×
المنهج القويم في اختصار اقتضاء الصراط المستقيم : كتاب للعلامة البعلي - رحمه الله - اختصر فيه كتاب اقتضاء الصراط المستقيم؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - والذي استوفى فيه مسألة النهي عن مشابهة الكفار، من أصولها وفروعها، وأدلتها العقلية والنقلية، وما ورد فيها من آثار ومواقف عن سلف الأمة.

 المنهج القويم في اختصار اقتضاء الصراط المستقيم

آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (6)

المنهج القويم في اختصار اقتضاء الصراط المستقيم

لشيخ الإسلام ابن تيمية

اختصره

العلامة محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي (ت 778)

تحقيق

علي بن محمد العمران

إشراف

بكر بن عبد الله أبو زيد

دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(1/1)

________________________________________

رَاجَعَ هَذَا الجُزْءَ

محمَّد أجمَل الإصْلاحي

(1/3)

________________________________________

 "مقدمة التحقيق"

الحمد لله ربّ العالمين، حمدًا يوافي نِعَمَه ويكافيء مَزيدَه، وأُصلِّي وأُسلِّم على أشرف الخلق ومقدَّم الرُّسْل: نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد؛ فإن الله -تعالى- أخَّر هذه الأمة المحمَّدية في الزمن، وقدمها في الخصائص والفضل، فجعلَها كما أخبر في كتابه المنزَّل: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].

* وللمُهَيْمِنِ في تأخيرها شأن *

فختم الشرائع بها، فأصبحت قاضيةً وحاكمةً وناسخةً ومُهَيْمِنةً على شرائع الله المنزلة قبلها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].

وقد امتنَّ الله -تعالى- على هذه الأمة؛ فأرشدها وهداها إلى أحسن الطرقِ وأقومها، وأوضحِ السُّبُل وأجلاها، وجعلها على شريعةٍ من الأمر، وأكمل ذلك كله فقال -مُمْتنًّا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ثم أمر باتباع هذه الشريعة -الكاملة الناسخة- فقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

ولأجل حِفْظ هذه الخصائص والميزات، جاءت خطاباتُ الشرع المتكاثرة في القرآن والسنة والآثار، بالحضِّ على تَمسُّك الأمة بدينها

(1/5)

________________________________________

والتزام طريقتها ومنهجها، كما جاءت بالنكير والتحذير مِن اتباع سنن الذين كفروا، على اختلاف مِلَلِهم ونِحَلِهم وضلالاتهم، ثم قَطَعَ الطُّرُقَ الموصلةَ إلى اتباعهم بتوجيهات حاسمة وأوامر كثيرة، لتصفوَ للأمة شِرْعتُها ومنهاجُها في أمورها كافةً (العبادات والعادات والمعاملات).

ومع كل هذا التحذير والتشديد إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر: أن طوائف من هذه الأمة ستتَّبع سنن الذين كفروا، وستسعى في مشابهتهم بكل طريق، حتى في أقبح الأفعال ومُسْتنكَر العادات ورذائل الأمور، وذلك الاتباع بل التَّبَعِيَّة = دليلٌ على فشوِّ الضعف فيها، كما في "قاعدة التغالب" بين الأمم، فالضعيف يسعى في تقليد الأقوى ومحاكاته، ليس في أسباب قوَّته وتقدمه، بل في أردأ ما عنده من شهوات ونحوها؛ نتيجة لخَوَر الهِمَم وفساد العزائم، وقد عبَّر الشارعُ عن هذا الضعف بـ "الغثاء" في قوله: "ولكنكم غثاء كغثاء السيل"، وأصل مادة "الغثاء" تدلّ على فسادٍ في الشيء، فما فَسَد ويبس وذهبت خضرته وروحه من أوراق الشجر ونحوها خفَّ على السيل حمله وتجمعت القاذورات حوله؛ فكان غُثاءً.

وأسبابُ الضعف كثيرة، ليس هذا مكان بيانها وشرحها.

ومع كل ذلك -أيضًا- فقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- -وخبرُه الصِّدْق-: أنه لا تزال طائفة من أمَّته على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله.

فلا بُدَّ إذن من بيان الحقِّ وتوضيحه وتبليغه، وبيان خطر تخلِّي الأمة عن خصائصها وشِرْعتها، ووجوب مباينة الكافرين والنهي عن مشابهتهم، وقطع الوسائل الموصلة إلى ذلك، وفي هذا البيان

(1/6)

________________________________________

والتوضيح من الحِكم الكثيرُ:

- من تثبيت الطائفة المنصورة.

- وتكثير عددها.

- وزيادة إيمانها.

- ثم العلمُ بالطريقة الشرعية، ومعرفةُ الأعمال القبيحة، والإيمانُ بذلك مطلوب شرعًا، بل العلم بها خير من العمل بدون علم، فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر، خير من أن يكون ميِّت القلب، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.

* ولا زال أهل العلم والإيمان من هذه الأمة المرحومة في بيانٍ للحق ومدافعةٍ للباطل؛ هدايةً للخلق، وقيامًا بواجب التبليغ، ومعذرةً إلى الله، فكان ممن تصدّى لهذه المسألة (التشبه بالكفار ونحوهم وما يتبعها) = الإمام الرَّبَّاني القدوة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيميَّة -رحمة الله عليه- فأوفَاها حقَّها من البحثِ والتقعيد وضرب الأمثال وتحرير المسائل، في كتابه الفذّ: "اقتضاءُ الصراطِ المستقيمِ مخالفةَ أصحاب الجحيم".

فبيَّن فيه: الاختلاف الذي وقع وسيقع في الأمة، ومتابعتها لمن قبلها من الأمم -اليهود والنصاري-.

وذَكَر: بقاء الطائفة المنصورة والفرقة الناجية على الحق إلى قيام الساعة.

وبيَّن: أنواع البدع والضلالات والشرك الذي ابتليت به الأمة في

(1/7)

________________________________________

 الاعتقاد والعمل (من العبادات والعادات والسلوك).

وبيَّن: أثر هذا التشبّه والموافقة على الأمة، وأن المشاركة في الهدي الظاهر تورِث مشاركة في الباطن.

وبيَّن: مسألة التشبُّه والنهي عنه ودلائله، وقواعد الحكم على العمل وإلحاقه بالتشبّه المنهيّ عنه أو المكروه، وذكر الأجناس التي جاء النهي عن التشبه بها من (الكفار، والأعاجم، والأعراب).

وفصَّل: في مسألة الأعياد والاجتماعات المبتدعة وحرَّرها أبلغ تحرير، وصرح فيه: (1/ 103 وغيرها) أن هذه المسألة هي المقصودة من الكتاب، وغيرُها سِيْق تبعًا لها.

وبيَّن أخيرًا: ما وقع في الأمة من الابتداع في تتبُّع وزيارة الآثار والقبور والمزارات والمشاهد.

ولعموم الحاجة إلى هذا الكتاب، ولما فيه من العلوم الكثيرة الغزيرة = انتشر في الآفاق، وعَظُم انتفاع الناس به، واعتمدوا عليه في بابه (خاصة موضوع التشبُّه والكلام على البدع).

* * *

* ولعلّ الأمرَ الذي ذكرناه في مقدمة "مختصر الصارم المسلول": (ص/ 6) هو نفسه الذي دعا العلامة البعلي إلى اختصار "الاقتضاء"، ولعل السبب نفسه -أيضًا- هو الذي دعا جماعةً من المعاصرين لعمل مختصراتٍ للكتاب، وهي:

(1/8)

________________________________________

1 - "مختارات من اقتضاء الصراط المستقيم" لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عُثيمين، طبع دار ابن الجوزي في (63 صحيفة).

2 - "مهذَّب اقتضاء الصراط المستقيم" للدكتور عبد الرحمن الفريوائي، تقديم فضيلة الشيخ عبد الله الغنيمان، في (352 صحيفة). وتُرجم هذا المختصر إلى الأُرْدية.

3 - "مختصر اقتضاء الصراط المستقيم" للدكتور ناصر بن عبد الكريم العَقْل، طبع دار إشبيليا عام 1419، في (478 صحيفة).

وفي كلٍّ خير، نفعَ اللهُ بالجميع.

وكنَّا قد قدمنا الكلام على:

* ترجمة المؤلف.

* ووصف النسخة الخطية.

* ومنهج العمل.

في مقدمة "اختصار الصارم": (ص 15 - 24)، فلا نعيده.

ويقع هذا "المختصر" في "المجموع النفيس" بخطِّ مؤلِّفه البعلي ت (778) في (33 ق) (ق/ 177 أ - 210 ب).

وسمَّاه كما في طرَّته: "المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم"، كذا، وفيه من الإيهام على العامة ما فيه؛ لذا فقد أشار من مشورته غُنْم بأن تضاف إلى العنوان كلمة "اقتضاء" ليصبح "المنهج القويم في اختصار [اقتضاء] الصراط المستقيم" وبه يزول اللبس.

وقد اعتمدنا في الإحالة والمقابلة على "الاقتضاء" في طبعته التي حققها د/ ناصر العقل (ط السابعة 1419، توزيع وزارة الشئون الإسلامية)، وهذه النشرة هي أجود نشرات الكتاب فيما أعلم، وقد استفدت من عمله وزدت في عملي فوائد كثيرة؛ في تخريج الأحاديث،

(1/9)

________________________________________

والحكم عليها، والإحالة على الكتب، وتخريج بعض الآثار، والتعليق على بعض المواضع؛ فلو استُدْرِك -من هنا ما فات هناك- في طبعة لاحقة لكان حسنًا.

ثم ذيَّلت الكتاب بفهارس متنوِّعة؛ للآيات، والأحاديث والآثار، والمراجع، ثم صنعتُ له فهارس علمية؛ للمسائل العقدية، والفقهيَّة، والأصولية، والبدع، وبدع النصارى ومنكراتهم، ومسائل التشبُّه، والقواعد والضوابط، والفوائد المنثورة، والموضوعات. ولا أدَّعي الإحاطة بكلِّ ذلك، لكني بذلت جهدي، وبالله الإعانة والتوفيق.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

وكتب

علي بن محمد العِمران

6/ 5/ 1421 هـ

في مكة المكرمة - حرسها الله تعالي

(1/10)

________________________________________

نماذج من النسخة الخطية

(1/11)

________________________________________

ورقة العنوان من "المنهج القويم"

(1/12)

________________________________________

الورقة الأولى من "المنهج القويم"

(1/13)

________________________________________

الورقة الأخيرة من "المنهج القويم"

(1/14)

________________________________________

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربِّ العالمين، قيوم السماوات والأَرضين. والحمد لله الذي أكملَ لنا ديننا، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلامَ دينًا، وأمرنا أن نستهديَه صراطَه المستقيم، صِراط الذين أنعمَ عليهم غير المغضوب عليهم -اليهود-، ولا الضالين -النصارى-.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالدين القيِّم، والحنيفية السَّمْحة، وجعله على شريعةٍ من الأمر، وأمره أن يقول: {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، صلى الله وسلَّم عليه، وزاده شرفًا لديه.

وبعد؛ فإني كنت قد نَهَيْتُ عن التشبُّه بالكفار في أعيادهم، وبيَّنت ما في ذلك من الأثر والدلالة الشرعية. ثم بلغني أن من الناس من استغربَ ذلك واستبعده، لمخالفةِ عادةٍ قد نشأوا عليها، فاقتضاني (1) بعض الأصحاب أن أعلِّق في ذلك ما يكون إشارة إلى [أصل هذه المسألة، لكثرة فائدتها وعموم المنفعة بها، ولما قد عمَّ كثيرًا من الناس من الابتلاء بذلك حتى صاروا في نوعِ جاهلية.

__________

(1) أي: طلب مني.

(1/17)

________________________________________

فصلٌ

اعلم أن محمدًا] (1) بعثه الله إلى الخلق وقد مقت أهلَ الأرض، إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا -أو أكثرهم- قُبيل مبعثه.

والناس أحد رجلين؛ إما كتابيٌّ مُعْتَصِم بكتابٍ؛ إما مُبدَّل، وإما مُبَدَّلٌ منسوخ، ودين دارس (2)، بعضه مجهول وبعضه متروك.

وإما أُمِّي من عربيٍّ وعجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه وظنَّ أنه ينفعه من نجمٍ أو وثنٍ أو قبرٍ أو تمثال أو غير ذلك.

والناسُ في جاهليةٍ جَهْلاء، فهدى اللهُ الناسَ ببركة [نبوة] (3) محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبما جاء به من البيِّنات والهدي، هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفةَ العارفين، فلله الحمد كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

بعثه بدين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، وفَرَضَ على الخلق أن يسألوه هدايتَه كلَّ يومٍ في صلاتهم، ووصفَه بأنه: صراطَ الذي أنعم اللهُ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

قال عديُّ بن حاتم -رضي الله عنه-: أتيتُ رسول الله وهو جالسٌ في المسجد، وجئتُ بغير أمانٍ ولا كتاب، فلما دفعتُ إليه أخذ بيدي، وكان قد قال قبل ذلك: "إنِّي لأرجو أن يجعلَ اللهُ يَدَه في يدي"، قال:

__________

(1) ما بين المعكوفين متآكل في الأصل، إذ كان تكملةَ لحقٍ طويل، بدأ من قوله: "وبعد، فإني ... " فجاء في ذيل الصفحة، والإكمال مستفاد من "الاقتضاء": (1/ 73 - 74).

(2) أي: ذهبت معالمه.

(3) لحق بالهامش ولم يظهر، بسبب تداخله مع اللحق الطويل المتقدم.

(1/18)

________________________________________

فقام بي حتى أتى داره، فألقت له الوليدةُ (1) وسادةً، فجلسَ عليها، وجلستُ بين يديه، فحمدَ اللهَ وأثنى عليه ثم قال: "ما يُفِرُّكَ (2)؟ أَيُفِرُّكَ أنْ تَقُوْلَ: لا إلهَ إلا الله؟ فَهَل تعلمُ مِن إلهٍ سوى الله"؟ قلتُ: لا، ثم تكلَّم ساعةً، ثم قال: "إنما تَفِرُّ أن تقول: الله أكبر، أَوَ (3) تَعْلَمُ شيئًا أكبرُ مِنَ اللهِ؟ " قلتُ: لا، قال: "فإن اليهودَ مغضوبٌ عليهم، وإن النصاري ضُلَّال".

قال: قلت: فإني حنيف مسلم. قال: فرأيتُ وجْهَه ينبسِطُ فرحًا، وذكرَ حديثًا طويلًا.

رواه الترمذي (4) وحسَّنه (5).

وفي كتاب الله ما يدلُّ على معنى هذا الحديث، مثل قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60]، والضمير عائد إلى اليهود والخطابُ معهم، كما دلَّ عليه سِياق الكلام.

__________

(1) أي: الجارية.

(2) أي: ما يحملك على الفرار.

(3) كذا في الأصل، وفي "الاقتضاء" و "المصادر": "و".

(4) رقم (2953).

(5) تمام عبارته: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سِماك بن حرب" اهـ والحديث أخرجه أحمد في "المسند": (32/ 123 رقم 19381)، وابن حبان "الإحسان" (16/ 183) وغيرهم من طرقٍ عن سِماك بن حرب عن عبَّاد بن حُبيش به.

وفيه عبَّاد، قال الذهبي: لا يُعرف، وذكره ابن حبان في "الثقات": (5/ 142)، ولم يرو عنه غير سِماك بن حرب، وسِماكٌ في حفظه مقال. ولبعض ألفاظ الحديث شواهد يتقوَّى بها.

(1/19)

________________________________________

وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14]، وهم المنافقون الذين تولَّوا يهود، باتفاق أهل التفسير، وسياق الآية يدل عليه.

وقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 112]، وفي [البقرة] (1): {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، فهذا بيان أن اليهود مغضوبٌ عليهم.

وقال في النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} إلى قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 73 - 77]، فهذا خطابٌ للنصارى كما دلَّ عليه السِّياق، ولهذا نهاهم عن الغلو، وهو مجاوزة [الحد] (2)، كما نهاهم عنه في قوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} الآية [النساء: 171].

ووَصْفُ اليهودِ بالغضب، والنصارى بالضلال له أسبابٌ ظاهرة وباطنة، ليس هذا موضِعها، وجماعٌ ذلك: أن اليهود كفروا عنادًا؛ لأنهم يعلمون الحقَّ ولا يُتْبِعونه عملًا، والنصارى كُفْرهم من جهةِ عملهم بلا علم، بل هم مجتهدون في أصناف العبادات بلا شِرعةٍ (3) من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون.

__________

(1) وقع في جميع مخطوطات الاقتضاء، وفي "الأصل": "آل عمران" وهو سهو؛ إذ الآية قبلها في آل عمران، وهذه في البقرة آية: 90.

(2) في "الأصل": "الحق"، وهو سهو.

(3) "الاقتضاء": "شريعة".

(1/20)

________________________________________

ولهذا قال السلف -سفيانُ بن عُيَينة وغيره-: "من فَسَد من علمائنا ففيه شبهٌ من اليهود، ومن فسدَ من عُبَّادنا ففيه شَبَهٌ من النصاري".

ومع أنَّ الله قد حذَّرنا سبيلهم، ثم مع ذلك فقضاؤه نافذ بما أخبرَ به رسولُه، حيث قال: "لَتتَّبِعُنَّ سَنَنَ من كان قَبْلَكُمْ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموه" قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ" (1)؟!. حديث صحيح.

ورواه البخاري (2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخَذَ أُمَّتِي ما أَخَذَ (3) القرونَ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِراعًا بِذِراعٍ" فقيل: يا رسولَ الله! كفارس والروم؟ قال: "وَمَن الناسُ إلا أُولئك"؟

وقد كان ينهى عن التشبُّه بهم، وليس ذلك إخبارًا عن جميع الأُمة، فإنه قال: "لا تَزَالُ طائفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظاهرينَ على الحقِّ حتَّى تقومَ السَّاعَةُ" (4).

وأخبرَ: أنه لا تجتمع هذه الأمةُ على الضلالة (5)، وأن لا يزال

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (7320)، ومسلم رقم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. بنحوه.

(2) رقم (7319).

(3) كذا بالأصل. وهي إحدى روايات الصحيح، ورواية الإسماعيلي. وضُبِطت بأوجهٍ أخرى انظر "الفتح": (13/ 313).

(4) أخرجه البخاري رقم (3640)، ومسلم برقم (1920، 1921) من حديث المغيرة رضي الله عنه وغيره.

(5) جاء هذا المعنى في عدة أحاديث عن عدد من الصحابة، منهم ابن عمر عند الترمذي برقم (2167) وابن أبي عاصم في "السنة": (1/ 39 رقم 80)، وكعب =

(1/21)

________________________________________

يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعة الله (1).

فعُلِم بخبره الصِّدق أنَّ في أمته قومًا متَمسِّكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا، وقومٌ منحرفون إلى شعبةٍ من شُعَب اليهود، أو إلى شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكلِّ انحرافٍ، بل وقد لا يفسُق، بل قد يكون الانحرافُ كفرًا، وقد يكون فِسْقًا، وقد يكون معصيةً، وقد يكون خطأً.

وهذا الانحراف أمرٌ تتقاضاه (2) الطباع ويُزَينه الشيطان، فلذلك أُمِر العبدُ بِدَوام دعاء الله -سبحانه- بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهوديَّةَ فيها ولا نصرانية أصلًا.

وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتُلِيَت بها هذه الأمة، ليجتنب المسلم الحنيف الانحرافَ.

قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ

__________

= بن عاصم الأشعري عند ابن أبي عاصم في "السنة": (1/ 41 رقم 82)، وغيرهم.

والحديث حسنه الألباني في "السلسلة" رقم (1331) بمجموع طرقه.

(1) أخرجه بنحوه أحمد في "المسند": (29/ 325 رقم 7787)، وابن ماجه في المقدمة رقم (8)، وابن حبان "الإحسان": (2/ 33) وغيرهم، من طرقٍ عن الجراح بن مليح عن بكر بن زرعة. عن أبي عنبة الخولاني به.

والجراح بن مليح لا بأس به، وبكر بن زرعة لم يوثقه أحد غير ابن حبان فقد ذكره في "الثقات": (4/ 75) وروى عنه جماعة. وفي صحبة أبي عنبة خلاف، والحديث صححه ابن حبان، والبوصيري في "مصباح الزجاجة": (1/ 44).

أقول: وفي صحته نظر.

(2) أي: تقتضيه وتطلبه.

(1/22)

________________________________________

إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، فذمَّ اليهودَ على ما حسدوا به المؤمنين على الهدى والعلم.

وقد يُبْتَلى بعض المُتَلَبِّسِين (1) بالعلم وغيرهم بنوعٍ من الحسد لمن هداه الله بنوع علمٍ أو عملٍ صالح، وهو خُلُق مذمومٌ مطلقًا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 36 - 37]، فوصفهم بالبخل بالعلم وبالمال، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلمِ هو المقصود الأكبر.

وكذا وصَفَهم بكتمان العلم في غير آيةٍ، مثل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159]، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة: 174].

فوصَفَ المغضوبَ عليهم بأنهم يكتمون العلم؛ تارةً بخلًا به، وتارةً اعتياضًا عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفًا (2) أن يحتج عليهم بما أظهروه منه.

وهذا قد ابتُلِي به طوائف من المنتسبين إلى العلم، فإنهم تارةً يكتمون العلمَ بُخلًا به، وكراهية أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارةً اعتياضًا برئاسة أو مال، فيخاف إن أظهره نَقْصَ رياسته أو ماله، وتارةً يكون قد خالف غيره في مسألةٍ، أو اعتزى إلى طائفةٍ قد خُوْلفت

__________

(1) "الاقتضاء": "المنتسبين".

(2) في "الأصل": "خوف".

(1/23)

________________________________________

في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه، وإن لم يتيقَّن أن مخالفه مُبْطل.

وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]، بعد أن قال: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89].

فوصَفَ اليهود أنهم كانوا يعرفون الحقَّ قبل ظهور الناطق به، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يَهْوَوْنها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم.

وهذا يُبْتَلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معيَّنة في العلم أو الدين، من المتفقِّهة أو المتصوِّفة وغيرهم، أو إلى رئيس معظَّم في الدين غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يقبلون من الدين رأيًا وروايةً إلا ما جاءت به طائفتُهم، ثم إنهم لا يعملون بما تُوْجِبه طائفتهم، مع أن دين الإسلام يوجِبُ اتباعَ الحقِّ مطلقًا، من غير تعيين شخصٍ غير النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وقال في صفة المغضوب عليهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، و {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] والتحريف قد فُسِّر بتحريف التنزيل، وتحريف التأويل.

فأما تحريف التأويل؛ فكثير جدًّا، وقد ابتُلِيت به طوائف من الأمة، وأما تحريف التنزيل؛ فقد وقع في كثير من الناس، يحرِّفون ألفاظَ

(1/24)

________________________________________

الرسول، ويروون الحديث برواياتٍ منكرة، وإن كان الجهابذةُ يدفعون ذلك، وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل، وإن لم يمكنه ذلك، كما قرأ بعضهم (1) : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } [النساء: 164].

وأما ليُّ الألسنة بما يظن أنه من عند الله، فوضع الأحاديث عن (2) رسول الله، وإقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجةٍ، وهذا من أنواع أخلاق اليهود، وهو كثير لمن تدبَّره بنور الإيمان.

وقال -سبحانه-: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72].

ثم إن الغلوَّ في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضُلَّال المتعبِّدة والمتصوِّفة، حتى خالطَ كثيرًا منهم من مذهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه.

وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، وفسَّره النبي صلى الله عليه وسلم لعديٍّ: بـ "أنَّهم أَحَلُّوا لهم الحرامَ، وحَرَّموا عليهم الحلالَ فاتَّبعوهم" (3) .

__________

(1) أي: قرأها محرفة بنصب اسم الجلالة، وموسى فاعل مرفوع بضمة مقدرة. وانظر الرد عليهم في "تفسير ابن كثير": (1/ 601).

(2) كذا بالأصل وبعض نسخ الاقتضاء، وفي بعضها "على".

(3) رواه الترمذي رقم (3095)، وقال: "حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروفٍ في الحديث" ا هـ.

وأخرجه ابن جرير: (6/ 354)، والبيهقي: (10/ 116)، وانظر "النهج السديد" رقم (92).

(1/25)

________________________________________

وكثيرٌ من أتباعِ المتعبِّدةِ يُطيعُ بعضَ المعظَّمين عنده في كلِّ ما يأمر به، وإن تضمَّن تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ.

وقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27]، وقد ابتُلي طوائف من المسلمين من الرهبانية المبتدَعَة بما الله به عليم.

وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)} [الكهف: 21]، فكان الضالون، بل المغضوب عليهم، يبنون المساجدَ على قبور الأنبياء والصالحين، كما نهى -صلى الله عليه وسلم- أُمَّتَه عن ذلك في غير موطن، حتى في وقت مفارقته الدنيا -بأبي هو وأمي-. ثم إن هذا قد ابْتُلي به كثير من الأمة.

ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة، والصور الجميلة، فلا يهتمون بأمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات، ثم قد ابتُلِيت هذه الأمة من اتخاذ السَّماع المطرب: سماع القصائد، وإصلاح القلوب والأحوال به، ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين.

وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113]،، فأخبر أن كلَّ واحدةٍ من الأمتين تجحد كلَّ ما الأخرى عليه، وأنتَ تجد كثيرًا من المتفقِّهة إذا رأى المتصوِّفة أو المتعبِّدةِ لا يراهم شيئًا ولا يَعُدُّهم إلا جُهَّالًا ضُلًّالًا، ولا يعتقد في طريقتهم من الهدي شيئًا، وترى كثيرًا من المتصوِّفة والمتفقِّرة لا يرى الشريعةَ ولا العلم شيئًا، بل يرى أن المتمسِّك بها منقطعٌ عن الله.

(1/26)

________________________________________

وأما مشابهة الفرس والروم؛ فقد دخل في هذه الأمة من الآثار الرومية -قولًا وعملًا-، والآثار الفارسية -قولًا وعملًا- ما لا خفاءَ به على مؤمنٍ عليم [بدين الإسلام]، وليس الغرض تفصيل الأمور التي وقعت مضارِعةً الطريق المغضوب عليهم أو الضَّالين، وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفورًا لصاحبه؛ إما لاجتهاد أخطأ فيه، أو لحسناتٍ محت عنه أو غير ذلك، وإنما الغرضُ أن نُبَين ضرورةَ العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم، وأن ينفتح بابٌ إلى معرفة الانحراف فيُجتَنب إن شاء الله.

ثم الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب؛ من اعتقادات وإرادات وغير ذلك. وأمور ظاهرة؛ من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات في الطعام واللباس، والنكاح والمسكن، والاجتماع والافتراق، والسفر والإقامة.

وهذه الأمور الظاهرة والباطنة بينهما ارتباط ومناسبة، فما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجبُ أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا.

وقد بعثَ الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحكمة التي هي سنَّته، وهي الشِّرعة والمنهاج [الذي] (1) شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يُباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر -وإن لم يظهر لكثير من الخَلْق في ذلك مَفْسَدة- لأمورٍ.

__________

(1) في الأصل "التي"، والتصويب من "الاقتضاء".

(1/27)

________________________________________

منها: أن المشاركة في الهدي الظاهر تورثُ تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى موافقةٍ ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمرٌ محسوس، فإن اللابِسَ ثيابَ أهل العلم -مثلًا- يجد من نفسهِ نوع انضمامٍ وانقياد إليهم، وكذلك اللابس لثيابِ الجند يجد في نفسه نَوْع تخلُّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع.

ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر تُوْجِب مباينة ومفارقة، توجب الانقطاعَ عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطافَ على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلَّما كان القلب أتمَّ حياة كان أبعدَ عن أخلاق اليهود والنصارى ظاهرًا وباطنًا.

ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميُّز ظاهرًا بين المهتدين المرضيين، وبين المغضوب عليهم [و] الضالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا وتجرَّد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شعبةً من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم.

فهذا أصل ينبغي أن يتفطَّن له اللبيب.

* * *

(1/28)

________________________________________

فصْلٌ (1)

إذا تقرَّر ذلك، فقد دلَّ الكتابُ والسنةُ والإجماعُ على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم في الجملة، سواء كان عامًّا في جميع أنواع المخالفات، أو خاصًّا ببعضها، وسواءٌ كان أمرَ إيجاب أو أمرَ استحباب.

أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (2) [الحديد: 16].

وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} إلى أن قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 16، 18].

فأخبر أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدًا على شريعةٍ وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، فدخلَ فيهم كلُّ من خالف شريعتَه.

وأهواؤهم هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل.

ومن هذا قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ} إلى أن قال:

__________

(1) "الاقتضاء": (1/ 95).

(2) الآية ليست في "الاقتضاء".

(1/29)

________________________________________

{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) } [الرعد: 36 - 37] والضمير (1) -والله أعلم- يعود إلى من (2) تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضَه، فدخل كلُّ من أنكر شيئًا من القرآن؛ من يهوديٍّ ونصرانيٍّ وغيرهما.

ومن ذلك قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ... } الآية [البقرة: 120].

فقال في الخبر: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، وفي النهي: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}؛ لأن القومَ لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقًا. والزجرُ قد وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومتابعتُهم في بعض ما هم عليه، نوعُ متابعةٍ لهم فيما يهوونَه أو مَظِنَّة له.

وكذا قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} إلى قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} إلى قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 145 - 150].

قال غير واحدٍ (3) : لئلا يحتج اليهودُ عليكم بأنكم وافقتموهم في القبلة، فيوشك أن يوافقونا في الملة، فقطع الله هذه الحجة بأن قال: خالفوهم في القِبْلة.

__________

(1) يعني في "أهوائهم".

(2) "الاقتضاء": "ما".

(3) أي: من السلف، انظر تفسير ابن جرير: (2/ 34 - 36)، وابن كثير: (1/ 201).

(1/30)

________________________________________

وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وهم اليهود والنصارى، الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، مع أنه قد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة (1) ، وقال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].

وكلُّ ما في الكتاب من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه، مثل قوله: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (ضضض 2)} [الحشر: 2]، و {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وأمثال ذلك، كله دالٌّ على هذا المَطْلَب: من أن مخالفتهم مشروعة لنا في الجملة (2) ، وهي دين لنا.

وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ... } الآيات، إلى قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) } [التوبة: 67 - 73].

فبيَّن أخلاق المنافقين والمؤمنين، وتوعَّد المستمتعين الخائضين كالذين خاضوا بأن قال: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) } [التوبة: 69].

فأخبر أن في هذه الأمة من استمتعَ بخلاقه (3) كما استمتعت الأمم قبلهم، وخاضَ كالذين خاضوا، وذمَّهم على ذلك، ثم حضَّهم على

__________

(1) سيأتي تخريجه ص/ 34.

(2) وبعض الآيات تدل على وجوب المخالفة، "الاقتضاء": (1/ 103).

(3) في هامش الأصل: "والخَلاق قيل: هو الدين، وقيل: نصيبهم من الآخرة في الدنيا، وقيل: نصيبهم من الدنيا، قال أهل اللغة: الخلاق هو الحظ والنصيب، كأنه ما خُلِقَ للإنسان" اهـ.

(1/31)

________________________________________

الاعتبار بمن قبلهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ (1)} [التوبة: 70].

فذَمَّ من استمتعَ وشابه القرون الماضية، وكان من الخائضين، وهم اليهود والنصارى وغيرهم ممن تقدم، ومع ذلك فقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لا بد أن تأخذ أمته مأخذَ الأمم قبلَها ذراعًا بذراع وشبرًا بشبرٍ (2)، وقوله بعد ذلك: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} دليلٌ على جهاد هؤلاء الخائضين المستمتعين.

ثم هذا الذي دلَّ عليه الكتاب، من مشابهة بعض الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك؛ قد دلَّت عليه سنةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفسَّر أصحابُه الآيةَ بذلك.

فعن أبي هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتَأْخُذُنَّ كما أَخَذَتِ الأُمَمُ من قَبْلِكُم ذِراعًا بذراعٍ، وشِبْرًا بِشِبْرٍ، وباعًا بِباعٍ، حتَّى لو أنَّ أحَدًا مِنْ أُولئك دَخَل جُحْر الضَّبِّ لَدَخَلْتُمُوه" قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} الآية [التوبة: 69]، قالوا: يا رسولَ الله كما صنعت فارسُ والرومُ وأهلُ الكتاب؟ قال: "فَمَن الناسُ إلا هم" (3)؟!.

وعن ابن عباس أنه قال: "ما أشبه الليلةَ بالبارحة، هؤلاء بنو

__________

(1) "أصحاب مدين" سقطت من الأصل.

(2) انظر ما تقدم ص/ 21.

(3) أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير في "التفسير": (6/ 412)، وأصله في الصحيح.

(1/32)

________________________________________

إسرائيل شُبِّهنا بهم" (1).

وعن ابن مسعود أنه قال: "أنتم أشبه الأممِ ببني إسرائيل سمتًا وهديًا، تتبعون عملهم حَذْو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجلَ أم لا" (2)؟!.

وعن حذيفة بن اليمان قال: "المنافقون الذين منكم اليومَ شرٌّ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ أولئك كانوا يخفون نفاقَهم، وهؤلاء أعلنوه" (3).

أما السنة:

ففي "الصحيحين" (4) عن [عَمْرو] (5) بن عوف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثَ أبا عبيدة إلى البحرين يأتي بجِزْيتها، وكان قد صالحَ أهلَ البحرين، وأمَّر عليهم العلاء بن الحَضْرمي، فَقِدم أبو عُبيدة بالمال، فسمعت الأنصار، فوافَو صلاة الفجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... الحديثَ، إلى أن قال: "أَبْشِروا، فواللهِ ما الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُم، ولكنْ أَخْشَي عليكم أنْ تُبسَطَ الدُّنيا عَلَيكُم كما بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كانَ قَبْلَكُم، فَتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، فتُهْلِكَكُم كما أَهْلَكَتْهُم".

__________

(1) أخرجه ابن جرير: (6/ 413)، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ -كما في "الدر المنثور": (2/ 458) -.

(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (7/ 479) بسندٍ صحيح، والمروزي في "السنة": (ص/ 25).

(3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (7/ 481 - 482) بسندٍ صحيح.

(4) البخاري رقم (3158)، ومسلم (2961).

(5) في الأصل "عمر" وهو سهو.

(1/33)

________________________________________

وهذا هو الاستمتاع بالخَلاق المذكور في الآية.

وفي مسلم (1) عن عبد الله بن [عَمْرو] (2) ، عن رسول الله قال: "إذا فتِحَت عَلَيْكُم خزائنُ فارسَ والرومِ أَيُّ قوم أَنتم"؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله، فقال رسول الله: "تنافَسُون، ثم تحاسَدُون ثم تَدَابرون -أو تباغَضُون أو غير ذلك- ثم تَنْطَلِقون إلى مَسَاکين المُهَاجِرين، فتحملونَ بَعْضَهم على رقابِ بَعْضٍ".

وفي "الصحيحين" (3) أنه قال: "إنَّ فِتْنَةَ بني إسرائيل كانَتْ في النِّساءِ، فاتَّقوا [الدنيا] (4) واتَّقُوا النِّساءَ".

فحذَّر فتنة النساء مُعَلِّلًا بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.

وقال: "إنما هَلَكَ بَنُو إسْرائيلَ حِيْنَ اتخذَ هذِهِ نِسَاؤُهُم" (5) يعني: وصْل الشعر، وكثيرٌ من مشابهة أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها، إنما يدعو إليها النساءُ.

وفي مسلم (6) : "لا تقومُ السَّاعَةُ حتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتي بالمُشْركين، وحتَّى يَعْبَدَ فِئامٌ من أُمَّتي الأَوْثَانَ".

__________

(1) رقم (2962).

(2) في الأصل "عمر" سهو.

(3) كذا بالأصل! وهو سهو، فالحديث في "صحيح مسلم" رقم (2742) دون البخاري من حديث أبي سعيد الخدري، وقد تصرف المختصر في لفظه فقدم وأخَّر.

(4) في الأصل "الله" وهو سبق قلم! وليس في شيءٍ من طرق الحديث

(5) أخرجه مسلم برقم (2127) من حديث معاوية -رضي الله عنه-.

(6) أصل الحديث في مسلم من حديث ثوبان -رضي الله عنه- رقم (2889) في حديث طويل، وهذه الزيادة التي ذكرها المصنف رواها أبو داود رقم (4252) والترمذي رقم (2219)، وعزاها شيخ الإسلام في "الاقتضاء": (1/ 142) إلى البرقاني في "صحيحه". قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".

(1/34)

________________________________________

و "سَتَفْتَرِقُ أُمَّتي على ثلاثٍ وسَبْعينَ فِرْقَةً كُلُّها في النارِ إلَّا فرقةٌ واحدةٌ وهي الجَمَاعة" (1) .

ولا شكَّ أن الثنتين وسبعين هم الذين تفرَّقوا واختلفوا كما تفرَّق الذين من قبلهم، ومن ذلك لما سألوه أن يجعل لهم ذات أنواط، فقال: "اللهُ أكبر، قلتم -والذي نَفْسِي بِيَدِه- كما قال بَنُو إسْرائيِلُ قَبْلَكُم". رواه مالك والنسائي والترمذي وصحَّحه (2) .

وقال: "لتركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموه" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَن" (3) ؟!

وقد تقدم (4) مثله في البخاري قوله: "لتأخُذَنَّ أُمَّتِي مأْخَذَ القرونِ قَبْلَها شِبْرًا بشِبْرٍ وذِرَاعًا بذراعٍ".

__________

(1) جاء هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة: أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، ومعاوية، وعَمْرو بن عوف، وعبد الله بن عَمْرو، وعوف بن مالك، وأبو أمامة، وسعد بن أبي وقاص، وأنس بن مالك.

وهو حديث صحيح بشواهده.

(2) أخرجه الترمذي رقم (2180)، والنسائي في "الكبرى": (6/ 346) في التفسير. ولم أر من نسبه إلى مالك.

وأخرجه أحمد: (5/ 218)، وابن حبان "الإحسان": (15/ 94) وغيرهم من حديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه-.

وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" وصححه ابن حبان، وهو كذلك.

(3) أخرجه البخاري رقم (7319)، ومسلم رقم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- بنحوه.

(4) ص/ 21.

(1/35)

________________________________________

فهذا كلُّه وأشباهُه خَرَجَ منه -صلى الله عليه وسلم- مَخْرَج الخبر عن وقوعِه والذَّمِّ لمن يفعله، فعُلِم أن مشابهتها (1) لليهود والنصاري، وفارس والروم، مذمومٌ ذمَّه الله ورسوله، وهو المطلوب.

فإن قيل: إذا كان قد أخبر رسولُ الله وكتابُ الله -جل وعز- أنه لا بُد من وقوع المشابهة، فما فائدة النهي عن ذلك؟

قيل: قد دلَّ الكتابُ والسنةُ -أيضًا- أنه لا تزال طائفةٌ متمسِّكة بالحق الذي بعثَ اللهُ به محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة، وأنَّها لا تجتمع على الخطأ، ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها، زادها الله شرفًا وقوَّةً ونصرًا، وأظهر دينَه ونصَرَه حيث كان وعلى يَدِ من كان، وخذلَ أعداءَه وكَبَتَهم، وجعلَ الدائرةَ عليهم إنه سميعُ الدعاء (2).

وأيضًا: لو فُرِض أن الناس لا يتركون هذه المشابهة المنكرة، لكان في العلم بها معرفة القبيح، والإيمان بذلك، فإن نفسَ العلم والإيمان بما كرهه الله خير، وإن لم يُعْمَل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرَّد العمل الذي لم يقترن به علم، فإن الإنسان إذا عرفَ المعروفَ وأنكرَ المنكرَ، كان خيرًا من أن يكون ميِّتَ القلب لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا.

وإنكار القلب هو: الإيمانُ بأن هذا منكر وكراهته لذلك، فإذا حَصَلَ ذلك كان في القلوب إيمان.

__________

(1) أي: الأُمة.

(2) هذا الدعاء من قوله "زادها الله شرفًا ... " ليس في "الاقتضاء": (1/ 171).

(1/36)

________________________________________

وأيضًا: فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه، أو يأتي بحسناتٍ تمحوه أو بعضَه، وقد يُقلِّل منه، وقد تضعف همتُه في طلبه إذا عرفَ أنه منكر.

ثم لو فُرِضَ أَنَّا علمنا أن الناسَ لا يتركون المنكر ولا يعترفون بأنه منكر، لم يكن ذلك مانعًا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل ذلك لا يُسْقط وجوب الإبلاغ، ولا وجوبَ الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد -رحمه الله- وقول كثير من أهل العلم.

وهذا أمر عامٌّ في كلِّ منكر أخبر الصادقُ بوقوعه.

وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. فقد برَّأ -سبحانه- رسولَه بأن يكون فيه شيءٌ من المُفَرِّقين لدينهم، فمن كان متبعًا له حقيقةً كان متبرِّئًا کتبرئته، ومن كان موافقًا لهم في شيء كان مخالفًا للرسول بقدر موافقته لهم.

وما دلَّ عليه الكتابُ جاءت به سنةُ رسولِ الله وسنة خلفائهِ الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم.

ففي "الصحيحين" (1) أنه قال: "إنَّ اليَهُوْدَ والنَّصَارَى لا يَصْبُغُوْنَ فَخَالِفُوهم"، فاقتضى أن جِنْسَ مخالفتهم أمرٌ مقصود للشارع؛ لأن الفعل المأمور [به] (2) إذا عُبِّر عنه بلفظٍ مشتقٍّ من معنىً أعم من ذلك الفعل، فلا بُدَّ أن يكون ما منه الاشتقاق أمرًا مطلوبًا، لا سيما إن ظهر

__________

(1) البخاري رقم (3462)، ومسلم رقم (2103) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(2) مطموسة في الأصل، والإكمال من "الاقتضاء": (1/ 186).

(1/37)

________________________________________

لنا أن المعنى المشتقَّ منه معنيً مناسب للحكمة؛ ولأن الأمر إذا تعلَّق باسم مفعولٍ مشتقٍّ من معنىً؛ كان المعنى علةً للحكم؛ كما في قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (1) [الحجرات: 10]. "عُودوا المريضَ، أَطْعِموا الجائعَ، فكُّوا العاني" (2) .

وأيضًا: إذا أمر بفعلٍ كان نفس مصدره أمرًا مطلوبًا للآمر مقصودًا، كما قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ}، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) } [البقرة: 195]، {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} (3) [يونس: 84].

فإن نفس التقوى والإحسان والإيمان والعبادة أُمور مطلوبة مقصودة؛ بل هي نفس المأمور به، فلما قال: "خالفوهم" كان الأمر بمخالفتهم داخِلًا في العموم، وإن كان السبب الذي قاله لأجلِه هو "الصَّبْغ"؛ لأن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به، وخروجه على سببٍ يوجب (4) أن يكون داخِلًا فيه، ولا يمنع أن يكون غيره داخلًا فيه، وإن قيل: إن اللفظ العام يُقْصَر على سببه؛ لأن العموم هنا من جهة المعنى، فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي.

وأيضًا (5) : عدول الأمر عن لفظ الفعل الخاصِّ إلى لفظٍ أعم منه، كعدوله عن لفظ "أَطْعِمْه" إلى لفظ "أَكْرِمْه"، وعن لفظ "فاصبغوا" إلى

__________

(1) في الأصل في الآيتين بدون "الفاء".

(2) أخرجه البخاري رقم (3046) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.

(3) في الأصل: "عليه فتوكلوا"، سبق قلم.

(4) في الأصل: "يجب".

(5) "الاقتضاء": (1/ 195).

