونه بعد زمان بقدر أربع أصابع أنه لم يُتَعاهَد بزيادة مع تناقصه، إلا أننا لا نعلم ما صحة هذا الأثر. [ص 40] إبراهيم النخعي: فيه أن من الهيئة المشروعة الارتفاع ووضع الحصباء ونحوها، إلا أنه لم يصح كما علمت. سفيان التمَّار: فيه أن من الهيئة المشروعة التسنيم، والظاهر أن تلك الحال هي التي وُضِعَت عليها القبور؛ لأنه لم يثبت أنها كانت مسطَّحة كما علمت، ولأن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه لا يجْسُر أحدٌ أن _________ (1) في (ص 23).
(5 أ/37)
يُقدِم على تغييرها عما اتفق عليه الصحابة، خصوصًا في تلك المدة، والصحابة رضي الله عنهم أحياء، وفي التابعين أئمة فضلاء. والتغيير الذي وقع في إمارة عمر بن عبد العزيز إنما هو بناء الجدار للاضطرار، ولم يثبت تغيير في هيئة القبر، ولا ضرورة تدعو إليه، ولو احتيج إلى إصلاح زالت به الهيئة الأولى، لما أُرْجِعَ إلا بنحوها. وحسبك بعمر بن عبد العزيز علمًا وورعًا ودينًا، وهو يومئذٍ حاضرٌ وهو الأمير، ولا بد أن يكون استشار من هنالك [ص 41] من العلماء، وعمل بمشورتهم (1). وقد مرّ أن عمل الصحابة الذي اتفقوا عليه ولا معارض له حجة. الخلاصة: التسنيم مشروع. حديث الشعبي: "رأيت قبور شهداء أُحد جُثًى مسنَّمة". قال في "اللسان": "في حديث عامر: رأيت قبور الشهداء جُثى: يعني: أتربة مجموعة، وفي الحديث الآخر: فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جثوةً من تراب" اهـ. ظاهره أنه رأى قبور شهداء أحد كلها كذلك، وهي كثيرة يبعد كلَّ البعد أن تُغيَّر كلُّها عما جُعِلَت عليه بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يتفق [ص 42] الصحابة على تغييرها، أو التقرير عليه، فلو كان قبرًا واحدًا أو _________ (1) قال ابن عبد البر في "الاستذكار": (9/ 101): "ومعلوم عند جماعة العلماء أن عمر ابن عبد العزيز كان لا يُنفذ كتابًا، ولا يأمر بأمر، ولا يقضي بقضية إلا عن رأي العلماء الجِلة ومشاورتهم، والصدر عما يجمعون عليه ويذهبون إليه، ويرونه من السنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه المهتدين بهديه المقتدين بسنته، وما كان ليُحْدِث في دين الله ما لم يأذن الله له به مع دينه وفضله" اهـ.
(5 أ/38)
اثنين أو ثلاثة، لجاز تغييرها، فأما نحو أربعين قبرًا فبعيدٌ جدًّا، فدلالة هذا الأثر قوية جدًّا. الخلاصة: جمع التراب على القبور بهيئة التسنيم مشروع. مرسل محمد بن علي: فيه أن وضع الحصى على القبر مشروع، وقد مر ثبوته بأثر القاسم، ومر الجواب عن قول الإمام (1): "والحصباء لا تثبت إلا مع قبر مُسَطَّح". وفيه: أن رشَّ القبر مشروع، وقد رويت فيه أدلة أخرى، وليس هو من محلِّ النزاع، فلم نستوفِ البحثَ فيه. حديث المطلب: فيه أن من المشروع إعلام القبر إذا احتيج إلى معرفته بعد ذلك؛ لقصدٍ شرعي، وقوله: "عند رأسه" محتمل أن تكون فوق القبر، وأن تكون بجانبه، والثاني هو المتعيِّن، للنهي عن الرفع والزيادة. ثم لا يخفى أن العلامة إنما يُحْتاج إليها إذا خُشي الاشتباه أو الانطماس، وفي الاحتمال الأول في قبر عثمان نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر الدفن هو وأصحابه، فكيف يُخْشى أن يشتبه عليه قبرٌ مسنَّم نحو شبر حَضَره مع أصحابه، مع أنه ورد أن عثمان بن مظعون أول مدفون بتلك البقعة، وخُصَّت لدفن المسلمين، وكانت سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحضر دفن موتاهم جميعًا. وأما الثاني؛ فلا يخلو من بُعْد؛ لأن القبر إذا كان مسنَّمًا نحو شبر، لم ينطمس إلا بعد سنين. _________ (1) أي: الشافعي.
(5 أ/39)
لكن ههنا احتمال آخر، وهو أن يكون تراب الحفرة نقص عن تكوين ارتفاع يسير، وكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزيد على القبر من غير حفرته، فاكتفى بوضع حجرٍ عن رأسه، وقد يكون ذلك الحجر من أحجارٍ أُخْرِجت من الحفرة، وكانت هي السبب في نقص تراب الحفرة. وعلى هذا فلا يكون في الواقع زيادة، بل هي من نفس الحفرة، ومع هذا فالظاهر أنه إذا احتيج للعلامة لم يضر أن تكون من غير الحفرة، ولكن شرطها الاحتياج [ص 46] إليها لقصد شرعي، وأن لا توضع فوق القبر، بل بجانبه عند الرأس، وأن لا تزيد عن قدر الحاجة، لا في القدر، ولا في الهيئة، فإن اختلّ شرطٌ من هذه لم يكن في الحديث دلالة على الجواز، وفي غيره من الأدلة التي ذكرنا بعضها في هذه الرسالة ما يدل على المنع. والله أعلم. الآثار معناها واضحٌ، وهي مقررة لما ثبت بالأدلة المذكورة. * * * * فَذْلكة (1) ما يتعلق بظاهر القبور من الهيئة المشروعة: 1 - رد تراب الحفرة إليها وجمعه عليها بهيئة التسنيم حتى ترتفع نحو شبر باعتبار الوسط، ولا يُزَاد على ذلك إلا ما ثبت، كوضع شيء من الحصى لا يزيد في الارتفاع، ووضع حجر عند رأس القبر علامة بشرطه. 2 - إبراز القبر. _________ (1) الفذلكة هنا بمعنى الخلاصة.
(5 أ/40)
الحمد لله الفصل الثاني [ص 47] تتمّة هذه هي الهيئة المشروعة في نفس القبر باعتبار ظاهره، فكل ما زاد عنها فهو بدعة ضلالة، يتناوله عموم النهي عن البدعة، كالتسطيح، فإنه ينافي التسنيم، وكالرفع فوق شبر، فإنه ينافي الاقتصار على الرفع نحو شبر، وكالتجصيص، فإنه ينافي كون القبور جُثًى مُسنَّمة وغيره، مع منافاته لعدم الزيادة والبناء على جوانب القبر القريبة، بحيث يسمى البناء قبرًا، فإنه بمعنى الرفع فوق شبر، مع منافاته لعدم الزيادة، سواءً أكان بحجر أم آجُرّ، أم خشب كالتوابيت، أو بغير ذلك، فهذه الأشياء منهيٌّ عنها ما لم يُخَصَّص بعضُها بدليل. وقد بقي علينا بيان الهيئة المشروعة فيما يتصل بالقبر. فأقول: الهيئة المشروعة هي ما كان في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عُلِم أنه لم يكن يبني على القبور بناءً واسعًا (1)، ولا يُبْنى بناء لتُجْعَل القبور فيه، ولا تُجْعَل القبور في بناء معدٍّ للسُّكْنى. فأما قبره صلى الله عليه وآله وسلم فله سبب خاص، يأتي بيانه إن شاء الله تعالى (2). _________ (1) كذا ضبطه المؤلف على أن الفعل مبني للمعلوم، والذي بعده مبنيّ للمجهول. (2) انظر ما سبق (ص 37 ــ 38). ولم يأت شيء آخر بخصوص هذه المسألة.
(5 أ/41)
ولا كانت توضع أستار على القبور، ولا تُنْصَب عليها الرايات، وغير ذلك. فالهيئة المشروعة عدم هذه الأشياء، فهذه الأشياء ونحوها بدعة ضلالة، يتناولها عموم النهي عن البدعة، وإلا فإنه يُؤخَذ منه النهي عنها بالقياس الجلي، سواءً أقلنا: إن العلة في النهي عن الرفع والتجصيص ونحوه هي كراهية معاملة القبر الذي هو بيت البِلَى بما ينافيه من الإحكام والتزيين. أم قلنا: إنها كراهية تمييز القبر بما قد يؤدي إلى تعظيمه. وقد ورد التعليل بالأولى عن المذاهب الأربعة. ففي "المنتهى" (1) من كتب الحنابلة متنًا وشرحًا: "وتسنيمٌ أفضل لحديث التمَّار، ولأن التسطيح أشبه ببناء أهل الدنيا". اهـ. وفي "الأم" (2) للإمام الشافعي: "وأحبّ أن لا يُبْنَى ولا يُجَصَّص، فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء، وليس الموت موضع واحد منهما". اهـ. [ص 48] وفي "الجوهرة المضية" (3) من كتب الحنفية: "قوله: (ويكره الآجُرّ والخشب) لأنهما لإحكام البناء، وهو لا يليق بالميت؛ لأن القبر موضع البلى". اهـ. ثم حكى تقرير هذا التعليل عن السرخسي. وفي "شرح الموطأ" (4) للباجي من المالكية: "فأما بنيانه ورفعه على _________ (1) (2/ 144 ــ مع شرح البهوتي ت: التركي). (2) (2/ 631). (3) (1/ 427). وهكذا وقع اسم الكتاب عند المؤلف، وصوابه "الجوهرة النيِّرة" وهو شرح لمختصر القدوري لأبي بكر الحدادي. (4) (2/ 494).
(5 أ/42)
وجه المباهاة، فممنوع". اهـ. وورد التعليل بالعلة الثانية عن بعض أهل العلم مستدلًّا بتواتر الأحاديث بلعن من اتخذ القبور مساجد، واشتداد غضب الله عليه، وفي بعضها تفسير ذلك ببناء المسجد على القبر، وصحة الأحاديث بالنهي عن الصلاة في المقبرة، وعن الصلاة إلى القبر، مع ما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا ... } الآية [نوح: 23]: أن هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ... إلخ. في "صحيح البخاري" (1). وفي بعض الأحاديث لَعْن من اتخذ على القبر سراجًا (2). وصرَّح العلماء في أهل المذاهب أن النهي عن الصلاة إلى القبر خشية أن يؤدّي ذلك إلى تعظيمه، وسيأتي نقل شيءٍ من هذا عند الكلام في المساجد على القبور. فكل هذا يدلُّ أن خشيةَ أن يؤدي تمييز القبور إلى تعظيمها، أمرٌ يعتبره _________ (1) رقم (4920) كتاب التفسير، باب: ولا تذرنّ ودًّا ولا سواعًا .... (2) ولفظه: "لعن الله زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج". أخرجه أحمد رقم (2030)، وأبو داود رقم (3236)، والترمذي رقم (320)، والنسائي رقم (2043)، وابن ماجه رقم (1575)، وابن حبان رقم (3179). وغيرهم من طرقٍ عن محمد بن جُحادة عن أبي صالح عن ابن عباس به. وفيه أبو صالح مولى أم هانئ ضعيف مدلس، وقد تفرّد بزيادة "والمتخذين عليها المساجد والسُّرج". فهي من مناكيره، وباقي الحديث له شواهد يتقوى بها.
(5 أ/43)
الشرع، فتكون هذه هي العلة في منع الرفع ونحوه؛ لِمَا هو مشاهد أن القبر المميز على غيره برفعٍ وتجصيصٍ وبناءٍ وسترٍ ونحوه يُعَظِّمه الجُهّال دون غيره، والعلة المنصوصة أرجح من المستنبطة، مع أن القياس يصح على كلا (1) العلتين. النتيجة: ثبت النهي عن تسطيح القبر، ورفعه فوق شبر، والزيادة عليه من تراب غير حفرته، إلا لتسويته بالأرض إذا نقص، وإلا شيئًا من حصى، وحَجَرًا للعلَامة عند الحاجة. وعن تجصيصه والبناء عليه، سواء أكان على جوانبه القريبة أم أوسع، وسواءً أبُنِي بعد القبر أم قبله لأجله، أم قبله لسُكْنى ونحوها. وعن سَتْره بالثياب، ونصب الرايات عنده، والكتابة عليه، وكل ما صُنِع لأجله مما لم يثبت له دليلٌ شرعيٌّ. فكل هذه الأشياء ثبت النهي عنها: أولًا: بدخولها تحت عموم "كل بدعة ضلالة"، وغيره من الأدلة. ثانيًا: لمنافاتها لتسوية القبور المأمور بها، أو منافاة بعضها لها، وإلحاق الباقي بالقياس الجلي. والله أعلم. _________ (1) كذا، والوجه: "كلتا".
(5 أ/44)
[الأحاديث والآثار الواردة في مسألة البناء على القبر]
[ص 49] البخاري في "صحيحه" (1) تعليقًا: "لما مات الحسن بن الحسن بن علي، ضربت امرأته القبة على قبره سنةً، ثم رُفِعت، فسمعت صائحًا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا، فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا". أقول: علقه البخاري بصيغة الجزم، وقد قالوا: إن ما كان كذلك فهو محمولٌ على أنه صحَّ لديه في الجُمْلة، أي: إما على شرطه، وإما على شرط غيره على الأقل. وفي هذا إجمالٌ، فإن من الأئمة الذين يصدق عليهم أنهم "غيره" من يتساهل في التصحيح. ومع هذا فقد يصحح أحدهم لمن يكذّبه غيره، فلا بدّ من النظر في رجال السند، وقد راجعنا "فتح الباري" (2)، فذكر فيه ما لفظه (جزء 3/ ص 161): "أي: الخيمة، فقد جاء في موضع آخر بلفظ: "الفُسْطاط" كما رُوّيناه في الجزء السادس عشر من حديث الحسين بن إسماعيل بن عبد الله المحاملي ــ رواية الأصبهانيين عنه ــ. وفي كتاب ابن أبي الدنيا، في "القبور" (3)، من طريق المغيرة بن مِقْسَم قال: لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته على قبره فُسطاطًا، فأقامت عليه سنة، فذكر نحوه". اهـ. [ص 50] ولا ندري ما حال السندَين، إلا أن المغيرة بن مِقْسَم كان أعمى ومدلسًا. _________ (1) في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (2/ 88 ــ ط الميرية). (2) (3/ 238). (3) لم أجده في المطبوع منه، والمطبوع فيه نقص. وهو في "هواتف الجان" له (131).
(5 أ/45)
وقد ذكر البخاري هذه القصة في باب ما يُكره من اتخاذ المساجد على القبور، قال في "الفتح" (1): "ومناسبة هذا الأثر لحديث الباب أن المقيم في الفُسطاط لا يخلو عن الصلاة هناك، فيلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة، فتزداد الكراهة. وقال ابن المُنيِّر: إنما ضَربت الخيمةَ هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه، تعليلًا للنفس، وتخييلًا ... ومكابرةً للحسّ .... فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتِفَيْن بتقبيح ما صنعوا ... إلخ. أقول: تعقبه بعضهم بأن الظاهر أنها إنما ضَربت الخيمةَ للاجتماع لقراءة القرآن. وهذا مع كونه ممنوعًا أيضًا، مردودٌ بقول الهاتِفَيْن: هل وجدوا ما فقدوا، بل يئسوا فانقلبوا. فالقصة فيها زراية على زوجة الحسن، وهي كما في "الفتح": فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، بل وعلى أهل البيت الموجودين حينئذٍ كلهم. فالذي عندي أن هذه القصة لا تصح، فإن أهل البيت أعلم بالله عزَّ وجلّ وأكمل عقولًا، وأثبت قلوبًا، من أن يقع لهم مثل هذه القصة، [ص 51] وفي الحديث: "لعن زوَّارات القبور" (2) أي: المكثرات لزيارتها، وضَرْب الخيمة على القبر، والإقامة فيها سَنةً أبلغ من إكثار الزيارة، وأهل البيت أولى من _________ (1) (3/ 238). (2) سبق تخريجه (ص 43).
(5 أ/46)
يُنَزَّه عن ذلك. هذا، مع عِلْمنا أن مثل هذا لا تقوم به حُجّة، بل القصة بنفسها في ذِكْر كلام الهاتِفَين تدل على قُبح ذلك الصنع، ولكن رأينا حقًّا علينا الذبّ عن أهل البيت رضي الله عنهم. * * * * [ص 52] البخاري في "صحيحه" (1) تعليقًا أيضًا، في باب الجريد على القبر: "وقال خارجة بن زيد: رأيتني ونحن شُبّان في زمن عثمان رضي الله عنه، وإن أشدنا وثبةً الذي يَثِبُ قبرَ عثمان بن مظعون حتى يجاوزه". قال في "الفتح" (2): وقد وصله المصنف في "التاريخ الصغير" من طريق ابن إسحاق. أقول: قال في "التاريخ الصغير" (ص 23) (3) طبعة إله آباد: حدثنا عَمْرو بن محمد ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة الأنصاري قال: سمعتُ خارجةَ بن زيد بن ثابت: رأيتني ونحن غلمان شبان زمن عثمان، وإن أشدّنا وثبةً الذي يَثِبُ قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه. اهـ. وقد مر قريبًا (4) الكلام على ما يعلقه البخاري بصيغة الجزم، وأنه لا يغني ذلك عن النظر في سنده، وقد علم ههنا سنده، فأقول: _________ (1) (2/ 95 ــ ط الميرية). (2) (3/ 265). (3) "التاريخ الأوسط" رقم (126 ــ ط الرشد). (4) (ص 45).
(5 أ/47)
شيخ ابن إسحاق لم أر له ترجمة (1)، وابن إسحاق كما تقدم في حديث فَضالة أنه قال الذهبي: "ما انفرد به ففيه نكارة، فإنّ في حفظه شيئًا" (2). 1 - [ص 53] ولا نعلم أحدًا تابعه في هذا الأثر، ولا ثمَّة قرينة تدل على حفظه، ينجبر بها تفرُّده، ففي الأثر نكارة. 2 - بل على القول بأنه يفهم منه رفع القبر فوق الشبر شذوذٌ، إذ المعروف المشهور أن القبور لم تكن تُرفع في ذلك العصر. 3 - بل نفس قبر عثمان بن مظعون، ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [وضع] حجرًا، وقال: "أُعَلِّم به قبر أخي" (3)، وأسلفنا أن ذلك يدل أنه لم يرفع عن وجه الأرض. 4 - ومع ذلك فيبعد جدًّا أن يخرج الشباب من أولاد الصحابة يتواثبون على قبر رجل من أفاضل السابقين، بحيث إنه لا يجاوز القبر إلا أشدهم وَثْبة، وغالبهم تقع وثبته على القبر، مع أن بجواره من قبور أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبر إبراهيم، وغيره. نعم، قد كان بعض الصحابة والتابعين ــ ومنهم خارجة ــ لا يرون بأسًا بالجلوس على القبور، ولكن أين الجلوس من التوثُّب، وقد كان أبناء الصحابة رضي الله عنهم بغاية التمسّك بالآداب الشرعية، ولاسيما مثل خارجة بن زيد. _________ (1) ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير": (8/ 284)، وابن حبان في "الثقات" (7/ 603). (2) "الميزان": (4/ 395). (3) سبق تخريجه (ص 23 - 24).
(5 أ/48)
5 - [ص 54] وفي "تهذيب التهذيب" (1) في ترجمة خارجة: قال ابن نُمَير وعَمْرو بن علي: مات سنة (99). وقال ابن المديني وغير واحد: مات سنة مائة. اهـ. فالأكثر كما ترى أنه مات سنة مائة. وقال ابن عساكر في "تاريخه" (2): "الصحيح الذي عليه أكثر الروايات أنه توفي سنة مائة". اهـ. وذكر قبل ذلك ما لفظه: "وقال العجلي: خارجة مدني ... وقال: رأيتُ في المنام كأني بنيتُ سبعين درجة، فلما فرغت منها تهورت (3)، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها. فمات فيها" اهـ. أقول: وقد ذكر هذه القصة ابنُ سعد في "الطبقات" (4) من روايته عن الواقدي بسنده، ونقلها عنه ابن خلِّكان (5)، فإن صحَّ هذا كان مولده سنة (30). فيكون سِنّه يوم قتل عثمان نحو خمس سنين؛ لأن عثمان قتل سابع ذي الحجة سنة (35)، فكيف يكون من الشبّان زمن عثمان. _________ (1) (3/ 95). (2) (15/ 395 - 396). (3) كذا هنا وفي (المسوّدة ص 31) والتاريخ، وفي بعض المصادر: "تدهورت". (4) (7/ 258 ــ ط الخانجي). (5) في "الوفيات": (2/ 223).
