×
الانتصار لأهل الأثر : كتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - اشتمل على جواب عن سؤال مركب من أمرين، الأول: مذهب السلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم ما الصواب منهما؟ وهل أهل الحديث أولى بالصواب من غيرهم؟ وهل هم المراد بالفرقة الناجية؟ وهل حدث بعدهم علوم جهلوها وعلمها غيرهم؟ والثاني: علم المنطق، هل من قال: إنه فرض كفاية مصيب؟

الانتصار لأهل الأثر المطبوع باسم: نقض المنطق

تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 - 728 هـ) تحقيق عبد الرحمن بن حسن قائد دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


راجع هذا الجزء سُعود بن عبد العزيز العُريفي عمر بن سَعْدِي الجزائري

(المقدمة/3)


 مقدمة التحقيق

اللهم حبِّب إلينا الإنصافَ وزيِّنه في قلوبنا, وكرِّه إلينا البغيَ في الحكم والفجور في الخصومة, وأغننا بمحجَّة الحق عن بنيَّات الباطل. أما بعد, فهذا جوابٌ من أجوبة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - التي عليها خاتمُه, خاتمُ تحقيق المنقول وتحرير المعقول, وفيها نهجُه, نهجُ الاستسلام للوحي والتأسي بصالح السلف, وبها خلائقُه, خلائقُ الصدق والعدل والمرحمة. سئل فيه عن مذهب السلف في الاعتقاد, وهل أهل الحديث أولى بالصواب من غيرهم, فأوضح مذهبَ السلف وقرَّر سبيلهم, وانتصر لأهل الحديث وبيَّن فضلهم, ثم أنصف من نفسه فكشف عن زلل بعض من لم يُحْكِم طريقتَهم ممن ينتسبُ إليهم, وأبان عما في مذاهب مخالفيهم من الجور عن صراط رشدهم، فكان حريًّا أن يسمى بـ «الانتصار لأهل الأثر» , كما سيأتي تأويله. وقد طُبِع من قبل باسمٍ اجتهد ناشرُه في وضعه, وهو «نقض المنطق» , فكان اسمًا لا يدلُّ على حقيقة الكتاب ولا يهدي إلى غايته, وإن هو صدَق على جزءٍ منه, إذ ربعُه الأخير قولٌ مختصرٌ في المنطق وجوابٌ عمَّن زعم أنه فرض كفاية. ثم كان من آثار هذه التسمية أنْ ظنَّ كثيرٌ من العلماء والباحثين وعامة القراء ــ وكنت منهم ــ أنه أحدُ الكتابين المشهورَين لشيخ الإسلام في الردِّ

(المقدمة/5)


على المنطق, وهو ظنٌّ فائل, كما سنبيِّنه في موضعه من هذه المقدمة التي ذكرنا فيها كلماتٍ موجزة تضيء الطريق لقارئ الكتاب, وتعرِّفه إليه, وتقفه على ما ليس منه بدٌّ في أمر تصحيح نسبته وتحرير عنوانه وتفصيل موضوعه وتسمية موارده إلى آخر ما هنالك, ونسأل الله سداد القصد وهداية الطريق, فمن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا. وكتب عبد الرحمن بن حسن قائد الرياض 22/ 12/ 1434

(المقدمة/6)


 التعريف بالكتاب

* إثبات نسبة الكتاب لمؤلفه * تحرير عنوان الكتاب * موضوع الكتاب ومنهج المؤلف * موارد الكتاب * وصف الأصل الخطي المعتمد * طبعات الكتاب * منهج التحقيق

(المقدمة/7)


إثبات نسبة الكتاب لمؤلفه اجتمع لكتابنا من الدلائل والشواهد التي تصححُ نسبته إلى مؤلفه شيخ الإسلام ابن تيمية ما يُثْلِجُ القلبَ ببرد اليقين ويشفي ذا الغُلَّة الصادي, وإن كان الكتابُ ينادي باسم منشئه من له بهذا القلم الصَّارم معرفةٌ وسابقُ ألفة, لكن الاستدلال على ذلك يزيدُ الحقَّ ظهورًا وينفي عنه معتلجَ الظنون, فإلى بعض القول فيه. فمن الدلائل والقرائن المستنبطة من الكتاب: 1 - ذِكْرُ المؤلف فيه لبعض كتبه الأخرى وإحالته عليها, كالفتوى الحموية, وقاعدة السُّنة والبدعة. * قال عن الأول (ص: 215): «وأما أهل الحديث، فإنما تذكُر مذهبَ السَّلف بالنقول المتواترة، تارةً يذكرون مَن نقل مذهبَهم مِن علماء الإسلام، وتارةً يروون نفسَ قولهم في هذا الباب، كما سلكناه في جواب الاستفتاء, فإنا لما أردنا أن نبيِّن مذهبَ السَّلف ذكرنا طريقين ... ». والألف واللام في «الاستفتاء» للعهد, وهو الاستفتاء الذي ورد إليه سنة 698 من حماة عن آيات الصِّفات وأحاديثها, فكتبَ جوابه في قعدةٍ بين الظهر والعصر, وعمرُه إذ ذاك دون الأربعين, واشتهر بالفتوى الحموية, وجرت له بسببه محنةٌ عظيمة, وذكره هكذا في غير موضع (1). _________ (1) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 4, 234) , و «العقود الدرية» (111, 144, 249) , و «الفتوى الحموية» (296 - 517).

(المقدمة/9)


وأومأ إليه في موضع آخر (ص: 245) , فقال: «وقد ذكرنا في غير هذا الجواب مذهبَ سلف الأمَّة وأئمَّتها بألفاظها وألفاظ من نقل ذلك من جميع الطوائف». * وقال عن الثاني (ص: 158): «وقد قرَّرنا في قاعدة السُّنة والبدعة أن البدعة في الدِّين هي ما لم يشرعه الله ورسوله». وقد سمَّى هذه القاعدة وأحال عليها في «الاستقامة» (1/ 5) , وانظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 371, 21/ 319). وذكرها صاحباه ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (73) , وابن رُشَيِّق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (306 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام). * ومما يدخل في هذا: إحالتُه بسط القول في بعض المسائل على ما قرَّره في مواضع أخرى ــ دون أن يسمِّي كتابًا بعينه ــ ووجدنا تصديقَه في تصانيفه. كقوله (ص: 207) بعد أن قرَّر ذمَّ من يمثِّل الله بخلقه: «وقد بسطنا القول في ذلك وذكرنا الدلالات العقلية التي دلَّ عليها كتابُ الله في نفي ذلك، وبيَّنَّا منه ما لم تذكره النفاة الذين يتسمون بالتنزيه ولا يوجدُ في كتبهم ولا يُسْمَعُ من أئمَّتهم ... » (1). _________ (1) وقد بسط ذلك في مصنف أفرده لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} , أشار إليه في «درء التعارض» (4/ 146) و «منهاج السنة» (2/ 185) , وأورده ابن رُشَيِّق في أسماء مؤلفاته (291 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام). كما ذكر في «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 487) أنه بسط الكلام على هذا في «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» , وهو في القطعة المطبوعة من الجواب (114 - 153).

(المقدمة/10)


وانظر نماذج أخرى في غاية الوضوح (ص: 60, 71, 82, 269, 306). 2 - توافق ترجيحات المؤلف واختياراته وتحريراته في مسائل العلم, ومسالكه في الحِجَاج ومناقشة الأقوال, مع ما هو معروفٌ في سائر كتبه وتواليفه, وقد وصلتُ بينها في الحواشي برباطٍ وثيق. 3 - لغة الكتاب وأسلوب مؤلفه وعباراته وألفاظه التي يكثر دورانها في كتبه, وطريقته في الاستطراد والإحالة على مواضع بسط الكلام, كلُّ ذلك هاهنا على المعهود منه لا تخطئه العين. 4 - وقوع الكتاب ضمن مجموعٍ خطيٍّ يشتمل على مسائل ورسائل لشيخ الإسلام, وكتب ناسخه في صدر الصفحة الأولى من الكتاب: «هذه المسألة وجوابها مفيدة جدًّا, فرحم الله شيخ الإسلام وجزاه خيرًا وكاتبه». ومن الشواهد المستقاة من خارجه: 5 - اعتماد تلميذه وصاحبه الإمام ابن القيم عليه, وهو من أعرف الناس بكلامه, فقد نقل عنه نصًّا طويلًا في «الوابل الصيب» (135 - 139) دون أن يسمِّيه, على عادته المألوفة في الانتفاع بكلام شيخه وتضمينه في كتبه (1) , والنصُّ في كتابنا (ص: 137 - 140). _________ (1) كما قال عنه ابن حجر في «الدرر الكامنة» (5/ 139): «وكل تصانيفه مرغوبٌ فيها بين الطوائف, وهو طويلُ النفس فيها يتعانى الإيضاحَ جهده فيسهبُ جدًّا, ومعظمها من كلام شيخه, يتصرَّف في ذلك, وله في ذلك ملكةٌ قوية, ولا يزال يدندن حول مفرداته وينصرُها ويحتجُّ لها».

(المقدمة/11)


6 - اطلاع طائفةٍ من أهل العلم عليه وتصريحهم بالنقل عنه, وإن كان بعضهم ربما نقل بواسطة. ومن أولئك: - الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت: 1206) في كتابه «مفيد المستفيد» (289, 290, 298, 299, 305) , وفي رسائله الشخصية (7/ 222 - 224) ضمن مجموع مؤلفاته, ولخَّص مواضع منه في الجزء الذي جمعه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 178 - 198). ولا ريب أنه وقف على نسخة تامة من الكتاب, فإنه ينقل من مواضع متفرقة منه, ويحتمل أن تكون هي نسخة المكتبة المحمودية بالمدينة وقف عليها أثناء طلبه العلم هناك وعلَّق منها هذه المواضع, وربما استنسخ منها نسخةً عاد بها إلى نجد وعنها ينقلُ مَن بعده من أحفاده وسائر علماء تلك البلاد, كما يحتمل أن تكون نسخةً أخرى غيرها هي التي رآها الشيخ سليمان بن سحمان وسمَّاها بالاسم الآتي إن صحَّ أن ذاك الاسم كان ثابتًا عليها ولم يكن من اجتهاده, ومما يُبْعِدُه أن الشيخ محمدًا لم يسمِّ الكتاب به. - الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبا بطين (ت: 1282) في كتابه «الانتصار لحزب الله الموحدين» (57 - 58) , وفي بعض رسائله وفتاويه, انظر: «الدرر السنية» (10/ 355, 372, 388). - الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت: 1285) في بعض رسائله. انظر: «الدرر السنية» (11/ 450).

(المقدمة/12)


- الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (ت: 1293) في كتابيه «مصباح الظلام» (338) , و «منهاج التأسيس» (249) , وغيرهما. - الشيخ سليمان بن سحمان العسيري النجدي (ت: 1349) في كتبه «الضياء الشارق» (373, 654) , و «كشف الشبهتين» (93) , و «كشف غياهب الظلام» (169 - 173). وقد اطلع على الكتاب ونقل عنه نقلًا طويلًا, وسمَّاه «الانتصار لأهل الأثر» , كما سيأتي. * * * *

(المقدمة/13)


 تحرير عنوان الكتاب

هذا الكتاب جوابٌ مبسوطٌ عن استفتاء وُجِّه لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - , شأن كثير من كتب الشيخ ورسائله التي يتعذَّر إحصاؤها لكثرتها مما هي في أصلها جوابٌ عن سؤال سائل (1). وكدأب تلك الرسائل والفتاوى التي لم يحفل الشيخ بتسميتها, وإنما عُرِفت بموضوعها أو باسم السائل المستفتي أو بلده ونحو ذلك من القرائن المعرِّفة, لم تُسَمَّ مسألتنا هذه في الأصل الخطي الذي اعتمدنا عليه, وهو مجموعٌ مشتملٌ على مسائل كثيرة ورسائل لشيخ الإسلام, بل ابتدأ الناسخ المسألة بقوله: «مسألة: ما قولكم في مذهب السلف ... ». وعندما أراد الشيخ محمد حامد الفقي أن يطبع الكتاب أول مرة سنة 1370 عن نسخةٍ نُسِخَت من هذا الأصل, ولم يجد له اسمًا, قال في مقدمة نشرته: «ثم شاورت العلامة السلفي الصالح المحقق ــ ضيف مصر الكريم ــ الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ــ رحمه الله ورضي عنه ــ في اختيار اسم للكتاب, فإن شيخ الإسلام لم يسمِّه, فوقع الاختيار على: نقض المنطق, قال ابن عبد الهادي في «العقود الدرية»: وله كتابٌ في الردِّ على المنطق مجلد كبير, وله مصنفان آخران في الرد على المنطق مجلد». وواضحٌ من هذا عدُّه الكتاب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد _________ (1) انظر: «العقود الدرية» (84, 86, 95, 96, 97, 107, 109).

(المقدمة/14)


على المنطق التي أشار إليها ابن عبد الهادي, ويؤيده قوله في المقدمة قبل ذلك: «وبعد, فقد تفضل السلفي الكبير ... فأعطاني النسخة الخطية لرد شيخ الإسلام ... على المنطق». وشاع هذا الظن بين كثير من أهل العلم والباحثين, وسأكتفي بمثالين لاثنين من جِلَّة العلماء المعاصرين. الأول: علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار (ت: 1396) , فقال في مقال تعريفيٍّ بالكتاب (1) تعليقًا على قول ابن عبد الهادي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «وله كتاب في الرد على المنطق مجلدٌ كبير, وله مصنفان آخران في الرد على المنطق» (2): «قلت: أحدها كتاب الرد على المنطقيين, وقد طبع في بمباي سنة 1368 في نحو خمسمئة وخمسين صفحة. والثاني نقض المنطق, وهو هذا. ولم أهتد إلى الثالث, ولعله كتاب الموافقة بين المعقول والمنقول ... ». والثاني: الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421) , وقال: «وممن كتب في الرد على المنطق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - , فقد كتب في الرد عليهم كتابين أحدهما مطول والآخر مختصر, المطول: الرد على المنطقيين, والمختصر: نقض المنطق, والأخير أحسن لطالب العلم لأنه أوضح وأحسن ترتيبًا ... » (3). _________ (1) مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (المجلد 27، الجزء 2, رجب 1371). (2) «العقود الدرية» (53, 54). (3) «شرح السفارينية» (715).

(المقدمة/15)


والحقُّ أن هذا بعيدٌ عن الصواب, ولبيان ذلك لا بدَّ من تحرير أمرين, أولهما: ما كتبه شيخ الإسلام في الرد على المنطق. والثاني: لم لا يكون كتابنا أحد تلك الكتب؟ * فأما الأمر الأول, فلنأخذه عاليًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية من لفظه, ثم نثني بكلام أصحابه. حدَّث شيخ الإسلام عن نفسه في مقدمة كتابه «الرد على المنطقيين» فقال: «أما بعد, فإني كنتُ دائمًا أعلمُ أن المنطق اليوناني لا يحتاجُ إليه الذكيُّ ولا ينتفع به البليد, ولكن كنتُ أحسبُ أن قضاياه صادقة؛ لِمَا رأيتُ مِن صدق كثيرٍ منها, ثم تبين لي فيما بعدُ خطأ طائفة من قضاياه وكتبتُ في ذلك شيئًا. ثم لما كنتُ بالاسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظِّم المتفلسفة بالتهويل والتقليد, فذكرتُ له بعض ما يستحقه من التجهيل والتضليل, واقتضى ذلك أني كتبتُ في قعدةٍ بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علَّقته تلك الساعة, ثم تعقَّبته بعد ذلك في مجالس إلى أن تمَّ, ... فأراد بعض الناس أن يكتب ما علَّقتُه إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق, فأذنتُ في ذلك؛ لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فُتِح من باب الردِّ عليهم يحتملُ أضعاف ما علقتُه تلك الساعة, فقلت: ... » ثم ابتدأ فصول الكتاب. ففي هذا النص يخبر شيخُ الإسلام أنه حين تبيَّن له خطأ طائفة من قضايا المنطق كتب فيه شيئًا, وهو تعبيرٌ يدلُّ على قلة ذلك المكتوب واختصاره,

(المقدمة/16)


وهو وصفٌ مناسبٌ لكتاب صغير, ثم حين كان بالاسكندرية (1) واجتمع به بعض من يعظِّم المتفلسفة بالتقليد والتهويل ــ وما أكثر خفافيش العقول والبصائر في كل زمان, وما أهونهم على أنفسهم! ــ وذكر له الشيخُ بعض ما يستحقُّه من التجهيل= رأى الحاجة لكشف خطل هذه الصناعة ودفع صيال أهلها قائمة, فاقتضاه واجبُ النصح والبيان أن يكتب كتابًا أوسعَ من تلك الكتابة السابقة المختصرة, فابتدأه في قعدةٍ بين الظهر والعصر, ثم أتمَّه في مجالس بعد ذلك, وذلك هو كتاب «الرد على المنطقيين» , ويغلبُ على ظني _________ (1) أمر أعداء الشيخ بالقاهرة سنة 709 بنفيه إلى الاسكندرية لعل أحدًا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة فيستريحون منه, وكانت معقل متفلسفة المتصوفة أتباع ابن سبعين وابن عربي, وبقي فيها ثمانية أشهر, في برج متسع مليح نظيف، يدخل عليه من شاء، ويتردد إليه الأكابر والأعيان والفقهاء يقرؤون عليه ويستفيدون منه, كما قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (18/ 85). وفي هذا المنفى كتب شيخ الإسلام كتابه الكبير في الرد على المنطقيين. وكتب فيه كذلك: الرد على رسالة «الألواح» لابن سبعين, المطبوع بعنوان «بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية» , ويسمى «المسائل الاسكندرية في الرد على الملاحدة والاتحادية» , ويسمى «السبعينية» نسبة إلى ابن سبعين. انظر: «الصفدية» (1/ 302) , و «النبوات» (398) , و «الرد على المنطقيين» (275). وكتب فصولًا في الفقه, كما في «مجموع الفتاوى» (23/ 210). وكتب لصاحب سبتة إجازة بأسانيده في عشر ورقات, كتبها من حفظه ويعجز عن عمل بعضها أكبرُ محدِّثٍ يكون! كما يقول الذهبي في «الدرة اليتيمية» (40 - تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام). وكتب إلى أصحابه رسالةً تفيض حبًّا وصدقًا ورضًا ويقينًا بالله, اقرأها في «مجموع الفتاوى» (28/ 30 - 46) , وهي من كريم الرسائل.

(المقدمة/17)


أنه لم يكتب له مقدمةً إذ ذاك, بل افتتح الكلام في الرد, ثم حين أراد أحدُ أصحابه نسخَ الكتاب (آخر حياته سنة 728) قابله على أصل الشيخ الذي بخطه وعرَضه عليه, فنظر فيه وصحَّحه وزاد بخطه زيادات, وكتب له هذه المقدمة وحكى قصَّته, وعن هذه النسخة الفريدة نُشِر الكتاب. وهو ظاهرٌ لمن تدبَّره إن شاء الله. وكِبَر حجم كتاب «الرد على المنطقيين» بالنسبة إلى الكتاب الصغير الذي تقدمت الإشارة إليه قرينةٌ صالحةٌ ليوصف بأنه كتابٌ كبير. فتحصَّل من كلام شيخ الإسلام هذا أن له في الرد على المنطق كتابين: صغيرًا مختصرًا متقدم التأليف, وكبيرًا هو «الرد على المنطقيين» (1). وصرَّح بهذا في «الصفدية» (2/ 281) وزاده بيانًا بقوله: «أما تقسيم الصفات اللازمة إلى ثلاثة أنواع ... فهذا من الخطأ الذي أنكره عليهم نظَّار المسلمين, كما قد كتبنا بعض كلام النظَّار في ذلك في غير هذا الموضع في الكلام على المحصَّل, وعلى منطق الإشارات, وعلى المنطق اليوناني مصنَّف كبير ومصنَّف مختصر, وغير ذلك». وذكر كتابه الكبير في «منهاج السنة» (2/ 347 - 348) بقوله: « ... كما قد بُسِط الكلام على المنطق اليوناني وما يختص به أهل الفلسفة من الأقوال الباطلة في مجلد كبير». _________ (1) هذا هو الاسم المثبت على تلك النسخة التي عليها خط شيخ الإسلام, وهو أولى من الاسم المسجوع الذي ذكره له السيوطي في مختصره «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان».

(المقدمة/18)


وأشار إليه في «شرح الأصبهانية» (455) , فقال: « ... وقد بُسِط الكلام على هذا في مواضع غير هذا الموضع، كالرد على الغالطين في المنطق, وغير ذلك». وأشار إلى ما كتبه في الرد على منطق «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا كذلك في «الرد على المنطقيين» (64, 463) , و «منهاج السنة» (5/ 434). وأحال على كلامه على «المحصَّل» ــ وهو «محصَّل أفكار المتقدمين والمتأخرين» للرازي ــ في «درء التعارض» (1/ 22) , و «الرد على المنطقيين» (37, 110, 122, 345, 357) , و «الصفدية» (2/ 151, 187) , و «منهاج السنة» (1/ 168) , و «الفتاوى» (8/ 7) , وقد شرح شيخُ الإسلام أول «المحصَّل» (1) , _________ (1) ذكر ابن رشيق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (295 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام) , وابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (57) أنه في مجلد, وذكر الصفدي في «أعيان العصر» (1/ 240) و «الوافي» (7/ 24) أنه بلغ ثلاث مجلدات. وقال الشيخ في «منهاج السنة» (5/ 433): «وحدثني غير مرة رجلٌ ــ وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين ــ أنه كان قد قرأ على شخص سمَّاه لي ــ وهو من أكابر أهل الكلام والنظر ــ دروسًا من المحصَّل لابن الخطيب، وأشياء من إشارات ابن سينا. قال: فرأيت حالي قد تغير, وكان له نورٌ وهدى, ورُئيت له منامات سيئة، فرآه صاحب النسخة بحال سيئة، فقص عليه الرؤيا، فقال: هي من كتابك. وإشارات ابن سينا يعرفُ جمهورُ المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادًا كثيرًا، بخلاف المحصَّل يظنُّ كثيرٌ من الناس أن فيه بحوثًا تحصِّل المقصود. قال: فكتبت عليه: محصَّلٌ في أصول الدين حاصلُه ... من بعد تحصيله أصلٌ بلا دين أصلُ الضلالات والشكِّ المبين فما ... فيه فأكثره وحيُ الشياطين قلت: وقد سئلتُ أن أكتب على المحصَّل ما يُعْرَفُ به الحقُّ فيما ذكره، فكتبتُ من ذلك ما ليس هذا موضعه، وكذلك تكلمتُ على ما في الإشارات في مواضع أخر, والمقصود هنا التنبيه على الجمل ... ». وأظن الرجل الذي يشير إليه شيخ الإسلام من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين هو الإمام ابن القيم, فقد قرأ أكثر المحصَّل على الصفيِّ الهندي كما ذكر الصفديُّ في «أعيان العصر» (4/ 367) , وكان الصفيُّ من أكابر أهل الكلام والنظر لعهده, وقول شيخ الإسلام: «حدثني غير مرة» يفيد صحبته له, ثم إن البيتين يشبهان شعر ابن القيم ونسج كلامه, وقد أخبر في «الكافية الشافية» (570, 836) عن طول بحثه عن الحق ووقوعه في شباك المتكلمين حتى لقي شيخ الإسلام ابن تيمية فأخذ بيديه وسار به حتى أراه مطلع الإيمان. وانظر: «مفتاح دار السعادة» (446) وتعليقي عليه.

(المقدمة/19)


وفي أوله القول في التصوُّرات والتصديقات, وهما عماد المنطق. فهذه أربعة كتب تضمَّنت الردَّ على المنطق نصَّ عليها شيخ الإسلام: كبير, وصغير, وآخران في الردِّ على منطق «الإشارات» والكلام على «المحصَّل». ولشيخ الإسلام في هذا الباب فصولٌ وفتاوى لا ينتظمها كتاب (1) , سوى ما تعرَّض لبحثه في مثاني مصنفاته, وهو كثير. أما أصحابه, فمنهم من لم يذكر إلا الكتاب الكبير, وهو ابن رُشَيِّق (2). ومنهم من ذكر كتابين: صغيرًا وكبيرًا, وهو ابن القيم (3). _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (9/ 255 - 270). (2) «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (295 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام). (3) «مفتاح دار السعادة» (448) , و «إغاثة اللهفان» (1022). ومن طبقة أصحاب شيخ الإسلام, وما هو من أصحابه: الصفدي, ذكر له كذلك في «الوافي» (7/ 24) و «أعيان العصر» (1/ 240) كتابين: مجلدًا, وآخر لطيفًا.

(المقدمة/20)


ومنهم من ذكر ثلاثة كتب: كبيرًا, ومصنَّفين آخرَين نحو مجلد, وهو ابن عبد الهادي (1). * وهنا موضعُ الأمر الثاني, وهو: لم لا يكون كتابنا هذا أحد تلك الكتب الثلاثة, فتصحُّ تسميته بنقض المنطق؟ والجواب: أما الكتاب الكبير فقد تقدم أن المقصود به كتاب «الرد على المنطقيين» , وكتابنا صغيرٌ بالنسبة إليه. وأما الرد على منطق «الإشارات» والكلام على «المحصَّل» , فليس بهما كما هو ظاهر, ولم يسمِّ ابن تيمية في الكتاب الذي معنا كتابَي «الإشارات» و «المحصَّل» أصلًا. فلم يبق إلا الكتاب الصغير, ولا يصحُّ أن يكون هو المراد؛ لأمرين: أولهما: أن كتابنا غير متمحِّض للرد على المنطق, بل جلُّه في الانتصار لعقيدة أهل الحديث والذبِّ عنهم والردِّ على مخالفيهم, والقدر المختصُّ بالمنطق لا يتجاوز الربع منه, فكيف يوصفُ بأنه كتابٌ في الرد على المنطق والحال هذه؟ ! ثانيهما: أن شيخ الإسلام لا يفتأ يذكر في كتابنا هذا أنه ليس موضع بسط فساد المنطق وبيان ما فيه من الخلل, ويحيل على ما بسطه من الكلام في _________ (1) «العقود الدرية» (53, 54).

(المقدمة/21)


مواضع أخرى. فمن ذلك قوله (ص: 306): «وقد ذكرتُ في غير هذا الموضع ملخَّص المنطق ومضمونَه، وأشرتُ إلى بعض ما دخل به على كثيرٍ من الناس من الخطأ والضلال، وليس هذا موضع بسط ذلك». فكأنه يحيل هاهنا على كتابه المختصر في نقض المنطق حقًّا. وقوله (ص: 265): «وأما المنطق, فمن قال: إنه فرض كفاية، وأنه من ليس له به خبرةٌ فليس له ثقةٌ بشيءٍ من علومه = فهذا القولُ في غاية الفساد من وجوهٍ كثيرة التَّعداد، مشتملٌ على أمورٍ فاسدةٍ ودعاوى باطلةٍ كثيرةٍ لا يتَّسعُ هذا الموضع لاستقصائها». وقوله (ص: 269): «فإنهم يزعمون أنه آلةٌ قانونيةٌ تمنعُ مراعاتُها الذِّهنَ أن يزلَّ في فكره، وفسادُ هذا مبسوطٌ مذكورٌ في موضعٍ غير هذا». وقال في ختام الجواب (ص: 341): «فالتحقيقُ أنه مشتملٌ على أمورٍ فاسدة، ودعاوى باطلةٍ كثيرة، لا يتسعُ هذا الموضعُ لاستقصائها». وهذه النصوص دليلٌ على المطلوب من جهتين: الأولى: أنه لو كان مصنَّفًا مقصودًا للردِّ على المنطق لحرَّر القول في بيان فساده, ولخَّص مقاصد الكلام فيه ما دام كتابًا مختصرًا, فإنه موضعُ ذلك ومظنَّتُه, وليس من السائغ والمألوف أن يحيل على غيره في ما حقُّه البيان فيه. والواقع أنه إنما ذكر في هذا الكتاب ما يناسبُ جوابَ السؤال على جهة

(المقدمة/22)


الاختصار, وهو الكلام عن فساد جعل المنطق من فروض الكفاية, ثم استطرد إلى بيان بعض ما اشتمل عليه من الدعاوى الباطلة, وأحال على مظانِّ بسط ذلك في الكتب التي خصَّصها للرد على المنطق, كما يفعلُ في سائر كتبه عندما يعرض لشيءٍ من مسائل المنطق والردِّ عليه فإنه يذكر ما يناسبُ المقام ثم يحيل على المواضع التي بسط فيها الكلام (1). الثانية: أن الكتاب الصغير المختصر لشيخ الإسلام في الرد على المنطق متقدمُ التأليف, لم يسبقه شيءٌ كتبه الشيخ في موضوعه على جهة الانفراد, كما هو بيِّنٌ من مقدمة كتاب «الرد على المنطقيين» التي سلفت, وكتابنا هذا متأخرٌ يحيل فيه على ما بسط من الرد على المنطق في مواضع أخرى. فإن قيل: فإن لم يكن كتابنا هو الكتاب الصغير المختصر الذي صنَّفه شيخ الإسلام في الردِّ على المنطق, فأين هو ذلك الكتاب؟ فالجواب أنه لم يصلنا بعد, وما هو بأول ما لم يُعْثَر عليه من تراث شيخ الإسلام, ولعله في زاوية من زوايا خزائن المخطوطات التي لا تزال ترفدنا كلَّ حين بجديدٍ من التصانيف التي لم نكن نعرف من أمر وجودها شيئًا. وتلطَّف الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع (ت: 1385) في تخريج تسمية الكتاب بـ «نقض المنطق» , فقال معلِّقًا على صفحة العنوان من نسخته المطبوعة من الكتاب: «هذا الاسم من باب المجاز المرسل, وهو ذِكرُ الجزء نيابةً عن الكل؛ لأن ما تضمنه الكتاب جوابُ سؤالٍ عن المنطق _________ (1) انظر: «الصفدية» (2/ 145) , و «منهاج السنة» (2/ 191, 272, 3/ 303, 315, 5/ 433, 451, 454 , 8/ 35) , و «شرح الأصبهانية» (325) , وغيرها.

(المقدمة/23)


وغيره, وابتداء الجواب عن المنطق من ص 155». وهو كما قال لو لم تُوهِم التسميةُ أن الكتاب أحد كتابي شيخ الإسلام المشهورَين في الرد على المنطق, وقد مرَّ تصريحُ الناشر بهذا وما أعقبه من ذهاب كثيرٍ من الناس إليه. وإذ قد تبيَّن نأيُ تسمية الكتاب بـ «نقض المنطق» عن الصواب, وعدم مطابقة الاسم للمسمى إلا بضربٍ من المجاز, فإن اللائق باسم الكتاب أن يكون كاشفًا عن مضمونه, واضحًا في الدلالة على محتواه, وهو الدفاع عن اعتقاد السلف وأهل الحديث والردُّ على من طعن فيهم أو زعم أن عدم علمهم بعلم المنطق يوجبُ جهلهم وينقص قدرهم, وذلك ما تضمَّنه الاسم الذي أورده الشيخ سليمان بن سحمان (ت: 1349) , فإنه وقف على الكتاب ونقل عنه نقلًا طويلًا, وقال في صدره: «قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في كتابه الانتصار لأهل الأثر ... » (1). وسواءٌ أكان هذا الاسم مكتوبًا على النسخة التي رآها الشيخ سليمان وكان مِن وضع المصنف أو أحد أصحابه, أم كان مما سمَّاه الشيخ أو غيرُه باجتهاده وهو الأشبه = فإنه اسمٌ صادق الدلالة على المسمى, وهو اجتهادٌ خيرٌ من ذلك الاجتهاد, فلذا آثرتُ إحياءه وتعريفه للناس, فوضعته في صفحة العنوان وتحته الاسم الذي اشتهر به وذاع. ولابن تيمية - رحمه الله - رسالةٌ في «فضل السلف على الخلف في العلم» _________ (1) «كشف غياهب الظلام» (169). أفادني هذا الموضع المهم أخي وصديقي العزيز الشيخ الدكتور علي العمران وفقه الله.

(المقدمة/24)


ذكرها ابن رُشَيِّق في أسماء مؤلفاته (1) , وفي عنوانها ما قد يوهمُ أن تكون هي كتابنا هذا؛ إذ في الكتاب بيانُ فضل السلف والانتصار لهم والردُّ على من خالف طريقتهم من المتأخرين, لكن مما يدفع ذاك التوهُّم أن ابن عبدالهادي أورد تلك الرسالة في جملة القواعد (2) , وكتابنا جوابٌ وفتوى, ومقتضى صنيعه في سياق كتب الشيخ التفريقُ بين الفتاوى والقواعد, وهو ظاهر. كما يدفعه أن موضوع الكتاب أخصُّ من عنوان تلك الرسالة, فإنه في الانتصار لعقيدة السلف وأصحاب الحديث في باب أسماء الله وصفاته وما يتصل بذلك ثم في بيان فساد المنطق وعدم الحاجة إليه, ولا تعرُّض فيه لباقي أبواب الاعتقاد الكبرى كالإيمان والقدر ونحوها مما للسلف فيه سبيلٌ غير سبيل بعض المتأخرين. ثم إننا لا نجد فيه كذلك حديثًا عن التفسير والفقه والحديث والعربية وغيرها من فنون العلم ومدارك المعرفة التي يظهرُ بها فضلُ السلف على الخلف ولا يُظَنُّ أن يُغْفِلها شيخُ الإسلام في مثل هذا المقام. وبعد, ففي تراث أبي العباس الذي وصلنا لآلئ متناثرةٌ في هذه المعاني تستحقُّ أن يَنْهَد لها باحثٌ يَنْظِم عِقْدَها في كتاب يجدِّد رسمَ ذلك العنوان الدارس. * * * * _________ (1) (301 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام). (2) «العقود الدرية» (66).

(المقدمة/25)


 موضوع الكتاب ومنهج مؤلفه

* موضوع الكتاب: هو جوابٌ عن سؤالٍ مركَّب من أمرين: الأول: مذهب السلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين, ما الصواب منهما؟ وهل أهل الحديث أولى بالصواب من غيرهم؟ وهل حدث بعدهم علومٌ جهلوها وعلمها غيرهم؟ والثاني: علم المنطق, هل من قال: «إنه فرض كفاية» مصيب؟ وكأن السائل تخلَّص بالفقرة الأخيرة من الأمر الأول إلى السؤال عن المنطق, إذ المنطق من العلوم الصِّناعية التي حدثت بعد عهد السلف حين ترجمت كتب اليونان إلى العربية في دولة بني العباس. استغرق جواب المصنف عن الأمر الأول ثلاثة أرباع الكتاب, وجعل الربع الأخير للجواب عن الثاني. فابتدأ الجواب بتقرير أن اتباع سبيل المؤمنين من الصحابة وتابعيهم بإحسان واجبٌ, وأن مِن سبيلهم في الاعتقاد الإيمانَ بصفات الله تعالى وأسمائه التي وردت في كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة عليها ولا نقص منها, وبلا تأويل ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين. واحتجَّ لإثبات أن ذلك من سبيلهم بنصوصٍ من عيون كلامهم وكلام من بعدهم ممَّن حكى مذهبهم وطريقتهم في هذا الباب.

(المقدمة/26)


ثم ابتدأ فصلًا في بيان أن طريقتهم أحكم وأعلم, وأفاض في بيان فضل أهل الحديث, وأنهم يشاركون كلَّ طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال, ويمتازون عنهم بما ليس عندهم, واحتجَّ لذلك بأن كلَّ إمامٍ متبوعٍ وطائفةٍ إنما يُحْمَدون عند الأمة بمقدار اتباعهم للحديث وقربهم منه, وضرب لذلك شواهد عديدة من الناس والطوائف في سياقٍ تاريخيٍّ نقديٍّ وتقويمٍ عادلٍ يتحرَّى الإنصاف. ثم قصد إلى بيان أن الفلاسفة والمتكلمين الذين يصفون أهل الحديث بالحشو والجهل هم أحقُّ بذلك الوصف وأهلُه؛ لقولهم الباطلَ وتكذيبهم الحقَّ في مسائلهم ودلائلهم, واستدل لذلك بوجهين أطال فيهما: الأول: أنهم أعظم الناس شكًّا واضطرابًا, وأضعفهم علمًا ويقينًا. الثاني, وهو فرعٌ من الأول: أنهم أكثر الناس انتقالًا من قول إلى قول, وجزمًا بالقول في موضعٍ وبنقيضه وتكفير قائله في موضعٍ آخر. ثم تحدَّث عن طرق الخارجين عن طريقة السابقين الأولين: طريق التخييل, وطريق التأويل, وطريق التجهيل, وأفاض في بيان كلِّ طريق, وهو بابٌ استفتحه في مواضع كثيرة من كتبه. ثم ابتدأ فصلًا في نقض كلام مشهور للعز بن عبد السلام في رسالته «الملحة» ينبز فيه مثبتة الصفات بالحشو, وأنهم يتستَّرون بمذهب السلف, وأن منهم من لا يتحاشى من التشبيه والتجسيم, وأبان عما في كلامه من الحق والباطل, وحرَّر هذه المصطلحات.

(المقدمة/27)


ثم عقد فصلًا آخر للردِّ على معترضٍ نقل عن أبي الفرج بن الجوزي كلامًا يذمُّ به الحنابلة في باب إثبات الصفات, وأفاض في بيان ما فيه من ضعف العقل والنقل, وما اشتمل عليه من التعصُّب بالجهل والظلم. ويقعُ في وهمي أن هذا الفصل والذي قبله ليسا من أصل الفتوى, وإنما هما فصلان من كتاب «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» , أدرجهما الناسخ هنا لمناسبتهما لموضوع الكتاب؛ لما يلي: 1 - أن الجواب قد تمَّ قبلهما على مقصود السؤال, فلا حاجة لنقض كلامٍ لم يُسأل عنه ولم يتقدَّم له ذكرٌ أو يستدعِه سياق. 2 - أنه صدَّر الفصل الثاني بقوله: «قال المعترض: قال أبو الفرج ... ». والألف واللام للعهد, ولم يسبق لهذا المعترض ذكرٌ فيما تقدم من الجواب, وليس هو العز بن عبد السلام, فإنه توفي قبل ولادة المصنف, ولم يرد هذا النصُّ في رسالته «الملحة» ليقال: لعل أحدًا نقل كلامه. ثم إن لفظ «المعترض» يفيد أن ثمة أمرًا معتَرضًا عليه, ولم يسبق في الكتاب كذلك ما يدلُّ على هذا الاعتراض, بينما اشتهر اعتراض بعض أهل عصره على «الفتوى الحموية». 3 - أن جملة «قال المعترض» التي استفتح بها الفصل الثاني هنا هي الجملة نفسها التي استفتح بها أول فصل من القطعة المطبوعة من كتاب «جواب الاعتراضات» , وهي الأليق بعنوانه وموضوعه كما ترى.

(المقدمة/28)


4 - أن المصنف قال في الفصل الأول الذي ناقش فيه كلام العز بن عبد السلام (ص: 207) بعد أن قرر منع تشبيه الله بخلقه: «وقد بسطنا القول في ذلك وذكرنا الدلالات العقلية التي دلَّ عليها كتابُ الله في نفي ذلك، وبيَّنَّا منه ما لم تذكره النفاة الذين يتسمَّون بالتنزيه ولا يوجدُ في كتبهم ولا يُسْمَعُ من أئمَّتهم». ولم يعيِّن في أي كتاب بسط ذلك وبيَّنه, ولا أحال على موضعٍ آخر ولو مبهمًا على مألوف عادته, والأشبه في مثل هذا أن يكون ذلك البسط والبيان قد وقع في الكتاب نفسه. وقد وقع هذا البسط الذي يشير إليه المصنف في «جواب الاعتراضات» في القطعة المطبوعة (114 - 153) , وللتأكيد على أن هذا هو الموضع الذي يقصده المصنف فقد أحال عليه كذلك في «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 487) وصرَّح بأنه في «الأجوبة المصرية» وهو جواب الاعتراضات. 5 - أن أحد معاصري المصنف وهو ابن جَهْبَل الحلبي (ت: 733) قد ضمَّن كلام العزِّ في رسالةٍ له في الردِّ والاعتراض على الفتوى الحموية (1) , ولولا أني لم أجد النصَّ المذكور في الفصل الثاني (المنقول عن ابن الجوزي) في رسالة ابن جَهْبَل لجزمت بأن الفصلين كليهما في الردِّ عليه. ولا يشكل على هذا أن المصنف ذكر في فاتحة «بيان تلبيس الجهمية» أن كتاب «جواب الاعتراضات» مصنفٌ للرد على اعتراضات القاضي شمس _________ (1) ساق السبكي رسالته بتمامها في «طبقات الشافعية» كما بينت في ذلك الموضع.

(المقدمة/29)


الدين السروجي, ووصفَه بأنه أفضل القضاة المعارضين؛ لأن الجواب عن اعتراضات غيره في فصول قليلة لا مانع منه, ولا ينقض أن يكون جلُّ الكتاب في الرد على اعتراضاته, ثم إنه لم يصلنا كتاب القاضي السروجي, ولعل الكلام المذكور في الفصلين هنا يكون فيه. وبعد, فهذه قرائن للتأمل والنظر, ومن الجائز أن يكون المصنف وقف على هذه الاعتراضات بعد فراغه من تأليف الأجوبة, فرأى مناسبة إيراد جوابه عليها هنا لمناسبته لموضوع الفتوى, فإنه لم يزل يجيبُ عما يرد عليه من الاعتراضات بعد تصنيف «الجواب» , وكتابُ «بيان تلبيس الجهمية» هو كالتكملة للجواب كما بيَّن في مقدمته. بقي الكلام على الربع الأخير من الكتاب, وهو المتعلق بالمنطق, فإن أصل السؤال كان عمن يقول: إن تعلم المنطق فرض كفاية, فابتدأ المصنف الجواب ببيان أن هذا قولٌ في غاية الفساد, وذكر بعض من ذمَّ المنطق, وبيَّن عدم نفعه والحاجة إليه إلا لمن فقد أسباب الهدى. ثم افتتح فصلًا للردِّ على كلام أهله في الحدود وبيان وجوه الخلل فيه, وهو أحد قسمي المنطق, ثم انتقل للحديث عن كلامهم في القياس ومواضع الإصابة والباطل فيه, كل ذلك بإيجازٍ وإحالةٍ على مواضع بسط القول في تلك المسائل. هذه مقاليد الكتاب مجملة, وللمصنف بين ذلك استطراداتٌ كثيرة على طريقته المعهودة في تصانيفه.

(المقدمة/30)


  منهج المؤلف:

لا يمكن في هذه الورقات أن نستوعب القول أو نقاربه في منهج شيخ الإسلام في كتابه, وحسبنا أن نلمح إلى بعض المعالم والصُّوى بإشارات كاشفة. فمن معالم منهجه في الكتاب: * الاختصار, والإحالة. فقد بنى الكتاب عليهما, وصرَّح بذلك في فاتحته فقال: «هذه المسائل بسطُها يحتمل مجلَّدات، لكن نشيرُ إلى المهمِّ منها» , ومن قرأ تصانيف الشيخ - رحمه الله - رآه كالسيل الزاعِب تتزاحم في صدره الأفكار والمحفوظات تستبقُ الخروج, وهو يكبحُ جماحها حينًا باختصار القول وحينًا بالإحالة على مواضع أخرى بسط فيها ما يريد (1). فمن ذلك حين ذكر بعض الآثار في بيان طريقة السلف في باب أسماء الله وصفاته, ثم قال (ص: 10): «ولو ذهبنا نذكرُ ما اطَّلعنا عليه من كلام السَّلف في ذلك لخرجنا عن المقصود في هذا الجواب». وذكر نحو هذا في مواضع كثيرة (ص: 36, 40, 47, 54, 60, 71, 82, 102, 112) وغيرها. _________ (1) من اللطائف قول السيوطي في «الإكليل» (591) عند قوله عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}: «وفي الآية أصلٌ لما يفعله المصنِّفون من الإحالة على ما ذُكِر في مكانٍ آخر والتنبيه عليه».

(المقدمة/31)


* العدل مع المخالف وجداله بالتي هي أحسن. وهذا شأنه في عامة أمره. ومن كلامه في كتابنا قوله (ص: 235) في جواب من اعترض بكلام ابن الجوزي الذي ذمَّ به بعض الحنابلة في باب إثبات الصفات: «وسنتكلَّم على هذا بما ييسِّره الله، متحرِّين للكلام بعلمٍ وعدل». وقرَّر القاعدة في هذا فقال (ص: 159): «والمناظرة والمحاجَّة لا تنفعُ إلا مع العدل والإنصاف». وعندما حكى قول ابن الجوزي عن بعض الحنابلة: «ومثل هؤلاء لا يُحَدَّثون، فإنهم يكابرون العقول, وكأنهم يُحَدِّثون الأطفال» قال (ص: 260): «هذا الكلام ليس فيه من الحجَّة والدَّليل ما يستحقُّ أن يخاطَبَ به أهلُ العلم، فإن الردَّ بمجرَّد الشَّتم والتهويل لا يعجزُ عنه أحد، والإنسانُ لو أنه يناظِرُ المشركين وأهل الكتاب لكان عليه أن يذكر من الحجَّة ما يبيِّن به الحقَّ الذي معه والباطل الذي معهم». ومِن عدله وإنصافه قوله عن الآمدي لما ذكر فتوى ابن الصلاح بعزله عن التدريس وانتزاع المدرسة العزيزية منه (ص: 267): «مع أن الآمديَّ لم يكن أحدٌ في وقته أكثرَ تبحُّرًا في العلوم الكلامية والفلسفية منه, وكان مِن أحسنهم إسلامًا وأمثَلهم اعتقادًا». وانظر نماذج أخرى من عدله مع المخالفين في (ص: 17 - 21, 28 - 31, 76). * الإنصاف من النفس. كاعترافه بما عند بعض المنتسبين إلى السلف وأهل الحديث من الغفلة وقلة التثبت في النقل ووضع النصوص في غير

(المقدمة/32)


موضعها, بقوله (ص: 37): «ولا ريب أن هذا موجودٌ في بعضهم، يحتجُّون بأحاديثَ موضوعةٍ في مسائل الأصول والفروع وبآثارٍ مفتعلةٍ وحكاياتٍ غير صحيحة، ويذكُرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وربَّما تأوَّلوه على غير تأويله ووضعوه على غير موضعه». وكذلك في (ص: 202 - 203، 207 - 208). * كثرة استشهاده واحتجاجه بالآي وصحيح الحديث. ففي الكتاب على اختصاره أكثر من مئتي آية, ونحو مئة حديثٍ من الصحيحين. * استقراء التاريخ لتتبع نشأة الأقوال والمذاهب والبدع, ومواقف السلف منها , والاستعانة به على تمييز الأقوال في تفسير النصوص. وشواهد ذلك في (ص: 23, 27, 29, 32 - 36, 117, 226 - 227). * تحرير الألفاظ الاصطلاحية ومراد أهلها وما يدخلها من الاشتراك والإجمال. كما في (ص: 173 - 174, 209 - 210, 213 - 214) وغيرها. * سعة اطلاعه ووقوفه على تصانيف لم يقف عليها كثيرٌ من معاصريه وأهل زمانه. ككتاب أبي الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي «الفصول في الأصول عن الأئمَّة الفحول إلزامًا لذوي البدع والفُضول» , وانظر ما علقته هناك (ص: 245 - 246) , وعن كتاب «تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة» لابن درباس (ص: 130). * ذكره بعض ما وقع له, مما يدخل في السيرة الذاتية, كمناظراته, وقد حكى منها طرفًا (ص: 40 - 41, 118 - 119) , وكسماعه التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب حتى صار يفهم كثيرًا من كلامهم العبري (ص: 162).

(المقدمة/33)


* كتابته من حفظه. وهو الغالب على تآليفه (1). ولذا يورد بعض الآثار والأقوال ويقول: «أو نحو هذا الكلام» «أو ما يشبه هذا» , كما في (ص: 62, 145) , وربما شكَّ في عزو بعضها إلى فلان أو فلان, كما في (ص: 72). وأختم هذا المبحث برأي الأستاذ عباس محمود العقاد في ابن تيمية ومنهجه في الرد على المنطق, فقد قرأ كتابنا هذا ومختصر السيوطي لكتاب «الرد على المنطقيين» ونقل عنهما, ومما قال: «ومن نظر في كتب ابن تيمية التي ناقض بها أدعياء المنطق, وعشَّاق الجدل, علم أنه كان بصدد إنشاء منطقٍ صحيح وهداية إلى تطبيق أصول المنطق القويم ... , ومِن إحاطة هذا الإمام الثَّبْت بفنون البحث أنه يستقصيه إثباتًا ونفيًا في كل بابٍ من أبوابه, وعلى كلِّ منهجٍ من مناهجه, سواء منها ما شاع في عصره وما ندر في ذلك العصر وشاع في الزمن الأخير ... , وما كان ابن تيمية بالذي يُظَنُّ أنه يعادي المنطقَ لأنه يجهله ويستخفُّ به مداراةً لعجزه عنه؛ فإن معرفته به ظاهرةٌ في مَعارِض قوله, كأنه من زمرة المتخصصين له والمتفرغين لدراسته وحِذْق أساليبه» (2). * * * * _________ (1) قال صاحبه ابن رشيق: «يكتب من حفظه من غير نقل» , وقال ابن عبد الهادي: «أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه, وكثير منها صنفه في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب». «العقود الدرية» (37, 108). (2) «التفكير فريضة إسلامية» (29 - 37).

(المقدمة/34)


 موارد الكتاب

تنوَّعت موارد شيخ الإسلام في هذا الكتاب, شأن سائر كتبه وتواليفه التي تشهد له بسعة الاطلاع وبسطة المعرفة, فمنها ما ينقل عنه موافقًا له أو مستشهدًا به, ومنها ما يورده ليردَّ عليه, ومنها ما يذكره لتزييف نسبته, إلى آخر وجوه ذلك. ويمكن تقسيمها من جهة أخرى إلى ستِّ زمر: الأولى: ما ذكر اسم الكتاب أو موضوعه ومؤلفه. الثانية: ما نصَّ على اسم المؤلف دون كتابه. والثالثة: ما ذكر اسم الكتاب أو موضوعه دون مؤلفه. والرابعة: ما أبهم اسم المؤلف والكتاب. والخامسة: ما نقل عنه دون عزوٍ وتصريح. والسادسة: المصادر الشفهية. * الزمرة الأولى (ما ذكر اسم الكتاب أو موضوعه ومؤلفه): - إحياء علوم الدين, للغزالي (ص: 146). - الأربعين, للغزالي (ص: 90). - اعتقاد الإمام أحمد, لأبي الفضل التميمي (ص: 237). - إلجام العوام عن علم الكلام, للغزالي (ص: 106). - بداية الهداية, للغزالي (ص: 92).

(المقدمة/35)


- البطاقة, المنسوب لجعفر الصادق (ص: 115). - تبيين كذب المفتري, لابن عساكر (ص: 20, 27) (1). - تعليق, للعز بن عبد السلام (ص: 92). - تفسير حديث المعراج, للرازي (ص: 89). - الجدول في الهلال, المنسوب لجعفر الصادق (ص: 116). - الجدول, المنسوب لجعفر الصادق (ص: 116). - الجفر, المنسوب لجعفر الصادق (ص: 115). - الدقائق, للباقلاني (ص: 75, 270, 323). - الرد على الجهمية, للإمام أحمد (ص: 101). - رد المازري على الغزالي = الكشف والإنباء - رسالة البيهقي إلى عميد الملك (ص: 20) (2). - رسالة الشافعي (العتيقة) (ص: 224). - رسالة عبدوس بن مالك عن الإمام أحمد (ص: 149, 220). - رسائل إخوان الصفا (ص: 117, 146, 298). - السر المكتوم, للرازي (ص: 80) (3). _________ (1) ذكره بعنوان «مناقب الأشعري». (2) ذكره وكتابي أبي القاسم القشيري وابن عساكر فيما صنِّف في مناقب الأشعري ودفع الطعن واللعن عنه. (3) قال: «كما صنف الرازي كتابه في عبادة الأصنام».

(المقدمة/36)


- سنن ابن ماجه (ص: 63). - شكاية أهل السنة, لأبي القاسم القشيري (ص: 20). - صحيح البخاري (ص: 113, 189, 246, 300, 305). - صحيح مسلم (ص: 121, 329). - الصحيحان (ص: 61, 114, 167, 169, 179, 180, 181, 182, 184, 185, 200, 304, 329). - عنقاء مغرب, لابن عربي (ص: 121). - فتاوى العز بن عبد السلام (ص: 24). - فصوص الحكم, لابن عربي (ص: 190, 241). - الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول, للكرجي (ص: 245). - الكتاب, لسيبويه (ص: 308). - كتاب ابن الجوزي في الصفات (ص: 234, 238). - كتاب الرازي في عبادة الكواكب والأصنام = السر المكتوم - كتاب السر, لمالك (ص: 135). - الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء, للمازري (ص: 95) (1). - ما يمتحَن به السني من البدعي, لأبي الفرج المقدسي (ص: 208). _________ (1) أورده في عِداد من ردَّ على الغزالي ولم يذكر عنوانه.

(المقدمة/37)


- مختلف الحديث, لابن قتيبة (ص: 76, 79, 203). - مسائل السر = كتاب السر - مشكاة الأنوار, للغزالي (ص: 95). - المضنون به على غير أهله, للغزالي (ص: 90, 93). - المطالب العالية, للرازي (ص: 90). - مقالات الإسلاميين, لأبي الحسن الأشعري (ص: 243). - مقالات غير الإسلاميين, لأبي الحسن الأشعري (ص: 74). - الملحة (1) , للعز بن عبد السلام (ص: 231). - الملل والنحل, لابن حزم (ص: 30). - ملاحم ابن عقب (ص: 117, 118). - مناقب أبي الحسن الأشعري لابن عساكر = تبيين كذب المفتري - مناقب الإمام أحمد, للبيهقي (ص: 236). - منهاج العابدين (2) , للغزالي (ص: 125). - نظم السلوك, لابن الفارض (ص: 108). - الهفت, المنسوب لجعفر الصادق (ص: 116). _________ (1) تحرفت في الأصل إلى «اللمعة» , ونقل عنها (ص: 206) دون أن يسميها أو يسمي صاحبها, ورد عليها ردًّا طويلًا. (2) في الأصل: «منهاج القاصدين» , وهو وهمٌ أو تحريفٌ من الناسخ.

(المقدمة/38)


* الزمرة الثانية (ما نصَّ على اسم المؤلف دون كتابه): - ابن الصلاح (ص: 94, 96). - ابن العربي المالكي (ص: 95, 232). - ابن حزم (ص: 31, 139). - ابن رشد الحفيد (ص: 231). - ابن سينا (ص: 75, 89, 145, 147, 152). - ابن عقيل (ص: 96). - ابن قدامة, أبو محمد المقدسي (ص: 96). - أبو البيان الدمشقي (ص: 96). - أبو حاتم الرازي (ص: 130). - أبو عيسى الوراق (ص: 79). - السهروردي (ص: 280). - الشهرستاني (ص: 80). - الغزالي (ص: 242). - الفارابي (ص: 75, 145, 297). - الكندي (ص: 122). - النوبختي (ص: 79). - النووي (ص: 96). - عين القضاة الهمذاني (ص: 89). - محمد بن طاهر المقدسي (ص: 87).

(المقدمة/39)


* الزمرة الثالثة (ما ذكر اسم الكتاب أو موضوعه دون مؤلفه): - السنن (ص: 163). - المشنو= المِشْنا (ص: 165). - النبوءات (من كتب اليهود) (ص: 165). - فتيا في تحريم المنطق, لبعض المتأخرين (ص: 266). - فضائح المعتزلة (ص: 75). - الكتب المعرَّبة عن قدماء الصابئة الفلاسفة (ص: 191). - كتب فلاسفة اليونان في عبادة الكواكب والأصنام (ص: 227, 296). - كتب في كشف باطل الدولة العبيدية (ص: 228). - ملاحم لبعض المتأخرين (ص: 118). * الزمرة الرابعة (ما أبهم اسم المؤلف والكتاب): كقوله: «يقولون ... » , «قولهم ... » , «قول من قال ... » , «قال بعض المصنفين في المنطق ... » , «قول بعض المتأخرين ... ». (ص: 85, 97, 98, 111, 206, 265, 271, 272, 313, وغيرها). أما قوله (ص: 11): «ورأيته لبعض شيوخهم في كتابه» فليس من عبارته, بل هو مما نقله عن الموفق ابن قدامة من كتابه «ذم التأويل». * الزمرة الخامسة (ما نقل عنه دون عزوٍ وتصريح): - ذم التأويل, لأبي محمد الموفق بن قدامة. نقل عنه في صدر الجواب (ص: 4 - 13) بعض الآثار والتعليقات دون عزو إليه, ولعل عذره

(المقدمة/40)


أنها آثارٌ معروفةٌ مرويةٌ في عامة كتب السنة والاعتقاد, وليس في جلِّ تعليق ابن قدامة ما يختصُّ به. * الزمرة السادسة (المصادر الشفهية): ابن الشيخ الحصيري (ص: 301) , ثقة (ص: 142, 151) , مسلمة أهل الكتاب (ص: 162) , بعض الأشياخ الكبار (ص: 298) , بعض الناس (ص: 340) , حكاية (ص: 64). * * * *

(المقدمة/41)


 وصف الأصل الخطي المعتمد

يقع الأصل الخطيُّ الفريد الذي اعتمدنا عليه في إخراج الكتاب ضمن مجموع خطيٍّ محفوظ بالمكتبة المحمودية بالمدينة المنورة بمكتبة الملك عبد العزيز العامة برقم (2593) بعنوان «مجموعة الرسائل والفتاوى» (1) , في 278 ورقة, فيه رسائل ومسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية, يقع كتابنا في الأوراق (213 - 274). ولم يذكر اسم ناسخ الكتاب ولا تاريخ نسخه, والذي يظهر من رسائل أخرى في هذا المجموع يشبه خطُّها خطَّه أنه عبد الله بن زيد بن إبراهيم بن محمد بن سليمان (2) سنة 1187 (3). وخطه معجمٌ واضحٌ مقروء, وفيه غير قليل من الغلط والتحريف نبهت عليه في الحواشي. وعلى الأصل علامات المقابلة وبلاغاتها في مواضع كثيرة (ق 226, 228, 231, وغيرها) , وقال في طرة (ق 261): «قال في الأصل المقابل عليه لما وقف على قوله: فضلا عن أن يكون محصلا لنعيم الآخرة: يتلوه _________ (1) كان في المحمودية برقم (33) في كتب الفقه الحنفي بعنوان «بيان المسائل المشكلة من الفقه» , كما في خاتمة النسخة المطبوعة سنة 1370. (2) لم أجد له ترجمة. (3) كذا في خاتمة المطبوعة, وفي «الأثبات» للدكتور علي الشبل (ص: 224) أنها كتبت سنة 1184, والله أعلم.

(المقدمة/42)


الخط المعترض. ولم نر خطًّا معترضًا, وكتبنا من قوله: (حتى إذا اداركوا) , وهو في أول الورقة المنكوسة. فاعرف ذلك». ومن آثار تلك المقابلة استدراكُ طائفة من السَّقط في الطُّرر مختومةً بالتصحيح, وبعضها طويل, وأعاد أحدهم كتابتها بخطٍّ حديثٍ في وريقاتٍ مستقلة (طيَّارة) ملحقة بالأصل في مواضعها رغبةً في إيضاحها, ومن تأمل تلك الطُّرر وجدها زياداتٍ مستقلة بنفسها, وليست من جنس السقط الذي تألفه أقلام النسَّاخ ويضطربُ بدونه سياق الكلام, ويقع في وهمي أنها مما زاده المصنف بخطه على النسخة الأم كما فعل في بعض كتبه, ككتاب الرد على المنطقيين. ومن آثارها كذلك مواضع قليلة ذُكِرت فيها زياداتٌ من الأصل المقابل عليه, ومن أغربها ثلاثة مواضع: الأول في (ق 231) إذ كتب في الطرة: «في نسخة الوجه التاسع أنه ينبغي. الخ» , وليس في الأصل هنا ذكرٌ لوجوه. والثاني في (ق 258): «في نسخة: وهذا يظهر بالوجه العاشر» , وليس في الأصل كذلك هنا ذكرٌ لوجوه. فهل يدل هذا على أن الأصل الذي معنا مختصرٌ أو منتخب؟ والموضع الثالث (ق 243) كتب الناسخ في الطرة: «قال في المسودة: يتلوه الوريقة. ولم نجدها». وكتبت بعض الأوراق في الأصل بخط مختلف (ق 228 - 230).

(المقدمة/43)


واختلط على الناسخ ترتيب أوراق الأصل الذي ينقل عنه, فكتب بعضها في غير موضعها متصلة بكلام آخر (ق 263 - 266) , وأعاد بعضها (ق 273) , وأحسن ناسخ النسخة الفرع التي طُبِع عنها الكتاب حين تنبَّه لذلك وردَّها لحاقِّ موضعها, ولم ينبَّه عليه في المطبوعة. وعلى الأصل تصحيحاتٌ قليلة بقلم بعض القراء, كما في (ق 241). وسقطت الورقة الثانية من مصوَّرتي من الأصل, فاعتمدتُ فيها على المطبوعة (ط) وهي منشورةٌ عن نسخة منقولة عنه, كما سيأتي. * * * *

(المقدمة/44)


 طبعات الكتاب

طُبِع الكتاب أول مرة بمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1370 - 1951 م , عن نسخة بخط الشيخ عبد المعطي بن علي بن يوسف المصري نقلها عن نسخة المكتبة المحمودية (التي اعتمدناها وتقدَّم وصفها) في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1358, ثم قابلها على أصلها مع الشيخ محمد بن علي الحركان في شهر رجب من السنة نفسها, بناء على طلب من الشيخ الوجيه محمد بن حسين نصيف, ثم قام بتصحيحها والتعليق عليها الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة, ثم راجعها وعلق عليها تلميذه الشيخ سليمان الصنيع واستدرك عليه مواضع وترجم لبعض الأعلام, ثم صححها مطبعيًّا الشيخ محمد حامد الفقي, وكتب لها الشيخ عبد الرحمن الوكيل مقدمة تحدث فيها عن ابن تيمية وعرَّف بالكتاب وموضوعاته. وفي هذه الطبعة تصرُّفٌ كثيرٌ في نصِّ الكتاب بالزيادة والحذف والتغيير دون تنبيه على ما في الأصل, وجلُّ ذلك مما لا وجه له إلا محض الاقتراح والافتيات على عبارة المؤلف, وبعضه مفسدٌ للمعنى, وأظنُّ ذاك بقلم مَن قام على تصحيحها, وما هو من الناسخ, وقد استغضب ذلك الشيخ سليمان الصنيع فكتب في إحدى حواشيه (ص: 164 من المطبوعة) نقدًا لتلك السبيل وخطر تغيير ما يقع في الأصول دون بيان. وفيها من التحريف مواضعُ اشتبهت على ناسخ النسخة الفرع التي طُبِع عنها الكتاب, وهي على الصواب في أصلها الذي اعتمدناه, فأثبتُّ ما في الأصل وضربتُ عنها التنبيهَ صفحًا, أما ما وقع محرَّفًا في الأصل وتابعَته

(المقدمة/45)


المطبوعة عليه فنبهتُ إليه في الحواشي, فمن أحبَّ أن يعرف بعض فضل طبعتنا هذه فليلتمس تلك المواضع. كما أشرتُ في الحواشي إلى نماذج يسيرة من القراءات التي اقترحتها تلك الطبعة, ورمزت لها بـ (ط). وللشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع تعليقاتٌ يسيرة على نسخته المطبوعة من الكتاب بمكتبته الخاصة المحفوظة في مكتبة الملك فهد, اطلعتُ عليها وأفدتُ منها. وذكر د. علي الشبل أن للشيخ ابن مانع «تعليقات وتهميشات كثيرة وجيدة كتبها على نسخته في آخر حياته فرغ منها كما في آخر الكتاب في 10/ 7/1384 هـ قبل موته بسنة، مع ختمه بالإشادة والثناء على الكتاب ومؤلفه» (1) , ولم أطلع على هذه النسخة. ثم طُبِع الكتاب ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام التي جمعها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد سنة 1380, وقسَم الكتاب إلى قسمين ووضع كلَّ قسم في الفن الذي يختصُّ به (2) على طريقته التي شرحها ابنه في مقدمة الفتاوى (3). _________ (1) «الأثبات في مخطوطات الأئمة شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب» (ص: 224). (2) القسم الأول في (4/ 1 - 191) , والثاني المتعلق بالمنطق في (9/ 5 - 82). (3) قال: «وما وجد من المسائل مشتملًا على فنَّين فأكثر أو في بابين من فنٍّ واحد ينفصل أحدهما عن الآخر بدون إخلال بالمعنى= فصَل أحدهما عن الثاني ونسخه في صحائف أو صحيفة مستقلة وألحقه بموضعه المناسب له».

(المقدمة/46)


ويغلبُ على ظني أن الشيخ ابن قاسم اعتمد على المطبوعة المتقدمة مع بعض التصرُّف والمخالفة فيما ظهر له خطؤه, ودليل ذلك أنه يتابعها على ما تغيِّره وتزيده مما ليس في الأصل, وقد صرَّح ابنه في مقدمة الفتاوى بأنه كان كلما طُبع شيءٌ من فتاوى شيخ الإسلام ألحقه بها, وذكر أن من ضمن الكتب المطبوعة سابقًا التي اشتمل عليها المجموع: «نقض المنطق». ويحتمل أن يكون قابل المطبوع على الأصل الخطي أو بعضه وأصلح على ضوئه بعض تلك المواضع؛ فإن مخطوط المكتبة المحمودية منه على طرف الثمام في المدينة, وقد ذكر في مقدمة الفتاوى أنه جمع مجلداتٍ من كتب الشيخ وفتاواه من الحجاز, فلعل كتابنا منها, أو لعله اطلع على النسخة الأخرى التي نقل عنها الشيخ سليمان بن سحمان وغيره, ولعلها مما تحتفظ به إحدى خزائن نجد. ولا يبعد كذلك أن يكون قرأ الكتاب بعد طبعه هو أو غيره على الشيخ محمد بن إبراهيم أو غيره فصحَّح بعض تلك المواضع بالفهم والنظر وتأمل السياق دون رجوعٍ إلى مخطوط. وقد انتفعتُ بهذه الطبعة في مواضع, ورمزت لها بـ (ف). ثم إن الشيخ نشر قطعةً من الكتاب في «مجموع الفتاوى» (18/ 52 - 62) تشتمل على مواضع مختصرة متفرقة منه في سياقٍ واحد, ويشبه أن يكون أصلها ما انتخبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الكتاب, وتقدَّم ذكره في مبحث تصحيح النسبة. * * * *

(المقدمة/47)


 منهج التحقيق

سرتُ في تحقيق الكتاب سيرتي في ما حققتُ من قبل, من معارضة النصِّ بالأصل الخطي, وقراءته على مُكث, وضبط مظانِّ اللحن ومواضع الإشكال, ولم أخالف الأصل إلى غيره إلا حيث ترجَّح لي خطؤه وتحريفه, وذكرتُ في الحاشية ما وقع في الأصل لأشرك القارئ في التأمل والتخيُّر ولا أستبدَّ بالرأي دونه, وما تردَّدتُ فيه تركته على حاله مع التنبيه عليه في الحاشية كذلك, ورفوتُ ما ظننت سقوطه من الأصل بزياداتٍ تقديرية يلتئم بها نظمُ الكلام وجعلت ما زدته بين معكوفين, وقد كلفني جميع ذلك رهقًا, واستعنتُ عليه بتدبر المعنى ومراعاة السياق ومراجعة كلام المصنف وغيره في مظانه وغير مظانه. وحرصتُ على وصل مسائل الكتاب بنظائرها في كتب المصنف برباطٍ وثيقٍ يزكِّي الثقة بها ويدني قصيَّها لمن رام جمع كلامه فيها. ثم وثقتُ نقوله, وشرحتُ إشاراته, وخرجتُ أحاديثه وآثاره وحكمتُ عليها بما تقتضيه أصول صناعة الحديث بأوجز عبارة سوى موضع غلبني عليه الحنينُ إلى التخصُّص, وترجمتُ من أعلامه وفسَّرتُ من ألفاظه ما قدَّرتُ أن فيه إعانةً للقارئ على الإحاطة بما يقرأ, وعلَّقتُ على مواضع من الكتاب بما حسبتُ فيه فائدة وإضافة, ولم أسرف في ذلك إن شاء الله. وأسأل الله أن يعيذنا من فتنة القول وفتنة العمل, ويهدينا للتي هي أقوم, ويسلُك بنا مدارجَ رضاه, وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

(المقدمة/48)


 نماذج من صور الأصول المعتمدة

(المقدمة/49)


الصفحة الأولى من الأصل

(المقدمة/51)


الصفحة الأخيرة من الأصل

(المقدمة/52)


(خاتمة الناسخ للنسخة الفرع التي نشرت عنها المطبوعة) ط

(المقدمة/53)


(خاتمة طبع وتصحيح المطبوعة) ط

(المقدمة/54)


صفحة العنوان من نسخة الشيخ ابن مانع

(المقدمة/55)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مسألة ما قولُكم في مذهب السَّلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين؟ ما الصوابُ منهما؟ وما تنتحِلُونه أنتم من المَذْهَبيْن؟ وعن أهل الحديث: هل هم أولى بالصواب مِنْ غيرهم؟ وهل هم المرادُ بالفرقة الناجية؟ وهل حدث بعدهم علومٌ جَهِلُوها وعَلِمها غيرُهم؟ وعمَّا تقولون في المنطق؟ وهل من قال: «إنه فرضُ كفايةٍ» مصيبٌ أم مخطئ؟ الجواب هذه المسائل بسطُها يحتملُ مجلَّدات، لكن نشيرُ إلى المهمِّ منها, والله الموفق. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، وقد شهد اللهُ لأصحاب نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ومَن تبعهم بإحسانٍ بالإيمان, فعُلِمَ قطعًا أنهم المرادُ بالآية الكريمة (1)، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} _________ (1). في قوله: {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}.

(الكتاب/3)


[التوبة: 100]، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} إلى آخر الآية [الفتح: 18]. فحيثُ تقرَّر أن من اتَّبع غيرَ سبيلهم وَلَّاه الله ما تولى وأصلاهُ جهنم= فمِنْ سبيلهم في الاعتقاد الإيمانُ بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصفَ بها نفسَه وسمَّى بها نفسَه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله، من غير زيادةٍ عليها, ولا نقصٍ منها، ولا تجاوزٍ لها, ولا تفسيرٍ لها ولا تأويلٍ لها بما يخالفُ ظاهرَها, ولا تشبيهٍ (1) بصفات المخلوقين ولا سِمَات المُحْدَثين. بل أمَرُّوها كما جاءت، وردُّوا علمَها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلِّم بها. وقال بعضهم ــ ويروى عن الشافعيِّ ــ: «آمنتُ بما جاء عن الله [على مراد الله] (2)، وبما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد رسول الله» (3). وعلموا أن المتكلِّم بها صادقٌ لا شكَّ في صدقه فصدَّقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عمَّا لم يعلموه. وأخذ ذلك الآخرُ عن الأول، ووصَّى بعضُهم بعضًا بحُسْن الاتِّباع والوقوف حيثُ وقف أوَّلُهم، وحذَّروا من التجاوز لهم والعدول عن _________ (1). في الأصل: «تشبه». (ط): «تشبيه لها». والمثبت من «ذم التأويل» للموفق ابن قدامة (6) وجلُّ المقدمة منه, وسأرمز لقراءاته بـ (ذ). (2). زيادة من (ذ) يقتضيها السياق. (3). «ذم التأويل» (7). وانظر: «منازل الأئمة الأربعة» للسلماسي (146) , و «رموز الكنوز» للرسعني (2/ 149).

(الكتاب/4)


طريقتهم (1)، وبيَّنوا لنا (2) سبيلَهم ومذهبَهم، ونرجو أن يجعلنا الله تعالى ممَّن اقتدى بهم في بيان ما بيَّنوه، وسلوك الطريق الذي سلكوه. والدليلُ على أن مذهبهم ما ذكرناه: أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبارَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقلَ مُصَدِّقٍ لها, مؤمنٍ بها, قابلٍ لها, غير مرتابٍ فيها ولا شاكٍّ في صدق قائلها، ولم يفسِّروا ما يتعلقُ بالصفات منها, ولا تأوَّلوه، ولا شبَّهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئًا من ذلك لنُقِل عنهم ولم يَجُزْ أن يُكْتَم بالكليَّة؛ إذ لا يجوز التواطؤُ على كتمان ما يُحْتاجُ إلى نقله ومعرفته؛ لجريان ذلك في القُبْحِ مجرى التواطؤ على نقل الكذب وفِعْل ما لا يحلُّ. بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا أنهم كانوا إذا رأوا من يَسأل عن المتشابه بالغوا في كَفِّه، تارةً بالقول العنيف, وتارةً بالضرب، وتارةً بالإعراض الدالِّ على شدَّة الكراهة لمسألته (3). ولذلك لمَّا بلغ عمرَ - رضي الله عنه - أن صَبِيغًا (4) يَسأل عن المتشابه أعَدَّ له عَراجِينَ النخل (5)، فبينما عمر يخطبُ قام فسأله عن {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) _________ (1). (ذ): «طريقهم». (2). (ذ): «لهم». (3). «ذم التأويل» (8, 9). (4). صَبِيغ بن عِسْل التميمي, أخباره في «تاريخ دمشق» (23/ 408) , و «الإصابة» (5/ 305). (5). عُرْجُون النخل: العِذْق الذي يحمل الثمر, إذا جفَّ ويبس.

(الكتاب/5)


فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} [الذاريات: 1، 2] وما بعدها، فنزل عمرُ فقال: ما اسمك؟ قال: أنا عبد الله صَبِيغ, قال عمر: وأنا عبد الله عمر, اكشِفْ رأسَك, فكشفه فرأى عليه شَعرًا, فقال: لو وجدتُك محلوقًا لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف (1) , ثم أمر به فضُرِب ضربًا شديدًا، وبعَث به إلى البصرة وأمرهم ألا يجالسوه، فكان بها كالبعير الأجرب لا يأتي مجلسًا إلا قالوا: «عَزْمةُ أمير المؤمنين» , فتفرَّقوا عنه, حتى تاب وحلف بالله ما بقي يجدُ مما كان في نفسه شيئًا، فأذِنَ عمرُ في مجالسته، فلما خرجت الخوارجُ أُتِيَ فقيل له: هذا وقتُك, فقال: لا، نفعتني موعظةُ العبد الصالح (2). ولمَّا سئل مالك بن أنس - رضي الله عنه - , فقيل له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى _________ (1). قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/ 71): «إنما قال ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج: سيماهم التحليق». وانظر: «الاستقامة» (1/ 258). (2). «ذم التأويل» (10). أخرجه الدارمي (146) , واللالكائي (1138) , وغيرهما من طرقٍ يصحُّ بها .. قال الآجري في «الشريعة» (1/ 484): «فإن قال قائل: فمن يسأل عن تفسير {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} استحقَّ الضربَ والتنكيل به والهجرة؟! قيل له: لم يكن ضرب عمر - رضي الله عنه - له بسبب هذه المسألة، ولكن لما تأدَّى إلى عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه, عَلِم أنه مفتونٌ قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه, وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به, وتطلُّب علم سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى به, فلما علم أنه مقبلٌ على ما لا ينفعه سأل عمرُ الله تعالى أن يمكِّنه منه حتى ينكِّل به, وحتى يحذِّر غيره؛ لأنه راعٍ يجب عليه تفقُّد رعيته في هذا وفي غيره, فأمكنه الله تعالى منه». وقال ابن كثير في تفسيره (13/ 208): «إنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتًا وعنادًا». وانظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 312).

(الكتاب/6)


الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالكٌ وعَلَاه الرُّحَضاءُ ــ يعني العَرَق ــ, وانتظر القومُ ما يجيءُ منه فيه, فرفع رأسه إليه وقال: «الاستواء غيرُ مجهول، والكيفُ غير معقول، والإيمانُ به واجب، والسؤالُ عنه بدعة، وأحسبُك رجلَ سوءٍ» , وأمَر به فأُخْرِج (1). ومَنْ أوَّل الاستواءَ بالاستيلاء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالكٌ وسلك غيرَ سبيله. وهذا الجوابُ من مالك - رضي الله عنه - في الاستواء شافٍ كافٍ في جميع الصفات، مثل: النزول, والمجيء، واليد، والوجه, وغيرها, فيقال في مثل النزول: النزولُ معلوم، والكيفُ مجهول، والإيمانُ به واجب، والسؤالُ عنه بدعة. وهكذا يقال في سائر الصفات ــ إذ هي بمثابة الاستواء ــ الوارد بها (2) الكتابُ والسُّنة. وثبت عن محمد بن الحسن ــ صاحب أبي حنيفة ــ أنه قال: «اتفق الفقهاءُ كلُّهم من الشرق والغرب (3) على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقاتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب عزَّ وجلَّ من غير تفسيرٍ (4) ولا _________ (1). «ذم التأويل» (11). أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (867) بإسناد صحيح, وروي من طرق كثيرة, قال الذهبي في «العلو» (377): «هذا ثابتٌ عن مالك». (2). (ط): «به». أي الاستواء, وهو محتمل. (3). (ذ): «الشرق إلى الغرب». (4). قال المصنف في «الفتوى الحموية» (329): «أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات».

(الكتاب/7)


وصفٍ ولا تشبيه، فمن فسَّر شيئًا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يَصِفُوا ولم يفسِّروا، ولكنْ آمنوا بما في الكتاب والسُّنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جَهْمٍ فقد فارق الجماعة» (1) انتهى. فانظر رحمك الله إلى الإمام كيف حكى الإجماع في هذه المسألة، ولا خير فيما خرج عن إجماعهم، ولو لزم التجسيمُ من السكوت عن تأويلها لفرُّوا منه وأوَّلوا ذلك؛ فإنهم أعرفُ الأمة بما يجوزُ على الله وما يمتنعُ عليه. وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (2) أنه قال: «إن أصحاب الحديث المتمسِّكين بالكتاب والسُّنة يعرفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابُه (3) وتنزيلُه، وشهد (4) له بها رسولُه, على ما وردت به الأخبارُ الصِّحاحُ ونقله العدولُ الثقات. ولا يعتقدون تشبيهًا لصفاته بصفات خلقه، ولا يكيِّفونها تكييفَ المشبِّهة (5)، ولا يحرِّفون الكلمَ عن مواضعه تحريفَ المعتزلة والجهمية. وقد أعاذ الله أهلَ السُّنة من التحريف والتكييف، ومنَّ عليهم بالتفهيم والتعريف, حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه، وتركوا القولَ بالتعطيل والتشبيه، واكتفوا بنفي النقائص بقوله عزَّ مِن قائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ _________ (1). «ذم التأويل» (13). وأخرجه كذلك اللالكائي (740). (2). شيخ الإسلام أبو عثمان (ت: 449). «السير» (18/ 40). (3). «عقيدة السلف وأصحاب الحديث»: «وحيه». (4). «عقيدة السلف وأصحاب الحديث»: «أو شهد». (5). الأصل: «المشبه». والمثبت من (ذ) و «عقيدة السلف وأصحاب الحديث».

(الكتاب/8)


وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وبقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]» (1). وقال سعيد بن جُبير: «ما لم يعرفه البدريُّون فليس من الدين» (2). وثبت عن الربيع بن سليمان أنه قال: سألت الشافعي رحمه الله تعالى عن صفات الله تعالى, فقال: «حرامٌ على العقول أن تمثِّل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تَحُدَّه، وعلى الظُّنون أن تَقْطَع، وعلى النفوس أن تفكِّر، وعلى الضمائر أن تَعَمَّق، وعلى الخواطر أن تُحِيط، وعلى العقول أن تَعْقِل= إلا ما وصف به نفسَه، أو على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام» (3). وثبت عن الحسن البصري أنه قال: لقد تكلم مُطَرِّفٌ (4) على هذه الأعواد بكلامٍ ما قيل قبله ولا يقال بعده. قالوا: وما هو يا أبا سعيد؟ قال: الحمد لله الذي مِن الإيمان به الجهلُ بغير ما وصف به نفسَه (5). وقال سَُحْنون: «من العلم بالله السكوتُ عن غير ما وصفَ به نفسَه» (6). _________ (1). «ذم التأويل» (16) , عن «عقيدة السلف وأصحاب الحديث» (160) بتصرف. (2). «ذم التأويل» (30). وأخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (1425, 1805). (3). «ذم التأويل» (34) , عن جزء «اعتقاد الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي» لأبي الحسن الهكاري (6). وانظر ما سيأتي (ص 255). ويروى هذا القول عن ابن سريج. انظر: «العلو» (208) , و «العرش» (2/ 351) , و «الأربعين في صفات رب العالمين» (90) للذهبي. ودون نسبة في «الحجة» لأبي القاسم التيمي (2/ 505). (4). مطرف بن عبد الله بن الشخير, من أئمة التابعين (ت: 95). «السير» (4/ 187). (5). «ذم التأويل» (37). وانظر: «التمهيد» لابن عبد البر (7/ 146) , و «الأربعين في صفات رب العالمين» (80) , و «جزء في إثبات اليد لله» للذهبي (58) , و «إكمال تهذيب الكمال» لمغلطاي (11/ 229). (6). «ذم التأويل» (38). وانظر: «التمهيد» (7/ 147) , و «الأربعين» (81).

(الكتاب/9)


وثبت عن الحُمَيْديِّ أبي بكر عبد الله بن الزبير أنه قال: «أصول السُّنة ــ فذكر أشياء ــ , ثم قال: وما نطق به القرآنُ والحديث مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] , وما أشبه هذا من القرآن والحديث, لا نزيدُ فيه ولا نفسِّره، ونقفُ على ما وقف عليه القرآن والسُّنة، ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] , ومن زعم غير هذا فهو [معطِّلٌ] (1) جهميٌّ» (2). فمذهبُ السَّلف رضوان الله عليهم إثباتُ الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفيُ الكيفية عنها؛ لأن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام (3) في الذات، وإثباتُ الذات إثباتُ وجودٍ لا إثباتُ كيفية، فكذلك إثبات الصفات, وعلى هذا مضى السَّلفُ كلُّهم (4). ولو ذهبنا نذكرُ ما اطَّلعنا عليه من كلام السَّلف في ذلك لخرجنا عن _________ (1). زيادة من «ذم التأويل» و «أصول السنة». (2). «ذم التأويل» (39) , عن «أصول السنة» للحميدي (42). (3). (ذ) والمصادر التالية: «على الكلام». والاستعمالان يقعان في كتب المصنف وغيره ووردا في كلام بعض أئمة العربية, والأفصح التعدية بـ «من». (4). «ذم التأويل» (40) , عن «الحجة» لأبي القاسم التيمي الأصبهاني (1/ 175, 176). وانظر: «جزء في إثبات اليد لله» للذهبي (72).

(الكتاب/10)


المقصود في هذا الجواب. فمن كان قصدَه الحقُّ وإظهارُ الصواب اكتفى بما قدَّمناه, ومن كان قصدَه الجدالُ والقِيلُ والقالُ والمكابرةُ لم يَزِدْه التطويلُ إلا خروجًا عن سواء السبيل, والله الموفق. وقد ثبت ما ادَّعيناه من مذهب السَّلف رضوان الله عليهم بما نقلناه جملةً عنهم وتفصيلاً، واعترافِ العلماء من أهل النقل كلِّهم بذلك, ولم أعلم عن أحدٍ منهم خلافًا في هذه المسألة. بل لقد بلغني عمَّن ذهب (1) إلى التأويل لهذه الآيات والأخبار من أكابرهم (2) الاعترافُ بأن مذهبَ السَّلف فيها ما قلناه. ورأيتُه (3) لبعض شيوخهم في كتابه, قال: «اختلف أصحابنا في أخبار الصفات، فمنهم من أمَرَّها كما جاءت من غير تفسيرٍ ولا تأويل، مع نفي التشبيه عنها, وهو مذهب السَّلف». فحصل الإجماعُ على صحة ما ذكرناه بقول المنازِع, والحمد لله (4). وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة (5) أنه قال: «عليك بلزوم السُّنة؛ فإنها لك ــ بإذن الله ــ عِصْمة، فإن السُّنة إنما جُعِلَت _________ (1). (ذ): «يذهب». (2). «من أكابرهم» ليست في (ذ). (3). (ذ): «ورأيت». (4). «ذم التأويل» (48). وانظر: «تحريم النظر في كتب الكلام» (36). (5). الماجشون, الإمام المدني الفقيه (ت: 164).

(الكتاب/11)


ليُسْتَنَّ بها ويُقْتَصَر عليها. وإنما سَنَّها من قد عَلِمَ ما في خلافها من الزَّلل والخطأ والحُمْق والتعمُّق. فارْضَ لنفسِك بما رَضُوا به لأنفسهم؛ فإنهم عن علمٍ وَقَفُوا، وببصرٍ نافذٍ كفُّوا، ولَهُم كانوا على كشفها أقوى, وبفضلٍ (1) لو كان فيها أحرى، وإنهم لَهُم السابقون، وقد بلغهم عن نبيِّهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة. فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: حَدَثَ حدثٌ بعدهم, فما أحدثه إلا من اتَّبع غيرَ سبيلهم، ورَغِبَ بنفسه عنهم, واختار ما نَحَتَه فكرُه على ما تلقَّوه عن نبيِّهم، وتلقَّاه عنهم من تبعهم بإحسان. ولقد وصفوا منه ما يكفي, وتكلَّموا منه بما يشفي، فمَن دونهم مُقَصِّر، ومَن فوقهم مُفْرِط (2). لقد قصَّر دونهم أناسٌ فجَفَوا، وطَمَح (3) آخرون _________ (1). في الأصل: «وبتفصيلها». والمثبت من (ذ) و «الإبانة» و «الفقيه والمتفقه» وجمهرة المصادر, وهو الأشبه بالصواب. أي: أنهم أحرى بالفضل لو كان في الخوض فيها فضلٌ. وروي: «وبفضل ما كانوا فيه أولى» , و «وبفضل ما فيه كانوا أولى» , و «وبفضل ما فيه لو كان أحرى». وعلى قراءة الأصل يحتمل أن يكون المراد بالتفصيل: الأخذ ببعضها دون بعض. (2). من الإفراط وهو الغلو ومجاوزة الحد. ويحتمل أن تقرأ: «مفرِّط» من التفريط وهو التقصير والتضييع. والأول أقوم بالمراد. وفي (ذ): «محسر». ورواية أبي داود: «فما فوقهم من مقصر وما دونهم من محسر» , وضبطها في «عون المعبود»: «مَقْصَر, مَحْسَر» مصدر ميمي أو ظرف. وتحرفت في بعض المصادر على ألوان شتى, وكأن المصنف استشكلها فغيَّرها, والمراد من العبارة ظاهرٌ على كل تقدير. (3). أي: ارتفع وتشوَّف. وفي (ذ): «وطمع» , خطأ.

(الكتاب/12)


فغَلَوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيم» (1). فصل وأما كونُهم (2) أعلمَ ممَّن بعدهم وأحكَم، وأن مخالفَهم أحقُّ بالجهل والحَشْو, فنبيِّنُ ذلك بالقياس المعقول من غير احتجاجٍ بنفس الإيمان بالرسول, كما قال الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} , فأخبر أنه سَيُرِيهم الآياتِ المرئيَّة المشهودة حتى يتبيَّن لهم أن القرآن حقٌّ، ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] أي: بإخبار الله ربِّك في القرآن وشهادته بذلك. فنقول: من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كلَّ طائفةٍ فيما يتحلَّون به من صفات الكمال ويَمْتَازُون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لا بدَّ أن يَذْكُر فيما يخالفُهم فيه طريقًا أخرى، مثل المعقول والقياس والرَّأي _________ (1). «ذم التأويل» (67) , وذكره كذلك في «البرهان في بيان القرآن» (89). وأخرجه ابن بطه في «الإبانة» (4/ 247) , والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 555). وانظر: «العلو» (386) , و «سير أعلام النبلاء» (7/ 311, 312). والمشهور روايته عن عمر بن عبد العزيز, كتب به إلى عاملٍ سأله عن القدر, أخرجه أحمد في «الزهد» (498) , وأبو داود في «السنن» (4612) , وابن وضاح في «البدع» (74) , والفريابي في «القدر» (445) , والآجري في «الشريعة» (529) , وابن بطه في «الإبانة» (1/ 321, 4/ 231) , وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 338) , وأبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (804). (2). أي السلف وأصحاب الحديث.

(الكتاب/13)


والكلام والنظر والاستدلال والمُحَاجَّة والمجادلة والمُكَاشَفة والمُخَاطَبة والوَجْد والذَّوق (1) ونحو ذلك. وكلُّ هذه الطرق لأهل الحديث صَفْوتُها وخلاصتُها؛ فهم أكملُ الناس عقلًا، وأعدلُهم قياسًا، وأصوبُهم رأيًا، وأسَدُّهم كلامًا, وأصحُّهم نظرًا, وأهداهم استدلالًا, وأقومُهم جدلًا، وأتمُّهم فراسةً، وأصدقُهم إلهامًا، وأحدُّهم بصرًا ومكاشَفةً، وأصوبُهم سمعًا ومخاطَبةً، وأعظمُهم وأحسنُهم وَجْدًا وذوقًا. وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم, ولأهل السُّنة والحديث بالنسبة إلى سائر المِلَل. _________ (1). المكاشفة والمخاطبة من الخوارق في باب العلم، بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره, أو يرى ما لا يراه غيره يقظة أو منامًا بالعين أو القلب, أو يعلم ما لا يعلمه غيره إلهامًا, فالسماع يسمى مخاطبة، والرؤية مشاهدة وشهودًا، والعلم مكاشفة, وكلُّ ذلك فيه حقٌّ وفيه باطل. انظر: «الصفدية» (1/ 135) , و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 91) , و «مجموع الفتاوى» (11/ 65, 205, 313, 582, 5/ 251 - 254) , و «جامع المسائل» (4/ 57). والوَجْد والذَّوق: ما يجده العبد في قلبه ويذوقه من المكاشفات والأحوال, فأما الوجد فأقوى بواعثه عند المتصوفة السماع, وأما الذوق فينشأ عندهم عن التجلي الإلهي للقلب, وهما يرجعان إلى ما في النفس من المحبة والإرادات, فكلُّ محبٍّ له ذوقٌ ووجدٌ بحسب محبته وهواه, فما لم يشهد له الكتاب والسنة من ذلك فهو ضلال. انظر: «إحياء علوم الدين» (2/ 268) , و «الاستقامة» (1/ 99, 251, 391, 2/ 163) , و «الرد على الشاذلي» (105) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 454, 478, 10/ 169) , و «جامع المسائل» (1/ 123).

(الكتاب/14)


فكلُّ من استقرى أحوالَ العالَم وجد المسلمين أحَدَّ وأسَدَّ عقلًا (1)، وأنهم ينالُون في المدَّة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعافَ ما يناله غيرُهم في قرونٍ وأجيال. وكذلك أهل السُّنة والحديث تجدُهم بذلك متَّصفين (2)؛ وذلك لأن اعتقاد الحقِّ الثابت يقوِّي الإدراكَ ويصحِّحُه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66]. وهذا يُعْلَمُ تارةً بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم، فلا تجدُ مسألةً خُولِفُوا فيها إلا وقد تبيَّن أن الحقَّ معهم، وتارةً بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم، أو بشهادتهم على مخالِفيهم بالضلال والجهل, وتارةً بشهادة المؤمنين الذين هم شهداءُ الله في الأرض (3) , وتارةً بأن كلَّ طائفةٍ تَعْتَضِدُ (4) بهم فيما خالفَت فيه الأخرى، وتشهدُ بالضلال على كلِّ من خالفها أعظمَ ممَّا تشهدُ به عليهم. وأما شهادةُ المؤمنين الذين هم شهداءُ الله في الأرض فهذا أمرٌ ظاهرٌ _________ (1). انظر: «الجواب الصحيح» (1/ 165, 3/ 7) , و «الفتاوى» (4/ 210, 35/ 187). (2). الأصل: «كذلك ممتعين». وفي (ف): «متمتعين». والمثبت أشبه بالصواب. (3). كما في حديث أنس في البخاري (1367) ومسلم (949). (4). الأصل: «تعتصم» , والمثبت أصح, ونظيره في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 138) , و «منهاج السنة» (2/ 110).