(1/38)

________________________________________

لفظ "فخالفوهم" لا بُدَّ له من فائدة، وإلا فمطابقة اللفظ للمعني أولي من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاصّ، ولا فائدة هنا إلا تعليق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص، وهذا بيِّن لمن تأمَّله.

وأيضًا: إذا أمر بفعل باسم دالٍّ على معنيً عام مريدًا به فعلًا خاصًّا، كان ذلك يقتضي أنه قصد أولًا ذلك العام، وأنه إنما قَصَد ذلك الخاص لحصوله بالعامِّ، ففي قولك: "أكْرِم زيدًا" طلبان، طلبٌ للإكرام المطلق، وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به المطلق؛ لأن حصول المعيَّن مُقْتضٍ لحصول المطلق، وهذا معنىً صحيح، إذا صادفَ فِطْنةً وذكاءً انتُفِع به في كثير من المواضع، وعُلِم به طرق البيان.

وأيضًا: فإنه رتَّب الحكمَ على الوصف بحرف الفاء، فيدل على أنه علة له من غير وجه، حيث قال: "إن اليهودَ لا يصبغون فخالفوهم"؛ ولأنه لو لم يكن لِقَصْد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصَّبغ لم يكن لذكرهم فائدة، فنفسُ المخالفةِ لهم في الهدي مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين؛ لما فيه من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما تظهر بعضُ المصلحة في ذلك لمن تنوَّرَ قلبه.

ونَفْس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون فيه مضرَّة؛ فيُنْهى عنه ويؤمر بضدِّه؛ لما فيه من المنفعة والكمال. وليس شيءٌ من أُمورهم إلا وهو إما فيه مضرَّة أو هو ناقص، ولا يتصوَّر أن يكون شيءٌ من أمورهم کاملًا قطُّ، فإذًا المخالفة لهم فيها لنا منفعة ومصلحة في كل أُمورهم، حتى ما هم عليه من إتقانِ بعضِ أُمور دنياهم، فقد يكون مُضِرًّا بأمر الآخرة أو بما هو أهم من أمور الدنيا.

وبالجملة؛ فالكفر بمنزلة المرض الذي في القلب وأشدُّ، ومتى كان

(1/39)

________________________________________

القلبُ مريضًا لم يصح شيءٌ من الأعضاء صحةً مطلقة، وإنما الصلاح أن لا تُشْبَه مريضَ القلبِ في شيء من أموره، وإن خَفِي عليك مرض ذلك العضو، لكن يكفيك أنَّ فساد الأصل لا بُدَّ أن يؤثِّر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله، فإن من في قلبه مرضٌ قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة؛ لعدم استبانته لفائدته أو يتوهَّم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلوِّ في الأرض.

ولَعَمْري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء، ولكن مُلْكٌ هو غايةُ صلاحِ من أطاعَه من العباد في معاشِهم ومعادِهم.

وحقيقة الأمر: أن جميع أعمال الكافر وأُموره لا بُدَّ فيها من خلل يمنعها أن تتمَّ منفعتُه بها، ولو فُرِض صلاح شيءٍ من أموره على التمام لا يستحق (1) بذلك ثوابَ الآخرة، فالحمد لله على نعمة الإسلام، التي هي أعظم النعم وأم كلِّ خير، كما يُحبُّ ربنا ويرضى.

فظهر أن مخالفتهم أمر مشروع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد وغيره يُعَلِّلون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة (2)، فإذا نهى عن التشبُّه بهم في بقاءِ بياضِ الشيب الذي ليس هو من فعلنا، فَلأَن ينهى عن إحداث التشبُّه بهم بطريق الأولى. ولهذا كان هذا التشبُّه يكون محرَّمًا بخلاف الأول.

__________

(1) كذا بالأصل، وبعض نسخ "الاقتضاء"، وفي أخرى: "لاستحقَّ" وهو ما أثبت في المطبوعة. وما أثبته أصح.

(2) في رواية حنبل كما في "الجامع - الترجل": (ص/ 133) للخلال.

(1/40)

________________________________________

وفي "الصحيحين" (1) : "خَالِفُوا المشركين" ثم قال: "أحْفُوا الشَّوَارِبَ وأَفُوا اللِّحَى" فأبدل الجملة الثانية من الأولى، أَمَرَ بالمخالفة عامًّا ثم خاصًّا، فقدَّمه عمومًا ثم خصوصًا، كما يقال: أكرم ضيفَك: أطْعِمْه وحادِثْه.

وقال: "خالفوا اليهود فإنهم لا يُصَلُّون في نعالهم ولا خِفافهم" رواه أبو داود (2) .

وقال: "فَصْلُ ما بينَ صيامِنا وصيامِ أَهْلِ الكتابِ أَكْلَةُ السَّحَر" رواه مسلم (3) .

فدلَّ على أن الفصل بين العبادتين أمرٌ مقصود، وقد صرَّح بذلك في قوله: "لا يزالُ الدِّينُ ظاهرًا ما عجَّل الناسُ الفِطْرَ" (4) ، لأن اليهودَ والنصارى يؤخِّرون، وإنما المقصود بإرسال الرسل: أن يظهرَ دينُ الله على الدينِ كلِّه، فنفس مخالفتهم من أكبر مقاصِد البِعْثة.

وكذا قال: "لا تزالُ أُمَّتي بخير -أو قال: على الفطرة- ما لم

__________

(1) البخاري رقم (5892)، ومسلم رقم (259) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-.

(2) رقم (652).

وأخرجه: ابن حبان "الإحسان": (5/ 561) وزاد "النصاري"، والحاكم: (1/ 260)، ومن طريق البيهقي: (2/ 432) جميعًا من حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه- وسنده حسن، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي.

(3) رقم (1096) من حديث عَمْرو بن العاص -رضي الله عنه-.

(4) أخرجه أبو داود رقم (2353)، وابن ماجه رقم (1698) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأخرجه البخاري رقم (1958)، ومسلم رقم (1098) من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- بنحوه.

(1/41)

________________________________________

يُؤخِّروا المغربَ إلى أن تَشْتَبِكَ النُّجُوْمُ" رواه أحمد (1) وابن ماجه (2) .

وقوله: "اصْنَعُوا كلَّ شيء غيرَ النِّكاحِ" فقالت اليهودُ: ما يريدُ هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. رواه مسلم (3) .

وكذلك نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، مُعَلِّلًا بأنها تسجد لها الكفار حينئذٍ، وأنها تطلُع بين قَرْنَي شيطان (4) .

ففيه تنبيهٌ على أن كلَّ ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرًا أو معصيةً بالنية، يُنهَى المؤمنون عن ظاهرِه، وإن لم يقصدوا به قَصْد المشركين؛ سدًّا للذريعة وحسمًا للمادة.

ومن هذا الباب: أنه كان إذا صلَّى إلى عودٍ أو عمود جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولم يَصْمُد له صَمْدًا (5) .

__________

(1) في "المسند": (24/ 493 رقم 15717) من حديث السائب بن يزيد -رضي الله عنه-، وفي سنده ضعف.

(2) رقم (689) من حديث العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-. وفي سنده ضعف والحديث له شواهد كثيرة، فرواه أبو داود رقم (418) والحاكم: (1/ 190 - 191) من حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- وسنده حسن لأجل محمد بن إسحاق، وصححه الحاكم.

ورواه أحمد: (4/ 349)، والطبراني في "الكبير": (8/ 94) من حديث أبي عبد الرحمن الصنابحي.

ورواه أحمد: (19/ 184 رقم 12136) من حديث أنس -رضي الله عنه-.

(3) رقم (302) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.

(4) رواه مسلم رقم (832) من حديث عَمْرو بن عَبَسة -رضي الله عنه-.

(5) رواه أبو داود رقم (693)، وأحمد: (6/ 4) من حديث المقداد بن الأسود، وسنده ضعيف.

(1/42)

________________________________________

ونهي عن الصلاة إلى ما عُبِد من دون الله في الجملة وإن لم يقصد العابدُ ذلكَ، ويُنْهَى عن السجود لله بين يدي الرجلِ، وإن لم يقصد الساجدُ ذلك، لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، فقطعت الشريعةُ المشابهةَ في الجهات والأوقات، وكما لا يُصلَّي إلى القبلة التي يُصلُّون إليها، لا يُصَلَّي إلى ما يصلُّون له.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ائتَمُّوا بأَئمتكم، إنْ صلَّى قائمًا فَصَلُّوا قيامًا، وإن صلَّى قاعِدًا فَصَلُّوا قُعُوْدًا، إن كدتم آنفًا تَفْعَلون فِعْلَ فارسَ والرومِ يَقُوْمُوْن على مُلُوْكهم" (1)، قال ذلك لما صلَّى قاعدًا فصلوا خلْفَه قيامًا، فأَشار إليهم أنْ اجلسوا، ثم قال ذلك بعد فراغِه، فأمرهم بترك القيام الذي هو فَرْضٌ في الصلاة، وعلَّل ذلك بأنه يشبه فعلَ فارس والروم بعظمائهم، ومعلوم أن المأموم إنما ينوي أن يقوم الله لا للإمام، وهذا تشديدٌ عظيمٌ في النهي عن القيام للرجل القاعِد، ونهي -أيضًا- عما يُشْبِه ذلك وإن لم يقصد به ذلك، فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرَّد الصورةِ غايةٌ.

وأيضًا: انتساب الرجل إلى المهاجرين أو الأنصار انتسابٌ حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط، كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه أو المحرَّم، کالانتساب إلى ما يقتضي (2) بدعة أو معصية أخرى.

ثم مع هذا لما دعا كلٌّ من الطائفتين: يا للمهاجرين ويا للأنصار، منتصرًا بحزبه على الآخر، أنكر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك وقال: "ما هَذَا؟

__________

(1) رواه مسلم رقم (413) من حديث جابر -رضي الله عنه-.

(2) "الاقتضاء": "يفضي إلى".

(1/43)

________________________________________

أَدَعْوَى الجاهِلِيَّةِ" (1) ؟!، سمَّاها دعوى الجاهلية، حتى قيل له: إن الداعي بها إنما هما غلامان، لم يصدر ذلك من الجماعة، فأمرَ بمنع الظالم وإعانة المظلوم، ليبيِّن أن المحذور إنما هو تعصُّب الرجل لطائفته مطلقًا، فِعْلَ أهلِ الجاهلية، فأما نصرها بالحق؛ فحسنٌ إذا كان من غير عدوان.

ولهذا قال: "خَيْرُكم المدافعُ عن عَشِيْرَتِه ما لم يأْثَم" رواه أبو داود (2) .

وقال: "أربعٌ في أُمَّتي مِنْ أَمْر الجاهليةِ لا يتركونهنَّ: الفخرُ بالأحسابِ، والطَّعْن في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنُّجومِ، والنياحةُ" (3) ، فاقتضى أنَّ كلَّ ما كان من أمر الجاهلية مذموم في الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذمٌّ لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرجَ مخرج الذمِّ.

وكذا قوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الأحزاب: 33] و {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، فدلَّ ذلك على أن إضافةَ الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمَّه والنهيَ عنه، وذلك يقتضي المنعَ من أمر الجاهلية مطلقًا، وهو المقصود في هذا الكتاب.

ومنه قوله: "إنَّ الله قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ (4) الجاهِلِيَّة وفَخْرَها

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (3518)، ومسلم رقم (2584) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.

(2) رقم (5120) وضعَّفه بأيوب بن سويد، وحكم عليه أبو حاتم الرازي بالوضع في "العلل": (2/ 209).

(3) أخرجه مسلم رقم (935) من حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه-.

(4) هي: الفخر والنخوة.

(1/44)

________________________________________

بالآباء، مُؤْمنٌ تقيٌّ أو فاجِرٌ شَقِيٌّ، أنتم بنو آدَمَ، وآدَمُ من ترابٍ، ليدعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنمَّا هم فَحْمٌ من فَحْمِ جهنَّمَ، أو ليكونن أهون على اللهِ من الجِعْلان (1) التي تَدْفع بأَنْفِها النَّتَنَ" رواه أبو داود وغيره (2) ، وهو صحيح.

وأيضًا: روى مسلم (3) عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَبْغَضُ الناسِ إلى الله ثلاثةٌ: مُلْحِدٌ في الحَرَم، ومُبْتَغٍ في الإسلامِ سُنَّةً جاهِلِيَّة، ومُطَّلِبٌ دَمَ امْرِيءٍ بغَيْرِ حَقٍّ لِيُرِيْقَ دَمَهُ".

فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخلَ في الحديث.

والسنةُ الجاهليةُ: كلُّ عادةٍ كانوا عليها، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137]، وقال [-صلى الله عليه وسلم-]: "لتتبعنَّ سَنَنَ مَنْ كان قَبْلَكم" (4) ، وهذا نصٌّ عام يوجِبُ تحريمَ متابعة كلِّ شيء من سُنَن الجاهلية في أعيادهم وغيرها.

ولفظ الجاهلية قد يكون اسمًا للحال، وهو الغالب في الكتاب والسنة، وقد يكون اسمًا لذي الحال (5) .

__________

(1) جمع جُعَل، وهي دُوَيْبَّة تُشبه الخنفساء، من شأنها جمع الفضلات والنتن.

(2) رواه أبو داود رقم (5116)، والترمذي رقم (3955 و 3956)، وأحمد: (14/ 349 رقم 8736) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".

(3) كذا وهو وهم، وهو في البخاري رقم (6882) من طريق نافع بن جُبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وانظر "تحفة الأشراف": (5/ 260).

(4) تقدم ص/ 21.

(5) يعني: لصاحب الحال.

(1/45)

________________________________________

فمن الأول: قوله لأبي ذرٍّ: "إنَّكَ امرؤٌ فِيْكَ جَاهِلِيَّةٌ" (1) ، وقول عمر: "إني نذرت في الجاهلية" (2) ، وقولهم: يا رسول الله! كنا في جاهليةٍ وشرٍّ (3) . أي: في حال جاهلية، أو طريقة أو عادة ونحوه، فإن الجاهلية وإن كان في الأصل صفة، لكنه غلب عليه الاستعمالُ حتى صار اسمًا، ومعناه قريب من معنى المصدر.

وأما الثاني: قولهم: "طائفة جاهلية، وشاعر جاهليٌّ"، وذلك نِسبةً إلى الجهل الذي هو عدم العلم أو عدم اتباع العلم، فإن من لم يعلم الحقَّ، فهو جاهلٌ جهلًا بسيطًا، فإن اعتقد خِلافَه؛ فهو جاهل جهلًا مركَّبًا، فإن قال خِلافَ الحق عالمًا بالحقِّ أو غير عالم فهو جاهلٌ -أيضًا-، كما قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } [الفرقان: 63]، وقوله: "إذا كان أحَدُكُمْ صَائمًا فلا يَجْهَل" (4) ، وقول الشاعر (5) من هذا الباب:

ألَا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِيْنا

وكذلك من عمل بخلاف الحق، فهو جاهل وإن علمَ أنه مخالف

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (30)، ومسلم رقم (1661) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.

(2) حديث نَذْر عمر في الجاهلية في البخاري رقم (2042)، ومسلم رقم (1656) من حديث عمر -رضي الله عنه-.

(3) قطعة من حديث أخرجه البخاري رقم (7084)، ومسلم رقم (1847) من حديث حذيفة -رضي الله عنه-.

(4) قطعة من حديث أخرجه البخاري رقم (1894)، ومسلم رقم (1151) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(5) هو عَمْرو بن كلثوم التغلبي، وهو في معلقته المشهورة.

(1/46)

________________________________________

للحقِّ، كقوله سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17]، قال أصحابُ محمد: كل من عمل سوءًا فهو جاهل (1) .

وسبب ذلك: أن العلمَ الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفُه من قولٍ أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بُدَّ من غفلة القلب عنه، أو ضعفه بما يُعارضه، وتلك أحوال تُناقِض حقيقةَ العلم فيصير جهلًا بهذا الاعتبار، ومن هذا يُعرف دخول الأعمال في مُسمَّى الإيمان حقيقةً لا مجازًا، وإن لم يكن كل من ترك شيئًا من الأعمال کافرًا ولا خارجًا عن أصل مسمَّى الإيمان، وكذلك اسم "العقل" ونحوه من الأسماء.

ولهذا يُسمِّي الله -سبحانه- أصحاب هذه الأحوال: موتى، وعُمْيًا، وصُمًّا، وبُكمًا، وضالين، وجاهلين، وأنهم: لا يعقلون، ولا يسمعون.

إذا ثبت (2) ذلك: فالناس كانوا قبل مبعث الرسول في حال جاهلية، منسوبة إلى الجهل، فإنَّ ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل، وكذلك كلُّ ما يخالف ما جاءت به المرسلون من يهودية أو نصرانية فهي جاهلية، وتلك كانت الجاهلية العامة، فأما بعد مَبْعث الرسول فالجاهلية المطلقة قد تكون في مِصْرٍ دون مِصر، كما هي في دار الكفار، وقد تكون في شَخْص دون شخص، كالرجل قبل أن يُسْلم، فإنه في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام.

__________

(1) انظر تفسير الطبري: (3/ 640).

(2) كذا بالأصل، وفي "الاقتضاء": "تبين".

(1/47)

________________________________________

فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعثه -صلى الله عليه وسلم-، فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين (1) على الحقِّ إلى قيام الساعة.

والجاهلية المقيَّدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من الأشخاص المسلمين. كما قال: "أربعٌ في أُمَّتي مِنْ أَمْرِ الجاهِلية" (2) ، وقال لأبي ذرٍّ: "إنَّك امرؤٌ فيك جاهلية" (3) .

فالرجلُ مع فضله وعلمه قد يكون فيه بعض الخِصال المسمَّاة: بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فِسْقه.

وكذا قوله: "خَصْلَتان هما بهم كُفْر ... " (4) ، فنفس الخصلتين كُفْر حيث كانتا من أعمال الكفَّار، وهما قائمتان بالناس، وليس كلُّ من قام به شُعْبة من شعب الكفر يصير كافرًا الكفر المطلق، كما أنه ليس كلُّ من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا، حتى يقوم به أصلُ الإيمان.

وفَرْقٌ بين الكفر المعرَّف باللام وبين المنكَّر، في الإثبات، وفَرْقٌ بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر، أو مؤمن، وبَيْن المعنى المطلق للاسم في جميع موارده، كما قال: "لا تَرْجِعُوا بعدِي كفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكم رِقَابَ بعضٍ" (5) ، فقوله: "يضرب بعضكم رقابَ بعض" هو تفسير لقوله: ["كفارًا"، وهؤلاء] (6) يُسَمّون كُفَّارًا تسميةً مُقيَّدة، ولا

__________

(1) بالأصل: "ظاهرون"، والتصويب من "الاقتضاء".

(2) تقدم ص/ 44.

(3) تقدم ص/ 45

(4) أخرجه مسلم رقم (67) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(5) أخرجه البخاري رقم (121)، ومسلم رقم (65) من حديث جرير البجلي -رضي الله عنه-.

(6) لم يظهر في الأصل، والإكمال بنحوه من "الاقتضاء": (1/ 238).

(1/48)

________________________________________

يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل: "كافر ومؤمن"، كما قال: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)} [الطارق: 6]، فلم يدخل في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1) [المائدة: 6].

فيندرج في قوله: " [ومُبْتَغٍ سنة] (2) جاهلية" كلُّ جاهليةٍ مطلقة أو مقيَّدة، يهودية أو نصرانية أو مجوسيَّة أو صابئية أو وثنية أو مشركيَّة أو مركَّبة من بعض هذه المِلل الجاهلية، فإنها كلَّها مُبْتَدَعها ومَنْسُوْخَها صارت جاهلية بمَبْعَث محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان لفظ "الجاهلية" لا يُقال غالبًا إلا على حال العرب، فإن المعنى واحد.

وأيضًا: فإنه نهى عن الصلاة في أماكن العذاب، كما كره عليٌّ الصلاةَ في أرض بابل، وقال: "نهاني حِبِّي أن أُصلِّي في أرضِ بابلَ والمقبرةِ" رواه أبو داود (3)، وأحمد (4) وزادَ: "وأرض الخَسْف، ونحو ذلك".

وكره أحمدُ الصلاةَ في هذه الأمكنة اتباعًا لعلي (5). وقولُه: "نهاني حِبِّي أنْ أُصَلِّي في أرضِ بابلَ، فإنها ملعونة" يقتضي النهيَ عن كلِّ أرضٍ ملعونةٍ.

__________

(1) من قوله "فالرجل مع فضله ... " إلى هنا ملحق في هامش الورقة (182 ب).

(2) في "الأصل": "ومتبع بسنة"! وهو خطأ، وقد تقدم نص الحديث وتخريجه.

(3) رقم (490) من حديث علي -رضي الله عنه- مرفوعًا، وضعفه الخطابي في "المعالم" والحافظ ابن عبد البر، والحافظ في "الفتح": (1/ 631).

(4) في "مسائل ابنه عبد الله": (1/ 229 رقم 310) موقوفًا على عليٍّ. قال ابن عبد البر في "التمهيد": (5/ 124): "حسن الإسناد"، وقوَّاه شيخ الإسلام في "الاقتضاء": (1/ 264)، ووقع فيه "بإسناد أوضح" صوابها "أصحَّ".

(5) انظر "مسائل عبد الله": (1/ 228)، و "المغني": (2/ 477).

(1/49)

________________________________________

ولذلك نهى عن الدخول في أرض الحِجْر إلا أن يكونوا باكين (1) ، فوافقَ ذلك قولَه تعالى عن مسجد ضِرَار: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] فإنه كان من أمكنة العذاب.

فأما أماكن الكفر والمعاصي التي لم يكن فيها عذاب إذا جُعِلت مكانًا للإيمان والطاعة؛ فهو حَسَن، كما أمرَ أهلَ الطائف أن يجعلوا المسجد مكانَ طواغيتهم (2) . وكان مسجدُه مقبرة فجعلَه مسجدًا بعد نبش القبور (3) .

فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفَّار في المكان الذي حلَّ بهم فيه العذاب؛ فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها؟! بل المشاركة في العمل أقرب في اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار، فإن جميع ما يعملونه مما ليس هو من أعمال السابقين إما كفر وإما معصية، وإما شعار کفر أو معصية، وإما مظنة للكفر والمعصية، وإما أن يخاف أن يجر إلى معصية.

وما أحسبُ أحدًا يُنازع في جميع هذا، ولئن خالف فيه، فلا يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية،

__________ّ

(1) أخرجه البخاري رقم (433) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

(2) أخرجه أبو داود رقم (450)، وابن ماجه رقم (743) من حديث عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه-. وفي سنده محمد بن عبد الله بن عياض الطائفي، ذكره ابن حبان في "الثقات"، ولم يرو عنه غير سعيد بن السائب، فهو في عداد المجهولين.

(3) أخرجه البخاري رقم (428)، ومسلم رقم (524) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.

(1/50)

________________________________________

وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان، ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم، أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم.

وقال: "من تشبَّه بقومٍ فهو منهم" (1) وإسناده جيَّد، احتجَّ به أحمد وغيره. فأقلُّ أحواله أن يقتضي تحريمَ التشبُّه بهم.

وأيضًا: لما صام عاشوراء، قيل له: إنه يومٌ يُعظمه اليهود والنصارى، فقال: "إذا كانَ العامُ القابلُ إِن شاءَ اللهُ صُمْنا اليومَ التاسِعَ"، وقال: "صُوْمُوا عاشوراءَ وخالِفُوا اليهودَ، صُوْمُوا قبلَه يَوْمًا وبَعْدَه يَوْمًا" رواه سعيد (2) وأوله رواه مسلم (3) إلى قوله: "التاسع".

وقال: "إيَّاكُم والغُلُوَّ في الدينِ فإنَّما أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم الغُلُوُّ في الدِّينِ"، رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (4) بإسنادٍ صحيح على شرط

__________

(1) أخرجه أبو داود رقم (4031)، وأحمد في "المسند": (9/ 123 رقم 5114) وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن ثوبان، عن حسَّان بن عطية، عن أبي مُنِيْب الجُرَشي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بُعِثت بالسيف ... " الحديث.

ابن ثوبان مختلف فيه، ومدار الحديث عليه، والحديث قوَّاه ابن تيمية والذهبي في "السير": (15/ 509) والحافظ ابن حجر في "الفتح": (6/ 116)، والألباني في "الإرواء" رقم (1269).

(2) هو ابن منصور في "سننه": كما في الاقتضاء، والإمام أحمد في "مسنده": (4/ 25 رقم 2154) من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنه-. وفي سنده ضعف.

(3) رقم (1134).

(4) رواه أحمد: (3/ 351 رقم 1852)، والنسائي: (5/ 268)، وابن ماجه رقم (3029) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

(1/51)

________________________________________

مسلم (1) ، وهو عامٌّ في جميع أنواع الغُلوِّ في الاعتقادات والأعمال.

والغلوُّ: مجاوزة الحد بأن يُزاد الشيء في حمده أو ذمِّه على ما يستحق. وأمَرَنا أن نقول: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} [البقرة: 286]، ووضع عنَّا الآصار (2) ، ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن الغلوِّ في العبادات صومًا وصلاةً (3) .

وقال له رجلٌ: ائْذَنْ لي بالسياحة، فقال: "إنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتي الجهادُ في سَبِيلِ اللهِ" (4) .

وفي خبرٍ آخر: "إنَّ السِّياحةَ هي الصِّيامُ" (5) ، أو: السائحون هم الصائمون، أو نحو ذلك، وهو تفسير ما ذكر الله من قوله: {السَّائِحُونَ} [التوبة: 112].

فأما السياحة التي هي الخروج في البريَّة لغير مقصد معيَّن، فليس

__________

(1) وصححه ابن خزيمة رقم (2867)، وابن حبان رقم (3871).

(2) كما في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

(3) كما في حديث النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالُّوها - أخرجه البخاري رقم (5063)، ومسلم رقم (1401) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.

(4) أخرجه أبو داود رقم (2486)، والحاكم: (2/ 73)، والبيهقي: (9/ 161)، من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" اهـ. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".

(5) أخرجه ابن جرير: (6/ 484) من حديث أبي هرون، ومن مرسل عبيد بن عمير، وموقوفًا على ابن مسعود وابن عباس، وغيرهم من السلف.

(1/52)

________________________________________

من عمل هذه الأمة، قال الإمام أحمد: "ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فِعْل النبيين ولا الصالحين" (1) . مع أن جماعةً من إخواننا قد ساحوا السياحةَ المنهيَّ عنها متأوِّلين أو غير عالمين بالنَّهي، وهي من الرهبانية المبتَدَعَة التي قيل فيها: "لا رهبانية في الإسلام" (2) .

فيقتضي ذلك مجانبة هَدْي من كان قبلنا، وأن المشارِك لهم يخاف عليه أن يكون هالكًا.

ونهانا عن مشابهة من كان قبلنا، بأنهم كانوا يُفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأَمَر أن يُسَوَّى بين الناس في ذلك فقال: "إنما هَلَكَ بنو إسرائيلَ أَنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريفُ تركوه وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعِيْفُ أَقامُوا عليه الحدَّ، والذي نفسي بِيَدِه لو أَنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها" (3) .

وأخبر أن ابنته التي هي أشرفُ النساءِ لو سرقت -وقد أعاذَها الله من ذلك- لقطع يَدَهَا، ليُبيِّن أن وجوبَ العدل والتعميم في الحدود هو الواجب.

__________

(1) في "مسائل ابن هاني": (2/ 176).

(2) ذكره البغوي في "شرح السنة": (2/ 370) بدون إسناد بصيغة التمريض، وقال الحافظ في "الفتح": (9/ 13): "لم أره بهذا اللفظ".

وهو بلفظ: "إني لم أُومر بالرهبانية" عند الدارمي: (رقم 2215 - ط حسين أسد) وإسناده قوي.

وبلفظ "إن الرهبانية لم تكتب علينا" عند أحمد: (6/ 226) من حديث عائشة.

(3) أخرجه البخاري رقم (3475)، ومسلم رقم (1688) من حديث عائشة -رضي الله عنه-.

(1/53)

________________________________________

وأيضًا: فقد قال: "إنَّ مَنْ كان قَبْلَكُم كانوا يتَّخذونَ قبورَ أنبيائهم مَساجِدَ، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مَسَاجِدَ إنِّي أَنْهاكُم عَنْ ذلك" (1) .

فعقَّب قولَه عن الذين قبلنا بقوله: "ألا فلا" بالفاء التي تُشْعِر بأن سببَ نَهْينا عن ذلك لأجل أنهم فعلوه، وذلك يقتضي أن أعمالهم دلالة وعلامة على أنَّ الله ينهى عنها، وأنها عِلَّةٌ مقتضيةٌ للنهي، ونَهْيه عن اتخاذ القبور مساجد مع لعنته لليهود والنصارى کثيرٌ متواتر، حتى عند خروج نفسِهِ الكريمة -بأبي هو وأمي- يوصي بذلك (2) .

وإن كان قد ابتلي كثيرٌ من هذه الأمَّة ببناءِ المساجد على القبور، وكِلا الأمرين محرَّم ملعونٌ فاعِله بالسنةِ المستفيضةِ.

وقد صحَّ عنه أنه قال: "كلُّ شيءٍ منْ أَمْر الجاهليةِ تَحْتَ قدمي مَوْضُوع" (3) . وهو عامٌّ يدخل فيه ما كانوا عليه من العبادات والعادات، مثل دعواهم: يا فلان ويا فلان (4) ، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أَمورهم.

ولا يدخل في ذلك ما كانوا عليه وأقَرَّه الله في الإسلام؛ کالمناسك، ودية المقتول، والقَسَامَة، ونحوه؛ لأن أمر الجاهلية معناه المفهوم منه: ما كانوا عليه مما لم يُقِرَّه الإسلام، فيدخل في ذلك ما كانوا عليه وإن لم يُنه في الإسلام عنه بعينه.

__________

(1) أخرجه مسلم رقم (532) من حديث جندب البجلي -رضي الله عنه-.

(2) أخرجه البخاري رقم (435) ومسلم رقم (531) من حديث عائشة وابن عباس -رضي الله عنهما-.

(3) في الحديث الطويل المشهور في حجة الوداع -يوم عرفة- أخرجه مسلم رقم (1218) من حديث جابر -رضي الله عنه-.

(4) في "الاقتضاء": "يالفلان يالفلان".

(1/54)

________________________________________

وأيضًا: نهى عن التذكية بالسن والعظم، وقال: "أما السن فَعَظْم"، فقيل: لا يجوز التذكية بسائر العظام عملًا بعموم العلة، وقيل: يجوز، وهما في مذهب أحمد وغيره.

و"أما الظفر فمُدَى الحبشة" (1)، فنهى عن مشابهة الحبشة فيما يختصون به؛ لأن أظفارهم طويلة يُذَكون بها دون سائر الأمم.

و "أما العظم": فيجوز أن يكون ذلك مثل نهيه عن تنجيسه بالدم، كما نهى عن الاستنجاء به لكونه طعام الجن.

ونهي عن الشُّرب في آنية الذهب والفضة وقال: "فإنَّها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" (2).

ورأى على ابن عَمْرو ثوبَين مُعَصْفَرين فقال: "إنَّ هذه من ثيابِ الكفَّار فلا تَلْبَسْهُما" رواه مسلم (3).

فصلٌ

وأما الإجماع:

فمن ذلك أن عمر ابن الخطاب في الصحابة -رضي الله عنهم-، ثم عامة الأئمة بعده، وسائر الفقهاء جعلوا في الشروط المشروطة على أهل

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (2488)، ومسلم رقم (1968) من حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه-.

(2) أخرجه البخاري رقم (5632)، ومسلم رقم (2067) من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-.

(3) رقم (2077).

(1/55)

________________________________________

الذِّمة: "أن نُوَقِّر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا، ولا نتشبَّه بهم فِي شيءٍ من لباسهم؛ قَلَنْسُوة أو عمامة أو نعلين أو فَرْق شعرٍ، ولا نتكلَّم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب على السروج، ولا نتقلَّد السيوف، ولا نتخذ شيئًا من السلاح ولا نحمله، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجزَّ مقادمَ رؤوسنا، ونَلْزم زيِّنا حيثما کان (1)، ونشدَّ الزنانيرَ على أوساطِنا، ولا نُظْهِر الصليبَ على كنائسنا، ولا نُظْهِر صليبًا ولا كتبًا في شيءٍ من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسَنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيًّا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نُظهر النيرانَ معهم في شيءٍ من طرق المسلمين" رواه حربٌ (2) بإسنادٍ جيِّد.

فهذه الشروط مجمعٌ عليها في الجملة بين العلماء

قال القاضي أبو يعلى في مسألة حدثت في وقته: "أهل الذمة مأمورون بلبس الغيار، فإن امتنعوا، لم يَجُز لأحدٍ من المسلمين صَبْغ ثوبٍ من ثيابهم؛ لأنه لا يتعيَّن عليهم صَبْغ ثوبٍ بعينه".

__________

(1) كذا بالأصل والاقتضاء، وفي المصادر: "حيثما كنَّا" وهو الأصح.

(2) هو حرب بن إسماعيل الكرماني، من أصحاب الإمام أحمد، وله مسائل مشهورة عنه، فلعله رواه فيها.

وأخرجه الخلال في "الجامع - أحكام الملل": (2/ 431 - 434)، والبيهقي في "الكبرى": (9/ 202)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق": (2/ 174). وانظر "أحكام أهل الذمة": (2/ 657 - 664)، وقال ابن القيم: "وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها" اهـ

(1/56)

________________________________________

قلت: وهذا فيه خلاف؛ هل يُلْزَمون هم بالتغيير أم الواجب إذا امتنعوا أن نُغيِّر نحن؟ أما وجوب أصل المغايرة؛ فما علمتُ فيه خلافًا.

وإذا كان عمر وسائر الصحابة والفقهاء والملوك قد اتفقوا على منعهم من إظهار شيءٍ من خصائصهم، فكيف إذا عملَها المسلمون وأظهروها لهم (1)

وقد أمر الصحابة والمسلمون بترك إكرامهم، وإلزامهم الصَّغَار الذي شرعه الله، ومن المعلوم: أن تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة فيها نوعٌ من إكرامهم، فإنهم يفرحون ويُسَرُّون، كما يغتمُّون بإهمال دينهم الباطل.

ورأى أبو بكر الصديق امرأةً من أحمس لا تتكلَّم، فقال: ما لها؟ فقالوا: حجَّت مصمتة، فقال لها: تكلَّمي فإن هذا لا يحلُّ، هذا من عمل الجاهلية، فتكلَّمت ... الحديث. رواه البخاري (2) .

فدلَّ على أن كلَّ عملٍ من أعمال الجاهلية منهيُّ عنه، مثل: المُكَاء والتصدية. والمكاءُ: الصفير ونحوه. والتصدية: التصفيق.

ومثل: بروز المُحْرِم وغيره للشمس، حتى لا يستظل بظلٍّ، أو تَرْك الطواف بالثياب المتقدمة، أو ترك كل ما عُمِل في غير الحرم، ونحو ذلك من أمور الجاهلية التي كانوا يتخذونها عباداتٍ، لا يجوز التعبُّدُ بها في الإسلام ألْبتة.

__________

(1) ليست في "الاقتضاء"، وفي بعض نسخه: "هم"، وكلا الأمرين أصح مما في الأصل.

(2) رقم (3834).

(1/57)

________________________________________

وكتب عمر إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: "إيَّاكُم وَزِيِّ أَهْلِ الشِّرْكِ" فهو عام في كلِّ زيٍّ لهم. رواه البخاري في "صحيحه" (1).

وكتب إلى أذربيجان: "إيَّاكُم والتَّنَعُّم وَزِيِّ أهل الشِّرك" (2)، ومنعَ -رضي الله عنه- من إعزاز الكفار واستعمالهم على أمر المسلمين وائتمانهم على شيءٍ، وحَرَّق الكتبَ العجمية وغيرها، ونهي عن تعلُّم رطانةِ الأعاجم.

ثم مشى بعده عثمان -رضي الله عنهما- على سَنَنِه في ذلك.

ورأى عليٌّ -رضي الله عنه- قومًا قد سَدَلوا، فقال: ما لهم كأنهم اليهود خرجوا من فُهْرهم!؟ رواه سعيد في "سننه" (3)، عن هُشَيْم، عن خالد الحذَّاء، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، عن أبيه، عن عليٍّ.

ورواه ابن المبارك (4).

ورُويَ عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كرها السَّدْلَ في الصلاة (5)، ورُويَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا (6).

__________

(1) رقم (5830) مختصرًا ليس فيه هذا اللفظ، ورواه مسلم أيضًا رقم (2069).

(2) کرره المختَصِر، وهو نفسه الحديث السابق.

(3) كما في الاقتضاء، وسنده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (2/ 62).

(4) وحفص بن غياث، كلاهما عن خالد الحذاء، فتابعوا هشيمًا على روايته.

(5) أخرجه عنهما ابن أبي شيبة في "المصنف": (2/ 63).

(6) من مرسل عطاء، وهي إحدى روايتي أبي داود رقم (643).

ورويَ مرفوعًا أيضًا، أخرجه أبو داود رقم (643)، والترمذي رقم (378)، وأحمد: (13/ 316 رقم 7934) من طريق عطاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وفي سنده ضعف.

(1/58)

________________________________________

واخْتُلِفَ هل السَّدْل محرم يُبطل الصلاة؟ ذكر ابن أبي موسى فيه روايتين، وعلَّله أحمد بأنه فِعل اليهود (1).

وليس المقصود عين هذه المسألة؛ بل المقصود أن عليًّا بيَّن كراهيته لذلك أن فيه مشابهة اليهود، فعُلِم أنه أمرٌ قد استقرَّ عندهم.

و "فُهْر اليهود" -بضم الفاء- مِدْرَاسُهم، وأصلها "بُهْر" عبرانية عُرِّبت ذكره الجوهري (2).

وكره عليٌّ التكلم بكلامهم (3)، فهذا عن الخلفاء الراشدين.

وأما سائر الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فكثير، فَرُوِيَ عن حُذَيفة أنه دُعِيَ إلى وليمة، فرأى شيئًا من زيِّ الأعاجم، فخرج وقال: "من تشبَّه بقومٍ فهو منهم" (4).

وعن ابن عباس أنه سأله رجل: أحتقِنُ؟ فقال: "لا تُبْد العورةَ ولا تستنَّ بسنةِ المشركين" رواه الخلَّال (5).

وعن أنس: أنه نهى عن القرنين وقال: احلقوا هذين أو قُصُّوهما فإنه زِيُّ اليهود (6).

__________

(1) انظر "مسائل ابن هاني": (1/ 59).

(2) في "الصحاح": (2/ 784).

(3) انظر ما سيأتي.

(4) رواه الإمام أحمد في "الورع": (ص/ 179)، وأبو بكر الخلال، كما في "الاقتضاء" 1/ 361.

(5) أخرجه أبو محمد الخلال بإسناده إلى عكرمة - كما في "الاقتضاء": (1/ 385).

(6) أخرجه أبو داود رقم (4197)، وفي سنده ضعف.

(1/59)

________________________________________

وعن معاوية أنه قال: تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهودُ والنصارى، فلا تَشَبَّهوا بهم" (1) .

وعن عبد الله بن عمرو قال: "من بَنَى ببلاد المشركين، وصنعَ نَيْروزَهم ومَهْرجانَهم حتى يموت حُشِرَ معهم يومَ القيامةِ" (2) .

وصحَّ عن عائشة أنها كرهت الاختصارَ في الصلاة، وقالت: لا تشبهوا باليهود (3) .

وكره ابن مسعود الصلاة في الطاق، وقال: "إنَّه في الكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب" (4) .

وعن ابن عمر أنه قال في شرفات مسجد يُشبه أنصابَ الجاهلية، وأمر بكسرها.

وقال عبد الحميد بن الجعد (5) : كان أصحابُ محمدٍ يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المسجد -يعني الطاقات-.

__________

(1) أخرجه الطبراني في "الكبير" 19/ 352، وابن أبي عاصم "الاقتضاء": 1/ 387.

(2) أخرجه البيهقي في "الكبرى": (9/ 234).

(3) أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف": (1/ 408)، وسعيد بن منصور -كما في الاقتضاء- وسنده صحيح كما قال.

(4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف": (1/ 408)، والبزار "الكشف: 1/ 210".

(5) كذا بالأصل! وهو خطأ، وفي "الاقتضاء": (1/ 390): "وعن عبيد بن أبي الجعد" وذَكَرَ؛ لكن رواية عبيد هذه أخرجها عبد الرزاق: (2/ 413) عن كعبٍ بلفظ آخر مغاير، أما الرواية التي ذكرها المؤلِّف؛ فهي عن سالم بن أبي الجعد قال: "كان أصحاب ... " الخ، أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 408). وفي سنده ضعف.

(1/60)

________________________________________

وهذا باب واسع فيه كثرة عن الصحابة، وهذه القضايا (1) في مظنة الاشتهار، وما علمنا أحدًا ذكر عن الصحابة خلاف ذلك: من أنهم كانوا يكرهون التشبُّه بالكفار والأعاجم في الجملة، وإن كان بعض هذه المسائل المُعَيَّنة فيها خلاف وتأويل. وهذا كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة، وإن كانوا قد يختلفون في بعض أعيان المسائل، فَعُلِمَ اتفاقهم على كراهة التشبُّه بالكفار والأعاجم.

وكذلك المنقول عن عامة علماء المسلمين من الأئمة المتقدمين، في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار، أو مخالفة النصارى، أو مخالفة الأعاجم (2)، وهو أكثر من أن يمكن حصره واستقصاؤه، ومن له أدنى نظرٍ في الفقه يعلم ذلك، وقد بلغه من ذلك طائفة. وبعد النظر والتأمُّل يورث علمًا ضروريًّا باتفاقهم -أعنِي: الأمةَ جميعها- على النهي عن موافقة الكفار، والأمر بمخالفتهم.

وقد تكلَّم أصحابُ أبي حنيفة في تكفير من تشبَّه بالكفار في لباسهم وأعيادهم، وقال أبو حنيفة: إذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه؛ لأن فيه إظهار مخالفة المشرکين.

وقال مالك: "لا يُحرم بالأعجمية ولا يدعو بها ولا يحلف".

وقيام المرأة لزوجها من فِعْل الجبابرة. وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طَلَع قاموا له، ليس هذا من فِعل الإسلام، وهو فيما ينهى عنه من التشبُّه بأهل الكتاب.

__________

(1) في "الأصل": "القضيا" سهو.

(2) هذا الوجه الثالث في تقرير الإجماع.

(1/61)

________________________________________

وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا الأصل في غير موضعٍ، مثلما ذكره بعضهم في أوقات النهي، بأن المشركين يسجدون للشمس حينئذٍ.

وذكروا في السحور أنه فَرْق بيننا وبين صيام أهل الكتاب، وذكروا في شروط الذمة ما يتضمَّن منع المسلمين عن مشابهتهم، تفريقًا بين علامة المسلمين وعلامة الكفار، وبالغ طائفةٌ منهم فنهوا عن التشبُّه بأهل البدع (1) .

وأما كلام الإمام أحمد وأصحابه؛ فكثيرٌ جدًّا، مثل قول أحمد: "ما أُحِبُّ لأحدٍ إلا أن يغيِّر الشيبَ ولا يتشبَّه بأهل الكتاب" (2) ، وكره حَلْق القفا وقال: هو من فعل المجوس، وكره النعل الصرار، وهو من زِيِّ العجم (3) .

وكره تسمية الشهور بالعجمية، والأشخاص بالأسماء (4) الفارسيَّة، مثل: آذرماه. وقال للذي دعاه إلى وليمة: زي المجوس، زي المجوس، ونفض يده في وجهه لما رأى عنده آنية فيها فضة.