(5 أ/49)
[ص 55] حديث علي رضي الله عنه (1) قال الإمام أحمد في "مسنده" (2) (جزء 1/ ص 128 - 129): وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن حبيب عن أبي وائل عن أبي الهيَّاج قال: قال لي علي ــ وقال عبد الرحمن: إن عليًّا رضي الله عنه قال لأبي الهيَّاج ــ: "أبعثُك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن لا تدعَ قبرًا مُشرفًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا إلا طمستَه". أقول: الحديث رواه عن سفيان جماعة: منهم عبد الرحمن وخلَّاد بن يحيى والقطان ووكيع ومحمد بن يوسف ومحمد بن كثير. ووقع فيه خلاف سندًا ومتنًا. أما السند؛ فإن عبد الرحمن وخلَّادًا جعلا الحديث من رواية أبي وائل عن علي، وجعله الباقون من رواية أبي الهيَّاج عن علي. وأما المتن؛ فيأتي تفصيله. * رواية عبد الرحمن وخلاد: أما عبد الرحمن؛ فرواه عنه محمد بن بشار عند الترمذي (3)، والإمام أحمد في "مسنده" كما تقدم، ومن طريق الإمام أحمد رواه الحاكم في "المستدرك" (4). _________ (1) كتب المؤلف فوقه: "يؤخّر بعد حديث عائشة". لكن لم يعقد المصنف لحديث عائشة رضي الله عنها مبحثًا مستقلًّا. (2) رقم (1064). (3) رقم (1049). (4) (1/ 369).
(5 أ/50)
وأما خلَّاد؛ فرواه عنه معاذ بن نجدة القرشي عند الحاكم في "المستدرك" أيضًا. ولفظ محمد بن بشار ... عن أبي وائل: أن عليًّا قال لأبي الهيَّاج: "أبعثك على ما بعثني عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ص 56]: أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا إلا طمَسْتَه". وهكذا الباقون، إلا أنهم قالوا: "على ما بعثني عليه (رسول الله) صلى الله عليه وآله وسلم". وفي "المستدرك" عن أبي (هيَّاج). وقد رواه عن عبد الرحمن أيضًا عُبيد الله (أظنه القواريري) عند أبي يعلى في "مسنده" (1)، ولكن فيه: "عن حبيب بن أبي ثابت أن عليًّا قال لأبي الهياج". هكذا لم يذكر "عن أبي وائل"، وأظنه من إسقاط النساخ؛ لأن النسخة خطية غير مصححة (2)، وباقي الحديث كحديث الإمام أحمد. * رواية الآخرين: - القطان: رواه عنه أبو بكر بن خلاد الباهلي عند مسلم (3)، ذكر مسلم _________ (1) رقم (338). (2) وهكذا ذكر محقق مسند أبي يعلى أن ذكر "عن أبي وائل" سقط من النسختين، فلعله سقط قديم. أو من أخطاء المسعودي، فإنه ضعيف الحفظ. وسيأتي كلام المصنف في ذلك. (3) رقم (969) (2/ 667).
(5 أ/51)
رواية وكيع، وفيها: ... عن حبيب ... عن أبي وائل عن أبي الهياج قال: قال لي عليّ: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ص 56]: أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مُشْرفًا إلا سويته". ثم ذكر رواية القطان ... أخبرني حبيب بهذا الإسناد وقال: "ولا صورةً إلا طمستها". فدلّ هذا أن لفظ القطان: "ألا أبعثك ... أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها". - وكيع: رواه عنه جماعة، منهم يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، ومحمد بن سعيد الأصبهاني، والإمام أحمد. فعن الثلاثة الأولين: مسلم في "صحيحه"، وقد مر لفظه. وعن الثاني أيضًا: إسماعيل بن قتيبة، وعن الرابع: علي بن عبد العزيز، كلاهما عند الحاكم في "المستدرك"، ولم يصرِّح باللفظ، بل قال: بنحوه، أي: بنحو لفظ عبد الرحمن وخلّاد. وروى عن الثالث أيضًا: أبو يعلى في "مسنده"، ولفظه كلفظ الثلاثة عند مسلم، إلا أنه أسقط "ألا" وقال: "أن لا أدع"، وفي النسخة تحريف من النساخ. وأما الإمام أحمد ففي "مسنده" قرن وكيعًا بعبد الرحمن مرةً، وأفرده أخرى (1) أسقط "لا" فيهما، وقدَّم في الأولى ذكر القبر، وقد مرت الأولى. _________ (1) رقم (741).
(5 أ/52)
- محمد بن يوسف: رواه عنه أحمد بن يوسف السلمي عند البيهقي في "السنن" (1)، ولفظه: " ... عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألَّا تترك قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا في بيت إلا طمسته". فأسقط "لا" وزاد "في بيت"، وقدَّم ذِكْر القبر، وقال: "تترك" بدل "تدع". - محمد بن كثير: رواه عنه أبو داود (2) ولفظه: ... عن أبي الهياج الأسدي قال: بعثني عليٌّ قال: أبعثك على ... أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته". فزاد "بعثني عليٌّ"، وأسقط "ألا"، وقدَّم ذِكْر القبر، وجعل الفعل للمتكلم. [ص 57] الحكم في الاختلاف: الأصل الثابت المقرَّر: أنه إذا وقع اختلاف مع الاشتراك في عدم الضعف يُفْزَع إلى الجمع، فإن أمكن الجمع فالكلُّ صحيحٌ، وإن لم يمكن التُجِئ إلى الترجيح، فإن أمكن، فالأرجح هو الصحيح، وإلا ثبت الاضطراب. فلنعتبر الاختلاف في هذا الحديث بهذا الأصل. _________ (1) (4/ 3). (2) رقم (3218).
(5 أ/53)
* الاختلاف في السند: يمكن الجمع بأحد وجهين: الأول: بالحكم لرواية القطان ومن معه، لاحتمال رواية عبد الرحمن وخلَّاد التدليس من بعض الرواة. الثاني: بتصحيح كلا (1) الروايتين. ويشبه أن يكون مسلم رحمه الله مال إلى الوجه الأول، وإلا لَمَا عَدَل عن رواية عبد الرحمن مع ما فيها من الفوائد: كجلالة عبد الرحمن، وعلوّ طريقه، وتسلسلها بالأئمة، ويبعد أن يكون مال إلى الترجيح، أعني بالحكم على طريق عبد الرحمن بالخطأ، فإنه عالمٌ أنه لا يُصَار إلى الترجيح إلا إذا لم يمكن الجمع. وقد يُستأنس للتدليس باختيار القطان الرواية التي فيها "عن أبي الهياج"، والقطان يتحرَّز عن تدليس سفيان، بل وعن تدليس بعض شيوخ شيوخه، انظر "فتح المغيث" (2) (ص 77). وعندي أنه لا وجه للتدليس هنا؛ لأن أبا وائل لم يوصف بالتدليس، بل وُصِفَ بعدمه، وحبيبًا لو دلَّس هنا بإسقاط شيخ شيخه كما هو صورة البحث لكان تدليس التسوية، ولم يوصف به، وإنما وُصِفَ بمطلق التدليس، فيُحْمَل على أخفّ أنواعه، أعني التدليس عن شيوخه. _________ (1) كذا في الأصل، والوجه: "كلتا". (2) (1/ 219).
(5 أ/54)
ولهذا تراهم يعمدون إلى السند الذي فيه من وُصِف بمطلق التدليس، ولكنه صرح بالتحديث عن شيخه، فيحكمون له بالصحة، وإن كان شيخه أو شيخ شيخه لم يصرِّح بالسماع، إلا أن يوصَفَ بالتسوية، فلابد من التصريح بالسماع منه إلى آخر السند. ووجهه أن تدليس التسوية أقبح وأشنع من مطلق التدليس، إذ لا يخلو عن الكذب، فالظاهر سلامة الثقة منه، وإن وُصِف بمطلق التدليس. انظر كتب الفن في تدليس التسوية. أما سفيان: فقد قيل: إنه كان يدلس التسوية، ولكن في "فتح المغيث" (1) (ص 77) قال البخاري: لا يُعْرَف لسفيان الثوري عن حبيب ابن أبي ثابت، ولا عن سلمة بن كُهَيل، ولا عن منصور، ولا عن كثير من مشايخه تدليس، ما أقل تدليسه! اهـ. [ص 58] وظاهر هذا يتناول تدليس التسوية، وإلا لقال البخاري: ولكنه كان يسوِّي فيما رواه عن حبيب، أو نحو ذلك. مع أن سفيان أثبت إن شاء الله من أن يسوّي فيما رواه عن شيخ قد تنزه عن التدليس عنه، فإن ذلك أشدّ غررًا من التسوية مع عدم التنزه عن التدليس؛ لأن العلم بتنزّهه عن التدليس عن شيخه، يَحْمِل على الظن بأنه لم يسوّ فيما رواه عنه. على أن ههنا مانعًا آخر من الحمل على التدليس، وهو سقوط "ألا" في رواية عبد الرحمن وخلاد أصلًا، وثبوتها في رواية الآخرين غالبًا، وهذا يدل أنهما روايتان من الأصل. _________ (1) المصدر نفسه.
(5 أ/55)
ويؤيده أن الحاكم حكم بصحة رواية عبد الرحمن وخلاد على شرط الشيخين، كما يأتي، وأقره الذهبي. وأيضًا فالحمل على التدليس نوع من الترجيح، والجمع المحض أولى منه. وبمجموع ما ذكرنا ينتهض الوجه الثاني، وهو تصحيح الروايتين معًا، إن شاء الله. فأقول: قد حكم بصحتهما معًا الحاكم في "المستدرك"، فإنه ذكر رواية عبد الرحمن وخلاد، ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأظنه لخلاف فيه عن الثوري، فإنه قال مرة: عن أبي وائل عن أبي الهياج، وقد صح سماع أبي وائل عن علي رضي الله عنه". اهـ. ثم ذكر رواية وكيع، وتوجيهه: أن أبا وائل سمع الحديث مرةً من علي، ومرةً: من أبي الهيَّاج، فكان يحدث بهذا تارةً، وبهذا أخرى، وتَبِعه حبيب، فتبعه سفيان. وقد علمت أن رواية عبد الرحمن وخلّاد اطَّرَد فيها سقوطُ "ألا"، وسيأتي أن الأصل في رواية الآخرين ثبوتها، فيظهر من هذا: أن عليًّا رضي الله عنه عرض على أبي الهياج البعث بقوله: "ألا أبعثك ... " إلخ ولم يعزم عليه، فخرج فلقي أبا وائل فأخبره، ثم اتفق اجتماعهما عند علي رضي الله عنه، فعزم على البعث، فقال لأبي الهياج: "أبعثك ... " إلخ. أما ما في "مسند أبي يعلى" عن عُبيد الله عن عبد الرحمن، وفيه: "عن حبيب بن أبي ثابت أن عليًّا .. " كما تقدم، فهو من خطأ النساخ جزمًا، فإن
(5 أ/56)
الكاتب إذا كتب "أبي ثابت" ثم نظر في الكتاب الذي نسخ منه فرأى "أبي وائل" ظن أنه قد كتبها لاشتباه الكُنيتين [ص 59] والنسخة الخطية غير مصحَّحة (1). * الاختلاف في المتن: أما رواية عبد الرحمن وخلاد فلم يقع فيها خلاف يُغيِّر المعنى، فلا كلام عليها، وقد ترجَّح أنها رواية مستقلة، فلا يضرّها الخلاف الواقع في الرواية الأخرى. وأما الخلاف في الرواية الأخرى؛ فمنه ما لا يغير المعنى، كالتقديم والتأخير، وإبدال "تمثال" بـ"صورة"، و"تدع" بـ"تترك" (2)، وجَعْل الضمائر التي للمخاطب للمتكلم وغيره، فهذا من الرواية بالمعنى، وكانت شائعة بينهم، فلا تضر. ومنه ما لا يخلو عن تغيير للمعنى، وهو الاختلاف في ثبوت "ألا" مع زيادة ابن كثير (3) "بعثني عليّ"، وزيادة ابن يوسف (4) "في بيت". فإن الكلام مع ثبوت "ألا" عَرْض، ومع سقوطها جزمٌ، ولاسيما زيادة "بعثني عليّ"، وكذلك قول ابن يوسف "في بيت" قيدٌ، ينافي إطلاق بقية الروايات. _________ (1) انظر ما سبق (ص 51) وسيأتي (ص 58). (2) رسمها في الأصل: "بترك". (3) في رواية أبي داود، وقد تقدمت. (4) في رواية البيهقي، وتقدمت أيضًا.
(5 أ/57)
والجواب: بالجمع، بأنَّ الأصل في هذه الرواية ثبوت "ألا" ولكن كأنَّ سفيان رحمه الله أسقَطَها مرةً بناءً على أن إسقاطها لا يغيِّر معنى المرفوع، مع أنَّ دلالة الكلام بعد إسقاطها على الجزم لا يضر، بعد صحة الجزم بالرواية الأخرى. وأثبتها مرة على الأصل، أو لأنه تنبَّه أن لإثباتها فائدة في الجمع بين الروايتين، فسمع منه أصحابه الإثبات والإسقاط، فروى بعضهم هذا، وبعضهم هذا، وروى وكيعٌ الأمرين. لكن نسبة إسقاط "ألا" إلى سفيان، يردُّه ما في "مسند أبي يعلى" قال: "حدثنا عبد الله نا يزيد بن هارون أنا المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت (1) عن أبي الهياج قال: قال عليًّا (كذا) أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تدع قبرًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا إلا طمحته (كذا) ". [ص 60] هكذا في النسخة ليس فيه: "عن أبي وائل" ويظهر أنه من إسقاط النساخ، كما مر (2). وهذه النسخة لا يوثق بها، لكن إذا وُجِد في نسخة صحيحة وليس فيه "ألا"، فالظاهر أن الإسقاط جاء من حبيب، أسقط مرة، وأثبت أخرى، فسمع المسعودي الإسقاط، وسمع سفيان الأمرين، فحدَّث بهذا مرة، وهذا أخرى كما مر. فأما زيادة محمد بن كثير "بعثني علي" فمِن عِنْده، وذلك أنه سمع _________ (1) بعدها رمز (7). (2) (ص 51، 57).
(5 أ/58)
الرواية بإسقاط "ألا" ففهم الجزم، فزاد هذه الكلمة ظانًّا أنها إيضاحٌ للمعنى لا تغيير له، مع أن محمد بن كثير غمزه ابنُ معين، وأظنه من جهة الضبط (1). وأما زيادة ابن يوسف "في بيت" فعلى الخلاف في زيادة الثقة قيدًا لما أطلقه غيره، انظر "فتح المغيث" (2) (ص 90). ومما يقوي طرحها، قول ابن عدي في محمد بن يوسف هذا: له إفرادات عن الثوري (3). تنبيه: حديث أبي يعلى عن عبيد الله عن يزيد عن المسعودي صحيحٌ إن ثبت في نسخة صحيحة وصله عن أبي وائل، كما هو المظنون، بل وإن لم يثبت فقد عُلِم برواية سفيان أن أبا وائل هو الساقط، ولا أدري لعل حبيبًا أدرك أبا الهياج، فلينظر. فأما ما ثبت أن المسعودي اختلط وخلّط فلا يضر؛ لأن سماع يزيد عنه كان قبل ذلك، انظر "فتح المغيث" (4) (ص 493). تنبيه آخر: ذكر الحافظ رحمه الله هذا الحديث في كتابه "إتحاف المهرة" (5) فقال: _________ (1) كما في رواية ابن الجنيد رقم (343، 344). (2) (1/ 250 - 251). (3) "الكامل": (6/ 232). (4) (4/ 388). وانظر "الكواكب النيرات": (ص 282). (5) رقم (14194).
(5 أ/59)
حصين بن حيان الأسدي أبو الهياج عن علي، حديث: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ... ثم ذكر رواية الحاكم الثانية، أعني التي فيها "عن أبي الهياج" إلى أن قال: "عن أبي وائل عنه به". ثم ذكر رواية الحاكم الأولى، أعني رواية خلاد وعبد الرحمن، ثم قال: وقال "صحيح على شرطهما"، وقال: أظنهما .... قلت: قد أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بسنده. ثم ذكر رواية أحمد عن يونس بن محمد، وسيأتي. [ص 61] ثم قال: وعن وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج به. اهـ . وفي عبارته ثلاثة مواضع موهمة لخلاف الواقع: [الأول]: قوله بعد ذكر أكثر لفظ الحديث، وسوقه رواية الحاكم الثانية: "عن أبي وائل عنه به". هذا يوهم أن الحاكم صَرَّح بلفظ الحديث، وأنه باللفظ الذي تقدم أكثره، وليس الأمر كذلك، فإنما قال الحاكم: "فذكر الحديث بنحوه" أي بنحو لفظ عبد الرحمن وخلَّاد المذكور في الرواية الأولى. وقد اختلفت ألفاظ الرواة عن وكيع، فلا يُدْرى اللفظ الذي ثبت عند الحاكم ولم يصرح به، أهو كلفظ مسلم الذي صَدَّر به الحافظ، وحكم بأنه هو، أم لا؟ . فإن قيل: إن أبا بكر بن أبي شيبة أحد الراويين عن وكيع عند الحاكم،
(5 أ/60)
هو أحد رواة لفظ مسلم، والظاهر الاتفاق. قلت: فما نصنع بالراوي الآخر وهو الأصبهاني، وعلى كلِّ حال فلا يخلو المقام من مسامحة. الموضع الثاني: أنه بعد ذِكْر عبارة الحاكم: "صحيح على شرطهما ... " إلخ. قال: "قلت: قد أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بسنده". وهذا صريحٌ في أنَّ قولَ الحاكم: "ولم يخرجاه" يعني الحديث من أصله، فاحتيج إلى تعقُّبه بأن مسلمًا قد أخرجه بسنده، وإنما قال الحافظ: "قد أخرجه مسلم عن أبي بكر ... " إلخ. مع أن مسلمًا أخرجه عنه، وعن غيره مقرونين؛ لأن الحاكم رواه من طريق أبي بكر أيضًا. وقوله: "بسنده" أي: بنفس السند الذي ذكره الحاكم، وبهذا يتم الحكم على الحاكم بالوهم. وقد علمت أن الحاكم إنما أورد تلك العبارة عقب الرواية الأولى، أعني رواية عبد الرحمن وخلَّاد، فقوله: "هذا الحديث" متوجِّه إليها، وكذا قوله: "ولم يخرجاه" كما هو ظاهر، وهو المُطَّرِد في اصطلاحه في "المستدرك"، يذكر الحديث ثم يتكلم عليه. وأصرح من هذا قوله في آخر العبارة: "وقد صحَّ سماع أبي وائل من علي". وبهذا يعلم أن حكم الحاكم صحيح، فإنَّ حديثَ عبد الرحمن وخلاد (1) لم يخرجه أحدٌ من الشيخين بسنده، بل ولا متنه. الموضع الثالث: قوله في ذكر رواية أحمد عن وكيع وعبد الرحمن ... _________ (1) الأصل: "خالد" سهو.