(الكتاب/15)


معلومٌ بالحسِّ والتواتر لكلِّ من سمع كلامَ المسلمين، لا تجدُ في الأمة عُظِّمَ أحدٌ تعظيمًا أعظمَ مما عُظِّموا به، ولا تجدُ غيرَهم يُعَظَّمُ إلا بقدر ما وافقهم فيه، كما لا يُنْقَصُ إلا بقدرِ ما خالفهم، حتى إنك تجدُ المخالفين لهم كلَّهم وقت الحقيقة يقرُّ بذلك، كما قال الإمام أحمد: «آيةُ ما بيننا وبينهم يومُ الجنائز» (1) , فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يُعَظِّمُ الرجلَ طائفتُه، فأما وقت الموت فلا بدَّ من الاعتراف بالحقِّ من عموم الخلق. ولهذا لم يُعْرَف في الإسلام مثلُ جنازته، مَسَحَ المتوكِّلُ موضع الصلاة _________ (1). رواه الدارقطني عن أبي علي الصواف عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: «قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز». «سؤالات السلمي للدارقطني» (472). وانظر: «تاريخ دمشق» (5/ 332) , و «تهذيب الكمال» (1/ 467). قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (14/ 426): «وقد صدَّق اللهُ قولَه في هذا, فإنه - رحمه الله - كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه: أحمد بن أبي دؤاد القاضي لم يحتفل أحدٌ بموته ولا شيَّعه أحدٌ من الناس إلا القليل, وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه لم يصلِّ عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس». وذكر البرزالي في تاريخه عند خبر وفاة ابن تيمية جنازة الإمام أحمد وشهرتها وجنازة أبي بكر بن أبي داود وعِظَمها, قال ابن كثير: «ولا شك أن جنازة الإمام أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، والشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - توفي ببلده دمشق وأهلها لا يَعْشُرون أهل بغداد كثرةً، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعًا لو جمعهم سلطانٌ قاهرٌ وديوانٌ حاصرٌ لما بلغوا هذه الكثرة التي انتهوا إليها، هذا مع أنه مات بالقلعة محبوسًا من جهة السلطان، وكثيرٌ من الفقهاء يذكرون عنه أشياء كثيرة مما ينفر منها أهل الأديان». «البداية والنهاية» (18/ 299).

(الكتاب/16)


عليه فوجد ألفَ ألفٍ وستمئة ألف، سوى من صلى في الخانات والبيوت (1)، وأسلم يومئذٍ من اليهود والنصارى عشرون ألفًا (2)، وهو إنما نَبُل عند الأمة باتباع الحديث والسُّنة. وكذلك الشافعيُّ وإسحاقُ وغيرُهما إنما نَبُلوا في الإسلام باتِّباع الحديث والسُّنة (3) , وكذلك البخاريُّ وأمثاله إنما نَبُلوا بذلك، وكذلك مالكٌ والأوزاعيُّ والثوريُّ وأبو حنيفة وغيرُهم إنما نَبُلوا في عموم الأمة وقُبِلَ قولهم لِمَا وافقوا فيه الحديثَ والسُّنة, وما تُكُلِّمَ فيمن تُكُلِّمَ فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتَّفق له متابعتُها من الحديث والسُّنة إما لعدم بلاغها إيَّاه أو لاعتقاده ضعفَ دلالتها أو رُجحان غيرها عليها. وكذلك المسائلُ الاعتقاديَّةُ الخبريَّةُ لم يَنْبُل أحدٌ من الطوائف ورؤوسهم عند الأمة إلا بما معه من الإثبات والسُّنة. فالمعتزلة أوَّلًا ــ وهم فرسانُ الكلام ــ إنما يُحْمَدون ويُعَظَّمون عند _________ (1). انظر: «تقدمة الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (312) , و «مناقب الإمام أحمد» لابن الجوزي (557). (2). قال الذهبي: «هي حكاية منكرة لا أعلم أحدًا رواها إلا هذا الوركاني، ... والعقل يحيل أن يقع مثل هذا الحادث في بغداد ولا يرويه جماعة تتوافر هممهم ودواعيهم على نقل ما هو دون ذلك بكثير ... , فوالله لو أسلم يوم موته عشرة أنفس لكان عظيمًا، ولكان ينبغي أن يرويه نحو من عشرة أنفس». «تاريخ الإسلام» (5/ 1068) , «سير أعلام النبلاء» (11/ 343). (3). الأصل: «إلا باتباع اهل الحديث والسنة»، والمثبت أولى بالصواب.

(الكتاب/17)


أتباعهم وعند من يُغْضِي عن مساويهم لأجل محاسنهم من المسلمين (1) بما وافقوا فيه مذهبَ أهل الإثبات والسُّنة والحديث وردِّهم على الرافضة بعضَ ما خرجوا فيه عن السُّنة والحديث من إمامة الخلفاء, وعدالة الصَّحابة، وقبول الأخبار، وتحريف الكَلِم عن مواضعه, والغلوِّ في عليٍّ, ونحو ذلك (2). وكذلك الشيعةُ المتقدِّمون كانوا يَرْجُحون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من إثبات الصفات والقَدَر والشفاعة ونحو ذلك (3). وكذلك كانوا (4) يُسْتَحْمَدون بما خالفوا فيه الخوارجَ من تكفير عليٍّ وعثمان وغيرهما وما كفَّروا به المسلمين من الذنوب، ويُسْتَحْمَدون بما خالفوا فيه المرجئةَ من إدخال الواجبات في الإيمان, ولهذا قالوا بالمنزلة، وإن لم يهتدوا إلى السُّنة المحضة. وكذلك متكلِّمةُ أهل الإثبات، مثل الكُلَّابية والكَرَّامية والأشعريَّة إنما قُبِلوا واتُّبعوا واستُحْمِدوا إلى عموم الأمَّة بما أثبتوه من أصول الإيمان من _________ (1). (ط): «عند المسلمين». وهو خطأ. (2). انظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 97) , و «منهاج السنة» (4/ 135). وما سوى ذلك من أبواب الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر فإن متأخري الشيعة إنما تلقوه عن المعتزلة وهم شيوخهم في التوحيد والعدل. انظر: «منهاج السنة» (2/ 369) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 291). (3). انظر: «منهاج السنة» (1/ 128, 465, 3/ 139, 8/ 6) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 290, 3/ 109, 520). (4). أي: المعتزلة.

(الكتاب/18)


إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوَّة، والردِّ على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم, وكذلك استُحْمِدوا بما ردُّوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السُّنة والجماعة (1). فحسناتهم نوعان: إما موافقةُ أهل السُّنة والحديث، وإما الردُّ على من خالف السُّنة والحديثَ ببيان تناقض حججهم. ولم يتبع أحدٌ مذهبَ الأشعريِّ ونحوه إلا لأحد هذين الوصفين أو كلاهما (2) , وكلُّ من أحبَّه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنما يحبُّه وينتصرُ له بذلك (3). _________ (1). انظر: «درء التعارض» (2/ 102, 8/ 275) , و «شرح الأصبهانية» (467, 639) , و «الصفدية» (1/ 270) , و «مجموع الفتاوى» (5/ 558, 13/ 99). (2). كذا في الأصل. والجادة: كليهما. ولم أجسر على إصلاحها في المتن لأني رأيتها وقعت كذلك في مواضع من كتب المصنف بعضها مما وصل إلينا بخطه، كما في «جامع المسائل» (8/ 112)، وبعضها مما اتفقت عليه أصولها التي نُشِرت عنها, كما في «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 344, 425) وغيره. ولعله يرى أن (كِلا) سواء أضيفت لضمير أو اسم ظاهر من جنس المثنى من الأسماء المبهمة المبنية التي قرَّر لزومَها الألف, كاسم الإشارة (هذان) , في كلامه على آية {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} «مجموع الفتاوى» (15/ 248 - 264). ووردت على الجادة في مواضع، واختلفت الأصول في رسمها في مواضع، كما في «منهاج السنة» (1/ 47, 464, 477, 2/ 264, 453, 476, 6/ 448, 8/ 314) وغيره، وذلك من تصرُّف النسَّاخ. (3). ويحتمل أن تقرأ: لذلك.

(الكتاب/19)


فالمصنفُ في مناقبه الدافعُ للطعن واللعن عنه ــ كالبيهقيِّ والقُشيريِّ أبي القاسم وابن عساكر الدمشقي (1) ــ إنما يحتجُّون لذلك بما يقوله من أقوال أهل السُّنة والحديث، أو ما ردَّه من أقوال مخالفيهم, لا يحتجُّون له عند الأمة وعلمائهم وأمرائهم إلا بهذين الوصفَين، ولولا أنه كان من أقرب بني جنسه (2) إلى ذلك لألحقوه بطبقته الذين لم يكونوا كذلك، كشيخه الأول أبي علي ورفيقه (3) أبي هاشم، لكن كان له من موافقة مذهب السُّنة _________ (1). كتب البيهقي رسالة إلى عميد الملك الكندري وزير الأمير طغرلبك السلجوقي حين أمر بلعن المبتدعة على المنابر سنة 445, وقصَد بعضُ الناس إدخالَ الأشعريِّ فيهم, ساقها ابن عساكر بتمامها في «تبيين كذب المفتري» (100 - 108) , وانظر: «درء التعارض» (7/ 98) , و «الصفدية» (2/ 162) , و «طبقات الشافعية» (3/ 395) , و «فهرست اللبلي» (102). وكتب أبو القاسم القشيري في تلك الواقعة «شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة» , ساقها ابن السبكي في «طبقات الشافعية» (3/ 399 - 423). ولابن عساكر (ت: 571): «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري» وهو مشهورٌ عظيم القدر عند الأشاعرة, وقال ابن تيمية في مناظرته حول الواسطية: «لم يصنَّف في أخبار الأشعري المحمودة كتابٌ مثله» (مجموع الفتاوى 3/ 182) , ردَّ فيه ابن عساكر على كتاب أبي علي الأهوازي (ت: 446) الذي صنَّفه في مثالب الأشعري (نشر بمجلة الدراسات الشرقية بدمشق سنة 1970، العدد 23، ص 129 - 165) , وردَّ على ابن عساكر يوسفُ بن عبد الهادي المشهور بابن المبرد (ت: 909) بكتاب «جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر» (حُقِّق في رسالة علمية بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة). (2). أهل الكلام. (3). كذا في الأصل و «كشف غياهب الظلام» لابن سحمان (171). وغُيِّرت في (ط) إلى: «وولده» , كأنه ظن الضمير يعود لأبي علي, وإنما هو لأبي الحسن. وأبو علي هو الجبَّائي شيخ الاعتزال, وأبو هاشم ابنه وكان رفيقًا لأبي الحسن في التلمذة على أبيه. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 539).

(الكتاب/20)


والحديث في الصِّفات والقَدَر والإمامة والفضائل والشفاعة والحوض والصراط والميزان، وله من الرُّدود على المعتزلة والقدرية والرافضة والجهمية وبيان تناقضهم= ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك ويُعْرَفَ له حقُّه وقَدْرُه, فقد جعل الله لكلِّ شيءٍ قدرًا, وبما وافق فيه السُّنة والحديث صار له من القبول والأتباع ما صار (1). لكن الموافقة التي فيها قهرُ المخالف وإظهارُ فساد قوله هي من جنس المجاهد المنتصر, فالرادُّ على أهل البدع مجاهدٌ، حتى كان يحيى بن يحيى (2) يقول: «الذبُّ عن السُّنة أفضلُ من الجهاد» (3). والمجاهدُ قد يكون عدلًا في سياسته وقد لا يكون، وقد يكون فيه فُجور، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يؤيِّد هذا الدينَ بالرجل الفاجر وبأقوامٍ لا خَلاق لهم» (4) , ولهذا مضت السُّنة بأن يُغْزَى مع كلِّ أميرٍ برًّا كان أو _________ (1). انظر: «شرح الأصبهانية» (374 - 378, 384) , و «التسعينية» (1034) , و «مجموع الفتاوى» (3/ 228, 5/ 556, 12/ 204). (2). التميمي النيسابوري, الإمام عالم خراسان (ت: 226). «السير» (10/ 512). (3). أخرجه أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في «ذم الكلام» (1089). (4). هما حديثان, أخرج الأول البخاري (3062) ومسلم (111) , وأخرج الثاني النسائي في «الكبرى» (8885) وصححه ابن حبان (4517) والعراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 33, 2/ 937).

(الكتاب/21)


فاجرًا (1). والجهادُ عملٌ مشكورٌ لصاحبه في الظاهر لا محالة، وهو مع النية الحسنة مشكورٌ باطنًا وظاهرًا، ووجهُ شكرِه نصرُه للسُّنة والدين، فهكذا المنتصرُ للإسلام والسُّنة يُشْكَرُ على ذلك من هذا الوجه. فحَمْدُ الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دينَ الله وسنَّته وشرعَه من جميع الأصناف؛ إذ الحمدُ إنما يكونُ على الحسنات، والحسناتُ هي ما وافقت طاعةَ الله ورسوله، من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره, وهذا هو السُّنة (2) , فالخيرُ كلُّه باتفاق الأمة هو فيما جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك ما يُذَمُّ من يُذَمُّ من المنحرفين عن السُّنة والشريعة وطاعة الله ورسوله إلا بمخالفة ذلك. ومن تُكُلِّمَ فيه من العلماء والأمراء وغيرهم إنما تكلَّم فيه أهلُ الإيمان بمخالفته السُّنة والشريعة، وبهذا ذمَّ السَّلفُ والأئمةُ أهلَ الكلام (3) والمتكلمين الصِّفاتية, كابن كَرَّام وابن كُلَّاب والأشعري. _________ (1). أخرجه أبو داود (2533) بإسنادٍ فيه إرسالٌ بين مكحول وأبي هريرة, وله شاهدٌ من حديث أنس عند أبي داود (2532) وفي إسناده ضعف, وليس في الباب حديثٌ يثبت, لكن العمل عليه. انظر: «سنن الدارقطني» (2/ 403) , و «الضعفاء» للعقيلي (4/ 18) , و «البدر المنير» (4/ 456) , و «الإرواء» (2/ 304). (2). كذا في الأصل. (3). الأصل: «لأهل الكلام» , والمثبت من (ط) أشبه بالصواب.

(الكتاب/22)


وما تكلَّم فيهم من تكلَّم من أعيان الأمة وأئمتها المقبولين فيها من جميع طوائف الفقهاء وأهل الحديث والصُّوفية إلا بما يقولون إنهم خالفوا فيه السُّنة والحديث لخفائه عليهم أو إعراضهم عنه، أو لاقتضاء أصلِ قياسٍ مَهَّدُوه ردَّ ذلك (1)، كما يقعُ نحو ذلك في المسائل العملية، فإن مخالفة المسلم الصحيحِ الإيمانِ النصَّ إنما يكون لعدم علمه به أو لاعتقاده صحةَ ما عارضه، لكن هو فيما ظهر من السُّنة وعظُم أمرُه يقعُ بتفريطٍ من المخالف وعدوان، فيستحقُّ من الذمِّ ما لا يستحقُّه في النصِّ الخفيِّ, وكذلك فيما يوقِعُ الفُرقةَ والاختلافَ يَعْظُم أمرُ المخالفة للسُّنة. ولهذا لمَّا اهتمَّ (2) كثيرٌ من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه، حتى صاروا يلعنون الرافضةَ والجهميةَ وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كلَّ طائفةٍ رأوا فيها بدعةً= فلعنوا الكُلَّابية والأشعرية، كما كان في مملكة الأمير محمود بن سُبُكْتِكِين (3) , وفي دولة السلاجقة ابتداءً (4). _________ (1). يعني أنهم قد يمهِّدون قياسًا فيقتضيهم طردُه أن يردُّوا شيئًا من السنة. (ط) (2). (ط): «ولهذا اهتم». والمثبت من الأصل و «كشف غياهب الظلام» (172) , وبه يستقيم السياق. (3). الغزنوي فاتح الهند (ت: 421) , كان يحبُّ الإسلام والسنة, من أحسن ملوك أهل المشرق إسلامًا وعقلًا ودينًا وجهادًا وملكًا. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (4/ 268, 274). وانظر للعنه الأشعرية: «أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (1333) , و «ذم الكلام» لأبي إسماعيل الأنصاري الهروي (5/ 430). (4). كما تقدم (ص: 20).

(الكتاب/23)


وكذلك الخليفةُ القادر لمَّا اهتمَّ (1) بذلك واستتابَ (2) المعتزلة من الفقهاء، ورفعوا إليه أمر القاضي أبي بكر وذمُّوه (3) وهمُّوا به حتى كان يختفي، وإنما تستَّر بمذهب الإمام أحمد وموافقته (4). ثم ولي النِّظَامُ (5) وسَعَوا في رفع اللَّعنة، واستفتَوا من استفتَوه من فقهاء العراق كالدَّامِغاني الحنفي وأبي إسحاق الشيرازي (6)، وفتواهما حجةٌ على من بخراسان من الحنفية والشافعية. وقد قيل: إن أبا إسحاق استعفى من ذلك فألزموه، وأفتَوا بأنه لا يجوز لعنتُهم، ويعزَّر من يلعنُهم، وعلَّل الدامغانيُّ بأنهم طائفةٌ من المسلمين (7)، وعلَّل أبو إسحاق مع ذلك بأن لهم ذبًّا وردًّا على أهل البدع المخالفين للسنة، فلم يُمْكِن المفتي أن يعلِّل رفعَ _________ (1). الأصل: «ربما اهتم» , تحريف. (2). الأصل: «واستشار» , تحريف. انظر: «أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (1333) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 180, 4/ 272) , و «الصفدية» (2/ 162) , و «درء التعارض» (6/ 252). (3). الأصل: «ونحوه» , والمثبت أدنى إلى الصواب. والقاضي أبو بكر هو الباقلاني, محمد بن الطيب المتكلم النظار (ت: 403). (4). انظر: «الصفدية» (2/ 162) , و «شرح الأصبهانية» (244) , و «التسعينية» (882) , و «درء التعارض» (2/ 98) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 182). (5). نِظَام المُلك (ت: 585) , ولي الوزارة بعد الكندري صاحب الفتنة, وكان معظِّمًا للأشعرية وبنى لهم المدارس النظامية. «طبقات الشافعية» (3/ 393, 4/ 309). (6). انظر: «تبيين كذب المفتري» (332) , و «طبقات الشافعية» (3/ 375). (7). ذكر المصنف في «التسعينية» (891) أن هذه الفتيا كتبت في فتنة ابن القشيري الآتي ذكرها (ص: 27).

(الكتاب/24)


الذمِّ إلا بموافقة السُّنة والحديث. وكذلك رأيتُ في فتاوى الفقيه أبي محمدٍ (1) فتوى طويلةً فيها أشياءُ حسنة قد سئل عن مسائل متعددة. قال فيها: ولا يجوز شَغْلُ المساجد بالغناء والرَّقص ومخالطة المُرْد، ويعزَّر فاعلُه تعزيرًا بليغًا رادعًا. وأما لبسُ الحَلَق, والدَّمالِج, والسلاسل, والأغلال, والتختُّم بالحديد والنحاس= فبدعةٌ وشُهْرة، وشرُّ الأمور محدثاتُها، وهي لهم في الدنيا (2) , وهي لباسُ أهل النار (3) , وهي لهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك. ولا يجوز السجودُ لغير الله من الأحياء والأموات, ولا تقبيلُ القبور, _________ (1). العز بن عبد السلام, كما يكنيه المصنف ويصفُه في كتبه, وسيصرِّح به فيما يأتي (ص: 92) , وأشار إليه في مواضع (ص: 218, 220, 224, 225, 231) , وناقش بعض ما ورد في رسالته «الملحة» (ص: 206 - 232). وانظر: «التسعينية» (951) , و «مجموع الفتاوى» (1/ 347, 2/ 131, 27/ 83). ولم أجد فتواه المذكورة هنا في فتاويه المصرية والموصلية المطبوعة, ولا في كتابه «الأجوبة القاطعة لحجج الخصوم للأسئلة الواقعة في العلوم» المخطوط. وذهب د. سفر الحوالي في «منهج الأشاعرة في العقيدة» (10) إلى أنه أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين أبي المعالي, وليس كذلك, وسيأتي قول المصنف (ص: 131): «ولطريقة أبي المعالي كان أبو محمدٍ يتبعُ في فقهه وكلامه ... » , وللعزِّ اختصارٌ معروفٌ لكتاب «نهاية المطلب» لأبي المعالي طبع حديثًا سنة 1437. (2). كذا في الأصل, وفي السياق اختصار. (3). انظر: «أحكام الخواتيم» لابن رجب (43 - 48).

(الكتاب/25)


ويُعَزَّرُ فاعلُه. ومن لعن أحدًا من المسلمين عُزِّرَ على ذلك تعزيرًا بليغًا, والمؤمنُ لا يكون لعَّانًا (1)، وما أقربَه مِن عَوْدِ اللَّعنة عليه. قال: ولا تحِلُّ الصلاةُ عند القبور، ولا المشيُ عليها من الرجال (2) والنساء، ولا تُعْمَلُ مساجدَ للصلاة؛ فإنه «اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد» (3). قال: وأما لعنُ العلماء الأئمة (4) الأشعريَّة, فمن لعنهم عُزِّرَ وعادت اللعنةُ عليه، فمَن لعن مَن ليس أهلًا للَّعنة وقعت اللعنةُ عليه، والعلماء أنصارُ فروع الدين، والأشعرية أنصارُ أصول الدين. قال: وأما دخولهم (5) النيران، فمن لا يتمسَّكُ بالقرآن (6) فإنه فتنةٌ لهم _________ (1). في «صحيح مسلم» (6700): «لا ينبغي لصدِّيقٍ أن يكون لعَّانًا». وعند البخاري في «الأدب المفرد» (309) والترمذي (2020): «لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعَّانًا». (2). الأصل: «مع الرجال». والمثبت من (ط). (3). أخرجه مالك في «الموطأ» (457) مرسلًا. وروي من وجوهٍ أخرى. انظر تعليقي على «مفتاح دار السعادة» (1382). (4). (ط): «لأئمة». والمثبت من الأصل أصح. (5). لعلهم طائفة البطائحية الرفاعية الأحمدية, ولشيخ الإسلام معهم صولاتٌ ووقائع. انظر: «مجموع الفتاوى» (11/ 445 - 475، 494, 30/ 322). (6). أي: من هؤلاء الداخلين. أو لعل صواب السياق: «وأما دخولهم النيران فإنه فتنة لهم ومضلة لمن يراهم ممن لا يتمسك بالقرآن» , كما سيقول بعد قليل: «وأما من تمسك بالشرع الشريف ... ».

(الكتاب/26)


ومَضَلَّةٌ لمن يراهم, كما يفتتنُ الناسُ بما يظهرُ على يدي الدجَّال، فإنه من ظهرَ على يديه خارقٌ فإنه يوزنُ بميزان الشَّرع, فإن كان على الاستقامة كان ما ظهر على يديه كرامة، ومن لم يكن على الاستقامة كان ذلك فتنة, كما يظهرُ على يدي الدجَّال من إحياء الميت وما يظهر من جنَّته وناره، فإن الله يُضِلُّ من لا خَلاق له بما يظهرُ على يدي هؤلاء, وأما من تمسَّك بالشرع الشريف فإنه لو رأى من هؤلاء من يطيرُ في الهواء أو يمشي على الماء فإنه يعلمُ أن ذلك فتنةٌ للعباد. انتهى. فالفقيه أبو محمد أيضًا إنما منع اللعنَ وأمر بتعزير اللاعِن لأجل ما نصروه من أصول الدين، وهو ما ذكرناه من موافقة القرآن والسُّنة والحديث والردِّ على من خالف القرآنَ والسُّنةَ والحديث. ولهذا كان الشيخُ أبو إسحاق (1) يقول: «إنما نَفَقَتْ الأشعريةُ عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة» , وهذا ظاهرٌ عليه وعلى أئمة أصحابه في كتبهم ومصنفاتهم قبل وقوع الفتنة القُشَيرية ببغداد (2). ولهذا قال أبو القاسم ابن عساكر في مناقبه (3): «ما زالت الحنابلة _________ (1). الشيرازي. انظر: «مجموع الفتاوى» (3/ 228). (2). وكان سببها أنه ورد إلى بغداد أبو نصر بن أبي القاسم القشيري سنة 469 وجلس في النظامية وأخذ يذمُّ الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم فحدثت فتنة عظيمة وأمور. انظر: «المنتظم» (16/ 181, 17/ 190) , و «تاريخ الإسلام» (10/ 151) , و «البداية والنهاية» (16/ 59) , و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 39). (3). «تبيين كذب المفتري» (163).

(الكتاب/27)


والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين، حتى حدثت فتنة ابن القُشَيري». ثم بعد حدوث الفتنة وقبلها لا تجدُ من يمدحُ الأشعريَّ يمدحُه (1) إلا إذا وافق السُّنة والحديث, ولا يذمُّه من يذمُّه إلا بمخالفة السُّنة والحديث. وهذا إجماعٌ من جميع هذه الطوائف على تعظيم السُّنة والحديث، واتفاقُ شهاداتهم على أن الحقَّ في ذلك. ولهذا تجدُ أعظمهم موافقةً لأئمة السُّنة والحديث أعظمَ عند جميعهم ممَّن هو دونه: فالأشعريُّ نفسُه لمَّا كان أقربَ إلى قول الإمام أحمد ومن قبله من أئمَّة السُّنة كان عندهم أعظم من أتباعه. والقاضي أبو بكر ابن الباقلاني لمَّا كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره. وأما مثلُ الأستاذ أبي المعالي وأبي حامد (2) ونحوهما ممَّن خالفوا أصولَه (3) في مواضع, فلا تجدُهم يُعَظَّمون إلا بما وافقوا فيه السُّنة والحديث, وأكثرُ ذلك تقلَّدوه من مذهب الشافعيِّ في الفقه الموافق للسُّنة _________ (1). الأصل: «بمدحة» , وهو محتمل, والمثبت أشبه بالصواب, بدلالة نظيره في قوله: ولا يذمه من يذمه. (2). أبو المعالي الجويني وأبو حامد الغزالي. (3). أصول أبي الحسن الأشعري.

(الكتاب/28)


والحديث، وبما ذكروه في الأصول مما يوافق السُّنةَ والحديث وما ردُّوه مما يخالف السُّنةَ والحديث, وبهذا القَدْر ينتحلون السُّنةَ ويُنْحَلُونها, وإلا لم يصحَّ ذلك. وكان الرافضةُ والقرامطةُ ــ علماؤها وأمراؤها ــ قد اسْتَظْهَرت في أوائل الدولة السَّلجُوقية حتى غَلَبت على الشام والعراق, وأخرجت الخليفةَ القائم ببغداد إلى تِكْريت وحبسوه بها في فتنة البَساسِيريِّ المشهورة (1) , فجاءت بعد ذلك السَّلجُوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق، وقهروهم بخراسان, وحَجَرُوهم بمصر, وكان في وقتهم من الوزراء مثل نِظَام المُلك، ومن العلماء مثل أبي المعالي (2)، فصاروا بما يقيمونه من السُّنة ويردُّونه من بدعة هؤلاء ونحوهم لهم من المكانة عند الأمَّة بحسب ذلك. وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه (3) كأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي ونحوهما لا يُعَظَّمون إلا بموافقة السُّنة والحديث, وأما الأكابر مثل ابن حبيب وابن سَُحْنون (4) ونحوهما فلونٌ آخر. _________ (1). سنة 450. انظر: «تاريخ الإسلام» (9/ 616) , و «البداية والنهاية» (15/ 755). (2). انظر: «جامع المسائل» (5/ 395). (3). يعني أبا الحسن الأشعري. (4). عبد الملك بن حبيب (ت: 238) , ومحمد بن سحنون (ت: 256). وهما من أئمة السنة المالكية الذين إليهم المرجع في الدين, ولهما في إثبات الصفات من الأقوال ما هو معروف. انظر: «التسعينية» (203).

(الكتاب/29)


وكذلك أبو محمد بن حزمٍ فيما صنَّفه من المِلَل والنِّحَل إنما يُسْتَحْمَدُ بموافقة السُّنة والحديث، مثل ما ذكره في مسائل القَدَر والإرجاء ونحو ذلك، بخلاف ما انفرَد به من قوله في التفضيل بين الصحابة (1) , وكذلك ما ذكره في باب الصفات فإنه يُسْتَحْمَدُ فيه بموافقة أهل السُّنة والحديث، لكونه يثبتُ الأحاديثَ الصحيحة ويعظِّمُ السَّلفَ وأئمة الحديث، ويقول: إنه موافقٌ للإمام أحمد في مسألة القرآن (2) وغيرها، ولا ريب أنه موافقٌ له ولهم في بعض ذلك، لكن الأشعريَّ ونحوه أعظمُ موافقةً للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمَّة في القرآن والصفات. وإن كان أبو محمدٍ في مسائل الإيمان والقَدَر أقومَ من غيره, وإن كان أعلمَ بالحديث وأكثرَ تعظيمًا له ولأهله من غيره، لكن قد كان خالطَ من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صَرَفَتْهُ عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافقَ هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى. _________ (1). ذهب إلى أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصحابة جميعًا. انظر: «الدرَّة فيما يجب اعتقاده» (365) , و «المحلى» (1/ 65) , و «مجموع الفتاوى» (4/ 395). (2). في طرة الأصل عند هذا الموضع: «انظر قوله: ويقول إنه موافقٌ للإمام أحمد في مسألة القرآن! فالظاهر أنه في غاية المخالفة له, ومذهبه الذي يُنْقَلُ عنه في القرآن مذهبٌ باطل, فإنه يقول: القرآن أربعة, هذا المتلوُّ, والثابت بالرسم العثماني, والمحفوظ في الصدور, وهذه الثلاث كلها مخلوقة, والرابع المعنى القديم, وكل واحدٍ يسمَّى بالقرآن. وهذا مباينٌ لمذهب الإمام أحمد الذي هو مذهب السلف». وانظر لمذهب ابن حزم في مسألة القرآن: كتبه «المحلى» (1/ 32, 52, 6/ 285) , و «الدرَّة» (218) , و «الفصل» (3/ 4) , و «الأصول والفروع» (317).

(الكتاب/30)


وبمثل هذا صار يذمُّه من يذمُّه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهرٍ لا باطنَ له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرقَ العادات ونحوه من كرامات الأولياء (1)، مضمومًا إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر، وإن كان له من الإيمان والدِّين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعُه إلا مكابر. ويوجدُ في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمعُ مثلُ ذلك لغيره, فالمسألةُ التي يكونُ فيها حديثٌ يكونُ جانبه فيها ظاهرَ الترجيح. وله من التمييز بين الصَّحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السَّلف ما لا يكادُ يقعُ مثلُه لغيره من الفقهاء (2). _________ (1). الأصل: «من عبادات القلوب» , وهو تحريفٌ أرجو أن صوابه ما أثبت, ولعله كان مشتبهًا في الأصل الذي ينقل عنه الناسخ. والمراد بخرق العادات ما يقع للسحرة ونحوهم, وابن حزم يرى أن السحر «تخييلٌ وتحيُّل لا حقيقة له ولا يقلب عينًا ولا يُحِيل طبيعة»؛ لأن خرق العادة عنده معجزة, والمعجزة لا تكون إلا لنبي, ولو صحَّت لغيرالأنبياء لما كان بين النبي وغيره فرق, ومن هذا الباب نفى كرامات الأولياء. انظر: «الدرَّة» (192 - 197) , و «الفصل» (2/ 5) , و «المحلى» (1/ 36) , و «الأصول والفروع» (241) , و «النبوات» للمصنف (130, 214, 1031). (2). هذا من أهم المواضع التي تكلم فيها ابن تيمية عن ابن حزم. وانظر: «درء التعارض» (2/ 19, 5/ 249, 250) , و «منهاج السنة» (2/ 584) , و «شرح الأصبهانية» (514, 517) , و «الرد على الشاذلي» (199) , و «الرد على المنطقيين» (131).

(الكتاب/31)


وتعظيمُ أئمَّة الأمة وعُمومها (1) للسُّنة والحديث وأهله في الأصول والفروع من الأقوال والأعمال أكثرُ من أن يُذْكَر هنا. وتجدُ الإسلامَ والإيمانَ كلما ظهَر وقَوِيَ كانت السُّنةُ وأهلُها أظهرَ وأقوى، وإن ظهَر شيءٌ من الكفر والنفاق ظهَرت البدعُ بحسب ذلك، مثل دولة المهديِّ والرشيد ونحوهما ممَّن كان يعظِّمُ الإسلامَ والإيمان ويغزو أعداءه من الكفَّار والمنافقين, كان أهلُ السُّنة في تلك الأيام أقوى وأكثرَ وأهلُ البدع أذلَّ وأقلَّ؛ فإن المهديَّ قتل [من] المنافقين الزَّنادقة من لا يحصي عددَه إلا الله، والرشيدَ كان كثير الغَزو والحجِّ (2). وذلك أنه لما انتشرت (3) الدولةُ العباسية, وكان من أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائفُ من الذين نعتهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «الفتنةُ هاهنا» (4) = ظهر حينئذٍ كثيرٌ من البدع, وعُرِّبت أيضًا إذ ذاك طائفةٌ من كتب الأعاجم من المجوس الفُرس والصابئين الرُّوم والمشركين الهند، وكان المهديُّ من خيار خلفاء بني العباس، وأحسنهم إيمانًا وعدلًا وجُودًا، فصار (5) _________ (1). (ط): «وعوامها» , وهو خطأ. (2) انظر: «منهاج السنة» (8/ 240). (3) امتدَّت. انظر: «المعجب في تاريخ المغرب» (1/ 23) , و «تكملة المعاجم» لدوزي (10/ 221). (4) وأشار بيده نحو المشرق. أخرجه البخاري (3279) ومسلم (2905). وانظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 16, 17) , و «مجموع الفتاوى» (4/ 446). (5) الأصل: «صار».

(الكتاب/32)


يتتبَّع المنافقين الزنادقة لذلك (1). وكان خلفاءُ بني العباس أحسنَ تعاهُدًا للصلوات في أوقاتها من بني أمية، فإن أولئك كانوا كثيري الإضاعة لمواقيت الصلاة (2)، كما جاءت فيهم الأحاديث أنه «سيكونُ بعدي أمراءُ يؤخِّرون الصلاةَ عن وقتها، فصلُّوا الصلاةَ لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلةً» (3). لكن كانت البدعُ في القرون الثلاثة الفاضلة مقموعةً، وكانت الشريعةُ أعزَّ وأظهر، وكان القيامُ بجهاد أعداء الدين من الكافرين والمنافقين أعظم. وفي دولة أبي العباس المأمون ظهر الخُرَّمية (4) ونحوهم من المنافقين, وعُرِّبت (5) من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالاتُ الصابئين (6) , وراسَلَ ملوكَ المشركين من الهند ونحوهم _________ (1) الأصل: «كذلك». والمثبت أشبه بالصواب. (2) انظر: «منهاج السنة» (8/ 237, 239). (3) أخرجه مسلم (648) وأحمد (21417). (4) طائفة من الباطنية, أصحاب بابك الخرَّمي الذي قتله المعتصم سنة 223. انظر: «الفرق بين الفرق» (251) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 473) , و «درء التعارض» (5/ 185) , و «مجموع الفتاوى» (28/ 483) , و «جامع المسائل» (5/ 41). (5) (ط): «وعرب» , أي المأمون, وهي محتملة, وأثبت ما في الأصل. (6) انظر: «الرد على المنطقيين» (374) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 84, 12/ 31). قال الصفدي في «الغيث الذي انسجم» (1/ 79): «حدثني من أثق به أن الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية - رحمه الله - كان يقول: ما أظنُّ أن الله يغفلُ عن المأمون, ولا بدَّ أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها». وقبله قال الجويني في «غياث الأمم» (283) بعد أن ذكر صنيع المأمون: «ولو قلتُ: إنه مطالبٌ بمغبَّات البدع والضلالات، في الموقف الأَهْوَل في العَرَصات، لم أكن مجازفًا».

(الكتاب/33)


حتى صارت بينهم مودَّة (1). فلما ظَهَر ما ظَهَر من الكفر والنفاق في المسلمين, وقَوِيَ ما قَوِيَ من حال المشركين وأهل الكتاب, كان مع ذلك (2) ما ظَهَر من استيلاء الجهمية (3) والرافضة وغيرهم من أهل الضلال وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة, وذلك بنوع رأيٍ يحسبه صاحبُه عقلًا وعدلًا، وإنما هو جهلٌ وظلم؛ إذ التسوية بين المؤمن والمنافق والمسلم والكافر أعظمُ الظلم، وطلبُ الهدى عند أهل الضلال أعظمُ الجهل، فتولَّد من ذلك محنةُ الجهمية، حتى امتُحِنَت الأمةُ بنفي الصفات والتكذيب بكلام الله ورؤيته، وجرى من محنة الإمام أحمد وغيره ما جرى مما يطول وصفُه. وكان في أيام المتوكِّل قد عَزَّ الإسلامُ حتى أُلْزِمَ أهلُ الذمَّة بالشُّروط العُمَريَّة وأُلْزِمُوا الصَّغَار (4)، فعَزَّت السُّنةُ والجماعة، وقُمِعَت الجهميةُ والرافضةُ ونحوهم. _________ (1) الأصل: «بينهما». وفي (ط): «صار بينه وبينهم مودة». (2) (ط): «كان من أثر ذلك». (3) لعل المراد توليتهم القضاء ونحوه من الولايات, كما كان ابن أبي دؤاد قاضي القضاة في عهد المعتصم وهو من الجهمية. انظر: «التسعينية» (180) , و «مجموع الفتاوى» (17/ 299). أو لعل «استيلاء» محرفة عن «استعلاء». (4) انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 368) , و «جامع المسائل» (3/ 370).

(الكتاب/34)


وكذلك في أيام المعتضِد والمهتدي (1) والقادر وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمدَ سيرةً وأحسنَ طريقةً من غيرهم, لمَّا كان (2) الإسلامُ في زمنهم أعزَّ كانت السُّنة بحسب ذلك. وفي دولة بني بُوَيْه ونحوهم الأمرُ بالعكس، فإنهم كان فيهم أصنافُ المذاهب المذمومة, قومٌ منهم زنادقة، وفيهم قرامطةٌ كثيرةٌ ومتفلسفةٌ ومعتزلةٌ ورافضة, وهذه الأشياء كثيرةٌ فيهم غالبةٌ عليهم (3) , فحصل في الإسلام (4) والسُّنة في أيامهم من الوَهَن ما لم يُعْرَف، حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام وانتشرت القرامطةُ في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك, وجرت حوادثُ كثيرة. ولما كانت مملكةُ محمود بن سُبُكْتِكِين من أحسن ممالك بني جنسه كان الإسلامُ والسُّنةُ في مملكته أعزَّ، فإنه غزا المشركين من أهل الهند، ونشر من العدل ما لم ينشره مثلُه، فكانت السُّنة في أيامه ظاهرةً والبدعُ في أيامه مقموعة. وكذلك السلطانُ نور الدين محمود (5) الذي كان بالشام, عزَّ الإسلامُ _________ (1) الأصل: «والمهدي». وهو تحريف, فالمهدي متقدمٌ عن زمن هؤلاء, وقد سبق ذكره (ص: 32). وانظر: «جامع المسائل» (5/ 146). (2) الأصل: «وكان». والمثبت أليق بالسياق. (3) انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 478, 13/ 177, 27/ 167, 466, 28/ 491). (4) أي: دولة الإسلام. وأصلحت في (ط) إلى: «أهل الإسلام» , وليس في العبارة ما يقتضيه. وانظر: «منهاج السنة» (6/ 372). (5) بن زنكي, الملك العادل (ت: 549). انظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 178).

(الكتاب/35)


والسُّنةُ في زمنه، وأُذِلَّ الكفَّارُ وأهلُ البدع ممَّن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم. وكذلك ما كان في زمنه من خلافة بني العباس ووزارة ابن هُبَيْرة لهم، فإنه كان من أمثَل وزراء الإسلام, ولهذا كان له من العناية بالإسلام والحديث ما ليس لغيره (1). وما يوجدُ من إقرار أئمة الكلام والفلسفة وشهادتهم على أنفسهم وعلى بني جنسهم بالضلال (2) فأكثرُ من أن يحتمله هذا الموضع. وكذلك ما يوجدُ من رجوع أئمَّتهم إلى مذهب عموم أهل السُّنة وعجائزهم كثير، وأئمةُ السُّنة والحديث لا يرجعُ منهم أحد؛ لأن الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوبَ لا يَسْخَطُه أحد. وكذلك ما يوجدُ من شهادتهم لأهل الحديث بالسَّلامة والخلاص من أنواع الضلال، وهم لا يشهدون لأهل البدع إلا بالضلال. وهذا بابٌ واسعٌ كما قدمناه. وجميعُ الطوائف المتقابلة (3) من أهل الأهواء تشهدُ لهم بأنهم أصلحُ _________ (1) انظر: «جامع المسائل» (5/ 393). (2) كتب الناسخ في الأصل: «وما يوجد من شهادة أئمة الكلام والفلسفة بعضهم على بعض» , ووضع فوقها حـ ممدودة, كأنه يستشكلها, والمألوف في مثل هذا أن توضع الضبة (صـ ممدودة) , وكتب بحذائها في الطرَّة ما أثبتُّه في المتن, ولعله يشير إلى أنه من النسخة الأخرى التي قابل الكتاب عليها, كما سبق في المقدمة (ص: 42, 43). وانظر ما سيأتي (ص: 44, 78). (3) غير محررة في الأصل. وفي (ط): «المتقاتلة». والصواب المثبت من (ف).

(الكتاب/36)


من الآخرين وأقربُ إلى الحق، فتجدُ كلامَ أهل النِّحَل فيهم وحالهم [معهم] بمنزلة كلام أهل المِلَل مع المسلمين وحالهم معهم. وإذا قابلنا بين الطائفتين ــ أهل الحديث وأهل الكلام ــ فالذي يعيبُ بعضَ أهل الحديث وأهل الجماعة بحَشْو القول إنما يعيبُهم بقلَّة المعرفة أو بقلة الفهم, أما الأول فأن يحتجوا بأحاديثَ ضعيفةٍ وموضوعةٍ وآثارٍ لا تصلحُ للاحتجاج، وأما الثاني فأن لا يفهموا معاني الأحاديث الصحيحة، بل قد يقولون القولين المتناقضَين ولا يهتدون للخروج من ذلك. والأمر راجعٌ إلى شيئين, إما زيادةُ أقوالٍ غير مفيدةٍ تُظَنُّ أنها مفيدة، كالأحاديث الموضوعة، وإما أقوالٌ مفيدةٌ لكنهم لا يفهمونها، إذ كان اتِّباعُ الحديث يحتاجُ أولًا إلى صحَّة الحديث, وثانيًا إلى فهم معناه، كاتِّباع القرآن. فالخللُ يدخلُ عليهم من ترك إحدى المقدِّمتين, ومَن عابهم من الناس إنما يعيبُهم بهذا. ولا ريب أن هذا موجودٌ في بعضهم، يحتجُّون بأحاديثَ موضوعةٍ في مسائل الأصول والفروع وبآثارٍ مفتعلةٍ وحكاياتٍ غير صحيحة، ويذكُرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه، وربَّما تأوَّلوه على غير تأويله ووضعوه على غير موضعه (1). ثم إنهم بهذا المنقول الضَّعيف والمعقول السَّخيف قد يكفِّرون ويضلِّلون ويُبَدِّعون أقوامًا من أعيان الأمة ويُجَهِّلون، ففي بعضهم من _________ (1) الأصل: «موضوعه». تحريف. وأصلحت في (ط).

(الكتاب/37)


التفريط في الحقِّ والتعدِّي على الخلق (1) ما قد يكونُ بعضه خطأً مغفورًا، وقد يكونُ منكرًا من القول وزورًا، وقد يكونُ من البدع والضلالات التي توجبُ غليظَ العقوبات. فهذا لا ينكرُه إلا جاهلٌ أو ظالم، وقد رأيتُ من هذا عجائبَ, لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية المِلَل، ولا ريب أن في كثيرٍ من المسلمين من الظلم والجهل والبدع والفُجور ما لا يعلمُه إلا من أحاط بكلِّ شيء علمًا، لكن كلُّ شرٍّ يكونُ في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكلُّ خيرٍ يكونُ في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم، وهكذا أهلُ الحديث بالنسبة إلى غيرهم. وبيان ذلك: أن ما ذُكِر من فُضول الكلام الذي لا يفيد ــ مع اعتقاد أنه طريقٌ إلى التصور والتصديق ــ هو في أهل الكلام والمنطق أضعافُ أضعافِ أضعافِ ما هو في أهل الحديث أضعافًا مضاعفة، فبإزاء احتجاجِ أولئك بالحديث الضعيف احتجاجُ هؤلاء بالحُدود والأقيِسَة الكثيرة العظيمة (2) التي لا تفيدُ معرفةً بل جهلًا وضلالًا، وبإزاء تكلُّم أولئك بأحاديثَ لا يفهمون معناها تكلُّفُ هؤلاء من القول بغير علمٍ ما هو أعظمُ من ذلك وأكثر. _________ (1) الأصل: «الى الخلق». وأصلحت في (ط). (2) (ط): «العقيمة» , وهو محتمل, فالعقيم من القياس ما لا ينتج. والمثبت من الأصل أولى, فإن المصنف يريد بيان كثرة تلك الأقيسة التي لا تفيد وأنها أضعاف الأحاديث الضعيفة التي يحتج بها أهل الحديث, والتعبير بهذين الوصفين معًا مألوفٌ في كلام المصنف, وتأمل قوله بعد قليل: «أعظم من ذلك وأكثر».

(الكتاب/38)


وما أحسن قول الإمام أحمد: «ضعيفُ الحديث خيرٌ من رأي فلان» (1). ثم لأهل الحديث من المزيَّة أن ما يقولونه من الكلام الذي لا يفهمُه بعضهم هو كلامٌ في نفسه حقٌّ، وقد آمنوا بذلك، وأما المتكلِّمةُ فيتكلَّفون من القول ما لا يفهمونه ولا يعلمون أنه حقٌّ. وأهلُ الحديث لا يستدلُّون بحديثٍ ضعيفٍ في نقض أصل عظيمٍ من أصول الشريعة، بل إما في تأييده وإما في فرعٍ من الفروع، وأولئك يحتجُّون بالحُدود والمقاييس الفاسدة في نقض الأصول الحقَّة (2) الثابتة. إذا عُرِف هذا فقد قال الله تعالى عن أتباع الأئمَّة من أهل المُلك والعلم (3) المخالفين للرُّسل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83] , وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] , ومثلُ هذا في القرآن كثير. وإذا كانت سعادةُ الدنيا والآخرة هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أن أحقَّ الناس بذلك أعلمُهم بآثار المرسَلين وأتبعُهم لذلك، فالعالِمُون _________ (1) انظر: «السنة» لعبد الله بن أحمد (1/ 180) , ومسائل عبد الله (1313) , ومن طريقه الخطيب في «تاريخ بغداد» (15/ 375). وفلان هو أبو حنيفة, كما ورد مصرحًا به في المصادر, وأبهمه المصنف رعايةً لقلوب أتباعه. (2) الأصل: «بعض الأصول الحق». وأصلحت في (ط). (3) الأصل: «أهل الملل». وهو تحريف، ووجه الكلام ما أثبت. وانظر ما سيأتي (ص 300، 303).

(الكتاب/39)


بأقوالهم وأفعالهم المتَّبعون لها هم أهلُ السَّعادة في كلِّ زمانٍ ومكان، وهم الطائفةُ الناجيةُ من أهل كلِّ ملَّة، وهم أهلُ السُّنة والحديث من هذه الأمة؛ فإنهم يشاركون سائرَ الأمة فيما عندهم من أمور الرسالة، ويَمْتَازُون عنهم بما اختصُّوا به من العلم الموروث عن الرسول فيما (1) يجهلُه غيرُهم أو يكذِّبُ به. والرسلُ صلواتُ الله عليهم وسلامُه عليهم البلاغُ المبين، وقد بلَّغوا البلاغَ المبين, وخاتمُ الرسل محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أنزل الله كتابَه مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، فهو الأمينُ على جميع الكتب، وقد بلَّغ أبينَ البلاغ وأتمَّه وأكملَه، وكان أنصحَ الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، بلَّغ الرسالة, وأدَّى الأمانة, وجاهد في الله حقَّ جهاده, وعبد الله حتى أتاه اليقين, فأسعدُ الخلق وأعظمُهم نعيمًا وأعلاهم درجةً أعظمُهم اتباعًا له وموافقةً علمًا وعملًا. وأما غيرُ أتباعه من أهل الكلام، فالكلامُ في أقيستهم التي هي حججُهم وبراهينهم على معارفهم وعلومهم، وهذا يدخلُ فيه كلُّ من خالف شيئًا من السُّنة والحديث من المتكلِّمين والفلاسفة، فالكلامُ في هذا المقام واسعٌ لا ينضبطُ هنا، لكن المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلِّمين من أعظم بني آدم حَشْوًا وقولًا للباطل وتكذيبًا للحقِّ في مسائلهم ودلائلهم، لا يكادُ ــ والله أعلم ــ تخلو لهم مسألةٌ واحدة عن ذلك. وأذكر أني قلتُ مرَّةً لبعض من كان ينتصرُ لهم من المشغوفين بهم وأنا _________ (1) (ط): «مما».

(الكتاب/40)


إذ ذاك صغيرٌ قريبُ العهد من الاحتلام (1): كلُّ ما يقولُه هؤلاء ففيه باطلٌ إما في الدلائل وإما في المسائل، إما أن يقولوا مسألةً تكون حقًّا لكن يُقِيمُون عليها أدلةً ضعيفة، وإما أن تكون المسألةُ باطلًا. فأخذ يعظِّمُ هذا، وذكر مسألةَ التوحيد، فقلت: التوحيدُ حقٌّ، لكن اذكُرْ ما شئتَ من أدلَّتهم التي تعرفُها حتى أذكُرَ لك ما فيه. فذَكَر بعضها بحروفه, [فذكرتُ له ما فيه] (2) حتى فَهِم الغلط, وذهب إلى ابنه ــ وكان أيضًا من المتعصِّبين لهم ــ فذكر ذلك له, قال: فأخذ يعظِّمُ ذلك عليَّ، قال: فقلت: أنا لا أشكُّ في التوحيد، ولكن أشكُّ في هذا الدليل المعيَّن. ويدلُّك على ذلك أمور: أحدها: أنك تجدُهم أعظمَ الناس شكًّا واضطرابًا، وأضعفَ الناس علمًا ويقينًا، وهذا أمرٌ يجدونه في أنفسهم ويَشْهَدُه الناسُ منهم، وشواهدُ ذلك أعظمُ من أن تُذْكَر هنا، وإنما فضيلةُ أحدهم باقتداره على الاعتراض والجدل الباطل (3) , ومن المعلوم أن الاعتراض والقدحَ ليس بعلمٍ ولا فيه _________ (1) انظر مناظرة أخرى للمصنف وهو إذ ذاك «صغيرٌ جدًّا» مع أحد المتعصبة لابن عربي في «مجموع الفتاوى» (10/ 560). قال الذهبي في «الدرة اليتيمية»: «كان يحضر المدارس والمحافل في صغره ويناظِر ويفحِم الكبار ويأتي بما يتحيَّر منه أعيانُ البلد في العلم». «تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (37) , و «العقود الدرية» (9). (2) زيادة تقديرية يقتضيها الكلام. (3) الأصل: «الاعتراض والحد والدليل» , ويحتمل أن يكون أراد بذلك موضوعات علم المنطق (الحدود والأقيسة والجدل) إلا أن السياق لا يؤيده, وأُصْلِحَت في (ط) إلى «الاعتراض والقدح والجدل». والمثبت أشبه بالصواب وأدنى إلى رسم الأصل.

(الكتاب/41)


منفعة، وأحسنُ أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامِّيِّ، وإنما العلمُ في جواب السؤال (1). ولهذا تجدُ غالبَ حججهم تتكافأ؛ إذ كلٌّ منهم يقدحُ في أدلة الآخر. وقد قيل: إن الأشعريَّ ــ مع أنه مِن أقربهم إلى السُّنة والحديث وأعلمهم بذلك ــ صنَّف في آخر عمره كتابًا في تكافؤ الأدلة (2) , يعني أدلَّة الكلام، فإن ذلك هو صناعته التي يحسِنُ الكلامَ فيها. وما زال أئمَّتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم، كما ذكرناه عن أبي حامدٍ وغيره، حتى قال أبو حامد الغزالي: «أكثرُ الناس شكًّا عند الموت أهلُ الكلام» (3). _________ (1) انظر: «تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل» (5, 6). (2) لم أر من نسب للأشعري هذا الكتاب, ويظهر من عبارة المصنف أنه لم يقف عليه, والذي ذكره في «التسعينية» (773, 996) أن أبا الحسن أقر في آخر عمره بتكافؤ الأدلة, اعتمادًا على ما رواه أبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (1456) عن زاهر بن أحمد السرخسي. وانظر: «بيان تلبيس الجهمية» (4/ 416). والمشهور أن حيرة أبي الحسن وتكافؤ الأدلة عنده كانت سبب رجوعه عن الاعتزال وتأليفه الكتب, وإن كان أئمة الأشاعرة المتأخرين (كالرازي وغيره) يصيرون إلى القول بتكافؤ الأدلة في المسائل الكبار, كدليل حدوث الأجسام وغيره. انظر: «التسعينية» (772, 773) , و «درء التعارض» (1/ 164) , و «الصفدية» (1/ 99, 294) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 291) , و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (1/ 375, 381). (3) لم أقف عليه, وذكر في «المنقذ من الضلال» (125) أن علم الكلام ليس كفيلًا بتبديد ظلمات الحيرة في اختلاف الخلق.

(الكتاب/42)


وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب, باب الحَيْرة والشكِّ والاضطراب, لكن هو مسرفٌ في هذا الباب بحيث له نَهْمةٌ (1) في التشكيك دون التحقيق (2)، بخلاف غيره فإنه يحقِّقُ شيئًا ويَثْبُتُ على نوعٍ من الحق، لكنَّ بعض الناس قد يَثْبُتُ على باطل, والشكُّ في الباطل خيرٌ من الثبات على اعتقاده, لكن قلَّ أن يَثْبُتَ أحدٌ على باطلٍ محضٍ بل لا بدَّ فيه من نوعٍ من الحق. وكان من فضلاء المتأخرين وأبرعِهم في الفلسفة والكلام ابنُ واصل الحَمَوي (3)، كان يقول: «أستلقي على قَفايَ وأضعُ المِلْحَفة على نصف وجهي، ثم أذكر المقالاتِ وحججَ هؤلاء وهؤلاء واعتراضَ هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجرُ ولم يترجَّح عندي شيء» (4). ولهذا أنشد الخطَّابي (5): _________ (1) تحرفت في (ط) إلى: «إنه يتهم». وعلى الصواب في (ف). (2) انظر لطريقة الرازي في التشكيك وإيراد الشُّبه: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 11) , و «الصواعق المرسلة» (1079) , و «ذيل الروضتين» (105) , و «الوافي» (4/ 251) , و «العواصم والقواصم» (7/ 51, 54) , و «لسان الميزان» (6/ 319). (3) جمال الدين, قاضي حماة (ت: 697). قال الذهبي: «كان من أذكياء العالم». «تاريخ الإسلام» (15/ 864). (4) انظر: «درء التعارض» (1/ 165, 3/ 263) , و «الصواعق المرسلة» (842). (5) في «الغنية عن الكلام وأهله». انظر: «فتح الباري» لابن رجب (7/ 238) , و «صون المنطق والكلام» (146). وأصله لابن الرومي, في ديوانه (1139) و «زهر الآداب» (922): لذوي الجدال إذا غَدَوا لجدالهم ... حججٌ تضلُّ عن الهدى وتجورُ وُهُنٌ كآنية الزُّجاج تصادمت ... فهَوَتْ، وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ

(الكتاب/43)


حُجَجٌ تَهَافَتُ كالزُّجَاج تَخالُها ... حقًّا، وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ فإذا كانت هذه حالَ حُجَجِهم فأيُّ لغوٍ باطلٍ وحشوٍ يكونُ أعظم من هذا؟! وكيف يليقُ بمثل هؤلاء أن يَعِيبوا (1) أهلَ الحديث والسُّنة الذين هم أعظمُ الناس علمًا ويقينًا وطمأنينةً وسكينة، يَعْلَمُون ويَعْلَمُون أنهم يَعْلَمُون، وهم بالحق يوقنون, لا يشكُّون ولا يَمْتَرون؟! فأما ما أوتيه علماءُ أهل الحديث وخواصُّهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمرٌ يجلُّ عن الوصف، ولكن عند عوامِّهم من اليقين والمعرفة (2) والعلم النافع ما لم يحصُل منه شيءٌ لأئمَّة المتفلسفة المتكلمين, وهذا ظاهرٌ مشهودٌ لكلِّ أحد. غايةُ ما يقول أحدُهم: إنهم جَزَموا بغير دليل (3)، وصمَّموا بغير حُجَّة، وإنما معهم التقليد. وهذا القدرُ قد يكون في كثيرٍ من العامَّة, لكنَّ جزمَ العلمِ غيرُ جزم _________ (1) الأصل: «ينسبوا». ويحتمل أن تقرأ: «يسبُّوا». والمثبت أشبه. انظر: (ص: 37). (2) كذا في الأصل, وزيادة المعرفة هنا غير ظاهر, ووضع الناسخ فوقها حـ ممدودة كأنه يستشكلها, وانظر ما مضى (ص: 36). (3) الأصل: «بغير علم دليل». وهو غلط, إلا أن تكون: «بغير علم ودليل» , والمثبت أنسب للازدواج. ووضع الناسخ كذلك حـ فوق كلمة «علم».

(الكتاب/44)


الهوى, فالجازمُ بغير علمٍ يجدُ من نفسه أنه غيرُ عالمٍ بما جَزَم به، والجازمُ بعلمٍ يجدُ من نفسه أنه عالم؛ إذ كونُ الإنسان عالمًا وغيرَ عالمٍ مثلُ كونه سامعًا ومبصرًا وغير سامعٍ ومبصر، فهو يعلمُ من نفسه ذلك مثلَ ما يعلمُ من نفسه كونَه محبًّا ومبغضًا ومريدًا وكارهًا ومسرورًا ومحزونًا ومنعَّمًا ومعذَّبًا وغير ذلك. ومن شكَّ في كونه يَعْلَمُ مع كونه يَعْلَمُ فهو بمنزلة من جزَم بأنه عَلِمَ وهو لا يَعْلَم، وذلك نظيرُ من شكَّ في كونه سَمِع ورأى أو جزَم بأنه سَمِع ورأى ما لم يَسْمَعْه ويَرَه. والغلطُ أو الكذبُ يَعْرِض للإنسان في كلِّ واحدٍ من طرفي النفي والإثبات, لكن هذا الغلطَ أو الكذبَ العارض لا يمنعُ أن يكون الإنسانُ جازمًا بما لا يشكُّ فيه من ذلك، كما يجزمُ بما يجدُه من الطُّعوم والأراييح (1) وإن كان قد يَعْرِض له من الانحراف ما يجدُ به الحُلْوَ مرًّا. فالأسبابُ العارضةُ لغلط الحسِّ الباطن أو الظاهر والعقل بمنزلة المرض العارض لحركة البدن والنفس، والأصلُ هو الصحَّة في الإدراك وفي الحركة, فإن الله خلق عبادَه على الفطرة, وهذه الأمور يُعْلَمُ الغلطُ فيها بأسبابها الخاصَّة, كالمِرَّة الصَّفراء العارضة للطَّعم، وكالحَوَل في العين, ونحو ذلك. وإلا فمن حاسبَ نفسَه على ما يَجْزِمُ به وجد أكثرَ الناس الذين يجزمون بما لا يُجْزَمُ به إنما هو لنوعٍ من الهوى، كما قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا _________ (1) جمع الريح: أرواح, وجمع الجمع: أراويح, وأراييح شاذة. «اللسان» (روح). وتقع في كلام الجاحظ وغيره من البلغاء.

(الكتاب/45)


لَيَضِلُّونَ (1) بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119] , وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. ولهذا تجدُ اليهودَ يُصَمِّمُون بباطلهم (2) لما في نفوسهم من الكِبْر والحسد والقسوة وغير ذلك من الأهواء, وأما النصارى فأعظمُ ضلالًا منهم وإن كانوا في العبادة (3) والأخلاق أقلَّ منهم شرًّا فليسوا جازمين بغالب ضلالهم، بل عند الاعتبار تجدُ من ترك الهوى من الطائفتين ونظر نوعَ نظرٍ تبيَّن له أن الإسلام حقٌّ. والمقصودُ هنا أن معرفةَ الإنسان بكونه يَعْلَمُ أو لا يَعْلَمُ مرجعُه إلى وجود نفسِه عالمةً. ولهذا لا نحتجُّ على مُنكِر العلم إلا بوجودنا (4) نفوسَنا عالمةً، كما احتجُّوا على منكري الأخبار المتواترة بأنا نجدُ نفوسَنا عالمةً بذلك وجازمةً به كعلمِنا وجزمِنا بما أحسَسْناه، وجعَل المحقِّقون وجودَ العلم بمُخْبَر الإخبار هو الضابط في حصول التواتر، إذ لم يحدُّوه بعددٍ ولا صفةٍ بل متى حصل العلمُ كان هو المعتبر (5). _________ (1) على قراءة أبي عمرو, كما سيأتي (ص: 263). (2) أي يجزمون به. وفي (ط): «يصممون ويصرون على باطلهم». (3) الأصل: «العادة». تحريف. وانظر: «الجواب الصحيح» (3/ 102, 109, 220, 4/ 385) , و «منهاج السنة» (2/ 12) , و «الرد على الشاذلي» (179) , و «مجموع الفتاوى» (13/ 100, 15/ 434, 19/ 277). (4) سيأتي نظير هذا الاستعمال (ص: 64). (5) انظر: «النبوات» (1039) , و «درء التعارض» (8/ 43) , و «الاستقامة» (1/ 29) , و «مجموع الفتاوى» (6/ 591, 18/ 40, 48, 50, 51, 18/ 70).

(الكتاب/46)


والإنسانُ يجدُ نفسَه عالمةً، وهذا حقٌّ, فإنه لا يجوزُ أن يستدلَّ الإنسانُ على كونه عالمًا بدليل؛ فإن علمَه بمقدمات ذلك الدليل يحتاجُ إلى أن يجد نفسَه عالمةً بها، فلو احتاج علمُه بكونه عالمًا إلى دليلٍ أفضى إلى الدَّور أو التسلسل, ولهذا يحسُّ (1) الإنسانُ بوجود العلم عند وجود سببه إن كان بديهيًّا أو إن كان نظريًّا إذا عَلِمَ المقدمتين. وبهذا استُدِلَّ على منكري إفادة النظرِ العلمَ، وإن كان في هذه المسألة تفصيلٌ ليس هذا موضعه (2). فالغرض أن من نظر في دليلٍ يفيدُ العلمَ وجد نفسَه عالمةً عند علمه بذلك الدليل، كما يجدُ نفسَه سامعةً رائيةً عند الاستماع للصَّوت والترائي للشمس أو الهلال أو غير ذلك. والعلمُ يحصُل في النفس كما تحصُل سائر الإدراكات والحركات بما يجعله الله من الأسباب، وعامَّةُ ذلك بملائكة الله تعالى؛ فإن الله سبحانه يُنْزِلُ بها على قلوب عباده من العلم والقوَّة وغير ذلك ما يشاء، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لحسَّان: «اللهم أيِّده بروح القُدس» (3). وقال تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من طَلَبَ القضاءَ واستعان عليه وُكِلَ إليه, ومن لم يَطْلُب _________ (1) الأصل: «ولهذا لا يحس». والمثبت أقوم بالمراد. (2) انظر: «درء التعارض» (3/ 303, 5/ 270). (3) أخرجه البخاري (453) ومسلم (2485).

(الكتاب/47)


القضاءَ ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدِّدُه» (1). وقال عبد الله بن مسعود: «كنَّا نتحدَّثُ أن السَّكينة تَنطِقُ على لسان عُمَر» (2). وقال ابن مسعود: «إن للمَلَكِ لَمَّة (3)، وللشيطان لَمَّة، فلَمَّةُ المَلَك إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، ولَمَّةُ الشيطان إيعادٌ بالشرِّ وتكذيبٌ بالحق» (4) , وهذا الكلام الذي قاله ابنُ مسعود هو محفوظٌ عنه، وربما رفعه بعضهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو كلامٌ جامعٌ لأصول ما يكونُ من العبد من علمٍ _________ (1) أخرجه أبو داود (3578) والترمذي (1323) وابن ماجه (2309) من حديث أنس بإسنادٍ ضعيف, وقال الترمذي: «حسن غريب» , وصححه الحاكم (4/ 92) , وخرجه الضياء في «المختارة» (1580). وروي من طريق أصح عند الترمذي (1324) , وانظر: «علل الدارقطني» (12/ 80) , ولم يفطن لوجه ذلك ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 547) والألباني في «السلسلة الضعيفة» (1154). (2) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (9/ 167) , وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (44/ 111) بإسنادٍ فيه ضعف, وحسنه الهيثمي في «المجمع» (9/ 67). والمشهور روايته من قول علي - رضي الله عنه -. أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على «فضائل الصحابة» (50, 310, 470) وغيره من طرق كثيرة. (3) اللَّمَّة: الهَمَّة والخَطْرة تقع في القلب. «النهاية» (لمم). (4) أخرجه ابن المبارك (1435) وأحمد (859) كلاهما في الزهد بإسنادٍ حسن. وروي من وجه آخر فيه انقطاع عند أبي داود في الزهد (164). ورواه الترمذي (2988) والبزار (2027) وأبو يعلى (4999) وابن حبان (997) وغيرهم مرفوعًا, والموقوف أصح. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2224) , و «العلل الكبير» للترمذي (654).

(الكتاب/48)


وعمل، من شُعورٍ وإرادة. وذلك أن العبد له قوةُ الشعور والإحساس والإدراك, وقوةُ الإرادة والحركة, وإحداهما أصلُ الثانية مستلزمةٌ لها، والثانية مستلزمةٌ للأولى ومكمِّلةٌ لها. فهو بالأولى يصدِّقُ بالحقِّ ويكذِّبُ بالباطل، وبالثانية يحبُّ النافعَ الملائمَ له ويبغض الضارَّ المنافي له. والله سبحانه خلق عبادَه على الفطرة التي فيها معرفةُ الحقِّ والتصديقُ به، ومعرفةُ الباطل والتكذيبُ به، ومعرفةُ النافع الملائم والمحبةُ له، ومعرفةُ الضارِّ المنافي والبُغض له. فما كان حقًّا (1) موجودًا صدَّقَت به الفطرة, وما كان حقًّا نافعًا عَرَفَته (2) الفطرةُ فأحبَّته واطمأنت إليه وذلك هو «المعروف»، وما كان باطلاً معدومًا كذَّبت به الفطرةُ فأبغضته وأنكرته (3) , قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]. والإنسانُ كما سمَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «أصدقُ الأسماء الحارثُ وهمَّام» (4) , فهو دائمًا يَهُمُّ ويعمل، لكنه لا يعمل إلا لما يرجو منفعتَه أو دفعَ _________ (1) الأصل: «والفطرة فما كان حقا». وفي (ط): «بالفطرة ... ». (2) الأصل: «فاحبته». والمثبت من (ط) ظاهر الصواب. (3) الأصل: «فأبغضته الفطرة فأنكرته». ولعله من انتقال نظر الناسخ. (4) روي من مرسل أبي وهب الكلاعي والزهري ومكحول وعبد الوهاب بن بخت وعبد الله بن عامر اليحصبي, ومخارجُ هذه المراسيل جميعًا من الشام فلا تعتضدُ ببعضها, فربما آلت إلى مصدرٍ واحد, وهو الأشبه, ورفعه بعضهم ولا يصح. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (117) , و «العلل» له (2451) , و «الإصابة» (7/ 461) , و «مفتاح دار السعادة» (1524).

(الكتاب/49)


مضرَّته، لكن قد يكونُ ذلك الرجاء مبنيًّا على اعتقادٍ باطل، إما في نفس المقصود فلا يكونُ نافعًا ولا ضارًّا، وإما في الوسيلة فلا تكونُ طريقًا إليه, وهذا جهل. وقد يعلمُ أن هذا الشيء يضرُّه ويفعلُه، ويعلمُ أنه ينفعُه ويتركُه؛ لأن ذلك العلمَ عارَض ما في نفسه من طلب لذةٍ أخرى أو دفع ألمٍ آخر، فيكونُ جاهلًا ظالمًا حيث قدَّم هذا على ذاك. ولهذا قال أبو العالية: «سألتُ أصحابَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] , فقالوا: كلُّ من عصى الله فهو جاهل، وكلُّ من تاب قبل الموت فقد تاب مِن قريبٍ» (1). وإذا كان الإنسانُ لا يتحرَّك إلا لرجاءٍ (2) , وإن كان راهبًا خائفًا لم يسعَ في النجاة ولم يهرب من الخوف (3)، فالرجاءُ لا يكونُ إلا بما يُلْقَى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلبُ المحبوب وفواتُ المكروه. فكلُّ بني آدم له اعتقادٌ فيه تصديقٌ بشيءٍ وتكذيبٌ بشيء, وله قصدٌ وإرادةٌ لما يرجوه مما هو عنده محبوبٌ ممكنُ الوصول إليه، أو وجود _________ (1) أخرج شطره الأول ابن جرير (6/ 507) وابن المنذر (1480). (2) (ف): «إلا راجيا». (3) (ط, ف): «لم يسع [إلا] في النجاة ولم يهرب [إلا] من الخوف». ولعل المصنف يريد الخوف المجرَّد من الرجاء في النجاة.

(الكتاب/50)


المحبوب عنده أو دفع المكروه عنه، والله خلق العبد [ليصدِّق بالحقِّ] (1) ويَقْصِدَ الخيرَ فيرجوه بعمله، فإذا كذَّب بالحقِّ فلم يصدِّق به ولم يَرْجُ الخيرَ فيقصِدُه ويعملُ له كان خاسرًا بترك تصديق الحقِّ وطلب الخير، فكيف إذا كذَّب بالحقِّ وكره إرادةَ الخير؟ فكيف إذا صدَّق بالباطل وأراد الشرَّ؟ ! فذكر عبد الله بن مسعودٍ أن لقلب ابن آدم لَمَّةً من المَلَك ولَمَّةً من الشيطان, فلَمَّةُ المَلَك تصديقٌ بالحق, [ولَمَّةُ الشيطان تكذيبٌ بالحقِّ] (2) وهو ما كان من جنس الاعتقاد الفاسد، وهو التكذيبُ بالحق, وإيعادٌ بالشرِّ وهو ما كان من جنس إرادة الشرِّ وطلب (3) وجوده, إما مع رجائه إن كان مع هوى النفس، وإما مع خوفه إن كان غير محبوبٍ لها, وكلٌّ من الرجاء والخوف مستلزمٌ للآخر. فمبدأ العلم الحقِّ والإرادةِ الصالحة مِن لَمَّة المَلَك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة مِن لَمَّة الشيطان. قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي: يخوِّفُكم أولياءه، وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي _________ (1) ليست في الأصل, والسياق يقتضيها. (2) أظنه سقط على الناسخ لانتقال نظره. (3) الأصل: «وظن». تحريف.

(الكتاب/51)


جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48]. والشيطانُ وسواسٌ خناسٌ إذا ذكر العبدُ ربَّه خَنَسَ، فإذا غَفَل عن ذكره وَسْوَس، فلهذا كان [تركُ] (1) ذكر الله سببًا ومبدأً لنزول الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة في القلب. ومِن ذكر الله تعالى تلاوةُ كتابه وفهمُه ومذاكرةُ العلم، كما قال معاذ بن جبل: «ومذاكرته تسبيح» (2). وقد تنازع أهلُ الكلام في حصول العلم في القلب عقبَ النظر في الدليل (3) , فقال بعضهم: ذلك على سبيل التولُّد، وقال المنكرون للتولُّد: بل ذلك بفعل الله تعالى, والنظرُ إما متضمِّنٌ للعلم وإما موجبٌ له, وهذا ينصره المنتسبون للسنة من المتكلمين ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعيِّ وأحمد وغيرهم، وقالت المتفلسفة: بل ذلك يحصُل بطريق _________ (1) كتب الناسخ في الطرة: «لعله سقط: ترك». فعلق أحدهم على كلامه: «الظاهر عدم السقط, والكلام فيما يظهر لي مستقيم بدون لفظة ترك, والمراد أن ذكر الله سبب لخنوس الخناس». والأليق بسياق الكلام إثبات لفظ الترك. (2) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 238) , وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 240) بإسنادٍ شديد الضعف. وقال المصنف فيما يأتي (ص: 160): «هو محفوظٌ عن معاذ». ويروى مرفوعًا, ولا يصح, وحسبه أن يثبت إلى معاذ. انظر: «مفتاح دار السعادة» (1/ 337) وتعليقي عليه. (3) انظر: «المغني» لعبد الجبار (8/ 77) , و «التلخيص في أصول الفقه» للجويني (1/ 125) , و «المستصفى» (1/ 168) , و «البحر المحيط» (1/ 67) , و «الرد على المنطقيين» (342, 507) , و «مجموع الفتاوى» (17/ 530).

(الكتاب/52)


الفَيض من العقل الفعَّال عند استعداد النفس لقبول الفَيض, وقد يزعمون أن العقل الفعَّال هو جبريل. فأما قول القائلين: «إن ذلك بفعل الله» فهو صحيحٌ بناءً على أن الله هو مُعَلِّمُ كلِّ علمٍ وخالقُ كلِّ شيء، لكن هذا كلامٌ مجملٌ ليس فيه بيانٌ لنفس السبب الخاص. وأما قول القائلين بالتولُّد فبعضه حقٌّ وبعضه باطل, فإن (1) دعواهم أن الفعل (2) المتولِّد هو حاصلٌ بمجرَّد قدرة العبد باطلٌ قطعًا، ولكن هو حاصلٌ بأمرين: قدرة العبد والسبب الآخر، كالقوَّة التي في السَّهم والقبول الذي في المحلِّ, ولا ريب أن النظر هو سببٌ ولكن الشأن فيما به يتمُّ حصول العلم. وأما زعمُ أولئك أنه بالعقل الفعَّال فمن الخرافات التي لا دليل عليها. وأبطلُ من ذلك زعمُهم أن ذلك هو جبريل، وزعمُهم أن كلَّ ما يحصُل في عالم العناصر من الصُّور الجِسمانية وكمالاتها فهو من فَيْضِه وسببه مِن أبطل الباطل، ولكن إضافتهم ذلك إلى أمورٍ رُوحانيَّةٍ صحيحٌ في الجملة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يدبِّر أمرَ السموات والأرض بملائكته التي هي السُّفراء في أمره، ولفظ «المَلَك» يدلُّ على ذلك, وبذلك أخبرت الأنبياء, وقد شهد الكتابُ والسُّنة من ذلك بما لا يتسعُ هذا الموضعُ لذكره، كما ذكره _________ (1) الأصل: «كان». تحريف. (2) (ط): «العلم». والمثبت من الأصل وهو الصواب. انظر: «مقالات الإسلاميين» (1/ 415).

(الكتاب/53)


النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ملائكة الخَلْق (1) وغيره, فأما تخصيصُ روحٍ واحدٍ متصلٍ بفَلَك القمر يكونُ هو ربَّ هذا العالم فهذا باطل، وليس هذا موضعَ استقصاء ذلك (2). ولكن يُعْلَمُ أن المبدأ في شعور النفس وحركاتها هم الملائكةُ والشياطين، فالمَلَكُ يُلْقِي التصديقَ بالحقِّ والأمرَ بالخير، والشيطانُ يُلْقِي التكذيبَ بالحقِّ والأمرَ بالشر، والتصديقُ والتكذيبُ مقرون (3) بنظر الإنسان، كما أن الأمرَ والنهيَ مقرون بإرادته. فإذا كان النظرُ في دليلٍ هادٍ ــ كالقرآن ــ وسَلِمَ من معارضات الشيطان تضمَّن ذلك النظرُ العلمَ والهدى, ولهذا أُمِرَ العبد بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند القراءة. _________ (1) خلق الإنسان في بطن أمه حين يُرْسَلُ إليه المَلَكُ فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد. أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643). وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 148). ويحتمل أن يكون المراد الملائكة الذين يحفظون الخلق, انظر: «الإبانة» لابن بطه (3/ 339) , و «الدر المنثور» (7/ 429). وتصرَّف ناشر (ط) فجعل العبارة: «ملائكة تخليق الجنين». (2) انظر: «الرد على المنطقيين» (102, 278, 476 - 520) , و «بغية المرتاد» (187, 241) , و «الصفدية» (1/ 156, 201) , و «درء التعارض» (5/ 384, 10/ 219) , و «الرد على الشاذلي» (43, 59, 132) , و «مجموع الفتاوى» (11/ 230). وانظر لنظرية العقل الفعال هذه عند الفلاسفة ومصدرها وآثارها ومظانها التعليق على «غاية المرام» للآمدي (288). (3) كذا في الأصل في الموضعين, والجادة: مقرونان. وانظر ما سيأتي (ص: 197).

(الكتاب/54)


وإذا كان النظرُ في دليلٍ مُضِلٍّ والناظرُ يعتقدُ صحَّتَه، بأن تكون مقدِّمتاه أو إحداهما متضمنةً للباطل، أو تكون المقدِّمتان صحيحة (1) لكن التأليفَ ليس بمستقيم= فإنه يصيرُ في القلب بذلك اعتقادٌ فاسد، وهو غالبُ شبهات أهل الباطل المخالفين للكتاب والسُّنة من المتفلسفة والمتكلمين ونحوهم. وإذا كان الناظرُ لا بدَّ له من منظورٍ فيه، فالنظرُ (2) في نفس المتصور المطلوب حكمه لا يفيدُ علمًا، بل ربما خَطَر له بسبب ذلك النظر أنواعٌ من الشبهات يحسبُها أدلةً، لفرطِ تعطُّش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة وتصديق ذلك التصوُّر. وأما النظرُ المفيدُ للعلم فهو ما كان في دليل هادٍ, والدليلُ الهادي على العموم والإطلاق هو كتابُ الله وسنةُ نبيه، فإن الذي جاءت به الشريعةُ من نوعَي النظر هو ما يُفِيدُ وينفعُ ويُحَصِّلُ الهدى، وهو بذكر الله وما نَزَل من الحقِّ. فإذا أراد النظرَ والاعتبارَ في الأدلة المطلقة من غير تعيين مطلوبٍ فذلك النظرُ في كتاب الله وتدبُّره، كما قال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} الآية [المائدة: 16]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} إلى آخر السورة [الشورى: 52، 53]. _________ (1) كذا في الأصل. والجادة: صحيحتين. (2) الأصل: «والنظر». وبالمثبت يستقيم السياق.

(الكتاب/55)


وأما النظرُ في مسألةٍ معيَّنةٍ وقضيَّةٍ معيَّنةٍ لطلب حُكْمِها والتصديق بالحقِّ فيها، والعبد لا يعرفُ ما يدلُّه على هذا أو هذا= فمجرَّدُ هذا النظر لا يفيد، بل قد يقعُ له تصديقاتٌ يَحْسِبُها حقًّا وهي باطلٌ وذلك من إلقاء الشيطان، وقد يقعُ له تصديقاتٌ تكون حقًّا وذلك من إلقاء المَلَك. وكذلك إذا كان النظرُ في الدليل الهادي ــ وهو القرآن ــ فقد يضعُ الكَلِمَ مواضعَه ويفهمُ مقصودَ الدليل فيهتدي بالقرآن، وقد لا يفهمُه أو يحرِّفُ الكَلِمَ عن مواضعه فيَضِلُّ به، ويكونُ ذلك من الشيطان, كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125]، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]، وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 183]. فالناظرُ في الدليل بمنزلة المُتَرائي للهلال قد يراه وقد لا يراه لِعَشًى في بصره، وكذلك أعمى القلب. وأما الناظرُ في المسألة, فهذا يحتاجُ إلى شيئين: * إلى أن يظفرَ بالدليل الهادي. * وإلى أن يهتديَ به وينتفع.

(الكتاب/56)


فأمَره الشرعُ بما يوجبُ أن يُنْزِل على قلبه الأسبابَ الهادية ويصرفَ عنه الأسبابَ المُعَوِّقة، وهو ذِكرُ الله تعالى، فإن الشيطان وسواسٌ خنَّاس، فإذا ذكر العبد ربَّه خَنَس، وإذا غفل عن ذكر الله وَسْوَس. وذِكرُ الله يُعْطِي الإيمانَ، وهو أصلُ العلم (1) , والله سبحانه ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وهو معلِّمُ كلِّ علمٍ وواهبُه، فكما أن نفسَه أصلٌ لكلِّ شيءٍ موجودٍ فذكرُه والعلمُ به أصلٌ لكلِّ علمٍ وذكرٍ في القلب. والقرآنُ يُعْطِي العلمَ المفصَّلَ, فيزيدُ الإيمان، كما قال جُنْدُبُ بن عبد الله البَجَليُّ وغيرُه من الصحابة: «تعلَّمنا الإيمانَ، ثم تعلَّمنا القرآنَ، فازددنا إيمانًا» (2). ولهذا كان أولُ ما أنزلَ الله على نبيِّه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} , فأمرَه أن _________ (1) الأصل: «أصل الإيمان». والمثبت هو الصواب ويدل عليه السياق. وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 1, 4, 10/ 360). وفي (ط) تعليقًا: لعل الأولى «وهو أصل الهدى»، [والمراد بنفسه] أي ذات الله تعالى المقدسة بأسمائه وصفاته وهو الذي خلق الأشياء وأعطاها كل ما يناسب خلقها. (2) أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 221) , وابن ماجه (61) , وعبد الله بن أحمد في «السنة» (799, 825) , وابن عدي في «الكامل» (3/ 30) , وغيرهم عن جندب - رضي الله عنه - , وفي إسناده تفردٌ يغتفرُ مثله, وصححه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1/ 12). وروي هذا المعنى عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. أخرجه ابن منده في «الإيمان» (207) , والحاكم (1/ 35) , والبيهقي (3/ 120) وغيرهم بإسنادٍ حسن, وصححه ابن منده على رسم مسلم, والحاكم على شرط الشيخين.

(الكتاب/57)


يقرأ باسم الله، فتضمَّن هذا الأمرَ بذكر الله وما نَزَلَ من الحق، وقال: {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 ــ 5] , فذكَر سبحانه أنه خلقَ الأعيانَ الموجودة عمومًا وخصوصًا وهو الإنسان، وأنه المعلِّمُ للعلم عمومًا وخصوصًا للإنسان، وذكَر التعليمَ بالقلم الذي هو آخرُ المراتب ليستَلزِمَ تعليمَ القول وتعليمَ العلم الذي في القلب. وحقيقةُ الأمر أن العبد مفتقرٌ إلى ما يسأله من العلم والهدى طالبٌ سائل، فبذكرِ الله والافتقار إليه يهديه الله ويدلُّه، كما قال: «يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستَهْدُوني أَهْدِكم» (1) , وكما كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم» (2). ومما يوضح ذلك أن الطالبَ للعلم بالنظر والاستدلال والتفكُّر والتدبُّر لا يحصُل له ذلك إن لم ينظر في دليلٍ يفيدُه العلمَ بالمدلول عليه، ومتى كان العلمُ مستفادًا بالنظر فلا بدَّ أن يكون عند الناظر من العلم المذكور الثابت في قلبه ما لا يحتاجُ حصولُه إلى نظر، فيكونُ ذلك المعلومُ أصلًا وسببًا للتفكُّر الذي يطلبُ به معلومًا آخر. _________ (1) أخرجه مسلم (2577). (2) أخرجه مسلم (770).

(الكتاب/58)


ولهذا كان الذكرُ متعلقًا بالله؛ لأنه سبحانه الحقُّ المعلوم، وكان التفكُّر في مخلوقاته, كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191]، وقد جاء الأثر: «تفكَّروا في المخلوق ولا تفكَّروا في الخالق» (1)؛ لأن التفكيرَ والتقديرَ يكونُ في الأمثال المضروبة والمقاييس، وذلك يكونُ في الأمور المتشابهة وهي المخلوقات، وأما الخالق ــ جلَّ جلالُه سبحانه وتعالى ــ فليس له شبيهٌ ولا نظير، فالتفكُّر الذي مبناه على القياس ممتنعٌ في حقِّه، وإنما هو معلومٌ بالفطرة، فيَذْكُره العبد. وبالذكر وبما أخبر به عن نفسه يَحْصُل للعبد من العلم به أمورٌ عظيمة لا تُنال بمجرَّد التفكير والتقدير، أعني من العلم به نفسِه، فإنه الذي لا تفكير فيه، فأما العلمُ بمعاني ما أخبَر به ونحو ذلك فيدخلُ فيها التفكير والتقدير، كما جاء به الكتاب والسُّنة. _________ (1) أخرجه بهذا اللفظ أبو الشيخ في «العظمة» (982) من حديث ابن عباس مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف. وروي بمعناه من وجوهٍ أخرى منكرةٍ لا يصحُّ منها شيء من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما, وحسَّن الحديث بمجموعها الألباني في «الصحيحة» (1787) , وقال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (342): «أسانيدها كلها ضعيفة لكن اجتماعها يكتسبُ قوة». وأمثل ما في الباب ما أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 46) موقوفًا على ابن عباس - رضي الله عنهما - بإسنادٍ ليِّن, وجوَّده ابن حجر في «الفتح» (13/ 383) , ويشبه أن يكون هو أصل تلك الأخبار فرفعه الضعفاء وركَّبوا له الأسانيد.

(الكتاب/59)


ولهذا كان كثيرٌ من أرباب العبادة والتصوُّف يأمرون بملازمة الذكر، ويجعلون ذلك هو بابَ الوصول إلى الحق. وهذا حسنٌ إذا ضمُّوا إليه تدبُّر القرآن والسُّنة واتِّباع ذلك. وكثيرٌ من أرباب النظر والكلام يأمرون بالتفكُّر والنظر، ويجعلون ذلك هو الطريقَ إلى معرفة الحق. والنظرُ صحيحٌ إذا كان في حقٍّ ودليلٍ, كما تقدَّم. فكلٌّ من الطريقين فيها حقٌّ، لكن تحتاجُ إلى الحقِّ الذي في الأخرى، ويجبُ تنزيهُ كلٍّ منهما عمَّا دخل فيهما من الباطل، وذلك كلُّه باتباع ما جاءت به المرسلون، وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع، وبيَّنا طريقَ أهل العبادة والرياضة والذِّكر وطريقَ أهل الكلام والنظر والاستدلال، وما في كلٍّ منهما من مقبولٍ ومردود، وبيَّنا ما جاءت به الرسالةُ من الطريق الكاملة الجامعة لكلِّ حقٍّ, وليس هذا موضعُ بسط ذلك (1). وإنما المقصودُ هنا أن الإنسان يُحِسُّ (2) بأنه عالِمٌ ويجدُ ذلك ويعرفُه بغير واسطةِ أحدٍ كما يُحِسُّ بغير ذلك، وحصولُ العلم في القلب كحصول الطعام في الجسم، فالجسم يحسُّ بالطعام والشراب وكذلك القلوب تُحِسُّ بما ينزلُ إليها من العلوم التي هي طعامُها وشرابها، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن _________ (1) انظر: «الرد على الشاذلي» (28 - 35) , و «منهاج السنة» (5/ 428, 429) , و «درء التعارض» (5/ 350) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 54 - 93, 11/ 27, 13/ 101, 22/ 306) , و «النبوات» (247, 336) , و «الاستقامة» (1/ 220). (2) الأصل: «محس». والوجه ما أثبت.

(الكتاب/60)


كلَّ آدِبٍ يحبُّ أن تؤتى مأدبتُه، وإن مأدُبةَ الله هي القرآن» (1)، وكما قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17]. وفي «الصحيحين» (2) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمَثَل غيثٍ أصابَ أرضًا، وكانت منها طائفةٌ قَبِلَت الماءَ فأنبتَت الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفةٌ أمسَكَت الماءَ فسقى الناسُ وزَرَعُوا، وكانت منها طائفةٌ إنما هي قِيعَانٌ لا تُمْسِك ماءً ولا تُنْبِت كَلَأً، فذلك مَثَلُ مَن فَقُهَ في دين الله ونفَعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم, ومَثَلُ من لم يَرْفَع بذلك رأسًا ولم يَقْبَل هدى الله الذي أُرْسِلْتُ به». فضَرَبَ مَثَلَ الهدى والعلم الذي ينزلُ على القلوب بالماء الذي ينزلُ على الأرض، وكما أن لله ملائكةً موكَّلةً بالسَّحاب والمطر فله ملائكةٌ موكَّلةٌ بالهدى والعلم، هذا رزقُ القلوب وقُوتُها، وهذا رزقُ الأجساد وقُوتُها. _________ (1) أخرجه أحمد في «الزهد» (902) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - موقوفًا بإسناد فيه إرسال. ورواه ابن أبي شيبة (30630) والحاكم (1/ 555) وغيرهما من حديث ابن مسعود مرفوعًا في سياقٍ طويل بإسنادٍ ضعيف, وروي موقوفًا عند عبد الرزاق (6017) والدارمي (3358) وهو أشبه, وأشار إليه البيهقي في «الشعب» (1786) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 102). وأخرجه البيهقي في «الشعب» (1857) من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - بإسنادٍ شديد الضعف. انظر: «السلسلة الضعيفة» (2058). (2) صحيح البخاري (79) ومسلم (2282).

(الكتاب/61)


قال الحسن البصري في قوله [تعالى]: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] قال: «إن مِن أعظم النفقةِ نفقةَ العلم» (1) أو نحو هذا الكلام. وفي أثرٍ آخر: «نِعمَت العطيةُ ونِعمَت الهديةُ الكلمةُ من الخير يَسْمَعُها الرجلُ فيُهدِيها إلى أخٍ له مسلم» (2). وفي أثرٍ آخر عن أبي الدرداء: «ما تصدَّق عبد بصدقةٍ أفضلَ من موعظةٍ يَعِظُ بها إخوانًا له مؤمنين، فيتفرَّقون وقد نفعهم الله بها» (3) أو ما يشبه هذا الكلام. وعن كعب بن عُجْرة قال: «ألا أُهْدِي لك هديَّة؟» فذَكَر الصلاةَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - (4). _________ (1) لم أجده. وانظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 186). (2). أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/ 43) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا بإسنادٍ شديد الضعف. وانظر: «مجمع الزوائد» (1/ 166) , و «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 18) , و «السلسلة الضعيفة» (2038). وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 68): «يشبه أن يكون موقوفًا». وروي بإسنادٍ واهٍ من حديث زيد بن أسلم مرسلًا, أخرجه ابن المبارك (1386) وهناد (529) كلاهما في الزهد, والقضاعي في «مسند الشهاب» (1311). ومن حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف جدًّا, أخرجه تمام في «الفوائد» (105 - الروض البسام). (3). أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/ 169) , وابن الجوزي في «القصَّاص والمذكرين» (171). ويُذْكَر من كلام عيسى بن مريم عليه السلام, أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 46) عن فرقد السبخي به. (4). أخرجه البخاري (3370) ومسلم (406).