وذكر أصحابه أن من اللباس المكروه ما خالفَ زيَّ العرب وأشبه زي الأعاجم وعادتهم.

وقال غير واحدٍ من أصحاب أحمد وغيرهم: يستحبُّ أن يتختَّم باليسار، للآثار، ولأن خلاف ذلك عادة وشعار للمبتدعة، وما في هذا

__________

(1) يعني: فيما كان شعارًا لهم وإن كان مسنونًا، انظر "الاقتضاء": (1/ 397).

(2) انظر: "مسائل ابن هاني": (2/ 148).

(3) انظر: "مسائل أبي داود": (ص /351).

(4) مطموسة في الأصل.

(1/62)

________________________________________

الباب عن سائر أئمة المسلمين أكثر من أن يُحصَى عُشْره، وبدون ما ذكرنا يُعْلَم اتفاق المسلمين على كراهة التشبُّه بأهل الكتاب والأعاجم في الجملة، وبالله المستعان وعليه التكلان.

فصلٌ (1)

ومما يُشبه هذا: الأمر بمخالفة الشياطين، كما روى مسلمٌ (2) أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأُكُلَنَّ أَحَدٌ منكم بشمالِه ولا يَشْرَبَنَّ بها، فإنَّ الشَّيْطانَ يأكُل بِشِمالِه ويَشْرَبُ بها" ونظائره كثيرة.

وقريب من هذا مخالفة من لم يكمل دينُه من الأعراب ونحوهم؛ لأن كمال الدين بالهجرة، فمن لم يُهاجر من الأعراب ونحوهم ناقص، قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} الآية [التوبة: 97].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَغْلبَنَّكُمُ الأَعْرابُ على اسْمِ صَلَاتِكم، أَلا إنَّها العشاء وهم يُعْتِمون بالإبل" (3)، وقال: "لا تَغْلِبَنَّكم الأَعرابُ على اسْمِ صَلَاتِكم المَغْرِب"، وقال: "والأَعْرابُ تقولُ هي العِشاءُ" (4).

فقد كره موافقةَ الأعراب في اسمي المغرب والعشاء، بالعشاء والعَتَمة، وهذا عند بعض علمائنا يقتضي كراهة هذا الاسم مطلقًا، وعند بعضهم إنما يكره الإكثار منه حتى يغلب على الاسم الآخر، وهو المشهور عندنا.

__________

(1) "الاقتضاء": (1/ 407).

(2) رقم (2020) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

(3) أخرجه مسلم رقم (644) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

(4) أخرجه البخاري رقم (563) من حديث عبد الله بن مغفَّل -رضي الله عنه-.

(1/63)

________________________________________

فصلٌ (1)

وليعلم أن بين التشبُّه بالأعراب والأعاجم (2) فرقًا يجب اعتباره، وإجمالًا يحتاج إلى تفسير، وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذمومٌ في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين، ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله وعند رسوله وعند عباده المؤمنين؛ بل الأعراب منقسمون إلى أهل جفاءٍ، كما قال: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا} الآية [التوبة: 97].

وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} الآية [التوبة: 98]. {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} إلى قوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)} [الفتح: 11 - 12].

وإلى أهل إيمانٍ وبرٍّ قال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} الآية [التوبة: 99].

وقد كان في أصحاب رسول الله ممن وفَدَ عليه ومن غيرهم من الأعراب من هو أفضل من كثير من القرويين.

فهذا كتاب الله يَحْمد بعضَ الأعراب ويذمُّ بعضَهم، وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] فعُلِمَ أن المنافقين في الأعراب وذوي القرى.

وكذلك العجم -وهم من سِوى العرب من الفُرْس والروم والتُّرْك

__________

(1) "الاقتضاء": (1/ 410).

(2) يعني: وبين الكفار والشياطين.

(1/64)

________________________________________

والبَرْبَر والحبشة وغيرهم- ينقسمون إلى المؤمن والكافر والبر والفاجر کانقسام العرب، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللَه أَذْهَبَ عنكم عُبِّيَّة الجاهليةِ وفَخْرَها بالآباءِ؛ مؤمنٌ تقيٌّ وفاجِرٌ شقيٌّ، أنتم بنو آدمَ وآدمُ مِنْ ترابٍ" حديث صحيح (1).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناسُ إن ربَّكم -عزَّ وجل- واحدٌ وإنَّ أباكُم واحدٌ، ألا لا فَضْلَ لعربيٍّ على عَجَمِيٍّ، ألا لا فضلَ لأسودَ على أَحْمَرَ إلا بالتقوى ألا قَدْ بلَّغْت"؟ قالوا: نعم، قال: "لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الغائبَ" (2) إسناده صحيح.

وأخبر أن آل بني فلان ليسوا بمجرَّد النَّسب أولياء له، وهم بطنٌ قريب النسب منه، إنما وليُّه اللهُ وصالح المؤمنين. أخرجاه في "الصحيحين" (3).

ومثل ذلك كثير في الكتاب والسنة، أن العبرةَ بالأسماء التي حمدها الله وذمَّها؛ کالمؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل، وقال: "لو كان الدِّيْنُ بالثريَّا لذهبَ به رَجُلٌ مِن فَارِسَ حَتَّى يَتَنَاوَلَه" (4).

__________

(1) تقدم ص/ 44 - 45.

(2) أخرجه بنحوه أحمد: (5/ 411) عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبو نعيم في "الحلية": (3/ 100) عن جابر، قال أبو نعيم: "غريب من حديث أبي نضرة عن جابر".

(3) البخاري رقم (5990)، ومسلم رقم (215) من حديث عَمرو بن العاص -رضي الله عنه-.

(4) أخرجه مسلم رقم (2546) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(1/65)

________________________________________

وروى الترمذيُّ في قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] أنهم من أبناء فارس (1) .

إلى غير ذلك من آثار رُوِيت في فضل أبناء فارس، ومِصْداق ذلك ما وُجِد في التابعين ومن بعدهم من أبناء فارس الأحرار والموالي، مثل: الحسن، وابن سيرين، وعكرمة، ومن بعدهم، فيهم من المبرِّزين في الإيمان والدين والعلم ما لا يُحْصَون كثرةً على ما هو معروف، إذ الفضل الحقيقيُّ هو اتباع ما بَعَثَ الله به رسولَه محمدًا من الإيمان والعلم باطنًا وظاهرًا، فكلُّ من كان فيه أكمل (2) كان أفضل، فالفضل بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة، لا بمجرَّد كون الإنسان عربيًّا أو عجميًّا، أو أبيض أو أسود، أو قرويًّا أو بدويًّا.

وإنما وجه النَّهي عن مُشَابهة الأعراب والأعاجم -مع ما ذكرناه من الفضل فيهم وعدم العِبْرة بالنسب والمكان- مبنيٌّ على أصل وهو: أن اللهَ سبحانَه جعلَ سُكْنى القُرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين ورقَّة القلوب ما لا تَقْتضيه سُكْني البادية، كما أن البادية توجِبُ من صلابة البَدَن والخَلْق، ومتانة الكلام ما لا يكون في القرى، هذا هو الأصل، وإن جاز تخلُّفُ هذا المقتضي لمانع، وكانت البادية -أحيانًا- أنفع من القرى، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور حتى في النسب.

__________

(1) الترمذي رقم (3260)، وأخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردوية عن أبي هريرة -كما في "الدر المنثور": (5/ 55) -.

(2) في "الاقتضاء": (1/ 415): "أمكن".

(1/66)

________________________________________

ثم لفظ الأعراب هو في الأصل اسم لبادية العرب، فإن كل أمةٍ لها حاضرة وبادية، فبادية العرب: الأعراب، وقد يقال: إن بادية الروم: الأرْمن أو نحوهم، وبادية الفُرْس: الأكراد أو نحوهم، وبادية الترك: التتر.

والتحقيق: أن هذا -والله أعلم- هو الأصل، وإن كان قد يقع فيه زيادة ونقصان = أن سُكان البوادي لهم حكم الأعراب، سواءٌ دخلوا في لفظ الأعراب أو لم يدخلوا، فهذا الأصل يوجِب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جِنْس البادية، وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة مثلًا.

ويقتضي: أن ما انفرد به (1) عن جميع جنس الحاضرة -أعني في زمان السلف من الصحابة والتابعين- فهو ناقصٌ عن فضل الحاضرة أو مكروه، فإذا وقع التشبُّه بهم فيما ليس من فِعْل الحاضرة المهاجرين، كان ذلك إما مكروهًا وإما مُفْضيًا إلى مكروهٍ.

وهكذا العربُ والعجم، فإن الذي عليه أهلُ السنة = أن جنسَ العربِ أفضل من جنسِ العجم؛ عِبرانيِّهم وسريانيهم، ورومهم وفرسهم وغيرهم. وأن قريشًا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخَلْق نفسًا وأفضلهم نَسَبًا.

وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم لمجرَّد كون رسول الله منهم، وإن هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك ثبت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أفضل نفسًا ونَسَبًا، وإلَّا لَزِم الدَّوْر.

__________

(1) أي: البادية.

(1/67)

________________________________________

وذهبَ فرقةٌ من الناس إلى أن لا فَضْلَ لجنس العرب على جنس العجم، وهؤلاء يسمَّون: الشُّعُوبية؛ لانتصارهم للشعوب التي هي مُغايرة للقبائل (1). كما قيل: القبائل للعرب، والشعوب للعجم.

ومن الناس من قد يُفضِّل بعض أنواع العجم على العرب، والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدُر إلا عن نفاقٍ؛ ولهذا جاء في الحديث: "حُبُّ العربِ إيمان وبُغْضُهم نِفَاق" (2)، مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس ونصيب للشيطان من الطرفين، وهو محرَّم في جميع المسائل، فإن الله أمر بالاعتصام [بحبله] (3)، ونهى عن التفرُّق والاختلاف.

والدليل على فضل جنس العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم ما رواه الترمذي (4) عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله! إن قريشًا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك كمثل نخلةٍ في كبوةٍ من الأرض، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ فَجَعَلَنِي في خَيْر فِرَقِهِم، وخيَّر الفَرِيْقَيْنِ ثُمَّ خَيَّرَ القبائِلَ فَجَعَلَني في خيرِ قَبِيْلَةٍ، ثم خَيَّرَ

__________

(1) في الأصل: "القبائل"، والمثبت من "الاقتضاء".

(2) أخرجه بهذا اللفظ العراقي في "مَحَجَّة القُرَب": (ص/ 107) من حديث ابن عُمر، ونَقَل عن الدارقطني قوله: "هذا حديث غريب، من حديث الزهري عن سالم ... ".

وللحديث شواهد من حديث أنسٍ وغيره، انظرها في "مَحَجَّة القرب": (ص/ 70، 83 - 85، 105 - 108).

(3) ما بين المعكوفين من "الاقتضاء"، وبه يتم الكلام.

(4) رقم (3607). من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله ابن الحارث عن العباس بن عبد المطلب به.

(1/68)

________________________________________

البُيُوْتَ فَجَعَلَني في خَيْرِ بُيُوْتهم، فأنا خَيْرُهم نَفْسًا وخَيْرُهم بَيْتًا" وحَسَّنَه.

والكبوة: الكناسة، والكِبَي -بالكسر والقصر-.

ورواه بطريق آخر (1) ، ورواه أحمد (2) ولفظه: "إنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ فَجَعَلَني في خير خَلْقِه، وجَعَلَهم فِرْقَتَيْن، فجعلنِي في خَيْرِ فِرْقَةٍ، وخَلَقَ القبائِلَ فَجَعَلَني في خيرِ قَبِيْلَةٍ، وجعلهم بُيُوتًا فجعلني في خَيْرِهم بيتًا، فأنا خَيْرُكم بَيْتًا وخَيْرکم نَفْسًا".

فيحتمل أن المراد بالخلق: الثقلان، أو هُم جميع ما خلق في الأرض، وبنو آدم خيرهم. ولو قيل بعموم الخلق حتى يدخل فيه الملائكة؛ فله وجهٌ صحيح، ويُحْتمل أنه أراد بالخلق: بني آدم.

وبكلِّ تقدير؛ فالحديث صريح بتفضيل العرب على غيرهم، ولهذا الحديث شواهد تؤيِّده وتوضِّحه، مثل حديث مسلم (3) : "إنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنانَةَ من وَلَدِ إسماعيلَ، واصْطَفَى قُرَيْشًا من كِنَانَةَ، واصْطَفَى من قريشٍ بني هاشِمِ، واصْطَفاني من بني هاشم".

ورواه أحمد والترمذي (4) ، ولفظُه: "إنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبراهيمَ

__________

(1) أي: الترمذي رقم (3758) من طريق أبي عوانه عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله ابن الحارث، حدثني المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، أن العباس، به.

(2) في مسند العباس: (3/ 307 رقم 1788) من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة، عن العباس به.

فاختُلِف على يزيد بن أبي زياد على هذه الأنحاء وغيرها، وانظر ما ذكره شيخ الإسلام في "الاقتضاء": (1/ 428)، وللحديث شواهد تعضد معناه.

(3) رقم (2276) من حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه-.

(4) الترمذي رقم (3605)، وأحمد: (28/ 193 رقم 1987). وقال الترمذي: "هذا =

(1/69)

________________________________________

إسماعيلَ واصْطَفَى مِنْ وَلَد إسماعيلَ بني كِنَانَةَ ... " إلى آخره. فيقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم، وأنهم أفضل من ولد إسحاق، ومعلومٌ أن ولد إسحاق أفضل العجم (1) ؛ لما فيهم من النبوَّة والكتاب، فإذا ثبت فضلهم على ولد إسحاق لَزِمَ فضلهم على من سواهم (2) .

ثم إن الله -تعالى- خصَّ العربَ ولسانَهم بأحكامٍ تميَّزوا بها عن غيرهم، فخصَّ قريشًا بما جعل فيهم من خلافة النبوَّة، وغير ذلك، ثم خصَّ بني هاشم بتحريم الصدقة واستحقاق قِسْطٍ من الفيء، إلى غير ذلك، فأعطى كلَّ درجةٍ بحسبها، والله عليمٌ حليم {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "حُبُّ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ من الإيمانِ وبُغْضُهُما من الكُفْر" (3)

__________

= حديث حسن صحيح". وزاد المزي في "التحفة": (9/ 77)، والعراقي في "محجة القرب": (ص/ 78) في حكاية كلام الترمذي قوله: "غريب"، وفي رواية المحبوبي نسخة الكروخي التي بخطه (ق/ 244 أ) المكتوبة سنة (547): "حديث صحيح" فحسب؟ فالله أعلم.

لكن فيه هذه الزيادة في أوله "اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" تفرد بها محمد بن مصعب، وفيه ضعف في قِبَل حفظه.

(1) في "الأصل": "من العجم" والصواب ما هو مثبت.

(2) وفي "الاقتضاء": (1/ 430) إشكال وجوابه على التقرير المتقدم، فانظره.

(3) ذكر في "الاقتضاء": (1/ 436) أنه أخرجه أبو طاهر السِّلفي من حديث جابر، وساق سنده، ثم قال: وهذا الإسناد وحده فيه نظر، وأخرجه ابن عساكر في "تاريخه".

وأخرجه ابن عدي في "الكامل": (3/ 73) من حديث أنسٍ، إلا أن آخره: "وبغضهما من النفاق". وفيه أبو إسحاق الحميسي، ضعيف وهو مما أُنكر عليه.

(1/70)

________________________________________

و"حبُّ العَرَبِ من الإيمانِ وبُغْضُهُم من الكُفْرِ" (1)، وفي حديث سلمان (2) ما يقوِّي هذا الحديث.

ولما وضعَ عمرُ الديوانَ كتبَ الناسَ على قدر أنسابِهم، فبدأ بأقربهم فأقربهم إلى رسول الله، فلما انقضت العربُ ذكر العجمَ، هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء بعدهم، إلى أن تغيَّر الأمر بعد.

وسبب هذا الفضل: ما اختصُّوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم، وذلك لأن الفضلَ إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح.

والعلم مَبْدَؤه: العقل، وهو قوةُ الفهمِ. وتمامُه: قوةُ المنطق الذي هو البيان والعبارة، والعربُ أفْهم وأَحْفظ، وأقْدَر على البيان والعبارة.

__________

(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط": (3/ 257)، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية": (2/ 333)، ومن طريقه العراقي في "محجة القرب": (ص/ 83)، والبزار "الكشف: 1/ 51"، والحاكم: (4/ 87) مختصرًا، من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وتعقبه العراقي فقال: "وما ذكره من صحة إسناد فليس بجيد، فإن الهيثم بن جماز ضعيف عندهم ... " اهـ.

(2) ولفظه: "يا سَلْمان لا تُبْغضني فتُفَارِق دِيْنَك" قلت: يا رسول الله كيف أُبغضك وبك هداني الله؟ قال: "تُبْغِضُ العربَ فتُبْغِضني".

أخرجه الترمذي رقم (3927)، وأحمد: (5/ 440)، والطبراني في "الكبير": (6/ 238)، والحاكم: (4/ 86) وغيرهم.

قال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي بدر شجاع ابن الوليد" اهـ، وقال الحاكم: "صحيح" وتعقبه الذهبي بتضعيف ابن أبي ظبيان في سنده.

(1/71)

________________________________________

[وأما العمل؛ فإن مبناه على الأخلاق، وهي الغرائز المخلوقة في النفس] (1) ، وغرائزهم أطوع للخير، فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعةً قابلة للخير معطَّلةً عن فعله، ليس عندهم علمٌ منزَّلٌ من السماء، ولا شريعةٌ موروثة (2) عن الأنبياء، ولا هم مشتغلون ببعض العلوم العقليَّة، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب، أو ما حفظوه من أنسابهم وأيَّامهم، أو ما احتاجوا إليه من دنياهم من الأنواء والنجوم، أو من الحروب.

فلما بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالهدى الذي ما جَعَلَ اللهُ -ولا يجعل- أمرًا أجلَّ منه ولا أعظم قدرًا، وتلقَّوه عنه بعد مجاهدته الشديدة ومعالجته، حتى نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية، التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فِطَرها (3) ، فزالت تلك الرُّيون (4) عن قلوبهم، واستنارت بهدي الله، فأخذوا ذلك الهدي بتلك الفطرة الجيِّدة، فاجتمع لهم الكمالُ بالقوةِ المخلوقة فيهم، والكمالِ الذي أنزله اللهُ إليهم.

بمنزلةِ أرضٍ جيِّدةٍ في نفسها عُطِّلت عن الحرث، فنبتَ فيها شوكٌ ودغل (5) ، وصارت مأوى (6) الخنازير والسِّباع، فإذا طُهِّرت عن المؤذي

__________

(1) إضافة لازمة من "الاقتضاء": (1/ 447) ليتم المعنى.

(2) في الأصل: "مورثة" والمثبت من "الاقتضاء".

(3) كذا بالأصل، وفي "الاقتضاء": "فطرتها".

(4) أي: دنس القلوب.

(5) كذا في الأصل، وهو الشجر الكثير الملتفّ. وفي "الاقتضاء": "نبت فيها شجر العضاه والعوسج".

(6) رسمها في "الأصل": "موي" والتصويب من "الاقتضاء".

(1/72)

________________________________________

من الشجر والدواب، وازْدُرع فيها أفضلُ الحبوب والثمار، جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله، وبالله المستعان.

فصار السابقون الأولون أفضل الخلق بعد الأنبياء، وصار أفضل الناس بعدهم من اتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم القيامة من العرب والعجم، وصار الخارجون عن هذا الكمال قسمين:

إما کافر؛ من اليهود والنصارى، الذين لم يقبلوا هدى الله.

وإما غيرهم؛ من العجم الذين لم يشركوهم فيما فطروا عليه، فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين على الهدى الذي رضيه الله لهم، وبمخالفة من سواهم؛ إما لمعصيته وإما لنقيصته، وإما لأنه مظنة النقيصة.

فإذا نهت الشريعةُ عن مشابهة الأعاجم، دخل في ذلك ما عليه الأعاجمُ الكفَّار قديمًا وحديثًا، وما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن السابقون الأوَّلون عليه، كما يدخل في مسمَّى الجاهلية: ما كان عليه أهلُ الجاهلية قبل الإسلام، وما عادَ إليه كثيرٌ من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها، ومن تشبَّه من العرب بالعجم لحقَ بهم، وبالعكس.

ولهذا كان الذين ينالوا (1) العلمَ والإيمانَ من أبناء فارس إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف، بلوازمه من العربية وغيرها، ومن نقصَ من العرب إنما هو بتخلُّفهم عن هذا، وإما بموافقتهم للعجم فيما السنةُ أن يُخَالَفوا فيه.

__________

(1) كذا بالأصل، وصوابه "ينالون" وفي "الاقتضاء": "تناولوا".

(1/73)

________________________________________

وأيضًا: فإن الله أنزل كتابَه باللسان العربي، وجعلَ رسولَه مبلِّغًا عنه الكتابَ والحكمةَ بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلِّمين به، فلم يكن سبيلٌ إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، وصارت معرفته من الدين. إذ هو أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعار الدين، وأقرب إلى مشابهة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أُمورهم.

وقد أمر العلماءُ بالخطاب العربيِّ، وكرهوا مداومة غيره لغير حاجة، واللسان تقارنه أمور من الأخلاق والعلوم، فإن العادة لها تأثير عظيم فيما يُحبه الله ورسوله أو فيما يكرهه؛ فلهذا جاءت الشريعةُ بلزوم طريقة السابقين في أقوالهم وأعمالهم، وكراهة الخروج عنها إلى غيرها لا لحاجةٍ؛ لما يُفْضِي إليه من موت الفضائل التي جعلها الله للسابقين الأوَّلين.

ولهذا لما عَلِم من وفَّقَه اللهُ من أبناء فارس وغيرهم هذا الأمرَ؛ أخذَ يُجاهد نفسه في تحقيق المشابهة بالسابقين، فصار أولئك من أفضل التابعين بإحسانٍ، وصار كثيرٌ منهم أئمة لكثير من غيرهم. وصاروا يُفضِّلون من رأوه [من الفرس] (1) أقرب إلى متابعة السابقين. فالأمة مجتمعة على فضل طريقة العرب السابقين، وأن الفاضل من تَبِعهم، وهو المطلوب.

والذي يجب على المسلم إذا نظر إلى الفضائل أو تكلَّم فيها: أن يسلكَ سبيلَ العاقل الذي غرضه أن يعرف الخير ويتحرَّاه جهده، ليس

__________

(1) زيادة من "الاقتضاء" يقتضيها السياق.

(1/74)

________________________________________

غرضه الفخر على أحدٍ ولا الغَمْص (1) من أحدٍ، كما قال: "إنَّ اللهَ أوْحَى إليَّ: أنْ تواضَعُوا حتى لا يَفْخَرَ أحَدٌ على أحدٍ ولا يَبْغِي أحَدٌ على أحَدٍ" (2) .

فمن استطال بحقٍّ فقد افتخر، وإن كان بغير حقٍّ فقد بغي، فلا يحلُّ لا هذا ولا هذا، فإذا كان الرجل من الطائفة الفاضلة، فلا يكن حظُّه استشعار فضل نفسِه، والنظر إلى ذلك، فإنه مْخْطئ؛ لأن فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، فرُبَّ حَبَشِيٍّ أفضل عند الله من جمهور قريش.

وإن كان من الطائفة الأخرى، فيعلم أن تصديقه للرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمره، ومحبَّة ما أحبَّه الله، والتشبُّه بمن فضَّله الله، والقيام بالدين الحق، يوجبُ له أن يكون أفضلَ من جمهور الطائفة الأخرى، وهذا هو الفضل الحقيقي (3) .

__________

(1) هو الاحتقار والازدراء.

(2) أخرجه مسلم رقم (2865) من حديث عياض المجاشعي -رضي الله عنه-.

(3) ثم ذكر شيخ الإسلام في "الاقتضاء": (1/ 454 - 456) أصل لفظ العرب والعجم وذكر:

انقسامَ البلاد إلى:

1 - ما غلب على أهله لسان العرب.

2 - ما العُجْمة كثيرة فيهم أو غالبة.

وانقسامَ الأنساب إلى:

1 - قوم من نسل العرب، باقون على العربية لسانًا ودارًا، أو لسانًا لا دارًا، أو دارًا لا لسانًا.

2 - قوم من نسل العرب، صارت العجمية لسانهم ودارهم، أو أحدهما.

3 - قوم مجهولوا الأصل -وهم أكثر الناس- سواء كانوا عرب الدار واللسان، =

(1/75)

________________________________________

فصلٌ (1)

قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار، ما دلَّ على أن التشبُّه بهم في الجملة منهيٌّ عنه، وأن مخالفتهم في هديهم مشروع؛ إما إيجابًا وإما ندبًا بحسب المواضع، سواء كان الفعل مما قَصَد فاعِلُه التشبُّه بهم أو لم يقصده، وكذلك ما أمَر به من مخالفتهم، وما نهى عنه من مشابهتهم يعمُّ ما إذا قُصِدت المشابهة لهم أو لم تُقْصَد, فإنه لم يكن المسلمون يقصدون التشبُّه بهم فيها؛ بل فيها ما لا يمكن القصد فيه، مثل: بياض الشعر وطول الشارب ونحوه.

ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام:

* قسمٌ مشروع في ديننا مع كونه كان مشروعًا لهم، أو لا نعلم أنه كان مشروعًا لهم، لكنهم يفعلونه الآن.

* وقسمٌ كان مشروعًا ثم نسخه شَرْع القرآن.

* وقسم لم يكن مشروعًا بحالٍ، وإنما هم أحدثوه.

وهذه الأقسام الثلاثة؛ إما أن تكون في العبادات المحضة، وإما في العادات المحضة، وإما أن تجمع العبادات والعادات، فهذه تسعة أقسام:

أما القسم الأول: وهو ما كان مشروعًا في الشريعتين، أو ما كان

__________

= أو عجمًا في أحدهما. وانقسامهم في اللسان إلى:

1 - قوم يتكلمون العربية لفظًا ونَغْمة.

2 - قوم يتكلمون العربية لفظًا لا نَغْمة، وهم المتعرِّبون.

3 - قوم لا يتكلمون بها إلا قليلًا.

(1) "الاقتضاء": (1/ 473).

(1/76)

________________________________________

مشروعًا لنا وهم يفعلونه، كصوم عاشوراء، أو كأصل الصلاة والصيام، فهنا تقع المخالفة في الصفة في ذلك العمل، كما سنَّ لنا صومَ تاسوعاءَ (1)، وأمرنا بتعجيل الفطر والمغرب مخالفةً لهم، وتأخير السحور، وأمرنا بالصلاة في النعلين، وهو كثير في العبادات.

وكذا في العادات، كقوله: "اللَّحْدُ لَنا والشَّقُّ لِغَيْرِنا" (2)، وسنَّ توجيه قبور المسلمين إلى القبلة، فإن أصل الدَّفْن من الأمور العادية، وهو أيضًا عبادة، وكذلك اعتزال الحائض هو مما جامَعْنَاهم في أصله وخالفناهم في وصفه.

القسم الثاني: ما كان مشروعًا ثم نُسِخ؛ كالسبت (3)، وإيجاب صلاةٍ أو صومٍ، ولا يخفى النهيُ عن موافقتهم في هذا، [سواء] كان (4) واجبًا عليهم فيكون عبادة، أو محرمًا عليهم فيتعلَّق بالعادات، فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم، وكلِّ ذي ظُفُر على وجه التديُّن

__________

(1) أي: وعاشوراء.

(2) أخرجه أحمد: (13/ 496 رقم 19158)، وابن ماجه رقم (1555) وغيرهم من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- وسنده ضعيف.

وله شاهد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه أبو داود رقم (3208) والترمذي رقم (1045)، والنسائي: (4/ 80)، وابن ماجه رقم (1554) وفي سنده ضَعْف أيضًا.

قال شيخ الإسلام في "الاقتضاء": (1/ 233): "هو مروي من طرق فيها لِيْن، لكن يُصَدِّق بعضها بعضًا".

(3) باعتبار كونه عيدًا لليهود.

(4) في الأصل بدون "سواء" وكَتَب فوق "كان": "كذا" مُستشكلًا العبارة، وبما أثبتَ يزول الأشكال، وهو كذلك في "الاقتضاء".

(1/77)

________________________________________

بذلك، وكذلك ما كان مركَّبًا منهما، وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم، فإن العيد يجمعُ عبادةٌ، وهو ما فيه من صلاةٍ أو ذكرٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ، ويجمعُ عادةً، وهو ما يُفْعَل فيه من التوسُّع، وما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواظِبة (1)، واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب، ونحو ذلك.

فموافقتهم في هذا المنسوخ في العبادات أو العادات أو كلاهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروعُ الأصلِ، ولهذا كانت الموافقة في هذا محرَّمة كما سنذكره، وفي الأول قد لا تكون إلَّا مكروهة.

وأما القسم الثالث: وهو ما أحدثوه من العبادات والعادات أو كلاهما (2) فهو أقبح وأقبح، فإنه لو أحدثه المسلمون لكان قبيحًا، فكيف إذا كان قد أحدثَه الكافرون ولم يشْرَعْه نبيٌّ قط.

وأصلٌ آخر وهو: أن كل ما يشابهون فيه من عبادة أو عادة أو کلاهما (3)، هو من المحدثات في هذه الأمة ومن البدع، إذ الكلام فيما كان من خصائصهم، فجميع الأدلة تدلُّ على قُبْح البدع وكراهتها تحريمًا أو تنزيهًا تندرج هذه المشابهات فيها (4).

__________

(1) أي: الأعمال الراتبة المواظَب عليها.

(2) هذه وما قبلها كذا بالأصل وبالأصول الخطية للاقتضاء! وصوابها: "أو كليهما" معطوف على مجرور، وقد تحقق في "كلا" شروط إلحاقها بالمثنى.

(3) كذا في الأصل وأصول الاقتضاء، والقول فيها كالقول في سابقتها.

(4) فيجتمع فيها الوصفان: أنها بدع محدثة، وأنها مشابهة للكافرين، وكل واحد من الوصفين موجب للنهي والتحريم.

(1/78)

________________________________________

فصلٌ (1)

إذا تقرر هذا الأصل فنقول: موافقتهم في أعيادهم محرمة لا تجوز من طريقين:

الطريق الأول العام: هو ما تقدَّم من أنَّ هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا، ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم، وفي ترکه مصلحة مخالفتهم، كما تقدمت الإشارةُ إليه، ومن جهة أنه من البدع المحدَثة.

ولا ريبَ أن هذه الطريق تدلُّ على كراهة الموافقة لهم والتشبُّه بهم في ذلك، فإن أقل أحوال التشبُّه بهم الكراهة، وكذلك أقل أحوال البدع. ويدلّ كثير منها على تحريم التشبّه بهم في العيد، مثل قوله: "من تشبَّه بقومٍ فهو منهم" (2) وقوله: "خالفوا المشرکين" (3)، ومثل ما ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأعيادُهم من سبيلهم، إلى غير ذلك من الأدلة.

فمن نظر فيما تقدم تبين له دخولُ هذه المسألة في كثير مما تقدَّم من الدلائل العامة نصًّا وإجماعًا، وتبيَّن له (4) أن هذا من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل، وأنه محرَّم، بخلاف ما لم يكن من خصائص دينهم، مثل: نَزْع النعلين في الصلاة، فإنه جائز، كما أن

__________

(1) "الاقتضاء": (1/ 478).

(2) تقدم تخريجه ص / 51.

(3) تقدم ص/ 40.

(4) من قوله: "دخول ... " إلى هنا ملحق في الهامش، وأصابته رطوبة.

(1/79)

________________________________________

[لبسهما] (1) جائز (2).

الطريق الثاني الخاصُّ في نفس أعيادهم: فمن الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.

أما الكتاب: فما تأوَّله غير واحدٍ من التابعين وغيرهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]: "أنه الشعانين"، ذكره ابنُ سيرين (3)، وعن الرَّبيع بن أنسٍ: "أنه أعياد المشركين" (4)، وعن عكرمة قال: "هو لعبٌ كان لهم في الجاهلية" (5)، وروى الضحَّاك قال: "أعياد المشركين" (6)، وعنه: "عيد المشرکين".

وعن عمر قال: "إياكم ورَطَانةَ الأعاجِم، وأن تدخلوا على المشركين يومَ عيدهم في كنائسهم" (7) (8).

__________

(1) في الأصل: "لباسهم" والتصويب من "الاقتضاء": (1/ 479).

(2) بقي من كلام الشيخ قوله: "وتبين له -أيضًا-: الفرق بين ما بقينا فيه على عادتنا، لم نُحَدِث شيئًا نكون به موافقين لهم فيه، وبين أن نحدث أعمالًا أصلها مأخوذ عنهم، قَصَدْنا موافقتهم أو لم نقصد" اهـ.

(3) أخرجه الخلال في "الجامع - أهل الملل": (1/ 123).

(4) ذكره عنه ابن كثير في تفسيره: (3/ 341).

(5) أخرجه ابن أبي حاتم -كما في "الدر": (5/ 148) -.

(6) أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في "شروط أهل الذمة" كما في "الاقتضاء": (1/ 480) وروي نحوه عن ابن عباس كما في "الدر المنثور": (5/ 148) -.

(7) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف": (1/ 411)، والبيهقي في "الكبرى": (9/ 234) وفي سنده انقطاع.

(8) کُتِب فوقها في الأصل: "ذكره القاضي" ويحتمل أن يكون هذا لحقًا، إذ حاشيتا الورقة (187 ب) ممتلئتان من الجهتين فلم يجد المؤلف مكانًا لإلحاقها إلا هذا.

(1/80)

________________________________________

وقول هؤلاء التابعين: إنه أعياد الكفار، ليس مخالفًا لقول بعضهم: إنه الشرك، أو: صنم كان في الجاهلية. ولقول بعضهم: إنه مجالس الخَنا. وقول بعضهم: إنه الغِناء (1) = لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا: يذكر الرجلُ نوعًا من أنواع المُسَمَّى لحاجةِ المستمع إليه أو لينبِّه على الجنس، كما لو قال العجميُّ: ما الخبز؟ فيُعْطَى رغيفًا، ويُقال له: هذا، فالإشارة إلى الجِنْس لا إلى العين (2) .

وقال قومٌ: إنه شهادة الزور التي هي الكذب. وهذا فيه نظر، فإنه قال: "لا يشهدون الزور"، ولم يقل: لا يشهدون بالزور. فإن العربَ تقول: "شهدت كذا" إذا حضرته، كقول ابن عباسٍ: "شهدتُ العيدَ مع النبي -صلى الله عليه وسلم-"، وقول عمر: "الغنيمة لمن شهد الوقعة". وأما: "شهد [تُ] بكذا"، [فمعناه]: أخبرتُ به (3) .

فتسمية هذه الأشياء زورًا [دليل على تحريم فعلها] (4) ، وقد ذمَّ الله من يقول الزور، وقال: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) } [الحج: 30]. فَفِعْل الزور كذلك (5) ، فيكون حرامًا لأنه خلاف الأمر، وبكلِّ حالٍ يدخل في

__________

(1) تفاسير السلف انظرها في "تفسير ابن جرير": (9/ 420)، و"الدر المنثور": (5/ 148).

(2) قارن بـ "مجموع الفتاوي": (13/ 337) مقدمة في أصول التفسير.

(3) في الأصل: "وأما شهد بكذا بمعنى أخبرت به." ثم علَّق في الحاشية: "كذا، ولعله: فغير معروف". والعبارة بعد الاصلاح خالية من الإشكال، وانظر "الاقتضاء": (1/ 482).

(4) ما بين المعكوفين لا بد منه ليتم المعنى.

(5) علق في هامش النسخة بقوله: "بل الفعل أشد".

(1/81)

________________________________________

الآية أنه مكروه (1)، وهو من مطلوبنا، إذ قد يظن بعض الناس أن بعض ما يفعلونه يكون مستحبًّا، مثل التوسعة على العيال ونحوه، ومثل إقرار الناسِ على اكتسابهم ومصالح دنياهم (2).

فهذه (3) تدلُّ على كراهة ذلك مطلقًا، فسواء دلت الآية على التحريم أو الكراهة أو استحباب ترکه = حصل المقصود.

وأما السنة؛ فمن وجوهٍ:

أحدها: فروى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قدمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هَذَانِ اليَوْمَانِ"؟ فقالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال: "إنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكم بِهما خَيْرًا مِنْهُما؛ يومَ الأَضْحَى ويومَ الفِطْر" رواه أبو داود (4): حدثنا إسماعيل بن موسي، حدثنا حمَّاد، عن حُمَيد، عن أنسٍ.

ورواه أحمد والنسائي (5)، وهذا إسنادٌ على شرط مسلم (6).

فلم يقرَّهم (7) على العيدين الجاهليين، ولا تركهم يلعبون فيهما

__________

(1) أو يستحب ترکه، وبه يحصل المقصود أيضًا؛ إذ من المقصود: بيان استحباب ترك موافقتهم أيضًا. وانظر "الاقتضاء": (1/ 485).

(2) من قوله: "ومثل إقرارهم ... " ملحق في الحاشية وأصابته رطوبة.

(3) أي: الآية {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّور}.

(4) رقم (1134).

(5) رواه أحمد: (19/ 65 رقم 12006)، والنسائي: (3/ 179).

(6) يعني إسناد أبي داود، لأن حماد -وهو ابن سلمة- لم يخرج له البخاري، أما إسناد أحمد والنسائي فعلى شرط البخاري ومسلم.

(7) في "الأصل": "يقرهما" وهو سبق قلم.

(1/82)

________________________________________

على العادة، بل قال: "إن الله أبدلكم بهما يومين آخرين"، والإبدال يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يُجْمَع بين البدل والمبدل.

ولذلك مات ذلك اليومان في الإسلام، فلم يبق لهما أثر، فإنه قد يعجز كثير من الملوك عن تغيير الناس عن عادتهم في أعيادهم، لقُوَّةِ مقتضيها في نفوسهم، وتوفُّر هِمم الجماهير على اتخاذها، لا سيما طِباع النساء والصِبيان، فلولا قوَّة المانع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكانت باقية ولو على وجهٍ ضعيف، فَعُلِمَ أن المانع القويَّ منه كان ثابتًا، وكلُّ ما منع منه الرسول منعًا قويًّا كان محرَّمًا، وهذا بَيِّن لا شُبهةَ فيه.

والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نُقِرُّهم عليها أشدُّ من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها؛ لأن الأمَّةَ قد حُذِّروا مشابهةَ اليهود والنصارى، وأخبر أنه سيفعل قوم ذلك بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخْترام أنفس المؤمنين عمومًا، ولو لم يكن أشد منه فهو مثله، إذ الشرُّ الذي له فاعل موجود يُخاف على الناس منه أكثر من شرٍّ لا مقتضي له قوي.

الوجه الثاني: روى أبو داود (1): أن رجلًا نذر على عهد رسول الله أن ينحر إبلًا بِبُوانة، فأتى رسولَ الله فقال: إني نذرتُ أنْ أَنْحَر إبِلًا بِبُوانةَ، فقال: "هَلْ كانَ فيها وَثَنٌ من أَوْثَانِ الجاهليةِ يُعْبَد"؟ قالوا: لا. قال: "فَهَلْ كانَ فيها عِيْدٌ مِنْ أَعْيادِهِم"؟ قالوا: لا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَوْفِ بِنَذْرِكَ فإنَّه لا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصِيَةِ اللهِ ولَا فيما لا يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ".

__________

(1) رقم (3313). من حديث ثابت ابن الضحاك -رضي الله عنه-.

(1/83)

________________________________________

وأصل هذا الحديث في "الصحيحين" (1) ، وإسناده على شرطهما.

فوجه الدلالة: أنَّ هذا الناذِرَ لما نَذَر الذبحَ سأله: هل كان بها وَثَن أو عيد؟ ثم قال: "لا وفاء لنذرٍ في معصية الله"؛ فيدلُّ على أن الذبح بمكان عيدِهم وموضعِ أوثانهم معصية، فإنه عقَّب: "فأوف" بالفاء؛ فيدلُّ على أن الوصفَ هو سبب الحكم، فيكون سبب الوفاء بالنذر وجوده خاليًا عن هذين الوصفين، ويكون (2) الوصفان مانِعَيْن من الوفاء، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيًّا عنه فكيف الموافقة في نفس العيد!؟

وبُوانة: بضمِّ الباء، بواحدة (3) من أسفل، موضعٌ (4) .

وهذا نهيٌ شديد عن أن يُفْعَل شيء من أعياد الجاهلية على أيِّ وجهٍ كان، وأعياد الكفار -الكتابيين والأميين- في دين الإسلام من جنسٍ واحدٍ، كما أن كفرهم سواء في التحريم، وإن كان بعضُه أشدّ تحريمًا، ولا يختلف حكمها في حقِّ المسلمين، لكن أهل الكتاب أُقِرُّوا على دينهم مع أنه شُرِطَ عليهم أَلا يُظهروا أعيادهم؛ بل أعياد الكتابيين أعظم كفرًا؛ لأنهم يتخذونها دينًا، بخلاف الذين يتخذونها لهوًا ولعبًا؛ لأن التعَبُّد بما يُسْخِط الله أعظم من اقتضاء الشهوات [بما حرمه] (5) ،

__________

(1) أي ما يتعلق بالنذر، كما في البخاري رقم (6696)، ومسلم رقم (1641) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(2) كذا بالأصل، والأنسب للسياق: "فيكون" كما في "الاقتضاء".

(3) كذا بالأصل وهو مستقيم، وفي "الاقتضاء": "الموحدة".

(4) قريب من ينبع كما في "معجم البلدان": (5/ 505).

(5) زيادة من "الاقتضاء": (1/ 499) يقتضيها السياق.

(1/84)

________________________________________

ولهذا كان الشرك أعظم إثمًا من الزنا، وكان جهاد أهل الكتاب أفضل من غيرهم، وكان من قتله أهلُ الكتاب له أجر شهيدين.

الوجه الثالث: أن هذا الحديث وغيره قد دَلَّ (1) على أنه كان للناس أعياد يجتمعون فيها في الجاهلية، ومعلومٌ أنه بمبعث إمام المتقين مَحَا اللهُ ذلك عنه، فلم يبق شيء من ذلك، فلو لا نهيه ومنعه لما ترك الناسُ ذلك، مع قيامِ المقتضي لفعلها من جهة الطبيعة، فلولا المانع القوي (2)، لما دَرَست تلك الأعياد.

الوجه الرابع: ما خرَّجاه في "الصحيحين" (3) عن عائشة قالت: دخلَ عليَّ أبو بكرٍ وعندي جاريتان من جواري الأنصار تُغَنِّيان بما تقاولت به الأنصار يوم بغاث (4). قالت: وليستا بمغنِّيتين. فقال: أَمزمور الشيطانِ في بيتِ رسول الله. -وذلك يوم عيد- فقال رسول الله: "يا أبا بَكْرٍ إنَّ لكلِّ قَوْمٍ عِيْدًا وهذا عِيْدُنا". وفي روايةٍ: "دَعْهُما يا أبا بكر".

فقوله: "إنَّ لكلِّ قوم عِيْدًا وهذا عِيْدُنا" يوجِب اختصاصَ كلِّ قومٍ بعيدهم، كقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]؛ لأن اللام تورث الاختصاصَ فلا نشركهم في عيدهم، كما لا نشركهم في

__________

(1) في "الأصل": "قدل" سقطت منه "الدال" سهوًا.

(2) في "الأصل": "قوي" والمثبت من "الاقتضاء".

(3) البخاري رقم (952)، ومسلم رقم (892).

(4) كذا في "الأصل" بغين معجمة، وهو أحد الأقوال في ضبطه، والأشهر بالمهملة انظر "معجم البلدان": (1/ 451)، وهو موضع بنواحي المدينة كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية.