(5 أ/61)
عن أبي الهياج به، وقد علمت لفظ الإمام أحمد حيث قال بعد "عن أبي الهياج": "وقال عبد الرحمن ... " إلخ، فدل أن العبارة [ص 62] الأولى هي عبارة وكيع فقط، كما لا يخفى، وقد قابلنا حديث الإمام أحمد بنسخة خطية، ولم نكتف بالمطبوعة، مع أن رواية الحاكم من طريقه صريحة في ذلك. رجوع: قد اندفع ما زعمه بعضُ الجُهَّال (1): أن الحديث مضطرب سندًا ومتنًا، فإن شرط الاضطراب التقاوم، أي: أن لا يمكن الجمع ولا الترجيح، وقد أمكن الجمع ههنا كما أشار له الحاكم، وقررناه أحسن تقرير، والحمد لله. وهذا الجمع أولى وأقرب مما جمعوا به بين حديثي فاطمة بنت قيس مرفوعًا: 1 - "إن في المال لحقًّا سوى الزكاة" (2). 2 - "ليس في المال حق سوى الزكاة" (3). فدفعوا الاضطراب بأن قالوا: يُجْمَع بأنها سمعت اللفظين، والحق الأول المستحب، والثاني الواجب. _________ (1) يشير المؤلف إلى حسن صدر الدين الكاظمي الرافضي في رسالته "الرد على فتاوى الوهابية" (ص 73) حيث زعم أن الحديث مضطرب المتن والسند! (2) أخرجه الترمذي رقم (659، 660) والدارقطني: (2/ 125)، والبيهقي: (4/ 84). قال الترمذي: "هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزه ميمون الأعور يضعّف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح". (3) أخرجه ابن ماجه رقم (1789).
(5 أ/62)
والغريب أن ذلك الجاهل خَبَط في تقرير الاضطراب بما يُضْحَك منه. قال: "فتارة يذكر "عن أبي وائل أن عليًّا قال لأبي الهياج"، كما في رواية أحمد عن وكيع () (1)، ورواية أبي داود عن محمد بن كثير ()، ورواية الترمذي عن محمد بن بشار، وتارة يذكر "عن أبي الهياج أنه قال: قال لي علي"، كما في رواية أحمد عن عبد الرحمن ()، ورواية مسلم عن وكيع". ويعرف خبطه بما قدمناه. وزعم أن في سند الحديث أبا وائل القاصّ، وذلك أنه نظر باب الكنى في "الميزان" (2)، فلم يجد أبا وائل إلا واحدًا هو القاصّ، ولم يدر أن أبا وائل الذي في سند الحديث ليس مِن بَراذين (3) "الميزان"، وهو شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي، أحد سادة التابعين، مخضرم، روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وطائفة. ولم يتنبه ذلك الجاهل إلى أن القاصّ لم يرو عن علي، ولا روى عنه حبيب، ولا أخرج له مسلم. نعم، في الحديث عنعنة حبيب، وهو مدلس، وليس بأيدينا شيءٌ من المستخرجات لعلنا نجد في شيءٍ منها تصريحه بالتحديث، وليس في "إتحاف المهرة" شيءٌ عن أبي عوانة في هذا الحديث. _________ (1) هكذا كتب المؤلف هذه الأقواس، ولا ندري ما مقصوده منها، إلا إن أراد أن يكتب مواضعها من الكتب، وقد سبقت. (2) (6/ 258). (3) جمع بِرْذون، وهو البغل. يعني ليس من جملة الضعفاء المذكورين في "الميزان".
(5 أ/63)
لكن ههنا عدة أمور ينجبر بها هذا الوهن: الأول والثاني: أن الحديث في الصحيح، وهو أصل في الهدم، فلا يقال: إنه متابعة لحديث فَضَالة، وممن رواه القطان، كما مر. وقال في "فتح المغيث" (1) (ص 77) في الكلام على ما في "الصحيحين" من عنعنة المدلسين: "قال ابن الصلاح ــ وتبعه النووي وغيره ــ: محمولٌ على ثبوت السماع عندهم فيه من جهةٍ أخرى، إذا كان في أحاديث الأصول لا المتابعات، تحسينًا للظن بمصنفيهما. يعني: ولو لم نقف نحن على ذلك ... [ص 63] وأشار ابن دقيق العيد إلى التوقف في ذلك ... وأحسن من هذا كله قول القطب الحلبي في "القدح المعلى": أكثر العلماء أن المعنعنات التي في "الصحيحين" مُنَزَّلةٌ منزِلة السماع، يعني: إما لمجيئها من وجهٍ آخر بالتصريح، أو لكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة، أو عن بعض شيوخه، أو لوقوعها من جهة بعض النقاد المحققين سماع المعنعن لها، ولذا استثنى من هذا الخلاف ... وأبو إسحاق فقط بالنسبة لحديث القطان عن زهير عنه، ... والثوري بالنسبة لحديث القطان عنه"ا?. 1 - والذي عندي: أن صاحب الصحيح لا يصحّح عنعنة من عَرف أنه يدلس إلا بعد الوثوق بثبوت السماع، وإنما لم يثبت السند المصرَّح فيه؛ لأنه نازلٌ، أو نحو ذلك. _________ (1) (1/ 218 - 219). وتمام اسم كتاب القطب الحلبي (ت 735): "القِدح المعلى في الرد على أحاديث المحلى". ذكره ابن الملقن في "البدر المنير": (1/ 291) وقال: "في جزء جيد، وما أكثر فوائده".
(5 أ/64)
فإن قيل: قد يثبت عنده السماع من طريق فيها من لا يوافق على توثيقه. قلت: هذا خلاف الظاهر، بل الغالب على الظن أنه قد ثبت لديه من طريق متفق على تصحيحها، وإلا لأبرزها. نظير ما قالوه في سفيان بن عيينة: أنه لا يدلس إلا عن ثقة، مثل الثقة الذي صرح به، ولكن مع هذا كله لا يزال في النفس شيءٌ، خشية أن يكون خَفِي على صاحب الصحيح كون ذلك المعنعن يدلِّس، أو خَفِي عليه جرح في بعض رجال الطريق التي ثبت لديه فيها التصريح بالتحديث، أو نحو ذلك. إلا أنه على كل حال إذا كانت عنعنة المدلس في الصحيح يكون الظن بثبوت السماع أقوى مما لو كانت في غير الصحيح. [64] 2 - وأما ما نقلناه عن "الفتح" في شأن القطان، فهو لا يتناول هذا الحديث؛ لأنه إنما التزم عدم رواية ما عنعنه مدلس، ولم يثبت له سماعه في روايته عن زهير عن أبي إسحاق، والمدلِّس أبو إسحاق، وفيما رواه عن سفيان، والمدلِّس سفيان، وحديث الباب من روايته عن سفيان عن حبيب، والمدلس حبيب. لكن قد ثبت عن القطان التحرز عن أن يقع منه ما فيه رائحة من تدليس، وثبت بما هنا احتياطه أن لا يروي عن شيخه سفيان إلا ما صح سماع سفيان له، وأن لا يروي عن شيخه زهير عن أبي إسحاق إلا ما صح سماع أبي إسحاق له، فكان في هذا ما يدلّ على احتياط الرجل في الجملة، فيقوى ظن السماع فيما رواه عن سفيان عن حبيب.
(5 أ/65)
3 - قد صحَّح الحاكم رواية عبد الرحمن وخلاد، وأقر صحة الرواية الأخرى، وتبعه الذهبي، فلعله ثبت لديهما ما يدفع احتمال التدليس. 4 - إن دلس حبيب فهو ثقة لا يدلس إلا عن ثقة متفق على توثيقه، أو ثقة عنده على الأقل. 5 - الإمام أحمد في "مسنده" (1) (جزء 1/ص 145): يزيد أنبأنا أشْعَثُ بن سوَّار عن ابن أشْوَع عن حنش بن (2) المعتمر، أن عليًّا رضي الله عنه بعث صاحب شرطة فقال: "أبعثك لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تدع قبرًا إلا سوَّيته، ولا تمثالًا إلا وضعته". عبد الله في "زوائد المسند" (3) (جزء 1/ ص 150): حدثني عبيد الله بن عمر القواريري ثنا السَّكَن بن إبراهيم ثنا الأشعث .. فذكره بسنده، ونحو متنه. أبو يعلى في "مسنده" (4) بمثل سنده ومتنه. [ص 65] أبو يعلى في "مسنده" (5) أيضًا: حدثنا عبد الغفار بن عبد الله حدثنا علي بن مُسْهِر عن أشعث، فذكره بسنده، ونحو متنه. أقول: في أشعث كلام، حاصله أنه صدوق يخطئ. _________ (1) رقم (1239). (2) في "المسند": "أبي" وكلاهما صحيح، لأنه ابن المعتمر وأبو المعتمر. (3) رقم (1284). (4) رقم (559). (5) رقم (503).
(5 أ/66)
وقال ابن عدي (1): لم أجد لأشعث متنًا منكرًا، إنما يغلط في الأحايين في الأسانيد، ويخالف. اهـ . "ميزان" (2). وقد أخرج له مسلم في "صحيحه" متابعة. وأما ابن أشْوَع فثقة، من رجال "الصحيحين"، غمزه الجُوزَجاني بالتشيّع، والجُوزجاني متشدِّد على الكوفيين. قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" (3) في ترجمة أبان بن تغلب الربعي: "الجُوزجاني لا عبرة بحَطِّه على الكوفيين". وحَنَش وثَّقه أبو داود، وقال أبو حاتم: "صالح، لا أراهم يحتجون به". ولينه غيرهما بما لا يسقطه عن الاعتبار. فأقلّ ما يقال في هذا السند: إنه صالح للاعتبار. 6 - الإمام أحمد في "المسند" (4) من طرق عن الحكم بن عُتَيبة عن أبي محمد الهُذَلي عن علي رضي الله عنه، ذكر قصة بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له، ولفظه في بعض الروايات: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثَ رجلًا من الأنصار: أن يسوِّي كلَّ قبر، وأن يُلَطِّخ كلَّ صنم، فقال: يا رسول الله، إني أكره أن أدخل بيوت قومي، قال: فأرسلني .. ". _________ (1) "الكامل": (1/ 374). (2) (1/ 265). (3) (1/ 93). (4) رقم (1176).
(5 أ/67)
وفي أخرى (1) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة، فقال: "أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع بها وثنًا إلا كسره، ولا قبرًا إلا سوَّاه، ولا صورةً إلا لَطَّخَها ... " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عاد لصَنْعَة شيءٍ من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم". أقول: أبو محمد الهذلي مجهول، لم يرو عنه إلا الحكم بن عُتَيبة، ولم يوثَّق ولم يجرّح، لكنه تابعي، روى عن علي رضي الله عنه، وروى عنه التابعي العَلَم الثبت الجليل: الحكم بن عُتيبة، فهو ثقة على مذهب ابن حبان، وصالحٌ للاعتبار عند الجمهور. فكلُّ واحدٍ من هذين السندين صالح أن يبلغ درجة الحسن لغيره، إذا اعتضد. انظر "فتح المغيث" (2) (ص 24). 7 - قد روى هذا الحديث عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (3)، من طريق يونس بن خباب عن جرير بن أبي الهيَّاج (4)، عن أبيه. وفيما مر كفاية. يونس شيعي، كان يطعن في عثمان، قال مرةً: قتل بنتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: قتل الأولى، فلِمَ زوَّجه الثانية؟ فلم يدر ما يقول! _________ (1) رقم (657). (2) (1/ 75). (3) رقم (889)، ومضى في "المسند" رقم (683). (4) كذا في الأصل "جرير بن أبي الهيَّاج"! خطأ، وصوابه كما في المسند: "جرير بن حيَّان".
(5 أ/68)
وبمجموع هذه الوجوه يندفع احتمال التدليس، وينتهض الحديث للحُجِّية، كما لا يخفى. والله تعالى أعلم. [ص 67] الباجي في "شرح الموطأ" (1): قال ابن حبيب: وروى جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفع القبور، أو يُبنى عليها، وأمر بهدمها، وتسويتها بالأرض. وفَعَله ــ يعني الهدم والتسوية ــ عمر بن الخطاب. اهـ . في "كنز العمال" (2): عن عثمان: أنه كان يأمر بتسوية القبور". (ابن جرير). أقول: ذكرت هذين استئناسًا. _________ (1) (2/ 494). (2) رقم (42927).
(5 أ/69)
[حديث جابر] [ص 68] الإمام أحمد "مسند" (1) (جزء 3/ ص 339): ثنا حجاج ثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يقعد الرجل على القبر، أو يجصَّص، أو يُبنى عليه". تابع الإمام أحمد عن الحجاج: 1 - يوسف بن سعيد عند النسائي (2)، وعند أبي عوانة في "صحيحه"، وعند ابن حبان (3)، كما في "إتحاف المهرة" (4). 2 - ومحمد بن إسحاق الصغاني عند البيهقي (5). 3 - وهارون بن عبد الله عند مسلم في "الصحيح" (6). 4 - وهلال بن العلاء عند أبي عوانة. وتابع حجَّاجًا عن ابن جُرَيج جماعة، منهم: 1 - عبد الرزاق، رواه عنه الإمام أحمد "مسند" (7) (جزء 3/ ص 295)، _________ (1) رقم (14647). (2) رقم (2028). (3) رقم (3165). (4) رقم (3400). (5) (4/ 4). (6) رقم (970). (7) رقم (14148).
(5 أ/70)
وعن الإمام رواه أبو داود في "سننه" (1). 2 - ومحمد بن رافع عند مسلم في "الصحيح" (2). 3 - ... (3) عند أبي عوانة. ومنهم أبو معاوية، روى عنه سعيد بن منصور في "المستدرك" (4)، وإسحاق بن إبراهيم عند ابن حبان (5). ومنهم محمد بن خازم روى عنه أسد عند الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (6). ومنهم محمد بن ربيعة، روى عنه عبد الرحمن بن الأسود أبو عَمْرو البصري، عند الترمذي في "سننه" (7)، ومحمد بن إسكاب (كذا) عند أبي عوانة. ومنهم حفص بن غياث، روى عنه: 1 - أبو بكر بن أبي شيبة، عند مسلم في "الصحيح" (8). _________ (1) رقم (3225). (2) رقم (970). (3) كذا تركه المؤلف. (4) (1/ 370). (5) رقم (3164). (6) (1/ 515). ومحمد بن خازم هو أبو معاوية المتقدم في رواية الحاكم. (7) رقم (1052). (8) رقم (970).
(5 أ/71)
2 - عثمان بن أبي شيبة، عند ابن حبان (1). 3 - وسَلْم بن جُنادة بن مسلم القرشي، في "المستدرك" (2). 4 - ومسدَّد، في "شرح معاني الآثار" (3). وفي صِيَغ الرواية وألفاظ الحديث بعض اختلاف عن حديث أحمد، لم نبين ذلك؛ لأنه لا يتعلق به بحث. [ص 69] أبو داود في "سننه" (4): حدثنا مُسدَّد وعثمان بن أبي شيبة قالا ثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وعن أبي الزبير عن جابر، بهذا الحديث (أي المتقدم). قال أبو داود: وقال عثمان: "أو يزاد عليه"، وزاد سليمان بن موسى: "أو يكتب عليه"، ولم يذكر مسدد في حديثه: "أو يزاد عليه". قال أبو داود: وخفي عليّ من حديث مسدد حرف "وإن". أقول: رواه أبو عوانة عن أبي داود، ورواه البيهقي في "السنن" (5) بسنده إلى أبي داود عن عثمان، فذكر رواية عثمان. وقد رواه النسائي (6) عن هارون بن إسحاق عن حفص بسنده ومتنه، إلا _________ (1) رقم (3163). (2) (1/ 370). (3) (1/ 516). (4) رقم (3226). (5) (4/ 4). (6) رقم (2027).
(5 أ/72)
أنه لم يذكر القعود، وقدّم وأخَّر. [سيأتي في حديث جابر في بعض طرقه النهي عن الزيادة على القبر. ويُعْتَرض بأنها لم ترد إلا في رواية حفص بن غياث، وحفصٌ ساء حفظه بعد ما اسْتُقْضي، وصرحوا أنه لا يحتج من حديثه إلا بما كان في كتابه، وقد روى الحديث عن ابن جريج جماعةٌ كما سيأتي، وليست هذه الزيادة عن أحدٍ منهم غير حفص، بل حفص نفسه لم تثبت عنه هذه الزيادة في رواية مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حفص. وقد قيل: إن صاحبي الصحيح إنما يخرجان لحفص ما ثبت أنه حدث به من كتابه. فزيادة النهي عن الزيادة شاذة، مع أنها لم ترد إلا فيما عنعنه ابنُ جُريج، وهو مدلِّس. لكن قد يقال: إن لها شاهدًا ضعيفًا ذكره البيهقي في "سننه" (1) عَقِب ذكره رواية حفص، قال: ورواه أبان بن أبي عياش عن الحسن وأبي نضرة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ولا يزاد على حفرته التراب". ثم قال: "وفي الحديث الأول كفاية، أبان ضعيف". اهـ. وفي "كنز العمال" (2): عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه _________ (1) (3/ 410). (2) رقم (42919).
(5 أ/73)
وآله وسلم أن تُجَصّص القبور، وأن يُجْعَل عليها من غير حُفْرتها". ابن النجار. [ص 24] وأما عنعنة ابن جريج؛ فإنها وإن كانت قادحةً في الصحة، فإنها لا تقتضي شدة الضعف؛ لأنها تحتمل الوصل وعدمه، فإن كان الأول؛ فالحديث صحيح، وإن كان الثاني؛ فالحديث على الأقل حسن عند ابن جريج؛ لأنه لا يدلس إلا عن ثقة عنده على الأقل، ولذلك جعلوا ما عنعنه المدلس مما يصلح أن يبلغ درجة الحسن لغيره إذا اعتضد، بل نصوا على أن من الضعيف الذي يبلغ درجة الحسن لغيره إذا اعتضد ما كان فيه انقطاعٌ بين ثقتين حافظين، فما عنعنه المدلِّس من باب أولى؛ لاحتماله الوصل. انظر "فتح المغيث" (1) (ص 24). فأما ما ورد من مشروعية زيادة مخصوصة، كوضع شيءٍ من الحصى، وكوضع الحجر؛ فإنه يكون تخصيصًا لعموم النهي عن الزيادة، فلا يدلّ على عدم النهي مطلقًا] (2). الإمام أحمد في "مسنده" (3) (جزء 3/ ص 295): ثنا محمد بن بكر ثنا ابن جُرَيج قال: قال سليمان بن موسى قال: قال جابر: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يُقْعَد على القبر، وأن يُجَصَّص، وأن يُبْنى _________ (1) (1/ 75). (2) من قوله: "سيأتي في حديث جابر ... " إلى هنا ذكره المؤلف في الفصل الأول، ثم كتب فوقه: (ينقل إلى الفصل الثاني شرح حديث جابر) ولم يحدد مكانه، فلعل هذا مكانه المناسب. (3) رقم (14144).
(5 أ/74)
عليه". وروى منه النهيَ عن الكتابة فقط ابنُ ماجه (1) عن عبد الله بن سعيد عن حفص بسنده. [ص 70] "صحيح مسلم" (2): وحدثنا يحيى بن يحيى أنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى عن تقصيص القبور". النسائي في "سننه" (3): أخبرنا عمران بن موسى قال حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور". ابن ماجه (4): حدثنا أزهر بن مروان ومحمد بن زياد قالا: ثنا عبد الوارث عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تقصيص القبور". الإمام أحمد مسند (5) (جزء 3/ ص 399): ثنا عفان ثنا المبارك حدثني نصر بن راشد سنة مائة عمن حدثه عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تُجَصَّص القبور، أو تُبنى عليها". اهـ . _________ (1) رقم (1563). (2) رقم (970). (3) رقم (2029). (4) رقم (1562). (5) رقم (15286).
(5 أ/75)
الباجي: قال ابن حبيب: وروى جابر: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفَع القبور، أو يبنى عليها، وأمر بهدمها وتسويتها بالأرض ... " إلخ كما تقدم (1). يظهر أنه ليس من طريق أبي الزبير ولا سليمان؛ لأن فيه زيادة ليست عندهما. والله أعلم. * * * * _________ (1) (ص 69) وسبقت الإحالة على كتاب الباجي.