(الكتاب/62)


وروى ابنُ ماجه في سننه (1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفضلُ الصَّدقة أن يتعلَّم الرجلُ علمًا ثم يعلِّمَه أخاه المسلم». وقال معاذ بن جبل: «عليكم بالعلم، فإن طلبَه عبادة، وتعلُّمَه لله خشية (2)، وبَذْلَه لأهله قُربة، وتعليمَه لمن لا يَعْلَمُه صدقة، والبحثَ عنه جهاد، ومُذاكرتَه تسبيح». ولهذا كان معلِّمُ الخير يستغفرُ له كلُّ شيءٍ حتى الحِيتانُ في البحر، والله وملائكتُه يصلُّون على معلِّم الناس الخيرَ؛ لما في ذلك من عموم النفع لكلِّ شيء. وعكسُه كاتمو العلم، فإنهم يلعنُهم الله ويلعنُهم اللاعنون، قال طائفةٌ من السَّلف: «إذا كَتَم الناسُ العلمَ, فعُمِلَ بالمعاصي, احتَبَس القَطْرُ، فتقولُ البهائم: اللهمَّ [العَن] عصاةَ بني آدم, فإنَّا مُنِعْنا القَطْرَ بسبب ذنوبهم» (3). _________ (1). (243) من حديث الحسن عن أبي هريرة, والأشبه عدم سماعه منه, ثم إن الإسناد إليه ضعيف. وضعَّفه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1/ 35) , وحسَّنه المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 54) فلم يصب. وروي بمعناه من حديث الحسن عن سمرة بإسنادٍ واهٍ عند الطبراني في «الكبير» (7/ 231). ويروى عن الحسن مرسلًا, وهو أشبه, أخرجه أبو خيثمة في «العلم» (138) , وابن المبارك في «الزهد» (1385) وفي مطبوعته تحريفٌ يصوَّب من «أخلاق العلماء» للآجري (45) , وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (782). (2). الأصل: «حسنة»، والمثبت أصحُّ وعليه أكثر المصادر، ويرد بالوجه الآخر في بعضها، وانظر: «إتحاف السادة المتقين» (1/ 121). والأثر تقدم تخريجه (ص: 52). (3). روي لعنُ البهائم عصاةَ بني آدم لاحتباس القطر بسبب معاصيهم عن مجاهد وغيره في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}. انظر: تفسير القرآن من «الجامع» لابن وهب (24) , والتفسير من «سنن سعيد بن منصور» (236, 238) , وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 269) , وتفسير ابن جرير (2/ 733).

(الكتاب/63)


وإذا كان علمُ الإنسان بكونه عالمًا مرجعُه إلى وجوده ذلك وإحساسه في نفسه بذلك, وهذا أمرٌ موجودٌ بالضرورة= لم يكن لهم (1) أن يخبروا عما في نفوس الناس بأنه ليس بعلمٍ بغير حجَّة، فإن عدمَ وجودهم مِن نفوسهم ذلك لا يقتضي أن الناسَ لم يجدوا ذلك، لا سيَّما إذا كان المُخْبِرون عن اليقين الذي في أنفسهم ممَّن لا يشكُّون في علمه وصدقه ومعرفته بما يقول. وهذا حالُ أئمة المسلمين وسلف الأمة وحملة الحجَّة، فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطُّمأنينة والعلم الضروريِّ، كما في الحكاية المحفوظة عن نجم الدين الكُبْرى (2) لما دخل عليه متكلِّمان، أحدهما أبو عبد الله الرازي (3)، والآخر من متكلِّمي المعتزلة، وقالا: يا شيخ، بَلَغَنا أنك تَعْلَمُ علمَ اليقين, فقال: نعم أنا أعلمُ علمَ اليقين، فقالا: كيف يُمْكِنُ ذلك _________ (1). أي المتكلمين في قولهم المتقدم عن عوامِّ أهل السنة: إنهم جَزَموا بغير دليل وصمَّموا بغير حجَّة وإنما معهم التقليد. (2). أبو الجنَّاب الصُّوفي. قال المصنف: هو من أجلِّ شيوخ خوارزم وأصحِّهم إسلامًا وأبعدهم عما يخالف الكتاب والسنة. استشهد على أيدي التتار سنة 618. انظر: «جامع المسائل» (4/ 393) , و «تاريخ الإسلام» (13/ 537). له مصنفاتٌ كثيرة في التفسير والتصوف, طُبِع بعضها, وتنسبه الشيعةُ إليهم وهو منهم براء, ولم يحظ بدراسةٍ تليق به سوى ما كتبه يوسف زيدان في مقدمة تحقيقه لكتابه «فوائح الجمال وفواتح الجلال» , ويستحقُّ أن يدرس منهجه وأثره في رسالة علمية. (3). فخر الدين الرازي.

(الكتاب/64)


ونحن من أول النهار إلى الساعة نتناظرُ فلم يَقْدِرْ أحدُنا أن يقيم على الآخر دليلًا؟ ــ وأظنُّ الحكاية في تثبيت الإسلام (1) ــ , فقال: ما أدري ما تقولان, ولكن أنا أعلمُ علمَ اليقين، فقالا: صِفْ لنا علمَ اليقين، فقال: علمُ اليقين عندنا وارداتٌ تَرِدُ على النفوس تعجزُ النفوسُ عن ردِّها، فجَعَلا يقولان: وارداتٌ تَرِدُ على النفوس تعجزُ النفوسُ عن ردِّها! ويستحسنان هذا الجواب (2). وذلك لأن طريقَ أهل الكلام تقسيمُ العلوم إلى ضروريٍّ وكَسْبِيٍّ، أو بديهيٍّ ونظريٍّ. فالنظريُّ الكسبيُّ لا بدَّ أن يُرَدَّ إلى مقدماتٍ ضروريةٍ أو بديهية, فتلك لا تحتاجُ إلى دليل، وإلا لزم الدَّورُ أو التسلسل. والعلمُ الضروريُّ هو الذي يَلْزَمُ نفسَ المخلوق لزومًا لا يمكنُه الانفكاكُ عنه، فالمرجعُ في كونه ضروريًّا إلى أنه يَعْجَزُ عن دفعه عن نفسه. فأخبر الشيخُ أن علومَهم ضرورية، وأنها تَرِدُ على النفوس على وجهٍ تَعْجَزُ عن دفعه، فقالا له: ما الطريقُ إلى ذلك؟ فقال: تتركان ما أنتما فيه، وتَسْلُكان ما آمركما به من الذكر والعبادة، فقال الرازي: أنا مشغولٌ عن هذا، _________ (1). ذكر الذهبيُّ أنها في معرفة الله وتوحيده. «السير» (22/ 112). (2). انظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 76, 13/ 69) , و «العواصم والقواصم» لابن الوزير (3/ 425). وذكر المصنف في «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 183) و «درء التعارض» (7/ 430) أنه رأى الحكاية بخط القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي, وقال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (13/ 538): «هذه حكايةٌ حكاها لنا الشيخ أبو الحسين اليونيني».

(الكتاب/65)


وقال المعتزلي: أنا قد احتَرق قلبي بالشُّبهات وأُحِبُّ هذه الواردات، فلزم الشيخَ مدةً ثم خرج من محلِّ عبادته وهو يقول: والله يا سيدي ما الحقُّ إلا فيما تقوله هؤلاء المشبِّهة! يعني المثبتين للصفات؛ فإن المعتزلة يسمُّون الصِّفاتية مشبِّهةً. وذلك أنه عَلِمَ علمًا ضروريًّا لا يمكنه دفعُه عن قلبه أنَّ صانعَ العالَم لا بدَّ أن يتميَّز عن العالَم ويكون بائنًا منه له صفاتٌ تختصُّ به، وأن هذا الربَّ الذي تصفُه الجهميةُ إنما هو عدمٌ محض. وهذا موضعُ الحكاية المشهورة (1) عن الشَّيخ العارف أبي جعفر الهمَذاني (2) لأبي المعالي الجويني لما أخذ يقولُ على المنبر: كان الله ولا عرش، فقال: يا أستاذ، دَعْنا مِن ذكر العرش ــ يعني: لأن ذلك إنما جاء في السَّمع ــ, أخبِرنا عن هذه الضرورة التي نجدُها في قلوبنا، فإنه ما قال عارفٌ قطُّ: «يا الله» إلا وجدَ من قلبه ضرورةً تطلبُ العلوَّ لا تلتفتُ يمنةً ولا يَسْرة، فكيف ندفعُ هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطَمَ أبو المعالي على رأسه، وقال: حيَّرني الهمذاني! حيَّرني الهمذاني! ونَزَل. _________ (1). رواها الحافظان محمد بن طاهر المقدسي وأبو العلاء العطار عن أبي جعفر, وهوَّل التاج السبكي في إنكارها ولم يأت ببرهان. انظر: «منهاج السنة» (2/ 642) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 50, 54, 4/ 518) , و «الاستقامة» (1/ 167) , و «مجموع الفتاوى» (3/ 220) , و «اجتماع الجيوش الإسلامية» (275) , و «العلو» (582) , و «تاريخ الإسلام» (10/ 427) , و «السير» (18/ 474, 20/ 102) , و «مختصر العلو» للألباني (277) , و «طبقات الشافعية» (5/ 190). (2). محمد بن الحسن, المحدث الحافظ, من أئمة السنة ومشايخ الصوفية (ت: 531). «تاريخ الإسلام» (11/ 554) , و «السير» (20/ 101).

(الكتاب/66)


وذلك لأن نفسَ استوائه على العرش بعد أن خلقَ السموات والأرض في ستة أيامٍ عُلِمَ بالسَّمع الذي جاءت به الرسلُ كما أخبَر به في القرآن والتوراة، وأما كونه عاليًا على مخلوقاته بائنًا منهم فهذا أمرٌ معلومٌ بالفطرة الضرورية التي يشتركُ فيها بنو آدم، وكلُّ من كان بالله أعرف, وله أعبَد، ودعاؤه له أكثر، وقلبُه له أذكَر (1) = كان علمُه الضروريُّ بذلك أقوى وأكمل، فالفطرةُ مكمَّلةٌ بالشِّرْعَة (2) المنزَّلة؛ إذ الفطرة تَعْلَمُ الأمرَ مجملًا والشِّرعة تفصِّلُه وتبيِّنه وتتمِّمه بما لا تستقلُّ الفطرةُ به, فهذا هذا. والله أعلم. والحاصلُ أن كلَّ من استحكَم في بدعته يرى أن يطرُد قياسَه؛ لما فيه من التسوية بين المتماثلَيْن عنده، وإن استلزَم ذلك كثرةَ مخالفة النصوص. وهذا موجودٌ في المسائل العلمية الخَبرية والمسائل العملية الإرادية، تجدُ المتكلمَ قد يَطْرُدُ قياسَه طردًا مستمرًّا، فيكونُ ظاهرَ الأمر أجودَ ممَّن نقَضَه، وتجدُ المُسْتَنَّ الذي شَرِكَه في ذلك القياس قد يقولُ ما يناقِضُ ذلك القياس في مواضع، مع استشعار التناقض تارةً, وبدون استشعاره وهو الأغلب، وربما يَخِيلُ بفروقٍ ضعيفة، فهو في نقض علَّته والتفريق بين المتماثلَيْن فيما يظهر أنه دون الأول في العلم والخبرة وطَرْدِ القول، وليس كذلك، بل هو خيرٌ من الأول؛ فإن ذلك القياس الذي اشتركا فيه كان فاسدًا في أصله لمخالفة النصِّ والقياس الصحيح، فالذي طَرَده أكثرُ فسادًا وتناقضًا من هذا _________ (1). الأصل: «وله أعبد ودعاءه له وقلبه له اكثر واكثر». والمثبت من (ط) حسن. (2). الأصل: «بالفطرة». وهو من سهو الناسخ. وانظر: «الصفدية» (2/ 157) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 471) , و «درء التعارض» (8/ 238, 10/ 277) , و «مجموع الفتاوى» (10/ 146, 13/ 167, 16/ 348).

(الكتاب/67)


الذي نقَضَه. وهذا شأنُ كلِّ من وافق غيرَه على قياسٍ ليس هو في نفس الأمر بحقٍّ، وكان لأحدهما (1) من النصوص في مواضع ما يخالفُ ذلك القياس، وهذا يسمِّيه الفقهاءُ في مواضعَ كثيرة: الاستحسان (2)، فتجدُ القائلين بالاستحسان الذي تركوا فيه القياسَ لنصٍّ خيرًا من الذين طَرَدُوا القياسَ وتركوا النصَّ. ولهذا يروى عن أبي حنيفة أنه قال: «لا تأخذوا بمقاييس زُفَر، فإنكم إن أخذتم بمقاييسه حرَّمتم الحلالَ وحلَّلتم الحرام» (3) , فإن زُفَر كان كثيرَ الطَّرد لما يظنُّه من القياس مع قلَّة علمه بالنصوص (4). _________ (1). الأصل: «أحدهما». والمثبت أقوم بالصواب. (2). انظر: «جامع المسائل» (2/ 143, 163 - قاعدة في الاستحسان). (3). لم أقف عليه, ولم يذكره الكوثري في «لمحات النظر في سيرة الإمام زفر» على شدة تقصيه وسعة اطلاعه, ولا إخاله يصح, وثناء أبي حنيفة على زفر مستفيض, وكان يقول: «هو أقيسُ أصحابي». وأخرج ابن قتيبة في «مختلف الحديث» (110) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1697) عن الشعبي قال: «إياكم والقياس، فإنكم إن أخذتم به حرمتم الحلال وأحللتم الحرام» فهل سبق ذهنُ المصنف إلى هذا؟ ونقل ابن تيمية كذلك (في المصادر التالية) عن أبي حنيفة قوله: «قياس زفر أقبح من البول في المسجد» , والمرويُّ في «المعرفة والتاريخ» ليعقوب بن سفيان (1/ 673) ومن طريقه البيهقي في «المدخل إلى السنن» (243): «من القياس قياسٌ أقبح ... » دون ذكر زفر. (4). انظر: «جامع المسائل» (3/ 413) , و «مجموع الفتاوى» (34/ 124) , و «مختصر الفتاوى المصرية» (624) , و «زاد المعاد» (5/ 399). وفيما ذُكِر من قلة علم زفر بالنصوص نظر, فقد سمع الحديث من طائفة, وإنما لم تتسع الرواية عنه لأنه مات في الكهولة قبل أوان الرواية كما يقول الذهبي في «السير» (8/ 39) , وقال: «كان يدري الحديثَ ويتقنُه» , ونقل عن أبي نعيم الفضل بن دكين: كنت أمرُّ على زفر فيقول: تعال حتى أغربل لك ما سمعتَ. وذكره شيخ الصنعة يحيى بن معين فقال: «ثقة مأمون». وقال ابن حبان في «الثقات» (6/ 339): «كان متقنًا حافظًا قليل الخطأ, لم يسلك مسلك صاحبه في قلة التيقُّظ في الروايات». وناضل دونه ابن قطلوبغا في «الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة» (4/ 313).

(الكتاب/68)


وكان أبو يوسف نظرُه (1) بالعكس، كان أعلمَ بالحديث منه. ولهذا توجدُ المسائلُ التي خالفَ فيها زُفَرُ أصحابَه عامَّتُها قياسيَّة (2)، ولا يكونُ إلا قياسًا ضعيفًا عند التأمُّل، وتوجدُ المسائلُ التي يخالفُ فيها أبو يوسف أبا حنيفة واتَّبعه محمدٌ (3) عليها عامَّتُها اتبع فيها النصوصَ والأقيسةَ الصحيحة؛ لأن أبا يوسف رَحَل بعد موت أبي حنيفة إلى الحجاز، واستفاد من عِلْم السُّنن التي كانت عندهم ما لم تكن مشهورةً بالكوفة، وكان يقول: «لو رأى صاحبي ما رأيتُ لرجعَ كما رجعتُ» (4)؛ لعلمه بأن صاحبَه ما كان يقصدُ إلا اتباعَ الشريعة، لكن قد يكونُ عند غيره من عِلْم السُّنن ما لم يَبْلُغْه. وهذا أيضًا حالُ كثيرٍ من الفقهاء بعضهم مع بعضٍ فيما وافقوه عليه من قياسٍ لم تثبت صحتُه بالأدلة المعتمدة، فإن الموافقة فيه تُوجِبُ طردَه، ثم _________ (1). كذا بالأصل, وهو مستقيم, ويجوز أن تكون: نظيره. (2). انظر بعض الأصول التي خالف فيها زفرُ أصحابَه في «تأسيس النظر» (38 - 47). (3). محمد بن الحسن الشيباني. (4). انظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (4/ 171) , ومختصر «اختلاف العلماء للطحاوي» للجصاص (4/ 158).

(الكتاب/69)


أهل النصوص قد ينقضونه، والذين لا يعلمون النصوصَ يَطْرُدونه. وكذلك هذه حالُ أكثر متكلِّمة أهل الإثبات مع متكلِّمة النفاة في مسائل الصِّفات والقَدَر وغير ذلك، قد يوافقونهم على قياسٍ فيه نفيٌ، ثم يَطْرُده أولئك فينفُون به ما أثبتته النصوص، والمُثْبِتةُ لا تفعل ذلك، بل لا بدَّ من القول بموجَب النصوص، فربما قالوا ببعض معناها وربما فرَّقوا بفرقٍ ضعيف, وأصلُ ذلك موافقةُ أولئك على القياس الضعيف، وذلك في مثل مسائل الجسم والجوهر وغير ذلك (1). وهكذا تجدُ هذا حالَ من أعان ظالمًا في الأفعال، فإن الأفعالَ لا تقعُ إلا عن إرادة، فالظالم يَطْرُد إرادتَه فيصيبُ من أعانه، أو يصيبُ ظلمًا لا يختارُه هذا، فيريدُ المُعِينُ أن ينقُض الطَّردَ ويخُصَّ علَّته, ولهذا يقال: من أعان ظالمًا بُلِيَ به (2). وهذا عامٌّ في جميع الظَّلمة من أهل الأقوال والأعمال وأهل البدع _________ (1). انظر: «درء التعارض» (2/ 201) , و «منهاج السنة» (2/ 331) , و «مجموع الفتاوى» (13/ 304). (2). الأصل في هذا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} , وقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}. انظر: تفسير القرطبي (7/ 85) , و «الأمثال الكامنة في القرآن» للحسين بن الفضل (33) , و «بدائع السلك» لابن الأزرق (2/ 97) , و «مجموع الفتاوى» (28/ 465) , و «البداية والنهاية» (17/ 458). ويروى في ذلك حديثٌ مرفوعٌ لا يصح, أخرجه ابن عساكر (34/ 4) , وانظر: «المقاصد الحسنة» (1063) , و «السلسلة الضعيفة» (1937).

(الكتاب/70)


والفُجور. وكلُّ من خالف الكتاب والسُّنن من خبرٍ أو أمرٍ أو عملٍ فهو ظالم, فإن الله أرسل رسلَه ليقوم الناسُ بالقِسْط، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أفضلهم، وقد بيَّن الله له من القِسْط ما لم يبيِّنه لغيره، وأقدَره منه على ما لم يُقْدِرْ عليه غيرَه، فصار يفعلُ ويأمرُ بما لا يأمرُ به غيرُه ويفعلُه. وذلك أن بني آدم في كثيرٍ من المواضع قد لا يعلمون حقيقةَ القِسْط ولا يَقْدِرُون على فعله، بل ما كان إليه أقربَ وبه أشبهَ كان أمثَل, وهي الطريقةُ المثلى، وقد بسطنا هذا في مواضع (1). قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9] , {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما استطعتم» (2). والمقصود أن ما عند عوامِّ المؤمنين وعلمائهم أهل السُّنة والجماعة من المعرفة, واليقين, والطمأنينة، والجَزْم الحقِّ, والقول الثابت، والقطع بما هم عليه= أمرٌ لا ينازِعُ فيه إلا من سلبه الله العقلَ والدين. وهَبْ أن المخالفَ لا يُسَلِّمُ ذلك، فلا ريبَ أنهم يُخْبِرُون عن أنفسهم بذلك، ويقولون: إنهم يَجِدُون ذلك، وهو وطائفتُه يُخْبِرُون بضدِّ ذلك ولا يَجِدُون عندهم إلا الرَّيب. _________ (1). انظر: «الاستقامة» (1/ 435) , و «جامع المسائل» (2/ 259) , و «مجموع الفتاوى» (10/ 99, 18/ 167, 22/ 132). (2). أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337).

(الكتاب/71)


فأيُّ الطائفتين أحقُّ بأن يكون كلامها [موصوفًا] (1) بالحشو، أو يكونون أولى بالجهل والضلال والإفك والمُحال؟! وكلام المشايخ والأئمة من أهل السُّنة والفقه والمعرفة في هذا الباب أعظمُ من أن نطيل به الخطاب. الوجه الثاني (2): أنك تجدُ أهلَ الكلام أكثرَ الناس انتقالًا من قولٍ إلى قول، وجزمًا بالقول في موضعٍ وجزمًا بنقيضه وتكفير قائله في موضعٍ آخر، وهذا دليلُ عدم اليقين؛ فإن الإيمانَ كما قال فيه قيصرُ لما سأل أبا سفيان عمَّن أسلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل يرجعُ أحدٌ منهم عن دينه سَخْطةً له بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمانُ إذا خالط بشاشتُه القلوبَ لا يَسْخَطُه أحد» (3). ولهذا قال بعض السَّلف ــ عمرُ بن عبد العزيز أو غيرُه ــ: «من جعَل دينَه غَرَضًا للخصومات أكثَر التنقُّل» (4). وأما أهل السُّنة والحديث فما يُعْلَمُ أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامَّتهم _________ (1). زيادة تقديرية من (ط, ف) لالتئام السياق. (2). من وجوه إثبات أن المتكلمين والفلاسفة من أعظم بني آدم حَشْوًا وقولًا للباطل وتكذيبًا للحقِّ في مسائلهم ودلائلهم. وسبق الوجه الأول (ص: 41). (3). أخرجه البخاري (7) ومسلم (1773). (4). أخرجه مالك في «الموطأ» (918 - رواية محمد بن الحسن) , والدارمي (312) , وابن أبي الدنيا في «الصمت» (161) , والفريابي في «القدر» (384) , وغيرهم عن عمر بن عبد العزيز من وجوه صحاح.

(الكتاب/72)


رجعَ قطُّ عن قوله واعتقاده، بل هم أعظمُ الناس صبرًا على ذلك، وإن امتُحِنوا بأنواع المِحَن وفُتِنوا بأنواع الفتن. وهذه حالُ الأنبياء وأتباعِهم من المتقدِّمين (1) كأهل الأخدود ونحوهم، وكسَلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة. حتى كان مالك - رحمه الله - يقول: «لا تَغْبِطُوا أحدًا لم يُصِبْه في هذا الأمر بلاء» (2) , يقول: إن الله لا بدَّ أن يبتلي المؤمن، فإن صبَر رفع درجتَه (3)، كما قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ــ 3]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر]. ومَن صبَر من أهل الأهواء على قوله فذاك لما فيه من الحقِّ؛ إذ لا بدَّ في _________ (1). الأصل: «من الأنبياء المتقدمين». (2). أخرجه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/ 474, 660) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (38/ 343) , وأبو العرب التميمي في «المحن» (297) عن مالك عن عمر بن عبد العزيز قال: «ما أغبط أحدًا ... ». وانظر: «ترتيب المدارك» (2/ 134). (3). انظر: «البيان والتحصيل» (18/ 368).

(الكتاب/73)


كلِّ بدعةٍ عليها طائفةٌ كبيرةٌ من الناس أن يكون فيها من الحقِّ الذي جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ويوافقُ عليه أهلُ السُّنة والحديث ما يوجبُ قبولها؛ إذ الباطلُ المحضُ لا يُقْبَل بحال. وبالجملة, فالثباتُ والاستقرارُ في أهل الحديث والسُّنة أضعافُ أضعافِ أضعافِ ما هو عند أهل الكلام والفلسفة، بل المتفلسِفُ أعظمُ اضطرابًا وحيرةً في أمره من المتكلِّم؛ لأن عند المتكلِّم من الحقِّ الذي تلقَّاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسِف، ولهذا تجدُ مثل أبي الحسين البصري (1) وأمثاله أثبتَ من مثل ابن سينا وأمثاله. وأيضًا تجدُ أهلَ الفلسفة والكلام أعظمَ الناس افتراقًا واختلافًا، مع دعوى كلٍّ منهم أن الذي يقوله حقٌّ مقطوعٌ به قام عليه البرهان. وأهل السُّنة والحديث أعظم الناس اتفاقًا وائتلافًا، وكلُّ من كان من الطوائف إليهم أقربَ كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب. فالمعتزلة أكثرُ اتفاقًا وائتلافًا من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوَّات ــ بل وفي الطبيعيات والرياضيات وصفات الأفلاك ــ من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال, وقد ذَكَر من جَمَع مقالاتِ الأوائل مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب «المقالات» (2) ومثل القاضي أبي بكر في _________ (1). محمد بن علي بن الطيب, شيخ المعتزلة (ت: 436). «السير» (17/ 587). (2). مقالات غير الإسلاميين وهو كتابه الكبير في المقالات. انظر: «الرد على المنطقيين» (334) , و «درء التعارض» (1/ 158) , و «الصفدية» (2/ 294) , و «منهاج السنة» (5/ 283). ولم يعثر عليه بعد.

(الكتاب/74)


كتاب «الدقائق» (1) من مقالاتهم بقدر ما يذكرُه الفارابيُّ وابنُ سينا وأمثالهما أضعافًا مضاعفة. وأهل الإثبات من المتكلِّمين ــ مثل الكُلَّابية والكَرَّامية والأشعرية ــ أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المعتزلة، فإن في المعتزلة من الاختلاف وتكفير بعضهم بعضًا ــ حتى يكفِّر التلميذُ أستاذَه ــ من جنس ما بين الخوارج، وقد ذكر من صنَّف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطولُ وصفُه (2). ولستَ تجدُ اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب أثارَة (3) الأنبياء من القرآن _________ (1). ردَّ فيه على الفلاسفة كثيرًا من مذاهبهم الفاسدة في الأفلاك والنجوم وغيرها, ورجَّح منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان. انظر: المصادر السابقة, وما سيأتي (ص: 323). ولم يعثر عليه كذلك. (2). انظر: «الفَرْق بين الفِرَق» لأبي منصور البغدادي (24, 114, 122, 182, 186, 187, 197) , ومن مصادره فيه وفي كتابه الآخر «فضائح المعتزلة» كتابُ «فضيحة المعتزلة» لابن الراوندي الذي نقض فيه كتاب الجاحظ «فضيلة المعتزلة» وردَّ عليه أبو الحسين الخياط في «الانتصار» وغيره. وممن له مقامٌ معلوم في هذا الباب أبو الحسن الأشعري, قال ابن تيمية: «فإنه بيَّن من فضائح المعتزلة وتناقض أقوالهم وفسادهم ما لم يبيِّنه غيره ... ». انظر: «منهاج السنة» (5/ 276) , و «التسعينية» (960) , و «شرح حديث النزول» (434). (3). كذا بالأصل, وغُيِّرت في (ط) إلى «اتباع آثار». واستعمال الأثارة بمعنى المأثور والآثار في هذا السياق كثيرٌ في كتب المصنف, كما قال تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}. انظر: «الواسطية» (102) , و «جامع المسائل» (5/ 60, 61) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 523, 2/ 458) , و «مجموع الفتاوى» (12/ 33, 20/ 426) , وما سيأتي (ص: 196).

(الكتاب/75)


والحديث وما يتبعُ ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند من ترك ذلك وقدَّم غيرَه عليه. وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] , فأخبَر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهلُ الرحمة هم أتباعُ الأنبياء قولًا وفعلًا، وهم أهلُ القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيءٍ فاته من الرحمة بقَدْر ذلك. ولهذا لما كانت الفلاسفةُ أبعدَ عن اتِّباع الأنبياء كانوا أعظمَ اختلافًا، والخوارجُ والمعتزلةُ والروافضُ لما كانوا أيضًا أبعدَ عن السُّنة والحديث كانوا أعظم افتراقًا في هذه، لاسيَّما الرافضة، فإنه يقال: إنهم أعظمُ الطوائف اختلافًا (1) , وذلك لأنهم أبعدُ الطوائف عن السُّنة والجماعة، بخلاف المعتزلة فإنهم أقربُ إلى ذلك منهم، وكذلك الخوارجُ أقرب إلى ذلك منهم. وأبو محمد بن قتيبة في أول كتاب «مختلف الحديث» (2) لمَّا ذَكَر أهلَ الحديث وأئمَّتهم وأهلَ الكلام وأئمَّتهم قفَّى بذِكْر أئمَّة هؤلاء ووَصَفَ أقوالهم وأعمالهم ووَصَفَ أئمَّة هؤلاء وأقوالهم وأفعالهم, بما يبيِّن لكلِّ أحدٍ أن أهلَ الحديث هم أهلُ الحقِّ والهدى، وأن غيرهم أولى بالضلال والجهل والحَشْو والباطل. _________ (1). انظر: «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (124) , و «درء التعارض» (1/ 157) , و «منهاج السنة» (3/ 468, 469, 484, 6/ 311, 390) , و «الرد على المنطقيين» (334). (2). (65 - 142).

(الكتاب/76)


وأيضًا, فالمخالفون لأهل الحديث هم مَظِنَّةُ فسادِ الأعمال، إما عن سوء عقيدةٍ ونفاق، وإما عن مرضٍ في القلب وضعفِ إيمان, ففيهم مِن تَرْكِ الواجبات واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب ما هو ظاهرٌ لكلِّ أحد، وعامةُ شيوخهم يُرْمَون بالعظائم (1)، وإن كان فيهم من هو معروفٌ بزهدٍ وعبادةٍ ففي زهدِ بعض العامة من أهل السُّنة وعبادته ما هو أرجحُ مما هو فيه. ومن المعلوم أن العلمَ أصلُ العمل، وصحةُ الأصول تُوجِبُ صحةَ الفروع، والرجلُ لا يَصْدُر عنه فسادُ العمل إلا لشيئين: إما لحاجةٍ وإما لجهل، فأما العالِمُ بقُبح الشيء الغنيُّ عنه فلا يفعلُه، اللهم إلا من غَلَبَ عقلَه هواه واستولت عليه المعاصي، فذاك لونٌ آخرُ وضربٌ ثانٍ. وأيضًا, فإنه لا يُعْرَفُ من أهل الكلام أحدٌ إلا وله في الإسلام مقالةٌ يكفِّرُ قائلَها عمومُ المسلمين حتى أصحابُه، وفي التعميم ما يُغْنِي عن التعيين، فأيُّ فريقٍ أحقُّ بالحَشْو والضلال من هؤلاء؟! وذلك يقتضي وجودَ الرِّدَّة فيهم، كما يوجدُ النفاقُ فيهم كثيرًا. وهذا إذا كان في المقالات الخفيَّة فقد يقال: إنه فيها مخطئٌ ضالٌّ لم تَقُم عليه الحجةُ التي يَكْفُر صاحبُها (2)، لكنَّ ذلك يقعُ في طوائفَ منهم في _________ (1). ذكر ابن قتيبة في كتابه (66, 94, 99, 112) نُبذًا من ذلك. (2). هذا الموضع كثير الدوران في كتب أئمة الدعوة النجدية رحمهم الله, وهو من أهمِّ ما يُسْتَدلُّ به على نسبة القول بالتفريق بين المسائل الخفية والظاهرة في باب الإعذار بالجهل إلى ابن تيمية. والظاهر لمن تأمل قواعد أبي العباس وأصوله وجمع متفرق كلامه أن المعتبر عنده في العذر تحقُّقُ وصف الجهل في المعيَّن وعدم قيام الحجة الرسالية عليه, دون تفريق بين المسائل العلمية والعملية في أصول الدين وفروعه, وأن الظهور والخفاء عنده من الأمور النسبية التي تختلفُ باختلاف مدارك الناس وأزمانهم وبلدانهم, فلا يصحُّ تعليق العذر بها. وانظر لتوجيه هذا النص وتحرير مذهب شيخ الإسلام كتاب «إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي» لسلطان العميري (40 - 53, 319 - 341).

(الكتاب/77)


الأمور الظاهرة التي يعلمُ العامَّة والخاصَّة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهودُ والنصارى يعلمون أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ بها وكفَّر مخالفَها، مثلُ أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحدٍ سوى الله من الملائكة والنبيِّين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهرُ شعائر الإسلام، ومثلُ أمره بالصلوات الخمس وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثلُ معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثلُ تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك. ثم تجدُ كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور (1) , فكانوا مرتدِّين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام، كرؤوس العشائر مثل الأقرع بن حابِس وعُيينة بن حِصْن ونحوهم ممن ارتدَّ عن الإسلام ثم دخَل فيه, ففيهم من كان يتَّهمُ بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك. أو يقال: هُم لما فيهم من العلم يُشَبَّهون بعبد الله بن أبي سَرْحٍ الذي كان كاتبَ الوحي، فارتدَّ ولحق بالمشركين، فأهدرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دمَه عام الفتح، ثم أتى به عثمانُ إليه فبايعَه على الإسلام (2). _________ (1). الأصل: «وقعوا في عظائم حرفوا بها الشريعة». ووضع الناسخ فوقها حـ ممدودة, وكتب فوقها العبارة التي أثبتُّ في المتن, وانظر ما مضى (ص: 36). (2). أخرجه أبو داود (2683) والنسائي (4067) وغيرهما, وصححه الحاكم (3/ 45) على شرط مسلم ولم يتعقبه الذهبي, وخرَّجه الضياء في المختارة (1054, 1055) , وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 449).

(الكتاب/78)


فمن صنَّف في مذهب المشركين ونحوهم أحسنُ أحواله أن يكون أسْلَم (1). فكثيرٌ من رؤوس هؤلاء هكذا تجدُه تارةً يرتدُّ عن الإسلام ردَّةً صريحة، وتارةً يعودُ إليه مع مرضٍ في قلبه ونفاق، وقد يكونُ له حالٌ ثالثةٌ يَغْلِبُ الإيمانُ فيها النفاقَ، لكن قلَّ أن يَسْلَمُوا مِن نوع نفاق، والحكاياتُ عنهم بذلك مشهورة, وقد ذكر ابنُ قتيبة من ذلك طرفًا في أول «مختلف الحديث» (2)، فقد حُكِيَ عن الجهم بن صفوان أنه ترك الصلاة أربعين يومًا لا يرى وجوبها (3)، وحكى أهلُ المقالات بعضُهم عن بعضٍ من ذلك طرفًا، كما يذكرُه أبو عيسى الورَّاق (4) , والنَّوْبَخْتي (5) , وأبو الحسن الأشعري, _________ (1). أي عاد إلى الإسلام. وفي (ط): «أن يكون مسلما» , وهو مفسد للمعنى. والمقصود بهذا الرازي كما سيأتي. (2). (66, 94, 99, 112). (3). أخرج الحكاية عبد الله بن أحمد في «السنة» (189) , والخلال في «السنة» (1679, 1688) , واللالكائي (630) , وابن بطه في «الإبانة» (6/ 89, 94) , وغيرهم. (4). محمد بن هارون (ت: 247) , كان من أئمة الاعتزال ثم مال إلى الرفض, واتُّهِم بالزندقة, له كتاب مشهور في المقالات, قال ابن تيمية: «هو من المصنفين للرافضة المتهمين في كثير مما ينقلونه». انظر: «الفهرست» (2/ 600) , و «مروج الذهب» (4/ 105) , و «منهاج السنة» (6/ 301) , و «تاريخ الإسلام» (5/ 1249) , و «طريق الهجرتين» (333) , و «لسان الميزان» (7/ 559) , و «أعيان الشيعة» (47/ 105). (5). الحسن بن موسى (ت: 300) , متكلمٌ فيلسوفٌ تدعيه الشيعة والمعتزلة, له كتاب «الآراء والديانات» , ونُشِر له كتاب «فرق الشيعة». انظر: «الفهرست» (2/ 636) , و «منهاج السنة» (1/ 72) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 559) , و «تاريخ الإسلام» (7/ 179) , و «الوافي» (12/ 280) , و «لسان الميزان» (3/ 126) , و «أعيان الشيعة» (23/ 333).

(الكتاب/79)


والقاضي أبو بكر بن الباقلاني, وأبو عبد الله الشَّهْرَستاني, وغيرُهم ممَّن يذكُر مقالاتِ أهل الكلام. وأبلغُ من ذلك أن منهم من يصنِّفُ في دين المشركين والردَّة عن الإسلام، كما صنَّف الرازيُّ كتابه في عبادة الكواكب والأصنام (1)، وأقام الأدلة على حُسْن ذلك ومنفعته, ورغَّب فيه، وهذه ردَّةٌ عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكونُ عاد إلى الإسلام. ومن العجب أن أهلَ الكلام يزعمون أن أهلَ الحديث والسُّنة أهلُ _________ (1). المسمى بـ «السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم» , وأنكر السبكيُّ نسبته إليه دون بينة, وهو بأسلوبه أشبه, وقد أحال عليه في كتبه, وقيل: إنه صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد, ولزين الدين الملطي (ت: 788) في الرد عليه: «انقضاض البازي في انفضاض الرازي». نسخه الخطية كثيرة وطبع في الهند طبعة حجرية. انظر: «درء التعارض» (1/ 111, 311, 2/ 113) , و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 53) , و «الرد على المنطقيين» (286, 544) , و «مجموع الفتاوى» (5/ 548, 13/ 180, 16/ 213) , و «ميزان الاعتدال» (3/ 340) , و «طبقات الشافعية» لابن السبكي (8/ 87) , ولابن قاضي شهبة (2/ 67) , و «تفسير ابن كثير» (1/ 541) , و «طبقات الشافعية» له (779) , و «كشف الظنون» (989) , و «الفوائد البهية» للكنوي (192) , و «فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية» للزركان (52, 109 - 111) , و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (2/ 666).

(الكتاب/80)


تقليدٍ ليسوا أهلَ نظرٍ واستدلال، وأنهم ينكرون حجَّة العقل، وربما حَكَوا إنكار النظر (1) عن بعض أئمة السُّنة، وهذا مما ينكرونه عليهم. فيقال لهم: ليس هذا بحقٍّ، فإن أهل السُّنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصلٌ متفقٌ عليه بينهم, والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكُّر والتدبُّر في غير آية، ولا يُعْرَفُ عن أحدٍ من سلف الأمة ولا أئمة السُّنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلُّهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعةُ من النظر والتفكُّر والاعتبار والتدبُّر وغير ذلك، ولكن وقعَ اشتراكٌ في لفظ «النظر والاستدلال» ولفظ «الكلام» (2) , فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطلِ نظرِهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزِمٌ لإنكار جنس النظر والاستدلال! وهذا كما أن كلَّ طائفةٍ من أهل الكلام يسمِّي ما وضعَه «أصول الدين»، وهذا اسمٌ عظيم، والمسمَّى فيه من فساد الدين ما الله به عليم (3)، فإذا أنكر أهلُ الحقِّ والسُّنة ذلك قال المُبْطِل: قد أنكروا أصولَ الدين! وهم لم يُنكِروا ما يستحقُّ أن يسمَّى «أصول الدين»، وإنما أنكروا ما سمَّاه هذا «أصول الدين»، وهي أسماءٌ سمَّوْها هم وآباؤهم (4) ما أنزل الله بها من _________ (1). الأصل: «الضرر». تحريف ظاهر, نبه عليه في حاشية (ط) وأصلح في (ف). (2). انظر: «درء التعارض» (7/ 184, 420) , و «النبوات» (290, 619) , و «مجموع الفتاوى» (13/ 147). (3). انظر: «النبوات» (330, 613) , و «درء التعارض» (1/ 38, 41) , و «الفتاوى» (3/ 303, 305). (4). الأصل: «وآباؤهم بأسماء». من سهو الناسخ.

(الكتاب/81)


سلطان. فالدينُ ما شرَعه الله ورسوله، وقد بيَّن أصولَه وفروعَه، ومن المحال أن يكون الرسولُ قد بيَّن فروعَ الدين دون أصوله، كما قد بينَّا هذا في غير هذا الموضع (1). فهكذا لفظ «النظر، والاعتبار، والاستدلال». وعامَّةُ هذه الضلالات إنما تَطْرُقُ من لم يعتصم بالكتاب والسُّنة، كما كان الزُّهريُّ يقول: «كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسُّنة هو النجاة» (2)، وقال مالك: «السُّنة سفينةُ نوح، من رَكِبَها نجا، ومن تخلَّف عنها غَرِق» (3). وذلك أن السُّنة والشريعة والمنهاج هو الصراطُ المستقيمُ الذي يُوصِلُ العبادَ إلى الله, والرسول هو الدليلُ الهادي الخِرِّيتُ (4) في هذا الصراط، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ _________ (1). انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 155 - 202) , ونُشِر هذا الفصل مفردًا وضمن عدة مجموعات بعنوان «معارج الوصول إلى أن معرفة أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول». (2). أخرجه الدارمي (97)، واللالكائي (15, 136)، وأبو نعيم (3/ 369) , وغيرهم من وجوهٍ أحسنَ سياقها أبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (495). (3). أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 309) , وأبو إسماعيل الأنصاري الهروي في «ذم الكلام» (885). (4). الماهر. وفي الأصل: «الهادي الخريت الدليل» , والمثبت من (ط) أصح.

(الكتاب/82)


مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وقال عبد الله بن مسعود: «خَطَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا، وخَطَّ خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذا سبيلُ الله، وهذه سُبُلٌ على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه» , ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1). وإذا تأمَّل العاقلُ الذي يرجو لقاء الله هذا المثال، وتأمَّل سائرَ الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية والرافضة، ومَن أقربُ منهم إلى السُّنة من أهل الكلام، مثل الكرَّامية والكُلَّابية والأشعريَّة وغيرهم، وأن كلًّا منهم له سبيلٌ يَخْرُجُ عمَّا عليه الصحابةُ وأهلُ الحديث، ويدَّعي أن سبيله هو الصوابُ= وجدتَ أنهم المرادُ بهذا المثال الذي ضربه المعصومُ الذي لا يتكلَّم عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى (2). والعجبُ أن مِن هؤلاء من يصرِّحُ بأن عقلَه إذا عارضه الحديثُ ــ لا سيَّما في أخبار الصفات ــ حَمَل الحديثَ على عقله, وصرَّح بتقديمه على الحديث، وجعله ميزانًا للحديث! _________ (1). أخرجه سعيد بن منصور في التفسير من «السنن» (935) , وأحمد (4142) , والبزار (1718) وغيرهم بإسنادٍ حسن, وصححه ابن حبان (6) , والحاكم (2/ 318). (2). لم أر تفسير الحديث بهذه الطوائف في غير هذا الموضع من كتب المصنف.

(الكتاب/83)


فليت شعري هل عقلُه هذا كان مصرَّحا بتقديمه في الشريعة المحمَّدية، فيكون من السبيل المأمور باتباعه، أم هو عقلُ مبتدعٍ جاهلٍ ضالٍّ حائرٍ (1) خارجٍ عن السبيل؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله. وهؤلاء الاتحاديةُ وأمثالهم إنما أُتوا من قلَّة العلم والإيمان بصفات الله التي يتميَّز بها عن المخلوقات، وقلة اتباع السُّنة وطريقة السَّلف في ذلك، بل قد يعتقدون من التجهُّم ما ينافي السُّنة، تلقِّيًا لذلك عن متفلسفٍ أو متكلِّم، فيكونُ ذلك الاعتقادُ صادًّا لهم عن سبيل الله، كلما أرادت قلوبُهم أن تتقرَّب إلى ربها وتسلكَ الصراط المستقيم إليه وتعبدَه كما فُطِروا عليه وكما بلَّغَتْهم الرسلُ من علوِّه وعظمته= صَرَفَتْهم تلك العوائقُ المُضِلَّةُ عن ذلك. حتى تجد خلقًا من مقلِّدة الجهمية يوافقُهم بلسانه، وأما قلبُه فعلى الفطرة والسُّنة، وأكثرُهم لا يفهمون النفيَ الذي يقولونه بألسنتهم، بل يجعلونه تنزيهًا مطلقًا مجملًا. ومنهم من لا يفهمُ قول الجهمية، بل يفهمُ من النفي معنًى صحيحًا، ويعتقدُ أن المُثْبِتَ يثبتُ نقيض ذلك، ويسمعُ من بعض الناس ذِكْرَ ذلك. مثل أن يفهمَ من قولهم: ليس بجهة، ولا له مكان، ولا هو في السماء, أنه ليس في جوف السموات. وهذا معنًى صحيح، وإيمانُه بذلك حقٌّ، ولكنْ يظنُّ أن الذين قالوا هذا النفيَ اقتصروا على ذلك، وليس كذلك، بل مرادُهم أنه ما فوق العرش شيءٌ أصلًا، ولا فوق السموات إلا عدمٌ محض، ليس _________ (1). الأصل: «جائر» , وهو محتمل, والمثبت من (ط) أشبه.

(الكتاب/84)


هناك إلهٌ يُعْبَد، ولا ربٌّ يُدْعى ويُسْأل، ولا خالقٌ خلقَ الخلائق, ولا عُرِجَ بالنبيِّ إلى ربِّه أصلًا. هذا مقصودهم (1). وهذا هو الذي أوقع الاتحادية في قولهم: هو نفس الموجودات (2)، إذ لم تجد قلوبهم موجودًا إلا هذه الموجودات إذا لم يكن فوقها شيءٌ آخر، وهذا من المعارف الفطرية الشُّهودية الوجودية أنه ليس إلا هذا الوجودُ المخلوقُ أو وجودٌ آخر مباينٌ له متميِّزٌ عنه، لا سيَّما إذا علموا أن الأفلاك مستديرةٌ وأن الأعلى هو المحيط, فإنهم يعلمون أنه ليس إلا هذا الوجودُ المخلوق أو موجودٌ فوقه، فإذا اعتقدوا مع ذلك أنه ليس هناك وجودٌ آخر ولا فوق العالم شيءٌ، لزم أن يقولوا: هو هذا الوجودُ المخلوق، كما قال الاتحادية. وهذه بعينها حجةُ الاتحادية. وهذا بعينه مَشْرَبُ قُدَماء الجهمية وحُدَثائهم (3) , كما يقولون: هو في كلِّ مكان، وليس هو في مكان، ولا يختصُّ بشيء. يجمعون دائمًا بين القولين المتناقضين؛ لأنهم يريدون إثبات موجودٍ، وليس عندهم شيءٌ فوق العالم، فتعيَّن أن يكون هو العالمَ أو يكون فيه، ثم يريدون إثباتَ شيءٍ غير _________ (1). انظر: «التسعينية» (192, 194). (2). انظر: «جامع المسائل» (4/ 417) , و «المستدرك على الفتاوى» (1/ 37). (3). انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 151, 4/ 558, 5/ 35) , و «الرد على الشاذلي» (169, 174) , و «بغية المرتاد» (350, 411) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 466, 5/ 272, 13/ 150).

(الكتاب/85)


المخلوق فيقولون: ليس في العالم كما ليس خارجًا عنه، أو يقولون: هو وجودُ المخلوقات دونَ أعيانها، أو يقولون: هو الوجود المطلق، فيتشابهون فيما ينفونه (1)، إذ كانت قلوبهم متشابهةً في النفي والتعطيل، وهو إنكارُ موجودٍ حقيقيٍّ مباينٍ للمخلوقات عالٍ عليها, وإنما يفترقون فيما يثبتونه. ويُكْرِهُون فِطَرهم وعقولهم على قبول المحال المتناقض: * فيقولون: هو في العالم وليس هو فيه، أو هو العالم وليس إيَّاه. * أو يغلِّبون الإثبات, فيقولون: بل هو نفس الوجود. * أو النفي, فيقولون: ليس في العالم ولا خارجًا عنه. * أو يَدِينُون بالإثبات في حالٍ وبالنفي في حال، إذا غلبَ على أحدهم عقلُه غلَّب النفيَ وهو أنه ليس في العالم، وإذا غلبَ عليه الوَجْدُ والعبادةُ رجَّح الإثباتَ وهو أنه في هذا الوجود أو هو هو. لا تجدُ جهميًّا إلا على أحد هذه الوجوه الأربعة، وإن تنوَّعوا فيما يثبتونه ــ كما ذكرته لك ــ فهم مشتركون في التعطيل (2). وقد رأيتُ منهم ومِن كتبهم وسمعتُ منهم وممَّن يخبرُ عنهم من ذلك ما شاء الله, وكلُّهم على هذه الأحوال ضالُّون عن معبودهم وإلههم وخالقهم، ثم رأيتُ كلام السَّلف والأئمة كلهم يصفونهم بمثل ذلك، فمنَّ الله علينا باتباع سبيل المؤمنين وآمنَّا بالله وبرسوله. _________ (1). الأصل: «فيثبتون ما يثبتونه». وهو تحريف. (2). انظر: «الصفدية» (1/ 263) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 298).

(الكتاب/86)


وكلُّ هؤلاء تجدُ نفسَه مضطربةً في هذا الاعتقاد؛ لتناقضه في نفسه, وإنما يُسَكِّنُ بعضَ اضطرابه نوعُ تقليدٍ لمعظَّم عنده، أو خوفُه من مخالفة أصحابه، أو زعمُه أن هذا مِن حُكم الوهم والخيال دون العقل. وهذا التناقض في إثبات هذا الموجودِ الذي ليس بخارجٍ عن العالم ولا هو العالم, الذي تردُّه فِطَرهم وشُهودهم وعقولهم, غيرُ ما في الفطرة من الإقرار بصانعٍ فوق العالم، فإن هذا إقرارُ الفطرة بالحقِّ المعروف، وذاك إنكارُ الفطرة للباطل (1) المنكر. ومن هذا الباب ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة أن الشيخ أبا جعفر الهمَذاني حضر مرَّةً والأستاذ أبو المعالي يذكُر على المنبر: «كان اللهُ ولا عَرْش» , ونفى الاستواء، على ما عُرِفَ من قوله, وإن كان في آخر عمره رجَعَ عن هذه العقيدة ومات على دين أمِّه وعجائز نيسابور. قال: فقال الشيخ أبو جعفر: يا أستاذ، دعنا مِن ذِكْر العرش ــ يعني لأن ذلك إنما جاء في السَّمع ــ, أخبِرْنا عن هذه الضرورة التي نجدُها في قلوبنا, ما قال عارفٌ قطُّ: «يا الله» إلا وجدَ من قلبه معنًى يطلبُ العلوَّ لا يلتفتُ يمنةً ولا يَسْرَة، فكيف ندفعُ هذه الضرورة عن قلوبنا؟ ! فصَرخَ أبو المعالي, ووضع يده على رأسه، وقال: حيَّرني الهمذاني ــ أو كما قال ــ , ونَزَل (2). فهذا الشيخُ تكلَّم بلسان جميع بني آدم، فأخبرَ أن العرشَ والعلمَ _________ (1). الأصل: «بالباطل». من سهو الناسخ. (2). تقدم الكلام على الحكاية (ص: 66).

(الكتاب/87)


باستواء الله عليه إنما أُخِذَ من جهة الشرع وخبَرِ الكتاب والسُّنة, بخلاف الإقرار بعلوِّ الله على الخلق من غير تعيين عرشٍ ولا استواء، فإن هذا أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ نجدُه في قلوبنا نحن وجميعُ من يدعو الله تعالى, فكيف ندفعُ هذه الضرورة عن قلوبنا؟! والجارية التي قال لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أين الله؟» قالت: في السماء، قال: «أعتِقْها فإنها مؤمنة» (1) جاريةٌ أعجمية، أرأيتَ مَنْ فقَّهَها وأخبَرها بما ذكرته؟! وإنما أخبَرت عن الفطرة التي فطرها الله تعالى [عليها]، وأقرَّها - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وشَهِدَ لها بالإيمان. فليتأمَّل العاقلُ ذلك يَجِدْه هاديًا له على معرفة ربه (2) والإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمِّقون والمتشدِّقون ممَّن سوَّل لهم الشيطانُ وأملى لهم. ومن أمثلة ذلك: أن الذين لبَسوا الكلامَ بالفلسفة (3) من أكابر المتكلمين تجدُهم يعدُّون من الأسرار المَصُونة والعلوم المخزونة ما إذا تدبَّره من له أدنى عقلٍ ودينٍ وجدَ فيه من الجهل والضلال ما لم يكن يظنُّ أنه يقعُ فيه هؤلاء، حتى قد يكذِّبُ بصدور ذلك عنهم. _________ (1). أخرجه مسلم (537). (2). كذا في الأصل, على تضمين «هاديًا» معنى «دليلًا». (3). أي خلطوه بها, كالرازي والآمدي والشهرستاني. انظر: «منهاج السنة» (3/ 293, 303) , و «الرد على الشاذلي» (140) , و «الصفدية» (2/ 113) , و «مجموع الفتاوى» (17/ 327).

(الكتاب/88)


مثل تفسير حديث المعراج الذي لأبي عبد الله الرازي (1) الذي احتذى فيه حذو ابن سينا وعَيْن القضاة الهمَذاني (2)، فإنه روى حديثَ المعراج بسياقٍ طويلٍ وأسماءٍ عجيبةٍ وترتيبٍ لا يوجدُ في شيءٍ من كتب المسلمين، لا في الأحاديث الصحيحة ولا الحسنة ولا الضعيفة المروية عند أهل العلم، وإنما وضعه بعض السُّؤَّال والطُّرُقيَّة أو بعض شياطين الوعَّاظ أو بعض الزنادقة. ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة (3) , وعُدوله عمَّا يوجدُ في هذه الكتب إلى ما لم يُسْمَعْ من عالِمٍ ولا يوجدُ في أثارةٍ من علمٍ= فسَّره بتفسير الصَّابئة الضالَّة المنجِّمين، وجعَل مضمون معراج الرسول ترقِّيه بفِكْره إلى الأفلاك، وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب، فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس, والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق (4). ثم إنه يعظِّمُ ذلك ويجعلُه من الأسرار والمعارف التي يجبُ صونُها _________ (1). فخر الدين الرازي. (2). عبد الله بن محمد بن علي الميانجي, فقيه متكلِّم, أفتى جماعة من العلماء بإباحة دمه فقُتِل وصُلِب سنة 525. قال الذهبي: رأيت شيئا من كلامه فإذا هو كلامٌ خبيثٌ على طريق الفلاسفة والباطنية. انظر: «تاريخ الإسلام» (11/ 433) , و «لسان الميزان» (6/ 291) , و «إرشاد الأريب» (1550). (3). جمع ابن كثير رواياته في تفسيره (8/ 374 - 430). (4). انظر: «الرد على المنطقيين» (545) , و «الصفدية» (1/ 266).

(الكتاب/89)


وسترُها عن أفهام المؤمنين وعلمائهم (1) , حتى إن طائفةً ممن كانوا يعظِّمونه لمَّا رأوا ذلك تعجَّبوا منه غاية التعجُّب، وجعل بعض المتعصِّبين له يدفعُ ذلك حتى أرَوْه النسخة بخطِّ بعض المشايخ المعروفين الخبيرين بحاله, وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سمَّاه «المطالب العالية» (2) وجمع فيه عامَّة آراء الفلاسفة والمتكلمين. وتجدُ أبا حامدٍ الغزالي ــ مع أن له من العلم بالفقه والتصوُّف والكلام والأصول وغير ذلك، مع الزُّهد والعبادة وحُسْن القصد، وتبحُّره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك ــ يذكرُ في كتاب «الأربعين» (3) ونحوِه كتابَه «المضنونُ به على غير أهله» , فإذا طلبتَ ذلك الكتاب واعتبرتَ (4) فيه أسرارَ الحقائق وغايةَ المطالب وجدتَه قولَ الصَّابئة المتفلسفة بعينِه قد غُيِّرَت عباراتُه وترتيبُه (5) , ومن لم يَعْلَمْ حقائقَ مقالات العباد ومقالات أهل المِلَل يعتقدُ أن ذاك هو السِّرُّ الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر (6)، وأنه هو الذي _________ (1). انظر: «درء التعارض» (8/ 245). (2). لم أجده في المطبوع منه, ولعله في بعض نسخه, وعزاه إليه كذلك في موضع آخر «مجموع الفتاوى» (6/ 6) , وفي «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 337) ما يفيد أنه مؤلَّفٌ مستقل, ولم يذكره الزركان في كتابه. (3). (ص: 39) قال: «وإن أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة من غير مجمجة ولا مراقبة فلا تصادفه إلا في بعض كتبنا المضنون بها على غير أهلها». (4). الأصل: «واعتقدت». والمثبت أشبه بالصواب. (5). انظر: «الصفدية» (1/ 230, 265) , و «شرح الأصبهانية» (579, 625, 652) , و «الرد على المنطقيين» (195, 282) , و «الرد على الشاذلي» (41, 59, 60, 108, 134) , و «مجموع الفتاوى» (17/ 333). (6). في الخبر المكذوب الذي سيأتي (ص: 111).

(الكتاب/90)


يطَّلعُ عليه المكاشَفون الذين أدركوا الحقائق بنورٍ إلهيٍّ! فإن أبا حامدٍ كثيرًا ما يحيلُ في كتبه على ذلك النور الإلهيِّ (1) , وعلى ما يعتقدُ أنه يوجَدُ للصوفية والعُبَّاد برياضتهم وديانتهم من إدراك الحقائق وكَشْفِها لهم حتى يَزِنُوا بذلك ما ورد به الشرع. وسببُ ذلك أنه كان قد عَلِمَ بذكائه وصِدْق طلبه ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب، وآتاه الله إيمانًا مجملًا كما أخبر به عن نفسه، وصار يتشوَّفُ إلى تفصيل الجملة، فيجدُ في كلام المشايخ والصُّوفية ما هو أقربُ إلى الحقِّ وأولى بالتحقيق من كلام الفلاسفة والمتكلمين, والأمرُ كما وَجَدَه، لكن لم يَبْلُغْه من الميراث (2) الذي عند خاصَّة الأمة من العلوم والأحوال ما وصل إليه السابقون الأولون من العلم والعبادة حتى نالوا من المكاشَفات العِلمية والمعاملات العِبَادية ما لم ينله أولئك، فصار يعتقدُ أن تفصيلَ تلك الجملة يحصُل بمجرَّد تلك الطريق، حيث لم يكن عنده طريقٌ غيرها؛ لانسداد الطريقة الخاصَّة السُّنية النبوية بما كان عنده من قلَّة العلم بها ومن الشبهات التي تَقَلَّدها عن المتفلسفة والمتكلمين حتى حالوا بها بينه وبين تلك الطريقة. ولهذا كان كثيرَ الذمِّ لهذه الحوائل ولطريقة العلم, وإنما ذاك لعِلْمه الذي سَلَكه والذي حُجِبَ به عن حقيقة المتابعة للرسالة, وليس هو بعلمٍ، _________ (1). انظر: «الإحياء» (1/ 94, 104, 4/ 307, 426) , و «المنقذ من الضلال» (115) , و «مشكاة الأنوار» (39, 63, 93) , و «ميزان العمل» (244). (2). (ط): «الميراث النبوي».

(الكتاب/91)


وإنما هو عقائدُ فلسفيةٌ وكلاميَّة، كما قال السَّلف: «العلمُ بالكلام هو الجهل» (1)، وكما قال أبو يوسف: «من طلب العلمَ بالكلام تزندق» (2). ولهذا صار طائفةٌ ممن يرى فضيلته وديانته يَدْفَعُون وجودَ هذه الكتب عنه، حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبد السلام (3) فيما عُلِّق عنه (4) يُنْكِرُ أن يكون «بداية الهداية» من تصنيفه, ويقول: إنما هو تقوُّلٌ عليه، مع أن هذه الكتب مقبولها أضعافُ مردودها، والمردودُ منها أمورٌ مجملة، وليس فيها عقائدُ ولا أصول الدين (5). _________ (1). أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 538, 16/ 372) , وابن بطه في «الإبانة» (2/ 536) وغيرهما عن أبي يوسف. ويروى عن الشافعي, أخرجه أبو القاسم التيمي في «الحجة» (1/ 224). (2). أخرجه وكيع في «أخبار القضاة» (3/ 258) , وابن بطه في «الإبانة» (2/ 537) , واللالكائي في «السنة» (305) وغيرهم بإسنادٍ صحيح. ورواه ابن نقطة في «التقييد» (1/ 461) عن أبي يوسف عن مجالد عن الشعبي, وهو منكر, ولم يكن الكلام قد عُرِفَ لذلك العهد, ولعله دخل في النسخة حديثٌ في حديث. وأخرج أبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (873) عن مالك: «من طلب الدين بالكلام تزندق». (3) العز بن عبد السلام (ت: 660). وانظر ما تقدم (ص: 25). (4) الأصل: «علقه عنه». ولا وجه له. (5) كتاب «بداية الهداية» جعله الغزالي ثلاثة أقسام: ذكر الطاعات وآدابها, واجتناب المعاصي, وآداب الصحبة والمعاشرة. نسخه الخطية كثيرة جدًّا, وبعضها في زمن مؤلفه, ولم أقف على من شكَّك في ثبوته, وهو مشهورٌ عند الشافعية, وشرحه واختصره منهم غير واحد, ونسبه إليه ابن الصلاح في «طبقات الشافعية» (1/ 249) وغيره. وذكر السِّلَفي في «معجم السفر» (450) عن أبي الحسن علي بن سند بن عياش الغساني أنه لقي الغزالي بالحجاز وقرأ عليه من أول «بداية الهداية» وأجازه بباقيه. وسمعه من الغزالي كذلك موسى بن هارون التجيبي كما في «تكملة الصلة» (2/ 174). وانظر: «مشيخة القزويني» (524) , و «تجريد أسانيد الكتب المشهورة» لابن حجر (402) , و «صلة الخلف» (141) , و «مؤلفات الغزالي» لعبد الرحمن بدوي (138) , و «جامع الشروح والحواشي» (1/ 508).

(الكتاب/92)


وأما «المضنونُ به على غير أهله» فقد كان طائفةٌ أخرى من العلماء يكذِّبون به عنه (1)، وأما أهلُ الخبرة به وبحاله فيعلمون أن هذا كلَّه كلامُه؛ لعلمهم بموادِّ كلامه ومشابهة بعضه بعضًا (2). _________ (1) كابن الصلاح في «طبقات الشافعية» (1/ 263) , والإسنوي (2/ 112) , وتاج الدين السبكي (6/ 257) , والمعلمي في تعليقه على «الإخنائية» (39). (2) ومن أولئك د. سليمان دنيا في كتابه «الحقيقة في نظر الغزالي» (89 - 105) , وقال: «الذي يقرأ هذا الكتاب بعد أن يكون قد أكثر من القراءة في كتب الغزالي, حتى عرف روح المؤلف وأسلوبه, والأمثلة والشواهد التي يكثر دورانها على لسانه, يخالطه شعورٌ قويٌّ بأن الكتاب للغزالي». وانظر: «الأخلاق عند الغزالي» لزكي مبارك (120) , و «دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي» لحسام الدين الآلوسي (241) , و «مؤلفات الغزالي» لعبد الرحمن بدوي (154) , و «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» للمحمود (2/ 625) , و «موقف ابن تيمية من قضية التأويل» للجليند (197). ويظهر من كلام المصنف هنا ومواضع أخرى ميله لتصحيح نسبة الكتاب لأبي حامد وأن الأشبه رجوعه عنه كما تدل عليه كتبه التي فيها ذمُّ الفلاسفة وتكفيرهم, وكما سيأتي (ص: 105) من رجوعه إلى طريقة أهل الحديث آخر عمره. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 329) , و «الصفدية» (1/ 212) , و «منهاج السنة» (2/ 359, 8/ 21) , و «الرد على الشاذلي» (41) , و «مجموع الفتاوى» (13/ 238) , و «جامع الرسائل» (1/ 169).

(الكتاب/93)


ولكن كان هو وأمثاله ــ كما قدمتُ ــ مضطربين لا يَثْبُتون على قولٍ ثابت؛ لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوَّفون به إلى طريقةِ خاصَّةِ الخلق، ولم يقدَّر لهم سلوكُ طريقِ خاصَّةِ هذه الأمة الذين ورثوا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - العلمَ والإيمان، وهم أهلُ حقائق الإيمان والقرآن ــ كما قدَّمناه ــ وأهلُ الفهم لكتاب الله والعلم والفهم لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وإتْباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة. ولهذا كان الشيخُ أبو عمرو بن الصلاح يقول ــ فيما رأيتُه بخطِّه ــ: «أبو حامدٍ كَثُر القولُ فيه ومنه، فأما هذه الكتب ــ يعني المخالِفةَ للحقِّ ــ فلا يُلْتَفَتُ إليها, وأما الرجلُ فيُسْكَتُ عنه ويُفَوَّض أمرُه إلى الله». ومقصودُه أنه لا يُذْكَر بسوء؛ لأن عفوَ الله عن الناسي والمخطئ وتوبةَ المذنب تأتي على كلِّ ذنب، وذلك مِن أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره (1) وتكفيرَه الذنوب بالمصائب تأتي على مُحَقَّق الذنوب (2)، فلا يُقْدِمُ الإنسانُ على انتفاء ذلك في حقِّ معيَّنٍ إلا ببصيرة، لا سيَّما مع كثرة الإحسان والعلم الصَّحيح والعمل الصَّالح والقصد الحسن. وهو يميلُ إلى الفلسفة، لكنه أظهرَها في قالب التصوُّف والعبارات _________ (1) أي مِن عمله أو مما يهدى إليه من غيره من ثواب أعمالهم الصالحة. أما ما فعله غيره من الخير بإرشاده ودلالته فكان له مثل أجره فذاك من جملة عمله. (2) انظر: «منهاج السنة» (5/ 83, 6/ 238) , و «مجموع الفتاوى» (3/ 155, 35/ 67) , و «جامع المسائل» (3/ 79).

(الكتاب/94)


الإسلامية (1) , ولهذا فقد ردَّ عليه علماء المسلمين، حتى أخصُّ أصحابه أبو بكر بن العربي، فإنه قال: «شيخنا أبو حامدٍ دَخَل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرجَ منهم فما قَدَر» (2). وقد حكى (3) عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجدُ تصديقُ ذلك في كتبه. وردَّ عليه أبو عبد الله المازَرِيُّ في كتابٍ أفرَده (4). وردَّ عليه أبو بكر الطُّرطُوشي (5). وردَّ عليه أبو الحسن المرغيناني رفيقُه (6) , ردَّ عليه كلامَه في «مشكاة _________ (1) كما سبق في الكلام على صنيعه في كتاب «المضنون به على غير أهله». وانظر: «بغية المرتاد» (448) , و «منهاج السنة» (3/ 304) , و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 268) , و «الصفدية» (2/ 264) , و «جامع الرسائل» (1/ 163). (2) ذكره المصنف كذلك في «الصفدية» (1/ 211, 250) , و «درء التعارض» (1/ 5) , و «الرد على المنطقيين» (483) , و «الرد على الشاذلي» (41) , والذهبي في «السير» (19/ 327) و «تاريخ الإسلام» (11/ 66). وانظر كلام ابن العربي عن الغزالي في «العواصم من القواصم» (57, 78 - 79). (3) أي ابن العربي, ويحتمل أن تكون بالبناء للمجهول, والأول أشبه بالسياق. (4) اسمه «الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء». انظر مقتطفات منه في «طبقات الشافعية» لابن الصلاح (1/ 255 - 259) , و «السير» (19/ 330 - 332, 340) , و «تاريخ الإسلام» (11/ 66 - 67) , و «شرح الأصبهانية» (645 - 650). (5) في رسالة له إلى ابن مظفر, ساقها الونشريسي في «المعيار المعرب» (12/ 186 - 187). وانظر: «السير» (19/ 339, 494) و «تاريخ الإسلام» (11/ 68). (6) من أصحاب أبي المعالي الجويني, كما في «الصفدية» (1/ 210, 250). ووقعت كنيته في «النبوات» (394): «أبو نصر» , وفي أصل «الرد على الشاذلي» (41): «أبو حامد» , وفي «شرح الأصبهانية» (640): «أبو إسحاق» , وكما هنا في «بغية المرتاد» (281) , و «الصفدية» (الموضعين السابقين) , و «درء التعارض» (6/ 239). وليس هو علي بن أبي بكر المرغيناني فقيه الحنفية (ت: 593) , فإنه لم يدرك الجويني وولد بعد وفاة الغزالي بخمس وعشرين سنة. ومن أصحاب أبي المعالي وطبقة الغزالي: الإمامان الفقيهان أبو نصر الأرغياني (ت: 528) وأبو الفتح الأرغياني (ت: 499) , فلعله أحدهما, واضطراب المصنف في كنيته يومئ إلى عدم ضبطه لنسبته الغريبة مع طول العهد والكتابة من الحفظ, ومثل هذا لا يكون من أغلاط النساخ.

(الكتاب/95)


الأنوار» ونحوه. وردَّ عليه الشيخُ أبو البيان (1) , والشيخُ أبو عمرو بن الصَّلاح (2) وحذَّر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النواويُّ (3) وغيرهما. وردَّ عليه ابنُ عقيل (4) , وابنُ الجوزي (5) , وأبو محمدٍ المقدسي (6) , _________ (1) نبا بن محمد بن محفوظ القرشي الدمشقي الصوفي شيخ الطائفة البيانية (ت: 551). انظر: «إرشاد الأريب» (2742) , و «السير» (20/ 326). (2) عقد في ترجمة الغزالي من «طبقات الشافعية» (1/ 252) فصلًا لبيان ما أنكِر عليه في مصنفاته ولم يرتضها أهل مذهبه وغيرهم. (3) حين أقرَّ ابنَ الصلاح على ما ذكره في «طبقات الشافعية» , والنسخة التي وصلتنا من الطبقات هي مما انتخبه النووي. انظر: «شرح الأصبهانية» (640). (4) انظر: «صيد الخاطر» (483) , و «الآداب الشرعية» لابن مفلح (1/ 239). (5) في كتابه «إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء». انظر: «المنتظم» (17/ 125) , و «تلبيس إبليس» (149, 256, 300, 312). (6) الموفق ابن قدامة.

(الكتاب/96)


وغيرهم (1). وهذا بابٌ واسع، فإن الخارجين عن طريقة السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ لهم في كلام الرسول ثلاثُ طرق: طريقة التخييل، والتأويل، والتجهيل (2). * فأهل التخييل هم الفلاسفةُ والباطنيةُ الذين يقولون: إنه خيَّل أشياء لا حقيقة لها في الباطن، وخاصِّيةُ النبوَّة عندهم التخييل (3). * والتأويل طريقةُ المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، يقولون: _________ (1) كالقاضي عياض في «معجم شيوخ أبي علي الصدفي» (لم يصلنا, وانظر: «الغنية» 194, و «فهرس الفهارس» 2/ 618) , نقل عنه الذهبي في «السير» (19/ 327). وكأبي نصر القشيري وأتباع والده أبي القاسم وأهل بيته, وأبي الحسن بن شكر, وابن حمدين القرطبي, والكردري الحنفي, ومحمود الخوارزمي, ويوسف الدمشقي. انظر: «النبوات» (392) , و «الصفدية» (1/ 210 - 212, 250) , و «درء التعارض» (6/ 240) , و «بغية المرتاد» (281) , و «شرح الأصبهانية» (640, 643) , و «الرد على الشاذلي» (41) , و «مجموع الفتاوى» (9/ 253). كما يذمه المتفلسفة لما اعتصم به من دين الإسلام ولم يوافقهم فيه, كابن رشد في «تهافت التهافت» (416) و «فصل المقال» (50, 52) , وابن طفيل في «حي بن يقظان» (79) , وابن سبعين في «بُدّ العارف» (144 - 145) , وابن هود كما في «درء التعارض» (6/ 241). (2) انظر: «الحموية» (277) , و «درء التعارض» (1/ 8 - 19) , و «الجواب الصحيح» (6/ 519) , و «مجموع الفتاوى» (16/ 440). (3) سيأتي الكلام عنهم (ص: 144 - 147، 225، 228).

(الكتاب/97)


إن ما قاله (1) له تأويلاتٌ تخالفُ ما دلَّ عليه وما يُفْهَمُ منه، وهو وإن كان لم يبيِّن مرادَه ولا بيَّن الحقَّ الذي يجبُ اعتقادُه= فكان مقصودُه أن هذا يكونُ سببًا للبحث بالعقل، حتى يَعْلَم الناسُ الحقَّ بعقولهم ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يوافقُ قولهم ليُثَابوا على ذلك، فلم يكن قصدُه لهم البيانَ والهداية والإرشاد والتعليم، بل قَصَد التَّعْمِيَة والتلبيس، ولم يُعَرِّفْهم الحقَّ حتى ينالوا الحقَّ بعقولهم (2) ويعرفوا حينئذٍ أن كلامَه لم يُقْصَد به البيان. فيجعلونَ حالهم في العلم مع عدمه خيرًا من حالهم مع وجوده! وأولئك المتقدِّمون ــ كابن سينا وأمثاله ــ ينكرون على هؤلاء ويقولون: ألفاظُه كثيرةٌ صريحةٌ لا تقبلُ التأويل، لكن كان قصدُه التخييل وأن يعتقد الناسُ الأمرَ على خلاف ما هو عليه. * وأما الصنف الثالث (3) الذين يقولون: إنهم أتباع السَّلف فيقولون: إنه (4) لم يكن يعرفُ معنى ما أُنزِل عليه من هذه الآيات، ولا أصحابُه يعلمون معنى ذلك، بل لازمُ قولهم أنه هو نفسُه لم يكن يعرفُ معنى ما تكلَّم به من أحاديث الصفات، بل يتكلَّمُ بكلامٍ لا يَعْرِفُ معناه. والذين ينتحلون مذهبَ السَّلف ويقولون (5): «إنهم لم يكونوا يعرفون معاني النصوص» _________ (1) أي الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (2) الأصل: «بعقلهم» , وهي سائغة, وسبقت قبل قليل على الجادة. (3) وهم أهل التجهيل والتفويض من المتكلمين الأشاعرة والماتريدية ومن تأثر بهم من المنتسبين للسنة. (4) أي الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (5) الأصل: «يقولون». والمثبت أقوم.

(الكتاب/98)


يقولون ذلك في الرسول. وهذا القولُ من أبطل الأقوال. وممَّا يعتمدون عليه من ذلك: ما فهموه من قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] , ويظنُّون أن «التأويل» هو المعنى الذي يسمُّونه هم تأويلًا، وهو مخالفٌ للظاهر (1). ثم هؤلاء قد يقولون: تُجْرَى النصوصُ على ظاهرها، وتأويلُها لا يعلمه إلا الله، ويريدون بالتأويل: ما يخالف الظاهر. وهذا تناقضٌ منهم. وطائفةٌ يريدون بالظاهر ألفاظَ النصوص فقط. والطائفتان غالطتان في فهم الآية. وذلك أن لفظ «التأويل» قد صار بسبب تعدُّد الاصطلاحات له ثلاث (2) معانٍ (3): * أحدها: أن يراد بالتأويل حقيقةُ ما يؤول إليه الكلام، وإن وافق ظاهرَه. وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ «التأويل» في الكتاب والسُّنة، كقوله تعالى: _________ (1) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 132). (2) كذا بالأصل, وله وجهٌ من العربية ونظائر في كتب المصنف, والجادة: ثلاثة. (3) انظر: «التدمرية» (91) , و «الحموية» (287) , و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 452, 8/ 262) , و «درء التعارض» (1/ 14, 206, 9/ 24) , و «الصفدية» (1/ 288) , و «جامع المسائل» (3/ 171, 5/ 291) , و «مجموع الفتاوى» (3/ 195, 5/ 35, 349, 7/ 37, 13/ 284, 16/ 408, 17/ 359, 368).

(الكتاب/99)


{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] , ومنه قول عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهمَّ ربنا ولك الحمد (1)، اللهم اغفر لي» يتأوَّلُ القرآن (2). * ويراد بلفظ «التأويل» التفسير, وهو اصطلاحُ كثيرٍ من المفسرين, ولهذا قال مجاهدٌ إمامُ أهل التفسير: إن الراسخين في العلم يَعْلَمُون تأويلَ المتشابه (3)، فإنه أراد بذلك تفسيرَه وبيان معانيه، وهذا مما يعلمُه الراسخون. * والثالث: أن يراد بلفظ «التأويل» صرفُ اللفظ عن ظاهره الذي يدلُّ عليه (4) إلى ما يخالفُ ذلك لدليلٍ منفصلٍ يوجبُ ذلك، وهذا التأويلُ لا يكونُ إلا مخالفًا لما يدلُّ عليه اللفظُ ويبيِّنه. _________ (1) كذا في الأصل, ولعلها في بعض روايات البخاري, فقد أورد الحديث بها ابن بطال في «شرح البخاري» (2/ 412) , ولم أرها عند غيره, ولا ذكرها من صنف في «الجمع بين الصحيحين» كالحميدي (4/ 167) وعبد الحق (1/ 329) والموصلي (1/ 294). ورواها الواحدي بإسناده في «الوسيط» (4/ 567). والرواية المشهورة: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك» , وكذلك تقع في كتب المصنف المطبوعة. (2) أخرجه البخاري (817, 4968) ومسلم (484). (3) أخرجه آدم بن أبي إياس في التفسير المنسوب إلى مجاهد (249) , وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (100) , وابن جرير (5/ 230). (4) الأصل: «يدل عليه ظاهره». كأنه من سهو الناسخ.

(الكتاب/100)


وتسميةُ هذا تأويلًا لم يكن في عُرْف السَّلف، وإنما سمَّى هذا وحده تأويلًا طائفةٌ من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام، وظنَّ هؤلاء أن قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} يرادُ به هذا المعنى. ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين: * قوم يقولون: إنه لا يعلمه إلا الله. * وطائفة يقولون: إن الراسخين في العلم يعلمونه. وكلا الطائفتين مخطئة؛ فإن هذا التأويل في كثيرٍ من المواضع ــ أو أكثرها وعامَّتها ــ من باب تحريف الكَلِم عن مواضعه، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية, وهذا هو التأويلُ الذي اتفق سلفُ الأمة وأئمَّتها على ذمِّه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ورَمَوا في آثارهم بالشُّهْبان (1). وقد صنَّف الإمام أحمد كتابًا في الردِّ على هؤلاء، وسمَّاه «الردّ على الزنادقة والجهمية فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن وتأوَّلتْه على غير تأويله» (2)، فعاب أحمدُ عليها أنها تفسِّرُ القرآنَ بغير ما هو معناه. ولم يقل أحمدُ ولا أحدٌ من الأئمَّة: إن الرسول لم يكن يعرفُ معاني _________ (1) جمع شهاب. وضمَّن ابن القيم هذا التعبير في «الكافية الشافية» (1/ 288). (2) مال الذهبيُّ في «السير» (11/ 286) إلى أنه موضوعٌ على الإمام أحمد, ولم يجزم. والأشبه ثبوته عنه, وعليه أئمة الحنابلة الكبار: الخلال والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وابن تيمية وغيرهم. وانظر احتجاج ابن القيم على صحة نسبته وردَّه على من طعن فيه في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (305, 306, 318 - 320).

(الكتاب/101)


آياتِ الصفات وأحاديثها، ولا قالوا: إن الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ لم يعرفوا تفسيرَ القرآن ومعانِيَه. كيف وقد أمر الله بتدبُّر كتابه، فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، ولم يقل: بعض آياته، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وأمثال ذلك من النصوص التي تبيِّن أن الله يحبُّ أن يُتَدبَّر القرآنُ كلُّه، وأنه جعله نورًا وهدًى لعباده، ومحالٌ أن يكون ذلك ممَّا لا يُفْهَمُ معناه. وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلمي: حدَّثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ــ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود ــ أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آياتٍ «لم نجاوِزْها (1) حتى نتعلَّم ما فيها من العلم والعمل» , قالوا: «فتعلَّمنا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعًا» (2). وهذه الأمور مبسوطةٌ في غير هذا الموضع (3). _________ (1) كذا في الأصل, انتقل إلى نص قولهم. (2) أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (6/ 172) , ومحمد بن وضاح في «البدع» (276) , والفريابي في «فضائل القرآن» (169) وغيرهم بإسنادٍ صحيح من طريق حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي, وحماد سمع من عطاء قبل الاختلاط. وأخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (4/ 83, 84) من طريق سفيان وهمام بن يحيى عن عطاء, وكلاهما سمع منه قبل اختلاطه كذلك. وروي من طرقٍ أخرى عن عطاء. (3) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 215 - 261) , و «مجموع الفتاوى» (17/ 356 - 433) , والمصادر المتقدمة لمعاني لفظ «التأويل».

(الكتاب/102)


والمقصودُ هنا أن من يقولُ في الرسول وبيانه للناس مما هو من قول الملاحدة، فكيف يكونُ قوله في السَّلف حتى يدَّعيَ اتباعَه؟ ! وهو مخالفٌ للرسول والسَّلف عند نفسه وعند طائفته, فإنه قد أظهر من قول النفاة ما كان الرسولُ لا يرى إظهاره لما فيه من فساد الناس، وأما عند أهل العلم والإيمان فلا! وقولُ النفاة باطلٌ باطنًا وظاهرًا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ومتَّبِعُوه منزَّهون عنه، بل مات - صلى الله عليه وسلم - وتركنا على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك، وأخبرنا أن كلَّ ما حدث بعده من محدثات الأمور فهو بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار (1). وربما أنشد بعضُ أهل الكلام (2) بيتَ مجنون بني عامر (3): _________ (1) أخرجه النسائي (1578) , وصححه المصنف في «إبطال التحليل» (119) , وانظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 88). وأصل الحديث في «صحيح مسلم» (867) دون قوله: «وكل ضلالة في النار» , وحكم بشذوذها بعض حذاق أهل الحديث المعاصرين, وردَّها المصنف من جهة معناها في موضع آخر, فقال: «ولم يقل: وكل ضلالة في النار, بل يضلُّ عن الحق من قصد الحقَّ وقد اجتهد في طلبه, فعجز عنه, فلا يعاقَب, وقد يفعل بعض ما أُمِر به فيكون له أجرٌ على اجتهاده, وخطؤه الذي ضلَّ فيه عن حقيقة الأمر مغفورٌ له, وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة, إما لأحاديث ضعيفةٍ ظنوها صحيحة ... ». «مجموع الفتاوى» (19/ 191). (2) هو العز بن عبد السلام كما سيأتي (ص: 206). (3) لم أجد البيت منسوبًا في مصدرٍ متقدم.

(الكتاب/103)


وكلٌّ يدَّعي وصلًا بليلى ... وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكا فمن قال من الشعر ما هو حكمةٌ أو تمثَّل ببيتٍ من الشعر فيما تبيَّن أنه حقٌّ لكان قريبًا, أما إثباتُ الدعوى بمجرَّد كلامٍ منظومٍ من شعرٍ أو غيره فيقال لصاحبه: ينبغي أن تبيِّن أن السَّلف لا يقرُّون بمن انتحَلهم. وهذا ظاهرٌ فيما ذكره (1) هو وغيرُه ممن يقولون عن السَّلف ما لم يقولوه ولم ينقله عنهم أحدٌ له معرفةٌ بحالهم وعَدَل فيما نقَل، فإن الناقل لا بدَّ أن يكون عالمًا عدلًا. فإن فُرِض أن أحدًا نقَل مذهبَ السَّلف كما يذكُره، فإما أن يكون قليلَ المعرفة بآثار السَّلف، كأبي المعالي, وأبي حامد الغزالي, وابن الخطيب (2) وأمثالهم ممن لم يكن له من المعرفة بالحديث ما يعدُّ به من عوامِّ أهل الصناعة فضلًا عن خواصِّها، ولم يكن الواحدُ من هؤلاء يَعْرِفُ البخاريَّ ومسلمًا وأحاديثهما إلا بالسَّماع، كما يذكرُ ذلك العامَّة، ولا يميِّزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث والحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدقُ شاهدٍ بذلك, ففيها عجائب (3). _________ (1) أي العز. (2) فخر الدين الرازي. (3) قال المصنف في «التسعينية» (923): « ... واعتبر ذلك بأن كتاب أبي المعالي الذي هو نخبة عمره نهاية المطلب في دراية المذهب ليس فيه حديثٌ واحدٌ معزوٌّ إلى صحيح البخاري إلا حديثٌ واحدٌ في البسملة [«نهاية المطلب» (2/ 137)] , وليس ذلك الحديث في البخاري كما ذكره»!! وانظر لمبلغ علمه بالحديث: منتخب «المنثور من الحكايات والسؤالات» لابن طاهر (406) , و «الأنساب» للسمعاني (3/ 386) , و «طبقات الشافعية» لابن الصلاح (1/ 230) , و «شرح مشكل الوسيط» له (6/ 529) , و «السير» (18/ 471) , و «طبقات الشافعية» للسبكي (6/ 151) , , و «التلخيص الحبير» (1/ 65, 161, 256, 275, 2/ 19, 50, 61, 3/ 92, 201, 4/ 26, 57, 84, 183). أما الغزالي فأمره أظهر وإنكار العلماء عليه في هذا أشهر, وقد اعترف في «قانون التأويل» (16) بأن بضاعته في علم الحديث مزجاة. وكتبه مشحونةٌ بالموضوعات والواهيات وما لا أصل له, وللسبكي في «الطبقات» (6/ 287 - 389) فصلٌ طويلٌ في ما لم يوجد له إسنادٌ من أحاديث الإحياء. وهو يتبع شيخه أبا المعالي الجويني في أحاديث الأحكام ويقلده في أوهامه. انظر: «التلخيص الحبير» (1/ 197, 222, 283, 348, 422, 496, 2/ 123, 3/ 74, 79, 88, 93, 177, 4/ 288) , وقال ابن حجر في (2/ 40) بعد أن ذكر له وهمًا تابع شيخه فيه: «وهذا دليلٌ على عدم اعتنائهما معًا بالحديث». وكذلك كان الفخر الرازي أجنبيًّا عن علم الحديث, وليس له به عنايةٌ ولا تصنيفٌ في روايته أو فقهه. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 98, 338, 8/ 169).

(الكتاب/104)


وتجدُ عامَّة هؤلاء الخارجين عن مناهج السَّلف من المتكلِّمة والمتصوِّفة يعترفُ بذلك إما عند الموت وإما قبل الموت, والحكاياتُ في هذا كثيرةٌ معروفة. * هذا أبو الحسن الأشعريُّ نشأ في الاعتزال أربعين عامًا يناظرُ عليه، ثم رجع عن ذلك وصرَّح بتضليل المعتزلة وبالغ في الردِّ عليهم. * وهذا أبو حامدٍ الغزالي [مع فَرْطِ ذكائه وتألهه, ومعرفته بالكلام والفلسفة, وسلوكه طريقَ الزهد والرياضة والتصوُّف, رجع إلى طريقة أهل

(الكتاب/105)


الحديث] (1) , وصنَّف «إلجام العوام عن علم الكلام» (2). * [وهذا الرازي في كتابه الذي صنَّفه في أقسام اللذَّات] قال: «لقد تأملتُ الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيتُ أقربَ الطرق طريقةَ القرآن, [أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلَا _________ (1) انظر: «درء التعارض» (1/ 162). وما بين المعكوفات هنا وفي المواضع التالية زياداتٌ تقديرية ليست في الأصل, ففي هذا الموضع منه سقطٌ واضطراب, وأثبتها من (ط) بتصرف واختصار ليستقيم السياق وحذفت ما لم أجده من كلام المصنف في كتبه الأخرى. قال الشيخ سليمان الصنيع: «إني لما رأيت هذه الصفحة فيها من السقط والتحريف ونسبة أقوالٍ إلى غير قائليها عرفتُ أن ذلك بلا شكٍّ ولا ريب من عمل النسَّاخ, ولما كانت تلك الأقوال وقائلوها معروفة مظانها في كتب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية - رحمه الله - , كمنهاج السنة النبوية, وبيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول, وكتاب النبوات, والفتوى الحموية, وغير ذلك, ومثل كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة, واجتماع الجيوش الإسلامية لغزو المعطلة والجهمية, كلاهما لشمس الدين ابن قيم الجوزية, لما كان كذلك نقلتُ منها على الصواب, وجعلتُ ما زدته مما سقط من الناسخ في هذه الرسالة بين قوسين واقفين هكذا []». (2) وردت العبارة في الأصل عقب أبيات الرازي, وهو من تخليط الناسخ. ووقع في خاتمة نسخة مكتبة شهيد علي (1712) من كتاب «إلجام العوام» أن الغزالي فرغ من تأليفه أوائل جمادى الآخرة سنة 505, أي قبل وفاته بقليل. انظر: «مؤلفات الغزالي» لعبد الرحمن بدوي (231).

(الكتاب/106)


يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. ثم قال: ومن جرَّب مثل تجربتي عرفَ مثل معرفتي] (1) , وكان يتمثَّل كثيرًا (2): نهايةُ إقدام العقول عِقَالُ ... وأكثرُ سَعْي العالَمِين ضلالُ وأرواحُنا في وحشةٍ من جُسومنا ... وحاصلُ دنيانا أذًى ووبالُ ولم نَسْتَفِدْ من بحثنا طولَ عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قِيلَ وقالوا * وهذا إمامُ الحرمين تركَ ما كان ينتحِلُه ويقرِّره واختار مذهبَ السلف، [وكان يقول: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفتُ أن الكلام يبلغُ بي إلى ما بلغ ما اشتغلتُ به» (3). * وكذلك الشَّهرستاني] , وكان يُنْشِد (4): لعمري لقد طفتُ المعاهدَ كلَّها ... وسيَّرتُ طرفي بين تلك المعالمِ _________ (1) «أقسام اللذات» (263 - نشرة ليدن) بمعناه واختلاف في بعض ألفاظه. وانظر: «تاريخ الإسلام» (13/ 142, 144) , و «السير» (21/ 501) , و «طبقات الشافعية» للسبكي (8/ 91) , ولابن كثير (2/ 718). (2) الأبيات من مشهور شعره, نسبها لنفسه في «أقسام اللذات» (262). وانظر: «إرشاد الأريب» (2590) , و «عيون الأنباء» (1/ 468) , و «وفيات الأعيان» (4/ 250) , و «البدر السافر» للأدفوي (2/ق 140) , وغيرها. (3) انظر: منتخب «المنثور من الحكايات والسؤالات» لمحمد بن طاهر (416 - 417) بتحقيقي, ورددت هناك على السبكي دعواه كذب هذه الرواية وزعمه جهالة راويها. (4) أوردهما في «نهاية الإقدام» (3) , و «الملل والنحل» (1/ 173) دون نسبة. وينسبان إليه وإلى ابن سينا وابن باجه. انظر: «وفيات الأعيان» (2/ 161, 4/ 274) , و «آثار البلاد» للقزويني (398) , و «الوافي بالوفيات» (12/ 408).