(1/85)

________________________________________

شِرعتهم، ولا ندعهم يشركوننا (1) .

وقوله: "هذا عِيْدُنا" يقتضي حصر عيدنا في هذا، فليس لنا عيد سواه، وكذلك قوله: "وإن عيدنا هذا اليوم" فإن التعريف بالإضافة واللام يقتضي الاستغراق، فيكون جنس "عيدنا" منحصرًا في جنس ذلك اليوم، كقوله: "تحريْمُها التكبيرُ وتَحْلِيْلُها التَّسْلِيمُ" (2) .

ومن هذا الباب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ النَّحْرِ وأَيَّامُ مِنى عِيْدُنا أهلَ الإسلامِ، وهي أيَّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ" رواه أبو داود والترمذي وصححه (3) .

فيدلُّ على مفارقتنا لغيرنا في العيد واختصاصنا بهذه الأيام الخمسة.

وأيضًا (4) : فإنه علل الرخصة باللعب بكونه "يوم عيدنا" فدلَّ على أنه لا يُرَخَّص فيه في عيد الكفار، فإنه لو ساغ ذلك لم يكن قوله: "لكلِّ قومٍ عيد" فيه فائدة.

__________

(1) أي: في عيدنا.

(2) أي: الصلاة، والحديث أخرجه أبو داود رقم (618)، والترمذي رقم (3)، وابن ماجه رقم (275)، وأحمد: (2/ 292 رقم 1006)، من حديث علي -رضي الله عنه-.

والحديث صححه الترمذي والحاكم والنووي وابن حجر، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الترمذي رقم (238)، وابن ماجه رقم (276).

(3) أخرجه أبو داود رقم (2419)، والترمذي رقم (773) والنسائي: (5/ 252) من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-.

قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

(4) من دلالات الحديث الرابع.

(1/86)

________________________________________

الوجه الخامس: أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصاري، حتى أجلاهم عمر، وكان اليهود بالمدينة كثيرًا في حياته -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كان في اليمن يهود، ونصاري بنجران، والفُرْس بالبحرين وكان لهم أعياد، والمقتضي لما يُفْعَل في العيد من الأكل والشرب واللباس والزينة واللعب والراحة قائمٌ في نفوس الناس.

ثم من كان له خبرة بالسيرة يعلم أن المسلمين لم يكونوا يشاركونهم في شيء من أمرهم، ولا يُغَيِّرون لهم عادةً في أعياد الكفار، بل ذلك اليوم عند رسول الله وعند سائر المسلمين يوم لا يخصُّونه بشيءٍ أصلًا، إلا ما قد اخْتُلِف فيه من مخالفتهم فيه، كصومه.

فلولا أنه كان من دين المسلمين الذي تلقَّوه عن نبيِّهم مَنْعٌ من ذلك وكفُّ عنه؛ لوجب أن يوجد من بعضهم فِعْلُ بعضِ ذلك، فدلَّ على المنع منه.

ثم جرى الأمر على عهد الخلفاء الراشدين كما كان في عهده، حتى كان عمر ينهى عن الدخول عليهم يوم عيدهم، فكيف لو كان أحدٌ يفعل كفعلهم!؟ بل لما ظَهَر من بعض المسلمين اختصاص يوم عيدهم بصومٍ مخالفةً لهم، نهاه الفقهاء، أو (1) كثيرٌ منهم عن ذلك؛ لأجل ما فيه من تعظيم عيدهم، أفلا يُسْتَدل بهذا على أن المسلمين تَلَقَّوا عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- المنعَ من مشاركتهم في أعيادهم؟ وهذا -بعد التأمُّل- بَيِّنٌ جدًّا.

__________

(1) في "الأصل": "و" والتصويب من "الاقتضاء".

(1/87)

________________________________________

الوجه السادس: ما رواه أبو هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "نَحْنُ الآخِرُوْنَ السابِقُونَ يَوْمَ القيامةِ، بَيْد أنَّهم أوتوا الكتابَ من قَبْلِنا وأُوتِيْناه مِنْ بَعْدهم، فهذا يَوْمُهم الذي فَرَضَ اللهُ عَلَيْهم فاخْتَلَفُوا فِيْه فَهَدَانا اللهُ لَه فالناسُ لنا فيه تَبَع، اليهودُ غَدًا والنَّصارى بَعْدَ غَدٍ" متفق عليه (1).

فذكر أن الجمعة لنا، كما أن السبت لليهود، والأحد للنصارى، واللام تقتضي الاختصاص، ثم هذا الكلام يقتضي الاقتسام، كما إذا قيل: هذه ثلاثة غِلمان (2)؛ هذا لي، وهذا لزيد، وهذا لعمروٍ، فإذا نحن شركناهم في يوم السبت أو يوم الأحد = خالفنا هذا الحديث، هذا في العيد الأسبوعي، فكيف في العيد الحولي!؟

وقوله: "بَيْد أنهم أوتوا الكتاب" أي: من أجل. كقوله: "أنا أَفْصَحُ العربِ بَيْد أَنِّي من قُرَيْشٍ" (3).

والمعنى -والله أعلم-: نحن الآخرون في الخَلْق السابقون في الحسابِ والدخولِ إلى الجنةِ، فأوتينا الكتابَ من بعدهم، فهُدِينا لما اختَلفوا فيه من العيد السابق للعيدين الآخرين، وصار عملُنا الصالح قبل عملهم، فلما سبقناهم إلى الهدى والعمل الصالح، جعلنا سابقين لهم في ثواب العمل الصالح.

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (238)، ومسلم رقم (855).

(2) "الاقتضاء": "أثواب" والمقصود التمثيل.

(3) قال السيوطي في "اللآلئ المصنوعة": "لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ، وأورده أصحاب الغريب، ولا يُعْرف له إسناد" اهـ.

وأخرجه ابن سعد في "الطبقات": (1/ 113) بلفظ: "أنا أعْرَبكم ... " من مرسل يحيى بن يزيد السعدي. لكن في سنده الواقدي. وذكره الألباني في "الضعيفة" رقم (1687) وقال: "موضوع".

(1/88)

________________________________________

ومن قال: "بَيْد" بمعنى غير؛ فقد أَبْعَد.

الوجه السابع: ما رُوِي عن أم سلمة أنها قالت: كان رسول الله يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: "إنَّهُما عِيْدٌ للمُشْرِكين فأنا أُحِبُّ أنْ أُخَالِفَهم" رواه أحمد والنسائي (1)، وصححه بعضُ الحفاظ (2).

وهذا نصُّ في شَرْع مخالفتهم في عيدهم، وإن كان على طريق الاستحباب، وسنذكر حديث نهيه عن صوم يوم السبت، وتعليل ذلك -أيضًا- بمخالفتهم، ونذكر حكم صومه عند العلماء، وأنهم متفقون على شَرْع مخالفتهم في عيدهم، وإنما اختلفوا: هل مخالفتهم بالصوم، أو بالإهمال حتى لا يُقْصَد بصومٍ ولا فِطْر، أو يُفرَّق بين العيد العربي والعيد العجمي؟ على ما سنذكره إن شاء الله.

وأما الإجماع والآثار؛ فمن وجوه:

أحدها: ما تقدم التنبيه عليه، من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم، والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائمٌ في كثير من النفوس، ثم لم يكن على عهد السابقين (3) من المسلمين من يشركهم في شيءٍ من ذلك، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهةً ونهيًا، وإلا لوقع ذلك كثيرًا؛ إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم مُنافِيه واقعٌ.

__________

(1) أخرجه أحمد: (6/ 323)، والنسائي في "الكبرى" - كما في "التحفة": (13/ 30).

(2) لعله يقصد الحاكم؛ فقد أخرجه: (1/ 436) وصححه. وفيه نظر.

(3) تحتمل قراءتها: "السالفين" وهي في "الاقتضاء": (1/ 509) كما أثبتُّ.

(1/89)

________________________________________

الثاني: من شروط عمر -رضي الله عنه- التي اتفقت عليها الصحابةُ وسائرُ الفقهاء بعدهم: أن أهل الذِّمة لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وسموا: الشعانين والباعوث (1). فإذا كانوا قد اتفقوا على مَنْعهم من إظهارها، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها مع كونه أشدّ؟!

الوجه الثالث: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني عن عمر أنه قال: "إياكم ورطانة الأعاجم. وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم" (2).

وروى البيهقي (3) بإسنادٍ صحيح عن عُمر: "لا تدخلوا على المشركين يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم".

وعن ابن عمرو (4): "من بني ببلاد الأعاجم فَصَنَع نَيْروزَهم ومِهْرجانَهم وتشبَّه بهم حتى يموت وهو كذلك حُشِرَ معهم" رواه البيهقي (5) بالسند الصحيح.

وعن عمر: "اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم" (6).

وعن عليٍّ -رضي الله عنه-: أنه كره موافقتهم في اسمِ العيد الذي

__________

(1) الشعانين: هو أوَّل أحَدٍ في صومهم، وقيل غير ذلك، "الاقتضاء": (1/ 537).

الباعوث: اسم جنس لما يظهر به الدين، كالفِطْر والأضحى، "الاقتضاء": (1/ 364، 537).

(2) تقدم ص/ 80.

(3) في "الكبرى": (9/ 234)، لكن عطاء بن دينار لم يدرك عمر، فروايته عنه منقطعة.

(4) في "الأصل": "عمر" وهو خطأ.

(5) (9/ 234) عن ابن عَمرو من عدة طرق.

(6) أخرجه البيهقي في "الكبرى": (9/ 234).

(1/90)

________________________________________

ينفردون به (1) ، فكيف بموافقتهم في العمل!

وقد نصَّ أحمدُ على معنى ما جاء عن عُمر وعليٍّ من كراهة موافقتهم في اللغة والعيد.

وتقدم قول القاضي: مسألة في المنع من حضور أعيادِهم (2) .

وقال الإمام أبو الحسن الآمديُّ المعروف بابن البغدادي في كتابه "عمدة الحاضر" (3) : "فصلٌ: لا يجوز شهادة أعياد النصارى واليهود. نصَّ عليه أحمد في رواية مُهَنَّا، واحتجَّ بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}، فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره، نصَّ عليه".

وقال الخلال في "جامعه" (4) : بابٌ في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين. وذكر عن مُهنَّا قال: سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد مثل: طور بابور (5) ، ودير أيوب (6) وأشباهه يشهده المسلمون؟

__________

(1) أخرجه عنه البيهقي في "الكبرى": (9/ 235).

(2) تقدم في المختصر بعض ما ذكره ص/ 81، وانظر "الاقتضاء": (1/ 480).

(3) اسمه: "عمدة الحاضر وكفاية المسافر" لابن البغدادي ت (467) في أربع مجلدات، قال ابن رجب: "کتابٌ جليل يشتمل على فوائد كثيرة نفيسة" اهـ. "ذيل الطبقات": (1/ 9).

(4) (1/ 121).

(5) كذا بالأصل، وكتب فوقها: "كذا"، وقد جاءت هذه الكلمة في نُسخ الاقتضاء، وجامع الخلال على أنحاء شتي - ولعله "دير هارون" انظر "معجم البلدان".

(6) قرية بحوران، قريبة من دمشق. انظر "الخزل والدأل": (1/ 278) لياقوت الحموي.

(1/91)

________________________________________

قال: إذا لم يدخلوا عليهم بِيَعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس".

وأما الرطانة، وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية؛ فقال حَرْب الكرماني (1) : "باب تسمية الشهور بالفارسية". قلت لأحمد: فإن للفرس أيامًا وشهورًا يسمونها بأسماء لا تعرف، فكره ذلك أشد الكراهة.

ورَوَى (2) فيه عن مجاهد أنه كره أن يقال: آذرماه وذي ماه. قلت: فإن كان اسم رجلٍ أسمِّيه به؟ فكرهه.

وكان ابنُ المبارك يكره: ايزدان يحلف به، وقال: لا آمن أن يكون أُضِيف إلى شيءٍ يُعْبَد. وكذلك الأسماء الفارسية.

وقال: وكذلك أسماء العرب، كل شيءٍ مضاف.

قال (3) : وسألتُ إسحاق قلتُ: الرجل يتعلَّم شهور الروم والفرس؟ قال: كل اسمٍ معروفٍ في كلامهم فلا بأس.

فما قاله أحمد له وجهان:

أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم، جازَ أن يكون معني محرَّمًا، فلا يَنْطق المسلم بما لا يَعْرف معناه، ولهذا كُرِهت الرُّقي العجمية بالعبرانية والسريانية أو غيرها خوفًا من أن يكون فيها ما لا يجوز، فإذا عُلِم أن المعنى مكروه فلا ريب في كراهته، وإن جُهِل معناه فأحمد کرهه. وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه.

__________

(1) لعله في مسائله للإمام أحمد.

(2) أي: أحمد.

(3) أي: حرب الكرماني.

(1/92)

________________________________________

والوجه الثاني: كراهة أن يتعوَّد الرجل النُّطقَ بغير العربية، فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميَّزون، ولهذا كَرِه كثير من الفقهاء الدعاءَ والذكرَ بغير العربية.

واختلف الفقهاء في أذكار الصلاة؛ هل تُقال بغير العربية؟ وهي ثلاث درجات: أعلاها: القرآن، ثم: الذكر الواجب غير القرآن کالتحريمة والتسليم والتشهد عند من أوجبه، ثم: الذكر الغير واجب من دعاءٍ و تسبيح وتكبير وغير ذلك.

فالقرآن لا يُقال بغير العربية، سواء قدر عليها أو لا عند الجمهور، وهو الصواب الذي لا ريبَ فيه، بل قال غيرُ واحدٍ: يُمنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز، واختلف أبو حنيفة وأصحابُه في القادر على العربية.

وأما الأذكار الواجبة؛ فاختلف من منع ترجمة القرآن؛ هل يترجمها العاجز عن العربية وعن تعليمها؟ وفيه لأصحاب أحمد وجهان؛ أشبههما بكلام أحمد: أنه لا يُتَرجم، وهو قول مالك وإسحاق.

والثاني: يُتَرجم، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي.

وأما سائر الأذكار؛ فالمنصوص من الوجهين أنه لا يترجمها، ومتي فعلَ؛ بطلت صلاتُه، وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي، والمنصوص عنه: أنه يُكْره بغير العربية ولا يَبطل، ومن أصحابنا من قال: له ذلك إذا لم يُحْسِن العربية.

وحكم النطق بالعجمية في العبادات؛ من الصلاة والقراءة والذكر؛

(1/93)

________________________________________

كالتلبية (1) والتسمية على الذبيحة، وفي العقود والفسوخ؛ کالنكاح واللعان وغيره = معروفٌ.

وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور، [كالتواريخ] (2) ، وغير ذلك؛ فمنهيٌّ عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب، وأما مع العلم به؛ فكلام أحمد بيِّن في كراهيته -أيضًا- فإنه کَرِه: آذرماه ونحوه، ومعناه ليس محرَّمًا.

وأظنه سُئل عن الدعاء بالفارسية، فكرهه وقال: لسان سوءٍ. وهو قول مالك، لنهي عمر عن رطانة الأعاجم. وقال (3) : إنَّها خَبِ (4) .

وكره الشافعيُّ لمن يعرف العربية أن يُسَمِّي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطًا لها بالعجمية، وهذا الذي ذكرناه مأثور (5) عن الصحابة والتابعين.

ورُوِيَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق" رواه السلفي بإسنادٍ معروف إلى أبي سهل [العُكْبَري]، وهو يُشْبه کلام عمر، وأما رفعه فموضع تبيُّن (6) .

__________

(1) في "الأصل": "والتلبية" والمثبت من "الاقتضاء"، وهو المناسب.

(2) في "الأصل": "كالتراويح" سَبْق قلم.

(3) أي: مالك.

(4) أي: خداع، وانظر "المدوَّنة": (1/ 66).

(5) في "الأصل": "موثور".

(6) رواه السلفي بإسنادين -كما في "الاقتضاء": (1/ 523 - 524) - لكن مدارهما على عُمر بن هارون البلخي، وهو متروك.

(1/94)

________________________________________

ونُقِل عن طائفة أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة (1) ، وبالجملة؛ فالكلمة بعد الكلمة أمرها قريب، وأكثر ما كانوا يفعلونه إذا كان المُكَلَّم أعجميًّا يريدون تقريب الفهم على المخاطَب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمِّ خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص -لما كساها خميصة- وقال: "يا أُمَّ خالِدٍ هذا سنا" (2) والسَّنا بالحبشية: الحَسَن.

وأما اعتياد الخطاب بغير العربية حتى يصير عادة؛ فلا ريب أنه مكروه، فإنه من التشبُّه بالأعاجم.

واعلم أن اعتياد اللغة يوثِّر في العقل والخُلُق والدين تأثيرًا قويًّا، حتى يزيد به العقل والخلق والدين لمشابهته سلف الأمة.

وأيضًا: فإن اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض، فإن فَهْم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا بالعربية، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية.

روي ابن أبي شيبة (3) قال: كتب عمر إلى أبي موسى: "أما بعد؛ فتفقَّهوا في السنة، وتفقَّهوا في العربية، وأَعْرِبوا القرآنَ فإنَّه عربي".

وفي حديث آخر عنه: "تعلموا العربية فإنها من دينكم" (4) ، وهذا

__________

(1) وذكر أمثلة في "الاقتضاء".

(2) أخرجه البخاري رقم (5823، 5845) من حديث أم خالد -رضي الله عنها-.

(3) في "المصنَّف": (6/ 116) بسندٍ صحيح.

(4) وبقيته -كما في "الاقتضاء"-: "وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم".

والحث على تعلم الفرائض أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (6/ 116)، والدارمي رقم (2893 - ط. حسين أسد) وفي سنده انقطاع. أما الحث على تعلمها =

(1/95)

________________________________________

الذي أمر به عمر من فقه العربية وفقه السنة (1) يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، فَفِقه العربية هو الطريق إلى فِقْه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله (2).

* * *

فصلٌ (3)

وأما الاعتبار في مسألة العيد؛ فمن وجوه:

أحدها: أن الأعياد من جملة الشرع والمنهاج والمناسك، التي قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 34] کالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبينها في سائر المناسك (4)، فإن الموافقة في جميع العيد؛ موافقةٌ في الكفر، والموافقة في بعض فروعه؛ موافقةٌ في بعض شُعَب الكفر، بل الأعياد من أخص ما تتميَّز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر.

__________

= باللفظ المذكور فلم أجده.

وقد روى ابن أبي شيبة: (6/ 116)، والدارمي رقم (2892) عن عمر أنه قال: "تعلموا الفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن". وسنده صحيح.

واللحن هنا: اللغة.

(1) في "الاقتضاء": "الشريعة".

(2) من قوله: "روي ابن أبي شيبة ... " إلى هنا لحقٌ، وفي آخره: "انتهى من الأصل".

(3) "فصل" ليست في "الاقتضاء": (1/ 528).

(4) كذا في "الأصل"، وفي "الاقتضاء": "المناهج".

(1/96)

________________________________________

ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملةِ بشروطه، وأما مبدؤها؛ فأقل أحواله أن يكون معصيةً، وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار ونحوه من علاماتهم؛ لأن تلك علامات وضْعِيَّة ليست من الدين، وإنما الغرضُ منها مجرَّد التميُّز بين المسلم والكافر.

وأما العيد وتوابعه، فإنه من الدين الملعون هو وأهله، فالموافقة فيه موافقة فيما يتميَّزون به من أسباب سخط الله وعِقابه.

ولك أن تَنْظِم هذا قياسًا تمثيليًّا (1) فتقول: شريعة من شرائع الكفر، أو شعيرة من شعائره، فحرمت موافقتهم فيها كسائر شعائر الكفر وشرائعه، وإن كان هذا أبْيَن من القياس الجُزْئي (2).

ثم كل ما يختص به من عبادة وعادة، إنما سببه كونه يومًا مخصوصًا، وإلا فلو كان كسائر الأيام لم يختص بشيءٍ، وتخصيصُه ليس من دينِ الإسلام في شيءٍ؛ بل کفر به.

الوجه الثاني: أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية الله؛ لأنه إما مُحْدَث وإما منسوخ. وما يتبع ذلك من التوسُّع في الطعام واللباس، والراحة واللعب، فهو تابع لذلك العيد الديني، كما أنه تابع له في دين الإسلام، فهو بمنزلة أن يتخذ بعضُ المسلمين عيدًا مبتدعًا يفعل فيه كما يفعله في العيد المشروع، ومثل من ينصب بِنْيَةً يُطاف بها ويُحَجُّ، ويصنع كذلك طعامًا ونحوه.

__________

(1) هو: الاستدلال بحكم شيءٍ على آخر، من غير أن يكون أحدهما أعم من الآخر.

انظر "البحر المحيط": (5/ 10)، و "مجموع الفتاوي": (9/ 259).

(2) انظر "البحر المحيط": (5/ 72).

(1/97)

________________________________________

ولو فرض أن المسلمَ كَرِه ذلك، لكن غيَّر عادته ذلك اليوم كما يُغيِّر أهل البدع عادتهم في الأمور العادية أو في بعضها، بصنعةِ طعامٍ، وزينةِ لباسٍ (1)، وتوسعةٍ في نفقةٍ، من غير أن يتعبَّد بذلك، ألم يكن هذا من أقبح المنكرات؟! فكذلك موافقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، وأشد.

نعم هؤلاء يُقَرُّون على دينهم المبتَدع والمنسوخ متستِّرين به (2)، والمسلم لا يُقَرُّ على مُبْتَدع ولا منسوخٍ، لا سرًّا ولا علانية، كما لو صلي مسلم إلى بيت المقدس أو ابتدع شيئًا في الدين.

الوجه الثالث: أنه إذا سوِّغ فِعْل القليل من ذلك، أدى إلى فعل الكثير، ثم الشيء إذا اشتهر دخلَ فيه عموم الناس وتناسَوا أصله، حتى يصير عادة للناس، بل عيدًا، حتى يُضاهَي بعيدِ الله تعالي؛ بل قد يزاد عليه حتى يكاد يُفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر، كما قد سوَّله الشيطان -ممن يدعي الإسلام- فيما يفعلونه في آخر صوم النصارى من الهدايا والأفراح والنفقات والكسوة وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين، بل البلاد المُصاقِبة (3) للنصارى، قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله، على ما حدثني به الثقات.

وهذا الخميس الذي يكون في آخر صوم النصارى يدور بدوران صومهم الذي هو سبعة أسابيع. وصومُهم وإن كان في أول الفصل الذي تسمية العربُ: "الصيف"، وتسمِّيه العامة: "الربيع"، فإنه يتقدم ويَتأخَّر

__________

(1) في "الاقتضاء": "وزينة ولباس".

(2) كذا بالأصل، وفي "الاقتضاء": "مُسْتسرين به".

(3) أي: القريبة الموالية لها.

(1/98)

________________________________________

ليس له حدٌّ واحد من السنة الشمسية، كالخميس الذي في أول نيسان، بل يدور في نحو ثلاثة وثلاثين يومًا، لا يتقدم أوله ثاني شباط (1)، ولا يتأخر أوله عن ثامن آذار، بل يبتدئون بالاثنين الذي هو أقرب إلى اجتماع الشمس والقمر في هذه المدة، زعموا أنهم يراعون التوقيت الشمسي والهلالي، وكلُّ ذلك بدع أحدثوها باتفاقٍ منهم، خالفوا بها الشريعة التي جاءت بها الأنبياء، فإن الأنبياء وقَّتوا العبادات بالهلال.

ويلي هذا الخميس يوم الجمعة، جعلوه بإزاء يوم الجمعة التي صُلِب فيه المسيح على زعمهم الكاذب، يسمُّونها: "جمعة الصلبوت"، ويليه ليلة السبت يسمُّونها: "ليلة النور" و "سَبْت النور"، يزعمون أن المسيح كان فيها في القبر، ويصطنعون مَخْرَقةً يروِّجونها على عامَّتهم، يخيلون إليهم أن النور ينزل من السماء في كنيسة القمامة (2) بالقدس، حتى يحملوا ما يوقد من ذلك إلى بلادهم متبرِّکين به، وقد علمَ كلُّ عاقل أنهم يصنعون ذلك وأنه مُفْتَعل.

ثم يوم الأحد يزعمون أن المسيح قام فيه، ثم الأحد الذي يلي هذا يسمونه: "الأحد الحديث"، يلبسون فيه الجُدُدَ من ثيابهم.

وهم يصومون عن الدَّسَم ويفطرون على ما يخرج من الحيوان؛ من لبنٍ أو بيض، ويفعلون أشياء لا تنضبط؛ ولهذا تجد نقل العلماء لمقالاتهم وشرائعهم يختلف وعامته صحيح، وذلك أن القوم يزعمون أن ما وضعه رؤساؤهم من الأحبار والرهبان: أنه من الدين ويلزمهم

__________

(1) في "الأصل": "اسباط" والمثبت من "الاقتضاء".

(2) هي أعظم كنائسهم ببيت المقدس، انظر "معجم البلدان": (4/ 396).

(1/99)

________________________________________

حكمه ويصير شرعًا شَرَعه المسيح في السماء، فهم في كل مدةٍ ينسخون أشياء ويشرعون أشياء، زعمًا أن هذا بمنزلة نسخ الله شريعةً بشريعةٍ، فهم عكس اليهود، هؤلاء يجوِّزون لأحبارهم النسخ، واليهود لا يجوِّزون أن ينسخ اللهُ الشرائع، فلذلك لا تنضبط للنصارى شريعةً تُحْكَي على الأزمان.

وغَرضنا لا يتوقف على تفصيل باطلهم، بل يكفينا أن نعرف المنكر معرفةً تميِّز بينه وبين المباح والمعروف، والمستحب والواجب، حتى نتمكَّن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما نعرف سائر المحرمات، إذ الفَرْض علينا تركها، ومن لم يعرف المنكر جملةً وتفصيلًا (1) لم يتمكَّن من قصد اجتنابه، والمعرفة الجُملِيَّة كافية بخلاف الواجبات، فإنه لما كان الغَرَض فعلها، والفعلُ لا يتأتَّى إلا مفصَّلًا، وجبت معرفتها على سبيل التفصيل.

وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم، لما رأيتُ طوائفَ من المسلمين قد ابتليَ ببعضها، وجَهِل كثيرٌ منهم أنها من دين النصارى الملعونِ هو وأهلُه.

وقد بلغني أنهم يَخْرجون في الخميس الذي قبل هذا، أو يوم السبت، أو غير ذلك إلى القبور يبخِّرونها، وكذلك ينحرون، ويعتقدون أن في البخور بركة ودفع أذى وراءَ كونه (2) طِيبًا، ويعدُّونه من القرابين مثل الذبائح، ويزفُّونه بنحاسٍ يضربونه كأنه ناقوس صغير، وبكلامٍ

__________

(1) كذا بالأصل، وفي "الاقتضاء": "جملة ولا تفصيلًا" وهو أصح في المعنى.

(2) في "الأصل": "كونها". والصحيح المثبت؛ لأن الضمير عائد إلى البخور.

(1/100)

________________________________________

مصنَّف، ويصلبون على أبواب بيوتهم، إلى غير ذلك من الأمور المنكرة، ولستُ أعلمُ جميعَ ما يفعلونه [وإنما ذكرت ما رأيت كثيرًا من المسلمين يفعلونه] (1) وأصله مأخوذ عنهم، حتى كان (2) في مدة الخميس تبقى الأسواق مملوءة من أصوات هذه النواقيس الصغار، وكلام الرقَّائين من المنجِّمين وغيرهم بكلامٍ أكثره باطل، وفيه ما هو محرَّمٌ أو كفر.

وقد ظنَّ كثير من العامة (3) والجهَّال أن هذا البخور فيه نَفْع من العين والسحر والأدواء والهوام، ويصوِّرون في أوراق صور الحيَّات والعقارب، ويُلْصِقونها في بيوتهم؛ زعمًا أنها تمنع الهوام، وهو ضربٌ من طلاسم الصابئة.

ويُسمُّون الخميس المتأخِّر: "الكبير"، وهو عند الله: الحقيرُ المهيْنُ هو وأهله ومن يُعظِّمه، فإن كلَّ ما عُظِّم بالباطل من مكان أو زمان، أو شجر أو حَجَر يجبُ قَصْد إهانته كما تُهان الأوثان.

ومن المنكرات: أنهم قد يوظِّفون على الفلَّاحين وظائف أكثرها کرهًا، من الغنم والدجاج واللبن والبيض، فيجتمع فيها تحريمان: أكل مالٍ بالباطل، وإقامة شعائر النصارى، ويجعلونه ميقاتًا لإخراج الوكلاء على المزارع، ويطبخون فيه، ويصطبغون (4) البَيْض، ويوسِّعون النفقة،

__________

(1) زيادة لازمة ليستقيم السياق.

(2) كذا في الأصل وبعض نسخ الاقتضاء، وفي بعضها: "حتى إنه كان".

(3) قال في "الاقتضاء": (1/ 535): "وأعني بالعامة: كل من لا يعلم حقيقة الإسلام". يعني: وإن كان منتسبًا إلى علم ودين. كما صرَّح بذلك.

(4) كذا بالأصل، وفي بعض نسخ "الاقتضاء": "ويصنعون"، وفي المطبوعة: "ويصبغون فيه البيض".

(1/101)

________________________________________

ويزيِّنون أولادَهم، إلى غير ذلك من الأمور المنكرة التي يقشعِرُّ منها قلب المؤمن الذي لم يَمُت قلبه، بل يعرف المعروف ويُنْكر المنكر.

وخَلْقٌ يضعون ثيابهم تحت السماء، رجاء بركة مرور مريم عليها، فهل يستريب من في قلبه حياةٌ أن شريعةً جاءت بما قدمنا بعضَه من مخالفة اليهود والنصارى، لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح؟!

وأصل ذلك كلِّه: إنما هو اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد، أو مشابهتهم في بعض أمورهم، حتى آل الأمرُ إلى أن كثيرًا من الناس صاروا في مثل هذا الخميس، الذي هو عيد الكفار الذي يزعمون أن المائدةَ نزلت فيه، ويسمُّونه: "العيد الكبير" وهو الحقير = يجتمعون في أماكنَ اجتماعاتٍ عظيمة، ويطبخون ويصبغون ويلبسون وينكتون بالحمرةِ دوابَّهم، يفعلون أشياءَ لا تكادُ تُفْعَل في عيد الله ورسوله.

واستعان الشيطانُ في إغوائهم أنه زمنُ ربيعٍ يكثُر فيه اللحم واللبن والبيض ونحو ذلك، وهذا كله تصديق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لتتبعنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ" (1) . وسببُه: مشابهة الكفار في أعيادهم أو في بعض ذلك، وهو مُفْضٍ إلى الكثير، فيكون ذريعةً إلى هذا المحظور العظيم، فيكون محرمًا، فكيف إذا أفضى إلى ما هو كفر؟! من التبرُّك بالصليب، والتعميد في المعمودية، أو قول القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمَّن إما كون الشريعة النصرانية واليهودية موصلتين إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دينَ الله، أو التديُّن بذلك، أو غير ذلك مما

__________

(1) تقدم الحديث ص/ 21.

(1/102)

________________________________________

هو كفر بالله ورسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلافٍ بين الأمة الوسط في ذلك.

وأصلُ ذلك: المشابهةُ والمشاركةُ، وبهذا يتبيَّن لك كمالُ الشريعة الحنيفية، وبعض حكمة ما شرعه الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم، لتكون المخالفة أحْسَم لمادة الشرِّ، وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس، وسدُّ الذرائع معتَبَر في الشرع، كما قد ذكرنا من الشواهد على ذلك نحوًا من ثلاثين أصلًا في كتاب "إبطال التحليل" (1).

الوجه الرابع: أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق، كانتفاعهم بالصلاة والزكاة، ولهذا جاءت بها كلُّ شريعة، كما قال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} [الحج: 34].

ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه، وهو الكمال المذكور في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] قاله في أعظم الأعياد الذي للأمة الحنيفية.

والشرائع هي غذاء القلوب وقُوْتُها، ومن شأن الجَسَد إذا كان جائعًا فأخذ من طعامٍ حاجتَه استغني عن طعامٍ آخر حتى لا يأكله -إن أكل منه- إلا بكراهة، وربما ضرَّه أكلُه أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذِّي له. فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال الشرعية بعضَ حاجته، قلَّت رغبتُه في المشروع وانتفاعُه به، بقدر ما اعتاضَ من غيره، بخلاف من صرفَ

__________

(1) (ص/ 353 - 372).

(1/103)

________________________________________

نهمتَه وهِمَّتَه إلى المشروع، فإنه تَعْظُم محبتُه له ونفعُه به، ويتم دينُه ويكمل إسلامُه.

ولهذا تجد من أكثر من سَماع القصائد لأجل صلاح قلبه، تنقصُ رغبتُه في سماع القرآن، حتى ربما كَرِهَه. ومن أكثر من السَّفَر إلى المشاهد ونحوها لا يبقى لحجِّ البيتِ في قلبه من المحبَّة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعتْهُ السنةُ. ومَن أدمن على أخذ الحكمة والأدب من كلام حكماء فارسَ والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام في قلبه ذاك الموقع. ومَن أدْمَن قصص الملوك، لا يبقى لقصص الأنبياء عنده موقع، وهذا كثير يجده الإنسان من نفسه حِسًّا وذَوْقًا، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما ابتدعَ قومٌ بدعةً إلا نَزَعَ اللهُ عَنْهم من السُّنةِ مثْلَها" رواه أحمد (1).

ولقد عظَّمت الشريعةُ النكيرَ على من أحدَث بدعةً؛ لما فيها من فساد الدين ونقص تعظيمه في القلوب.

الوجه الخامس: أن مشابهتهم فيه سرورٌ لهم بما هم عليه من الباطل، خصوصًا إذا كانوا مقهورين تحت الجِزْية والصَّغار، فإذا رأوا المسلمين قد صاروا فَرْعًا لهم في خصائص دينهم، أوجبَ ذلك قوَّةَ قلوبهم وانشراحَ صدورهم، وربما أَطْمَعَهم ذلك [في] انتهاز الفُرَص، واستذلال الضعفاء، وهذا أمرٌ محسوس يجده كلُّ أحدٍ، فكيف يجتمع ما يوجبُ إكرامهم بلا موجب مع شرع الصَّغار في حقِّهم؟!

__________

(1) في "المسند": (28/ 172 رقم 16970) وغيره، من حديث غُضَيف بن الحارث الثمالي -رضي الله عنه- اختلف في صحبته، والجمهور على أنه صحابي.

وجَوَّد سنده الحافظ في "الفتح": (13/ 267)؛ لكن فيه أبا بكر بن أبي مريم فيه ضعف.

(1/104)

________________________________________

الوجه السادس: أن ما يفعلونه في عيدهم فيه ما هو حرام، وما هو كفر، وما هو مُباح، لو تجرَّد عن مفسدة المشابهة، ثم التمييز بين هذا وهذا قد يخفى على كثير من الناس، فالمشابهة فيما لم يظهر تحريمه [للعالم] (1) يوقع العاميَّ فيما هو حرام.

الوجه السابع: أن الله جَبَلَ بني آدم، بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابِهَيْن، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتمَّ، إلى أن يؤول الأمرُ إلى أن لا يتميَّز أحدهما عن الآخر.

ولهذا وقع التأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاقَ بعضٍ بالمعاشرة والمشاكلة، وكذلك الآدميُّ إذا عاشَر نوعًا من الحيوان اكتسبَ بعضَ أخلاقه، ولهذا صار الفخر والخُيَلاء في أهل الإبل، وصارت السكينةُ في أهل الغنم، وصار الجمَّالون والبغَّالون فيهم أخلاق مذمومة، وكذلك الكلَّابون، وصار في الحيوان الإنسيِّ بعضُ أخلاقِ الناس وقلة النُّفْرة، فالمشابهة في الأمور الظاهرة توجب المشابهة في الأمور الباطنة، على وجه المُسَارقة والتدريج الخفي.

والمشاركةُ في الهدي الظاهر توجب مناسبةً وائتلافًا وإن بَعُد المكان والزمان، فمشاركتهم في أعيادهم توجب نوعًا من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مَظِنَّةً لفسادِ أمرٍ (2) خفيٍّ، عُلِّق الحكم به وأُدِيْر التحريم عليه.

__________

(1) زيادة من "الاقتضاء".

(2) كذا بالأصل بزيادة "أمر" وفي المطبوعة بدونه، وهو أولى.

(1/105)

________________________________________

الوجه الثامن: أن المشابهة في الظاهر توجِبُ (1) نوع محبةٍ ومودَّةٍ وموالاة الباطن، كما أن المحبَّة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واجتمعا في بلد غربةٍ، كان بينهما من المودَّة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مِصْرهما (2) غير متوادَّيْن أو متعارِفَيْن؛ لأن الاشتراك في البلد فيه نوع اختصاص عن بلد الغربة.

بل لو كان بين الرجلين مشابهة في العمامة أو اللبسة (3) أو المركوب؛ لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما. وكذلك أربابُ الصناعات، تجد بينهم المؤالفة والموافقة إذا كانوا من نوعٍ واحدٍ أكثر مما بين من يُباينهم من الملوك أو الأمراء مثلًا.

هذا في الأمور الدنيوية فكيف بالأمور الدينيَّة؟! فإن إفضاءها إلى نوعٍ من الموالاة أشدّ، والموالاةُ لأعداء الله تُنافي الإيمان، فإن الإيمان بالله ورسوله يوجب عدم ولاية أعداء الله ورسوله، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم، {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]. والمشابهة الظاهرة مظنة الموادَّة، فتكون محرَّمة، ووجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة، فلنقتصر على ما نبَّهنا عليه، ففيه كفاية إن شاء الله تعالى، وبالله المستعان.

* * *

__________

(1) في هامش الأصل: "تورث" وهو كذلك في "الاقتضاء".

(2) في "الأصل": "مصرهم" والمثبت أصح.

(3) في "الاقتضاء": "الثياب".

(1/106)

________________________________________

فصلٌ (1)

مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان:

أحدهما: مع العلم بأن هذا العمل هو من خصائص دينهم، فهذا إما أن يُفْعَل بمجرَّد موافقتهم وهو قليل، وإما لشهوة، تتعلَّق بذلك العمل، وإما لشبهةٍ فيه تُخَيِّل أنه نافع في الدنيا أو في الآخرة، وكلُّ هذا لا شكَّ في تحريمه، لكن يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر، وقد يصير كفرًا بحسب الأدلة الشرعية.

وإما عَمَلٌ لم يعلم الفاعلُ أنه من عملهم، فهو نوعان:

أحدهما: ما كان في الأصل مأخوذًا عنهم؛ إما على الوجه الذي يفعلونه، وإما مع نوع تغيير الزمان أو المكان أو الفعل ونحو ذلك، فهذا غالب ما يُبتلى به العامة، في مثل ما يصنعونه في الخميس "الحقير" والميلاد ونحوهما، فإنهم قد نشأوا على اعتياد ذلك، وتلقَّاه الأبناءُ عن الآباءِ وأكثرهم لا يعلمون مبدأ ذلك، فهذا يُعرَّف صاحبه حكمه، فإن لم ينته وإلا صار من القسم الأول.

النوع الثاني: ما ليس في الأصل مأخوذًا عنهم؛ لكونهم يفعلونه أيضًا، فهذا ليس فيه محذور المشابهة، ولكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة، فتتوقف کراهةُ ذلك وتحريمه على دليل شرعي وراء كونه [من] (2) مشابهتهم، إذ ليس كوننا تشبَّهنا بهم بأولي من كونهم تشبَّهوا بنا.

__________

(1) "الاقتضاء": (1/ 552).

(2) زيادة لا بد منها من "الاقتضاء".

(1/107)

________________________________________

أما استحباب تركه لمصلحة المخالفة إذا لم يكن في ترکه ضررٌ؛ فظاهر (1)؛ لما تقدم من المخالفة. وهذا قد توجِبُ الشريعةُ مخالفتهم فيه، وقد توجب عليهم مخالفتنا، كما في الزِّيِّ ونحوه، وقد يُقْتَصَر على الاستحباب كما في صَبْغ اللحية والصلاة في النعلين والسحور (2). وقد تبلغ الكراهة، كما في تأخير المغرب والفطور.

بخلاف مشابهتهم فيما كان مأخوذًا عنهم، فإن الأصل فيه التحريم لما قدمناه.

فصلٌ (3)

ليُعْلَم أن العيد اسم جنسٍ يدخُل فيه كل يومٍ أو مكان لهم فيه اجتماع، وكلُّ عملٍ يُحْدِثونه في هذه الأمكنة والأزمنة، فليس النهيُ عن خصوص أعيادهم، بل كل ما يُعَظِّمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام، وما يُحْدِثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك.

وكذلك حريم العيد، وهو ما قبلَه وما بعدَه من الأيام التي يُحْدِثون فيها أشياء لأجله، أو ما حوله من الأمكنة التي يحدث فيها أشياء لأجله، أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال حكمُها حكمُه، فلا يُفْعَل شيءٌ من ذلك، فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم، کيوم الخميس والميلاد، ويقول لعياله: أنا (4) أصنع لكم

__________

(1) وقع في "الأصل": "فظار"! وهو سبق قلم.

(2) وقع في "الاقتضاء": "السجود" وهو خطأ.

(3) "الاقتضاء": (2/ 5).

(4) في "الاقتضاء": "إنما"، وما في المختصر أصح.

(1/108)

________________________________________

هذا في الأسبوع أو الشهر الآخر، وإنما المحرِّك على وجود ذلك هو وجود عيدهم، ولولا هو لم يقتضوا ذلك، فهذا أيضًا من مقتضيات المشابهة.

لكن يُحال الأهلُ على عيدِ الله تعالى ورسوله، ويقضي لهم فيه من الحقوق ما يقطع استشرافَهم إلى غيره، فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوَّة إلا بالله! ومن أغضَبَ أهلَه لله أرضاه الله وأرضاهم.

وليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك، ففي "الصحيحين" (1) عن أُسامة بن زيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما تركتُ بَعْدِي فتنةً أضرَّ على الرِّجالِ من النِّساءِ".

وأكثر ما يُفسد المُلْكَ والدولَ طاعةُ النساء، وفي "صحيح البخاري" (2) عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا (3) أفْلَحَ قَوْمٌ ولَّوا أَمْرَهُم امْرأة"، ورُوِيَ: "هَلَكَتِ الرِّجالُ حِيْنَ أَطاعَتِ النِّساءَ" (4).

ولما أنشده الأعشى (5):

* وهنَّ شَرُّ غالبٍ لمن غَلَبْ *

__________

(1) البخاري رقم (5096)، ومسلم رقم (2740).

(2) رقم (7099).

(3) كذا بالأصل ونُسخ "الاقتضاء"، والذي في الصحيح: "لن".

(4) أخرجه أحمد: (34/ 106 رقم 20455)، والحاكم: (4/ 291) -واللفظ له- وغيرهم من طرق عن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن جده الحديث.

وبكار أكثر النقاد على تضعيفه.

(5) هو: عبد الله بن الأعور الحرمازي المازني. انظر "أسد الغابة": (1/ 122).

(1/109)

________________________________________

جعلَ -صلى الله عليه وسلم- يُردِّدها ويقول: "وَهنَّ شَرُّ غالبٍ لمن غَلَبْ" (1). وقال لأمهات المؤمنين: "إنكنَّ لأنْتُنَّ (2) صَوَاحِبُ يُوْسُفَ" (3) يريد: أن النساء من شأنهنَّ مراجعة ذي اللب.

وامتنَّ -سبحانه- على زكريا بقوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90]، قال بعض العلماء: ينبغي للرجل أن يبتهل (4) إلى الله في إصلاح زوجِه.