(5 أ/76)
[ص 71] حال أبي الزبير (1) قال الشافعي: "يحتاجُ إلى دِعامة". ومعنى ذلك أنَّ فيما انفرد به نكارة. وقال أبو زُرْعة وأبو حاتم: "لا يحتج به". وهذه الكلمة من المرتبة التي تلي أخفّ مراتب الجرح، وصاحبها صالح للمتابعة. وقال شعبة: رأيته يَزِنُ ويسترجح في الميزان. وأجاب عن هذه ابن حبان بأن ذلك لا يقتضي الترك. أقول: وغاية هذا المنافاة لكمال المروءة، وليس ذلك بجرح. وروى عنه سويد بن عبد العزيز أنه قال: لا يحسن يصلي. وسويد ضعيف. وقال: بينا أنا جالس عنده، إذا جاء رجل فسأله عن مسألة، فردَّ عليه، فافترى عليه، فقلت له: يا أبا الزبير، أتفتري على رجلٍ مسلم؟ قال: إنه أغضبني. قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا رويتُ عنك حديثًا أبدًا. أقول: الافتراء حقيقته مطلق الكذب، ولكن ظاهر السياق أنه سَبَّه، والافتراءُ إذا أُطْلِق في حكاية السبّ، فالظاهر أنه أُريد به القذف، والقذف كبيرة تُسقط العدالة. وجوابه: _________ (1) ترجمته في "تهذيب الكمال": (6/ 503)، و"تهذيب التهذيب": (9/ 440)، و"إكمال تهذيب الكمال": (10/ 336)، و"ميزان الاعتدال": (5/ 162).
(5 أ/77)
1 - أن الافتراء ليس نصًّا في القذف، فقد يُراد به مطلق السبّ، ولاسيما إذا كان شنيع اللفظ، كالإعضاض. وعليه، فقد يكون السائل أساء الأدب، فأعضَّه أبو الزبير. وفي الحديث: "من تعزَّى بعزاء الجاهلية، فأعِضُّوه بِهَنِ أبيه، ولا تكنوا" (1). 2 - على تسليم أن شعبة أراد بها القذف، فلم يبين لفظ أبي الزبير. فيحتمل أنه قال كلمةً يراها شعبة قذفًا، وغيره لا يوافقه، ولهذا قال الفقهاء: إذا قال الشاهد [ص 72]: أشهد أن فلانًا قذف فلانًا، لم يُقبل حتى يفسِّر. ولا يَرِد على هذا قول شعبة: فقلت له: أتفتري ... إلخ. وسكوت أبي الزبير عن نفي ذلك؛ لأن شعبة قد يكون إنما قال له: أتقول هذا لرجل مسلم. ثم روى بالمعنى في رأيه. أو يكون أبو الزبير ترك نفي ذلك؛ لأنه على كلِّ حال قد أخطأ، فرأى الأولى الاعتذار بأنها كلمة جرت على لسانه لشدة الغضب، وهذا عذرٌ صحيحٌ، كما سيأتي إن شاء الله. 3 - على تسليم أنه قَذْف صريح، فقد يكون أبو الزبير مُطَّلعًا أن ذلك هو الواقع، وسكت عن ذكره لشعبة؛ لأنه على حال مما لا يليق، وإنما جرى على لسانه لشدة الغضب. ويُستأنس لهذه الوجوه بأنه لو كان القذف صريحًا، والمقذوف بريئًا، لذهب فشكاه إلى الوالي، والحدودُ يومئذٍ قائمة. _________ (1) أخرجه أحمد رقم (21218)، والنسائي في "الكبرى" رقم (8813)، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (1000)، وابن حبان رقم (3153)، وغيرهم من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه. انظر "السلسلة الصحيحة" (269).
(5 أ/78)
4 - على كل حال، فقد أجاب أبو الزبير عن نفسه بقوله: "إنه أغضبني" أي: فلشدة الغضب جرت على لسانه ــ وهو لا يشعر ــ كلمة مما اعتاد الناس النطق به. وقد جاء في الحديث: "لا طلاق في إغلاق" (1)، وفُسِّر بشدة الغضب. وقال الله عزَّ وجلّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. وقال جل ذكره: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]. وفي حديث مسلم (2) عن أنس مرفوعًا: "لله أشدّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم ... ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدَّة الفرح". 5 - قال الذهبي في "الميزان" (3) في ترجمة ابن المديني: "ثم ما كلّ مَنْ فيه بدعة، أو له هَفْوة أو ذنوب يُقْدَح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شَرْط الثقة أن يكون معصومًا من الخطايا والخطأ". اهـ. _________ (1) أخرجه أحمد رقم (26360)، وأبو داود رقم (2193)، وابن ماجه رقم (2046)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 357). وصححه الحاكم على شرط مسلم، وتعقبه الذهبي بأن فيه محمد بن عبيد ضعَّفه أبو حاتم ولم يحتج به مسلم. وانظر "الإرواء": (2047). (2) رقم (2744). (3) رقم (4/ 61).
(5 أ/79)
وفي "إرشاد الفحول" (1) للشوكاني (ص 49): [ص 73] قال ابن القُشَيري: والذي صحَّ عن الشافعي أنه قال: في الناس من يَمْحَض الطاعةَ، فلا يمزجها بمعصية، و [لأن] (2) في المسلمين من يَمْحَض المعصية ولا يمزجها بالطاعة، فلا سبيل إلى ردّ الكل، ولا إلى قبول الكل، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة، قُبِلت شهادته وروايته، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة، ردَدْتهما" (3) اهـ . وفيه من جملة كلام عن الرازي: "والضابط فيه: أن كل ما لا يؤمن مِن (4) جراءته على الكذب، ترد الرواية، وما لا، فلا" اهـ . وفيه: قال الجويني: "الثقة هي المعتمد عليها في الخبر، فمتى حصلت الثقة بالخبر قُبِل" اهـ . أقول: وهذا هو المعقول، وعليه الأئمة الفحول، فإن الحكمة في اشتراط العدالة في الراوي هي كونها [مانعة له] عن الكذب، فيقوى الظن بصدقه. فإذا جرت منه هفوة لا تخدش قوَّة الظن بصدقه، لم تخدش قبول روايته. [ص 74] والحاصل: أن تلك الكلمة التي جرت على لسان أبي الزبير بدون شعوره لشدة غضبه، لا ينبغي أن يُهْدَر به مئات الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع التحقُّق بكمال صدقه، وحفظه، _________ (1) (1/ 264 ــ دار الفضيلة). (2) زيادة من ط المحققة. (3) الأصل: "رددتها" والمثبت من المحققة. (4) المحققة: "معه".
(5 أ/80)
وضبطه، وتَحَرِّيه، وإتقانه. 6 - والظاهر من حاله، وما ثبت لدى جمهور الأئمة من عدالته، أنه تاب عنها في الوقت، وإن كانت إنما جرت على لسانه بدون شعور. ويلوح لي أن بعض أعدائه، بل أعداء الدين دسوا إليه ذلك السائل ليرصده، حتى إذا كان شعبة عنده جاء فأغضبه، ابتغاء أن يسبق لسانه بكلمة ينقمها عليه شعبة، وقد كان كذلك. ولكن حيلتهم لم تطفئ نورَ الله في صدر أبي الزبير، فاعتمده جمهور الأئمة الأعلام، واحتجوا به. [ص 75] توثيق الأئمة له نقلًا عن كتب الفن: ابن المديني: ثقة ثبت. ابن عون: ليس أبو الزبير بدون عطاء بن أبي رباح. يعلى بن عطاء: كان أكمل الناس عقلًا وأحفظهم. عطاء: كنا نكون عند جابر فيحدثنا، فإذا خرجنا تذاكرنا، فكان أبو الزبير أحفظنا. ابن معين والنسائي وغيرهما: ثقة. ابن عدي: هو في نفسه ثقة، إلا أن يروي عنه بعض الضعفاء، فيكون الضعف من جهتهم. عثمان الدارمي: قلت ليحيى: فأبو الزبير؟ قال: ثقة. قلت: محمد ابن المنكدر أحب إليك، أو أبو الزبير؟ فقال: كلاهما ثقتان.
(5 أ/81)
وممن وثّقه مالك، فإنه روى عنه، ولا يروي إلا عن ثقة. وأحمد والساجي وابن سعد وابن حبان. وقال الذهبي: هو من أئمة العلم، اعتمده مسلم، وروى له البخاري متابعة. والظاهر أن الموثِّقين اطلعوا على قصة شعبة، واطلعوا على ما يدفع ما فيها من الإيهام، وفيهم ابن معين والنسائي وابن حبان، وحسبك بهم تعنُّتًا مع أن معهم بضعة عشر إمامًا. وسيظنّ ظانون أنه ما حدانا إلى الدفاع عن أبي الزبير، إلا حرصنا على صحة حديثه هذا، فليعلموا أن الحجة قائمة بدونه مما مضى، وما سيأتي. وأنّ رواية أبي الزبير ليست قاصرة على هذا الحديث [ص 76] فدفاعنا عنه هنا يلزمنا أن نقبله لنا وعلينا، وهذا مما يلزمناه الحق نفسه. والله أعلم. وقد صرح ابن جُريج بالسماع من أبي الزبير، وأبو الزبير بالسماع من جابر في رواية الإمام أحمد ومسلم، فزال ما يُخْشَى من تدليسهما، لكن الروايات التي فيها النهي عن الزيادة والكتابة كلها عنعنها ابن جريج. وأما قول الذهبي في "الميزان" (1) في ترجمة أبي الزبير: "وفي صحيح مسلم عدة أحاديث فيما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، ولا هي من طريق الليث، ففي القلب منها، فمن ذلك: ... وحديث النهي عن تجصيص القبور، وغير ذلك" اهـ . _________ (1) (5/ 164).
(5 أ/82)
فإنما أراد رواية أيوب التي فيها النهي عن تقصيص القبور فقط، فلم يثبت التصريح بالتحديث فيها، ومسلم إنما ساقها متابعة. والله أعلم. * * * *
(5 أ/83)
حال سليمان بن موسى نقلًا عن كتب الفن (1) قال البخاري: عنده مناكير. النسائي: ليس بالقوي. أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب. أقول: أما عبارة البخاري في "فتح المغيث" (2) (ص 162): قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": "قولهم: "روى مناكير" لا يقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي إلى أن يقال فيه: "منكر الحديث"؛ لأن "منكر الحديث" وصفٌ في الرجل يستحق به الترك لحديثه. والعبارة الأخرى لا تقتضي الديمومة، كيف وقد قال أحمد بن حنبل في محمد بن إبراهيم التيمي: "يروي أحاديث منكرة". [ص 77] وهو ممن اتفق عليه الشيخان، وإليه المرجع في حديث: "الأعمال بالنيات"". اهـ. أقول: وقولهم: "عنده مناكير" ليس نصًّا في أن النكارة منه، فقد تكون من بعض الرواة عنه، أو بعض مشايخه. قال في "فتح المغيث" (162): "قلت: وقد يطلق ذلك على الثقة إذا روى المناكير عن الضعفاء. قال الحاكم: قلت للدارقطني: فسليمان ابن بنت شرحبيل؟ قال: ثقة. قلت: أليس عنده مناكير؟ قال: يحدِّث بها عن قوم _________ (1) ترجمته في "تهذيب الكمال": (3/ 304)، و"تهذيب التهذيب": (4/ 226)، و"إكمال تهذيب الكمال": (6/ 101)، و"ميزان الاعتدال": (2/ 415). (2) (2/ 126).
(5 أ/84)
ضعفاء، أما هو فثقة" اهـ. وقد علمت الفرق بين قول البخاري: "عنده مناكير" وقوله: "منكر الحديث"، مع قوله: "كل من قلت فيه: منكر الحديث، لا يحتج به"، وفي لفظٍ: "لا تحل الرواية عنه". وقد سرد في "الميزان" ما له من الغرائب، وهي يسيرة، وبيَّن أنه توبع في بعضها، ثم قال: "كان سليمان فقيه الشام في وقته قبل الأوزاعي، وهذه الغرائب التي تستنكر له يجوز أن يكون حفظها" اهـ . أقول: وبعضها من رواية ابن جُريج عنه بالعنعنة، وابن جريج يدلِّس، فربما كانت النكارة من شيخ لابن جريج، دلس له عن سليمان. وعلى نحو ذلك تُحْمل كلمة أبي حاتم، مع أن قوله: "بعض الاضطراب" يشعر بقلَّته جدًّا، وقد قرنها بقوله: "محلّه الصدق". أما كلمة النسائي؛ فتوهينٌ خفيف غير مفسر. وأبو حاتم والنسائي من المتعنتين في الرجال. [ص 78] الموثقون له: سعيد بن عبد العزيز: لو قيل لي: من أفضل الناس؟ لأخذت بيد سليمان بن موسى. ابن عدي: تفرد بأحاديث، وهو عندي ثبت صدوق. يحيى بن معين: سليمان بن موسى عن الزهري، ثقة. دُحيم: كان مقدَّمًا على أصحاب مكحول.
(5 أ/85)
وفي كلمة يحيى إيهام أنه في غير الزهري يخطئ، فلعله لتلك الغرائب، وقد مر الجواب عنها. والحاصل: أن توثيقه راجح، فهو المعتمد، ومع هذا كله فليس حديث الباب من أفراده، لكن أردنا تحقيق حاله من حيث هو، كما صنعنا في شأن أبي الزبير. بقي أن في "تهذيب التهذيب" في ترجمته: "أرسل عن جابر ... وقال ابن معين: سليمان بن موسى عن مالك بن يُخَامِر وعن جابر مرسل" اهـ . مع أن في "مسند الإمام أحمد" (1) (جزء 3/ ص 295): ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج قال سليمان بن موسى: أنا جابر .... ثنا محمد بن بكر أنا ابن جريج أخبرني سليمان بن موسى أخبرني جابر .... فقول سليمان في الأول: "أنا جابر" صريح في السماع، لكن فيه تدليس ابن جريج، وأما الثاني: فسالم [ص 79] من التدليس، ومحمد بن بكر وابن جريج على شرط الشيخين، ويبعد كلَّ البعد أن يكون هنا تحريف من النساخ في السندين المتتابعين معًا، وقد ثبت أن سليمان ثقة، وهو أعلم بنفسه من ابن معين، مع أننا لا نعلم مستند ابن معين، وقد أدرك سليمان من حياة جابر مدة. وقال الحافظ في "إتحاف المهرة" (2): سليمان بن موسى الأشدق (3) (الأموي) عن جابر، ولم يدركه، وأورد له حديثَه هذا الذي في "المسند"، _________ (1) رقم (14143، 14144). (2) رقم (2705). (3) يشبه رسمها في الأصل: "الأسدي"، والصواب ما أثبت.
(5 أ/86)
ولم يتعرَّض لصيغة روايته عن جابر، وليس عندنا نسخة خطية من "مسند أحمد" نراجعها، فمن وجد فليراجع. وقال المزي في "الأطراف" (1) ــ في الكلام على حديث ابن جريج الذي قال فيه: عن سليمان بن موسى وأبي الزبير عن جابر ــ قال المزي: سليمان لم يسمع من جابر، فلعل ابن جريج رواه عن سليمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أقول: يردُّه أن ابنَ جُريج عن سليمان وحدَه، كما عند أبي داود، وقد ذكره المزي أيضًا. والله أعلم. هذا، مع علمنا بأن ثبوتَ سماعه من جابر لا يفيد صحة حديث الباب، ما دامت عنعنة ابن جريج قاطعةً الطريق، (مع أن في حديثه الذي نقلناه عن "المسند": ثنا ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى قال: قال جابر. وهذا كالصريح في أن بين سليمان وبين جابر واسطة، وإن احتمل التأويل. انظر "فتح المغيث" (ص 52).) (2) وإنما جلُّ مقصودنا من ذِكر روايته أن يكون دعامةً لأبي الزبير، تأدُّبًا مع كلمة الإمام الشافعي (3). _________ (1) (2/ 186 - 187). (2) من قوله: "مع أن في حديثه ... " إلى هنا يحتمل أن يكون حاشية من المؤلف، لأنه وضع على كلمة "الطريق" رقم (1) وكتب هذه العبارة أسفل الصفحة، ورجحنا إثباتها في المتن، لأن المؤلف سبق له هذا الصنيع في عدة مواضع في اللحق، ولأن الكتاب مسوّدة لا يحتمل التحشية. (3) يعني قوله في أبي الزبير: "يحتاج إلى دعامة".
(5 أ/87)
تنبيه: أما النهي عن التجصيص والبناء والجلوس؛ فقد ثبت فيها سماع ابن جريج من أبي الزبير، وسماع أبي الزبير من جابر، فهي صحيحة. وأما النهي عن الكتابة والزيادة، فلم ترد إلا في روايات معنعنة، أو في روايات ابن جريج عن سليمان بن موسى، بدون تصريح ابن جريج بالسماع من سليمان، ولا تصريح سليمان بالسماع من جابر ــ إن كان أدركه ــ. بل في حديث الإمام أحمد ما يدلُّ أن سليمان روى الحديث بواسطة عن جابر، كما مر. ثم إن زيادة النهي عن الزيادة لها علل غير هذه: منها: أنها من رواية حفص بن غياث، وحفصٌ ساء حفظه بعدما استُقْضي، وذكروا أنه لا يحتجّ من حديثه إلا بما حدَّث به من كتابه، وروايته التي عند مسلم ليس فيها هذه الزيادة، وقد قيل: إن صاحبي الصحيح إنما يخرجان له ما حدث به من كتابه. ومنها: انفراده بهذه الزيادة، دون سائر من روى الحديث عن ابن جريج. لكن في "كنز العمال" (1): عن جابر ما لفظه: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تُجَصَّص القبور، وأن يُجْعَل عليها (2) من غير حُفْرتها". (ابن النجار). (لا أدري ما صحته). _________ (1) رقم (42919). (2) في "كنز العمال": "عليها تراب .. ".
(5 أ/88)
وفي "سنن البيهقي" (1) ما لفظه: ورواه أبان بن أبي عياش عن الحسن وأبي نضرة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ولا يزاد على حفرته (2) التراب ... " أبان ضعيف. اهـ . _________ (1) (3/ 410). (2) في "السنن": "حُفيرته".
(5 أ/89)
[حديث أبي سعيد الخدري] [ص 80] ابن ماجه في "سننه" (1): حدثنا محمد بن يحيى ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الملك الرَّقَاشي ثنا وهب (وفي نسخة: وهيب، وهو الصحيح) ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُبنى على القبر". "مسند أبي يعلى" (2) ــ (خط يد): حدثنا العباس بن الوليد النَّرْسي نا وهيب نا عبد الرحمن بن يزيد (3) بن جابر عن القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد قال: نهى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور، أو يُقْعَد عليها، أو يصلى إليها. "جامع الزوائد" (4) ــ خط يد ــ: وعن أبي سعيد قال: نهى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور، أو يُقْعَد عليها، أو يُصَلى إليها". رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات. أقول: في سنده عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، تكلم فيه بعضهم خطأً، وهو الفلاس، قال: "ضعيف الحديث، حدَّث عن مكحول بأحاديث مناكير عند أهل الكوفة" اهـ. _________ (1) رقم (1564). (2) رقم (1016). (3) في المطبوعة "زيد" تصحيف. (4) (3/ 61).
(5 أ/90)
تعقَّبه الخطيب (1) فقال: "روى الكوفيون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم عن ابن جابر، وَهِمُوا في ذلك، فالحمل عليهم، ولم يكن ابن تميم ثقة" اهـ. وفي "الميزان" (2): لم أر أحدًا ذكره في الضعفاء غير أبي عبد الله البخاري، فإنه ذكره في الكتاب الكبير في الضعفاء، فما ذكر شيئًا يدل على ضعفه أصلًا ... إلخ. [ص 81] وفيه القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد. * * * * حال القاسم بن مُخَيمرة في "تهذيب التهذيب" (3) ــ أول ترجمته ــ: روى عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة ... إلخ. ثم ذكر عن يحيى بن معين أنه قال: لم نسمع أنه سمع من أحد من الصحابة. وقال في آخر ترجمته: قال ابن حبان: سأل عائشة عما يلبس المحرم. اهـ. أقول: لم أجد فرصةً لتفتيش كتب الحديث لتحقيق سماع القاسم من _________ (1) في "تاريخ بغداد": (10/ 212). (2) (3/ 312 - 313). (3) (8/ 327).