(الكتاب/107)


فلم أرَ إلا واضعًا كفَّ حائرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارِعًا سِنَّ نادم * وابنُ الفارض ــ من متأخري الاتحادية, صاحب القصيدة التائيَّة المعروفة بـ «نظم السُّلوك» (1)، وقد نَظَم فيها الاتحادَ نظمًا رائق اللفظ (2)، فهو أخبثُ من لحم خنزيرٍ في صينيَّةٍ من ذهب، وما أحسنَ تسميتَها بـ «نظم الشُّكوك»، الله أعلمُ بها وبما اشتملت عليه، ونَفَقَت كثيرًا، وبالغ أهلُ العصر في تحسينها والاعتذار عما (3) فيها من الاتحاد ــ لمَّا حضرته الوفاة أنشد (4): إن كان منزلتي في الحبِّ عندكمُ ... ما قد لَقِيتُ لقد ضيَّعتُ أيامي أمنيَّةٌ ظَفِرتْ نفسي بها زمنًا ... واليوم أحسَبها أضغاثَ أحلام ولهذا كان من أصول الإيمان أن يُثبِّتَ الله العبد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ _________ (1) ديوانه (31 - 82) , ولها شروح كثيرة. انظر: «كشف الظنون» (1/ 266). (2) غير محررة في الأصل, وتشبه أن تكون: «وافق اللغة» , والمثبت أقوم بالمراد. وقال في موضع آخر: «وشعره في صناعة الشعر جيد, ولكنه كما قيل: لحم خنزير في طبق صيني». «مجموع الفتاوى» (2/ 472). وهؤلاء الاتحادية «يسقون الناسَ شرابَ الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه». «مجموع الفتاوى» (2/ 360). وانظر: «الكواكب الدرية في تراجم الصوفية» للمناوي (2/ 421). (3) الأصل: «بما». (ط): «والاعتداد بما». وكلاهما تحريف. وانظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 297, 367, 379) , و «المستدرك على الفتاوى» (1/ 39) , و «نزهة الأنام» لابن دقمقاق (71). (4) البيتان في ديوانه (138) , والحكاية في «نزهة الأنام» لابن دقماق (72).

(الكتاب/108)


بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 24 ــ 27]. والكلمة أصلُ العقيدة، فإن الاعتقادَ هو الكلمةُ التي يعتقدُها المرء، وأطيبُ الكلام والعقائد كلمةُ التوحيد واعتقادُ أن لا إله إلا الله، وأخبثُ الكَلِم (1) والعقائد كلمةُ الشرك، وهو اتخاذُ إلهٍ مع الله, فإن ذلك باطلٌ لا حقيقة له, ولهذا قال سبحانه: {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}. ولهذا كلما بحَثَ الباحثُ وعَمِل العاملُ على هذه الكلمات والعقائد الخبيثة لا يزدادُ إلا ضلالًا وبعدًا عن الحق وعلمًا ببطلانها (2)، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39، 40]. فذكر سبحانه مَثَلين (3): _________ (1) كذا في الأصل, غاير بين الموضعين, ولعله من تصرف الناسخ. (2) يزداد الباحث علمًا ببطلانها, ويزداد العامل ضلالًا وبعدًا عن الحق. (3) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 267) , و «درء التعارض» (1/ 169, 7/ 285) , و «الرد على المنطقيين» (435) , و «الجواب الصحيح» (2/ 219) , و «مجموع الفتاوى» (7/ 277, 10/ 101) , و «جامع المسائل» (1/ 134).

(الكتاب/109)


* أحدهما: مَثَل الكفر والجهل المركَّب الذي يحسَبه صاحبُه موجودًا، ويكون خيالًا معدومًا كالسَّراب, والقلبُ (1) عطشانٌ إلى الحقِّ كعَطَشِ الجسد إلى الماء، فإذا طلبَ ما ظنَّه ماءً وجدَه سرابًا، ووجدَ الله عنده فوفَّاه حسابه, والله سريعُ الحساب. وهكذا (2) تجدُ عامَّة هؤلاء الخارجين عن السُّنة والجماعة. * والمَثَل الثاني: مَثَل الكفر والجهل البسيط الذي لا يتبيَّن فيه حقٌّ ولا يُرى فيه هدًى. والكفرُ المركَّبُ مستلزمٌ للبسيط، وكلُّ كفرٍ فلا بدَّ فيه من جهلٍ مركَّب. فضربَ سبحانه المَثَلين بذلك ليبيِّن حالَ الاعتقاد الفاسد، ويبيِّن حالَ عدم معرفة الحق (3)، وهو يُشْبِهُ حالَ المغضوب عليهم والضالِّين, حالَ المصمِّم على الباطل حتى يحلَّ به العذابُ وحالَ الضالِّ الذي لا يرى طريق الهدى. فنسأل الله العظيمَ أن يثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا الاعتصامَ بالكتاب والسُّنة. ومن أمثلة [ذلك] (4) ما ينسبُه كثيرٌ من أتباع المشايخ والصوفية إلى _________ (1) الأصل: «وان الحق». والصواب المثبت. (2) الأصل: «ولهذا». وهو خطأ, وأصلح في (ط). (3) الأصل: «حال عدم معرفة حال الحق». من سهو الناسخ. (4) زيادة ضرورية لاستقامة السياق. وسيأتي نظيرها.

(الكتاب/110)


المشايخ الصَّادقين من الكذب والمُحال، أو يكونُ من كلامهم المتشابه الذي تأوَّلوه على غير تأويله، أو يكونُ من غَلَطات بعض الشُّيوخ وزلَّاتهم، أو من ذنوب بعضهم وخطئهم, مثل كثيرٍ من البدع والفجور الذي يفعلُه بعضهم بتأويلٍ سائغ أو بوجهٍ غير سائغ, فيعفى عنه, أو يتوب, أو يكون منه ومن غيره حسناتٌ يُغْفَر له بها، أو مصائبُ يكفَّر عنه بها، أو يكون من كلام المتشبِّهين بأولياء الله من ذوي الزَّهادات والعبادات والمقالات (1)، وليس هو من أولياء الله المتقين، بل من الجاهلين الظالمين المعتدين أو المنافقين أو الكافرين. وهذا كثيرٌ مِلْءُ العالَم (2)، تجدُ كلَّ قومٍ يدَّعون من الاختصاص بالأسرار والحقائق ما لا يدَّعي المرسَلون، وأن ذلك عند خواصِّهم، وأن ذلك لا يقابلُ إلا بالتسليم، ويحتجُّون لذلك بأحاديثَ موضوعةٍ وتفسيراتٍ باطلة، مثل قولهم عن عمر: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحدَّث هو وأبو بكر بحديثٍ وكنتُ كالزِّنجيِّ بينهما» (3) , فيجعلون عمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصِدِّيقه كالزِّنجيِّ , وهو حاضرٌ يسمعُ الكلام, ثم يدَّعي أحدُهم أنه عَلِمَ ذلك بما قُذِفَ في قلبه! ويدَّعي كلٌّ منهم أن ذلك هو ما يقولُه من الزُّور والباطل (4). _________ (1) غُيِّرت في (ط) إلى «المقامات». وكلاهما يحتمله الصواب. (2) وقع هذا التعبير في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 419) , وما يأتي (ص: 338). (3) خبرٌ مكذوبٌ لا أصل له باتفاق أهل المعرفة. انظر: «بغية المرتاد» (322) , و «منهاج السنة» (8/ 42) , و «أحاديث القصَّاص» (61) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 216, 5/ 170, 6/ 579, 11/ 54, 13/ 253, 18/ 339, 377). (4) يشير بهذا إلى ما يحيل عليه الغزالي في كتبه من الكشف والنور الإلهي الذي يقذف في القلب, وسبقت الإشارة إليه (ص: 91).

(الكتاب/111)


ولو ذكرتُ ما في هذا الباب من الأصناف (1) لطال. فمنهم من يجعلُ للشيخ قصائدَ يسمِّيها «جَنِيب القرآن» (2) , ويكونُ وَجْدُه بها وفرحُه بمضمونها أعظمَ من القرآن، ويكونُ فيها من الكذب والضلال أمور. ومنهم من يجعلُ له قصائدَ في الاتحاد، وأنه هو خالقُ جميع الخلق، وأنه خَلَق السموات والأرض، وأنه يُسْجَد له ويُعْبَد (3). ومنهم من يصفُ الربَّ في قصائده بما نُقِل في الموضوعات من أصناف التمثيل والتكييف والتجسيم التي هي كذبٌ مفترًى وكفرٌ صريح، مثلُ مُواكَلته ومُشَاربته ومُمَاشاته ومُعَانقته ونزوله إلى الأرض وقُعوده في بعض رياض الأرض ونحو ذلك (4). _________ (1) أي أصناف المدَّعين للاختصاص بالأسرار والحقائق. وفي (ط): «أصناف الدعاوى الباطلة». والمصنف يستعمل لفظ «الأصناف» دون إضافة أحيانًا في نحو هذا. انظر: «جامع الرسائل» (2/ 232) , وما تقدم (ص: 22)، وما سيأتي (ص: 322). (2) الجَنِيبة هي الدابة تُجْنَب فتُقاد ولا تُركَب وتسير إلى جنبك, حتى إذا تعبت الدابة المركوبة تحوَّل الراكبُ إليها. فذاك شأن تلك القصائد مع القرآن في زعمهم, تسيرُ معه, وربما انتقلوا إليها واستغنوا بها عنه. ويطلقون «الجنيب» أيضًا على العبد ما دام سالكًا إلى الحق عز وجل حاملًا لزاده. انظر: «لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام» للقاشاني (1/ 326). (3) كابن الفارض في «نظم السلوك». انظر: «الجواب الصحيح» (4/ 499) , و «مجموع الفتاوى» (7/ 596, 11/ 248). (4) كالحلاج. انظر: ديوانه (130) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 288, 311).

(الكتاب/112)


ويجعلُ كلٌّ منهم ذلك من الأسرار المخزونة والعلوم المَصُونة التي تكونُ لخواصِّ أولياء الله المتقين. ومن أمثلة ذلك: أنك تجد عند الرافضة والمتشيِّعة ومن أخَذ عنهم من دعوى علوم الأسرار والحقائق التي يدَّعون أخذَها عن أهل البيت ــ إما مِن العلوم الدينية وإما مِن علم الحوادث الكائنة ــ ما هو عندهم من أجلِّ الأمور التي يجبُ التواصي بكِتْمانها والإيمانُ بما لا يُعْلَمُ حقيقتُه من ذلك. وجميعها كذبٌ مختَلقٌ وإفكٌ مفترى، فإن هذه الطائفة من أكثر الطوائف كذبًا (1) وادعاءً للعلم المكتوم (2) , ولهذا انتسبت إليهم الباطنيةُ والقرامطة. وهؤلاء خرجَ أوَّلهم في زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وصاروا يدَّعون أنه خُصَّ بأسرارٍ من العلوم والوصيَّة، حتى كان يسأله عن ذلك خواصُّ أصحابه فيخبرُهم بانتفاء ذلك, ولما بلغه أن ذلك قد قيل كان يخطُب الناسَ وينفي ذلك. وقد خرَّج أصحابُ الصَّحيح كلامَ عليٍّ هذا من غير وجهٍ، مثل ما في «الصَّحيح» (3) عن أبي جحيفة قال: «سألتُ عليًّا: هل عندكم شيءٌ ليس في _________ (1) انظر: «منهاج السنة» (1/ 57, 59, 66, 2/ 87, 301, 467, 3/ 373, 4/ 121, 5/ 160, 6/ 427, 7/ 193, 8/ 304) , و «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 281) , و «درء التعارض» (7/ 91) , و «مجموع الفتاوى» (4/ 471, 517, 13/ 263, 27/ 175, 35/ 184). (2) انظر: «منهاج السنة» (4/ 126). (3) صحيح البخاري (111, 6903, 6915).

(الكتاب/113)


القرآن؟ فقال: لا، والذي فلقَ الحَبَّةَ وبَرأ النَّسَمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطيه اللهُ الرجلَ في كتابه وما في هذه الصَّحيفة. قلت: وما في الصَّحيفة؟ قال: العَقْل, وفَكاكُ الأسير (1) , وأن لا يُقْتَل مسلمٌ بكافر». ولفظ البخاري (2): «هل عندكم شيءٌ من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا، والذي فلقَ الحَبَّةَ وبَرأ النَّسَمة، ما أعلمُه إلا فهمًا يعطيه اللهُ رجلًا في القرآن». وفي «الصحيحين» (3) عن إبراهيم التَّيميِّ عن أبيه [عن عليٍّ]ــ وهذا من أصحِّ إسنادٍ على وجه الأرض (4) ــ قال: «ما عندنا شيءٌ إلا كتابَ الله وهذه الصحيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: المدينةُ حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثور». وفي روايةٍ لمسلم: «خَطَبنا عليُّ بن أبي طالبٍ فقال: من زعمَ أن عندنا كتابًا نقرؤه إلا كتابَ الله وما في هذه الصحيفة ــ قال: وصحيفتُه معلقةٌ في قِرَاب سَيفِه ــ فقد كَذَب، فيها أسنانُ الإبل وأشياءُ من الجِرَاحات (5)، وفيها قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: المدينةُ حَرَمٌ ... » الحديث. وأما الكذبُ والأسرارُ التي يدَّعونها عن جعفر الصادق فمن أكثر (6) _________ (1) العقل: ما تتحمله العاقلة من دية القتيل خطأً. وفكاك الأسير: حكم تخليصه من يد العدو والترغيب في ذلك. (2) (3047). (3) صحيح البخاري (3172, 3179, 6755, 7300) , ومسلم (1370). (4) لم أر من ذكره في أصح الأسانيد, وهو من موارد الاجتهاد. (5) أسنان الإبل: أي ما يؤخذ منها في الديات, والجراحات: أي ما يجب فيها. (6) الأصل: «أكبر». والمثبت أليق بالسياق.

(الكتاب/114)


الأشياء, حتى يقال: ما كُذِبَ على أحدٍ ما كُذِبَ على جعفر - رضي الله عنه - (1). ومن هذه الأمور المضافة: * كتاب «الجَفْر» الذي يدَّعون أنه كَتبَ فيه الحوادث، والجَفْر: ولد الماعز، يزعمون أنه كَتبَ ذلك في جِلْدِه (2). * وكذلك كتاب «البطاقة» (3) الذي يدَّعيه ابنُ أحلى (4) ونحوه من _________ (1) انظر: «منهاج السنة» (2/ 464, 4/ 54, 7/ 534) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 217, 35/ 183) , و «تاريخ الإسلام» (3/ 838). وفي «رجال الكشي» (216) , و «بحار الأنوار» (2/ 246) قال جعفر - رضي الله عنه -: «إن الناس أولعوا بالكذب علينا»! والآثار عنه في هذا المعنى كثيرة. (2) انظر: «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (123) , و «مقدمة ابن خلدون» (5/ 50) , و «بدائع السلك» لابن الأزرق (149) , و «أبجد العلوم» (2/ 214) , و «تاريخ آداب العرب» للرافعي (2/ 120) , و «دائرة المعارف الإسلامية» (7/ 46). (3) وهو من كتب الإخبار بالمستقبلات, وينسبونه إلى جعفر الصادق, وبعضهم إلى علي - رضي الله عنهما -. انظر: «بغية المرتاد» (321, 328) , و «درء التعارض» (5/ 26) , و «منهاج السنة» (8/ 136, 2/ 464, 4/ 54, 7/ 534, 8/ 10, 28) , و «مجموع الفتاوى» (11/ 55). (4) (ط): «الحلي» , وفي «الصفدية» (1/ 238) و «الرد على الشاذلي» (184): «أجلى». وكلاهما تحريف. وهو محمد بن علي بن أحلى الأنصاري أبو عبد الله, من أمراء الأندلس, فيلسوفٌ متصوف من أهل الاتحاد, أخذ عن ابن المرأة أبي إسحاق بن دهاق طريقة الشوذي وخبيث مذهبه, وكان داعية إليه, وصنف في الكلام والتفسير على طريقته, وله أتباعٌ وأصحابٌ ورياسة, توفي سنة 645. جوَّد ترجمته ابن الزبير الغرناطي في «صلة الصلة» (4/ 391 - 395) وهو خبيرٌ بأحواله ومعرفة أتباعه وله في الردِّ عليه كتابٌ ورجزٌ طويل, وحذَّر منه أبو حيان في «البحر المحيط» (4/ 210) وزرُّوق في كتابيه «قواعد التصوف» (273) و «عدة المريد الصادق» (246). وانظر: «المغرب في حلي المغرب» (2/ 276) , و «الذيل والتكملة لكتاب الصلة» (السفر السادس/436 - 439) , و «الحلة السيراء» (2/ 314) , و «العقد الثمين» (5/ 330) , و «الأعلام» (6/ 282) , و «ابن سبعين وفلسفته الصوفية» لأبي الوفا التفتازاني (72 - 74, 455).

(الكتاب/115)


المغاربة. * ومثل كتاب «الجَدْول» في الهلال (1)، و «الهَفْت» (2) عن جعفر, وكثير من تفسير القرآن (3) , وغيره. _________ (1) جدول يعتمد على العدد دون الرؤية في الهلال, وإليه يذهب بعض الإسماعيلية والشيعة, يزعمون أن جعفر الصادق دفعه إليهم, قال المصنف: «ولم يأت به إلا عبد الله بن معاوية, ولا يختلف أهل المعرفة من الشيعة وغيرهم أن هذا كذبٌ مختلقٌ على جعفر». «مجموع الفتاوى» (25/ 133, 179, 183). وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب جوادٌ شاعرٌ طالبٌ للخلافة, لكنه لم يكن بمحمود المذهب في دينه, قال ابن حزم: كان رديء الدين معطلًا يصحب الدهرية. انظر: «لسان الميزان» (5/ 18) ومصادر ترجمته. وممن ردَّه من الشيعة وطعن في عبد الله بن معاوية: ابن زهرة الحلبي (ت: 585) في «غنية النزوع» (132). (2) وهو من كتب الإسماعيلية, من رواية المفضل بن عمر الجعفي عن جعفر, والرافضة الاثنا عشرية تبرأ منه. نشره عارف تامر سنة 1960, ثم مصطفى غالب سنة 1964, وهما حاملا لواء نشر التراث الإسماعيلي. (3) ككثير من الأقوال والإشارات التي يذكرها عنه أبو عبد الرحمن السلمي في «حقائق التفسير». انظر: «الاستقامة» (1/ 191) , و «بغية المرتاد» (328) , و «منهاج السنة» (4/ 54, 8/ 11, 43) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 217).

(الكتاب/116)


* ومثل كتاب «رسائل إخوان الصفا» الذي صنَّفه جماعةٌ في دولة بني بُوَيْه ببغداد وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنِّفة، جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدِّلين وبين الحَنِيفيَّة، وأتوا بكلام المتفلسفة وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيءٌ كثير (1)، ومع هذا فطائفةٌ من الناس من بعض أكابر قضاة النواحي يزعمُ أنه من كلام جعفر الصادق! وهذا قولُ زنديقٍ وتشنيعُ جاهل (2). * ومثل ما يذكرُه بعض العامَّة من ملاحِم ابن عَقِب (3)، ويزعمون أنه _________ (1) حرر المصنف القول في أصل هذه الرسائل ونهجها ومشرب أصحابها في مواضع كثيرة من كتبه. انظر: «الصفدية» (1/ 2, 237, 255) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 474, 5/ 268, 280) , و «النبوات» (1/ 403) , و «منهاج السنة» (2/ 466, 4/ 55) , و «بغية المرتاد» (180, 199) , و «شرح الأصبهانية» (462, 647, 723) , و «درء التعارض» (5/ 10, 6/ 242) , و «الجواب الصحيح» (5/ 37) , و «الرد على المنطقيين» (444, 487, 509) , و «الرد على الشاذلي» (39, 145, 184) , و «جامع الرسائل» (1/ 168) , و «مجموع الفتاوى» (4/ 259, 314, 346, 6/ 181, 547, 9/ 36, 11/ 571, 12/ 23, 13/ 249, 17/ 333, 18/ 336, 27/ 175, 32/ 233, 35/ 134, 153). والكلام فيها كثير, ومن أهم ذلك: «الإمتاع والمؤانسة» لأبي حيان (2/ 4) , و «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي (108) , و «دائرة المعارف الإسلامية» (1/ 527) , و «إخوان الصفا» لعمر الدسوقي, ولجبور عبد النور. (2) فإنها وضعت بعد موته بأكثر من مئتي سنة. انظر: «منهاج السنة» (2/ 465, 4/ 54) , و «مجموع الفتاوى» (11/ 581, 35/ 183) , و «درء التعارض» (5/ 26) , و «بغية المرتاد» (329). (3) تحرف في الأصل إلى: «غنضب». وهو عبدالله بن يسار (كذا وقع اسم أبيه في «أنساب الأشراف» 11/ 105, وفي بعض المصادر: بشار, والأول أشبه بأسماء تلك الطبقة, فـ «بشار نادرٌ في التابعين, معدومٌ في الصحابة» كما يقول الذهبي في «المشتبه» 78) بن أبي عقب الليثي. واشتهر عند المتأخرين بيحيى بن عقب, كما وقع في «كشف الظنون» (2/ 1818) وبعض الأصول الخطية لملحمته, وجعلت له العامة بمصر ضريحًا باسمه هذا, كما في خطط المقريزي (3/ 86) وغيره. وسماه ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (1/ 245): يحيى بن عبد الله بن أبي العقب. وذهب بعضهم إلى أنه شيءٌ لا وجود له وشبَّهه بمجنون ليلى, انظر: «الأغاني» (2/ 9) , والأشبه أنه شاعرٌ متقدمٌ معروفٌ بأشعار الملاحم, لكن الناس لم يزالوا يزيدون فيها ويُنقِصون ويبدِّلون على مرِّ السنين حتى صارت ملحمةً كبيرةً على الصفة التي كانت في عهد المصنف. انظر: «البيان والتبين» (2/ 228) , و «أسماء المغتالين» لابن حبيب (2/ 173, 269 - نوادر المخطوطات) , وغيرهما من المصادر المتقدمة التي ذكرت بعض أخباره. وللحسين بن محمد بن علي الأزدي (من القرن الرابع): «أخبار ابن أبي عقب وشعره». انظر: «الرجال» لابن الغضائري (47) , و «رجال النجاشي» (154) , و «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» (1/ 326). ولأخي البحاثة الأستاذ أبي الفضل القونوي: «ملاحم ابن أبي عقب من الكتب التي حذر منها شيخ الإسلام ابن تيمية» طبع دار أضواء السلف سنة 1426.

(الكتاب/117)


كان معلِّمًا للحسن والحسين. وهذا شيءٌ لم يكن في الوجود باتفاق أهل العلم، وملاحمُه إنما صنَّفها بعض الجهال في دولة نور الدين ونحوها (1)، وهو شعرٌ فاسدٌ نظَمَه جاهل (2). وكذلك عامةُ هذه الملاحم المرويَّة بالنَّظم ونحوه عامَّتُها من الأكاذيب, وقد أُحدِثَ في زماننا من القضاة والمشايخ غيرُ واحدةٍ منها، وقرَّرتُ بعض _________ (1) انظر: «منهاج السنة» (7/ 182 - 183) , و «مجموع الفتاوى» (11/ 55). (2) الأصل: «نظم جاهل». وفي (ط): «يدل على أن نظمه جاهل».

(الكتاب/118)


هؤلاء (1) على ذلك بعد أن ادَّعى قِدَمها، وقلت: بل أنتَ صنَّفتَها، فأقرَّ أنه صنَّفها ولبَّسَها على بعض ملوك المسلمين لمَّا كان المسلمون محاصِري عكَّا، وكذلك غيرُه من القضاة وغيرهم لبَّسوا على غير هذا المَلِك. وبابُ الكذب في الحوادث الكونيَّة أكثرُ منه في الأمور الدينية؛ لأن تشوُّفَ الذين يُغَلِّبون الدنيا على الدين إلى ذلك أكثر، وإن كان لأهل الدين إلى ذلك تشوُّفٌ لكن تشوُّفَهم إلى الدين أقوى، وأولئك ليس لهم من الفُرقان بين الحقِّ والباطل ومن النور (2) ما لأهل الدين, فلهذا كَثُر الكذَّابون في ذلك ونَفَقَ منه شيءٌ كثير، وأُكِلَت به أموالٌ عظيمةٌ بالباطل، وقُتِلَت به نفوسٌ كثيرةٌ من المتشوِّفة إلى المُلْك ونحوها. ولهذا ينوِّعُون طرقَ الكذب في ذلك, ويَعْتَمِدون الكذبَ فيه تارةً بالإحالة على الحركات والأشكال الجِسْمانية الإلهيَّة (3) من حركات الأفلاك والكواكب والشُّهُب والرُّعود والبُروق والرياح وغير ذلك (4). وتارةً بما يُحْدِثُونه (5) هم من الحركات والأشكال، كالرَّمل (6) والحصى _________ (1) لعله القاضي ابن السرَّاج. انظر: «ملاحم ابن أبي عقب» للقونوي (37 - 45). (2) الأصل: «من النور». والمثبت أشبه بالصواب. (3) التي لا دخل للإنس والجن في تحريكها وإحداثها. (ط) (4) كاختلاج الأعضاء. انظر: «بغية المرتاد» (328) , و «منهاج السنة» (2/ 464, 4/ 54, 7/ 534) , و «مجموع الفتاوى» (11/ 582, 35/ 183). (5) الأصل: «يجدونه» , وسيأتي بعد قليل: «فكل ما يحدثه الإنسان ... ». (6) (ط): «كالضرب بالرمل».

(الكتاب/119)


والشَّعير والقُرعة بأبجَد (1) ونحو ذلك مما هو من جنس الاستقسام بالأزلام، فإنهم يطلبون علمَ الحوادث بما يفعلونه من الاستقسام بها، سواء كانت قِداحًا أو حصًى أو غير ذلك مما ذكره أهلُ العلم بالتفسير (2). فكلُّ ما يُحْدِثُه الإنسانُ بحركةٍ من تغيير شيءٍ من الأجسام ليستَخرِجَ به علمَ ما يجهلُه (3) فهو من هذا الجنس، بخلاف الفَأل الشَّرعيِّ، وهو الذي كان يُعْجِبُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن يخرج متوكِّلًا على الله، فيسمع الكلمةَ الطيبةَ, «وكان يُعْجِبُه الفأل، ويكرهُ الطِّيَرة» (4)؛ لأن الفأل تقويةٌ لما فَعَله بإذن الله والتوكُّل عليه، والطِّيَرةُ معارضةٌ لذلك، فكُرِه للإنسان (5) أن يتطيَّر، وإنما تضرُّ الطيرةُ مَن تطيَّر لأنه ضرَّ نفسَه، فأما المتوكِّلُ على الله فلا. وليس المقصودُ ذِكر هذه الأمور وسبب إصابتها تارةً وخطئها تارات, وإنما الغرض أنهم يتعمَّدون (6) فيها كذبًا كثيرًا من غير أن تكون دلَّت على _________ (1) الأصل: «باليد». وهو تحريف. قال المصنف: «وكما يستقسم ناسٌ بالقرعة المأمونية المكتوب عليها أب ج د» , وهي القرعة الشركية لا الشرعية. انظر: «جامع المسائل» (2/ 170, 7/ 283) , و «منهاج السنة» (8/ 11) , و «مجموع الفتاوى» (23/ 67) , و «مدارج السالكين» (2/ 462) , و «زاد المعاد» (2/ 405, 5/ 697). (2) انظر: تفسير القرطبي (7/ 287). (3) الأصل: «يفعله». وأصلحت في (ط): «يستقبله». والمثبت أقرب. (4) أخرجه أحمد (8393) , وابن ماجه (3536) , وصححه ابن حبان (6121). (5) الأصل: «فيكره الإنسان». وفي (ط): «للإنسان» , والمثبت أشبه. (6) كذا في الأصل, ويصح أن تكون: «يعتمدون» , وكذلك المواضع التالية.

(الكتاب/120)


ذلك (1)، كما يتعمدُ خلقٌ كثيرٌ الكذبَ في الرؤيا الصالحة وهي جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوَّة (2)، وكما كانت الجنُّ تخلطُ بالكلمة تَسْمَعُها من السماء مئة كذبة (3). ولهذا ثبت في «صحيح مسلم» (4) عن معاوية بن الحكم السُّلَمي قال: قلت: يا رسول الله، إني حديثُ عهدٍ بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منَّا رجالًا يأتون الكُهَّان؟ قال: «فلا تأتِهم». قال: قلت: ومنَّا رجالٌ يتطيَّرون؟ قال: «ذاك شيءٌ يجدونه في صدورهم فلا يصدَّنَّهم». قال: قلت: ومنَّا رجالٌ يَخُطُّون؟ قال: «كان نبيٌّ من الأنبياء يَخُطّ، فمن وافق خطَّه فذاك». فإذا كان ما هو من أجزاء النبوَّة ومن أخبار الملائكة قد يُتعَمَّدُ فيه الكذبُ الكثير، فكيف بما هو في نفسه مضطربٌ لا يستقرُّ على أصل؟! لهذا تجدُ عامَّة من في دينه فسادٌ يدخُل في الأكاذيب الكونية، مثل أهل الاتحاد، فإن ابن عربي في كتاب «عنقاء مُغْرِب» (5) وغيره أخبر بمستقبَلاتٍ كثيرةٍ عامَّتها كذب، وكذلك ابن سبعين. وكذلك الذين استخرجوا مدَّة بقاء هذه الأمة من حساب الجُمَّل من حروف المعجم الذي وَرِثُوه من اليهود ومن حركات الكواكب الذي وَرِثُوه _________ (1) (ط): «دلت على ذلك دلالة». (2) أخرجه البخاري (6989) ومسلم (2263). (3) أخرجه البخاري (3210) ومسلم (2228). (4) (537). (5) طبع مفردًا وضمن رسائله (4/ 84 - 162).

(الكتاب/121)


من الصابئة (1)، كما فعل أبو نصرٍ الكِنْدي (2) وغيره من الفلاسفة, وكما فعل بعض من تكلَّم في تفسير القرآن من أصحاب الرأي (3)، ومن تكلَّم في تأويل وقائع النساك (4) من المائلين إلى التشيُّع. _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (13/ 276, 17/ 398 - 399, 35/ 189) , و «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 276 - 277). (2) كذا وقعت كنيته في الأصل, وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الملقب بفيلسوف الإسلام (ت: نحو 260). انظر: «الرد على المنطقيين» (199) , و «مجموع الفتاوى» (29/ 373, 35/ 189). ترجمته في «السير» (12/ 337) , و «اللسان» (8/ 527) , و «الأعلام» (8/ 195) , ومصادرها هناك. (3) الأصل: «الرازي» , والمثبت هو الصواب إن شاء الله. ومن هؤلاء: ابن برَّجان (ت: 536) في تفسيره «تنبيه الأفهام» (4/ 325) , وانظر: «وفيات الأعيان» (4/ 230) , و «البحر المحيط» (1/ 59, 8/ 374) , و «لسان الميزان» (5/ 174). ومنهم: أبو الحسن الحَرَالِّي (ت: 637) , كما في «ميزان الاعتدال» (3/ 114). وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 257) , و «الإتقان في علوم القرآن» (1381 - 1385). (4) كذا بالأصل, ورسمها قريب من «الناس» , ولعلها محرفة عن «البابا» , قال المصنف في «الرد على المنطقيين» (480): «والصابئة الحرانيون لهم نبيٌّ على أصلهم يقال له: البابا, وله مصحفٌ يذكر فيه كثيرًا من الأخبار المستقبلة». وهو «بابا الرومي» المذكور في «شرح الأصبهانية» (331) , و «الجواب الصحيح» (2/ 343, 3/ 500, 6/ 423) , و «النبوات» (168, 233, 497) , و «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» (114) , قتل سنة 638 كما في «تاريخ الإسلام» (14/ 29) , وأخباره في «تاريخ مختصر الدول» (251). وذكر شيخ الإسلام أن من الصابئة من انتسب إلى الشيعة وتظاهر بذلك, وهم الإسماعيلية, وأنهم دخلوا إلى الزندقة من هذا الباب, فلعلهم المراد هنا .. انظر: «مجموع الفتاوى» (12/ 353, 22/ 367, 25/ 179) , و «منهاج السنة» (3/ 453, 8/ 258).

(الكتاب/122)


وقد رأيتُ من أتباع هؤلاء طوائفَ يدَّعون أن هذه الأمور من الأسرار المخزونة والعلوم المَصُونة، وخاطبتُ في ذلك طوائفَ منهم، وكنتُ أحلفُ لهم أن هذا كذبٌ مفترًى وأنه لا يجري من هذه الأمور شيء، وطلبتُ مباهلةَ بعضهم لأن ذلك كان متعلقًا بأصول الدين، وكانوا من الاتحادية الذين يطولُ وصف دعاويهم (1). فإن شيخَهم الذي هو عارفُ وقته وزاهدُه عندهم (2)، كانوا يزعمون أنه هو المسيحُ الذي يَنْزِل، وأن معنى ذلك نزولُ روحانيَّة عيسى عليه السلام عليه، وأن أمَّه اسمُها مريم، وأنه يقوم بجمع المِلَل الثلاث، وأنه يظهر مظهرًا أكمل من مظهر محمدٍ وغيره من المرسلين. ولهم مقالاتٌ من أعظم المنكرات يطولُ ذِكرُها ووصفُها. ثم إن من عجيب الأمر أن هؤلاء المتكلِّمين المدَّعين لحقائق الأمور العلميَّة والدينيَّة المخالفين للسُّنة والجماعة يحتجُّ كلٌّ منهم بما يقعُ له من حديثٍ موضوعٍ أو مجملٍ لا يفهمُ معناه، وكلما وجد أثرًا فيه إجمالٌ نزَّله _________ (1) انظر: «بغية المرتاد» (520 - 522). (2) ابن هود, كما في المصدر السابق, وقال عنه: «كان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الاتحادية زهدًا ومعرفةً ورياضة». وهو الحسن بن علي بن يوسف المرسي, صوفي من أصحاب وحدة الوجود (ت: 699). ترجمته في «تاريخ الإسلام» (15/ 904) , و «العبر» (5/ 397) , و «أعيان العصر» (2/ 200) , و «الوافي» (12/ 156) وغيرها. قال المقريزي في «المقفى» (3/ 428): «كان شيخ الإسلام أحمد بن تيمية كثير الوقيعة فيه والتنقص له ينفِّر الناسَ عنه التنفير الكثير ويحذِّر منه التحذير الوافر».

(الكتاب/123)


على رأيه، فيحتجُّ بعضهم بالمكذوب، مثل قول عمر: «كنتُ كالزِّنجي» (1) , ومثل ما يروونه من سرِّ المِعْراج وما يروونه من أن أهل الصُّفَّة سَمِعُوا المناجاةَ من حيث لا يَشْعُر الرسول, فلما نزل الرسولُ أخبروه، فقال: من أين سمعتم؟ فقالوا: كنَّا نسمعُ الخِطاب (2). حتى إني لما بيَّنتُ لطائفةٍ تَمشْيَخُوا وصاروا قدوةً للناس أن هذا كذبٌ ما خلقه الله قطُّ, قلتُ: ويبيِّنُ لك ذلك أن المعراجَ كان بمكة بنصِّ القرآن وبإجماع المسلمين، والصُّفَّة إنما كانت بالمدينة، فمن أين كان بمكة أهلُ صُفَّة؟ ! وكذلك احتجاجُهم بأن أهل الصُّفَّة قاتلوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مع المشركين لما انتصروا (3) , وزعموا أنهم مع الله؛ ليحتجُّوا بذلك على متابعة الواقع (4) سواءً كان طاعةً لله أو معصية، وليجعلوا حُكْمَ دينه هو ما كان, كما قال الذين أشركوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]. وأمثالُ هذه الموضوعات كثيرة. _________ (1) تقدم الكلام عليه (ص: 111). (2) انظر: «درء التعارض» (5/ 27) , و «مجموع الفتاوى» (11/ 54, 81, 165, 564, 24/ 339) , و «جامع المسائل» (7/ 461). (3) أي المشركون يوم أحد أو يوم حنين. انظر: «منهاج السنة» (7/ 432, 438) , و «الرد على الشاذلي» (72) , و «درء التعارض» (5/ 27) , و «مجموع الفتاوى» (8/ 349, 10/ 384, 11/ 47, 48, 53 - 54, 79, 564, 598, 19/ 276, 24/ 339) , و «جامع المسائل» (2/ 96, 7/ 461). (4) أي موافقةُ القدرِ الواقع ولو خالفَ الشرع. (ط)

(الكتاب/124)


وأما المُجْمَلات, فمثل احتجاجهم بنهي بعض الصحابة عن ذِكْر بعض خفيِّ العلم, كقول عليٍّ عليه السلام: «حدِّثوا الناسَ بما يَعْرِفُون، ودَعُوا ما يُنكِرون، أتحبُّون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه؟» (1). وقولِ عبد الله بن مسعود: «ما مِن رجلٍ يحدِّثُ قومًا بحديثٍ لا تبلُغه عقولُهم إلا كان فتنةً لبعضهم» (2). وقولِ عبد الله بن عباس في تفسير بعض الآيات: «ما يُؤْمِنُك أني لو أخبرتُك بتفسيرها كَفَرْتَ، وكُفْرُك بها تكذيبُك بها» (3). وهذه الآثار حقٌّ، لكن يُنَزِّلُ كلٌّ منهم ذاك الذي لم يُحَدَّث به على ما يدَّعيه هو من الأسرار والحقائق التي إذا كُشِفَت وُجِدَت من الباطل أو الكفر والنفاق (4). حتى إن أبا حامدٍ في «منهاج القاصدين» (5) وغيره هو وأمثالُه تمثَّل بما _________ (1) أخرجه البخاري (127) دون قوله: «ودعوا ما ينكرون» فعند البيهقي في «المدخل إلى السنن» (610) وغيره. (2) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 11) بمعناه. (3) أخرجه ابن جرير (23/ 78) , وأبو الشيخ في «العظمة» (256). (4) انظر: «مناهج الأدلة» (133) , و «فصل المقال» (35) لابن رشد, و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 115 - 119) , و «مجموع الفتاوى» (13/ 260). (5) كذا في الأصل, وهو سهوٌ أو تحريف من الناسخ, والصواب «منهاج العابدين» كما هو اسم كتاب أبي حامد المعروف المنسوب إليه, وفي نسبته نزاع, والبيتان فيه (50) مع آخرَين يشيران إلى أن المذكورَين هنا مضمَّنان من كلام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - , ووقع اسم الكتاب على الصواب في «طبقات» السبكي (2/ 231). أما «منهاج القاصدين» فلابن الجوزي اختصر به «الإحياء» , وذكره المصنف في «التسعينية» (791) , وهو مطبوع. وانظر: «مؤلفات الغزالي» (234, 355).

(الكتاب/125)


يروى عن علي بن الحسين أنه قال (1): يا رُبَّ جَوْهرِ عِلْمٍ لو أبوحُ به ... لقيل لي: أنتَ ممَّن يعبد الوَثنا ولاسْتَحَلَّ رجالٌ مسلمون دَمِي ... يَرَوْنَ أقبحَ ما يأتُونَه حَسَنا فإذا كانت هذه طرقَ هؤلاء الذين يدَّعون من التحقيق وعلوم الأسرار ما خَرَجوا به عن السُّنة والجماعة، وزعموا أن تلك العلوم الدينية أو الكونية مختصَّةٌ بهم فآمنوا بمجملها ومتشابهها, وأنهم مُنِحُوا من حقائق العبادات وخالص الدِّيانات ما لم يُمْنَح الصَّدرُ الأول حفَّاظُ الإسلام وبدورُ المِلَّة، ولم يتجرَّؤوا عليها (2) بردٍّ وتكذيب، مع ظهور الباطل فيها تارةً وخفائه أخرى= فمن المعلوم أن العقلَ والدينَ يقتضيان أن جانبَ النبوَّة والرسالة أحقُّ بكلِّ تحقيقٍ وعلمٍ ومعرفةٍ وإحاطةٍ بأسرار الأمور وبواطنها, هذا لا ينازعُ فيه مؤمنٌ, ونحن الآن في مخاطبة من فيه إيمان. وإذا كان الأمرُ كذلك فأعلمُ الناس بذلك أخصُّهم بالرسول وأعلمُهم بأقواله وأفعاله, وحركاته وسَكَناته، ومَدْخَله ومَخْرَجه, وباطنه وظاهره، وأعلمُهم بأصحابه وسِيرته وأيامه، وأعظمُهم بحثًا عن ذلك وعن نَقَلَتِه، _________ (1) في ديوانه (19) , و «إكمال تهذيب الكمال» لمغلطاي (9/ 303). ولبعض أهل البيت في «طبقات الشافعية» للسبكي (2/ 231) , ولكلثوم بن عمرو العتابي في «تاريخ بغداد» (14/ 517) , وللحلاج في «شرح نهج البلاغة» (11/ 222). (2) أي الأحاديث المكذوبة التي سبق ذكرُ بعضها والأسرار التي يخفونها.

(الكتاب/126)


وأعظمُهم تديُّنًا به واتباعًا له واقتفاءً به. وهؤلاء هم أهلُ السُّنة والحديث، حِفظًا له, ومعرفةً بصحيحه وسقيمه، وفقهًا فيه, وفهمًا يؤتيه الله إياهم (1) في معانيه، وإيمانًا وتصديقًا، وطاعةً وانقيادًا, واقتداءً واتباعًا، مع ما يقترنُ بذلك من قوَّة عقلهم وقياسهم وتمييزهم، وعظيم مكاشَفاتهم ومخاطَباتهم، فإنهم أسَدُّ (2) الناس نظرًا وقياسًا ورأيًا، وأصدقُ الناس رؤيا وكشفًا. أفلا يعلمُ من له أدنى عقلٍ ودينٍ أن هؤلاء أحقُّ بالصِّدق والعلم والإيمان والتحقيق ممَّن يخالفُهم، وأن عندهم من العلوم ما ينكرُها الجاهلُ والمبتدع، والذي عندهم هو الحقُّ المبين, وأن الجاهلَ بأمرهم والمخالفَ لهم هو الذي معه من الحَشْو ما معه من الضلال؟! وهذا بابٌ يطولُ شرحُه؛ فإن النفوسَ لها من الأقوال والأفعال ما لا يحصُره إلا ذو الجلال. والأقوال: إخباراتٌ, وإنشاءاتٌ كالأمر والنهي. فأحسنُ الحديث وأصدقُه كتابُ الله، خبرُه أصدقُ الخبر، وبيانُه أوضحُ البيان، وأمرُه أحكَمُ الأمر, {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6]. وكلُّ من اتبع كلامًا أو حديثًا مما يقال: إنه يُلْهَمُه صاحبُه ويُوحَى إليه، أو أنه يُنْشِئه ويُحْدِثُه مما يعارض به القرآن= فهو من أعظم الظالمين ظلمًا. _________ (1) الأصل: «اياه» , وهو خطأ. (2) الأصل: «أشد» بالمعجمة, تحريف, وسبق نظيرها على الصواب (ص: 15).

(الكتاب/127)


ولهذا لمَّا ذكر الله سبحانه قولَ الذين ما قَدَرُوا الله حقَّ قَدْرِه حيثُ أنكروا الإنزالَ على البَشَر (1) , ذكَر المتشبِّهين به (2) المدَّعين لمماثلته من الأقسام الثلاثة، فإن المماثِل له إما أن يقول: إن الله أوحى إلي، أو يقول: أُوحِي إلي، وأُلقِي إلي، وقيل لي، ولا يسمي القائل، أو يضيف ذلك إلى نفسه ويذكر أنه هو المنشئ له (3). ووجه الحصر: أنه إما أن يَحْذِفَ الفاعلَ أو يَذْكُرَه، وإذا ذَكَرَه فإما أن يجعلَه من قول الله أو من قول نفسه, فإنه إذا جَعَله من كلام الشياطين لم يُقْبَل منه، وما جَعَله من كلام الملائكة فهو داخلٌ فيما يُضِيفه إلى الله وفيما حُذِف فاعلُه، فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]. وتدبَّر كيف جعَل الأوَّلَيْن في حيِّزٍ: الذي جَعَله وحيًا من الله, والذي لم (4) يُسَمِّ الموحِي، فإنهما من جنسٍ واحد في ادعاء جنس الإنباء، وجعَل الآخر في حيِّزٍ وهو الذي ادعى أن يأتي بمثله، ولهذا قال: {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ}، ثم قال: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} , فالمفتري للكذب والقائل: «أوحِي إلي» ولم يوحَ إليه شيءٌ من جملة الاسم الأول، وقد قَرَن _________ (1) سورة الأنعام: 91. (2) المتنبئين المتشبهين بالنبي. (3) انظر: «شرح الأصفهانية» (694) , و «النبوات» (901) , و «الفتاوى» (12/ 25, 15/ 156, 35/ 143). (4) الأصل: «الذي جعله وحيا من الله ولم». وهو محيلٌ للمعنى.

(الكتاب/128)


به الاسمَ الآخر، فهؤلاء الثلاثة المدَّعون لشَبَه النبوَّة، وقد تقدَّم قبلهم المكذِّبُ للنبوة، فهذا يعمُّ جميعَ أصول الكفر التي هي تكذيبٌ للرُّسل أو مضاهاتهم، كمسيلمة الكذَّاب وأمثاله. وهذه هي أصولُ البدع التي نردُّها نحن في هذا المقام؛ لأن المخالفَ للسُّنة يردُّ بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويعارضُ قولَ الرسول بما يجعلُه نظيرًا له من رأيٍ أو كَشْفٍ أو نحو ذلك. فقد تبيَّن أن الذي يسمِّي هؤلاء (1) وأئمتَهم: حَشْوِيَّةً هم أحقُّ بكلِّ وصفٍ مذمومٍ يذكرونه، وأئمةُ هؤلاء أحقُّ بكلِّ علمٍ نافعٍ وتحقيقٍ وكشفِ حقائقَ واختصاصٍ بعلومٍ لم يقف عليها هؤلاء الجهَّالُ المنكرون عليهم المكذِّبون لله ورسوله (2). فإن «الحَشْوِيَّة» (3) إن كان لأنهم يَرْوُونَ الأحاديثَ بلا تمييز, فالمخالفون لهم أعظمُ الناس قولًا لحَشْو الآراء والكلام الذي لا تُعْرَفُ صحتُه، بل يُعْلَمُ بطلانُه. وإن كان لأن فيهم عامَّةً لا يميِّزون، فما مِن فرقةٍ من تلك الفِرَق إلا وأتباعُها مِن أجهل الخلق وأكفرِهم، وعوامُّ هؤلاء عُمَّار المساجد _________ (1) يعني أهل الحديث. كما تقدم وكما سيأتي. (2) انظر لتحرير القول في اسم «الحشوية» والمراد به: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 421, 2/ 124 - 131) , و «درء التعارض» (7/ 351) , و «منهاج السنة» (2/ 520 - 521) , و «مجموع الفتاوى» (3/ 185, 12/ 176). (3) أي هذا الاسم.

(الكتاب/129)


بالصَّلوات, وأهلُ الذكر والدعوات، وحجَّاجُ البيت العتيق، والمجاهدون في سبيل الله، وأهلُ الصدق والأمانة وكلِّ خيرٍ في العالم. فقد تبيَّن لك أنهم أحقُّ بوجوه (1) الذَّم، وأن هؤلاء أبعدُ عنها، وأن الواجبَ على الخلق أن يرجعوا إليهم فيما اختصَّهم الله به من الوِرَاثة النبوية التي لا توجدُ إلا عندهم. وأيضًا (2) , فينبغي النظرُ في الموسُومين بهذا الاسم، وفي الواسِمين لهم به, أيُّهما أحق؟ وقد عُلِمَ أن هذا الاسمَ مما اشتهر عن النُّفاة ممَّن هم مَظِنَّةُ الزندقة، كما ذكر العلماءُ ــ كأبي حاتمٍ وغيره ــ أن علامة الزنادقة تسميتُهم لأهل الحديث: حَشْوِية (3). ونحن نتكلَّمُ بالأسماء التي لا نزاع فيها، مثل لفظ «الإثبات والنفي». _________ (1) الأصل: «بوجود». وأصلحت في (ط). (2) في طرة الأصل: «في نسخة الوجه التاسع أنه ينبغي. الخ». (3) انظر: «أصل السنة واعتقاد الدين» لابن أبي حاتم (173 - روائع التراث) , و «أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (1/ 200, 204) , و «معرفة علوم الحديث» للحاكم (14) , و «عقيدة السلف وأصحاب الحديث» للصابوني (299) , و «الحجة» لأبي القاسم التيمي (2/ 540) , و «الغنية» لعبد القادر الجيلاني (1/ 115). ومن موارد شيخ الإسلام النادرة جزءٌ لابن درباس الشافعي سمَّاه: «تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة» ساق فيه كلام السلف وغيرهم في هذا الباب, ولم أر له ذكرًا عند غيره. انظر: «الحموية» (533) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 380).

(الكتاب/130)


فنقول: من المعلوم أن هذا مِن تلقيب بعض الناس لأهل الحديث الذين يُقِرُّونه على ظاهره, فكلُّ من كان عنه أبعدَ كان أعظمَ ذمًّا بذلك، كالقرامطة، ثم الفلاسفة، ثم المعتزلة, وهم يذمُّون بذلك المتكلِّمةَ الصِّفاتية من الكُلَّابية والكَرَّامية والأشعرية والفقهاء والصوفية وغيرهم, فكلُّ من اتبع النصوصَ وأقرَّها سمَّوه بذلك. ومن قال بالصِّفات العقلية مثل: العلم والقدرة, دون الخبرية ونحو ذلك, يسمِّي مُثْبِتةَ الصِّفات الخبرية: حَشْوِيَّة، كما يفعلُ أبو المعالي وأبو حامدٍ (1) ونحوهما. ولطريقة أبي المعالي كان أبو محمَّدٍ (2) يَتْبَعُ في فقهه وكلامه, لكنْ أبو محمدٍ كان أعلمَ بالحديث وأتبعَ له من أبي المعالي وبمذاهب الفقهاء، وأبو المعالي أكثرُ اتباعًا للكلام، وهما في العربية متقاربان. وهؤلاء يَعِيبون منازعَهم إما لجَمْعِه حَشْوَ الحديث من غير تمييزٍ بين صحيحه وضعيفه، أو لكون اتِّباع الحديثِ في مسائل الأصول مِن مذهب الحَشْو لأنها مسائلُ علميةٌ والحديثُ لا يفيدُ ذلك, أو لأن اتِّباعَ النصوص مطلقًا في المباحث الأصولية الكلامية حَشْوٌ لأن النصوصَ لا تَفِي بذلك. _________ (1) أبو المعالي يَسِمُ بالحشو كلَّ من يجمد في نظره على الظاهر, حتى وَسَم به فقهاء الظاهرية وبعض النحاة, بالإضافة لمن ينبزهم بالمشبهة. انظر: «البرهان» (40, 45, 96, 315, 401, 545, 693, 695, 732). وكذلك تلميذه الغزالي في «الإحياء» (1/ 39, 4/ 376) , و «الاقتصاد» (9, 47) , و «مشكاة الأنوار» (73). (2) العز بن عبد السلام, وانظر ما سبق (ص: 25).

(الكتاب/131)


فالأمرُ راجعٌ إلى أحد أمرين: إما ريبٍ في الإسناد أو في المتن, إما لأنهم يُضِيفون إلى الرسول ما لم يُعْلَمْ أنه قاله, كأخبار الآحاد, ويجعلون مقتضاها العِلْم، وإما لأنهم يجعلون ما فَهِمُوه من اللفظ معلومًا وليس هو بمعلوم؛ لما في الأدلة اللفظية من الاحتمال. ولا ريب أن هذا عمدةُ كلِّ زنديقٍ ومنافقٍ يُبْطِلُ العلمَ بما بعث الله به رسلَه، تارةً يقول: لا نعلمُ أنهم قالوا ذلك، وتارةً يقول: لا نعلمُ ما أرادوا بهذا القول. ومتى انتفى العلمُ بقولهم أو بمعناه لم يُسْتَفَدْ من جهتهم عِلْمٌ، فيَتَمكَّنُ بعد ذلك أن يقول ما يقول من المقالاتِ وقد أَمِنَ على نفسه أن يُعَارَض بآثار الأنبياء؛ لأنه قد وَكَّل ثَغْرَها بذَيْنِك الرُّمْحَيْن (1) الدَّافِعَيْن لجنود الرُّسل عنه، الطَّاعِنَيْن لمن احتجَّ بها. وهذا القَدْرُ بعينه عينُ الطعن في نفس النبوَّة, بل يُقِرُّ بتعظيمهم وكمالهم إقرارَ من لا يُتَلقَّى من جهتهم عِلْمٌ، فيكونُ الرسولُ عنده بمنزلة خليفةٍ يُعطى السِّكَّةَ والخُطبةَ (2) رسمًا ولفظًا, كتابةً وقولًا, مِن غير أن يكون له أمرٌ أو نهيٌ مطاع, فله صورةُ الإمامة بما جُعِل له من السِّكَّة والخُطبة وليس له حقيقتُها. وهذا القدرُ وإن استجازه كثيرٌ من الملوك لِعَجْزِ بعض الخلفاء عن القيام بواجبات الإمارة من الجهاد والسياسة (3)، كما يفعلُ ذلك كثيرٌ من نُوَّاب الولاة لضعف مُسْتَنِيبه وعَجْزِه, فيتركَّبُ من تقدُّم ذي المنصب والبيت _________ (1) الأصل: «الدامحين». تحريف. والرُّمحان هما انتفاء العلم بقول الرسل وبمعناه. (2) أي تُضرب النقود باسمه ويخطب له على المنابر دعاء ومدحًا. (ط) (3) انظر: «جامع المسائل» (5/ 393, 394).

(الكتاب/132)


وقوَّة نائبه صلاحُ الأمر، أو فعَل ذلك لهوًى ورغبةٍ في الرياسة له ولطائفته (1) دون مَن هو أحقُّ بذلك منه وسلك مسلكَ المتغلِّبين بالعدوان= فمن المعلوم أن المؤمنَ بالله ورسوله لا يستجيزُ أن يقول في الرسالة: إنها عاجزةٌ عن تحقيق العلم وبيانه حتى يكونَ الإقرارُ بها مع تحقيق العلم الإلهيِّ من غيرها موجبًا لصلاح الدِّين، ولا يستجيزُ أن يعتدي عليها بالتقدُّم بين يدي الله ورسوله ويقدِّم علمَه وقولَه على عِلْم الرسول وقوله، ولا يستجيزُ أن يسلِّطَ عليها التأويلاتِ العقليةَ ويدَّعي أن ذلك من كمال الدِّين وأن الدِّينَ لا يكونُ كاملًا إلا بذلك. وأحسنُ أحواله أن يدَّعي أن الرسولَ [كان] عالمًا بأنَّ ما أخبر به أنَّ له تأويلاتٍ وتبيانًا غيرَ ما يدلُّ عليه ظاهرُ قوله ومفهومُه، وأنه ما ترك ذلك إلا [لأنه] (2) ما كان يُمْكِنُه بين تلك الأعراب ونحوهم، وأنه وكَلَ ذلك إلى عقول المتأخرين (3). وهذا هو الواقع؛ فإن المتفلسفةَ تقول: إن الرُّسلَ لم يتمكَّنوا مِن بيان الحقائق؛ لأن إظهارها يُفْسِدُ الناسَ ولا تحتملُ ذلك عقولُهم. ثم قد يقولون: إنهم عَرفوها، وقد يقولُ بعضهم: لم يعرفوها، أو أنا أعرَفُ بها منهم. ثم يبيِّنونها هُم بالطُّرق القياسية الموجودة عندهم. _________ (1) سياق الكلام: وهذا القدر وإن استجازه كثير من الملوك لعجز بعض الخلفاء ... أو فعل ذلك لهوى ورغبة في الرياسة ... . (2) ما بين المعكوفات ليست في الأصل, وزيدت لالتئام السياق. (3) في طرة الأصل أنه وقع هنا في نسخة: «وإنما يفعل ذلك من في قلبه مرض ونفاق».

(الكتاب/133)


ولم يَعْقِلوا أنه إن كان العلمُ بها ممكنًا فهو ممكنٌ لهم كما يدَّعون أنه ممكنٌ لهم، وإلا فلا سبيل لهم إلى معرفتها بإقرارهم. وكذلك التعبيرُ وبيانُ العلم بالخطابِ والكتابِ إن لم يكن ممكنًا فلا يُمْكِنُكم (1) ذلك، وأنتم تتكلَّمون وتكتبون علمَكم في الكتب, وإن كان ذلك ممكنًا فلا يصحُّ قولكم: «لم يُمْكِن الرُّسلَ ذلك». وإن قلتم: يمكنُ الخطابُ بها مع خاصَّة الناس دون عامتهم ــ وهذا قولُهم ــ, فمن المعلوم أن علمَ الرُّسل يكونُ عند خاصَّتهم كما يكونُ علمُكم عند خاصَّتكم. ومن المعلوم أن كلَّ من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم, وهو بذلك أقوَم, كان أحقَّ بالاختصاص به. ولا ريبَ أن أهلَ الحديث أعلمُ الأمَّة وأخَصُّها بعِلم الرسول وعِلم خاصَّته (2)، مثل: الخلفاء الراشدين, وسائر العشرة، ومثل: أُبيِّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن سَلَام، وسلمان الفارسي، وأبي الدَّرداء، وعُبَادة بن الصَّامت، وأبي ذرٍّ الغِفَاري، وعمَّار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان. ومثل: سعد بن معاذ، وأُسَيْد بن حُضَيْر، وسعد بن عُبَادة، وعَبَّاد بن بِشْر، وسالم مولى أبي حذيفة، وغير هؤلاء ممَّن كان أخصَّ الناس بالرسول وأعلمَهم بباطن أموره وأتبعَهم لذلك. _________ (1) التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب. (2) انظر: «الجواب الصحيح» (6/ 349) , و «منهاج السنة» (7/ 422) , و «مجموع الفتاوى» (3/ 347).

(الكتاب/134)


فعلماءُ الحديث أعلمُ الناس بهؤلاء وببواطن أمورهم وأتبعُهم لذلك، فيكونُ عندهم العلمُ علمُ خاصَّة الرسول وبِطَانته، كما أن خواصَّ الفلاسفة يعلمون عِلمَ أئمَّتهم، وخواصَّ المتكلمين يعلمون عِلمَ أئمَّتهم، وخواصَّ القرامطة والباطنية يعلمون عِلمَ أئمَّتهم. وكذلك أئمَّةُ الإسلام (1) مثل أئمَّة العلماء، فإن خاصَّةَ كلِّ إمامٍ أعلمُ بباطن أموره, مثل مالك بن أنس فإن ابنَ القاسم لمَّا كان أخصَّ الناس به وأعلمَهم بباطن أمره اعتَمد أتباعُه على روايته، حتى إنه عنه تؤخذُ مسائلُ السِّرِّ التي رواها ابن أبي الغَمْر (2) وإن طعَن بعضُ الناس فيها (3)، وكذلك _________ (1) الأئمة المتبوعون. (2) أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر, ثقة فقيه من أصحاب ابن القاسم (ت: 234). انظر: «ترتيب المدارك» (4/ 22) , و «تاريخ الإسلام» (5/ 864) , و «الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة» لابن قطلوبغا (6/ 287). (3) وتسمى هذه المسائل بكتاب السِّر؛ لأن فيه كثيرًا مما يتعلق بالخلفاء كما يقول ابن حجر في «التلخيص» (3/ 374) , وفي «الذخيرة» للقرافي (1/ 323) ما يوهم أنه الرسالة التي بعثها مالك إلى هارون الرشيد, وهي رسالةٌ مشهورةٌ أنكرها إسماعيل القاضي والأبهري وأصبغ وابن أبي زيد وغيرهم, وفيها أحاديثُ منكرةٌ تخالف أصول مالك وأقوالٌ لا تُعْرَف من مذهبه ورأيه. انظر: «ترتيب المدارك» (2/ 93) , و «السير» (8/ 89). ومقتضى صنيع القاضي عياض وغيره ممن اطلع على الكتابين التفريق بينهما, وقد طبعت الرسالة مرات ونسخها الخطية متوافرة بينما لم يُعْثَر على كتاب السِّر اليوم فيما علمت. وزعم أمين الخولي في ترجمته المحررة للإمام مالك (3/ 759) أن «السِّر» تحريفٌ عن السِّيَر جمع سيرة! وهو زعمٌ باطلٌ فطير. وكتاب «السِّر» من رواية الحارث بن مسكين, وابن أبي الغمر, وأصبغ بن الفرج, ثلاثتهم عن ابن القاسم عن مالك. انظر: «ترتيب المدارك» (2/ 94) , و «السير» (8/ 89) , و «التلخيص» (3/ 374) , و «تجريد أسانيد الكتب المشهورة» لابن حجر (406) , و «الديباج المذهب» (2/ 188). وقال الخليلي في «الإرشاد» (405 - منتخبه): «يروى عن عبدالرحمن بن القاسم العتقي عن مالك بن أنس كتاب السرِّ لمالك, والحفَّاظ قالوا: لا يصحُّ عن عبد الرحمن أنه روى ذلك؛ لأن فيه أشياء ينزَّه مالكٌ عنها». وجمهور المالكية على نفيه عن مالك, ومن متقدميهم: أبو بكر الأبهري في شرح «الجامع لابن عبد الحكم» (175) وروى ذلك عن ابن القاسم, وحكى ابن الحاج في «المدخل» (2/ 192) إطباق أصحاب مالك عليه. وانظر: «المفهم» (4/ 157) , وتفسير القرطبي (4/ 8) , و «عقد الجواهر الثمينة» لابن شاس (1/ 88) , و «جامع الأمهات» لابن الحاجب (261) , و «مواهب الجليل» (1/ 30, 3/ 407). وقال الطوفي في «الإشارات الإلهية» (1/ 332 - 333): «وقد شاهدناه عنه في كتاب السر من نسخة صحيحة متصلة الإسناد إليه، وأصحابه تارة يسلِّمون صحته عنه ويدَّعون رجوعه، وتارة ينكرونه عنه أصلًا, وينكرون صحة كتاب السر عنه بالأصالة ثم ينقلون من كتاب السر مسائل في غير هذا الباب, والدليل على صحته عنه أن عُظْمَ مادته عن نافع عن ابن عمر». ويظهر من هذا الموضع و «مجموع الفتاوى» (21/ 186) ميل المصنف إلى ثبوته عن مالك, وهو الأشبه.

(الكتاب/135)


أبو حنيفة: أبو يوسف ومحمَّدٌ وزُفَر أعلمُ الناس به، وكذلك غيرُهما. وقد يكتبُ العالِمُ كتابًا أو يقولُ قولًا فيكونُ بعضُ من لم يُشَافِهْهُ به أعلمَ بمقصوده مِن بعض مَن شافَهَه به، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فربَّ مُبَلَّغٍ أوعى مِن سامِع» (1) , لكن بكلِّ حالٍ لا بدَّ أن يكونَ المبلَّغ من الخاصَّة العالمين _________ (1) أخرجه البخاري (1741).

(الكتاب/136)


بحال المبلَّغ عنه، كما يكونُ في أتباع الأئمَّة من هو أفهمُ لنصوصهم من بعض أصحابهم. ومن المستقرِّ في أذهان المسلمين أن ورثةَ الرُّسل وخلفاءَ الأنبياء هم الذين قاموا بالدِّين علمًا وعملًا ودعوةً إلى الله والرسول، فهؤلاء أتباعُ الرسول حقًّا، وهم بمنزلة الطائفة الطيِّبة من الأرض التي زَكَت, فقَبِلَت الماءَ, فأنبتَت الكَلأَ والعُشْبَ الكثير، فزَكَت في نفسها وزَكَا الناسُ بها. وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوَّة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثةَ الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] , فالأيدي: القوَّة في أمر الله، والأبصار: البصائر في دين الله، فبالبصائر يُدْرَكُ الحقُّ ويُعْرَف، وبالقوة يُتَمَكَّنُ من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه. فهذه الطبقةُ كان لها قوَّةُ الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر بالتأويل، ففجَّرت من النصوص أنهارَ العلوم، واستنبطَت منها كنوزَها، ورُزِقَت فيها فهمًا خاصًّا، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقد سُئل: هل خصَّكم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ دون الناس؟ فقال: لا، والذي فَلقَ الحبَّة وبَرأ النَّسَمة، إلا فهمًا يؤتيه اللهُ عبدًا في كتابه (1). فهذا الفهمُ هو بمنزلة الكلأ والعُشب الذي أنبتته الأرض (2) , وهو الذي تميَّزت به هذه الطبقةُ عن الطبقة الثانية، وهي التي حَفِظَت النصوص، فكان _________ (1) تقدم تخريجه (ص: 114). (2) انظر: «جامع المسائل» (1/ 126 - 128).

(الكتاب/137)


همُّها حفظَها وضبطَها، فوَرَدَها الناسُ وتلقَّوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزَها, واتَّجَروا فيها، وبَذَرُوها في أرضٍ قابلةٍ للزَّرع والنبات، ووَرَدُوها (1) كلٌّ بحسبه, {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]. وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «نضَّر اللهُ امرأً سَمِعَ مقالتي, فوَعاها, فأدَّاها كما سَمِعَها، فربَّ حامل فقهٍ وليس بفقيه، وربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه» (2). وهذا عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنهما - حَبْرُ الأمة وترجمانُ القرآن مقدارُ ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغُ نحو العشرين حديثًا الذي يقول فيه: «سمعتُ» و «رأيتُ» (3)، وسَمِعَ الكثيرَ من الصحابة، وبُورِك له في فهمه والاستنباط منه _________ (1) الأصل: «ورووها» , تحريف. وعلى الصواب في «الوابل الصيب» (137) وقد نقل هذا البحث دون تصريح. (2) أخرجه الترمذي (2657) , وابن ماجه (232) , وأحمد (4157) , وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 331) وغيرهم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. وصححه الترمذي, وابن حبان (66, 68, 69) , وأبو نعيم. وروي من وجوه أخرى كثيرة تبلغ حد التواتر, وحديث ابن مسعود أصح ما في الباب. انظر: «شرف أصحاب الحديث» (18) , و «موافقة الخبر الخبر» (1/ 364) , و «مفتاح دار السعادة» (1/ 196). (3) عقد لها الحميديُّ بابًا في مسنده (1/ 220 - 228) , ولمحمد عابد السندي: «كشف الباس عما رواه ابن عباس مشافهةً عن سيد الناس» منه نسخة بخطه في التيمورية, انظر: «الأعلام» (6/ 180) , و «محمد عابد السندي» لسائد بكداش (342). وانظر للخلاف في عدَّتها: «السنن الأبين» لابن رشيد (133) , و «تهذيب سنن أبي داود» لابن القيم (6/ 362) , و «فتح الباري» (11/ 390) , و «تهذيب التهذيب» (5/ 279) , و «فتح المغيث» (1/ 273) , ومن كتب الأصول: «الفصول» لأبي بكر الجصاص (3/ 98) , و «أصول السرخسي» (1/ 360) , و «التلخيص» للجويني (2/ 423) , و «المستصفى» (2/ 284).

(الكتاب/138)


حتى ملأ الدنيا علمًا وفقهًا. قال أبو محمد بن حزم: «وجُمِعَت فتاواه في سبعة أسفارٍ كبار» (1)، وهي بحسب ما بَلَغَ جامعَها، وإلا فعلمُ ابن عباسٍ كالبحر, وفقهُه واستنباطُه وفهمُه في القرآن بالموضع الذي فاقَ به الناس، وقد سَمِعُوا ما سَمِع وحَفِظوا القرآن كما حَفِظه، ولكنَّ أرضه كانت مِن أطيب الأراضي وأقبَلِها للزَّرع، فبَذَر فيها النصوصَ، فأنبتت من كلِّ زوجٍ كريم، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. وأين تقعُ فتاوى ابن عباسٍ وتفسيرُه واستنباطُه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ ! وأبو هريرة أحفظُ منه، بل هو حافظُ الأمَّة على الإطلاق, يؤدِّي الحديثَ كما سَمِعه, ويَدْرُسُه بالليل دَرْسًا، فكانت همَّتُه مصروفةً إلى الحفظ وتبليغ ما حَفِظه كما سَمِعه (2)، وهمَّةُ ابن عباسٍ مصروفةً إلى التفقُّه _________ (1) كذا, وهو سهوٌ من سبق النظر, فقد ذكر ابن حزم في «الإحكام» (5/ 92) المكثرين من الصحابة في الفتيا ثم قال: «فهم سبعةٌ يمكنُ أن يجمعَ من فتيا كلِّ واحدٍ منهم سِفرٌ ضخم, وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن العباس في عشرين كتابًا». وذكره كذلك في «جمهرة أنساب العرب» (24). (2) ولا يعني هذا أن همَّته هذه صرفته عن التفقُّه فيما حفظ من الحديث, فإنه - رضي الله عنه - معدودٌ من فقهاء الصحابة, وذكره ابن حزم في «الإحكام» (5/ 92) في المتوسطين ممن حُفِظت عنهم الفتوى منهم. وقال الذهبي في «تذكرة الحفاظ» (1/ 32): «كان من أوعية العلم ومن كبار أئمة الفتوى» , وحلَّاه في «السير» (2/ 578) بالفقيه المجتهد, وقال في (2/ 620): «أفتى أبو هريرة في دِقَاق المسائل مع مثل ابن عباس». وانظر: «كشف الأسرار» (2/ 383). وذكر ابن الوزير في «العواصم والقواصم» (2/ 36) أن شرائط الاجتهاد كانت مجتمعةً فيه. وجمع تقيُّ الدين السبكي فتاويه في جزء. انظر: «الجواهر المضية» للقرشي (4/ 541) , و «البحر المحيط» للزركشي (4/ 316, 6/ 211, 212). وإنما أراد المصنف الشأنَ الغالب عليه إن هو قُرِنَ إلى واحدٍ من كبار فقهاء طبقته ومفتيهم كابن عباس - رضي الله عنهم -. انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 532 - 534).

(الكتاب/139)


والاستنباط, وتفجير النصوص، وشقِّ الأنهار منها, واستخراج كنوزها. وهكذا ورثتُهم من بعدهم اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص، لا على خيالٍ فلسفيٍّ، ولا رأيٍ قياسيٍّ، ولا غير ذلك من الآراء المبتدعات. لا جَرَم كانت الدائرةُ والثناءُ الصِّدقُ والجزاءُ العاجلُ والآجلُ لورثة الأنبياء التابعون (1) لهم في الدنيا والآخرة, فإن المرءَ على دين خليله, {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وبكلِّ حال, فهم أعلمُ الأمة بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرته ومقاصده وأحواله. ونحن لا نعني بأهل الحديث: المقتصرون (2) على سماعه أو كتابته أو _________ (1) كذا في الأصل, والجادة: التابعين. (2) كذا في الأصل, والجادة: المقتصرين.

(الكتاب/140)


روايته، بل نعني بهم: كلَّ من كان أحقَّ بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرًا وباطنًا، واتباعه باطنًا وظاهرًا، وكذلك أهلُ القرآن. وأدنى خصلةٍ في هؤلاء محبةُ القرآن والحديث، والبحثُ عنهما وعن معانيهما, والعملُ بما علموه من مُوجَبهما. ففقهاءُ الحديث أخبَرُ بالرسول من فقهاء غيره، وصُوفيَّتُهم أتبعُ للرسول من صوفيَّة غيرهم (1)، وأمراؤهم أحقُّ بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامَّتُهم أحقُّ بموالاة الرسول من غيرهم. ومن المعلوم أن المعظِّمين للفلسفة والكلام المعتقدِين لمضمونهما أبعدُ عن معرفة الحديث واتِّباعه مِن هؤلاء. هذا أمرٌ محسوس. بل إذا كشفتَ أحوالهم وجدتَهم مِن أجهل الناس بأقواله - صلى الله عليه وسلم - وأحواله وبواطن أموره وظاهرها، حتى تجدُ كثيرًا من العامة أعلمَ بذلك منهم. ولا يميِّزون بين ما قاله وما لم يَقُلْه، بل قد لا يفرِّقون بين حديثٍ متواترٍ عنه وحديثٍ مكذوبٍ موضوعٍ عليه، وإنما يعتمدون في موافقته على ما يوافقُ قولهم سواءً كان موضوعًا أو غيرَ موضوع، فيَعْدِلُون إلى أحاديثَ يعلمُ خاصَّةُ الرسول بالضرورة اليقينيَّة أنها مكذوبةٌ عليه عن أحاديثَ يعلمُ خاصَّتُه بالضرورة اليقينيَّة أنها قولُه. ولا يعلمون (2) مرادَه، بل غالبُ هؤلاء لا يعلمون معاني القرآن فضلًا _________ (1) انظر: «الصفدية» (1/ 267, 270) , و «شرح الأصبهانية» (676) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 177) , و «الرد على الشاذلي» (39, 73) , و «جامع المسائل» (7/ 189). (2) الأصل: «ويعلمون». وأصلحت في (ط) إلى: «وهم لا يعلمون».

(الكتاب/141)


عن الحديث، بل كثيرٌ منهم لا يحفظون القرآن أصلًا! فمَن لا يحفظُ القرآنَ ولا يعرفُ معانيه، ولا يعرفُ الحديث ومعانيه، مِن أين يكونُ عارفًا بالحقائق المأخوذة عن الرسول؟ ! وإذا تدبَّر العاقلُ وَجَد الطوائفَ كلَّما كانت الطائفةُ إلى الله ورسوله أقربَ كانت بالقرآن والحديث أعظمَ عناية، وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعَدَ كانت عنهما أنْأى، حتى تجد في أئمَّة علماء هؤلاء من لا يميِّزُ بين القرآن وغيره، بل ربَّما ذُكِرت عنده آيةٌ فقال: لا نسلِّمُ صحَّة الحديث! وربَّما قال: لقوله عليه السلام كذا، وتكونُ آيةً من كتاب الله! وقد بلَغَنا من ذلك عجائب، وما لم يبلُغْنا أكثر (1). وحدثني ثقةٌ أنه تولى مدرسة مَشْهَد الحسين بمصر بعضُ أئمة المتكلمين رجلٌ يسمَّى شمس الدين الأصبهاني (2) شيخُ الأيكي (3)، _________ (1) قال ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (3/ 35): عُقِد مرةً مجلسٌ لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية، فتكلَّم فيه بعض أكابر المخالفين، وكان خطيبَ الجامع، فقال الشيخُ شرفُ الدين عبد الله أخو الشيخ: كلامنا مع أهل السُّنة، أما أنت فأنا أكتبُ لك أحاديث من الصحيحين، وأحاديث من الموضوعات ــ وأظنه قال: وكلامًا من سيرة عنترة ــ فلا تميِّز بينها! (2) محمد بن محمود بن عباد, الأصولي شارح «المحصول» (ت: 688) , قال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (15/ 620): «قليل البضاعة من الفقه والسنة والآثار». وهو صاحب العقيدة التي شرحها المصنف بكتابه «شرح الأصبهانية» , وأشار فيه (724) إلى قلة معرفته بالقرآن والحديث. (3) محمد بن أبي بكر الفارسي, الصوفيُّ الأصوليٌّ المتكلِّم (ت: 697). انظر: «البداية والنهاية» (17/ 706) , و «شذرات الذهب» (7/ 767).

(الكتاب/142)


فأعطوه جزءًا من الرَّبْعَة (1) فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم الْمَص، حتى قيل له: ألف لام ميم صاد. فتأمَّل هذه الحكومةَ العادلة, ليتبيَّن لك أن الذين يَعِيبون أهلَ الحديث ويَعْدِلُون عن مذهبهم جهلةٌ زنادقةٌ منافقون بلا ريب. ولهذا لمَّا بلغ الإمامَ أحمد عن ابن أبي قُتَيلة أنه ذُكِر عنده أهلُ الحديث بمكة، فقال: قومُ سوءٍ, فقام الإمامُ أحمد وهو ينفضُ ثوبَه، ويقول: زنديق زنديق زنديق، ودخل بيتَه (2). فإنه عَرَف مَغْزاه. وعَيْبُ المنافقين للعلماء بما جاء به الرسولُ قديمٌ من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). وأما أهلُ العلم فكانوا يقولون: هم الأبدال (4)؛ لأنهم أبدالُ الأنبياء أو قائمون مقامَهم حقيقةً، ليسوا من المعدومين الذين لا يُعْرَفُ لهم حقيقة، كلٌّ _________ (1) وهي المصحف المجزَّء إلى ثلاثين جزءًا توضع في صندوقٍ كلُّ جزء بجلدٍ مستقل. انظر: «تاريخ الإسلام» (9/ 224) , و «التاج» و «المعجم الوسيط» (ربع). (2) أخرجه أبو عبد الله الحاكم في «معرفة علوم الحديث» (5) , والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (74) , وأبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (241) , وابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (1/ 76). (3) في طرة الأصل هنا دون علامة التصحيح: «فإنهم كانوا يُدْعَون ... القُرَّاء, فقال بعض المنافقين وهو ... : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء». (4) أخرجه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (49 - 50) وغيره عن سفيان الثوري وأحمد. وانظر: «مجموع الفتاوى» (3/ 159) , و «جامع المسائل» (2/ 67).

(الكتاب/143)


منهم يقومُ مقامَ الأنبياء في القَدْر الذي ناب عنهم فيه، هذا في العِلْم والمقال، وهذا في العبادة والحال، وهذا في الأمرين جميعًا. وكانوا يقولون: هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، الظَّاهرين (1) على الحقِّ، لأن الهدى ودينَ الحقِّ الذي بعثَ اللهُ به رسلَه معهم, وهو الذي وَعَد اللهُ بظهوره على الدين كلِّه، وكفى بالله شهيدًا. فصل وتلخيصُ النكتة: أن الرُّسل إما أنهم عَلِموا الحقائقَ الخبريَّة والطلبيَّة، أو لم يَعْلَمُوها. وإذا عَلِمُوها, فإما أنه كان يُمْكِنُهم بيانُها بالكلام والكتاب، أو لا يُمْكِنُهم ذلك. وإذا أمكَنهم ذلك, فإما أن يُمْكِنَ للعامة أو للخاصة (2). فإن قال: إنهم لم يَعْلَمُوها، وأن الفلاسفة والمتكلِّمين أعلمُ بها منهم، وأحسنُ بيانًا لها منهم= فلا ريب أن هذا قولُ الزنادقة المنافقين، وسنتكلَّمُ معهم بعد هذا (3) , إذ الخطابُ هنا لبيان أن هذا قولُ الزنادقة، وأنه لا يقولُه إلا منافقٌ أو جاهل. وإن قال: إن الرُّسلَ مقصودُهم صلاحُ عموم الخلق، وعمومُ الخلق لا يُمْكِنُهم فهمُ هذه الحقائق الباطنة، فخاطَبوهم بضرب الأمثال لينتفعوا بذلك، وأظهَروا الحقائقَ العقليةَ في القوالب الحِسِّية، فتضمَّن خطابُهم عن الله وعن اليوم الآخر من التَّخييل والتَّمثيل للمعقول بصورة المحسوس ما _________ (1) كذا في الأصل, والجادة: الظاهرون. (2) غُيِّرت في (ط) إلى: «فإما أن يمكن للعامة وللخاصة أو للخاصة فقط». (3) (ص: 148، 225).

(الكتاب/144)


ينتفعُ به عمومُ الناس في أمر الإيمان بالله وبالمعاد، وذلك يقرِّرُ في النفوس من عظمة الله وعظمة اليوم الآخر ما يَحُضُّ النفوسَ على عبادة الله وعلى الرجاء والخوف، فينتفعون بذلك وينالون السعادةَ بحسب إمكانهم واستعدادهم، إذ هذا الذي فعلته الرُّسلُ هو غايةُ الإمكان في كشف الحقائق لعموم النَّوع البشريِّ، ومقصودُ الرُّسل حِفْظُ النَّوع البشريِّ وإقامةُ مصلحة معاشه ومعاده= فمعلومٌ أن هذا قولُ حُذَّاق الفلاسفة، مثل الفارابي وابن سينا وغيرهما، وهو قولُ كلِّ حاذقٍ وفاضلٍ من المتكلِّمين في القَدْر الذي يخالفُ فيه أهلَ الحديث (1). فالفارابيُّ يقول: «إن خاصَّة النبوَّة جودةُ تخييل الأمور المعقولة في الصُّوَر المحسوسة» أو نحو هذه العبارة (2). وابن سينا يذكرُ هذا المعنى في مواضع (3)، ويقول: ما كان يمكنُ موسى بن عمران مع أولئك العِبْرانيين، ولا يمكنُ محمدًا مع أولئك العرب الجُفاة، أن يبيِّنا لهم الحقائقَ على ما هي عليه، فإنهم كانوا يعجَزون عن فهم ذلك، وإن فَهِمُوه على ما هم عليه انحلَّت عَزَماتُهم عن اتباعه؛ لأنهم لا يرون من العلم ما يقتضي العمل. _________ (1) انظر: «الصفدية» (1/ 202, 237) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 328) , و «درء التعارض» (1/ 179, 5/ 21, 7/ 333) , و «الجواب الصحيح» (6/ 519) , و «الرد على المنطقيين» (281). (2) انظر: «آراء أهل المدينة الفاضلة» (115). (3) انظر: «النجاة» (2/ 167) , و «الرسالة الأضحوية» (45, 49 - 51, 59) , ورسالة في إثبات النبوات (125 - تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات).

(الكتاب/145)


وهذا المعنى يوجدُ في كلام أبي حامدٍ وأمثاله ومَن بعده، طائفةٌ منه في «الإحياء» وغير «الإحياء» (1)، وكذلك في كلام الرازي (2). وأما الاتحاديةُ ونحوهم من المتكلِّمين فعليه مدارُهم، ومبنى كلام الباطنية والقرامطة عليه، لكن هؤلاء ينكرون ظواهرَ الأمور العملية والعِلْمية جميعًا، وأما غيرُ هؤلاء فلا ينكرون العمليَّات الظاهرة المتواترة، لكن قد يجعلونها لعموم الناس لا لخصوصهم، كما يقولون مثل ذلك في الأمور الخبرية, ومدار كلامهم على أن الرسالة متضمنةٌ لمصلحة العموم علمًا وعملًا, وأما الخاصَّة فلا. وعلى هذا يدور كلام أصحاب «رسائل إخوان الصفا» (3) وسائر فضلاء المتفلسفة. ثم منهم من يوجبُ اتِّباعَ الأمور العملية من الأمور الشرعية، وهؤلاء كثيرون في متفقِّهتهم ومتصوِّفتهم وعقلاء فلاسفتهم. وإلى هنا كان ينتهي علمُ ابن سينا إذا تاب والتزم القيام بالواجبات الناموسيَّة (4)؛ فإن قدماء الفلاسفة كانوا يوجبون اتِّباعَ النواميس التي وضعها _________ (1) انظر: «الإحياء» (1/ 100, 101) , و «المنقذ من الضلال» (182). (2) انظر: «أساس التقديس» (250) , و «المطالب العالية» (2/ 73) , و «مفاتيح الغيب» (7/ 142). (3) انظر: «رسائل إخوان الصفا» (3/ 68, 132, 138). (4) الناموس هو الشريعة والقانون والسياسة الكلية للمدائن. انظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 330) , و «الكليات» (1/ 444) , و «تكملة المعاجم» (10/ 314).

(الكتاب/146)


أكابرُ حكماء البلاد، فلَأَنْ يوجِبوا اتِّباعَ نواميس الرسل أولى, فإنهم ــ كما قال ابنُ سينا ــ: «اتفق فلاسفةُ العالم على أنه لم يقرَع العالمَ ناموسٌ أفضلُ من هذا الناموس المحمَّدي» (1) , وكلُّ عقلاء الفلاسفة متَّفقون على أنه أكملُ النوع وأفضلُ النوع البشري، وأن جنسَ الرُّسل أفضلُ من جنس الفلاسفة المشاهير، ثم قد يزعمون أن الرُّسلَ والأنبياءَ حكماءُ كبار، وأن الفلاسفة الحكماءَ أنبياءُ صغار، وقد يجعلونهم صنفان (2)، وليس هذا موضعَ شرح ذلك, فقد تكلَّمنا على ذلك في غير هذا الموضع (3). وإنما الغرض أن هؤلاء الأساطِين من الفلاسفة والمتكلِّمين غايةُ ما يقولون هذا القول، ونحن ذكرنا الأمرَ على وجه التقسيم العقليِّ الحاصِر لئلَّا يخرجَ عنه قسم، ليتبيَّن أن المخالفَ لعلماء الحديث علمًا وعملًا إما جاهلٌ وإما منافق، والمنافقُ جاهلٌ وزيادة كما سنبيِّنه إن شاء الله, والجاهل هنا فيه شعبةُ نفاق وإن كان لا يعلمُ بها, فالمنكِر لذلك جاهلٌ منافق. _________ (1) انظر: «الجواب الصحيح» (3/ 7, 5/ 90) , و «منهاج السنة» (1/ 317) , و «تفسير آيات أشكلت» (2/ 735) , و «الرد على المنطقيين» (442) , و «مجموع الفتاوى» (4/ 203, 11/ 228, 12/ 22, 337, 35/ 187). (2) كذا في الأصل, والجادة: صنفين. (3) انظر خلاف الفلاسفة في التفضيل بين النبي والفيلسوف في «منهاج السنة» (8/ 23, 59) , و «شرح الأصبهانية» (576, 721) , و «الصفدية» (1/ 249) , و «بغية المرتاد» (227) , و «النبوات» (695) , و «درء التعارض» (1/ 9, 10, 5/ 361) , و «الرد على المنطقيين» (281, 442) , و «الرد على الشاذلي» (132) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 67, 5/ 546, 7/ 589, 9/ 247, 12/ 24, 16/ 440, 17/ 356).

(الكتاب/147)


فقلنا: إن من زعمَ أنه وكبار طائفته أعلمُ من الرُّسل بالحقائق وأحسنُ بيانًا لها= فهذا زنديقٌ منافقٌ إذا أظهَر الإيمانَ بهم باتفاق المؤمنين بهم. وسيجيء الكلامُ معه. وإن قال: إن الرُّسل كانوا أعظمَ علمًا وبيانًا، لكن هذه الحقائق لا يمكنُ علمُها، أو لا يمكنُ بيانُها مطلقًا، أو يمكنُ الأمرين (1) للخاصَّة= قلنا: فحينئذٍ لا يمكنُكم أنتم ما عَجَزت عنه الرُّسلُ من العلم والبيان. إن قلتم: لا يمكنُ علمُها= قلنا: فأنتم وأكابركم لا يمكنُكم علمُها بطريق الأولى. وإن قلتم: لا يمكنُهم بيانُها= قلنا: فأنتم وأكابركم لا يمكنُكم بيانها. وإن قلتم: يمكنُ ذلك للخاصَّة دون العامة= قلنا: فيمكنُ ذلك للخاصَّة من الرُّسل دون عامَّتهم (2). فإن ادَّعوا أنه لم يكن في خاصَّة أصحاب الرُّسل من يمكنُهم فَهْمُ ذلك= جَعَلوا السَّابقين الأوَّلين دون المتأخِّرين في العلم والإيمان, وهذا من مقالات الزنادقة؛ لأنه جعل بعض الأمم الأوائل من اليونان والهند ونحوهم أكمل عقلًا وتحقيقًا للأمور الإلهية والمَعَادِيَّة (3) من هذه الأمة, فهذا مِن _________ (1) كذا في الأصل, والجادة: الأمران. (2) في العبارة قلب. وأصلحت في (ف) إلى: «من الرسل للخاصة دون عامتهم». وفي (ط) تعليقًا: أي بيانها من الرسل لخاصة الناس دون عامتهم. (3) أمور المعاد والبعث واليوم الآخر. وتحرفت في (ط) إلى: «وللعادية» , وفي (ف): «وللعبادية».

(الكتاب/148)


مقالات المنافقين الزنادقة؛ إذ المسلمون متَّفقون على أن هذه الأمة خيرُ الأمم وأكملُهم، وأن أكمل هذه الأمة وأفضلَها سابقوها. وإذا سُلِّمَ ذلك فأعلمُ الناس بالسَّابقين وأتبعُهم لهم هم أهلُ الحديث وأهلُ السُّنة. ولهذا قال الإمامُ أحمد في رسالة عَبْدُوس بن مالك (1): «أصول السُّنة عندنا التمسُّكُ بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , والاقتداءُ بهم، وتركُ البدع، وكلُّ بدعةٍ فهي ضلالة، والسُّنة عندنا آثارُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والسُّنةُ تفسِّر القرآن، وهي دلائلُ القرآن»، أي دلالاتٌ على معناه. ولهذا ذكر العلماءُ أن الرَّفض أساسُ الزندقة (2)، وأن أول من ابتدعَ الرَّفض إنما كان منافقًا زنديقًا (3)، وهو ابن سبأ، فإنه إذا قُدِحَ في السابقين الأولين فقد قُدِحَ في نقل الرسالة، أو في فهمها، أو في اتِّباعها. فالرافضةُ تقدحُ تارةً في علمهم بها، وتارة في اتِّباعهم لها، وتحيلُ ذلك على أهل _________ (1) أبو محمد العطار, قال الخلال: كانت له عند أحمد منزلة وله به أنسٌ شديد. أخرج رسالته اللالكائي في «اعتقاد أهل السنة» (1/ 176) , وابن أبي يعلى في ترجمته من «طبقات الحنابلة» (2/ 166) , وغيرهما. (2) وذلك أنه كان بابًا ولج منه الإسماعيلية ونحوهم من الزنادقة إلى كفرهم. قال الغزالي في «فضائح الباطنية» (37) عنهم: «مذهبٌ ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض». وقال المصنف: «التشيع دهليز الرفض, والرفض دهليز القرمطة». انظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 230, 4/ 428, 22/ 367). (3) انظر: «المقالات والفرق» للقُمِّي (20) , و «فرق الشيعة» للنوبختي (22) عن «أصول مذهب الشيعة» للقفاري (1/ 82) , و «منهاج السنة» (7/ 459).

(الكتاب/149)


البيت والمعصوم الذي ليس له وجودٌ في الوجود. والزنادقةُ من الفلاسفة والنُّصَيرية وغيرهم يقدحون تارةً في النقل وهو قولُ جهَّالهم، وتارةً يقدحون في فهم الرسالة وهو قولُ حذَّاقهم كما يذهبُ إليه أكابرُ الفلاسفة والاتحادية ونحوهم. حتى كان التِّلِمْساني (1) مرةً مريضًا فدخل عليه شخصٌ ومعه بعض طلبة الحديث، فأخذ يتكلَّم على قاعدته في الفِكْر أنه حِجَاب، وأن الأمر مدارُه على الكَشْف، وغرضُه كشفُ الوجود المطلق، فقال ذلك الطالب: فما معنى قول أم الدرداء: «كان أفضلُ عمل أبي الدَّرداء التفكُّرُ» (2) , فتبرَّم بدخول مثل هذا عليه، وقال للذي جاء به: كيف يدخلُ عليَّ مثل هذا؟ ! ثم قال: أتدري يا بنيّ ما مَثَل أبي الدرداء وأمثاله؟ مَثَل أقوامٍ سمعوا كلامًا وحَفِظُوه لنا حتى نكونَ نحن الذين نفهمُه ونعرفُ مرادَ صاحبه، ومَثَلُه بَرِيدٌ _________ (1) سليمان بن علي, الملقَّب بالعفيف وهو من أفجر الناس كما يقول المصنف, من غلاة الاتحادية وأعظمهم تحقيقًا للزندقة (ت: 690) , قرئ عليه مرةً «فصوص الحكم» لابن عربي, فقيل له: هذا الكلام يخالف القرآن، فقال: القرآن كله شركٌ وإنما التوحيد في كلامنا, فقيل له: إذا كان الوجود واحدًا فلماذا تحرَّم علي أمي وتباح لي امرأتي؟ فقال: الجميع عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرامٌ عليكم. انظر: «تاريخ الإسلام» (15/ 654) , و «الجواب الصحيح» (4/ 302, 500) , و «الصفدية» (1/ 244) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 175, 201, 244, 471, 13/ 186, 197). (2) أخرجه ابن المبارك (286, 872) , ووكيع (224) , وأحمد (135) , وهنَّاد (958) جميعهم في الزهد, وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 208, 4/ 253, 7/ 300) وغيرهم من وجهين صحيحين.

