×
قال المؤلف - رحمه الله -: « فإن الله جل جلاله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه، ويخافوه خوف الإجلال والتعظيم. وذكر جل وعلا شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن نبذ أمره وعصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ودعا عباده إلى خشيته وتقواه والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه وياباه. وبعد فقد عزمت - إن شاء الله تعالى - أن أجمع من كلام الله - جل جلاله وتقدست أسماؤه -، ومن كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن كلام أهل العلم، ما يحثني وإخواني المسلمين على التأهب والاستعداد لما أمامنا، من الكروب والشدائد والأهوال والأمور العظائم والمزعجات المقلقات الصعاب. وسميت هذا الكتاب ( اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات قبل هجوم هادم اللذات ومشتت الشمل ومفرق الجماعات ) ».

اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات قبل هجوم هادم اللذات ومشتت الشمل ومفرق الجماعات

جمع الفقير إلى عفو ربه

عبدالعزيز بن محمد السلمان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى التوحيد، الساعي بالنصح للقريب والبعيد، المحذر للعصاة من نار تلظى بدوام الوقيد، المبشر للمؤمنين بدار لا ينفذ نعيمها ولا يبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة لا تزال على كرر الجد يدين في تجديد، وسلم تسليمًا كثيرًا.

وبعد فإن الله جل جلاله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه، ويخافوه خوف الإجلال والتعظيم.

وذكر جل وعلا شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن نبذ أمره وعصاه ليتقوه بصالح الأعمال.

ودعا عباده إلى خشيته وتقواه والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه وياباه.

وبعد فقد عزمت إن شاء الله تعالى أن أجمع من كلام الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومن كلام رسوله ، ومن كلام أهل العلم، ما يحثني وإخواني المسلمين على التأهب والاستعداد لما أمامنا، من الكروب والشدائد والأهوال والأمور العظائم والمزعجات المقلقات الصعاب.

وسميت هذا الكتاب "اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات قبل هجوم هادم اللذات ومشتت الشمل ومفرق الجماعات".

وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفعنا به وإخواننا المسلمين إنه القادر على ذلك وصلى الله على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

(فصل)

تكلم أحد العلماء في صفة يوم القيامة ودواهيه وأساميه فقال: فاستعد يا مسكين لهذا اليوم العظيم شأنه المديد زمانه القاهر سلطانه القريب أوانه يوم ترى السماء فيه قد انفطرت، والكواكب قد انتثرت، والبحار قد سجرت، والنجوم قد انكدرت، والشمس قد كورت، والجبال قد سيرت، والعشار قد عطلت، والوحوش قد حشرت، والنفوس قد زوجت، والجحيم قد سعرت، والجنة قد أزلفت، والجبال قد نسفت، والأرض قد مدت.

يوم ترى الأرض فيه قد زلزلت زلزالها، يوم فيه تخرج الأرض أثقالها، وتحدث أخبارها يومئذ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم، يوم تحمل الأرض والجبال فدكتا دكةً واحدة.

فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ.

يومٌ فيه تسير الجبال وترى الأرض بارزة، يوم ترج فيه الأرض رجًا، وتبس فيه الجبال بسًا، فكانت هباءًا منبثًا، يوم يكون فيه الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المفنوش.

يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار.

يوم تنسف الجبال فيه نسفًا فتترك قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، يوم ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، يوم تنشق فيه السماء فتكون وردةً كالدهان، فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جان يوم فيه يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، يوم تعلم فيه كل نفسٍ ما أحضرت، يوم تنطق فيه الجوارح.

يوم شيب ذكره سيد المرسلين إذا قال له الصديق أراك قد شبت يا رسول الله : "شيبتني هود وأخواتها" وهي الواقعة والمرسلات وعم يتسألون، وإذا الشمس كورت.

قال ابن القيم رحمه الله في ذكر بعض أهوال يوم القيامة:

وَتَحَدِّثُ الأرضُ التِيْ كُنَّا بهَا

وتَظلُ تَشْهَدُ وهْيَ عَدْلٌ بالذي

وتُمَدُّ أيضًا مِثْلُ مَدِّ أدِيْمِنَا

وَتَقْيءُ يومَ العَرضِ مِن أكبادِهَا

كلُ يَراهُ بعَيْنِهِ وعِيَانِهِ

وكذا الجِبالُ تُفَتُ فَتًا مُحْكَمًا

وتَكُونُ كالعِهْنِ الذي ألوانُهُ

وتُبَسُ بَسًا مِثْلَ ذاكَ فَتَنْثَنِي

وكَذَا البِحَارُ فإنَّها مَسْجُورةٌ

وكَذَا لِكِ القَمَرَان يَأْذَنُ ربُنَا

هَذِيْ مُكَوَّرةٌ وَهَذا خَاسِفٌ

وكَوَاكِب الأَفْلاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا

وكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُ شَقًا ظاهِرًا

          أخْبَارَهَا في الحَشْرِ لِلرَّحمنِ

مِن فَوقِها قد أحَدَثَ الثَّقلانِ

مِن غيرِ أوْدِيةٍ ولا كُثْبَانِ

كالأصْطِوَانِ نَفَائِسَ الأثْمَانِ

ما لامِرْئٍ بالأخذِ منه يَدَانِ

فَتَعُودُ مِثْلَ الرَّمْلِ ذِي الكُثْبَانِ

وصِبَاغُه مِن سَائِر الألْوَانِ

مِثْلَ الهَبَاءِ لِنَاظِرِ الإِنْسانِ

قد فُجرتْ تَفْجِيرَ ذِي السُلطَانِ

لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ يَلْتَقِيَانِ

وكِلاَهُمَا في النَارِ مطْرُوحَانِ

كَلالِئٍ نُثِرَتْ عَلى مَيْدَانِ

وتَمُورُ أيضًا أَيَّمَا مَوَرَانِ

وتصير بعد الانشقاق كمثل هذا المهل أو تكُ وردةً كالدهان

وقال القحطاني رحمه الله:

يَوْمُ القِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ

يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَولِهِ

يَوْمٌ عَبُوْسٌ قَمْطَريْرٌ شَرُهُ

يَوْمَ يَجِيءُ المُتَقُونَ لِرَبهم

ويَجِيءُ فِيه المُجْرِمُونَ إِلى لَظَى

          لَفَرَرْتَ مِن أهْلٍ ومِن أوْطَانِ

وتشيبُ مِنه مَفَارِقُ الوِلَدَانِ

في الخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيْم الشَّأنِ

وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِن العِقْيَانِ

يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُظَ العَطْشَانِ

"موعظة"

فيا أيها المهملون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشتت الأحباب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق ولا يضرب دونه حجاب، ويا له من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب ألا وإن بعده ما هو أعظم منه من السؤال والجواب، ووراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام في الأجسام والميزان والصراط والحساب والجنة أو النار.

اللهم انظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جناتك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

اعلم وفقنا الله وإياك أن الموت أعاننا الله وإياك وجميع المسلمين على شدائده وسكراته وغمومه هو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس التي طعمها أكره وأبشع.

وإنه الحادث الهائل العظيم، الهادم للذات، والأقطع للراحات، والأجلب للكريهات، وإن أمرًا يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويفتت أعضادك، ويهدد أركانك، لهو الأمر العظيم، والخطب الجسيم، وإن يومه لهو اليوم العقيم.

وما ظنك رحمك الله بنازل ينزل بك، فيذهب رونقك وبهاءك، ويغير منظرك وحسنك ويمحو صورة جمالك، ويمنعك من اجتماعك واتصالك.

ويردك بعد النعمة والنظرة والسطوة والقدرة والنخوة والعزة إلى حالة يبادر أحب الناس لك وأرحمهم بك وأعطفهم عليك فيقذفك في حفرة من الأرض قريبة أنحاؤها مظلمة أرجاؤها محكم عليك طينها وأحجارها متحكم فيك هوامها وديدانها.

ثم بعد ذلك يتمكن منك الإعدام، وتختلط بالرغام، وتصير ترابا توطؤ بالأقدام، وربما ضرب منك إناء فخار أو أحكم منك بناء جدار أو طلي منك محبس ماء أمو موقد نار.

أو نحو ذلك.

لَعَلَّ إِنَاءً مِنْهُ يُصْنَعُ مِرَّةً

ويُنقَل مِن أرَضٍ لأخْرى وما دَرى

          فَيَكْلُ مِنْ أَرَادَ ويُشرَبُ

فواهَا لَهُ بَعْدَ البلا يَتَغَرَّبُ

ثم اعلم وفقنا الله وإياك للاستعداد لما أمامنا من الأهوال والشدائد والكروب والأمور المزعجات.

أنه جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده.

أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا انتظار ولا تربص إلا له.

وحقيق بالعاقل أن يعد نفسه من الموتى ويراها من أصحاب القبور، فإن كل ما هو آت قريب قال الله جل وعلا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ وقال تبارك وتعالى: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ وقال : "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" الحديث.

واعلم أنه لو لم يكن في الموت إلا الإعدام وانحلال الأجسام ونسيانك أخرى الليالي والأيام، لكان والله لأهل اللذات مكدرًا، ولأصحاب النعيم منغصًا ومغيرًا، ولأرباب العقول الراجحة عن الرغبة في هذه الدار زاجرًا ومنفرًا، وللمنهمك في الدنيا وزخارفها منذرًا ومزعجا ومخدرًا.

قال مطرف بن الشخير: إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيما لا موت فيه، فكيف ووراءه يوم يعد فيه الجواب وتدهش فيه الألباب، وتفنى في شرحه الأقلام والكتاب.

وَلَمْ يَمْرُرْ بِهِ يَوْمٌ فَظِيْعٌ

ويَوْمُ الحَشْرِ أفْظَعُ منهُ هَوْلاً

فكَمْ مِنْ ظَالمٍ يَبْقَى ذَلْيلاً

وشخْصٍ كانَ في الدُّنْيَا فَقْيرًا

وعَفْوُ اللهِ أوْسَعُ كُلِّ شيءٍ

          أَشَدَّ عَلَيهِ مِنْ يَوْمِ الحِمَامِ

إذا وَقَفَ الخلائق بالمَقَامِ

ومَظْلُومٍ تَشَمَّرَ لِلْخِصَامِ

تَبَوَّأَ مَنْزِلَ النُّجْبِ الكِرَامِ

تَعَالَى اللهُ خَلاقُ الأَنَامِ

ومن كلام بعضهم يا ابن آدم لو رأيت ما حل بك وما أحاط بأرجائك لبقيت مصروعًا لما بك، مذهولاً عن أهلك وأصحابك.

يا ابن آدم أما علمت أن بين يديك يومًا يصم سماعه الآذان، ويشيب لروعه الولدان، ويترك فيه ما عز وما هان، ويهجر له الأهلون والأوطان.

يا ابن آدم أما ترى مسير الأيام بجسمك، وذهابها بعمرك، وإخراجها لك من سعة قصرك إلى مضيق قبرك، وبعد ذلك ما لذكر بعضه تتصدع القلوب، وتنضج له الجوانح وتذوب، ويفر المرء على وجهه فلا يرجع ولا يؤوب، ويود الرجعة وأنى له المطلوب.

قال الله جل وعلا وتقدس: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وقال تبارك وتعالى: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، وقال تبارك وتعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وقال عز من قائل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ، وقال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وقال: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، وقال تبارك وتعالى: فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى، وقال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، وقال تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ، وقال جل وعلا: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، وقال تبارك وتعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ.

شعرًا:

لأَمْرِ ما تَصَدَّعَتِ القُلُوبُ

وَبَاتَتْ في الجَوانِحِ نَارُ ذِكْرَى

وَمَا خَفَّ اللَّبِيْبُ لِغَيْر شيءٍ

ذَرَاهُ لائِمَاهُ فَلا تَلُوْمَا

رَأَىَ الأيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيهِ

وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيه إِلا

وَبَيْنَ يَدَيْهَ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ

وَهَذَا الموتُ يِدُنِيْهِ إِليٍهِ

مَقَامٌ تُسْتَلذُ بِهِ المنَايَا

وماذا الوَصْفُ بَالِغُهُ ولَكِنْ

          وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيْبُ

لَهَا مِن خَارِجٍ أَثَرٌ عَجِيْبُ

ولا أَعْيَا بِمَنْطِقِهِ الأرِيْبُ

فَرُبَّتَ لأئِمٍ فِيْهِ يَحُوْبُ

مُرُوْرَ الرِيْحِ يَدْفَعُهَا الهَبُوْبُ

ومِنْ جُتْمانِهِ فِيْهِ نَصِيْبُ

بِهِ الِولْدَانُ مِنْ رَوْعِ تَشِيْبُ

كَمَا يُدْني إِلَى الهَرَمِ المشَيْبُ

وتُدْعَى فِيْهِ لَوْ كَانَتْ تُجِيْبُ

هِيَ الأمَثالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيْبُ

اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك وبارك لنا في الحلال من رزقك ولا فتضحنا بين خلقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

موعظة

الحمد لله المستحق لغاية التحميد، المتوحد في كبريائه وعظمته الولي الحميد، الغني المغني المبدئ المعيد، المعطي الذي لا ينفذ عطاؤه ولا يبيد، المانع فلا معطي لما منع ولا راد لما يريد.

خلق الخلائق وأوضح لهم أحسن طريق، وهداهم إلى الأمر الرشيد، وصورهم فأحسن صورهم، وبشر من أطاعه بالجنة والنعيم والتخليد، وحذر من عصاه من العذاب الشديد.

وحثهم على ذكره وحمده وشكره ووعدهم بالمزيد، فقال جل وعلا وهو أصدق القائلين وأوفى الواعدين: لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.

وحكم على خلقة بالفناء فما لأحد عنه محيص ولا محيد، فكم أبكي الموت خليلاً بفراق خليله، وكم أيتم طفلاً فشغله ببكائه وعويله.

أوحش المنازل من أقمارها، ونفر الطيور من أوكارها، وعوضهم من لذة العيش بالتنغيص والتنكيد.

فالملك والمملوك والغني والصعلوك والقوي والضعيف، تساوت قبورهم في القفر والبيد.

فسبحانه من إله أذل بالموت كل جبارٍ عنيد، وكسر به من الأكاسرة كل جبارٍ صنديد، وأخرجوا من سعة القصور إلى ضيق القبور، وقطع حبل أمدهم المديد.

أخذ به الأباء والجدود والأطفال من المهود، وأسكنهم بعد اللين والسعة والرفاهية مضيق اللحود، وعفر وجوههم في التراب بعد لين الوسائد والفرش الناعمة والتمهيد وبقوا في تحت الأرض إلى يوم الوعيد.

فيا بؤس للدنيا شد ما عن ثديها فطمتهم ومن سمها أطعمتهم وبيدها الباطشة لطمتهم، وفي ظلمات الأرض وغيابات الثرى طرحتهم، فقلبت قائم تلك الأعيان، وطمست تلك الوجوه الحسان.

وأعمت تلك الأبصار، وأصمت تلك الآذان، وأسالت الحدق على الخدود والوجنات، وغسلت بالصديد جميل القسمات، وملأت بالتراب اللهازم واللهوات.

وكسرت تلك الضواحك والربعيات، وعبثت الديدان بجسوم أولئك الفتيان والفتيات، لطالما أغربوا ضاحكين، وتقلبوا فاكهين، وباتوا على سررهم مطمئنين آمنين.

فكم بها من لسانٍ فصيح، طالما ما أنشد وخطب، وأرهب وأرغب، ومدح وأطنب، وكم من فصيح لسان وعظيم بيان أخرسه الحدثان، وتحكمت في جسده الهوام والديدان.

وَلَو كَشَفَ الأجْدَاثَ مُعْتَبِرًا لَهُمْ

لَشَاهَدَ أحْدَاقًا تَسِيْل وَأوْجُهًا

غَدَتْ تَحْتَ أَطْبَاق الثّرَى مُكْفَهِرَّةً

فَلَمْ يُعْرَفِ المَوْلَى مِنَ العَبْدِ فِيْهِم

وَأَنَّى لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ بَعْدَمَا

رَأَى مَا يَسُوءُ الطّرْفَ مِنْهُمْ وَطَالَمَا

رَأَى أَعْظُمًا لا تَسْتَطِيْعُ تَمَاسُكًا

مُجَرَّدَةً مِنْ لَحْمِهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ

تَخَوَّنَها مَرُّ اللَّيَالِي فَأَصْبَحَتْ

أُزِيْلَتْ عَنِ الأَعْنَاقِ فَهِيَ نَوَاكِسٌ

عَلاهَا ظَلامٌ لِلْبِلَى وَلَطَالَمَا

كَأنَ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا عَلا مَفْرقًا لَهَا

تَبَاعَدَ عَنْهُمْ وَحْشَةً كُلُّ وَامِقٍ

وَقَاطَعَهُمْ مَنْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ

يُبَكِّيْهِمْ الاًعْدَاءُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ

فَقُلْ لِلّذِي قَدْ غَرَّهُ طُوْلُ عُمْرِهِ

أَفِقْ وَانْظُرِ الدُّنْيَا بِعَيْنِ بَصِيْرَةٍ

فَأَيْنَ المُلُوكُ الصَّيْدُ قِدْمًا وَمَنْ حَوَى

حَوَاهُ ضَرِيْح مِنْ فَضَاءِ بسِيْطِهَا

فَكَمْ مَلِكٍ أَضْحَى بِهَاذَا مَذَلَّةٍ

يَقُودُ عَلَى الخَيْلِ العِتَاقِ فَوَارِسًا

فَأصْبَحَ مِنْ بَعْدِ التَّنَعُّمِ في ثَرَى

بَعِيْدًا عَلَى قُرْبِ المَزَارِ إِيابُهُ

غَرِيْبًا عَنِ الأَحْبَابِ والأَهْلِ ثَاوِيًا

تُلِحُّ عَلَيْهِ السّافِيَاتُ بِمَنْزِلٍ

رَهِيْنًا بِهِ لا يَمْلِكُ الدّهْرَ رَجْعَةً

تَوَسَّدَ فِيْهِ التُّرْبَ مِنْ بَعْدِ مَا اغْتَدَى

كَذَلِكَ حُكْمُ الله في الخَلْقِ لَنْ تَرَى

          لِيَنْظُرَ آثارَ البلا كَيْفَ يَصْنَعُ

مُعَفَّرَةً في التُّرْبِ شُوْهًا تُفَزعُ

عَبُوْسًا وَقَدْ كَانَتْ مِنَ الِبَشْرِ تَلْمَعُ

وَلا خَامِلاً مِنَ نَابِهٍ يَتَرَفَّعُ

تَبَيّنَ مِنْهُمْ مَا لَهُ العَيْنُ تَدْمَعُ

رَأى مَا يَسُرُّ النّاظِرِيْنَ وَيُمْتِعُ

تَهَافَتَ مِنْ أَوْصَالِهَا وَتَقَطَّعُ

لِذِيْ فِكْرَةٍ فِيْمَا لَهُ يَتَوقَّعُ

أَنَابِيْبَ مِنْ أَجْوَافِهَا الرِّيْحُ تُسْمَعُ

عَلى التُّرْبِ مِنْ بَعدْ الوَسَائِدِ تُرْفَعُ

غَدَا نُورُهَا في حِنْدِسِ الظُّلْمِ يَلْمَعُ

نَفَائِسُ تِيْجَانٍ وُدُرٍ مُرَصَّعُ

وَعَافَهُمُ الأَهْلُونَ والنَّاسُ أَجْمَعُ

بِوَصْلِهِمُ وِجْدًا بِهِمْ لَيْسَ يطْمَعُ

وَيَرْحَمَهُمْ مَنْ كَانَ ضِدًا وَيَجْزَعُ

وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِنْ زَخَارِفَ تَخْدَعُ

تَجِدْ كُلَّ مَا فِيْهَا وَدَائِعَ تَرْجِعُ

مِنَ الأَرْضِ مَا كَانَتْ بِهِ الشَّمْسُ تَطْلَعُ

يُقَصِّرُ عَنْ جُثْمَانِهِ حِيْنَ يُذْرَعُ

وَقَدْ كَانَ حَيًَّا لِلْمَهَابَةِ يُتْبَعُ

يَسُدُّ بِهَا رَحْبَ الفَيَافِي وَيُتْرِعُ

تُوَرِي عِظَامًا مِنْهُ بَهْمَاءُ بَلْقَعُ

فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى القِيَامَة مَرْجِعُ

بأقْصَى فَلاةٍ خَرْقُهُ لَيْسَ يُرْقَعُ

جَدِيْبٍ وَقَدْ كَانَتْ بِهِ الأرْضُ تُمْرِعُ

وَلا يَسْتَطِيْعَنَّ الكَلامَ فَيسْمَعُ

زمَانًا عَلَى فُرُشٍ مِنَ الخَزِّ يُرْفَعُ

مِنَ النَّاسِ حَيًّا شَمْلهُ لَيْسَ يُصْدَعُ

اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين، وخصنا منك بالتوفيق المبين، ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه، وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدًا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفعًا من كل داء، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله:

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن كثرة ذكر الموت تردع عن المعاصي وتلين القلب القاسي، وتذهب الفرح بالدنيا وزينتها وزخارفها ولذاتها.

وتحثك على الجد والاجتهاد في الطاعات وإصلاح أحوالك وشؤنك والتنسخ من حقوق الله وحقوق خلقه، وتنفيذ الوصايا وأداء الأمانات والديون.

قال بعضهم فضح الدنيا والله هذا الموت فلم يترك فيها لذي عقلٍ فرحًا.

وقال آخر ما رأيت عاقلاً قط إلا وجدته حذرًا من الموت حزينًا من أجله.

وقال آخر من ذكر الموت هانت عليه مصائب الدنيا.

وقال آخر: من لم يخفه في هذه الدار ربما تمناه في الآخرة فلا يؤتاه.

وقال آخر يوصي أخًا له: يا أخي احذر الموت في هذه الدار من قبل أن تصير إلى دارٍ تتمنى بها الموت فلا يوجد.

وقال آخر: وأما ذكر الموت والتفكر فيه، فإنه وإن كان أمرًا مقدرًا مفروغًا منه، فإنه يكسبك بتوفيق الله التجافي عن دار الغرور، والاستعداد والإنابة إلى دار الخلود، والتفكر والنظر فيما تقدم عليه وفيما يصير أمرك إليه.

ويهون عليك مصائب الدنيا ويصغر عندك نوائبها، فإن كان سبب موتك سهلاً وأمره قريبا فهو ذاك، وإن كانت الأخرى كنت مأجورًا مع النية الصالحة فيما تقاسيه، مثابًا على ما تتحمله من المشاق.

واعلم أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالقلب وإقبالك على ما تذكره. قال الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فأي فائدةٍ لك رحمك الله في تحريك لسانك إذا لم يخطر بقلبك.

وإنما مثل الذكر الذي يعقب التنبيه، ويكون معه النفع والإيقاظ من الغفلة والنوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمع له ذهنك وتجعله نصب عينيك ومثالاً خاطرًا بين يديك، وأن تنظر إلى كل ما تحبه من الدنيا من ولد أو أهل أو مال أو غير ذلك، فتعلم علما لا يشوبه شك أنك مفارقه إما في الحياة أو في الممات، وهذه سنة الله الجارية في خلقه وحكمه المطرد.

وتشعر هذا قلبك وتفرغ له نفسك فتمنعها بذلك عن الميل إلى ذلك المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه.

فَعُقْبَى كُلِّ شيءٍ نَحْنُ فيهِ

وَمَا حُزْنَاهُ مِن حِلٍّ وَحُرْمٍ

وفِيْمَنْ لَمِ نُؤَهِّلْهُمْ بِفَلسٍ

وتَنْسَانا الأَحِبَّةُ بَعْدَ عَشْرٍ

كَأنّالَمْ نُعَاشِرْهُمْ بِوُدٍّ

          مِن الجَمْعِ الكثيِف إِلَى شَتَاتِ

يُوَزَّعُ في البَنِيْنِ وفي البَنَاتِ

وقِيْمَةِ حَبّةٍٍ قَبْلَ المَمَاتِ

وَقَدْ صِرْنا عِظامًا بَالَياتِ

ولَمْ يَكُ فيهِمُ خِلٌّ مُؤاتِ

ج

واعلم رحمك الله أن مما يعينك على الفكرة في الموت ويفرغك له ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرانك وزملائك وأساتذتك ومشايختك الذين مضوا قبلك وتقدموا أمامك.

كانوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويأملون أملك، ويعملون في هذه الدنيا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين.

ويتذكر أيضا ما كانوا عليه من الاعتناء بالملابس ونضافتها ونضرة بشرتهم، وما كانوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كانوا في نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاؤا من محابهم يتنعمون.

وفي أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزوال، ولا يهمون بانتقال، ولا يخطر الموت لهم على بال، قد خدعتهم الدنيا بزخارفها، وخلبتهم وخدعتهم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة.

فلم تزل تقرب لهم بعيدًا، وترفع لهم مشيدها، وتلبسهم غضها وجديدها، حتى إذا تمكنت منهم علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشفت لهم حقائقها، ورمقتهم المنية روامقها.

فوثبت عليهم وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قتلة المختنق، فكم عليهم من عيونٍ باكية، ودموعٍ جارية، وخدودٍ دامية، وقلوبٍ من الفرح والسرور لفقدهم خالية. وأنشدوا في هذا المعنى:

ورَيَّانَ مِن مَاء الشَّبَابِ إذا مَشَى

تعَلَّقَ مِن دُنْيَاهُ إذْ عَرَضَتْ لَهْ

فأصْبَحَ منها في حَصِيْدٍ وقائِم

خَلا بالأمانِي واسْتَطَابَ حَدِيْثَها

وأدْنَتْ لَهُ الأشَيَاءَ وَهْيَ بَعَيْدةُ

أُتِيْحَتْ لَهُ مِن جَانِب الموتِ رَمْيَةٌ

وصَارَ هَشِيْمًا بَعدَمَا كانَ يانِعًا

كأَنْ لَمْ يَنَلْ يَوْمًا مَن الدَّهْرِ لَذَّةً

تَبَارَكَ مَن يُجْرِيْ عَلى الخَلْقِ حُكْمَهُ

          يَمِيْدُ عَلَى حُكْم الصِّبَا ويَمِيْدُ

خَلُوبًا لأَلْبابِ الرجال تَصِيْدُ

ولِلْمَرْءِ منها قائمٌ وحَصِيْدُ

فَيَنْقُصُ مِن أطْماعِهِ ويَزِيْدُ

وتَفْعَلُ تُدْنِي الشيءَ وهْوَ بَعْيدُ

فَرَاحَ بها المَغْرُوْرُ وهْوَ حَصِيْدُ

وعَادَ حَدِيْثًا يَقْضِيْ وَيَبِيْدُ

ولا طَلَعَتْ فيه عَلَيْه سُعُوْدُ

فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عنه مَحِيْدُ

اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

واعلموا رحمكم الله أن الناس في ذكر الموت على أقسام فمنهم المنهمك في لذاته المثابر على شهواته، المضيع فيها ما لا يرجع من أوقاته، لا يخطر الموت له على بال، ولا يحدث نفسه بزوال، واتخذ إلهه هواه، فأصمه وأعماه وأهلكه وأرداه.

فإن ذكر له الموت نفر وشرد، وإن وعظ أنف وبعد، وقام في أمره الأول وقعد، قد حاد عن سواء نهجه، ونكب عن الطريق الصحيح، وأقبل على بطنه وفرجه، تبت يداه وخاب مسعاه.

وكأنه لم يسمع قول الله جل جلاله: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ.

وهذا وأمثاله إن ذكر له الموت تصامم عن ذكره كأن لم يسمع ولم يمكنه من فكره رجاء أن يبلغ ما أمل أو يدرك بعض ما تخيل فعمره ينقص، وحرصه يزيد، وجسمه يخلق ويضعف، وأمله جديد، وحتفه قريب.

يحرص حرص مقيم ويسير إلى الآخرة سير مجد كأن الدنيا عنده حق اليقين والآخرة ظن من الظنون.

أَتَحْرِصُ يَا ابْنَ آدَمَ حِرْصَ باقٍ

وتَعْمَلُ طُوْلَ دَهْرِكَ في ظُنُونٍ

          وأنْتَ تَسِيْرُ وَيْحَكَ كُلَّ حِيْنِ

وأنْتَ مِن المنُونِ على يَقِيْنِ

وقسم آخر وقليل ما هم من أزيل عن عينيه قذاها، وكشف عن بصيرته عماها، وعرضت عليه الحقيقة فرآها، وأبصر نفسه وهواها، فزجرها ونهاها وأبغضها وقلاها.

فلبى المنادي، وأجاب الداعي، وشمر لتلافي ما فات، والنظر فيما هو آت، وتأهب لهجوم هادت اللذات، ومفرق الجماعات، واستعد لحلول الشتات والانتقال إلى محلة الأموات.

ومع هذا فهو يكره أن يشهد وقائعه أو يرى طلائعه وليس يكره الموت لذاته ولا لأنه هادم للذاته، ولكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد، والاكتساب ليوم الحساب.

ويكره أن تطوى صحيفة عمله قبل بلوغ أمله، وأن يبادر بأجله قبل إصلاح خلله، وتدارك ذلـله، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار والإقامة بهذه المحلة بسبب هذه العلة.

شعرًا:

أهْون بِدَارِكم الدُنْيَا وأهْلِيْهَا

اللهُ يَعْلَمُ أني لَسْتُ أَعْشقُهَا

لَكِنْ تَمَرَّغْتُ في أدْنَاسِهَا حُقُبًا

أيامَ أسْحَبُ ذَيْلي في مَلاعِبِهَا

وكم تَحَمَّلْتُ فيها غَيْرَ مُكْتَرِثٍ

فَقُلْتُ أبْقَى لَعَلِّي أهْدِمُ مَا

ومِنْ وَرَاءه عِقَابٌ لَسْتُ أقْطَعُهَا

يا وَيْلَتِيْ وَبِحَارُ العَفو زَاخِرةٌ

          واضرِبْ بِهَا صَفَحاتٍ مِنَ مُحِبْيِهَا

وَلا أرِيْدُ بَقَاءً سَاعَةً فِيْهَا

وبِتُّ أنْشُرُهَا حِيْنًا وأطْوِيْهَا

جَهْلاً وأهْدِمُ مِن دِيْني وأبْنِيْهَا

مِن شَامِخَاتِ ذُنوب لَسْتُ أحْصِيُهَا

بَنَيْتُ مِنْهَا وأدْنَاسِيْ أُنَقِيْهَا

حَتَّى أُخَفِّفَ أَحْمَالِيً وألْقِيْهَا

إنْ لَمْ تُصِبْنِيْ بِرشٍ في تَثَنِّيْهَا

هذل لله دره يرجى له المغفرة من الله والسرور والحبور لتوبيخه نفسه واستعظامه لذنوبه ورجائه المغفرة.

وقال ابن السمالك إن الموتى لم يبكوا من الموت ولكنهم يبكون من حسرة الفوات فاتتهم والله دارٌ لم يتزودوا منها، ودخلوا دارًا لم يتزودوا لها.

فأية ساعةٍ مرت على من مضى وأية ساعةٍ بقيت علينا والله إن المتفكر في هذا لجدير أن يترك الأوطان، ويهجر الخلان، ويدع ما عز وما هان.

وقال إبراهيم النخعي كانوا يشهدون الجنازة فيرى فيهم ذلك أيامًا كأن فيهم الفكرة في الموت، وفي حال الميت.

وقال مطرف بن عبد الله ابن الشخير عن أبيه أنه كان يلقى الرجل من خاصة إخوانه قد بعد عهده به فلا يزيده على السلام حتى يظن الرجل في صدره عليه موجدة، أي غضب كل ذلك لانشغال فكره بالجنازة وتفكره فيها وفي مصيرها حتى إذا فرغوا منها لقيه وسأله عن حاله ولاطفه وكان منه على أحسن ما عهد وقال الأعمش كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المعزى فيها لكثرة الباكين وإنما بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت.

شعرًا:

ماذا تُؤمِّلُ والأيَّامُ ذَاهِبَةٌ

وصَيْحَةٍ لِهُجْومِ المَوْتِ مُنْكَرةٌ

وغُصَّةٍ بِكُؤوْسِ أَنْتَ شاربُهَا

يا غَافِلاً وهْوَ مَطْلُوبٌ ومُتَّبَعٌ

خُذْهَا إليْكَ طِعَانًا فِيْكَ نَافِذةً

إنَّ المنِيَّةَ لَوْ تُلْقَى عَلَى جَبَلٍ

          ومِنْ وَرَائِكَ للأيَّامِ قُطِّاعُ

صُمَّتْ لِوَقْعَتِهَا الشَنْعَاءِ أَسْمَاعُ

لَهَا بقَلْبِكَ آلامُ وَأَوْجَاعُ

أَتَاكَ سَيْلٌ مَن الفُرْسَانِ دَفَّاعُ

تَعْدِى الجَلَيْسَ وأمْرُ لَيْسَ يُسْطَاعُ

لأَصْبَحَ الصَّخْرُ منْهُ وَهْوَ ميَّاعُ

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخدنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

 فصل في ذكر كلام بعض المرضى والمحتضرين

ولما احتضر أبو بكر الصديق جاءته أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ فلما رأته تمثلت بهذا البيت:

لَعَمْرِكَ مَا يُغْنِي الثراءُ عن الفَتَى

          إذا حَشْرجَتْ يومًا وضاق بها الصَّدرُ

فكشف أبو بكر عن وجهه وقال ليس كذلك ولكن قولي: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ، ثم قال في كم كفن رسول الله قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فقال: خذوا هذا الثوب لثوبٌ كان عليه قد أصابه مسك أو زعفران فاغسلوه ثم كفنوني فيه مع ثوبين آخرين وكان ثوبًا خلقًا. فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما هذا تريد أنه خلق. فقال أبو بكر الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هذا للمهل "أي للصديد والقيح".

ويروى عن سعيد بن المسيب أنه قال لما احتضر أبو بكر الصديق أتاه ناسٌ من أصحابه قالوا له يا خليفة رسول الله إنا نراك ألم بك فأوصنا بوصية وزودنا منك بموعظة.