(5 أ/91)
أبي سعيد، لكنه عاصره قطعًا، فقد ثبت بما قاله ابن حبان أن القاسم أدرك عائشة وسألها، وقد كانت وفاتها سنة (57)، فإدراكه لأبي سعيد بيِّن واضح؛ لأن أقل ما قيل في وفاة أبي سعيد أنها سنة (63)، وأكثره سنة (74)، ووفاة القاسم على ما ذكر ابن سعد في "الطبقات" (1) في خلافة عمر بن عبد العزيز، أي سنة (100) تقريبًا (2). وثبت بسؤاله لعائشة زيارته للحرمين، وذكروا أنه سكن دمشق، وقد وصل أبو سعيد إلى دمشق، وقد كان التابعون ــ ولاسيما أهل العلم ــ حريصين على لقاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأخذ عنهم، فلقاء القاسم لأبي سعيد مظنون، وبما أنه روى عنه بالعنعنة وهو ثقة غير مدلس، ولا معروف بالإرسال الخفي، فالظاهر السماع، وإن لم يعلم صريحًا، فعدم العلم ليس علمًا بالعدم. _________ (1) (8/ 419). (2) انظر "تحفة التحصيل": (ص 414). وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة": (1/ 277) في الكلام على هذا الحديث: "منقطع؛ لأن القاسم لم يسمع من أبي سعيد".
(5 أ/92)
[بحث شرط اللقاء] [82] ولي بحثٌ في اشتراط اللقاء أحببت أن ألخِّصه هنا، فأقول: الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي أو أدركه، فتأمل هذا، وافرض أمثلة بريئة عن القرائن من الطرفين: كأن تكون ببلدة، فتسمع برجل غريب جاءها، وبعد أيام تلقاه، فيخبرك عن أناس من أهل تلك البلدة: أن فلانًا قال كذا، وفلانًا قال كذا، من دون أن يصرح بسماع، ولا علمت لقاءه لهم، ولكنك تعتقد أنه لا مانع له من لقائهم. ثم توسَّع في الأمثلة ولاحِظ أنها واقعة في عصر التابعين، حين لا برق ولا بريد ولا صحافة ولا تأليف، وإنما كان يُتَلقّى العلم من الأفواه، والناس مشمِّرون لطلب العلم، ولاسيما للقاء أصحاب نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم. ثم لاحِظ أنه لم يكن يوجد منهم إلا نادرًا من لم يزر الحرمين، وفيهما يمكن اجتماع الراوي بالمروي عنه، إذا كانا متعاصِرَين. وبهذا يندفع ما يوهمه تباعد البلدين من عدم اللقاء. فإذا كان الحال ما ذُكِر، وثبت أن أحد المتعاصِرَين روى عن الآخر بلا تصريحٍ بسماع ولا عدمه، كان المتبادر السماع، فكيف إذا لاحظت أن كثيرًا من السلف كان يزور الحرمين كلَّ عام، فكيف إذا كان أحدهما ساكن أحد الحرمين، فكيف إذا ثبت أن الآخر زارهما؟ وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلدٍ قد زاره الآخر، فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا، فإنه يكاد يقطع باللقاء. وزد على هذا أن الإسناد كان شائعًا في عهد السلف، لا تكاد تجد أحدًا إلا وهو يقول: عن فلان أن فلانًا أخبره عن فلان، مثلًا، مع أن السلف كانوا
(5 أ/93)
أهل تثبُّت واحتياط. [ص 83] إذا تقرر هذا، فما المانع من الأخذ بهذه الدلالة الظاهرة المحصّلة للظن، المستوفية لنصاب الحجية؟ إن قيل: كان اصطلاح السلف خلاف ما يقتضيه الأصل، بدليل شيوع الإرسال فيهم. قلت: أما الإرسال الجلي فمُسَلَّم، ولكن أقل من الإسناد، كما يعلم بالاستقراء، فهو كالمجاز، لا يقدح شيوعه في تقديم الحقيقة عليه. وأما الخفيّ؛ فقليلٌ، حتى إنه أقل من التدليس. فإن قيل: فإن ذهاب ابن المديني والبخاري رحمهما الله تعالى إلى اشتراط اللقاء، يدل على شيوع الإرسال الخفي في السلف. قلت: الاستقراء أقوى من هذا الاستدلال، مع أن مسلمًا رحمه الله نقل في مقدمة صحيحه الإجماع على عدم اشتراط اللقاء، أي: قبلهما، كما أشار إليه بالتشنيع على بعض معاصريه. فقيل: إنه أراد به البخاري، ولا مانع من أن يريده وشيخه ابن المديني، فقد كان أيضًا معاصرًا له، فلا يخدش خلافهما وخلاف من عاصرهما أو تبعهما في الإجماع السابق. على أن أقل ما يثبت بنقل مسلم أن الغالب في عهد السلف أن تكون الرواية على السماع، والبخاري وشيخه لا ينكران أن الظاهر من الرواية السماع، بدليل تصحيحهما لعنعة الملاقي غير المدلس، فلولا وفاقهما على أنّ الظاهر من الرواية السماع، لكانا إنما يعتمدان مجرَّد اللقاء، فيلزمهما أن
(5 أ/94)
يثبتا لكل من لقي شخصًا أنه سمع منه جميع حديثه، وهذا كما ترى. [ص 84] وإنما اشترطا ثبوت اللقاء؛ لأن الدلالة معه تكون أقوى وأظهر، وهذا صحيح غالبًا، ولكنه لا يقتضي إهدار الدلالة الحاصلة مع عدم ثبوت اللقاء، ما دامت دلالة ظاهرة محصِّلة للظن، مستكملةً النصاب كما مر. قد ألزمهما مسلم رحمهم الله عدم تصحيح المعنعن أصلًا؛ لأنه كما أن عنعنة من لم يثبت لقاؤه تحتمل عدم السماع، فكذلك من ثبت لقاؤه. وأجيب: بأن احتمال السماع في الثاني أقوى. ويردُّ: بأن احتمال السماع في الأول قويٌّ ظاهرٌ محصلٌ للظن، فلا عبرة بزيادة الثاني، إذ هي زيادة على النصاب، مع أن لنا أمورًا تجبر هذه الزيادة: منها: قلة الإرسال الخفي في السلف. ومنها: أنه أقبح وأشنع من التدليس، كما سيأتي. فالثقة أشد تباعدًا عنه، تدينًا وخوفًا من نقد النقاد الذين كانوا يومئذٍ بالمرصاد، بخلاف التدليس، فإنه أشد خفاءً على الناقد. وأجيب أيضًا: بأن احتمال العنعنة لعدم السماع مع ثبوت اللقاء، اتهامٌ للراوي بالتدليس، والفرض سلامته منه، بخلاف احتمالها له مع عدم ثبوت اللقاء، فإنما فيه اتهامه بالإرسال الخفي فقط. ويردُّ: بأنه قد نقل محققون من أهل الفن أن الإرسال الخفي تدليسٌ، منهم ابن الصلاح والنووي والعراقي، وقال: إنه المشهور بين أهل العلم بالحديث.
(5 أ/95)
ولنا بحث في تحقيق ذلك، والإجابة عما ذكره [ص 85] الحافظ رحمه الله، لا حاجة لإثباته هنا؛ لأن الخلاف لفظي، للاتفاق على أن في الإرسال الخفي إيهامًا، فاتهام الراوي به كاتهامه بالتدليس، فإذا اتهمتم الراوي بأنه يرسل خفيًّا ــ وإن لم يوصف به ــ فليزمكم أن تتهموا الراوي بأنه يدلس وإن لم يوصَف به. فإن قلتم: إن الأصل في الثقة عدم التدليس؟ قلنا: وكذا الإرسال الخفي. فإن قلتم: الإيهام في الإرسال الخفي أضعف منه في التدليس، فهو أقرب إلى اتصاف الثقة به. قلنا: مُسَلَّم غالبًا، ولكن هذا لا يقتضي أن لا يكون الأصل في الثقة عدمه، ما دام فيه إيهامٌ وتغرير وغشٌّ منافٍ لكمال الثقة، مع أن الإيهام في الإرسال الخفي لأمرين، كلاهما خلاف الواقع: السماع لذلك الحديث، واللقاء. بخلاف التدليس، فإنه وإن دل على الأمرين، فاللقاء موافقٌ للواقع، فتبين أن الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس، كما قاله ابن عبد البر في "التمهيد" (1)، ونحوه ليعقوب بن شيبة. انظر "فتح المغيث" (2) (ص 74 - 75). وعليه، فالثقة أشدّ بعدًا عنه؛ تدينًا وخوفًا من نقد النقاد، كما مرّ. _________ (1) (1/ 27 - 28). (2) (1/ 210 - 211).
(5 أ/96)
فإذا اتهمتم الثقة به من غير أن يوصَفَ به، لزمكم من باب أولى اتهام الثقة بالتدليس، وإن لم يوصَف به. فإن قيل: لعل السامع يكون عالمًا بعدم اللقاء، فلا إيهام، فلا إرسال خفيًّا. [ص 86] قلنا: وكذلك لعل السامع يكون عالمًا بعدم السماع مطلقًا، أو لذلك الحديث، فلا إيهام، فلا تدليس. والتحقيق: أنه لو كان الراوي يعلم بعدم اللقاء، أو عدم السماع، وهو ثقةٌ غير مدلس، لبينه لمن يأخذ عنه، ولو فُرِضَ أن الثاني كان عالمًا بذلك، فاستغنى عن التبيين، فيلزم الثاني أن يبينه للثالث، وهكذا. فإذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس، أو الإرسال الخفي إلى ثقةٍ كذلك روى بالعنعنة عمّن عاصره، وأمكن لقاؤه له، ولم ينص أحدٌ من رجال السند ولا غيرهم على عدم اللقاء، فهو كما جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمّن لقيه، وأمكن سماعه لذلك الحديث منه، ولم ينصّ أحدٌ من رجال السند أو غيرهم على عدم السماع، ففي قبول الأول احتمال اللقاء والسماع، وفي رده اتهام الثقة بإيهام اللقاء والسماع، وفي قبول الثاني احتمال السماع فقط، وفي ردّه اتهام الثقة بإيهام السماع فقط، فهذه بتلك. فإذا لاحَظْنا قلة الإرسال الخفي في السلف، واعتيادهم [ص 87] للإسناد، وخوفهم من نقد النقاد، كان الأمر أوضح، فكيف إذا اعتبرنا القرائن الدالة على اللقاء، كما سبق بيانها أول البحث؟
(5 أ/97)
فالمختار ما قاله مسلم رحمه الله: أن ثبوت اللقاء ليس بشرط الصحة. ولم نختره لما ذكره من الإجماع والإلزام، بل لما قدمنا أن الدلالة حينئذٍ دلالة ظاهرة، محصِّلة للظن، مستكملة لنصاب الحجِّية. والله أعلم. وقد رأيت عن الحافظ رحمه الله ما يوافق ما قلنا. قال تلميذه السخاوي في "فتح المغيث" (1) (ص 62): "ولكن قيَّده ابنُ الصيرفي بأن يكون صرح بالتحديث ونحوه. أما إذا قال: عن رجل من الصحابة، وما أشبه ذلك، فلا يقبل. قال: لأني لا أعلم أسَمِعَ ذلك التابع منه، أم لا؟ إذ قد يُحَدِّث التابعي عن رجل وعن رجلين عن الصحابي، ولا أدري هل أمكن لقاء ذلك الرجل، أم لا؟ فلو علمت إمكانه فيه لجعلته كمدرك العصر. قال الناظم (العراقي): وهو حَسَن مُتَّجِه، وكلام من أطلق محمولٌ عليه. وتوقَّف شيخُنا (الحافظ) في ذلك؛ لأن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس حُمِلَت عنعنته على السماع، وهو ظاهر. قال: ولا يقال: إنما يتأتَّى هذا [ص 88] في حقِّ كبار التابعين الذين جُلّ روايتهم عن الصحابة، بلا واسطة. وأما صغار التابعين الذين جُلّ روايتهم عن التابعين، فلا بد من تحقُّق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنه لم يسمعه حتى نعلم هل أدركه، أم لا؟ لأنا نقول: سلامته من التدليس كافية في ذلك، إذ مدار هذا على قوة الظن، وهي حاصلةٌ في هذا المقام" اهـ. _________ (1) (1/ 178).
(5 أ/98)
أقول: وإذا كان هذا مع احتمال عدم إدارك المعنعن للصحابي، فضلًا عن لقائه، ففي مسألتنا أولى وأظهر؛ لأنه قد ثبت الإدراك، وربما قامت عدة قرائن تدل على اللقاء، كم مر. والعجب من الحافظ رحمه الله، كيف مشى معهم في ترجيح ردِّ عنعنة من عُلِمت معاصرته دون لقائه، ولو مع قيام القرائن على اللقاء. وتوقف عن ردّها، بل احتجّ لقبولها في حق من لم تُعْلَم معاصرته أصلًا، فسبحان من له الكمال المطلق! وإنما ذكرنا هذا، ليعلم صحة ما ذكرناه: من أن الدلالة ظاهرةٌ مستكملةٌ نصاب الحجية. والله أعلم.
(5 أ/99)
[حديث أم سلمة] [ص 89] الإمام أحمد "مسند" (1) (جزء 6/ ص 299): ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبْنى على القبر أو يُجَصَّص". ثنا علي بن إسحاق ثنا عبد الله أخبرنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أم سلمة: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُجَصَّص قبر، أو يُبنى عليه، أو يُجْلَس عليه". قال أبي: ليس فيه أم سلمة. اهـ. وهذه الجملة: "قال أبي ... " إلخ، من قول عبد الله بن الإمام أحمد. أقول: في ابن لهيعة كلام كثيرٌ. فأطلق بعضُهم الثناء عليه، وقال جماعةٌ، منهم ابن مهدي، والإمام أحمد، وأحمد بن صالح: سماع المتقدمين عنه صحيح. وقال الحافظ عبد الغني والساجي: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح. وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب، طلّابًا للعلم. وقال أبو زُرْعة: سماع الأوائل والأواخر منه سواء، إلا ابن المبارك وابن وهب، كانا يتتبعان أصولَه، وليس ممن يحتجُّ به. _________ (1) رقم (26566، 26567).
(5 أ/100)
[ص 90] وأطلق جماعةٌ توهينه. وقال ابن معين: هو ضعيف، قبل أن تحترق كتبه، وبعد احتراقها. وفَصْل الخطاب في حقه ما ذكره الذهبي في "الميزان" (1). قال: "قال ابن حبان: قد سبرتُ أخباره من رواية المتقدمين والمتأخرين، فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودًا، وما لا أصل له في رواية المتقدمين كثيرًا، فرجعت إلى الاعتبار، فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، على أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فألزق تلك الموضوعات بهم". اهـ. أقول: فكأنَّ مَنْ أطلق الثناءَ عليه نَظَر إلى صِدْقه وعدالته، وسَعة علمه. ومن قال بصحة سماع المتقدمين، نظر إلى أن الرجل كان ضابطًا حينئذٍ، فالسماع منه صحيح، وإن كان يدلس. ومن خصَّ العبادلة، فلأنهم من المتقدِّمين المتحَرِّين. وأما أبو زُرْعة؛ فكأنه علم أن كتابه صحيح، كما قال أحمد بن صالح، فصحَّح سماع من كان يتبع أصوله. ولما رأى أن ما لا أصل له كثيرٌ في رواية المتقدمين، أي ممن لم يتبع كتابه، ظهر له أن الرجل لم يكن ضابطًا أولًا وآخرًا، فأطلق قوله: "وليس ممن يحتج به"، ولو اعتبر كما اعتبر ابن حبان لظهر له ما ظهر له. [ص 91] وأما من أطلق التوهين؛ فنظر إلى الظاهر، ولم يعتبر. وعلى كل حال، فلم يتكلم أحدٌ في صحة كتابه، وقد صرح الجمهور بأنه صحيح، وتدليسه عن الضعفاء لا يقدح في صحة كتابه، مع أن الظاهر أنه _________ (1) (3/ 189 - 197).
(5 أ/101)
لم يكن يعلم بضعفهم، مع أنهم قد وثقوا كثيرًا ممن كان يدلس عن الضعفاء، كما يُعْلَم بمراجعة تراجم المدلّسين، انظر ترجمة "بقية" في "الميزان" (1). إذا تقرر هذا، فالرواية الأولى لحديث الباب، وهي الموصولة، هي من رواية المتأخرين عن ابن لهيعة، فهي ضعيفة. والرواية الثانية هي المرسلة، من رواية عبد الله وهو ابن المبارك وهو من المتقدمين، ومن العبادلة، وممن كان يتتبع أصول ابن لهيعة، وقد صرح بالسماع من ابن لهيعة، فهي صحيحة. فالزيادة والنقص في سند الرواية الأولى ومتنها من تخليط المتأخرين، والرواية الثانية هي الصحيحة، فالحديث مرسلٌ صحيحٌ. وناعم مع إدراكه كثيرًا من الصحابة، قليل الحديث، لم يحدث إلا عن مولاته أم سلمة (2)، فالظاهر أن إرساله مما سمع من الصحابة. _________ (1) (1/ 331). (2) زاد في النسخة الأخرى: "وعن عبد الله بن عَمرو".
(5 أ/102)
[ص 93] آثار (1) البخاري تعليقًا (2): "ورأى ابن عمر رضي الله عنه فُسطاطًا على قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فإنما يظله عمله" اهـ. البيهقي في "السنن" (3): "وروينا عن أبي موسى في وصيته: "ولا تجعلن على قبري بناءً"، وعن أبي سعيد الخدري: "لا تضربن عليّ فسطاطًا"، وعن أبي هريرة كذلك" اهـ. _________ (1) قال المؤلف في أول الورقة (93) بعد أن ساق أحاديث: "ينقل إلى الفصل الأول، ويجعل ههنا حديث: لا تجعلوا بيوتكم مقابر". لكنه لم يذكر هذا الحديث في الرسالة لا في هذه النسخة ولا في (المسوّدة). (2) (2/ 95 ــ الميرية). كتاب الجنائز باب الجريد على القبر. (3) (4/ 4).
(5 أ/103)
[ص 94] الأحكام المستنبطة من هذه الأدلة
ــ مُعلَّق البخاري في القصة المروية عن زوجة الحسن بن الحسن: قد علمت مما تقدم أن القصة لم تصح عندنا، ولا نظنها تصح، ولو صحَّت لكان فيها ما يُستأنس به لمنع ذلك الفعل، وهو ما فيها عن الهاتِفَيْن. وعلى كل حال، فهذه القصة لا ينبغي أن يقام لها وزنٌ أصلًا، فلو صحت ولم يرد فيها ما يدل على المنع لما كانت دليلًا على الجواز، إذ ليست من الأدلة الشرعية في شيء. ــ معلق البخاري عن خارجة: قد سبق الطعن في صحته من خمسة أوجه (1)، وعلى فرض صحته، فيجاب عنه بوجوه: الأول: أنه إذا ثبت أن عُمُرَ خارجةَ حين قُتِل عثمان كان نحو خمس سنين، وحُمِل قوله: "شبَّان" على المجاز، بقرينة تقدُّم قوله: "غلمان" عليها، أطلق الشباب على ما يقابل الصغر المُفْرِط، فلا دلالة في الأثر على ارتفاع القبر؛ لأن الغلام الذي عمره نحو خمس سنين مهما كانت قوته يشق عليه وَثْب نحو ثلاثة أذرع على وجه الأرض، وهذا تقريبًا هو عرض القبر، فإذا لاحظنا أن القبر كان مُسنَّمًا نحو شبر ازداد الأمر وضوحًا. ووهم من قال: إن البخاري فهم منه الرفع، وأنه لذلك ساقه في باب الجريد على القبر؛ لأن الرفع يستلزم زيادة تراب أو حَجَر على القبر، وذلك _________ (1) (ص 48 - 49).