(الكتاب/150)


حمَل كتابًا من السُّلطان إلى نائبه (1). أو نحو ذلك, فقد طال عهدي بالحكاية، حدَّثني بها الذي دخل عليه (2) وهو ثقةٌ يعرفُ ما يقول في هذا، وكان له في هذه الفنون جَوَلانٌ كثير. _________ (1) قال كمال الدين المراغي: كنت أقرأ عليه في «فصوص الحكم» , فلما صار يشرحه لي أقول: هذا خلاف القرآن والأحاديث, فقال: ارم هذا كله خلف الباب واحضر بقلب صافٍ حتى تتلقى هذا التوحيد! «مجموع الفتاوى» (2/ 245). ونقل عنه الذهبي نحو هذه القصة, قال: حكى لي أنه قرأ عليه في المواقف للنفري, فجاء موضعٌ يخالف الشرع, فحاققتُه عليه, فقال: إن كنت تريدُ تعرف علم القوم فخذ الشرع والكتاب والسنة فلفَّها واطرحها! قال: فمقتُّه وانقطعتُ من ذلك اليوم. انظر: «الدرر الكامنة» (4/ 184). ونحوها في «الصفدية» (1/ 245). (2) لعله الشيخ العابد الزاهد أبو القاسم كمال الدين عمر بن إلياس المراغي (ت: 733) صاحب الحكايات السابقة, وصفه شيخ الإسلام في «الفتاوى» (2/ 244) بالعالم العارف شيخ زمانه. سمع الحديث, وأخذ عن البيضاوي المنهاج وغيره من كتبه ومن طريقه تروى في البرامج والأثبات, وقرأ على النصير الطوسي والتلمساني فلما تبين له ضلالهما تركهما. ترجم له الذهبي في معجمه وأثنى عليه, نقله ابن حجر في «الدرر الكامنة» (4/ 184) وليس في مطبوعة المعجم. ولقيه ابن بطوطة وذكره في رحلته (1/ 252). واجتمع به ابن كثير في دمشق عندما وردها سنة 729 وسأله عن ابن تيمية فقال: «هو عندي رجلٌ كبير القدر, عالمٌ مجتهدٌ شجاعٌ صاحب حقٍّ, كثير الردِّ على هؤلاء الحلولية والاتحادية ... , واجتمعتُ به مرارًا وشكرته على ذلك, وكان أهل هذا المذهب الخبيث يخافون منه كثيرًا, وكان يقول لي: ألا تكون مثلي؟ فأقول له: لا أستطيع! ». انظر: «الرد الوافر» (216) , و «طبقات الشافعية» لابن كثير (2/ 719) , و «المختصر في أخبار البشر» (4/ 107). ويحتمل أن يكون الإمام الحافظ جمال الدين المزي, فقد صحب التلمسانيَّ زمنًا ثم فارقه وتبرأ منه حين تبين له ضلاله. انظر: «تذكرة الحفاظ» (1499).

(الكتاب/151)


وكذلك ابنُ سينا وغيرُه يذكرون من التنقُّص بالصحابة ما وَرِثه عن أبيه وشيعته القرامطة (1)، حتى تجدهم إذا ذكروا في آخر الفلسفة حاجةَ النوع [البشريِّ] إلى الإمامة عرَّضوا بقول الرافضة الضُّلَّال, لكن أولئك يصرِّحون من السَّبِّ بأكثر مما يصرِّحُ به هؤلاء. ولهذا تجدُ بين الرافضة والقرامطة والاتحادية اقترانًا واشتباهًا, تجمعهم أمور, منها: * الطعنُ في خِيار هذه الأمة، وفيما عليه أهل السُّنة والجماعة، وفيما استقرَّ من أصول المِلَّة وقواعد الدين. * ويدَّعون باطنًا امتازوا به واختصُّوا به عمَّن سواهم. ثم هم مع ذلك متلاعِنون متباغِضون مختلفون، كما رأيتُ وسمعتُ من ذلك ما لا يحصى، كما قال الله عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]، وقال عن اليهود: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ _________ (1). أخبر ابنُ سينا أن أباه كان ممن أجاب الحاكم داعي الإسماعيلية بمصر. انظر: «نكت في أحوال الشيخ الرئيس ابن سينا» للكاشي (10) , و «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» للقفطي (547). وقال المصنف: «أهل بيت ابن سينا كانوا من أتباع هؤلاء وأبوه وجدُّه (كذا, ولعلها: وأخوه) من أهل دعوتهم, وبسبب ذلك دخل في مذاهب الفلاسفة». انظر: «الصفدية» (1/ 3, 2/ 18) , و «بغية المرتاد» (183) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 101, 5/ 406) , و «درء التعارض» (1/ 289, 5/ 10) , و «الرد على المنطقيين» (141) , و «شرح الأصبهانية» (723) , و «مجموع الفتاوى» (11/ 571, 13/ 249, 35/ 186).

(الكتاب/152)


الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64]. وكذلك المتكلِّمون المخلِّطون (1) الذين يكونون تارةً مع المسلمين وإن كانوا مبتدعين، وتارةً مع الفلاسفة الصَّابئين، وتارةً مع الكفار المشركين، وتارةً يقابِلون بين الطوائف وينظُرون لمن تكونُ الدائرة، وتارةً يتحيَّرون بين الطوائف. وهذه الصفة كَثُرَت في كثيرٍ ممَّن انتسب إلى الإسلام من العلماء والأمراء وغيرهم، لاسيَّما لما ظهر المشركون من التُّرك على أرض الإسلام بالمشرق في أثناء المئة السابعة, وكان كثيرٌ ممن ينتسبُ إلى الإسلام فيه من النفاق والردَّة ما أوجبَ تسليطَ المشركين وأهل الكتاب (2). فتجدُ أبا عبد الله الرازي يطعنُ في دلالة الأدلَّة اللفظية على اليقين، وفي إفادة الأخبار للعلم، وهذان هما مقدِّمتا الزندقة كما قدَّمناه (3) , ثم يعتمدُ فيما أقرَّ به من أمور الإسلام على ما عُلِمَ بالاضطرار من دين الإسلام، مثل العبادات والمحرَّمات الظاهرة, وكذلك الإقرار بمعاد الأجساد (4) , مع أن _________ (1). الأصل: «المختلطون». والمثبت من (ط) أشبه بالصواب. (2). انظر: «اقتضاء الصراط» (1/ 358) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 475, 13/ 179, 182, 22/ 254, 34/ 205). والمراد بالترك التتار. قال ابن دقيق العيد: «إنما استولت التتار على بلاد المشرق لظهور الفلسفة فيهم وضعف الشريعة». «مجموع الفتاوى» (2/ 245). (3). (ص: 132). (4). انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 72, 6/ 344, 8/ 381) , و «مجموع الفتاوى» (13/ 139, 140).

(الكتاب/153)


الاطلاع (1) على التفاسير والأحاديث يجعلُ العلمَ بذلك مستفادًا من أمور كثيرة. فلا يعطِّلُ تعطيلَ الفلاسفة الصَّابئين, ولا يُقِرُّ إقرارَ الحنفاء العلماء المؤمنين. وكذلك الصَّحابة، وإن كان يقولُ بعدالتهم فيما نقلوه, وبعلمهم في الجملة، لكن يزعمُ في مواضعَ أنهم لم يَعْلَموا شبهات الفلاسفة وما خاضوا فيه؛ إذ لم يجد مأثورًا عنهم التكلُّم بلغة الفلاسفة، ويجعلُ هذا حجةً له في الردِّ على من يزعم ... (2). وكذلك هذه المقالات لا تجدُها إلا في أجهل المتكلِّمين في العلم وأظْلَمِهم, من هؤلاء المتكلِّمة والمتفلسفة والمتشيِّعة والاتحادية. مثل قول كثيرٍ من الملوك (3) والمتأمِّرة في الصحابة (4): إنَّا أشجعُ منهم، وإنهم لم يقاتلوا مثل العدوِّ الذي قاتلناه، ولا باشَروا الحروبَ مباشرتَنا، ولا سَاسُوا سياستَنا (5). وهذا لا تجدُه إلا في أجهل الملوك وأظْلَمِهم. _________ (1). الأصل: «بعد الاطلاع». والمثبت أدنى إلى استقامة السياق. (2). بياض في الأصل بمقدار نصف سطر. (3). الأصل: «العلما». ويشبه أن تكون محرفة عن المثبت. (4). وقعت «في الصحابة» في الأصل بعد كلمة «والاتحادية» , ومحلها هنا أظهر. (5). انظر: «النبوات» (635) , و «التسعينية» (942).

(الكتاب/154)


فإنه (1) إن أراد أن نفسَ ألفاظهم (2) وما يتوصَّلون به إلى بيان مرادهم من المعاني لم يعلموه (3) = فهذا لا يضرُّهم؛ إذ العلمُ بلغات الأمم ليس ممَّا يجبُ على الرُّسل وأصحابهم، بل يجبُ ما لا يتمُّ التبليغُ إلا به, فالمتوسِّطون بينهم من التَّراجِمَة يعلمون لفظ كلٍّ منهما ومعناه، فإن كان المعنيان واحدًا كالشمس والقمر وإلا عَلِمُوا ما بين المعنيين من الاجتماع والافتراق وبيَّنوا لكلٍّ منهما مرادَ صاحبه، كما تُصَوَّرُ المعاني ويُبَيَّن ما بين المعنيين من التماثل والتشابه والتقارب. فالصحابةُ كانوا يعلمون ما جاء به الرسول، وفيما جاء به بيانُ الحجَّة على بطلان كفر كلِّ كافرٍ وبيانُ ذلك بقياسٍ صحيحٍ أحقُّ وأحسنُ بيانًا من مقاييس أولئك الكفار، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] , أخبَر سبحانه أن الكفَّار لا يأتونه بقياسٍ عقليٍّ لباطلهم إلا جاءه الله بالحقِّ، وجاء من البيان والدليل وضَرْبِ المَثَلِ بما هو أحسنُ تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحقِّ من قياسهم (4). وجميعُ ما تقوله الصابئةُ والمتفلسفةُ وغيرُهم من الكفَّار من حُكمٍ أو دليلٍ يندرجُ فيما عَلِمَه الصحابة. وهذه الآيةُ ذكَرها الله تعالى بعد قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي _________ (1). أي الرازي. (2). أي الفلاسفة. (3). أي الصحابة. (4). انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 452, 4/ 50, 6/ 300).

(الكتاب/155)


اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 30، 31] , فبيَّن أن من هَجَر القرآنَ فهو من أعداء الرُّسل، وأن هذا أمرٌ لا بدَّ منه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 ــ 29]. والله تعالى قد أرسل نبيَّه محمدًا إلى جميع العالمين، وضرَبَ الأمثالَ فيما أرسله به لجميعهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27] , فأخبر أنه ضرَبَ لجميع الناس في هذا القرآن من كلِّ مَثَل. ولا ريب أن الألفاظَ في المخاطَبات تكونُ بحسب الحاجات كالسِّلاح في المحاربات (1) , فإذا كان عدوُّ المسلمين هم في تحصُّنهم وتسلُّحهم على صفةٍ غير الصفة التي كانت عليها فارسُ والروم= كان جهادُهم بحسب ما توجبُه الشريعةُ التي مبناها على تحرِّي ما هو لله أطوعُ وللعبد أنفع (2) وهو الأصلحُ في الدنيا والآخرة. _________ (1). ومن يتكلف السجع والمحسنات البديعية دون فائدة مطلوبة من المعاني «كالمجاهد الذي يزخرف السلاح وهو جبان». «منهاج السنة» (8/ 55). (2). انظر: «منهاج السنة» (4/ 44) , و «الاستقامة» (1/ 340) , و «الجواب الصحيح» (6/ 42) , و «مجموع الفتاوى» (7/ 652, 22/ 300, 313) , و «جامع المسائل» (6/ 165).

(الكتاب/156)


وقد يكون الخبيرُ بحروبهم أقدرَ على حربهم ممَّن ليس كذلك، لا لفضل قوَّته وشجاعته ولكن لمجانسَته لهم، كما يكونُ الأعجميُّ المتشبِّه بالعرب ــ وهم خيارُ العجم ــ أعلمَ بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي، وكما يكونُ العربيُّ المتشبِّه بالعجم ــ وهم أدنى العرب ــ أعلمَ بمخاطبة العرب من العجمي, فقد جاء في الحديث: «خيارُ عَجَمِكم المتشبِّهون بعَرَبكم، وشِرارُ عَرَبكم المتشبِّهون بعَجَمكم» (1). ولهذا لمَّا حاصَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أهلَ الطائف رماهم بالمَنْجَنِيق (2)، وقاتَلهم قتالًا لم يقاتِل مثلَه في المُزَاحَفة (3) في يوم بدرٍ وغيره. وكذلك لمَّا حُوصِر المسلمون عام الخندَق اتخَذوا من الخندق ما لم يحتاجوا إليه في غير الحصار. وقد قيل: إن سلمان أشار عليهم بذلك (4)، فسلَّموا ذلك لأنه طريقٌ إلى فعل ما أمر الله به ورسوله. _________ (1). لم أجد له أصلًا, ولم يورده المصنف فيما رأيت من كتبه. (2). الرواية في هذا الباب ليِّنة, وأمثل ما فيها مرسل مكحول عند ابن سعد في «الطبقات» (2/ 146) , وأبي داود في «المراسيل» (335). انظر: «نصب الراية» (3/ 382) , و «البدر المنير» (9/ 93, 96) , و «التلخيص الحبير» (4/ 196) , و «مرويات غزوة حنين وحصار الطائف» للقريبي (1/ 293 - 297). (3). وهي الدنوُّ والمقاربة إذا التقى الصَّفَّان, كما قال تعالى في بدر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي مزاحفة. (4). ذكره أصحاب المغازي والسير. انظر: «مغازي الواقدي» (2/ 445) , و «فتح الباري» (7/ 392) , و «مرويات غزوة الخندق» للمدخلي (142).

(الكتاب/157)


وقد قرَّرنا في «قاعدة السُّنة والبدعة» (1) أن البدعة في الدِّين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمرَ إيجابٍ ولا استحباب. فأما ما أمر به أمرَ إيجابٍ أو استحباب، وعُلِمَ الأمرُ به بالأدلة الشرعية، فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك. وسواءٌ كان هذا مفعولًا على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن. فما فُعِلَ بعده بأمره ــ مِن قتال المرتدِّين والخوارج المارقين وفارس والرُّوم والتُّرك، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب, وغير ذلك ــ هو مِن سُنَّته. ولهذا كان عمرُ بن عبد العزيز يقول: «سَنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -[وولاةُ الأمر بعده] (2) سُنَنًا الأخذُ بها تصديقٌ لكتاب الله، واستكمالٌ لطاعة الله، وقوَّةٌ على دين الله, ليس لأحدٍ تغييرُها ولا النظرُ في رأي من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتدٍ, ومن استنصَر بها فهو منصور, ومن خالفها واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين ولَّاه الله ما تولى وأصلاه جهنَّم وساءت مصيرًا» (3). _________ (1). أشار إليها في «الاستقامة» (1/ 5) , و «مجموع الفتاوى» (10/ 371, 21/ 319). وذكرها ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (73) , وابن رُشَيِّق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (306 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام) , ولم أقف عليها. وقد حرَّر القول في البدعة في «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 82 - 120). (2). سقطت من الأصل, وزيادتها لازمة, إذ هي موضع الشاهد. وهي في مصادر تخريج الأثر, و «الفتوى الحموية» (302). (3). أخرجه الآجري في «الشريعة» (92, 698) , وابن بطه في «الإبانة» (1/ 352) , وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 324) , وغيرهم من طريق مالك عن عمر, ولم يسمع منه. وروي من وجه آخر يحسَّنُ به عند اللالكائي في «أصول اعتقاد أهل السنة» (134) وفي إسناده ضعف.

(الكتاب/158)


فسنَّةُ خلفائه الراشدين هي ممَّا أمر اللهُ به ورسوله، وعليه أدلةٌ شرعيةٌ مفصَّلةٌ ليس هذا موضعها (1). فكما أن الله بيَّن في كتابه مخاطبةَ أهل الكتاب، وأقام عليهم الحجة بما بيَّنه من أعلام رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - , وما في كتبهم من ذلك، وما حرَّفوه وبدَّلوه من دينهم، وصدَّق بما جاءت به الرُّسل قبله, حتى إذا سَمِع ذلك الكتابيُّ العالِمُ المنصفُ وجَد ذلك كلَّه من أبين الحجَّة وأقوم المحجَّة. والمناظرةُ والمحاجَّةُ لا تنفعُ إلا مع العدل والإنصاف، وإلا فالظالمُ يجحدُ الحقَّ الذي يعلمه ــ وهو المُسَفْسِطُ والمُقَرْمِط (2) ــ، ويمتنعُ عن الاستماع والنظر في طريق العلم ــ وهو المُعْرِضُ عن النظر والاستدلال ــ. فكما أن الإحساسَ الظاهرَ لا يحصُل للمعرِض ولا يقومُ للجاحد، فكذلك الشُّهودُ الباطنُ لا يحصُل للمعرِض عن النظر والبحث، بل طالبُ _________ (1). انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 308, 31/ 37, 35/ 22 - 23). (2). المسفسط: ينكر الحقائق الموجودة بالتمويه والتلبيس والمغالطة. والمقرمط: يجعل للنص معنًى باطنًا يخالف ظاهره بلا برهان. فالسفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات. انظر: «منهاج السنة» (1/ 279) , و «الصفدية» (2/ 158) , و «بغية المرتاد» (327) , و «النبوات» (625) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 457, 2/ 100, 5/ 38, 283, 387) , و «درء التعارض» (1/ 218, 276, 279, 286, 2/ 15, 5/ 34, 256, 8/ 59).

(الكتاب/159)


العلم يجتهدُ في طلبه مِن طُرقه, ولهذا سُمِّي: مجتهدًا، كما يسمَّى المجتهدُ في العبادة وغيرها: مجتهدًا، كما قال بعض السَّلف: «ما المجتهدُ فيكم إلا كاللاعب فيهم» (1). وقال أُبيُّ بن كعب وابنُ مسعود: «اقتصادٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة» (2). وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اجتهد الحاكمُ فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (3). وقال معاذُ بن جبل ــ ويروى مرفوعًا, وهو محفوظٌ عن معاذ ــ: «عليكم بالعلم, فإن تعلُّمه خشية، وطلبَه عبادة، ومذاكرَته تسبيح، والبحثَ عنه جهاد، وتعليمَه لمن لا يَعْلَمُه صدقة، وبذلَه لأهله قربة» (4) , فجَعَل الباحثَ عنه مجاهدًا في سبيل الله. ولمَّا كانت المحاجَّةُ لا تنفعُ إلا مع العدل، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا _________ (1). أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (179) , وأبو خيثمة في «العلم» (69) عن مجاهد. وأخرجه ابن أبي شيبة (19/ 308) , وأحمد في «الزهد» (2268) عن مجاهد عن عبيد بن عمير. (2). أخرجه الطبراني في «الكبير» (10/ 207) , وابن بطه في «الإبانة» (1/ 329, 358) وغيرهما عن ابن مسعود. وأخرجه اللالكائي في «أصول اعتقاد أهل السنة» (115) عن أبي الدرداء. (3). أخرجه البخاري (7352) , ومسلم (1716). (4). تقدم تخريجه (ص: 52)، وانظر: (ص: 63).

(الكتاب/160)


أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، فالظالمُ ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن. وإذا حصَل مِن مُسْلِمَة أهل الكتاب الذين عَلِمُوا ما عندهم بلُغَتِهم وترجموا لنا بالعربية انتُفِع بذلك في مناظرتهم ومخاطبتهم، كما كان عبد الله بن سَلَام وسلمانُ الفارسي وكعبُ الحَبْر (1) وغيرُهم يحدِّثون عما عندهم من العلم، وحينئذٍ يُسْتَشْهَدُ بما عندهم على موافقة ما جاء به الرسول، ويكونُ حجةً عليهم من وجهٍ وعلى غيرهم من وجهٍ آخر، كما بيَّناه في موضعه. والألفاظُ العِبْريَّةُ تُقارِبُ العربيَّةَ بعض المقاربة (2)، كما تتقاربُ _________ (1). بفتح الحاء وكسرها. انظر: «غريب الحديث» لأبي عبيد (1/ 87). وكان ابن سيرين يكره أن يقال له: «كعب الحبر» ويقول: «كعب المسلم». انظر: «العلل» للإمام أحمد برواية عبد الله (2/ 390). ويقال له: «كعب الأحبار» , وهو أشهر. (2). قال أبو محمد بن حزم في «الإحكام» (1/ 31): «الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينًا أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر لا لغة حمير لغةٌ واحدةٌ تبدَّلت بتبدُّل مساكن أهلها» , ثم ذكر أمثلة من اختلاف اللهجات في العربية, ثم قال: «فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل». وقال السهيلي في «التعريف والإعلام» (20): «وكثيرًا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ». وانظر نماذج للتقارب بين ألفاظ اللغتين في «هداية الحيارى» (143) , و «جلاء الأفهام» (218 - 220). وانظر تقرير هذا في كتب نحاة العبرانية اليهود: «اللمع» لمروان بن جناح القرطبي (7) , و «المستلحق» له (135) , ورسائله (78, 263) , و «الموازنة بين اللغة العبرانية واللغة العربية» لإسحاق بن بارون (22) , و «الرسالة» ليهوذا بن قريش.

(الكتاب/161)


الأسماء (1) في الاشتقاق الأكبر, وقد سمعتُ ألفاظَ التوراة بالعِبْريَّة مِن مُسْلِمة أهل الكتاب فوجدتُ اللغتين متقاربتين غايةَ التقارب، حتى صرتُ أفهمُ كثيرًا من كلامهم العِبْريِّ بمجرَّد المعرفة بالعربية (2). والمعاني الصحيحة (3) إما مقاربةٌ لمعاني القرآن أو مثلُها أو بعينها، وإن كان في القرآن من الألفاظ والمعاني خصائصُ عظيمة. فإذا أراد المجادلُ منهم [أن] يذكُر ما يَطْعَنُ في القرآن بنقلٍ أوعقل، مثل أن ينقُل عما في كتبهم عن الأنبياء ما يخالفُ ما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، أو خلافَ ما ذكره الله في كتبهم، كزعمِهم للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن الله أمرَهم بتَحْمِيم الزاني دون رجمِه= أمكَن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أن يطلبوا التوراةَ ومن يقرؤها بالعِبريَّة ويترجمُها من ثقات التراجمة، كعبد الله بن سَلَام ونحوه لمَّا قال لحَبْرهم: ارفع يدَك عن آية الرجم، فإذا هي تَلُوح، ورجَم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الزانيَيْن منهما بعد أن أقام عليهم الحجَّة من كتابهم، وذلك أنه موافقٌ لما أنزله الله عليه من الرَّجم، وقال: «اللهمَّ إني أولُ من أحيا أمرَك إذ أماتُوه» (4). ولهذا قال ابنُ عباسٍ في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44]، قال: محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من النبيِّين الذين _________ (1). الأصل: «الاسمان». والمثبت من (ط) أولى بالصواب. (2). انظر: «مجموع الفتاوى» (7/ 95). (3). أي في التوراة. (4). أخرجه مسلم (1700) من حديث البراء بن عازب. والقصة في البخاري (3635, 4556, 6819, 6841, 7543) ومسلم (1699) من حديث ابن عمر.

(الكتاب/162)


أسلموا (1). وهو لم يحكُم إلا بما أنزل الله عليه، كما قال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. وكذلك يمكنُ أن يقرأ من نسخةٍ مترجَمةٍ بالعربية، قد ترجمها الثقاتُ بالخطِّ واللفظ العربيَّين, يعلمُ بهما ما عندهم بواسطة المترجمين الثقات من المستأمنين (2) , أو ممَّن يعلمُ خطَّهم منَّا كزيد بن ثابتٍ ونحوه لما أمره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلَّم ذلك، والحديث معروفٌ في السنن (3)، وقد احتجَّ به البخاريُّ في باب «ترجمة الحاكم, وهل يجوز تَرجمانٌ [واحد] (4)؟ »، قال: «وقال خارجةُ بن زيدٍ عن زيد بن ثابت: أن النبيَّ أمره أن يتعلَّم كتابَ اليهود، حتى كتبتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبَه، وأقرأتُه كتبَهم إذا كتبوا إليه» (5). والمكاتبةُ بخطِّهم والمخاطبةُ بلغتهم من جنسٍ واحد، وإن كانا قد يجتمعان وقد ينفردُ أحدُهما عن الآخر (6)، مثل كتابة اللفظ العربيِّ بالخطِّ العِبْريِّ وغيره من خطوط الأعاجم، وكتابة اللفظ العجميِّ بالخطِّ العربي, _________ (1). أخرجه ابن جرير (8/ 449, 451) عن الحسن والسدي وعكرمة. (2). الأصل: «المسلمين» , وهو تحريف. (3). أخرجه أبو داود (3645) , والترمذي (2715) , وأحمد (21618) , وغيرهم بإسنادٍ حسن, وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح, وقد روي من غير هذا الوجه عن زيد بن ثابت» , وصححه الحاكم (1/ 147) ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: «تغليق التعليق» (5/ 307) , و «السلسلة الصحيحة» (187). (4). سقطت من الأصل, وهي ضرورية, يشير إلى الخلاف في الاكتفاء بترجمة الواحد. (5). «صحيح البخاري» (9/ 76). (6). الأصل: «الأخرى».

(الكتاب/163)


وقد لا يتفقُ ذلك. ولهذا قال سبحانه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية [آل عمران: 93] , فأمرنا أن نطلبَ منهم إحضار التوراة وتلاوتها إن كانوا صادقين في نقل ما يخالفُ ذلك (1)، فإنهم كانوا {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78]، ويكتبون الكتابَ بأيديهم ويقولون هو من عند الله، ويكذبون في كلامهم وكتابهم؛ فلهذا لا تقبلُ الترجمةُ إلا من ثقة. فإذا احتجَّ أحدُهم على خلاف القرآن بروايةٍ عن الرُّسل المتقدِّمين، مثل الذي يروى عن موسى أنه قال: «تمسَّكوا بالسَّبت ما دامت السمواتُ والأرض» (2) = أمكننا أن نقولَ لهم: في أيِّ كتابٍ هذا؟ أحْضِروه, وقد عَلِمنا أن هذا ليس في كتبهم, وإنما هو مفترًى مكذوب (3) , وعندهم _________ (1). كما قال في تمام الآية: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. (2). في العهد القديم, سفر الخروج, الإصحاح (31: 16): فليحفظ بنو إسرائيل السبت حافظين إياه مدى أجيالهم عهدًا أبديًّا. (3). قيل: إن ابن الراوندي وضعه لليهود. انظر: «العدة» للقاضي أبي يعلى (3/ 777) , و «التبصرة» للشيرازي (254) , و «التلخيص» للجويني (2/ 310, 471) , و «شرح مختصر الروضة» (2/ 95). وتأوله بعضهم على التسليم بصحته. انظر: «المحصول» (3/ 305) , و «تخجيل من حرَّف التوراة والإنجيل» (550) , و «شرح تنقيح الفصول» (305) , و «إيثار الحق على الخلق» لابن الوزير (72).

(الكتاب/164)


النبوءاتُ (1) التي هي مئتان وعشرون، وكتاب المشنو (2) الذي معناه المَثْناة، وهي [التي] جعلها عبد الله بن عمرٍو فينا من أشراط السَّاعة، فقال: «لا تقومُ السَّاعةُ حتى تُقْرأ فيكم المَثْناة. أوَتَدْرُونَ ما المَثْناة؟ ما كُتِبَ من الكتب غيرَ كتاب الله» (3). _________ (1). رسمت في الأصل و (ط, ف) بلا همز. وفي أسفار الأنبياء من التوراة نبوءات كثيرة, فلا أدري أهي التي أراد المصنف أم نبوءات أخرى في تأليف مستقل؟ (2). كذا في الأصل, وهي المِشْنا بالعبرية وتعني الشريعة المكرَّرة, وهو معنى «المثناة» بالعربية. والمِشْنا مجموعة الأحكام والتعاليم والفتاوى والوصايا التشريعية وشروح التوراة التي تناقلها أحبار اليهود شفهيًّا من عهد موسى عليه السلام حتى عهد يهودا هناسي الذي قام بجمعها وتدوينها في نهاية القرن الثاني الميلادي, وأصبحت أساس التلمود ومتنه, ويعدُّها جمهور اليهود المصدر الثاني للتشريع بعد التوراة ويزعمون أنها توراة وشريعة شفهية أنزلت على موسى, ومنهم طوائف كالقرائين والسامريين والصدوقيين ردَّتها ورأت أنها مما اختلقه أولئك الأحبار. انظر: «بذل المجهود في إفحام اليهود» للسموأل بن يحيى (183, 195) , و «الأصول» لمروان بن جناح (735) , و «هداية الحيارى» (47) , و «جلاء الأفهام» (220) , و «الكنز المرصود في قواعد التلمود» لروهلنج (29) , و «التلمود تاريخه وتعاليمه» لظفر الدين خان (11 - 21) , و «الفكر الديني الإسرائيلي أطواره ومذاهبه» لحسن ظاظا (78) , وموسوعة اليهود واليهودية (الموجزة) للمسيري (2/ 119, 124, 126). (3). أخرجه الدارمي (493) , وابن أبي شيبة (38704) , والبيهقي في «شعب الإيمان» (4834) وغيرهم بإسنادٍ حسن, ورفعه بعضهم ولا يصح, وقيل: إنه في حكم المرفوع لأنه مما لا يقال بالرأي, وهو محتمل. واختلف في المراد بالمثناة, فذهب أبو عبيد في «غريب الحديث» (4/ 282) وابن تيمية هنا إلى أنها من كتب اليهود, قال أبو عبيد: «سألت رجلًا من أهل العلم بالكتب =

(الكتاب/165)


وكذلك إذا سئلوا عمَّا في الكتاب من ذِكْر أسماء الله وصفاته, لتقام _________ = الأُوَل قد عرفها وقرأها عن المثناة, فقال: إن الأحبار والرهبان من بني إسرائيل بعد موسى وضعوا كتابًا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله تبارك وتعالى, فسموه المثناة, كأنه يعني أنهم أحلُّوا فيه ما شاؤوا وحرموا فيه ما شاؤوا على خلاف كتاب الله, فبهذا عرفتُ تأويل حديث عبد الله بن عمرو أنه إنما كره الأخذ عن أهل الكتاب لذلك المعنى، وقد كانت عنده كتبٌ وقعت إليه يوم اليرموك, فأظنه قال هذا لمعرفته بما فيها, ولم يرد النهي عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته, وكيف ينهى عن ذلك وهو من أكثر الصحابة حديثًا عنه». وقال الجوهري في «الصحاح» (2294): «يقال: هي التى تسمى بالفارسية دوبيت، وهو الغناء». وذهب أبو الفضل القونوي في «الهابط الغوي من معاني المثنوي» (67 - 72) إلى أنها «المثنوي» لجلال الدين الرومي وأن لفظ «المثناة» في الحديث مغيَّر عنه. ومال الألباني في «الصحيحة» (2821) إلى أن المقصود بها كتب الفقه المذهبي! والحقُّ مفرَّق بين هذه الأقوال, فعبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - يشيرُ بلا ريب إلى مثناة اليهود التي زاحموا بها التوراة كتابَ ربهم وألبسوها ثياب القداسة, إلا أن في سياق الحديث اختصارًا, وفقهه هو أن هذه الأمة ستتخذُ من الكتب مثناةً كمثناة اليهود تصرفُها عن كتاب ربها ووحيه, لا أنها ستتخذُ مثناة اليهود نفسها كما تأول أبو عبيد, وذلك دأبُ هذه الأمة في السير على سنن أهل الكتاب, ولذا ذكرتُ أن الحكم برفع الحديث محتمل؛ لأن فيه مجالًا للقياس والاجتهاد. ويشهد لهذا قول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: «إن الأحاديث كثرت على عهد عمر، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب؟ ! » , أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/ 187) , لكن القاسم لم يدرك عمر. والسُّنة من الوحي, وإنما خشي عمر - رضي الله عنه - وغيره ممن نهى عن كتابة الحديث من الصحابة أن ينكبَّ الناس على تلك الكتب يومئذ ويشتغلوا بها عن القرآن, وإلا فاحتجاج عمر بالحديث وروايته له مما يعلم بالضرورة.

(الكتاب/166)


الحجةُ عليهم وعلى غيرهم بموافقة الأنبياء المتقدِّمين لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فحرَّفوا الكَلِمَ عن مواضعه= أمكَن معرفةُ ذلك، لما تقدَّم (1). وإن ذكروا حجَّةً عقليةً فهمت ايضا مين (2) ما في القرآن بردِّها، مثل إنكارهم للنَّسخ بالعقل، حتى قالوا: لا ينسَخُ ما حرَّمه، ولا ينهى عما أمَر به، فقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] , قال البراء بن عازب ــ في «الصحيحين» (3) ــ: هم اليهود. فقال سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] , فذكَر ما في النَّسخ من تعليق الأمر بالمشيئة الإلهية، ومِن كَون الأمر الثاني قد يكونُ أصلحَ وأنفع، فقوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بيانٌ للأصلح الأنفع، وقوله: {مَنْ يَشَاءُ} ردٌّ للأمر إلى المشيئة. وعلى بعض ما في الآية اعتمادُ جميع المتكلمين حيث قالوا: التكليفُ إما تابعٌ لمحض المشيئة كما يقولُه قوم، أو تابعٌ للمصلحة كما يقولُه قوم، وعلى التقديرين فهو جائز (4). ثم إنه سبحانه بيَّن وقوعَ النَّسخ بتحريم الحلال في التوراة بأنه أحلَّ _________ (1). ويحتمل أن تقرأ: كما تقدم. (2). كذا رسمت العبارة في الأصل, ولم أتبين صوابها, والمراد ظاهر من السياق. (3). صحيح البخاري (399) ومسلم (525) , واللفظ للبخاري. (4). انظر: «اللمع» (55) , و «قواطع الأدلة» (3/ 76) , و «الإحكام» للآمدي (3/ 143) , و «الإبهاج» (5/ 1640).

(الكتاب/167)


لإسرائيل أشياءَ ثم حرَّمها في التوراة، وأن هذا كان تحليلًا شرعيًّا بخطابٍ لم يكونوا استباحوه بمجرَّد البقاء على الأصل حتى لا يكون رفعُه نسخًا، كما يدعيه قومٌ منهم. وأمَر بطلب التوراة في ذلك, وهكذا وجدناه فيها، كما حدَّثنا بذلك مُسْلِمَةُ أهل الكتاب في غير موضع (1). وهكذا مناظرةُ الصَّابئة الفلاسفة والمشركين ونحوهم، فإن الصَّابئ الفيلسوف إذا ذَكر ما عند قدماء الصَّابئة الفلاسفة من الكلام الذي عُرِّبَ وتُرْجِمَ بالعربية, وذَكَره إما صِرفًا وإما على الوجه الذي تصرَّف فيه متأخِّروهم بزيادةٍ ونقصان، وبسطٍ واختصار، وردِّ بعضه وإتيانٍ بمعانٍ أُخَر ليست فيه, ونحو ذلك= فإنْ ذَكَر ما لا يتعلَّقُ بالدين، مثل الطبِّ والحساب المحض التي يذكرون فيها ذلك، وكتبَ من أخَذ عنهم مثل محمد بن زكريا الرازي (2) وابن سينا ونحوهما من الزنادقة الأطباء, ما غايتُه انتفاعٌ بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا= فهذا جائز, كما تجوزُ السُّكنى في ديارهم، ولبسُ ثيابهم وسلاحهم. وكما تجوز مُفَالَحتُهم (3) على الأرض، كما عامل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يهودَ _________ (1). انظر: «بذل المجهود في إفحام اليهود» للسموأل بن يحيى (19 - 52). (2). طبيب فيلسوف, ملحد في الإلهيات والنبوات, ينصر قول الفلاسفة القائلين بالقدماء الخمسة (ت: 313). انظر: «طبقات الأطباء» لابن جلجل (77) , و «منهاج السُّنة» (2/ 572) , و «درء التعارض» (9/ 346) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 477). (3). المفالحة: مفاعَلة من الفِلاحة, وهي المساقاة والمعاملة على الأرض. انظر: «المغني» (7/ 538) , و «الإقناع» (2/ 274) , و «المنتهى» (3/ 49).

(الكتاب/168)


خيبر (1). وكما استأجر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو وأبو بكر لما خرجا من مكة مهاجرَيْن رجلًا من بني الدِّيل هاديًا خرِّيتًا، والخرِّيتُ الماهرُ بالهداية، وائتمناه على أنفسهما ودوابِّهما، وواعداه غارَ ثورٍ صُبْحَ ثالثة (2). وكانت خزاعةُ عَيْبةَ نُصْحِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) مسلمُهم وكافرُهم (4)، وكان يقبلُ نصحَهم. وكلُّ هذا في «الصحيحين». وكان أبو طالب ينصرُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويذبُّ عنه مع شِركه. وهذا كثير, فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمَن، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]، ولهذا جاز ائتمانُ أحدهم على المال، وجاز أن يُسْتَطَبَّ الكافرُ إذا كان ثقةً، نصَّ على ذلك الأئمة كأحمد وغيره (5)؛ إذ ذاك قبولٌ لخبرهم فيما يَعْلَمُونه من أمر الدنيا وائتمانٌ لهم على ذلك، وهو جائزٌ إذا لم يكن فيه مفسدةٌ راجحةٌ مثل ولايته _________ (1). أخرجه البخاري (2328) ومسلم (1551). (2). أخرجه البخاري (2263, 2264, 3905). (3). أخرجه البخاري (2731). وعيبة نصحه أي موضع النصح له والأمانة على سرِّه. (4). أخرجه أحمد (18910) بسندٍ حسن. (5). ظاهر المروي عن أحمد الكراهة, وعنه ما يفيد الجواز. انظر: «الإرشاد» (546) , و «المستوعب» (2/ 815) , و «الآداب الشرعية» (2/ 428).

(الكتاب/169)


على المسلمين وعلوِّه عليهم ونحو ذلك (1). فأخذُ عِلْم الطبِّ من كتبهم مثلُ الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه، بل هذا أحسن؛ لأن كتبَهم لم يكتبوها لمعيَّنٍ من المسلمين حتى تدخُل فيها الخيانة، وليس فيها حاجةٌ إلى أحدٍ منهم بالحياة (2)، بل هي مجرَّدُ انتفاعٍ بآثارهم، كالملابس والمساكن والمزارع والسِّلاح ونحو ذلك. وإن ذَكَر (3) ما يتعلَّقُ بالدين، فإنْ نقلوه عن الأنبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حالًا، وإن أحالوا معرفتَه على القياس العقليِّ، فإن وافقَ ما في القرآن فهو حقٌّ، وإن خالفه ففي القرآن بيانُ بطلانه بالأمثال المضروبة، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، ففي القرآن الحقُّ والقياسُ البيِّن الذي يبيِّنُ بطلانَ ما جاؤوا به من القياس. وإن كان ما يذكرونه مجملًا فيه الحقُّ [وفيه الباطل] (4) , وهو الغالبُ على الصَّابئة المبدِّلين مثل أرسطو وأتباعه وعلى من اتبعَهم من الآخِرين (5) , _________ (1). لابن الحاج العبدري (ت: 737) فصلٌ ذائع في كتابه «المدخل» (4/ 107 - 111) في التشنيع على استطباب أهل الكتاب, فيه مبالغةٌ وتهويل. (2). (ط): «وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة». (3). أي الصابئ الفيلسوف عن قدماء الصابئة الفلاسفة. (4). زدت ما بين المعكوفات لاقتضاء السياق, ومن الحقِّ ما سيأتي (ص: 288). (5). أتباع أرسطو هم الفلاسفة المشاؤون, وأتباعهم الآخِرون هم المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام كالفارابي وابن سينا وابن رشد وأضرابهم. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 155, 4/ 347, 5/ 225) , و «الرد على المنطقيين» (335) , و «درء التعارض» (1/ 157, 3/ 324, 5/ 9, 6/ 210, 9/ 415).

(الكتاب/170)


[فالواجبُ] قبولُ الحقِّ وردُّ الباطل، والحقُّ من ذلك لا يكونُ بيانُ صفة الحقِّ فيه كبيان صفة الحقِّ في القرآن, فالأمرُ في هذا موقوفٌ على معرفة القرآن ومعانيه وتفسيره وترجمته. والترجمةُ والتفسير ثلاثُ طبقات (1): أحدها: ترجمةُ مجرَّد اللفظ، مثل نقل اللفظ بلفظٍ مرادِف، ففي هذه الترجمة يريدُ أن تَعْرِفَ أن الذي يعنى بهذا اللفظ عند هؤلاء هو بعينه الذي يعنى باللفظ عند هؤلاء. فهذا علمٌ نافع؛ إذ كثيرٌ من الناس يقيِّدُ المعنى باللفظ، فلا يجرِّدُه عن اللفظين جميعًا. والثانية: ترجمةُ المعنى وبيانُه, بأن يصوِّر المعنى للمخاطَب، فتصويرُ المعنى له وتفهيمُه إياه قدرٌ زائدٌ على ترجمة اللفظ، كما يشرحُ للعربيِّ كتابًا عربيًّا قد سَمِع ألفاظَه العربيةَ لكنه لم يتصوَّر معانيه ولا فَهِمَها. وتصويرُ المعنى يكونُ بذكر عينِه, أو نظيره, أو تركيب صفاتٍ من مفرداتٍ يفهمُها المخاطَبُ يكونُ ذلك المركَّب صورةَ ذلك المعنى، إما تحديدًا وإما تقريبًا (2). الدرجة الثالثة: بيانُ صحة ذلك المعنى وتحقيقه بذكر الدليل والقياس الذي يحقِّقُ ذلك المعنى، إما بدليلٍ مجرَّدٍ وإما بدليلٍ يبيِّن علَّة وجوده. وهنا قد يحتاجُ إلى ضرب أمثلةٍ ومقاييسَ تفيدُه التصديقَ بذلك المعنى، _________ (1). انظر: «الرد على المنطقيين» (48 - 61) , و «مجموع الفتاوى» (6/ 65). (2). انظر ما سيأتي (ص: 173).

(الكتاب/171)


كما يحتاجُ في الدرجة الثانية إلى أمثلةٍ لتصوُّر ذلك المعنى. وقد يكونُ نفسُ تصوُّره مفيدًا للعلم بصدقه، وإذا كفى تصوُّر معناه في التصديق به لم يحتَجْ إلى قياسٍ ومَثَلٍ ودليلٍ آخر. فإذا عُرِفَ القرآنُ هذه المعرفة فالكلامُ الذي يوافقُه أو يخالفُه من كلام أهل الكتاب والصَّابئين والمشركين لا بدَّ فيه من الترجمة للَّفظ والمعنى أيضًا، وحينئذٍ فالقرآنُ فيه تفصيلُ كلِّ شيء, كما قال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. ومعلومٌ أن الأمَّة مأمورةٌ بتبليغ القرآن لفظِه ومعناه، كما أُمِر بذلك الرسول، ولا يكونُ تبليغُ رسالة الله إلا كذلك، وأن تبليغَه إلى العَجَم قد يحتاجُ إلى ترجمته لهم، فيُتَرجَمُ لهم بحسب الإمكان (1)، والترجمةُ قد تحتاجُ إلى ضرب أمثالٍ لتصوير المعاني، فيكونُ ذلك من تمام الترجمة. وإذا كان من المعلوم أن أكثر المسلمين ــ بل أكثر المنتسبين منهم إلى العلم ــ لا يقومون بترجمة القرآن وتفسيره وبيانه، فغيرُهم أن يعجَز عن ترجمة ما عنده وبيانه أولى بذلك؛ لأن عقلَ المسلمين أكمل، وكتابَهم أقومُ قِيلًا وأحسنُ حديثًا، ولغتَهم أوسع، لا سيَّما إذا كانت تلك المعاني غير _________ (1). حكى المصنف اتفاق العلماء على جواز ترجمة معاني القرآن لمن لا يعرف العربية في غير الصلاة. انظر: «الجواب الصحيح» (1/ 221, 2/ 52 - 56, 63, 67 - 71, 3/ 20) , و «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 230, 474) , و «درء التعارض» (1/ 43) , و «مجموع الفتاوى» (6/ 542).

(الكتاب/172)


محقَّقة، بل فيها باطلٌ كثير؛ فإن ترجمةَ المعاني الباطلة وتصويرَها صعب؛ لأنه ليس لها نظيرٌ من الحقِّ من كلِّ وجه (1). فإذا سئلنا عن كلامٍ يقولونه: هل هو حقٌّ أو باطل، ومِن أين يتبيَّن الحقُّ فيه والباطل؟ [قيل:] (2) من القرآن, بالحجَّة والدَّليل، كما كان المشركون وأهلُ الكتاب يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مسائل أو يناظِرونه، وكما كانت الأممُ تجادِلُ رسلَها؛ إذ كثيرٌ من الناس يدَّعي موافقةَ الشريعة للفلسفة. مثال ذلك: إذا ذكروا «العقول العشرة» و «النفوس التسعة» , وقالوا: إن العقلَ الأول هو الصَّادرُ الأولُ عن الواجب بذاته، وإنه من لوازم ذاته ومعلولٌ له، وكذلك الثاني عن الأول، وإن لكل فلَكٍ عقلًا ونفسًا (3). قيل: قولكم: «عقل» و «نفس» لغةٌ لكم، فلا بدَّ من ترجمتها، وإن كان اللفظُ عربيًّا فلا بدَّ من ترجمة المعنى. _________ (1). كما قال المصنف: «اعلم أن المذهب إذا كان باطلًا في نفسه لم يمكن الناقل له أن ينقله على وجهٍ يُتَصَوَّر تصوُّرا حقيقيًّا, فإن هذا لا يكون إلا للحق». انظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 145) , و «درء التعارض» (3/ 326). (2). زيادة تقديرية لالتئام السياق. (3). وهي نظرية الفيض والصدور عندهم. انظر: «الإشارات والتنبيهات» (3/ 150) , و «النجاة» (2/ 133) , و «آراء أهل المدينة الفاضلة» (55) , و «تهافت الفلاسفة» (145) , و «بغية المرتاد» (241) , و «الصفدية» (1/ 125, 279, 2/ 283) , و «درء التعارض» (1/ 35) , و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 264) , و «الرد على المنطقيين» (221, 308, 389).

(الكتاب/173)


فيقولون: العقلُ هو الرُّوح المجرَّدة عن المادَّة, وهي الجسدُ وعلائقها, سمَّوه عقلًا ويسمُّونه مفارِقًا، ويسمُّون تلك المفارِقات للموادِّ لأنها مفارِقةٌ للأجساد، كما أن روحَ الإنسان إذا فارقت جسدَه كانت مفارِقةً للمادَّة التي هي الجسد (1). والنفسُ هي الروحُ المدبِّرةُ للجسم، مثل نفس الإنسان إذا كانت في جسمه، فمتى كانت (2) في الجسم كانت محرِّكةً له، فإذا فارقَتْه صارت عقلًا محضًا، أي: يَعْقِلُ العلومَ من غير تحريكٍ بشيء من الأجسام. فهذه العقولُ والنفوس, وهذا الذي ذكرناه مِن أحسن الترجمة عن معنى العقل والنفس، وأكثرُهم لا يحصِّلون ذلك (3). قالوا: وأثبتنا لكلِّ فلَكٍ نفسًا لأن الحركة اختياريةٌ فلا تكونُ إلا لنفسٍ، ولكلِّ نفسٍ عقلًا لأن العقلَ كاملٌ لا يحتاجُ إلى حركة، والمتحرِّكُ يطلبُ الكمالَ فلا بدَّ أن يكون فوقه ما يتشبَّه (4) به وما يكونُ علةً له، ولهذا كانت حركةُ أنفسنا للتشبُّه بما فوقنا من العقول، وكلُّ ذلك تشبُّهٌ بواجب الوجود بحسب الإمكان. والأول لا يَصْدُر عنه إلا عقل؛ لأن النفسَ تقتضي جسمًا، والجسمُ فيه كثرة، والصَّادرُ عنه لا يكونُ إلا واحدًا. ولهم في الصُّدور اختلافٌ كثيرٌ ليس _________ (1). انظر: «الصفدية» (2/ 251 - 258). (2). الأصل: «فمتى إذا كانت». ولعله من سهو الناسخ، والمثبت من (ف) أجود. (3). انظر: «مجموع الفتاوى» (9/ 271 - 294). (4). الأصل: «يشبه».

(الكتاب/174)


هذا موضعه (1). قيل لهم: أما إثباتكم أن في السماء أرواحًا فهذا يُشْبِهُ ما في القرآن وغيره من كتب الله، ولكن ليست هي الملائكة كما يقولُ الذين يزعمون منكم أنهم آمنوا بما أُنزِلَ على الرسول وما أُنزِل مِن قبله ويقولون: ما أردنا إلا الإحسانَ والتوفيقَ بين الشَّريعة والفلسفة (2)، فإنهم قالوا: العقولُ والنفوسُ عند الفلاسفة هي الملائكةُ عند الأنبياء (3). وليس كذلك، لكن تُشْبِهُها من بعض الوجوه. فإن اسمَ الملائكة والمَلَك يتضمَّنُ أنهم رُسُلُ الله، كما قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]، وكما قال: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]، فالملائكةُ رسلُ الله في تنفيذ أمره الكونيِّ الذي يدبِّر به السموات والأرض، كما قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]، وكما قال: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وأمرِه الدينيِّ الذي _________ (1). انظر ما تقدم قريبًا عن نظرية الفيض والصدور عند الفلاسفة. (2). كابن رشد وله كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» , وابن سينا, وإخوان الصفا, كما سيأتي (ص: 298). وكالراغب الأصفهاني, والشهرستاني, انظر: «تتمة صوان الحكمة» (112, 141). (3). انظر: «تهافت الفلاسفة» (188, 226) , و «تهافت التهافت» (484) , و «الصفدية» (2/ 252, 286) , و «منهاج السُّنة» (5/ 447) , و «بغية المرتاد» (219, 223) , و «درء التعارض» (7/ 368) , و «الرد على المنطقيين» (102) , و «الرد على الشاذلي» (42, 138) , و «الجواب الصحيح» (4/ 151) , و «مجموع الفتاوى» (9/ 105, 12/ 156).

(الكتاب/175)


تَنْزِلُ به الملائكة، فإنه {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، وقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]، وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. وملائكةُ الله لا يحصي عددَهم إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]. وقيل لهم: الذي في الكتاب والسُّنة مِن ذِكْر الملائكة وكثرتهم أمرٌ لا يُحْصَر، حتى قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَطَّت السماءُ وحُقَّ لها أن تَئطّ (1)، ما فيها موضعُ أربع أصابع إلا ملكٌ قائمٌ أو قاعدٌ أو راكعٌ أو ساجد» (2)، وقال الله _________ (1). أصل الأطيط: صوت الأقتاب. وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها. والمعنى أن كثرة ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطَّت. «النهاية» (أطط). (2). أخرجه أحمد (21516) , والترمذي (2312) , وابن ماجه (4190) وغيرهم من حديث إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن مورِّق عن أبي ذر بإسنادٍ ضعيف, مورِّق لم يسمع من أبي ذر, وإبراهيم بن مهاجر ليس بالقوي. وروي عن أبي ذر موقوفًا, وهو أشبه. انظر: مختصر تلخيص المستدرك (7/ 3532). وأخرجه البزار (3208) , والطحاوي في «مشكل الآثار» (1134) من حديث حكيم بن حزام بإسنادٍ حسن. وفي الباب عن جابر وأنس بن مالك والعلاء بن سعد - رضي الله عنهم -.

(الكتاب/176)


تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5]. فمن جعلهم عشرة، أو تسعة عشر، أو زعم أن التسعة عشر الذين على سَقَر هم العقولُ والنفوس= فهذا جهلُه بما جاء عن الله ورسوله وضلالُه في ذلك بيِّن؛ إذ لم يتَّفق الاسمان في صفة المسمَّى ولا في قَدْره كما تكونُ الألفاظُ المترادفة، وإنما اتفقَ المسمَّيان في كون كلٍّ منهما روحًا متعلِّقًا بالسَّماوات, وهذا من بعض صفات ملائكة السَّماوات. فالذي أثبتوه بعض الصِّفات لبعض الملائكة، وهو بالنسبة إلى الملائكة وصفاتهم وأقدارهم وأعدادهم في غاية القِلَّة، أقلُّ مما يؤمنُ به السَّامِرَة من الأنبياء بالنسبة إلى الأنبياء؛ إذ لا يؤمنون بعد موسى ويوشَع بنبيٍّ (1). كيف وهم لم يثبتوا للملائكة من الصِّفة إلا مجرَّدَ ما عَلِمُوه من نفوسهم, مجرَّد العلم للعقول، والحركة الإرادية للنفوس. ومن المعلوم أن الملائكة لهم من العلوم والأحوال والإرادات والأعمال _________ (1). السامرة أو السامريون من فرق اليهود, يخالفون سائر اليهود في توراتهم وشريعتهم, ولا يعترفون بالمشنا (التي سبقت الإشارة إليها) , ولا بنبوة من بعد موسى ويوشع كداود وسليمان وعيسى عليهم السلام, وذكر المصنف أنهم في اليهود كالرافضة في المسلمين. انظر: «الملل والنحل» (1/ 199) , و «الجواب الصحيح» (2/ 23, 450, 3/ 40, 42, 50, 424, 426) , و «منهاج السُّنة» (1/ 37, 5/ 174) , و «الرد على المنطقيين» (290) , و «جامع الرسائل» (1/ 270) , و «مجموع الفتاوى» (28/ 479).

(الكتاب/177)


ما لا يحصِيه إلا ذو الجلال، ووصفُهم في القرآن بالتسبيح والعبادة لله أكثرُ من أن يُذْكَر هنا، كما ذكر [تعالى] في خطابه للملائكة، وأمرِه لهم بالسجود لآدم, وقوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] , وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]، وقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 ــ 29]، وقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، وقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية [غافر: 7]، وقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] , وقوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وقوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 124، 125]، وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، وقوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ (1) سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26]، _________ (1). الأصل: «فأنزل الله». وهو سهو وسبق ذهن إلى آية التوبة: 40.

(الكتاب/178)


وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50]، وقوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]، وقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وقوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 ـ 16]. وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 ــ 12] , وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات: 1 - 3] , وقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إلى قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 149 - 166]. وفي «الصَّحيحين» (1) عن جابر بن سَمُرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا _________ (1). هو من أفراد مسلم (430). انظر: «الجمع بين الصحيحين» للحميدي (1/ 339).

(الكتاب/179)


تَصُفُّون كما تَصُفُّ الملائكةُ عند ربها؟ » قالوا: وكيف تصفُّ الملائكةُ عند ربها؟ قال: «يسدُّون الأوَّل [فالأوَّل]، ويتراصُّون في الصَّفّ» (1). وفي «الصحيحين» (2) عن قتادة, عن أنس, عن مالك بن صعصعة في حديث المعراج, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , لمَّا ذكر صعودَه إلى السماء السابعة, قال: «فرُفِعَ لي البيتُ المعمور, فسألتُ جبريل، فقال: هذا البيتُ المعمورُ يصلِّي فيه كلَّ يومٍ سبعون ألفَ مَلَك، إذا خرجوا لم يعودوا آخرَ ما عليهم». وقال البخاري (3): وقال همام, عن قتادة, عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيت المعمور. فهذا أمرٌ لا يحصيه إلا الله. وفي «الصحيحين» (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أمَّن القارئُ فأمِّنوا؛ فإنه من وافقَ تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه»، وفي الرواية الأخرى في «الصحيحين» (5): «إذا قال: آمين فإن الملائكةَ في السماء تقولُ: آمين». _________ (1). كذا بالأصل, وما بين المعكوفين استدركته من كتب المصنف حيث يورد الحديث بهذا اللفظ. ولفظ مسلم: «يتمُّون الصفوف الأوَل ويتراصُّون في الصف». (2). البخاري (3207) , ومسلم (164). (3). (4/ 111). (4). البخاري (780, 6402) , ومسلم (410). (5). البخاري (781) , ومسلم (410). ولفظه عندهما: «إذا قال أحدكم: آمين, والملائكة في السماء: آمين, فوافقت إحداهما الأخرى ... ».

(الكتاب/180)


وفي «الصحيحين» (1) أيضًا عن أبي صالح, عن أبي هريرة, أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال الإمام: سمعَ الله لمن حَمِدَه، فقولوا: اللهمَّ ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قولُه قولَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه». وفي «الصحيح» (2) عن عروة، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - , أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الملائكة تنزلُ في العَنَان, وهو السحاب, فتَذْكُر الأمرَ قُضِيَ في السماء، فتسترقُ الشياطينُ السَّمْعَ، فتَسْمَعُه، فتوحيه إلى الكهَّان، فيكذِبُون معها مئة كذبةٍ من عند أنفسهم». وفي «الصحيحين» (3) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لله ملائكةً سيَّارةً فُضْلًا (4) يَتْبَعُون مجالسَ الذِّكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذِكْرٌ قعَدوا معهم، وحفَّ بعضُهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرَّقوا عَرَجُوا وصَعِدوا إلى السماء، فيسألهم الله وهو أعلم: مِن أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادٍ لك في الأرض, يسبِّحونك, ويكبِّرونك، ويهلِّلونك, ويحمَدونك، ويسألونك. قال: وما يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنَّتك. قال: وهل رأوا جنَّتي؟ قالوا: لا أي رب، قال: فكيف لو رأوا جنَّتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: وممَّ يستجيرونني؟ قالوا: مِن نارك. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا يا رب. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: _________ (1). البخاري (796) , ومسلم (409). (2). البخاري (3210). (3). البخاري (6408) , ومسلم (2689) واللفظ له. (4). أي زائدين على الملائكة الحَفَظة.

(الكتاب/181)


ويستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرتُ لهم, وأعطيتُهم ما سألوا، وأجَرْتُهم مما استجاروا. قال: يقولون: ربِّ، فيهم فلانٌ عبد خطَّاء، إنما مرَّ فجلس معهم. قال: فيقول: وله قد غفرتُ، هم القومُ لا يشقى بهم جليسُهم». وفي «الصحيحين» (1) عن عروة، عن عائشة حدَّثته أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحُد؟ قال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يومَ العقبة؛ إذ عَرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفِق إلا وأنا بقَرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سَمِعَ قولَ قومك وما ردُّوا عليك، وقد بعثَ إليك مَلَكَ الجبال لتأمُره بما شئتَ فيهم، فناداني مَلَكُ الجبال، فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهم الأخشَبَيْن» , قال - صلى الله عليه وسلم -: «بل أرجو أن يُخْرِجَ اللهُ من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشركُ به شيئًا». وأمثالُ هذه الأحاديث الصِّحاح ما فيها مِن ذِكْر الملائكة الذين في السَّموات وملائكة الهواء والجبال وغير ذلك كثيرةٌ. وكذلك الملائكةُ المتصرِّفون في أمور بني آدم، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتَّفق عليه (2) حديث الصَّادق المصدوق, يقول: «ثم يُبْعَثُ إليه _________ (1) البخاري (3231) , ومسلم (1795). (2) البخاري (3208) , ومسلم (2643).

(الكتاب/182)


المَلَكُ, فيؤمرُ بأربع كلمات، فيقال: اكتُب رزقَه, وأجلَه، وعملَه (1)، وشقيٌّ أو سعيد، ثم ينفخُ فيه الرُّوح». وفي «الصَّحيح» (2) حديث البراء بن عازب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسَّان: «اهجُهم ــ أو هَاجِهم ــ وجبريلُ معك». وفي «الصَّحيح» (3) أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «أجِبْ عنِّي، اللهم أيِّدْه برُوح القُدُس». وفي «الصَّحيح» (4) عن أنس قال: «كأني أنظرُ إلى غبارٍ ساطعٍ في سِكَّة بني غَنْمٍ, مَوْكِبَ جبريل». وفي «الصَّحيحين» (5) عن عائشة, أن الحارث بن هشام قال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحيُ؟ قال: «أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَة الجَرَس، وهو أشدُّه عليَّ، فيَفْصِمُ عني وقد وَعَيْتُ ما قال، وأحيانًا يتمثَّلُ لي المَلَكُ رجلًا، فيكلِّمُني، فأعِي ما يقول». وإتيانُ جبريلَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تارةً في صورة أعرابيٍّ (6)، وتارةً في صورة _________ (1) سقطت من الأصل, وهي في «الصحيحين» وسائر كتب المصنف. (2) البخاري (3213) , ومسلم (2486). (3) البخاري (3212) , ومسلم (2485). (4) البخاري (3214). (5) البخاري (2) , ومسلم (2333). (6) البخاري (50) ومسلم (9) من حديث أبي هريرة, ومسلم (8) من حديث عمر.

(الكتاب/183)


دِحْيَة الكَلبي (1)، ومخاطبتُه وإقراؤه إيَّاه= كثيرٌ أعظمُ من أن يُذْكَر هنا. وفي «الصَّحيحين» (2) عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يتعاقَبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر، ثم يَعْرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربُّهم ــ وهو أعلمُ بهم ــ: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلُّون». وفي «الصَّحيحين» (3) عن عائشة قالت: حَشَوْتُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وِسَادةً فيها تماثيلُ كأنها نُمْرُقَة, فجاء فقام بين البابين (4)، وجعل يتغيَّر وجهُه، فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: «ما بالُ هذه الوِسَادة؟ » قالت: وِسَادةٌ جعلتُها لك لتضطجعَ عليها، قال: «أما علمتِ أن الملائكةَ لا تدخلُ بيتًا فيه صورةٌ وأن مَن صَنَع الصُّوَرَ يعذَّبُ يوم القيامة يقال: أحْيُوا ما خلقتُم؟ ». وفي «الصَّحيحين» (5) عن ابن عباس قال: سمعتُ أبا طلحة يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه كلبٌ ولا صورةُ تماثيل». وكذلك في «الصَّحيحين» (6) عن عبد الله بن عمر قال: «وَعَدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) البخاري (3634) , ومسلم (2451). (2) البخاري (555) , ومسلم (632). (3) البخاري (3224) , ومسلم (2107). (4) الأصل: «بين الناس» , تحريف. (5) البخاري (3225) , ومسلم (2106). (6) من أفراد البخاري (3227) , كما في «الجمع بين الصحيحين» (2/ 274). وأخرجه مسلم (2104, 2105) من حديث عائشة وميمونة - رضي الله عنهما -.

(الكتاب/184)


جبريلُ، فقال: إنا لا ندخلُ بيتًا فيه كلبٌ ولا صورة». وفي «الصَّحيحين» (1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الملائكة تصلِّي على أحدكم ما دام في مُصَلَّاه الذي صلَّى فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يُحْدِث». وأمثالُ هذه النصوص التي يُذْكَر فيها من أصناف الملائكة وأوصافهم وأفعالهم ما يمتنعُ أن تكون ما يذكُرونه من العقول والنفوس, أو أن يكون جبريلُ هو العقلُ الفعَّال, وتكون ملائكةُ الآدميِّين هي القُوى الصَّالحة، والشياطينُ هي القُوى الفاسدة، كما يزعمُ هؤلاء. وأيضًا، فزعمُهم أن العقول والنفوس التي جعلوها الملائكةَ معلولةٌ عن الله, صادرةٌ عن ذاته صدورَ المعلول عن علَّته= هو قولٌ بتولُّدها عن الله، وأن الله وَلَدَ الملائكة (2). وهذا مما ردَّه الله ونزَّه نفسه عنه، وكذَّب قائلَه، وبيَّن كذبَه بقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3، 4] وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 151 - 157]، وبقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ _________ (1) البخاري (445) , ومسلم (649). (2) وهو أبلغ من التولد الموجود في الخلق, وشرٌّ من قول مشركي العرب والنصارى. انظر: «الصفدية» (1/ 8, 216, 2/ 81) , و «بغية المرتاد» (237) , و «الجواب الصحيح» (4/ 476, 486) , و «شرح الأصبهانية» (466) , و «الرد على الشاذلي» (138) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 445, 17/ 290, 294).

(الكتاب/185)


وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]، وقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله: {مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]، وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]. وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 - 95] , فأخبر أنهم مُعَبَّدون، أي: مُذَلَّلون مُصَرَّفون مَدِينُون مقهورون، ليسوا كالمعلول المتولِّد تولُّدًا لازمًا لا يُتَصَوَّرُ أن يتغيَّر عن ذلك. وأخبر أنهم عبادُ الله، لا يتشبَّهون به كما يتشبَّه المعلولُ بالعلَّة والولدُ بالوالد، كما يزعمُه هؤلاء الصابئون. وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 116، 117]، فأخبر أنه يقضي كلَّ شيءٍ بقوله: «كن» , لا بتولُّد (1) المعلول عنه. _________ (1) الأصل: «بالتولد» , خطأ, وعلى الصواب في (ف).

(الكتاب/186)


ولذلك قال سبحانه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100، 101] , فأخبر أن التولُّد لا يكونُ إلا عن أصلين، كما تكونُ النتيجةُ عن مقدِّمتين، وكذلك سائرُ المعلولات المعلومة لا يحدثُ المعلولُ إلا باقتران ما تتمُّ به العلة، فأما الشَّيءُ الواحدُ وحدَه فلا يكونُ علَّةً ولا والدًا قطُّ، لا يكونُ شيءٌ في هذا العالم إلا عن أصلين, ولو أنهما (1) «الفاعِل» و «القابِل»، كالنار والحطب، والشَّمس والأرض، فأما الواحدُ وحدَه فلا يَصْدُر عنه شيءٌ ولا يتولَّد (2). فبيَّن القرآنُ أنهم أخطؤوا طريقَ القياس في العلَّة والتولُّد (3)، حيث جعلوا العالم يصدرُ عنه بالتعليل والتوليد. وكذلك قال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] خلافُ قولهم: إن الصَّادر عنه واحد (4). وهذا وفاءٌ بما ذكره الله تعالى من قوله: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ _________ (1) الأصل: «ولوانه». أي ولو سُمِّيا بذلك. (2) انظر: «الجواب الصحيح» (4/ 468 - 478, 486) , و «درء التعارض» (7/ 369 - 374) , و «الصفدية» (2/ 216) , و «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 210) , و «مجموع الفتاوى» (17/ 240 - 243, 261 - 272). (3) الأصل: «والتوليد». والمثبت أصح. (4) انظر: «التدمرية» (211) , و «الرد على المنطقيين» (218).

(الكتاب/187)


بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، إذ قد تكفَّل بذلك في حقِّ كلِّ من خرج عن اتباع الرسول (1)، فقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، فقرَّر الوحدانيَّة (2) والرِّسالة (3) , إلى قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 ــ 29]، فكلُّ من خرجَ عن اتباع الرسول فهو ظالمٌ بحسب ذلك, والمبتدعُ ظالمٌ بقدر ما خالفه من سنَّته. {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 30 - 33]. وهؤلاء الصَّابئة قد أتوا بمَثَل، وهو قولهم: «الواحدُ لا يَصْدُر عنه ويتولَّد عنه إلا واحد، والربُّ واحدٌ فلا يَصْدُر عنه إلا واحدٌ يتولَّد عنه» , فأتى الله بالحقِّ وأحسنَ تفسيرًا، وبيَّن أن الواحدَ لا يَصْدُر عنه شيءٌ ولا يتولَّد عنه شيءٌ أصلًا، وأنه لم يتولَّد عنه شيءٌ ولم يَصْدُر عنه شيء، ولكنْ خَلَقَ كلَّ شيءٍ خلقًا، وأنه خَلَق من كلٍّ زوجين اثنين. _________ (1) كما تقدم (ص: 155). (2) في الآيتين (2, 3). (3) في الآيات (7 - 10, 20).

(الكتاب/188)


ولهذا قال مجاهدٌ ــ وذكره البخاريُّ في صحيحه (1) ــ في «الشَّفع والوَتْر»: إن الشَّفْع هو الخَلق، فكلُّ مخلوقٍ له نظير، والوَتْر هو الله الذي لا شبيه له (2). فقال: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] , وذلك أن الآثار الصَّادرة عن العلل والمتولِّدات في الموجودات لا بدَّ فيها من شيئين: أحدُهما يكونُ كالأب، والآخرُ يكونُ كالأمِّ القابلة, وقد يسمُّون ذلك «الفاعل» و «القابل» , كالشَّمس مع الأرض، والنار مع الحطب، فأما صدورُ شيءٍ واحدٍ عن شيءٍ واحدٍ فهذا لا وجود له في الوجود أصلًا (3). وأما تشبيهُهم لذلك بالشُّعاع مع الشمس، وبالصَّوت ــ كالطَّنين ــ مع الحركة والنَّقْر، فهو أيضًا حجةٌ لله ورسوله والمؤمنين عليهم. وذلك أن الشُّعاع إن أريد به نفسُ ما يقومُ بالشَّمس، فذلك صفةٌ من صفاتها، وصفاتُ الخالق ليست مخلوقةً ولا هي من العالم الذي فيه الكلام. وإن أريدَ بالشُّعاع ما ينعكسُ على الأرض، فذلك لا بدَّ فيه من شيئين، وهما: الشَّمس التي تجري مجرى الأب الفاعل، والأرض التي تجري مجرى الأمِّ القابلة وهي الصَّاحبة للشمس. _________ (1) تعليقًا (4/ 131). ووصله ابن جرير (24/ 351, 352) , وآدم بن أبي إياس في التفسير المنسوب إلى مجاهد (726). (2) انظر: «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» (116). (3) انظر: «درء التعارض» (7/ 368 - 372).

(الكتاب/189)


وكذلك الصَّوتُ لا يتولَّد إلا عن جسمَين يقرعُ أحدُهما الآخر أو يُقْلَع عنه، فيتولَّد الصوتُ الموجودُ في أجسام العالم عن أصلَين يقرعُ أحدُهما الآخرَ أو يُقْلَع عنه (1). فمهما احتجُّوا به من القياس فالذي جاء الله به هو الحقُّ وأحسنُ تفسيرًا وأحسنُ بيانًا وإيضاحًا للحقِّ وكشفًا له. وأيضًا، فجعلوها (2) علَّةً تامَّةً لما تحتَها (3) ومُحْدِثةً له (4) ومُوجِبة له, حتى يجعلونها مبادئنا ويجعلونها لنا كالآباء والأمهات، وربما جعلوا العقلَ هو الأب والنفسَ هي الأم، وربما قال بعضهم: الوالدان العقلُ والطبيعة، كما قال صاحب «الفصوص» في قول نوح {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28]: «أي: من كنتُ نتيجةً عنهما، وهما العقلُ والطبيعة» (5). وحتى يسمُّونها «الأربابَ والآلهة الصُّغرى» (6)، ويعبدونها, وهو كفرٌ مخالفٌ لما جاءت به الرُّسل. _________ (1) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (5/ 202 - 211). (2) أي العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هي الملائكة بزعمهم. وفي الأصل: «فجعلها» , والمثبت أولى. (3) الأصل: «يحبها» , وستأتي على الصواب, وأصلحت في (ف). (4) الأصل: «وموكدة له» , تحريف, لعل صوابه ما أثبت. (5) «فصوص الحكم» (74). (6) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 66) , و «بغية المرتاد» (241, 376) , و «قصة الحضارة» (2/ 214, 6/ 321, 9/ 89) , وما سيأتي (ص: 296).

(الكتاب/190)


وبهذا (1) وصفَ بعضُ السَّلف الصَّابئةَ بأنهم يعبدون الملائكة (2)، وكذلك في الكتب المعرَّبة عن قدمائهم أنهم كانوا يسمُّونها «الآلهةَ والأربابَ الصُّغرى»، كما كانوا يعبدون الكواكبَ أيضًا. والقرآنُ ينفي أن تكونَ أربابًا، أو تكونَ آلهة، أو يكونَ لها غيرُ ما للرسول الذي لا يفعلُ إلا بعد أمر مُرسِله، ولا يشفعُ إلا بعد أن يؤذَن له في الشَّفاعة. وقد ردَّ الله ذلك على من زعَمه من العرب والرُّوم وغيرهم من الأمم، فقال: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} الآية [آل عمران: 80]، وقال تعالى: { ... بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26، 27]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إلى قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22، 23]. وقد تقدَّم بعض الأحاديث في صَعْق الملائكة إذا قضى الله بالأمر الكونيِّ أو بالوحي الدينيِّ (3). وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية [النجم: 26]، وقال _________ (1) كذا في الأصل, ويجوز أن تكون: ولهذا. (2) انظر: تفسير ابن جرير (2/ 36) , وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 128, 4/ 1176). (3) لم يقع فيما سبق من الأصل الذي معنا شيءٌ من هذه الأحاديث, وأوردها المصنف في «الصفدية» (1/ 213, 2/ 289) , و «الرد على المنطقيين» (532 - 534) , وبها فُسِّرَت آية سبأ: 23 فلذلك أشار إليها عقبها.

(الكتاب/191)


تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآية (1) [الأنبياء: 26]، وقال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الآية [مريم: 64]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56, 57] الآية نزلت في الذين يَدْعُون الملائكةَ والنبيِّين (2). واستقصاءُ القول في ذلك ليس هذا موضعَه؛ فإن الله سبحانه بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بجوامع الكَلِم, فالكَلِمُ التي في القرآن جامعةٌ محيطةٌ كلِّيَّةٌ عامَّةٌ لما كان متفرِّقًا منتشرًا في كلام غيره، ثم إنه يسمِّي كلَّ شيءٍ بما يدلُّ على صفته المناسبة للحكم المذكور المبيَّن وما يبيِّنُ وجهَ دلالته. فإن تنزيهَه نفسَه عن الولد والولادة واتخاذ الولد أعمُّ وأقومُ مِن نفيه بلفظ «العلَّة»؛ فإن العلَّة أصلُها هو التغيُّر، كالمرض الذي يُحِيلُ البدنَ عن صحَّته، والعليلُ ضدُّ الصَّحيح. وقد قيل: إنه لا يقال: «معلول» إلا في الشُّرب، يقال: شَرِبَ الماءَ عَلًّا بعد نَهَل، وعَلَلْتَه: إذا سَقَيْتَه مرَّةً ثانية (3). _________ (1) كذا بالأصل, وقد ذُكِرت قبل قليل. (2) انظر: تفسير ابن جرير (14/ 626) , و «فتح الباري» (8/ 397) , و «الدر المنثور» (5/ 305). (3) انظر: «المحكم» (1/ 95) , و «الأفعال» لابن القطاع (2/ 383). وذكره جماعةٌ ممن صنَّف في لحن العامة. انظر: «درة الغواص» (588) , و «تثقيف اللسان» (201) , و «تقويم اللسان» (171) , و «تصحيح التصحيف» (487). وقد وقع استعماله كذلك عند المحدثين متقدميهم ومتأخريهم, والأصوليين في باب القياس, وعند الزجاج في العروض. انظر: «فتح المغيث» للسخاوي (2/ 47).

(الكتاب/192)


وأما استعمالُ اسم «العلَّة» في الموجِب للشَّيء أو المقتضي له فهو من عُرْف أهل الكلام، وهي وإن كان بينها وبين العلَّة اللغويَّة مناسبةٌ من جهة التغيُّر فالمناسبةُ في لفظ «التولُّد» أظهر؛ ولهذا كان في الخطاب أشهَر, يقول الناس: هذا الأمرُ يتولَّدُ عنه كذا، وهذا يولِّدُ كذا، وقد تولَّدَ عن ذلك الأمر كَيت وكَيت، لكلِّ سببٍ اقتضى مسبَّبًا من الأقوال والأعمال، حتى أهلُ الطبائع (1) يقولون: «الأركان والمولِّدات»، يريدون ما يتولَّدُ عن الأصول الأربعة: التراب والماء والهواء والنار= من معدنٍ ونباتٍ وحيوان. فنفيُه سبحانه عن نفسه أن يَلِدَ شيئًا اقتضى ألا يتولَّد عنه شيء، ونفيُه أن يتَّخذ ولدًا يقتضي أنه لم يفعل ذلك بشيءٍ من خلقه على سبيل التكريم، وأن العباد لا يصلُح أن يتَّخذ شيئًا منهم بمنزلة الولد, وهذا يبطِلُ [دعوى] من يدَّعي مثلَ ذلك في المسيح وغيره، ومن يقول: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} [المائدة: 18]، ومن يقول: الفلسفة هي التشبُّه بالإله (2). _________ (1) ويقال لهم: الطبائعية والطبائعيون, وهم طائفة من الفلاسفة تثبت في الأجسام قوة هي مبدأ الحركة, وتنكر المعاد, ومنهم من يجحد الصانع ولا يقر بوجود واجب غير العالم. انظر: «المنقذ من الضلال» للغزالي (76) , و «أبكار الأفكار» للآمدي (2/ 261) , و «الصفدية» (2/ 214) , و «منهاج السُّنة» (3/ 286) , و «درء التعارض» (5/ 168, 7/ 195) , و «جامع المسائل» (3/ 223) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 41, 12/ 189). (2) على قدر الطاقة, كما تقول الفلاسفة. انظر: «رسالة في حدود الأشياء ورسومها» للكندي (122 - رسائله) , و «رسائل إخوان الصفا» (1/ 342) , و «تحقيق ما للهند من مقولة» للبيروني (22) , و «المطالب العالية» للرازي (7/ 300, 363).

(الكتاب/193)


فإن الولد يكونُ مِن جنس والده, ويكونُ نظيرًا له وإن كان فرعًا له، ولهذا كان هؤلاء القائلون بهذه المعاني مِن أعظم الخلق قولًا بالتشبيه والتمثيل وجَعْل الأنداد له والعَدْل (1) والتَّسوية, ولهذا كانت الفلاسفةُ الذين يقولون بصدور العقول والنفوس عنه على وجه التولُّد والتعليل يجعلونها له أندادًا ويتخذونها آلهةً وأربابًا، بل قد لا يعبدون إلا إيَّاها ولا يَدْعُون سواها، ويجعلونها هي المبدعةَ لما سواها تحتها. فالحمدُ لله {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111]، و {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1، 2] (2). فإن هؤلاء جعلوا لله {شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100]، و {الْجِنَّ} قد قيل: إنه يعمُّ الملائكة، كما قيل في قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]، وإن كان قد قيل في سبب ذلك زعمُ بعض مشركي العرب أن الله صاهَرَ إلى الجنِّ فوَلَدَت الملائكة (3)، فقد _________ (1) أي يعدلون به غيرَه فيجعلونه عديلًا له, كما قال سبحانه: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}. (2) بعده فراغ في الأصل بمقدار ستة أسطر, وكتب الناسخ في الطرة: «قال في المسودة: يتلوه الوريقة. ولم نجدها». (3) انظر: تفسير ابن جرير (19/ 645).

(الكتاب/194)


كانوا يعبدون الملائكة أيضًا، كما عبدتها الصَّابئةُ الفلاسفة، كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} الآية [الزخرف: 19]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40، 41]، يعني: أن الملائكة لم تأمرهم بذلك, وإنما أمرتهم بذلك الجنُّ؛ ليكونوا عابدين للشَّياطين التي تتمثَّل لهم، كما يكونُ للأصنام شياطين, وكما تنزلُ الشَّياطينُ على بعض من يعبد الكواكبَ ويَرْصُدها، حتى تنزل عليه صورةٌ فتخاطبه، وهو شيطانٌ من الشَّياطين. ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية [يس: 60]، وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} الآية [الكهف: 50]، فهم وإن لم يقصدوا عبادةَ الشَّيطان وموالاته فهم في الحقيقة يعبدونه ويوالُونه. فقد تبيَّن أن هؤلاء الفلاسفة الصَّابئة المبتدعة مؤمنون بقليلٍ مما جاءت به الرُّسل في أمر الملائكة في صِفَتهم وأقدارهم, وذلك أن هؤلاء القوم إنما سلكوا [سبيل] (1) الاستدلال بالحركات الفلكيَّة والقياس على نفوسهم، مع ما جحَدوه وجَهِلُوه من خلق الله وإبداعه. وسببُ ذلك ما ذكره طائفةٌ ممَّن جمع أخبارَهم (2) أن أساطينَهم _________ (1) من (ط) وليست في الأصل. (2) كصاعد وأبي الحسن العامري والشهرستاني. انظر: «طبقات الأمم» لصاعد (21) , و «الملل والنحل» (2/ 122, 126, 132, 141) , و «أخبار الحكماء» للقفطي (25) , و «الجواب الصحيح» (6/ 497 - 499) , و «درء التعارض» (7/ 80) , و «النبوات» (198) , و «الرد على المنطقيين» (337).

(الكتاب/195)


الأوائل، كفيثاغورس وسُقْراط وأفلاطُن، كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشَّام، ويتلقَّون عن لقمان الحكيم ومَن بعده من أصحاب داود وسليمان، وأن أرسطو لم يسافر إلى أرض الأنبياء، ولم يكن عنده من العلم بأثارة الأنبياء ما عند سَلَفه, وكان عنده قدرٌ يسيرٌ من الصَّابئيَّة الصَّحيحة، فابتدَع لهم هذه التعاليم القِيَاسيَّة، وصارت قانونًا مشى عليه أتباعُه، واتَّفق أنه قد يتكلَّم في طبائع الأجسام أو في صورة المنطق أحيانًا بكلامٍ صحيح, وأما الأوَّلون فلم يوجد لهم مذهبٌ تامٌّ مبتدَع (1). [فهو] (2) بمنزلة مبتدعة المتكلِّمين في المسلمين، مثل أبي الهُذَيل، وهشام بن الحكم (3)، ونحوهما ممَّن وضع مذهبًا في أبواب أصول الدين فاتَّبعه على ذلك طائفة؛ إذ كان أئمَّةُ المسلمين مثل مالكٍ وحمَّاد بن زيد والثَّوري ونحوهم إنما تكلَّموا بما جاءت به الرسالة, وفيه الهدى والشِّفاء، فمن لم يكن له علمٌ بطريق المسلمين يَعْتَاضُ بما عند هؤلاء، وهذا سببُ _________ (1) انظر: «الرد على الشاذلي» (136) , و «درء التعارض» (9/ 124) , و «جامع المسائل» (5/ 286) , و «مجموع الفتاوى» (17/ 351) , و «إغاثة اللهفان» (1019 - 1021, 1028 - 1031). (2) أي أرسطو, وزدت ما بين المعكوفين ليفهَم السياق. (3) أبو الهذيل العلَّاف من أئمة المعتزلة, وهشام بن الحكم مجسِّمٌ من كبار الرافضة, ولكلٍّ منهما شيعةٌ وأتباع. انظر: «لسان الميزان» (7/ 561, 8/ 334).

(الكتاب/196)


ظهور البدع في كلِّ أمة، وهو خفاءُ سنن المرسَلين فيهم، وبذلك يقعُ الهلاك. ولهذا كانوا يقولون: «الاعتصامُ بالسُّنة نجاة»، وقالوا: «السُّنة مثلُ سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها هلك» (1) , وهذا حقٌّ؛ فإن سفينةَ نوحٍ إنما رَكِبَها من صدَّق المرسَلين واتَّبعهم، وأن من لم يركبها فقد كذَّب المرسلين, واتِّباعُ السُّنة هو اتباعُ الرسالة التي جاءت من عند الله، فتابِعُها بمنزلة مَن رَكِبَ مع نوحٍ السفينةَ باطنًا وظاهرًا, والمتخلِّفُ عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلِّف عن اتباع نوحٍ عليه السَّلام وركوب السَّفينة معه. وهكذا إذا تدبَّر المؤمنُ العليمُ سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلالٌ وكُفر، وجدَ القرآن والسُّنة كاشفًا (2) لأحوالهم، مبيِّنًا لحقِّهم، مميِّزًا بين حقِّ ذلك وباطله. والصحابةُ كانوا أعلمَ الخلق بذلك، كما كانوا أقومَ الخلق بجهاد الكفَّار والمنافقين، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: «من كان منكم مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمَّدٍ كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصُحبة نبيِّه وإقامة دينه، فاعْرِفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهَدْيهم، فإنهم كانوا على الهَدْي المستقيم» (3). _________ (1) تقدم تخريج القولين (ص: 82). وفي طرَّة الأصل عند الأول: «نقله الزهري عن العلماء» , وعند الثاني: «قاله مالك - رحمه الله -». (2) كذا في الأصل بالإفراد, وهو سائغٌ في العربية من باب الحمل على المعنى. (3) أخرجه الخطيب في «تلخيص المتشابه» (1/ 460) , وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1810) , وأبو إسماعيل الأنصاري في «ذم الكلام» (758) , وفي إسناده انقطاع , قتادة لم يسمع من ابن مسعود. وروي عن الحسن البصري, أخرجه الآجري في «الشريعة» (1161, 1984) , وابن عبد البر (1807). وعن الحسن عن ابن عمر, أخرجه أبو نعيم (1/ 305). والأول أشبه.

(الكتاب/197)


فأخبَر عنهم بكمال برِّ القلوب، مع كمال عُمْق العلم، وهذا قليلٌ في المتأخرين، كما يقال: مِن العجائب فقيهٌ صُوفيٌّ وعالمٌ زاهدٌ ونحو ذلك؛ فإن أهلَ برِّ القلوب وحُسْن الإرادة وصلاح المقاصد يُحْمَدُون على سلامة قلوبهم من الإرادات المذمومة، ويقترنُ (1) بهم كثيرًا عدمُ المعرفةِ وإدراكِ حقائق أحوال الخلق التي توجبُ الذمَّ للشرِّ والنهيَ عنه والجهادَ في سبيل الله= وأهلَ التعمُّق في العلوم قد يدركون من معرفة الشُّرور والشُّبهات ما يُوقِعُهم في أنواع الغيِّ والضلالات= وأصحابُ محمَّدٍ كانوا أبرَّ الخلق قلوبًا وأعمقَهم علمًا. ثم إن أكثر المتعمِّقين في العلم من المتأخرين يقترنُ بتعمُّقهم التكلُّف المذمومُ من المتكلِّمين والمتعبِّدين، وهو القولُ والعملُ بلا علم، وطلبُ ما لا يُدْرَك. وأصحابُ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - كانوا ــ مع أنهم أكملُ الناس علمًا نافعًا وعملًا صالحًا ــ أقلَّ الناس تكلُّفًا، تَصْدُر عن أحدهم الكلمةُ والكلمتان من الحكمة أو من المعارف ما يهدي الله بها أمَّة، وهذا مِن منن الله على هذه الأمَّة. وتجدُ غيرَهم يَحْشُون الأوراقَ من التكلُّفات والشَّطَحات ما هو من أعظم الفُضول _________ (1) الأصل: «ويقرن». وسيأتي نظيرها على الصواب.

(الكتاب/198)


المبتدَعة والآراء المختَرعة، لم يكن لهم في ذلك سلفٌ إلا رعوناتُ النفوس المتلقَّاة ممَّن ساء قصدُه في الدين. ويروى أن الله سبحانه قال للمسيح: إني سأخلقُ أمَّةً أفضِّلُها على كلِّ أمَّةٍ وليس لها علمٌ ولا حِلم، فقال المسيح: أيْ ربِّ، كيف تفضِّلُهم على جميع الأمم وليس لهم علمٌ ولا حِلم؟ قال: أهبُهم من علمي وحِلمي (1). _________ (1) أخرجه أحمد (27545) , والبخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 355) , والخرائطي في «فضيلة الشكر» (19) , والطبراني في «الأوسط» (3252) وغيرهم من حديث يزيد بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - مرفوعًا: «إن الله عز وجل يقول: يا عيسى إني باعثٌ من بعدك أمةً إن أصابهم ما يحبون حمدوا الله وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلمَ ولا علم, قال: يا رب كيف هذا لهم ولا حلمَ ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي». ولا بأس بإسناده, وصححه الحاكم (1/ 348) ولم يتعقبه الذهبي, وحسنه البزار (4088) , وابن حجر في «الأمالي المطلقة» (49) , إلا أن البزار وهم في اسم راويه يزيد فجعله أخاه يونس. وأعله الألباني في «الضعيفة» (4038, 4991) ومحققو «المسند» بأن يزيد بن ميسرة مجهول الحال لم تثبت عدالته ولم يرو عنه إلا اثنان. وليس كذلك, بل هو زاهدٌ واعظٌ معروفٌ من أتباع التابعين بالشام, له أخبارٌ كثيرة وأقوالٌ مأثورة في «الزهد» لأبي داود (393 - 396) , و «الحلية» (5/ 234 - 243) , و «تاريخ الإسلام» (3/ 340) وغيرها, وروى عنه جماعةٌ فوق العشرة, وأورده ابن حبان في «الثقات» (7/ 627) , ولم يَرو ما يُنْكَر, فمثله مع تصحيح الحاكم له يحسَّن حديثه ما لم ينفرد بما لا يحتمل, كما قال الذهبي في «الموقظة» (78): «وإن صحَّح له كالدارقطني والحاكم فأقلُّ أحواله حُسْنُ حديثه». لكن قد ذُكِر أنه قرأ الكتب (يعني كتب أهل الكتاب) كما في «مصنف ابن أبي شيبة» (35431) , وروى عنها كثيرًا, فيُتأنى في مروياته المرفوعة التي من هذا اللون خاصَّة, فإنها مظنَّة الوهم, لاحتمال أن تكون مما قرأه من تلك الكتب ورفعَها خطأً على سبيل التوهُّم, كما يقعُ لغيره ممن ليس الحديثُ من صناعته, إلا أن في حديثه هذا قرينة تدفعُ عنه الوهمَ وتدلُّ على ضبطه له, وهي أنه قال في روايته: «سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ــ ما سمعتُه يكنِّيه قبلها ولا بعدها ــ يقول ... » ثم ذكره, وقد قال الإمام أحمد: «إذا كان في الحديث قصة دلَّ على أن راويه حفظه» , انظر: «هُدى الساري» (363).

(الكتاب/199)


وهذا من خواصِّ متابعة الرسول, فأيُّهم كان له أتبعَ كان في ذلك أكمَل، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 28، 29]. وكذلك في «الصَّحيحين» (1) من حديث أبي موسى وعبد الله بن عمر: «مَثَلُنا ومَثَلُ الأمم قبلنا كالذي استأجَر أُجَراء، فقال: من يعملُ لي إلى نصف النهار على قيراطٍ قيراط؟ فعَمِلَت اليهود. ثم قال: من يعملُ لي إلى صلاة العصر على قيراطٍ قيراط؟ فعَمِلَت النصارى. ثم قال: من يعملُ لي إلى غروب الشَّمس على قيراطين قيراطين؟ فعَمِلَت المسلمون. فغضبت اليهودُ والنصارى وقالوا: نحن أكثرُ عملًا وأقلُّ أجرًا. قال: فهل ظلمتُكم من حقِّكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء». _________ (1) البخاري (557, 558, 2268, 2269, 2271, 3459, 5021) , وهو من أفراده كما في «الجمع بين الصحيحين» (1/ 315, 2/ 269).

(الكتاب/200)


فدلَّ الكتابُ والسُّنة على أن الله يؤتي أتباعَ هذا الرَّسول مِن فضله ما لم يؤتِه لأهل الكتابَيْن قبلهم، فكيف بمن هو دونهم من الصابئة؟ دَع مبتدعةَ الصَّابئة من المتفلسفة ونحوهم. ومن المعلوم أن أهل الحديث والسُّنة أخصُّ بالرَّسول وأتباعه (1)، فلهم مِن فضل الله وتخصيصه إيَّاهم بالعلم والحِلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم (2)، كما قال بعضُ السَّلف: «أهل السُّنة في الإسلام كأهل الإسلام في المِلَل» (3). فهذا الكلام تنبيهٌ على ما يظنُّه أهل الجهالة والضَّلالة مِن نقص الصَّحابة في العلم والبيان، أو اليد والسِّنَان، وبسطُ هذا لا يحتملُه هذا المقام. والمقصود التنبيهُ على أن كلَّ من زعَم بلسان حاله أو مقاله أن طائفةً غيرَ أهل الحديث أدركوا مِن حقائق الأمور الباطنة الغيبيَّة في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد، وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وتعرُّف واجب الوجود, والنفس الناطقة (4) , والعلوم والأخلاق التي تزكو بها النفوسُ وتَصْلُح _________ (1) يعني أصحابه, كما تقدم (ص: 134). (2) الأصل: «لهم». وأصلحت في (ط). (3) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (5/ 45) , واللالكائي في «أصول اعتقاد أهل السُّنة» (54) , والخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1518, 1519) , وغيرهم عن أبي بكر بن عياش قال: «السُّنة في الإسلام أعزُّ من الإسلام في سائر الأديان» , وفي رواية: «السُّنة في الإسلام كالإسلام في الشرك». (4) وهي الروح, كما تسميها الفلاسفة. انظر: «التدمرية» (52) , و «الصفدية» (2/ 267) , و «منهاج السُّنة» (2/ 579) , و «الجواب الصحيح» (3/ 486).