فصلٌ (5)

أعياد (6) الكفَّار كثيرة مختلفة، وليس على المسلم أن يبحث عنها، ولا يعرفها، بل يكفيه أن يعرف في فعل من الأفعال، أو يوم [من] (7) الأيام، أو مكان = أنَّ سببَ هذا الفعل، وتعظيمَ هذا المكان أو الزمان من جهتهم، ولو لم يعرف أن سببه من جِهَتهم، فيكفيه أن يعلم أن لا أصل له في دين الإسلام، أقل أحواله أن يكون من البدع (8).

__________

(1) أخرجه أحمد: (11/ 477 رقم 6885) من حديث الأعشى، وفي سنده ضَعْف.

(2) غير بيِّنة في "الأصل".

(3) أخرجه البخاري رقم (3384) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(4) كذا، وفي "الاقتضاء": "يجتهد".

(5) "الاقتضاء": (2/ 9).

(6) في "الأصل": "اعتقادات" وفي الهامش أُصلحت إلى "أعياد" وهو كذلك في "الاقتضاء".

(7) زيادة لا بد منها.

(8) لأنه إما أن يكون أحدثه بعض الناس، أو يكون مأخوذًا عنهم.

(1/110)

________________________________________

ونحن نُنَبِّه على ما رأينا كثيرًا من الناس قد وقعوا فيه:

فمن ذلك: "الخميس الحقير" الذي في آخر صومهم، يزعمون أنه عيد المائدة، هو عيدهم الأكبر، فجميع ما يحدثه الإنسان فيه هو من المنكرات القبيحة.

فمنه: خروج النساء، وتبخير القبور، ووضع الثياب على السطح، وكتابة الورق وإلصاقها بالأبواب، واتخاذه موسمًا (1) لبيع البخور وشرائه، وكذلك شراء البخور في ذلك الوقت إذ (2) اتُّخِذَ وقتًا للبيع، ورُقي البخور مُطْلقًا فيه وفي غيره، أو قصد شراء البخور المَرْقِيّ، فإن رقي البخور واتخاذ البخور قربانًا هو دين النصارى، وإنما البخور طِيْبٌ يُتطيَّب بدخانه، ويُستحب التبحُّر حيث يُستحب التطيُّب.

وكذلك اختصاصه بطبخ رُز بلبن أو بَسِيْسة (3) أو عدس أو صَبْغِ بيضٍ ونحوه، أما القمار بالبيض أو بيعه لمن يُقامر فيه، وشراؤه من المتقامرين؛ فحكمه ظاهر.

ومن ذلك: ما يفعله الأكَّارون (4) من نَكْت البقر بالنُّقَط الحُمْر، أو الشجر، أو جمع أنواع النباتات والتبرُّك بها، أو الاغتسال بمائها. ومن ذلك: ما قد يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون والاغتسال بمائه، أو قصد الاغتسال في شيء من ذلك. ومن ذلك: ترك الوظائف الراتبة من

__________

(1) في "الأصل": "موسومًا" سبق قلم.

(2) في "الأصل": "إذا" والمثبت من "الاقتضاء".

(3) البَسِيْسَة: هو أن يُلَتّ السويق أو الدقيق أو الإقط المطحون بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ "مختار الصحاح: 52".

(4) هم الفلاحون.

(1/111)

________________________________________

الصنائع والتجارات، أو حِلَق العلم أو غير ذلك، واتخاذه يوم راحةٍ وفَرَح، واللعب فيه بالخيل أو غيرها على وجهٍ يخالف ما قبله وما بعده من الأيام.

والضابط لذلك: أنه لا يُحْدَث فيه أمر (1) أصلًا، بل يُجعل يومًا كسائر الأيام.

ومن ذلك: ما يفعله كثير من الناس في أثناء "كانون الثاني" لأربعٍ وعشرين خلت منه، يزعمون أنه ميلاد عيسي -عليه السلام- فجميع ما يحدث فيه هو من المنكرات، مثل: إيقاد النيران، وإحداث طعامٍ، واصطناع شَمْعٍ، وغير ذلك، فإن اتخاذ هذا الميلاد عيدًا هو من دين النصارى، ليس لذلك أصلٌ في دين الإسلام، ولم يكن له أصل على عهد السلف الماضين، وانضمَّ إليه سبب طبيعي، وهو كونه في الشتاء المناسب لإيقاد النيران.

ثم إن النصارى تزعم أنه بعد الميلاد بأيام -أظنُّها أحد عشر- عمَّد يحيى لعيسى في ماء المعموديَّة، فيتعمَّدون في هذا الوقت ويسمونه: "عيد الغَطَّاس"، وقد صار كثير من جُهَّال النساء يُدْخِلون أولادهنَّ إلى الحمام في هذا الوقت، ويزعمون أن هذا ينفع الولد، وهذا من دين النصارى، وهو من أقبح المنكرات المحرَّمة.

وكذلك أعياد الفُرْس، مثل النيروز والمِهْرَجان، وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار أو الأعاجم أو الأعراب، حكمها كلها ما ذكرناه من قبلُ.

__________

(1) في "الأصل": "أمرًا" ويصح إذا بُني الفعل "يحدث" للمعلوم ولكن الأصح بناؤه للمجهول كما في "أصله".

(1/112)

________________________________________

فصلٌ (1)

وكما لا يُتَشَبَّه بهم في الأعياد، فلا يُعَان المسلم المتشبِّه بهم في ذلك، بل يُنهى عن ذلك، فمن صنع دعوةً مخالفة للعادة في أعيادهم لم يُجَب، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفةً للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تُقبل هديتُه، خصوصًا إن كانت الهدية مما يُسْتَعانُ بها على التشبُّه بهم، مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد، والبيض واللبن والغنم في الخميس الذي في آخر صومهم.

وكذلك لا يُهدي لأحدٍ من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد، لا سيما إذا كان مما يُستعان به على التشبُّه بهم كما ذكرنا.

ولا يُبايع (2) المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللِّباس ونحوه؛ لأنه إعانة على المنكر. أما مبايعتهم ما يستعينون هم به على عيدهم للشراء فيها؛ فقد قدَّمنا أنه قيل لأحمد: هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل: طور بابور (3) ودير أيوب يشهده المسلمون، يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الغنمَ والبقرَ والدقيقَ والبُرَّ، إلا أنه إنما يكون في الأسواق ولا يدخلون عليهم بِيَعهم وإنما يشهدون السوق؟ [قال: إذا لم يدخلوا عليهم بِيَعَهم وإنما يشهدون السوق] (4) فلا بأس (5).

__________

(1) "فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 12).

(2) كذا بالأصل وبعض نسخ "الاقتضاء"، وفي بعضها "يبيع".

(3) تقدم ص/ 92 ما في الكلمة من إشكال.

(4) ما بين المعكوفين من "الجامع" للخلال و "الاقتضاء".

(5) أخرجه الخلال في "الجامع - أهل الملل": (1/ 123).

(1/113)

________________________________________

وقال أبو الحسن الآمديُّ: فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم؛ فلا بأس بحضوره، نصَّ عليه أحمد في رواية مُهنَّا، قال: إنما يُمنعون أن يدخلوا عليهم بِيَعَهم وكنائِسَهم، وإن قصدوا إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم (1) ، فأما ما يُباع في الأسواق فلا.

فهذا الكلام محتمل أنه أجاز شهود السوق مطلقًا بائعًا ومشتريًا؛ لأنه قال: "إذا لم يدخلوا عليهم بِيَعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس"، وهذا يعم لا سيما إن كان الضمير في قوله "يجلبون" عائدًا إلى المسلمين.

ويُحْتَمل -وهو أقوى- أنه إنما أرخص في شهود السوق فقط، ورخَّص في الشراء منهم (2) ولم يتعرَّض للبيع منهم؛ لأن السائل هو مُهنَّا وهو فقيه عالم، وكأنه قد سمعَ النهيَ عن شهود أعيادهم، فسأل أحمد: شهودُ أسواقِهم مثل شهود أعيادهم؟ فأجابه أحمد بالرخصة في شهود السوق، ولم يسأله عن بيع المسلم لهم، إما لظهوره عنده، وإما لعدم الحاجة إليه حينئذٍ.

وكلام الآمدي يحتمل الوجهين، لكن الأظهر فيه الرُّخصة في البيع أيضًا، لقوله: "إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بِيَعهم وكنائسهم ... " إلى آخره.

فما أشار إليه أحمد من جواز شهود السوق فقط للشرَّاء فيجوز؛

__________

(1) من قوله: "وإن قصدوا ... " لحق في هامش النسخة، ومكانه في "الاقتضاء" بعد قوله: "فأما ما يباع في الأسواق فلا".

(2) في "الأصل": "منه" والتصويب من "الاقتضاء".

(1/114)

________________________________________

لأن ذلك ليس فيه شهود المنكر ولا إعانة على معصية؛ لأن نفس الابتياع منهم جائز، بل فيه صرف لما قد يبتاعونه لعيدهم عنهم، فيكون فيه تقليل الشرِّ، وقد كانت أسواق في الجاهلية يشهدها المسلمون، وشهد بعضَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

وهذا كما لو سافر الرجلُ إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دلَّ عليه حديث تجارة أبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه- في حياة رسولِ الله إلى أرض الشام وهي دارُ حربٍ (1) ، وأحاديثُ أُخَر.

وأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحوه، وإهداء ذلك لهم؛ فهذا فيه نوع إعانةٍ على إقامة دينهم وعيدهم المحرَّم، وهو مبنيٌّ على أصلٍ وهو: أن بيع الكفار عنبًا أو عصيرًا يتخذونه خمرًا لا يجوز، وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحًا يقاتلون به مسلمًا.

وقد دلَّ حديث عمر في إهداء الحُلَّة السيراء إلى أخٍ له بمكة مشرك (2) ، على جواز بيعهم الحرير، لكن الحرير مباحٌ في الجملة، وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين، ولهذا جاز التداوي به في أصحِّ الروايتين، ولم يجز بالخمر بحالٍ، وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه.

فهذا الأصل فيه اشتباه، فإن قيل بالاحتمال الأول في كلام أحمد؛

__________

(1) انظر "تاريخ الإسلام - الخلفاء": (ص/ 117).

(2) أخرجه البخاري رقم (886)، ومسلم رقم (2068) من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.

(1/115)

________________________________________

جوِّز ذلك. وعن أحمد في جواز حمل التجارة إلى أرض الحرب روايتان منصوصتان، فقد يقال: بيعها لهم في العيد كحملها إلى دار الحرب؛ لأن في حمل الثياب والطعام إلى أرض الحرب إعانة على دينهم في الجملة، وإذا منعنا منها إلى أرض الحرب قال: العيد أَوْلى، وأكثر أصوله ونصوصه تقتضي المنع من ذلك؛ لكن هل هو منع تحريم أو تنزيه؟ مبنيٌّ على ما سيأتي.

وقد ذكر عبد الملك بن حبيب (1) أنه مما أُجْمع على كراهته، وصرَّح بأن مذهب مالك أنه حرام، وقال: "کره مالك أكل ما ذَبَح النصارى لكنائسهم، ونهي عنه من غير تحريم"، قال: "وكذلك ما ذُبِح على اسم المسيح أو الصليب، أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم الذين يُعظَّمُون، فقد كان مالك وغيره ممن يُقتدي بهم يكره أكل هذا كله من ذبائحهم، وبه نأخذ" (2) .

قال: وقد كان رجالٌ من العلماء يَسْتَخِفُّون ذلك (3) .

وسُئل مالكٌ عن الطعام الذي يصنعه النصارى لموتاهم يتصدقون به، أيأكل منه المسلم؟ قال: لا ينبغي هو كالذبائح للعيد والكنائس.

وسُئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيءٍ يُبَاع من ملكه للكنيسة، هل يجوز للمسلم شراؤه؟ فقال: "لا يحل ذلك له؛ لأنه تعظيم لشرائعهم ومُشْتريه مسلم سوءٍ".

__________

(1) القرطبي المالكي ت (238).

(2) في كتابه "الواضحة" في الفقه المالكي -كما صرح به في أصله-.

(3) كذا بالأصل، وفي مطبوعة الاقتضاء: بذلك. وما في المختصر أصح.

(1/116)

________________________________________

وقال ابن القاسم في الأُسْقُف يبيع أرض الكنيسة لمرَمَّتها (1)، وربما حُبِسَت تلك الأرض على الكنيسة لمصلحتها: إنه لا يحل للمسلم أن يشتريها؛ لأنه عون على تعظيم الكنائس، ولأنه حَبْس، ولا يجوز لهم في أحباسهم إلا ما يجوز للمسلمين، ولا أرى لحاكم المسلمين أن يَعْرض فيها بمنعٍ ولا تنفيذ بشيءٍ.

ولا أرى للمسلم أن يهدي إلى النصراني في عيده مكافأةً له، ورآه (2) من تعظيم عيده، وعونًا له على مصلحة كفره، ألا ترى أنه لا يحل للمسلم أن يبيع من النصارى شيئًا من مصلحة عيدهم؛ لا لحمًا ولا أُدْمًا ولا ثوبًا، ولا يُعَارون دابةً ولا يُعَانون على شيءٍ من عيدهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره، لم أعلمه اختلف فيه". هذا كلام ابن حبيب.

وقد ذكر أنه أُجْمع على كراهة مبايعتهم ومهاداتهم ما يستعينون على عيدهم، وصرَّح بأنَّ مذهب مالك: لا يحل ذلك.

فصلٌ (3)

وأما نصوص أحمد على ذلك؛ فقال إسحاق بن إبراهيم (4): سُئل أبو عبد الله عن نصارى وقفوا ضيعةً للبيعة، يَسْتأجِرها المسلمُ منهم؟ فقال: لا يأخذها بشيءٍ، لا يُعينهم على ما هم فيه.

__________

(1) أي: لترميمها وإصلاحها.

(2) في "الأصل": "وأراه" والمثبت في أصله.

(3) "فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 20).

(4) "مسائل ابن هانيء": (2/ 29).

(1/117)

________________________________________

قال (1) : وسمعتُ أبا عبد الله -وسأله رجلٌ-: أَبْنِي للمجوسٍ ناووسًا (2) ؟ قال: لا تَبْن لهم، ولا تعينهم (3) على ما هم فيه.

ونقلَ عنه محمد بن الحكم (4) . -وسأله رجلٌ-: المسلم يحفر لأهل الذِّمة قبرًا بكراءٍ؟ قال: لا بأس به. والفرقُ بينهما: أن الناووس من خصائص دينهم الباطل، کالكنيسة، بخلاف القبر المطلق، فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم.

وقال الخلَّال (5) : "باب الرجل يؤاجِر دارَه الذِمِّي أو يبيعها منه" وذكر عن المرُّوذي أن أبا عبد الله سُئل عن رجلٍ باع داره من ذِمِّي وفيها محاريبه؟ فقال: نصراني؟! واستَعْظَم ذلك، وقال: لا تُباع يُضْرب فيها بالناقوس ويُنصب فيها الصُّلبان، وقال: لا تُباع من الكفار وشدَّد في ذلك.

وقال (6) : لا أرى له أن يبيع داره من کافر يكفر بالله فيها. فهذا نصٌّ على المنع.

ونقلَ عنه (7) إبراهيمُ بن الحارث: قيل لأبي عبد الله: الرجل يكري منزلَه من الذِمِّي؟ فقال: ابنُ عَوْن (8) كان لا يكري داره إلا من أهل

__________

(1) "المسائل": (2/ 30).

(2) هو: صندوق يضع النصارى فيه جثة الميت.

(3) كذا.

(4) ترجمته في "طبقات الحنابلة": (2/ 295).

(5) في "الجامع - أهل الملل": (1/ 200).

(6) في رواية أبي الحارث.

(7) في "الأصل": "عن" سهو.

(8) هو: عبد الله بن عون البصري، الإمام المشهور ت (151) انظر "السير": (6/ 364).

(1/118)

________________________________________

الذمة، يقول: نُرْعبهم، يعني: أنه إذا أخذ من الذمي الأُجرة حصل له رُعب، وجعلَ أحمدُ يعجب بهذا من ابن عَوْن.

ونقل مُهنَّا قال: سألتُ أحمد عن الرجل يكري المجوسي داره؟ فقال: كان ابن عَوْن لا يرى أن يكري المسلم، يقول: أرعبهم في أَخْذ الغلَّة، وكان يرى أن يكري غير المسلم.

قال الخلَّال (1) : كلُّ من حكي عن أبي عبد الله في الرجل يكري داره من ذِمِّي، فإنما أجابَه على فعل ابن عونٍ، ولم ينفذ لأبي عبد الله قول، وقد حكى عنه إبراهيمُ أنه رآه معجَبًا به، والأمرُ في ظاهر (2) قول أبي عبد الله: أن لا تباع منه؛ لأنه يكفر فيها.

والأمر عندي: لا تُباع منه ولا تُكري؛ لأنه معنى واحد، وكره أحمد بيعَ الدار لعَوْن (3) ؛ لأنه كان مبتدعًا، فإذا كره بيع الدار من الفاسق فكيف بالكافر؟!

وقال أبو بكر: لا فرق بين البيع والإجارة، فإذا أجاز [البيع] (4) أجاز الإجارة، وإذا منع البيع منع الإجارة، ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك.

__________

(1) "الجامع": (1/ 201).

(2) في "الأصل": "ظاهر في" والمثبت من أصله و "الجامع"، وهو الأصح.

(3) هو: البصري. كما في كتاب الخلال و "الاقتضاء".

وقد ذكر الشيخ في الأصل أنه لعله من أهل البدع أو من الفسَّاق. ونقله عنه ابن القيِّم في "أحكام أهل الذمة": (1/ 286).

(4) زيادة لازمة.

(1/119)

________________________________________

وعن إسحاق بن منصور (1) أنه قال لأبي عبد الله: عن الأوزاعي أنه کره أن يؤاجر المسلم نفسَه للنصراني ينظر كَرْمَه. فقال أحمد: ما أحسن ما قال، لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يُباع لغير الخمر، فلا بأس.

وعن أبي النضر العجلي (2) قال: قال أبو عبد الله فيمن يحمل خمرًا أو خنزيرًا أو مَيْتة لنصراني: فهو يكره أكل کرائه، ولكنه يقضي للجمَّال (3) بالكراء، وإذا كان للمسلم فهو أشدُّ.

وتلخيص الكلام في ذلك: أما بيع داره من کافر، فقد ذكرنا مَنْع أحمد منه، ثم اختلفَ أصحابُه؛ هل هذا تنزيه أو تحريم، فقال الشريف أبو علي بن أبي موسى (4) : "کره أحمد أن يبيع داره من ذِمِّي يكفر فيها بالله تعالى، ويستبيح المحظورات، فإن فعل أساء و [لم] (5) يبطل البيع".

وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرًا عليها.

وأما الخلال وصاحبه (6) والقاضي؛ فمقتضى كلامهم تحريم ذلك،

__________

(1) هو الكوسج، ولم أجد هذا النص فيما طُبع من مسائله.

(2) هو: إسماعيل بن عبد الله بن ميمون العجلي المروزي ت (270). انظر "طبقات الحنابلة": (1/ 276).

(3) كذا في الأصل، ويصح أن تكون "الحمال" بالمهملة كما في بعض نسخ "الاقتضاء".

(4) هو: محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي القاضي ت (428)، "طبقات الحنابلة": (3/ 325).

(5) سقطت من الأصل!

(6) هو غلام الخلال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر ت (363)، "طبقات الحنابلة": (3/ 213).

(1/120)

________________________________________

وقال القاضي: لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيتَه ممن يتخذه بيت نار أو کنيسة، أو يبيع فيه الخمر، سواء شَرَط أنه يبيع فيه الخمر أو لم يشترط؛ لكنه يعلم أنه يبيع الخمر.

قال أبو بكرٍ: لا فرقَ بين البيع والإجارة كما قدمناه، وكلام أحمد محتمل الأمرين، فإن قوله في رواية أبي الحارث: يبيعها من مسلم أحبّ إليَّ، يقتضي أنه مَنْع تنزيه. واستعظامه لذلك في رواية المرُّوذي، وقوله: لا تباعُ من كافرٍ، وشدَّد في ذلك، يقتضي التحريم.

وأما الإجارة؛ فقد سوَّى الأصحابُ بينها وبين البيع، وأن ما حكاه عن ابن عَوْنٍ ليس بقولٍ له. ويمكن أن يقال: بل ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك، فإن إعجابه بالفعل دليل جوازه عنده، واقتصاره على الجواب بِفِعْل رجلٍ يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين.

والفرقُ بين الإجارة والبيع: أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد عارضه مصلحة أُخرى، وهو صرف إرعاب المطالبة بالكِراء عن المسلم، وإنزال ذلك بالكافر، فصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية [فَـ] لِمَا تضمَّنه من المصلحة جاز، وكذلك جازت مُهادنة الكفار في الجملة.

فأما البيع؛ فهذه منتفية فيه، وهذا ظاهر على قول ابن أبي موسى وغيره: أن البيع مكروه غير محرَّم، فإن الكراهة في الإجارة تزول بهذه المصلحة الراجحة كما في نظائره، فيصير في المسألة أربعة أقوال.

وهذا الخلافُ عندنا والتردُّد في الكراهة، هو إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرَّمة، فأما إن آجره على أنه يبيع فيه الخمر أو يعملها کنيسة؛ فلا يجوز قولًا واحدًا، وبه قال الشافعي وغيره.

(1/121)

________________________________________

وقال أبو حنيفة: يجوز، وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلًا يحمل له الميتة أو الخمر أو الخنزير: أنه يصح. وعامةُ الفقهاء خالفوه (1) .

ونُقِل عن أحمد فيما إذا ابتاعَ الذميُّ أرضًا عُشْرية روايتان (2) ، مَنَعَ في إحداهنَّ، قال: لأن فيه إبطالًا للعُشْر وهو ضررٌ على المسلمين، قال: وكذلك لا يمكَّنوا من استئجار أرض العشر لهذه العلة.

وقال في الرواية الأخرى: لا بأس أن يشتري الذميُّ أرضَ العُشْر من مسلمٍ، واختلفَ قولُه إذا جاز (3) ذلك فيما على الذِّمي فيما يَخْرج منها على روايتين، إحداهما: لا عُشْر عليه ولا شيء سوى الجزية، والأُخرى: عليه فيما يَخْرج منها الخُمْس. ومن أصحابنا من حكى رواية: أنهم يُنْهون عن شرائها، فإن اشتروها أُضْعِف عليهم العُشْر، وفي كلام أحمد ما يدل على هذه.

وكذلك نمنعهم -على ظاهر المذهب- من شراء السَّبْي الذي جرى عليه سهام المسلمين، كما شَرَط عليهم عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

ويتخرَّج: أنه لا يؤخذ منه إلا عُشر واحد، هذا في العُشْرية التي ليست خراجيَّة. أما الخراجيَّة؛ فقالوا: ليس لذمي أن يبتاع أرضًا فَتَحها المسلمون عُنْوة، وإذا جوَّزنا بيع العُنوة كان حكم الذمي في ابتياعها

__________

(1) انظر تفصيل المخالفة في "الاقتضاء": (2/ 30).

(2) رسمها في الأصل: "أرض عشرية روه ايتان"! وهو سهو، وفي أصله: "أرض عشر من مسلم على روايتين".

(3) في الأصل: "أجاز" وهو سهو.

(1/122)

________________________________________

كحكمه في أرض العُشْر المَحْض؛ إذ جميع الأرض عُشْرية عندنا وعند الجمهور، بمعنى أن العُشْر يجب فيما أخْرَجَت.

وكذلك الأرض المَوَات من أرض الإسلام التي ليست خراجيَّة؛ هل للذمي أن يتملَّكَها بالإحياء، فيه قولان للعلماء، هما في المذهب. قيل: ليس له ذلك، وهو قول الشافعي وابن حامد، وهو قياس إحدى الروايتين عن أحمد في منعه ابتياعها.

ثم هل عليه عُشر؟ فيه روايتان، قال ابنُ أبي موسى: ومن أحيا من أهل الذمة أرضًا فهي له، ولا زكاة عليه فيها ولا عُشر، وقد رُوِيَ عنه رواية أخرى: أنه لا خراج على أهل الذمة، ويؤخذ منهم العُشر يُضَاعَف عليهم، والأول عنه أظهر.

فهذا الذي حكاه ابنُ أبي موسى من تضعيف العُشر فيما يملكه بالإحياء، هو قياس تضعيفه فيما يملكه بالابتياع؛ لكن نقل حَرْبٌ عنه في رجلٍ من أهل الذمة أحيا أرضًا قال: "هو عُشْر". ففهم القاضي وغيرُه من الأصحاب أن الواجب هو العُشر المأخوذ من المسلم، فحكوا في وجوب العُشر فيها روايتين، وابنُ أبي موسى نقل الروايتين في وجوب عُشر مضعَّف.

وعلى طريقة القاضي يُخَرَّج في مسألة الابتياع كذلك، والذي نقله ابنُ أبي موسى أصحُّ، فإن أحمد سُئل عن إحياء الذمي الأرضَ؟ فأجاب: بأنه ليس عليه شيءٌ، وذكر اختلاف الفقهاء في مسألة اشترائه الأرض هل يمنع أو يضعَّف عليه العُشر، وهذا يبين لك أن المسألتين عنده واحدة، وهو تمليك الذمي الأرض العشرية، سواء كان بابتياعٍ أو إحياء أو غير ذلك.

(1/123)

________________________________________

ومن نقل عنه عشرًا مفردًا في الأرض المُحْياة دون المبتاعة؛ فليس بمستقيم. وأصلُه قوله في [الرواية] (1) التي نقلها الكرماني قوله: "هي أرض عشر"، ولكن هذا كلام مُجْمل قد فسَّره أبو عبد الله في موضع آخر وبيَّن مأخَذَه. ونَقْلُ الفقه إن لم يعرف الناقل مأخَذ الفقيهِ، وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيرًا.

وقد أفصحَ أربابُ هذا القول: بأن مأخَذَهم قياس الحِراثة على التجارة، فإن الذمي يؤخذ منه إذا اتَّجَر في غير أرضه ضِعْف المسلم، فكذلك إذا استحدث أرضًا غير أرضه؛ لأنه في كلا الموضعين قد أخذ يكتسب في غير مكانه الأصلي.

وقياس قول من يضعّف العُشر: أن المستأمن لو زرع في دار الإسلام لكان الواجب عليه خُمُسَيْن، ضِعفا ما يُؤخذ من الذمي، كما إذا اتَّجر في بلاد الإسلام.

ومذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووس ونحوه: لا يجوز رواية واحدة، ذكره الآمديُّ، كالإجارة لبناء كنيسة أو بيعة أو صومعة، وكالإجارة لكتبهم المحرفة.

وأما مسألة حمل الميتة والخمر والخنزير للنصراني؛ فقد تقدَّم لفظ أحمد أنه قال: يُكره أكل كِراه ويُقضي له بالأجرة، ثم اختلف الأصحاب على ثلاثة طرق:

أحدها: إجراء هذا على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة. قال

__________

(1) زيادة لازمة.

(1/124)

________________________________________

ابنُ أبي موسى: وكره أحمد أن يُؤجِّر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني، وإن أجَّر نفسه لحمل محرَّم لمسلم كانت الكراهة أشدّ ويأخذ الكِراء.

وهل يطيبُ له أم لا؟ على وجهين، وغيرُ ممتنع أن يُقضي له بالكراء وإن كان مُحرَّمًا كإجارة الحجَّام، فقد صرَّح هؤلاء بأنه يستحقُّ الأجرة، مع كونها محرمة عليه على الصحيح.

الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجَعْل المسألة رواية واحدة: أن الإجارة لا تصح، وهي طريقة القاضي في "المجرَّد" (1)، وهي ضعيفة رجع عنها القاضي.

الطريقة الثالثة: تخرج هذه المسألة على روايتين؛ إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأُجرة مع الكراهة للفعل وللأُجرة. والثانية: لا تصح ولا يستحق بها الأُجرة وإن حَمَل، على قياس قوله في الخمر لا يجوز إمساكها وتجب إراقتها.

قال في رواية أبي طالب -إذا أسلم وله خمر أو خنازير-: تُصَب الخمرُ وتُسَرَّح الخنازيرُ قد حَرُما عليه، وإن قتلها فلا بأس.

وهذا عند أصحابنا إذا استأجره ليحمل الخمر إلى بيته أو دكانه أو حيث لا يجوز إقرارها، سواء كان حَمْلها للشرب أو مطلقًا، أما إن كان حَمَلها ليريقها أو يحمل الميتة لينقلها إلى الصحراء، لئلا يتأذَّي الناسُ بريحها، فإنه يجوز الإجارة على ذلك؛ لأنه عملٌ مباح، لكن إذا كانت

__________

(1) انظر عنه "المدخل المفصَّل": (2/ 708).

(1/125)

________________________________________

الإجارة بجلد المَيْتة لم تصح، واستحق أُجرة المثل، وإن كان قد سَلَخ الجلدَ وأخَذَه ردَّه على صاحبه، وهذا مذهب مالك، وأظنه مذهب الشافعي أيضًا. ومذهب أبي حنيفة كالرواية الأولى.

والأشْبَه -والله أعلم- طريقة ابن أبي موسى، فإنه أقرب إلى مقصود أحمد وإلى القياس؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعنَ عاصِرَ الخمر ومعتصرَها وحاملَها والمحمولةَ إليه، فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعةٍ تستحق عِوَضًا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرِّمت بقصد المعتصر والمستحمل، كما لو باع عنبًا لمن يتخذه خمرًا. فإنَّ مالَ البائعِ لا يذهب مجَّانًا بل يُعْطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع إنما كان من جهة المستأجر لا من جهته.

ثم نحن نحرِّم الأُجرةَ عليه لحقِّ الله -سبحانه- لا لحقِّ المستأجر، بخلاف من اسْتُؤجِرَ للزِّنا والتلوُّط والقتل والغَصْب، فإن نفس هذا العمل محرَّم، لا لأجل قَصْد المشتري، فهو كما لو باعَه ميتة أو خمرًا لا يُقضى له بثمنها؛ لأن نفس العين محرَّمة.

ومثلُ هذه الإجارة والجَعالة لا توصف بالصحة ولا بالفساد مطلقًا، بل يُقال: هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجِر، بمعنى: أنه يجب عليه الجُعْل، وهي فاسدة بالنسبة إلى الأجير، بمعنى: أنه يحرم عليه الانتفاع بالأُجرة. وله في الشريعة نظائر.

ونصُّ أحمدَ على كراهة نظارة كَرْم النصراني لا يُنافي هذا، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه، ثم نقضي له بكرائه، ولو لم نفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعُصَاة، فإن كل من استأجروه على عملٍ يستعينون به على المعصية، حصَّلوا غرضَهم منه ثم لا يعطونه شيئًا، وما

(1/126)

________________________________________

هم أهلٌ أن يُعَانوا. بخلاف من سلَّم إليهم عملًا لا قيمة له بحال.

نعم؛ البَغِيُّ والمُغَنِّي والنائحة ونحوهم، إذا أُعطوا أُجورهم ثم تابوا؛ فهل يتصدقون بالأجر أم يجب ردُّه على المُعْطي؛ فيه قولان؛ أصحهما: أن لا يُرَد بل يتصدق بها وتُصرف في مصالح المسلمين. نصَّ عليه أحمد في أجرة حمال الخمر.

ونصَّ على أنه يُعاقَب بيَّاع الخمر بحَرْق حانوته، كما حرق عمر [حانوتًا] (1) يباع فيها الخمر (2) . وذلك أن العقوبات المالية عندنا باقية غير منسوخة (3) .

إذا عُرف أصل هذه المسائل وعُرِف أصل الإمام أحمد، فمعلوم أن بيعهم ما يُقيمون به أعيادَهم المحرمة، هو مثل بيعهم العقار للسُّكنى وأشد، بل هو إلى بيعهم العصير أقرب منه إلى بيعهم العقار، فإن ما يبتاعونه يصنعون به نفس المحرَّمات مثل: صليب أو شعانين أو معمودية أو تبخير أو ذبح لغير الله أو صورة ونحو ذلك؛ فهذا لا ريب في تحريمه، كبيعهم العصير ليتخذوه خمرًا وبناء الكنيسة لهم.

وأما ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب؛ فأصول أحمد وغيره تقتضي کراهته؛ لكن كراهة تحريم كمذهب مالك، أو كراهة

__________

(1) في "الأصل": "قرية" وهو انتقال نظر، فإن الذي حرق قرية هو علي -رضي الله عنه- كما في "الاقتضاء": (2/ 49)، و"الآداب الشرعية": (1/ 222).

(2) أخرج عبد الرزاق في "المصنف": (6/ 77) أن عمر -رضي الله عنه- أحرق بيت رجلٍ كان جَلَده في الخمر، ثم وجد في بيته خمرًا.

(3) انظر: "مجموع الفتاوى": (28/ 109 - 117، 29/ 294 - 297)، و"زاد المعاد": (5/ 54).

(1/127)

________________________________________

تنزيه؟ والأشبه أنه كراهة تحريم كسائر النظائر عنده، فإنه لا يُجَوِّز بيع الخمر واللحم والرياحين للفسَّاق الذين يشربون عليها، ولأن هذه الإعانة قد تُفْضي إلى إظهار الدين وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره، وهذا أعظم من إعانة شخص معيَّن.

فصلٌ (1)

وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم، فقد قدَّمنا (2) عن عليٍّ -رضي الله عنه- أنه أُتي بهدية يوم نيروز فقبلها، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "أمَّا ما ذُبِح لذلك اليوم فلا تأكلوا، ولكن كلوا من أشجارهم" (3). وعن أبي بَرْزة أنه كان يُهدي إليه مجوسٌ في نيروزهم، فيقول لأهله: "ما كان من فاكهةٍ فكلوه، وما كان من غير ذلك فردوه" (4).

فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديَّتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء؛ لأنه ليس في ذلك إعانة على شعائر كفرهم. لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مسألةٌ مستقلَّة فيها خلاف، وتفصيله ليس هذا موضعه (5).

* * *

__________

(1) "فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 51).

(2) ص / 91 أشار إلى أصل الرواية، والأصل: (1/ 514).

(3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (5/ 126).

(4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (5/ 126).

(5) ثم تكلم في "الاقتضاء": (2/ 53 - 70) عن حكم ذبائح أهل الكتاب لأعيادهم، وما يتقربون بذبحه إلى غير الله.

(1/128)

________________________________________

فصلٌ (1)

فأما صيام أيام أعياد الكفار مفردةً، كصوم يوم النيروز والمِهْرجان، فقد اختلف فيهما؛ لأجل أنَّ المخالفة تحصُلُ بالصوم، أو بترك تخصيصه بعملٍ.

فنذكر أولًا صوم يوم السبت:

وذلك أنه روى ثور بن يزيد (2)، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تصوموا يومَ السبتِ إلا فيما افْتُرِضَ عليكم، وإن لم يَجِد أحدُكم إلا لحاءَ عنبٍ أو عُوْدَ شَجَرٍ فَلْيَمْضَغْه"، رواه أهل السنن الأربعة (3).

وقد اختلف الأصحابُ وسائرُ العلماء فيه:

فقال الأثرم: سمعتُ أبا عبد الله يُسأل عن صوم السبت يَفْتَرد به؟ فيقول: جاء في ذلك حديث الصَّمَّاء، يعني هذا الحديث المتقدِّم. ويقول: كان يحيى بن سعيد يتَّقيه.

قال: وحجّة أبي عبد الله في الرخصة في صومه، أن الأحاديث كلها

__________

(1) "الاقتضاء": (2/ 71).

(2) وقع في "الأصل": "زيد" والتصويب من أصله من المصادر.

والحديث يرويه ثور عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بُسر السلمي، عن أخته الصمَّاء، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- به.

(3) أخرجه أبو داود رقم (2421)، والترمذي رقم (744)، والنسائي في "الكبرى": (2/ 143 - 144)، وابن ماجه رقم (1726) وغيرهم.

والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن السَّكن وابن حبان والحاكم. وتكلم فيه بعضهم. وانظر "الارواء" رقم (960).

(1/129)

________________________________________

مخالفة لهذا الحديث، مثل حديث: أم سلمة حين سُئلت: أيُّ الأيام كان رسولُ الله أكثر صيامًا لها؟ فقالت: السبت والأحد (1) .

ومثل: نهيه عن صوم الجمعة إلا يوم قبله أو بعده (2) ، ومثل: كان يصوم شعبان (3) ، ونحو ذلك. ولا يُقال: إن النهي عن إفراده؛ لأنه قال في الحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افْتُرِضَ عَلَيكم"، فالاستثناء منه يدلُّ على دخول غير المُستثنى، بخلاف الجمعة فإنه نهى. عن إفراده.

ففهم الأثرم الرخصةَ في صومه، وذلك أن أحمد علَّل الحديث بأن يحيى كان يتَّقيه.

وأما أكثر الأصحاب ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحمله على الإفراد، وهؤلاء يكرهون إفراده عملًا بالحديث لجودة إسناده، ثم اختلفَ هؤلاء في تعليل الكراهة، فقال ابن عقيل: لأنه يوم يُمْسِك فيه اليهود ويخصُّونه بالإمساك، وهو ترك العمل، والصائم في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبُّهًا بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد.

__________

(1) أخرجه أحمد: (6/ 324)، وابن خزيمة رقم (2167)، وابن حبان "الإحسان": (8/ 381)، والحاكم: (1/ 436). من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-.

والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.

(2) أخرجه البخاري رقم (1985)، ومسلم رقم (1144) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(3) يعني: وفي شعبان يوم السبت.

والحديث أخرجه البخاري رقم (1969)، ومسلم رقم (1156) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(1/130)

________________________________________

وعلله طائفة من الأصحاب: بأنه يوم عيد لأهل الكتاب، فَقَصْده دون غيره فيه تعظيم لما عظَّمه أهل الكتاب فكره [ذلك] كما کره إفراد عاشوراء، وإفراد رجب لما عظَّمه المشركون، وهذه (1) العلة تُعَارض بيوم الأحد، فإنه عيد النصارى. وقد يقال: إذا كان يوم عيد فمخالفتهم تكون بالصوم لا بالفِطْر، ويُقوِّي ذلك ما رُوي عنه أنه كان يصوم يوم السبت والأحد ويقول: "هُما يَوْمُ عِيْدٍ للمشركين فأنا أُحِبُّ أنْ أُخَالِفَهم" رواه أحمد والنسائي، وصححه بعضُ الحفاظ (2). وهو نصٌّ في استحباب صوم يوم عيدهم. وليس في ذلك حجة على من کره إفرادَه؛ لأنه إذا صام السبتَ والأحد زال الإفراد المكروه وحصلت المخالفة للمشرکين.

فصلٌ (3)

وأما النَّيْروز والمِهْرَجان ونحوهما من أعياد المشركين؛ فمن لم يكره صوم السبت قد لا يكره صوم ذلك؛ بل ربما استحبَّه للمخالفة، وكرهها أكثر الأصحاب، وعلَّلوا ذلك بأنه تعظيم لعيدهم فيكره كيوم السبت.

قال الإمام أبو محمد المقدسي (4): "وعلى قياس هذا، كلُّ عيدٍ للكفار، أو يوم يُفردونه بالتعظيم".

__________

(1) في الأصل: "يعظمه المشركون، وهذا"! والمثبت من "الاقتضاء".

(2) تقدم تخريجه ومن صححه ص/ 89.

(3) "الاقتضاء": (2/ 80).

(4) في "المغني": (4/ 429).

(1/131)

________________________________________

وقد يقال: يُكْره صوم النيروز والمهرجان ونحوهما مما لا يُعرف بحساب العرب، بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد؛ لأنه إذا قصد صوم الأيام العجميَّة كان ذريعةً إلى إقامة شعار هذه الأيام وإحياء أمرها، بخلاف السبت والأحد، فإنهما من حساب المسلمين، فليس [في] صومهما مفسدة، ففيه توفيق بين الأدلَّة.

فصلٌ (1)

ومن المنكرات: سائر الأعياد والمواسم المبتدعة فإنها من المكروهات (2)، سواء بلغت التحريم أو لم تبلغه، فهي منكرة من وجهين:

أحدهما: أن ذلك داخل في مسمَّى البدع والمحدثات، فيدخل في قوله: "شَرُّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النار" (3)، و"كلُّ [عملٍ] (4) ليسَ عليه أَمْرُنا فهو رَدٌّ" (5)، "من أَحْدَثَ في أَمْرِنا ما ليسَ مِنْه فَهُو رَدٌّ" (6).

__________

(1) "الاقتضاء": (2/ 82).

(2) في أصله: "من المنكرات المكروهات".

(3) أخرجه مسلم رقم (867) من حديث جابر -رضي الله عنه-.

وزيادة: "وكل ضلالة في النار" أخرجها النسائي في "الكبرى": (1/ 550).

(4) في "الأصل": "أمر" والمثبت من أصله ومصادر الحديث.

(5) أخرجه مسلم رقم (1718) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(6) أخرجه البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(1/132)

________________________________________

وهذه قاعدة دلّت عليها السنةُ والكتابُ والإجماعُ، مثل قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، ونحو ذلك كثير في الكتاب.

وليعلم أن هذه القاعدة، وهي الاستدلالُ بكون الشيء بدعةً على کراهته، قاعدةٌ عامة عظيمة، وتمامُها بالجوابِ عما يُعارضها.

وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وقبيحة، بدليل قول عمر -رضي الله عنه- في صلاة التراويح: "نِعْمَت البِدْعَةُ هذه" (1)، وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أُحْدِثت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليست مكروهة، بل قد تكون حسنة للأدلَّة الدالة على ذلك من الإجماع والقياس.

[فمن حجج المعارضين أن يقولوا]:

* فإذا ثبت أن بعض البدع حَسَنة، فالقبيح ما نهى عنه الشارع، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح، بل قد يكون حَسَنًا، فهذا مما يقوله بعضهم.

* وقد يقال: هذه البدعةُ حسنة؛ لأن فيها من المصلحة كَيْت وكَيْت، وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة.

والجوابُ عن قولهم هو: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نصَّ على أنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة وكل [ضلالة] (2) في النار، وشر الأمور محدثاتُها، فلا يحلّ لأحدٍ أن يدفعَ دلالة ذلك على ذمِّ البدع، ومن دفعَ ذلك فهو مُرَاغِم.

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (2010). وفي بعض الروايات: "نِعْم".

(2) في الأصل: "بدعة" وهو سبق قلم.

(1/133)

________________________________________

وأما المعارضات فالجوابُ عنها بأحدِ جوابَيْن:

إما أن يُقال: إن ما ثبتَ حُسْنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظًا لا خصوصَ فيه، [وإما أن يقال: ما ثبت حُسنه فهو مخصوص، والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص] (1) فمن اعتقد أن بعضَ البدع مخصوص احتاج إلى دليلٍ يخصُّ به ذلك، وإلا كان العمومُ موجِبًا للنهي.

ثم إن المخصِّص لا يجوز أن يكون عادةَ بعض البلاد أو بعض الناس، بل إنما يكون من الكتابِ أو السنة أو الإجماع من الأدلة الشرعية، لا قول بعض العلماء أو العُبَّاد ونحو ذلك، فلا يُعَارض به قولُ سيِّد الخلْق إمام المتقين رسول ربِّ العالمين -صلى الله عليه وسلم-.

ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنة مُجْمَعٌ عليها، بناءً على أن الأمة أقرَّتها ولم تنكرها؛ فهو مُخطئ، فإنه لم يزل ولا يزال في كلِّ وقتٍ من ينهى عن عامة العادات المحدَثة المخالفة للسنة.