(5 أ/104)
يدلّ على جواز وضع الجريد في الجملة (1). وهذا وهمٌ ظاهرٌ، ما كان على صاحبه إلا أن ينظر ما في ذِكْر البخاري بعد هذا الأثر، وهذه عبارته بعد قوله: "حتى يجاوزه": "وقال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجةُ، فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمّه يزيد بن ثابت قال: إنما كُرِه ذلك لمن أحدث عليه. وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله عنهما يجلس على القبور". اهـ . فواضح جدًّا أنَّ البخاري إنما ذكر هذه الآثار لدلالتها، [ص 95] وفهم من هذا الأثر أن خارجة ذكره ــ كالذي بعده ــ مستدلًّا على جواز الجلوس على القبر: أنهم كانوا يتواثبون على قبر عثمان بن مظعون، أي: ولم ينههم من رآهم من الصحابة، مع أنهم غلمان شُبَّان، أي: مميزون بحيث ينبغي زجرهم عما يخالف الآداب الشرعية. وهذا تقريرٌ للاستدلال، أي: لأنهم لو كانوا صغارًا جدًّا، يحتمل أن من يراهم من الصحابة يعرض عنهم، لأنهم لم يبلغوا حدَّ التمييز، فأما بعد بلوغ حدّ التمييز فإنه يبعد أن يراهم أحدٌ، ويسكت عنهم. فأما إيراد البخاري هذه الآثار في باب الجريد على القبر، فلأنه ــ والله أعلم ــ لم يصحَّ على شرطه حديثٌ (2) في الجلوس على القبر، فرأى أن وضع الجريد على القبر يدل على جواز الجلوس؛ لأن الجلوس هو عبارة _________ (1) لعل المؤلف قصد الحافظ في "فتح الباري": (3/ 265) إذ قال: "ومناسبته من وجه أن وضع الجريد على القبر يرشد إلى جواز وضع ما يرتفع به ظهر القبر عن الأرض" اهـ . (2) تحتمل في الأصل: "حديثها"، والمثبت أصح.
(5 أ/105)
عن وضع شيءٍ على القبر، وذكر هذه الآثار في هذا الباب استئناسًا بها، وليشير بها إلى الاستدلال بوضع الجريد على الجلوس. الثاني: إذا فرض صحة الأثر، وعدم صحة ما ذكره ابن سعد وابن عساكر، وحمل قوله: "غلمان شبان" على أنهم مقاربون الشباب، فليس في الأثر أنهم كانوا يثبون القبر عرضًا، فهو محتمل لأن يكون الوثب طولًا، ووثب القبر طولًا يشق على ابن الثماني سنين ونحوها، ولو لم يكن مرتفعًا عن وجه الأرض. فإذا لاحظنا أنه كان مرفوعًا نحو شبر ازداد هذا الوجه قوةً. الثالث: لو فُرض ــ زيادةً على ما مر ــ دلالة الأثر على أن القبر كان مرفوعًا، فلا يُدْرَى من رفعه، مع أنه قد ورد في قبر عثمان بن مظعون نفسه ما يدلُّ على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعله بحيث خيف انطماسه في مدة قليلة، حتى احتاج إلى وضع حجر عند رأسه، وقال: "أُعَلِّم بها قبر أخي" (1). بل الظاهر من ذلك أنه جعله مساويًا للأرض، كما مر في الفصل الأول (2). وقد روي عن الصحابة النهي عن الرفع، والأمر بالهدم، فيبعد أن يفعله أحدٌ منهم. [ص 96] الرابع: لو فُرِض مع ما مر أن الرافع رجلٌ من الصحابة، فليس في فعل الصحابي حجةٌ، ولم يكن القبر ظاهرًا لجميع الناس حتى يدَّعَى _________ (1) تقدم تخريجه (ص 23 - 24). (2) (ص 28 وما بعدها).
(5 أ/106)
الإجماع. الخامس: لو فُرض مع ما مر أنه كان ظاهرًا، فالصحابة رضي الله عنهم في مدة عثمان وبعده كانوا متفرقين في البلاد، مشغولين بالفتن والمحن والإحن. السادس: لو فُرض مع ما مر أنهم كانوا مجتمعين، فقد صحّ عن كثير منهم رواية النهي عن ذلك، وصح عنهم العمل بموجبه كما مر، وهذا كافٍ في نفي الإجماع. السابع: لو فُرض مع ما مرَّ أنه لم يرد ما ينفي الإجماع، ففي حُجّيته خلافٌ مشهور. الثامن: لو فُرض مع ما مر تسليم حجية الإجماع، فبشرط أن يعلم، ولا سبيل إلى ذلك كما هو مقررٌ في الأصول. التاسع: لو فُرض مع ما مر أنه لا يشترط العلم به، بل يُكتفى بأنه لم يُنْقل ما يخالفه، فإنما يكون حجة إذا لم يَرِد في كتاب الله عزَّ وجلّ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما يخالفه. وهذا هو الثابت عن عمر وعبد الله وغيرهما، وعن الشافعي وأحمد وغيرهما، انظر باب [ ... ] (1) في "الأم". وذلك أن احتمال وجود مخالف لقول من قبلنا لم ينقل قوله، أقوى من احتمال كون النص على خلاف ظاهره، فضلًا عن احتمال النسخ، فضلًا عن احتمال كون الحديث الثابت بالإسناد كذبًا. _________ (1) كذا تركه المؤلف بياضًا.
(5 أ/107)
فهذه أربعة عشر وجهًا في سقوط الاحتجاج بهذا الأثر، فمن لم يكتف بها فإنه لا يكتفي إلا بالسوط، فإلا يكن فعذاب الآخرة أشد وأبقى. قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]. خلاصة حديث فضالة (1): أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرهم أن يجعلوا القبور على الهيئة المشروعة التي قررها لهم، وأن هذه الهيئة منافية لتكثير التراب. _________ (1) هذه الخلاصة ذكرها المؤلف في الفصل الأول وقال: "تنقل الخلاصة إلى الفصل الثاني".
(5 أ/108)
الفصل الثالث شرح حديث علي رضي الله عنه قد مر معنى التسوية في حديث فَضَالة (1)، والإشراف: هو الارتفاع. وما زعمه بعضهم أنه يحتمل أن يراد بـ"مشرف": مسنّم أخذًا من شَرَف البعير، أي: سنامه، فلا وجه له؛ لأنه لم يُسْمَع اشتقاق فعل من "شرف البعير"، ولو سُمِع لكان إطلاقه على القبر مجازًا، والأصل الحقيقة. وقد ورد إطلاقه على القبر في حديث القاسم المار في الفصل الأول، وفيه: "فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة، ولا لاطئة" (2). مع أنه قد مرَّت أدلة قاضية بأن السنة هي التسنيم، فكيف يؤمر بإزالته؟! بقي ما قيل: إن الظاهر أن تلك القبور قبور كفار، ويدل عليه ذِكْر الصنم. والجواب: أنَّ هذا وإن احْتُمل في بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي رضي الله عنه، لا يحتمل في بعث علي لصاحب شُرْطَته؛ لأن عليًّا رضي الله عنه كان بالكوفة، وبَعْثه لعامل شرطته إنما يكون في الكوفة نفسها؛ لأن عامل الشرطة إنما يؤمر على ما يقرب من الأمير، والكوفة إنما بُنيت في الإسلام، فالقبور التي فيها إن لم يكن كلها قبور مسلمين فغالبها، فأَمْر عليّ بتسويتها مطلقًا يدل أبلغ دلالة على أحد أمرين: _________ (1) (ص 26 وما بعدها). وحديث عليّ تقدم (ص 50). (2) تقدم تخريجه.
(5 أ/109)
1 - أن يكون في القبور التي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتسويتها قبور مسلمين ماتوا قبل مقدمه صلى الله عليه وآله وسلم، فدُفِنوا ورُفِعت قبورهم. وربما يستأنس لهذا بما في رواية أبي محمد الهذلي: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في جنازة حين بعث عليًّا" (1)، فيشبه أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم علَّم أصحابه أن لا يرفعوا القبر الذي هو حنيئذٍ حاضر الدفن فيه، فأُخْبِر بأنهم رفعوا قبور الذين ماتوا من المسلمين قبل مقدمه، عملًا بعادتهم في رفع القبور، فبعث عليًّا لتسويتها مع غيرها. 2 - أن يكون عَلِم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا فرق في وجوب التسوية، ولا أصرح في عدم الفرق من قوله: "أبعثُك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، وعليٌّ رضي الله عنه هو الذي تلقى الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أعلم بحقيقته. ولا يخفى أن الإشراف هنا المراد به الارتفاع فوق الشبر، لمقابلته بالتسوية، والتسوية: جعله على الهيئة المشروعة، ومن الهيئة المشروعة: الرفع نحو شبر فقط، وسواءٌ أكان الإشراف بتراب، أو رمل، أو حصى، [ص 98] أو حَجَر أو مدر، أو خشب، كالتوابيت، أو غير ذلك. ومنه البناء الذي يكون على جوانب القبر القريبة، بحيث يطلق على البناء قبر، وما لم يتناوله الإشراف بعمومه من الأشياء الزائدة على الهيئة الشرعية التي مرَّ بيانُها في خاتمة الفصل الثاني، فإنه يتناولها الدليل بطريق القياس. _________ (1) في "مسند أحمد" رقم (1176). وقد سبقت (ص 67 - 68).
(5 أ/110)
فكل قبر أُخْرِج عن الهيئة المشروعة فهو مأمور بتسويته، أي: بردِّه إلى الهيئة المشروعة. وقد قال قائل (1): ليت شعري! لو كان المقصود من القبور التي أمر عليّ عليه السلام بتسويتها، هي عامة القبور على الإطلاق، فأين كان عليه السلام ــ وهو الحاكم المطلق يومئذٍ ــ عن قبور الأنبياء التي كانت مشيَّدة على عهده، ولا تزال مشيَّدة إلى اليوم في فلسطين وسورية، والعراق، وإيران .. الخ. والجواب: أن هذا كذبٌ من ثلاثة أوجه: الأول: إثبات معرفة قبور الأنبياء، وقد مر أنه لا يُعْلَم قبر أحدٍ منهم غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. الثاني: إثبات البناء على قبورهم في عهد عليّ رضي الله عنه، وهذا لا يثبت، وإنما كان في الكوفة شيءٌ من ذلك من فِعْل الأعاجم القريبي عهد بالإسلام، فأمر رضي الله عنه بإزالته، ولو ثبت وجود شيءٍ يومئذٍ في غير الكوفة، فلم يعلم به رضي الله عنه، ولم يَفْرَع للبحث عن ذلك. الثالث: إدخال سورية وفلسطين تحت حكم عليّ رضي الله عنه، ولا أصرح من هذا الكذب؛ إذ هو صادرٌ من رجلٍ شيعي يستحيل أن يجهل من تاريخ أمير المؤمنين رضي الله عنه ما يتعلق بأساس التشيع، بل لا يكاد يوجد عاقلٌ ــ فضلًا عن مسلم ــ إلا وهو عالمٌ أن الشام كانت بيد معاوية. _________ (1) نقله حسن الصدر في "الرد على فتاوى الوهابية" (ص 74) عن بعض المعاصرين من الرافضة.
(5 أ/111)
ثبت الأمر بأن تُرَدّ القبور إلى الهيئة المشروعة إذا جعلت على خلافها. ابن حبيب: قد تقدم أنه إذا صح، كان قوله: "بالأرض" من زيادة بعض الرواة. والله أعلم. وفيه أن عمر رضي الله عنه كان مُحْييًا لهذه السنة. أثر عثمان: فيه أن عثمان كان عاملًا بهذه الأدلة. فكان هذا الحكم قائمًا معمولًا به في عصر الخلفاء الراشدين. والله أعلم. [ص 99] حديث جابر وأبي سعيد وناعم: فيها النهي عن البناء على القبر وتجصيصه، والجلوس عليه. وفي حديث جابر: النهي عن الزيادة عليه والكتابة. * * * *
(5 أ/112)
الكتابة بعد أن صححها الحاكم على شرط مسلم قال: "وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوبٌ على قبورهم، وهو عملٌ أخذ به الخلف عن السلف" (1). اهـ. تعقبه الذهبي فقال: ما قلتَ طائلًا، ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، وإنما هو شيءٌ أحدثه بعض التابعين، فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي. اهـ. وتعقبه ابن حجر الهيتمي (2) بقوله: "ويُردّ بمنع هذه الكلية وبفَرْضها، فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المُسَبَّلة، كما هو مشاهد، لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها، وقد علموا بالنهي، فكذا هي. فإن قلت: هو إجماعٌ فِعْلي، فهو حجة كما صرَّحوا به. قلت: ممنوعٌ، بل هو أكثريٌّ فقط، إذ لم يُحْفَظ ذلك حتى عن العلماء الذين [لا] (3) يرون منعه. وبفرض كونه إجماعًا فعليًّا، فمحل حجيته ــ كما هو ظاهر ــ إنما هو عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفَّذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعطَّل ذلك منذ أزمنة" (4). اهـ. _________ (1) "المستدرك": (1/ 370) ووقع في الأصل: "السلف عن الخلف" سبق قلم. وكلام الذهبي في "تلخيص المستدرك" بهامشه. (2) في "تحفة المحتاج": (3/ 197 مع حواشي الشرواني والعبادي). (3) زيادة يستقيم بها السياق. (4) وقال المؤلف معلقًا على كلام ابن حجر في المسوّدة الثانية (ص 53 ــ 56) ما نصّه: "أقول: وهذا صحيح، وقد مضت عدة قرون لا تكاد تسمع فيها بعالم قائم بالمعروف لا يخاف في الله لومة لائم، بل لا تجد رجلًا من أهل العلم إلا وهو حافظ لحديث: "حتى إذا رأيت هوى متَّبعًا وشُحًّا مطاعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك ودع عنك أمر العامة" يعتذر به عن نفسه ويعذل به من رآه يتعرّض لإنكار شيءٍ من المنكر. وقد وُجد ذلك في آخر عصر الصحابة بعد الثلاثين سنة، فكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه واحد عصره في التجاسُر على إنكار المنكر بقدْرِ الإمكان، حتى شدّد في ذلك عبد الملك بن مروان، خطب على منبر وقال: "والله لا يقول لي أحدٌ: اتق الله، إلا ضربت عنقه ... " ثم توارثها الملوك والأمراء إلا مَن شاء الله. ولهذا عَظم عند الناس ابن طاووس وعمرو بن عبيد وغيرهما ممن كان يتجاسر على النهي عن المنكر. وعلى كل حال فالمعروفون من العلماء بذلك أفراد يعدون بالأصابع والجمهور ساكتون. وأما في القرون المتأخرة فشاعت المنكرات بين الملوك والأمراء والعلماء والعامة ولم يبق إلا أفراد قليلون لا يجسرون على شيء، فإذا تحمّس أحدهم وقال كلمةً، قالت العامة: هذا مخالف للعلماء ولما عرفنا عليه الآباء. وقال العلماء: هذا خارق للإجماع مجاهر بالابتداع. وقال الملوك والأمراء: هذا رجل يريد إحداث الفِتن والاضطرابات، ومن المحال أن يكون الحق معه، وهؤلاء العلماء ومن تقدمهم على باطل، وعلى كلٍّ فالمصلحة تقتضي زجره وتأديبه! وقال بقية الأفراد من المتمسكين بالحق: لقد خاطر بنفسه وعرّضها للهلاك، وكان يسعه ما وَسِع غيره! وهكذا تمَّت غُربة الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
(5 أ/113)
أقول: النهي عن الكتابة لم يرد إلا في الروايات التي عنعن فيها ابن جُريج، وهو مدلّس كما تقدم، ولكن يؤخذ النهي عنها من الأحاديث بطريق القياس. * * * *
(5 أ/114)
[ص 100] الزيادة على القبر
(قد مر الكلام عليها في الفصل الأول) (1). * * * * الجلوس على القبر اختلف فيه؛ فقال مالك ومن تبعه: لا بأس به (2). وتأولوا الأحاديث بأن المراد القعود لقضاء الحاجة، واستدلوا: أولًا: بأن في بعضها التقييد به، فحُمِلَ عليه الباقي، حملًا للمطلق على المقيد. وثانيًا: بحديث وضع الجريد على القبر، إذ هو وضع شيءٍ على القبر، فيقاس عليه الجلوس، كما أشار إليه البخاري، ونبهنا عليه في أثر خارجة (3). وثالثًا: بآثار رويت عن بعض الصحابة، أنهم كانوا يجلسون على القبور، ويقولون: إنما نُهِي عن القعود لقضاء الحاجة. وقد مرَّ بعض هذه الآثار، في أثر خارجة بن زيد (4). _________ (1) (ص 44 - 45). (2) انظر "عقد الجواهر": (1/ 272)، و"مواهب الجليل": (2/ 75). (3) (ص 105 - 106). (4) (ص 105).
(5 أ/115)
قالوا: وأما ما في بعض الروايات بلفظ: "وأن توطأ" فمِنْ تصرُّف الرواة، ظن الراوي أن النهي عن الجلوس على إطلاقه، فعبر بالوطء؛ لأنه أشد منه. وقال الجمهور: بل هو ممنوع (1). واستدلوا بالأحاديث المطلقة، وبحديث أحمد بإسنادٍ صحيح عن عَمْرو بن حزم قال: "رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئًا على قبر، فقال: لا تؤذِ صاحب هذا القبر، أو لا تؤذه" (2). فأما من لا يقول بحَمْل المطلق على المقيّد، فاستدلاله واضح. وأما من يقول بالحمل ــ كالشافعية ــ فيجاب من طرفهم بأنَّ حديث أحمد نصٌّ لا يحتمل التقييد؛ لأن الاتكاء لا يكون مع قضاء الحاجة. وعليه، فيتعين بقاء الأحاديث المطلقة على إطلاقها، كما هو المقرر في المطلق الدائر بين قيدين متضادين. انظر كتب الأصول. ويجاب عن القياس الذي أشار إليه البخاري: بأن لوضع الجريد حِكْمة خاصة، كما يعلم من الحديث، لا يعلم وجودها في غير الجريد، فلا يتم القياس، ولو فُرِض صحة القياس، فهو مصادم للنص بحديث أحمد. ويجاب عن الآثار المروية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: بأنها لا تصلح لمعارضة الدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أننا لا ننكر أنهم لا يرون ما رأوه إلا متمسكين بدليل، ولكن ليس لنا أن نترك دليلًا قد علمناه وتحققناه، ونأخذ بدليل نظن أنهم ظنوه. _________ (1) انظر "المغني": (3/ 516)، و"روضة الطالبين": (2/ 139). (2) أخرجه أحمد رقم (24009/ 39). قال الحافظ في "الفتح": (3/ 266): إسناده صحيح. وانظر "السلسلة الصحيحة" (2960).