(الكتاب/201)


وتَكْمُل= فوق (1) أهل الحديث, فهو إن كان من المؤمنين بالرُّسل فهو جاهلٌ فيه شعبةٌ قويةٌ من شعب النفاق، وإلا فهو منافقٌ خالصٌ من الذين إذا {قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] , وقد يكون من الذين {يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} [غافر: 35]، ومن الذين {يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} الآية [الشورى: 16]. وقد تبيَّن ذلك بالقياس العقليِّ الصحيح الذي لا ريب فيه, وإن كان ذلك ظاهرًا بالفطرة لكلِّ سليم الفطرة, فإنه متى كان الرَّسولُ أكملَ الخلق وأعلمَهم بالحقائق وأقومَهم قولًا وحالًا، لَزِمَ أن يكون أعلمُ الناس به أعلمَ (2) الخلق بذلك، وأن يكون أعظمُهم موافقةً له واقتداءً به أفضلَ الخلق. ولا يقال: هذه الفطرة يغيِّرها ما يوجدُ في المنتسبين إلى السُّنة والحديث من تفريطٍ وعُدوان، فيقال: إن ذلك في غيرهم أكثَر, والواجبُ مقابلةُ الجملة بالجملة في المحمود والمذموم، هذه هي المقابلة العادلة. وإنما غيَّر الفطرةَ قلةُ المعرفةِ بالحديث والسُّنة واتِّباعِ ذلك (3)، مع ما يوجدُ في المخالفين لها (4) من نوع تحقيقٍ لبعض العلم وإحسانٍ لبعض _________ (1) الأصل: «دون» , وهو تحريفٌ محيل للمعنى. (2) الأصل: «وأعلم» , والمثبت من (ط) أشبه بالصواب. (3) أي وقلة اتباع الحديث والسُّنة. (4) أي السُّنة. ولعلها: «لهما» , أي الحديث والسُّنة.

(الكتاب/202)


العمل، فيكونُ ذلك شبهةً في قبول غيره (1) وترجيح صاحبه. ولا غرض لنا في ذِكر الأشخاص، وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة في أول كتاب «مختلف الحديث» (2) وغيره من العلماء في هذا الباب ما لا يحصى من الأمور المبيِّنة لما ذكرناه (3). وإنما المقصود ذِكْر نفس الطريقة العِلْمية والعملية التي تُعَرِّفُ بحقائق الأمور الخبرية النظرية، وتُوصِلُ إلى حقائق الأمور الإرادية العملية، فمتى كان غيرُ الرسول قادرًا على عِلمٍ بذلك أو بيانٍ له أو محبةٍ لإفادة ذلك فالرسولُ أعلمُ بذلك وأحرصُ على الهدى وأقدرُ على بيانه منه، وكذلك أصحابُه من بعده وأتباعُهم. وهذه صفاتُ الكمال: العلم (4) , وإرادة الإحسان (5) , والقدرة عليه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستخارة: «اللهمَّ إني أستخيرُك بعلمك، وأستَقْدِرُك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تَقْدِرُ ولا أَقْدِر، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَم، وأنت عَلَّامُ الغيوب» (6). _________ (1) أي الحديث. وهذه المغايرة في الضمائر من باب الحمل على المعنى, إن سلم النص من التحريف. (2) (53 - 59). (3) ستأتي الإشارة إلى بعضها (ص: 207، 208). (4) الأصل: «والعلم» , وهو خطأ. وانظر: «مجموع الفتاوى» (6/ 267, 15/ 392) , و «جامع الرسائل» (2/ 69) , و «جامع المسائل» (7/ 185). (5) الأصل: «والإرادة والإحسان». والمثبت أشبه بالصواب. (6) أخرجه البخاري (6382).

(الكتاب/203)


فعلَّمنا - صلى الله عليه وسلم - أن نستخيرَ الله بعلمه، فيعلِّمنا مِن علمه ما نَعْلَمُ به الخير، ونستَقْدِرَه بقدرته، فيجعلَنا قادرين؛ إذ الاستفعالُ طلبُ الفعل، كما قال في الحديث الصَّحيح: «يقولُ الله تعالى: يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستطعِمُوني أُطْعِمْكم، يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستَهْدُوني أَهْدِكم» (1) , فاستِهداءُ الله طلبُ أن يهديَنا، واستِطعامُه طلبُ أن يُطْعِمَنا، هذا قوتُ القلوب, وهذا قوتُ الأجسام، وكذلك استخارتُه بعلمه واستقدارُه بقدرته. ثم قال: «وأسألُك من فضلك العظيم»، فهذا السُّؤال مِن جُودِه ومَنِّه وعطائه وإحسانه الذي يكونُ بمشيئته ورحمته وحَنَانِه؛ ولهذا قال: «فإنك تَقْدِرُ ولا أَقْدِر، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَم» ولم يقل: إني لا أَرْحَمُ نفسي؛ لأنه في مقام الاستخارة يريدُ الخيرَ لنفسه ويطلبُ ذلك لكنَّه لا يعلمُه ولا يقدرُ عليه إن لم يعلِّمه الله إياه ويُقْدِره عليه. فإذا كان الرسولُ أعلمَ الخلق بالحقائق الخبرية والطَّلبية، وأحبَّ الخلق للتعليم والهداية والإفادة، وأقدرَ الخلق على البيان والعبارة= امتنَع أن يكونَ من هو دونه أفاد خواصَّه معرفةَ الحقائق أعظمَ مما أفادها الرسولُ لخواصِّه، فامتنعَ أن يكونَ عند أحدٍ من الطَّوائف مِن معرفة الحقائق ما ليس عند علماء الحديث. _________ (1) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر, وللمصنف فصلٌ مفردٌ في شرحه ضمن «مجموع الفتاوى» (18/ 136 - 209) وغيره.

(الكتاب/204)


وإذا لم يكن في الطَّوائف من هو أعلمُ بالحقائق وأبينُ لها منهم (1) وجبَ أن يكون كلُّ ما يُذَمُّون به مِن جَهْلِ بعضهم هو في طائفة المخالف لهم الذامِّ أكثر، فيكون الذامُّ لهم جاهلًا ظالمًا فيه شعبةُ نفاقٍ إذا كان مؤمنًا. وهذا هو المقصود. ثم إن هذا الذي بيَّنَّاه مشهودٌ بالقلب (2)، أعلمُ ذلك في كلِّ أحدٍ ممَّن أعرفُ مفصَّلًا (3). وهذه جملةٌ يمكنُ تفصيلُها من وجوهٍ كثيرة، لكن ليس هذا موضعه. _________ (1) الأصل: «منه». والصواب ما أثبت. (2) تقدم بيان المراد بالشهود والمشاهدة (ص: 14). (3) أي يعلم شعبة النفاق في من يعرفه ممن يذمُّ أهل السُّنة والحديث, كأن يقول أحدهم بلسانه ما ليس في قلبه. وذلك على جهة الفراسة والمكاشفة, وقد حكى عنه ابن القيم منهما طرفًا في «مدارج السالكين» (2/ 511). ومن هذا قوله في «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 90): «والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمَد في القول والعمل فنوعٌ من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل».

(الكتاب/205)


فصل وأما قولُ من قال (1): «إن الحَشْوِيَّة على ضربين: أحدهما: لا يتحاشى من الحَشْو (2) والتشبيه والتجسيم. والآخر: يتستَّر (3) بمذهب السَّلف. ومذهبُ السَّلف إنما هو التوحيدُ والتنزيه, دون التشبيه والتجسيم (4). وكذا جميعُ المبتدعة يزعمون [أنهم على مذهب السَّلف] (5) , فهم (6) كما قال القائل: وكلٌّ يدَّعون وِصَالَ ليلى ... وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا» فهذا الكلام فيه حقٌّ وباطل. * فمن الحقِّ الذي فيه: ذمُّ من يمثِّلُ اللهَ بمخلوقاته ويجعلُ صفاته من جنس صفاتهم، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وقال: {هَلْ _________ (1) هو أبو محمد العز بن عبد السلام في رسالته «الملحة في اعتقاد أهل الحق» (16) , وساقها السبكي بتمامها في «طبقات الشافعية» (8/ 219 - 229, 239). وضمَّن ابنُ جَهْبَل (ت: 733) هذا النصَّ في رده واعتراضه على «الفتوى الحموية» دون تصريح بنسبته للعز, وساق السبكي تصنيفه هذا بتمامه في «طبقات الشافعية» (9/ 35 - 91). (2) «الملحة»: «إظهار الحشو». (3) الأصل: «تستر» , والمثبت من «الملحة» وما سيأتي (ص: 212). (4) «الملحة» وما سيأتي (ص: 213): «دون التجسيم والتشبيه». وهو الأوفق للسجع. (5) مستدرك من «الملحة» وما سيأتي (ص: 217). (6) الأصل: «فيهم» , تحريف.

(الكتاب/206)


تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. وقد بسطنا القولَ في ذلك وذكرنا الدلالات العقلية التي دلَّ عليها كتابُ الله في نفي ذلك (1)، وبيَّنَّا منه ما لم تذكره النفاةُ الذين يتسمَّون بالتنزيه ولا يوجدُ في كتبهم ولا يُسْمَعُ من أئمَّتهم، بل عامةُ حججهم التي يذكرونها حججٌ ضعيفة؛ لأنهم يقصدون إثبات حقٍّ وباطل، فلا يقومُ على ذلك حجةٌ مطَّردةٌ سليمةٌ عن الفساد، بخلاف من اقتصد في قوله وتحرَّى القولَ السَّديد فإن الله يُصْلِحُ عملَه، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70، 71]. * وفيه من الحقِّ: الإشارةُ إلى الردِّ على من انتحَل مذهبَ السَّلف مع الجهل بمقالهم، أو المخالفة لهم بزيادةٍ أو نقصان. فتمثيلُ الله بخلقه والكذبُ على السَّلف من الأمور المنكرة، سواءٌ سمِّي ذلك حشوًا أو لم يُسَمَّ، وهذا يتناولُ كثيرًا من غالية المُثْبِتَة الذين يَرْوُون أحاديثَ موضوعةً في الصِّفات, مثل حديث عَرَق الخيل, ونزوله عشيَّة عرفة على الجمل الأورَق حتى يصافحَ المُشَاة ويعانقَ الرُّكبان، وتجلِّيه لنبيِّه في الأرض، أو رؤيته له على كرسيٍّ بين السماء والأرض, أو رؤيته إيَّاه في الطَّواف, _________ (1) في مصنف أفرده لقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} , أشار إليه في «درء التعارض» (4/ 146) و «منهاج السنة» (2/ 185) , وأورده ابن رُشَيِّق في أسماء مؤلفاته (291 - الجامع سيرة شيخ الإسلام). وذكر في «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 487) أنه بسط الكلام على هذا في «جواب الاعتراضات المصرية على الفتاا الحموية» , وهو في القطعة المطبوعة من الجواب (114 - 153).

(الكتاب/207)


أو في بعض سِكَك المدينة، إلى غير ذلك من الأحاديث الموضوعة (1). فقد رأيتُ من ذلك أمورًا مِن أعظم المنكرات والكُفران، وأحضر لي غيرُ واحدٍ من الناس من الأجزاء والكتب ما فيه من ذلك ما هو من الافتراء على الله وعلى رسوله, وقد وضع لتلك الأحاديث أسانيد. حتى إن منهم من عَمَد إلى كتابٍ صنَّفه الشيخُ أبو الفرج المقدسي (2) فيما يُمْتَحَنُ به السُّنِّيُّ من البِدْعِيِّ (3) , فجعل ذلك الكتاب مما أوحاه الله إلى نبيِّه ليلة المعراج وأمرَه أن يمتحنَ به الناسَ فمن أقرَّ به فهو سنيٌّ ومن لم يقرَّ به فهو بِدْعِيّ، وزادوا فيه على الشيخ أبي الفرج أشياء لم يقلها هو ولا عاقل (4). _________ (1) انظر: «درء التعارض» (1/ 148, 5/ 225, 7/ 93) , و «منهاج السنة» (2/ 635) , و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 307) , و «مجموع الفتاوى» (3/ 385, 33/ 173). و «الموضوعات» لابن الجوزي (231, 245, 263) , و «تنزيه الشريعة» لابن عراق (1/ 134, 137, 139, 146). (2) عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي المقدسي الدمشقي, من أئمة الحنابلة في الشام في وقته (ت: 486). انظر: «طبقات الحنابلة» (3/ 461). (3) ذكره له ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 161) وغيره. وهو مطبوع عن أصل بخط يوسف بن محمد الهكاري (ت: 710). (4) ذكر المصنف أن بعض الكذابين جعل لتلك المسائل إسنادًا إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - ,وهذا يعلم من له أدنى معرفة أنه مكذوبٌ مفترى, وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقًا لأصول السنة ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يُحْكَم بأنه مبتدع ... , وفيها أيضًا أشياء مرجوحة. انظر: «مجموع الفتاوى» (3/ 380). ومن شنيع ما وقع فيها (ص: 335, 215, 320, 470): تكفير المبتدعة بإطلاق ولعنهم وتكفير من لم يكفرهم. ومن العظائم أيضًا إيراد بعض الأحاديث المكذوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل يزيد بن معاوية (ص: 506 - 507).

(الكتاب/208)


والناسُ المشهورون قد يقول أحدُهم من المسائل والدلائل ما هو حقٌّ أو فيه شبهةُ حقٍّ، فإذا أخذ الجهَّالُ ذلك فغيَّروه صار فيه من الضلال ما هو من أعظم الإفك والمحال. والمقصود أن كلامه (1) فيه حقٌّ. وفيه من الباطل أمور: أحدها: قوله: «لا يتحاشى من الحشو [والتشبيه] والتجسيم» ذمٌّ للناس بأسماء ما أنزل الله بها مِن سلطان، والذي مدحُه زَيْنٌ وذمُّه شَيْنٌ هو الله. والأسماء التي يتعلَّقُ بها المدحُ والذمُّ من الدين لا تكونُ إلا من الأسماء التي أنزل الله بها سلطانه ودلَّ عليها الكتابُ والسُّنة أو الإجماع، كالمؤمن والكافر, والعالم والجاهل، والمقتصد، والملحد. فأما هذه الألفاظُ الثلاثة (2) فليست في كتاب الله, ولا في حديثٍ عن رسول الله، ولا نطق بها أحدٌ من سلف الأمة وأئمَّتها لا نفيًا ولا إثباتًا, وأول من ابتدع الذمَّ بها المعتزلةُ الذين فارقوا جماعةَ المسلمين، فاتباعُ سبيل المعتزلة دون سبيل سلف الأمة تركٌ للقول السَّديد الواجب في الدين، واتباعٌ لسبيل المبتدعة الضالِّين. وليس فيها ما يوجدُ عن بعض السَّلف ذمُّه إلا لفظ «التشبيه»، فلو اقتصَر عليه لكان له قدوةٌ من السَّلف الصالح، ولو أنه ذكَر (3) الأسماء التي نفاها الله _________ (1) كلام العز بن عبد السلام المتقدم في صدر هذا الفصل. (2) الحشو والتشبيه والتجسيم. (3) الأصل: «ولولا ذكر». والمثبت أشبه بالصواب.

(الكتاب/209)


في القرآن مثل لفظ «الكُفؤ، والندِّ، والسَّمِيِّ» , وقال: «منهم من لا يتحاشى من التمثيل» ونحوه= لكان قد ذَمَّ بقولٍ نفاه الله في كتابه، ودلَّ القرآنُ على ذمِّ قائله, ثم يُنْظَر: هل قائلُه موصوفٌ بما وصفَه به من الذمِّ أم لا؟ فأما الأسماء التي لم يَدُلَّ الشَّرعُ على ذمِّ أهلها ولا مدحِهم، فيُحْتَاجُ فيها إلى مقامين: أحدهما: بيان المراد بها. والثاني: بيان أن أولئك مذمومون في الشَّريعة. والمعترض عليه له أن يمنعَ المقامين (1)، فيقول: لا نُسَلِّمُ أن الذين عنيتَهم داخلون في هذه الأسماء التي ذَمَمْتَها, ولم يَقُم دليلٌ شرعيٌّ على ذمِّها، وإن دخلوا فيها فلا نُسَلِّمُ أن كلَّ من دخل في هذه الأسماء فهو مذمومٌ في الشَّرع. الثاني (2): أن هذا الضربَ الذين قلتَ: «إنه لا يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم» إما أن تُدْخِلَ فيه مُثْبِتَة الصِّفات الخبرية التي دلَّ عليها الكتابُ والسُّنة، أو لا تُدْخِلَهم. فإن أدخلتَهم كنتَ ذامًّا لكلِّ من أثبت الصِّفات الخبرية، ومعلومٌ أن هذا مذهبُ عامَّة السَّلف ومذهبُ أئمَّة الدين, بل أئمَّة المتكلِّمين يُثْبِتُون الصِّفات الخبرية في الجملة وإن كان لهم فيها طرقٌ, كأبي سعيد بن كُلَّاب (3)، وأبي _________ (1) الأصل: «يمنعه المقامان». (2) من الأمور الباطلة في كلام العز المتقدم. (3) عبد الله بن سعيد القطان, من رؤوس المتكلمين, كان حيًّا قبل سنة 240. وإليه تنسبُ الكُلابية, وبطريقته اقتدى أبو الحسن الأشعري. انظر: «السير» (11/ 174) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 69) , و «الاستقامة» (1/ 105) , و «التدمرية» (191).

(الكتاب/210)


الحسن الأشعريِّ, وأئمَّة أصحابه، كأبي عبد الله بن مجاهد، وأبي الحسن الباهِلي، والقاضي أبي بكر بن الباقِلَّاني، وأبي إسحاق الإسفراييني, وأبي بكر بن فَوْرَك، وأبي محمد بن اللبَّان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القُشَيري، وأبي بكر البيهقي (1)، وغير هؤلاء. فما مِن هؤلاء إلا من يُثْبِتُ من الصِّفات الخبرية ما شاء الله تعالى, وعمادُ المذهب عندهم (2) إثباتُ كلِّ صفةٍ في القرآن، وأما الصِّفات التي في الحديث فمنهم من يُثْبِتُها ومنهم من لا يُثْبِتُها (3). فإذا كنتَ تذمُّ جميعَ أهل الإثبات مِن سَلفك وغيرهم لم يبقَ معك إلا الجهميةُ من المعتزلة ومن وافقهم على نفي الصِّفات الخبرية من متأخِّري الأشعرية ونحوهم. ولم تَذْكُر حجَّةً تُعْتَمَد. فأيُّ ذمٍّ لقومٍ في أنهم لا يتحاشون مما عليه سلفُ الأمَّة وأئمَّتها وأئمَّةُ الذامِّ لهم؟ ! _________ (1) تراجم أصحاب أبي الحسن في طبقات الأشعرية من «تبيين كذب المفتري» لابن عساكر (177, 178, 217, 243, 232, 261, 245, 271, 265) على ترتيبهم. (2) الأصل: «عنهم» , وهو محتمل, أي المذهب المنقول عنهم. والمثبت أشبه. (3) انظر: «التسعينية» (1036, 1037) , و «درء التعارض» (2/ 17, 5/ 248) , و «تفسير آيات أشكلت» (755) , و «مجموع الفتاوى» (5/ 116, 6/ 52, 12/ 32) , و «جامع المسائل» (5/ 79).

(الكتاب/211)


وإن لم تُدْخِل في اسم «الحشوية» من يُثْبِتُ الصِّفات الخبرية لم ينفَعْك هذا الكلام، بل قد ذكرتَ أنت في غير هذا الموضع هذا القول. وإذا كان الكلامُ لا يخرُج به الإنسانُ عن أن يَذُمَّ نفسَه أو يَذُمَّ سلفَه الذين يقرُّ هو بإمامتهم وأنهم أفضلُ ممَّن اتبعهم, كان هو المذمومَ بهذا الذمِّ على التقديرين، وكان له نصيبٌ من الخوارج الذين قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأوَّلهم: «لقد خِبْتَ وخَسِرتَ إن لم أَعْدِل» (1) , يقول: إذا كنتَ مقرًّا بأني رسولُ الله وأنت تزعمُ أني أظلِمُ فأنت خائبٌ خاسر (2). وهكذا من ذمَّ من يقرُّ بأنهم خيارُ الأمة وأفضلُها، وأن طائفتَه إنما تلقَّت العلمَ والإيمان منهم, هو خائبٌ خاسرٌ في هذا الذمِّ. وهذه حالُ الرافضة في ذمِّ الصحابة. الوجه الثالث: قوله: «والآخرُ يتستَّر بمذهب السَّلف»، إن أردتَ بالتستُّر الاستخفاءَ بمذهب السَّلف، فيقال: ليس مذهبُ السَّلف مما يُتَسَتَّر به إلا في بلاد أهل البدع، مثل بلاد الرافضة والخوارج، فإن المؤمنَ المستضعَف هناك قد يكتُم إيمانَه واستِنَانه، كما كتَم مؤمنُ آل فرعون إيمانَه، وكما كان كثيرٌ من المؤمنين يكتمُ إيمانَه حين كانوا في دار الحرب. فإن كان هؤلاء في بلدٍ أنت لك فيه سلطانٌ وقد تستَّروا بمذهب السَّلف فقد ذممتَ نفسك، حيث كنتَ من طائفةٍ يُسْتَرُ مذهبُ السَّلف عندهم، وإن كنت من المستضعَفين المتستِّرين بمذهب السَّلف فلا معنى لذمِّ نفسك، وإن _________ (1) أخرجه البخاري (3610) ومسلم (1064). (2) انظر: «الصارم المسلول» (1/ 351) , و «منهاج السنة» (2/ 420).

(الكتاب/212)


لم تكن منهم ولا من الملأ فلا وجه لذمِّ قومٍ بلفظ «التستُّر». وإن أردتَ بالتستُّر أنهم يَجْتنُّون به (1) ويتَّقون به غيرهم, ويتظاهرون به, حتى إذا خوطب أحدُهم قال: «أنا على مذهب السَّلف» , وهذا الذي أراده (2) والله أعلم= فيقال له: لا عيبَ على من أظهرَ مذهبَ السَّلف وانتسبَ إليه واعتزى إليه، بل يجبُ قبولُ ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهبَ السَّلف لا يكونُ إلا حقًّا. فإن كان موافقًا له باطنًا وظاهرًا فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنًا وظاهرًا، وإن كان موافقًا له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق فتُقْبَلُ منه علانيتُه وتُوْكَلُ سريرتُه إلى الله؛ فإنَّا لم نُؤْمَر أن نَنْقُبَ عن قلوب الناس ولا نَشُقَّ بطونهم. وأما قوله: «مذهب السَّلف إنما هو التوحيدُ والتنزيه, دون التجسيم والتشبيه» , فيقال له: لفظ «التوحيد، والتنزيه، والتشبيه، والتجسيم» ألفاظٌ قد دخلها الاشتراك, بسبب اختلاف اصطلاحات المتكلِّمين وغيرهم، وكلُّ طائفةٍ تَعْنِي بهذه الأسماء ما لا يعنيه غيرُهم. فالجهميةُ من المعتزلة وغيرهم يريدون بالتوحيد والتنزيه: نفيَ جميع الصِّفات، وبالتجسيم والتشبيه: إثباتَ شيءٍ منها، حتى إن من قال: إن الله يَرى، أو إن له علمًا، فهو عندهم مشبِّهٌ مجسِّم. وكثيرٌ من المتكلِّمة الصِّفاتية يريدون بالتوحيد والتنزيه: نفيَ الصِّفات الخبرية أو بعضِها، وبالتجسيم والتشبيه: إثباتَها أو بعضِها. _________ (1) يستترون به ويتخذونه جُنَّة. (2) العز بن عبد السلام.

(الكتاب/213)


والفلاسفةُ تعني بالتوحيد ما تعنيه المعتزلةُ وزيادة، حتى يقولوا: ليس له إلا صفةٌ سلبيةٌ أو إضافيةٌ أو مركَّبةٌ منهما. والاتحاديةُ تعني بالتوحيد: أنه هو الوجود المطلق. ولغير هؤلاء فيه اصطلاحاتٌ أخرى. وأما التوحيد الذي بعث الله به الرُّسلَ وأنزل به الكتبَ فليس هو متضمِّنًا شيئًا من هذه الاصطلاحات، بل أمر الله عباده أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، فلا يكونُ لغيره نصيبٌ فيما يختصُّ به من العبادة وتوابعها, هذا في العمل. وفي القول (1): ما وصف الله به نفسَه ووصفه به رسولُه (2). فإن كنت تعني أن مذهب السَّلف هو التوحيدُ بالمعنى الذي جاء به الكتابُ والسُّنة= فهذا حقٌّ، وأهلُ الصِّفات الخبرية لا يخالفون هذا. وإن عنيتَ أن مذهبَ السَّلف هو التوحيدُ والتنزيهُ الذي تعنيه بعضُ الطوائف= فهذا يَعْلَمُ بطلانَه كلُّ من تأمَّل أقوالَ السَّلف الثابتة عنهم الموجودة في كتب آثارهم، فليس في كلام أحدٍ من السَّلف كلمةٌ توافقُ ما تختصُّ به هذه الطوائف، ولا كلمةٌ تنفي الصِّفات الخبرية. ومن المعلوم أن مذهبَ السَّلف إن كان يُعْرَفُ بالنقل عنهم فليُرْجَع في ذلك إلى الآثار المنقولة عنهم. _________ (1) التوحيد العلمي القولي الذي هو الخبر عن الله. والأول التوحيد العملي الإرادي. (2) انظر: «التدمرية» (182) , و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 94 - 149) , و «التسعينية» (747 - 752, 780 - 802) , و «اقتضاء الصراط» (2/ 385) , و «مجموع الفتاوى» (1/ 367, 19/ 171).

(الكتاب/214)


وإن كان إنما يُعْرَفُ بالاستدلال المحض, بأن يكونَ كلُّ من رأى قولًا عنده هو الصواب قال: «هذا قولُ السَّلف؛ لأن السَّلف لا يقولون إلا الصواب، وهذا هو الصواب» = فهذا هو الذي يُطَرِّقُ للمبتدعة (1) إلى أن يزعم كلٌّ منهم أنه على مذهب السَّلف. فقائلُ هذا القول قد عاب نفسه بنفسه حيث انتحَل مذهبَ السَّلف بلا نقلٍ عنهم، بل بدعواه أن قوله هو الحق. وأما أهلُ الحديث، فإنما تَذْكُر مذهبَ السَّلف بالنقول المتواترة، تارةً يذكرون مَن نقل مذهبَهم مِن علماء الإسلام، وتارةً يروون نفسَ قولهم في هذا الباب، كما سلكناه في جواب الاستفتاء (2). فإنا لما أردنا أن نبيِّن مذهبَ السَّلف ذكرنا طريقين (3): أحدهما: أنا ذكرنا ما تيسَّر مِن ذكر ألفاظهم، ومَن روى ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة. والثاني: ذكرنا مَن نقَل مذهبَ السَّلف من جميع طوائف المسلمين, من _________ (1) الأصل: «المبتدعة»، والمثبت أقوم، أي يجعل لهم طريقًا. وانظر: «منهاج السنة» (7/ 516). و «إبطال التحليل» (60)، و «تاج العروس» (26/ 80). (2) ورد إليه استفتاء سنة 698 من حماة عن آيات الصِّفات وأحاديثها, فكتب جوابه في قعدة بين الظهر والعصر, وعمره إذ ذاك دون الأربعين, واشتهر بالفتوى الحموية, وجرت له بسببه محنةٌ عظيمة. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 4, 234) , و «العقود الدرية» (111, 144, 249). (3) «الفتوى الحموية» (296 - 517).

(الكتاب/215)


طوائف الفقهاء الأربعة، ومن أهل الحديث, والتصوف، وأهل الكلام كالأشعريِّ وغيره. فصار مذهبُ السَّلف منقولًا بإجماع الطوائف وبالتواتر، لم نُثْبِتْه بمجرَّد دعوى الإصابة لنا والخطأ لمخالفنا كما يفعلُ أهلُ البدع. ثم لفظ «التجسيم» لا يوجدُ في كلام أحدٍ من السَّلف لا نفيًا ولا إثباتًا, فكيف يحلُّ أن يقال: مذهبُ السَّلف نفيُ التجسيم أو إثباتُه بلا ذكرٍ لذلك اللفظ ولا لمعناه عنهم؟! وكذلك لفظ «التوحيد» بمعنى نفي شيءٍ من الصِّفات لا يوجدُ في كلام أحدٍ من السَّلف. وكذلك لفظ «التنزيه» بمعنى نفي شيءٍ من الصِّفات الخبرية لا يوجدُ في كلام أحدٍ من السَّلف. نعم، لفظ «التشبيه» موجودٌ في كلام بعضهم, وتفسيرُه معه (1)، كما قد كتبناه عنهم، وأنهم أرادوا بالتشبيه تمثيلَ الله بخلقه، دون نفي الصِّفات التي في القرآن والحديث (2). وأيضًا، فهذا الكلام لو كان حقًّا في نفسه لم يكن مذكورًا بحجَّة تُتَّبع، _________ (1) كقول إسحاق بن راهويه: «إنما يكون التشبيه إذا قال: يدٌ كيدٍ أو مثل يدٍ, أو سمعٌ كسمع ... ». ونحوه عن الإمام أحمد. انظر: «جامع الترمذي» (3/ 202) , و «إبطال التأويلات» للقاضي أبي يعلى (1/ 43, 45). (2) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 285, 387, 5/ 396) , و «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» (152) , و «درء التعارض» (1/ 249).

(الكتاب/216)


وإنما هو مجرَّد دعوى على وجه الخصومة التي لا يعجزُ عنها من يستجيزُ ويستحسِنُ أن يتكلَّم بلا علمٍ ولا عدل. ثم إنه يدلُّ على قلَّة الخبرة بمقالات الناس من أهل السُّنة والبدعة؛ فإنه قال: «وكذا جميعُ المبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السَّلف»، فليس الأمر كذلك، بل الطوائفُ المشهورة بالبدعة كالخوارج والروافض لا يدَّعون أنهم على مذهب السَّلف، بل هؤلاء يكفِّرون جمهور السَّلف. فالرافضة تطعنُ في أبي بكر, وعمر, وعامَّة السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار, والذين اتبعوهم بإحسان، وسائر أئمَّة الإسلام، فكيف يزعمون أنهم على مذهب السَّلف؟! ولكن يَنْتَحِلُون مذهبَ أهل البيت كذبًا وافتراء. وكذلك الخوارج قد كفَّروا عثمان، وعليًّا، وجمهورَ المسلمين من الصحابة والتابعين، فكيف يزعمون أنهم على مذهب السَّلف؟! الوجه الرابع (1): أن هذا الاسم (2) ليس له ذكرٌ في كتاب الله ولا سنَّة رسوله، ولا كلام أحدٍ من الصَّحابة والتابعين، ولا من أئمَّة المسلمين، ولا شيخٍ أو عالمٍ مقبولٍ عند عموم الأمَّة. فإذا لم يكن ذلك لم يكن في الذمِّ به لا نصٌّ ولا إجماعٌ ولا ما يصلحُ تقليدُه للعامَّة، فإذا كان الذمُّ بلا مستندٍ للمجتهد ــ ولا للمقلدين عمومًا ــ كان _________ (1) الأصل: «الوجه الثاني». (2) أي «الحشو, والتجسيم».

(الكتاب/217)


في غاية الفساد والظلم؛ إذ لو ذَمَّ به بعضُ من يصلُح لبعض العامَّة تقليدُه لم يكن له أن يحتجَّ به؛ إذ المقلدُ الآخرُ لمن يصلُح له تقليدُه لا يَذُمُّ به. ثم مثل أبي محمدٍ وأمثاله لم يكن يستحلُّ أن يتكلَّم في كثيرٍ من فروع الفقه بالتقليد (1)، فكيف يجوزُ له التكلُّم في أصول الدين بالتقليد؟! والنُّكتة أن الذامَّ به إما مجتهدٌ وإما مقلِّد, أما المجتهدُ فلا بدَّ له من نصٍّ أو إجماعٍ أو دليلٍ يُسْتَنْبَطُ منه ذلك، فإن الذمَّ والحمدَ من الأحكام الشرعية، وقد قدَّمنا بيان ذلك (2)، وذكرنا أن الحمدَ والذمَّ، والحبَّ والبغض، والوعدَ والوعيد، والموالاةَ والمعاداة، ونحو ذلك من أحكام الدين، لا يصلحُ إلا بالأسماء التي أنزل الله بها سلطانَه، فأما تعليقُ ذلك بأسماء مبتدعَةٍ فلا يجوز، بل ذلك مِن باب شرع دينٍ لم يأذن به الله، وأنه لا بدَّ من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله. والمعتزلة أيضًا تفسِّقُ من الصحابة والتابعين طوائف، وتطعنُ في كثيرٍ منهم وفيما رووه من الأحاديث التي تخالفُ آراءهم وأهواءهم، بل تكفِّرُ أيضًا من يخالفُ أصولهم التي انتحلوها من السَّلف والخلف، فلهم من الطَّعن في علماء السَّلف وفي عِلمهم ما ليس لأهل السُّنة والجماعة، وليس _________ (1) ومن ذلك قوله في فصل بديع من كتابه «قواعد الأحكام» (2/ 274 - 275): «ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقفُ أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا, وهو مع ذلك يقلِّده فيه، ويتركُ من شهد الكتابُ والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه, جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحيَّل لدفع ظواهر الكتاب والسنة, ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالًا عن مُقَلَّده». (2) (ص: 209).

(الكتاب/218)


انتحالُ السَّلف من شعائرهم, وإن كانوا يقرِّرون خلافةَ الخلفاء الأربعة، ويعظِّمون من أئمَّة الإسلام وجمهورهم ما لا يعظِّمُه أولئك (1) , فلهم من القدح في كثيرٍ منهم ما ليس هذا موضعه (2) , وللنَّظَّام من القدح في الصَّحابة ما ليس هذا موضعه (3). وإن كان من أسباب انتقاص هؤلاء المبتدعة للسَّلف هو ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصيرٍ وعُدوان، وما كان من بعضهم من أمورٍ اجتهاديةٍ الصوابُ في خلافها, فإن ما حصل مِن ذلك صار فتنةً للمخالف لهم ضلَّ به ضلالاً كثيرًا. فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف بين أهل السُّنة والجماعة العامَّة (4) بالبدعة ليسوا منتحِلين للسَّلف، بل أشهرُ الطوائف بالبدعة الرافضةُ, حتى إن العامَّة لا تعرفُ من شعائر البدع إلا الرَّفض, والسُّنِّيُّ في اصطلاحهم من لا يكونُ رافضيًّا (5)؛ وذلك أنهم أكثرُ مخالفةً للأحاديث النبويَّة ولمعاني القرآن، وأكثرُ قدحًا في سلف الأمَّة وأئمَّتها، وطعنًا في _________ (1) الرافضة والخوارج. (2) انظر: «أخبار عمرو بن عبيد» للدارقطني (13, 14, 16, 17, 18) , و «الانتصار في الرد على المعتزلة» للعمراني (3/ 825) , و «تأويل مختلف الحديث» (140). (3) انظر: «الفرق بين الفرق» (114, 133, 304). والنظَّام هو إبراهيم بن سيار, من رؤوس المعتزلة, توفي سنة بضع وعشرين ومئتين. «لسان الميزان» (1/ 295). (4) أي أهل السنة بالإطلاق العام, وهم من يثبت خلافة الخلفاء الثلاثة. انظر: «منهاج السنة» (2/ 221, 469). (5) انظر: «النبوات» (563) , و «مجموع الفتاوى» (3/ 356, 28/ 482).

(الكتاب/219)


جمهور الأمَّة من جميع الطوائف، فلمَّا كانوا أبعدَ عن متابعة السَّلف كانوا أشهرَ بالبدعة. فعُلِمَ أن شعار أهل البدع هو تركُ انتحال اتباع السَّلف؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عَبْدُوس بن مالك: «أصولُ السُّنة عندنا التمسُّكُ بما كان عليه أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم -» (1). وأما متكلِّمةُ أهل الإثبات من الكُلَّابية والكَرَّامية والأشعرية، مع الفقهاء والصُّوفية وأهل الحديث، فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السَّلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جُمَل مقالاتهم، لكنْ كلُّ من كان بالحديث من هؤلاء أعلمَ كان بمذهب السَّلف أعلمَ وله أتبَع, وإنما يوجدُ تعظيمُ السَّلف عند كلِّ طائفةٍ بقدر استِنَانها وقلَّة ابتداعها. أما أن يكون انتحالُ السَّلف من شعائر أهل البدع فهذا باطلٌ قطعًا؛ فإن ذلك غيرُ ممكنٍ إلا حيث يكثرُ الجهلُ ويقلُّ العلم. يوضِّحُ ذلك: أن كثيرًا من أصحاب أبي محمد (2) من أتباع أبي الحسن الأشعري يصرِّحون بمخالفة السَّلف في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث, يقولون: «مذهبُ السَّلف أن الإيمان قولٌ وعملٌ يزيدُ وينقُص، وأما المتكلِّمون من أصحابنا فمذهبُهم كَيت وكَيت»، وكذلك يقولون: «مذهبُ السَّلف أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصِّفات لا تُتَأوَّل، والمتكلِّمون يرون تأويلَها إما وجوبًا وإما جوازًا» , ويذكرون _________ (1) تقدم (ص: 149). (2) العز بن عبد السلام.

(الكتاب/220)


الخلاف بين السَّلف وبين أصحابهم المتكلمين (1). هذا منطوقُ ألسنتهم ومسطورُ كتبهم! أفلا عاقلٌ يَعتَبِر، ومغرورٌ يَزدَجِر، أن السَّلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف، ثم يُحْدِثُ مقالةً تَخْرُج عنهم؟! أليس هذا صريحًا أن السَّلف كانوا ضالِّين عن التوحيد والتنزيه، ودَلَّه (2) المتأخرون؟! وهذا فاسدٌ بضرورة العقل الصَّحيح والدين المتين. وأيضًا، قد ينصرُ المتكلِّمون أقوالَ السَّلف تارةً وأقوال المتكلِّمين تارة، كما يفعله غيرُ واحدٍ مثل أبي المعالي وأبي حامدٍ والرَّازي وغيرهم، ولازمُ المذهب الذي ينصرونه تارةً أنه هو المعتمد، فلا يثبتُون على دين واحد، وتغلبُ عليهم الشُّكوك, وهذا عادةُ الله فيمن أعرض عن الكتاب والسُّنة. وتارةً يجعلون إخوانهم المتأخِّرين أحذقَ وأعلمَ من السَّلف، ويقولون: «طريقة السَّلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلمُ وأحكم» (3)، فيصفون إخوانهم _________ (1) انظر: «الإحياء» (1/ 104, 120) , و «شرح مسلم» للنووي (1/ 148, 3/ 19). (2) كذا في الأصل. أي عَرَفه. فإن لم يكن محرَّفًا فهو تضمين. (3) نسب المصنف هذا القول في «الحموية» (185) لبعض الأغبياء, ولبعض النفاة في «درء التعارض» (5/ 378) , ولم أقف عليه بتمامه في مصدرٍ متقدم, واشتهر بعده وذاع عند موافقيه ومخالفيه, وممن قاله من معاصريه علاء الدين البخاري (ت: 730) في «كشف الأسرار» (1/ 58). قال الطاهر بن عاشور في «التحرير والتنوير» (3/ 167): «وقع هذان الوصفان (يعني: أحكم وأعلم) في كلام المفسرين وعلماء الأصول، ولم أقف على تعيين أول من صدرا عنه». أما وصف طريقة السلف في باب الصفات بأنها أسلم فكثيرٌ في كلام المتكلمين, وحكاه عنهم ابن الصلاح في «أدب المفتي والمستفتي» (155) , وممن صرَّح به الجويني في «غياث الأمم» (280) , والرازي في «أساس التقديس» (199) , وغيرهما. وانظر: «البحر المحيط» للزركشي (3/ 441) , و «فتح الباري» (13/ 352).

(الكتاب/221)


بالفضيلة في العلم والبيان والتحقيق والعرفان، والسَّلفَ بالنقص في ذلك والتقصير فيه أو الخطأ والجهل، وغايتُهم عندهم أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط (1). ولا ريبَ أن هذا شعبةٌ من الرَّفض، فإنه وإن لم يكن تكفيرًا للسَّلف كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج, ولا تفسيقًا لهم كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية (2) وغيرهم= كان تجهيلاً لهم وتخطئةً وتضليلًا, أو نسبةً لهم إلى الذنوب والمعاصي وإن لم يكن فسقًا, وزعمًا أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلمُ وأفضلُ من أهل القرون الفاضلة. ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبَّر الكتاب والسُّنة، وما اتفق عليه أهلُ السُّنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خيرَ قرون هذه الأمَّة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كلِّ فضيلةٍ أن خيرَها القرنُ الأول، ثم الذين _________ (1) كاعتذار الجويني للصحابة - رضي الله عنهم - بأنهم كانوا مشغولين عن تقرير أصول الدين وقواعده بالجهاد. انظر: «التسعينية» (941) , و «النبوات» (634) , و «درء التعارض» (2/ 14) , و «مجموع الفتاوى» (13/ 228). (2) نقل ابن الوزير في «الروض الباسم» (1/ 96 - 99) نصوصًا عالية عن أكابر أئمة الزيدية في تعديل الصحابة والثناء عليهم. ومِن فِرَق الزيدية من لحق بركب الرافضة في هذا الباب كالجارودية.

(الكتاب/222)


يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن غير وجه (1)، وأنهم أفضلُ من الخلف في كلِّ فضيلةٍ من علمٍ وعملٍ وإيمانٍ وعقلٍ ودينٍ وبيانٍ وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكلِّ مُشْكِل. هذا لا يدفعُه إلا من كابر المعلومَ بالضرورة من دين الإسلام، وأضلَّه الله على عِلم، كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «من كان منكم مُسْتَنًّا فليَسْتَنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمَّد، أبرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهَدْي المستقيم» (2). وقال غيره: «عليكم بآثار من سَلَف, فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خيرٌ كامِنٌ لم يعلموه» (3). هذا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يأتي زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى تلقَوا ربَّكم» (4)، فكيف يحدثُ لنا زمانٌ فيه الخيرُ في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى؟ ! هذا لا يكونُ أبدًا. _________ (1) أخرجه البخاري (2651, 2652) , ومسلم (2533, 2535) من حديث عمران بن حصين وابن مسعود - رضي الله عنهما -. وثبت من وجوه أخرى. (2) تقدم (ص: 197). (3) بمعناه في أثر عمر بن عبد العزيز المتقدم (ص: 11 - 13). (4) أخرجه البخاري (7068).

(الكتاب/223)


وما أحسن ما قال الشافعي - رحمه الله - في رسالته (1): «هم فوقنا في كلِّ علمٍ وعقلٍ ودينٍ وفضل, وكلِّ سببٍ يُنالُ به علمٌ أو يُدْرَكُ به هدى، ورأيهم لنا خيرٌ مِن رأينا لأنفسنا». وأيضًا، فيقال لهؤلاء ــ جهميَّةِ الكُلَّابية (2) , كصاحب هذا الكلام أبي محمَّدٍ وأمثاله ــ: كيف تدَّعون طريقةَ السَّلف، وغايةُ ما عند السَّلف أن يكونوا موافقين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فإن عامَّة ما عند السَّلف من العلم والإيمان ما استفادوه من نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرجهم الله به من الظُّلمات إلى النُّور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد، الذي قال الله فيه: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد: 28، 29]، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا _________ (1) الرسالة العراقية القديمة. انظر: «مناقب الشافعي» للبيهقي (1/ 442) , و «المسودة» (653) , و «كشف الأسرار» (3/ 217) , و «إجمال الإصابة» للعلائي (40). (2) كذا بالأصل. وله نظائر في كتب المصنف.

(الكتاب/224)


نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى 52، 53]. وأبو محمَّدٍ وأمثالُه قد سلكوا مسلكَ الملاحدة الذين يقولون: إن الرسول لم يبيِّن الحقَّ في باب التوحيد، ولا بيَّن للناس ما هو الأمرُ عليه في نفسه، بل أظهرَ للناس خلافَ الحقِّ، والحقُّ إما كتَمَه وإما [أنه] غيرُ عالمٍ به. فإن هؤلاء الملاحدة من المتفلسفة ومن سلكَ سبيلَهم, المخالفين لما جاء به الرسولُ في الأمور العِلْمية، كالتوحيد والمعاد وغير ذلك، يقولون: إن الرسولَ أحكَمَ الأمورَ العملية المتعلِّقة بالأخلاق والسِّياسة المنزلية والمدنية (1)، وأتى بشريعةٍ عمليةٍ هي أفضلُ شرائع العالم، ويعترفون بأنه لم يقرَع العالمَ ناموسٌ أفضلَ من ناموسه ولا أكملَ منه (2)، فإنهم رأوا حُسْنَ سياسته للعالم وما أقامه من سُنَن العدل ومحاه من الظُّلم. وأما الأمورُ العِلميةُ التي أخبَر بها ــ مِن صفات الربِّ, وأسمائه, وملائكته, وكتبه, ورسله، واليوم الآخر, والجنة والنار ــ فلما رأوها تخالفُ ما هم عليه صاروا في الرَّسول فريقين: * فغُلاتهم يقولون: إنه لم يكن يعرفُ هذه المعارف، وإنما كان كمالُه في الأمور العملية العباداتِ والأخلاق، وأما الأمورُ العِلمية فالفلاسفةُ أعلمُ _________ (1) انظر: «آراء أهل المدينة الفاضلة» للفارابي (123) , و «الصفدية» (2/ 232) , و «الرد على الشاذلي» (203) , و «مجموع الفتاوى» (17/ 330). (2) كما تقدم (ص: 147).

(الكتاب/225)


بها منه، بل ومن غيره من الأنبياء (1). وهؤلاء يقولون: إن عليًّا كان فيلسوفًا (2) وأنه كان أعلمَ بالعِلميَّات من الرسول، وأن هارون كان فيلسوفًا وكان أعلمَ بالعِلميَّات من موسى, وكثيرٌ منهم يعظِّمُ فرعونَ ويسمُّونه «أفلاطون القِبطي» (3)، ويدَّعون أن صاحبَ مَدْيَن الذي تزوَّج موسى ابنتَه, الذي يقول بعض الناس: إنه شعيب (4) , يقول _________ (1) كما تقدم (ص: 144، 148). (2) الأصل: «فيلسوفيا» , في الموضعين. (3) ذكر المصنف في مواضع كثيرة أن حقيقة مقالة متفلسفة المتصوفة من الاتحادية هي قول فرعون. وقال: كنت أبيِّن ذلك حتى حدثني الثقة عن بعض رؤسائهم أنه قال: نحن على قول فرعون. ولهذا يعظِّمون فرعون في كتبهم تعظيمًا كثيرًا. كما ذكر أن مآل قول الجهمية النفاة إلى قول فرعون. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 423, 5/ 179, 6/ 616) , و «منهاج السنة» (2/ 561) , و «درء التعارض» (5/ 4) , و «بغية المرتاد» (349, 378, 379, 527) , و «الرد على المنطقيين» (522) , و «الرد على الشاذلي» (155) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 266, 359, 468, 6/ 314, 7/ 632, 12/ 269, 510, 13/ 147, 168, 177, 185 - 189, 16/ 103, 17/ 84) , و «جامع الرسائل» (1/ 204 - 205) , و «جامع المسائل» (7/ 248) , و «فصوص الحكم» لابن عربي (211). (4) وذهب إليه مقاتل وابن حبيب وأكثر المؤرخين وأهل التفسير, وروي في حديث لا يصح. انظر: «تفسير مقاتل» (3/ 341) , و «المحبر» (389) , و «تاريخ الطبري» (1/ 167) , و «زاد المسير» (6/ 216) , و «البداية والنهاية» (2/ 47). وهو غلطٌ شاع «عند كثير من الناس الذين لا خبرة لهم بحقائق العلم ودلائله وطرقه السمعية والعقلية» كما قال المصنف. انظر: «الجواب الصحيح» (2/ 249 - 250) , و «جامع الرسائل» (1/ 61 - 66) , و «مجموع الفتاوى» (20/ 429).

(الكتاب/226)


هؤلاء: إنه أفلاطُون أستاذ أرِسطو, ويقولون: إن أرِسطو هو الخَضِر (1). إلى أمثال هذا الكلام الذي فيه من الجهل والضلال ما لا يعلمُه إلا ذو الجلال, أقلُّ ما فيه جهلُهم بتواريخ الأنبياء، فإن أرِسطو باتفاقهم كان وزيرَ الإسكندر بن فيلبس المَقْدوني الذي تؤرِّخُ له اليهودُ والنصارى التاريخَ الرُّومي، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمئة سنة. وقد يظنُّون أن هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن، وأن أرِسطو كان وزيرًا لذي القرنين المذكور في القرآن (2). وهذا جهل؛ فإن هذا الإسكندر بن فيلبس لم يصل إلى بلاد التُّرك، ولم يَبْنِ السَّدَّ، وإنما وصل إلى بلاد الفُرس. وذو القرنين المذكورُ في القرآن وصل إلى شرق الأرض وغربها، وكان متقدِّمًا على هذا، يقال: اسمه الإسكندر بن دارا، وكان موحِّدًا مؤمنًا، وذاك مشركًا كان يعبد هو وقومُه الكواكبَ والأصنام، ويُعَانُون السِّحر، كما كان أرِسطو وقومُه من اليونان مشركين يعبدون الأصنام ويُعَانُون السِّحر، ولهم في ذلك مصنفات، وأخبارُهم مشهورة، وآثارهم ظاهرةٌ بذلك، فأين هذا مِن هذا؟ ! _________ (1) انظر: «الرد على المنطقيين» (183, 184). (2) انظر: «منهاج السنة» (1/ 317, 410) , و «درء التعارض» (5/ 68) , و «الجواب الصحيح» (1/ 345) , و «النبوات» (197) , و «الرد على البكري» (1/ 156) , و «الرد على المنطقيين» (28, 182, 186, 283, 392) , و «الرد على الشاذلي» (135) , و «مجموع الفتاوى» (11/ 171, 571, 17/ 332) , و «جامع المسائل» (5/ 286).

(الكتاب/227)


والمقصود هنا بيانُ ما يقوله هؤلاء الفلاسفة الباطنية فيما جاء به الرسول. * والفريق الثاني منهم، يقولون: إن الرسول كان يعلمُ الحقَّ الثابتَ في نفس الأمر في التوحيد والمعاد، ويعرفُ أن الربَّ ليس له صفةٌ ثبوتية، وأنه لا يَرى ولا يتكلَّم، وأن الأفلاك قديمةٌ أزليةٌ لم تزل ولا تزال، وأن الأبدان لا تعود (1)، وأنه ليس لله ملائكةٌ هم أحياء ناطقون ينزلون بالوحي من عنده ويصعدون إليه= ولكن يقولُ بما عليه هؤلاء الباطنيةُ في الباطن، لكن ما كان يمكنُه إظهارُ ذلك للعامَّة؛ لأن هذا إذا ظهَر لم تقبله عقولهم وقلوبهم, بل يُنْكِرون ويَنْفِرون، فأظهرَ لهم من التخييل والتمثيل ما ينتفعون به في دينهم، وإن كان في ذلك تلبيسٌ عليهم وتجهيلٌ لهم واعتقادُهم الأمر على خلاف ما هو عليه، لما في ذلك من المصلحة لهم (2). ويجعلون أئمَّة الباطنية، كبني عبيد بن ميمون القَدَّاح الذين ادَّعوا أنهم من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر، ولم يكونوا من أولاده، بل كان جدُّهم يهوديًّا ربيبًا لمجوسيٍّ، وأظهروا التشيُّع, ولم يكونوا في الحقيقة على دينِ واحدٍ من الشِّيعة لا الإمامية ولا الزيدية, بل ولا الغالية الذين يعتقدون إلهية عليٍّ أو نبوَّته، بل كانوا شرًّا من هؤلاء كلهم؛ ولهذا كَثُر تصانيفُ المسلمين في كشف أسرارهم وهتك أستارهم (3) , وكَثُر غزوُ المسلمين لهم, _________ (1) الأصل: «تقوم». تحريف. (2) كما تقدم (ص: 144). (3) للباقلاني «كشف الأسرار وهتك الأستار» , وللغزالي «فضائح الباطنية» , ولأبي شامة «كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد» , ولغيرهم تآليف مفردة وكلام كثير مبثوث في التصانيف. وقد كتب العلماء من شتى المذاهب ببغداد سنة 402 و 444 محاضر في كشف باطلهم والقدح في أنسابهم وعقائدهم. انظر: «المنتظم» (15/ 82) , و «تاريخ الإسلام» (9/ 10, 609).

(الكتاب/228)


وقصصُهم معروفة. وابنُ سينا وأهلُ بيته كانوا من أتباع هؤلاء على عهد حاكمهم المصريّ؛ ولهذا دخل ابنُ سينا في الفلسفة (1). وهؤلاء يجعلون محمَّد بن إسماعيل هو الإمام المكتوم، وأنه نسَخَ شرعَ محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب، ويقولون: إن هؤلاء الإسماعيلية كانوا أئمَّةً معصومين، بل قد يقولون: إنهم أفضلُ من الأنبياء، وقد يقولون: إنهم آلهةٌ يُعْبَدُون. ولهذا أرسل الحاكمُ غلامَه نُشْتكين (2) الدرزي إلى وادي تَيْم الله بن ثعلبة بالشَّام (3)، فأضلَّ أهل تلك الناحية, وبقاياه فيهم إلى اليوم يقولون _________ (1) كما تقدم (ص: 152). (2) الأصل: «هشتكير». وفي «مجموع الفتاوى» (35/ 135, 161) وأصل «الرد على الشاذلي» (177): «هشتكين». «البداية والنهاية» (15/ 469): «هستكين». وهو تحريف. واسمه محمد بن إسماعيل, وفي شخصيته وسيرته غموض واشتباه كشأن نحلته وطائفته. انظر: «النجوم الزاهرة» (4/ 184) , و «تاريخ الأنطاكي» (334) , و «مذاهب الإسلاميين» لعبد الرحمن بدوي (2/ 592) , و «طائفة الدروز» لمحمد كامل حسين (76). (3) وادٍ خصيب كان من أعمال دمشق, ويقع اليوم ضمن حدود لبنان في جنوبه الشرقي, ويسمى: وادي التيم, استوطنه الأمراء الشهابيون, ولا يزال من معاقل الدروز. انظر: «خطط الشام» (3/ 184, 6/ 268) , و «مجلة المقتبس» (6/ 417, سنة 1911). وقيل: إن تيمية جدَّة المصنف من هناك, وردَّه ابن ناصر الدين. انظر: «شرح التبصرة» للعراقي (2/ 699) , و «التبيان لبديعة البيان» (2/ 300).

(الكتاب/229)


بإلهيَّة الحاكم, وقد أخرجَهم عن دين الإسلام، فلا يرون الصَّلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان، ولا حجَّ البيت الحرام، ولا تحريمَ ما حرَّمه الله ورسولُه من الميتة والدَّم ولحم الخنزير والخمر وغير ذلك. وهؤلاء يأمرون (1) المستجيبَ لهم أولًا إلى التشيُّع والتزام ما توجبُه الرافضة وتحريم ما يحرِّمونه، ثم بعد هذا ينقلونه درجةً بعد درجةٍ حتى ينقلونه في الآخر إلى الانسلاخ من الإسلام, وأن المقصود هو معرفةُ أسرارهم، وهو العلمُ الذي به تكمُل النفس، كما تقوله الفلاسفةُ الملاحدة، فمن حصَل له هذا العلم وصل إلى الغاية، وسقطت عنه العباداتُ التي تجبُ على العامَّة، كالصَّلوات الخمس وصيام رمضان وحجِّ البيت، وحلَّت له المحرَّماتُ التي لا تحلُّ لغيره. فهؤلاء يجعلون الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا عظَّموه وقالوا: كان كاملًا في العلم= مِن جنس رؤوسهم الملاحدة، وأنه كان يُظْهِرُ للعامَّة خلاف ما يبطنُه للخاصَّة. وقد بينَّا مِن فساد أقوالهم في غير هذا الموضع ما لا يناسبُه هذا المقام (2). _________ (1) كذا بالأصل, ضمَّن «يأمرون» معنى «يدعون». (2) انظر: «التدمرية» (48) , و «منهاج السنة» (3/ 452, 4/ 55, 100, 519, 8/ 258) , و «مجموع الفتاوى» (4/ 320, 478, 508, 27/ 174, 28/ 636, 35/ 131, 150, 161).

(الكتاب/230)


فإن المقصود هنا أن هؤلاء النُّفاة للعلوِّ وللصِّفات الخبرية، كصاحب «المُلْحَة» (1) وأمثاله, يقولون في الرسول من جنس قول هؤلاء, وأن الذي أظهَره ليس هو الحقَّ الثابتَ في نفس الأمر؛ لأن ذلك ما كان يمكنُه إظهارُه للعامَّة (2). فإذا كانوا يقولون هذا في الرسول نفسه, فكيف القولُ في أتباعه من سلف الأمَّة من الصَّحابة والتابعين؟ ! ومن كان هذا أصلَ قوله في الرسول والسَّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كان مخالفًا لهم لا موافقًا، لا سيَّما إذا أظهَر النفيَ الذي كان الرسولُ وخواصُّ أصحابه عنده يُبْطِنُونَه ولا يُظْهِرُونَه، فإنه يكون مخالفًا لهم أيضًا. وهذا المسلكُ يراه عامةُ النُّفاة، كابن رشدٍ الحفيد وغيره (3) , وفي كلام أبي حامدٍ من هذا قطعةٌ كبيرة (4). وابنُ عقيل وأمثالُه قد يقولون أحيانًا هذا، لكن ابن عقيل الغالبُ عليه إذا خرج عن السُّنة أن يميل إلى التجهُّم والاعتزال في أول أمره، بخلاف آخر ما _________ (1) الأصل: «اللمعة» , تحريف. وهي «الملحة في اعتقاد أهل الحق» للعز بن عبد السلام التي يرد عليها المصنف في هذا الفصل. وانظر لتأويل العز للعلو وللصفات الخبرية كتبه: «الفتاوى» (56) , و «الإمام في بيان أدلة الأحكام» (238, 257) , و «مجاز القرآن» (224, 225, 238). (2) انظر: «قواعد الأحكام» (1/ 304). (3) انظر: «مناهج الأدلة» (133) , و «فصل المقال» (35). (4) انظر: «الإحياء» (1/ 20, 58) , و «فضائح الباطنية» (155) , و «إلجام العوام» (6) , و «الاقتصاد في الاعتقاد» (38).

(الكتاب/231)


كان عليه فقد خرج إلى السُّنة المحضة (1). وأبو حامدٍ يميلُ إلى الفلسفة لكنه أظهرها في قالب التصوُّف والعبارات الإسلامية؛ ولهذا ردَّ عليه علماء المسلمين، حتى أخصُّ أصحابه أبو بكر بن عربي (2) قال: «شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر» , وقد حكى عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجدُ تصديقُ ذلك في كتبه، وردَّ عليه العلماء المذكورون قبل (3). _________ (1) انظر: «درء التعارض» (4/ 282, 8/ 60, 9/ 160) , و «شرح الأصبهانية» (87) , و «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 573). وصنف ابن قدامة في الرد على نصيحته كتاب «تحريم النظر في كتب الكلام» وأغلظ له القول. توفي ابن عقيل سنة 513, وجوَّد ابن رجب ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 316 - 362). (2) كذا في الأصل, وهو صحيح, ويفرق بعضهم بينه وبين الطائي الحاتمي بالتعريف والتنكير, ولا أصل له, فكلاهما يذكر بهما, وإن كان الأشهر في الأول التعريف وفي الثاني التنكير. (3) (ص: 95). وسبق هذا الكلام بحروفه هناك, وأخشى أن تكون إعادته هنا من تصرف الناسخ.

(الكتاب/232)


فصل ثم قال المعترض (1): «قال أبو الفرج ابن الجوزي في الردِّ على الحنابلة: إنهم أثبتوا لله سبحانه عينًا، وصورةً، ويمينًا، وشمالاً، ووجهًا زائدًا على الذَّات، وجبهةً، وصدرًا، ويدين، ورجلين، وأصابع، وخنصرًا، وفخذًا، وساقًا، وقدمًا، وجنبًا، وحِقْوًا وخَلْفًا، وأمامًا، وصعودًا، ونزولًا، وهرولةً، وا عجبًا لقد كمَّلوا هيئة البدن! وقالوا: يحمَل على ظاهره، وليست بجوارح، ومثل هؤلاء لا يُحَدَّثون، فإنهم يكابرون العقول, وكأنهم يُحَدِّثون الأطفال» (2). قلت: الكلام على هذا فيه أنواع: الأول: بيان ما فيه من التعصُّب بالجهل والظلم قبل الكلام في المسألة العلمية. _________ (1) لم يسبق له ذكر, ويشبه أن يكون هذا فصلًا أدرجه الناسخ من «أجوبة الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» , كما مر في المقدمة. (2) «دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه» لابن الجوزي (6, 44). ويسميه المصنف: «كف التشبيه بكف التنزيه» , انظر: «درء التعارض» (8/ 60, 9/ 160) , و «شرح حديث النزول» (55). ومن الكتاب نسخةٌ بعنوان «أخبار الصفات» تشتمل على مقدمة طويلة وزيادات, والنص فيها باختلاف يسير (17, 64 - نشرة ليدن). وسُمِّي في بعض نسخه و «كشف الظنون» (1/ 218): «الباز الأشهب المنقض على مخالفي المذهب» , وهو غلط, فإن «الباز الأشهب» كتابٌ كبير جمع فيه ابن الجوزي الأحاديث التي يحتجُّ بها أهل المذهب وتكلَّم عليها صحةً وضعفًا وضمَّنه خلاف المذاهب, كما وصفه وسماه في الكتاب نفسه, وقال ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 495): هو تعليقةٌ في الفقه كبير.

(الكتاب/233)


الثاني: بيان أنه ردٌّ بلا حجَّةٍ ولا دليلٍ أصلًا. الثالث: بيان ما فيه من ضعف النقل والعقل. * أما أولًا: فإن هذا المصنَّف الذي نقل منه كلام أبي الفرج لم يصنِّفه في الردِّ على الحنابلة كما ذكر هذا، وإنما ردَّ به ــ فيما ادَّعاه ــ على بعضهم، وقَصَدَ قَصْدَ (1) أبي عبد الله بن حامد, والقاضي أبي يعلى, وشيخَه أبي الحسن بن الزَّاغوني (2) ومن تبعهم (3)، وإلا فجنسُ الحنابلة لم يتعرَّض أبو الفرج للردِّ عليهم، ولا حكى عنهم ما أنكَره، بل هو يحتجُّ في مخالفته لهؤلاء بكلام كثيرٍ من الحنبليَّة، كما يذكُره من كلام التميميِّين، مثل رِزْق الله التميمي (4) , وأبي الوفاء بن عقيل، ورِزقُ الله كان يميلُ إلى طريقة سَلَفه، كجدِّه أبي الحسن التميمي (5)، وعمِّه أبي الفضل التميمي (6)، والشريف _________ (1) كذا بالأصل, ولهذا التركيب نظائر في أسلوب المصنف. انظر: «الصارم المسلول» (1/ 312) , و «منهاج السنة» (7/ 36). (2) أبو عبد الله الحسن بن حامد البغدادي إمام الحنبلية في زمانه (ت: 403) , والقاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء شيخ المذهب (ت: 458) , وأبو الحسن بن الزاغوني علي بن عبيد الله بن نصر من أعيان الحنابلة (ت: 527). انظر: «طبقات الحنابلة» (2/ 171, 193) , و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 401). (3) ذكر ذلك في كتابه (6, 10, 11). (4) أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز فقيهٌ محدثٌ متفنن (ت: 488). انظر: «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 172). (5) عبد العزيز بن الحارث (ت: 371). «طبقات الحنابلة» (3/ 246). (6) عبد الواحد بن عبد العزيز (ت: 410). «طبقات الحنابلة» (3/ 325).

(الكتاب/234)


أبي علي بن أبي موسى (1) هو صاحبُ أبي الحسن التميمي, وقد ذَكَر عنه أنه قال: لقد خَرِيَ القاضي أبو يعلى على الحنابلة خَرْيةً لا يغسلُها الماء (2). وسنتكلَّم على هذا بما ييسِّره الله، متحرِّين للكلام بعلمٍ وعدل، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فمازال في الحنبليَّة من يكونُ ميلُه إلى نوعٍ من الإثبات الذي ينفيه طائفةٌ أخرى منهم، ومنهم من يُمْسِكُ عن النفي والإثبات جميعًا, ففيهم جنسُ التنازع الموجود في سائر الطوائف، لكن نزاعَهم في مسائل الدِّق (3)، وأما الأصولُ الكبار فهم متَّفقون عليها، ولهذا كانوا أقلَّ الطوائف تنازعًا وافتراقًا؛ لكثرة اعتصامهم بالسُّنة والآثار؛ لأن للإمام أحمد في باب أصول الدين من الأقوال المبيِّنة لما تنازع فيه الناسُ ما ليس لغيره, وأقوالُه مؤيَّدةٌ بالكتاب والسُّنة واتباع سبيل السَّلف الطيِّب؛ ولهذا كان جميعُ من ينتحِلُ السُّنةَ من طوائف الأمة فقهائها ومتكلِّمتها وصوفيَّتها ينتحِلُونه. ثم قد يتنازعُ هؤلاء في بعض المسائل، فإن هذا أمرٌ لا بدَّ منه في العالَم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بأن هذا لا بدَّ من وقوعه، وأنه لما سأل ربَّه ألا يُلْقِي _________ (1) محمد بن أحمد صاحب «الإرشاد» (ت: 428). «طبقات الحنابلة» (3/ 335) .. (2) انظر: «دفع شبه التشبيه» (9) , و «الكامل» لابن الأثير (8/ 209). (3) كذا بالأصل, وكتب الشيخ ابن مانع على طرة نسخته: «لعله: في مسائل دقيقة». وهو كما قال لولا أن هذا التعبير وقع كذلك في موضع آخر «مجموع الفتاوى» (6/ 56). وانظر: «منهاج السنة» (5/ 277). والمراد واضحٌ على الحالين.

(الكتاب/235)


بأسَهم بينهم مُنِعَ ذلك (1)، فلا بدَّ في الطوائف المنتسبة إلى السُّنة والجماعة من نوع تنازع، لكن لا بدَّ فيهم من طائفةٍ تعتصمُ بالسُّنة، كما أنه لا بدَّ أن يكون بين المسلمين تنازعٌ واختلاف، لكنه لا يزالُ في هذه الأمَّة طائفةٌ قائمةٌ بالحقِّ لا يضرُّها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم السَّاعة. ولهذا لما كان أبو الحسن الأشعري وأصحابُه منتسبين إلى السُّنة والجماعة كان مُنتَحِلًا للإمام أحمد ذاكرًا أنه مقتدٍ به متبعٌ سبيلَه (2) , وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثيرٍ من أصحاب الإمام أحمد ما هو معروف، حتى إن أبا بكر عبد العزيز (3) يذكرُ مِن حُجَج أبي الحسن في كلامه مثل ما يذكرُ من حُجَج أصحابه؛ لأنه كان عنده من متكلِّمة أصحابه (4). وكان من أعظم المائلين إليهم التميميُّون؛ أبو الحسن التميمي، وابنه، وابن ابنه، ونحوهم، وكان بين أبي الحسن التميميِّ وبين القاضي أبي بكر بن الباقلاني من المودَّة والصُّحبة ما هو معروفٌ مشهور (5). ولهذا اعتمد الحافظُ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنَّفه في مناقب _________ (1) أخرجه مسلم (2890). (2) في كتابه «الإبانة عن أصول الديانة» (20). (3) عبد العزيز بن جعفر, غلام الخلال (ت: 363). «طبقات الحنابلة» (3/ 213). (4) انظر: «مجموع الفتاوى» (3/ 228, 6/ 53, 8/ 296) , و «درء التعارض» (2/ 16). (5) انظر: «درء التعارض» (2/ 17, 100). والمشهور أن الودَّ كان بين ابنه أبي الفضل والباقلاني. انظر: «تبيين كذب المفتري» (221) , و «تاريخ الإسلام» (9/ 153).

(الكتاب/236)


الإمام أحمد لمَّا ذكَر اعتقادَه اعتمد على ما نقله من كلام أبي الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي (1) , وله في هذا الباب مصنفٌ ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فَهِمَه، ولم يذكُر فيه ألفاظَه، وإنما ذكَر جُمَل الاعتقاد بلفظِ نفسِه، وجعَل يقول: «وكان أبوعبد الله» (2) , وهو بمنزلة من يصنِّفُ كتابًا في الفقه على رأي بعض الأئمَّة ويذكُر مذهبَه بحسب ما فَهِمَه ورآه، وإن كان غيرُه أعلمَ بمذهب ذلك الإمام منه, أعلمَ بألفاظه وأفهمَ لمقاصده. فإن الناس في نقل مذاهب الأئمة قد يكونون بمنزلتهم في نقل الشريعة, ومن المعلوم أن أحدهم يقول: حكمُ الله كذا، أو حكمُ الشريعة كذا, بحسب ما اعتقَده عن صاحب الشريعة، بحسب ما بلغه وفَهِمَه، وإن كان غيرُه أعلمَ بأقوال صاحب الشريعة وأعماله وأفهمَ لمراده. فهذا أيضًا من الأمور التي يكثُر وجودُها في بني آدم؛ ولهذا قد تختلفُ الروايةُ في النقل عن الأئمَّة، كما يختلفُ بعض الحديث في النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - معصوم، فلا يجوزُ أن يصدُر عنه خبران متناقضان في الحقيقة ولا أمران متناقضان في الحقيقة إلا وأحدُهما ناسخٌ والآخر منسوخ، وأما غيرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس بمعصوم، فيجوزُ أن يكون قد قال خبرين متناقضين وأمرين متناقضين ولم يشعُر بالتناقض. لكن إذا كان في المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحتاجُ إلى تمييزٍ ومعرفة, وقد تختلفُ الرواياتُ حتى يكون بعضُها أرجحَ من بعض, والناقلون لشريعته _________ (1) انظر: «مجموع الفتاوى» (12/ 367) , و «درء التعارض» (2/ 17, 100). (2) وهو مطبوع طبعات متقاربة عن نسخة الظاهرية.

(الكتاب/237)


بالاستدلال (1) بينهم اختلافٌ كثير= لم يُسْتَنكر وقوعُ نحوٍ من هذا في غيره، بل هو أولى بذلك؛ لأن الله قد ضَمِنَ حِفْظَ الذِّكر الذي أنزله على رسوله، ولم يَضْمَن حِفْظَ ما يُؤْثَر عن غيره؛ لأن ما بعثَ الله به رسولَه من الكتاب والحكمة هُدى الله الذي جاء من عند الله، وبه يُعْرَفُ سبيلُه, وهو حجَّتُه على عباده، فلو وقع فيه ضلالٌ لم يبيَّن لسقطت حجَّةُ الله في ذلك، وذهب هُداه، وعُمِّيَت سبيلُه؛ إذ ليس بعد هذا النبيِّ نبيٌّ آخر يُنْتَظَر ليبيِّن للناس ما اختلفوا فيه، بل هذا الرسولُ آخرُ الرُّسل، وأمَّتُه خيرُ الأمم؛ ولهذا لا يزالُ فيها طائفةٌ قائمةٌ على الحقِّ بإذن الله، لا يضرُّها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم السَّاعة. الوجه الثاني: أن أبا الفرج نفسَه متناقضٌ في هذا الباب، لم يَثْبُت على قَدَم النفي ولا على قدم الإثبات (2)، بل له من الكلام في الإثبات نظمًا ونثرًا ما أثبت به كثيرًا من الصِّفات التي أنكَرها في هذا المصنَّف, فهو في هذا _________ (1) كما تقدم قبل قليل في من يقول: حكم الشريعة كذا, بحسب ما اعتقَده عن صاحب الشريعة وما بلغه وفَهِمَه. وعلَّق الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في (ط) على كلمة «بالاستدلال» بقوله: كذا, والصواب «بالإسناد». فتعقبه الشيخ سليمان الصنيع وقال: «عندي في هذا الصواب نظر, فإن معنى كلام المصنف أن الأئمة الناقلين للشريعة بما فهموا منها فيهم اختلاف كثير, فمن باب أولى أن يغلط الناقلون عن الأئمة في معنى ما فهموا من كلامهم ... ». (2) قال الذهبي رادًّا على ابن الجوزي طعنه في أبي سعد السمعاني: «بل والله عقيدته في السنَّة أحسن من عقيدتك، فإنك يومًا أشعري ويومًا حنبلي، وتصانيفك تنبئ بذلك، فما رأينا الحنابلة راضين بعقيدتك ولا الشافعية». «تاريخ الإسلام» (11/ 993). وانظر: «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (2/ 466, 487, 3/ 446 - 453).

(الكتاب/238)


الباب مثلُ كثيرٍ من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس, يُثْبِتُون تارةً وينفون أخرى ــ في مواضع ــ كثيرًا من الصِّفات، كما هو حالُ أبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي (1). الوجه الثالث: أن باب الإثبات ليس مختصًّا بالحنبليَّة، ولا فيهم من الغلوِّ ما ليس في غيرهم، بل من استقرى مذاهبَ الناس وجد في كلِّ طائفةٍ من الغُلاة في النفي والإثبات ما لا يوجدُ مثله في الحنبليَّة، ووجد مَن مال منهم إلى نفيٍ باطلٍ أو إثباتٍ باطلٍ فإنه لا يسرفُ إسرافَ غيرهم من المائلين إلى النفي والإثبات، بل تجدُ في الطوائف من زيادة النفي الباطل والإثبات الباطل ما لا يوجدُ مثله في الحنبليَّة, وإنما الاعتداء في النفي والإثبات فيهم مما دبَّ إليهم من غيرهم الذين اعتدوا حدود الله بزيادة النفي والإثبات؛ إذ أصل السُّنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال دون البغي والاعتداء, وكان علمُ الإمام أحمد واتِّباعه لها (2) من الكمال والتمام على الوجه المشهور بين الخاصِّ والعام ممن له بالسُّنة وأهلها نوعُ إلمام (3). وأما أهل الجهل والضلال الذين لا يعرفون ما بعثَ الله به الرسول, ولا يميِّزون بين صحيح المنقول وصريح المعقول وبين الروايات المكذوبة والآراء المضطربة، فأولئك جاهلون قدرَ الرسول والسَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار الذين نطق بفضلهم القرآن، فهم بمقادير الأئمَّة _________ (1) انظر: «درء التعارض» (2/ 16، 7/ 33, 263، 8/ 60, 9/ 160، 10/ 258). (2) للسُّنة. وفي الأصل: «له» , وهو محتمل, والمثبت أشبه. ويمكن أن تقرأ: وأتباعه بها. (3) انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 544 - 555).

(الكتاب/239)


المخالفين لهؤلاء أولى أن يكونوا جاهلين؛ إذ كانوا أشبه بمن شاقَّ الرسول واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين من أهل العلم والإيمان. وهم في هذه الأحوال إلى الكفر أقربُ منهم للإيمان. تجدُ أحدَهم يتكلَّم في أصول الدين أو فروعه بكلام من كأنه لم ينشأ في دار الإسلام، ولا سَمِع ما عليه أهلُ العلم والإيمان، ولا عَرف حالَ سلف هذه الأمة وما أوتوه من كمال العلوم النافعة والأعمال الصَّالحة، ولا عَرف مما بعث الله به نبيَّه ما يدلُّه على الفرق بين الهدى والضلال والغيِّ والرشاد. وتجدُ وقيعةَ هؤلاء في أئمَّة السُّنة وهُداة الأمَّة من جنس وقيعة الرافضة ومن معهم من المنافقين في أبي بكرٍ وعمرَ وأعيان المهاجرين والأنصار، ووقيعة اليهود والنصارى ومن اتبعهم من منافقي هذه الأمة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقيعة الصَّابئة والمشركين من الفلاسفة وغيرهم في الأنبياء والمرسلين، وقد ذكر الله في كتابه مِن كلام الكفَّار والمنافقين في الأنبياء والمرسلين وأهل العلم والإيمان ما فيه عبرةٌ للمعتبِر, وبيِّنةٌ للمستبصِر، وموعظةٌ للمُتَهوِّك المتحيِّر. وتجدُ عامَّة أهل الكلام ومَن أعرض عن جادَّة السَّلف إلا من عصَم الله يعظِّمون أئمَّة الاتحاد، بعد تصريحهم في كتبهم بعبارات الاتحاد، ويتكلَّفون لها محامِلَ غير ما قصدوه (1)، ولهم في قلوبهم من الإجلال والتعظيم والشَّهادة بالإمامة والولاية لهم وأنهم أهلُ الحقائق ما اللهُ به عليم. _________ (1) كما تقدم في تائية ابن الفارض «نظم السلوك» (ص: 108).

(الكتاب/240)


هذا ابن عربي يصرِّح في فصوصه أن الولاية أعظمُ من النبوَّة، بل أكمل من الرسالة (1)، ومن كلامه: مقامُ النبوَّة في برزخٍ ... فُوَيْقَ الرسول ودونَ الولي (2) وبعض أصحابه يتأوَّل ذلك بأن ولاية النبيِّ أفضلُ من نبوَّته، وكذلك ولاية الرسول أفضلُ من رسالته، أو يجعلون ولايتَه حالَه مع الله، ورسالتَه حالَه مع الخلق. وهذا من بليغ الجهل؛ فإن الرسول إذا خاطب الخلقَ وبلَّغهم الرسالة لم يفارِق الولاية، بل هو وليُّ الله في تلك الحال كما هو وليُّ الله في سائر أحواله، فإنه وليٌّ لله ليس عدوًّا له في شيءٍ من أحواله، وليس حالُه في تبليغ الرسالة دون حاله إذا صلَّى ودعا الله وناجاه. وأيضًا، فما يقول هذا المتكلِّف (3) في قول هذا المعظَّم (4): إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَبِنَةٌ من فضة، وهو لَبِنَتان من ذهبٍ وفضة، ويزعمُ أن لَبِنَة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - هي العلمُ الظاهر، ولَبِنَتاه: الذهبُ علمُ الباطن والفضةُ علمُ الظاهر، وأنه يتلقَّى ذلك بلا واسطة, ويصرِّح في فصوصه أن رتبةَ الولاية أعظمُ من رتبة النبوَّة؛ لأن الوليَّ يأخذُ بلا واسطةٍ والنبيَّ بواسطة، فالفضيلةُ التي امتاز بها على النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ عنده مما شاركه فيه. _________ (1) «فصوص الحكم» (62, 134 - 136). (2) بمعناه في «لطائف الأسرار» (49) , وآخر في «الفتوحات المكية» (2/ 252). انظر: «منهاج السنة» (5/ 336). (3) المتكلِّف في التماس المحامل والأعذار لأئمة الاتحاد, المعظِّم لهم. (4) «فصوص الحكم» (63).

(الكتاب/241)


وبالجملة، فهو لم يتَّبع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في شيء، فإنه أخذ بزعمه عن الله ما هو مُتَابِعُه فيه في الظاهر، كما يوافقُ المجتهدُ المجتهدَ والرسولُ الرسولَ، فليس عنده من اتباع الرسول والتلقِّي عنه شيءٌ أصلًا، لا في الحقائق الخبرية ولا في الحقائق الشرعية. وأيضًا، فإنه لم يرضَ أن يكون معه كموسى مع عيسى وكالعالِم مع العالِم في الشَّرع الذي وافقَه فيه، بل ادعى أنه يأخذُ ما أقرَّه عليه من الشَّرع من الله في الباطن، فيكون أخذُه للشَّرع عن الله أعظمَ مِن أخذِ الرسول. وأما ما ادعى امتيازَه به عنه, وافتقارَ الرسول إليه, وهو موضعُ اللَّبِنَة الذهبية, فزعَم أنه يأخذُ عن المَعْدِن الذي يأخذُ منه المَلَكُ الذي يوحي به إلى الرسول. فهذا كما ترى في حال هذا الرجل، وتعظيم بعض المتأخرين له (1). وصرَّح الغزالي بأن قتل من ادعى أن رتبة الولاية أعلى من رتبة النبوَّة أحبُّ إليه من قتل مئة كافر؛ لأن ضرر هذا في الدين أعظم (2). _________ (1). قال المصنف في «بغية المرتاد» (488, 508 - 512): «وقد قال لي أفضل شيوخ هؤلاء بالديار المصرية لما أوقفته على بعض ما في هذا الكتاب مثل هذا الموضع وغيره, فقال: هذا كفر. وقال لي في مجلس آخر: هذا الكتابُ عندنا من أربعين سنة نعظِّمه ونعظِّم صاحبه ما أظهر لنا هذه المصائب إلا أنت» , وذكر أنه حين أظهر ما في كتب هؤلاء من النفاق والإلحاد خاطبه أحد معظِّمي ابن عربي وجعل يتأوَّل كلامه في هذا الباب, فأخذ يوقفه على كلامه بتمامه, فلما رآه «انبهر حيث رآه قد صرَّح بالتفضيل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع الأنبياء» , ثم بيَّن له بطلان هذا القول. (2). «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة» (65).

(الكتاب/242)


ولا نطيلُ الكلام في هذا المقام؛ لأنه ليس المقصود هنا (1). وأيضًا، فأسماء الله وأسماء صفاته عندهم (2) شرعيةٌ سمعيةٌ لا تطلقُ بمجرَّد الرأي، فهم في الامتناع (3) من هذه الأسماء (4) أحقُّ بالعذر ممَّن امتنع من تسمية صفاته أعراضًا, وذلك أن الصِّفات التي لنا منها ما هو عَرَضٌ كالعِلم والقدرة، ومنها ما هو جسمٌ وجوهرٌ قائمٌ بنفسه كالوجه واليد، وتسميةُ هذه جوارحَ وأعضاءً أخصُّ من تسميتها أجسامًا؛ لما في ذلك من معنى الاكتساب والانتفاع والتصرُّف وجواز التفريق والبعضيَّة. الوجه الرابع: أن هذا السؤال لا يختصُّ بهؤلاء، بل إثباتُ جنس هذه الصِّفات قد اتفق عليه سلفُ الأمَّة وأئمَّتها من أهل الفقه والحديث والتصوُّف والمعرفة, وأئمَّة أهل الكلام من الكُلَّابية والكَرَّامية والأشعرية، كلُّ هؤلاء يثبتون لله صفةَ الوجه واليد ونحو ذلك. وقد ذكر الأشعريُّ في كتاب «المقالات» (5) أن هذا مذهبُ أهل الحديث، وقال: إنه به يقول. فقال في جملة مقالة أهل السُّنة وأصحاب _________ (1). انظر: «شرح الأصبهانية» (576) , و «الرد على الشاذلي» (132) , و «منهاج السنة» (5/ 335, 8/ 22) , و «الصفدية» (2/ 252) , و «النبوات» (713) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 221, 12/ 399). (2). أي عند الحنابلة. (3). الأصل و (ط): «الاتباع». والمثبت من (ف) (4/ 173). وهو الصواب. (4). وذلك في قولهم: «وليست بجوارح». (5). «مقالات الإسلاميين» (1/ 345).

(الكتاب/243)


الحديث: جملةُ ما عليه (1) أهلُ السُّنة وأصحابُ الحديث: الإقرارُ بكذا وكذا، وأن الله على عرشه استوى، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وأن له وجهًا، كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]. وقد قدَّمنا فيما تقدَّم أن جميع أئمَّة الطوائف هم من أهل الإثبات (2)، وما مِن شيءٍ ذكره أبو الفرج وغيرُه مما هو موجودٌ في الحنبلية ــ سواءٌ كان الصوابُ فيه مع المثبت, أو مع النافي، أو كان فيه تفصيل ــ إلا وذلك موجودٌ فيما شاء الله من أهل الحديث والصُّوفية والمالكية والشافعية والحنفية ونحوهم، بل هو موجودٌ في الطوائف التي لا تنتحِلُ السُّنةَ والجماعةَ والحديثَ ولا مذهبَ السَّلف، مثل الشيعة وغيرهم، ففيهم في طرفي الإثبات والنفي ما لا يوجدُ في هذه الطوائف. وكذلك في أهل الكتابَيْن ــ أهل التوراة والإنجيل ــ توجدُ هذه المذاهب المتقابلة في النفي والإثبات، وكذلك الصَّابئة من الفلاسفة وغيرهم لهم تقابلٌ (3) في النفي والإثبات، حتى إن منهم من يُثْبِتُ ما لا يُثْبِتُه كثيرٌ من متكلِّمة الصِّفاتية، ولكن جنسَ الإثبات على المتَّبعين للرُّسل أغلب من الذين _________ (1). الأصل: «جملة مقالة». من سهو الناسخ وانتقال نظره. والمثبت من «المقالات». وعلى الصواب في «منهاج السنة» (3/ 464). (2). (ص: 239). (3). الأصل و (ط): «مقابل». والمثبت من (ف).

(الكتاب/244)


آمنوا واليهود والنصارى والصابئة المهتدين, وجنسَ النفي على غير المتَّبعين للرُّسل أغلب من المشركين والصَّابئة المبتدعة. وقد ذكرنا في غير هذا الجواب مذهبَ سلف الأمَّة وأئمَّتها بألفاظها وألفاظ مَن نقل ذلك من جميع الطوائف (1)، بحيثُ لا يبقى لأحدٍ من الطوائف اختصاصٌ بالإثبات. ومن ذلك ما ذكره شيخُ الحرمين أبو الحسن [محمد بن] عبد الملك الكَرَجِي (2)، في كتابه الذي سمَّاه «الفصول في الأصول عن الأئمَّة الفحول إلزامًا لذوي البدع والفُضول» (3)، وكان من أئمَّة الشَّافعية، ذكَر فيه مِن كلام _________ (1). في «الفتوى الحموية» , كما تقدم (ص: 215). (2). إمامٌ ورعٌ عاقلٌ فقيهٌ مفتٍ محدِّثٌ أديب (ت: 532) , إلا أني لم أر من ذكر أنه جاور بمكة والمدينة كما يفهم من لقب «شيخ الحرمين» , ولم أر المصنف ذكر ذلك في باقي تصانيفه. انظر: «الأنساب» (10/ 381) , و «المنتظم» (10/ 75) , و «طبقات الشافعية» لابن الصلاح (1/ 215) , و «تاريخ الإسلام» (11/ 578). وله قصيدةٌ بائية في السنة واعتقاد السلف قرأها عليه السمعاني, وغصَّ بها التاج السبكي فزعم في «طبقات الشافعية» (6/ 141) أنها موضوعة, وتسمى «عروس القصائد وشموس العقائد» , منها نسخة بخط ابن الصلاح كما في «مجموع الفتاوى» (3/ 265) , وكتب عليها بخطه: «هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث» كما في «العلو» للذهبي (236) , ويرويها ابن حجر بالإجازة كما في «تجريد أسانيد الكتب المشهورة» (409). (3). ذكره ابن كثير في «البداية والنهاية» (16/ 317) و «طبقات الشافعية» (2/ 572) , ونقل عنه المصنف في «جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» (169) , و «مجموع الفتاوى» (4/ 181, 12/ 160, 306) والمصادر التالية, ولم أر من نقل عنه غيره, وهو من دلائل سعة اطلاعه, حتى إن الدمياطي وتقي الدين السبكي وهما شافعيان لم يعرفا ترجمة أبي الحسن الكرجي ولا زمانه, كما في رسالة «معنى قول الإمام المطلبي» للسبكي (95).

(الكتاب/245)


الشَّافعي، ومالك، والثَّوري، وأحمد بن حنبل، والبخاري صاحب «الصَّحيح» , وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه, [وأبي زرعة, وأبي حاتم] (1) , في أصول السُّنة ما يُعْرَفُ به اعتقادُهم, وذكَر في تراجمهم ما فيه تنبيهٌ على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام. وذكَر أنه اقتصَر في النقل عنهم دون غيرهم؛ لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوعُ شرقًا وغربًا إلى مذاهبهم؛ ولأنهم أجمعُ لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم، وأكثرُ لتحصيل أسبابها وأدواتها، مِن جودة الحفظ والبصيرة والفطنة, والمعرفة بالكتاب والسُّنة والإجماع, والسند والرجال، والأحوال، ولغات العرب، ومواضعها، والتاريخ، والناسخ والمنسوخ، والمنقول والمعقول، والصَّحيح والمدخول, مع (2) الصِّدق والصَّلابة, وظهور الأمانة والديانة= ممَّن سواهم. قال: وإن قصَّر واحدٌ منهم في سببٍ منها جَبَر تقصيرَه قربُ عصره من _________ (1). ساقط من الأصل, واستدركته من «درء التعارض» (2/ 95) , و «التسعينية» (879) , و «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 400) , و «شرح الأصبهانية» (241) , وسيأتي ما يدل عليه (ص: 249). (2). الأصل: «فى». والمثبت أشبه بالصواب.

(الكتاب/246)


الصَّحابة والتابعين لهم بإحسان، باينوا هؤلاء (1) بهذا المعنى مَن سواهم، فإن غيرَهم من الأئمَّة وإن كانوا في منصب الإمامة لكنْ أخلُّوا ببعض ما أشرتُ إليه مجملًا من شرائطها؛ إذ ليس هذا موضعًا لبيانها. قال: ووجهٌ ثالثٌ لا بدَّ مِن أن نبيِّن فيه، فنقول: إن في النقل عن هؤلاء إلزامًا للحجَّة على كلِّ من ينتحِلُ مذهبَ إمامٍ يخالفُه في العقيدة، فإن أحدهما لا محالة يضلِّلُ صاحبَه أو يبدِّعُه أو يكفِّرُه، فانتحالُ مذهبه مع مخالفته في العقيدة مستنكرٌ والله شرعًا وطبعًا. فمن قال: أنا شافعيُّ الشَّرع أشعريُّ الاعتقاد، قلنا له: هذا من الأضداد، لا بل من الارتداد؛ إذ لم يكن الشافعيُّ أشعريَّ الاعتقاد. ومن قال: أنا حنبليٌّ في الفروع، معتزليٌّ في الأصول، قلنا: قد ضللتَ إذًا عن سواء السَّبيل فيما تزعمُه؛ إذ لم يكن أحمدُ معتزليَّ الدين والاجتهاد. قال: وقد افتتن أيضًا خلقٌ من المالكية بمذاهب الأشعرية (2)، وهذه والله شينةٌ (3) وعار، وفلتةٌ تعودُ بالوبال والنكال وسوء الدَّار, على منتحِل مذاهب هؤلاء الأئمَّة الكبار، فإن مذهبَهم ما رويناه مِن تكفيرهم الجهمية والمعتزلة والقدرية والواقِفية وتكفيرهم اللفظية. _________ (1). كذا بالأصل, فإن لم يكن ثم تحريف أو سقط فعلى لغة «يتعاقبون فيكم ملائكة». (2). انظر لبداية دخول المذهب الأشعري إلى المالكية في بلاد المغرب: «ذم الكلام» لأبي إسماعيل الأنصاري (4/ 412)، و «درء التعارض» (1/ 271, 2/ 101) , و «التسعينية» (203) , و «ترتيب المدارك» (7/ 46) , و «السير» (17/ 558). (3). كذا في الأصل, والحرف الثاني مهمل, أي قبيحة, وفي (ط): «سُبَّة».