فقال من قال هذه الكلمات ثم مات جعل الله روحه في الأفق المبين فقالوا وما الأفق المبين قال قاع بين يدي العرش فيه رياضٌ وأشجارٌ وأنهارٌ فمن قال هذا القول جعله الله في ذلك المكان.

اللهم إنك ابتدأت الخلق من غير حاجة بك إليهم ثم جعلتهم فريقًا للنعيم وفريقًا للسعير فاجعلني للنعيم ولا تجعلني للسعير.

اللهم إنك خلقتهم وميزتهم قبل أن تخلقهم فجعلت منه شقيًا وسعيدًا وغويًا ورشيدًا فلا تشقني بمعاصيك.

اللهم إنك علمت ما تكسب كل نفس قبل أن تخلقها ولا محيص لهم مما علمت فاجعلني ممن تستعمله بطاعتك.

اللهم إن أحدًا لا يشاء إلا ما تشاء فاجعل مشيئتي أن أشاء ما يقربني إليك.

اللهم إنك قدرت حركات العباد فلا يتحرك شيء إلا بإذنك فاجعل حركتي في تقواك اللهم إنك خلقت الخير والشر وجعلت لكل واحد منهما عاملاً يعمل به فاجعلني من خير القسمين.

اللهم إنك خلقت الجنة والنار وجعلت لكل واحدةٍ منهما أهلاً فاجعلني من ساكني جنتك.

اللهم إنك أردت الضلال بقومٍ وضيقت به صدورهم فاشرح صدري للإيمان وزينه في قلبي.

اللهم إنك دبرت الأمور فجعلت مصيرها إليك فأحيني حياة طيبة وقربني إليك زلفى.

اللهم من أصبح ثقته ورجاؤه غيرك فأنت ثقتي ورجائي ولا حول ولا قوة إلا بك قال أبو بكر وهذا كله في كتاب الله عز وجل اهـ.

وقال الشعبي رحمه الله لما طعن عمر أتى بلبن فشرب منه فخرج اللبن من طعنته فقال الله أكبر وجعل جلساؤه يثنون عليه خيرًا.

فقال وددت أن أخرج من الدنيا كفافًا كما دخلت لا علي ولا لي والله لو كان لي اليوم ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع.

ولما احتضر غشي عليه ورأسه في الأرض فوضع ابنه عبد الله رأسه في حجره فلما أفاق من الغشية قال لابنه عبد الله ضع رأسي على الأرض كما أمرتك فقال له ابنه يا أبتي وهل الأرض وحجري إلا سواء قال ضع رأسي على الأرض كما أمرتك فوضعه.

قال فمسح خديه بالتراب ثم قال ويل لعمر ويل لعمر ويل لأم عمر إن لم يغفر الله لعمر فإذا قضيت فأسرعوا بي إلى حفرتي، فإنما هو خيرٌ تقدمونني إليه أو شرٌ تضعونه عن رقابكم.

ولما احتضر عثمان جعل يقول ودمه يسيل: لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ اللهم إني أستعين بك على أموري وأسألك الصبر على بلائي.

ويروى أن ابن المنكدر رحمه الله عندما نزل به الموت بكى فقيل له ما يبكيك فقال والله ما أبكي لذنبٍ أعلم أني أتيته ولكني أخاف أن أكون قد أذنبت ذنبًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم.

وقال سليمان التيمي دخلت على بعض أصحابنا وهو في الموت فرأيت من جزعه ما ساءني فقلت هذا الجزع كله لماذا وقد كنت تحمد الله على كذا يعني على حالة صالحة فقال وما لي لا أجزع ومن أحق مني بالجزع والله لو أتتني المغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه فيما أفضيت به إليه.

وقال بعض الصالحين لغلامه وقد حضره الموت يا غلام شد كتافي وعفر بالتراب خدي ففعل الغلام ثم قال دنا الرحيل اللهم لا براءة لي من ذنبٍ ولا عذرٍ لي فأعتذر به ولا قوةٍ فانتصر بها ثم قال أنت لي "ثلاثًا" ثم صاح صيحةً ومات فسمعوا صوتًا في البيت يقول استكان العبد لمولاه فقبله وأدناه" ومعنى استكان ذل وخضع.

وقال حذيفة ما من صباح إلا وينادي منادٍ أيها الناس الرحيل الرحيل.

رَأَيْتُ بَنِي الدُنْيَا كَوَفْدَيْنِ كُلَّمَا

          تَرَحَّلَ وفْدٌ جَاءَ في إثْرِهِ وَفْدُ

وقال آخر: أيها الإنسان إنما أنت نازلٌ من الدنيا في منزلٍ تعمره أيام عمرك، ثم تخليه عند موتك لمن ينزله بعدك.

أَخْلِ لِمَنْ ينْزِلُ ذَا المَنْزِلِ

وَارْحَلْ بِمَا قَدْ كُنْتَ جَمَعْتَهُ

هَيْهَاتَ لا تَخْرُجُ مِنْهُ بِشَيءٍ

واقُعُدْ مِن الغَيْضِ وإلا فَقُمْ

فَلَسْتَ بالخارِجِ إلا بِمَا

وَخَلِّ هذي الأماني فما

كَمْ مِن فَتىً طَوَّل آمالِهُ

فَجَاءَهُ الموتُ على غِرَّةٍ

فيا إلهي الذِي جُوْدُهُ

رَحْمَاكَ يا رَحْمن في فِتْيَةٍ

قد حَجَبَتْهَا عَنْكَ آثَامُهَا

ولَيْسَ إلا عَفْوُكَ المُرتَجَى

          وارْحَلْ فَقَدْ آنَ أن تَرْحَلْ

واحْمِلْهِ إنْ خُلِّيْتَ أنْ تَحْمِلْ

فافْعَلَنْ مَا شِئْتَ أنْ تَفْعَل

واطْلَعْ إلى الكواكَبِ أَوْ فَانْزِلِ

جِئْتَ فَسَلِّمْ ويْكَ واسْتَبْسَلْ

تُثْمِرُ إلا شَرَّ ما يُؤْكَلْ

فَقَصَّرَتْ دُنْيَاهُ ما طَوَّلْ

فَماتَ مِن قَبْلَ الذِي أمَّلْ

قَدْ غَمَرَ الآخِرَ وَالأَولْ

لَيْسَ لَهُمْ دُوْنَكَ مِن مُؤمَّلْ

وأنْزَلَتْهَا شَرَّ مَا مَنْزِلْ

فَدُلَّها مَاذا الذي تَعْمَلْ

اللهم إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيءٌ من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم على الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تعفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

مرض أبو الدرداء فقالوا ندعوا لك طبيبًا قال الطبيب أمرضني. فقال له رجلٌ من أصحابه يا أبا الدرداء اشتهي أن أسامرك الليلة "أي أتعلل معك وأونسك.

فقال أبو الدرداء أنت معافى وأنا مبتلى فالعافية لا تدعك أن تسهر، والبلا لا يدعني أن أنام أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يهب لأهل العافية الشكر ولأهل البلا الصبر.

ولما اشتد المرض على عمر بن عبد العزيز جاؤوه بطبيب فلما دخل عليه ورآه قال: إنه قد سقي السم ولا آمن عليه الموت.

فرفع عمر بصره وقال لا يؤمن أيضًا الموت على من لم يسق السم فقال الطبيب وهل أحسست بذلك يا أمير المؤمنين فقال نعم عرفت ذلك حين وقع في بطني.

قال تعالج يا أمير المؤمنين فإني أخاف أن تذهب نفسك فقال عمر ربي تبارك وتعالى خير مذهوب إليه والله لو علمت أن شفائي عند شحمت أذني ما رفعت إليه يدي اللهم خر "أي اختر" لعمر في لقائك فلم يلبث إلا أيامًا قلائل حتى مات .

ومرض الربيع بن خيثم فقالوا له ندعوا لك طبيبًا فتفكر وقال أين عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونًا بين ذلك كثيرًا قد كانت فيه الأدوية والأطباء فلا أرى المداوي ولا المداوى كلٌ قضى ومضى والله لا أدعو طبيبًا أبدًا.

ذهب المُدَاوِي والمُدَاوَى والذي

          جَلَبَ الدَّوَاءَ وَبَاعَهُ ومَن اشْتَرا

وقال بعض الصالحين دخلنا على مغيرة الخراز وهو مريض فقلنا له كيف تجدك فقال أجدني موقرًا "أي مثقلاً" بالآثام فقلنا له فما تشتكي.

قال الحسرة على طول الغفلة قلنا له فما تشتهي قال الإنابة إلى ما عند الله والنقلة عما يكرهه الله قال فبكى القوم جميعًا.

ودخل الحسن البصري على عطاء السلمي وهو مريض فوجده قد علاه الغبار والصفار فقال يا عطاء لو خرجت إلى صحن الدار فكان يضربك الهواء فتجد له راحة.

قال يا أبا سعيد وبهذا تأمرني وإني لأستحيي من الله عز وجل أن أخطو خطوة في راحة بدني.

وقال منصور دخلت على عطاء السلمي بعد هذا أعوده وهو مريض فرأيته يبتسم فعجبت من ذلك فكأنه فهم عني.

فقال أتعجب يا ابن أخي فقلت وكيف لا أعجب فقال وكيف لا أضحك وقد دنى فراقي ممن كنت أخافه وأحذره.

ودنى قدومي على خالقٍ كنت أرجوه وآمله أتجعل مقامي مع مخلوقٍ أخافه كقدومي على خالقٍ أرجوه، قال هذا قبل أن يحضره وينزل به الموت.

وقال أحمد بن أبي الحواري دخلت على أحد المتعبدين وهو مريض فقلت كيف تجدك، فقال بحالٍ شريفة أسير كريم حبيس جواد مع أعوان صدق.

والله لو لم يكن لي مما ترون عوضًا إلا ما أودع قلبي من محبته لكنت خليقًا أن أدوم على الرضى عنه وما الدنيا وما غاية البلاء فيها هل هو إلا ما ترون من هذه العلة.

ويوشك إن اشتد بي الأمر أن يدخلني إلى سيدي ولنعمة العلة رحلت بمحب إلى محبوب قد أحزنه طول التخلف عنه.

كأنَّكَ قد رَحَلْتَ عن المَبَانِي

ونادَاكَ الحَبِيْبُ فَلَم تُجِبْهُ

وأصْبَحَ مَالُك المجموعُ نَهْيًا

وَصَارَ بَنُوكَ أيْتَامًا صِغَارًا

وأكْبَرُ مِنْهُ أنَّكَ لَسْتَ تَدْرِي

          وَوَارَتْكَ الجَنَادِلُ والصَّعِيْدُ

وقُرْبُكَ مِنْهُ في الدنيا بَعِيْدُ

وعُطِّلَ بَعْدَكَ القَصُرُ المَشِيْدُ

وعانَقَ عِرْسَكَ البَعْلُ الجَدِيْدُ

شَفِيٌ أنْتَ ويْحَكَ أَمْ سعِيْدُ

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحن الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله أجمعين.

(فصل)

روي أن مالك بن دينار رحمه الله دخل على شاب يعوده فوجده خيالاً على فراشه كالشن (المعنى يابس عليه جلده من شدة المرض).

فسأله عن حاله فلم يستطع الجواب بلسانه فأشار بطرفه وإذا بصوت المؤذن فسمعناه يقول كما يقول المؤذن ويشير بأصبعه عند الشهادتين ثم أمر ولده فوضأه ثم أمره أن يوجهه إلى القبلة ليصلي وهو مضطجع بالإيماء.

ثم قال يا مالك البلاء منه سبحانه راحة مع بقاء الإيمان يا مالك نعمه لا تعد وبلاؤه واحد.

قال مالك فتعجبت من يقينه وصبره وصدق وفائه وخالص محبته، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات رحمه الله وقال عبد الله بن عتبة عدت رجلاً مريضًا فلما قعدت عنده قلت له كيف حالك فقال:

خَرَجْتُ من الدنيا وقامَتْ قِيَامَتِي

وعَجَّلِ أَهْلِيْ حَفْرَ قَبْري وصَيَّرُوْا

كَأَنَّهُمُوا لم يَعْرِفوا قَطُّ صُوْرَتي

          غَدَاتَ أقَلَّ الحَامِلُونَ جَنَازَتي

خُرُوْجيْ وتعْجِيْلِي أَجَلَّ كَرَامَتِي

غَداةَ أَتَى يَوْمي عَليَّ وسَاعَتِي

ويروى عن بعض السلف قال كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة فشهدت يومًا جنازةً في المقبرة التي دفن فيها فتعجلت بحاجتي ولم أته فلما كان من الليل رأيته في المنام فقال يا بني لم لا تأتيني فقلت له يا أبت وإنك لتعلم بي إذا أتيتك قال أي والله يا بني وإنك لتأتيني فما أزال أنظر إليك حتى تطلع من القنطرة حتى تصل إلي وتقعد عندي ثم تقوم فلا أزال أنظر إليك حتى تجاوز القنطرة.

شعرًا:

ولَمَّا حَلَلْنَا مِنْ بِجَايةَ جَانِبًا

وَجَدْتُ لَهَا طِيْبًا وَرَوْحًا ورَاحَةً

فَقُلْتُ لِصَحْبِي ما الذِي أَمْرَجَتْ لَهُ

فأَوْهَمْتُهُمْ أَنِّي جَهِلْتُ وَإِنَّنِي

فقالوا طَلَبْنَا عِلْمَ ذَاكَ فَلَمْ نَجِدْ

تَضَوَّعَ بَطْنُ الأرْضِ منها كأنَّما

فَفَاضَتْ دُمُوْعيْ عند ذَاكَ وَرُبَّمَا

خَلِيْلَيَّ ما بَالِي وبالُ مَصَائِبٍ

ومِمَّا شَجَانِي وَهْوَ أعْظَمُ أَنَّنِي

وَلَمْ أدْرِ مَا كانَتْ تَحِيَّةُ خَصْمِهِ

وَأعْظَمُ مِنْهُ مَوْقِعًا وَأَشَدُّهُ

بأَنِي في تْلِكَ المَسَالكِ سَالِكٌ

وما أنَا أَدْرِيً ما ألاقِي وما الذِي

فَهَلٍ مِنْ دَمٍ أَبْكِيْهِ صِرْفًا فإنَّمَا

          تُصَانُ بِهِ تْلِكَ الجُسُوْمُ وتُكْرَمُ

كأَنِي لأَنْفَاسِ الصِّبَا أتَنَسَّمُ

مَقَابِرُ مِنْهَا لا طِئٌ ومُسَنَّمُ

لأَدْرَي بِذَاكَ الأَمْرِ منهم وأَفْهَمُ

سِوَى رِمَمٍ مِمَّنْ تُحِبُّ وتُعْظِمُ

تَفَتَّقَ مِن دَارِيْنَ مِسْكٌ مُخَتَّمُ

تَشَهّرَ بالدَّمْعِ السرارُ المُكَتَّمُ

يُرَاعُ لِذاكْراها فُؤآدِي ويُكْلَمُ

قَذَفْتُ بها مُسْوَدَّة الجَوَف تَلْطِمُ

لَهُ هَلْ بِبُشْرَى أمْ بِشَنْعَاءَ تَقْصِمُ

وما خَصَّنِي أَدْهَى عَليَّ وأَعْظَمُ

أُسَاقُ إليْهَا إِنْ أبَيْتُ وَأُرْغَمُ

عَلَيْه إذَا مَا كانَ ذَلِكَ أَقْدَمُ

يُبَكَّي على هَذَا مِن المُقْلَةِ الدَّمُ

اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا ربا العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله تعالى:

واعلم رحمك الله أن أمر الخاتمة وما يحذر من سوئه أمر إذا ذكر حقيقة ذكره انفطرت له القلوب وتصدعت له الأكباد وتقطعت.

ولولا أن الله جل وعلا حدد الآجال لزهقت الأنفس عند أول ذكره ولكنها مربوبة مدبرة مقهورة مصرفة تخرج إذا أذن لها في الخروج وتلج إذا أذن لها في الولوج.

وما يمنع القلوب من الانشقاق والانصداع والانفطار والذي يلقى المختوم له بسوء الخاتمة عذاب لا تقوم له السموات والأرض لشدته ولا آخر لمدته.

وما منا أحد إلا ويخاف أن يكون ممن يختم له بسوء الخاتمة، وما الذي أمنه منه، والخاتمة مغيبة، والعاقبة مستورة، والأقدار غالبة والنفس كما ترى، والشيطان منها بحيث تدري.

وهي مصغية ومستمعة إليه قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ فهي ملتفتة نحو الشيطان ومقبلة عليه.

هِي النَّفْسُ إنْ تَنْظُر إلى الحقِ نَظْرَةً

وإنْ نَهَضَتْ يَوْمًا إلى اللهِ نَهْضَةً

إلى اللهِ أَشْكُوْهَا فبِاللهِ حَوْلُهَا

          فإنَّ لَهَا في غِيْرِهِ نَظَرَاتِ

فإنَّ لَهَا عَنْهُ غَدًا نَهَضَاتِ

وَبِاللهِ تَمْضِي في الأمُوْرِ وتَاتِي

ورد في الخبر عن النبي أنه قال: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار.

وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم".

وقال : "رفعت الأقلام وجفت الصحف" وأنشد بعضهم:

قد جَرَتِ الأَقْلامُ في ذَا الوَرَى

وخَطَّتِ الشَّيءَ عَلى حُكْمِهِ

فَمِنْ عَزِيْز رَأْسُهُ في السُّهَى

وَمِن صَحيْحٍ شُدَّتْ أرْكَانُهُ

كُلٌ على مِنْهَا جِهِ سَالِكٌ

          بالخَتْم مِن أَمْر العَليمِ الحَكِيمْ

في عِلْمِهِ السَّابَقِ منه القَدَيمْ

ومِن ذلِيْلٍ وَجْهُهُ في التُخُوْمْ

وآخَرُ وَاهِي المَبَانِي سَقِيْمْ

كُلٌ عَلى تَقْدِيْرِ رَبٍ عَلِيْم

وقال رحمه الله فانظر رحمك الله كيف تقر عين عاقل في هذه الدار وكيف يستقر به فيها قرار مع هذه الحال وتوقع هذا المآل واشتغال هذا الخاطر وتقسيم هذا البال.

كلا لا حلول له ولا قرار ولا ربع ولا دار ولا قلب إلا مستطار، ولا نوم ينامه إلا غرار حتى يدري أين مسقط رأسه ومحط رحله وموضع رجله، وما المورد والمنهل وفي أي المحال يحل وفي أي المنازل ينزل:

وكَيْفَ تَنَاَمُ العَيْن وهي قَرِيْرَةٌ

          ولَمْ تَدْرِ في أيِّ المَكَانَينِ تَنْزِلُ

لكن حجاب الغفلة الذي غطى القلوب كثيف فلا يرى ما وراءه والوقر الذي في الآذان عظيم فلا يسمع من ناصح دعاءه.

روى في الصحيح عن النبي أنه قال: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبشٌ أملح فيوقف بين الجنة والنار.

فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت، ثم قرأ رسول الله : وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.

فانظر رحمنا الله وإياك إلى عظيم هذه الغفل وكثافة حجابها وكيف منعت من النظر في هذا الحديث والفكرة فيه والعمل بمقتضاه.

شعرًا:

حاسِبِ النَّفْسَ قَبْلَ يومِ الحِسَاب

وأَصِبْهَا مِن الأَسَى بِشِوَاظٍ

وإِذَا مَا بَكَيْتَ يَوْمًا بِدَمْعٍ

وحَذَارِ حَذَارِ أن تَتَهَنَّا

أوْ مَنَام تَنَامُ باللَّيْلِ حَتَّى

          وأَذِقْهَا العَذَابَ قَبْلَ العَذَابْ

يُنْضِجُ اللَّحْمَ قَبْلَ نَضْجِ الإِهَابْ

فَبِدَمْعٍ مِن الفُؤآدِ مُشَابْ

بَطَعامٍ تَنَالُهُ أوْ شَرَابْ

تَسَتَبِيْنَ المآل يَوْمَ المآبْ

وقيل يا ابن آدم الأقلام تجري وأنت في غفلة لا تدري، يا ابن آدم دع المغاني والأوطان والمنازل والديار، والتنافس في هذه الدار، حتى ترى ما فعلت في أمرك الأقدار، وقد بكى أولو الألباب على هذا فأكثروا واسهروا من أجله الليالي الطويلة وأسهروا وحاول عاذلوهم كفهم عما هم فيه فلم يقدروا وكلموهم في الاقصار فلم يقصروا ولم يسمعوا ولم يبصروا.

وذلك للعلم الذي لاح لهم والتأييد الذي شملهم والتوفيق الذي قطع عنهم ما صدهم عن طريق الله عز وجل وشغلهم وربما هبت عليهم نفحات الرجاء فاستبشروا وسكنوا من ذلك الهيجان وفتروا.

ثم ذكروا ما هم معرضون له فعادوا لما كانوا عليه من الاجتهاد، وربما زادوا عليه وأكثروا، ومع هذا فإنهم لشدة خوفهم من الله وكثرة جزعهم يظنون كل إشارة إنما يشار بها إليهم.

كما روي أن عمر سمع قارئًا يقرأ: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ قال هذا قسم حق فظن أن العذاب قد وقع به فغشي عليه.

وسمع آخر قارئا يقرأ: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ أو آية نحوها فغشى عليه.

ومر آخر على رجل يبيع الخيار، ويقول عشرة بدانق "الدانق سدس درهم" فغشي عليه فلما أفاق قيل له مم غشي عليك. فقال أو ما سمعته يقول الخيار العشرة بدانق، وإذا كانت قيمة الخيار هذه فكم تكون قيمتي وقيمة أمثالي".

ظن المسكين أن المراد خيار الناس وأفاضلهم فانظر إلى هذا المسكين لم يلق باله إلى أنه الخيار المأكول وذلك لشدة خوفه وسوء ظنه بنفسه.

وختامًا فاسلك على منهاج هؤلاء العقلاء، والتمس على آثار هؤلاء الفضلاء، وأدم حسرتك، وأطل زفرتك، وامزج بدم الفؤاد عبرتك، وصل البكاء بالبكاء، والأسى بالأسى حتى تنكشف لك هذه الغشاوة وتنجلي عنك هذه العماية.

بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فقيل له أبكاؤك هذا على الذنوب فأخذ تبنة من الأرض وقال الذنوب أهون من هذه إنما أبكي خوف سوء الخاتمة" لأنها الأمر الذي يبكي عليه، ويصرف الاهتمام له.

ولذلك قيل لا تكف دمعك حتى ترى في المعاد ربعك، وقيل لا تكحل عينك بنوم حتى ترى حالك بعد اليوم، وقيل لا تبت وأنت مسرور حتى تعلم عاقبة الأمور.

وسمع بعض الصالحين رجلاً ينشد شطر بيت شعر، أيا راهبي نجران ما فعلت هند فبكى ليلته كلها.

فلما أصبح قيل له ما كان شأنك البارحة وما الذي أبكاك فقال: سمعت منشدا ينشد الشطر السابق فقلت في نفسي ماذا قدر علي وما الذي يجري علي فانظر الفرق بينه وبين منشد البيت اهـ.

وقد علمت أن الناس صنفان صنفٌ مقربٌ مصان، وصنفٌ مبعدٌ مهان، صنفٌ نصبت له الأسرة والحجال وجمعت له الرغائب والآمال والأرائك والكلال.

وصنفٌ أعدت له الأراقم والصلال والمقامع والأغلال وضروب الأهوال والأنكال والسلاسل والغسلين والزقوم والضريع والحميم وأنت لا تعلم من أي الصنفين أنت ولا في أي الفريقين كتبت.

وكَيْفَ بالنَّوْمِ على زَأْرَةٍ

وأنْتَ في ذَاغَيْرُ مُسْتعْتَبٍ

وثُلِّمَتْ بالرَّوْعِ حِيْطَانُهُ

          مِنْ أسَدٍ تَكْشُرُ أنْيَابُهُ

في منْزِلٍ قَدْ كسُرَتْ أبْوَابُهُ

وفُرِّقَتْ بالخَوْفِ حُجَّابُهُ

آخر:

والذي أبْكَى الجُفُونَ دَمًا

سابقٌ لم نَدْرِهِ كَيْفَ جَرَى

وأَمُور في الوَرَى قَدْ أُخْفِيَتْ

فَدَعِ الأنْفَاسَ فيها صَاعِدِةْ

وأبْكِ لا جَفَّتْ دُمُوعُ العَيْنِ مَا

          فَغَدَتْ مِن ذلكَ الدَّمْعِ غُدُرْ

في القَضَاءِ الحَتْمُ فيه وَالقَدَرْ

عن ذَوِي الأَلْبَابِ أَصْحَابِ النَّظَرْ

ودُمُوعَ العَيْنِ مِنَها تَنْحَدِرْ

ضَاعَ مِن أَيَّامِكَ أيَّامَ الغَرَرْ

اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله واعلم أن لسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابًا ولها طرق وأبواب أعظمها الإقبال الاكباب على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والإقدام بالمعصية على الله جل وعلا وتقدس.

وربما غلب على الإنسان ضربٌ من الخطيئة ونوعٌ من المعصية وجانب من الإعراض عن الله والدار الآخرة، ونصيبٌ من الافتراء، فملك قلبه وسبى عقله، وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه.

فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاء الموت على ذلك فسمع النداء من مكانٍ بعيدٍ فلم يتبين المراد ولا علم ما أراد، وإن أعاد عليه وأعاد.

ويروى أن أحد رجال الناصر بن علناس، نزل به الموت فجعل ابنه يقول له: (قل لا إله إلا الله) فقال الناصر يا مولاي، فأعاد عليه، فأعاد ثم أصابته غشية فلما أفاق منها قال الناصر أمولاي، ثم قال لابنه يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك فالقتل ثم القتل ثم مات.

وقيل لآخر قل لا إله إلا الله عندما نزل به الموت فقال الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنات الفلانية افعلوا فيها كذا، وقيل لرجلٍ نزل به الموت (قل لا إله إلا الله) فجعل يقول بالفارسية ده يا ازده تفسير عشرة أحد عشر اثنا عشر كان هذا الرجل من أهل العمر والديوان فغلب عليه الحساب والميزان.

وقيل إن رجلاً نزل به الموت فقيل له قل لا إله إلا الله فجعل يقول:

يا رُبَّ قائلةٍ يَوْمًا وقد تَعِبَتْ

          أيْنَ الطَّرِيقُ إلى حمام مَنْجَابِ

وهذا الكلام فيه قصة وذلك أن رجلاً كان واقفًا على باب داره وكان باب داره يشبه باب الحمام فمرت امرأة لها رونق ومنظر خلاب وهي تسأل عن طريق حمام منجاب.

فقال لها هذا حمام منجاب وأشار إلى داره فدخلت داره ودخل ورائها فلما رأت نفسها معه في داره، وليست بحمام علمت أنه خدعها فاحتالت عليه بأن أظهرت له الفرح والبشر باجتماعها معه على تلك الخلوة في تلك الدار.

وقالت ينبغي أن يكون عندنا ما يطيب به الاجتماع وتقر به عيوننا ففرح وقال الساعة آتيك بكل ما تريدين وما تشتهين.

وخرج وتركها في الدار، وظن أنه أغلق عليها الباب، ومضى وأتى بما يصلح لهما ورجع ودخل الدار فوجدها قد خرجت وذهبت ولم يجد لها أثر.

فهام الرجل بها وذهبت بلبه فأكثر الذكر لها والحزن والجزع عليها وجعل يمضي في الطرق ويقول:

يا رُبَّ قائلةٍ يَوْمًا وقد تَعِبَتْ

          أيْنَ الطَّرِيقُ إلى حمام مَنْجَابِ

ومر من عند بيتها وهو ينشد هذا البيت وإذا بها تجاوبه من داخل دارها وتقول بصوت سمعه:

هَلا جَعَلْتَ سَرِيْعًا إذْ ظَفِرْتَ بِهَا

إنْ يَنْفَذَ الرِّزْقُ فالرَّزَاقُ يَخْلِفُهُ

          حِرْزًا عَلَى الدارِ أَوْ قُفْلاً عَلى البابِ

والعِرْضُ مِنْ أيْنَ يَا مَغْرُوْرُ يُنْجَابُ

فلما سمع ذلك جعل يردد ذلك ومات.

وقيل لآخر فل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء وقال وما ينفعني ما تقول ولم أدع معصية إلا ركبتها ثم مات.

وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال وما يغني عني وما أعلم أني صليت لله صلاةً ثم مات ولم يقلها.

وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال هو كافرٌ بما تقول ومات.

وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها.

وقال ابن القيم رحمه الله أخبرني من حضر بعض الشحاذين عند الموت فجعل يقول لله فليس، لله فليس فمات.

وأخبرني أحد التجار عن قريبٍ له احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه (لا إله إلا الله) وهو يقول هذه القطعة رخيصة هذا مشتري جيد.

وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم.

وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من المعاصي.

وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وعطل لسانه عن ذكره وجوارحه عن طاعته فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه بما هو في من ألم النزع.

وجمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه غرضه فإن ذلك آخر العمل.

فأقوى ما يكون عليه الشيطان ذلك الوقت وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة "أي حالة نزع الروح".

فمن ترى يسلم على ذلك فهنالك يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ.

فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطًا.

فبعيدٌ من قلبٍ بعيدٌ من الله غافلٌ عنه متعبدٌ هواه مصيره لشهواته ولسانه يابسٌ من ذكره وجوارحه معطلةٌ من طاعته مشتغلةٌ بمعصيته فبعيدٌ أن يوفق لحسن الخاتمة، انتهى كلامه رحمه الله.

ونقل عن شارب الدخان أنه كلما قيل له قل لا إله إلا الله قال تتن حار تتن حار.

ونقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادتين فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغولاً بالحساب الذي طال له إلفه فغلب على لسانه ولم يوفق للشهادتين.

ويخشى على صاحب المعاصي والمنكرات ومتخذي آلات اللهو من شطرنج وأعواد وأوراق لعب وبكمات واصطوانات وكرة ومذياع وتلفزيون وفيديو وسينما وصور ذوات الأرواح.

أن يكون مشغولاً بها في آخر لحظة من حياته فيكون ختام صحيفته والعياذ بالله ما نطق به لسانه من ما يأتي فيها من المنكرات من أغاني وصور وتمثيليات ونحو ذلك نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها وقال رحمه الله واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله وإياك وجميع المسلمين منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل وإصرار على الكبائر وإقدام على العظائم.

فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ويثبت عليه قبل الإنابة ويأخذه الموت قبل إصلاح الطوية فيختطفه الشيطان عند تلك الدهشة والعياذ بالله ثم العياذ بالله أن يكون لمن كان مستقيمًا لم يتغير عن حاله ولم يخرج عن سنته.

قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ الآية وقد سمعت بقصة بلعام بن باعوراء وما آتاه الله من آياته وأطلعه عليه من بيناته "أخلد إلى الأرض واتبع هواه" فسلبه الله سبحانه جميع ما أعطاه وتركه مع من استماله وأغواه.

شعرًا:

إلَى كَمْ ذَا التَّمادِي بالدَّسَائِسْ

تُسَاعِدُ كُلَّ نَمّامٍ بإفْكٍ

تُسَابِقُ كُلَّ شَيٍطانٍ رَجْيمٍ

أَضَعْتَ العُمْرَ في زُوْرٍ وَوِزْرٍ

فعَجِّلْ بالمتَابِ لنْيلِ عَفْوٍ

          وأنْتَ بِحَمْأةِ البُهْتانِ غَاطِسْ

وتَغْتالُ الأكَارِمَ والأوانِسْ

بِمَا تُبْدِيْهِ مِنْ فِتَنِ الوسَاوِسْ

وَلَهْوٍ معْ ذَوِي الغَدْرِ الأبَالِسْ

لِتُحبَى مِنْ جَنَا مَا أَنْتَ غَارِسْ

اللهم أنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيءٌ من أمرنا نحن البؤساء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات وتقيم علم الجهاد وتقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

ويروى أن إبراهيم الخليل عليه السلام لما مات قال الله عز جل جلاله له كيف وجدت الموت قال كسفودٍ جعل في النار ثم أدخل في صوفٍ رطب ثم جذب فقال الله تعالى أما إنا لقد هوناه عليك يا إبراهيم.

ويروى عن موسى عليه السلام أنه لما صارت روحه إلى الله تعالى قال له يا موسى كيف وجدت الموت فقال: وجدت نفسي كالعصفور حين يلقى في المقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير.

ويروى عنه أنه قال وجدت نفسي كشاةٍ حية بيد القصاب تسلخ.

ويروى أن عمر قال لكعب الأحبار حدثنا عن الموت فقال نعم يا أمير المؤمنين كغصنٍ كثير الشوك أدخل في جوف رجل فأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى.

وقال القرطبي لتشديد الموت على الأنبياء فائدتان أحدهما تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم وليس ذلك نقصًا ولا عذابًا بل هو كما جاء أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

والثانية أن تعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقا ويرى سهولة خروج روحه فيظن سهول أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه.

فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى قطع الخلق بشدة الموت الذي يقاسيه الميت مطلقا لإخبار الصادقين عنه ما خلا الشهيد في سبيل الله انتهى.

أخرج الطبراني عن قتادة أن رسول الله قال: الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة".

أخرج ابن أبي الدنيا في المرض والكفارات وابن منيع في مسنده من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "يا أبا هريرة ألا أخبرك بأمر حق من تكلم به في أول مضجعه من مرضه نجاه الله من النار.

قلت بلى قال: "لا إله إلا الله يحيي ويميت وهو حي لا يموت وسبحان الله رب العباد والبلاد والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على كل حال والله أكبر كبيرًا كبرياؤه وجلاله وقدرته بكل مكان.

اللهم إن كنت أمرضتني لتقبض روحي في مرضي هذا فاجعل روحي في أرواح من سبقت لهم منك الحسنى وأعذني من النار كما أعذت أولئك الذين سبقت لهم منك الحسنى".

فإن مت في مرضك ذلك فإلى رضوان الله والجنة، وإن كنت قد اقترفت ذنوبًا تاب الله عليك".

وأخرج الطبراني عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مرفوعًا "من قال عند موته لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا تطعمه النار".

وأخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص أن النبي قال هل أدلكم على اسم الله الأعظم دعاء يونس لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.

فأيما مسلم دعا بها في مرض موته أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد وإن برئ برئ مغفورًا له".

وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله : "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".

وأخرج سعيد بن منصور عن أم الحسن قالت: كنت عند أم سلمة فجاءها إنسان فقال فلان بالموت.

فقالت انطلق فإذا أحتضر فقل: سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

شعرًا:

لَيْتَ شِعْرِي سَاكَن القَبرِ المشِيْدْ

وهَلِ البَاطِنُ فيهِ مِثْلَ مَا

وهَلِ المضْجَعُ فيْهِ لَيِّنٌ

وهَلِ الأرْكَانُ فِيه بِالتُّقَى

لَيْتَ شِعْرِيْ سَاكِن القَبْرِ المشَيْدْ

أقَرِيْبٌ أنْتَ مِن رَحْمَةِ مَنْ

أمْ بَعِيْدٌ أنْتَ مِنْهَا فَلَقَدْ

ولَقَدْ حَلَّ بأَرْجَائِكَ مَا

أيُّهَا الغَافِلُ مِثْلِيْ وإلى

أُدْنُ فاقْرَأْ فَوْقَ رَأَسِيْ أَحْرُفًا

صَرَعَتْهُ فِكْرَةٌ صَادِقَةٌ

ونَدَامَاتٌ لأيَّامٍ مَضَتْ

وغَدًا تَرْجِعُ مِثْلِيً فِاتُّعِظْ

قَدْ نَصَحْنَاكَ فإن لَمْ تَرَهُ

          هَلْ وَجَدْتَ اليومَ فِيهِ مِن مَزِيْدْ

هُوَ في الظَاهِرِ تَزْوِيْقًا وَشِيْدْ

أوْ سَعِيْرٌ مالَهَا فيه خُمُوْدْ

نَيَّراتٌ أوْ بأعْمَالِكَ السُوْدْ

أَشَقِيٌ أنْتَ فيه أمْ سَعِيْدْ

وَسِعَ العَالَمَ إحْسَانًا وجُوْدْ

طُرِقَتْ دَارُكَ بالوَيْلِ البَعِيْدْ

ضَاقَ عَنْهُ كُلُّ مَا في ذَا الْوُجُوْدْ

كَمْ تَعَامَي وتَلَوّي وَتَحِيْدْ

خَرَجَتْ وَيْحَكَ مِنْ قَلْبٍ عَمِيْدْ

وهُمُوْمٌ كُلَّمَا تَمْضِيْ تَعُوْدْ

هُوَ مِنْهَا في قِيَامٍ وقُعُوْدْ

بيْ وإلا فَامْضِ وأعْمَلَ مَا تُرِيْدْ

سَيَراهُ بَصَرٌ مِنْكَ جَدِيْدْ

اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحضرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

أخرج ابن أبي شيبة والمروزي عن جابر بن زيد قال يستحب إذا حضر الميت (أي حضره الموت) أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه.

وكان يقال قبل أن يموت الميت بساعة في حياة رسول الله اللهم اغفر لفلان بن فلان، وبرد عليه مضجعه، ووصع عليه قبره، وأعطه الراحة بعد الموت، وألحقه بنبيه.

وتول نفسه، وصعد روحه في أرواح الصالحين، وأجمع بيننا وبينه في دارٍ تبقى فيها الصحة، ويذهب عنا فيها النصب واللغوب، ويصلي على رسول الله ، ويكرر ذلك حتى يقبض.

وعن ابن أبي شيبة والمروزي عن الشعبي قال كانت الأنصار يقرؤن عند الميت سورة البقرة.

وأخرج أبو نعيم عن قتادة في قوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا قال مخرجًا من شبهات الدنيا ومن الكرب عند الموت ومن مواقف يوم القيامة.

أخرج ابن أبي الدنيا عن وهيب بن الورد قال بلغنا أنه ما من ميت يموت حتى يتراءى له ملكاه اللذان كانا يحفظان عليه عمله في الدنيا.

فإن كان صحبهما بطاعة الله قالا جزاك الله عنا من جليس خيرًا فرب مجلس صدقٍ قد أجلستناه وعملٍ صالحٍ قد أحضرتناه وكلامٍ حسنٍ قد أسمعتناه فجزاك الله عنا من جليس خيرًا.

وإن كان صحبهما بغير ذلك مما ليس لله فيه رضاه قلبا عليه الثناء فقالا لا جزاك الله عنا من جليس خيرًا.

فرب مجلس سوء قد أجلستناه، وعمل غير صالح قد أحضرتناه، وكلام قبيح قد أسمعتناه.

فلا جزاك الله عنا من جليس خيرًا قال فذلك شخوص بصر الميت إليهما ولا يرجع إلى الدنيا أبدًا.

وأخرج عن سفيان قال بلغني أن العبد المؤمن إذا احتضر قال ملكاه اللذان كانا معه يحفظانه أيام حياته عند رنة أهله دعونا فلنثن على صاحبنا بما علمنا منه.

فيقولان رحمك الله وجزاك الله من صاحب خيرًا إن كنت لسريعًا إلى طاعة الله بطيئًا عن معصية الله وإن كنت لممن نأمن غيبك فنعرج فلا تشغلنا عن الذكر مع الملائكة.

وإذا احتضر العبد السوء فرن أهله وضجوا قام الملكان فقالا دعونا فلنثن بما علمنا منه فيقولان جزاك الله من صاحب شرًا.

إن كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا إلى معصيته، وما كنا نأمن غيبك، ثم يعرجان إلى السماء.

يَا بَاكِيًا مِن خِيْفَةِ الموتِ

ونَادِ يَا لَهفِيْ على فسْحَةٍ

ضيَعْتُهَا ظالِمٌ نَفْسِي ولَمْ

يا ليْتَهَا عَادَتْ وهَيْهَاتَ أَنْ

فَخَلِّ عن هَذِي الأماني ودَعْ

وبَادِرِ الأَمْرَ فما غَائِبٌ

كَمْ شَائِدٍ بَيْتًا لِيَغْنَى بِهِ

          أصَبْتَ فارْفَعْ مِن مَدَى الصَّوْتِ

في العُمْرِ فَاتَتْ أيَّمَا فَوْتِ

أُصْغِ إلى موْتٍ ولا مَيْتِ

يَعُوْدَ ما قَدْ فَاتَ يَا لَيْتِ

خَوْضَكَ في هَاتِ وفي هَيْتِ

أَسْرَعُ إِتْيَانًا مِنَ المَوْتِ

مَاتَ وَلَمْ يُفْرَغْ مِن البَيْتِ

ج

اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

واعلم أن الموت لن يمنعه منك مانعٌ ولا يدفعه عنك دافعٌ وإن فيه لزجرًا للبيب، وشغلاً للأريب، ومنبهةً للنائم وتنشيطًا للمستيقظ.

وأنه لطالب المدرك، والمتبع اللاحق، والمغير الذي يبعث الطليعة، ويعجل الرجعة، ويسبق النذير العريان، لا يرده باب الحديد الشديد، ولا يمنع عنه البرج العالي المشيد، ولا الجيش اللجب العرموم، ولا البلد البعيد.

هُوَ المَوْتُ مُثْرِ عندَهُ مِثْلُ مُعْدِمٍ

ودِرْعُ الفَتَى في حُكْمِهِ دِرْعُ غادَةٍ

          وقاصِدُ نَهْجِ مِثْلَ آخَرَ ناكِبِ

وأبْيَاتُ كِسْرَى مِن بُيُوتِ العَنَاكبِ

 قيل أن رجلاً كان جالسًا مع سليمان بن داود فدخل داخل فجعل ينظر إلى الرجل الجالس مع سليمان ويديم النظر إليه.

فلما خرج قال لسليمان يا نبي من هذا الرجل الداخل عليك قال ملك الموت قال يا نبي الله لقد رأيته يديم النظر إلي ويشخص في وإني لأظنه يريدني قال فما تريد.

قال يا نبي الله أريد أن تأمر الريح فتأخذني فتلفيني في أبعد جزائر البحر فإنه قد أطاش عقلي وأذهب لبي ونقض كل عضو في بدني.

فأوحى الله جل وعلا وتقدس إلى سليمان أو ألقى في نفس سليمان أن يفعل ذلك فأمر الريح فأخذته فألقته حيث أراد فحين استقر بالأرض نزل عليه ملك الموت فقبض روحه.

ثم رجع ملك الموت إلى سليمان فقال سليمان رأيتك تديم النظر إلى جليسي قال نعم كنت أتعجب منه لأني أمرت بقبض روحه في أبعد بلاد الهند في ساعةٍ قريبةٍ من الوقت الذي كان عندك فما هو إلا أن خرجت قيل لي انزل عليه فإنه بها فنزلت عليه فوجدته بها فقبضت روحه.

وذكر أحد العلماء أن جبارًا من الجبابرة من بني إسرائيل جالسٌ في منزله قد خلا ببعض أهله إذ نظر إلى شخص قد دخل من باب بيته.

فثار إليه فزعًا مغضبًا فقال له من أنت ومن أدخلك علي داري فقال أما الذي أدخلني عليك الدار فربها وأما أنا فأنا الذي لا يمنع مني الحجاب ولا أستأذن على الملوك ولا أخاف صولة السلاطين ولا يمتنع مني كل جبارٍ عنيد ولا شيطانٍ مريد.

قال فسقط في يد الجبار وارتعد حتى سقط على الأرض منكبًا على وجهه ثم رفع رأسه إليه متحيرًا متذللاً فقال له أنت إذا ملك الموت قال أنا هو قال فهل أنت ممهلي حتى آخذ عهدًا.

قال هيهات انقطعت مدتك وانقضت أنفاسك ونفدت ساعاتك فليس إلي تأخيرك سبيل قال فإلى أين تذهب بي قال إلى عملك الذي قدمته وإلى بيتك الذي مهدته.

قال فإني لم أقدم عملاً صالحًا ولم أمهد حسنًا. قال فإلى لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى فسقط مغشيا عليه (فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقال) اهـ.

ومات أحد الشجعان فجأة بسكتة قلبية فأنشدت الأبيات التي تلي فيه، فيها عبرة فتدبرها:

ومُجَرِّر خَطِّيَّة يوْمَ الوغَى

تَتَضَاءَلُ الأبْطَالُ سَاعَةَ ذِكْرِهِ

شَرِسُ المقَادَةِ لا يَزَالُ رِبيْئَةً

تَقَعُ الفَرِيْسَةُ منه في فَوْهَاءَ إنْ

ضَمْآنَ لِدَّمِ لا يَقُوُمُ بِرَيِّهِ

جَاءَتْهُ مِن قِبَلِ المَنُونِ إشَارَةٌ

وَرَمَى بِمُحْكَم دِرْعِهِ وبِرُمْحِهِ

لا يَسْتجِيبُ لِصَارِخٍ إن يَدْعُهُ

ذَهَبَتْ بَسَالَتُهُ ومَرَّ غَرَامُهُ

يَا وَيْحَهُ مِن فارسٍ مَا بَالُهُ

هَذِي يَدَاهُ وهَذِهِ أعضَاؤُهُ

هَيْهَاتَ مَا خَيْلُ الرَّدَى مُحْتَاجَةٌ

هِيَ وَيْحَكُمْ أمْرُ الإلهِ وحُكْمُهُ

يا حَسْرةً لَوْ كَانَ يُقْدَرُ قَدْرُهَا

خَبَرٌ عَلِمْنَا كُلُّنَا بِمَكَانِهِ

          مُنْسَابَة مِن خَلْفِهِ كالأرْقَمِ

وتَبِيْتُ منه في إِبَاءَةِ ضَيْغَمِ

وَمَتَى يُحِسُّ بنارِ حَرْبٍ يُقدِمِ

يُطْرَحْ بِهَا صُمُّ الحِجَارة يُحْطَمِ

إلا المُرَّوقُ في الُجُسْومِ من الدَّمِ

فَهَوَى صَريْعًا لِلْيَدِيْن وَلِلْفمِ

وامْتَدَّ مُلْقىً كالبَعِيْر الأعْظَمِ

أبدًا ولا يًرْجى لِخَطْبٍ مُعْظَمِ

لَمَّا رآى خَيْل المَنِيّةِ ترْتَمِي

ذَهَبَتْ فُرُوْسَتُهُ ولَمَّا يُكْلَمِ

ما مِنْهُ مِنْ عُضْوٍ غَدَا بِمُثَلَّمِ

لِلْمَشْرَفِيَّ ولا السِّنَانِ اللَّهذَمِ

واللهُ يَقْضِيْ بالقَضَاءِ المُحْكَمِ

ومُصيْبَةً عَظُمَتْ ولَمَّا تَعْظُمِ

وكأنَّنا في حَالِنَا لمْ نَعْلَمِ

اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقال رحمه الله واعلم أن الله تبارك وتعالى خلق للجنة أهلاً وللنار خلقًا وهم مع الساعات راحلون ومع الأنفاس ظاعنون إلى دار البلى ومعسكر الموتى ومستقر الأرواح، وكل مطلع على مكانه الذي سيصير إليه، ومشرف على منزله الذي ينزل به، وبذلك يكون نعيم أو عذاب، وهكذا يرحلون وينتقلون إلى أن يفرغ العدد الذي قدره الله جل وعلا.

واعلم أن كل ميت مات فقد قامت قيامته لكنها قيامة صغرى، وأما القيامة الكبرى فهي التي تعم الخلق كلهم وتأخذهم أخذة واحدة بغتة على غفلة من الخلق كما قال تعالى: لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً.

وذكر البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتا تكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كل يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل.

وحتى يكثر فيهم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي فيه، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه.

وحتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذالك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا.

ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه.

ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه.

ولتقومن الساعة وهو يلوط حوضه فلا يسقي فيه.

ولتقومن وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها.

وبعد ما تموت الخلق ينزل الله جل وعلا مطرًا تنبت منه الأجسام، وتحيا به الرفات من العظام وتستعد فيه لقبول الأراوح عند النفخة الثانية.

قال الله جل وعلا وتقدس: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ.

وقال تبارك وتعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا.

وقال عز من قائل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ.

وقال وهو أصدق القائلين: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ.

وقال جل وعلا: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ.

عن أبي هريرة عن النبي قال "قال الله تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يكذبني وشتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يشتمني.

أما تكذيبه إياي فقوله لا أعيده كما بدأته وليس آخر الخلق بأعز علي من أوله وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدًا وأنا الله أحدٌ صمدٌ لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد".

شعرًا:

أيَا ابْنَ آدَمَ والآلاء ساَبِغَةٌ

هَلْ أَنْتَ ذَاكِرُ مَا أُوْلِيْتَ مِنْ حَسَنٍ

بَرَاكَ بَارِئُ هَذا الخَلْقِ من عَدَمٍ

أَنْشَاكَ مِنْ حَمَأ ولا حَرَاكَ بِهِ

مُكَمَّل الأدَوَاتِ آيَةً عَجَبًا

تَرَى وتَسْمَعُ كُلا قَدْ حُبِيْتَ بِهِ

هَذَاكَ بالِعلْمِ سُبْلَ الصَّالِحِيْنَ لَهُ

مَاذَا عَلَيْكَ لَهُ مِن نِعْمَةٍ غَمَرَتْ

غَرَّاءُ كالشمسِ قَدْ ألْقَتْ أَشِعَّتِهَا

فاشكر ولَسْتَ مُطِيْقًا شُكَرهَا أَبَدًا

رِزْقٌ وَأَمْنٌ وإيْمَانٌ وَعَافَيِةٌ

          ومُزْنَةُ الجُوْدِ لا تَنْفَكُّ عَن دِيَمِ

وشاكِرٌ كُلَّ مَا خُوِّلْتَ مِنْ نِعَمِ

بَحْتٍ ولَوْلاهُ لَمْ تَخْرُجْ مِن العَدَمِ

فَجِئْتَ مُنْتصِبًِا تَمْشِيْ عَلَى قَدَمِ

مُوَفَّرَ العَقْلِ منَ حَظٍ ومِن فهِمِ

فَضْلاً وتَنْطِقُ بالتَّبْيِيْنِ والكَلِمِ

وكُنْتَ مِن غَمَرَاتِ الجَهْلِ في ظُلَمِ

كُلَّ الجِهَاتِ ولم تَبْرَحْ ولم تَرِمِ

حَتَى لَيُبْصِرهَا عَلَيْكَ كُلُّ عَمِيْ

ولَوْ جَهِدْتَ فَسدِّدْ وَيْكَ والتَزِمِ

مَتَى تَقُوم بشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا، واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله فيالله كم من مجرر ذيل إعجابه، متطاولٍ على أصحابه، متعاضمٍ على أقرانه وأترابه، تجمع له الأماني وترتاح له الغواني إن بصر لا يستبصر، وإن أمر لا يأتمر، وإن زجر لا ينزجر، ويفرح، ويمرح، ويبيت من دنياه مثل ما أصبح، قد أبدأ في أمره وأعاد، وأحكم غيه وضلاله فأجاد وأشاد من أمله ما أشاد.

حتى إذا نال مراده أو كاد، صاحت به المنية صيحة الغضبان وصدمته صدمة اللهفان، فهدت أركانه، وكسرت أغصانه، وفرقت أنصاره وأعوانه، فأصبح، قد باع النفيس بالدون ومضى يعض بنانه المغبون ولم يرح بنائل ولا حصل على طائل.

فيالله كم هنالك من ملك جبار طويل النجاد رفيع العماد عظيم الأجناد كثير الأمداد، قد ملك البلاد، وقهر العباد، ووصل من دنياه إلى كثير مما أراد.

قعد ونهض وأبرم ونقض وجعل أمره المفترض، وطالما حرق وهدم وكسر، وحطم وزلزل ودمدم، واسترحم فلم يرحم ومضى على ما شاء من رأيه وصمم.

بنى المدائن والحصون وأكثر من ماله المخزون واستعد في رأيه لما قد يكون أو لا يكون حتى إذا استحكمت له الأمور، وأطال الفرح والسرور، وزخرف الفلل والقصور، وظن أنه قد ساعده فيما بقي من أمله المقدور، قلبت له الدنيا ظهر المجن وكسته من خطبها ومصائبها ما أجن وأذهل الفطن، وسقته من كربها ما يسكر به ويجن.

نظرت بعينها الشوساء إليه، وقبضت ما كان في يديه، وأتت بنيانه من قواعده فألقته عليه، فأصبح وقد هدم ذلك البنيان، وسفط ذلك الإيوان، وتبددت تلك المقاتلة والفرسان، وتفرقوا شذر مذر بكل مكان، وأصبح كل ما كان كأنه ما كان.

وقيل ملكٌ في سالف الزمان ملكٌ يقال له فلان بن فلان، ولم يحصل على شيء مما ملك من البلاد ولا ما أدخر من المال وأعد من العناد إلا على حنوطٍ وكفن، وحفرةٍ ضيقة العطن يحتبس فيها ويرتهن، بكل ما عمل من قبيحٍ أو حسن.

فما تَزَوَّدَ مَمَّا كان يِجْمَعُه

وغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوادٍ تُشَبُّ لَهُ

          سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ البَيْنِ في خِرَقِ

وقَلَّ ذَلِكَ مِن زَادٍ لِمنْطَلِقِ

آخر:

أَبَادَ ذَالمَوْتُ أمْلاكًا وَمَا مَلَكَوْا

رَمَى بِهِم حَيْثُ لا قِيْعَانَ تُمْسِكُهُمْ

هَوَتْ هُوِىَّ ثَقْيِل الصَّخْرِ أمُّهُمُ

غَدَتْ رُؤُسِهُمُوْا مِن تَحْتِ أَرجُلِهِمِ

يا بَطْشَةً مِن حَكِيمٍ ما بِهَا مَهَلٌ

جُرُّوْا مِن اللّهْوِ مَلاى مِنْ أعِنَّتِهِمْ

حُطُّوْا بِدَار البِلَى في مَنْزِلٍ حَرِجٍ

لَطَالَمَا نَقَضُوا مُلْكًا وما هَدَمُوْا

مَرُّوْا وَمَا بَلَغُوْا كُلَّ الذي طَلَبُوْا

أضْحَاهُمُ اليَومَ صَرْفُ الدهرِ إذ هَلَكُوْا

          وَدَارَ مُسْتَعْقِبًا عَليِهمُ الفَلَكُ

وَلا مِرَارًا بِهَا المَرْميُّ يَمْتَسِكُ

فلا حَسِيْسَ ولا رِكزٌ ولا حَرَكُ

وزُلْزِلَتْ بِهِم الأطباقُ والدَّرَكُ

وَغَضْبَةً مِن عَزِيْز ما بِهَا دَرَكُ

حَتَّى إذا مَا رأوْا خَيْلَ الرَّدىَ بَرَكُوْا

وَلَيْتَهُمْ ويْحَهُمْ فِيْهِنَّ لَوْ تُرِكُوْا

عِزًا ومَا هَتَكُوْا سِتْرًا وما فَتَكُوْا

ولا قَضَوْا وَطَرًا مِن كُلَّ ما تَرَكُوْا

كَمَا أضَلَّهُمُ بالأَمْسِ إذ مَلَكُوْا

اللهم أنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وفي بعض الخطب المروية أيها الناس إن الأمال تطوى والأعمار تفنى والأبدان تحت التراب تبلى وإن الليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد، ويقربان كل بعيد ويبليان كل جديد.

وفي ذلك عباد الله ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات.

وخطب آخر فقال: أيها الناس إن الله كتب على الدنياء الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب الله عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب الله عليه الفناء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل بقصر الأجل.

وقال بعض العلماء: لا تبت على غير وصية، وإن كنت من جسمك في صحة، ومن عمرك في فسحة، فلا تأمن من هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات.

وقال عبد الله بن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو ضيف، وما له عارية، فالضيف مرتحل والعارية مردودة.

وقال أحد الحكماء: ليس للدين من عوض، ولا من إيمان بدل، ولا من الجسد خلف، ومن كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به وإن لم يسر.

وقال آخر: أيها الناس إن سهام الموت قد فوقت إليكم فانظروها، وحبالة الأمل قد نصبت بين أيديكم فاحذروها وفتن الدنيا قد أحاطت بكم من كل جانب فاتقوها.

ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال فإنه إلى زوال، ومقيمه إلى ارتحال، وممتده إلى تقلص واضمحلال، أما تسمعون أيها الناس لما توعظون به، أما تعتبرون بما إليه تنظرون، أما تفكرون فيما عنه تزولون وفيما إليه ترجعون، وعليه تقدمون.

أين من تقدمكم وكان قبلكم ممن أمل أملكم وسعى سعيكم وعمل عملكم، أين الذين بنوا المدائن وملأوا الخزائن واستعدوا لما هو عندهم كائن، أين الذين غرسوا في روشة الملك ونظموا الآمال في سلك، وهتكوا حجبها أيما هتك وكانوا في ظاهر أعمالهم في ريب من الزمان وفي شك.

انظر إليهم كيف نضبت تلك المياه وذبلت منهم تلك الشفاه وتكسرت عند سقوطهم تلك الوجنات وتثلمت تلك الجباه وتغيرت تلك الأحوال وانكمشت الآمال وبقيت شاهدة عليهم تلك الرسوم والأطلال.

رَفَعْتَ عَرْشكَ في الدنيا وتُهْتَ بِهِ

وبِتَّ فِيها على فُرْشٍ مُلَيَّنَةٍ

وَظِلْتَ تَسْعَى لآمالٍ وتَفْرشُهَا

كم كانَ قَبْلَكَ مِن مَأسُوْرِ رَغْبَتِهِ

يمْسِي ويُصْبَحُ في حِلٍ وفي ظَعَنٍ

عَطْشانَ لِلْمَالِ مُحْمَاةٌ جَوَانِحُهُ

حَتَّى إذَا قِيْلَ قَدْ تَمَّتْ مَطَالِبُهُ

مَدَّتْ إليه يَدٌ لِلْمَوْتِ باطِشَةٌ

فَقصَّعَتْهُ وقِدْمًا كان ذا جِيَدٍ

فَبَاتَ مُسْتَلَبًا وباتَ وارثُهُ

أمَا سَمِعْتَ بأمْلاكٍ مَضَوا قِدَمًا

إنْ دُوفِعُوا دَفَعُوا أو زُوحِمُوا زَحَمُوا

جاءَتْهُمُوْا وجُنُودُ اللهِ غالبِةٌ

فَضَعْضَعَتْ جَنَبَاتِ عِزِّهمِ ورَمَتْ

لَطَالَمَا أكلُوا وَطَال ما شَرَبُوْا

مَرُوْا ولا أثر منهم بِدَارِهمُوْا

قد كان لِلْقَوْم آمالٌ مَبَسِّطةٌ

          وما بِهَا لِلَبيْب تُرْفَعُ العُرُشُ

ولَو عَقَلْتَ لَمَا لانَتْ لَكَ الفُرشُ

ولِلْمَوَارِيْثِ مَا تَسْعَى وتَفْتَرِشُ

بالحِرْصِ تُلْدَغُ جَنْبَاهُ وتُنَتَهَشُ

يَضُمُّ هَذَا إلى هَذَا ويَحْتَوِشُ

ألْقَى على صَدْرِهِ لِسَانَهُ العَطَشُ

وطَافَ مِن حَوْلِهِ أهْلُوُه واحْتَوشُوا

خَشْنَاءُ لا دَهَشَ فيها ولا رَعَشُ

وأجْهَشَتْهُ ولَمَّا يَدْرِ مَا الجَهَشُ

وقد تغَطَوْا بِذَاكَ المال وافْتَرَشُوا

شُمُّو الأنْوفِ بِرَوض الملك قد عَرَشُوا

أوْ غُوْلِبُوا غَلبُوْا أو بُوْطِشُوا بَطشُوْا

كَتَائِبٌ لِلْمَنَايا كُلَهَا حَبَشُ

مَنَارَهُم بِظَلامٍ ما بِهِ غَبَشُ

وطالَ ما رَفَعُوا الآجامِ واعْترشُوا

ولا حَسِيْس ولا رِكْزٌ ولا وَقَشُ

فأصْبَحُوا قبضُوا الآمال وانكشُمْوا

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

دخل أناس على الحسن البصري في اليوم الذي مات فيه، فقال مرحبًا بكم وأهلاً وحياكم الله بالسلام، وأخلنا وإياكم دار المقام هذه علانية حسنة إن صدقتم وصبرتم فلا يكن حظم من هذا الأمر أن تسمعوه بهذه الآذان، وتخرجوه من هذه الأفواه.

فإن من رآى محمدًا رآه غاديًا ورائحًا لم يضع لبنة ولا قصضبة على قصبة، ولكن رفع له علمًا فشمر إليه الوحى الوحى "أي بادروا" والنجا النجا علام تعرجون.

ارتبتم ورب الكعبة كأنكم والأمر معًا رحم الله امرأ جعل العيش عيشًا واحدًا، فأكل كسرة ولبس خلقًا، ولصق بالأرض واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وفر من العقوبة، وطلب الرحمة حتى يأته أجله وهو على ذلك.

وقال أبو محمد الزاهد خرجنا في جناز بالكوفة، وخرج فيها داود الطائي فتكلم، فقال من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب.

واعلم يا أخي أن كل شيء شغلك عن الله فهو عليك مشؤوم واعلم أن أهل القبور إنما يندمون على ما يتركون، ويفرحون بما يقدمون فما عليه أهل القبور يندمون أهل الدنيا عليه يقتتلون، وفيه يتنافسون وعليه يتزاحمون.

وقال آخر ويح ابن آدم إن أمامه ثلاثة أشياء موتٌ كريه المذاق ونارٌ أليمة العذاب وجنةٌ عظيمة الثواب.

وقال علي بن أبي طالب التوءدة خير في كل شيء إلا في أمر الآخرة والتوءدة التثبت والتأني والرفق في الأمور.

وكان الحسن رحمه الله يقول في موعظته المبادرة المبادرة فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم الأعمال التي تتقربون بها إلى الله عز وجل رحم الله امرأ نظر لنفسه وبكى على ذنبه ثم قرأ هذه الآية: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يعني الأنفاس آخر خروج نفسك وفراق أهلك.

وقال بعضهم اغتنم تنفس الأجل وإمكان العمل واقتطع ذكر المعاذير والعلل فإنك في أجل محدود ونفس معدود وعمر غير ممدود.

وقال آخر اعمل عمل المرتحل فإن حادي الموت يحدوك ليوم ليس يعدوك فيطرحك في حفرة لا يخافك فيها أحد ولا يرجوك.

وكتب رجل إلى بعض إخواته أما بعد فإن الدنيا حلم والآخرة يقظة والموت متوسط بينهما ونحن في أضغاث أحلام والسلام.

وكتب محمد بن يوسف إلى أخٍ له سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني محذرك من دار منقلبك إلى دار إقامتك وجزاء أعمالك فتصير في باطن الأرض بعد ظهرها.

فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك فينتهرانك فإن يكن الله معك فلا فاقة ولا حاجة ولا بأس ولا وحشة وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياك يا أخي من سوء المصرع وضيق المضجع.

ثم تبلغك صيحة النشور ونفخة الصور وقيام الخلائق لفصل القضاء وامتلأت الأرض بأهلها والسموات بسكانها فباحت الأسرار، وسعرت النار ووضعت الموازين ونشرت الدواوين وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ.

فكم من مفتضح ومستور ومعذب ومرحوم وكم من هالك وناج فيا ليت شعري ما حالي وحالك يومئذ فإن في هذا ما هدم اللذات وسلى عن الشهوات وقصر من الأمل وأيقظ النائم ونبه الغافل.

أعاننا الله وإياك على هذا الخطر العظيم وأوقع الدنيا من قلبك وقلبي موقعها من قلوب المتقين فإنما نحن له وبه السلام.

وأنشد بعضهم:

مُرَادُكَ أنْ يَتِمَّ لَكَ المُرَادُ

وتَمْضِي في أوَامِرِكَ اللَّيَالِي

لَقَدْ مَلَكَتْ مُضْلاتُ الأمَاني

ألَمْ تَسْمَعْ بِذِي أمَلٍ بَعِيْدٍ

رَمَاهُ الموتُ فانقَبَضَتْ إليهِ

ويَلْقَاهُ بإِثر الموتِ يوْمٌ

تُصَمُّ لِوَقْعِهِ الآذانُ صَمًّا

فكم سَالَتْ هُنَالِكَ مِن دُمُوعٍ

وكمْ شَاهَتْ هُنَالِكَ مِن وُجُوهٍ

ومَاذا الكَرْبِ يُشْبِهُ ما عَهِدْنَا

ومَا الأسْمَاءُ تُعْطِيْكَ أتِّفَاقًا

ولَكِنْ رُبَّمَا كَانَ اشْتِبَاهٌ

يُسَمَّى البَحْرُ ذُوْ الأهْوَالِ بَحْرًا

          وتَرْكُضْ في مَطَالِبِكَ الجِيَادُ

فلا يُعْصَى هَوَاكَ ولا يَكَادُ

قِيَادَكَ فاغْتَدَيْتَ بِهَا تُقَادُ

وآمالُ الفَتَى منِهَا بِعَادُ

أمانِيْهِ بشيءٍ لا يُرَادُ

تَمِيْدُ لِهَوْلِهِ السَّبْعُ الشِّدَادُ

ويَنْطِقُ مِن زَلازِلِهِ الجَمَادُ

يُغَيَّرهُنَّ مِن دَمِهِ الفُؤادُ

عَلى صَفَحَاتِها طُلِيَ الحِدَادُ

وأنَّى يُشْبِهُ البَحْرَ الثَّمَادُ

عَلَى مَعْنىً يَتمُ لَكَ المُرَادُ

قَلِيْلٌ لا يُحَسُّ ولا يَكَادُ

وبَحْرًا مِثْلُهُ الفَرَسُ الجَوَادُ

اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك وبارك لنا في الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

(فصل)

قال عمر بن الخطاب : ويل لمن كانت الدنيا أمله، والخطايا عمله، عظيم بطنته، قليل فطنته، عالم بأمر دنياه، جاهل بأمر آخرته.

وقال العلاء بن زياد لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت وأنه استقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله.

وقال آخر: عجبت لمن يحزن على نقصان ماله ولا يحزن على نقصان عمره.

تُفِكّر في نُقْصَانِ مَالِكَ دَائمًا

          وتَغْفُلُ عن نُقْصَانِ دِيْنِكَ والعُمْرِ

وقال آخر:

تراه يَشْفَقُ مِن تَضْيِيْعِ دْرهَمِهِ

          ولَيْسَ يَشْفَقُ مِن دِيْنٍ يُضَيِّعُهُ

وقال آخر:

مالي أرَى الناسَ والدنيا مُوَلِّيَةٌ

لا يَشْعُرونَ إذا ما دِيْنُهُم نُقِصُوْا

          وكُلُّ جَمْعٍ عليها سَوْفَ يَنْبَتِرُ

يَومًا وإن نُقِصَتْ دُنْياهُمُوا شَعِرُوْا

وقال بعضهم أيها الناس إن لكم معالم تستبقون إليها، وأن لكم موارد تردون عليها، وإن الجديدين يسيران بكم وإن لم تسيروا، ويسرعان بكم وإن لم تسرعوا، وإن قصاراكم الموت وإن بعد الأمد.

فرحم الله إمرأ أضمر نفسه للسباق، وساقها إلى الغاية أشد مساق واستعد للموت قبل هجومه وأخذ حذره منه قبل قدومه وأنفذ دموعه على الأوقات التي أضاعها قبل أن تزل به القدم ويؤخذ بما علم وبما لم يعلم.

وقال بعض الحكماء السعيد من صرف الله أمله إلى ما يبقى وقطعه عما يفنى وأعانه في دار الفناء على عمارة دار البقاء.

والويل الطويل والحسرة التي لا تزول لمن أعرض عن الكتاب السنة ولم ينهى نفسه عن الهوى.

وقال عيسى بن مريم عليه السلام عجبت لثلاثةٍ لغافلٍ وليس بمغفول عنه ومؤمل دنياه والموت يطلبه وبان قصرًا والقبر مسكنه.

روي أن رجلا دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فرآه قد تغير لونه من كثرة العبادة والخوف واستحالت صفته فجعل يتعجب من تغير لونه.