(5 أ/116)
هذا، مع أن قولهم معارضٌ بقول صحابة آخرين، كعَمْرو بن حزم. وقد يتأول الأولون حديث عَمْرو بن حزم بأن يقال: لعل المراد [ص 101] بصاحب القبر فيه وليّ المدفون، فإنه قد يتأذَّى من جلوس الأجنبي على قبر ميِّته، فيكون النهي إذًا لأجل تأذِّي الحي، لا لأجل القبر. ويُجاب عن هذا: بأنه خلاف الظاهر، مع أن القبور إنما كانت في ذلك العهد في غير الملك. وعليه، فإن كان تأذي الولي بمجرد أنه يرى أن قبر مَيِّته، كالمستحق له، فلا عبرة بذلك؛ لأن الاستحقاق إنما هو للميت، بالنظر لباطن الحفرة، فأما ظاهرها فإنه باقٍ على الإباحة على قضية مذهبكم. وإن كان لظنه أن في الاتكاء انتهاكًا لحرمة الميت، أو أنه يتأذى بذلك، فإما أن يكون ظنه خطأً، فلا عبرة به، وكان الأولى أن يبين الحال للأولياء بأن ذلك الظن باطل، مع أنكم لم تقيدوا الإباحة بما إذا لم يتأذَّ الحي، ولا نُقِل عمن كان يرى الإباحة من السلف ما يدل على هذا القيد. وإما أن يكون صوابًا، فيلزم أن يكون الاتكاء منهيًّا عنه لذاته، فرجعنا إلى المعنى الظاهر، فلم يبق فائدة لهذا التأويل، إلا تأكيد النهي، لدلالته على أن في الاتكاء إيذاء الحي والميت. وقد يتأولونه أيضًا بأنه لعله كان القبر قبرًا لبعض أقارب عَمْرو، فاتكأ عليه يبكي عليه، فيكون إيذاؤه للميت بالبكاء عليه، لما ورد "أن الميت يعذَّب ببكاء أهله" (1). _________ (1) أخرجه البخاري رقم (1290)، ومسلم رقم (927) من حديث عمر. وأخرجه البخاري رقم (1286)، ومسلم رقم (928) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5 أ/117)
والجواب: أن هذا خلاف الظاهر، فقول عَمْرو بن حزم: "على قبر" يدل أنه قبر مُطلق ليس له مزية تناسب النهي عن الاتكاء، ودعوى خلاف ذلك تمحُّل لا وجه له. فإن قيل: يدلّ عليه ذهاب بعض الصحابة إلى جواز الجلوس المطلق، وتقييد النهي عن الجلوس بأن يكون لقضاء الحاجة. قلت: كل هذا بعيد. أما الأول؛ فلأننا متعبَّدون بظاهر ما بلغنا عن الشارع، لا ندعه إلا إذا بلغنا عن الشارع ما يخالفه، وقول بعض الصحابة ليس قولًا للشارع، فإنه قد يخفى عليهم الدليل، فيجتهدون ويخطئون، مع أن قولهم معارض بقول غيرهم من الصحابة كما مر. [ص 102] ولم يقل أحدٌ: إن ذهاب بعض الصحابة إلى حكمٍ يوجب تأويل ما يخالفه مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الثاني؛ فلأن التقييد إنما ورد في التعليق على إثم خاصٍّ، فغايته أن يفهم أن ذلك الإثم بخصوصه لا يكون مع مطلق الجلوس. فأما أن يفهم عدم الإثم أصلًا فلا، مع أن دلالة حديث عَمْرو بن حزم منطوق، وهو مقدَّم على المفهوم مطلقًا. وتأول بعض الأجلة (1) الجلوس المنهي عنه، بالجلوس للاستشفاع بصاحب القبر، والسؤال منه. والكلامُ عليه يعلم مما قبله، مع أن ظاهر الأدلة ولاسيما حديث عَمْرو بن حزم الإطلاق. والله أعلم. _________ (1) جاء في بعض مسوّدات المؤلف الإشارة إلى أن قائل ذلك أحد المعاصرين.
(5 أ/118)
ثم اختلف الجمهور؛ فقال بعضهم: النهي للتحريم. وقال آخرون: بل هو للكراهية. احتج الأولون: بأن الأصل في النهي التحريم، ولا صارفَ عنه. ولم يأت الآخرون بشيءٍ، إلا أنهم ربما (1) ذكروا ما تمسَّك به القائلون بالإباحة، وقد مرَّ الكلام عليه. قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (2): " (وأن يقعد عليه) فيه دليلٌ على تحريم القعود على القبر، وإليه ذهب الجمهور ... " إلخ. وقال النووي في "شرح مسلم" (3): "وفي هذا الحديث كراهية تجصيص القبر والبناء عليه، وتحريم القعود، والمراد بالقعود: الجلوس عليه، هذا مذهب الشافعي، وجمهور العلماء ... قال أصحابنا: تجصيص القبر مكروه، والقعود عليه حرام، وكذا الاستناد إليه، والاتكاء عليه ... " إلخ. وتُعقِّب بأن الذي عليه الشافعي والجمهور كراهة ذلك تنزيهًا، وقد يُناقَش ما ذكره النووي رحمه الله بأنه يلزمه الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ النهي، [ص 103] وذلك أن كون النهي على حقيقته ــ وهي التحريم ــ تقتضي حُرمة البناء والتجصيص والقعود، فالقول به في بعضها دون بعض حملٌ للكلمة على الحقيقة والمجاز معًا. واختيار جوازه أو القول بأن هذا ليس منه، بل من عموم المجاز. يردُّه أنه يحتاج إلى دليل، وإلا فالمجاز البسيط أولى منه، فضلًا عن الحقيقة. _________ (1) الأصل: "ربهم" ولعلها ما أثبت، أو تكرر قول المؤلف "أنهم". (2) (5/ 169 ــ ت طارق عوض). (3) (7/ 37).
(5 أ/119)
ومع هذا، فحديث عَمْرو بن حزم صريحٌ في التحريم؛ لأنه جعل الاتكاء على القبر إيذاءً لصاحبه، وإيذاء المسلم بغير حق حرامٌ بلا خلاف. فإن قيل: وكيف يكون الإيذاء للميت؟ قلت: الله أعلم، صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الاتكاء على القبر يؤذي صاحبه، فسمعنا وأطعنا، وعلمنا أنه على كل حال يكون الجلوس على القبر ووطؤه، ونحو ذلك أولى من الاتكاء، فقلنا به. ومع ذلك، فإنني أذكر هـ? هنا احتمالًا يُفْهَم من مجموع الأدلة الواردة فيما يتعلق بالأرواح بعد الموت، وعلى من أراد تحقيق البحث أن يراجع تلك الأدلة. لعل الروح بعد الموت ورفعها إلى السماء، وإرجاعها إلى القبر للسؤال، تبقى مجاورة لجسدها، ويمكنها معرفة ما يجري على القبر. فإن قيل: فعلى هذا لا يحرم الجلوس على من كان يحبه الميت. قلت: كلّا، فلعله قد طرأ أو تبين للميت من حال الحيّ ما يبغِّضه إليه، مع أنه بعد الموت لا يهم الميت إلا ما ينفع عند الله عزَّ وجلّ. وهذه أمورٌ غيبية، وعِلّةٌ غير يقينية، والأحاديث مطلقة، فالمتعين إطلاق المنع، والله أعلم. * * * * تجصيص القبر التجصيص والتقصيص بمعنًى، وهو ظاهرٌ، وسيأتي حكمه إن شاء الله.
(5 أ/120)
[ص 104] البناء على القبر (1) قد يقال: يحتمل أن يراد بالبناء ما كان فيه انتهاك لحرمة القبر، كأن يكون للسكنى، ويدل عليه قرنه بالجلوس. والجواب: أن البناء في الحديث مطلق، وقرنه بالجلوس يعارضه قرنه بالتجصيص الذي هو تشييد للقبر، لا إهانة، بل هذا أبين دلالة، إذ التجصيص من جنس البناء، مع أن البناء للسكنى لا يستلزم انتهاك حرمة القبر، فقد يترك بجانب من البيت على حاله، بل إن ذلك تعظيمٌ للقبر واحترامٌ له، ولذلك جاء النهي مطلقًا، يتناول البناء للسكنى وغيره. فإن قيل: الأصل في الكلام الحقيقة، والحقيقة في البناء على القبر البناء على متنه. قلت: بل الحقيقة في البناء على القبر ما كان مستعليًا عليه، فيتناول البناء حواليه مسقوفًا، إذ هو باعتبار السقف مستَعْلٍ على القبر حقيقةً. مع أنه لو سُلِّم ما قلتم، أو لم يرد النهي إلا عن التجصيص فقط، لكان في ذلك دليلٌ على النهي عن البناء الضيِّق والواسع، المسقوف وغير المسقوف، بل وعن البناء بقرب القبر غيرَ مشتملٍ عليه، ولكنه لأجله، بل وعن البناء بعيدًا عنه لأجله، كالمَشاهد، وكذا كل ما فيه تمييز للقبر، كرفعه زيادةً على الشبر، ووضع الستور عليه، ونصب الرايات عنده، وإيقاد السُّرُج. والحاصل: كل شيءٍ يكون فيه إكرامٌ للقبر أو تشييدٌ له مما لم يثبت _________ (1) في المسوّدة الثانية (ص 30 ــ 40) هذا البحث مع زيادة فائدة، فأثبتناه للفائدة في آخر الرسالة.
(5 أ/121)
بالسُّنة، فإنَّ كل هذا يدلّ الحديث على النهي عنه بالقياس، سواءً أكانت العلة كراهية تشييد القبور وتزيينها، أم كراهية تمييز القبر الذي يُخْشى أن يؤدي إلى تعظيمه، وقد مر إيضاح هذا آخر الفصل الأول (1). وقد عورض إطلاق البناء على القبر في النهي بإطلاقات أخر: منها: الإذن للإنسان أن يصنع في ملكه ما يشاء. ومنها: الأمر باحترام الصالحين. ومنها: الأمر بالإحسان إلى الخلق، وإعانتهم على البر. فعلى الأول؛ يُقَيَّد النهي عن البناء [ص 105] بما إذا لم يكن في الملك. وعلى الثاني؛ بما إذا لم يكن على قبور الصالحين. وعلى الثالث؛ بما إذا لم يكن (لتظليل) الزوَّار. والجواب: أن هذه الأمور ليست مطلقة، بل هي مقيَّدة بما لم ينه عنه الشرع، والبناء مطلقًا مما نهى عنه الشرع، فلا معارضة؛ وإلا لساغ تقييد النهي عن اتخاذ الأصنام بما إذا لم يكن في الملك. وتقييد النهي عن الرياء، بما إذا لم يكن لأجل الإهداء إلى صالح، أو لأجل الصدقة، وتقييد النهي عن تأخير صلاة الصبح مثلًا عن وقتها بما إذا لم يكن لخدمة الوالدين، وغير هذا من المصالح التي لا تُحصى. ولو سُلِّم التعارض لكان المتعين تقييد تلك المطلقات بالنهي عن البناء على القبر؛ لأن علة النهي عن البناء على القبر موجودة في كل قبر، وذلك دليلٌ أن النهي مطلقٌ لا يقبل التقييد، بل وجودها في الملك أبْيَن وأوضح؛ لأن مجرد الدفن في الملك مع منافاته للسنة في حق الآية، فيه منافاة لما _________ (1) (ص 42 ــ 44).
(5 أ/122)
يليق بالموت الذي هو باب البلى، والخروج من الدنيا، والتساوي مع الفقراء، وفيه تمييز للقبر، وتعظيم له، فعِلَّة النهي عن البناء موجودة في مجرد الدفن في الملك، فضلًا عن التجصيص والبناء. وكذلك وجود العلة في قبر الصالح أشد؛ لأنه أقرب إلى حمل الناس على تعظيمه، وما مثل مَن (1) يجيز البناء على قبر الصالح، إلا كمن يبيح شرب القَدْر المُسْكر من الخمر للمجاهدين، فإن البناء على قبر غير الصالح كشرب الجرعة والجرعتين من الخمر، والنهي عن البناء على قبر الصالح، كالنهي عن شرب القَدْر المسكر من الخمر، فإباحة البناء على قبر الصالح ــ لأن فيه احترامًا للصالحين ــ كإباحة السُّكْر للمجاهدين؛ لأن فيه شدة على الكافرين، مع أن علة تحريم الخمر خوف السكر، وعلة تحريم البناء خوف الكفر، وشتان بينهما. وهكذا تظليل الزوَّار، إن هو إلا تحقيقٌ لوجود العلة؛ لأن الزيارة التي تحتاج إلى التظليل لا تكون غالبًا مشروعة، مع أن التظليل ليس من المصلحة في شيء، لا مصلحة الميت كما هو واضح؛ لأنه إن كان للدعاء له، فإن الله عزَّ وجلّ بكل شيءٍ عليم، فإن أراد أن يبلغه ثواب الدعاء فسيبلغه، ولو كان الداعي بأقصى الأرض عن قبره. [ص 106] ولا لمصلحة الزوَّار؛ لأنه إن أريد المصلحة الشرعية التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "فإنها تذكِّركم الآخرة" (2). فهذه _________ (1) تكررت في الأصل. (2) أخرجه مسلم رقم (976) بلفظ "إنها تذكركم الموت". عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد رقم (1236) وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
(5 أ/123)
يصلح لها كل قبر، فلا معنى لتخصيص بعض القبور حتى يحتاج إلى البناء عليها للتظليل. وإن أريد أن صاحب القبر يشفع لهم إذا فعلوا ما يرضيه، فهو ميت لا يرضيه إلا ما ينفعه عند الله، والذي ينفعه عند الله هو الدعاء له بشرطه. وقد مر أن الله عزَّ وجلّ إن أراد أن يبلغه ثواب دعائهم بلغه أينما كان، وإن أريد أنه يحتاج إلى أن يُسأل، فإنهم يزعمون أنه يبلغ، بل يسمع سؤالهم ولو كان بعيدًا. وعلى كل حال، فهذه مجاراة لهم على باطلهم، وإلا قد بيَّن الإسلام أن النفع والضر بيد الله عزَّ وجلّ، وأنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته، ولا يُطاع الله إلا بما شرع، ولا يعلم ما شرع إلا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وإن فرض أنه حصل لأحدٍ من الناس نفع بشيءٍ من هذه المنهيات، فإنه لا يدل على جوازه، ألا ترى إلى السحر ينتفع به صاحبه، وهو كفر؟ وقد يستدرج الله عزَّ وجلّ بعض عباده إذا أصرّ على الإعراض عن الحق، فاستوجب الخذلان، قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. وقال جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ
(5 أ/124)
وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 112 - 117]. يا مقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، واهدنا لِمَا اخْتُلف فيه من الحق بإذنك، ووفقنا والمسلمين لما يرضيك. آمين. والحاصل: أن التقييد المذكور إن هو إلا تحقيق للمفسدة، وإيغالٌ في الغرور، كما يقال في المثل العامي: أراد أن يكحل عينه فأعماها. فنعوذ بالله من الخذلان. هذا، مع أن المقرر في الأصول: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح مطلقًا، وأن درء المفسدة الكبرى بارتكاب الصغرى متعيِّنٌ إذا دار الأمر بينهما، ولا شك أن ذرائع الكفر ــ ومنها تمييز القبر ــ أشد المفاسد، فلو دار الأمر بينها وبين مفسدة أخفّ منها؛ لتعيَّن ركوب الأخف، فكيف إذا لم يقابلها مفسدة أصلًا. [ص 108] وقال بعضهم: يحتمل أن يكون (البناء المنهي عنه) بناء الخيمة والفُسْطاط؛ لإقامة الحِداد، وتعظيم المصيبة. والجواب: أن هذا تقييدٌ بمجرَّد التشهِّي، لو صح مثله لأصبح الدين ألعوبة، وأيضًا فما باله قُرِن بالتجصيص؟
(5 أ/125)
وقال آخر (1): هؤلاء المسلمون منذ العصور الأولى إلى اليوم بما فيهم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ما زالوا يتقربون إلى الله زُلْفى بتعظيم مقابر الأنبياء والأولياء، وبتعميرها وتشييدها، وإقامة الأبنية الضخمة عليها. وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): هو أول من بنى حُجْرة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باللبن، بعد أن كانت مقوَّمة بجريد النخل، نص على ذلك السمهودي في "كتاب الوفاء" (2)، ثم تناوب الخلفاء على تعميرها. أقول: أسْمَع جعجعةً ولا أرى طِحْنًا، دعنا من حُجرة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لها سببًا خاصًّا كما مر بيانه (3). ومع ذلك فما نقلته عن كتاب "الوفا" لا نراه يصح، فإن أم المؤمنين عائشة كانت ساكنةً في الحجرة، ولعله ذهب وَهْم الراوي من عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الخطاب. وأما غير قبره صلى الله عليه وسلم؛ فقد نزَّه الله الصحابة رضوان الله عليهم، إلا أن يصنع بعض جَهَلة التابعين شيئًا، فيبادرون إلى هدمه، كما سيأتي. وكذا أتباع التابعين، ومَنْ بعدهم غالبًا، قال الإمام الشافعي (4): لم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة. وقال: رأيت [من الولاة من يهدم] بمكة [ما يُبنى فيها فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك] (5). _________ (1) هو حسن الصدر الكاظمي في "الرد على فتاوى الوهابية" (ص 70 ــ 71). (2) (2/ 481). (3) (ص 37 ــ 38). (4) النصان في "الأم": (2/ 631). (5) العبارة في الأصل: "وقال: رأيت ا ... بمكة ... " وأكملناها من "الأم".
(5 أ/126)
وقال الشعبي: رأيت قبور الشهداء جُثًى مسنَّمة (1). وأما بعد ذلك؛ فقد وقع بعض ما تزعم، فكان ماذا؟ ! [ص 109] أيكون ذلك ناسخًا لما ثبت بالشرع عن صاحب الشرع، إذًا فَمِن الشرع أن يُسبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه دام سبه على المنابر عشرات من السنين؟ ومن الشرع أن يُشْرَب الخمر ويُخْتلى بالأجنبيات؟ فقد استمر ذلك شائعًا في آخر ملك الأمويين، وملك العباسيين، وبعدهم، في أشياء يطول تعدادها. فأما دعوى الإجماع؛ فسيأتي دحضها في الفصل الثالث (2)، إن شاء الله تعالى. ثم ذكر شيئًا رواه البناني (3) (واضع) أهل الحجاز، إن لم يكن كذبًا فليس في الدنيا كذب، ولولا أنني طالعت الرسالة بنفسي لما صدَّقتُ أن _________ (1) تقدم تخريجه. (2) كذا، وقد مرّ بعض ذلك. انظر (ص 111، 113) وانظر المسوّدة (ص 37، 59). (3) كذا في الأصل في الموضعين، وفي رسالة الصدر "البنائي"، وقد ورد بغير ذلك، وفي مصادر الرافضة التي ذكرت روايته: "أبو عامر الساجي واعظ أهل الحجاز". انظر "وسائل الشيعة" (باب 26 من كتاب المزار)، و"تهذيب الأحكام" للطوسي: (6/ 22، رقم 50، 189). ومع أن هذا الساجي لا يُعرَف إلا أن الراوي عنه "عمارة بن زيد" أشد جهالة منه بل لا وجود له، فقد اختلقه الراوي عنه وهو عبد الله بن محمد البلوي؛ إذ سألوه: مَن عمارة هذا الذي تروي عنه؟ فقال: رجلٌ نزل من السماء فحدّثني ثم عَرَج! انظر "معجم رجال الحديث" (8681) للخوئي. أقول: وقد كتب المؤلف (واضع) بين هلالين تهكّمًا باللقب الذي ذكروه به (واعظ أهل الحجاز)!
(5 أ/127)
عاقلًا يورد مثل ذلك بمعرض الاستدلال. ثم قال: قال في "المنهج": "والأصل في بناء القبور وتعميرها ما رواه البناني واعظ أهل الحجاز" اهـ . أقول: فيا له من أصل! من أراد الاطلاع على تلك الرواية، فلينظرها في رسالة حسن صدر الدين الكاظمي (1). ثم قال: " ... إن في الآثار القائمة حول قبور الأنبياء السابقين، كقبر دانيال النبي في شوشتر (2)، وقبر هود وصالح ويونس وذي الكفل ويوشع في بابل والقرى (3)، وكقبور الأنبياء المدفونين عند البيت المقدس، بل في بناء الحِجْر على قبر إسماعيل وأمه هاجر لأكبر دليل على أن اهتمام الأمم السالفة في تعظيم مراقد أنبيائهم، لم يكن بأقل من اهتمام المسلمين في تعظيم مرقد نبيهم ومراقد أوليائهم" اهـ. أقول: هذا كله خبط، فقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه لا يثبت العِلْم بموضع قبر نبيٍّ غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. _________ (1) كتب المؤلف قبلها: "الرد على الوهابية" ثم ضرب عليها. والكاظمي: حسن بن هادي الحسيني المعروف بالسيد حسن الصدر، من علماء الرافضة، له تصانيف كثيرة قيل: تجاوزت المئة، منها هذه الرسالة المشار إليها. (ت 1354). انظر "الأعلام": (2/ 224) للزركلي. (2) هي مدينة (تُسْتَر). انظر "معجم البلدان": (2/ 29). (3) هو وادي القرى، بين الشام والمدينة، بين تيماء وخيبر، وفيه قرى كثيرة، وكانت قديمًا منازل ثمود وعاد ... انظر "معجم البلدان": (4/ 338).