(الكتاب/247)


وبسَط الكلامَ في مسألة اللفظ إلى أن قال: فأما غيرُ من ذكرناه من الأئمة فلم ينتحِل أحدٌ مذهبَهم, فلذلك لم نتعرَّض للنقل عنهم. قال: فإن قيل: فهلا اقتصرتم إذًا على النقل عمَّن شاع مذهبُه وانتُحِلَ اختيارُه من أصحاب الحديث، وهم الأئمة: الشافعي ومالك والثوري وأحمد، إذ لا نرى أحدًا ينتحِلُ مذهبَ الأوزاعيِّ والليث وسائرِهم؟ قلنا: لأن مَن ذكرناه من الأئمَّة سوى هؤلاء أربابُ المذاهب في الجملة، إذ كانوا قدوةً في عصرهم، ثم اندرجت مذاهبُهم بالآخِرة (1) تحت مذاهب الأئمَّة المعتبرة. وذلك أن ابن عيينة كان قُدوة، ولكن لم يصنِّف في الذي كان يختارُه من الأحكام، وإنما صنَّف أصحابُه، وهم الشافعيُّ وأحمد وإسحاق، فاندرَج مذهبُه تحت مذاهبهما (2). وأما الليث بن سعد، فلم يَقُم أصحابه بمذهبه، قال الشافعي: «لم يُرْزَق الأصحابَ» (3) , إلا أن قوله يوافقُ قولَ مالكٍ أو قولَ الثوريِّ لا يخطئهما، _________ (1). في الأزمنة المتأخرة بعد انقضاء عصرهم. (2). كذا في الأصل, يعني الشافعي وأحمد, لأن إسحاق ممن اندرج مذهبه تحت مذهب أحمد كما سيأتي. (3). قال الشافعي: «الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به» , أخرجه البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 524). وفي رواية: «ضيَّعه أصحابه» , أخرجها أبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (1/ 406). وانظر: «المرحمة الغيثية بالترجمة الليثية» لابن حجر (2/ 243, 247 - الرسائل المنيرية).

(الكتاب/248)


فاندرج مذهبُه تحت مذهبهما. وأما الأوزاعي، فلا نرى له في أعمِّ المسائل قولًا إلا ويوافقُ قولَ مالكٍ أو قولَ الثوريِّ أو قولَ الشافعي, فاندرج اختيارُه أيضًا تحت اختيار هؤلاء. وكذلك اختيارُ إسحاق يندرجُ تحت مذهب أحمد؛ لتوافقهما. قال: فإن قيل: فمن أين وقعتَ على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلاء تحت مذاهب الأئمة؟ قلت: من «التعليقة» للشيخ أبي حامد الإسفراييني (1)، التي هي ديوانُ الشرائع، وأم البدائع, في بيان الأحكام، ومذاهب العلماء الأعلام، وأصول الحُجَج العظام، في المختلف والمؤتلف (2). قال: وأما اختيار أبي زرعة وأبي حاتم في الصَّلاة والأحكام ــ مما قرأته وسمعتُه من مجموعَيهما ــ فهو موافقٌ لقول أحمد ومندرجٌ تحته, وذلك مشهور. وأما البخاريُّ فلم أر له اختيارًا، ولكن سمعتُ محمد بن طاهر _________ (1). أحمد بن أبي طاهر, من أئمة الشافعية الكبار (ت: 406) , وتعليقته شرحٌ لمختصر المزني, قال الكرجي فيما نقله المصنف في «التسعينية» (886): «ولا شك أنه كان أعرف الأصحاب بمناصيص الشافعي, وأعظمهم بركةً في مذهبه, وهو أول من كثَّر شرح المزني, وشحنه بالمختلف والمؤتلف, ونصر فيه مذاهب العلماء, وجعله مساغًا لاجتهاد الفقهاء». وذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 210) أن تعليقته في نحو خمسين مجلدًا وأثنى عليها وبيَّن موضعها من كتب الشافعية. (2). لعله يريد مسائل الخلاف والإجماع, أو الجمع والفَرْق.

(الكتاب/249)


الحافظ (1) يقول: استنبط البخاريُّ في الاختيارات مسائلَ موافِقةً لمذهب أحمد وإسحاق. فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سمَّيناهم دون غيرهم؛ إذ هم أربابُ المذاهب في الجملة، ولهم أهليةُ الاقتداء بهم؛ لحيازتهم شرائط الإمامة، وليس مَن سواهم في درجتهم، وإن كانوا أئمَّةً كُبَراء قد ساروا بسَيْرهم. ثم ذكَر بعد ذلك الفصل الثاني عشر: في ذكر خلاصةٍ تحوي مَناصِيصَ الأئمَّة, بعد أن أفرد لكلٍّ منهم فصلًا, قال: لما تتبَّعتُ أصول ما صحَّ لي روايتُه، فعثرتُ فيها بما قد ذكرتُ من عقائد الأئمة، فرتَّبتُها عند ذلك على ترتيب الفصول التي أثبتُّها، وافتتحتُ كلَّ فصلٍ بنُتَفٍ (2) من المحامد، تكونُ لإمامتهم إحدى الشواهد، داعيةً إلى اتباعهم ووجوب وِفَاقهم، وتحريم خلافهم وشِقَاقهم، فإن اتباع من ذكرناه من الأئمَّة في الأصول في زماننا بمنزلة اتباع الإجماع الذي يبلغُنا عن الصَّحابة والتابعين؛ إذ لا يسعُ مسلمًا خلافُه، ولا يُعْذَر فيه، فإن الحقَّ لا يخرُج عنهم؛ لأنهم الأدلَّة (3)، وأربابُ مذاهب هذه الأمة، والصُّدور السَّادة، والعلماء القادة، أولو الدِّين والدِّيانة، والصِّدق والأمانة، والعلم الوافر، والاجتهاد الظاهر؛ ولهذا المعنى اقتَدَوا _________ (1). أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي (ت: 507) , قال الكَرجي: «ما كان على وجه الأرض له نظير» , وعظَّم أمره. انظر: «السير» (19/ 363). (2). الأصل: «بنيف». تحريف. (3). الأصل: «الأدلا». والمثبت أوفق للسجع.

(الكتاب/250)


بهم في الفروع، فجعَلوهم فيها وسائل بينهم وبين الله تعالى، حتى صاروا أربابَ المذاهب, في المشارق والمغارب، فليَرْضَوا كذلك بهم, في الأصول فيما بينهم وبين ربهم, وبما نصُّوا عليه, ودعوا إليه. قال: فإنا نعلمُ قطعًا أنهم أعرفُ قطعًا بما يصحُّ من معتقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده؛ لجودة معارفهم, وحيازتهم شرائطَ الإمامة، ولقُرب عصرهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كما بينَّاه في أول الكتاب. قال: ثم أردتُ ــ ووافق مرادي سؤالَ بعض الإخوان ــ أن أذكر خلاصةَ مَناصِيصهم, مضمَّنةً بعض ألفاظهم، فإنها أقربُ إلى الحفظ، وهي اللُّباب لما ينطوي عليه الكتاب، فاستعنتُ بمن عليه التُّكلان، وقلت: إن الذي آثرناه (1) من مَناصِيصهم يجمعُه فصلان: أحدهما: في بيان السُّنة وفضلها. والثاني: في هِجران البدعة وأهلها. أما الفصل الأول: فاعلم أن السُّنة طريقةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتسنُّنُ بسلوكها وإصابتها. وهي أقسامٌ ثلاثة: أقوالٌ، وأعمالٌ، وعقائد. فالأقوال: نحو الأذكار والتسبيحات المأثورة. والأفعال: مثل سُنن الصَّلاة والصِّيام والصَّدقات المذكورة، ونحو السِّيَر المَرْضِيَّة والآداب المَحْكِيَّة. فهذان القسمان في عِدَاد التأكيد والاستحباب، واكتساب الأجر والثواب. والقسمُ الثالث: سنَّة العقائد، وهي من الإيمان إحدى القواعد. _________ (1). أي اخترناه, مِن الإيثار. ويحتمل أن تكون: أثرناه, أي نقلناه, مِن أثَر يأثر أثارة.

(الكتاب/251)


قال: وها أنا أذكرُ بعون الله خلاصةَ ما نقلتُه عنهم مفرَّقًا، وأضيفُ إليه ما دُوِّنَ في كتب الأصول مما لم يبلغني عنهم مطلقًا، وأرتِّبُها مرشَّحة، وببعض مَناصِيصهم موشَّحة، بأوجز لفظٍ على قدر وُسْعي، ليسهُل حفظُه على من يريد أن يَعِي، فأقول: ليَعْلَم المُتَسَنِّن (1) أن سنَّة العقائد على ثلاثة أضرُب: ضربٍ يتعلَّقُ بأسماء الله وذاته وصفاته، وضربٍ يتعلَّقُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ومعجزاته، وضربٍ يتعلَّقُ بأهل الإسلام في أُولاهم وأُخراهم. أما الضربُ الأول, فلنعتقد أن لله أسماءً وصفاتٍ قديمةً غير مخلوقة، جاء بها كتابه، وأخبر بها الرسولُ أصحابه، فيما رواه الثقات، وصحَّحه النقادُ الأثبات, ودلَّ القرآن المبين، والحديثُ الصحيحُ المتين, على ثبوتها. قال رحمه الله تعالى: وهي أن الله تعالى أوَّلٌ لم يَزَل، وآخِرٌ لا يزال، أحدٌ قديم, وصمدٌ كريم، عليمٌ حليم, عليٌّ عظيم، رفيعٌ مجيد, وله بطشٌ شديد، وهو يبدئ ويعيد، فعَّالٌ لما يريد، قويٌّ قدير، منيعٌ نصير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، إلى سائر أسمائه وصفاته, من النفس والوجه والعين، والقَدَم واليدين، والعلم والنظر، والسَّمع والبصر، والإرادة والمشيئة، والرضى والغضب، والمحبَّة والضَّحك، والعَجَب والاستحياء والغَيْرة، والكراهة والسَّخط، والقبض والبسط، والقُرب والدُّنوّ، والفوقيَّة والعُلوّ، والكلام والسَّلام، والقول والنداء، والتجلِّي واللقاء، والنزول والصُّعود والاستواء, وأنه تعالى في السماء، وأنه على عرشه, بائنٌ من خلقه. _________ (1). الأصل: «المستنين». وفي (ط): «المستن». والمثبت أشبه.

(الكتاب/252)


قال مالك: إن الله في السَّماء, وعلمُه في كل مكان (1). وقال عبد الله بن المبارك: نعرفُ ربنا فوق سبع سمواته على العرش بائنًا من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض (2). وقال سفيان الثوري: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] قال: علمُه (3). قال الشافعي: إنه على عرشه في سمائه يقربُ من خلقه كيف شاء (4). قال أحمد: إنه مستوٍ على العرش, عالمٌ بكلِّ مكان (5). وأنه ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدُّنيا كيف شاء، وأنه يأتي يوم القيامة كيف شاء، وأنه يعلو على كرسيِّه، والإيمانُ بالعرش والكرسيِّ وما ورد فيهما من الآيات والأخبار، وأن الكَلِمَ الطيِّبَ يصعدُ إليه، وتعرُج الملائكةُ والروحُ إليه، وأنه خلقَ آدم بيديه، وخلقَ القلم وجنَّة عَدْنٍ وشجرةَ طوبى بيديه، وكتبَ التوراة بيديه، وأن كلتا يديه يمين. _________ (1). «السنة» لعبدالله بن الإمام أحمد (1/ 106, 173, 280). (2). «خلق أفعال العباد» (20) , و «الإبانة» لابن بطه (7/ 155). (3). «الشريعة» للآجري (654) , و «أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (672). (4). «إثبات صفة العلو» لابن قدامة (92). (5). رويت هذه العبارة عن بشر بن الحارث الحافي في عقيدته. انظر: «العرش» للذهبي (216) , و «العلو» (127) , و «الأربعين» (16).

(الكتاب/253)


وقال ابن عمر: خلق الله بيديه أربعة أشياء: آدم، والعرش، والقلم، وجنَّة عَدْن، وقال لسائر الخلق: كُن, فكان (1). وأنه يتكلَّمُ بالوحي كيف يشاء. قالت عائشة - رضي الله عنها -: لَشَأني في نفسي كان أحقرَ من أن يتكلَّم الله فيَّ بوحيٍ يُتلى (2). وأن القرآن كلامُ الله بجميع جهاته, منزَّلٌ غير مخلوق، ولا حرفٌ منه مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. قال عبد الله بن المبارك: من كفَر بحرفٍ من القرآن فقد كفَر، ومن قال: لا أؤمن بهذه اللَّام فقد كفَر (3). وأن الكتبَ المنزَّلة على الرُّسل مئةٌ وأربعةُ كتبٍ كلامُ الله غير مخلوق. قال أحمد: وما في اللوح المحفوظ, وما في المصاحف وتلاوة الناس, وكيفما يُقرأ, وكيفما يُوصف، فهو كلامُ الله غير مخلوق (4). قال البخاري: وأقول: في المصحف قرآنٌ، وفي صدور الرجال قرآنٌ، فمن قال غير هذا يُستتاب، فإن تاب وإلا فسبيلُه سبيلُ الكفر (5). _________ (1). أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي (1/ 261) , واللالكائي في «أصول اعتقاد أهل السنة» (730) , وغيرهما بإسناد صحيح. (2). أخرجه البخاري (2661) , ومسلم (2770) في حديث الإفك الطويل. (3). «اعتقاد السلف وأصحاب الحديث» للصابوني (175). (4). لم أجده عن أحمد بهذا اللفظ. (5). «أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (610).

(الكتاب/254)


قال: وذكَر الشافعيُّ المعتقَد بالدلائل (1)، فقال: لله تعالى أسماءٌ وصفاتٌ جاء بها كتابُه، وأخبر بها نبيُّه أمتَه، لا يسعُ أحدًا مِن خلق الله قامت عليه الحجَّةُ ردُّها. إلى أن قال: نحو إخبار الله سبحانه إيَّانا أنه سميعٌ بصير، وأن له يدين بقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وأن له يمينًا بقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وأن له وجهًا بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وأن له قَدمًا لقوله [- صلى الله عليه وسلم -]: «حتى يضع الربُّ فيها قدمَه» (2) يعني: جهنَّم, وأنه يضحكُ من عبده المؤمن لقوله [- صلى الله عليه وسلم -] للذي قُتِل في سبيل الله: «إنه لقي الله وهو يضحكُ إليه» (3)، وأنه يهبطُ كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا لخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك (4)، وأنه ليس بأعور لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ذكَر الدَّجَّال فقال: «إنه _________ (1). رواه أبو الحسن الهكاري في «اعتقاد الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي» (7) , ومن طريقه ابن قدامة في «إثبات صفة العلو» (109). قال الذهبي في «العرش» (203): «رواه شيخ الإسلام [أبو الحسن الهكاري] في عقيدة الشافعي وغيره بإسنادٍ كلُّهم ثقات». والهكاريُّ على فضله وصلاحه متهمٌ بالوضع وتركيب الأسانيد. انظر: «لسان الميزان» (5/ 483). (2). أخرجه البخاري (6661) , ومسلم (2846). (3). أخرجه البخاري (2826) , ومسلم (1890). (4). أخرجه أحمد (8974) , والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (481) , وغيرهما بإسناد صحيح, إلا أن عامة روايات الحديث جاءت بلفظ «ينزل» كما أشار لذلك ابن خزيمة في كتاب «التوحيد» (1/ 311). وروي لفظ «يهبط» من وجوه أخرى.

(الكتاب/255)


أعور، وإن ربكم ليس بأعور» (1)، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم كما يرون القمرَ ليلة البدر، وأن له إصبعًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن قلبٍ إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن» (2). قال: وسوى ما نقله الشافعيُّ أحاديثُ جاءت في الصِّحاح والمسانيد، وتلقَّتها الأمة بالقبول والتصديق، نحو ما في «الصَّحيح» من حديث الذَّات (3)، وقوله: «لا شخصَ أغْيرُ من الله» (4)، وقوله: «أتعجبون مِن غَيرة سعد؟ والله لأنا أغْيرُ من سعد، والله أغْيرُ مني» (5)، وقوله: «ليس أحدٌ أحبُّ إليه المدحُ من الله، ولذلك مَدَح نفسَه، وليس أحدٌ أغيرُ من الله، مِن أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» (6)، وقوله: «يدُ الله مَلْأى» (7)، وقوله: «بيده الأخرى الميزان يخفِضُ ويرفع» (8)، وقوله: «إن الله يقبضُ يوم القيامة الأرَضِين، وتكونُ السمواتُ بيمينه، ثم يقول: أنا الملك» (9). _________ (1). أخرجه البخاري (3337) , ومسلم (169). (2). أخرجه مسلم (2654). (3). أخرجه البخاري (3358) , ومسلم (2371) في حديث إبراهيم عليه السلام. (4). أخرجه مسلم (1499) , وعلقه البخاري (9/ 123). (5). أخرجه البخاري (6846) , ومسلم (1499). (6). أخرجه البخاري (4637) , ومسلم (2760). (7). أخرجه البخاري (7411) , ومسلم (993). (8). جزء من الحديث السابق. (9). أخرجه البخاري (4812) , ومسلم (2787).

(الكتاب/256)


ونحو قوله: «ثلاث حَثَياتٍ من حَثَيات الرَّب» (1)، وقوله: «لما خلق آدمَ مسحَ ظهرَه بيمينه» (2)، وقوله في حديث أبي رَزِين: قلت: يا رسول الله، فما يفعلُ ربُّنا بنا إذا لقيناه؟ قال: «تُعْرَضون عليه باديةً له صفحاتُكم، لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذُ ربُّك بيده غرفةً من الماء، فينضَحُ قِبَلكم، فلعَمْرُ إلاهك ما يخطئ وجهَ أحدكم منها قطرة» أخرجه أحمد في «المسند» (3) , وحديث القبضة التي يخرج بها من النار قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حُمَمًا، فيلقيهم في نهرٍ من أنهار الجنَّة يقال له: الحياة (4). ونحو الحديث: «رأيتُ ربي في أحسن صورة» (5)، ونحو قوله: «خلقَ _________ (1). أخرجه أحمد (22303) , والترمذي (2437) وقال: «حديث حسن غريب» , وابن ماجه (4286) , وصححه ابن حبان (7246). (2). أخرجه مالك (677) , وأحمد (311) , وأبو داود (4703) , والترمذي (3075) من حديث عمر - رضي الله عنه - بإسنادٍ فيه إرسالٌ وجهالة, وروي موصولًا. وفي الباب أحاديث أخرى. انظر: «العلل» للدارقطني (2/ 222) , و «التمهيد» لابن عبد البر (6/ 3) , وتفسير ابن كثير (6/ 441 - 442). (3). (16206) من زيادات عبد الله, وفي إسناده جهالة وفي بعض ألفاظه نكارة, «وتلقاه أكثر المحدثين بالقبول» كما يقول المصنف. انظر: «مجموع الفتاوى» (6/ 497) , و «زاد المعاد» (3/ 677) , و «حادي الأرواح» (530, 536). (4). أخرجه البخاري (6560) , ومسلم (184). (5). أخرجه أحمد (22109) , والترمذي (3235) وصححه هو والبخاري, وفي أسانيده اضطرابٌ واختلاف كثير, وذهب جماعةٌ من الحفاظ إلى تضعيفه. انظر تعليقي على «الوابل الصيب» (414 - 415).

(الكتاب/257)


آدمَ على صورته» (1)، وقوله: «يدنو أحدُكم مِن ربه حتى يضع كَنَفَه عليه» (2)، وقوله: «كلَّم أباك كِفاحًا» (3)، وقوله: «ما منكم مِن أحدٍ إلا سيكلِّمه ربُّه، ليس بينه وبينه تَرْجُمانٌ يترجِمُ له» (4) , وقوله: «يتجلَّى لنا ربُّنا يوم القيامة ضاحكًا» (5). وفي حديث المعراج في «الصَّحيح» (6): «ثم دنا الجبَّارُ ربُّ العِزَّة، فتدلَّى حتى كان منه قابَ قوسين أو أدنى»، وقوله: «كتَب كتابًا، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقَت غضبي» (7)، وقوله: «لا تزالُ جهنَّم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضعَ ربُّ العِزَّة فيها قدمَه» وفي رواية: «رجله» «فيُزوى بعضها إلى بعض، وتقول: قَد قَد» وفي رواية: «قَط قَط بعزَّتك» (8). ونحو قوله: «فيأتيهم الله في صورته التي يَعْرِفُون، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربنا» (9)، وقوله: «يحشرُ الله العباد، فيناديهم بصوتٍ يسمعُه _________ (1). أخرجه البخاري (6227) , ومسلم (2841). (2). أخرجه البخاري (2441) , ومسلم (2768). (3). أخرجه الترمذي (3010) , وابن ماجه (190) , وصححه ابن حبان (7022). (4). أخرجه البخاري (3593) , ومسلم (1016). (5). أخرجه أحمد (19654) بإسناد ضعيف, وروي من وجوه أخرى يحسَّن بها. (6). صحيح البخاري (7517). (7). أخرجه البخاري (7422) , ومسلم (2751). (8). تقدم تخريجه قريبًا. (9). أخرجه البخاري (7437) , ومسلم (182).

(الكتاب/258)


مَن بَعُدَ كما يسمعُه مَن قَرُبَ: أنا الملك، أنا الدَّيَّان» (1). إلى غيرها من الأحاديث، هالَتْنا أو لم تهِلْنا، بَلَغَتْنا أو لم تَبْلُغْنا, اعتقادنا فيها وفي الآي الواردة في الصِّفات أنا نقبلُها, ولا نحرِّفها, ولا نكيِّفها, ولا نعطِّلها, ولا نتأوَّلها، وعلى العقول لا نَحْمِلها، وبصفات الخلق لا نشبِّهها، ولا نُعْمِلُ رأينا وفِكْرنا فيها، ولا نزيدُ عليها ولا نُنْقِصُ منها، بل نؤمنُ بها ونَكِلُ علمَها إلى عالمها، كما فعل ذلك السَّلفُ الصالح، وهم القدوة لنا في كلِّ علم. رُوِّينا عن إسحاق أنه قال: لا نزيلُ صفةً مما وصف الله به نفسَه أو وصف الرسولُ عن جهته، لا بكلامٍ ولا بإرادة، إنما يلزمُ المسلم الأداء, ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاتُه، ولا يَعْقِلُ نبيٌّ مرسلٌ ولا ملَكٌ مقرَّبٌ تلك الصِّفات إلا بالأسماء التي عرَّفهم الربُّ عز وجل, فأما أن يدرك أحدٌ من بني آدم معنى تلك الصِّفات فلا يدركُه أحد. الحديث إلى آخره (2). وكما رُوِّينا عن مالك، والأوزاعي، وسفيان، والليث، وأحمد بن حنبل، أنهم قالوا في الأحاديث في الرؤية والنزول: أمِرُّوها كما جاءت (3). وكما روي عن محمد بن الحسن ــ صاحب أبي حنيفة ــ أنه قال في _________ (1). علَّقه البخاري في «الصحيح» (9/ 141) , ووصله في «الأدب المفرد» (970). (2). أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب «السنة». انظر: «التسعينية» (422). (3). أخرجه الآجري في «الشريعة» (720) , وابن بطه في «الإبانة» (7/ 241) , والبيهقي في «الأسماء والصفات» (955).

(الكتاب/259)


الأحاديث التي جاءت: «إن الله يَهْبِطُ إلى السماء الدنيا» ونحو هذا من الأحاديث: إن هذه الأحاديث قد رواها الثقات، فنحن نرويها ونؤمنُ بها، ولا نفسِّرها (1). انتهى كلام الكَرَجيِّ رحمه الله تعالى. والعجبُ أن هؤلاء المتكلِّمين إذا احتُجَّ عليهم بما في الآيات والأحاديث من الصِّفات قالوا (2): قالت الحنابلة: إن لله كذا وكذا، بما فيه تشنيعٌ وترويجٌ لباطلهم، والحنابلةُ اقتفوا أثر السَّلف، وساروا بسَيْرهم، ووقفوا بوقوفهم، بخلاف غيرهم، والله الموفق. النوع الثاني (3): أن هذا الكلام ليس فيه من الحجَّة والدَّليل ما يستحقُّ أن يخاطَبَ به أهلُ العلم، فإن الردَّ بمجرَّد الشَّتم والتهويل لا يعجَزُ عنه أحد، والإنسانُ لو أنه يناظِرُ المشركين وأهل الكتاب لكان عليه أن يذكر من الحجَّة ما يبيِّن به الحقَّ الذي معه والباطل الذي معهم، فقد قال الله عز وجل لنبيه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]. فلو كان خصمُ من يتكلَّمُ بهذا الكلام ــ سواءٌ كان المتكلِّمُ به أبو الفرج _________ (1). أخرجه اللالكائي في «أصول اعتقاد أهل السنة» (741) , ومن طريقه ابن قدامة في «إثبات صفة العلو» (82). وانظر ما سبق (ص: 7). (2). الأصل: «قال». (3). من الكلام على ما نقله المعترض عن أبي الفرج بن الجوزي (ص: 233).

(الكتاب/260)


أو غيرُه ــ مِن أشهر الطوائف بالبدع, كالرَّافضة= لكان ينبغي أن يذكُر الحجَّة ويَعْدِلَ عما لا فائدة فيه إذا كان في مقام الردِّ عليهم، دَعْ والمنازعون له كما ادعاه هم عند جميع الناس أعلمُ منه بالأصول والفروع. وهو في كلامه وردِّه لم يأت بحجَّةٍ أصلًا, لا حجَّةٍ سمعيةٍ ولا عقلية, وإنما اعتمَد تقليدَ طائفةٍ من أهل الكلام قد خالفها أكثرُ منها من أهل الكلام, فقلَّدهم فيما زعموا أنه حجةٌ عقلية، كما فعل هذا المعترض. ومن يردُّ على الناس بالمعقول إن لم يبيِّن حجَّةً عقليةً وإلا كان قد أحال الناس على المجهولات، كمعصوم الرافضة وغَوْث بعض الصُّوفية (1). فأما قوله: «إن مثل هؤلاء لا يحدَّثون»، فيقال له: قد بعث الله الرُّسل إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى الله، فمن الذي أسقط الله مخاطبتَه من الناس؟ دَعْ من تعرفُ أنت وغيرُك مِن فضلهم ما ليس هذا موضعه، ولو أراد سفيهٌ أن يردَّ على الرَّادِّ بمثل ردِّه لم يعجَز عن ذلك. وكذلك قوله: «إنهم يكابرون العقول» , فنقول: المكابرةُ للعقول إما أن _________ (1). وهم غلاتهم الذين يعتقدون أن هناك رجلًا واحدًا في الكون هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان، يقال له: «الغوث» و «القطب» , يسري في الكون سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم، يفيض روح الحياة على الكون ويغيث أهل الأرض ويقضي حوائجهم. انظر: «الفتوحات المكية» (3/ 244) , و «اصطلاحات الصوفية» للكاشاني (141) , و «الصفدية» (1/ 262) , و «درء التعارض» (5/ 316) , و «منهاج السنة» (1/ 91, 93, 95) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 260) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 58, 11/ 364, 433, 437, 442, 27/ 96 - 105) , وفتوى في الغوث والقطب ضمن «جامع المسائل» (2/ 7 - 115).

(الكتاب/261)


تكون في إثبات ما أثبتوه، وإما أن تكون في تناقُضهم بالجمع بين (1) إثبات هذه الأمور ونفي الجوارح. أما الأول فباطل؛ فإن المجسِّمة المحضة التي تصرِّحُ بالتجسيم المحض وتغلو فيه لم يقل أحدٌ قطُّ: إن قولها مكابرةٌ للعقول، ولا قال أحد: إنهم لا يخاطَبون، بل الذين ردُّوا على غالية المجسِّمة مثل هشام بن الحكم وشِيعته لم يردُّوا عليهم من الحُجَج العقلية إلا بحُجَجٍ تحتاجُ إلى نظرٍ واستدلال، والمنازعُ لهم وإن كان مبطلًا في كثيرٍ مما يقوله فقد قابلهم بنظير حِجَاجهم، ولم يكونوا عليه بأظهرَ منه عليهم، إذ مع كلِّ طائفةٍ حقٌّ وباطل. وإذا كان مثل أبي الفرج إنما يعتمدُ في نفي هذه الأمور على ما يذكُره نفاةُ النظَّار، فأولئك لا يكادون يزعمون في شيءٍ من النفي والإثبات أنه مكابرةٌ للعقول (2)، حتى جاحِدو الصَّانع ــ الذين هم أجهلُ الخلق وأضلُّهم وأكفرُهم وأعظمُهم خلافًا للعقول ــ لا يزعمُ أكثر هؤلاء الذين انتصر بهم أبو الفرج أن قولهم مكابرةٌ للعقول، بل يزعمون أن العلمَ بفساد قولهم إنما يُعْلَمُ بالنظر والاستدلال. وهذا القولُ وإن كان يقوله جلُّ هؤلاء النُّفاة من أهل الكلام، فليس هو طريقة مرضيَّة، لكن المقصود أن هؤلاء النُّفاة لا يزعمون أن العلم بفساد قول المُثْبِتة معلومٌ بالضرورة ولا أن قولهم مكابرةٌ للعقل، وإن شنَّعوا عليهم بأشياء ينفِرُ عنها كثيرٌ من الناس فذاك ليستعينوا بنُفرة النافرين على دفعهم _________ (1). الأصل: «بجمع من». والمثبت أقوم. (2). الأصل: «للمعقول». وأثبتُّها كنظائرها.

(الكتاب/262)


وإخماد قولهم، لا لأن نفورَ النافرين عندهم يدلُّ على حقٍّ أو باطل، ولا لأن قولهم مكابرةٌ للعقل أو معلومٌ بضرورة العقل أو ببديهته فسادُه, هذا لم أعلم أحدًا من أئمة النُّفاة أهلِ النظر يدَّعيه في شيءٍ من أقوال المُثْبِتة وإن كان فيها من الغلوِّ ما فيها. ومن المعلوم أن مجرَّد نفور النافرين أو محبَّة الموافقين لا يدلُّ على صحَّة قولٍ ولا فساده إلا إذا كان ذلك بهدًى من الله، بل الاستدلالُ بذلك هو استدلالٌ باتباع الهوى بغير هدًى من الله؛ فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذُ القول والفعل الذي يحبُّه وردُّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدًى من الله, قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيَضِلُّونَ (1) ... بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]، وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] وقال تعالى لداود: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] وقال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 150]، وقال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. _________ (1). كذا قرأ أبو عمرو, وهي قراءة المصنف وأهل الشام لعهده, وبها يستقيم استدلاله هنا وفي عامة المواضع التي يستشهد فيها بالآية. وقرأ الكوفيُّون بضم الياء, أي يُضِلُّون غيرَهم من الناس. انظر: «السبعة» لابن مجاهد (267) , و «معاني القراءات» لأبي منصور الأزهري (1/ 383) , و «حجة القراءات» لابن زنجلة (270).

(الكتاب/263)


وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] , فمن اتبع أهواء الناس بعد العلم الذي بعثَ الله به رسولَه, وبعد هُدى الله الذي بيَّنه لعباده، فهو بهذه المثابة. ولهذا كان السَّلفُ يسمُّون أهل البدع والتفرُّق المخالفين للكتاب والسُّنة «أهل الأهواء»؛ حيث قَبِلوا ما أحبُّوه وردُّوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدًى من الله. وأما قولُ المعترض عن أبى الفرج: «وكأنهم يخاطِبون الأطفال» , فلم تخاطِب الحنابلةُ إلا بما ورد عن الله ورسوله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ الذين هم أعرفُ بالله وأحكامه، وسلَّمنا لهم أمر الشَّريعة، وهم قدوتُنا فيما أخبروا عن الله وشرعه، وقد أنصَف من أحال عليهم، وقد شاقَقَ من خرج عن طريقتهم وادَّعى أن غيرَهم أعلمُ بالله منهم، أو أنهم عَلِمُوا وكتَموا، أو أنهم لم يفهَموا ما أخبَروا به وأن عقلَ غيرهم في باب معرفة الله أتمُّ وأكملُ وأعلمُ مما نقلوه وعَقِلُوه، وقد قدمنا ما فيه كفايةٌ في هذا الباب, والله الموفِّق، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له مِن نور.

(الكتاب/264)


فصل وأما المنطق, فمن قال: إنه فرض كفاية، وأنه من ليس له به خبرةٌ فليس له ثقةٌ بشيءٍ من علومه (1) = فهذا القولُ في غاية الفساد من وجوهٍ كثيرة التَّعداد، مشتملٌ على أمورٍ فاسدةٍ ودعاوى باطلةٍ كثيرةٍ لا يتَّسعُ هذا الموضع لاستقصائها (2). بل الواقعُ قديمًا وحديثًا أنك لا تجدُ من يُلْزِمُ نفسَه أن ينظر في علومه به ويناظِر به إلا وهو فاسدُ النظر والمناظرة، كثيرُ العجز عن تحقيق علمٍ (3) وبيانه. فأحسنُ ما يُحْمَلُ عليه كلامُ المتكلِّم في هذا أن يكونَ قد كان هو وأمثالُه في غاية الجهالة والضلالة، وقد فقدوا أسبابَ الهدى كلَّها، فلم يجدوا ما يردُّهم عن تلك الجهالات إلا بعض ما في المنطق من الأمور التي هي صحيحة، فإنه بسبب بعض ذلك رجع كثيرٌ من هؤلاء عن بعض باطلهم، _________ (1). قاله الغزالي في «المستصفى» (1/ 45) , وبمعناه في «معيار العلم» (60). وبسط هذا المعنى الفارابي في «إحصاء العلوم» (53 - 60) , وانتصر له ابن حزم في رسائله «التقريب لحد المنطق» (4/ 95, 102) , و «التوقيف على شارع النجاة» (3/ 131) , و «مراتب العلوم» (4/ 72). وقال ابن سينا في كتابه «دانشنامه علائي» بالفارسية (10): «علم المنطق هو علم الميزان ... , وكلُّ علم ما وُزِن بالميزان لا يكون يقينًا, ففي الحقيقة لا يكون علمًا, فلا مفرَّ إذن من تعلُّم المنطق». «المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني» لمصطفى طباطبائي (51). (2). انظر: «الرد على المنطقيين» (179). (3). (ف): «علمه».

(الكتاب/265)


وإن لم يحصُل لهم حقٌّ ينفعُهم، وإن وقعوا في باطلٍ آخر. ومع هذا، فلا يصحُّ نسبةُ وجوبه إلى شريعة الإسلام بوجهٍ من الوجوه؛ إذ مَن هذه حالُه أُتِيَ مِن نفسِه بترك ما أمر الله به من الحقِّ حتى احتاج إلى الباطل. ومن المعلوم أن القول بوجوبه قولُ غُلاته وجهَّال أصحابه, ونفسُ الحذَّاق منهم لا يلتزمون قوانينَه في كلِّ علومهم، بل يُعْرِضُون عنها, إما لطولها، وإما لعدم فائدتها، وإما لفسادها، وإما لعدم تميُّزها وما فيها من الإجمال والاشتباه, فإنه (1) فيه مواضعَ كثيرةً هي لحمُ جملٍ غثٍّ على رأس جبلٍ وَعْر، لا سهلٍ فيُرتقى ولا سَمِينٍ فيُنتَقل (2). ولهذا مازال علماءُ المسلمين وأئمَّة الدين يذمُّونه ويذمُّون أهله، وينهون عنه وعن أهله (3) , حتى رأيتُ للمتأخرين فُتيا فيها خطوطُ جماعةٍ من أعيان زمانهم من أئمَّة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلامٌ عظيمٌ في تحريمه وعقوبة أهله. حتى إن من الحكايات المشهورة التى بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصَّلاح (4) _________ (1). كذا في الأصل, وله نظائر في كتب المصنف. (2). تضمين من حديث أم زرع المشهور في البخاري (5189) ومسلم (2448). (3). ساق السيوطي طائفة كبيرة منهم في «القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق» ضمن «الحاوي» (1/ 300 - 302) , ومن أقدم ذلك ما نقل عن الشافعي, لكنه لا يصح. انظر: «السير» (10/ 74) , و «صون المنطق والكلام» (48). (4). تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري الإمام الفقيه المحدث (ت: 643). انظر: «وفيات الأعيان» (3/ 243) , و «طبقات الشافعية» (8/ 326).

(الكتاب/266)


أمر بانتزاع مدرسةٍ معروفة (1) من أبي الحسن الآمدي (2)، وقال: أخذُها منه أفضلُ من أخذ عَكَّا (3)، مع أن الآمديَّ لم يكن أحدٌ في وقته أكثرَ تبحُّرًا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان مِن أحسنهم إسلامًا وأمثَلهم اعتقادًا. ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة ــ سواءٌ كانت حقًّا أو باطلًا، إيمانًا أو كفرًا ــ لا تُعْلَمُ إلا بذكاءٍ وفطنة، فكذلك أهلُه قد يَسْتَجْهِلُون من لم يَشْرَكْهم في علمهم، وإن كان إيمانُه أحسنَ من إيمانهم، إذا كان فيه قصورٌ في الذَّكاء والبيان، وهم كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا _________ (1). هي المدرسة العزيزية بدمشق. انظر: «تاريخ الإسلام» (14/ 50) , و «الدارس في تاريخ المدارس» (1/ 298) , والمصادر التالية. (2). سيف الدين علي بن أبي علي, الأصولي المتكلم (ت: 631). انظر: «مرآة الزمان» (8/ 691) , و «السير» (22/ 364) , و «الوافي بالوفيات» (21/ 340). (3). عكَّا من مدن فلسطين على ساحل البحر المتوسط, وكانت يومئذ بأيدي الصليبيين. ولابن الصلاح في فتاويه (1/ 209 - 212) فتوى مشهورة في المنطق وأهله, عرَّض فيها بالآمدي فقال: «فالواجبُ على السلطان - أعزَّه الله وأعزَّ به الإسلام وأهلَه - أن يدفع عن المسلمين شرَّ هؤلاء المشائيم, ويخرجهم من المدارس ويبعدهم, ويعاقب على الاشتغال بفنهم, ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام, لتخمد نارهم وتنمحي آثارها وآثارهم, يسَّر الله ذلك وعجَّله, ومِن أوجب هذا الواجب عزلُ من كان مدرِّسَ مدرسةٍ من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها ثم سجنه وإلزامه منزله, ومن زعم أنه غيرُ معتقدٍ لعقائدهم فإن حاله يكذِّبه, والطريقُ في قلع الشر قلعُ أصوله, وانتصابُ مثله مدرسًا من العظائم». وقال عنه ابن كثير في «طبقات الشافعية» (782): «يكره طرائق الفلسفة والمنطق, ويغضُّ منها, ولا يمكِّن من قراءتها بالبلد، والملوك تطيعُه في ذلك».

(الكتاب/267)


يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 29 - 36]. فإذا تقلَّدوا عن طواغيتهم أن كلَّ ما لم يحصل بهذه الطريق القياسيَّة فليس بعلم، وقد لا يحصُل لكثيرٍ منهم من هذه الطريق القياسيَّة (1) ما يستفيدُ به الإيمانَ الواجب، فيكون كافرًا زنديقًا منافقًا جاهلًا ضالًّا مُضِلًّا ظلومًا كفورًا، ويكون من أكابر أعداء الرُّسل من الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 31 - 33]. وربما حصَل لبعضهم إيمانٌ إما من هذه الطريق أو من غيرها, ويحصُل له أيضا منها نفاق، فيكون فيه إيمانٌ ونفاق، ويكون في حالٍ مؤمنًا وفي حالٍ منافقا، ويكون مرتدًّا إما عن أصل الدين أو بعض شرائعه، إما ردَّة نفاقٍ وإما ردَّة كفر, وهذا كثيرٌ غالب، لا سيَّما في الأعصار والأمصار التي تَغْلِبُ فيها الجاهليةُ والكفرُ والنفاق, فلهؤلاء مِن عجائب الجهل والظُّلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتَّسعُ لذكره المقال (2). ولهذا لما تفطَّن كثيرٌ منهم لما في هذا النفي من الجهل والضلال، _________ (1). تكررت العبارة في الأصل, من سهو الناسخ. (2). (ط) و (ف) (9/ 8): «المقام» , وفي (18/ 53): «المقال» كما في الأصل.

(الكتاب/268)


صاروا يقولون: النفوسُ القُدسيَّة ــ كنفوس الأنبياء والأولياء ــ تَفِيضُ عليها المعارفُ بدون الطريق القياسيَّة. وهم متَّفقون جميعُهم على أن من النفوس من تستغني عن وزن علومها بالموازين (1) الصِّناعية في المنطق، لكن قد يقولون: هو حكيمٌ بالطبع, والقياسُ يَنْعَقِدُ في نفسه بدون تعلُّم هذه الصناعة، كما ينطقُ العربيُّ بالعربية بدون النحو، وكما يَقْرِضُ الشاعرُ الشِّعر (2) بدون معرفة العروض, لكن استغناء بعض الناس عن هذه الموازين لا يوجبُ استغناءَ الآخرين (3). فاستغناءُ كثيرٍ من النفوس عن هذه الصناعة لا ينازعُ فيه أحدٌ منهم, والكلام هنا: هل تستغني في علومها بالكلِّية عن نفس القياس المذكور وموادِّه المعينة؟ فالاستغناءُ عن جنس هذا القياس شيء، وعن الصناعة القانونية التي يوزنُ بها القياس شيءٌ آخر، فإنهم يزعمون أنه آلةٌ قانونيةٌ تمنعُ مراعاتُها الذِّهنَ أن يزلَّ في فكره، وفسادُ هذا مبسوطٌ مذكورٌ في موضعٍ غير هذا (4). ونحن بعد أن تبيَّنا عدمَ فائدته، وإن كان قد يتضمَّنُ من العلم ما يحصل بدونه، ثم تبيَّنا أنا لو قدَّرنا أنه قد يفيدُ بعض الناس من العلم ما يفيدُه هو, فلا يجوزُ أن يقال: ليس إلى ذلك العلم لذلك الشَّخص ولسائر بني آدم طريقٌ إلا بمثل القياس المنطقيِّ؛ فإن هذا قولٌ بلا علم، وهو كذبٌ محقَّق. _________ (1). الأصل: «بالميزان». (2). الأصل: «بالشعر». (3). انظر: «إحصاء العلوم» للفارابي (59) , و «النجاة» لابن سينا (1/ 10) , والمنطق من «الشفاء» (20) , وشرح «عيون الحكمة» للرازي (1/ 44, 46 - 47). (4). انظر: «الرد على المنطقيين» (26, 180, 375, 438).

(الكتاب/269)


ولهذا مازال متكلِّمو المسلمين ــ وإن كان فيهم نوعٌ من البدعة ــ لهم من الردِّ عليه وعلى أهله, وبيان الاستغناء عنه، وحصول الضرر والجهل به والكفر، ما ليس هذا موضعه, دَع غيرَهم من طوائف المسلمين وعلمائهم وأئمَّتهم، كما ذكره القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب «الدقائق» (1). وذلك يظهر بأنهم جعلوا الأقيسة خمسة: البُرهاني، والخَطَابِي، والجَدَلِي، والشِّعْري، والمَغْلَطِي (2). فأما الشِّعْريُّ وهو ما يفيدُ مجرَّد التخييل وتحريك النفس (3) , والمَغْلَطِيُّ (4) السُّوفِسْطائيُّ وهو ما يُشْبِهُ الحقَّ وهو باطل، وهو الحكمةُ المموَّهة= فلا غرض لنا فيهما (5) هنا، ولكنْ تلك الثلاثة (6). _________ (1). تقدم التعريف به (ص: 75). (2). انظر: «معيار العلم» (185) , و «البصائر النصيرية» (141, 219) , و «فصول البدائع» للفناري (1/ 29). (3). قوله: «فأما الشعري ... » وقع في الأصل قبل قوله: «وذلك يظهر بأنهم ... » , وهو من سهو الناسخ. (4). يسمَّى في عامة المصادر: المغالطي, نسبة إلى المغالطة. انظر: «تلخيص السفسطة» لابن رشد (83) , و «الإشارات» بشرح الطوسي (1/ 465, 495) , و «التعريفات» (222) , و «الكليات» (714) , والمصادر المذكورة في الحاشية السابقة. والمثبت من الأصل في الموضعين, نسبة إلى المَغْلَطة, وهي ما يُغَالَطُ به, وكذلك ترد في كتب المصنف. انظر: «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 338) , و «تنبيه الرجل العاقل» (1/ 190) , و «درء التعارض» (1/ 398) , و «مجموع الفتاوى» (9/ 258). (5). الأصل: «فيه». (6). انظر: «الرد على المنطقيين» (441) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 338) , و «مجموع الفتاوى» (9/ 258).

(الكتاب/270)


قالوا: الجَدَليُّ ما سَلَّم المخاطَبُ مقدِّماته, والخَطَابيُّ ما كانت مقدِّماتُه مشهورةً بين الناس، والبُرهانيُّ ما كانت مقدِّماته معلومة. وكثيرٌ من المقدِّمات تكونُ مع كونها خطابيةً أو جدليةً يقينيةً برهانية، بل وكذلك مع كونها شِعْرية، ولكن هي من جهة التيقُّن بها تسمَّى برهانية، ومن جهة شهرتها عند عموم الناس وقبولهم لها تسمَّى خَطابية، ومن جهة تسليم الشَّخص المعيَّن لها تسمَّى جدلية. وهذا كلامُ أولئك المبتدعة من الصَّابئة (1) الذين لم يذكروا النبوَّات ولا تعرَّضوا لها بنفيٍ ولا إثبات. وعدمُ التصديق للرُّسل واتباعِهم كفرٌ وضلالٌ وإن لم يُعْتَقد تكذيبُهم, فالكفرُ والضلالُ أعمُّ من التكذيب. وأما قولُ بعض المتأخرين في المشهورات (2): هي المقبولات, لكون صاحبها مؤيدًا بأمرٍ يوجبُ قبولَ قوله, ونحو ذلك= فهذه من الزيادات التي ألزمتهم إياها الحجَّة، ورأوا وجوبَ قبولها على طريقة الأوَّلين. ولهذا [كان] غالبُ صابئة المتأخرين ــ الذين هم الفلاسفة ــ ممتزجين بالحنيفية, كما أن غالبَ من دخل في الفلسفة من الحنفاء مَزَج الحنيفية بالصُّبوء (3) ولَبَسَ الحقَّ بالباطل. أعني بالصُّبوء: المبتَدَعَ الذي ليس فيه إيمانٌ بالنبوات، كصُبوء صاحب المنطق وأتباعه. وأما الصُّبوء القديمُ فذاك أصحابه منهم المؤمنون بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا وعملوا الصالحات, _________ (1). الأصل: «في الصابئة». تحريف. (2). أي المقدمات المشهورة في القياس الخطابي. (3). مصدر صبأ, وهو دين الصابئة.

(الكتاب/271)


فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (1)، كما أن التهوُّد والتنصُّر منه ما أهلُه مبتدِعُون ضُلَّالٌ قبل إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومنه ما كان أهلُه متَّبعين للحقِّ وهم الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات, فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. ومن قال من العلماء المصنِّفين في المنطق: «إن القياس الخَطَابيَّ هو ما يفيدُ الظنَّ، كما أن البرهانيَّ ما يفيدُ العلم» (2)، فلم يعرف مقصودَ القوم، ولا قال حقًّا؛ فإن كلَّ واحدٍ من الخَطَابي والجَدَلي قد يفيدُ الظنَّ، كما أن البرهانيَّ قد تكونُ مقدِّماتُه مشهورةً ومسلَّمة. فالتقسيمُ لموادِّ القياس وقع باعتبار الجهات التي يُقْبَلُ منها، فتارةً يُقْبَل القول لأنه معلوم, إذ العلمُ يوجبُ القبول. وأما كونُه لا يفيدُ العلمَ فلا يوجبُ قبولَه إلا لسبب, فإن كان لشهرته فهو خَطَابيٌّ ولو لم يُفِد علمًا ولا ظنًّا, وهو أيضًا خَطَابيٌّ إذا كانت قضيَّته (3) مشهورة وإن أفاد علمًا أو ظنًّا. والقولُ في الجدليِّ كذلك (4). ثم إنهم قد يمثِّلون المشهورات المقبولات التي ليست عِلمية (5) بقولنا: العلمُ حسنٌ والجهلُ قبيح، والعدلُ حسنٌ والظلمُ قبيح، ونحو ذلك من _________ (1) انظر: «الملل والنحل» (2/ 7) , و «درء التعارض» (7/ 334) , و «الرد على الشاذلي» (136) , و «الرد على المنطقيين» (288, 480). (2) انظر: شرح «الإشارات» للطوسي (1/ 462, 463). (3) الأصل: «قصته». تحريف. (4) انظر: «الرد على المنطقيين» (439). (5) أي ليست معلومة.

(الكتاب/272)


الأحكام العِلْمية (1) العقلية التي يثبتُها من يقولُ بالتحسين والتقبيح. ويزعمون أنا إذا رجعنا إلى محض العقل لم نجد فيه حكمًا بذلك. وقد يمثِّلونها بأن الموجود (2) لا بدَّ أن يكون مباينًا للموجود الآخر أو مُحَايِثًا له، أو أن الموجود لا بدَّ أن يكون بجهةٍ من الجهات، أو يكون جائزَ الرؤية. ويزعمون أن هذا من أحكام الوهم لا الفطرة العقلية. قالوا: لأن العقل يسلِّم مقدماتٍ يعلمُ بها فسادَ الحكم الأول. وهذا كلُّه تخليطٌ ظاهرٌ لمن تدبَّره. فأما تلك القضايا التي سمَّوها مشهوراتٍ غير معلومة, فهي من العلوم العقلية البديهية التي جَزْمُ العقول بها أعظمُ من جزمها بكثيرٍ من العلوم الحسابية والطبيعية، وهي كما قال أكثر المتكلِّمين من أهل الإسلام ــ بل أكثر متكلِّمي أهل الأرض من جميع الطوائف ــ: إنها قضايا بديهيةٌ عقلية، لكن قد لا يحسنون تفسيرَ ذلك؛ فإن حُسْنَ ذلك وقُبْحَه هو حسنُ الأفعال وقبحُها، وحسنُ الفعل هو كونُه مقتضيًا لما يطلبُه الحيُّ لذاته ويريدُه من المقاصد، وقبحُه بالعكس. والأمر كذلك, فإن العلمَ والصِّدقَ والعدلَ هي كذلك محصِّلة (3) لما يُطلبُ لذاته ويُرادُ لنفسه من المقاصد، فحُسْنُ الفعل وقبحُه هو لكونه محصِّلًا للمقصود المراد بذاته أو منافيًا لذلك. _________ (1) الأصل: «العملية». تحريف. وانظر: «الرد على المنطقيين» (420, 441). (2) الأصل: «الوجود». وانظر: «درء التعارض» (6/ 112). (3) الأصل: «يحصله». والمثبت من (ط).

(الكتاب/273)


ولهذا كان الحقُّ [والباطلُ] يطلقُ تارةً بمعنى: النفي والإثبات, فيقال: هذا حقٌّ أي ثابت، وهذا باطلٌ أي منتفٍ. وفي الأفعال بمعنى: التحصيل للمقصود، فيقال: هذا الفعل حقٌّ أي نافعٌ أو محصِّلٌ للمقصود، ويقال: باطلٌ أي لا فائدة فيه ونحو ذلك. وأما زعمُهم أن البديهةَ والفطرة قد تحكُم بما يتبيَّن لها بالقياس فسادُه، فهذا غلط؛ لأن القياس لا بدَّ له من مقدماتٍ بديهيةٍ فطرية؛ فإن جُوِّز أن تكون المقدماتُ الفطريةُ البديهيةُ غلطًا من غير تبيين غلطِها إلا بالقياس لكان قد تعارضت المقدماتُ الفطريةُ بنفسها ومقتضى القياس الذي مقدماتُه فطرية. فليس ردُّ هذه المقدمات الفطرية لأجل تلك بأولى من العكس، بل الغلطُ فيما تقلُّ مقدماته أولى، فما يُعْلَمُ بالقياس وبمقدماتٍ فطريةٍ أقربُ إلى الغلط مما يُعْلَمُ بمجرَّد الفطرة. وهذا يذكرونه في نفي علوِّ الله على العرش ونحو ذلك من أباطيلهم (1). والمقصود هنا أنهم لم يذكر متقدِّموهم (2) المقدِّمات المتلقَّاة من الأنبياء، ولكنْ المتأخرون رتَّبوا على ذلك: * إما بطريق الصَّابئة الذين لَبَسوا الحنيفيةَ بالصابئة، كابن سينا ونحوه. * وإما بطريق المتكلِّمين الذين أحسنوا الظنَّ بما ذكره المنطقيُّون, وقرَّروا إثبات العلم بموجَب النبوَّات به. _________ (1) انظر: «الإشارات» لابن سينا (1/ 403) , و «الأربعين» للرازي (152, 161) , و «درء التعارض» (6/ 14 - 24, 112) , و «بيان تلبيس الجهمية» (4/ 483, 560). (2) كذا في الأصل. وفي (ط): «أن متقدميهم لم يذكروا».

(الكتاب/274)


* أما الأول، فإنه جعَل علومَ الأنبياء من العلوم الحَدْسِية؛ لقوة صفاء تلك النفوس القُدسية وطهارتها، وأن قُوى النفوس في الحَدْس لا تقفُ عند حدٍّ، ولا بدَّ للعالم من نظامٍ يَنْصِبُه حكيمٌ، فيعطي النفوسَ المؤيَّدة من القوَّة ما تعلمُ به ما لا يعلمُه غيرها بطريق الحَدْس، ويتمثَّل لها ما تسمعُه وتراه في نفسها من الكلام ومن الملائكة ما لا يسمعُه غيرها، ويكون لها من القوَّة العملية التي تطيعُها بها هَيُولى العالم (1) ما ليس لغيرها. فهذه الخوارقُ في قُوى العلم, مع السَّمع والبصر، وقوَّة العمل والقدرة، هي النبوَّةُ عندهم (2). ومعلومٌ أن الحَدْسَ راجعٌ إلى قياس التمثيل كما تقدَّم (3) , وأما ما يسمَع ويرى في نفسه فهو من جنس الرؤيا، وهذا القدرُ يحصُل مثلُه لكثيرٍ من عوامِّ الناس وكفَّارهم، فضلًا عن أولياء الله وأنبيائه، فكيف يُجْعَلُ ذلك هو غاية النبوَّة؟ ! وإن كان الذي يثبتونه للأنبياء أكملَ وأشرفَ فهو كمَلِكٍ أقوى مِن مَلِك. ولهذا صاروا يقولون: النبوَّة مكتسَبة، ولم يثبتوا نزولَ ملائكةٍ من عند الله إلى من يختارُه ويصطفيه مِن عباده، ولا قَصْدَه لتكليم شخصٍ معيَّن من رسله, كما يُذْكَر عن بعض قدمائهم أنه قال لموسى بن عِمران: أنا أصدِّقُك في كلِّ شيءٍ إلا في أن علَّة العِلَل كلَّمَك، ما أقدِرُ أن أصدِّقك في هذا! _________ (1) الهيولى لفظ يونانيٌّ بمعنى الأصل والمادة. «المعجم الفلسفي» (741). (2) انظر: «النجاة» لابن سينا (2/ 14) , و «الإشارات» (2/ 368). (3) كذا, ولم يتقدم ذكر ذلك. وانظر ما سيأتي (ص: 332).

(الكتاب/275)


ولهذا صار من ضلَّ بمثل هذا الكلام يدَّعي مساواة الأنبياء والمرسلين أو التقدُّم عليهم (1)، وهذا كثيرٌ فى كثيرٍ من الناس الذين يعتقدون في أنفسهم أنهم أكملُ النَّوع، وهم مِن أجهل الناس وأظلمِهم وأكفَرِهم وأعظمِهم نفاقًا. * وأما المتكلِّمون المنطقيُّون, فيقولون: يُعْلَمُ بهذا القياس ثبوتُ الصَّانع, وقدرتُه, وجوازُ إرسال الرسل، وتأييدُه لهم بما يوجبُ تصديقَهم فيما يقولونه. وهذه الطريقةُ أقربُ إلى طريقة العلماء المؤمنين، وإن كان قد يكونُ فيها أنواعٌ من الباطل، تارةً من جهة ما تَقَلَّدوه عن المنطقيِّين، وتارةً من جهة ما ابتدَعوه هم، مما ليس هذا موضعه. ومنطقيَّةُ اليهود والنصارى كذلك، لكنَّ الهدى والعلمَ والبيانَ في فلاسفة المسلمين ومتكلِّميهم أعظمُ منه في أهل الكتابَيْن؛ لما في تَيْنِكَ الملَّتين من الفساد. ولكن الغرض تقريرُ جنس النبوَّات؛ فإن أهل المِلَل متَّفقون عليها، لكن اليهود والنصارى آمنوا ببعض الرُّسل وكفروا ببعض، والصابئةُ الفلاسفةُ ونحوهم آمنوا ببعض صفات الرسالة دون بعض، فإذا اتفق متفلسفٌ من أهل الكتاب جَمَع الكُفْرَين: الكفر بخاتم المرسلين، والكفر بحقائق صفات الرسالة في جميع المرسلين. فهذا هذا. فيقالُ لهم ــ مع علمهم بتفاوت قُوى بني آدم في الإدراك ــ: ما المانعُ _________ (1) كما سبق في تفضيل الفيلسوف على النبي (ص: 147).

(الكتاب/276)


من أن يخرق (1) سمع أحدهم وبصره حتى يسمع ويرى من الأمور الموجودة في الخارج ما لا يراه غيره؟ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني أرى ما لا ترون، وأسمعُ ما لا تسمعون، أَطَّت السَّماءُ وحُقَّ لها أن تئطَّ, ما فيها موضعُ أربع أصابع إلا وملَكٌ قائمٌ أو قاعدٌ أو راكعٌ أو ساجد» (2)، فهذا إحساسٌ بالظاهر أو الباطن لما هو في الخارج. وكذلك العلومُ الكليةُ البديهية، قد علمتم أنها ليس لها حدٌّ في بني آدم، فمن أين لكم أن بعض النفوس ما يكونُ لها من العلوم البديهية التي يختصُّ بها أو بها وبأمثالها ما لا يكونُ من البديهيات عندكم؟ وإذا كان هذا ممكنًا ــ وعامةُ أهل الأرض على أنه واقعٌ لغير الأنبياء, دَع الأنبياء ــ فمثلُ هذه العلوم ليس في منطقكم طريقٌ إليها؛ إذ ليست من المشهورات ولا الجَدَلية ولا موادُّها عندكم يقينية، وأنتم لا تعلمون نفيَها، وجمهورُ أهل الأرض من الأولين والآخرين على إثباتها، فإن كذَّبتم بها كنتم ــ مع الكفر والتكذيب بالحقِّ, وخسارة الدنيا والآخرة ــ تاركين لمنطقكم أيضًا، وخارجين عمَّا أوجبتموه على أنفسكم أنكم لا تقولون إلا بموجَب القياس؛ إذ ليس لهم بهذا النفي قياسٌ ولا حجَّةٌ تُذْكَر, ولهذا لم يذكروا عليه حجَّة, وإنما اندرج هذا النفيُ في كلامهم (3) بغير حجَّة. وإن قلتم: بل هي حقٌّ، اعترفتم بأن من الحقِّ ما لا يوزنُ بميزان منطقكم. _________ (1) غير محررة في الأصل, والمثبت من (ط). (2) تقدم تخريجه (ص: 176). (3) الأصل: «كلامكم».

(الكتاب/277)


وإن قلتم: لا ندري أحقٌّ هي أم باطل؟ اعترفتم بأن أعظمَ المطالب وأجلَّها لا يوزنُ بميزان المنطق. فإن صَدَّقتم لم يوافقكم المنطق، وإن كَذَّبتم لم يوافقكم المنطق، وإن ارتبتُم لم ينفعكم المنطق! ومن المعلوم أن موازينَ الأموال لا يُقْصَدُ أن يوزنَ بها الحطبُ والرَّصاصُ دون الذهب والفضة, وأمرُ النبوَّات وما جاءت به الرُّسل أعظمُ في العلوم من الذهب في الأموال, فإذا لم يكن في منطقكم ميزانٌ له كان الميزانُ مع أنه ميزانٌ عائلٌ (1) جائرٌ هو أيضًا عاجز, فهو ميزانٌ جاهلٌ ظالم؛ هو إما أن يردَّ الحقَّ ويدفعَه فيكونَ ظالمًا، أو لا يَزِنه ولا يبيِّن أمرَه فيكون جاهلًا، أو يجتمع فيه الأمران فيردَّ الحق ويدفعَه, وهو الحقُّ الذي ليس للنفوس عنه عِوَض، ولا عنه مندوحة، وليست سعادتُها إلا فيه ولا هلاكُها إلا تركُه. فكيف يستقيمُ مع هذا أن تقولوا: إنه وما وزنتموه به من المتاع الخسيس ــ الذي أنتم في وزنكم إيَّاه به ظالمون عائلون، لم تَزِنُوا بالقسطاس المستقيم، ولم تستدلُّوا بالآيات البيِّنات ــ هو معيارُ العلوم الحقيقية، والحكمة اليقينية, التي فاز بالسَّعادة عالمُها، وخاب بالشَّقاوة جاهلُها؟ ! ورأسُ مال السَّادة (2) وغايةُ (3) العالم المنصف منكم أن يعترفَ بعجز _________ (1) عال الميزانُ, إذا مال. قال أبو طالب في لاميته الباذخة: بميزان قسطٍ لا يغلُّ شعيرةً ... له شاهدٌ من نفسه غير عائلِ (2) سادة المنطق. وأخشى أن تكون محرفة. (3) الأصل: «غاية» بدون الواو.

(الكتاب/278)


ميزانكم عنه, وأما عوامُّ علمائكم فيكذِّبون به ويردُّونه، وإن كان منطقُكم يَرُدُّ عليهم، فلستُم بتحريف أمر منطقكم بأحسن حالًا من اليهود والنصارى في تحريف كتاب الله الذي هو في الأصل حقٌّ هادٍ لا ريبَ فيه، فهذا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأيضًا، هم متَّفقون على أنه لا يفيدُ إلا أمورًا كليةً مقدَّرةً في الذهن، لا يفيدُ العلمَ بشيءٍ موجودٍ محقَّقٍ في الخارج إلا بتوسُّط شيءٍ آخر غيره, والأمورُ الكليةُ الذهنيةُ ليست هي الحقائق الخارجية، ولا هي أيضًا علمًا بالحقائق الخارجية؛ إذ لكلِّ موجودٍ حقيقةٌ يتميَّز بها عن غيره هو بها هو (1)، وتلك ليست كلِّية، فالعلمُ بالأمر المشترك لا يكون علمًا بها، فلا يكونُ في القياس المنطقي علم تحقيقه بشيء (2) من الأشياء, وهو المطلوب. وأيضًا، هم يطعنون في قياس التمثيل، وقد يقولون: إنه لا يفيدُ إلا الظنَّ، وربما تكلَّموا على بعض الأقيسة الفرعية أو الأصلية التي تكونُ مقدِّماتها ضعيفةً أو مظنونة، مثل كلام السُّهْرَوَرْدِي (3) المقتول على الزَّندقة, _________ (1) انظر: «درء التعارض» (3/ 360) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 423). (2) كذا في الأصل, وأصلحها الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة إلى «تحقيق شيء» وعلق عليها بقوله: يعني أن العلم بالحقائق الذهنية الكلية التي تعلم بالمنطق وهي مشتركة بين أشياء كثيرة لا يفيد العلم بحقائقها الخارجية التي يتميز بها بعضها عن بعض, فالمنطق لا يفيد العلم بحقائق الأشياء الخارجية. فتعقبه الشيخ سليمان الصنيع بأن الواجب المحافظة على الأصول, وما وقع في الأصل صحيح, ومعناه: أن القياس المنطقي لا يفيد العلم ما دام تحقيقه بشيء من الأشياء. (3) شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك الفيلسوف الإشراقي, قتل بفتوى من علماء عصره سنة 587. انظر: «عيون الأنباء» (2/ 167) , و «السير» (21/ 207). وهو غير شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد السهروردي شيخ الصوفية صاحب «عوارف المعارف» المتوفى سنة 632.

(الكتاب/279)


صاحب «التلويحات» و «الألواح» و «حكمة الإشراق» (1) , وكان في فلسفته مُسْتَمِدًّا من الرُّوم الصَّابئين والفُرس المجوس, وهاتان المادَّتان هما مادَّتا القرامطة الباطنية ومَن يدخل فيهم من الإسماعيلية والنُّصَيرية وأمثالهم، وهم ممَّن دخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصَّحيح: «لتأخذُنَّ مأخذَ الأمم قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتموه»، قالوا: فارس والروم؟ قال: «فمَن؟!» (2). والمقصود أن نذكر (3) كلام السُّهْرَوَرْدِي هذا على قياسٍ ضرَبَه، وهو أن يقال: السَّماء مُحْدَثة، قياسًا على البيت، بجامع ما يشتركان فيه من التأليف, فيحتاجُ أن يثبتَ أن علَّة حدوث البناء هو التأليف، وأنه موجودٌ في الفرع (4). والتحقيقُ أن قياسَ التمثيل أبلغُ في إفادة العلم واليقين مِن قياس الشُّمول، وإن كان علمُ قياس الشُّمول أكبرَ فذاك أكثر، فقياسُ التمثيل في القياس العقلي كالبصر في العلم الحِسِّي (5)، وقياسُ الشُّمول كالسَّمع في _________ (1) جميعها مطبوع, وللمعاصرين دراساتٌ عديدة حول فلسفته الإشراقية. (2) أخرجه البخاري (3456) , ومسلم (2669). وانظر: «بغية المرتاد» (195) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 473 - 478) , و «منهاج السنة» (8/ 15) , و «درء التعارض» (6/ 196) , و «تفسير آيات أشكلت» (747) , و «مجموع الفتاوى» (15/ 151). (3) الأصل: «ذكر». (4) انظر: «التلويحات» للسهروردي (67) , و «الرد على المنطقيين» (121). (5) الأصل: «في العلم الحسي كالبصر».

(الكتاب/280)


العلم الحِسِّي, ولا ريب أن البصرَ أعظمُ وأكمل، والسمعَ أوسعُ وأشمل (1)، فقياسُ التمثيل بمنزلة البصر، كما قيل: * مَن قاسَ ما لم يَره بما رأى * (2) وقياسُ الشُّمول يشابهُ السَّمعَ من جهة العموم. ثم إن كلَّ واحدٍ من القياسَيْن في كونه علميًّا أو ظنيًّا يتبعُ مقدِّماتِه، فقياسُ التمثيل في الحِسِّيَّات وكلِّ شيءٍ إذا عَلِمنا أن هذا مثلُ هذا عَلِمنا أن حكمَه حكمُه وإن لم نعلم (3) علَّةَ الحكم، وإن عَلِمنا علَّةَ الحكم استدللنا بثبوتها على ثبوت الحكم، فبكلِّ واحدٍ من العلم بقياس التمثيل وقياس التعليل يُعْلَمُ الحكم. وقياسُ التعليل هو في الحقيقة مِن نوع قياس الشُّمول، لكنه امتاز عنه بأن الحدَّ الأوسط ــ الذي هو الدليلُ فيه ــ هو علَّة الحكم، ويسمَّى قياس العلَّة، وبرهان العلَّة, وذلك يسمَّى قياس الدَّلالة وبرهان الدَّلالة. _________ (1) وهذا هو اختيار المصنف في مسألة المفاضلة بين السمع والبصر, كما حكاه عنه ابن القيم في «المدارج» (2/ 410) , و «بدائع الفوائد» (126, 1107) , وله فيها كراسة مستقلة أشار إليها الصفدي في «نكت الهميان» (18). وانظر: «الرد على المنطقيين» (96) , و «درء التعارض» (7/ 325) , و «مجموع الفتاوى» (16/ 68). (2) من مقصورة ابن دريد (376 - شرح ابن خالويه) (347 - شرح ابن هشام). وعجزه: * أراه ما يدنو إليه ما نأى * وموضع الشاهد أنه عبَّر عن قياس التمثيل بلفظ الرؤية, فهو بمنزلة البصر. (3) الأصل: «يعلم».

(الكتاب/281)


وإن لم نعلم (1) التماثلَ والعلَّة، بل ظننَّاها ظنًّا, كان الحكمُ كذلك. وهكذا الأمرُ في قياس الشُّمول، إن كانت المقدِّمتان معلومتين كانت النتيجةُ معلومة، وإلا فالنتيجة تتبعُ أضعفَ المقدمات. فأما دعواهم أن هذا (2) لا يفيدُ العلم، فهو غلطٌ محضٌ محسوس، بل عامَّة علوم بني آدم العقلية المحضة مِن قياس التمثيل (3). وأيضًا، علومُهم التي جعلوا هذه الصِّناعة ميزانًا لها بالقصد الأول, لا يكاد يُنْتَفعُ بهذه الصِّناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليلًا؛ فإن العلوم الرياضية مِن حساب العَدَد وحساب المقدار الذِّهني والخارجي قد عُلِمَ أن الخائضين فيه من الأوَّلين والآخِرين مستقلُّون به من غير التفاتٍ إلى هذه الصناعة المنطقية واصطلاح أهلها. وكذلك ما يصحُّ من العلوم الطبيعية الكُلِّية والطِّبية، تجدُ الحاذقين فيها لم يستعينوا عليها بشيءٍ من صناعة المنطق، بل إمامُ صناعة الطبِّ بُقراط (4) _________ (1) الأصل: «يعلم» , كذلك. والصواب المثبت من (ط) في الموضعين. (2) أي قياس التمثيل. (3) انظر لحقيقة قياس الشمول والتمثيل وإفادتهما للعلم والظن: «الرد على المنطقيين» (116 - 121, 159, 204 - 219, 233 - 235, 241 - 245, 299, 317, 353 - 356, 364 - 384) , و «شرح الأصبهانية» (455) وأحال فيه على «الرد على الغالطين في المنطق» , و «درء التعارض» (6/ 125, 7/ 153, 318 - 322, 337) , و «النبوات» (726, 743 - 755). (4) كتبه أقدم ما وصل إلينا من كتب الطب, وكان قبل الاسكندر بنحو مئة سنة, فاضلًا متألهًا متنسكًا, وقيل إنه من الصابئة الحنفاء. انظر: «طبقات الأطباء» لابن جلجل (24) , و «أخبار الحكماء» (121) , و «الرد على المنطقيين» (455).

(الكتاب/282)


له فيها من الكلام الذي تلقَّاه أهلُ الطبِّ بالقبول ووجدوا مصداقَه بالتجارب، وله فيها من القضايا الكُلِّية التي هي عند عقلاء بني آدم من أعظم الأمور، ومع هذا فليس هو مستعينًا بشيءٍ من هذه الصِّناعة، بل كان قبل (1) واضِعها. وهم وإن كان العلمُ الطبيعيُّ عندهم أعظمَ (2) وأعلى من علم الطبِّ فلا ريب أنه متصلٌ به, فبالعلم بطبائع الأجسام المعيَّنة المحسوسة تُعْلَمُ طبائعُ سائر الأجسام، ومبدأ الحركة والسُّكون الذي في الجسم، ويُسْتَدلُّ بالجزء على الكل, ولهذا كثيرًا ما يتناظرون في مسائل ويتنازعُ فيها هؤلاء وهؤلاء، كتناظر الفقهاء والمتكلِّمين في مسائل كثيرةٍ تتَّفقُ فيها الصِّناعتان، وأولئك يدَّعون عمومَ النظر، ولكن الخطأ والغلط عند المتكلِّمين والمتفلسفة أكثرُ مما هو عند الفقهاء والأطباء، وكلامُهم وعلمُهم أنفع، وأولئك أكثر ضلالًا وأقل نفعًا؛ لأنهم طلبوا بالقياس ما لا يُعْلَمُ بالقياس، وزاحموا الفطرةَ والنبوَّة مزاحمةً أوجبت من مخالفتهم للفطرة والنبوَّة ما صاروا به مِن شياطين الإنس والجنِّ الذين يوحي بعضُهم إلى بعض زخرفَ القول غرورًا، بخلاف الطبِّ المحض فإنه علمٌ نافع، وكذلك الفقهُ المحض. وأما علمُ ما بعد الطبيعة, وإن كانوا يعظِّمونه، ويقولون: هو الفلسفة الأولى، وهو العلمُ الكلِّيُّ الناظرُ في الوجود ولواحقه، ويسمِّيه متأخِّروهم _________ (1) الأصل: «قد» تحريف, والمثبت من (ف). (2) الأصل: «اعلم» , والمثبت أشبه.

(الكتاب/283)


«العلم الإلهي» (1)، وزعم المعلِّمُ الأول (2) لهم أنه غايةُ فلسفتهم ونهايةُ حكمتهم= فالحقُّ فيه من المسائل قليلٌ نَزْر، وغالبُه علمٌ بأحكامٍ ذهنية لا حقائقَ خارجية (3). وليس على أكثره قياسٌ منطقي؛ فإن الوجود المجرَّد, والوجوب, والإمكان, والعلة المجرَّدة, والمعلول (4)، وانقسام ذلك إلى جزئي الماهيَّة وهما: المادة والصُّورة، وإلى علَّتي وجودها وهما (5): الفاعل والغاية، والكلام في انقسام الوجود إلى الجوهر والأعراض التسعة التي هي: الكمُّ, والكيف, والإضافة, والأين, ومتى, والوضع, والملك، وأن يفعل, وأن ينفعل، كما أنشد بعضُهم فيها (6): زيدُ, الطويلُ, الأسودُ, ابنُ مالكِ ... في داره, بالأمسِ, كان يتَّكِي في يده سيفٌ, نَضَاه, فانتَضى ... فهذه عشرُ مقولاتٍ سَوا _________ (1) كما في كتب ابن سينا ومن تبعه من المتفلسفة الإسلاميين. (2) وهو أرِسطو, والفارابي المعلم الثاني. (3) انظر: «الصفدية» (2/ 179) , و «درء التعارض» (6/ 246) , و «شرح الأصبهانية» (107, 316) , و «الرد على الشاذلي» (137, 195, 209) , و «الرد على المنطقيين» (126, 143, 325) , و «الرد على البكري» (580) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 83). (4) الأصل: «المعلوم» , وفي الطُّرة إشارة إلى أن في نسخة «المعلول». (5) الأصل في الموضعين: «وهو». (6) البيتان في «الكليات» (627) لبعض الفضلاء. واستشهد بهما المصنف دون نسبة في «الصفدية» (2/ 180, 274) , و «الجواب الصحيح» (5/ 28) , و «شرح الأصبهانية» (295) , و «الرد على المنطقيين» (132, 303) , و «الرد على الشاذلي» (194).

(الكتاب/284)


= ليس عليها ولا على أقسامها قياسٌ منطقي، بل غالبها مجرَّد استقراءٍ قد نُوزِعَ صاحبُه في كثيرٍ منه. فإذا كانت صناعتُهم بين علومٍ (1) لا يُحْتَاجُ فيها إلى القياس المنطقي، وبين ما لا يمكنُهم أن يستعملوا فيه القياسَ المنطقي، كان عديمَ الفائدة في علومهم، بل كان فيه مِن شغل القلب عن العلوم والأعمال النافعة ما ضرَّ كثيرًا من الناس، كما سدَّ على كثيرٍ منهم طريقَ العلم وأوقعَهم في أودية الضلال والجهل, فما الظنُّ بغير علومهم من العلوم التي لا تُحَدُّ (2) للأولين والآخرين (3). وأيضًا، لا تجدُ أحدًا من أهل الأرض حقَّق علمًا من العلوم وصار إمامًا فيه مستعينًا بصناعة المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والحُسَّابُ والكتَّابُ ونحوهم يحقِّقون ما يحقِّقون من علومهم وصناعاتهم بغير صناعة المنطق. وقد صُنِّف في الإسلام علومُ النحو واللغة والعَروض والفقه وأصوله والكلام وغير ذلك، وليس في أئمَّة هذه الفنون من كان يلتفتُ إلى المنطق، بل عامَّتهم كانوا قبل أن يُعَرَّبَ هذا المنطق الرُّومي. وأما العلومُ الموروثةُ عن الأنبياء صِرفًا، وإن كان الفقهُ وأصوله متصلًا _________ (1) الأصل: «معلوم» , تحريف. (2) الأصل: «التي تحد». والمثبت من (ط). (3) في طرة الأصل هنا: «في نسخة: وهذا يظهر بالوجه العاشر». ومرَّ نظير هذه الإشارة (ص: 130) , وسبق الكلام على ما تحتمله في مقدمة التحقيق (ص: 43).

(الكتاب/285)


بذلك، فهي أجلُّ وأعظمُ من أن يُظَنَّ أن لأهلها التفاتًا إلى المنطق؛ إذ ليس في القرون الثلاثة من هذه الأمَّة ــ التي هي خيرُ أمَّةٍ أخرِجت للناس, وأفضلُها القرون الثلاثة ــ من كان يلتفتُ إلى المنطق أو يعرِّجُ عليه، مع أنهم في تحقيق العلوم وكمالها بالغاية التي لا يُدْرِكُ أحدٌ شأوَها، كانوا أعمقَ الناس علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، وأبرَّها قلوبًا, ولا يوجدُ لغيرهم كلامٌ فيما تكلَّموا فيه إلا وجدتَ بين الكلامين من الفَرْق أعظمَ مما بين القَدَم والفَرْق (1). بل الذي وجدناه بالاستقراء (2) أن الخائضين في العلوم من أهل هذه الصِّناعة أكثرُ الناس شكًّا واضطرابًا، وأقلُّهم علمًا وتحقيقًا، وأبعدُهم عن تحقيق علمٍ موزون، وإن كان فيهم من قد يحقِّقُ شيئًا من العلم فذلك لصحَّة المادة والأدلة التي ينظرُ فيها، وصحَّة ذهنه وإدراكه، لا لأجل المنطق. بل إدخالُ صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطوِّلُ العبارة, ويبعِّدُ الإشارة، ويجعلُ القريبَ من العلم بعيدًا، واليسيرَ منه عسيرًا, ولهذا تجدُ من أدخله في الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك لم يُفِد إلا كثرةَ الكلام والتشقيق، مع قلَّة العلم والتحقيق, فعُلِم أنه مِن أعظم حَشْو الكلام، وأبعد الأشياء عن طريقة ذوي الأحلام. نعم لا يُنْكَر أن في المنطق ما قد يستفيدُ ببعضه من كان في كفرٍ وضلالٍ _________ (1) فرق الرأس. وهو جناسٌ تام. والعبارة ذائعة, رأيتها عند سبط ابن الجوزي في «إيثار الإنصاف» (275) , ثم في كلام النويري والذهبي والصفدي وغيرهم. (2) الأصل: «بالاستقراء أن من المعلوم». ولعلها مقحمة أو محالة عن موضعها سهوًا, أو أن في السياق تحريفًا أو سقطًا, والكلام مستقيمٌ بدونها.

(الكتاب/286)


وتقليدٍ لمن نشأ بينهم من الجهَّال، كعوامِّ النصارى واليهود والرافضة ونحوهم، فأورثهم المنطقُ تركَ ما عليه أولئك من تلك العقائد، ولكن يصيرُ غالبُ هؤلاء مُداهِنين لعوامِّهم مُضِلِّين لهم عن سبيل الله، أو يصيرون منافقين زنادقةً لا يُقِرُّون بحقٍّ ولا بباطل، بل يتركون الحقَّ كما تركوا الباطل. فأذكياءُ طوائف الضَّلال إما مُضِلُّون مداهنون وإما زنادقةٌ منافقون، لا يكادُ يخلو أحدٌ منهم عن هذين، فأما أن يكون المنطقُ وَقَفَهم على حقٍّ يهتدون به فهذا لا يقعُ بالمنطق. ففي الجملة، ما يحصلُ به لبعض الناس مِن شَحْذِ ذهنٍ أو رجوعٍ عن باطل أو تعبيرٍ عن حقٍّ، فإنما هو لكونه كان في أسوأ حال، لا لما في صناعة المنطق من الكمال. ومن المعلوم أن المشرك إذا تمجَّس، والمجوسيَّ إذا تهوَّد، حَسُنَت حالُه بالنسبة إلى ما كان فيه قبل ذلك، لكن لا يصلحُ أن يُجْعَل ذلك عمدةً لأهل الحقِّ المبين. وهذا ليس مختصًّا به، بل هذا شأنُ كلِّ من نظر في الأمور التي فيها دقَّةٌ ولها نوعُ إحاطة، كما تجدُ ذلك في علم النحو؛ فإنه من المعلوم أن لأهله من التحقيق والتدقيق والتقسيم والتحديد ما ليس لأهل المنطق، وأن أهلَه يتكلَّمون في صورة المعاني المعقولة على أكمل القواعد, فالمعاني فطريةٌ عقليةٌ لا تحتاجُ إلى وضعٍ خاص، بخلاف قوالبها التي هي الألفاظ، فإنها تتنوَّع، فمتى تعلموا أكمل الصُّور والقوالب للمعاني مع الفطرة الصحيحة كان ذلك أكملَ وأنفعَ وأعونَ على تحقيق العلوم من صناعةٍ اصطلاحيةٍ في أمورٍ فطريةٍ عقليةٍ لا يُحْتاجُ فيها إلى اصطلاحٍ خاص.

(الكتاب/287)


هذا لعَمْري في منفعته (1) في سائر العلوم, وأما منفعتُه في علم الإسلام خصوصًا فهذا أبينُ من أن يحتاجَ إلى بيان, ولهذا تجدُ الذين اتصلت إليهم علومُ الأوائل فصاغوها بالصِّيغة العربية بعقول المسلمين جاء فيها من الكمال والتحقيق والإحاطة والاختصار ما لا يوجدُ في كلام الأوائل، وإن كان في هؤلاء المتأخِّرين من فيه نفاقٌ وضلال، لكن عادت عليهم في الجملة بركةُ ما بُعِثَ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من جوامع الكَلِم, وما أوتيته أمَّتُه من العلم والبيان الذي لم يَشْرَكها فيه أحد. وأيضًا، صناعةُ المنطق وضعَها معلِّمُهم الأول أرسطو صاحبُ التعاليم التي لمبتدعة الصَّابئة يَزِنُ بها ما كان هو وأمثالُه يتكلَّمون فيه مِن حكمتهم وفلسفتهم التي هي غايةُ كمالهم, وهي قسمان: نظرية وعملية. فأصحُّ النظرية ــ وهي المدخلُ إلى الحق (2) ــ هي الأمورُ الحِسَابية الرياضية, وأما العملية فإصلاحُ الخُلُق والمنزل والمدينة. ولا ريب أن في ذلك مِن نوع العلوم والأعمال التي يتميَّزون بها عن جهَّال بني آدم الذين ليس لهم كتابٌ منزَّلٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ ما يستحقُّون به التقدُّم على ذلك. وفيه مِن منفعة صلاح الدنيا وعمارتها ما هو داخلٌ في ضمن ما جاءت به الرسل. وفيها أيضًا من قول الحقِّ واتباعه والأمر بالعدل والنهي عن الفساد ما هو داخلٌ في ضمن ما جاءت به الرسل. فهم بالنسبة إلى جهَّال الأمم ــ كبادية التُّرك ونحوهم ــ أمثلُ إذا خَلَوا _________ (1) أي علم النحو. (2) كذا في الأصل. والفلسفة النظرية عندهم هي العلمية ومنها العلم الإلهي.

(الكتاب/288)


عن ضلالهم، فأما مع ضلالهم فقد يكونُ الباقون على الفطرة من جهَّال بني آدم أمثلَ منهم. فأما أضلُّ أهل الملل مثل جهَّال النصارى وسامِرة اليهود فهم أعلمُ منهم وأهدى وأحكمُ وأتبعُ للحق. وهذا قد بسطته بسطًا كثيرًا في غير هذا الموضع. وإنما المقصود هنا بيان أن هذه الصناعة قليلةُ المنفعة عظيمةُ الحشو؛ وذلك أن الأمور العملية الخُلقية قلَّ أن يُنْتَفَع بصناعة المنطق فيها؛ إذ القضايا الكلِّية الموجبة وإن كانت توجدُ في الأمور العملية لكن أهل السياسة لنفوسهم ولأهلهم ولمُلْكِهم إنما ينالون تلك الآراء الكلِّية من أمورٍ لا يحتاجون فيها إلى المنطق، ومتى حصل ذلك الرأيُ كان الانتفاع به بالعمل. ثم الأمور العمليةُ لا تقفُ على رأيٍ كلِّي، بل متى عَلِم الإنسانُ انتفاعَه بعملٍ عَمِلَه، وأيَّ عملٍ (1) تضرَّر به تَرَكه, وهذا قد يعلمُه (2) بالحسِّ الظاهر أو الباطن لا يقفُ ذلك على رأيٍ كلِّي؛ فعُلِم أن أكثر الأمور العملية لا يصحُّ استعمالُ المنطق فيها. ولهذا كان المؤدِّبون لنفوسهم ولأهلهم السَّائسون لمُلْكِهم لا يَزِنُون آراءهم بالصِّناعة المنطقية, إلا أن يكون شيئًا يسيرًا، والغالبُ على من يسلكُه التوقُّفُ والتعطيل (3) , ولو كان أصحابُ هذه الآراء تقفُ معرفتُهم بها _________ (1) الأصل: «علم». (2) الأصل: «تعلمته». (3) التوقف عن العمل وتعطيله.

(الكتاب/289)


واستعمالُهم لها على وزنها بهذه الصناعة لكان تضرُّرهم بذلك أضعافَ انتفاعهم، مع أن جميعَ ما يأمرون به من العلوم والأخلاق والأعمال لا تكفي في النجاة من عذاب الله، فضلًا عن أن يكون محصِّلًا لنعيم الآخرة (1). قال تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38]، وكذلك قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} إلى قوله: {الْكَافِرُونَ} [غافر: 82 - 85] , فأخبر هنا بمثل ما أخبر به في الأعراف، أن هؤلاء المعرضين عما جاءت به الرُّسل لما رأوا بأسَ الله وحَّدوا الله وتركوا الشِّرك, فلم ينفَعْهم ذلك. وكذلك أخبَر عن فرعون ــ وهو كافرٌ بالتوحيد وبالرسالة ــ أنه لما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال الله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90، 91]. _________ (1) في طرة الأصل هنا: «قال في الأصل المقابل عليه لما وقف على قوله (فضلا عن أن يكون محصلًا لنعيم الآخرة): يتلوه الخط المعترض. ولم نر خطًّا معترضًا, وكتبنا من قوله (حتى إذا اداركوا) , وهو في أول الورقة المنكوسة, فاعرف ذلك». والورقة المشار إليها موجودة مع الأصل في هذا الموضع, وسياق الكلام بها مستقيم, وبعضها في منتخب الكتاب المنشور في «مجموع الفتاوى» (18/ 55 - 56) وسبق الكلام عليه في المقدمة.

(الكتاب/290)


وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173]. وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} إلى قوله: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 9، 10]. وهذا في القرآن في مواضعَ أُخَر، يبيِّن فيها أن الرُّسل كلهم أمروا بالتوحيد بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة شيءٍ من المخلوقات سواه أو اتخاذه إلاهًا، ويخبرُ أن أهل السَّعادة هم أهلُ التوحيد وأن المشركين هم أهلُ الشَّقاوة، وذكَر هذا عن عامَّة الرُّسل, ويبيِّن أن الذين لم يؤمنوا بالرُّسل مشركون. فعُلِم أن التوحيد والإيمان بالرُّسل متلازمان، وكذلك الإيمان باليوم الآخر هو والإيمان بالرُّسل متلازمان, فالثلاثة متلازمة؛ ولهذا يجمع بينها في مثل قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 150]. ولهذا أخبر أن الذين لا يؤمنون بالآخرة مشركون، فقال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الزمر: 45]. وأخبر عن جميع الأشقياء أن الرسل أنذرتهم باليوم الآخر، كما قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى} الآية [الملك: 8، 9] , فأخبر أن الرُّسل أنذرتهم، وأنهم كذَّبوا بالرسالة.

(الكتاب/291)


وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآية [الزمر: 71] , فأخبَر عن أهل النار أنهم قد جاءتهم الرسالة، وأُنذِرُوا باليوم الآخر. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} إلى قوله: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 128 ــ 130] , فأخبر عن جميع الجنِّ والإنس أن الرُّسلَ بلَّغَتهم رسالةَ الله وهي آياتُه, وأنهم أنذروهم اليومَ الآخر. وكذلك قال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَاءِهِ} الآية [الكهف: 103 ــ 105] , فأخبر أنهم كفَروا بآياته وهي رسالته، وبلقائه وهو اليوم الآخر. وقد أخبَر أيضًا في غير موضعٍ بأن الرسالة عمَّت بني آدم، وأن الرُّسل جاؤوا مبشِّرين ومنذرين، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 163 ــ 165]، وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام: 48، 49] , فأخبر أن من آمن بالرُّسل وأصلَحَ من الأولين والآخرين فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.

(الكتاب/292)


وقال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، ومثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية [البقرة: 62] , فذكَر أن المؤمنين بالله وباليوم الآخر مِن هؤلاء هم أهلُ النجاة والسَّعادة، وذكر في تلك الآية الإيمانَ بالرُّسل، وفي هذه الآية الإيمانَ باليوم الآخر؛ لأنهما متلازمان. وكذلك الإيمانُ بالرُّسل كلِّهم متلازم, فمن آمن بواحدٍ منهم فقد آمن بهم كلِّهم، ومن كفر بواحدٍ منهم فقد كفر بهم كلِّهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} الآية والتي بعدها [النساء: 150، 151] , فأخبر أن المؤمنين بجميع الرُّسل هم أهلُ السَّعادة، وأن المفرِّقين بينهم بالإيمان ببعضهم دون بعضٍ هم الكافرون حقًّا. وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 13 ــ 15]. فهذه الأصول الثلاثة: توحيدُ الله، والإيمانُ برسله، وباليوم الآخر, هي أمورٌ متلازمة (1). _________ (1) هنا نهاية الورقة المشار إليها (ص: 290). والسطر الأخير يشبه أن يكون فذلكة وتلخيصًا من الناسخ وليس من كلام المصنف.