فقال له عمر يا ابن أخي وما يعجبك مني فكيف لو رأيتني بعد دخول قبري بثلاث ليالٍ وقد خرجت الحدقتان فسالتا على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان وخرج الصديد والدود من المناخر والفم وانتفخ البطن فعلى الصدر وخرج الصلب عن الدبر لرأيت إذ ذاك مني أعجب مما رأيت الآن.

وأعلم رحمنا الله وإياك وجميع المسلمين أنه من تصور هذا وأقام هذا الخيال نصب عينيه وتفكر في الميت وما يؤول ويرجع إليه.

ثم نظر فيما يقدم عليه وعلم أن جسمه الناعم الغض وبدنه اللين المتعافي سيطرح ويذب في حفرة ضيقة الجوانب تقطع فيها أوصاله وتغير فيها أحواله ثم يتبين له بعد ذلك مآله ويطلب بعد ذلك بكل ما عمله وقاله لم يشتغل بميت باله ولم يبك إلا على نفسه وأنشدوا في ذلك:

لِمَنْ جَدَثٌ أبْصَرْتُه فَشَجَاني

سَفَكْتُ عَليهِ أدْمُعِي فَسَقَيْتُهُ

وقَفْتُ بِهِ حَيْرَانَ وقْفَةَ هَائِمٍ

وما بِيَ مَنْ في القَبْرِ لَكْنِ رَأيْتُهُ

          وأرْسَل في شَجْوِ الهُمُومِ عِنَاني

كَمَا هُوَ مِنْ كَأْسِ الشُجُوْنِ سَقَانِي

أُعَالِجُ قَلْبًا دَائِمَ الخَفَقَان

على حَالَةٍ فِيهَا وشِيْكَ أرَانِي

آخر:

لِمَنِ الأقْبُرُ في تِلْكَ الرُّبَى

لِمَنِ الأوْجُهُ فيها كَسَفَتْ

لِمَنِ الأجْسَامُ فيها بَلِيَتْ

ومَنِ الفُرْسَانُ فيها قَدْ نَسُوا

ورَمَوْا إذْ هَتَفَ الموتُ بِهم

ومَن الخُرَّدُ فيها شَدَّمَا

نَظَرَ الموتُ إليها فَغَدَتْ

لِمَنِ الأقْبُرُ في تِلكَ الرُّبَى

يَا جُفُوْنًا أرْسَلَتْ أدْمُعَهَا

صَاحِ يَا صَاحِ ونيْرَانُ الجَوى

لا تَظَنَنَّ بُكَائِي لهُمُوْا

إنما أبْكِيْ لِنْفِسي لا لَهْمْ

هَامِدُ الجَمْرةِ مَوْهُونُ القُوى

رَبِّ يا ربِّ ويا رَبَّ الوَرَى

كَفَر الإحْسَانَ قدْمًا وبَغَى

ما تَرَى في أمْرِهِ يَا منْ تَرى

لَيْسَ إلا عَفْوُكَ المَرْجُوُ أوْ

وعِيَاذًا بكَ يَا مَوْلايَ أنْ

وَإذَا أَسْلَمْتَه رَبِّ فَمَنْ

          مَلأَتْ صَدْرِيَ شَجْوًا وأَسَى

بَعْدَ حُسْنٍ وجَمَالٍ وضِيَا

بَعْدَ زَهْوٍ وشَبَابٍ وانْتِشَا

رَوْعَةَ الحَرْبِ بِرَوْعَاتِ الثَّرَا

بِسُيُوفِ الهِنْدِ رَوْعًا والقَنَا

فَتَكَتْ قَبْلَ آسَادِ الشَّرَا

تَنْفُرُ الأنْفُسُ منها إذْ تُرَى

ألْبَسَتْ جِسْمِيَ أثوابَ الضَّنَا

مَا بِذَا بأَسٌ لَو أرْسَلْتِ الدِّمَا

عَلِقَتْ مِنِّي بأثْنَاء الحَشَا

لَيْسَ والله لهم هذا البُكَا

فَكَأنِي اليَوْمَ فيهم أو غَدَا

دَائِمُ الحَسْرُةِ مَقْطُوع العُرَى

ما تَرَى في عَبْدِ سُوءِ مَا تَرَى

وطَغَى ثم طَغَى ثم طَغَى

كُلَّ شيء وهو رَبُّ لا يُرَى

دَفْعَةٌ تُنْزِلُهُ قَعْرَ لَظَى

يَلْتَوِى في يَدِهِ حَبْلُ الرَّجَا

يَقْصُدُ اليَوْمَ لَهُ أوْ يُرْتَجَي

اللهم اغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك واعف عن تقصيرنا في طاعتك وشكرك وأدم لنا لزوم الطريق إليك وهب لنا نورًا نهتدي به إليك واسلك بنا سبيل أهل مرضاتك واقطع عنا كل ما يبعدنا عن سبيلك ويسر لنا ما يسرته لأهل محبتك وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا وحقق بكرمك قصدنا واسترنا في دنيانا وآخرتنا واحشرنا في زمرة المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن تقصير الأمل دليل على كمال العقل فسبيل العاقل تقصير آماله في الدنيا والتقرب إلى الله جل وعلا بصالح الأعمال.

ومعنى تقصير الأمل استشعار قرب الموت ولهذا قال بعضهم قصر الأمل سبب للزهد لأن من قصر أمله زهد، ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة والتسويف بالتوبة والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والتساهل بتأخير قضاء الديون والقسوة في القلب.

وقيل من قصر أمله قل همه وتنور قلبه.

لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة ورضي بالقليل وقال ابن الجوزي الأمل مذمومٌ إلا للعلماء فلولا ما جعل الله فيهم من الأمل لما ألفوا ولا صنفوا.

وفي الأمل سرٌ لطيف جعله الله لولاه لما تهنأ أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع بعمل من أعمال الدنيا، قال إنما الأمل رحمة من الله لأمتي ولولا الأمل ما أرضعت أم ولدها ولا غرس غارس شجرًا. رواه الخطيب.

عن أنس والمذموم من الأمل الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته.

وورد في ذم الاسترسال في الأمل حديث أنس رفعه أربعة من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا. رواه البزار.

وروى علي بن أبي طالب أنه قال: "أخوف ما أخاف عليكم اثنان طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق".

وروي عن النبي   أنه قال: "صلاح هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل وطول الأمل" وقيل إن طول الأمل حجاب على القلب يمنعه من رؤية قرب الموت ومشاهدته ووقر في الأذن يمنع من سماع وجبته ودوي وقعته بقدر ما يرفع لك من الحجاب ترى وبقدر ما تخفف عن أذنيك من الوقر تستمع.

فانظر رحمك الله نظر من رفع عنه الحجاب وفتح له الباب واستمع سماع من أزيل وقره وخوطب سره وبادر قبل أن يبادر بك وينزل عليك وينفذ حكم الله فيك فتطوى صحيفة عملك ويختم على ما في يديك.

ويقال لك اجن ما غرست واحصد ما زرعت واقرأ كتابك الذي كتبت كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبربك تبارك وتعالى رقيبا، واعلم أن الأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقبه التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى.

وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطالب صاحبه ببرهان، كما أن قصر الأمل يبعث على الجد والاجتهاد في العمل، ويحمل على المبادرة، وحيث على المسابقة قال:

وسأضرب لك في ذلك مثلاً، مثل ملك من الملوك كتب إلى رجل يقول له افعل كذا وكذا، وانظر في كذا وكذا، وأصلح كذا وكذا، وانتظر رسول فلانًا فإني سأبعثه إليك ليأتيني بك.

وإياك ثم إياك أن يأتيك إلا وقد فرغت من أشغالك وتخلصت من أعمالك، ونظرت في زادك، وأخذت ما تحتاج إليه في سفرك.

وإلا أحللت بك عقابي وأنزلت عليك سخطي، وأمرته يأتني بك مغلولةً يداك مقيدةً رجلاك، مشمتًا بك أعداك، مسحوبًا على وجهك إلى دار خزي وهوان وما أعددته لمن عصاني.

وإن وجدك قد فرغت من أعمالك وقضيت جميع أشغالك أتى بك مكرمًا مرفعًا مرفهًا إلى دار رضواني وكرامتي وما أعددته لمن امتثل أمري وعمل بطاعتي.

واحذر أن يخدعك فلان أو فلانة عن امتثال أمري والاشتغال بعملي، وكتب إلى رجل آخر بمثل ذلك الكتاب.

فأما الرجل الأول فقال هذا كتاب الملك يأمرني فيه بكذا وكذا، وذكر لي أن رسوله يأتيني ليحملني إليه وأنا لا أمضي إليه حتى يأتيني رسوله، ولعل رسوله لا يأتيني إلا إلى خمسين سنة أو أكثر فأنا على مهلة.

وسأنظر فيما أمرني به، ولم يقع الكتاب منه بذلك الموقع، ولم ينزله من نفسه بتلك المنزلة، وقال الله لقد أتى كتابه إلى خلق كثير بمثل ما أتاني، ولم يأتهم رسوله إلا بعد السنين الكثيرة، والمدد الطويلة، وأنا واحد منهم.

ولعل رسوله يتأخر عني كما تأخر عنهم، وجعل الغالب على ظنه أن الرسول لا يأتيه إلا إلى خمسين سنة كما ظن، أو أكثر أو إلى المدة التي جعل لنفسه بزعمه.

ثم أقبل على اشغال نفسه مما لا يحتاج إليه ومما كان غنيًا عنه وترك أوامر الملك والشغل الذي كلفه النظر فيها والاشتغال به.

فكلما دخلت عليه سنة قال أنا مشغول في هذه السنة وسأنظر في السنة المقبلة والمسافة أمامي طويلة والمهد بعيد.

وهكذا كلما دخلت عليه سنة قال أنا مشغول، وسأنظر في الأخرى أو سأنظر في أمري فبينما هو على ذلك من تسويفه، واغتراره، إذ جاءه رسول الملك فكسر بابه وهتك حجابه وحصل معه في قعر بيته.

وقال له أجب الملك فقال والله لقد جاءني كتابه يأمرني فيه بأعمال أعملها وأشغال أنظر له فيها، وما قضيت منها شغلاً، ولا عملت فيها حتى الآن شيئًا.

فقال الرسول له ويلك وما الذي أبطأك عنها وما الذي حبسك عن الاشتغال بها والنظر فيها. فقال لم أكن أظن أنك تأتيني في هذا الوقت.

فقال له: ويلك ومن أين كان لك هذا الظن ومن أخبرك به ومن أعلمك بأني لا آتيك إلا في الوقت الذي تظن. قال ظننت وطمعت وسولت لي نفسي وخدعني الشيطان وغرني.

فقال له ألم يحذرك الملك في كتابه منهما وأمرك ألا تسمع لهما قال بلى والله لقد فعل ولقد جاءني هذا في كتابه ولكنني خدعت فانخدعت وفتنت فافتتنت وارتب في وقت مجيئك فتربصت.

فقال له ويلك غرك الغرور وخدعك المخادع أجب الملك لا أم لك، قال أنشدك إلا ما تركتني حتى أنظر فيما أمرني به، أو في بعضه أو فيما تيسر منه حتى لا أقدم عليه في جملة المفرطين وعصابة المقصرين.

وهذا مال قد كنت جمعته لنفسي، وأعددته لمؤونة زماني، فاتركني حتى آخذ منه زادا أتزوده ودابة أركبها، فإن الطريق شاقة، والمفازة صعبة، والعقبة كؤود، والمنزل ليس فيه ماء.

قال أتركك حتى أكون عاصيًا مثلك ثم دفعه دفعة ألقاه على وجهه ثم جمع يديه إلى عنقه وانطلق به يجره من خلفه خزيان ندمان جوعان عطشان، وهو ينشد بلسان الحال:

لا كَحُزني إذَا لَقِيْتُ حَزِيْنًا

ضاق صَدْرِي عن بَعْضِهِ واحْتِمَالِي

ما تُريْدُ العُدَاةُ مِنِّي وإنِّي

زَفَراتٌ هَتَكْنَ حُجْبَ فؤآدِي

خُنْتُ عَهْدَ المَلِيْكِ قَوْلاً وفِعْلاً

غَرَسَت في الحَيَاةِ كَفِي شَرًا

لَيَتَنِي لَمْ أكُنْ وأيْنَ لِمِثلي

يا خَلِيْلي ولا خَلِيْلَ لي اليَوْ

رَبَحَ الرابحُوْنَ وانقضَتِ السُوْ

فابْكِني إنْ يَكُنْ بُكَاكَ مُفِيْدًا

          جَلَّ خَطْبِي فَدَيْتُكم أنْ يَهُوْنا

فاسْلُكُوا بي حَيْثُ ألْقَى المَنُونَا

لِبَحَالٍ يَرِقُ لِيْ المَبْغِضُوْنَا

وهُمُومٌ قَطَعْنَ مِنِّي الوَتِيْنَا

واتَّخَذْتُ الخِلافَ شَرعًا ودِيْنًا

فاجْتَنَيْتُ العقَابَ مِنْهُ فُنُوْنا

ظالِمٌ نَفْسهُ بأنْ لا يَكُوْنَا

مَ سِوَى حَسْرةٍ تُدِيْمُ الأنِيْنَا

قُ وخَلَى بِغَبْنِهِ المَغْبُوْنا

أوْ فَدَعْنِي وعُصْبَةً يَبْكُوْنَا

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وأمنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وأما الآخر الذي كتب إليه الملك بمثل ما كتب به إلى هذا فإنه أخذ كتاب الملك وقبله وقرأه وتصفحه وتدبره، وقال أرى الملك قد كتب إلي بأن أعمل له كذا وكذا، وأقضي له كذا وكذا، وأنظر له في كذا وكذا.

ومن أين سبقت لي هذه السابقة عند الملك، ومن الذي عنى بي عنده، ومن الذي أنزلني منه هذه المنزلة، حتى جعلني من بعض خدامه، والقائمين بأمره.

والله إن هذه لسعادة والله إنها لعناية الحمد لله رب العالمين، ثم نظر في الكتاب وقال أسمع الملك وقد قال لي في كتابه، وانتظر رسولي فإني سأبعثه إليك ليأتيني بك وأره لم يحد لي الوقت الذي يبعث فيه الرسول إلي ولا سماه لي.

ولعلي لا أفرغ من قراءة كتابه إلا ورسوله قد أتاني ونزل علي، والله لا قدمت شغلاً على شغل الملك ولا نظرت في شيءٍ إلا بعد فراغي مما أمرني به الملك، وإعدادي زادًا أتزود به، ومركوبًا أركبه إذا جاءني رسوله وحملني إليه.

فتعرض له رجل وقال له لم هذه المسارعة كلها وفيم هذه المبادرة كلها.

فقال له ويحك أما ترى كتاب الملك بما جاءني أما تسمع ما فيه أما تصدقه، أما تؤمن به قال بلى سمعت وآمنت وصدقت، ولكن لم يقل لك فيه أن رسوله يأتيك اليوم ولا غدًا ولا وقتًا معلومًا.

ولكنه سيأتيك وقد جاء كتابه إلى فلان بهذا الذي قد جاءك أنت به، وقد بقى منتظرًا لرسوله أكثر من سبعين سنة، وإلى الآن ما أتاه.

وبعد زمان طويل ما جاءه، وفلان أتاه بعد ثمانين سنة، وفلان أتاه بعد مائة سنة، وأنت واحد من المرسل إليهم، فلم هذه العجلة، وفيم هذا الإسراع.

فقال ويحك أما ترى أنت فلانًا قد جاءه كتاب الملك بهذا الذي جاءني وجاءه الرسول في إثر مجيء الكتاب، وفلان كذالك، وفلان قد جاءه بعد سنة.

فقال بلى ولكن لا تنظر إلى هؤلاء خاصة وانظر إلى الذين قلت لك ممن تأخر عنه المجيء فقال له دعني يا هذا فقد شغلتني والله وإني لأخاف أن يأتيني الرسول وأنا أكلمك.

ثم أقبل على ما أمره به الملك فامتثله، ونظر فيما حد له، واشتغل بما يجب عليه أن يشتغل به، وأخذ الزاد لسفره، وأخذ الأهبة بطريقه وجعل ينتظر الرسول أن يأتيه وأقبل يلتفت يمينًا وشمالاً ينظر من أين يأتيه ومن أين يقبل عليه.

فبينما هو كذلك وإذا برسول الملك قد أتاه فقال أجب الملك قال نعم قال الساعة، قال الساعة، قال وفرغت مما أمرك به، وعملت ما حد لك أن تعمله، قال نعم، قال فانطلق.

قال بسم الله فخلع عليه خلعة الأولياء وكساه كسوة الأصفياء وأعطاه مركوبًا يليق به ويجمل بمثله وانطلق به في حبور وسرور.

فبان لك بهذا المثل وبغيره فضيلة قصر الأمر، وفضيلة المبادرة إلى العمل، والاستعداد للموت قبل نزوله، والانتظار له قبل حلوله.

وقد كثر الحض على هذا وكثرت الأقاويل فيه، ولم يزل المذكرون يذكرون والمنبهون ينبهون لو يجدون سمعًا ووعيًا وقلبًا حافظًا ومحلاً قابلاً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انتهى.

ومن كلا بعضهم أما تسمعون أيها الناس داعي الموت يدعوكم، وحاديه يحدوكم أما ترون صرعاه في منازلكم وقتلاه بين أيديكم ففيم التصامم عن الداعي والتشاغل عن الحادي والتعامي عن مصارع القتلى والتغافل عن مشاهدة الهلكى، فرحم الله أمرأ أيقظ نفسه في مهلة الحياة قبل أن توقظه روعة الممات، واستعد لما هو آت قبل الانبتات، وحلول الفوات، وكان الحكم قد وقع والخطاب قد ارتفع، أعرض من أعرض، وسمع من سمع.

شعرًا:

قَطَعْتُ زمانِي حِيْنًا فَحِيْنًا

وأهْمَلْتُ نَفْسِي وما أُهْمِلَتْ

ورُبَّ سُرُوْرٍ شَفَىَ غَلَّةً

وكم آكِلُ سَاعَة ما يُريْد

وما كان أغْنَى الفَتَى عن نَعْيمٍ

وكم وعَظَتْنِي عِظَاةُ الزَمان

وكم دَعَاني دَاعي المنُوْن

وماذا أؤَمِّل أو أَرْتَجيْه

فلو كانَ عَقْلِي مَعِي حَاضِرًا

ولَنْ يَبْرحَ المَرْءُ في رَقْدَةٍ

فَتُوْقِظُهُ عِندَها رَوْعَة

وإذْ ذَاكَ يَدْرِيْ بِمَا كان فِيه

          أدِيْر مِن اللَّهْوِ فيه فُنُوْنَا

وهَوَّنْتَ مِن ذَاكَ مَا لمْ يَهُوْنَا

وَوَلَّى فأعْقَبَ حُزْنًا رَصِيْنَا

يُكَابِدُ ما أورثَتْهُ سِنِيْنَا

يَعُودُ عَلَيهِ عَذَابًا مُهِيْنَا

لَو أني أصِيْخ إلى الوَاعِظيْنَا

وأسْمَعَ لو كُنْتُ في السَّامِعِيْنا

وقد جُزْتُ سَبْعًا على الأرْبِعِيْنَا

سَمِعْتُ لَعَمْرِي منه أَنِيْنَا

يَغِظُّ إلى أنْ يُوَافي المنُوْنَا

تَقطِّعُ منه هُنَاكَ الوَتِيْنَا

وتَجْلُو الحَقَائقُ مِنْهُ الظُنُوْنَا

اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله عليه بعد كلام له فإذا أضيف إلى الفكرة في الموت الفكرة فيما بعد الموت وفي حال الميت ومآله وما يجازى به من أقوال وأفعال وفي أي مربح ومتجر فاته وأي بضاعة فرط وأي جزء من عمره ضيعه هنالك تطيش الألباب وتذهل العقول وتخرس الألسن وتنبذ الدنيا بالعراء وتطرح بجميع ما فيها بالوراء ولا يلتفت لها.

ومن فوائد ذكر الموت أنه يورث الاستشعار بالانزعاج عن هذه الدار الفانية المملؤة بالاكدار والانكاد والهموم والغموم.

ويحثك ذكر الموت على التوجه في كل لحظة إلى الآخرة بالاستعداد لها ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق وسعة ونعمة ومحنة.

فإن كان في حال ضيقة ومحنة فذكر الموت سهل عليه بعض ما هو فيه إذ لا مصيبة إلا والموت أعظم منها وهو ذائقه ولابد.

قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وإن كان في حال سعة ونعمة.

فذكر الموت يمنعه من الاغترار بالدنيا والركون إليها لتحقق عدم دوامها وتحقق ذهابها عنه وانصرامها.

قال الله جل وعلا وتقدس: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ.

يا نَائِما وَالمِنُونُ تَقْضَىَ

جَاءَكَ أَمْرٌ وَأَيُّ أمْرٍ

هَلْ بَعْدَ هَذَا المَشِيْبِ شيءٌ

فلَيْسَ هَذَا الأمْرُ سَهْلاً

مِن بَعْدِ مَا المَرْءُ في بَرَاحٍ

سَاكِنُ نَفْسٍ قَرْيرُ عَيْنٍ

إذْ عَصَفَتْ في دَارِهِ رِيْحٌ

فباتَ في أَهْلِه حَصِيْدًا

فَعَادَ ذَاكَ النَّعِيْمُ بُؤْسَا

وسِيْقَ سَوْقًا إلى ضَرِيْحٍ

وبَاتَ لِلدَّوْدِ فيه طَعْمًا

ولَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ رَهِيْنًا

          وَغَالبًا والحِمَامُ أوْفَى

طَمَّ على غَيْرِهِ وعَفَّى

غَيْرَ تُرابٍ عَلَيْكَ يُحْثَى

ولا بشَيءٍ عَلَيْكَ يَخْفَىَ

يَهْتَزُّ تِيْهًا بِهِ وَظَرْفَا

يَرْشُفُ ثَغْرَ النَّعِيْم رَشْفَا

تَقْصِفُ كُلَّ الظُهُوْر قَصْفَا

قَدْ جَعَفَتْهُ المَنُونُ جَعْفَا

وصَارَ ذَاكَ السُكُوْنُ رَجْفَا

يُرْصَفُ بالرَّغْمِ فِيْهِ رَصْفَا

ولِلْهَوامِّ العِطَاشِ رَشْفَا

بكل مَا قَدْ هَفَا وأَهْفَا

(فصل)

وأما مشاهدة صورة ملك الموت وما يدخل في القلب منه ومن الروع والفزع فهو أمر لا يعبر عنه لعظم هوله وفضاعة رؤيته ولا يعلم حقيقة ذالك إلا الله جل جلاله والذي يشاهده ويطلع عليه وإنما هي أمثال تضرب وحكايات تحكى.

ويروى أن إبراهيم الخليل عليه السلام قال لملك الموت هل تستطيع أن تريني الصورة التي تقبض بها روح الفاجر فقال لا تطيق ذلك قال بلى قال فأعرض عني فأعرض عنه ثم التفت.

فإذا هو برجل أسود الثياب قائم الشعر منتن الريح يخرج من فيه ومناخره لهب النار والدخان قال فغشي على إبراهيم عليه السلام ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى.

فقال يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند موته إلا رؤية وجهه لكاذ ذلك حسبه "أي يكفي".

ونظر بعضهم إلى أناس يترحمون على ميت فقال لو تترحمون على أنفسكم لكان خيرًا لكم، إن ميتكم قد مر به أهوال ثلاثة، وجه ملك الموت وقد رآه، ومرارة الموت وقد ذاقها، وخوف الخاتمة وقد مضى.

وقال رحمه الله تعالى:

يروى عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال إذا قبض ملك الموت روح العبد قام على عتبة بابه ولأهل البيت ضجة، فمنهم الضاربة وجهها، ومنهم الناشرة شعرها، ومنهم الداعية يا ويلها.

فيقول ملك الموت فيم هذا الجزع، فوالله ما انتقصت لأحد منكم عمرا، ولا أخذت لأحد منكم رزقًا ولا ظلمت أحدًا منكم حقًا.

فإن كانت شكايتكم وتسخطكم علي فإني والله مأمور، وإن كانت على ميتكم فإنه مقهور، وإن كانت من ربكم فأنتم به كفرة، ولي فيكم عودة ثم عودة حتى لا أبقي منكم أحدًا.

قال لو سمعوا كلامه ورأوا مكانه لشغلوا عن ميتهم وبكوا على أنفسهم.

شعرًا:

بَكَى لأَنْ ماتَ مَيْتٌ من عَشيْرَتِهِ

وباتَ فْوقَ حَشاهُ لِلأسَىَ لَهَبٌ

ولو رَآى بِصَحِيْحِ العَقْلِ حَيْنَ رَآى

لَمَا رَآى الدَّهْرَ مَيْتًا أَوْ أحَسَّ بِهِ

ومَنْ رآى السُّمْرَ في جَنْبَيْهِ شَارِعَهً

وَطَلْعَهُ الموتِ إِنْ تَطْلَعْ عَلى أَحَدٍ

          وقال وَاحَرَبَا وصَاحَ يَا هَرَبَا

إذَا أرَادَ خُبُوًا فارَ وَالتَهَبَا

وكَشَّفَ اللهُ عنه لِلْهَوى حُجُبَا

إلا بَكَى نَفْسهُ المِسْكِيْنُ وانْتَحَبَا

أنَّى يَراها بجَنْب ناءَ أوْ قَرُبَا

أرَتْهُ في نَفْسِهِ مِنْ هَوْلِهَا عَجَبَا

وقال أحد العلماء رحمه الله في موعظة وعظها ألا أن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، شابها يهرم، وحيها يموت، ولا يغركم إقبالها مع معرفتكم بصرعة إدبارها والمغرور من اغتر بها.

أين سكانها الذين بنوا مرابعها وشققوا أنهارها وغرسوا أشجارها وأقاموا فيها أياما يسيرة وغرتهم بصحبتهم وغروا بنشاطهم فركبوا المعاصي إنهم كانوا والله بالدنيا مغبوطين بالمال على كثرة المنع عليه محسودين على جمعه.

ما صنع التراب بأبدانهم والرمل بأجسامهم والديدان بأوصالهم ولحومهم وعظامهم إذا مررت فنادهم إن كنت مناديا وادعهم إن كنت لابد داعيًا.

ومر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم وسل غنيهم ما بقى من غناه وسل فقيرهم ما بقى من فقره واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون وسلهم عن الأعضاء الرقيقة.

والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان.

محت الألوان، وأكلت اللحمان، وغفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء قد حيل بينهم وبين العمل وفارقوا الأحبة.

فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديدا، ودبت دواب الأرض في أجسامهم، وتفرقت أعضاؤهم.

ثم لم يلبثوا إلا يسيرًا حتى عادت العظام رميمًا قد فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضائق قد تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم.

فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناعم فيه المتنعم بلذاته، فيا ساكن القبر ما الذي غرك في الدنيا هل تظن أنك تبقى أو تبقى لك أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضر ينعها وأين رقاق ثيابك وأين كسوتك لصيفك وشتائك هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ وغاسله وحامله يا مدليه في قبره وراحل عنه، ليت شعري كيف نمت على خشونة الثرى، وبأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكى صرت في محلة الموت، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروج روحي من الدنيا.

مَا حَالُ مَنْ سَكَنَ الثَّرى ما حَالَهُ

أمْسَى ولا رَوْحُ الحَيَاةِ يُصِيْبُهُ

أمْسَى وَحيْدًا مُوْحَشًا مُتَفَرِّدًا

أمْسَى وقد دَرَسَتْ مَحَاسِنُ وَجْههِ

واسْتَّبْدَلَتْ منْهُ الْمَجَالِسُ غيْرَهُ

هَلْ مِنْ قبيْلٍ تَعْلَمْونَ مَكَانَهُ

          أمْسَى وقد قُطِعَتْ هُنَاك حِبَالُهُ

يَوْمًا ولا لُطْفُ الحَبِيْبِ يَنَالُهُ

مُتَشِتِّتًا بَعد الجَمْيعِ عِيَالُهُ

وتَفَرَّقَتْ في قَبرِهِ أوْصَالُهُ

وتُقُسِّمَتْ مِن بَعْدِهِ أمْوَالُهُ

سَلِمَتْ على حَدَثِ الزَّمانِ رِجَالُهُ

اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، وأمنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر وانتظار الموت مع الاكباب على الدنيا غير متيسر، فإن حب الدنيا هو سبب طول الأمل فيها، والإكباب عليها يمنع من الفكرة في الخروج منها.

والجهل بغوائلها وعواقبها يحمل الإرادة لها والازدياد منها، لأن من أحب شيئا أحب الكون معه، والإزدياد منه، ومن كان مشغوفا بالدنيا محبا لها حريصا عليها قد خدعته بزخرفها وأمالته برونقها وسحرته بزينتها، كيف يريد مفارقتها، أم كيف يحب مزايلتها، هذا أمر ما أجرى الله العادة به ولا حدثنا عنه.

بل تجد من كان على هذه الصفة أعمى عن طريق الخير أصم عن داعي الرشد، قليل الرأي سيء النظرة، ضعيف الإيمان، لم تترك له الدنيا ما يسمع به، ولا ما يرى الحقائق بواسطته.

إنما دينه وشغله وحديثه دنياه لها ينظر ولها يسمع ولها يعطي ولها يأخذ قد ملأت عينه وسمعه.

فتجده قد طول أمله ومد المسافة بين يديه فإن كان شابًا قال أنا صغير والوقت بين يدي وأسعى وأبني حتى أبلغ ستين سنة أو سبعين سنة.

وأنا محتاج إلى الزواج والزوجة تحتاج إلى نفقة وكسوة وإذا حصلت الزوجة وجاء الأولاد احتاجوا إلى أشياء كثيرة وهذا إنما يحصل بالمال وإن لم يكن مال لم أصل إلى المطلوب والمرغوب.

وإن قعدت عن الطلب احتجت إلى الناس وإذا احتجت إلى الناس استخف بي واحتقرت كما قال القائل:

والمرءُ لا يَصْغُرُ مِقَدَارُهُ

          إلا إِذَا احْتَاج إِلَى النَاس

آخر:

مَنْ عَفَّ خَفَّ على الطريق لِقَاؤُهُ

وأَخُوْكَ مَنْ وَفَّرْتَ مَا في كَفِّهِ

          وأخُو الحَوائِج وَجْهُهُ مَمْلُوْلُ

ومَتَى عَلِقْتَ بِهِ فأنْتَ ثَقِيْلُ

وانظر إلى فلان قد اكتسب، وجمع واغتنى وتزوج، وتنعم وتمتع وظفر بالمراد ووصل إلى ما أراد.

ولا يخطر بباله فيقول فلان كان شابًا مثلي وأراد ما أرت وسعى فيما سعيت فاخترمته المنية، ومات قبل أن يصل إلى مراده.

ولا يقول فلان طلب الدنيا واجتهد في تحصيلها فلما اجتمع له ما اجتمع سرق ما تعب به أو اعتدي عليه فغصب ما جمع وأخذ منه بالقوة.

ولا يقول احترق مال فلان الذي تعب في تحصيله أو غرق ماله في البحر أو في رجوعه إلى بلده، وانصرافه إلى وطنه هلك ماله فاختل عقله بسبب فقدان المال أو مات في طريقه، ونحو ذلك مما يجري كثيرًا.

إنما يعرض على نفسه ويجري على خاطره من بلغ إلى إرادته ووصل إلى أمنيته، لأن ذلك هو الذي غلب على قلبه وشغف بحديثه.

فتراه يسعى ويرغب ويحرص ويطلب ويكد ويزفر ويلهث في حدور وضعود وطلوع وهبوط آناء الليل والنهار ولا يقربه قرار ولا تضمه في أكثر الأوقات دار.

وكلما فرغ من شغل أخذ في شغل آخر مما يحتاج إليه بل لا يفر غ من شغل إلا عرضت له أشغال ولا يصل إلى أمل إلا انبعث له آمال فيمني نفسه بالأماني الباطلة ويحدثها بالأحاديث الكاذبة.

فإن وصل إلى حظ من المال ونصيب وافر من الكسب مما يمكن أن يعيش به عمره كله أو طعن في السن وقيل له يا فلان أرح نفسك ودع جسمك فهذا الذي عندك يكفيك.

قال يا أخي لا تقل هذا الليل والنهار بين يدي ولا يكفيهما قليل ولن يدوما على أحد إلا أذهبا ما في يده، وأخذا ما كان عنده، ولا يدري ما يكون.

والآفات كثيرة والأمراض متوقعة والحاجة إلى الناس صعبة لا سيما مع الكبر فيقيم العذر لنفسه ويطلب لها الحجة ويوجد لها الدليل ويصحح لها بزعمه التأويل.

فإن ذكر له الموت أو حدث بموت إنسان، قال بلسانه فقط: إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ والله إنا لفي غفلة عظيمة، ووالله إني لفي غرور.

والله إنها لمصيبة عظيمة لا يدري الإنسان متى يهلك ولا متى يختطف ولا متى تفجوه المينة وتحل به الرزية، وتنزل به هذه المصيبة.

هكذا قولاً بلا فعل وكلامًا بلا نية ولو كان ذلك عن صدق نية وصحة طويلة لظهر ذلك عليه وبدت مخايله منه.

وربما وعد نفسه ومناها وطمعها في التوبة ورجاها، وقال إذا جئت من هذه السفرة، وإذا فرغت من عمارة الدار، أو إذا جمعت ما كان متفرقًا أو نحو ذلك لتفرغت للنظر لنفسي، وقدمت ما أجده في رمسي، وكنت من داري إلى المسجد، ومن المسجد إلى داري، ولا أنظر في شيء، ولا أشتغل في شيء.

فإذا جاء من سفره تجهز لسفر آخر، وإذا فرغ من عمارة داره نظر يما يصلح لها، وإن جمع ماله نظر في تفريقه في الوجه الذي ينميه.

وهكذا يحدث نفسه عن الأموات ولا يحدث نفسه أنه يموت، ويشيع الجنائز ولا يتصور أن جنازته تشيع.