ولا يجوز حملُ قوله: "كل بدعة ضلالة" على البدع التي نهى عنها بخصوصها؛ لأنه تعطيل لفائدة الحديث، فإن ما نهى عنه من الكُفْر والفسوق قد عُلِمَ بذلك النهي أنه قبيحٌ محرَّم، سواء كان بدعةً أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر إلا ما نهى عنه بخصوصه سواء كان مفعولًا على عهده أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم التأثير، لا يدلُّ وجودُه على القُبْح ولا عدمُه على الحُسْن، بل يكون قوله: "كل بدعةٍ ضلالة" بمنزلةِ قوله: كل عادةٍ ضلالة، أو: كل ما عليه العربُ أو العجم فهو

__________

(1) زيادة من "الاقتضاء" ليتم الكلام.

(1/134)

________________________________________

ضلالة. ويُرَاد بذلك: أن ما نهى عنه من ذلك فهو ضلالة. وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، ليس من نوع التأويل السَّائغ، وفيه من المفاسد أشياء:

أحدها: سقوط الاعتماد على هذا الحديث.

والثاني: أن وصف البدعة ومعناها يكون عديم التأثير، فتعليق (1) الحكم بهذا المعنى تعليقٌ بما لا تأثيرَ له ولا فائدةَ فيه.

الثالث: أن الخطاب بمثل هذا إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر، وهو كونه منهيًّا عنه كتمانٌ لما يجب بيانُه، لمَّا لم يقصد ظاهره. فإن البدعةَ والنهيَ الخاصَّ بينهما عمومٌ وخصوصٌ؛ إذ ليس كل بدعة عنها نَهْيٌ خاصٌّ، وليس كل ما فيه نهيٌ خاص بدعة، فالتكلُّم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تَلْبيس مَحْض لا يَسُوع التكلُّم به، فهو كما لو قيل: "الأسد" وأُريد الفرسُ، أو: "الفرس" وعُنِيَ به الأسدَ (2).

الرابع: أنه إذا أراد بقوله: "كل محدثة بدعة" النهي عما نهى عنه، يكون قد أحالهم على ما لا يمكن الإحاطةُ به، ومثل هذا لا يجوز.

الخامس: إذا أُريد به ما فيه نهيٌ خاص، كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع، فإنك لو تأمَّلت البدعَ التي نَهى عنها بأعيانها، وما لم يَنْه عنها بأعيانها، وجدتَ هذا الضربَ هو الأكثر، واللفظُ العامُّ لا يجوز أن يُراد به الصور القليلة أو النادرة.

__________

(1) في الأصل: فتعلق، والمثبت من أصله.

(2) وقع في "الاقتضاء": "الأسود" في الموضعين!

(1/135)

________________________________________

فهذه الوجوه وغيرها توجبُ القطعَ بأن هذا التأويل فاسِد لا يجوز حمل الحديث عليه، فإن على من تأوَّل شيئًا أن يبيِّن إرادة ذلك المعنى الذي حمل عليه الكلام، ثم بيان الدليل الصارف، فإذا مُنِعَ جوازُ إرادة ذلك، امتنعَ حملُ الحديث عليه. هذا مقامٌ.

وأما المقامُ الثاني فيقال: هب أن البدع تنقسم إلى حسنٍ وقبيح، فهذا القَدْر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالًّا على قُبح الجميع، لكن أكثر ما يُقال: إنه إذا ثبت أن هذا حَسَن يكون مستثنىً من العموم، وإلا فالأصل أن كلَّ بدعةٍ ضلالة. فقد تبيَّن أن الجواب عن كلِّ ما يُعَارض [به] من أنه حَسَن، وهو بدعة بإما: أنه ليس ببدعة، وإما: أنه مخصوص، وقد سَلِمت دلالةُ الحديث.

هذا إذا ثبتَ حُسْنُه، أما ما يُظَنُّ أنه حسنٌ وليس بحسنٍ، أو أمور يجوز أن تكون حسنةً وأن تكون قبيحة، فلا تصلح المعارضةُ بها، بل يُجَابُ عنها بالجوابِ المركَّب وهو: إن ثبتَ أن هذا حَسَن فلا يكون بدعة أو يكون مخصوصًا، وإن لم يثبت أنه حَسَنٌ فهو داخلٌ في العموم، فقد تبيَّن أنه لا يحلُّ لأحدٍ أن يُقابل هذه الكلمةَ الجامعةَ من رسول الله الكليةَ، وهي قوله: "كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ" بِسَلْبِ عمومِها، ويقال: ليست كلُّ بدعةٍ ضلالة، فإن هذا إلى مُشاقَّةِ الرسول أقرب منه إلى التأويل.

مع أن الجواب الأول أَجْوَد، فإنَّ قَصْد التعميم المحيط ظاهرٌ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة الجامعة، فلا يُعْدَلُ عن مقصودِه -بأبي هو وأُمي -صلى الله عليه وسلم- وزاده شَرَفًا وكرَّم-.

وأما صلاةُ التراويح؛ فليست بدعة في الشريعة؛ بل سُنة بقول

(1/136)

________________________________________

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفِعْله فإنه قال: "إنَّ الله فَرَضَ عَلَيكم صِيَامَ رَمَضَانَ وسَنَنْتُ لكم قِيَامَه" (1) .

ولا صلاتها جماعة بدعة، بل قد صلَّاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجماعة في أول شهر رمضان، ليلتين بل ثلاثًا، وصلَّاها -أيضًا- في العشر الأواخر في جماعةٍ مرات، وقال: "إنَّ الرجلَ إذا صلَّى مع الإمام حتَّى يَنْصَرف كُتِبَ لَهُ قِيامُ لَيْلَةٍ" لما قام بهم حتى خشوا الفلاح. رواه أهل السنن (2) .

وبه احتجَّ أحمدُ على أن فعلها جماعة أفْضَل، وكان الناسُ يصلونها جماعة في عهده ويقرهم على ذلك.

وأما قول عمر: "نعمت البدعة هذه" فأكثر المحتجِّين بهذا، لو أرَدْنا أن نُثْبِت حكمًا بقول عمر الذي لم يُخالف فيه، لقالوا: قولُ الصاحب ليس بحجَّة، فكيف يكون حجةً لهم في خلاف قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!؟ ومن اعتقدَ قولَ الصاحبِ حجَّة فلا يعتقده إذا خالف الحديثَ، فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب، نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يُخَالَف على إحدى الروايتين.

__________

(1) أخرجه أحمد: (3/ 198 رقم 1660)، والنسائي: (4/ 158)، وابن ماجه رقم (1328) وغيرهم من طريق القاسم بن الفضل، حدثنا النضر بن شيبان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه به.

وفيه النضر ضعيف الحديث، وأبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئًا. وضعَّف الحديث جمع من الأئمة، كالبخاري والنسائي وابن خزيمة.

(2) أخرجه الترمذي رقم (806)، والنسائي: (3/ 83)، وابن ماجه رقم (1327) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة.

(1/137)

________________________________________

ثم يقال: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك: "بدعة" مع حُسْنها، وهذه تسمية لغوية لا شرعية، وذلك أن البدعةَ في اللغةِ تعمُّ ما فُعِل ابتداءً من غير مثالٍ سابقٍ.

وأما البدعة الشرعية: كلُّ ما لم يدل عليه دليلٌ شرعي. فإذا كان نصُّ رسول الله قد دلَّ على استحبابِ فعل أو إيجابه بعد موته، أو دلَّ عليه مطلقًا ولم يُعْمَل به إلا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكرٍ، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته صحَّ أن يُسَمَّى بدعة في اللغة؛ لأنه مُبْتدأ عملٍ، كما أن نفس الدين الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُسمَّى بدعة، ويُسمَّى مُحْدَثًا في اللغة، كما قالت رُسُل قريشٍ للنجاشيِّ عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- المهاجرين إلى الحبشة: إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم، ولم يدخلوا في دين المَلِك، وجاءوا بدينٍ محَدث لا يُعرف (1).

ثم ذلك العمل الذي دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ ليس بدعة، وإن سُمِّي بدعة لغةً، فلفظ البدعة في اللغة أعمُّ من لفظها في الشريعة، وقد عُلِمَ أن قوله: "كل بدعة" لم يُرِد كل مبتدأ، فإن دين الإسلام، بل كلّ دين جاءت به الرُّسُل فهو عملٌ مُبتدأ، وإنما أراد ما ابْتُدِئَ من الأعمال التي لم يشرعها هو -صلى الله عليه وسلم-.

وإذا كان كذلك؛ فقد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفُرَادى، وقال لهم: "لم يمنعني أَنْ أخرجَ إليكم إلا كَرَاهةَ أن تُفْرَضَ عليكم فصلُّوا في بُيُوتكم" (2)، فعلم أن المقتضي للخروج قائم، وأنه

__________

(1) انظر "السيرة النبوية": (1/ 335) لابن هشام.

(2) أخرجه البخاري رقم (2012 وغيره)، ومسلم رقم (761) من حديث عائشة -رضي الله عنها- بألفاظ متقاربة.

(1/138)

________________________________________

لولا خوف الافتراض لخرج إليهم (1) .

فلما كان في عهد عمر -رضي الله عنه- جمعهم على قاريءٍ واحدٍ وأسْرَج المسجد، فصارت هذه الهيئة -وهو اجتماعهم في المسجد على إمامٍ واحدٍ مع الإسْراج- عملًا لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمِّي بدعة؛ لأنه في اللغة يُسَمَّى بذلك، ولم يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وقد زال خوفُه بموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وهكذا جمع القرآن، فإن المانع من جمعه على عهده هو: أن الوَحْيَ كان ينزل، فينسخُ اللهُ ما يشاء، فلما أُمِنَ ذلك جُمِعَ في مصحفٍ واحدٍ وإن سُمِّي في اللغة بدعة، فإن المقتضي لجمعه وهو حفظه كان موجودًا في زمنه، لولا ما عارضَه من احتمال تغييره وزيادتِه ونقصِه، فلما أُمِن ذلك عمل المقتضي عملَه.

وصار هذا كنَفْي عمرَ ليهود خيبر، والنصارى من جزيرة العرب. وإنما لم يُنفِّذه أبو بكرٍ لاشتغاله عنه بقتالِ أهل الرِّدَّة، وشروعه في [قتال] (2) فارس والروم، وكذلك لم يفعله عمر في أول خلافته، لاشتغاله -أيضًا- بقتال فارس والروم، فلما تمكَّن من ذلك فعلَ ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وإن كان هذا قد يُسمَّى بدعة لغةً، كما قال اليهود: كيف تُخْرجنا

__________

(1) للشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي نظرٌ آخر في السبب الموجِب للافتراض، ذكره في بحثٍ له عن "قيام رمضان".

(2) زيادة لازمة.

(1/139)

________________________________________

وقد أقرَّنا أبو القاسم، وجاءوا إلى عليٍّ في خلافته (1)، فأرادوا أن يردَّهم، فامتنع من ذلك؛ لأن الفعل كان بعهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان مُحْدَثًا بعده.

وكذلك قوله: "خُذُوا العَطَاء ما كان عطاءً، فإذا صارَ عِوَضًا عن دينِ أَحَدِكم فلا تأخذوه" (2). فإذا ردَّه الرَّادُّ لكونه عِوضًا كان متبعًا للسنة، وأن نفس الرد مُبْتَدَع لم يفعله أحدٌ على حياته -صلى الله عليه وسلم-.

وهذا كثير في السنة؛ مثل تركه أن يجعل للكعبة بابَيْن من أجل أنهم حديثو العهد في الإسلام.

وأما ما لم يحدث سببٌ يُحْوِجُ إليه، أو كان السبب المُحْوج إليه بعضُ ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكلُّ أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهده موجودًا، أو كان (3) مصلحة ولم يُفْعَل، يُعْلَم أنه ليسَ بمصلحة (4)، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق، فقد يكون مصلحة.

ثم هنا للفقهاء طريقان:

أحدهما: أن ذلك يُفعل ما لم يُنه عنه، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة.

__________

(1) أخرجه أبو عبيد في "الأموال": (ص/ 107 - 108)، وابن زنجوية في "الأموال" رقم (418) والبيهقي: (10/ 120).

(2) أخرجه أبو داود رقم (2958) وسنده ضعيف.

(3) في "الاقتضاء": "لو كان"، وله وجه صحيح.

(4) انظر أمثلة له في "الاقتضاء": (2/ 102).

(1/140)

________________________________________

والثاني: أن ذلك لا يُفعل إن لم يؤمر به، وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة، وهؤلاء ضربان:

منهم من لا يُثْبِت الحكمَ إن لم يدخل في لفظ كلام الشارع أو فعله أو إقراره، وهم نُفَاةُ القياس، ومنهم من يُثبته بلفظ الشارع أو بمعناه، وهم القياسيون.

الوجه الثاني (1) -في ذم المواسم والأعياد المُحْدَثة-: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين، وليس كلُّ أحدٍ يُدْرك فسادَ هذا النوع من البدع، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعةِ؛ بل أُولو الألباب هم يُدْركون بعضَ ما فيه من الفساد.

والواجبُ على الخَلْق اتباعُ الكتاب والسنة وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة، فنُنَبِّه على بعض مفاسدها، فمن ذلك:

أن من أحدث عملًا في يومٍ، كصوم أول خميس من رجب، وصلاة ليلة الجمعة، التي يُسَمُّونها: "صلاة الرغائب"، وما يتبع ذلك من إحداث أطعمةٍ وزينة، وتوسُّع في النفقة، فلا بُدَّ أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب: أن هذا اليوم أفضلُ من غيره، وأن الصومَ فيه أفضلُ من أمثاله، وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من الجُمَع؛ إذ لولا قيام ذلك لَمَا انبعثَ القلبُ لتخصيص هذه الليلة أو اليوم، إذ الترجيح من غير مرجِّح ممتنع (2).

__________

(1) انظر "الاقتضاء": (2/ 106) وقد تقدم الوجه الأول (ص/ 132).

(2) ثم فصل شيخ الإسلام في أن الشرع قد جاء بالاعتبار لهذا الحكم، ومضى على تأثيره، فهو من المعاني المناسبة المؤثرة، ثم تكلم بكلامٍ نفيس حول العلل المؤثرة =

(1/141)

________________________________________

وهذه مفسدة عظيمة، أن يعتقد الإنسانُ فضيلةَ يومٍ ولا يكون فيه فضيلة، فيكون قد شرع شيئًا لم يشرعه الله، وقد أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصومٍ، وعن قيام ليلته، وذلك لما فيه من المفسدة، باعتقاد كونه فاضلًا على غيره ينبغي أن يُخصَّ بعملٍ، وهذا اعتقاد فاسد منهيٌّ عنه، فكذلك مَسْألتنا.

ومن قال: أنا أفعل ذلك وهذا الوقت عندي كغيره، فلا بدَّ أن يكون له باعث؛ إما موافقة شيخه أو عادته أو خوف اللوم له، ونحو ذلك، فلا بدَّ له من باعثٍ غير شرعيٍّ، وهذا ضلال، لعِلْمِنا أن الرسولَ وأصحابَه لم يكونوا يخصُّون ذلك بفضيِلة، فلا يجوز أن يكون لها فضلٌ؛ لأنه إن كان ولم يعلمه الرسول ولا أصحابه ولا التابعون، فكيف يعلمه هو؟! فظهر أنه لم يكن لها فضل، إذ يمتنع أن يعلم أمرًا [يُقرِّب] (1) إلى الله لم يعلمه الرسول، وإن عَلِموه امتنع مع توفُّر دواعيهم على النُّصح وتعليم الخلقِ أن لا يُعْلِموا أحدًا بهذا الفضل، ولا يُسارع إليه واحدٌ منهم. فإذا كان الفضلُ المدَّعَي مستلزمًا لعدم علم الرسول وخير القرون بدين الله، أو لكتمانهم ذلك، وكلُّ واحدٍ من اللازِمَيْن (2) مُنْتفٍ شرعًا وعادةً، عُلِمَ انتفاءُ الملزومِ وهو الفضل المدَّعَي.

ثم ذلك مُسْتَلزم؛ إما لاعتقاد هو ضلال في الدين، أو عمل دين لغير الله سبحانه، والتديُّن بالاعتقادات الفاسدة، فهذه البدع مستلزمة

__________

= في الأحكام ومسالك العلة (2/ 107 - 113).

(1) في الأصل: "تقريبًا" والمثبت من "الاقتضاء".

(2) في "الأصل": "المتلازِمَين" والتصويب من "الاقتضاء".

(1/142)

________________________________________

قطعًا ما لا يجوز اعتقاده، أقل أحواله -إن لم يكن محرمًا- أن يكون مكروهًا، وهذا سارٍ في سائر البدع المحدَثة، فظهر أن فِعْل البدع يُناقض الاعتقادات الواجبة على الخَلْق، وينازع الرسول ما جاء به عن الله تعالى، ويورث القلبَ نفاقًا ولو كان خفيًّا.

فمن تدبَّر هذا علمَ ما في البدع من السموم المُضْعِفة للإيمان، ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر، وهذا المعنى جار في كل البدع؛ كالصلاة عند القبور والذبح عند الأصنام، ونحو ذلك، وإن لم يكن الفاعل معتقدًا للمزيَّة، لكن نفس الفعل قد يكون مَظِنَّة للمزيَّة (1).

فصل (2)

فلو قيل: هذا مُعَارَض بأن هذه المواسم قد فعلها قومٌ من أولي العلم والفضل الصديقين فمن دونهم، وفيها فوائد يجدها الإنسانُ في قلبه؛ من زوال آصار ذنوبه وإجابة دعوته، مع ما ينضمُّ إلى [ذلك] من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام.

قيل: لا ريب أنَّ من فَعَلها متأوِّلًا مجتهدًا أو مقلِّدًا، فله أجرٌ على حُسْن قصده وعمله من حيث ما فيه من المشروع. وما فيه من المبْتَدَع مغفورٌ له إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين.

وكذلك ما ذُكِر فيها من الفوائد كلها إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع من جِنْسه، كالصوم والذكر والقراءة والركوع والسجود وحُسْن القصد في عبادة الله، وما اشتمل عليه من المكروه انتفي موجبه

__________

(1) فكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود، فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضًا.

(2) "فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 116).

(1/143)

________________________________________

بعفوِ اللهِ، لاجتهاد صاحبها أو تقليده، وهذا ثابت في كل ما يُذْكر في بعض البدع المذكورة من الفائدة.

لكن هذا القدَر لا يمنع کراهَتَها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعةَ فيه، كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك، بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم فوائد، وذلك أنه لا بدَّ أن تشتمل عباداتُهم على نوعٍ ما مشروع في جنسه، كما أن أقوالهم لا بُدَّ أن تشتمل على صدقٍ ما مأثًورٍ عن الأنبياء، ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نَفْعَل عباداتهم أو نروي كلماتِهم؛ لأن جميع المبتدعات لا بدَّ أن تشتمل على شرٍّ راجحٍ على ما فيها من الخير، إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملها الشارع، فنحن نستدلُّ بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجِبُ للنَّهي.

وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض الاجتهاد أو غيره، كما يزول أثم النبيذ والربا المُخْتَلَف فيهما (1) عن المجتهدين من السلف، ثم مع ذلك يجب بيان حالها، وأن لا يُقْتَدَي بمن استحلَّها، وأن لا يقصَّر في طلب العلم المبيِّن لحقيقتها، وهذا كافٍ في بيان أن هذه البدعة مشتملة على مفاسد اعتقادية أو حالية، مناقضة لما جاء به الرسول، وما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة.

ثم نقول على سبيل التفصيل: إذا فَعَلها قومٌ ذوو فضلٍ، فقد ترکها في زمانهم معتقدًا كراهتها، أو (2) أنكرها قومٌ، إن لم يكونوا هم أفضل

__________

(1) في "الأصل": "فيها".

(2) في "الاقتضاء": "و".

(1/144)

________________________________________

ممن فعلها، فليسوا دونهم، ولو كانوا دونهم، فقد تنازع فيها أولو العلم، فيجب ردُّها إلى الله والرسول، وكتابُ الله وسنةُ رسوله مع من ترکها بلا شكٍّ، لا مع من رخَّص فيها، ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع من تَرَكَها.

وما فيها من المفاسد التي تستغني بها القلوب عن كثير من السنن، حتى تجد كثيرًا من العامة قد يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس، وتنقص بِسَببها عنايتهم بالفرائض، وغير ذلك = يُعَارِض ما فيها من المنفعة، فإن فيها -أيضًا- من مصير المعروف منكرًا أو المنكر معروفًا، وجهالة أكثر الناس بدين المرسلين، وانتشار البدع، ومُسَارقة الطَبْع، إلى الانحلال من ربقة الاتباع، وفوات سلوك الصراط المستقيم.

وذلك أن النفس فيها نوعٌ من الكبر، فتُحِبُّ أن تخرج عن العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري (1) : "ما ترك أحدٌ شيئًا من السنة إلا لكبرٍ في نفسِه"، ثم هذا مظنة لغيره (2) ، فينسلخ القلبُ عن حقيقة اتباع الرسول، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يُفْسِد عليه دينه أو يكاد، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرتُه وسلمت سريرتُه، حتى إن متتبعها يصير في غايةٍ من الجهالة. قد ضلَّ سعيُهم وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعًا، وهذا كلُّه مقرر في غير هذا الموضع.

__________

(1) هو: إسماعيل بن عبد الرحمن أبو عثمان الصابوني، صاحب العقيدة المشهورة، ت (449) "السير": (18/ 40).

(2) يعني من البدع والفساد.

(1/145)

________________________________________

فصلٌ (1)

تقدم أن العيد يكون اسمًا لنفس المكان والزمان والاجتماع، وقد أُحدث من هذه الثلاثة أشياء، مثل:

* أول خميس من رجب (2)، وليلة تلك الجمعة تسمَّي: "الرغائب"، فإن تعظيم ذلك اليوم والليلة حادث بعد المئة الرابعة، ورُوِيَ في صومه حديث موضوع باتفاق العلماء (3)، وفعل هذه الصلاة وإن كان قد ذكرها بعض المتأخرين من الأصحاب وغيرهم، فإنها محدثة منهيٌّ عنها عند المحققين من أهل العلم، وعن إفراد صوم هذا اليوم، وكل ما فيه تعظيم له من طعامٍ وزينة، بل لا يكون له مزيَّة على غيره.

* وكذلك يومٌ آخر في وسط رجب، يصلى فيه صلاة تُسَمَّى "صلاة أم داود" فلا أصل لذلك.

* ومنها: ثامن عشر ذي الحجة (4)، الذي خطب فيه رسول الله بغدير خُمٍّ مرجِعَه من حجة الوداع (5)، فاتخاذ ذلك اليوم عيدًا مُحْدَث لا أصل له.

__________

(1) "الاقتضاء": (2/ 121).

(2) وهذا من نوع: ما لم تُعظمه الشريعة أصلًا.

(3) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات": (2/ 124)، وانظر "أداء ما وجب": (ص/ 54) لابن دحية، و "المنار": (ص/ 95 - 96) لابن القيم.

(4) وهذا من نوع: ما جرى فيه حادثة ما، من غير أن يُجعل موسمًا.

(5) أخرجه مسلم رقم (2408) من حديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه-.

(1/146)

________________________________________

* ومنها: ما يُحدِثه بعضُ الناس؛ إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى، وإما محبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والله يُثيبهم على قصدهم الصالح (1) ؛ لكن هذا المولد لم يفعله أحد من السلف للنبي -صلى الله عليه وسلم- (2) ، ولو كان خيرًا لكان السلف -رضي الله عنهم- أحقَّ به، وكمالُ تعظيمه في متابعته ظاهرًا وباطنًا، ونَشْر ما بُعِث به، والجهادُ على إظهاره باليد والقلب واللسان، هذه طريقة السابقين.

فعليك بالتمسُّك بالسنة في خاصَّتك وخاصَّة من يُطيعك، وأعرف المعروف وأنكر المنكر، وادْعُ (3) إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شرٍّ منه؛ فلا تدعُ إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو ترك واجب أو مندوب تركُه أضرُّ من فعل ذلك المكروه، ولا ينبغي لأحدٍ أن يترك خيرًا إلَّا إلى مثله أو إلى خيرٍ منه.

فَفِعْل المولد قد يفعله بعضُ الناس ويكون له فِيْه أجر عظيم (4) ، فقد يَحْسُن من بعض الناس ما يُستقبح من المؤمن المسدَّد (5) .

فتفطَّن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية (6) ، بحيث تعرف مراتبَ المعروف ومراتبَ المنكر، حتى تُقَدِّم

__________

(1) من محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه، لا لأجل البدع.

(2) مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.

(3) في "الأصل": "وادعوا" والصواب المثبت.

(4) لحسن قصده وتعظيمه للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما وقع منه من بدعة غفره الله له؛ لاجتهاده أو تقليده الذي يُعْذَر به عند الله تعالى.

(5) وانظر "الاقتضاء": (2/ 126) لمزيد البيان.

(6) في "الأصل": "الشريعة" سبق قلم.

(1/147)

________________________________________

أحدهما عند الازدحام، فهذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل.

وقد يُفْعَل في ما هو مُعَظَّم في الشريعة (1) ، من الأوقات الفاضلة ما يعتقد أنه فضيلة فيصير منكرًا، مثل ما أحدث بعضُ أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعَطُّش والتحزُّن والتجمُّع، وغير ذلك من المحدثات، من اتخاذه مأتمًا، فهو من دين الجاهلية ليس من دين المسلمين، وكذلك أحدثَ فيه بعضُ الناس أشياءَ مستَنِدة إلى أحاديث موضوعة، مثل فضل الاغتسال فيه أو التكحل أو المصافحة (2) ، فكل ذلك مكروه، وإنما السنة صومه.

وقد رُوِيَ في التوسعة على العيال آثار معروفة (3) ، وقد يكون الغُلُو في تعظيمه من بعض أهل السنة لمقابلة الروافض، فإن الشيطان قصده أن يحرف الخلقَ عن الصراط المستقيم.

* ومنها: رجب، فإنه أحد الأشهر الحُرُم، ورُوِيَ عنه أنه كان يقول: "اللهم بارِكْ لنا في رجَبَ وشعبانَ وبلِّغْنا رمضَاَن" (4) ، ولم يثبت عنه في رجب حديث آخر، بل عامة الأحاديث المأثورة فيه كَذِب. فاتخاذه

__________

(1) وهذا هو القسم الثالث، وقد تقدم القسمان الأولان قريبًا، وهذا القسم إلى قوله {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} ملحق في الحاشية.

(2) انظر "المنار المنيف": (ص/ 112)، و "لطائف المعارف": (ص/ 112).

(3) انظر "المنار المنيف": (ص/ 111 - 112)، و "المقاصد الحسنة": (ص/ 431)، و"اللآلي المصنوعة": (2/ 111 - 114)، و"لطائف المعارف": (ص/ 112 - 113).

(4) أخرجه أحمد: (4/ 180 رقم 2346)، والبزار "الكشف": (1/ 294) وغيرهم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وهو حديث ضعيف مداره على زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري.

(1/148)

________________________________________

موسمًا بحيث يُفْرَد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره، كما روي عن عمر بن الخطاب وأبي بكرة وغيرهما من الصحابة -رضي الله عنهم (1) -. وروى ابن ماجه: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نهى عن صَوْمِ رجب" (2) .

وهل الإفراد المكروه أن يصومه كلَّه أو أن لا يقرن به شهرًا آخر؟ فيه للأصحاب وجهان.

ومن هذا الباب: ليلة نصف شعبان، فقد رُوِي في فضلها من الأحاديث ما يقتضي أنها ليلة مفضَّلة، وأن من السلف من كان يخصُّها بالصلاة فيها (3) .

وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة (4) .

ومن العلماء من أنكر فضلَها وطعن في الأحاديث الواردة فيها؛ كحديث: "إنَّ اللهَ يَغْفِرُ فيها لأكثر من شَعْر غَنَمٍ کلبٍ" (5) .

والذي عليه أكثر أهل العلم من أصحابنا وغيرهم تفضيلها، وعليه يدل نصُّ أحمد، وإن كان قد أُحْدِثَ فيها أحاديث.

__________

(1) انظر "تبيين العجب": (ص/ 66)، و "لطائف المعارف": (ص/ 229 - 230).

(2) رقم (1743) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وسنده ضعيف، وقد ضعفه شيخ الإسلام، وابن رجب وصحح وقفه على ابن عباس.

(3) انظر "المنار المنيف": (ص/ 98)، و "لطائف المعارف": (ص/ 261).

(4) كما أخرج البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- رقم (1969)، ومسلم رقم (1156). في أحاديث أخرى، انظر "لطائف المعارف": (ص/ 236).

(5) يعني ليلة النصف من شعبان، وهذا الحديث رواه أحمد: (6/ 238)، والترمذي رقم (739)، وابن ماجه رقم (1389)، وضعفه الإمام البخاري كما نقل عنه الترمذي.

(1/149)

________________________________________

أما صوم النصف مفردًا؛ فلا أصل له، بل إفراده مكروه، وكذلك اتخاذه موسمًا تُصْنَع فيه الأطعمة والزينة.

وكذلك صلاة الألفية في ليلة النصف جماعةً. وليعلم أن الاجتماع لصلاة تطوع، أو استماع قرآن، أو ذكر الله، ونحو ذلك، إذا كان يُفْعَل أحيانًا فهو حسن، فقد صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى التطوع في جماعةٍ أحيانًا. وعموم الأحاديث الذي فيها: "ما اجْتَمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ يَتْلُونَ كتابَ اللهِ ويَتَدَارسُونَه بَيْنَهم ... " (1) الحديث. وأنه خرج على قومٍ وهم يقرأون فجلس معهم (2) ، وغير ذلك.

أما اتخاذ اجتماع راتبٍ يتكرَّر بتكرُّر الأسابيع أو الشهور أو الأعوام غير الاجتماعات المشروعة، فإن ذلك يُضاهي اجتماعات الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والحج، وذلك هو المبتدَع المحدَث، فَفَرْقٌ بين ما يُتَّخذ سنة وعادة، فإن ذلك يُضاهي المشروع، وهذا الفرق هو المنصوص عن أحمد وغيره من الأئمة.

وروي عن ابن مسعود أنه اتخذ أصحابُه مكانًا يجتمعون فيه للذكر؛ فخرج إليهم فقال: "لأنْتُم أهْدَى من أصحاب محمد، أو لأنتم على شُعْبَةِ ضلالٍ" (3) .

وفيما شرعَه الله من العبادات المتكرِّرة كفاية، فإذا أحْدِث اجتماع معتاد كان فيه مضاهاة لما شَرَعَه الله، بخلاف ما يفعله الرجل وحدَه أو

__________

(1) أخرجه مسلم رقم (2699) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(2) كما في حديث استماعه لقراءة أبي موسى، وابن مسعود.

(3) أخرجه الدارمي في "مسنده" رقم (210 - ط. حسين أسد) وابن أبي شيبة: (7/ 553).

(1/150)

________________________________________

الجماعة المخصوصة أحيانًا، ولذلك كره السلف إفرادَ رجب، وقطعَ عمرُ الشجرةَ التي [بويع تحتها] (1) لمَّا انتابها الناسُ. ففرقٌ بين الكثير الظاهر وبين القليل الخفيِّ، والمعتاد وغير المعتاد ... (2).

* * *

فصل (3)

وقد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدَث العيدُ المكانيُّ؛ فيغلظ قُبْح هذا، ويصير خروجًا عن الشريعة، فمن ذلك: ما يُفْعَل يوم عرفة مما لا أعلم بين المسلمين خلافًا في النهي عنه، وهو قَصْد قبر من يُحْسِن به الظنَّ يوم عرفة، والاجتماع العظيم عند قبره، كما يُفْعَل في بعض أرض المشرق والمغرب، والتعريف هناك كما يُفْعَل بعرفات، فإن هذا نوعٌ من الحجِّ المبتدَع الذي لم يشرعه الله واتخاذ القبور أعيادًا.

وكذلك السفر إلى بيت المقدس للتعريف فيه، فإنه -أيضًا- ضلال بَيِّن، فإن زيارة بيت المقدس مستحبَّة للصلاة والاعتكاف، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تُشَدُّ إليها الرِّحال؛ لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه، فإن ذلك تخصيص وقت معيَّن بزيارة بيت المقدس، ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت.

__________

(1) غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

(2) بعده نحو سطر لم يتضح؛ لأنه جاء في ذيل الورقة (200 ب)، والنص من قوله: "وروي عن ابن مسعود ... " إلى هنا ملحق في حاشية النسخة.

(3) "الاقتضاء": (2/ 149).

(1/151)

________________________________________

ثم فيه -أيضًا- مضاهاةٌ للحج إلى المسجد الحرام، وتشبيهُه بالكعبة، وقد أفضى الأمر إلى ما لا يشكُّ مسلم أنه شريعة أخرى غير شريعة الإسلام، وهو ما قد يفعله بعض الضُلَّال من الطواف بالصخرة، أو حَلْق الرأس هناك، أو قصد النُّسك هناك.

وما يفعله بعضُ الجهَّالُ من الطواف بالقُبة التي بجبل الرحمة بعرفة.

وأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء أو ضَرْبٍ بالدفِّ بالمسجد الأقصى ونحوه؛ فمن أقبح المنكرات من جهاتٍ أُخرى.

وأما قَصْد الرجل مسجدَ بلدِه يوم عرفة للدعاء والذكر؛ فهذا هو التعريف في الأمصار، فقد اختلف فيه العلماء؛ ففعله ابنُ عباس وعَمْرو ابن حُرَيث، ورخَّص فيه أحمد وإن كان مع ذلك لا يستحبُّه، هذا المشهور عنه، وكرهه طائفة من الكوفيين [والمدنيين] (1) ؛ كأبي حنيفة ومالك وغيره.

والفرق بين هذا التعريف وذلك التعريف المنهيِّ عنه: هو أن ذلك قَصْد موضعٍ بعينه، مثل قبرٍ أو غيره يُشَبَّه بعرفات، بخلاف مسجد المِصْر، فإنه قَصَد له بنوعه لا بعينه، وأيضًا: فإن المكان المعيَّن قد يحصل شدُّ رحلٍ إليه، واتخاذ القبر عيدًا، وهذا بنفسه محرَّم.

وأما ضرب البوقات والطبول فإنه مكروه في العيد وغيره، وكذلك لباس الحرير.

__________

(1) زيادة من "الاقتضاء" ليتسق الكلام، لأنه ذكر أبا حنيفة وهو کوفي، وذكر مالكًا وهو مدني.

(1/152)

________________________________________

 فصلٌ (1) وأما الأعياد المكانية فتنقسم كالزمانية إلى ثلاثة أقسام:

 أحدها: ما لا خصوصَ له في الشريعة.

 والثاني: ما له خَصِيصة لا تقتضي قصده للعبادة فيه.

 والثالث: ما تُشرع (2) العبادة فيه، لكن لا يُتَّخذ عيدًا.

والأقسام الثلاثة جاءت الآثارُ بها؛ مثل قوله: "لا تتخذوا قبري عيدًا" (3)، ومثل نهيه عن اتخاذ آثار الأنبياء أعيادًا. فهذه الأقسام الثلاثة:

أحدها: مكانٌ لا فضل له في الشريعة أصلًا، ولا فيه ما يوجِب تفضيلَه، بل هو كسائر الأمكنة أو دونها، فَقَصْد ذلك أو الاجتماع فيه لصلاة أو دعاء أو ذِكْر أو غيره ضلال بيِّن، [و] إن كان به أثر بعض الكفار أو غيرهم صار أقبح وأقبح، ودخل في هذا الباب وفيما قبله مشابهة الكفار، وهذه أنواع لا يمكن ضبطها بخلاف الزمان فإنه محصور، وهذا الضرب أقبح من الذي قبلَه، فإن هذا يُشبه عبادة الأوثان أو ذريعة إليها، أو نوع من عبادة الأوثان، إذ عبَّاد الأوثان كانوا يقصدون بقعةً بعينها لتمثالٍ هناك أو غير تمثال، يعتقدون أن ذلك يُقربهم إلى الله، وكانت الطواغيتُ الكِبار التي تُشَد إليها الرِّحال ثلاثة؛ اللات، والعُزَّى، ومناة الثالثة الأخرى، كما ذكر اللهُ تعالى في كتابه (4). كلُّ واحدة من هذه الثلاثة لمِصْر من أمصار العرب.

__________

(1) "الاقتضاء": (2/ 155).

(2) في "الأصل": "ما يشرع من ... " وحذفها هو الصواب كما في "الاقتضاء".

(3) سيأتي ص/ 162.

(4) سورة النجم (19 - 22).

(1/153)

________________________________________

ومواقيت الحج ثلاثة؛ مكة والمدينة والطائف، فكانت اللات لأهل الطائف. قيل: إنه كان رجلًا صالحًا يَلُتُّ السويق للحجيج، فلما مات عكفوا على قبره مُدَّة، ثم اتخذوا تمثاله، ثم بنوا عليه بِنْيَة سَمَّوها: "بيت الربَّة" وقصتها معروفة، فلما بُعِثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- هَدَمَها لما فُتِحت الطائف بعد مكة سنة تسعٍ (1).

وأما العُزَّى: فكانت لأهل مكة قريبًا من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون، فبعثَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- خالدَ بنَ الوليد عَقِب فتح مكة، فأزالها، وقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- مالَها، وخرجت منه شيطانة ناشرة شعرها، فيئست العُزَّى أن تُعْبَد.

وأما مناة: فكانت لأهل المدينة من ناحية الساحل.

ومن أراد أن يعلم كيف كان حال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشركِ الذي ذمَّه اللهُ وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن؛ فلينظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في "أخبار مكة" (2) وغيره من العلماء.

ولما كان للمشرکين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمُّونها: "ذات أنواط". فقال بعضُ الناس: يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط ٍ كما لهم ذات أنواط. فقال: "الله أكبر، قلتم كما قال قومُ موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، إنها السَّنَن لتركبنّ سَنَن من كَان قَبْلَكم" (3). فأنكر __________

(1) انظر "السيرة النبوية": (4/ 541).

(2) (1/ 116 - 125).

(3) تقدم ص/ 35.

(1/154)

________________________________________

مشابهتهم للكفار بأن يعلقوا على شجرة، فكيف بما هو أطم من مشابهتهم في نفس الشرك؟!

فمن قَصَد بقعةً يقصد الخير فيها، ولم تستحب الشريعةُ ذلك؛ فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواءٌ كانت البقعة شجرة، أو عين ماء، أو قناة جارية، أو جبلًا، أو مغارة، وسواءٌ قَصَدَها ليصلي فيها، أو ليدعو، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر، أو ليتنسَّك، بحيث يخص البقعة بنوعٍ من العبادة التي يُشْرَع تخصيص تلك البقعة به لا عينًا ولا نوعًا.

وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنًا لتُنَوَّر [به]، ويقال: إنها تقبل النذر -كما يقوله بعض الضالين- فإن هذا نذرُ معصيةٍ باتفاق العلماء، لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم، منهم أحمد في المشهور عنه.

وكذلك إذا نذر طعامًا للحيتان التي في العين، أو نذر مالًا للسَّدَنة والمجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هولاء يشبهون سَدَنة اللات والعُزَّى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، فيهم شَبَه من العاكفين الذين قال لهم إبراهيم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: 52]، وكالذين اجتاز بهم موسى وقومُه في قوله: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138].

ثم إذا صُرف هذا المال في جنس تلك العبادة من المشروع، مثل عمارة المساجد، والصالحين من فقراء المسلمين؛ كان حَسَنًا. فهذه الأمكنة منها ما يُظن أنه قبر نبي أو رجلٍ صالح، وليس كذلك، أو يُظن أنه مقام له وليس كذلك، فأما ما كان قبرًا أو مقامًا؛ فهو من النوع

(1/155)

________________________________________

الثاني، وهذا بابٌ واسع أذكر بعض أعيانه:

* فمن ذلك: عدة أمكنة بدمشق، مثل مشهد لأُبَيِّ بن كعب، خارج الباب الشرقي، ولا خلاف أن أُبيَّ بن كعبٍ إنما توفي بالمدينة.

* وكذلك يقال: قبر هود في الحائط القِبْلي، وما علمتُ أحدًا ذكر أن هودًا (1) مات بدمشق، بل قيل: باليمن، وقيل: بمكة.

* وكذلك: مشهد أويس، وما قال أحدٌ أن أُويسًا (2) مات بدمشق ولا قدم إليها.

* ومن ذلك: قبر أم سلمة، ولا خلاف أنها ماتت بالمدينة، وما أكثر الغلط في ذلك من جهة مشابهة الأسماء (3).

* وكذلك: بمصر مشهد يقال: إنه للحسين، وهو باطل اتفاقًا (4).

فهذه المواضع ليس فيها فضيلة أصلًا، اللهم إلا أن يكون قبر رجلٍ مسلم، فيكون كسائر قبور المسلمين ليس لها خَصِيصة، وإن كانت القبور الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعيادًا، ولا أن يُفْعَل فيها ما يُفعل عند هذه القبور المكذوبة.

وفي هذا الباب مواضع يقال: إن فيها أثر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو غيره،

__________

(1) "الأصل": "هود".

(2) "الأصل": "أويس".

(3) فأم سلمة كنية عدد من النساء في الصحابة والتابعين.

(4) للمؤلف رسالة خاصة في هذا المشهد نشرت باسم "رأس الحسين"، انظر "مجموع الفتاوي": (27/ 450 - 489).

(1/156)

________________________________________

ويُضَاهَى بها مقام إبراهيم الخليل الذي بمكة، كما يقوله الجهالُ في الصخرة التي ببيت المقدس، من أن فيها أثرًا من وطء النبي، وبلغني أن بعض الجهال يقول: إنه من وطء الربِّ -سبحانه-!!

وفي مسجد قِبْلِي دمشق -مسجد القدم- يقال: إنه أثر قدم موسي، وهذا باطل.

وكذلك مشاهد تُضَاف إلى بعض الأنبياء والصالحين بناءً على أنه رُئيَ هناك في النوم، ورؤية النبي أو الرجل الصالح ببقعة في النوم لا يوجب لها فضيلة، تُقْصَد البقعة لأجلها، أو تُتخذ مصلّي بإجماع المسلمين.

وهذه الأماكن كثيرة موجودة في أكثر المواضع؛ مثل الحجاز فيها مواضع؛ كغارٍ عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة، يقال: إنه الغار الذي دخله النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وأنه الغار الذي ذكره الله تعالي. فلا خلاف بين أهل العلم أن الغار الذي ذكره الله في القرآن، إنما هو غارٌ بجبلِ ثورٍ قريبٌ من مكة، معروف عند أهل مكة إلى اليوم.

وبالجملة؛ فتعظيم مكان لم يُعظّمه الشرع شر من تعظيم زمانٍ لم يُعظمه، فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها، أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، فيُنْهى عن الصلاة فيها وإن لم يقصد تعظيمها، لئلا يكون ذريعةً إلى تخصيصها بالصلاة، كما يُنْهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يقصد المصلِّي الصلاة لأجلها، كما يُنْهى عن إفراد الجمعة وسَرَر شعبان (1) ، وإن لم يقصد تخصيصها بالصوم.

__________

(1) يعني: آخر شعبان.

(1/157)

________________________________________

وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد ضرار، فإن هذه المشاهد إنما وُضِعَت مضاهاةً لبيوت الله، وتعظيمًا لما لم يُعظِّمْه الله، وعكوفًا على أشياء لا تنفع، وصدًّا للخلق عن سبيل الله، وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه.

ويلتحق بهذا الضرب -وإن لم يكن منه- مواضع يُدَّعَى لها خصائص لا تَثْبُت، مثل كثير من القبور التي يقال: إنها قبر نبي أو قبر صالح، أو مقام نبي أو صالح، ونحو ذلك، وقد يكون ذلك صدقًا، وقد يكون كذبًا، وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضرب، فإن الصحيحَ من ذلك قليل جدًّا.