(الكتاب/293)


والحاصلُ أن توحيدَ الله والإيمانَ برسله واليوم الآخر هي أمورٌ متلازمةٌ مع العمل الصالح، فأهلُ هذا الإيمان والعمل الصالح هم أهلُ السَّعادة من الأوَّلين والآخِرين، والخارجون عن هذا الإيمان مشركون أشقياء، فكلُّ من كذَّب الرُّسلَ فلا يكونُ إلا مشركًا، وكلُّ مشركٍ مكذِّبٌ للرُّسل، وكلُّ مشركٍ وكافرٍ بالرُّسل فهو كافرٌ باليوم الآخر، وكلُّ من كفر باليوم الآخر فهو كافرٌ بالرُّسل وهو مشرك. ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112، 113] , فأخبر أن جميعَ الأنبياء لهم أعداء، وهم شياطينُ الإنس والجنِّ، يوحي بعضُهم إلى بعضٍ القولَ المزخرَف، وهو المزيَّن المحسَّن، يَغُرُّون به, والغُرُور: التلبيسُ والتمويه. وهذا شأنُ كلِّ كلامٍ وكلِّ عملٍ يخالفُ ما جاءت به الرُّسل مِن أمر المتفلسفة والمتكلِّمة وغيرهم من الأوَّلين والآخرين. ثم قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} فأخبَر أن كلام أعداء الرُّسل تَصْغَى إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنون بالآخرة, فعُلِمَ أن مخالفةَ الرُّسل وتركَ الإيمان بالآخرة متلازمان، فمن لم يؤمن بالآخرة صَغَى إلى زُخْرُف أعدائهم، فخالفَ الرُّسل، كما هو موجودٌ في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمَّة. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ

(الكتاب/294)


يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} الآية [الأعراف: 52، 53] , فأخبر أن الذين تركوا اتباعَ الكتاب ــ وهو الرسالة ــ يقولون إذا جاء تأويله ــ وهو ما أخبَر به ــ: جاءت رسلُ ربِّنا بالحقِّ. وهذا كقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 ــ 126] , أخبَر أن الذين تركوا اتباعَ آياته يصيبُهم ما ذكرنا. فقد تبيَّن أن أصلَ السعادة وأصلَ النجاة من العذاب هو توحيدُ الله بعبادته وحده لا شريك له، والإيمانُ برسله واليوم الآخر، والعملُ الصالح. وهذه الأمورُ ليست في حِكمتهم وفلسفتهم المبتدَعة، ليس فيها الأمرُ بعبادة الله وحده والنهيُ عن عبادة المخلوقات، بل كلُّ شركٍ في العالم إنما حدث برأيِ جنسِهم (1)، إذ بينوا ما في الأرواح (2) والأجسام من القوى والطبائع، وأن صناعةَ الطلاسم والأصنام والتعبد لها يورثُ منافعَ ويدفعُ مضارَّ, فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له. ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم يَنْه عنه (3)، بل يقرُّ هؤلاء وهؤلاء، وإن _________ (1) انظر: «الرد على المنطقيين» (101 - 106, 137, 182, 283 - 289, 454). (2) (ط): «إذ بنوه على ما في الأرواح». (3) كابن سبعين وابن هود والتلمساني وأتباعهم من متفلسفة المتصوفة. انظر: «الرد على المنطقيين» (282) , و «الصفدية» (1/ 268) , و «مجموع الفتاوى» (14/ 164).

(الكتاب/295)


رجَّح الموحِّدين ترجيحًا ما، فقد يرجِّح غيرُه المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعًا. فتدبَّر هذا، فإنه نافعٌ جدًّا. ولهذا كان رؤوسهم المتقدِّمون والمتأخرون يأمرون بالشرك, فالأولون يسمُّون الكواكبَ «الآلهة الصغرى» (1)، ويعبدونها بأصناف العبادات، كذلك كانوا في ملَّة الإسلام لا ينهونَ عن الشرك ويوجبونَ التوحيد، بل يسوِّغون الشرك, أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد. وقد رأيتُ من مصنَّفاتهم في عبادة الكواكب (2) والملائكة وعبادة الأنفُس المفارِقة (3) ــ أنفُس الأنبياء وغيرهم ــ ما هو أصلُ الشرك. وهم إذا ادَّعوا التوحيدَ فإنما توحيدُهم بالقول لا بالعبادة والعمل, والتوحيدُ الذي جاءت به الرُّسل لا بدَّ فيه من التوحيد بإخلاص الدِّين لله وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيءٌ لا يعرفونه, والتوحيدُ الذي يدَّعونه إنما هو تعطيلُ حقائق الأسماء والصِّفات، وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك. _________ (1) كما تقدم (ص: 190). (2) ككتاب الرازي «السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم» , كما تقدم (ص: 80). وانظر: «درء التعارض» (7/ 139, 9/ 189) , و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 62, 3/ 143, 473) , و «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 219). (3) ذلك أن النفس الكاملة بعد مفارقة البدن تصير عقلًا عندهم, فإذا توجه إليها أحدٌ مستشفعًا فاضت الرحمة عليها ثم تفيض بتوسطها على من توجه إليها وتعلق بها. انظر: «الصفدية» (2/ 258) , و «الرد على المنطقيين» (103) , و «الرد على البكري» (167, 507 - 509) , و «مجموع الفتاوى» (1/ 168).

(الكتاب/296)


فلو كانوا موحِّدين بالقول والكلام ــ وهو أن يَصِفُوا الله بما وصفَته به رسلُه ــ لكان معهم التوحيدُ دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بدَّ من أن يُعبد الله وحده ويُتَّخَذ إلهًا دون ما سواه، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فكيف وهم في القول والكلام معطِّلون جاحدون، لا موحِّدون ولا مخلصون؟! وأما الإيمانُ بالرُّسل فليس فيه للمعلِّم الأول وذويه كلامٌ معروف، والذين دخلوا في المِلَل منهم آمنوا ببعض صفات الرُّسل وكفروا ببعض. وأما اليوم الآخر، فأحسنُهم حالًا من يقرُّ بمعاد الأرواح دون الأجساد, ومنهم من ينكرُ المعادَين جميعًا, ومنهم من يقرُّ بمعاد الأرواح العالِمة دون الجاهلة. وهذه الأقوال الثلاثة لمعلِّمهم الثاني أبي نصر الفارابي (1)، ولهم فيه من الاضطراب ما يُعْلَمُ به أنهم لم يهتدوا فيه لصوابٍ, وقد أضلُّوا بشبهاتهم من المنتسبين إلى المِلَل من لا يحصي عددَه إلا الله. فإذا كان ما به تحصلُ السَّعادةُ والنجاةُ من الشَّقاوة ليس عندهم أصلًا، كان ما يأمرون به من الأخلاق والأعمال والسياسات كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. وأما ما يذكرونه من العلوم النظرية فالصوابُ منها منفعتُه في الدنيا, وأما العلم الإلهيُّ فليس عندهم منه ما تحصلُ به النجاةُ والسعادة، بل وغالب ما _________ (1) انظر: «آراء أهل المدينة الفاضلة» (146) , و «شرح الأصبهانية» (721) , و «الجواب الصحيح» (6/ 11) , و «الصفدية» (2/ 266) , و «الرد على المنطقيين» (458) , و «مجموع الفتاوى» (2/ 86).

(الكتاب/297)


عندهم منه ليس بمتيقَّنٍ معلوم، بل قد صرَّح أساطينُ الفلسفة أن العلوم الإلهية لا سبيل فيها إلى اليقين، وإنما يُتَكلَّمُ فيها بالأحرى والأخلَق (1). فليس معهم فيها إلا الظن, {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]. ولهذا يوجدُ عندهم من المخالفة للرُّسل أمرٌ عظيمٌ باهر، حتى قيل مرَّةً لبعض الأشياخ الكبار (2) ممَّن يعرفُ الكلام والفلسفة والحديث وغير ذلك: ما الذي بين الأنبياء والفلاسفة؟ فقال: السيفُ الأحمر (3). ويريدُ الذي يسلكُ طريقتَهم أن يوفِّق بين ما يقولونه وبين ما جاءت به الرُّسل، فيدخلُ من السَّفْسَطة والقَرْمَطة في أنواعٍ من المُحَال الذي لا يرضاه عاقل، كما فعل أصحابُ «رسائل إخوان الصفا» وأمثالهم (4) , ومِن هنا ضلَّت القرامطةُ والباطنيةُ ومَن شَرَكَهم في بعض ذلك, وهذا بابٌ يطولُ وصفُه ليس الغرض هنا ذكره. وإنما الغرض أن معلِّمَهم وضعَ منطقَهم ليَزِنَ به ما يقولونه من هذه _________ (1) حكاه عنهم الرازي في «المطالب العالية» (1/ 41). وانظر: «الاستقامة» (1/ 79) , و «درء التعارض» (1/ 159) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 468, 4/ 106). (2) في «الصفدية» (2/ 227): «بعض شيوخنا الفضلاء». (3) كناية عن الحرب والعداوة. كما قال الذهبي في «العبر» (5/ 18) عن الرازي: «كان بينه وبين الكرامية السيف الأحمر، فينال منهم وينالون منه سبًّا وتكفيرًا، حتى قيل: إنهم سمُّوه فمات». (4) كأبي الوليد بن رشد وابن سينا. انظر: «الصفدية» (1/ 160) , و «الجواب الصحيح» (6/ 24) , و «بغية المرتاد» (199) , و «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 436) , و «الرد على الشاذلي» (145).

(الكتاب/298)


الأمور التي يخوضون فيها التي هي قليلةُ المنفعة، وأكثرُ منفعتها إنما هي في الأمور الدنيوية، وقد يستغنى عنها في الأمور الدنيوية أيضًا. فأما أن يوزنَ بهذه الصِّناعة ما ليس من علومهم وما هو فوق قَدْرهم، أو يوزنَ بها ما يوجبُ السعادةَ والنعيم, والنجاةَ من العذاب الأليم، فهذا أمرٌ ليس هو فيها، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]. والقومُ وإن كان لهم ذكاءٌ وفطنة، وفيهم زهدٌ وأخلاق، فهذا القَدْرُ لا يوجبُ السعادةَ والنجاة من العذاب إلا بالأصول المتقدمة من الإيمان بالله وتوحيده وإخلاص عبادته، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح. وإنما قوَّةُ الذكاء بمنزلة قوَّة البدن وقوَّة الإرادة، فالذي يؤتى فضائل علميةً وإراديةً بدون هذه الأصول بمنزلة من يؤتى قوَّةً في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول. وأهلُ الرأي والعلم بمنزلة أهل المُلك والإمارة، وكلٌّ من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعُه ذلك شيئًا إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويؤمن برسله وباليوم الآخر. وهذه الأمورُ متلازمة؛ فمن عبد الله وحده لزم أن يؤمنَ برسله ويقرَّ باليوم الآخر, واستحقَّ الثواب, وإلا كان من أهل الوعيد (1) , ولا يخلَّد عليه العذابُ (2) إلا إذا قامت (3) عليه الحجَّةُ بالرُّسل. _________ (1) انظر: «تفسير آيات أشكلت» (1/ 266). (2) كذا في الأصل, وفي الطرة: «في نسخة: ويخلد عليه العذاب, بغير لام». (3) الأصل: «هذا إذا قامت». وأرجو أن الصواب ما أثبت.

(الكتاب/299)


ولما كان كلُّ واحدٍ من أهل المُلك والعلم قد يعارضون الرُّسلَ وقد يتابعونهم، ذكَر الله ذلك في كتابه في غير موضع, فذكَر فرعون، والذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه لما آتاه الله المُلك، والملأ من قوم نوحٍ وعادٍ وغيرهم من المستكبرين المكذِّبين للرُّسل، وذكر قولَ علمائهم، كقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 83 - 85]. وقال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} إلى قوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} إلى قوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 4 ــ 35]، والسلطان هو الوحي المنزل من عند الله، كما ذكر ذلك في غير موضع، كقوله: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35]، وقوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71]، وقال ابنُ عباس: «كلُّ سلطانٍ في القرآن فهو الحجَّة». ذكره البخاريُّ في صحيحه (1). _________ (1) تعليقًا (6/ 82) , ووصله عبد الرزاق في تفسيره (1658) وغيره بإسنادٍ صحيح, وروي من وجوه أخرى, وخرجه الضياء في «المختارة» (10/ 335) , وصححه ابن حجر في «فتح الباري» (9/ 391).

(الكتاب/300)


وقد ذكَر في هذه السورة «سورة حم غافر» مِن حال مخالفي الرُّسل من الملوك والعلماء مثل مَقُول الفلاسفة وعلمائهم ومجادلتهم واستكبارهم ما فيه عبرة، مثل قوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]، ومثل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} إلى قوله: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 69 ــ 75]، وختم السورة بقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83]. وكذلك ذكَر في سورة الأنعام والأعراف وعامة السُّور المكية وطائفةٍ من السُّور المدنية، فإنها تشتملُ على خطاب هؤلاء, وضربِ الأمثال والمقاييس لهم، وذِكْرِ قصصهم وقصص الأنبياء وأتباعهم معهم. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] , فأخبَر بما مُكِّنوا فيه من أصناف الإدراكات والحركات, وأخبَر أن ذلك لم يُغْنِ عنهم حيثُ جحدوا بآيات الله، وهي الرسالةُ التي بعث بها رسله. ولهذا حدَّثني ابنُ الشيخ الحَصِيري عن والده الشيخ الحَصِيري شيخ

(الكتاب/301)


الحنفية في زمنه (1) , قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرًا ذكيًّا (2). قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} الآية [غافر: 21]، والقوَّة تعمُّ قوَّة الإدراك النظرية وقوَّة الحركة العملية. وقال في الآية الأخرى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} [غافر: 82]، فأخبر بفضلهم في الكمِّ والكيف، وأنهم أشدُّ في أنفسهم وفي آثارهم في الأرض. وقال تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا} الآية [غافر: 82، 83]، وقال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} إلى قوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} الآية [الروم: 6 ـ 11]، وقال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} إلى قوله: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 5]. _________ (1). الأصل: «الخضيري» في الموضعين. وهو محمود بن أحمد بن عبد السيد بن عثمان, جمال الدين الحَصِيري, نسبة إلى محلة ببخارى تنسجُ فيها الحُصُر, تفقه ببخارى, ورحل إلى الشام وولي تدريس المدرسة النُّورية (ت: 636). وابنه أحمد نظام الدين, من فضلاء الحنفية (ت: 698). انظر: «تاريخ الإسلام» (14/ 226, 15/ 885). (2). عاش ابن سينا شطر حياته ببخارى, وطلب العلم هناك, ونسبه المصنف مرة فقال: «ابن سينا البخاري». «جامع المسائل» (7/ 188).

(الكتاب/302)


وقد قال سبحانه عن أتباع هؤلاء الأئمَّة من أهل المُلْك والعلم المخالفين للرُّسل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} إلى قوله: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66 ــ 68]، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} إلى قوله: { ... قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47، 48]. ومثلُ هذا في القرآن كثير، يذكُر فيه مِن أقوال أعداء الرُّسل وأفعالهم وما أوتوه من قوى الإدراكات والحركات التي لم تنفعهم لمَّا خالفوا الرسل. وقد ذكر سبحانه ما في المنتسبين إلى أتباع الرُّسل من العلماء والعُبَّاد والملوك من النفاق والضلال في مثل قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] , {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يستعمَل لازمًا، يقال: صَدَّ صدودًا، أي: أعرَض، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]، ويقال: صدَّ غيرَه يَصُدُّه، والوصفان يجتمعان فيهم. ومثلِ قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51].

(الكتاب/303)


وفي «الصَّحيحين» (1) عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثلُ الأُترُجَّة طعمُها طيِّبٌ وريحُها طيِّب، ومثلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثلُ التمرة طعمُها طيِّبٌ ولا ريحَ لها، ومثلُ المنافق الذي يقرأ القرآن مثلُ الرَّيحانة ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مُرٌّ، ومثلُ المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثلُ الحنظلة طعمُها مرٌّ ولا ريحَ لها»، فبيَّن أن في الذين يقرؤون القرآن مؤمنين ومنافقين (2). فصل وهذا المقامُ لا أذكُر فيه مواردَ النزاع، فيقال: هو استدلالٌ على المختلِف بالمختلِف، لكن أنا أصِفُ جنسَ كلامهم، فأقول: لا ريب أن كلامهم كلَّه منحصرٌ في الحدود التي تفيدُ التصوُّرات، سواءٌ كانت الحدودُ حقيقيةً أو رسميةً أو لفظية، وفي الأقيسة التي تفيدُ التصديقات سواءٌ كانت أقيسةَ عمومٍ وشمولٍ أو شَبَهٍ وتمثيلٍ أو استقراءٍ وتتبُّع. وكلامهم غالبُه لا يخلو مِن تكلُّف، إما في العلم وإما في القول، إما أن يتكلَّفوا علمَ ما لا يعلمونه فيتكلَّمون بغير علم، أو يكون الشيءُ معلومًا لهم _________ (1). صحيح البخاري (5427) , ومسلم (797). (2). في الطرة عند هذا الموضع: بلغ مقابلة. وكتب الناسخ في المتن بعد ذلك نصًّا طويلًا لا صلة له بالسياق, ويبدو أنه كان في أوراق زحزحت عن موضعها في النسخة التي نقل عنها ووضعت هاهنا خطأ, ومكانها الصحيح تقدم (ص: 54 - 69) , وقد أحسن ناسخ النسخة الفرع التي طبع عنها الكتاب حين تنبه لذلك وردَّ هذا النص لحاقِّ موضعه, ولم ينبه عليه في المطبوعة.

(الكتاب/304)


فيتكلَّفون مِن بيانه ما هو زيادةٌ وحشوٌ وعناءٌ وتطويلُ طريق. وهذا من المنكر المذموم في الشَّرع والعقل، قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وفي «الصَّحيح» (1) عن عبد الله بن مسعود قال: «أيها الناس، من عَلِمَ علمًا فليَقُلْ به، ومن لم يعلم فليَقُلْ: لا أعلم؛ فإن من العلم أن يقول الرجلُ لما لا يعلم: لا أعلم». وقد ذمَّ الله القولَ بغير علمٍ في كتابه، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] لا سيَّما القولَ على الله، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وكذلك ذمَّ الكلام الكثيرَ الذي لا فائدة فيه، وأمرَ بأن نقول القولَ السَّديد والقولَ البليغ (2). وهؤلاء كلامهم في الحدود غالبُه من الكلام الكثير الذي لا فائدة فيه، بل قد يكثُر كلامهم في الأقيسة والحُجَج, كثيرٌ منه كذلك (3)، وكثيرٌ منه باطل، وهو قولٌ بغير علم، وقولٌ لخلاف الحقِّ. أما الأول، فإنهم يزعمون أن الحدودَ التي يذكرونها يُفِيدُون بها تصوُّر الحقائق، وأن ذلك إنما يتمُّ بذكر الصِّفات الذاتية المشتركة والمميِّزة، حتى _________ (1). صحيح البخاري (4774, 4809). (2). كما في آيتي النساء: 9, 63, والأحزاب: 70. (3). أي كثير منه لا فائدة فيه. وفي الأصل: «كثيرا منه كذلك».

(الكتاب/305)


رُكِّبَ الحدُّ (1) من الجنس المشترك والفصل المميِّز. وقد يقولون: إن التصوُّرات لا تحصلُ إلا بالحدود، ويقولون: الحدود المركَّبة لا تكونُ إلا للأنواع المركَّبة من الجنس والفصل دون الأنواع البسيطة. وقد ذكرتُ في غير هذا الموضع ملخَّص المنطق ومضمونَه، وأشرتُ إلى بعض ما دخل به على كثيرٍ من الناس من الخطأ والضلال، وليس هذا موضع بسط ذلك (2)، لكن نذكرُ وجوهًا: الأول: قولهم: «إن التصوُّر الذي ليس ببديهيٍّ لا يُنَالُ إلا بالحدِّ» باطل؛ لأن الحدَّ هو قولُ الحادِّ, فإن الحدَّ هنا هو القولُ الدالُّ على ماهية المحدود, فالمعرفةُ بالحدِّ لا تكونُ إلا بعد الحدِّ؛ فإن الحادَّ الذي ذكر الحدَّ إن كان عَرَفَ المحدودَ بغير حدٍّ بطَل قولُهم: «لا يُعْرَفُ إلا بالحدِّ»، وإن كان عَرَفه بحدٍّ آخر فالقولُ فيه كالقول في الأول، فإن كان هذا الحادُّ عرفه بعد الحدِّ الأول لَزِمَ الدَّور، وإن كان بآخر (3) لَزِمَ التسلسل. الثاني: أنهم إلى الآن لم يَسْلَم لهم حدٌّ لشيءٍ من الأشياء إلا ما يدَّعيه بعضهم وينازعُه فيه آخرون, فإن كانت الأشياء (4) لا تُتَصوَّر إلا بالحدود لَزِمَ ألا يكون إلى الآن أحدٌ عرَف شيئًا من الأمور، ولم يبقَ أحدٌ ينتظر _________ (1). (ط): «يركب الحد». (2). سبق القول في المقدمة (ص: 16 - 20) عما كتبه المصنف في الرد على المنطق. (3). (ط): «تأخر». (4). الأصل: «الاصول». والمثبت يدل عليه السياق, وانظر: «الرد على المنطقيين» (8).

(الكتاب/306)


صحَّتَه؛ لأن الذي يذكرُه يحتاجُ إلى معرفةٍ بغير حدٍّ وهي متعذِّرة (1)، فلا يكونُ لبني آدم شيءٌ من المعرفة. وهذه سفسطةٌ غاية (2). الثالث: أن المتكلِّمين بالحدود طائفةٌ قليلةٌ في بني آدم، لا سيَّما الصِّناعة المنطقية، فإن واضعها أرسطو، وسَلَك خلفه فيها طائفةٌ من بني آدم. ومن المعلوم أن علومَ بني آدم عامَّتِهم وخاصَّتِهم حاصلةٌ بدون ذلك؛ فبَطَل قولهم: إن المعرفة متوقفةٌ عليها. أما الأنبياء فلا ريب في استغنائهم عنها، وكذلك أتباعُ الأنبياء من العلماء والعامَّة؛ فإن القرون الثلاثة من هذه الأمة الذين كانوا أعلمَ بني آدم علومًا ومعارفَ لم يكن تكلُّف هذه الحدود من عادتهم، لم يبتدعوها, ولم تكن عُرِّبَت الكتبُ الأعجميةُ الرُّوميةُ لهم، وإنما حدثت مِن مبتدعة المتكلمين والفلاسفة، ومن حين حدثت فيهم (3) صار بينهم من الاختلاف والجهل ما لا يعلمُه إلا الله. وكذلك علمُ الطبِّ والحساب وغير ذلك، لا تجدُ أئمَّة هذه العلوم يتكلَّفون هذه الحدودَ المركَّبة من الجنس والفصل إلا من خَلَط ذلك بصناعتهم من أهل المنطق. _________ (1). الأصل: «متعددة». تحريف. (2). أي غاية السفسطة ومنتهاها. والكلمة غير محررة في الأصل, رسم الحرف الثالث قريب من اللام, ويحتمل أن تكون: عظيمة أو غالية. وفي (ط): «سفسطة ومغالطة». وفي «الرد على المنطقيين» (8): «وهذا من أعظم السفسطة». (3). الأصل: «بينهم». وهو خطأ.

(الكتاب/307)


وكذلك النُّحاة, مثل سيبويه الذي ليس في العالَم مثلُ كتابه (1)، وفيه حكمةُ لسان العرب، لم يتكلَّف فيه حدَّ الاسم والفاعل ونحو ذلك، كما فعل غيرُه. ولما تكلَّف النحاةُ حدَّ الاسم ذكروا حدودًا كثيرة كلُّها مطعونٌ فيها عندهم. وكذلك ما تكلَّف متأخِّروهم من حدِّ الفاعل والمبتدأ والخبر ونحو ذلك، لم يدخل فيه عندهم من هو إمامٌ في الصِّناعة ولا حاذقٌ فيها. وكذلك الحدودُ التي يتكلَّفها بعض الفقهاء للطَّهارة والنجاسة وغير ذلك من معاني الأسماء المتداولة بينهم، وكذلك الحدودُ التي يتكلَّفها الناظرون في أصول الفقه لمثل الخبر والقياس والعِلم وغير ذلك= لم يدخل فيها إلا من ليس بإمامٍ في الفن، وإلى الساعة لم يَسْلَم لهم حدٌّ، وكذلك حدودُ أهل الكلام. فإذا كان حذَّاقُ بني آدم في كلِّ فنٍّ من العلم أحكَمُوه بدون هذه الحدود المتكلَّفة بَطَل توقُّفُ المعرفة عليها. وأما علومُ بني آدم الذين لا يصنِّفون الكتب، فهي مما لا يحصيه إلا الله، ولهم من البصائر والمكاشَفات والتحقيق والمعارف ما ليس لأهل هذه _________ (1). وقال عنه في «النبوات» (172): إنه «مما لا يقدر على مثله عامةُ الخلق». وقال في «بيان تلبيس الجهمية» (8/ 333): «كتاب سيبويه في النحو إذا فهمه الإنسان كان لسيبويه في قلبه من الحرمة ما لم يكن قبل ذلك». وقال: «كتاب سيبويه في العربية لم يصنَّف بعده مثله» , ويسميه: «حكيم لسان العرب». «مجموع الفتاوى» (11/ 370, 12/ 460). فهذا هو رأي ابن تيمية فيه وإجلاله له وتنويهه بقدره, أما ما وقع بينه وبين أبي حيان من الملاحاة في القصة المشهورة فمما يقع مثله في مواطن الغضب والانتصار للنفس.

(الكتاب/308)


الحدود المتكلَّفة، فكيف يجوزُ أن تكون معرفةُ الأشياء وقفًا عليها؟! الرابع: أن الله جعَل لابن آدم من الحسِّ الظاهر والباطن ما يحسُّ به الأشياء ويعرفُها، فيعرفُ بسمعه وبصره وشمِّه وذوقه ولمسِه الظاهرِ ما يعرف، ويعرفُ أيضًا بما يشهدُه ويحسُّه بنفسه وقلبه ما هو أعظمُ من ذلك. فهذه هي الطرقُ التي تُعْرَفُ بها الأشياء. فأما الكلامُ فلا يُتَصَوَّرُ أن يَعْرِفَ بمجرَّده مفرداتِ الأشياء إلا بقياس (1) تمثيلٍ أو تركيب ألفاظ، وليس شيءٌ من ذلك يفيدُه تصوُّرَ الحقيقة. فالمقصودُ أن الحقيقة إن تصوَّرها بباطنه أو ظاهره استغنى عن الحدِّ القولي، وإن لم يتصوَّرها بذلك امتنع أن يتصوَّر حقيقتَها بالحدِّ القولي، وهذا أمرٌ محسوسٌ يجدُه الإنسانُ من نفسه؛ فإن من عرفَ المحسوسات المَذُوقة مثلًا كالعسل لم يُفِدْه الحدُّ تصوُّرَها, ومن لم يَذُق ذلك كمن أُخْبِر عن السُّكَّر وهو لم يَذُقه لم يمكِن أن يتصوَّر حقيقتَه بالكلام والحدِّ، بل يُمَثَّل له ويقرَّبُ إليه، ويقال له: طعمُه يشبه كذا أو يشبه كذا وكذا، وهذا التشبيه والتمثيل ليس هو التحديدَ الذي يدَّعونه. وكذلك المحسوساتُ الباطنة، مثل الغضب والفرح والحزن والغَمِّ والعلم ونحو ذلك، مَن وَجَدها فقد تصوَّرها، ومن لم يجدها لم يمكِن أن يتصوَّرها بالحدِّ, ولهذا لا يتصوَّر الأكمهُ الألوانَ بالحدِّ، ولا العِنِّينُ الوِقَاعَ بالحدِّ. _________ (1). الأصل: «لقياس».

(الكتاب/309)


فكان (1) القائلُ بأن الحدود هي التي تفيدُ تصوُّرَ الحقائق قائلًا للباطل المعلوم بالحسِّ الباطن والظاهر. الخامس: أن الحدود إنما هي أقوالٌ كُلِّية، كقولنا: حيوانٌ ناطق، ولفظٌ يدلُّ على معنى, ونحو ذلك، فتصوُّر معناها لا يمنعُ من وقوع الشَّرِكة فيها، وإن كانت الشَّركةُ ممتنعةً لسببٍ آخر فهي إذن لا تدلُّ على حقيقةٍ معينةٍ بخصوصها، وإنما تدلُّ على معنًى كُلِّي, والمعاني الكُلِّية وجودُها في الذهن لا في الخارج، فما في الخارج لا يتعيَّن ويُعْرَفُ بمجرَّد الحد، وما في الذهن ليس هو حقائق الأشياء، فالحدُّ لا يفيدُ تصوُّر حقيقةٍ أصلًا. السادس: أن الحدَّ من باب الألفاظ، واللفظُ لا يدلُّ المستمعَ على معناه إن لم يكن قد تصوَّر مفرداتِ اللفظ بغير اللفظ؛ لأن اللفظَ المفرد لا يدلُّ المستمعَ على معناه إن لم يَعْلَم أن اللفظ موضوعٌ للمعنى، ولا يَعْرِفُ ذلك حتى يَعْرِفَ المعنى. فتصوُّر المعاني المفردة يجبُ أن يكون سابقًا على فهم المراد بالألفاظ، فلو استُفِيد تصوُّرها من الألفاظ لَزِم الدَّور، وهذا أمرٌ محسوس؛ فإن المتكلِّم باللفظ المفرد إن لم يبيِّن للمستمع معناه حتى يدركه بحسِّه أو بنظره وإلا لم يتصوَّر إدراكه له بقولٍ مؤلَّفٍ من جنسٍ وفصل. السابع: أن الحدَّ هو الفصلُ والتمييزُ بين المحدود وغيره، فيفيدُ ما تفيدُه الأسماء من التمييز والفصل بين المسمَّى وبين غيره، فهذا لا ريبَ فيه أنها تفيدُ التمييز, فأما تصوُّر حقيقةٍ فلا، لكنها قد تفصِّلُ ما دلَّ عليه الاسم _________ (1). الأصل: «فان». (ط): «فإذن». (ف): «فإذا». والمثبت أشبه.

(الكتاب/310)


بالإجمال، وليس ذلك من إدراك الحقيقة في شيء, ولا يشترطُ (1) في ذلك أن تكون الصِّفاتُ ذاتية، بل هي بمنزلة التقسيم والتجزيء (2) للكل، كالتقسيم لجزئياته (3). ويظهر ذلك: بالوجه الثامن: وهو أن الحسَّ الباطن والظاهر يفيدُ تصوُّر الحقيقة تصوُّرًا مطلقًا، أما عمومُها وخصوصُها فهو من حكم العقل؛ فإن القلب يَعْقِلُ معنًى من هذا المعيَّن ومعنًى يماثلُه من هذا المعيَّن، فيصيرُ في القلب معنًى عامًّا مشتركًا، وذلك هو عقلُه، أي عقلُه للمعاني الكُلِّية. فإذا عَقَل معنى الحيوان (4) الذي يكونُ في هذا الحيوان وهذا الحيوان، ومعنى الناطق الذي يكونُ في هذا الإنسان وهذا الإنسان، وهو مختصٌّ به= عَقَل أن في نوع الإنسان معنًى يكونُ نظيرُه في الحيوان (5)، ومعنًى ليس له نظيرٌ في الحيوان. فالأول هو الذي يقال له: الجنس, وهذا الذي يقال له: الفصل, وهما موجودان في النوع. فهذا حقٌّ، ولكن لم يستَفِد بهذا اللفظ ما لم يكن يعرفُه بعقله من أن هذا _________ (1). مشتبهة في الأصل. وفي (ط): «والشرط» , وهو محيلٌ للمعنى الذي يريده المصنف وسيبسطه في الوجه التاسع. والصواب ما أثبت. (2). الأصل: «والتحديد». تحريف. (3). الأصل: «لخبرياته». والمثبت من (ط) , وهو الصواب. (4). كذا في الأصل. وفي (ط): «الحيوانية». ويشهد لما في الأصل قوله بعده: «ومعنى الناطق». (5). الأصل: «في هذا الحيوان».

(الكتاب/311)


المعنى عامٌّ للإنسان ولغيره من الحيوان، بمعنى أن ما في هذا نظيرُ ما في هذا؛ إذ ليس في الأعيان الخارجة عموم, وهذا المعنى يختصُّ بالإنسان, فلا فرق بين قولك: الإنسانُ حيوانٌ ناطق والإنسان هو الحيوان الناطق, إلا من جهة الإحاطة والحصر في الثاني، لا من جهة تصوير حقيقته باللفظ. والإحاطة والحصرُ هو التمييزُ الحاصلُ بمجرَّد الاسم، وهو قولك: إنسانٌ وبَشَر, فإن هذا الاسم إذا فُهِمَ مسمَّاه أفاد من التمييز ما أفاده الحيوانُ الناطقُ في سلامته عن المطاعن. وأما تصوُّر أن فيه معنًى عامًّا ومعنًى خاصًّا، فليس هذا من خصائص الحدِّ، كما تقدم. والذي يختصُّ بالحدِّ ليس إلا مجرَّد التمييز الحاصل بالأسماء. وهذا بيِّنٌ لمن تأمَّله. وأما إدراكُ صفاتٍ فيه بعضها مشتركٌ وبعضها مختصٌّ، فلا ريب أن هذا قد لا يُتَفطَّنُ له بمجرَّد الاسم، لكن هذا يُتَفطَّنُ له بالحدِّ وبغير الحدِّ. فليس في الحدِّ إلا ما يوجدُ في الأسماء، أو في الصِّفات التي تُذْكَر للمسمَّى. وهذان نوعان معروفان: الأول: معنى الأسماء المفردة. والثاني: معرفة الجمل المركَّبة الاسمية والفعلية التي يُخْبَر بها عن الأشياء وتوصفُ بها الأشياء. وكلا هذين النوعين لا يفتقرُ إلى الحدِّ المتكلَّف. فثبت أن الحدَّ ليس فيه فائدةٌ إلا وهي موجودةٌ في الأسماء والكلام بلا تكلُّف، فسقطت فائدةُ خصوص الحدِّ.

(الكتاب/312)


الوجه التاسع: أن العلمَ بوجود صفاتٍ مشتركةٍ ومختصَّةٍ حقٌّ، لكن التمييز بين تلك الصِّفات بجعل بعضها ذاتيًّا تتقوَّم منه حقيقةُ المحدود، وبعضها [عَرَضيًّا] (1) لازمًا لحقيقة المحدود= تفريقٌ باطل، بل جميعُ الصِّفات الملازمة للمحدود طردًا وعكسًا هي جنسٌ واحد، فلا فرق بين الفصل والخاصَّة، ولا بين الجنس والعَرَض العام. وذلك أن الحقيقة المركَّبة من تلك الصِّفات إما أن يُعنى بها الخارجة, أو الذهنية, أو شيءٌ ثالث. فإن عُنِيَ بها الخارجة فالنطقُ والضحكُ في الإنسان حقيقتان لازمتان تختصَّان به. وإن عُنِيَ الحقيقة التي في الذهن فالذهنُ يعقِلُ اختصاصَ هاتين الصفتين به دون غيره. وإن قيل: بل إحدى الصفتين يتوقفُ عقلُ الحقيقة عليها، فلا يُعْقَلُ الإنسانُ في الذهن حتى يُفْهَمَ النطق، وأما الضحكُ فهو تابعٌ لفهم الإنسان, وهذا معنى قولهم: «الذاتيُّ ما لا يُتَصَوَّر فهمُ الحقيقة دون فهمه، أو ما تقفُ (2) الحقيقةُ في الذهن والخارج عليه» (3). قيل: إدراكُ الذهن أمرٌ نسبيٌّ إضافي، فإن كونَ الذهن لا يفهمُ هذا إلا بعد هذا أمرٌ يتعلَّق بنفس إدراك الذهن، ليس هو شيئًا ثابتًا للموصوف في _________ (1). سقطت من الأصل. (2). مهملة في الأصل. (3). انظر: «محك النظر» (211) , و «معيار العلم» (98, 249) , و «الرد على المنطقيين» (63, 80) , و «درء التعارض» (3/ 327).

(الكتاب/313)


نفسه، فلا بدَّ أن يكون الفرقُ بين الذاتي والعَرَضي بوصفٍ ثابتٍ في نفس الأمر، سواءٌ حصل الإدراكُ له أو لم يحصل, إذ (1) كان أحدهما جزءًا للحقيقة دون الآخر, وإلا فلا. الوجه العاشر: أن يقال: كونُ الذهن لا يعقلُ هذا إلا بعد هذا، إن كان إشارةً إلى أذهانٍ معينةٍ [هي] التي تصوَّرت هذا لم [يكن] هذا حجَّة؛ لأنهم هم وضعوها (2) هكذا. فيكونُ التقدير: أن ما قدَّمناه في أذهاننا على الحقيقة فهو الذاتي، وما أخَّرناه فهو العَرَضي. ويعودُ الأمر إلى أنا تحكَّمنا بجعل بعض الصِّفات ذاتيًّا وبعضها عَرَضيًّا لازمًا. وإن [كان] الأمرُ كذلك [كان] هذا الفرقانُ مجرَّد تحكمٍ بلا سلطان. ولا يُسْتَنكَرُ لهؤلاء أن يجمعوا بين المفترقَين (3) , ويفرِّقوا بين المتماثلَين, فما أكثر هذا في مقاييسهم التي ضلُّوا بها وأضلوا, وهم أولُ من أفسَد دينَ المسلمين، وابتدَع ما غيَّر به مذهبَ الصَّابئة المهتدين. وإن قالوا: بل جميعُ أذهان بني آدم أو الأذهانُ الصَّحيحة لا تُدْرِكُ الإنسانَ إلا بعد خُطور نطقِه ببالها دون ضَحِكه. قيل لهم: هذا ليس بصحيح، ولا يكاد يوجدُ هذا الترتيبُ إلا فيمن تقلَّد عنكم هذه الحدود مِن المقلِّدين لكم في الأمور التي جعلتموها ميزانَ المعقولات، وإلا فبنو آدم قد لا يخطرُ لأحدهم أحدُ الوصفين، وقد يخطرُ له _________ (1). الأصل: «إن». والمثبت أشبه. (2). الأصل: «وضعوا». (3). الأصل: «الفرقين».

(الكتاب/314)


هذا دون هذا وبالعكس، ولو خطَر له الوصفان وعرَف أن الإنسان حيوانٌ ناطقٌ ضاحكٌ لم يكن بمجرَّد معرفته هذه الصِّفات مدركًا لحقيقة الإنسان أصلًا. وكلُّ هذا أمرٌ محسوسٌ معقول, فلا يغلِّط العاقلُ نفسَه في ذلك لهيبة التقليد لهؤلاء الذين هم من أكثر الخلق ضلالًا ودعوى للتحقيق، فهم في الأوائل كمتكلِّمة الإسلام في الأواخر, ولما كان المسلمون خيرًا من أهل الكتابَيْن والصَّابئين كانوا خيرًا منهم وأعلم وأحكم، فتدبَّر هذا, فإنه نافعٌ جدًّا. ومِن هنا يقولون: الحدودُ الذاتية عَسِرَة (1)، وإدراكُ الصِّفات الذاتية صعب، وغالبُ ما بأيدي الناس حدودٌ رسمية؛ وذلك كلُّه لأنهم وضعوا تفريقًا بين شيئين بمجرَّد التحكُّم الذي هم أدخلوه. ومن المعلوم أن ما لا حقيقة له في الخارج ولا في المعقول، وإنما هو ابتداعُ مبتدعٍ وَضَعَه وفرَّق به بين المتماثلَين فيما تماثلا فيه= لا تعقلُه القلوبُ الصحيحة, إذ ذاك من _________ (1). انظر: «الرد على المنطقيين» (9, 21, 30) , و «معيار العلم» (282) , و «المستصفى» (1/ 53) , و «حكمة الإشراق» للسهروردي (21) , و «أساس الاقتباس» للطوسي (441) , وشرحه على «الإشارات» (1/ 152) , وقال ابن سينا في فاتحة رسالته في الحدود (74 - تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات): إنه «كالأمر المتعذِّر على البشر» , وكلام المنطقيين والمتكلمين في هذا كثير, وخالف في ذلك أبو البركات بن ملكا في «المعتبر» (1/ 64 - 69) وردَّ على ابن سينا في فصل «حكاية ما أورده من استصعب قانون التحديد وجعله في حدود الامتناع وتسهيل تلك الصعوبة وتجويز ذلك الممتنع» , ولم يأت بشيء سوى تجويز الحدِّ الاسمي.

(الكتاب/315)


باب معرفة المذاهب الفاسدة التي لا ضابط لها (1)، وأكثرُ ما تجدُ هؤلاء الأجناس يعظِّمونه من معارفهم ويدَّعون اختصاصَ فضلائهم به هو من الباطل الذي لا حقيقةَ له، كما نبَّهنا على هذا فيما تقدَّم. الوجه الحادي عشر: قولهم: «الحقيقة مركَّبةٌ من الجنس والفصل، والجنسُ هو الجزء المشترك, والفصل هو الجزء المميِّز». يقال لهم: هذا التركيبُ إما أن يكون في الخارج أو في الذهن. فإن كان في الخارج فليس في الخارج نوعٌ كُلِّيٌّ يكونُ محدودًا بهذا الحدِّ إلا الأعيان المحسوسة، والأعيانُ في كلِّ عينٍ صفةٌ يكونُ نظيرُها لسائر الحيوانات, كالحِسِّ والحركة الإرادية، وصفةٌ ليس مثلُها لسائر الحيوان وهي النطق, وفي كل عينٍ يجتمعُ هذان الوصفان، كما يجتمعُ سائر الصِّفات والجواهر القائمة لأمور مركَّبةٍ من الصِّفات المحمولة فيها. وإن أردتم بالحيوانية والناطقية جوهرًا فليس في الإنسان جوهران أحدهما حيٌّ والآخر ناطق، بل جوهرٌ واحد له صفتان, فإن كان الجوهرُ مركَّبًا من عَرَضين لم يصحَّ, وإن كان من جوهرٍ عامٍّ وخاصٍّ فليس فيه ذلك، فبطَل كونُ الحقيقة الخارجة مركَّبة. وإن جعلوها تارةً جوهرًا وتارةً صفة، كان ذلك بمنزلة قول النصارى في الأقانيم، وهو من أعظم الأقوال تناقضًا باتفاق العلماء. وإن قالوا: المركَّبُ الحقيقةُ الذهنيةُ المعقولة، قيل أولًا: تلك ليست _________ (1). انظر ما تقدم (ص: 173).

(الكتاب/316)


هي المقصودةُ بالحدود إلا أن تكون مطابقةً للخارج، فإن لم يكن هناك تركيبٌ لم يصحَّ أن يكون في هذه تركيب، وليس في الذهن إلا تصوُّر الحيِّ الناطق, وهو جوهرٌ واحدٌ له صفتان كما قدَّمنا، فلا تركيبَ فيه بحال. واعلم أنه لا نزاع أن صفات الأنواع والأجناس منها ما هو مشتركٌ بينها وبين غيرها، كالجنس والعَرَض العامِّ، ومنها ما هو لازمٌ للحقيقة، ومنها ما هو عارضٌ لها وهو ما ثبت لها في وقتٍ دون وقتٍ كالبطيء الزَّوال وسريعِه، وإنما الشأنُ في التفريق بين الذاتيِّ والعَرَضيِّ اللازم، فهذا هو الذي مدارُه على تحكُّم ذهن الحادِّ. ولا تنازُع في أن بعض الصِّفات قد يكونُ أظهرَ وأشرف، فإن النطقَ أشرفُ من الضحك وأهمُّ (1)، ولهذا ضرب الله به المثلَ في قوله: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، ولكن الشأن في جعل هذا ذاتيًّا تُتَصَوَّرُ به الحقيقة دون الآخر. الوجه الثاني عشر: أن هذه الصِّفات الذاتية قد تُعْلَمُ ولا يُتَصَوَّرُ بها كُنْهُ المحدود، كما في هذا المثال وغيره، فعُلِمَ أن ذلك ليس بموجِبٍ لفهم الحقيقة. الثالث عشر: أن الحدَّ إذا كان له جزءان، فلا بدَّ لجزأيه مِن تصوُّر، كالحيوان والناطق، فإن احتاج كلُّ جزءٍ إلى حدٍّ لزم التسلسلُ أو الدَّور. فإن كانت الأجزاء متصوَّرةً بنفسها بلا حدٍّ, وهو تصوُّر الحيوان، أو _________ (1). غير محررة في الأصل, وسقطت من (ط).

(الكتاب/317)


الحسَّاس، أو المتحرِّك بالإرادة، أو النامي، أو الجسم, فمن المعلوم أن هذه أعمُّ. وإذا كانت أعمَّ يكون (1) إدراكُ الحسِّ لأفرادها أكثر، فإن كان إدراكُ الحسِّ لأفرادها كافيًا في التصوُّر فالحسُّ قد أدرك أفراد النوع, وإن لم يكن كافيًا في ذلك لم تكن الأجزاءُ متصوَّرة (2)، فيحتاجُ المعرِّفُ إلى معرِّف، وأجزاء الحدِّ إلى حدٍّ. الرابع عشر: أن الحدود لا بدَّ فيها من التمييز، وكلَّما قلَّت الأفرادُ كان التمييزُ أيسر، وكلَّما كثرت كان أصعب، فضبطُ العقل لكلِّيٍّ تقلُّ أفرادُه مع ضبط كونه كليًّا أيسرُ عليه مما كثرت أفرادُه، وإن كان إدراكُ الكُلِّيِّ الكثير الأفراد أيسرَ عليه فذاك إذا أدركه مطلقًا؛ لأن المطلق يحصلُ بحصول كلِّ واحدٍ من الأفراد. وإذا كان كذلك (3) فأقلُّ ما في أجزاء المحدود أن تكون متميِّزةً تميُّزًا كليًّا؛ ليُعْلَم كونها صفةً للمحدود أو محمولةً عليه أم لا؟ فإذا كان ضبطُها كلِّيةً أصعبَ وأتعبَ من ضبط أفراد المحدود كان ذلك تعريفًا للأسهل معرفةً بالأصعب معرفة (4)، وهذا عكسُ الواجب. الخامس عشر: أن الله سبحانه علَّم آدم الأسماء كلَّها، وقد ميَّز كلَّ مسمَّى باسمٍ يدلُّ على ما يفصلُه من الجنس المشترك ويخصُّه دون ما سواه، ويبيِّن به ما يرتسمُ معناه في النفس. _________ (1). الأصل: «بكون». تحريف. (2). الأصل: «معروفه». تحريف. (3). الأصل: «ذلك». وسيأتي نظيره (ص: 331)، وهو مألوفٌ من أسلوب المصنف. (4). الأصل و (ف): «مفردة» , والمثبت من (ط) أظهر.

(الكتاب/318)


ومعرفةُ حدود الأسماء واجبة؛ لأنه بها تقومُ مصلحةُ بني آدم في النُّطق (1) الذي جعله الله رحمةً لهم، لا سيَّما حدود ما أنزل الله في كتبه من الأسماء, كالخمر والربا, فهذه الحدودُ هي الفاصلةُ المميِّزة بين ما يدخُل في المسمَّى ويتناولُ ذلك الاسم وما دلَّ عليه من الصِّفات وبين ما ليس كذلك؛ ولهذا ذمَّ الله من سمَّى الأشياء بأسماءٍ ما أنزل الله بها من سلطان، فإنه أثبت للشيء صفةً باطلة, كإلهية الأوثان. فالأسماء النُّطقية (2) سمعية، وأما نفسُ تصوُّر المعاني ففطريٌّ يحصلُ بالحسِّ الباطن والظاهر، وبإدراك الحسِّ وشهوده يبصرُ الإنسانُ بباطنه وبظاهره, وبسمعه يعلمُ أسماءها، وبفؤاده يعقِلُ الصِّفات المشتركة والمختصَّة, والله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، وجعل لنا السَّمعَ والأبصار والأفئدة. فأما الحدودُ المتكلَّفةُ فليس فيها فائدةٌ لا في العقل ولا في الحسِّ ولا في السَّمع، إلا ما هو كالأسماء, مع التطويل، أو ما هو كالتمييز بسائر الصِّفات. ولهذا لما رأوا ذلك جعلوا الحدَّ نوعين: * نوعًا بحسب الاسم, وهو بيانُ ما يدخُل فيه. * ونوعًا بحسب الصفة أو الحقيقة أو المسمَّى، وهو ــ زعموا ــ لكشف الحقيقة وتصويرها. _________ (1). الأصل: «المنطق». (2). الأصل: «المنطقية» , والمثبت أشبه بكلام المصنف.

(الكتاب/319)


والحقيقةُ المذكورة إن ذُكِرَت بلفظٍ دخلت في القسم الأول، وإن لم تُذْكَر بلفظٍ فلا تُدْرَكُ بلفظٍ ولا تُحَدُّ (1) بمقالٍ إلا كما تقدَّم. وهذه نكتٌ تنبِّه على جُمَل المقصود، وليس هذا موضع بسط ذلك. السادس عشر: أن في الصِّفات الذاتية المشتركة والمختصَّة, كالحيوانية والناطقية (2) , إن أرادوا بالاشتراك أن نفسَ الصِّفة الموجودة في الخارج مشتركةٌ فهذا باطل؛ إذ لا اشتراك في المعيَّنات التي يمنعُ تصوُّرها من وقوع الشَّرِكة فيها. وإن أرادوا بالاشتراك أن مثل تلك الصفة حاصلةٌ (3) للنوع الآخر، قيل لهم: لا ريب أن بين حيوانية الإنسان وحيوانية الفَرَس قدرًا مشتركًا، وكذلك بين صوتيهما وتمييزهما قدرًا مشتركًا، فإن الإنسان له تمييزٌ وللفَرَس تمييز، ولهذا صوتٌ هو النطق، ولذاك صوتٌ هو الصَّهيل، فقد خُصَّ كلُّ صوتٍ باسمٍ يخصُّه, فإذا كان حقيقةُ أحد هذين يخالفُ الآخر ويختصُّ بنوعه، فمن أين جعلتم حيوانية أحدهما مماثلةً لحيوانية الآخر في الحدِّ والحقيقة؟! وهلَّا قيل: إن بين حيوانيَّتهما قدرًا مشتركًا ومميِّزًا، كما إن بين صوتَيهما كذلك؟ وذلك أن الحسَّ والحركة الإرادية إما أن توجد للجسم أو للنفس, فإن الجسم يحسُّ ويتحرَّكُ بالإرادة، والنفسُ تحسُّ وتتحرَّكُ بالإرادة، وإن كان بين الوصفين من الفرق ما بين الحقيقتين. _________ (1). الأصل: «بحد». (2). الأصل: «النطقية» , وسبقت على الصواب, وهي كذلك في عامة كتب المصنف. (3). الأصل: «حاصلة حاصلة».

(الكتاب/320)


وكذلك النطقُ هو للنفس بالتمييز (1) والمعرفة والكلام النفساني، وهو للجسم أيضًا بتمييز القلب ومعرفته والكلام اللساني. فكلٌّ من جسمه ونفسه يوصفُ بهذين الوصفين، وليست حركةُ نفسه وإرادتُها ومعرفتُها ونطقُها مثلَ ما للفَرَس، وإن كان بينهما قدرٌ مشترك، وكذلك ما يقومُ بجسمه من الحسِّ والحركة الإرادية ليس مثلَ ما للفَرَس، وإن كان بينهما قدرٌ مشترك، فإن الذي يلائمُ جسمَه من مطعمٍ ومشربٍ وملبَسٍ ومنكَحٍ ومشمومٍ ومرئيٍّ ومسموعٍ بحيث يُحِسُّه ويتحرَّكُ إليه حركةً إراديةً ليس هو مثل ما للفَرَس. فالحسُّ والحركةُ الإرادية هي بالمعنى العامِّ لجميع الحيوان، وبالمعنى الخاصِّ ليس إلا للإنسان، وكذلك التمييزُ سواء؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحبُّ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقُ الأسماء الحارثُ وهمَّام، وأقبحُها حربٌ ومُرَّة» رواه مسلم (2). فالحارثُ هو العاملُ الكاسِبُ المتحرِّك، والهمَّام هو الدائم الهمِّ الذي هو مقدَّم الإرادة (3)، فكلُّ إنسانٍ حارثٌ فاعلٌ بإرادته، وكذلك مسبوقٌ بإحساسه. _________ (1). الأصل: «بالتميز». وستأتي على الصواب. (2). روى مسلم (2132) صدر الحديث, أما قوله: «وأصدق الأسماء ... » فمرسلٌ سبق تخريجه (ص: 49). (3). انظر: «درء التعارض» (9/ 373) , و «منهاج السنة» (3/ 63) , و «شرح الأصبهانية» (115) , و «مجموع الفتاوى» (7/ 43, 10/ 64, 196, 20/ 123).

(الكتاب/321)


فحيوانيةُ الإنسان ونطقُه كلٌّ منهما فيه ما يشتركُ الحيوان فيه، وفيه ما يختصُّ به عن سائر الحيوان، وكذلك بناءُ بِنْيَتِه، فإن نموَّه واغتذاءه وإن كان بينه وبين النبات قدرٌ مشتركٌ فليس مثله؛ إذ هذا يغتذي بما يلَذُّ به ويَسُرُّ نفسَه وينمو بنموِّ حسِّه وحركتِه وهمِّه وحَرْثِه، وليس النباتُ كذلك. وكذلك أصنافُ النوع وأفرادُه, فنطقُ العرب بتمييز قلوبهم وبيان ألسنتهم أكملُ مِن نطق غيرهم، حتى يكونُ في بني آدم من هو دون البهائم في النطق والتمييز ومنهم من لا تُدْرَكُ نهايتُه. وهذا كلُّه يبيِّن أن اشتراك أفراد الصِّنف، وأصناف النوع، وأنواع الجنس والأجناس السافلة في مسمَّى الجنس الأعلى لا يقتضي أن يكون المعنى المشتركُ فيها بالسَّواء، كما أنه ليس في الحقائق الخارجة شيءٌ مشترك، ولكن الذهنَ فَهِمَ معنًى يوجدُ في هذا ويوجدُ نظيرُه في هذا, وقد تبيَّن أنه ليس مناظرًا له على وجه المماثلة، لكن على وجه المشابهة، وأن ذلك المعنى المشترك هو في أحدهما على حقيقةٍ تخالفُ حقيقةَ الآخر. ومِن هنا يغلطُ القياسيُّون الذين يَلْحَظُون المعنى المشترك الجامعَ دون الفارق المميِّز, والعربُ من الأصناف (1) والمسلمون من أهل الأديان أعظمُ الناس إدراكًا للفروق وتمييزًا للمشتركات, وذلك موجودٌ في عقولهم ولغاتهم وعلومهم وأحكامهم. ولهذا لما ناظر متكلِّمو الإسلام العربُ هؤلاء المتكلِّمة الصَّابئة عجمَ _________ (1). أصناف البشر, وسبقت الإشارة (ص: 112) إلى استعمال المصنف للفظ «الأصناف» دون إضافة.

(الكتاب/322)


الرُّوم، وذكروا فضلَ منطقهم وكلامهم على منطق أولئك وكلامهم= ظهَر رجحانُ كلام الإسلاميين، كما فعله القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب «الدقائق» (1) الذي ردَّ فيه على الفلاسفة كثيرًا من مذاهبهم الفاسدة في الأفلاك والنجوم، والعقول والنفوس، وواجب الوجود وغير ذلك, وتكلَّم على منطقهم وتقسيمهم الموجودات، كتقسيمهم الموجود إلى الجوهر والعَرَض، ثم تقسيم الأعراض إلى المقولات التسعة (2)، وذكَر تقسيمَ متكلِّمة المسلمين الذي فيه من التمييز والجَمْع والفَرْق ما ليس في كلام أولئك. وذلك أن الله علَّم الإنسانَ البيان، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} الآية [الرحمن: 1 - 4]، وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، وقال: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]. والبيانُ بيانُ القلب واللسان، كما أن العمى والبَكَم يكونُ بالقلب واللسان، كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هلَّا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاءُ العِيِّ السؤال» (3). _________ (1). تقدم له ذكر (ص: 75، 270). (2). سبق ذكرها (ص: 284). (3). أخرجه أحمد (3056) , وأبو داود (572) وغيرهما من حديث ابن عباس. وفيه اختلافٌ كثير, والأقرب ثبوت القدر الذي أورده المصنف. انظر: «الأوسط» لابن المنذر (2/ 22) , و «علل ابن أبي حاتم» (77) , و «سنن الدارقطني» (1/ 189) , و «الخلافيات» للبيهقي (2/ 490) , و «بيان الوهم والإيهام» (2/ 236).

(الكتاب/323)


وفي الأثر: «العِيُّ عِيُّ القلب لا عِيُّ اللسان» , أو قال: «شرُّ العِيِّ عِيُّ القلب» (1). وكان ابنُ مسعود يقول: «إنكم في زمان كثيرٌ فقهاؤه قليلٌ خطباؤه، وسيأتي عليكم زمانٌ قليلٌ فقهاؤه كثيرٌ خطباؤه» (2). وتبيُّن الأشياء للقلب ضدُّ اشتباهها عليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «الحلال بيِّن ... » الحديث (3). وقد قرئ قولُه تعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] بالرفع, والنصب (4) أي: ولتستبين أنت سبيلَهم. فالإنسان يستبين الأشياء. وهم يقولون: بَيَّن (5) الشيءُ وبيَّنته، وتبيَّن الشيءُ وتبيَّنته، واستبان الشيءُ واستبَنته، كلُّ هذا يستعملُ لازمًا ومتعدِّيًا، ومنه _________ (1). لم أجده بهذين اللفظين, وإنما الأثر المشهور عن عون بن عبد الله قال: «ثلاثٌ من الإيمان: الحياء، والعفاف، والعِيُّ عيُّ اللسان لا عيُّ القلب ... ». أخرجه معمر في «الجامع» (11/ 142) , وابن أبي شيبة (36724) , وأبو نعيم (4/ 248) , وغيرهم. وروي مرفوعًا من وجهين, والأشبه وقفه على عون. وانظر: «بيان فضل علم السلف» لابن رجب (86). (2). أخرجه زهير بن حرب في «العلم» (109) , وعبد الرزاق في «المصنف» (3787) , والبخاري في «الأدب المفرد» (789) بأسانيد جياد. وروي مرفوعًا من حديث أبي ذر وحكيم بن حزام وعبد الله بن سعد - رضي الله عنهم - , ولا يصحُّ رفعه. (3). أخرجه البخاري (52) , ومسلم (1599). (4). انظر: «السبعة» (258) , و «حجة القراءات» (253). (5). ضبطت في الأصل بضم الباء, وهو غلط.

(الكتاب/324)


قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] هنا هو متعدٍّ، ومنه قوله: {بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]، أي: متبيِّنة, فهنا لازم. والبيانُ كالكلام، يكونُ مصدر بان الشيء بيانًا، ويكونُ اسمَ مصدرٍ لبيَّن، كالكلام والسَّلام لسلَّم وكلَّم (1) , فيكونُ البيان بمعنى تبيَّن الشيء، ويكونُ بمعنى بيَّنت الشيء، أي: أوضحته, وهذا هو الغالبُ عليه, ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من البيان لسحرًا» (2). والمقصودُ ببيان الكلام حصولُ البيان لقلب المستمِع (3)، حتى يتبين له الشيء ويستبين؛ كما قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} الآية [آل عمران: 138]. ومع هذا، فالذي لا يستبين له كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} الآية [فصلت: 44]. وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ} الآية [التوبة: 115]، وقال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، وقال: {قُلْ إِنِّي عَلَى _________ (1). الأصل: «لسلم وبين». والمثبت من (ف). (2). أخرجه البخاري (5146) , ومسلم (869). (3). الأصل: «للقلب للمستمع». والمثبت من (ط).

(الكتاب/325)


بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} الآية [الأنعام: 57]، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17]، وقال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور: 46]، وقال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) [النور: 61]. فأما الأشياء المعلومةُ التي ليس في زيادة وصفها إلا كثرةُ كلامٍ وتَفَيْهُقٍ وتشدُّقٍ وتكبُّرٍ والإفصاحُ (2) بذكر الأشياء التي يُسْتَقْبَحُ ذكرُها= فهذا مما ينهى عنه، كما جاء في الحديث: «إن الله يبغضُ البليغَ من الرجال، الذي يتخلَّلُ بلسانه كما تتخلَّل الباقِرةُ بلسانها» (3). وفي الحديث: «الحياءُ والعِيُّ شعبتان من الإيمان، والبَذاء والبيانُ شعبتان من النفاق» (4). ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن طولَ صلاة الرجل وقِصَر خطبته مئنَّةٌ مِن فقهه» (5). وفي حديث سعدٍ لما سأله ابنه أو لما وجد ابنه يدعو (6). _________ (1). كتبت الآية في الأصل: يبين الآيات لقوم يعقلون. (2). الأصل: «والايضاح». والمثبت من (ط) أشبه. (3). أخرجه أحمد (6543) , وأبو داود (5005) , والترمذي (2853) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا, وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب. وانظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2547). والباقرة هي البقرة. (4). أخرجه أحمد (22312) , والترمذي (2027) من حديث أبي أمامة مرفوعًا, وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب, وفسَّر معناه تفسيرًا حسنًا. (5). أخرجه مسلم (869). ومئنَّة: علامة. (6). كذا وقع في الأصل, أشار إليه إشارة. وسياق الحديث أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - سمع ابنًا له يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، قال: يا بني، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، فإياك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن عذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر». أخرجه أحمد (1483) , وأبو داود (1480) , وحسنه ابن حجر في «الأمالي المطلقة» (18).

(الكتاب/326)


وعامَّةُ الحدود هي من هذا الباب، حشوٌ لكلامٍ كثير، يبيِّنون به الأشياءَ وهي قبل بيانهم أبينُ منها بعد بيانهم, فهي مع كثرة ما فيها من تضييع الزمان, وإتعاب الحيوان (1) , لا توجبُ إلا العمى والضلال، وتفتحُ باب المِراء والجدال؛ إذ كلٌّ منهم يوردُ على حدِّ الآخر من الأسئلة ما يفسدُ به، ويزعمُ سلامةَ حدِّه منه، وعند التحقيق تجدُهم متكافئين أو متقاربين، ليس لأحدهم على الآخر رجحانٌ مبين، فإما أن يُقْبَل الجميع أو يُرَدَّ الجميع أو تُقْبَل من وجه. هذا في الحدود التي تشتركُ في تمييز المحدود وفَصْلِه عما سواه، وأما متى أدخَل أحدُهما في الحدِّ ما أخرجه الآخر أو بالعكس, فالكلامُ في هذا علمٌ يُستفادُ به حدُّ الاسم ومعرفةُ عمومه وخصوصه، مثلُ الكلام في حدِّ الخمر هل هي عصيرُ العنب المشتدِّ أم هي كلُّ مُسْكِر؟ وحدُّ الغيبة, ونحو ذلك. وهذا هو الذي يتكلَّم فيه العلماء، كما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الغيبة؟ قال: «ذِكرُك أخاك بما يكره» الحديث (2). _________ (1). (ط): «وإتعاب الفكر واللسان». (2). أخرجه مسلم (2589).

(الكتاب/327)


وكذلك قوله: «كلُّ مسكرٍ خمر» (1)، وقول عمر على المنبر: «الخمر ما خامر العقل» (2). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخلُ الجنةَ من في قلبه مثقالُ ذرَّة من كِبْر»، فقال له رجل: يا رسول الله، الرجلُ يحبُّ أن يكون نعلُه حسنًا وثوبُه حسنًا، أفمِن الكِبْر ذلك؟ فقال: «لا، إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكِبْر بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس» (3). ومنه تفسيرُ الكلام وشرحُه وبيانُه , فكلُّ من شرحَ كلامَ غيره وفسَّره وبيَّن تأويلَه فلا بدَّ له من معرفة حدود الأسماء التي فيه. فكلُّ ما كان مِن حدٍّ بالقول فإنما هو حدٌّ للاسم بمنزلة الترجمة والبيان, فتارةً يكونُ لفظًا محضًا إن كان المخاطَبُ يعرفُ المحدود, وتارةً يحتاجُ إلى ترجمة المعنى وبيانه إذا كان المخاطَبُ لم يعرف المسمَّى, وذلك يكونُ بضرب المثل أو تركيب صفات, وذلك لا يفيدُ تصويرَ الحقيقة لمن لم يتصوَّرها بغير الكلام, فليُعْلَم ذلك. وأما ما يذكرونه مِن حدِّ الشيء, أو الحدِّ بحسب الحقيقة, أو حدِّ الحقائق, فليس فيه من التمييز إلا ذكرُ بعض الصفات التي للمحدود, كما تقدَّم (4) , وفيه من التخليط ما قد نبَّهنا على بعضه. _________ (1). أخرجه مسلم (2003). (2). أخرجه البخاري (4619) , ومسلم (3032). (3). أخرجه مسلم (91). (4). (ص: 310).

(الكتاب/328)


[فصل] وأما مسألة القياس, فالكلام عليه في مقامين: أحدهما: في القياس المطلق الذي جعلوه ميزانَ العلوم, وحرَّروه في المنطق. والثاني: في جنس الأقيسة التي يستعملونها في العلوم. أما الأول, فنقول: لا نزاع أن المقدِّمتين إذا كانتا معلومتَين وأُلِّفَتا على الوجه المعتدل أنه يفيدُ العلم بالنتيجة. وقد جاء في «صحيح مسلم» مرفوعًا: «كلُّ مسكرٍ خمر, وكلُّ خمرٍ حرام» (1)؛ لكن هذا لم يذكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليَسْتَدِلَّ به على منازعٍ ينازعُه في التركيب, بل هذا (2) كما قال أيضًا في «الصَّحيح»: «كلُّ مسكرٍ خمر, وكلُّ مسكرٍ حرام» (3) , أراد أن يبيِّن لهم أن جميع المسكرات داخلةٌ في مسمَّى الخمر الذي حرَّمه الله، فهو بيانٌ لمعنى الخمر، وهم قد عَلِمُوا أن الله حرَّم الخمر. وكانوا يسألونه عن أشربةٍ من عصير العنب، كما في «الصحيحين» (4) عن أبي موسى أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن شرابٍ يُصْنَعُ من الذُّرة يسمَّى المِزْر، _________ (1). أخرجه مسلم (75/ 2003). (2). (ط): «ينازعه بل التركيب في هذا». (3). أخرجه مسلم (74/ 2003). (4). صحيح البخاري (4343) , ومسلم (2001).

(الكتاب/329)


وشرابٍ يُصْنَعُ من العسل يسمَّى البِتْع، وكان قد أوتي جوامعَ الكلم، فقال: «كلُّ مسكرٍ حرام» , فأراد أن يبيِّن لهم بالكلمة الجامعة ــ وهي القضيةُ الكُلِّية ــ أن «كلَّ مسكرٍ خمر»، ثم جاء بما كانوا يعلمونه من أن «كلَّ خمرٍ حرام» حتى يثبت تحريمُ المسكِر في قلوبهم، كما صرَّح به في قوله: «كلُّ مسكرٍ حرام». ولو اقتصر على قوله: «كلُّ مسكرٍ حرام» لتأوَّله متأوِّلٌ على أنه أراد القدحَ الأخير, كما تأوَّله بعضهم (1). ولهذا قال أحمد: قولُه: «كلُّ مسكرٍ خمر» أبلغ؛ فإنهم لا يسمُّون القدحَ الأخيرَ خمرًا، ولو قال (2): «كلُّ مسكرٍ خمر» لتأوَّله بعضهم على أنه يشبهُ الخمرَ في التحريم، فلما زاد (3): «وكلُّ خمرٍ حرام» عُلِمَ أنه أراد دخولَه في اسم الخمر التي حرَّمها الله. والغرض هنا أن صورةَ القياس المذكورة فطريةٌ لا تحتاجُ إلى تعلُّم، بل هي عند الناس بمنزلة الحِسَاب، ولكن هؤلاء يطوِّلون العبارات ويُغْرِبُونها. وكذلك انقسامُ المقدمة التي تسمَّى القضية, وهي الجملة الخبرية, إلى خاصٍّ وعام، ومنفيٍّ ومثبت, ونحو ذلك، وأن القضيةَ الصادقةَ يصدُق عكسُها وعكسُ نقيضها ويكذبُ نقيضها، وأن جملتها تختلف, ونحو ذلك, وكذلك تقسيمُ القياس إلى الحَمْلي الاقتراني (4)، والاستثنائي التلازُمِي, _________ (1). انظر: «المبسوط» (24/ 16, 17) , و «فتح القدير» (5/ 306). (2). أي اقتصر. (3). الأصل: «فلما أراد». والمثبت من (ط) وهو الصواب. (4). الأصل: «الافراي». وفي (ط, ف): «الأفرادي». تحريف.

(الكتاب/330)


والتعانُدي, وغير ذلك= غالبُه وإن كان صحيحًا ففيه ما هو باطل. والحقُّ الذي فيه فيه من تطويل الكلام وتكثيرِه بلا فائدة، ومن سوء التعبير والعِيِّ في البيان، ومن العدول عن الصِّراط المستقيم القريب إلى الطريق المستدير البعيد= ما ليس هذا موضعَ بيانه. فحقُّه النافعُ فطريٌّ لا يحتاجُ إليهم، وما يُحْتاجُ إليهم فيه ليس فيه منفعةٌ إلا معرفةَ اصطلاحهم وطريقهم أو خطئهم. وهذا شأنُ كلِّ ذي مقالةٍ من المقالات الباطلة، فإنه لا بدَّ منه في معرفة لغته وضلاله، فاحتيجَ إليه لبيان ضلاله الذي يعرفُ به المؤمنون (1) حالَه، ويستبين لهم ما بيَّن الله مِن حكمه جزاءً وأمرًا؛ وأن هؤلاء داخلون فيما يُذَمُّ به مِن تكلُّف القول الذي لا يفيد، وكثرة الكلام الذي لا ينفع. والمقصودُ هنا ذِكْر وجوه: أحدها: أن القياسَ المذكور لا يفيدُ علمًا إلا بواسطة قضيةٍ كُلِّيةٍ موجَبة. فلا بدَّ من كُلِّيةٍ جامعةٍ ثابتةٍ في كلِّ قياس. وهذا متفقٌ عليه معلومٌ أيضًا. ولهذا قالوا: لا قياس عن سالبتَين، ولا عن جزئيَّتين. وإذا كان كذلك وجب أن تكون العلومُ الكُلِّيةُ والكلماتُ (2) الجامعةُ هي أصولُ الأقيسة والأدلة وقواعدُها التي تبنى عليها وتحتاج إليها. ثم قالوا: إن مبادئ القياس البرهاني هي العلوم اليقينية التي هي _________ (1). غير محررة في الأصل. وفي (ط): «الموقنون». (2). الأصل: «الكلمات» بدون واو.

(الكتاب/331)


الحِسِّيَّاتُ الباطنة والظاهرة، والعقليات, والبديهيات (1) , والمتواترات, والمجرَّبات، وزاد بعضهم: الحَدْسِيات. وليس في شيءٍ من الحِسِّيات الباطنة والظاهرة قضايا كُلِّية؛ إذ الحِسُّ الباطنُ والظاهرُ لا يدركُ إلا أمورًا معيَّنة لا تكونُ إلا إذا كان المخبرُ أدرك ما أخبرَ به بالحِس، فهي تبعٌ للحِسِّيات. وكذلك التجربةُ إنما تقعُ على أمورٍ معيَّنة محسوسة, وإنما يحكمُ العقلُ على النظائر بالتشبيه، وهو قياس التمثيل. والحَدْسِياتُ عند من يثبتها منهم مِن جنس التجريبيات, لكن الفرق أن التجربة تتعلَّقُ بفعل المجرِّب, كالأطعمة والأشربة والأدوية، والحدسُ بغير فعل، كاختلاف أشكال القمر عند اختلاف مقابلته الشمسَ، وهو في الحقيقة تجربةٌ علميةٌ بلا عمل، فالمستفادُ به أيضًا أمورٌ معيَّنةٌ جزئيةٌ لا تصيرُ عامةً إلا بواسطة قياس التمثيل. وأما البديهيات, وهي العلومُ الأوَّلية التي يجعلها الله في النفوس ابتداءً بلا واسطة، مثل الحساب, كالعلم (2) بأن الواحد نصفُ الاثنين, فإنها لا تفيدُ العلمَ بشيءٍ معيَّن موجودٍ في الخارج، مثل الحكم على العدد المطلق والمقدار المطلق، كالعلم بأن الأشياء المساوية لشيءٍ واحدٍ هي متساوية في أنفسها، فإنا إذا حكمنا على موجودٍ في الخارج لم يكن إلا بواسطة الحسِّ مثل العقل، فإن العقل إنما هو عقلُ ما علمته بالإحساس الباطن أو الظاهر _________ (1). الأصل: «والبديهية». (2). الأصل: «وهي العلم». انتقال بصر من الناسخ. وسيأتي نظيره على الصواب.

(الكتاب/332)


بعقل المعاني العامَّة أو الخاصَّة. فأما أن العقلَ الذي هو عقلُ الأمور العامَّة التي أفرادُها موجودةٌ في الخارج يحصلُ بغير حِسٍّ، فهذا لا يتصوَّر, وإذا رجع الإنسانُ إلى نفسه وجد ذلك, وأنه لا يعقِلُ (1) مستغنيًا عن الحسِّ الباطن والظاهر لكلياتٍ مقدرةٍ في نفسه، مثل الواحد والاثنين، والمستقيم والمنحني والمثلث والمربع، والواجب والممكن والممتنع، ونحو ذلك مما يفرضه هو ويقدِّره. فأما العلمُ بمطابقة ذلك المقدَّر للموجود في الخارج, والعلمُ بالحقائق الخارجية، فلا بدَّ فيه من الحِسِّ الباطن أو الظاهر, فإذا اجتمع الحسُّ والعقلُ كاجتماع البصر والعقل, أمكن أن يدرك الحقائقَ الموجودةَ المعيَّنة ويَعْقِلَ حكمَها العامَّ الذي يندرجُ فيه أمثالها وأضدادُها، ويعلمَ الجمعَ والفَرْق. وهذا هو اعتبارُ العقل وقياسُه. وإذا انفرد الإحساسُ الباطنُ أو الظاهر أدرك وجودَ الموجود المعيَّن, وإذا انفرد المعقولُ المجرَّدُ عَلِمَ الكلياتِ المقدَّرة فيه التي قد يكونُ لها وجودٌ في الخارج وقد لا يكون، ولا يعلمُ وجود أعيانها وعدم وجود أعيانها إلا بإحساسٍ باطنٍ أو ظاهر. فإنك إذا قلت: موجودُ المئة عُشْرُ الألف لم تحكُم على شيءٍ في الخارج، بل لو لم يكن في العالم ما يعدُّ بالمئة والألف لكنتَ عالمًا بأن المئة المقدَّرة في عقلك عُشر الألف, ولكن إذا أحسستَ بالرجال والدوابِّ والذهب والفضة، وأحسستَ بحِسِّك أو بخبرِ مَن أحسَّ أن هناك مئة رجلٍ أو _________ (1). الأصل: «وجد ذلك أنه يعقل». (ف): «وجد أنه لا يعقل ذلك».

(الكتاب/333)


درهم، وهناك ألف, ونحو ذلك، حكمتَ على أحد المعدودين بأنه عُشْرُ الآخر. فالمعدوداتُ لا تُدْرَكُ إلا بالحِس، والعددُ المجرَّد يُعْقَلُ بالقلب، وبعقلِ القلب والحِسِّ يُعْلَمُ العددُ والمعدودُ جميعًا، وكذلك المقاديرُ الهندسية هي من هذا الباب. فالعلومُ الأوليةُ البديهيةُ العقليةُ المحضةُ ليست إلا في المقدَّرات الذهنية, كالعدد والمقدار، لا في الأمور الخارجة الموجودة. فإذا كانت موادُّ القياس البرهاني لا يُدْرَكُ بعامتها إلا أمورٌ معينةٌ ليست كُلِّية، وهي الحِسُّ الباطن والظاهر، والتواتر, والتجربة, والحدس, والذي يدركُ الكليات البديهية الأولية إنما يدركُ أمورًا مقدَّرةً ذهنية= لم يكن في مبادئ البرهان ومقدِّماته المذكورة ما يُعْلَمُ به قضيةٌ كليةٌ عامةٌ للأمور الموجودة في الخارج. والقياسُ لا يفيدُ العلمَ إلا بواسطة قضيةٍ كلية، فامتنَع حينئذٍ أن يكونَ فيما ذكروه من صورة القياس ومادَّته حصولُ علمٍ يقيني. وهذا بيِّنٌ لمن تأمَّله، وبتحريره وجودة تصوُّره تنفتحُ علومٌ عظيمةٌ ومعارف، وسنبيِّن إن شاء الله من أيِّ وجهٍ وقع عليهم اللَّبس. فتدبَّر هذا، فإنه من أسرار عظائم العلوم التي يظهرُ لك به ما يَجِلُّ عن الوصف من الفرق بين الطريقة الفطرية العقلية السَّمعية الشَّرعية الإيمانية، وبين الطريقة القياسية المنطقية الكلامية. وقد تبين لك بإجماعهم وبالعقل أن القياسَ المنطقيَّ لا يفيدُ إلا بواسطة قضية، وتبيَّن لك أن القضايا التي [هي] عندهم موادُّ البرهان وأصولُه ليس

(الكتاب/334)


فيها قضيةٌ كليةٌ للأمور الموجودة، وليس فيها ما تُعْلَمُ به القضيةُ الكلية, إلا العقل المجرَّد الذي يعقِلُ المقدَّرات الذهنية، وإذا لم يكن في أصول برهانهم علمٌ بقضيةٍ عامةٍ للأمور الموجودة لم يكن في [ذلك] (1) علم. وليس فيما ذكرناه ما يمكنُ النزاع فيه إلا القضايا البديهية، فإن فيها عمومًا، وقد يظنُّ أنه به تعلمُ الأمورُ الخارجة، فيفرض أنها تفيدُ العلوم الكلية، لكن بقية المبادئ ليس فيها علمٌ كلي, فكان الواجبُ ألا يجعلَ مقدمة البرهان إلا القضايا العقلية البديهية المحضة؛ إذ هي الكلية, وأما بقيةُ القضايا فهي جزئية، فكيف يصلحُ أن تجعلَ من مقدمات البرهان؟ إلا أن يقال: تُعْلَمُ بها أمورٌ جزئية وبالعقل أمورٌ كلية، فبمجموعهما يتمُّ البرهان، كما يُعْلَمُ بالحسِّ أن مع هذا ألفَ درهم ومع هذا ألفان، ويُعْلَمُ بالعقل أن الاثنين أكثرُ من الواحد، فيُعْلَمُ أن مال هذا أكثر. فيقال: هذا صحيح، لكن هذا إنما يفيدُ قضيةً جزئيةً معيَّنة، وهو كونُ مال هذا أكثر من مال هذا. والأمورُ الجزئيةُ المعيَّنةُ لا يحتاجُ في معرفتها إلى قياس، بل قد تُعْلَمُ بلا قياس، وتُعْلَمُ بقياس التمثيل، وتُعْلَمُ بالقياس عن جزئيتين، فإنك تعلمُ بالحسِّ أن هذا مثل هذا، وتعلمُ أن هذا مِن نعته كَيت وكَيت، فتعلمُ أن الآخر مثلُه، وتعلمُ أن حكمَ الشيء حكمُ مثله. وكذلك قد تعلمُ أن زيدًا أكبر من عمرو، وعَمرًا أكبر من خالد، وأمثال هذه الأمور المعيَّنة التي تُعْلَمُ بدون قياس الشمول الذي اشترطوا فيه ما اشترطوا. فقد تبيَّن أن هذا القياسَ العقلي المنطقي الذي وضعوه وحدَّدوه لا يُعْلَمُ _________ (1). بياض في الأصل بمقدار كلمة, وأثبتها من (ط).

(الكتاب/335)


بمجرَّده شيءٌ من العلوم الكلية الثابتة في الخارج. فبطل قولهم: إنه ميزانُ العلوم الكلية البرهانية. ولكن يُعْلَمُ به أمورٌ معيَّنةٌ شخصيةٌ جزئية، وتلك تُعْلَمُ بغيره أجودَ مما تعلم به. وهذا هو: الوجه الثاني, فنقول: أما الأمورُ الموجودةُ المحقَّقة فتُعْلَمُ بالحِسِّ الباطن والظاهر، وتُعْلَمُ بالقياس التمثيلي، وتُعْلَمُ بالقياس الذي ليس فيه قضيةٌ كليةٌ ولا شمولٌ ولا عموم, بل تكونُ الحدودُ الثلاثةُ فيه الأصغر والأوسط والأكبر أعيانًا جزئية، والمقدمتان والنتيجة قضايا جزئية. وعِلمُ هذه الأمور المعيَّنة بهذه الطرق أصحُّ وأوضحُ وأكمل؛ فإن من رأى بعينه زيدًا في مكانٍ وعَمرًا في مكانٍ آخر استغنى عن أن يستدلَّ على ذلك بكون الجسم الواحد لا يكونُ في مكانين. وكذلك مَن وزنَ دراهمَ كلٌّ منها ألف درهم استغنى عن أن يستدلَّ على أن كلًّا منها ألف درهم (1) بأنها (2) مساويةٌ للصَّنْجة (3)، وهي شيءٌ واحد، والأشياء المساويةُ لشيءٍ واحدٍ متساوية. وأمثالُ ذلك كثير. ولهذا يسمَّى هؤلاء «أهل كلام» , أي لم يفيدوا علمًا لم يكن معروفًا، وإنما أتوا بزيادة كلامٍ قد لا يفيد، وهو ما ضربوه من القياس لإيضاح ما عُلِمَ بالحس، وإن كان هذا القياسُ وأمثاله يُنْتَفَعُ به في موضعٍ آخر، ومع من ينكرُ الحسَّ، كما سنذكره إن شاء الله. _________ (1). الأصل: «على كل منها ألف درهم». (ط): «على ألف درهم منها». والمثبت أقوم. (2). الأصل: «فانها». والصواب المثبت. (3). صنجة الميزان: ما يوزنُ به.

(الكتاب/336)


وكذلك إذا علم الإنسانُ أن هذا الدينار مثل هذا، وهذا الدرهم مثل هذا، وأن هذه الحنطة والشعير مثل هذا، ثم علم شيئًا من صفات أحدهما وأحكامه, إما الطبيعية مثل الاغتذاء والانتفاع، وإما العادية مثل القيمة والسعر، وإما الشرعية مثل الحِلِّ والحُرْمة= عَلِمَ أن حكمَ الآخر مثلُه. فأقيسةُ التمثيل تفيدُ اليقينَ بلا ريبٍ أعظمَ من أقيسة الشمول، ولا يحتاج مع العلم بالتماثل إلى أن يضربَ لهما قياسَ شمول، بل يكونُ من زيادة الفضول. وبهذا الطريق عُرِفَت القضايا الجزئيةُ بقياس التمثيل. ومن قال: إن ذلك بواسطة قياس شمولٍ ينعقدُ في النفس، وهو أن هذا لو كان اتفاقيًّا لما كان أكثريًّا، فقد قال الباطل؛ فإن الناس العالمين بما جرَّبوه لا يخطُر بقلوبهم هذا، ولكن بمجرَّد علمهم بالتماثل يبادرون إلى التسوية في الحكم؛ لأن نفسَ العلم بالتماثل يوجبُ ذلك بالبديهة العقلية، فكما عُلِمَ بالبديهة العقلية أن الواحد نصفُ الاثنين عُلِمَ بها أن حكمَ الشيء حكمُ مثله، وأن الواحد مثل الواحد، كما عُلِمَ أن الأشياء المساوية لشيءٍ واحد متساوية. فالتماثلُ والاختلاف في الصِّفة أو القَدْر قد يُعْلَمُ بالإحساس الباطن والظاهر، والعلمُ بأن المِثْلين سواءٌ وأن الأكثر والأكبر أعظمُ وأرجحُ يُعْلَمُ ببديهة العقل. وكذلك القياسُ المؤلفُ من قضايا معيَّنة، مثل العلم بأن زيدًا أخو عمرو، وعمرو أخو بكر، فزيد أخو بكر (1). ومثلُ العلم بأن أبا بكرٍ أفضلُ من عمر، وعمرُ أفضلُ من عثمان وعلي، _________ (1). الأصل: «زيدا أخو عمرو وأخو عمرو بكر فزيد أبو بكر». وهو تخليط. والمثبت من (ف) أظهر وأدنى إلى الصواب.

(الكتاب/337)


فأبو بكرٍ أفضلُ من عثمان وعلي. وأن المدينةَ أفضلُ من بيت المقدس, والمدينةُ لا يجبُ أن يحجَّ إليها، فبيتُ المقدس لا يحجُّ إليه. وقبرُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ القبور، ولا يُشْرَعُ استلامُه وتقبيلُه، فقبرُ فلانٍ وفلانٍ لا يُشْرَعُ استلامُه وتقبيلُه. وأمثال هذه الأقيسة ملءُ العالَم. وهذا أبلغُ في إفادة حكم المعيَّن من ذكر العامِّ, فدلالةُ الاسم الخاصِّ على المعيَّن أبلغُ من الدلالة عليه بالاسم العام، وإن كان في العامِّ أمورٌ أخرى ليست في الخاص. فتبيَّن أن المعلوم من الأمور المعيَّنة يُعْلَمُ بالحِسِّ وبقياس التمثيل والأقيسة المعيَّنة أعظمَ مما يُعْلَمُ أعيانها بقياس الشمول، فإذا كان قياسُ الشمول الذي حرَّروه لا يفيدُ الأمور الكلية كما تقدم، ولا يحتاجُ إليه في الأمور المعيَّنة كما تبيَّن= لم يبق فيه فائدةٌ أصلًا، ولم يُحْتَج إليه في علمٍ كُلِّيٍّ ولا علمٍ معيَّن، بل صار كلامهم في القياس الذي حرَّروه كالكلام في الحدود، وهذا هذا، فتدبَّره فإنه عظيمُ القدر. الوجه الثالث: أن يقال: إذا كان لا بدَّ في القياس من قضيةٍ كُلِّية, والحِسُّ لا يدركُ الكليات، وإنما تُدْرَكُ بالعقل, ولا يجوزُ أن تكون معلومةً بقياس آخر، لما يلزمُ من الدور أو التسلسل= فلا بدَّ من قضايا كُلِّيةٍ تُعْقَلُ بلا قياس، كالبديهيات التي جعلوها. فنقول: إذا وجبَ الاعترافُ بأن من العلوم الكُلِّية العقلية ما يبتدئ في

(الكتاب/338)


النفوس ويَبْدَهُها بلا قياس، وجبَ الجزمُ بأن العلوم الكُلِّية العقلية قد تستغني عن القياس، وهذا مما اعترفوا هم به وجميع بني آدم؛ أن من التصوُّر والتصديق ما هو بديهيٌّ لا يحتاج إلى كسبٍ بالحدِّ أو القياس، وإلا لزم الدورُ أو التسلسل. وإذا كان كذلك، فنقول: إذا جاز هذا في علمٍ كُلِّيٍّ جاز في آخر؛ إذ ليس بين ما يمكن أن يُعْلَم ابتداءً من العلوم البديهية وما لا يجوز أن يُعْلَم فصلٌ مطَّرد، بل هذا يختلفُ باختلاف قوة العقل وصفائه، وكثرة إدراك الجزئيات التي تُعْلَمُ بواسطتها الأمور الكُلِّية، فما مِن علمٍ من الكليات إلا وعلمُه يمكنُ بدون القياس المنطقي، فلا يجوزُ الحكم بتوقُّف شيءٍ من العلوم الكُلِّية عليه. وهذا يتبين بالوجه الرابع, وهو أن نقول: هَبْ أن صورةَ القياس المنطقي ومادتَه تفيدُ علومًا كُلِّية، لكن من أين يُعْلَمُ أن العلمَ الكلي لا يُنال حتى يقول هؤلاء المتكلِّفون القَافُون ما ليس لهم به علمٌ هم ومن قلَّدهم من أهل الملل وعلمائهم: إن ما ليس ببديهيٍّ من التصوُّرات والتصديقات لا يُعْلَمُ إلا بالحدِّ والقياس؟! وعدمُ العلم ليس علمًا بالعدم. فالقائل لذلك لم يمتحِن أحوالَ نفسه، ولو امتحن أحوالَ نفسه لوجد له علومًا كُلِّيةً بدون القياس المنطقي، وتصوُّراتٍ كثيرةً بدون الحدِّ. وإن لم يعلم ذلك (1) من نفسه أو بني جنسِه، فمن أين له أن جميع بني آدم ــ مع تفاوت فِطَرهم وعلومهم ومواهب الحقِّ لهم ــ هم بمنزلته، وأن الله _________ (1). الأصل: «وإن علم ذلك». وهو غير مستقيم.

(الكتاب/339)


لا يمنحُ أحدًا علمًا إلا بقياسٍ منطقيٍّ ينعقد في نفسه؟! حتى يزعم هؤلاء أن الأنبياء كانوا كذلك، بل صعَدوا إلى ربِّ العالمين، وزعموا أن علمَه بأمور خلقه إنما هو بواسطة القياس المنطقي! وليس معهم بهذا النفي الذي لم يحيطوا بعلمه مِن حجَّةٍ إلا عدمُ العلم، فيدَّعون العلم وقد تكلَّموا بهذه القضية الكلية السَّالبة التي تعمُّ ما لا يحصي عددَه إلا الله بلا علمٍ لهم بها أصلًا. ويزيدُ هذا بيانًا: الوجه الخامس: وهو أن المبادئ المذكورة التي جعلوها مفيدةً لليقين, وهي الحِسِّيات الباطنة والظاهرة، والبديهيات, والتجريبيات, والحَدْسيات, لا ريب أنها تفيدُ اليقين, لكنْ (1) مِن أين لهم أن اليقين لا يحصلُ بغيرها؟ لا بدَّ من دليلٍ على النفي حتى يصحَّ قولهم: لا يحصلُ اليقينُ بدونها. فهذا صحيح، لكنه ليس هو قول رؤوسهم (2). ولا ريب أن من له عقلٌ وإيمانٌ يجبُ أن يخالفهم في تكذيبهم بالحقِّ الخارج عن هذا الطريق. ومِن هذا الموضع صار منافقًا وتزندقَ من نافقَ منهم، وصار عند عقلاء الناس من أهل المِلَل (3) وغيرهم أن المنطقَ مظنةُ التكذيب بالحقِّ والعناد والزَّندقة والنفاق، حتى حكى لنا بعض الناس: أن شخصًا من الأعاجم جاء _________ (1). مشتبهة في الأصل, وفي (ط): «الحسنى». (ف): «الحسي». وهو تحريف. (2). كذا وقعت هذه الجملة في الأصل, وكأن قبلها سقطًا. (3). الأصل: «الملك». والمثبت من (ط) , وهو الصواب.

(الكتاب/340)


ليقرأ على بعض شيوخهم منطقًا، فقرأ منه قطعة، ثم قال: خواجَا (1)، أين بابُ ترك الصلاة؟ فضحكوا منه. وهذا موجودٌ بالاستقراء, من حسَّن الظنَّ بالمنطق وأهله إن لم يكن له مادةٌ من دينٍ وعقلٍ يستفيدُ بها الحقَّ الذي ينتفعُ به وإلا أفسدوا عقلَه ودينَه. ولهذا يوجدُ فيهم من الكفر والنفاق والجهل والضلال وفساد الأقوال والأعمال ما هو ظاهرٌ لكل ناظرٍ من الرجال. ولهذا كان أولُ من خَلَطه بأصول الفقه ونحوه من العلوم الإسلامية كثيرَ الاضطراب (2) , فإنه كان كثيرٌ من فضلاء المسلمين وعلمائهم يقولون: المنطقُ كالحساب ونحوه مما لا يُعْلَمُ به صحةُ الإسلام ولا فسادُه ولا ثبوتُه ولا انتفاؤه. فهذا كلامُ من رأى ظاهرَه وما فيه من الكلام على الأمور المفردة لفظًا ومعنًى، ثم على تأليف المفردات وهو القضايا ونقيضها وعكسها المستوي وعكس النقيض، ثم على تأليفها بالحدِّ والقياس، وعلى مواد القياس. وإلا فالتحقيقُ أنه مشتملٌ على أمورٍ فاسدة، ودعاوى باطلةٍ كثيرة، لا يتسعُ هذا الموضعُ لاستقصائها. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين. _________ (1). الخواجا والخواجه لفظ فارسيٌّ يطلق على الكاتب, والتاجر, وأمين السِّر, ويطلق على المعلِّم والأستاذ والشيخ وهو المراد هنا. انظر: «تكملة المعاجم» (4/ 227, 9/ 15) , و «معجم تيمور الكبير» (3/ 210). (2). ذهب البلى بأطراف الورقة فلم تظهر بعض حروف الكلمة وأخريات غيرها, وأثبتها من (ط) , وهي ظاهرة من السياق.

(الكتاب/341)