ألا وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَازَةً

          فأنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُمْ سَتُشَيَّعُ

ويقدر لنفسه العيش الطويل ولا يقدر لها الموت القريب، قد غلب عليه السهو وأطبقه الجهل وسدت عليه الغفلة طرق الإنابة وصرفته عن أسباب الفكرة.

شعرًا:

لِمَن وَرْقَاءُ بالوَادِي المَرِيْعِ

على فَيْنَانَةٍ خَضْراءَ يَصْفُوْ

تُرَدِدُ صَوْتَ باكِيَةٍ عليها

فَشَتَّتَ شَمْلَهَا وأَدَالَ مِنه

عَجِبْتُ لَهَا تَكَلَّمُ وهْيَ خَرْسَا

فَهِمْتُ حَدِيْثَهَا وفَهِمْتُ أَنِّي

أَتَبْكِي تِلْكَ أنْ فَقَدَتْ أنِيْسًا

وَها أنَا لَسْتُ أبكِيْ فَقْد نَفْسِيْ

ولَوْ أنِّي عَقَلْتُ اليَوْمَ أمْرِيْ

ألا يَا صَاحِ والشكْوَى ضُرُوْبٌ

لَعَلَّكَ أنْ تُعِيْرَ أخَاكَ دَمْعًا

          تَشُبُّ بِهِ تَبَارِيْحَ الضُلُوعِ

على أعْطَافِهَا وَشْيُ الرَّبِيْعِ

رَمَاهَا الموتُ بالأَهْلِ الجَمِيْعِ

غَرَامًا عَاثَ في قَلْبٍ صَرِيْعِ

وتَبْكِي وهْيَ جَامِدَةُ الدُّمُوْعِ

مِن الخُسْران في أمْرٍ شَنِيْعِ

وتَشْربُ منه بالكَأْسِ الفَظِيْعِ

وتَضْيِيْعِ الحَيَاة مَعَ المُضِيْعِ

لأَرْسَلْتُ المَدامِعَ بالنَّجِيْعِ

وذِكْرُ المَوتِ يَذْهَبُ بالهُجُوْعِ

فما في مُقْلَتَيْهِ مِن الدُمُوْعِ

اللهم انظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جناتك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين وأيقظ قلوبنا وقلوبكم من الغفلة ورزقنا وإياكم الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إلى الدار الباقية أن من أضر ما على الإنسان طول الأمل.

ومعنى ذلك استشعار طول البقاء في الدنيا حتى يغلب على القلب وينسى أنه مهدد بالموت في كل لحظة ولابد منه وكل ما هو آت قريب فتأهب لساعة وداعك من الدنيا وخروجك منها.

وكن يا أخي على حذر من مفاجأة الأجل فإنك عرض للآفات وهدف منصوب لسهام المنايا وإنما رأس مالك الذي يمكنك أن وفقك الله أن تشتري به سعادة الأبد هذا العمر.

قال الله جل وعلا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ الآية فإياك أن تنفق أوقات عمرك وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خير فيه ولا منفعة فيطول خزنك وندامتك وتحسرك بعد موتك.

واجعل ما يلي من الآيات نصب عينيك دائمًا لتحثك على الاستعداد ليوم المعاد.

قال الله جل وعلا: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ.

وقوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا.

وقوله: يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ.

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ.

وقوله تعالى: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ الآية.

وقال تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ.

وقال تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ.

وقال جل وعلا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ.

ونحو هذه الآيات التي مرت عليك فإن كنت مؤمنًا حقيقة فاشعر قلبك تلك المخاوف والأخطار وأكثر فيها التفكر والاعتبار لتسلب عن قلبك الراحة والقرار في هذه الدار فتشتغل بالجد والاجتهاد والتشمير للعرض على الجبار.

وتفكر أولاً فيما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور، فإنها صيحة واحدة تنفرج بها القبور على رؤس الموتى، فيثورون دفعةً واحدةً.

قال الله جل جلاله: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ وقال جل وعلا: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ.

فتصور نفسك انتبه يا أخي لهذا اليوم العظيم الذي ليس عظمه مما يوصف، ولا هوله مما يكيف، ولا يجري على مقدار مما يعلم في الدنيا ويعرف بل لا يعلم مقدار عظمه ولا هوله إلا الله تبارك وتعالى وما ظنك بيوم عبر الله تبارك وتعالى عن بعض ما يكون فيه بشيء عظيم قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وماذا عسى أن يقول القائل فيه وماذا عسى أن يصفه الواصف به الأمر أعظم والخطب أكبر والهول أشنع كما قال القائل:

وما عََى أنْ أقُولَ أوْ أقُومُ بِهِ

          الأمْرُ أعظَمُ مِمَّا قِيْلَ أو وُصِفَا

وقال آخر:

يَضْحَكُ المرءُ والبُكَاءُ أمَامَهْ

ويَمْشِي الحَدِيْثُ في كُلِّ لَغْوٍ

ولأَمْرٌ بَكَاءُ كُلُّ لَبيْبٍ

صَاحِ حَدِّثْ حَدِيْثَهُ واخْتَصْرهْ

عَجِزَ الْوَاصِفُوْنَ عَنْهُ فَقَالُوْا

فلْتُحَدِّثْهُ جُمْلَةً وَشَتَاتًا

          ويَرُوْمُ البَقَاءَ والموتُ رَامَهْ

ويُخْلَى حَدِيْثُ يَومِ القِيَامَةْ

وَنَفَى في الضَّلامِ عَنْهُ مَنَامَهْ

فَمُحَالٌ بأنْ تُطِيْقَ تَمَامَهْ

لَمْ نَجِيءْ مِن بِحَارِهِ بِكضَامَهْ

ودَعِ الآن شَرْحَهُ ونِظَامَهْ

فتصور نفسك وقد خرجت من قبرك متغيرًا وجهك مغبرًا بدنك من تراب قبرك مبهوتا من شدة الصعقة قال تعالى: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ.

وقال جل وعلا وتقدس: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ الآية. وقال تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.

وقال جل وعلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ.

وقال تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ فتفكر في الخلائق ورعبهم وذلهم واستكانتهم عند الانبعاث خوفا من هذه الصعقة وانتضارًا لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة.

قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.

وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي.

شعرًا:

كأني بِنَفْسِي على ضُعْفِهَا

وقد كَشَفَ اللهُ عَنْهَا الغِطَا

ومُدَّتْ إليها يَدٌ فظَّةٌ

فما شِئْتَ مِنْ نَفَسٍ ضَيِّقٍ

ونَفْسٌ تُسَاقُ أشَدَّ مَسَاقْ

ولا دَافِعٌ يُرْتَجَى دَفْعُهُ

وما لي انْتِصَارٌ وَلا لِي قَرَار

فَدَعْنِي ويَوْمي أبْكِيْ لَهُ

          تَجَرَّعُ رَغْمًا كُؤُوْسَ الرَّدَى

فَحَنَّتْ هُنَاكَ لِكَشْفِ الغِطَا

لِفَظٍّ غَلِيْظٍ شَدِيْدٍ القُوى

وجَذْبِ عُرُوْقٍ وقَطْعِ الحَشَا

فَتُضْغَطُ في لَهَواتِ الفَتَى

ولا قَائِلٌ ما بِهِ يُفْتَدَى

وَمَالِيَ مِن حِيْلَةٍ تُرْتَجَى

فَحُقَّ لِيَوْمِيْ بِطُوْل البُكَا

اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

 (فصل)

اعلم رحمنا الله وإياك وجميع المسلمين أن في القبر وظلمته، وضيقه ووحشته وطرح الميت فيه غير ممهد ولا موسد قد باشر التراب وواجه البلى وترك الدنيا وزينتها للورى.

ونبذ منها ما كان في يديه في العراء مع حبيب تركه وقريب أسلمه، ونصير أفرده، وترك كل ما كان عهده إن ذلك لمما يفطم النفوس عن الشهوات، وإن كانت صعبة الفطام، ويقطعها عن اللذات، وإن كان قطعها بعيد المرام، إذا بحث عن الحقيقة ونظر بعين البصيرة وسمع النداء من قريب فبنيما الإنسان في رخاء العيش مسرورًا فيما بين يديه غافلاً عن يوم صرعته قد فتح للهوى بابه، وأرسل عليه حجابه، ولم يبال بمن لامه في ذلك أو عابه، إذ هجمت عليه المنية، فهتكت أستاره، وكسفت أنواره، وشتت شمله وطمست أعلامه وآثاره.

فأخرجته من ذلك القصر المشيد، والمنزل المنجد والمتاع المزخرف المنضد، إلى حفرة من الأرض ظلماء ضيقة الجوانب مملوة من الرعب والفزع والخوف والقلق والذعر.

فحذار حذار وبدار بدار قبل أن تصرع هذا المصرع فيفت في عضدك ويسقط في يدك وترمى بك عن أهلك وولدك في مهواة تزدحم فيها الأهوال، وتنقطع فيها الآمال.

قد جمعت فيها جمعا ورصعت فيها رصعًا وتركت فيه للهوام والديدان طعمًا، ومرعى.

ولعلك ممن يرغب في تبديل المنازل وإن كانت حسانًا، ولا ترى لربك عز وجل فيها تفضلاً وامتنانًا.

فانظر الآن كم بين المنزلتين وكم قدر ما بين الوحشتين إلا أن يدركك الله برحمته فتتسع من القبر أقطاره وتمتد فيه أنواره وأنشدوا في هذا المعنى:

مَن كان يُوْحِشُهُ تَبْدِيل مَنْزِلِه

ماذا يَقُولُ إذَا ضَمَّتْ جَوَانِبَها

ماذا يَقُولُ إذَا أمْسَى بِحُفْرَتِهِ

هُنَاكَ يَعْلَمُ قَدْر الوَحْشَتَيْنِ وَمَا

يَا غَفْلَةً ورِمَاحُ الموتِ شَارِعةٌ

وَلَمْ أُعِدُّ مَكَانًا لِلِّنِزَالِ وَلا

إنْ لَمْ يَجُدْ مَنْ تَوالَى جُوْدُهُ أبَدَا

فَيَا إِلِهيْ ومُزْنُ الجُوْدِ وَاكِفَةٌ

آنِسْ هُنَالِكَ يا رَحْمنُ وحْشَتَنَا

نَحْنُ العِصَاةُ وأنْتَ اللهُ مَلْجَؤُنَا

فكُنْ لَنَا عِنْدَ بأْسَاهَا وشِدَّتِهَا

          وأنْ يُبَدَّل مِنْهَا مَنْزِلاً حَسَنَا

عَلَيه واجْتَمَعَتْ مِن هَاهُنَا وهُنَا

فَرْدًا وقَدْ فَارَقَ الأهْلِيْنَ والسَّكَنَا

يلقَاهُ مَنْ باتَ باللذَات مَرْتَهَنَا

والشَّيْبُ ألْقَى برأْسِي نَحْوَهُ الرَّسَنَا

أعْدَدْتُ زَادًا ولَكنْ غِرَّةً ومُنَا

ويَعْفُ مَنْ عَفْوُهُ مِن طالِبِيْهِ دنا

سَحًّا فَتُمْطِرُنَا الإِفْضَالَ والمِنَنَا

وألْطَفْ بِنَا وتَرَفَّقْ عِنْدَ ذاكَ بِنَا

وأنْتَ مَقْصَدُنَا الأَسْنَى ومَطْلَبُنَا

أَوْلَى فَمَنْ ذَا الذِي فيها يَكُونُ لَنَا

وكان عثمان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته فقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا.

فقال سمعت رسول الله يقول "القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه".

وسمعت رسول الله يقول "ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه" أخرجه الترمذي.

وأخرج ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو يعلى والحاكم في الكنى والطبراني في الكبير وأبو نعيم عن أبي الحجاج الثمالي قال قال رسول الله : "يقول القبر للميت حين يوضع فيه ألم تعلم ويحك أني بيت الفتنة، وبيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود، يا ابن آدم ما غرك بي إذ كنت تمر لي فداد".

فإن كان مصلحًا أجاب عنه مجيب القبر فيقول أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقول القبر إني إذا أتحول عليه خضرًا ويعود جسده نورًا وتصعد روحه إلى الله تعالى.

وجد مكتوب على قبر:

ما حَالُ مَن سَكَنَ الثَّرى مَا حَالُهُ

أمْسَى ولا رُوْحُ الحَيَاةِ يُصِيْبُهُ

أضْحَى وحِيْدًا مُوْحَشًا مُتَفَرِّدًا

أمْسَى وَقَدْ دَرَسَتْ مَحَاسِنُ وجْهِهِ

واسْتَبْدَلَتْ مِنْهُ المَجَالِسُ غَيْرَهُ

هَلْ مِنْ قبيل تَعْلَمُونَ مَكَانَهُ

          أمْسَى وَقَدْ صُرِمَتْ هُنَاكَ حِبَالُهُ

يَوْمًا وَلا لُطْفُ الحَبِيْبِ يَنَالُهُ

مُتَشِتِّتًا بَعْدَ الجَمِيْعِ عِيَالُهُ

وَتَفَرَقَتْ في قَبْرِهِ أوْصَالُهُ

وتُقِسِّمَتْ مِنْ بَعْدِهِ أمْوَالُهُ

سَلِمَتْ على حَدَثِ الزَّمان رِجَالُهُ

ومكتوب على قبر آخر:

يا باكي المَيْتِ على قَبْرِهِ

مَنْ عَايَنَ الموتَ فذاك الذي

كَمْ مِن شَقِيْقٍ لم يَجِدْ غَيْرَ أنْ

وكَمْ مُحَبٍ لِحَبِيْبٍ إذَا

          امْضِ وَدَعْهُ سَوْفَ تَسْلاهُ

لَمْ تَرَ مِثْلَ الموتِ عَيْنَاهُ

أَغْمَضَ مَن يَهْوَى وسَجَّاهُ

سوى عليه اللَّحْدَ خَلاهُ

اللهم إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسالك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله:

فكم رأى من إنسان قد أعد ثوبًا ليلبسه فكان كفنه، وكم رأى ممن يبني دارًا ليسكنها فكانت قبره، وكم رأى إنسان يحب الولد ويشتهيه، ويسأل الله أن يرزقه ولدًا فلما جاءه الولد صار ضررًا عليه في دينه ودنياه.

وربما قتل أباه أو أمه استعجالاً للميراث، وربما صار عارًا على والديه ونقمةً وخزيًا كما ترى وتسمع ونعوذ بالله من أمر لا يستخار الله فيه.

وتجد كثيرًا ممن ضاعت أعمارهم فرطًا إذا ذكر بالتوبة والرجوع إلى الله أو خوف بالعقوبة أو بالموت، قال دعنا من هذه المقبضات، وحدثنا بالمبشرات والمفرحات، هذا عصر الشباب واللذات.

وإذا كبرنا تبنا إلى الله، والأمر واسع، ولا يرى المسكين أنه قد شيع جنائز إلى الآخر أصغر منه في السن، وأحدث منه بالرحم عهدًا، قد غرته الشبيبة وخدعته الصحة، وتمكنت منه الغرة بما عنده من الثروة والقوة.

ولا يتأمل ويفكر ويعتبر فيرى أن الموت في الشباب أكثر، وحادثة فيهم أسرع وأن الذي يموت في الهرم قليل وكثير من الناس يموت بغتة في السكتة القلبية وأن الزمان كله وقت للموت، ولا يختص من الأرض بمكان دون مكان، ولا من الزمان بوقت دون وقت، ولا يزل هذا المغرور منكبًا على شهواته مداومًا على لذته غافلاً من يوم صرعته، حتى يؤخذ بما تأخر وما تقدم، ويلقى صريعًا لليدين وللفم إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم.

وفي هذا وأمثاله قال الشاعر:

نَالَ أُمُورًا خابَ مَن نالَهَا

وَوَاقَعَ الذَّنْبَ فَما هَالَهُ

وقال هذه سَنَواتُ الصِّبَا

ومَرَّ يَسْتَهْتِرُ في عُصْبَةٍ

أوْلَى لَهُ ثَمَّتَ أوْلى لَهُ

          ثُم سَعَى يَطْلُبُ أمْثالَهَا

والباذِخَاتُ الشمُ قد هَالَهَا

فاسْحَبْ على رِسْلِكَ أذْيَالَهَا

مِن شَكْلِهِ تَصْحَبُ أشْكَالَهَا

وتِلْكُمُ العُصْبَةُ أوْلى لَهَا

ثم اعلم رحمنا الله وإياك والمسلمين أن حب الدنيا في القلب راسخ وإخراجها منه صعب جدًا إلا لمن عصمه الله جل وعز، والنفس إلى الدنيا أميل وهي بها أشغف، وفي طلبها أهلك وعن طريق الرشد أبعد وأصرف، واسمع إلى ما قيل في الدنيا:

هِيَ المُشْتَهى والمُنْتَهَى ومَعَ السُهَى

وَلِمْ تُلْفِنَا إلا وفِيْنَا تَحَاسُدٌ

          أمَانيٌ منها دُوْنَهُنَّ العَظَائِمُ

عَلَيْهَا وإلا الصُدُورِ سَخَائِمُ

وقال الآخر:

يُسِيءُ أمْرؤٌ منا فَيُبْغَضُ دَائِمًا

أَسَرَّ هَوَاهَا الشَّيخُ والكهلُ والفَتَى

وما هِيَ أَهْلٌ يُؤَهَّلِ مْثلُهَا

          ودُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسِيءُ وتُومَقُ

بِجَهْلٍ فَمَنْ كُلِّ النَّواظِر تُرْمَقُ

لِوُدٍ وَلكنَّ ابنَ آدَمَ أَحْمَقُ

وقال الآخر:

لِسَانُك لِلدُّنْيَا عَدَوٌ مُشَاجِنٌ

وما ضَرَّهَا ما كان مِنْكَ وقد صَفَا

          وقَلْبُكَ فيها لِلسَانِ مُبَاينُ

لَهَا مِنْكَ ودٌ في فُؤآدِكَ كَامِنُ

وإن حب الدنيا لهو الداء العضال، الذي أهلك النساء والرجال وأفسد كثيرًا من الأعمال، إلا أن تأتي العناية الإلهية، فتصرف الإنسان إلى النظر الصحيح، وتحمله على الطريق المستقيم.

فيرى بعين الحقيقة وصحيح البصيرة إنه لابد من الموت، وأنه يدفن تحت أطباق الثرى، ويرمى به في ظلمات الأرض، ويسلط الدود على جسده، والهوام على بدنه، فتأخذه من قرنه إلى قدمه.

وقد عدم الطبيب واسلمه القريب، وتركه الصديق والحبيب والقريب، وأتاه منكر ونكير، ولم يجد هناك أنيسًا إلا عمله.

أسْلَمنِي الأهلُ بِبَطْنِ الثَّرَى

وغَادَرُوْني مُعْدِمًا يَائِسًا

وكُلُّ مَا كانَ كأَنْ لَمْ يَكُنْ

وذَاكُم المجمُوعُ والمقْتَنَى

ولَمْ أجِدْ لِي مُؤْنِسًا هَاهُنَا

فَلَوْ تَرَانِي أوْ تَرى حَالَتِي

          وانْصَرَفُوا عَنِي فَيَا وحْشَتَا

ما بِيَدِيْ اليومَ إلا البُكَا

وكَان ما حَاذَرْتُهُ قَدْ أتَىَ

قد صَارَ في كفَي مِثْلَ الهَبَا

غير فُجُورٍ كَانَ لِي أوْ تُقَى

بَكَيْتَ لِيْ يَا صَاحَ مَمَّا تَرى

اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

 (فصل)

وأما الدنيا فينظر إليها فإن كان ملكًا نظر إلى من تقدمه من الملوك وما فعل الموت بهم كيف فرق جموعهم وشتت شملهم وأقفرت منهم قصورهم وعمرت بهم حفرهم وقبورهم.

وكذلك إن لم يكن ملكًا وكان من أصناف الناس وصفاتهم في تقلب الدنيا بهم معلومة وأنه ليس من إنسان إلا وله نصيب من الكدر والهم يقل عند إنسان ويكثر عند آخر.

فإذا أخذ الإنسان نفسه بهذه الأفكار وعرض عليها هذا الاعتبار أثر عليه هذا وأعرض عن الدنيا ولم يلتفت إليها إلا بمقدار ما يقيته، وتذكر الموت وخاف فجأته ولم يأمن بغتته وهجمته وصدمته وصرعته.

والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بفضله وكرمه لا رب غيره ولا معبود سواه.

وقال رحمه الله: واعلم أن من كان منتظرًا لعقاب أن ينزل به من أمير بلدته فإنه لا يزال متألم القلب مشغول النفس.

فإن من توعد أن يضرب مائة سوط فإنه أشغل قلبًا ممن توعد أن يضرب عشرة أسواط.

ومن توعد أن يقطع منه جارحه وأكثر توجعًا ممن توعد أن يضرب مائة سوط ومن توعد أن يضرب عنقه أشد خوفًا ممن توعد أن يقطع أحد جوارحه يده أو رجله أو نحو ذلك.

وما منا من أحد إلا وقد توعد بالقتل لأن الموت قتل في الباطن كالخنق فقد بان لك أن كل واحد منا ينتظر القتل ينتظر ملك يثب عليه فيقبض روحه.

فلو كشف للناس عن أبصارهم فرأوا الموت حين يهجم عليك وشاهدوه في الباطن حين يأخذ روحك لما كان بينه وبين إنسان يقتلك في الظاهر فرق إلا أن الإنسان يحتاج إلى آلة يقتل بها من سيف أو سكين أو نحوهما وملك الموت لا يحتاج إلى شيء من ذلك.

واعلم أن شدة سكرات الموت لا يعرفها على الحقيقة إلا الله جل وعلا ومن ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها إما بالقياس على الآلام التي أدركها وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النزع على شدة ما هم فيه، والنزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه.

فألم النزع يهجم على نفس الروح فيستغرق جميع أجزائه، فإن المنزوع والمجذوب من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من رأسه إلى قدمه فلا تسأل عن كربه وألمه.

ولا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب عرقًا واحدًا لكان ألمه عظيمًا فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم، وليس هو من عرق واحد، بل من جميع العروق.

ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجيًا فتبرد أولاً قدماه لفراغها من الروح، ثم ساقاه كذلك، ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها الحلقوم.

فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب التوبة، وتحيط به الحسرة والندامة والهموم، والغموم، وسائر الأحزان.

نسأل الله العلي العظيم الحي القيوم ذا الجلال والإكرام أن يلطف بنا ويتداركنا بعفوه وغفرانه وجوده وإحسانه.

ويروى أن العبد يقول لملك الموت عند الموت يا ملك الموت أخرني يومًا أستعتب فيه وأتوب إلى ربي وأعمل صالحًا فيقول له فنيت الأيام فلا يوم فيقول أخرني ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة.

فتبلغ الروح الحلقوم فيؤخذ بكضمه عند الغرغرة فيغلق باب التوبة دونه، ويحجب عنها وتنقطع الأعمال وتطوى الصحف وتتم الأوقات ويبقى عدد الأنفاس يشهد فيها المعاينة عند كشف الغطاء.

وشَيَّعُوْهُ جَمَاعَاتٌ تَطُوْفُ بِهِ

مِنْ بَيْنِ باكٍ يَكُفُّ فَيْضَ دَمْعَتِهِ

حَتَّى أتَوا حُفَرًا إزَاءَ بَلدَتِهِمْ

وما دَرَوْا هَلْ تَلَقتْهُ بِنَفْحَتِهَا

ثُمَّ انْثَنَوْا نَحْوَ أمْوَالَ قَدْ أحْرَزَهَا

وَذَاكُمُ البَائِسُ المَغْرُوْرُ ما دَفَعَتْ

لَكِنْ تَحَمَّلَ منها كُلَّ فَادِحَةٍ

وما بَكَتْهُ السَّما والأرضُ حِيْنَ مَضَى

          تُغْشِى العُيُونَ بِمَرْآهَا وَكَثْرِتِهَا

وبَيْنَ صَارخةٍ تُفْزِعْ بصْرِخَتِهَا

فَغَادَرُوْهُ بِهَا رَهْنًا لِوَحْشَتِهَا

دَارُ المَقَامَةِ أوْ نارٌ بِلَفْحَتِهَا

لِلنَّائِباتِ فَحَازُوْهَا بِجُمْلَتِهَا

عَنْهُ القَضَاءَ ولا أسْتَشْفَى بَلَذَتِهَا

مِنَ الكَبَائِرِ لا يِقْوَى لِعِدَّتِهَا

ولا الرَّيَاضُ نَضَتْ أثْوَابَ زَهْرَتِهَا

اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله تعالى:

واعلم أن الناس في قصر الأمل وطوله مختلفون وفي درجاته متفاوتون، فمنهم من يؤمل أن يعيش أقصى ما يعيشه إنسان ممن شاهد أو سمع به في زمانه.

ولو كان الاختيار إليه لما مات أبدًا حبًا منه للدنيا وكلفا بها وتلذذًا بالبقاء فيها وهيهات ليس للإنسان ما تمنى ولا يدرك كل ما فيه تعنى.

ما كُلُ مَا يَتَمنَّى المرءُ يُدْرِكُه

          تَجْرِي الرِيَاحُ بِمَا لا تَشْتَهِي السُّفُنُ

وغاية هذا أن يتمنى طول العمر ويود لو يبقى الأحقاب الكثيرة من الدهر.

قال الله جل وعلا في قومٍ كانوا كذلك: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ.

ويمكن أن يكون هؤلاء تمنوا لأنهم لم يتحقق في الآخرة لهم رجاء لكفرهم بمحمدٍ وتكذيبهم له مع صحة نبوته عندهم لكن حملهم بغيهم وحسدهم له على الكفر به والإنكار لدعوته وهذه الآية نزلت في اليهود.

ومنهم من يؤمل أن يعيش ستين سنة وسبعين وأكثر من ذلك ومن الناس من لا يجاوز أمله يومه وربما كان أمله أقصر من ذلك.

بل منهم من يكون الموت نصب عينيه يتوقعه مع الأنفاس أن يثب عليه.

كان بعض الصالحين يقول ما أحسبني إلا رجلا قد أقعد ليقتل وجرد السيف عليه ومدت عنقه فهو ينتظر أن يضرب فيلقى رأسه بين يديه.

وأنشد بعضهم:

وألْبَسْ لِهَذا الموتِ جُبَّةَ خائِفٍ

لا تَأمَنَّنْ عليكَ مِن إقْدَامِهِ

واكْحُلْ جُفُونَكَ بالرُّقَادِ لأجْلِهِ

إلا غِرَارًا كالغِذَاءِ تَنَالُهُ

ومِن العَجَائِبِ أنْ تَراهُ نائِمًا

          قد ضَاقَ عنه مَسْلَكٌ ومَقَامُ

فلهُ عَلَى هَذَا الوَرَى إقْدَامُ

فالسُّهْد حِلٌ والمَنَامُ حَرَامُ

لَوْلا الضَّروُرةُ ما وُجِدْتَ تَنَامُ

مَنْ طَالِبُوهُ سَاهِرُوْنَ يَنَامُ

وقال وآخر: قد مد في عمره وطول في أمله فازداد في كسله ودخل الوهن في عمله.

ورجل آخر قد جعل التقوى بضاعته، والعبادة صناعته، ولم يتجاوز بأمله ساعته بل جعل الموت نصب عينيه ومثالاً قائمًا بين يديه وسيفًا مصلتًا عليه.

فهو مرتقبٌ له مستعدٌ لنزوله لا يشغله عن ارتقابه شاغل، ولا يصرفه عن الاستعداد له صارق قد ملأ قلبه خوفًا ووجلاً وعمره عملاً، وعد يومًا يعيشه بقاء ومهلاً وغنيمة تملأ نفسه سرورًا وفرحًا وجذلاً.

لازدياده فيه من الخير وإدخاره فيه من الأجر واكتسابه عند الله عز وجل من جميل الذكر، ومثل هذا قد وفقه الله، فرفع التوفيق عليه لواءه، وألبسه رداءه، وأعطاه جماله.

فانظر رحمك الله أي الرجلين تريد أن تكون وأي العملين تريد أن تعمل، وبأي الرداأين تريد أن تشتمل، وبأيهما تريد أن تتزين وتتجمل.

فلست تلبس هناك إلا ما لبست هنا ولا تحشر هناك إلا فيما كنت فيه هنا إن صلاح فصلاح، وإن فجور ففجور.

ولعل هذا تأويل الخبر المروي عن النبي أنه قال: "يبعث الميت في ثيابه التي مات فيها" لأنه قد صح أن الناس يبعثون حفاة عراة غرلاً فتفكر في هذا المشهد العظيم، واليوم العقيم، يوم يجمع فيه كل الخلق، قال الله جل وعلا: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ، وقال تبارك وتعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وقال النبي : "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر".

فتفكر يا أخي في أي أرض تسعهم، وأي مكان يحملهم، فكيف ويجمع الوحوش النافرة والهوام الشاردة، وكيف يحشرون من بين محمول قد مد ظلال الرحمة عليه، وجمعت الأماني بين يديه.

وقسم آخر يحشرون على وجوههم قال الله عز من قائل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا.

يحشر الخلائق على أرض بيضاء قاع صفصف مستوية قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا.

وقال : "يحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاء عفراء كقرص النقي ليس فيها علم لأحد" أرض مستوية لا جبل فيها ولا أكمة ولا ربوة ولا وهدة أرض بيضاء نقية.

قال الله جل وعلا: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.

فتفكر يا أخي ما دمت في قيد الحياة في هذا المجتمع العظيم، وهذا الهول الأشنع والخطب الأفدح، الأقطع الأبشع.

وفكر فيمن يحضره ويشهده ويعانيه ويبصره، وكيف يقومون على أقدامهم، ويشخصون بأبصارهم.

قال تعالى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ وأنت معهم في ضيق مقام، وطول قيام قد جمعوا.

وقد أنشقت السماء فوقهم، وطاشت الألباب، وذهلت الأوهام، وتحيرت العقول، وتلجلجت الألسن، فلم يدر قائل ما يقول.

قال الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ وقال تعالى: وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا.

فيا له من هول تنهد منه الجبال، فكيف الرجال، ويا له من خطب تنشق منه السماء، فكيف الأحشاء، ففكر يا أخي فيما يشق سمعك من ذلك، وما يخلع قلبك من الروع.

وكيف بك إذا رأيت الشمس مكورة فذهب ضوؤها، والنجوم قد طمست فحمى نورها، وزالت عن مواضعها، واشتبك الناس بعضهم في بعض، وصاروا كالفراش المبثوث، وكانت الجبال كالعهن المفنوش، وقامت الملائكة على أرجاء السماء، وأحاطت بالخلائق من كل الأرجاء.

والناس حفاة عراة غرلاً كما خلقوا، قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

فيا له من يوم يختلط فيه الرجال والنساء، وقد أمنوا أن ينظر بعضهم إلى بعض.

وفي مسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله يقول: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً" قلت يا رسول الله النساء والرجال جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض قال "يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض".

فيا لك من هول ما أعظمه، ومن كرب ما أشده، ومن خطب ما أبشعه فإياك أن تسبتبطئ هذا اليوم أو تستبعده، فما سيرك إليه ببطئ، وما هو منك ببعيد، وإن طال المدى وامتدت الغاية فكل ما هو آت قريب.

قال الله جل وعلا: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ وقال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ وقال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا وقال تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ وقال تعالى: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ.

شعرًا:

يا آمِنَ السَّاحَةِ لا يُذْعَرُ

وإنَّما أنْتَ كَمَحْبُوْسَةٍ

والمَرْءُ مَنْصُوْبٌ له حَتْفُهُ

وهَذِهِ النَّفْسُ لَهَا حَاجَةٌ

وكُلَّمَا تُزْجَرُ عَن مَطْلَبٍ

وإنَّما تَقْصُرُ مَغْلُوْبةً

ورُبَّمَا ألْقَتْ مَعَاذِيْرَهَا

وناظِرُ الموتِ لَهَا نَاظِرٌ

وزَائِرُ الموتِ لَهُ طَلْعَةٌ

وَرَوْعَةُ المَوْتِ لَهَا سَكْرَةٌ

وبَيْنَ أَطْبَاق الثَّرى مَنْزلٌ

يَتْرُك ذُوْ الفَخْر بِهِ فَخْرَهُ

قَدْ مَلأَتْ أرْجَاءَهُ رَوْعَةٌ

وبَعْدُ ما بَعْدُ وأعْظِمْ بِهِ

يُرْجَفُ مِنْهُ الوَرَى رَجْفَةً

ولَيْسَ هَذَا الوَصْفُ مُسْتَوْفِيًا

وإنَّمَا ذَا قَطْرَةُ أرْسَلَتْ

وقَدْ أتَاكَ الثِّبْتُ عَنْهُ بِمَا

فاعْمَلْ لَهُ وَيْكَ وإلا فَلا

          بَيْنَ يَدَيْكَ الفَزَعُ الأكْبَرُ

حُمَّ رَدَاهَا وَهْيَ لا تَشْعُرُ

لَوْ أنَّهُ مِن عَمَهٍ يُبْصِرُ

والعُمْرُ عن تَحْصِيْلِهَا يِِقْصُرُ

كَانَتْ بِهِ أكْلَفَ إذ تُزْجَرُ

كالماءِ عن عُنْصُرهِ يِِقْصُرُ

لَوْ أنَّهَا وَيْحَهَا تُعْذَرُ

لَوْ أنَّهَا تَنْظُرُ إذْ يَنْظُرُ

يُبْصِرُهَا الأكْمَهُ والمُبْصِرُ

ما مِثْلُهَا من رَوْعَةٍ تسْكِرُ

يَنْزِلُهُ الأعْظَمُ والأحْقَرُ

وَصَاحِبُ الكِبْر بِهِ يَصْغُر

نكِيْرُهَا المعروفُ والمُنكَرُ

مِن مَشْهَدٍ ما قَدْرُهُ يُقْدَرُ

يَنْهَدُّ منها المَلأُ الأكْبَرُ

كُلَّ الذي مِن وَصْفِهِ يُذْكَرُ

مِنْ أبْحُرٍ تَتْبَعُهَا أبْحُرُ

أخْبَرَكَ الصادِقُ إذْ يُخْبِر

عُذْرَ وَمَا مِثْلُكَ مَنْ يُعْذَرُ

اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

قال أحد العلماء اعلم أن الموت هائل وخطره عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه، وقلة ذكرهم له، والذي يذكره ليس يذكر بقلب فارغ بل بقلب مشغول بالدنيا وشهواتها ولا يفيد ذكر الموت في اللسان فقط.