وقال غيرُ واحدٍ من أهل العلم: لم يثبت إلا قبر نبينا -صلى الله عليه وسلم-. وغيرُه يُثْبِت قبرَ إبراهيم الخليل، وقد يكون عُلِمَ أن القبرَ في تلك الناحية؛ لكن يقع الشكُّ في عينه، ككثير من قبور الصحابة التي "بباب الصغير" من دمشق، فإن الأرض غُيِّرت، فتعيينُ قبرٍ بعينه أنه قبر بلالٍ أو غيره لا يكاد يَثْبت إلا من طريق خاصة. وإن كان لو ثبت ذلك لم يتعلَّق به حكمٌ شرعي مما قد أُحْدِثَ عندها؛ إذ لو كان ضبط هذه الأمكنة من الدين لما أُهْمِل ولما ضاع عن الأمة المحفوظ دينها المعصومة عن الخطأ.

وأكثر الحكايات إنما توجد من السَّدَنة والمجاورين، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وقد يُحْكَي ماله تأثيرٌ، مثل: أن رجلًا دعا عند قبرٍ فاستُجِيبَ له، أو نَذَر لمكانٍ فقُضِيت حاجتُه، ونحو ذلك، وبمثل هذه الأمور عُبِدَت الأصنام، فإن القوم كانوا -أحيانًا- يُخَاطَبُون من الأوثان، وربما تُقْضَي حوائجهم إذا قصدوها، وكذلك يجري لأهل

(1/158)

________________________________________

الأبداد (1) من أهل الهند، وربما قِيْست على ما شرعه الله من حجِّ بيته والحجر الأسود.

وإنما عُبِدت الشمس والقمر بالمقاييس، وبمثل هذه الشبهات حدث الشركُ في أهل الأرض.

وقد صحَّ أنه نهى عن النذر وقال: "إنَّه لا يَأتي بِخَيْرٍ" (2) ، فإذا كان النذر الذي هو طاعة لا يأتي بخير؛ فما الظنُّ بالنذر الذي هو معصية، بأن يكون لشيءٍ من هذه الأمكنة مما لا ينفع ولا يضر؟!

وأما إجابة الدعاء؛ فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه، وقد يكون مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرًا قضاه الله، لا لأجلِ دعائه، وقد يكون له أسبابٌ أُخَر، وإن كانت فتنةً في حقِّ الداعي، فإنا نعلم أن الكفار قد يُسْتجابُ لهم، فيُسْقون ويُنصرون ويُعافون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسُّلهم بها، وقال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) } [الإسراء: 20]، وقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) } [الجن: 6].

وأسبابُ المقدورات فيها أمور يطول شرحُها، ليس هذا موضُعها، وإنما على الخلق اتباع ما بعثَ الله به المرسلين، والعلم بأنَّ فيه خير الدنيا والآخرة، ولعلِّي إن شاء الله أبين أسباب هذه التأثيرات في موضعٍ آخر (3) .

هذا هو النوع الأول من الأمكنة.

__________

(1) جمع "بُدّ"، وهو الصنم أو بيته.

(2) أخرجه البخاري رقم (6692، 6693، 6694)، ومسلم رقم (1639، 1640) من حديث أبي هريرة وابن عمر -رضي الله عنهم-.

(3) انظر: "مجموع الفتاوي": (1/ 359 - 364)، (11/ 641 - 644) وغيرها.

(1/159)

________________________________________

النوع الثاني من الأمكنة (1): ما له خَصِيْصة؛ لكن لا يقتضي اتخاذه عيدًا، ولا يُصلَّي عنده، ولا يُعبد بنوعٍ من العبادات، فمن ذلك: قبور الأنبياء والصالحين، وقد جاء عن النبي وعن السلف النهيُ عن اتخاذها عيدًا عمومًا، خصوصًا، وبيَّنوا معنى العيد.

أما العموم: فما رواه أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكم قُبُورًا ولا تجعَلُوا قبري عِيْدًا، وصَلُّوا عليَّ فإنَّ صَلَاتَكم تَبْلُغُنِي حَيْثُ ما كُنْتُم" -صلى الله عليه وسلم- تسليمًا. رواه أبو داود بإسنادٍ حسن (2)، رواته كلُّهم ثقات (3).

قال: حدثنا أحمد بن صالح، قال: قرأتُ على عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فذكره.

وإن كان عبد الله بن نافع الصائغ فيه لِيْن لا يقدح في حديثه، قال ابن معين: هو ثقة. وقد رُوِي من جهاتٍ أخرى فما بقي فيه إنكار.

ورُوِي عن الحسن بن الحسن (4) بن علي أنه رأى سهل بن سُهَيل عند قبره فقال: ما أنتَ ورجلٌ بالأندلس منه إلا سواء (5).

__________

(1) في "الاقتضاء": (2/ 169): "فصل" ثم ذكر النوع الثاني، وقد تقدم النوع الأول (ص 154).

(2) رواه أبو داود رقم (2042)، وأحمد: (14/ 403 رقم 8804).

(3) يعني: غيرَ عبد الله بن نافع، وقد ذَكَر الكلامَ فيه.

(4) وقع في "الأصل": "الحسين" والتصويب من "الاقتضاء" والمصادر.

(5) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" وساق سنده في "الاقتضاء": (1/ 338)، (2/ 172)، وابن أبي شيبة: (3/ 30)، من مرسل الحسن بن الحسن، وسنده جيد. وانظر "النهج السديد": (ص/ 120).

(1/160)

________________________________________

فإذا كان قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- -مع أنه أفضل قبر على وجه الأرض- قد نُهي عن اتخاذه عيدًا، فقبر غيره أولى بالنهي، مع كونه قَرَن ذلك بقوله: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكم قُبُوْرًا" أي: لا تعطِّلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحرِّي العبادة في البيوت، ونهى عن تحرِّيها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبَّه بهم.

وفي "الصحيحين" (1) قال: "اجْعَلوا من صلاتِكُم في بُيُوتكم ولا تتَّخِذُوها قُبُورًا"، وقال -أيضًا-: "فإنَّ صلاتَكُم تَبْلُغني" (2) يشير إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قُربكم من قبري وبُعدكم، فلا حاجةَ بكم إلى اتخاذه عيدًا.

والأحاديث بأن صلاتنا تُعْرَض عليه كثيرة مشهورة صحيحة (3).

مع كون أفضل التابعين [من أهل بيته] (4) علي بن الحسين رأى ذلك الرجلَ يدعو عند قبره فنهاه، وروى له حديث: "لا تتَّخِذُوا قَبْري عِيْدًا" (5) فعلم أنَّ قَصدَه للدعاء ونحوه اتخاذٌ له عيدًا، وهو أعلم بمعني الحديث من غيره.

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (432)، ومسلم رقم (77) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

(2) تقدم ص/160.

(3) انظر "النهج السديد" رقم (229، 232، 233، 234).

(4) زيادة من "الاقتضاء".

(5) رواه إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي": رقم (20)، والضياء في "المختارة"، وأبو يعلى: (1/ 245)، وابن أبي شيبة في "مسنده" -كما في "المطالب 2/ 70"- وفي "المصنَّف": (2/ 375).

وصححه الضياء، وحسنه السخاوي.

(1/161)

________________________________________

وكذلك ابن عمه حسن بن حسن -شيخ أهل بيته- کره أن يقصدَ الرجلُ القبرَ للسلام عليه ونحوه عند دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا. رواه سعيد (1) .

فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل بيته -رضي الله عنهم-. ومعلوم ما كان هو -صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه إذا دخلوا القبور أن يقول أحدهم: "السلامُ عَلَى أهل الدِّيارِ من المؤمنينَ والمسلمينَ، ويَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدمينَ مِنَّا والمُسْتأخِرين وإنَّا إن شاءَ اللهُ بِكُم للاحِقُونَ" (2) . ونحوه من الأحاديث المشهورة، وكالصلاة على الميت والدعاء له.

وما كان عليه السابقون الأولون هو المشروع للمسلمين في ذلك كله، وهذا الذي كانوا يفعلونه عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره.

فزيارة القبور في الجملة جائزة، حتى قبور الكفار، فإن في "صحيح مسلم" (3) أنه قال: "استأذَنْتُ رَبِّي أنْ أسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يأذَنْ لي، واسْتأذَنْتُه أنْ أزُوْرَ قَبْرَها فأذِنَ لي"، وقال: "زُوْرُوا القُبُوْرَ فإنَّها تذكِّرُ الآخِرَةَ" (4) . فهذه الزيارة التي تذكِّر الآخرة، ولِتَحيتهم والدعاءِ لهم هو الذي جاءت به السنة، كما تقدم.

وقد اختلف أصحابُنا وغيرُهم؛ هل يجوز السفر لزيارتها؟ على قولين:

__________

(1) تقدم ص/ 161.

(2) أخرجه مسلم رقم (975) من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه-.

(3) رقم (976) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(4) أخرجه أحمد: (2/ 398 رقم 1236) من حديث علي -رضي الله عنه-، وفي سنده ضعف، وله شواهد يصح بها عند الترمذي وغيره من حديث بريدة.

(1/162)

________________________________________

أحدهما: لا، وهو قول ابن بَطَّة وابن عقيل وغيرهما؛ لأنه سفر بدعة منهيٌّ عنه.

والثاني: يجوز، وهو قول الغزالي، وأبي الحسن بن عَبْدوس الحراني، والشيخ أبي محمد المقدسي (1) -وما علمتُه منقولًا عن أحدٍ من المتقدمين- بناء (2) على أن الحديثَ لم يتناول النهيَ عن ذلك، كما لم يتناول النهيَ عن السفرِ إلى المكان الذي فيه الوالد والعلماء والمشايخ والإخوان، أو بعض المقاصد من الأمور الدنيوية المباحة.

وأما سِوى ذلك من المحدَثات؛ مثل الصلاة عند القبور مطلقًا، أو اتخاذها مساجد، أو بناء المساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه، وقد صرَّح العلماء -علماء الطوائف- من أصحابنا وغيرهم، بالنهي عن بناء المساجد على القبور اتباعًا للأحاديث وأنه حرام، ومن العلماء من أطلق عليه لفظ الكراهة، فما أدري ما عنى به التحريمَ أو التنزيه؟ ولا ريب في القطع بتحريمه (3) .

فهذه المساجد المبنيَّة على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم تتعيَّن إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين. وتُكره الصلاةُ فيها من غير خلافٍ أعلمه، بل لا تصح عندنا في ظاهر المذهب؛ للنهي واللعن الوارد فيه. ليس في هذه المسألة خلاف؛ لكون المدفون واحدًا، وإنما اختلف أصحابُنا في المقبرة المجرَّدة عن مسجد؛ هل حدُّها ثلاثة أَقْبُر أو يُنْهى عن الصلاة

__________

(1) هو ابن قدامة، وانظر قوله في "المغني": (3/ 117 - 118).

(2) هذا تعليل قولهم بالجواز.

(3) بأدلة كثيرة صريحة، انظر "الاقتضاء": (2/ 184 - 187).

(1/163)

________________________________________

عند القبر الفَذِّ وإن لم يكن عنده قبر آخر؟ على وجهين.

ثم يُغَلَّظ النهي إن كانت البقعة مغصوبة، مثلما بُني على بعض العلماء والصالحين ممن كان مدفونًا في مقبرةٍ مُسَبَّلة، فبُنِي على قبره مسجد أو مدرسة أو رباط أو مشهد، وجُعِل فيه مطهرة أو لم يُجْعَل، فإن هذا مشتمل على أنواعٍ من المحرمات:

أحدها: أنه لا يجوز الانتفاع بالمقبرة المسبَّلة بغير الدفن من غير تعويض بالاتفاق، فبناء المسجد ونحوه فيها كدفن الميِّت في المسجد. وكبناء الخانقاه (1) في المقبرة، وكبناء المسجد في الطريق التي يحتاج الناس إلى المشي فيه.

الثاني: اشتمال غالب ذلك على نَبْش قبور المسلمين، وإخراج عظام موتاهم.

الثالث: أن البناء على القبور منهيٌ عنه.

الرابع: أن بناء المطاهر بين القبور من أقبح ما تُجاوَر به القبور، لا سيما إن كان موضع المطهرة قبر رجلٍ مسلم.

الخامس: اتخاذ القبور مساجد.

السادس: الإسراج على القبور.

__________

(1) كذا بالأصل، وجَمْعه "خوانق" وهي دور تُعد لبعض المنقطعين للعبادة، من المتصوفة ونحوهم؛ للذكر والدعاء والإقامة، وتجري عليهم الأرزاق ... انظر: "معجم المصطلحات والألقاب التاريخية": (ص / 158). وفي "الاقتضاء": "الخانات".

(1/164)

________________________________________

السابع: مشابهة أهل الكتابَيْن في كثير من الأقوال والأفعال والسنن بهذا السبب، كما هو الواقع، إلى غير ذلك من الوجوه.

وقد كانت البِنْيَة التي على قبر إبراهيم مسدودة لا يُدْخَل إليها إلى حدود المئة الرابعة، فقيل: إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأَتْ في ذلك منامًا، فنُقِبَت لذلك.

وقيل: إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي نَقَبوا ذلك، ثم تُرِك ذلك مسجدًا بعد الفتوح المتأخرة، وكان أهلُ الفضل من شيوخنا لا يصلون في مجموع تلك البنية، وينهون أصحابَهم عن الصلاة فيها؛ اتباعًا لأمر رسول الله واتقاء معصيته.

وكذلك إيقاد المصابيح في هذه المشاهد، لا يجوز بلا خلافٍ أعلمه، ولا يجوز الوفاء بما يُنْذَر لها، ومن ذلك الصلاةُ عندها، وإن لم يُبْنَ هناك مسجد، فإن كلَّ موضعِ قُصِدت الصلاة فيه فقد اتخذَ مسجدًا، وإن لم يكن هناك بناءٌ، فإن النهي عن الصلاة في المقبرة ليس لمجرَّد كونها محل النجاسة، بل لمظنَّة اتخاذها أوثانًا، كما قد بيَّنه في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اشتدَّ غَضَبُ اللهِ على قومٍ اتخذوا قبورَ أنْبِيائِهم مَسَاجِدَ" (1)، وقول عائشة: ولولا (2) ذلك لأُبْرِزَ قبره (3) وغيره من الأحاديث.

فإن قبور الأنبياء لا تُنْبَش حتى يقال: لأجل النجاسة، خصوصًا ولا

__________

(1) أخرجه بهذا اللفظ مالك في "الموطأ" رقم (475) من مرسل عطاء بن يسار، وانظر "التمهيد": (5/ 41 - 42)، وأما بلفظ: "لعن الله اليهود والنصاري" فهو مشهور في الصحاح.

(2) في "الأصل": "ولو" سهو.

(3) أخرجه البخاري رقم (529)، ومسلم رقم (1330).

(1/165)

________________________________________

تُبْلي (1) الأنبياء، فعُلِمَ أنه لمظنة عبادة الأوثان، قال الشافعي: "أكره أن يُعظم قبر مخلوق حتى يُجْعَل قبره مسجدًا مَخافَة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس" (2).

وقد نبه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "اللهم لا تَجْعَل قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَد" (3) على العلة.

فصلٌ (4)

ولخوف مظنة عبادة الأوثان حَسَم الرسول -صلى الله عليه وسلم- المادَّة، ونهى عن الصلاة عند القبور، كما تقدم، ولأجل تلك العلة وقع كثير من الأُمم إما في الشرك الأكبر أو الأصغر، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، فإن الشرك بقبر الرجل الصالح أعظم من الشرك بخشبة أو حجر على تمثاله، فتجد قومًا يتضرَّعون عند القبور، ويخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد، بل ولا في السَّحَر، وقد يسجدُ بعضُهم لها، ويرجون من بركة الصلاة عندها، ما لا يرجونه عند بيتِ الله.

فحَسَمَ -صلى الله عليه وسلم- ذلك كلَّه، وإن لم يقصد المصلِّي [بركة] (5) ذلك، كما يُنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها، فيُنْهَى عن ذلك سدًّا للذريعة.

__________

(1) كلمة لم تحرر، ولعلها ما أثبت.

(2) كما في "الأم": (1/ 287).

(3) أخرجه أحمد: (12/ 314 رقم 7358) وغيره، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وسنده جيد، وانظر "النهج السديد" رقم (219).

(4) "فصل" ليس في "الاقتضاء": (2/ 192).

(5) في "الأصل": "برکعته"! والتصويب من "الاقتضاء".

(1/166)

________________________________________

أما إذا قصَدَ الرجلُ الصلاةَ عند بعض قبور الأنبياء والصالحين متبركًا بالصلاة في تلك البقعة؛ فهذا هو عين المحادَّة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، واتباع (1) دين لم يأذن به الله، فقد أجمع المسلمون: على أن الصلاة عند أيِّ قبر كان لا فضل فيها لذلك، ولا للصلاة مَزِيَّة في تلك البقعة أصلًا، بل مزيةُ شرٍّ.

واعلم أن تلك البقعة وإن كانت قد تنزل عندها الملائكة والرحمة، ولها شرف وفضل، لكن دين الله بَيْن الغالي فيه وبين الجافي عنه.

فالنصاري عظموا الأنبياء حتى عبدوهم، واليهود استخفُّوا بهم حتى قتلوهم، والأمة الوسط عرفوا حقوقهم، ولأجل ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُطْرُونِي كما أطْرَتِ النصارى المسيحَ ... " (2) . فلو قُدِّر أن الصلاة هناك توجب رحمةً أكثر من الصلاة في غيرها، كانت المفسدة الناشِئة تُرْبي على هذه المصلحة حتى تغمرها وتزيد عليها، بحيث تصير الصلاة هناك مُذْهِبةً لتلك الرحمة، ومُثْبِتة لما يوجب العذاب، ومن لم تكن له بصيرة يدرك بها الفساد من ذلك، فيكفيه أن يُقلِّد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإنه من المعلوم أنه لولا أن الفساد أغلب من المصلحة لما نهى عن ذلك.

وليس للمؤمن أن يُطالب الرسول بتبيين وجوه المصالح، وإنما عليه طاعته، والسمع والطاعة له، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

__________

(1) في "الاقتضاء": "وابتداع"، وكلا الوجهين يصح.

(2) أخرجه البخاري رقم (3445) من حديث عمر -رضي الله عنه-.

(1/167)

________________________________________

 فصلٌ (1) والمقصود أن الدعاء والعبادة عند القبور وغيرها من الأماكن تنقسم إلى نوعين:

أحدهما: أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق، لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو في طريقه، ويتفق أن يمر بالقبور، وكمن يزورها فيسلِّم ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة، فهذا ونحوه لا بأس به.

النوع الثاني: أن يتحرَّى الدعاء عندها، بحيث يستشعر أن الدعاء عندها أجوبُ من غيره، فهذا منهيٌّ عنه، إما نهي تحريم أو تنزيه، والتحريم أقرب، فإن الشخص لو دعا فاجتاز بصنمٍ من غير قصدٍ لم يكن به بأس، ولو تحرى الدعاء عند الصنم أو الصليب أو في الكنيسة يرجو الإجابة في تلك البقعة؛ لكان هذا من العظائم، فَقَصْد القبور للدعاء عندها من هذا الباب، بل قد يكون أشد؛ لنهي الرسول عن اتخاذها مساجد وعيدًا. فقَصْد القبور لم يفعله أحد من الصحابة والتابعين، بل أجْدَبُوا على عهد الصحابة، ودهمتهم نوائب، فهلَّا جاءوا فاستغاثوا عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! بل قد خرج عمرُ بالعباس يَسْتسقي به ولم يَرُح إلى القبر (2).

وكذلك لما فُتِحت تُسْتَر وجدوا قبر دانيال، فقيل: إنه كان إذا أجدبت السماء برزوا بسريره، فيُمْطَرون، فأمر عمر أن يُعَمَّى قبره،

__________

(1) "فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 195).

(2) رواه البخاري رقم (1010) عن أنسٍ -رضي الله عنه-.

(1/168)

________________________________________

فحفر ثلاثة عشر قبرًا متفرقة ودُفِنَ في أحدها ليلًا، وسوَّوا القبور كلَّها؛ لئلا يفتتن به الناس، فأنكر الصحابةُ ذلك وعَمَّوا قبره (1) ، فهذا فِعْل الصحابة المهاجرين والأنصار.

ومن تأمل كتب الآثار وعَرَف حال السلف، عَلِم قطعًا أن القومَ ما كانوا يستغيثون عند القبور ولا يتحرون الدعاء عندها؛ بل ينهون عن ذلك جهالهم.

فإن قيل: فقد نُقِل عن بعضهم أنه قال: قبر مَعْروفٍ الترياقُ الأكبر (2) المجرَّب، وأن معروفًا أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره، وأن بعض من هَجَره أحمدُ ابن حنبل، كان يأتي إلى قبر أحمد ويتوخَّي الدعاءَ عنده، ورُوِي عن جماعاتٍ أنهم دعوا عند قبر جماعات من الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم فاستجيب لهم.

وذكرَ علماءُ من المصنفين في المناسك: إذا زار قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو عنده، وأن من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له، ورأى بعضُهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ، وجرَّب (3) أقوامٌ استجابة الدعاء عند القبر، وأدركنا من ذوي الفضل علمًا وعملًا من يتحرى الدعاءَ عندها والعكوفَ عليها، وفيهم من لهم كرامات وعِلْم، فكيف يُخَالَف هؤلاء؟!

__________

(1) أخرجها ابن إسحاق -كما في "الاقتضاء": 2/ 199 - وابن جرير في "تاريخه": (4/ 92)، وانظر "البداية والنهاية": (10/ 65).

(2) "الأكبر" ليست في "الاقتضاء"، ومعروفٌ هو الكَرْخي الزاهد المشهور.

(3) بالأصل: "وجرب ذلك"! وحذفها هو الصواب.

(1/169)

________________________________________

وهذا السؤال -مع بُعْدِه عن طريق العلم- هو غايهُ ما يتمسَّك به المَقْبُرِيُّون (1).

والجواب عن ذلك على وجه الاختصار: أن ذلك لم يُنقل في اسْتحبابه -فيما علمناه- شيءٌ ثابت عن القرون الثلاثة المفضَّلة الذين أثنى عليهم الرسول، مع شدَّة المقتضي فيهم لذلك لو كان فضيلة.

وأما من بعدَهم؛ فأكثر ما يُفرض أن الأمة اختلفت، ولا يمكن أن يقال: إن الأمة أجمعت على استحسان ذلك؛ لأن كثيرًا من الأمة كَرِه ذلك وأنكره قديمًا وحديثًا.

وأيضًا: من الممتنع أن تتفق الأمةُ على استحسانِ فعلٍ، لو كان حسنًا لفعله المتقدمون، ولم يفعلوه (2)، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات وهي لا تتناقض، وإذا اختلف فيه المتأخرون، فالفاصل بينهم هو كتابُ الله والسنة والإجماع المتقدِّم نصًّا واستنباطًا؛ فكيف والحمد لله لم يُنْقَل هذا عن إمامٍ معروف ولا عالم متَّبَع؛ بل المنقول من ذلك إما كذب كما كُذِب على الشافعي أنه قال: "إني إذا نزل شيءٌ بي (3) أجيءُ فأدعو عند قبر أبي حنيفة فأُجاب"!

فهذا كذبٌ معلوم كذبُه؛ فإن الشافعي لما قدمَ بغداد لم يكن ببغداد قبر يُنتاب للدعاء عنده، وقد رأي الشافعيُّ بالحجاز والشام من قبور الأنبياء والصحابة والصالحين من هو أفضل عنده من أبي حنيفة، فما

__________

(1) كذا في الأصل والاقتضاء، نسبة إلى المقبرة، وفي "الباء" وجهان الضم والفتح.

(2) في "الأصل": "ولم يفعلونه"! وهو خطأ.

(3) كذا، وفي "الاقتضاء": "نزلت بي شدة".

(1/170)

________________________________________

باله لم يتوخَّ الدعاء إلا عنده؟! ثم قد تقدَّم (1) عن الشافعي قوله: "إني أكره تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها".

وإما أن يكون المنقول (2) عن مجهول لا يُعرف، ونحن لو رُوِيَ لنا أحاديث -مثل هذه الحكايات- لما جاز لنا التمسُّك بها حتى يثبتَ النقلُ.

ومنها ما قد يكون صاحبه قد قاله باجتهاد، وفَعَلَه باجتهاد يُخطيء ويُصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة، على وجهٍ لا محذور فيه، فَحُرِّفَ النقلُ [عنه].

ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقلٍ لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول لم يشرعها. وإنما يُثبت العبادةَ بمثل هذه الحكايات النصارى وأمثالُهم، وإنما المتَّبَع في إثبات الأحكام كتابُ الله، والسنةُ، واتباعُ سبيل السالفين الأوَّلين.

والجوابُ المحقَّق عن ذلك من وجهين؛ مجملٌ ومفصَّل:

أما المُجْمَل: فالنقض بأن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات من هذا النمط كثير، بل المشركون كانوا يدعون عند أوثانهم فيُسْتجاب لهم أحيانًا، كما قد يُسْتجاب لهؤلاء؛ بل في وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة، فإن كان هذا وحدَه دليلٌ على أن الله يرضى ذلك ويحبه فليطَّرِد الدليلُ، وذلك كفر متناقض.

__________

(1) ص/ 167.

(2) يعني: من هذه الحكايات.

(1/171)

________________________________________

ثم إن كل قومٍ قد جعلوا لأنفسهم ... (1) وقبرًا لا يثقون بغيره، فلا يمكن موافقة الجميع؛ لأنه جَمْع بين الضدين، وموافقة بعض دون بعضٍ تحكُّم بلا مرجِّح، ومن المحال إصابتهم جميعًا؛ لأن كل فريق يُخطِّئ الفريقَ الآخر.

ثم قد استُجِيب لبلعام بن باعور في قوم موسى المؤمنين، فسَلَبه اللهُ الإيمان (2)، والمشركون قد يَسْتسقون فيُسْقَون، ويَسْتنصرون فيُنْصَرون.

وأما الجواب المفصَّل فنقول: مدار هذه الشُّبهة على أصلين:

منقول: وهو ما يُحكى من فعل هذا الدعاء عن بعض الأعيان.

ومعقول: وهو ما يُعْتَقد من منفعته بالتجارب والأقْيِسَة.

أما النقل: فإما كذب، أو غلط، أو ليس بحجَّة، بل قد ذكرنا النقل عمن يُقْتَدي به بخلاف ذلك.

وأما المعقول: فعامَّة المذكور من المنافع كذب، فإن هولاء الذين يتحرون الدعاء إنما يُسْتَجاب لهم أحيانًا نادرًا، وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء وقت الأسحار وفي سجودهم، وأدبار صلواتهم؛ وفي بيوت الله؟! فإن هؤلاء إذا ابتهلوا مثل ابتهال المَقَابريين لم تكد تسقط لهم دعوة إلا لمانع.

وجميع الأمور التي يُظن أن لها تأثيرًا في العالم وهي محرمة في

__________

(1) كلمة لم تحرر ولعلها: "شيئًا".

(2) انظر تفسير آية (175) من سورة الأعراف، "ابن كثير": (2/ 275)، وغيره.

(1/172)

________________________________________

الشرع، كالتمريحات (1) الفلكية، والتوجُّهات النفسانية؛ كالعين، والدعاء المحرَّم، والرُّقى المحرمة، والتمريحات الطبيعية ونحو ذلك، فإن مضرَّتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب، فإنه لا يُطْلَب بها غالبًا إلا أمورٌ دنيويَّة، فقلَّ من حصل له بذلك أمر دنيوي إلا أعقبه شرٌّ أو كانت عاقبته خبيثة، دع الآخرة.

والمُخْفِقُ (2) من أهل هذه الأسباب أضعافُ أضعافِ المُنْجح، فلا يكاد يحصل الغرض إلا نادرًا، مع أن مضرَّتها أكثر من نفعها، بخلاف الأمور المشروعة؛ من الدعاء والتجارة والحراثة والتوكل على الله ونحوه، فإنه يحصل الخير [معها] (3) غالبًا.

فعُلِمَ أن (4) الأمور المذكورة ليس فيها خير غالب ولا خير مُحْض، ومن له خبرة بأحوال العالم تيقَّن ذلك بلا شكٍّ، والأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض لا يُحْصِيها إلا هو، أما أعيانُها بلا ريب، وكذلك أنواعها لا يضبطها المخلوق لسعة ملكوت الله -سبحانه وتعالى-، ولهذا كانت طريقة الأنبياء: الأمر بما فيه الصلاح والنهي عما فيه الفساد.

والكلامُ في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن

__________

(1) هذه وما سيأتي في السطر بعده كذا بالأصل، وفي "الاقتضاء": "التمريجات"، ولعل صوابها "النيرنجات" جمع نَيْرج، وهي" أُخَذٌ تشبه السحر، وليست بحقيقة، ولا كالسحر، إنما هو تشبيه وتلبيس" انظر "لسان العرب": (2/ 376).

(2) كذا ضبطها في هامش الأصل، وشرحها بقوله: "أي الذي لا يتم أمره".

(3) زيادة ليستقيم السياق.

(4) تكررت في الأصل.

(1/173)

________________________________________

ضَعُفَ عقلُه ودينُه، بحيث تختطفَ عقلَهِ، ويكفي العاقلَ أن يعلم أن ما سِوَى المشروع لا يُؤثِّر بحالٍ فلا منفعةَ فيه، أو أنه إذا أثَّر فضرره أكثر من نَفْعِه.

ثم قد يكون سببُ قضاءِ حاجة هولاء الداعينَ الدعاءَ المحرمَ؛ لشدَّة ضرورته، لو دعا اللهَ بها مشركٌ عند وثنٍ لاستُجِيْبَ له؛ لصدق توجُّهه إلى الله -تعالى-، ولو قد استُجِيبَ له على يد المتوسَّل به صاحبِ القبرِ أو غيرِه لاستغاثته، فإنه يُعاقب على ذلك، ويهوي به في النار إذا لم يعف اللهُ عنه، كما لو طلب ما يكون فتنة له، كما أن ثعلبة لما سأل (1) النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوَ له بِكثَرة المال، ونهاه النبيُّ عن ذلك مرةً بعد مرة، فلم ينته حتى دعا له، وكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة (2) . وقد قال: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَسْألني المسأَلَةَ فأُعْطِيه إيَّاها، فيخرجُ بها يتأبَّطُها نارًا" (3) .

فكم من عبدٍ دعا دعاءً غير مباح فَقُضِيَتْ حاجَتُه، وكان سببَ هلاکه في الدنيا والآخرة، تارةً بأن يسأل ما لا تصلح له مسألته، كما فعل

__________

(1) غير محررة في "الأصل" وهي هكذا في أصله.

(2) قصة حاطب بن ثعلبة هذه مما أورده أصحاب التفاسير عند قوله تعالي: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] وهي قصة باطلة لا تصح، وانظر في تفنيدها وبيان بطلانها کتاب "ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه" لعداب الحمش.

(3) أخرجه أحمد: (17/ 40، 199 رقم 11004 و 11123)، وابن حبان "الإحسان": (8/ 201)، والحاكم: (1/ 46) من حديث سعيد الخدري، وجعله ابن حبان من مسند عمر -رضي الله عنهما-.

والحديث صححه ابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي.

(1/174)

________________________________________

بلعام وثعلبة (1) ، وتارةً بأن يسأل على الوجه الذي لا يُحبه الله تعالي.

بل أشدّ من ذلك السحر الطِّلَسْمات (2) والعين وغير ذلك، قد يُقْضَي بها كثيرٌ من أغراض النفوس، ومع هذا فقد قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102]. وإنما يتشبَّثون بمنفعة الدنيا، قال تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102].

كذلك أنواع الداعين والسائلين قد يدعو دعاءً محرَّمًا، يحصل معه غرضُه، ويورثه ضررًا عظيمًا، ثم إن الداعي قد يعلمه (3) وقد لا يعلمه على وجهٍ لا يُعْذَر فيه بتقصيرِه في طلبِ العلم أو تركِ الحق، وقد لا يعلمه على وجهٍ يُعْذَر فيه، بأن يكون مجتهدًا أو مقلِّدًا، کالمجتهد [والمقلِّد اللذين يُعْذران في سائر الأعمال] (4) ، وقد يتجاوز عنه لكثرة حسناتِه وصدقِ قصدِه، أو لمحضِ رحمةِ ربه ونحو ذلك. ثم مع ذلك يُنْهَى عنه، وإن كان قد زال سببُ الكراهةِ في حقِّه (5) .

ومن هنا يَغْلَط كثير من الناس؛ يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عَبَدَ عبادةً، أو دعا دعاءً، وجَدَ أثرَه، فيجعل ذلك دليلًا على استحباب (6) تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة، كأنه قد

__________

(1) انظر التعليق رقم (2)، ص 174.

(2) انظر في التعريف به "أبجد العلوم": (2/ 367)، و "المعجم الوسيط": (ص/ 562).

(3) أي: يعلم أن ذلك الدعاء محرم أو مكروه.

(4) زيادة يستقيم بها السياق من "الاقتضاء".

(5) يعني: لما له من العذر.

(6) في "الاقتضاء": "استحسان".

ـ

(1/175)

________________________________________

فعله نبيٌّ، وهذا غَلَطٌ عظيم؛ لما ذكرناه، خصوصًا إذا كان العمل إنما كان أثره بصدقٍ قامَ في قلب فاعله حين الفعل، ثم يفعله الأتْباعُ صورةً [لا صدقًا] (1) ، فيُضرُّون به.

ومن هذا الباب: ما يُحْكَي عن آثارٍ وُجِدت في السَّماع المبتَدَع، فإن تلك الآثار قد تكون عن أحوالٍ قامت بقلوب أولئك الرجال، حركها محركٌ كانوا فيه مجتهدين، أو مقصِّرين تقصيرًا غمره حسناتُ قَصْدِهم، فيأخذ الأتْباعُ حضور صورة السماع. وليس حضورُ أولئك الرجال سنةً تُتَّبَع، ولا مع المتَّبعين من الصدق ما لأجله عُذِروا وغُفِر لهم؛ فيهلكون بذلك، كما حُكيَ عن بعض الأشياخ أنه رُئي بعد موته فقيل له: ما فعلَ الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا شيخ السوء أنت الذي كنتَ تتمثَّل بي (2) بِسُعْدَي ولُبْنَي؟ لولا أعلم من صدقك لعذبتك.

ولهذا كان الأئمة المقتَدَي بهم يقولون: "عِلْمنا هذا مُقَيَّدٌ بالكتاب والسنة" (3) . وحُكِيَ لنا أن بعض المجاورين أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتهى عليه من الأطعمة، فجاء بعض الهاشميين إليه فقال: النبيُّ بعث لك هذا وقال لك: اخرج من عندنا. وآخرون قضِيت حوائجُهم ولم يُقل لهم ذلك، لاجتهادهم أو قصورهم في العلم، فإنه يُغْفَر للجاهل ما لا يُغْفَر للعالم.

ولا يقال: هولاء لما نقصت معرفتُهم سُوِّغ لهم ذلك، فإن الله لم

__________

(1) زيادة من أصله.

(2) كذا بالأصل، وليست في "الاقتضاء".

(3) القائل هو: الجنيد بن محمد، انظر "الاستقامة": (2/ 141).

(1/176)

________________________________________

يُسَوِّغ هذا لأحدٍ؛ لكن قصورُ المعرفة قد يُرجي معه العفوُ والمغفرة.

أما استحباب المكروهات وإباحة المحرمات؛ فلا نُفَرّق بين العفو عن الفاعل وبين إباحة الفعل له.

وبالجملة؛ فإنما يثبت استحبابُ الأفعال واتخاذها دينًا بكتابِ الله وسنة رسوله، وما كان عليه السابقون، وما سوى ذلك من المحدثات؛ فلا، وإن اشتملت أحيانًا على فوائد؛ لأن مفسدتها راجحة على فوائدها.

فصلٌ (1)

ومن الغرور اعتقاد أن استجابة مثل [هذا] الدعاء المحرَّم، أو الدعاء عند قبر أو تمثال، أو الدعاء بمحرم ونحوه من الدعاء المعتدي به (2) مثل: دعاء غير الله، واستغاثة غير الله، والتوسُّل بما لا يُحب أن يتوسل به إليه، كتوسل المشركين بأوثانهم إلى الله = كرامةٌ من الله لعبده، وليس هو في الحقيقة كرامة، وإنما تُشْبِه الكرامة، من جهة أنها دعوة نافذة وسلطان قاهر، وإنما الكرامةُ في الحقيقة: ما نفعت في الآخرة، أو نفعت في الدنيا ولم تضر في الآخرة، وإنما هذا بمنزلة ما يُنْعَم به على الكفار والفُسَّاق من الرِّياسات والأموال في الدنيا، فإنما تصير هذه نعمة إذا لم تضر صاحبها في الآخرة.

ولهذا اختلفَ أصحابُنا وغيرُهم، هل ما يُنْعَم به على الكافر نعمة أم ليس بنعمة؟ وإن كان الخلاف لفظيًّا.

__________

(1) "فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 220).

(2) من هنا إلى قوله: "إلى الله" ملحق في الهامش وليس عليه علامة التصحيح -وهو بخط المؤلف- وليس في مطبوعة "الاقتضاء".

(1/177)

________________________________________

فهذه الأدعية ونحوها، وإن كان قد يحصل لصاحبها أحيانًا غرضُه؛ لكنها محرمة لما فيها من الفساد الذي يُرْبي على منفعتها، كما تقدم، ولهذا كانت هذه فتنة في حق من لم يهده الله ويُنوِّر قلبَه، ويفرِّق بين أمر التكوين وأمر التشريع، ويفرِّق بين القدر والشرع، ويعلم أن الأقسام ثلاثة:

* أمور قدَّرها الله ولا يُحِبُّها، فإن الأسباب المحصلة لهذه تكون محرمة موجبة لعقابه.

* وأمور شرعها الله، وهو يُحبها ويرضاها من العبد، لكن لم يُعِنْه على حصولها، فهذه محمودة عنده مرضِيَّة وإن لم توجد.

* والقسم الثالث: أن يُعِيْنَ العبدَ على ما يُحبه منه.

فالأول: إعانة الله. والثاني: عبادة الله. والثالث: جمع له بين العبادة والإعانة، كما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

فما كان من الدعاء غير المباح إذا أثَّر فهو من باب الإعانة لا العبادة، كسائر الكفار والمنافقين والفسَّاق، ولهذا قال في مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12]. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بكلمات الله التامات التي لا يُجَاوِزُها بَرٌّ ولا فاجِر (1).

ومن سنة (2) الله أن الدعاءَ المتضمِّنَ شركًا، كدعاء غيره لا يحصل

__________

(1) سيأتي ص/ 194.

(2) كذا بالأصل، وفي "الاقتضاء": "ومن رحمة".

(1/178)

________________________________________

غرضُ صاحبه، ولا يؤثِّر إلا في الأمور الحقيرة، أما الأمور العظيمة كإنزال المطر وكشف العذاب؛ فلا ينفع فيه هذا الشرك، كما قال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)} [الإسراء: 56].

فلما كان هذه المواضع (1) العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو؛ دلَّ على توحيده، وقطع شُبَهِ من أشرك به، وعلم أن ما دون هذا -أيضًا- من الإجابات إنما فَعَلَها هو -سبحانه- وإن كانت تجري بأسبابٍ محرمة أو مباحة، كما أن خلقه للسماء والأرض ونحوهما من الأجسام العظيمة، دل على وحدانيته، وأنه خالق لكل شيءٍ.

 فصلٌ (2) [في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض ما أُحدث فيها]

قال الإمام أحمد وغيره: إنه يستقبل القبلة بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل الحجرة على يساره لئلا يستدبره، ويدعو لنفسه، وأنه إذا حيَّاه وسلَّم عليه يكون مستقبلًا له بوجهه -بأبي هو وأُمي -صلى الله عليه وسلم--، فإذا أراد الدعاء؛ جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة، وهذا مراعاةً منهم لحفظ التوحيد، فإن الدعاء عند القبر لا يُكره مطلقًا، بل يُؤمر به تَبَعًا وضمنًا كما جاءت به السنة، وإنما المكروه التحرِّي.

وهذا أمر مستمر، فإنه لا يُستحبُّ للداعي أن يستقبل إلا ما يُسْتحب أن يصلي إليه، فلما نهى عن الصلاة إلى جهة الشرق، نهى أن يتحرَّي

__________

(1) في "الاقتضاء": "المطالب".

(2) "فصل" ليست في "الاقتضاء": (2/ 239).

(1/179)

________________________________________

استقبالَها وقتَ الدعاء، ومن الناس من يستقبل وقت دعائه الجهةَ التي فيها الرجلُ الصالح، وهذا شرك وضلال. كما أن بعض الناس يمتنع أن يستدبر الجهة التي فيها [بعض الصالحين، وهو يستدبر الجهة التي فيها] (1) بيت الله أو قبر رسوله، وكلُّ ذلك من البدع.

كما أن مالكًا وغيره کره أن أهل المدينة كلما جاء أحدهم المسجد أن يدخل إلى قبره ويُسلِّم عليه وعلى صاحبيه، وقال: "إنما يكون ذلك إذا جاء أحدهم من سفرٍ أو أراد سفرًا" ورخَّص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها.

وأما قصده دائمًا للصلاة والسلام؛ فما علمتُ أحدًا رخَّص فيه؛ لأن ذلك نوعٌ من اتخاذه عيدًا، مع أنه يُشرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبرکاته" كما نقوله آخر صلاتنا، بل قد اسْتُحِبَّ ذلك لكل من دخل مكانًا ليس فيه أحدٌ أن يسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- (2) .

فخاف مالكٌ أن يكون فِعْل ذلك عند القبر كلَّ ساعةٍ اتخاذًا له عيدًا، وأيضًا: فإنه بدعة، فإن المهاجرين والأنصار قد كانوا يصلُّون في المسجد، ولم يكونوا يأتون القبر كل صلاةٍ، وذلك لعلمهم بكراهته لذلك، مع أنهم يُسلمون عليه عند دخولهم وخروجهم وفي التشهد، كما كانوا يسلِّمون عليه في حياته. والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك، أنه كان إذا قَدِم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم وصلَّى عليه،

__________

(1) زيادة لازمة يستقيم بها السياق، من "الاقتضاء".

(2) انظر "جِلاء الأفهام": (ص/ 218، 238).

(1/180)

________________________________________

وقال: السلام عليك يا أبا بكر، "السلام عليك يا أبتاه" رواه سعيد (1) .

وكرهت الأمة (2) استلامَ القبر وتقبيلَه، ومنعوا الناسَ أن يُصلُّوا إليه، وكانت حجرة عائشة مُلاصِقةً لمسجده، ومضى الأمرُ على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، وزِيْد في المسجدِ. والحجرةُ على حالها هي وغيرها من الحُجَر المُطِيْفَة بالمسجد من شرقيِّه وقِبْلِيِّه، حتى بناه الوليد بن عبد الملك، وكان عمر بن عبد العزيز عاملَه على المدينة، فابتاع الحجرةَ وغيرها وهدمهنَّ، وأدخلهنَّ في المسجد، فمن أهل العلم من كره ذلك، کسعيد بن المسيب، ومنهم من لم يكره.

قال أحمد -لما سأله الأثرم: أيمس القبر؟ - قال: ما أعرفُ هذا، وحكى بعض أصحابنا روايةً في مسح قبره؛ لأن أحمد شيَّع بعضَ الموتى فوضع يده على قبره يدعو له. والفرق بين الوضعين ظاهر.

أما المنبر؛ فقال أحمد: لا بأس به (3) ، وكره مالك التمسُّحَ بالمنبر، كما كرهوا التمسُّحَ بالقبر.

أما اليوم؛ فقد احترق المنبر، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة، فقد زال ما رُخِّص فيه؛ لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسُّح بمقعده.