(5 أ/128)
قال العلامة الشيخ محمد [بن] الجزري: "لا يصح تعيين قبر نبيّ غير نبينا عليه السلام، نعم، سيدنا إبراهيم عليه السلام في تلك القرية، لا بخصوص تلك البقعة" انتهى. "الموضوعات" (1) لعلي قاري. قال علي قاري: "ودُفِنَ بمكَّة كثير من الصحابة الكرام، أما مقابرهم فغير معروفة كما ذكره الأعلام، حتى قبر خديجة إنما بُني على ما وقع [ص 110] لبعضهم من المنام، ثم اختلفوا في مكان مولده عليه السلام، وإن اشتهر عند أهل مكة بالموضع المعروف عند الأنام. أما ما أحدثوا من مواليد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، مع عدم ثبوتها، فلا يظهر وجه التبرك بأرضها إلا باعتبار مآل أمرهم" اهـ. أقول: وقال ابن كثير في تفسيره (2) في سورة الكهف: وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وُجِد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يُخْفَى عن الناس، وأن تدفن تلك الرُّقعة التي وجدوها عنده فيها شيءٌ من الملاحم، وغيرها". أقول: قوله: "أمر أن يُخْفَى عن الناس" ذُكِر أنه أمر بحفر ثلاثة عشر قبرًا، وأن يُدْفن في أحدها ليلًا، وتُطْمَس القبور كلها. ويكفينا تكذيب ما زعمه الكاتب من أن قبور الأنبياء معروفة كما مر. فأما بناء الأمم السابقة؛ فقد ثبت بالسنة المتواترة أن من كان قبلنا كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدًا، وثبت في _________ (1) (ص 385) وما بين المعكوفين منه. (2) (5/ 2153).
(5 أ/129)
الحديث: "لتتبعنَّ سَنَن من كان قبلكم ... " (1) إلخ. ولكن إقرار الصدر الأول لبناءٍ على قبرٍ مردودٌ لا يثبت منه شيءٌ أصلًا، لا في بابل، ولا في القرى، ولا بيت المقدس، ولا غيره. وقد علمتَ مما مر تكذيب زعمه أن قبر إسماعيل وأمه في الحِجْر، ويكذِّبه أن الحِجْر من البيت كما ثبت في الصحيح (2)، فكيف يستجيز إسماعيل أن يَدْفِن أمه في جوف الكعبة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! ! ثم قال: "إنه يقاس التسريج على القبور باتخاذ الحليّ للكعبة". فيقال له: وكذا يُصلَّى إلى القبور، ويطاف بها، ويُحجّ إليها، وغير ذلك من مزايا الكعبة، يصنع مثله بالقبور قياسًا! ! ولا يضر مجيء النصوص بعدم استقبال القبور [ص 111] كما لا يضر مجيء النصوص بتسوية القبور، وعدم تمييز بعضها؟ ! ! _________ (1) أخرجه البخاري رقم (3456)، ومسلم رقم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري رقم (1584)، ومسلم (1333) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5 أ/130)
[ص 112] آية الكهف (1) توهَّم قومٌ أن هذه الآية تدلّ على الجواز، فتشبث بها بعض من لا علم له بالسنة من المتأخرين. وأجاب قومٌ: بأن المسجد إنما اتُّخِذَ خارجًا عن الكهف، وحملوا قوله: {عَلَيْهِمْ} على المجاز، واختاروا جواز مثل هذا. وقال آخرون: لا مانع من أن يكونوا اتخذوا المسجد على الفتية أنفسهم، ولكن ليس في الآية ما يدل على الجواز، وتفصيل الكلام على هذا يطول. فالأولى بنا أن ننقل ما ظفرنا به من تفسير سلف هذه الأمة أولًا، ثم نتكلم بما فتح الله به علينا. فأقول: قال ابن جرير (2): "يقول جل ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف لنتخذنَّ عليهم مسجدًا. وقد اختلف في قائلي هذه المقالة؛ أهم الرهط المسلمون، أم هم الكفار". ثم أسند عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا ... } قال: "يعني عدوهم". _________ (1) قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}. (2) تفسيره: (15/ 217).
(5 أ/131)
وأسند عن عبد الله بن عبيد بن عُمير قال: "عمَّى الله على الذين أعثرهم على أصحاب الكهف مكانهم، فلم يهتدوا، فقال المشركون: نبني عليهم بنيانًا، فإنهم أبناء [ص 117] آبائنا، ونعبد الله فيها، وقال المسلمون: نحن أحق بهم، هم منا، نبني عليهم مسجدًا نصلي فيه، ونعبد الله فيه". وفي "الدر المنثور" (1): وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} قال: "هم الأمراء"، أو قال: "السلاطين". وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جُبير قال: "بنى عليهم الملك بيعة، فكتب في أعلاها: أبناء الأراكنة أبناء الدهاقين". أقول: ولا تصح القصة التي فيها أن الملك كان مؤمنًا صالحًا. وقال ابن كثير (2): "حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم. والثاني: أهل الشرك. فالله أعلم. والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون، أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى ... " (3). وقد رُوِّينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد _________ (1) (4/ 392). (2) تفسيره: (15/ 2153). (3) سبق تخريجه.
(5 أ/132)
قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يُخْفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيءٌ من الملاحم". والحاصل: أن السلف مختلفون في تفسير الآية، ولم يثبت من النقل شيءٌ تقوم به الحجة. فالمتعيِّن علينا تحليل الآية نفسها، وإنعام النظر فيها، ليتبين الحق إن شاء الله تعالى. قال عزَّ وجلّ: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}. فدل على تنازعٍ كان بين القوم في أمر الفتية، ولابد في التنازع من الانقسام. ثم قال تعالى: {فَقَالُوا} فدل الإتيان بالفاء أن ما بعدها تفصيلٌ لما قبلها، وهو التنازع، وإذا كان التنازع لابد فيه من الانقسام، كان الظاهر أن يكون بعد الفاء ذِكْر قول كلٍّ من الفريقين على حِدَة، كما يقول: "تنازع الفقهاءُ هذا الحكمَ، فقال فريق: يجب، وقال فريق: لا يجب". فلذلك تعين أن يحمل قوله: {فَقَالُوا} على أنه قول أحد من الفريقين، وأُسْنِد إلى ضمير الجمع مجازًا؛ لأن للقائلين مزية أقيموا لأجلها مقام الجميع، ويؤيد ذلك قولهم: {ابْنُوا}. فلو كان القائلون هم الجميع، لكان الأمر خلاف الظاهر، إذ هو أمرٌ لأنفسهم، ولو أريد: قال بعضهم لبعض، لكان الظاهر أن يصرح به، فكأنه قال ــ والله أعلم ــ فقال الفريق المختار: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}.
(5 أ/133)
[ص 113] فإن قيل: فما معنى قوله: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}؟ قلت: الذي يعطيه السياق أن الفتية بعد أن رآهم القوم، واستخبروهم، وتقررت الآية، رجعوا إلى مضجعهم في الكهف، وعاد الرُّعب الذي في قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]. فبقي القوم متحَيِّرين لا يدرون أماتوا أم ناموا، ولا يمكنهم الدخول إليهم لمكان الرعب، ثم تنازعوا فيما يصنعون، فقال الفريق الأول: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أي: أماتوا أم عادوا إلى نومهم؟ ولا يصح أن يقال: إن المراد: ربهم أعلم بهم، مَنْ هُم، وممن هم؟ لأن الظاهر أنهم اجتمعوا بالقوم، وقصّوا عليهم قصتهم، لتتقرر الآية التي هي المقصود من الإعثار عليهم، أعني: قوله تعالى: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}. فإن قلت: فإذا كان دخول الكهف ممنوعًا، فكيف يقولون: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ}؟ قلت: المراد بالبناء عليهم البناء لسد باب الكهف، بقرينة ما تقدم. فإن قلت: فما وجه النزاع؟ فهل أبى الفريق الآخر سد باب الكهف؟ قلت: أرادوا ــ والله أعلم ــ أن يبنوا المسجد عند باب الكهف، بحيث يكون جداره سادًّا لباب الكهف. فالفريق الأول يقولون: ابنوا جدارًا نسدُّ به باب الكهف.
(5 أ/134)
والفريق الآخر قالوا: بل نبني مسجدًا يكون جداره سادًّا لباب الكهف. [ص 114] إذا تقرر هذا، فقد اختلف المفسرون مَن المحمودُ من الفريقين؟ وقبل أن نفيض في ذلك ينبغي أن تعلم أنه ليس بيدنا دليلٌ صحيحٌ عن أن الملك كان من أهل الحق، بل ولا على أن القوم الذي أعثروا على الفتية كان بعضهم كفارًا كفرًا صريحًا، وإنما في الآية قوله تعالى: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا}. وهذا ليس بصريح الدلالة على أن فيهم من شك، فضلًا عن الدلالة على أن فيهم من يكذب، وقد قال الله عزَّ وجلّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ ... ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 94 - 97]. نعم، الظاهر من إظهار الله عزَّ وجلّ لتلك الآية أن يكون في أولئك القوم من يخالجه الشك في البعث، هذا أقصى ما تدل عليه الآية. إذا علمت هذا، فأصغ لما يَرِدُ عليك: فقال بعض المفسرين: الفريق الصالح هو الثاني، بدليل عزمهم على اتخاذ المسجد. وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأنه لم يثبت لدينا أن الفريقين كان أحدُهما مؤمنين، والآخرُ كفارًا مصرِّحين بالكفر حتى ينتفي عنهم العزم على اتخاذ المسجد، فقد يكون الفريقان كلاهما من المسلمين، ولكن أحدهما أهل علم وهدى، والآخر أهل جهل وضلال.
(5 أ/135)
وعليه، فليس أهل العلم والهدى بأحق من الآخرين باتخاذ المسجد، بل الأمر بالعكس كما لا يخفى. [ص 115] وقال قوم: بل الفريق الأول هو المحمود. وهذا هو الصحيح، ولنا عليه أدلة: 1 - أن الله عزَّ وجلّ أقام الفريق الأول مُقام الجميع، بقوله: {فَقَالُوا}، وهذا لا يكون إلا لمزية، كما تقدم. ولا تكون المزية ههنا إلا دينية؛ لأمرين: الأول: أن الباري عزَّ وجلّ اعتبر هذه المزية، حيث جاء في كلامه العزيز إقامة الفريق الأول مقام الجميع لأجلها، وهذا يشعر بأنها محبوبة له عزَّ وجلّ. الثاني: أن المزية الدنيوية إنما هي القوة، وقد أثبتها الله عزَّ وجلّ للفريق الثاني بقوله: {الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ}. فتعين أن تكون مزية الفريق الأول دينية، فهم أهل العلم والهدى. 2 - أن الله عزَّ وجلّ حكى من قول هذا الفريق الأول قولهم: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}. وهذه كلمة عظيمةٌ، يشم منها نفحات الإيمان، وتلوح منها لمحات العلم والإيقان. 3 - أن الله تبارك وتعالى قدَّم الفريق الأول في الذكر، والتقديم يُشْعِر بمزية للمقدَّم، وقد علمت أن المزية ليست بدنيوية، فتعين كونها دينية. 4 - أنه جلّ ذكره قال في ذِكْر الفريق الثاني: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ... }.
(5 أ/136)
فأشعر أن الحامل لهم على هذا العزم هو الغلبة [ص 116] على ما قرره بعض علماء البيان في باب المسند إليه في مجيئه موصولًا؛ للإيماء إلى وجه بناء الخبر (1)، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. واعتراض السعد عليه إنما هو لتفسيره الإيماء بما ذكر لا على نفس المعنى. وقرَّره علماءُ الأصول في مسالك العلة، بقولهم: "إن ربط الحكم بالمشتق مؤذنٌ بعِلِّية ما منه الاشتقاق" (2). وهو في الموصول أوضح. والغالب أن الغلبة تكون سببًا للبَطَر والبغي والعدوان، ويعيِّنه أنه لو كان فعلهم محمودًا لرتَّبَه على وصفٍ ظاهر المناسبة للخبر. إذا تأملت هذه الأوجه، وأنعمتَ النظر، علمت أن الآية تدل بنفسها على أن الفريق الأول هو المحمود، والفريق الثاني هو المذموم. فالفريق الأول متمسِّكون بعهد نبيهم، واقفون عند حده. والفريق الثاني أهل جهل وغُلوّ وعدوان، يشرعون ما لم يأذن به الله تعالى، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا. فهذه دلالة الآية بنفسها، قد علمت حقيقتها، ثم ضمّ إلى ذلك دلالة _________ (1) انظر "التلخيص ــ بشرح البرقوقي": (ص 60)، و"المطوّل": (ص 74). (2) انظر "البحر المحيط": (5/ 201) للزركشي، و"التحبير شرح التحرير": (7/ 3349 - 3350) للمرداوي.
(5 أ/137)
قوله عزَّ وجلّ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]. وقد تقدمت (1). ثم عزِّزها بدلالة السنة المتواترة: بلعن اليهود والنصارى، واشتداد غضب الله عليهم؛ لاتخاذهم قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد (2). وهذا يتناول القوم الذي أعثروا على الفتية، إن كانوا نصارى أو يهودًا، وكذلك إن كانوا من أمةٍ أقدمَ من اليهود؛ لأن ظاهر الأدلة أن هذا الفعل لم يزل محظورًا. وظاهرٌ أن الباري تبارك وتعالى قصَّ علينا هذه القصة ليرشدنا إلى أن نقتدي بالفريق الواقف عند حدِّه، المتمسِّك بعهده، ويحذرنا من أن نفعل ما فعل الفريق الآخر من الغلوّ في الدين، وشَرْع ما لم يأذن به الله، والافتراء عليه. [ص 119] وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مثل فعلهم، وأخبرنا بأننا سنتبع سَنَنهم، وبشَّرنا أنه لا تزال طائفة مِنَّا قائمة على الحق، لا يضرهم من ناوأهم. فنسأل الله عزَّ وجلّ أن يجعلنا من طائفة الحق، ويثبِّت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنه، إن سميع مجيب. وقد كنتُ كتبتُ سلسلةً من التسليمات الجدلية، وبيان الجواب عنها (3)، ثم رأيت الأمر أوضح من ذلك، كما لا يخفى على من له بصيرة. والله أعلم. _________ (1) لم يتقدم شيء هنا في المبيّضة، وقد تكلّم المؤلف عليها في "المسوّدة" (ص 21). (2) والأحاديث في ذلك في الصحيحين وغيرهما عن عدد من الصحابة. (3) يعني في النسخة الأولى للكتاب (المسوّدة) انظرها (ص 18 - 19).
(5 أ/138)
الخاتمة (1)
_________ (1) هكذا في الأصل عنوان لم يكتب تحته شيء. وانظر المقدمة (ص 20).
(5 أ/139)
ملحق النهي عن البناء على القبر (1) المتبادر أن المراد بالبناء على القبر ما يُبنى لأجل القبر، وهذا هو الذي فَهِمه العلماء، ونحن نعلم أن هذا هو الواقع، ولكن هذا لا يمنعنا أن نثير عليه شبهة لم نَر مَن تعرَّض لها؛ خشيةَ أن يُلَقّنها بعض المحرّفين فيلعب بها دورًا من أدوار التضليل قبل أن يُقيّض الله مَن يكشف عوارها، فرأينا أن نُثيرها لِنُنيرها؛ عملًا بقول أبي عُبادة (2): إذا ما الجرحُ رُمَّ على فسادٍ ... تبيَّن فيه تفريط الطبيب وللسهم السديد أشدّ حبًّا ... إلى الرامي من السهم المصيب على أني أرجو الله عزَّ وجلَّ أن يجمع لي بين السداد والإصابة، فأقول: قد يقال: لعل المراد بالبناء المنهي عنه هو ما يكون فيه انتهاك لحرمة القبر، كأن يُبنى بيت للسكنى أو حائط ويجعل الجدار على متن القبر كما هو الحقيقة في البناء على القبر. ويؤيده قَرْنه بالنهي عن الجلوس عليها. والجواب: أن الحديث مطلق، وجَعْل جدار الدار على متن القبر غير ممكن عادة؛ إذ لابد للبناء من أساس، ومتن القبر لا يصلح أساسًا. وفي كون ذلك هو الحقيقة نظر؛ إذ قد يقال: إنما يكون حقيقة لو استغرق البناء جميع _________ (1) من المسودة الثانية (ص 30 ــ 40). (2) هو البحتري "ديوان" (1/ 441 ــ 442). والبيت الثاني فيه: فللسهم السديد أحبّ غبًّا ... ...........................
(5 أ/141)
أجزاء القبر. وعلى تسليمه فيشاركه في الحقيقة أن يكون البناء مشتملاً على القبر مسقوفًا، فإنه باعتبار السقف يكون على جميع أجزاء القبر. أما قَرْنه بالنهي عن الجلوس فيعارضه ما هو أقوى منه، وهو قرنه بالنهي عن التجصيص، وهو أقرب إلى معنى البناء الذي يُقصد به تشييد القبر وتعظيمه من الجلوس إلى معنى البناء الذي يقصد به إهانته؛ لأن التجصيص من جنس البناء كما لا يخفى. فإن قيل: فإن لم يمكن وضع الجدار على متن القبر فيمكن حفره. قلت: فكان الظاهر إذن أن ينهى عن حفر القبر؛ لأنه هو المحظور لا أصل البناء إذ لو جَرف سيلٌ قبرًا في بقعة مملوكة أو مَوَات لم يمنع البناء في موضعه، على أن البناء بعد الحفر ليس على القبر، بل هو على موضعه، إذ لابد في الحفر أن يصل إلى قعر القبر ليوضع الأساس على قرار متين كما لا يخفى. فإن قيل: فهو على القبر مجازًا. قلت: هو مجاز بعيد لا داعي إلى ارتكابه. أما إذا قلنا: إن البناء المشتمل على القبر المسقوف يكون على القبر حقيقة، فالأمر واضح لأن الحقيقة مقدمة على المجاز. أما إن قلنا إنه مجاز، فالمجاز القريب المتبادر أولى من البعيد المتكلّف، وقد سبق أن قَرْنَه بالتجصيص يدل على أن المراد بالبناء ما كان للتشييد والاحترام وأنه أدلُّ على ذلك من الجلوس على المعنى الآخر، وهذا واضح. ويؤيد ما قلناه حديثُ فَضالة كما تقدم، وحديث أمير المؤمنين عليّ كما
(5 أ/142)
سيأتي. بل لو لم يرد إلا أحدهما لكان كافيًا في المطلوب، بل لو لم يرد إلا النهي عن التجصيص لكان كافيًا بدلالة القياس الجليّ كما هو بيِّن، بل لو لم يرد شيء من ذلك لكفى في حظر البناء ونحوه خلافه للسنة مع صيرورته سببًا لضلال طوائف من الأمة كما هو مشاهد، مع أدلة أخرى قد أشرنا إليها في مواضع أخر من هذه الرسالة. فيتعين أن يكون المراد بالبناء في هذا الحديث هو المتبادر منه والمنافي للتسوية والمناسب للتجصيص والإشراف، أعني البناء المشتمل على القبر، سواء كان ضيّقًا على جوانبه القريبة أم واسعًا. وسواء كان مسقوفًا أم لا. أما على القول بأن البناء المشتمل على القبر لا يقال له بناء ولو كان مسقوفًا فظاهر؛ لأن المسقوف يكون مجازًا وغير المسقوف مجازًا (1). وأما على القول بأن المسقوف حقيقة فلأنه لا فرق، فالكُلُّ إحكامٌ للقبر وتمييز له، بل ويقاس عليه البناء بالقرب من القبر غير مشتمل عليه إذا كان لأجله كالمَشاهد، بناءً على أن العلة هي خشية أن يؤدّي تمييزه إلى تعظيمه الذي هو باب الشرك كما تدلّ الأحاديث الصحيحة في النهي عن الصلاة إلى القبور، وأن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، مع ما قاله ابن عباس وغيره من السلف كما في "صحيح البخاري" وغيره في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23 - 24]: إن هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم إلخ. ومع السنة المتواترة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، _________ (1) كذا في الأصل.
(5 أ/143)
وفُسِّرت في بعضها ببناء المسجد على القبر، ولَعْن من فَعَل ذلك وقتال الله له، واشتداد غضب الله عليه، مع ما في بعضها مِن لَعْن من اتخذ على القبر سراجًا= كلّ هذا يدل أن العلة في النهي عن البناء على القبر هي خشية أن يؤدي تمييزه إلى تعظيمه. وهذه العلة موجودة في كلّ تمييز للقبر مما ذكرنا أو غيره، فكل ذلك مما يتناوله النهي. ومنه القبر في البناء لوجود العلة. وأما قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فله سبب خاص سيأتي بيانه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.
(5 أ/144)