فالطريق النافع بإذن الله أن يفرغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الله وما والاه وذكر الموت الذي هو بين يديه قال جل وعلا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.

فإذا أردت أن يؤثر فيك ذكر الموت فاجعل نفسك كالذي يريد أن يسافر إلى محل خطر أو إلى مفازة مخطرة أو كالذي يريد أن يركب في البحر أو في أي مركب من المراكب الخطرة فإنه لا يتفكر إلا فيه.

فإذا باشر ذكر الموت قلبك فيوشك أن يؤثر فيه وعند ذلك يقل فرحك وسرورك وينكسر قلبك ويضعف اهتمامك بالدنيا وشؤنها ويقوى اهتمامك للآخرة.

وأنجح الطرق لذلك بإذن الله تعالى أن تتذكر أقرانك في السن الذين قصمهم هادم اللذات ومشتت الشمل ومفرق الجماعات فتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، وتذكر صورهم ومناصبهم وأحوالهم، وأزواجهم، وأولادهم، ومساكنهم من بعدهم وتفكر وتأمل كيف محا التراب أجسامهم وحسن صورهم وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم وكيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم التي قاسوا على جمعها الشدائد والمشقات وتنعم بها غيرهم ممن جاءتهم عفوا بلا تعب والحساب والتبعات على المسكين الذي ضيع نفسه وصار كما قال القائل:

وذيْ حِرْصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وَفْرًا

كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وهْو طَاوٍ

          لِوَارِثِهِ ويَدْفَعُ عن حِمَاهُ

فَرِيْسَتَهُ لِيأْكُلَهَا سِوَاهُ

وتفكر كيف خلت منهم المساجد والمجالس وانقطعت آثارهم فمهما تذكرت أولئك الزملاء والأساتذة والمشايخ والأقارب والجيران وتصورت حاله وموته وتفرقهم وتذكرت نشاطهم، وترددهم، وأملهم في البقا للعيش ونسيانهم للموت وانخداعهم للنفس وإبليس والهوى والدنيا وركونهم إلى القوة والشباب ونسيانهم للموت وانخداعهم بمواتات الأسباب، وميلهم إلى الضحك واللهو، وغفلتهم عما بين أيديهم من الموت العظيم والهلاك السريع.

ويتفكر كيف أنهم كانوا يترددون، والآن قد تهدمت أجسادهم وتفرقت أوصالهم، وأنهم كانوا يتكلمون ويمرحون، والآن أكل الدود اللسان وتفرقت في القبر المفاصل والأسنان.

ويتفكر كيف أنهم كانوا يجمعون لأنفسهم ما يكفي لعدة سنين في وقت لم يكن بينهم وبين الموت إلا زمن يسير، وهم في غفلة عما يراد بهم حتى إذا جاءهم الموت في وقت ما أحتسبوا له وانكشف لهم صورة الملك وقرع أسماعهم النداء إما إلى الجنة وإما إلى النار.

فعند ذلك ينظر في نفسه وأنه مثلهم وغفلته كغفلتهم وستكون عاقبته كعاقبتهم قال أبو الدرداء إذا ذكرت الموتى فعد نفسك كأحدهم.

قال ابن الجوزي عجبت من عاقلٍ يرى استياء الموت على أقرانه وجيرانه كيف يطيب عيشه خصوصًا إذا علت سنه.

واعجبًا لمن يرى الأفاعي تدب إليه وهو لا ينزعج أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه ثم في كل يوم يزيد الناقص.

ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا وفراق الإخوان وإن كان ذلك مزعجًا.

ولكن شغل من احترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران انتهى اهـ.

فملازمة هذه الأفكار وأمثالها مع دخول المقابر والمستشفيات والمستوصفات، وعيادة المرضى هو الذي يجدد ذكر الموت في القلب حتى يعتاده ويغلب عليه بحيث يصير نصب عينيه فعند ذلك يوشك أن يستعد له ويتجافى عن دار الغرور.

وإلا فالذكر باللسان فقط قليل الفائدة والجدوى في التحذير والتنبيه ومهما طاب قلبك بشيء من الدنيا مال أو ولد أو عمارة أو فلة أو قصر أو بستان.

ينبغي لك أن تتذكر في الحال أنك مفارقه فراق لا يشبهه فراق.

نظر ابن مطيع ذات يوم إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى وقال والله لولا الموت لكنت بك مسرورًا ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا ثم بكى بكاءً شديدًا حتى ارتفع صوته.

عاد الحسن البصري عليلا فوافقه في سكرات الموت ورأى تقلبه وشدة ما نزل به فلما رجع إلى داره قدموا له طعامًا فقال عليكم بطعامكم وشرابكم فإني رأيت مصرعًا لابد لي منه ولا أزال أعمل حتى ألقاه.

وكان يقول إياك والاغترار فإنك لم يأتك من الله أمان وإن الهول الأعظم والأمر الأكبر أمامك وإنك لابد أن تتوسد في قبرك ما قدمت إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.

فاغتنم المبادرة في المهل وإياك والتسويف بالعمل فإنك مسؤل فأعد للمسألة جوابا وكان يقول ابن آدم إن المؤمن لا يصبح إلا خائفًا وإن كان محسنًا ولا يصلح إلا أن يكون كذلك ولا يمسي إلا خائفًا وإن كان محسنًا ولا يصلح إلا أن يكون كذلك لأنه بين مخافتين ذنبٌ مضى لا يدري ما الله صانع فيه وأجلٌ قد بقى لا يدري ما الله مبتليه فيه.

فرحم الله عبدًا فكر واعتبر واستبصر فأبصر ونهى النفس عن الهوى ابن آدم إن الله جلت قدرته أمر بالطاعة وأعان عليها ولم يجعل عذرًا في تركها نهى عن المعصية وأغنى عنها ولم يوسع لأحد في ركوبها.

ولقد روي أن الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة لآدم أنت اليوم عدل بيني وبين ذريتك فمن رجح خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم أني لا أعذب إلا ظالمًا.

وكان يقول ابن آدم لا يغرنك من حولك من السباع العادية ابنك وحليلتك، وخادمك، وكلالتك، أما ابنك فمثل الأسد ينازعك ما بين يديك، وأما حليلتك فمثل الكلبة في الهرير والبصبصة، وأما خادمك فمثل الثعلب في الحيلة والسرقة، وأما كلالتك فوالله لدرهم يصل إليهم بعد موتك أحب إليهم من أن لو كنت أعتقت رقبة.

فإياك أن توقر ظهرك بصلاحهم، فإنما لك منهم أيامك القلائل وإذا وضعوك في قبرك انصرفوا عنك، فصفروا بعدك الثياب، وضربوا الدفوف، وضحكوا القهقة، وأنت تحاسب بما في أيديهم فقدم لنفسك أي يزود من الخير.

شعرًا:

فَعُقْبَى كُلِّ شيءٍ نَحْنُ فيهِ

وَمَا حُزْنَاهُ مِن حِلِّ وَحُرْمٍ

وفِيْمَنْ لَمِ نُؤَهِّلْهُمْ بِفَلْسٍ

وتَنْسَانا الأحِبَّةُ بَعْدَ عَشْرٍ

كَأنَّا لَمْ نُعَاشِرْهُمْ بِوُدٍّ

          مِن الجَمْعِ الكثيِف إلَى شَتَاتِ

يُوَزَّعُ في البَنِيْنِ وفي البَنَاتِ

وَقِيْمَةِ حَبّةٍ قَبْلَ المَمَاتِ

وَقَدْ صِرْنَا عِظامًا بَالِيَاتِ

ولَمْ يَكُ فِيْهِمُ خِلٌّ مُؤاتِ

وقال رحمه الله تعالى لما أهبط آدم أوحى الله إليه أربع فيهن جماع الأمر لك ولولدك من بعدك.

أما واحدة فلي.

وأما الثانية فلك.

وأما الثالثة فبيني وبينك.

وأما الراعبة فبينك وبين الناس.

وأما التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئًا.

وأما التي لك فعملك أجزيكه أفقر ما تكون إليه.

وأما التي بيني وبينك فعليك الدعا وعلي الإجابة.

وأما التي بينك وبين الناس فتصاحبهم بما تحب أن يصاحبوك به.

أربع من حصل عليها واجتمعت عنده اجتمع له خير الدنيا والآخرة.

امرأة صالحة عفيفة، وصديق موافق على طاعة الله، ومال من حلال واسع ينفقه في مراضي الله، وعمل صالح.

أوصى رسول الله رجلا فقال هيء جهازك، وقدم زادك، وكن وصي نفسك، فإنه لا خلف من التقوى، ولا عوص من الله عز وجل اهـ.

وقال لرجل يوصيه عليك بذكر الموت فإنه يشغلك عما سواه وعليك بكثرة الدعاء فإنك لا تدري متى يستجاب لك وأكثر من الشكر فإنه زيادة.

شعرًا:

كأني بِنَفْسِي وهْيَ في السَّكَرِاتِ

وقَدْ زُمَّ رَحْلي واسْتَقَلَّبْ رَكائَبِي

إِلَى مَنْزل فيه عَذابٌ وَرَحْمُةٌ

ومِنْ أَعْيُنٍ سَالَتْ عَلَى وَجَنَاتِهَا

ومِن وَارِدٍ فيه عَلى مَا يَسُرُّهُ

ومِن عَاثِر ما أنْ يُقَالَ لَهُ لَعَا

ومِن مَلكٍ كانَ السُّرُوْرُ مِهَادُهُ

غَدَا لا يَذُوْدُ الدُّوْدَ عَن حُرِوجْهِهِ

وعُوِّضَ أُنْسًا مِن ضِبَاءِ كِنَاسِهِ

وصارَ بِبَطْنِ الأرضِ يَلْتَحفُ الثَّرى

وَلَمْ تُغْنِهِ أَنَصَارُهُ وجُنُودُهُ

وَمِمَّا شَجَانِي والشُجُوْنُ كَثِيْرَة

وَأَقَلَقَنِي أنَّي أَمُوْتُ مُفَرِّطًا

وَاغْفَلْتُ أمْرِي بَعدهُم مُتثَبِطًا

إلَى اللهِ أَشَكُوْ جَهْلَ نَفْسِي فإنَّها

ويا رُبَّ خِلٍّ كُنْتُ ذَا صِلَةٍ لَهُ

وَكُنْتُ لَهُ أُنْسًا وشَمْسًا مُنْيرَةً

سَأَضْرِبُ فُسْطَادِي على عَسْكَرِ البِلَى

وَأرْكَبُ ظَهْرًا لا يَؤُوْبُ بِرَكبٍ

ولَيْسَ يُرَى إلا بِسَاحَة ظَاعِنٍ

يُسَيِّرُ أَدْنَي النَّاسِ سَيْرًا كَسَيْرِهِ

فطَورًا تَراهُ يَحْمِلُ الشُمَّ وَالرُّبَا

وَرُبَّ حَصَاةٍ قَدْرُهَا فَوْقَ يَذْبُلٍ

وكُلُ صَغِيْر كانَ لِلَّهِ خَالِصًا

وكُلُ كَبِيْرٍ لا يَكُوْنُ لِوَجْهِهِ

ولَكِنَّهُ يُرْجَى لِمَنْ مَاتَ محْسِنًا

وَمَا اليَوْمُ يَمْتَازُ التَّفَاضُل بَيْنَهُم

إذا رُوِّعَ الخَاطِيٍ وَطَارَ فُؤآدُهُ

وما يَعْرِفُ الإِنْسانُ أيْنَ وَفَاتَهُ

فيا إخْوَتِي مَهْمَا شَهِدْتُمْ جَنَازَتي

وجُدُّوْا اْبِتَهالاً في الدُعَاءِ واخْلِصُوْا

وقُولُوا جَمِيْلاً إنْ عَلِمتُم خِلافَهُ

ولا تَصُفوني بالذِيْ أنا أَهْلُهُ

ولا تَتَنَاسَوْني فَقدْمًا ذَكَرْتكُم

وبالرَّغْمِ فارَقْتُ الأحِبَّةَ مِنْكُمُ

وإنْ كُنْتُ مَيْتًا بَيْنَ أيْدِيْكُمُ لَقًا

أنَا جِيْكُم حيًا وإنْ كُنْتُ صَامِتًا

ولَيْسَ يَقُوُم الجِسْمُ إلا بِرُوْحِهِ

ولابُدَّ يَوْمًا أنْ يَحُوْرَ بِعَيْنِهِ

وإلا أكُنْ أهْلاً لِفَضْل ورحمةٍ

فما زِلْتُ أرْجُو عَفْوَهُ وجِنَانَهُ

وأسْجُدُ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَذَلُّلاً

ولَسْتُ بِمُمْتَنٍ عليه بِطَاعتي

          تُعَالِجُ أنْ ترْقَى إلى اللَّهَوَاتِ

وَقَدْ آذَنَتْنِي بالرحِيْلِ حُدَاتِي

وَكَمْ فِيهِ مِن زَجْر لَنَا وعِظَاتِ

ومِنْ أوجُهٍ في التُربِ مُنْعَفِرَاتِ

ومِنْ وَارِدٍ فيه عَلَى الحَسَرَاتِ

على مَا عَهِدْنا قَبْلُ في العَثَرَاتِ

مَعَ الآنَسِاتِ الخُرَّدِ الخَفِرَاتِ

وكان يَذُوْدُ الأسْدَ في الأَجَماتِ

وأرَامِهِ بالرُّقْشِ والحَشَرَاتِ

وكانَ يَجُرُّ الوَشْىَ والحَبَراتِ

ولم تَحْمِهِ بالبْيضِ والأسَلاتِ

ذُنُوبٌ عِظَامٌ أَسْبَلَتْ عَبَراتِ

عَلَى أنَّنِيْ خَلَّفْتُ بَعْدُ لِدَاتِي

فَيَا عَجَبًا مِنِّي ومِن غَفَلاتِي

تَمِيْلُ إلى الرَّاحَاتِ والشَّهَوَاتِ

يَرَى أنَّ دَفْنِي من أَجَلِّ صلاتِي

فَأَفْرَدَنِي في وحْشَةِ الظُلُماتِ

وأَرْكُزُ فِيْهِ لِلنُّزُلِ قَنَاتِي

ولا يُمْتَطَى إلا إلَى الهَلَكَاتِ

إلى مَصْرَعِ الفَرْحَاتِ والنَّزَحَاتِ

بِأَرْفَعِ مَنْعِيّ مَن السَّرَوَاتِ

وطَوْرًا تَراهُ يَحْمِلُ الحَصَيَاتِ

كَمقْبُوْلِ ما يُرْمَىَ مِن الجَمَراتِ

يُرّبَّى على ما جَاءَ في الصَّدَقَاتِ

فَمِثْلُ رَمَادٍ طَارَ في الهَبَوَاتِ

وَيُخْشَى عَلَى مَنْ مَاتَ في غَمَراتِ

ولكِنْ غَدًا يَمْتَازُ في الدَّرَجَاتِ

وَأَفْرخَ رَوْعُ البِّرِ في الغُرُفَاتِ

أفَي البَرِّ أمْ في البَحْرِ أمْ بِفَلاةِ

فقُومُوْا لِربِيْ واسْألُوْهُ نَجَاتِي

لَعَلَّ إلهي يَقْبَلُ الدَّعَواتِ

وأَغْضُوْا عَلَى مَا كانَ مِن هَفَوَاتِي

فَأَشْقَى وَحَلُّوْني بخَيْرِ صِفَاتِي

وَوَاصَلْتكُم بالبِرّ طُوْلَ حَيَاتِي

وَلَمَّا تُفَارِقِني بِكُمْ زَفَرَاتِي

فَرُوْحِىَ حَيٌّ سَامِعٌ لِنُعَاتِي

أَلا كُلُكُم يَوْمًا إليَّ سَيَاتِي

هُوَ القُطْبُ والأعْضَاءُ كالأَدَوَاتِ

لِيُجْزَى على الطَّاعَاتِ والتَّبَعَاتِ

فَرَبِي أَهْلُ الفّضْلِ والرَّحَمَاتِ

وأحْمَدُه في اليُسْرِ والأزِمَاتِ

وأعْبُدُهُ في الجَهْر والخَلَوَاتِ

لَهُ المنُّ في الَّتيْسْيْر لِلحَسَنَاتِ

اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله ثم لا تغفل عن الميزان وتطاير الكتب إلى الإيمان والشمائل، فإن الناس بعد السؤال ثلاث فرق فرقة ليس لهم حسنة.

فيخرج من النار عق أسود يلتقطهم لقط الطير الحب وينطوي عليهم ويلقيهم في النار فتبتلعهم النار وينادى عليهم شقاوة لا سعادة بعدها.

وقسم آخر ليس لهم سيئة فينادى مناد ليقم الحمادون لله على كل حال، فيقومون ويسرحون إلى الجنة.

ثم يفعل ذلك بأهل قيام الليل ثم بمن لم تشغله تجارة الدنيا ولا بيعها عن ذكر الله ويناد عليهم سعادة لا شقاوة بعدها.

ويبقى قسم ثالث وهم الأكثرون خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا وقد يخفى عليهم ولا يخفى على الله أن الغالب حسناتهم أو سيئاتهم.

ولكن يأبى الله إلا أن يعرفهم ذلك ليبين فضله عند العفو وعدله عند العقاب فتطاير الصحف والكتب منطوية على الحسنات والسيئات.

وينصب الميزان وتشخص الأبصار إلى الكتب أتقع في اليمين أو في الشمال.

ثم إلى الميزان أيميل إلى جانب السيئات أو إلى جانب الحسنات وهذه حالة تطيش فيها عقول الخلائق انتهى كلامه رحمه الله.

ذكر أبو داود من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها ذكرت النار فبكت فقال رسول الله ما يبكيك قلت ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة.

فقال رسول الله : "أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدًا عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره.

وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز".

وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي في قول الله جل وعلا: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ قال يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستون ذراعًا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤٍ يتلألأ.

فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا فيأتيهم فيقول أبشروا لكل رجل مسلم مثل هذا.

قال وأما الكافر فيسود ويمد في جسده ستون ذراعًا على صورة آدم فيلبس تاج من نار فيرى أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا به فيأتيهم فيقولون اللهم أخره فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا.

شعرًا:

أَمْدُدْ يَمِيْنِكَ من دُنْيَاكَ آخِذَةْ

فَلَسْتَ تُدْركُ ما فِي ذَاكَ مِن أمَلٍ

فإنْ تَكَاسَلْتَ أوْ قَصَّرْتَ في طَلَبٍ

يا نائِمَ القَلْبِ عَنْ أمْرٍ يُرَادُ بِهِ

واشْدُدْ حُزَيْمَكَ وَاكْشِفْ سَاعِدَيْكَ لَهُ

كَمْ رابِحٍ بِكِتَابٍ كَانَ أمْلأَهُ

فَظَلَّ مُرْتَقِيًا أدْرَاجَ مَكْرُمَةٍ

وطَلَعَهُ الموتِ تُبْدِي عن حَقيقةٍ مَا

          كِتَاب فَوْزِكَ إذْ تَحْتَلَّ أخْرَاكَا

إلا بِوَاسِطَةٍ مِن دَارِ دنْياكَا

كُنْتَ المُخَيَّبَ والمطلُوب إذْ ذَاكا

نَبِّهِهُ وَيْحَكَ إنَّ الأمَر حَاذَاكَا

فَرُبَّمَا حُمدَتْ بالجِدِّ عُقْبَاكَا

هَنَا بما شَاءَ لا مَنْ كَانَ أفَّاكَا

في عَدْنٍ أوْ نَازلاً في النار أدْراكَا

تُمْلِيْ فإيَّاكَ أنْ تَنْسَاهُ إيَّاكَا

اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

ذكر الترمذي من حديث أنس عن النبي قال: "يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيوقف بين يدي الله عز وجل.

فيقول الله له أعطيتك وخولتك وأنعمت عليك فماذا صنعت فيقول جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كان فارجعني آتيك به فيقول له أرني ما قدمت فيقول يا رب جمعته وثمرته أكثر ما كان فارجعني آتيك به فإذا عبد لم يقدم خيرًا فيمضى به إلى النار.

فتفكر يا مسكين في نفسك ما دمت في قيد الحياة وأنت تحكم في مالك ولا لك معارض وتتصرف فيه كيف شئت واجعل يوم تبلى السرائر نصب عينيك بين ما أنت في هذا اليوم العظيم الذي قد امتلئت فيه القلوب من الخوف والقلق والرعب والذعر والانزعاج وقد بلغت القلوب الحناجر. قال تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ فبينما الناس في هذه الحال التي حدثت عنها إذ جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تكون بمرأى من الخلق ومسمع يرون لهيبها ويسمعون زفيرها فبينما أنت في تلك الحال إذا أخذ بضبعك وقبض على عضديك وجيء بك تتخطى الرقاب وتخترق الصفوف والخلائق ينظرون إليك حتى إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسئلت عن القليل والكثير والدقيق والجليل والطمير والنقير ولا تجد أحدًا يجاوب عنك بلفظة ولا يعينك بكلمة ولا يرد عنك جوابًا في مسألة.

وأنت شاهدت من عظم الأمر وجلالة القدر وهيبة الحظرة ما أذهب بيانك وأخرس لسانك وأذهل جنانك.

ونظرت يمينًا وشمالاً وبين يديك فلم تر إلا النار وعملك الذي كنت تعمل وكلمك رب العزة جل جلاله بغير حجاب يحجبك ولا ترجمان يترجم لك.

وكيف تكون حيرتك ودهشتك إذا قيل عاملت فلانًا يوم كذا وكذا في كذا وكذا وغبنته في كذا وكذا وغششته في السلعة الفلانية.

وتركت نصيحته في كذا وكذا وبعته السلعة المعيوبة ولم تبين له العيب أو غصبت فلانًا أو ظلمت فلانًا أو قتلت فلانًا أو أعنت على قتله أو نحو ذلك.

وقيل ما حجتك أقم بينه ائت ببرهان فأردت الكلام فلم تبين وجئت بعذر فلم يستبن هيهات أنى لك الكلام ولم تنقحه وأنى لك بالعذر وأنت في الدنيا لم تصححه قال الله جل وعلا: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا.

وقال تبارك وتعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا الآيات وقال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ الآيتين.

فانظر في هذا الموقف عند السؤال بأي بدن تقف بين يدي الله وبأي لسان تجيبه فأعد للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا فما شئت من قلب يخلع ومن كبد تصدع ومن لسان يتلجج ومن أحشاء تتموج ومن نفس تريد أن تخرج.

وانظر ما أشأم تلك الأرباح التي ربحتها وأخسر تلك المعاملات التي ألهتك عن ما خلقت له انظر كيف ذهبت عنك مسراتها وبقيت حسراتها والشهوات التي في ظلم العباد أنفذتها كيف ذهب عنك الفرح بها وبقيت التبعة.

وانظر هل يقبل منك فدا في ذلك الموقف الرهيب وما الذي يخلصك من ذلك السؤال قال الله تبارك وتعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا.

وفي بعض الأخبار يتمنى رجال أن يبعث بهم إلى النار، ولا تعرض قبائحهم على الله تعالى ولا تكشف مساوئهم على رؤس الخلائق، فما ظنك بهذا المقام وبهذا السؤال وبهذا النكال والوبال.

وما ظنك بنفسك وقد جيء بجهنم على الوصف الذي تقدم وقد دنت من الخلائق، وشهقت وزفرت، وثارت، وفارت.

ونهض خزانها، والموكلون بها، والمعدون لتعذيب أهلها متسارعين إلى أخذ من أمروا بأخذه، ساحبين له على بطنه، وحروجهه سامعين مطيعين لله لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.

فتصور حالك، وكيف وقد امتلأت القلوب خوفًا ورعبًا وذعرًا وفزعًا، وارتعدت الفرائص، وبلغت القلوب الحناجر، واصطفقت الأحشا، وتقطعت الأمعاء، وطلبوا الفرار وطاروا، لو يحصل لهم مطار.

وجثت الأمم على الركب وأيقن المذنبون بالهلاك والعطب وسوء المنقلب، ونادى الأنبياء، والصديقون والأولياء نفسي نفسي.

كل نفس قد أفردت لشأنها وتركت لما بها قال الله جل وعلا وتقدس: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وقال تبارك وتعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وظن كل إنسان أنه هو المأخوذ، وأنه هو المقصود، والمطلوب، وذهلت العقول، وطاشت الألباب، وتحيرت الأذهان، وفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.

واشتغل بشأنه الذي يهمه ويعنيه، وسئل عن جميع أمره سره وجهره دقيقه وجليله كثيره وقليله، وسئل عن أعضائه عضوًا عضوًا وجارحة، وعن شكره عليها، وعن أداء حق الله فيها.

وظهرت القبائح وكثرت الفضائح، وبدت المخازي واشتهرت المساوي، وتركك الأهل والأقربون، ولم ينفعك مال ولا بنون، وأقبلت تجادل عن نفسك وتخاصم عنها وتطلب المعاذير لها قال الله جل وعلا: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا.

وقد أسلمت وأفردت واشتغل كل إنسان عنك بنفسه قال الله جل وعلا: لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وقال عز من قائل: وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا الآية.

وأنشدوا:

خَلِيْلَيَّ ما أقْضِى ومَا أنا قَائِلٌ

وقَدْ وضَعَ الرحْمنُ في الخَلْقِ عَدْلهُ

وجِيْءَ بِجُرْم النار خَاضِعَةً لَهُ

فيا لَيْتَ شِعْرِي ذَلِكَ اليوم هَلْ أنَا

فإنْ أَكُ مَجْزِيًا فَعَدْلٌ وحُجَّةٌ

          إذَا جِئْتُ عن نَفْسِي بِنَفْسِي أُجَادِلُ

وسيْقَ جَمِيْعُ النَّاسِ واليَوْمُ بَاسِلُ

وثُلَّتْ عُرُوْشٌ عندها وَمَجَادِلُ

أَاُغْفَر أمْ أُجْزَى بِمَا أنَا فَاعِلُ

وإْن يَكُ غُفْرانٌ فَفَضْلَ وَنَائِلُ

اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بطاعتك وجنبنا ما يسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نفوسنا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عدوك واجعل هوانا تبعا لما جاء به رسولك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

فصل في التحذير من النار وما أعد لأهلها

قال الله تبارك وتعالى: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، وقال جل وعلا: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا.

فيا أيها الغافل عن نفسه المغرور بما هو فيه من شواغل الدنيا المشرفة على الانقضاء والزوال، دع الاشتغال والتفكر فيما أنت مرتحل عنه، واصرف فكرك واجتهادك إلى موردك الذي سترده، فإنك أخبرت أن النار مورد للجميع.

قال الله جل وعلا وتقدس: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا فأنت من الورود على يقين، ومن النجاة في شك.

فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه، وتأمل في حال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة وأهوالها وشدائها ما قاسوا.

فبينما هم في كربها وأهوالها ودواهيها وقوفا ينتظرون حقيقة أخبارها وتشفيع شفعائها إذا أحاطت بالمجرمين ظلمت ذات شعب وأظلت عليه نار ذات لهب وسمعوا لها زفيرًا وجرجرة تفسح عن شدة الغيض والغضب.

قال الله تبارك وتعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، قال الله عز من قائل: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا.

وجثت الأمم على الركب حتى أشفق البرءاء من سوء المنقلب، قال الله جل وعلا وتقدس: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.

وخرج المنادي قائلاً أين فلان المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل.

فيبادرونه بمقامع من حديد ويستقبلونه بعظائم التهديد ويسوقونه إلى العذاب الشديد وينكسونه في جهنم ويقولون له: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.

فأسكنوا دارًا ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، قال الله جل وعلا: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا دار يخلد فيها الأسير ويوقد فيها السعير شرابهم الحميم ومستقرهم الجحيم.

قال الله تبارك وتعالى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ وقال تعالى: إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا الهاوية تجمعهم والزبانية تقمعهم.

قال تبارك وتعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.

وقال تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم منها فكاك، قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي.

ينادون من أكنافها ويصيحون في نواحيها وأطرافها يا مالك قد حق علينا الوعيد يا ملك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك العدم خير من هذا الوجود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود.

فتقول الزبانية هيهات لات حين مناص، ولا خروج لكم من دار الهون قال الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ.

ولو خرجتم لكنتم إلى ما نهيتوا عنه تعودون، قال الله تبارك وتعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

فعند ذلك يقنطون وعلى تفريطهم في جنب الله يتأسفون ولا ينجيهم الندم ولا يغنيهم الأسف بل يكبون على وجوههم مغلولين قال تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ.

النار من فوقهم والنار من تحتهم والنار عن أيمانهم والنار عن شمائلهم قال الله جل وعلا: لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ فهم غرقى في النار طعامهم نار وشرابهم نار ولباسهم نار ومهادهم نار قال الله جل وعلا: لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ.

فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب من المقامع وثقل السلاسل فهم يتجلجلون في مضايقها ويتحطمون في دركاتها ويضطربون في غواشها تغلي بهم النار كغلي القدور ويهتفون بالويل والثبور.

قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.

قيل إن مقامع الحديد تهشم بها جباههم فيتفجر الصديد في أفواههم وتنقطع من العطش أكبادهم وتسيل على الخدود أحداقهم وتسقط من الوجنات لحومها وتتمزق الجلود.

قال الله جل وعلا: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا قد عريت من اللحم عظامهم فبقيت الأرواح منوطة بالعروق وعلائق العصب وهي تنش في لفح تلك النيران وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون.

قال الله جل وعلا وتقدس: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ فكيف بك لو نظرت إليهم وقد سودت وجوههم وأعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم وقصمت ظهورهم وكسرت عظامهم ومزقت جلودهم وغلت أيديهم إلى أعناقهم وجمع بين النواصي والأقدام.

قال تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ وقال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا.

فلهيب النار سار في بواطن أجزائهم وحيات الهاوية وعقاربها متشبثة بظواهر أعضائهم. ذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله : "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بمن جعل مع الله إلهًا آخر وبكل جبار عنيد وبالمصورين".

وذكر الترمذي من حديث أبي أمامة عن النبي في قوله تعالى: وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ قال: يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شرب قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله عز وجل: وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ويقول: وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا.

وأنشدوا:

أَمَا سَمِعْتَ بأَهْلِ النَّارِ في النَّارِ

أَمَا سَمِعْتَ بأكْبَادٍ لَهُم صَدَعَتْ

أَمَا سَمِعْتَ بأَغْلالٍ تُنَاطُ بِهم

أَمَا سَمِعْتَ بِضِيْقِ في مَجَالِسِهمْ

أَمَا سَمِعْتَ بِحَيَّاتٍ تَدِبُّ بِهَا

أَمَا سَمِعْتَ بأَجْسَادٍ لَهُم نَضِجَتْ

أَمَا سَمِعْتَ بِمَا يُكَلَّفُونَ بِهِ

حَتَّى إِذَا مَا عَلَوْا عَلَى شَوَاهِقِهَا

أَمَا سَمِعْتَ بزَقُّوم يُسَوّغُهُ

يُسْقَوْنَ مِنْهُ كُئُوْسًا مُلَّئَتْ سَقَمًا

يَشْوِيْ الوُجُوهَ وُجُوْهًا أُلْبِسَتْ ظُلَمًا

ولا يَنَامُوْنَ إنْ طَافَ المْنَامُ بِهمْ

إنْ يَسْتَقِيْلُوا فلا تُقال عُثْرَتُهُمْ

وإن أَرَادُوْا خُرُوْجًا رُدَّ خَارِجُهُمْ

فَهُمْ إلَى النَّارِ مَدْفُوْعُوْنَ بِالنَّارِ

ما انْ يُخَفَّفَ عَنْهُمْ مِن عَذَابِهمُ

فَهَذِهِ صَدَعَتْ أَكْبَادَ سَامِعِهَا

ولَوْ يَكُونُ إلَى وَقْتٍ عَذَابَهُمْ

فَيَا إلهَيْ ومَن أَحْكَامُهُ سَبَقَتْ

رَحْمَاكَ يَا رَبِّ في ضَعْفِي وفي ضَعَتِي

ولا عَلَى حَرّ شَمْسِ إنْ بَرزْتُ لها

فإنْ تَغَمَّدَنِي عَفْوٌ وثِقْتُ بِهِ

          وعن مقَاسَاةِ مَا يَلقَوْنَ في النَّارِ

خَوفًا مِن النارِ قد ذَابَتْ عَلَى النارِ

فَيُسْحَبُونَ بِهَا سَحْبًا عَلَى النَّارِ

وفي الفرَارِ ولا فِرَارَ في النَّارِ

إليْهِمُ خُلِقَتْ مِن خَالِصِ النَّارِ

مِن العَذَابِ ومِن غَلْي عَلَى النَّارِ

مِن ارْتِقَاءِ جبَالِ النَّارِ في النَّارِ

صُبُّوْا بعُنْفٍ إلَى أَسَافِلِ النَّارِ

مَاءٌ صَدِيْدٌ ولا تسْوِيْغَ في النَّارِ

تَرْمِىْ بأَمْعَائِهِم رَمْيًا عَلَى النَّارِ

بِئْشَ الشَّرابُ شَرَابُ سَاكِني النَّارِ

وَلا مَنَام لأَهْلِ النَّارِ في النَّارِ

أَوْ يَسْتَغِيْثُوْا فَلا غِيَاثَ في النَّارِ

بِمَقْمَعِ النَّارِ مَدْحُوْرًا إلَى النَّارِ

وَهُمُ مِن النَّارِ يُهْرَعُوْنَ لِلنَّارِ

وَلا تُفَتَّرُ عَنْهُمْ سَوْرَة النَّارِ

مِن ذِي الحِجَيِ ومِن التَّخْليِد في النَّارِ

في النَّارِ هَوْنَ ذَاكُمْ لَفْحَةَ النَّارِ

في الفِرْقَتَيْنِ مِن الجَنَّاتِ والنَّارِ

فَمَا وُجُودِكَ ليْ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ

فَكَيْفَ أَصْبِرُ يا مَوْلايَ لِلنَّارِ

مِنْكُمْ وإلا فإني طُعْمَةُ النَّارِ

اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.

نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.

اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من شر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.

اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.

اللهم أعنا على ذكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وأرزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

موعظة

عباد الله قد سبق ذكر الموت وأحوال الميت في سكراته وفتنة القبر وسؤال منكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه وخطر من كان مسخوطًا عليه وأعظم من ذلك الأخطار التي بين يديه من نفخ الصور والبعث والنشور والعرض على الجبار والسؤال عن الدقيق والجليل ونصب الميزان لمعرفة المقادير.

ثم جواز الصراط مع دقته وحدته ثم انتظار النداء عند فصل القضاء إما بالإسعاد وإما بالإشقاء فهذه أحوال وأهوال لابد من معرفتها ثم الإيمان بها على سبيل الجزم والتصديق ثم تطويل الفكر في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة.

كما جاء في الكتاب والسنة يجمع الله فيه الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ يسمعهم الداعي وينفذهم البصر لا يغيب منهم أحد وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق هذا اليوم هو اليوم الذي تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.

في ذلك اليوم يبلغ الأمر من الحيرة والدهشة والاضطراب والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الذي فمه في ثديها وهو أعز شيء لديها فكيف بالذهول عما سواه وتسقط الحوامل من الفزع والرعب والروع ما في بطونها من الأجنة قبل التمام وترى الناس كأنهم سكارى من شدة الروع والفزع والخوف الذي صير من رآهم يشبههم بالسكارى لذهاب عقولهم من شدة الخوف كما يذهب عقل السكران من الشراب يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة تكون الأرض كالسفينة في البحر عند اضطراب الأمواج تكفأ بأهلها.

فيميد الناس على ظهرها ويتساقطون من شدة الأمر وبلوغه أقصى الغايات ولهذا أذهل العقول وأذهب التمييز والفكر والصحو إنه يوم القيامة إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا.

إنها لهزة عنيفة للقلوب الغافلة حيث ترجف الأرض الثابتة ارتجافًا وتزلزل زلزالاً وتنفض ما في جوفها نفضًا وتخرج ما يثقلها من أجساد ونقود وغيرها مما حملته طويلاً وهو مشهد يهز كل شيء ثابت والأرض تهتز والسماء تمور.

إنه لمشهد مجرد تصوره، يخلع القلوب يرى الإنسان ما لا يعهد ويواجه ما لا يدرك ويشهد ما لا يملك الصبر أماه ولا السكوت عنه وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ما الذي يزلزلها هكذا ويرجها رجًا.

وكأنه من شدة ما نزل يتمايل على ظهر الأرض ويتشبث ويحاول أن يمسك بشيء لعله يثبت لأن كل ما حوله يمور مورًا شديدًا قد امتلأ من الرعب والفزع والدهشة والعجب.

يرى الجبال وهي تسير وإذا الجبال سيرت، هذه الجبال وقد نسفت وبست ورآها ذرات في الهواء وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا، وسيرت الجبال فكانت سرابًا.

هذه تصرح وتشير إلى حدث عظيم تتزلزل منه الجبال وتذهب هباء يتلاشى ثباتها ورسوخها واستقرارها وتماسكها والإنسان ينظر ولا يكاد يلتقط أنفاسه إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ.

هنا يشاهد ويواجه الحشر والحساب والوزن والجزاء ويقف جبريل عليه السلام والملائكة صفًا بين يدي الرحمن يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا، ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ، يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا.

وموقف هؤلاء المقربين صامتين خاشعين خاضعين لعظمة الله وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا.

موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذن من الرحمن يلقي في النفس الرهبة والرعب والفزع من ذلك اليوم العظيم الذي ينكشف فيه كل مستور ويعلم فيه كل مجهول.

وتقف فيه النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ.

في ذلك اليوم يكون التغير العظيم الشامل للمعهودات السموات والأرض الشمس مكورة والنجوم منكدرة والسماء منشقة والوحوش النافرة محشورة والأنعام والطيور والعشار معطلة فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ، إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً، فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ.

هذه الآيات وأمثالها تشير إلى ذلك الحادث الهائل في الكون كله ولا يعلم حقيقته إلا الله إنه حادث عظيم ترجف الأرض منه وتخاف وتنهار فكيف بالخلق الضعاف المهازيل الذين تهزهم الصواعق هزًا وتخلع قلوبهم خلعًا فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ، يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً.

وفي وسط هذا الرعب والخوف والقلق والفزع والذهول والانقلاب يتساءل الإنسان المذعور المرعوب أين المفر ويبدو ذلك في سؤاله وكأنما ينظر في كل اتجاه فإذا هو مسدود دونه مأخوذ عليه ولا ملجأ ولا محيص ولا منفذ ولا وقاية من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه والمصير والمستقر عنده كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا.

ففي هذا الموقف الرهيب يتبين عجز الخلائق وضعفهم وكمال سلطان الله وقدرته ونفوذ مشيئته إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ إنكم في قبضة الله، مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنه ليوم عصيب وموقف رهيب، إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا.

فلا مجال لهرب أحد ولا نسيان لأحد فعين الله على كل فرد وكل فرد يقوم وحيدًا لا يأنس بأحد فإذا هو فريد وحيد أمام الديان يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.

مشهد المرء يفر وينسلخ ويهرب من أقرب الناس إليه وألصقهم به أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ولكن الصاخة والطامة تمزق هذه الروابط وتقطع الوشائج والصلات فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ.

فالهول يفزع النفس ويقلقها ويفصلها من محيطها ويستبد بها استبدادًا فلكل نفسه وشأنه ولديه الكفاية من الهم الخاص به الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ.

ألَم تَسْمَعْ عن النَّبَأ العَظِيْمِ

وَزِلْزَالٍ يَهُدُّ الأرْضَ هَدَّا

وأهْوالٍ كَأَطْوَادٍ رَوَاسَيْ

فَمِن رَاسٍ يَشِيْبُ ومِن فوآدٍ

وسَكرانٍ ولَمْ يَشْرَبْ لِسُكْرٍ

ومُرْضِعَةٍ قَدْ أذْهَلَها أَساهَا

ومُؤْتَمةٍ تَولَّتْ عن بَنِيْهَا

وحُبْلَى أسْقَطَتْ ذُعْرًا وخَوْفًا

وهَذا مَشْهَدٌ لابُدَّ مِنْهُ

وما كِسْرَى وَقَيْصَرُ والنَّجَاشِي

بذَاكَ اليَومِ إلا في مَقَامٍ

وما لِلْمَرء إلا مَا سَعَاهُ

وأنْتَ كما عَلِمْتَ وَربَّ أمْرٍ

فَدَعْ عَيْنَيْكَ تَسبْحْ في مَعِيْنٍ

وشُقَّ جُيُوب صَبْرك شَقَّ ثُكْلى

وَمَاذَا الأمْرُ ذَلِكُمُ وَلَكِنْ

          وعن خطْبٍ خُلِقْتَ لَهُ جِسْيم

ويَرْمِيْ في الحَضِيْضَة بالنُّجُوْمِ

تَلاطَمُ في ظُلُوعٍ كَالهَشِيْمْ

يَذُوْبُ ومِن هُمُومٍ في هُمُوْمْ

وهَيْمانٍ ولَمْ يَعْلقْ بِرِيْمْ

فَمَا تَدْرِيْ الرَّضِيْع مِن الفطِيْم

وألْقَتْ باليَتِيْمَةِ واليَتِيْمِ

فيالَلِهِ لِلْيَوْمِ العَقِيْمِ

وجَمْعٌ لِلْحَدِيْثِ ولِلْقَدِيّمِ

وتُبَّعُ والقُرُوْمُ بَنُوا القُروْمِ

أذَلَّ مِن التُرابِ لذِي السَّلِيمِ

لِدارِ البؤسِ أوْ دَارِ النَّعِيْمِ

يَكُونُ أذاهُ أوْقَعُ بالعَلِيْمِ

وقَلْبَكَ ذَرْهُ يَقْلُبُ في جَحِيْم

تَعَلَّقَتِ ابنها رَجُلاً سَهُوْمْ

تُشَبَّهُ بالبِحَارِ يَدُ الكَرِيْمِ

اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

اعلم رحمنا الله وإياك أن الجنائز عبرة للمعتبرين، وفكرة للمتفكرين، وتنبيهًا للغافلين، وإيقاظًا للنائمين.

بينما الإنسان في قيام وقعود، ونزول وصعود، وخذ هذا واترك هذا، واشتر هذا وبع هذا، وابن هذا واهدم هذا، وقد كان وما كان، وتقدم هذا وتأخر هذا، وعين فلان وفصل فلان، وربح فلان وخسر فلان.

إذ فاجأه الأمر إلالهي والحادث السماوي والحكم الرباني فسكنت حركته وطفئت شعلته، وذهبت نظرته وصار كالخشبة المنبوذة والحجر المرمي.

إذ نودي لم يسمع وإن دعي لم يجب وإن قطع أو سحب أو حرق لم يمانع ولم يتكلم، عبرة لمن اعتبر وذكرى لمن كان له قلب.

ولكن حب الدنيا وزينتها وشهواتها وحجاب الهوى غطى القلوب وأعمى البصائر يمنع التفكر في الجنائز والاعتبار لها.

فصارت لا تزيد رؤيتها عند كثير من الناس إلا غفلة ولا مشاهدتها إلا قصوة حتى كأن الميت نائم يستيقظ بعد ساعة أو كأن الذي يرى الجنازة لا يكون مثلها وكأن الميت نزل به الموت وحده وقصده خاصة.

ولذلك تجد كثيرًا من المشيعين يبحث في مخلفاته نعم يعلم كل إنسان أنه سيموت لقول الله جل جلاله: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ.

وقد تخالف الناس إلا في الموت فهم متفقون، ولكن لا يظنون ذلك من قريب قد فسحوا لأنفسهم في المدة ومدوا لها في المهلة بدليل ما ينشئونه من الأعمال والقصور والشركات ونحو ذلك.

وإن دار على لسانه ذكر الموت عن قريب فهو قول ضعيف بدليل عدم تحركه من قبل الآخرة وحالته قبل رؤية الجنائز كحالته بعد تشييعها أكبر برهان على ذلك وربما تحدثوا بحديث الدنيا وضحكوا والميت يدفن.

وقلما يبكي على الجنازة إلا أهلها وذلك لفراقها، لا لنفس الموت، كبكاء الطفل والمرأة الذين لا يعقلان ولا يعلمان، ولو كانوا يعلمون لكان بكاؤهم على أنفسهم لا على ميتهم لأنه مات وهم ينتظرون الموت.

بَكَى لأنْ مَاتَ مَيْتٌ مِن عَشْيِرَتِهِ

وباتَ فَوقَ حَشَاهُ للأَسَىَ لَهَبٌ

وَلَوْ رَآى بِصَحيْحِ العَقْلِ حِيْنَ رَآى

لَمَا رَآى الدَّهْرَ مَيْتًا أوْ أحَسَّ بِهِ

ومَنْ رَأى السُّمْرَ في جَنْبَيْهِ شارِعَةً

وطَلْعَهُ الموتِ إن تَطْلُعْ عَلى أحَدٍ

          وقَالَ واحَرَبَا وصَاحَ يَا هَرَبَا

إذَا أرَادَ خُبُوًا فَارَ والّتَهَبَا

وكَشَفَ اللهُ عَنْهُ لِلْهَوَى حُجُبَا

إلا بَكَىَ نَفْسَهُ المِسْكِيْنُ وانْتَحَبَا

أنَّى يَرَاهَا بجنْبٍ نَاءَ أو قَرُبَا

أرَتْهُ في نَفْسِهِ مِنْ هَوْلِهَا عَجَبَا

اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.

(فصل)

وقال رحمه الله تعالى واعلم أن الميت كالحي فيما يهدى إليه بل الميت أكثر وأكثر لأن الحي قد يستقل ما يهدى إليه ويستحقر ما يتحف به.

والميت لا يستحقر شيئًا من ذلك لأنه يعلم قيمته بعد ما خرج من الدنيا وطويت صحيفته وقد كان يقدر عليه أيام حياته ولكن ضيعه.

ومما يدل على وصول القرب إلى الميت قول النبي : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" الحديث رواه مسلم اهـ.

وعن أبي هريرة قال رسول الله : "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علمه ونشره وولدًا صالحًا تركه.

أو مصحفًا ورثه أو مسجدًا بناه أو بيتًا لابن سبيل بناه أو نهرًا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته" رواه ابن ماجة وابن خزيمة.

ورواه البزار من حديث أنس إلا أنه قال: "سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره من علم علمًا أو كرى نهرًا أو حفر بئرًا أو غرس نخلاً أو بنى مسجدًا أو ورث مصحفًا أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته".

وللطبراني عن ثوبان أن رسول الله قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها واجعلوا زيارتكم صلاة عليهم واستغفارًا لهم".

ولابن أبي شيبة عن أبي جعفر قال كان الحسن والحسين يعتقان عن علي بعد موته.

وله عن الحجاج بن دينار مرفوعًا: "إن من البر بعد البر أن تصلي عليهما مع صلاتك وأن تصوم عنهما مع صيامك وأن تصدق عنهما مع صدقتك".

وللبيهقي في سننه عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول يا رب أني لي هذه فيقال بدعاء ولدك لك" وأخرجه البخاري في الأدب عنه موقوفًا.

ويروى أن النبي قال: "الميت كالغريق في قبره ينتظر دعوة تلحقه من ولده أو أخيه أو صديق له فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها".

ومما يدل على وصول القرب إلى الميت أمره عليه الصلاة والسلام بالسلام على أهل القبور والدعاء لهم وما ذاك إلا لكون الدعاء لهم والسلام عليهم يصل إليهم والله أعلم.

قال بشر نن منصور كان رجل زمن الطاعون يختلف إلى المقابر ثم يستقبل القبور فيقول أمن الله روعتكم وآنس الله وحشتكم رحم الله غربتكم تقبل الله حسناتكم وتجاوز الله عن سيئآتكم لا يزيد على هذه الكلمات.

قال الرجل فانصرفت يوما ولم أدع فلما كان الليل رأيت فيما يرى النائم خلقًا كثيرًا قد جاؤني فقلت لهم من أنتم قالوا أهل المقابر قلت وما حاجتكم.

قالوا إنك قد عودتنا منك هدية تهديها إلينا عند انصرافك قلت وما هي قالوا الدعوات التي كنت تدعو بها قلت فإني أعود لما كنت أدعو به قال فما تركت ذلك.

شعرًا:

قِفْ بالقُبُور بأَكْبَادٍ مُصَدَّعَةٍ

وَسَلْ بها عن أناسٍ طَالَما رشَفُوْا

مَاذَا لَقُوْا في خَبَايَاهَا وَمَا قَدِمُوْا

وعَن مَحَاسِنهم أنْ كَانَ غَيَّرَهَا

وَمَا لَهُم حَشَراتُ الأرْضِ تَنْهَشُهُمْ

وتِلْكُمُ الفَتَيَاتُ إذْ طُرِحْنَ بِهَا

فإنْ يُجبْكَ عَلَى لأْيٍ مُجِيْبهُمُوْا

فانْظُرْ مَكَانَكَ في أفْنَاءِ سَاحَتِهِمْ

واعْمَلْ لِمَصْرَعِ يَوْمٍ هَالَ أوَّلُهُ

          وَدَمْعَةٍ مِن سَوَادِ القَلْبِ تَنْبَعِثُ

ثَغْر النَّعِيْمِ وَمَا في ظِلِّهِ مَكَثوْا

عَلَيِه فِيْهَا ومَا مَن أجْلِهِ أرْتَبَثُوْا

طُوْلُ المقَامِ بِبَطْنِ الأرْضِ واللَّبَثُ

نَهْشًا تَزُوْلُ لَهُ الأعْضاءُ والنَّجَثُ

هَلْ كانَ فِيْهِنَّ ذَا التَّغْيِيْرُ والشَّعِثُ

ولَنْ يُجيْبَ وأَنَّى يَنْطِقُ الجَدَثُ

فَإنَّهُ الجدُّ لا هَزْلٌ ولا عَبَثُ

ومِن أمَامَكَ فيهِ الرَّوْعُ والْجَأَثُ

اللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذي أعددت لهم فسيح جناتك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

فصل

فوائد ومواعظ

اعلم رحمك الله أن كثرة الاشتغال بالدنيا وفراغ الجهود فيها، والميل إليها بالكلية، وإلى حلاوة أحاديثها ولذة أمانيها، تمنع حرارة ذكر الموت أن ترد على القلب، وأن تلج فيه، لأن القلب إذا امتلأ بشيء لم يكن لشيء آخر فيه مدخل ولا لسواه فيه مجال.

ألا ترى أن الإناء إذا ملأته بشيء لم يمكنك أن تدخل عليه شيء آخر، ووجهك إذا صرفته إلى موضع صرفته عن موضع آخر.

ومتى دام القلب على هذا لم يكن لذكر الموت فيه تأثير، ولا لترداده حلاوة، وكيف يؤثر فيه وهو لا يجد مكانًا ينزل فيه، ولا موضعًا يتعلق به.

قد ملأه حب الشهوات الفانية، واللذات المتصرمة، فهو شبعان ريان حيران سكران، أعمى أصم إن عرض عليه طريق لم يره، أو نودي باجتناب رديء لم يسمع.

فإذا أراد صاحب هذا القلب سماع الحكمة والانتفاع بالموعظة لم يكن له بد من تفريغه مما شغله ليجد التذكر فيه منزلاً، وتلقى الموعظة فيه محلاً قابلاً.

فلا يزال يتعاهده ويتفقده بالأذكار والأفكار والنظر والاعتبار آناء الليل وأطراف النهار لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الطبع والدنس فيعود إلى حالته الأولى من الغين والغيم.

فإن لم يقدر على تفريغه بمرة فرغ منه ما أمكن وجعل مكان ما أزال ضده، فيجعل مكان الغفلة ذكرًا، ومكان الفرح حزنًا ومكان الاغتباط ندمًا، ومكان السهو تيقظًا، ومكان النوم انتباهًا، ومكان الإهمال اجتهادًا واستدراكًا لما فاته.

وهكذا يزيل شيئا ويجعل مكانه ضده ويستعين بالله الحي القيوم ويسأله التوفيق والسداد والتيسير والعون إنه لقادر على ذلك.

ثم اعلم أيها الأخ الحريص على حفظ وقته عن الضياع أنها إن قلت أشغالك وقلت عوائقك ثم قعدت عن الجد والاجتهاد فيما يقربك إلى الله من أنواع الطاعات أن هذا هو الخذلان أعاذنا الله منه.

ففراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة لمن وفقه الله اغتنامها في الباقيات الصالحات والويل لمن كفر هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى وانجر في قياد الشهوات.

قال : "بادروا بالأعمال سبعًا هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا أو غنى مطغيًا أو مرضًا مفسدًا أو هرمًا مفيدًا أو موتًا مجهزًا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر".

وقال بعضهم الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فلا أضاءت له فالقلب الخالي من الفكرة خالي من النور مظلم بوجود الجهل والغرور.

ففكر الزاهدين في فناء الدنيا واضمحلالها وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكر زهدا فيها.

وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطًا عليه ورغبة فيه.

وفكر العارفين في الآلاء والنعماء فيزدادون نشاطًا في جميع أنواع العبادة ويزدادون محبة لله وشكرًا له وحمدًا على نعمه التي لا تعد ولا تحصى قال الله جل وعلا: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا.

وقال عثمان بن عفان في خطبته (إن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها).

إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، فآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله.

فاتقوا الله جل وعلا فإن تقواه جنة من بأسه، ووسيلة من عنده، واحذروا من الله الغيرة، والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزابًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا.

وبلغ زين العابدين من الدنيا أفضل ما تسعى إليه همة رجل فرفضها ونبذها قائلاً: (هذا سرور لولا أنه غرور ونعيم لولا أنه عن قريب عديم وملك لولا أنه هلك وغنى لولا أنه فنى وأمر جسيم لولا أنه ذميم وارتفاع لولا أنه اتضاع وحسب امرئ من الدنيا لقيمات يقيم بها صلبه وثوب يستر به عورته وصحة يستقوى بها على طاعة الله) هذا الزهد الصحيح لأنها أقبلت عليه ورفضها.

قال بعضهم:

ازْهَدْ إذَا الدنْيَا أنَالَتْكَ المُنَى

فالزُّهْدُ في الدنيا إذَا هِيَ أعْرضَتْ

          فَهناك زُهْدُكَ مِن شُرُوْطِ الدِّيْنِ

وأبَتْ عَلَيْكَ كَتَوْبَةِ العِنِّيْنِ

آخر:

تَصُدُّ عَن الدُنْيَا إذَا هِيَ أقْبَلَتْ

إذَا المَرْءُ لم يَزْهَدْ وقَدْ صَبَغَتْ لَهُ

          وَلَوْ بَرَزَتْ في زِيِ عَذْراءَ نَاهِد

بِعُصْفُرِهَا الدُنْيَا فَلَيْسَ بِزَاهِدِ

آخر:

العَيْشُ لا عَيْشَ إلا ما قَنِعْتَ بِهِ

          قَدْ يَكُثُرُ المالُ والإِنسانُ مُفْتَقِرُ

وقال آخر: إن المؤمن أبصر الدنيا فأنزلها منزلتها فإن هي أقبلت عليه قال لا مرحبًا ولا أهلاً، والله ما أراك جئت بخير وما فيك من خير إلا أن تطلب بك الجنة، ويفتدي بك من النار.

فإن هي أدبرت قال عليك العفاء، وعلى من يتبعك.

الحمد لله الذي خار لي وصرف عني فتنتك وشغلك.

وكان يقول إذا وصف أهل الدنيا حيارى سكارى، فارسهم يركض، وراجلهم يسعى سعيًا، لا غنيهم يشبع، ولا فقيرهم يقنع.

وكان يقول إذا وصف المقبل على الدنيا، دائب البطنة، قليل الفطنة، إنما همه بطنه وفرجه وجلده.

متى أصبح فآكل وأشرب وألهو وألعب، متى أمسى فأنام، جيفة بالليل بطال بالنهار.

ويحك ألهذا خلقت أم بهذا أمرت أم بهذا تطلب الجنة وتهرب من النار.

شعرًا:

كل امْرئٍ فيما يَديْنُ يُدَانُ

يَا عَامِرَ الدنيا لِيَسْكُنَها وَمَا

تَفْنَى وتَبْقَى الأرضُ بَعْدَكِ مثْلَمَا

أأسَرُّ بالدنيا بِكُلِّ زِيَادَةٍ

          سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَخْلُ مِنْ عِلْمِهِ مَكَانُ

هِيَ باللَّتِي يَبْقَى بِهَا سُكَّانُ

يَبْقَى المَكَانُ وتَرْحَلُ الرُّكْبَانُ

وزِيَادَتِيْ فيها هِيَ النُقْصَان

آخر:

إلى دُنْيَاكَ أنْظُرْ باعْتِبَارٍ

إِلَى كَمْ تَحْمِلُ الأوْزارَ فَيْها

أَمَا آنَ انْتِبَاهُكَ مِنْ غُرُورٍ

تَيَقَّظْ وانْتَبِهْ واقْبِلْ بِقَلْبٍ

وَقِفْ بالبابِ واطْلُبْ مِنْهُ فَتْحًا

          تَجِدْهَا دَارَ ذُلٍّ مَعْ فَنَاءِ

مَعَ الشَّهَواتِ تَسْرِي يَا مُرُّائِي

بِهِ أَصْبَحْتَ بَيْنَ الأغَبْيَاءِ

عَلَى مَوْلاكَ تَظْفر باهْتِدَاءِ

عَسَى تَحْظَى بِصُبْحٍ أوْ مَسَاءِ

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوات عليه ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

قال ابن عباس م لا تتكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعًا فرب متكلم بالحق في غير موضعه قد عيب، ولا تمارين سفيهًا ولا حليمًا، فإن السفيه يؤذيك، والحليم يقليك (أي يبغضك).

قلت قد نظمه الشاعر فقال:

ولا تُمَارِي سَفِيهًا في مُحَاوَرَةٍ

          ولا حَليمًا لِكَي تنْجُو مِن الزَّلَلِ

وقال ولا تذكرن أخاك إذا غاب عنك إلا بمثل ما تحب أن يذكرك به إذا غبت عنه، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجزي بالإحسان، ومأخوذ بالإجرام.

هلاك الناس بثلاث في الكبر، والحرص، والحسد، فالكبر هلاك الدين وبه لعن إبليس حيث تكبر عن السجود لآدم لما أمره الله بالسجود له والحرص عدو النفس وبه أخرج آدم من الجنة نهاه الله عن الشجرة فأكل منها، والحسد رائد السوء وبه قتل قابيل هابيل وقال : "لا تحاسدوا".

ستة يمتن القلب إتباع الذنب بالذنب وكثرة مجادلة النساء، والسفهاء، وملاحات الأحمق، ومجالسة موتى القلوب وهم الأغنياء المترفون المتكبرون، والسلطان الجائر، والعالم المفتون بالدنيا.

قال سعيد بن المسيب ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله، من استغنى بالله افتقر الناس إليه.

وكان يتجر في ماله ويقول اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلاً ولا حرصًا عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه.

كتب عمر بن الخطاب لسعد ببعض توجيهاته العسكرية يقول له: (ترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشمهم مسيرًا يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل رفق حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم.

وأقم بمن معك في كل جمعة يومًا وليلة حتى تكون لهم راحة يجمعون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم.

ثم يقول وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذك العيون (أي أيقظها) بينك وبينهم حتى لا يخفى عليك أمرهم، واختر لهذا من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره، وإن صدق في بعضه، والغاش عين عليك وليس عينًا لك.

قال قيما يرويه عن ربه: "يا ابن آدم خلقتك للعبادة فلا تلعب وقسمت لك رزقك فلا تتعب.

فإن أنت رضيت بما قسمت لك أرحت فلبك وبدنك وكنت عندي محمودًا.

وإن لم ترض بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركوض الوحوش في البرية ثم لا يكون لك منه إلا ما قسمته لك وكنت عندي مذمومًا.

يا ابن آدم خلقت السموات السبع والأرضين السبع ولم أعي بخلقهن أيعييني رغيف عيش أسوق لك بلا تعب.

يا ابن آدم إنني لم أنس من عصاني فكيف من أطاعني، وأنا رب رحيم وعلى كل شيء قدير.

يا ابن آدم لا تسألني رزق غد كما لم أطلبك لعمل غد، يا ابن آدم أنا لك محب فبحقي عليك كن محبًا لي.

أوصى لقمان ابنه فقال: (يا بني كن لين الجانب، قريب المعروف، كثير التفكير، قليل الكلام، إلا في الحق، كثير البكاء قليل الفرح، ولا تمازح ولا تصاخب ولا تمار.

وإذا سكت فاسكت في تفكير وإذا تكلمت فتكلم بحكم.

يا بني لا تضيع مالك وتصلح مال غيرك، فإن مالك ما قدمت لنفسك، ومال غيرك ما تركت وراء ظهرك).

معرفة الله نوعان الأول معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس كلهم البر والفاجر والمطيع والعاصي.

والثاني معرفة توجب الحياء من الله، والمحبة له، وتعلق القلب به، والشوق إلى لقائه، والخشية منه، والإنابة إليه، والأنس به، والفرار إليه.

قال الحسن البصري مثل قل والله من يعقله، شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته فجاءها الأعصار فاحرقها وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.

وقال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرًا وللآخر بالأول مزدجرًا، والسعيد لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الجذع، ومن ذكر المنية نسي الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل.

وقال بعض المفسرين في قول الله عز وجل: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ قال شككتم حتى جاء أمر الله قال الموت وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ قال الشيطان.

وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى يزيد بن عبد الملك: وإياك ان تدركك الصرعة عند الغرة (أي الغفلة) فلا تقال العثرة، ولا تمكن من الرجعة، ولا يحمدك من خلفت على ما تركت، ولا يعذرك من تقدم عليه بما به اشتغلت.

وفي بعض الخطب من ذكرها ذم اللذات فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأجرتم وإن ذكرتموه في غنى نغصه عليكم فجدتم به فأثبتم.

إن المنايا قاطعات الآمال، والليالي مدنيات الآجال، وإن المؤمن بين يومين يوم قد مضى أحصي فيه عمله فختم عليه، ويوم قد بقي لعله لا يصل إليه.

إن العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه، يرى جزاء ما أسلف، وقلة غنى ما خلف، ولعله من باطل جمعه، أو من حق منعه.

ولبعضهم قصيدة سماها بواعث الفكرة في حوادث الهجرة:

سِنُوا هِجْرَةِ المخَتارِ فيهَا حَوَادِثٌ

مُصَلَّى قُبًا في (أوَّلٍ) ثُمَّ مَسْجِدٌ

وَخَلْفُ أذَانِ جُمْعَةٍ ماتَ أسْعَدٌ

و(ثانٍ) صِيَامُ فِطْرَةٍ أمَّ كَعْبَةً

عَشِيْرٌ وبَدْرٌ عُرْسُ عَائِش مِثْلُهُ الـ

سَوِيْقُ سُلَيْمٍ قَيْنُقَاعَ ومِسْوَرٌ

كذا ابنُ زُبَيْرٍ مثْل مَوْتِ رُقَيَّةٍ

غَزَا أُحُدًا في (ثالثٍ) قَتْلُ حَمْزَةٍ

وحَمْرَاءُ مَعْ بَدْرٍ أخِيْرًا بِنَاؤُهُ

كَذَا حَفْصَةٌ مَعْ أمُّ كُلْثُومَ زُوِّجَتْ

وفي (رَابعٍ) تَزْويْجُ هِنْدٍ مَعُوْنَةٌ

مُرَ يْسِيْعُ إفْك والرِّقاعُ ومَوْعِدٌ

وصل لخوف ثم (في الخَمْسِ) خَنْدَقٌ

ضِمَامٌ أَتَى إسْلام عَمْرٍ وخَالِدٍ

وَفي (سَادِسٍ) لَحْيَانُ ذُوْ قُرَدٍ بِهِ

مُقَوقِسُ أَهْدَى والظهارُ وخاتَمٌ

وخَيْبَرُ في (سَبْعٍ) صَفِيَّةُ رَمْلَةٌ

قُدُوْمُ أَبِي هِرٍ هَدَانَا عَطِيَّةٌ

و(ثامِنُ) عامٍ مُؤْتَة الفَتْحِ أَسْلَمُوا

حُنَيْنٌ غَلاءٌ طَائِفٌ نصْبُ مِنْبرٍ

(بِتِسْعٍ) تَبُوكٌ والوُفُودُ وجزية

ومَاتَ أبنُ بَيْضَا والنَّجَاشِيِ وعُرْوَةٌ

لِعَانٌ وَإيْلاءٌ وبُرْوَانُ مُلِّكَتْ

وفي (العَاشِرٍ) إبْرَاهِيْمُ مَاتَ ومَوْلِدٌ

جَرِيْرُ اهْتَدَى ظَلَّتْ بأَسْوَدَ عَنْسَةٍ

وسَبْعٌ وعِشْرُوْنَ المَغَازِي ومِثْلُهَا

أْصِبْنَا (لإِحْدَى عَشْرَةٍ) بنَيِّنِاَ

بِهَا بَايَعُوْا الصِّدِّيْقَ رِدَّةَ وأبْكِيَنْ

          فَخُذْ نَثْرَها في كُلِّ عَامٍ وأَحْكِمِ

بُنِيْ وبُيُوْتًا والصَّلاةَ فأَتْمِمِ

بَراءٌ وعَبْدُ اللهِ أسْلَم فاسْلِمِ

وغَزْوَةُ وُدَّانٍ بُوَاطَ المُغَنَّمِ

بَتُوْلُ ومَوْتٌ لابْن مَظْعُونَ أَكْرِمِ

ومَرْوَانُ والنُعْمانُ سُرُّوْا بِمَقْدَمِ

أَبُو بِنْتِ هِنْد إنْمَارُ كَانَتْ بمَعْلَمِ

وَذَا أَمَرٍ والخَمْرُ رُدَّتْ فَحَرِّمِ

بِزَيْنَبَ ذَاتِ البِرِّ كَسْبًا لِمُعْدِمِ

أَتَى حَسَنٌ قَبْلَ الحُسَيْنِ المُقَدَّمِ

نَضِيْرٌ وقَصْرٌ والتَّيَمُّم فَافْهَمِ

وَرَحْمٌ ومَوْتُ أمِّ المَسَاكِين عَظِّمِ

قُرَيْظةُ سَعْدٍ مَاتَ دُوْمَةُ فافْهَمِ

وعُثْمانٌ الدَّارِي التَّزَلْزُلُ فاعْلَمِ

حُدَيْبَةُ اسْتَسْقَى ابْنُ خَوْلَةَ أَعْظِمِ

لِشَيرويَةَ الطَّاعُون حَجٌّ لِمُسْلَمِ

زوَاجُهُمَا ذُوْ الحَبْس آبُوْا بأَنْعُمِ

قَضَى عُمْرة تَزْوِيْجُ مَيْمُونَةَ انَعْمِ

ومَوْلِدُ إبْرَاهِيم نَجْلُ المُعَظَّمِ

وبِنْتُ رسول الله زَينَبُ سَلِّمِ

وحَجُ أبِي بَكْرٍ ومَوْتُ أُمّ كُلثُمِ

قَتِيْلُ ثَقِيْفٍ والسَّلُوْلِيَّ فافْهَمِ

لِقَتْلِ فَتَى شَيْروْيَةٍ بِتَظَلُّمِ

لِنَجْلِ أبي بَكْرٍ مُحَمَّدُ أعْظِمِ

كُسُوْفٌ بِخُلْفٍ حَجْةٌ الِتَّمِ أتْمِمِ

سَرَايَاهُ مَعْ عِشْرِيْنَ أرِّخْ لِمَقْدَمِ

فَيا عُظْمَهُ رُزْأَ لَدَى كُلِّ مُسْلِمِ

لِفَاطِمَةٍ مَعْ أُمِّ أيْمَنَ واخْتِمِ

اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين، وخصنا منك بالتوفيق المبين، ووفقنا لقول الحق واتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه، وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدًا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفًا من كل داء، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

فوائد ومواعظ ونصائح

مواساة المؤمنين أنواع: ومواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، إلى طرق الرشاد، ومواساة بالدعاء، ومواساة بالتوجع لهم، وعلى قدر إيمان الإنسان وتقواه تكون مواساته لأخيه.