__________

(1) هو ابن منصور في "سننه". وتكلم على سنده في الأصل: (2/ 243). وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف": (3/ 28) بسندٍ صحيح.

(2) كذا بالأصل، وبعض نسخ "الاقتضاء"، وفي الأخرى: "الأئمة".

(3) انظر "مسائل أحمد" رواية ابنه صالح رقم (1340)، و "العلل" رواية عبد الله، و "السير": (11/ 214).

(1/181)

________________________________________

فصلٌ (1)

أما زيارة مقامات الأنبياء والصالحين، وهي الأمكنة التي أقاموا فيها، لكنهم لم يتخذوها مساجد، فالذي بلغني عن العلماء قولان:

أحدهما: النهي عن ذلك.

والثاني: أنه لا بأس باليسير من ذلك، كما نُقِل عن ابن عمر أنه كان يتحرَّي قصد المواضع التي سلكها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان النبي سلكها اتفاقًا لا قصدًا. قال سِنْدِيّ (2): سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد ويذهب إليها، ترى ذلك؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي في بيته حتى يتخذه مصلي، وعلى ما كان يفعل ابن عمر؛ يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره؛ فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدًّا (3).

فقد فصَّل أبو عبد الله بين ما يُتَّخذ عيدًا وبين ما يُفْعَل نادرًا قليلًا، وهذا فيه جمعٌ بين الآثار.

ورُوِي عن عمر أنه رأى الناس ابتدروا المسجد، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجدٌ صلى فيه رسول الله، فقال: "هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا، من عَرَضت له منكم الصلاة فلْيُصلِّ، ومن لم تعرض له فليمض" (4)، فكره اتخاذ مصلَّى النبي عيدًا.

__________

(1) "الاقتضاء": (2/ 271).

(2) الخواتيمي، وله مسائل عن الإمام أحمد، "طبقات الحنابلة": (1/ 455).

(3) ذكره الخلال في "جامعه - كتاب الأدب".

(4) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها": (ص/ 87 - 88)، وابن أبي شيبة في =

(1/182)

________________________________________

وقال محمد بن وضَّاح (1): إن عمر أمر بقطع الشجرةِ التي بويع تحتها النبيُّ صلى الله عليه وسلم خوفَ الفتنةِ على الناس.

وقال محمد بن وضاح (2): كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار بالمدينة، ما عدا قُباء وأُحُدًا. ودخلَ الثوريُّ بيتَ المقدس فصلَّى فيه ولم يتبع تلك الآثار، فهولاء کرهوها مطلقًا؛ لحديث عمر هذا.

وما فعله ابنُ عمر لم يوافقه عليه أحدٌ من الصحابة، والصوابُ معهم، فإن المتابعة تكون: بأن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل، فإذا قَصَد العبادة في موضعٍ كالمساجد والمشاعر، كان قصدنا متابعة له، أما إذا فعل فعلًا اتفاقًا من غير قصد وتحرٍّ، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات.

واستحبَّ آخرون من العلماء إتيانها، وذكر طائفةٌ من أصحابنا وغيرُهم استحبابَ زيارة هذه المواضع وعدّوا منها مواضع، وأما أحمد فرخَّص فيما جاء به الأثر إلا إذا اتُّخِذ عيدًا، وجمع بين الأخبار، مثل حديث عِتْبان الذي راح إليه الرسول وصلى في بيته موضعًا اتخذه مسجدًا (3). لكن عِتْبان كان قصده بناء المسجد، فأحبَّ أن يكون الرسول هو الذي يخطّه له، بخلاف ما إذا صلَّى الرسولُ في موضعٍ من

__________

= "المصنف"، وصححه شيخ الإسلام في "الفتاوى": (1/ 281).

(1) "البدع والنهي عنها": (ص/ 87 - 88).

(2) المصدر نفسه: (ص/ 88).

(3) أخرجه البخاري رقم (425)، ومسلم رقم (33) من حديث عتبان بن مالك.

(1/183)

________________________________________

غير قصدِ اتخاذِه مسجدًا، فاتخذه أحدٌ مسجدًا لا للحاجة إليه، بل لكونه صلى فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

أما الأمكنة التي قصدها رسول الله للدعاء عندها والصلاة؛ فقصْدُها، سنة، اقتداءً به -صلى الله عليه وسلم؛ كتحريه الصلاة عند الاصطوانة موضع المصحف (1).

وقد روى بعض الفقهاء (2) أن أعرابيًّا أتى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتلا قولَه تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... } الآية [النساء: 64]، وأنشد:

يا خيرَ مَن دُفِنَتْ بالقاعِ أعْظُمُه ... وَطَابَ مِن طِيْبِهِنَّ القاعُ والأَكَمُ

وأنه استحبَّ طائفةٌ من متأخِّري الفقهاء من أصحاب أحمد والشافعي مثل ذلك.

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (502)، ومسلم رقم (509) من حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-.

(2) لعله يقصد أبا محمد ابن قدامة المقدسي، فإنه ذكرها في "المغني": (5/ 465 - 466)، وعنه ابن أبي عمر في "الشرح الكبير" وهذه القصة أخرجها ابن عساكر في "تاريخه" وابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" بأسانيدهم، وذكرها ابن كثير في "تفسيره": (1/ 532).

وقال الحافظ ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي": (ص/ 253): "هذه الحكاية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العُتبي بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي ... وقد ذكرها البيهقي في كتابه "شعب الإيمان" بإسنادٍ مظلم ... وقد وضع لها بعض الكذابين إسنادًا إلى علي بن أبي طالب.

وفي الجملة؛ ليست هذه الحكاية المنكورة عن الأعرابي مما يقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلف ولفظها مختلف أيضًا ... ، ولا يصلُح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية، ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم وبالله التوفيق" اهـ.

(1/184)

________________________________________

وهذه الحكاية لا يثبتُ بها حكم شرعيّ، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان سُنة لكان السابقون إليه أسْبَق وبه أعلم.

فصلٌ (1)

لو أُقْسِمَ على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم؛ لنُهِىَ عن ذلك، كما لا يُقْسَم بمخلوق مطلقًا، وهذا القسم منهيٌّ عنه غير مُنْعَقِد باتفاق، ولم يتنازعوا إلا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، فإن فيه قولين في مذهب أحمد، وبعضُ أصحابه كابن عقيل طَرَدَ الخلافَ في سائر الأنبياء، والذي عليه الجمهور؛ کمالك والشافعي وأبي حنيفة: أنه لا تنعقد اليمينُ بمخلوق أَلْبته ولا يُقْسَم به، وهذا هو الصواب.

والإقسام على الله بنبيِّه صلى الله عليه وسلم مبنيٌّ على هذا الأصل، ففيه هذا النزاع، وقد نُقِل عن أحمد في التوسُّل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في "منسك المرُّوذي" ما يُناسبُ قولَه بانعقاد اليمين به؛ لكن الصحيح: أنه لا تنعقد اليمينُ به، فكذلك هذا.

وأما غيره؛ فما علمتُ فيه نزاعًا، واتفقوا على أنه -سبحانه- يُسأل ويُقْسَم عليه بأسمائه وصفاته كما يُقْسَم على غيره بذلك، كالأدعية المعروفة في "السنن": "اللهم إنِّي أسْألُكَ بأنّ لك الحمد، أنتَ اللهُ المنَّانُ، بديع السماواتِ والأرض يا ذا الجلالِ والإكرام" (2)، وأما إذا

__________

(1) "فصل" ليس في "الاقتضاء": (2/ 305).

(2) أخرجه ابن ماجه رقم (3858)، وأحمد في "مسنده": (19/ 238 رقم 12205)، والحاكم: (1/ 504) وغيرهم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. وهو حديث صحيح.

(1/185)

________________________________________

قال: "أسألك بمعاقِدِ العِزِّ من عَرْشِكَ"، ففيه نزاع (1)، نُقِل عن أبي حنيفة كراهته (2)، فلا يجوز أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلِك، وبحق البيت والمَشْعَر؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.

أما "معاقدِ العزِّ من عَرْشِك" فقيل: هو سؤالٌ بمخلوق، وقيل: هو سؤال بالخالق، فلذلك تنازعوا فيه، وقد نازع بعضُ الناس، وقالوا في حديث أبي سعيد: "اللهمَّ إنِّي أسألكَ بِحَقِّ السائلينَ عليكَ وبحَقِّ مَمْشايَ هذا ... " (3) الحديث، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] على قراءة الخَفْض (4)، كما يقال: سألتك بالله وبالرَّحِم.

وفي "الصحيح" (5) أن عمر قال: "اللهم إِنَّا كنَّا إذا أَجْدَبْنا نَتَوسُّلُ إليكَ بِنَبِيِّنا وإنَا نتوسَّلُ إليكَ بِعَمِّ نَبِيِّنا فاسْقِنا".

وفي النسائي والترمذي حديث الأعمى الذي جاء إليه فقال: ادعُ اللهَ لي أن يردَّ بصري، فقال: "توضَّأ (6) فَصَلِّ ركعتين ثُمَّ قل: اللهم إني

__________

(1) والنزاع مبني على أثر موضوع، أخرجه البيهقي في "الدعوات الكبير": (2/ 157 - 158)، وابن الجوزي في "الموضوعات": (2/ 142) وقال: "هذا حديث موضوع بلا شك .. " اهـ.

وانظر "نصب الراية": (4/ 272 - 273).

(2) نقله في "الاقتضاء" عن أبي الحسين القدوري في "شرح الكرخي"، وانظر "شرح الطحاوية": (1/ 297) لابن أبي العز، و "حاشية رد المحتار": (6/ 396).

(3) أخرجه أحمد: (17/ 247 رقم 11156)، وابن ماجه رقم (778) وغيرهم من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- والحديث ضعيف في سنده فُضيل بن مرزوق وعطية العَوْفي.

(4) وهي قراءة حمزة.

(5) أخرجه البخاري رقم (1010) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.

(6) في "الأصل": "تتوضأ" وهو سهو.

(1/186)

________________________________________

أسألك وأتوَجَّهُ إليكَ بِنَبِيِّكَ محمدٍ نبيِّ الرحمةِ، يا محمدُ يا نبيّ اللهِ إنِّي أتوجَّهُ بِكَ إلى رَبِّكّ في حاجَتيِ لِتَقْضِيَها، اللهم فَشَفِّعْهُ فِيَّ" (1) فدعا الله، فردَّ عليه بصَرَه.

والجواب عن هذا أن يُقال:

أولًا: لا ريب أنَّ الله تعالى جعل على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين، كما قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47]، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]. وفي "الصحيحين" (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جَبَل -وهو رديفه-: "يا معاذُ أتَدْرِي ما حقُّ الله على عباده"؟ قلتُ: اللهُ ورسولهُ أعلم. قال: "حَقُّهُ عليهم أنْ يَعْبُدوه ولا يُشْرِكوا بهِ شَيْئًا، أتَدْرِي ما حَقُّ العِبادِ على اللهِ إذا فَعَلوا ذَلِكَ؟ " قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلم. قال: "حَقُّهَم عليه أنْ لا يُعَذِّبَهُم". فهذا حقٌّ وجبَ بكلماته التامة ووعده الصادق.

واتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين.

وأما الإيجاب عليه بالقياس على خلقِه، فهذا قول القدريَّة، وهو

__________

(1) أخرجه أحمد: (28/ 478 رقم 17240)، والترمذي رقم (3578)، والنسائي في "الكبرى": رقم (10495)، وابن ماجه رقم (1385) من حديث عثمان بن حنيف -رضي الله عنه-.

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وصححه الحاكم وابن خزيمة وغيرهم.

(2) أخرجه البخاري رقم (5967)، ومسلم رقم (30) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-.

(1/187)

________________________________________

قولٌ مُبْتَدَع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه خالق كل شيءٍ وربّه ومليكه، وأنه ما شاءَ كانَ وما لم يشأ لم يكن، وأن العبادَ لا يوجبون عليه شيئًا، بل كتبَ على نفسهِ الرحمة، وحرَّم على نفسِه الظلم، لا أن العبدَ يستحقُّ على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، بل الله هو المنعِمُ المتفضِّل على العباد بكلِّ خير، هو الخالق لهم، والمرسِل إليهم، والميسِّر لهم الإيمانَ والعملَ الصالح.

وإذا كان كذلك، لم تكن الوسيلة إلا بما منَّ به من فعله وإحسانه، والحقُّ الذي لعباده هو من فضله، ليس من بابِ المعاوضة، ولا من باب ما أوجبه غيرُه عليه.

وإذا سئُل بما جعله هو سببًا للمطلوب، من الأعمال الصالحة التي وعَدَ أصحابها بكرامته، ومن أدعية عباده الصالحين، وشفاعة ذوي الوجاهةِ عنَده؛ فهذا سؤال وتسبُّب بما جعلَه هو سببًا.

وأما إذا سُئل بشيءٍ ليس سببًا للمطلوب؛ فإما أن يكون إقسامًا عليه به، فلا يُقْسَم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالًا بما لا يقتضي المطلوب، فيكون عديم الفائدة، فالأنبياء والمؤمنون لهم حقٌّ على الله بوعده الصادق أن يُنَعِّمهم ولا يُعذِّبهم، وهم وُجَهاء عنده يقبل شفاعتهم ودعاءهم ما لا يقبله لغيرهم.

فإذا قال الداعي: "أسألك بحقِّ فلانٍ"، وفلانٌ لم يُدْعُ له، وهو لم يسأله باتباعِهِ لذلكَ الشخصِ ومحبتِه وطاعتِه، بل بنفس ذاتِه وما جعله له ربُّه من الكرامة = لم يكن قد سأله بسببٍ يوجبُ المطلوبَ.

(1/188)

________________________________________

وحينئذٍ فيقال: أما التوسل والتوجه إلى الله، وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أَمر بها، كدعاء الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، فهذا مما لا نزاع فيه، بل هو من الوسيلة التي أمر بها في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، فإنَّ ابتغاء الوسيلةِ هو طلب ما يُتَوَسَّل به، أي: يُتَوَصَّل ويُتَقَرَّب به، سواء كان على وجه العبادة، أو كان على وجه السؤال له والاستعاذة بها، رغبةً إليه في جَلْب المنافعِ ودَفْع المضارِّ.

ولفظُ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا، كما قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، فأمر بالاستجابة له والإيمان به، قال بعضهم (1) : "فليستجيبوا لي إذا دعوتُهم، وليؤمنوا بي أني أُجيبُ دعوتَهم"، وبهذين الشيئين تحصل إجابة الدعوة؛ بكمال الطاعة لأُلوهيَّته، وبصحة الإيمان بربوبيته، فمن استجاب لربِّه؛ بامتثال أمره، واجتناب نهيه = حصلَ مقصودُه من الدعاء، فمن دعا موقنًا أنه يُجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابَه، ولو كان مشركًا فاسقًا، كما قال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) } [الإسراء: 67].

لكن هولاء الذين يُستجاب لهم لإقرارهم بربوبيَّتِه، وأنه يُجيب دعاءَ المضطر، إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته، ولا مطيعين له ولرسله، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعًا في الحياة الدنيا، وما لهم في الآخرة من خَلَاق.

__________

(1) انظر "تفسير الطبري": (2/ 166)، و "الدر المنثور": (1/ 356).

(1/189)

________________________________________

وقد ذُكِرَ أن بعض النصارى حاصروا المسلمين فنفدَ ماؤُهم، فاستسقوا من المسلمين وقالوا: ننصرف عنكم، فلم يُسْقوهم، فرفعوا أيديهم وسألوا الله؛ فأمطرت عليهم، فكاد بعض المسلمين أن يَفْتَيِن، فقام فيهم رجلٌ من المسلمين وقال: "اللهم إنَّك تكفَّلت برزق كلِّ دابِّةٍ، وقد أجبتَ دعاءَ هولاء الكفار، لأنهم مضطرون لا لأنك تحبهم فنريد أن ترينا بهم آيةً تُثبِّت الإيمانَ في قلوب عبادك"، فأرسلَ اللهُ عليهم ريحًا فأهلكتهم، أو نحو ذلك.

ومن هذا: من يدعو دعاءً يعتدي فيه، فيُجاب، فما كلُّ من دعا فأُجِيْب يكون ذلك دليلًا على أن عملَه صالح، بل ذلك بمنزلة من يمدهم بالمال والبنين، فلا يُظَنُّ أنه يُسارع لهم في الخيرات، بل لا يشعرون، قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران: 178].

والمقصود: أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادةٍ يُثاب العبدُ عليه في الآخرة، وقد يكون دعاء مسألة تُقضي به حاجته، ثم قد يُثاب وقد لا تحصل له إلا تلك الحاجة، وقد تكون سببًا لضرر دينه.

فالوسيلة التي أمر اللهُ بها تعُمُّ الوسيلة في عبادته وفي مسألتهِ، فالتوسل بالأعمال الصالحة وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس من باب الإقسام بمخلوق.

وكذلك استشفاع الناس بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم.

* وقول عمر: "اللهمَّ إنَّا كنا نتوسَّلُ إليكَ بنبيِّنا فتسقينا وإنَّا نتوسُّل

(1/190)

________________________________________

إليك بعمِّ نبيِّنا" (1) ، معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحنُ نتوسُّل إليك بدعاء عمِّه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد: أنَّا نُقْسِم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يُفْعَل بعد موته وفي مغيبه، كما يقول بعضُ الناس: أسألك بجاه فلان عندك؛ لأنه لو كان كذلك لكان توسُّلهم به أولى من عمِّه ولم يعدلوا إلى العباس، مع علمهم أن السؤال به أعظم من العباس، فَعُلِم أن التوسُّل هو ما يُفْعَل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسُّل بدعائهم وشفاعتهم.

* وكذلك حديث الأعمى الذي علمه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يسأل الله قبول شفاعة نبيِّه فيه، فيدل على أن النبيَّ شَفَعَ وسألَ، فعلَّمه أن يسأل اللهَ قبول شفاعته، ولهذا قال: اللهم فَشَفِّعْه فيَّ.

فلفظُ التوسُّل فيه إجمال، غَلِطَ فيه من لم يفهم مقصود الصحابة.

يراد به: التسبُّب به لكونه داعيًا وشافعًا، أو لكون الداعي مُحِبًّا له مطيعًا لأمره مقتديًا به، فيكون التسبُّب إما لمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته.

ويراد به: الإقسام به والتوسل بذاته، لمجرد الإقسام به على الله.

فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونَهَوا عنه، وكذلك لفظ السؤال قد يُراد به المعنى الأول، وقد يُراد الثاني، ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار فدعوا الله بصالح الأعمال (2) ؛ إذ هي أعظم ما

__________

(1) تقدم هو وحديث الأعمى بعده في ص / 187.

(2) أخرجه البخاري رقم (2215)، ومسلم رقم (2743) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

(1/191)

________________________________________

يتوسَّل به العبد إلى الله؛ لأنه وعد أنه يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله، فهولاء دعوه بعبادته وفِعْل ما أَمَر به.

ومن هذا ما يُذكر عن الفُضَيْل أنه أصابَه عُسْر البول، فقال: "بحبِّي لك إلَّا ما فرَّجت عني"، ففرَّج عنه (1) . وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها لما قالت: "اللهمَّ إني آمنتُ بكَ وبرسولكَ وهاجرتُ في سبيلك"، وسألَتِ الله أن يُحيي ولدِها (2) .

فسؤال الله والتوسل إليه: بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وفِعْل ما يحبه، والعبودية والطاعة له هو من جِنْس فِعْل ذلك رجاءً لرحمةِ الله، وخوفًا من عذابه، وسؤاله بأسمائه وصفاته، كقوله: "أسألُك بأنَّ لكَ الحمدَ أنتَ الله المنانُ أنت اللهُ الأحد الصَّمَدُ" (3) ونحو ذلك يكون من باب التسبُّب، فإنه كونه المحمود المنان الصمد يقتضي منَّته على عباده وإحسانَه الذي نحمده عليه، وتوحيدَه في صمديته، فيكون هو السيد المقصود الذي يَصْمُد إليه الناس في حوائجهم، وكل ما سواه مفتقِر إليه، وقد يتضمَّن ذلك معنى الإقسام عليه بأسمائه.

* وأما قوله: "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا"؛ ففيه ضَعْف (4) ؛ لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حقَّ السائلين أن يُجِيبهم، وحق المطيعين أن يُثِيبهم، فالسؤال لهم والطاعة، سببٌ لحصول إثابته وإجابته، ولو قُدِّر أنه قَسَمٌ، لكان قَسَمًا بما هو من

__________

(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية": (8/ 109).

(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت": (ص / 11 - 12).

(3) تقدم ص/ 185.

(4) تقدم ما فيه من الضعف ص / 186.

(1/192)

________________________________________

صفاته؛ لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله: "أعوذُ بِرِضَاكَ من سَخَطِكَ وبِمُعَافَاتِكَ من عُقُوْبِتَك ... " (1) الحديث.

فالاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نصَّ عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلامَ الله غير مخلوق، كقوله: "أَعُوْذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ" (2) .

* وأما قول الناس: "أسألك بالله والرحم"، وقراءة من قرأ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} بالكسر؛ فهو من باب التسَبُّب بها، فإن الرحم توجب الصلة، فسؤال السائل بها توسُّل بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس من باب الإقسام، ولا من باب التوسُّل بما لا يقتضي المطلوب، [بل هو توسُّل بما يقتضي المطلوب] (3) كالتوسُّل بدعاء الأنبياء.

فالتوسُّل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين؛ إما طاعتهم واتباعهم، وإما دعاؤهم وشفاعتهم، فمجرَّدُ [دعائه بهم] (4) من غير طاعةٍ منه لهم، ولا شفاعةٍ منهم له؛ فلا تنفعه وإن عَظُم جاهُ أحدهم عند الله. فلا بد من ذلك؛ إما من سؤال المسؤول به، وإما التسبُّب بمحبَّته واتباعه خالصًا لله تعالى، لا لهوى ولا لحظِّ نفسٍ، بل لله وحدَه لا شريك له (5) .

* * *

__________

(1) أخرجه مسلم رقم (486) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(2) أخرجه مسلم رقم (2708) من حديث خولة بنت حكيم -رضي الله عنها-.

(3) زيادة لازمة يستقيم بها السياق.

(4) في "الأصل": "ذاتهم"، والإصلاح من "الاقتضاء".

(5) من قوله: "فلا بد ... " إلى هنا الحق في حاشية الأصل، وليس هو في أصله.

(1/193)

________________________________________

فصلٌ (1)

ولا يُشرع شدُّ الرَّحل إلى غير المساجد الثلاثة، للأحاديث الصحيحة في ذلك، ولو نَذَر الإنسانُ إتيان مسجد غيرها، لم يجب عليه فعلُه باتفاق الأئمة، وليس بالمدينة مسجد يُشرع إتيانه إلا مسجد قُباء، وسائر المساجد لها حكم المساجد.

وفي "المسند" (2) عن جابر بن عبد الله أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد الفتح ثلاثًا، يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، فاستُجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعُرِفَ البِشرُ في وجهه. قال جابر: فلم ينزل بي أمرٌ مُهِم إلا توخَّيتُ تلك الساعة فأعْرِفُ الإجابةَ. في إسناده كثير بن زيد، فيه كلام (3).

وهذا الحديث يعمل به (4) طائفة من أصحابنا وغيرهم، يتحرَّون الدعاء في هذا، كما نُقِل عن جابر، [ولم يُنْقَل عنه] (5) أنه تحرَّى الدعاءَ في المكان، بل في الزمان. فإذا كان هذا في المساجد التي صلى فيها رسول الله وبُنيت بإذنه، ليس فيها ما يُشرع قصده بخصوصيَّته من غير سفر إليه إلا مسجد قباء، فكيف بما سواها!؟

ولما فتح عمرُ بيتَ المقدس وجد النصارى قد ألْقت على الصخرة

__________

(1) "فصل" ليس في "الاقتضاء": (2/ 339).

(2) (22/ 425 رقم 14563).

(3) وفي سنده أيضًا: عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب، مجهول.

(4) في "الأصل": "فيه"!

(5) زيادة لازمة يستقيم بها المعنى.

(1/194)

________________________________________

زُبَالةً عظيمة عنادًا لليهود، فأزالها ونظُّفها، وقال لكعب الأحبار: "أين ترى أن أبني مصلَّى المسلمين"؟ فقال: ابْنِهِ خلف الصخرة، فقال: "يا ابن اليهودية (1) خالطتك اليهودية، بل أبْنِيه في صدر المسجد (2) ، فإن لنا صدور المساجد" فبناه في قِبْلي المسجد (3) .

وهو الذي يُسمِّيه كثير من العامة اليوم "الأقصى". والأقصى اسم للمسجد كلِّه، ولا يُسمَّى هو ولا غيره حرمًا إنما الحرم بمكة والمدينة خاصَّة.

وفي "وادي وَجٍّ" الذي بالطائف نزاع (4) .

وذكر طائفة من المتأخرين أن اليمين تغلظ عن الصخرة، وليس هذا من كلام أحمد ولا غيره من الأئمة، فليس له أصل، بل تَغلُظ هناك عند المنبر كما في سائر المساجد.

وقد صنَّف طائفة من الناس مصنَّفات في فضائل بيت المقدس وغيره من البِقاع التي بالشام، وذكروا فيها من الآثار عن أهل الكتاب ما لا يحلُّ للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم.

ومن العجب كيف يُحدِّث كعبُ الأحبار [عن] بعض الأنبياء الذي بينه وبينه أكثر من ألف سنة ولم يُسْنِده، وغايته أن ينقله عن بعض كتب اليهود، الذي أخبر الله أنهم قد بدَّلوا، فكيف يُصدَّق شيءٌ من ذلك

__________

(1) في الأصل: "اليهود" سهو.

(2) وقع في "الأصل": "بل أبنه في صدر المساجد"!.

(3) انظر "البداية والنهاية": (9/ 655 - 656).

(4) انظر "منسك شيخ الإسلام": (ص/ 49) وهو عند الشافعية حرم.

(1/195)

________________________________________

بمجرد هذا النقل، بل الواجب أَلَّا يُصَدِّق ولا يُكذِّب إلا بدليل، كما أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان قد فتحوا البلادَ بعد موته -صلى الله عليه وسلم- وسكنوا الشامَ والعراقَ ومصرَ وغيرَها، وهم أعلم بالدين وأتْبَع له، فليس لأحدٍ أن يخالفهم فيما كانوا عليه.

فما كان من هذه البقاع لم يُعَظِّموه أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاةٍ أو دعاء أو نحو ذلك لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك، ونقول: إن من جاء بعدهم من أهل الفضل والدين فعل ذلك؛ لأن اتباع سبيل الأولين أولى ممن بعدهم، وما أحدٌ نُقِل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نُقِل عن غيره ممن هو أعلم منه وأفضل أنه خالف سبيل هذا المخالف، وهذه جملة جامعة لا يتَّسع هذا الموضع لتفصيلها.

فصلٌ (1)

وأصل دين المسلمين: أنه لا تختصّ بقعةٌ بقصد العبادة فيها إلا المساجد خاصة. وما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاعٍ للعبادة غير المساجد، -كما كانوا في الجاهلية يُعظِّمون حراء ونحوه من البقاع- هو ما جاء الإسلامُ بمحوه وإزالته ونسخه.

ثم المساجد جميعُها تشتركُ في العبادات، إلا ما خُصَّ به المسجد الحرام من الطواف ونحوه.

__________

(1) "الاقتضاء": (2/ 354).

(1/196)

________________________________________

ولو كان هذا مشروعًا يُثِيب الله عليه؛ لكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلمَ بذلك، ولأَعْلَمَ أصحابَه -أيضًا- ذلك، وكانوا أرْغَبَ فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيءٍ من ذلك، عُلِمَ أنه من البدع المُحْدَثة التي لم يكونوا يعدونها عبادةً وقربةً وطاعةً، فمن جعلها عبادة فقد اتبعَ غير سبيلهم وشرع من الدين ما لم يأْذَن به الله (1).

 فصلٌ (2) [في إثبات الشفاعة ونفيها]

افترق الناس على ثلاث فرق:

* المشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب وهذه الأمة: أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن، مثل قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)} [الأنعام: 51] فيتخذون آلهتهم وسائط تقرِّبهم إلى الله زُلْفَى وتشفع لهم.

* والخوارج والمعتزلة: أنكروا شفاعة نبيِّنا في أهل الكبائر من أمَّته، بل أنكر طائفةٌ من أهل البدع انتفاعَ الإنسان بشفاعة غيره ودعائه.

* وأما سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم من أهل السنة والجماعة: فأثبتوا ما جاءت به السنةُ من شفاعته لأهل الكبائر من أُمته وغير ذلك من أنواع شفاعته وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة، وقالوا: لا يخلد

__________

(1) هذا المقطع من قوله "ولو كان" ليس في "الاقتضاء".

(2) "فصل" ليس في "الاقتضاء": (2/ 359)، وما بين المعكوفات لزيادة التوضيح.

(1/197)

________________________________________

في النار من أهل التوحيد أحد، وأقرُّوا بما جاءت به السنة من انتفاعِ الإنسان بدعاء غيره وشفاعته، والصدقة، بل والصوم عنه في أصحِّ قولي العلماء، وقالوا: إن الشفيع يطلب من الله ويسأله، ولا تنفع الشفاعةُ إلَّا بإذنه {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].

وفي "الصحيح" (1) أنه قال: "أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يومَ القيامةِ: مَنْ قَالَ: لا إله إِلَّا اللهُ يَبْتَغِي بها وَجْهَ اللهِ" فكلما كان الرجلُ أتمَّ إخلاصًا لله كان أحقّ بالشفاعة. وأما من عَلَّق قلبَه بأحدِ المخلوقين؛ يرجوه ويخافه؛ فهو من أبعدِ الناسِ عن الشفاعة.

فشفاعةُ المخلوقِ عند المخلوق [تكون] (2) بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجةِ المشفوع عنده إليه وإما لخوفه، فيحتاج أن يقبل شفاعتَه، والله -تعالى- غنيٌّ عن العالمين، وهو وحده يُدَبِّر العالمين كلّهم، فما من شفيع إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشفيع، وهو يقبل شفاعته كما يُلهم الداعي الدعاء ثم يجيب دعاءَه، فالأمر كلُّه له.

فإذا كان العبد يرجو شفيعًا من المخلوقين، فقد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له، وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة، ولا يقبل شفاعته.

وأفضل الخَلْق محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وقد امتنع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر لعمه أبي طالب بعد أن قال: "لأَسْتَغْفِرَنَّ لك مَا لم أُنْهَ عَنْك" (3)

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (99) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(2) من "الاقتضاء".

(3) أخرجه البخاري رقم (3884)، ومسلم رقم (24) من حديث المسيب بن حزن -رضي الله عنه-.

(1/198)

________________________________________

فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، وقيل له: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، فقال: "لو أَعْلَمُ أَنِّي لو زِدْتُ على السبعينَ يُغْفَر لهم لَزِدْتُ" (1) فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6].

وقال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ ... } إلى قوله: {يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا .... } [هود: 74 - 76].

فالله -تعالى- له حقوقٌ لا يَشْركه فيها غيره، وللرسل حقوق لا يَشْركهم فيها غيرهم، وللمؤمنين حقوق مشتركة. وفي حديث معاذ: "حقُّ الله على العباد أنْ يَعْبُدوه ولا يُشْرِكوا به شَيْئًا" (2).

وهذا أصل التوحيد الذي بَعَث اللهُ به الرسل وأنزل به الكتب، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

ويدخل في ذلك: أن لا يَخافَ إلا إيَّاه ولا يَتَّقِي إلا إيَّاه، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52]. فالطاعة لله ورسوله، والخشية والتُّقي الله وحده، كما قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7].

فالحلالُ ما حلله الرسول، والحرامُ ما حرَّمه، والدينُ ما شرعه.

__________

(1) أخرجه البخاري رقم (1366) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

(2) تقدم ص / 187.

(1/199)

________________________________________

والتحسُّب بالله (1) وحده، قال تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة: 59]. ولم يقل: ورسوله. وذَكَر الرسولَ في الإيتاء؛ لأنه لا يُباح إلا ما أباحه الرسول، فليس لأحدٍ أن يأخذ ما تيسّر له إن لم يكن مباحًا في الشريعة. ثم قال: و {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}، فجعلَ الرغبةَ إلى الله وحدَه دون ما سواه، كما قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7 - 8] فأمر بالرغبة إليه.

ولم يأمر الله قطُّ مخلوقًا أن يسأل مخلوقًا، وإن كان قد أباح ذلك في بعض المواضع؛ لكنه لم يأمر به، بل الأفضل للعبد أن لا يسأل قطُّ إلا الله كما في "الصحيحين" (2) في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هُم الذَّين لا يَسْتَرِقُون ولا يَكْتَوون ولا يَتَطَيَّرون وَعَلَى رَبِّهم يَتَوَكَّلُون"، فجعل من صفاتِهم: أنهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، ولم يقل: "لا يرقون" وإن كان قد رُوِي في بعض طرق مسلم؛ فهو غلط، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- رقي نفسَه وغيرَه؛ لكنه لم يَسْتَرق، فالمسترقي طالبٌ للدعاء من غيره بخلاف الرَّاقي غيرَه فإنه داعٍ.

وقال لابن عباس: "إذا سألْتَ فأَسْأَلِ اللهَ، وإذا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللهِ" (3)، فهو الذي يُتَوَكَّل عليه، ويُسْتَعَان به، ويُخاف ويُرْجَي، ويُعْبَد وتُنيب إليه القلوب، لا حَوْل ولا وقُوَّة إلا بالله، ولا مَنْجى منه إلا إليه، والقرآنُ كلُّه يحقق هذا الأصل.

__________

(1) في "الأصل": "لله" سبق قلم.

(2) أخرجه البخاري رقم (5705) ومسلم رقم (218) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.

(3) أخرجه الترمذي رقم (2516)، وأحمد: (4/ 410 رقم 2669) وغيرهم من طرق كثيرة عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

قال الحافظ ابن رجب في "نور الاقتباس": (ص / 31): "وأجود أسانيده من رواية حَنَش عن ابن عباس، وهو إسناد حسن لا بأس به" ا هـ.

(1/200)

________________________________________

والرسول يُطاع ويُحب ويرضى ويُسلَّم إليه حكمُه، ويُعَزَّر ويُوَقَّر، ويُتَّبع ويُؤْمَن به وبما جاء، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ} [النساء: 64].

وقد بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بتحقيق التوحيد وتجريده، ونفي الشرك بكل وجهٍ، حتى في الألفاظ كقوله: "لا يقولن أحدُكم: ما شاءَ اللهُ وشاءَ محمدٌ؛ بَلْ ما شاءَ اللهُ ثُمَّ شاءَ مُحمد" (1). وقال له رجلٌ: ما شاءَ الله وشئتَ، فقال: "تَجْعَلُني لله نِدًّا؟ قل: ما شاءَ اللهُ وحدَه" (2).

والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمَّن إخلاصَ الدين لله تحقيقًا لقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5]. فالصلاة والصدقة والصيام والحج كلُّ ذلك لله وحدَه، فلا يُعْبَد إلا الله، ولا يُعْبَد إلا بما شَرَع، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].

والحمدُ لله وحدَه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

انتهى "المنهج القويم".

__________

(1) أخرجه أحمد: (34/ 296 رقم 20694)، والحاكم: (3/ 463) وغيرهم، من طرقٍ عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حِراش عن طُفيل بن سخبرة -رضي الله عنه- وسنده جيد، وله شواهد يصح بها -واختلف فيه على عبد الملك بن عمير-.

(2) أخرجه أحمد: (3/ 339 رقم 1839)، وابن ماجه رقم (2117) والبخاري في "الأدب المفرد": (ص/ 234) من طرقٍ عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-. والأجلح مختلف فيه؛ لكنه يتقوَّى بشواهده.

(1/201)

________________________________________

 فهرس المصادر والمراجع

- اللآلى المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، مصورة دار المعرفة، ط 2، 1395.

- أبجد العلوم، لصديق حسن خان، مصورة الباز عن الطبعة الشامية.

- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لابن بلبان، تحقيق شعيب الأرناووط، مؤسسة الرسالة.

- أحكام أهل الذمة، لابن القيم، تحقيق د/ صبحي الصالح، دار العلم للملايين.

- أخبار مكة للأزرقي، تحقيق رشدي الصالح، مطابع دار الثقافة ط. 8، 1416.

- أداء ما وجب بيان وضع الوضاعين في رجب، لابن دحية، تحقيق الألباني والشاويش، المكتب الإسلامي.

- الأدب المفرد، للإمام البخاري، دار الكتب العلمية.

- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، المكتب الإسلامي.

- أُسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، دار الفكر.

- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د/ ناصر العقل، طبعة وزارة الشئون الإسلامية، 1419.

- الأم، للإمام الشافعي، مصورة دار المعرفة، تصحيح محمد زهري النجار.

- الأموال، لابن زنجويه، تحقيق د/ شاکر ديب فياض، مركز الملك فيصل ط، 1، 1406.

- الأموال، لأبي عُبيد، تحقيق الهراس، تصوير دار الكتب العلمية.

- البحر المحيط، لبدر الدين الزركشي، تحقيق الأشقر وجماعة، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت.

(1/220)

________________________________________

- البداية والنهاية، لابن کثير، تحقيق د/ عبد الله التركي، دار هجر، توزيع وزارة الشئون الإسلامية.

- البدع والنهي عنها، لابن وضّاح، تحقيق عَمرو سليم، مكتبة ابن تيمية.

- تاريخ الإسلام ووفيات مشاهير الأعلام، للذهبي، تحقيق د/ عمر تدمري، دار الكتاب العربي.

- تاريخ ابن جرير، لابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية.

- تاريخ دمشق، لأبي القاسم بن عساکر، تحقيق العمروي، دار الفكر، 1415.

- تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، لابن حجر، مكتبة سليم الحديثة، 1971.

- تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، للحافظ المزي، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، المكتب الإسلامي.

- تفسير القرآن العظيم، لابن کثير، دار المعرفة.

- التمهيد بما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر، وزارة الأوقاف بالمغرب.

- ثعلبة ابن حاطب الصحابي المفترى عليه، لعداب الحمش،

- الثقات، لابن حبان، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية.

- الجامع، لمحمد بن عيسى الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، دار الكتب العلمية - (ونسخة منه بخط الكروخي، مصورة من المتحف الفرنسي).

- جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية.

- الجامع (أحكام أهل الملل) للخلَّال، تحقيق السلطان، مكتبة المعارف الرياض.

- و (الترجل) تحقيق کسروي حسن، دار الكتب العلمية، 1415.

- حاشية رد المحتار.

(1/221)

________________________________________

- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصفهاني، دار الريان والكتاب العربي، ط 5، 1407.

- الخَزَال والدَّأَل في الدور والدارات والدِّيَرة، لياقوت الحموي، تحقيق محمد جمران وزميله، وزارة الثقافة بدمشق.

- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1411.

- الدعوات الكبير، للبيهقي، تحقيق بدر البدر، جمعية إحياء التراث بالكويت.

- الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق الفقي، مصورة دار المعرفة.

- سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني، مكتبة المعارف.

- السنن لأبي داود، تحقيق الدَّعاس، دار الحديث، ط 1، 1388.

- السنن، لابن ماجه، تحقيق عبد الباقي، دار الريان.

- السنن، للنسائي، بحاشية السندي وشرح السيوطي - تصوير دار الريان.

- السنن الكبرى، للنسائي، دار الكتب العلمية.

- السنن الكبرى، للبيهقي، مصورة دار المعرفة.

- السنن، للدارمي، دار الريان.

- السنة، لابن أبي عاصم، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي.

- السنة، للمروزي.

- سير أعلام النبلاء، للذهبي، مؤسسة الرسالة، ط 6، 1409.

- السيرة النبوية، لابن هشام، مكتبة البابي الحلبي، ط 2، 1375.

- شرح السنة للبغوي، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناووط، المكتب الإسلامي.

(1/222)

________________________________________

- شرح الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، تحقيق التركي والأرناووط، دار عالم الكتب.

- الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، تحقيق المقطري، مؤسسة الريان.

- الصحاح، للجوهري، تحقيق عطّار،

- صحيح ابن خزيمة، لابن خزيمة، تحقيق الأعظمي، المكتب الإسلامي.

- صحيح مسلم، للإمام مسلم، ترقيم عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.

- الطبقات الكبري، لابن سعد، دار صادر.

- طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق د/ عبد الرحمن العثيمين.

- العلل، لابن أبي حاتم، مصورة دار المعرفة 1405.

- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، دار الريان للتراث.

- فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، لإسماعيل القاضي، تحقيق عبد الحق التركماني، رمادي للنشر.

- قيام رمضان، للمعلمي، المكتبة المكية.

- الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد بن عدي، دار الكتب العلمية.

- کشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمي، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1403.

- لطائف المعارف بما في مواسم العام من الوظائف، لابن رجب، تحقيق السوّاس، دار الكلم الطيب وابن كثير.

- مجموع الفتاوي، لابن تيمية، جمع ابن قاسم، تصوير عالم الكتب.

(1/223)

________________________________________

- محجَّة القُرب في محبَّة العرب، للعراقي، تحقيق الزير، دار العاصمة.

- مختار الصحاح، للرازي، مؤسسة علوم القرآن.

- المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، لبكر أبو زيد، دار العاصمة، ط 1، 1417.

- مسائل أبي داود للإمام أحمد، تحقيق طارق عوض الله، دار الوطن.

- مسائل صالح للإمام أحمد، تحقيق د/ فضل الرحمن، الدار السلفية.

- مسائل عبد الله للإمام أحمد، تحقيق المهنا، مكتبة الدار.

- مسائل ابن هاني للإمام أحمد، تحقيق الشاويش، المكتب الإسلامي.

- المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، مصورة عن دائرة المعارف العثمانية.

- المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، تحقيق أبي غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.

- مسند الإمام أحمد، المكتب الإسلامي، وتحقيق شعيب الأرناووط، توزيع وزارة الأوقاف بالمملكة.

- مسند أبي يعلى، تحقيق الأثري، دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن 1408.

- مصباح الزجاجة إلى زوائد ابن ماجه، للبوصيري، مؤسسة الكتب الثقافية 1406.

- مصنف ابن أبي شيبة، دار التاج 1409.

- مصنف عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق الأعظمي، المكتب الإسلامي.

- المطالب العالية (المسندة)، لابن حجر، دار الوطن 1417.

(1/224)

________________________________________

- معالم السنن، للخطابي، مع مختصر المنذري، تحقيق الفقي وأحمد شاكر.

- المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق الطحان، دار المعارف الرياض.

- معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي 1399.

- المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، مكتبة ابن تيمية.

- المغني، لابن قدامة، تحقيق الحلو والتركي، توزيع وزارة الأوقاف بالمملكة.

- المقاصد الحسنة بالأحاديث المشتهرة على الألسنة، للسخاوي، دار الهجرة بيروت.

- من عاش بعد الموت، لابن أبي الدنيا، تحقيق بيضون، مؤسسة الكتب الثقافية ط. 1، 1414.

- منسك شيخ الإسلام، تحقيق علي العمران، دار عالم الفوائد 1418.

- الموضوعات، لابن الجوزي، المكتبة السلفية بالمدينة.

- موطأ مالك، تحقيق د/ بشار عوّاد، دار الغرب الإسلامي.

- نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، للزيلعي، دار الحديث.

- النهج السديد تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، لجاسم الدوسري، دار الكتاب الإسلامي.

- نور الاقتباس من مشكاة وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس، لابن رجب الحنبلي، تحقيق العجمي، دار البشائر.

* * *

(1/225)

________________________________________