وقال آخر للعبد بين يدي الله موفقان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الثاني.

العجلة تكنى أم الندامة وهي من الشيطان إلا في خمسة أشياء: التوبة من الذنب فورا، وتجهيز الميت إذا خرجت روحه، وقضاء الدين إذا وجب أداؤه، والمبادة إلى أداء الفرائض التي فرضها الله جل وعلا عليك، وتزويج البكر إذا خطبها كفؤها.

وقال آخر: لا تتكلف ما لا تطيق، ولا تتعرض لما لا تدرك، ولا تعد بما لا تقدر عليه، ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد، وفي المثل السائر مد رجلك على قدر لحافك، ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت، ولا تفرح إلا بفضل الله ورحمته.

وقال بعضهم: إذا رأيت الناس في الخير فنافسهم عليه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم فيه.

الثواء في الدنيا قليل، والبقاء هناك طويل أمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمتكم وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون.

أما إنه والله لا أمة بعد أمتكم ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم، أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما ينتظر بأولكم أن يلحقه آخركم.

واعلم يا ابن آدم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك رحم الله رجلا نظر فتفكر وتفكر فاعتبر وأبصر فصبر فقد أبصر أقوام ولم يصبروا، فذهب الجزع بقلوبهم، ولم يدركوا ما طلبوا ولم يرجعوا إلى ما فارقوا.

قَدْ طَوَاكَ الزَّمانُ شَيْئًا فشيْئَا

كان ما كَانَ وانْقَضَتْ مُدَّةُ الْـ

وقَديْمًا قَدْ أعْلَمْتكَ اللَّيَالِي

فأدْرِكْ منها فائِتًا بِمَتَابٍ

واتّخذْ لِلْهِيَام وْيَحَكَ ريًا

وإذَا ما خَرَقْتَ بالدِين خَرْقًا

وإذَا ما وَرَدْتَ مَوْرِدَ دُنْيًا

ولْتَدَعْهَا تَخَيُّلاً وأَمَانِي

وَإذَا مَا الحِمَامُ جَاءَكَ يَوْمًا

          وبَرَتْكَ الخُطُوب جُزْءًا فَجُزْءًا

عُمْر وَوَلَّى الشبَابُ خَبَرًا ومَرْءَا

أنَّ أدْوَاءَهَا تَفُوتُكَ بُرْءَا

بَلْ بِإيْمانٍ أنْشِئَ اليَومَ نَشْئَا

واتَّخِذ لِلْسُّهُومِ وَيْلَكَ فَيْئَا

فارْفِيَنْهُ بالإِنَابَةِ رَفْئَا

فلْيَكُنْ ما وَرَدْتَ مِن ذَاكَ ضمْئا

أَلْبَسَتْ قَلْبَكَ المُغَفَّلَ صَدْأَ

لَمْ تَجِدْ مِن جَمِيْعِ ذَلِكَ شَيْئَا

اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رحمه الله إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتقص، وبلاغ إلى غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج.

فرحم الله إمرأ فكر في أمره، ونصح لنفسه وراقب ربه، واستقال ذنبه، بئس الجار الغني يأخذ بما لا يعطيك من نفسه، فإن أبيت لم يعذرك.

وقال إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة، ومفسدة للجسم، ومؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قوتكم فهو أبعد عن السرف، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة، وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهواته على دينه.

وقال علي بن أبي طالب حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ومهدوا لها قبل أن تعذبوا، وتزودوا للرحيل قبل أن تزعجوا، فإنما هو موقف عدل، وقضاء حق، ولقد أبلغ في الإعذار من تقدم بالإنذار.

ومرت بالحسن البصري جنازة فقال يا لها من موعظة ما أبلغها وأسرع نسيانها يا لها موعظة لو واقفت من القلوب حياة ثم قال يا لها من غفلة شاملة للقوم كأنهم يرونها في النوم ميت غد يدفن ميت اليوم.

شعرًا:

ما أنْتَ والرَّشأ الأحْوَى تُغَازِلُهُ

وفَدْ أظَلَّكَ جَيْشٌ لِلَّرَدَى لَجِبٌ

مِن كل دَاهِيَةٍ لَوْ أنَّها مَثَلَتْ

لا يَمْنَعُ المَرْءَ منها رَأسُ شاهِقَةٍ

وأنْتَ غَادٍ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيْقِ وَمَا

كَأَنَّنِي بِكَ مَصْرْوْعًا لِوَطْأَتِهِ

قُمْ قَدْ أُتِيْتَ ولا مَنْجَى ولا وزرٌ

صِحْ بالنَّدِيِّ وبالقَصْرِ المشِيْدِ عَسَى

يا رَاقِدًا وعُيُونُ الموتِ سَاهِرةٌ

          والرَّكْبُ تَسْأَلُ عَنْهُ بَانَةَ الوَادِي

كالبَحْرِ يُوصلُ أمْدَادًا بأمْدَادِ

شَخْصًا لأظْلمَ مِنهَا كلُّ وَقَّادِ

ولا يَرُدَّ شَبَاهَا نَسْجُ زرَّادِ

لَدَيْكَ مِن ناصِرٍ يُرْجَى ولا فَادِ

هَذا أوَانُ مَغَارِ الفارسِ العَادِ

لِلْوَيْلِ أصْبَحْتَ مِن رَكْضٍ وإنْشادِ

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ كان القَصْرُ وَالنَّادِ

لَقَدْ أُعِرْتَ لأَمر غَيْرِ رَقَّادِ

وقال مالك بن دينار رحمه الله رأيت البادية في يوم شديد البرد شابًا عليه ثوبان خلقان وعليه آثار الدعاء وأنوار الإجابة فعرفته وكنت قبل ذلك عهدته بالبصرة ذا ثروة وحسن حال وكان ذا مال وآمال قال فبكيت لما رأيته على تلك الحال.

فلما رآني بكى وبدأني بالسلام وقال لي يا مالك بن دينار ما تقول في عبد أبق من مولاه، فبكيت لقوله بكاء شديدًا، فقلت له وهل يستطيع المسكين ذلك، البلاد بلاده، والعباد عباده، فأين يهرب المسكين.

فقال يا مالك سمعت قارئًا يقرأ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ فأحسست في الحال بنار وقعت بين ضلوعي فلا تخمد ولا تهدأ من ذلك اليوم، يا مالك أتراني أرحم وتطفأ هذه الجمرة من قلبي.

فقلت له أحسن الظن بمولاك فإنه غفور رحيم ثم قلت له إلى أين قال إلى مكة شرفها الله تعالى لعلي أن أكون ممن إذا التجأ إلى الحرم استحق مراعاة الذمم.

قال مالك ففارقني ومضى فتعجبت من وقوع الموعظة منه موقعها، وما تأجج بين جنبيه من نار التيقظ والإنابة وما حصل عليه من صدق وحسن الاستماع.

وذِيْ بَيَانٍ إذَا مَا قَالَ أوْ خَطَبَا

أَتَى بَسَهْلٍ مِن الأَلْفاظِ مُمْتَنِعٍ

فَلَوْ تمَيَّعَ أضْحَى مَشْرَبًا سَلِسًا

رَمَتْهُ هَذِي المنايَا وهْيَ صَائِبَةٌ

فأخْرَسَتْهُ فام يُبْدِي بِضَاحِكَةٍ

وبَاتَ مُطَّرَحًا في قَعْرِ مُوْحِشَةٍ

أعْطَي يَدَيْهِ لِدُنَياهُ بِمَا طَلَبَتْ

          أتَى بِلَفْظٍ يَزِيْنُ القَوْلَ والخُطَبا

جَزْلٍ يُصِيْب المَعاني آيَةً عَجَبَا

ولو تَجَسَّدَ أضْحَى خالِصًا ذَهَبَا

سَهْمًا فما هُوَ إلا أنْ رَمَتْهُ كبَا

ولا يَرُدُّ جَوَابًا هَانَ أوْ صَعُبَا

غَبْرَاءَ مُصْطَفقَ الأحْشَاءِ مُسْتَلِبَا

إذ أدْرَكَ الدُّوْدُ مِن جَنْبَيْهِ ما طَلَبَا

 اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين. برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

واحتضر أحد العباد فقال ما تأسفي على دار الهموم والأنكاد والأحزان والخطايا والذنوب وإنما تأسفي على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عن ذكر الله ثم مات رحمه الله.

ولما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة بكى فقيل له في ذلك فقال إني أنتظر رسولا يأتيني من ربي لا أدري هل يبشرني بالجنة أو بالنار.

ولما احتضر سلمان الفارسي بكى، فقيل له ما يبكيك، فقال والله ما أبكي جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا، ولكن عهد تعهده إلينا رسول الله قال ليكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب فلما مات نظروا في جميع ما ترك فإذا هو ثلاثون درهمًا وكان أميرًا على المدائن، مدائن كسرى.

ويروى أن عمر بن العاص لما دنا منه الموت دعا بحرسه ورجاله فلما دخلوا عليه قال هل تغنون عني من الله شيئًا قالوا لا قال فاذهبوا وتفرقوا عني.

ثم دعا بماء فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم قال احملوني إلى المسجد ففعلوا وحملوه فقال استقبلوا بي القبلة ففعلوا.

فقال اللهم إنك أمرتني فعصيت وأئتمنتني فخنت وحددت لي فعتديت اللهم لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر بل مذنب مستغفر لا مصر ولا مستكبر.

ثم قال: لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فلم يزل يرددها حتى مات.

ولما حضرت معاوية الوفاة قال أقعدوني فجعل يذكر الله ويسبحه ويقدسه.

ثم قال مخاصمًا نفسه الآن تذكر ربك يا معاوية بعد الانحطام والانهدام ألا كان ذلك وغصن الشباب نضير ريان وبكا حتى علا بكاؤه ثم قال:

هو الموت لا منجى من الموت والذي

          أخاذر منه الموت أدهى وفظع

ثم قال يا رب ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، اللهم أقل العثرة، واغفر الزلة، وجد بحلمك على من لم يرج غيرك، ولا وثق بأحد سواك.

ثم قال لابنه يزيد يا بني إذا وفى أجلى فاعمد إلى المنديل الذي في الخزانة فإن فيه ثوبًا من أثواب النبي وقراضة من شعره وأظفاره، فاجعل الثوب مما يلي جسدي واجعل أكفاني فوقه واجعل القراضة في فمي وأنفي وعيني.

فإن نفعني شيء فهذا فإذا جعلتموني في قبري فخلوا معاوية وأرحم الراحمين.

ويروى أنه قال في جملة ما قال: يا ليتني كنت رجلا من سائر قريش بذي طوى ولم أنل من هذا الأمر شيئا.

ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال يبكيني بعد المفازة، وقلة الزاد، وضعف اليقين، والعقبة الكؤود التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار.

ولما حضرت حذيفة بن اليماني الوفاة قال اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر وقيام الليل ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء في حلق الذكر.

ولما اشتد به النزع جعل كلما أفاق من غمر فتح عينيه وقال يا رب شدد شداتك واخنق خنقاتك فوعزتك لتعلم أني أحبك.

ولما نزل الموت بمحمد بن المنكدر بكى فقيل له ما يبكيك فقال ما أبكي حرصًا على الدنيا ولا جزعًا من الموت ولكن أبكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر وقيام ليالي الشتاء.

ويروى عن فاطمة بنت عبد الملك بن مروان امرأة عمر بن عبد العزيز أنها قالت كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار.

فلما كان اليوم الذي مات فيه خرجت من عنده فجلست في بيت قريب منه بيني وبينه باب فسمعته يقول: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

ثم بعد هذا لم أسمع له حركة ولا كلامًا فقلت لوصيف عنده (أي خادم) أنظر إلى أمير المؤمنين ما صنع فلما دخل عليها صاح فأسرعت إليه فإذا هو ميت رحمه الله.

تَفَانَوا جَميْعًا فلا مخْبِرٌ

وصَارُوْا إلى مَالِكِ قاهِرٍ

تَرُوْحُ وتَغْدُ بَنَاتُ الثَّرَى

فَيَا سَائِلِي عن أُنَاسٍ مَضَوْا

لَقَدْ لَقَى القومُ ما قَدَّمُوْا

          ومَاتَوا جَميْعًا ومَاتَ الخَبَرْ

عَزِيْزٍ مُطَاع إذَا مَا أمَرْ

وتَمْحُوْ مَحَاسِنَ تِلْكَ الصُوَرْ

أمَالَك فيْمَا تَرَى مُعْتَبَرْ

فإمَّا نَعِيْمٌ وإمَّا سَقَرْ

اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

ولما حضرت محمد بن سرين الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك فقال أبكي لتفريطي في الأيام الخالية وقلة عملي للجنة العالية وما ينجيني من النار الحامية.

ولما حضر أبا عطية الموت جزع فقالوا له أتجزع من الموت فقال وما لي لا أجزع وإنما هي ساعة فلا أدري أين يسلك بي.

وكان الجنيد يقرأ القرآن وهو في سياق الموت ويصلي فختم فقيل له في مثل هذه الحال يا أبا علي فقال ومن أحق مني بذلك وها هو ذا تطوى صحيفة عملي ثم كبر ومات.

ولما نزل الموت بسليمان التيمي قيل أبشر فقد كنت مجتهدا في طاعة الله تعالى فقال لا تقوموا هكذا فإني لا أدري ما يبدو لي من الله عز وجل فإنه سبحانه وتعالى يقول: وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ قال بعضهم عملوا أعمالاً كانوا يظنون أنها حسنات فوجدوها سيئات.

ولما حضرت الفضيل بن عياض الوفاة غشي عليه ثم أفاق وقال يا بعد سفري وقلة زادي.

ولما حضرت الوفاة عامر بن قيس بكى فقيل له ما يبكيك قال أبكي لقوله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.

قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها، يا نفس بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها.

فكأنك بالقبور وقد تشققت، وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤس العصات وقد أطرقت قال تعالى وتقدس: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ يا نفس أما الورعون فقد جدوا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الوعظون فقد نصحوا وصاحوا العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إذا عزمت فبادر وإن هممت فثابر، واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.

وقال آخر إذا أردت اللحاق بالمجدين وأنت صادق فاجعل نصب عينيك قول الله جل وعلا: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وقوله تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وقوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وتفكر في بهتك وحيرتك وذلك وانكسارك وافتقارك وقلتك وقلقك وانزعاجك يوم لا تجد إلا عملك الذي عملت وسعيك الذي سعيت.

ثم تفكر – بعد تفكر فيما سبق – في الصراط، الذي هو الجسر المنصوب على متن جهنم، بين الجنة والنار، خرج البيهقي من حديث زياد النميري، عن أنس بن مالك ، عن النبي قال: "الصراط كحد الشفرة، أو كحد السيف، وأن الملائكة ينجون المؤمنين، وأن جبريل لآخذ بحجزتي، وأني لأقول يا رب سلم سلم، فالزالون والزالات يومئذ كثير" وعن أبي سعيد الخدري عن النبي فذكر حديثا طويلا قال فيه: "ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، فيقولون اللهم سلم سلم" قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: "دحض مزلة، فيه خطاطيف وكلاليب، وحسكة تكون بنجد، فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاود الخيل والركاب، وفناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في النار" خرجاه في الصحيحين.

شعرًا:

واذكَر رُقَادَكَ في الثَّرى

قد نُحِيَتْ تِلْكَ الحُلَى

وتُرِكْتَ وَيْحَكَ مُفْرَدًا

حَيْرانَ تَفْزَعَ لِلْبُكَا

حَتَّى يُنَادَي بالوَرَى

عَرْيانَ مُصْطَفِقَ الحَشَا

والناسُ قَدْ رَجَفَتْ بِهِمْ

في مَأْزَقٍ تَهْفُوْ بِهِ

وَبَدَتْ هُنَاكَ سَرائِرٌ

وَرَأَيْتَ في مَحْصُوْلِهَا

          في قَعِْ مُظْلِمَةٍ بِهَيمْ

واسْتُبِدْلَتْ تِلْكَ الرُّسُومْ

لا أهْلَ فِيْهِ ولا حَمِيْمْ

لَهْفَان تَأْنَسُ بالغُمُوْمْ

فَتَقُوُمُ أسْرعَ مَا تَقُوْمْ

هَيْمَانَ مُجْتَمِعَ الهمُوْمْ

حَرْبٌ هُنا لِكُمُوْا عَقِيْمْ

لَفَحَاتُ نِيْرانِ السُّمُوْمْ

قَدْ كُنْتَ قَبْلُ لها كَتُوْمْ

ما شِئْتَ مِنْ خُسْرٍ وشُوْمْ

اللهم نجنا برحمتك من النار وعافينا من دار الخزي والبوار وادخلنا بفضلك الجنة دار القرار وتأملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وخرج مسلم من حديث أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم عن أبي هريرة، وأبي مالك، عن ربعي، عن حذيفة كلاهما عن النبي فذكر حديث الشفاعة، وفيه قال: فيأتون محمدًا ، فيقوم، ويؤذن له وترسل معه الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق" قال قلت: بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال: "ألم تر إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وأشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائمٌ على الصراط يقول: رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد، وحتى يجيء الرجل، فلا يستطيع السير إلا زحفًا" قال: "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت بأخذه فمخدش ناج، ومكردس في النار" والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعين خريفًا.

وروى أبو الزعراء عن ابن مسعود، قال: يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم، فيمر الناس على قدر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، حتى يجيء آخرهم يتلبط على بطنه، فيقول: يا رب لم بطأت بي؟ فيقول: إني لم أبطئ بك، إنما بطأ بك عملك"، وذلك أن الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، هو الصراط المستقيم في الدنيا، الذي أمر الله العباد بسلوكه، والاستقامة عليه، وأمرهم بسؤال الهداية، فمن استقام سيره على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، ولم ينحرف عنه يمنة ولا يسرة استقام سيره على الصراط المنصوب على متن جهنم ومن لم يستقم سيره على الصراط المستقيم في الدنيا بل انحرف عنه إما إلى فتنة الشبهات أو إلى فتنة الشهوات كان اختطاف الكلاليب له على صراط جهنم، بحسب اختطاف الشبهات والشهوات له عن الصراط المستقيم.

ففكر في أهوال الصراط وعظائمه، وما يحل بالإنسان من الذعر والخوف عند رؤيته، ووقوع بصرك على جهنم من تحته، وسماعك شهيقها وتغيظها على الكفرة، وقد اضطرت إلى أن تمشي على الصراط الذي مرت صفته وصفة المرور عليه، مع ضعف حالك، وكونك حافيًا عاريًا، وثقل الظهر بالأوزار عن المشي في الأرض المستوية، فضلاً عن المشي على الصراط، فتصور وضعك رجلك عليه، وإحساسك بحدته، وأنت مضطر إلى أن ترفع رجلاً وتضع الأخرى، وأنت مندهش مما تحتك وأمامك، ممن يئتون، وآخرون يزلون، وآخرون يخطفون بالخطاطيف وبالكلاليب، والعويل والبكاء تسمع له تتابعًا ودويًا، وتنظر الذين ينتكسون على رؤوسهم، وآخرون على وجوههم، فتعلوا الأرجل، فيا له من منظر فظيع، ومرتقى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه، ومكان ما أهوله، وموقف ما أشقه، وكأني بك مملوء من الرعب والذعر، تلفت يمينًا وشمالاً إلى من حولك من الخلق، وتجيل فيهم بصرك، وهم يتهافتون قدامك في جهنم، والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت من قعر جهنم، لكثرة من يزل عن الصراط، والنبي يقول: "رب سلم سلم" فتصور لو زلت قدمك، فهل ينفعك ندمك، وتحسرك في ذلك الوقت كلا يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى.

أجْنبْ جِيَادًا مِن التَّقْوى مُضَمَّرةً

تَمُرُّ مَرَّ الرِّيَاحِ الهُوْج عَاصِفةً

وَارْكُضْ إلَى الغَايَةِ القُصْوى وخَلِّ لَهَا

فإنَّ خلْفَكَ أعْمَالاً مُثَبِّطَةً

كَمْ حَلَّ عَزْمَكَ مِن دُنْيًا مُعَرِّجَة

يَا غَافِلاً والمَنَايَا مِنْهُ ذَاكِرَةٌ

قَطَعْتَ عُمْرَكَ في سَهْو وفي سِنَةٍ

وَرَبَّ رَأيٍ تَراهُ اليَوْمَ في سَفَهٍ

          لِلْسَّبْقِ يَومَ يَفُوزُ الناسُ بالسَّبَقِ

أوْ لَمْحَةِ البَرْقِ إذَا يَجْتَازُ بالأُفُقِ

عِنَانَ صِدْقٍ رَمَى في فِتْيَةٍ صُدُقِ

ولَسْتَ تَنْهَضُ إلا وَيْكَ بالعَنَقِ

بِقَصْدِكَ اليومَ عن مَسْلُوْكَةِ الطُّرِقِ

وَضَاحِكًا والرَّدَى مِنْهُ عَلَى حَنَقِ

ومِنْ أمَامِكَ لَيْلٌ دَائِمُ الأرَقِ

عَقْلاً تَرَاهُ غَدًا في غَايَةِ الخَرقِ

نسأل الله تعالى النجاة منها وأن يوفقنا للأعمال المؤهلة لدار الخلد وأن يوفق ولاتنا للقيام على هؤلاء المجرمين، وردعهم وإلزامهم سلوك طرق الحق إنه القادر على ذلك.

اللهم اجعل في قلوبنا نورا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

اعلم أيها الأخ أن جميع مصيبات الدنيا وشرودها وأحزانها كأحلام نوم أو كظل زائل.

إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أو أيامًا ساءت أشهرًا أو أعوامًا وإن متعت قليلاً منعت طويلاً.

وما حصل للعبد فيها من سرور إلا أعقبه أحزان وشرور كما قيل "من سره زمن ساءته أزمان".

وقال بعض العلماء لبعض الملوك إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطي حاجته منها.

لأنه يتوقع أفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من قواعده.

أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به من أحبابه.

فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة لما أعطت، والراجعة لما وهبت.

بينما هي تضحك صاحبها إذا هي تضحك منه غيره.

وبينما هي تبكي له إذ بكت عليه.

وبينما هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد.

تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غدًا.

سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفًا وترضى بكل من كل بدلاً.

شعرًا:

بأَمْرِ دُنْياك لا تَغْفُلْ وكُنْ حَذِرًا

فأيُّ عَيْشٍ بِهَا شَابَهُ غِيَرٌ

          فَقَدْ أبانَتْ لأرْباب النُّهَى عِبَرَا

وَأيُّ صَفْوٍ تَنَاهَى لم يَصِرْ كَدِرَا

آخر:

أُنْظُرْ إلى الدُنْيَا بِعَيْنِ بَصِيْرَةٍ

كَمْ رَامَهَا فيما مَضَى مِنْ جَاهِلٍ

ويَكُونَ فيها آمِنًا في سِرْبِهِ

          ودَعِ الشَّاغُلَ بالذي لا ينْفَعُ

لِيَفُوْزَ مِنْهَا بالذي هُوَ يِطْمَعُ

لا يَخْتَشِيْ رَيْبًا ولا يَتَوَقَّعُ

قال بعضهم أيها الناس إن الدنيا ليست بدار قراركم، ولا محل إقامتكم دار كتب الله على أهلها الفناء وأوجب منها على أهلها الرحيل فكم من عامر مؤنق ومحسن عما قليل ستخرب عمارته، وكم من مقيم مغتبط سيرحل إلى المقبرة.

فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة واحملوا خير ما يحضركم للنقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.

إن الدنيا كظل قلص فذهب بينما ابن آدم ينافس فيها وعليها يضارب إذ دعاه الله بقدرة ووفاه يوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه، وصير لآخرين مصانعه ومغناه، أن الدنيا ما تسر بمقدار ما تضر إنها تسر قليلاً، وتحزن حزنًا طويلاً.

شعرًا:

غَرَّتْ زَمَانًا بِمُلْكٍ لا دَوَامَ لَهُ

وصَبَّحَتْ قَومَ عَادٍ في دِيَارِهُمُ

وتُبَّعًا وَثَمُوْدَ الحِجْرِ غادَرَهُمْ

فَكَيْفَ يَبْقَى على الأحْدَاثِ غَابرُنَا

          جَهْلاً كَمَا غَرَّ نَفْسًا مَنْ يُمَنِّيْهَا

بِمُفْظِعٍ يَوْمَ عَادَتْهُم عَوَادِيْهَا

رَيْبُ المنُونِ رمَيْمًا في مَغَانِيْهَا

كأنَّنَا قَدْ أَظَلَّتْنَا دَوَاهِيْهَا

وخطب بعضهم:

فقال عباد الله اتقوا الله ما استطعتم وكونوا قومًا صيح بهم فانتبهوا وعلموا أن الدنيا ليست بدار فاستبدلوا بها وتعوضوا عنها.

أيها الناس استعدوا للموت فقد أظلكم وترحلوا فقد جد بكم وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة وأن غايبًا يحدوه الجديدان لجدير بسرعة الأوبة وإن قادمًا يقدم بالفوز أو بالشقوة لمستحق بأفضل العدة.

اتفى عبد ربه نصح نفسه وغلب شهوته وقد توبته، فإن أجله مستور عنه وأمله خادع له والشيطان موكل به يمنيه التوبة ليسوفها، ويزين المعصية ليركبها حتى تهجم عليه منيته أغفل ما يكون عنها وأنسى ما يكون لها، وأن ما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به.

فيا لها من حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة أو أن تؤديه أيامه إلى شقوة جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمة ولا تقصر به عن طاعة معصية ولا تحل به بعد الموت حسرة إنه سميع الدعاء فعال لما يشاء.

قال بعض العلماء كل يجري من عمره إلى غاية تنتهي إليها مدة أجله وتنطوي عليها صحيفة عمله، فخذ من نفسك لنفسك، وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك، وزد في حسناتك، قبل أن تستوفي مدة الأجل وتعصر عن الزيادة في العمل.

وفي كلام بعضهم أعلم رحمك الله أن أمانيك سترد عليك وترجع خائبة إليك، وأن الساعات تهدم في جسدك، وربما عاجلتك المنية في ساعاتك، أو في يومك، أو في غدك فوقفتك على غشك، وظلمك، وأطالت في كربك، وزادت في غمك وأرتك ما لم تعهد، وأشهدتك مشهدًا ما مثل مشهد.

وما تَبْنِيْهِ في دُنْيَاكَ هَدِي

وجِسْمُكَ وَيْكَ أسْرَعُهُ انْهدامَا

ومَن تَتْبَعْهُ تابِعَهُ المنَايَا

وَلَيْتَكَ لَمْ تَكْنْ إلا مَنُوْنٌ

ولكنْ بَعْدَهَا يَوْمٌ عَصِيْبٌ

وَمَا تِلْكَ الكُروْبُ كَمَّا عَهِدْنَا

ولا تَغْتَر بالأسْماء جَهْلاً

يُسَمَّي الكوْكبُ الدُرِّيُ نجْمًا

          سَتَلْقَاهُ مِنَ الأيَّام هَدْمُ

وهَلْ يَبْقَى مَعَ الساعَاتِ جِسْمُ

مُحَالٌ أنْ تَبقى مِنْه رَسْمُ

يُضَاعَفُ بَيْنَها كَرْبٌ وغَمُّ

طَوِيْلُ الكرْبِ ذِكْرَاهُ تَصُمُّ

وَلا هِيَ ما يُعَبِرُ عنه فَهْمُ

فَرُبَّتَ مَعْنَيَيْنِ عَلَيْهِمَا اسْمُ

ومُنْبَسِطُ النَّبَاتِ كَذَاكَ نجْمُ

اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

خطب أحد العلماء خطبة بليغة فقال: اعلموا أنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت قال الله جل وعلا: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ.

وتوقفون على أعمالكم وتجزون بها فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنها بالبلاء والمصائب محفوفة، وبالفناء معروفة، وبالغدر موصوفة، وكل ما فيها إلى زوال وهي بين أهلها دول وسجال.

لا تدوم أحوالها، ولا تسلم من شرها نزالها، بينا أهلها ورخاء وسرور ونعيم وحبور إذا هم منها في بلاءٍ وغرورٍ، العيش فيها مذموم والرخاء فيها لا يدوم وإنما أهلها فيها أعراض مستهدفة ترميها بسهامها وتقصمهم بحمامها، وكل حتفه فيها مقدور وحظه فيها موفور.

واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان قلبكم ممن كان أطول منكم أعمارًا وأشد منكم بطشًا وأعمر ديارًا وأبعد آثارًا فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها وأصبحت أجسادهم بالية وديارهم على عروشها خاية وآثارهم عافية.

واستبدلوا القصور المشيدة، والسرر، والنمارق الممهدة بالتراب والصخور والأحجار المسندة في القبور اللاطئة الملحدة فمحلها مقترب وساكنها مغترب بين أهل محلة موحشين.

لا يستأنسون بالعمران ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب المكان والجوار ودنو الدار وكيف يكون بينهم تواصل وقد أكلتهم الجنادل والثرى وأصبحوا بعد الحياة أمواتًا وبعد نضارة العيش رفاتًا.

فجع بهم الأحباب وسكنوا تحت التراب ظعنوا فليس لهم إياب فكأن صرتم إلى ما صاروا إليه من البلاء والوحدة في دار المثوى وارتهنتم في ذلك المضجع وضمكم ذلك المستودع.

فكيف بكم إذا عاينتم الأمور بعثرت القبور وحصل ما في الصدور ووقفتم للتحصيل بيد يدي الملك الجليل فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب وهتكت الحجب والأستار وظهرت منكم العيوب والأسرار.

هنالك تجزى كل نفس بما كسبت قال الله جل جلاله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ الآية.

قال بعض الحكماء:

تَبًا لِطَالِب دُنْيًا لا بَقَاءَ لَهَا

صَفَاؤُهَا كَدَرٌ سُرُوْرُهَا ضَرَرٌ

شَبَابُهَا هَرَمٌ رَاحَاتُهَا سَقَمٌ

لا يَسْتَفِيْقُ مِنَ الأنكادِ صَاحِبُها

فَخَلِّ عَنْهَا ولا تَرْكَنْ لِزَهْرَتِهَا

واعْمَلْ لِدَارِ نَعِيْمٍ لا نَفَادَ لَهَا

          كأنما هِيَ في تَعْرِيْفِهَا حُلُمُ

أَمَانُهَا غَرَرٌ أَنْوَارُهَا ظُلَمُ

لَذَّاتها نَدَمٌ وُجْدَانُهَا عَدَمُ

لَوْ كَانَ يَمْلِكُ مَا قَدْ ضُمِّنَتْ أَرَمُ

فإنَّها نِعَمٌ في طَيِّهَا نِقَمُ

ولا يُخَافُ بِهَا مَوْتٌ ولا هَرَمُ

ومما قاله أحد الحكماء في الدنيا ليكن نظرك إلى الدنيا اعتبارًا ورفضك لها اختيارًا وطلبك للآخرة ابتدارًا.

وقال بعض العلماء من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه.

وقد رأوا من انهدام الإسلام وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي والقبيح الذي يوبق ويؤذي.

فلا أجد منهم من ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره.

وما أرى لذلك سببًا إلا عدم مبالاتهم في الأديان وعظم الدنيا من عيونهم.

ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين اهـ.

اللهم انظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جناتك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله واعلم رحمنا الله وإياك وجميع المسلمين أن الشيء الممكن وجوده لا يعرف مقداره على الحقيقة إلا إذا عدم فلم يوجد.

فانتبه أيها اللاهي قبل هجوم الموت، المال تقتره والعمر ما يهمك ذهابه سبهللاً ولا نسبة بين المال والعمر ولا تعرف قدر ضياع عمرك إلا بعدما تموت وتطوى صحيفتك فلا يزاد فيها ولا ينتقص وتندم ولات ساعة ندم.

يا أيُّهَا السَّاهُونَ عن أخْراهُمُ

المالُ بالمِيْزَانِ يُصْرَفُ عِنْدَكُمْ

          إنَّ الهِدَاية فِيْكُم لا تُعْرف

والعُمْرُ بَيْنَكُمُ جُزَافًا يُصْرَفُ

آخر:

مَرَّ الشَّبَابُ وَلَمْ أَقْدِرْ أُرَجِّعُهُ

والمرءُ يَجْهلُ قَدْرَ الشَّيءِ يُمْكِنُهُ

          وَلَمْ أُحَيِّيْهِ إلا بَعْدَ مَا انْصَرَفَا

حَتَّى إذَا فَاتَهُ إمْكَانُهُ عَرَفَا

ألا ترى رحمنا الله وإياك وجميع المسلمين أن الصحة لا يعرف قدرها على الحقيقة إلا المرضى، والعافية لا يعرف مقدارها إلا المبتلى، فكذالك الحياة لا يعرف مقدارها إلا الموتى لأنهم قد ظهرت لهم الأمور وتبينت لهم الأشياء وانكشفت لهم الحقائق، وتبدت لهم المنازل وعلموا مقدار الأعمال الصالحة، إذ ليس ينفق هناك إلا عمل صالح زكي، ولا يرتفع هناك إلا عبد تقي.

وكلما ازداد هنا عملاً صالحًا كان هناك أرفع درجة وأشرف رتبة، وأكثر وجاهة، وكلما ازداد في الدنيا من الأعمال الصالحة فضيلة كان أقرب إلى الله وسيلة.

فلما استبان لهم ذلك وعلموا مقدار ما ضيعوا وقيمة ما فيه فرطوا ندموا وأسفوا وودوا لو أنهم رجعوا وإلى حالتهم الأولى ردوا وكل على حاله.

فالذي عمل صالحًا يود لو رجع إلى الدنيا فازداد من عمله الصالح وأكثر من متجره الرابح، والمقصر يود لو رد فاستدرك ما فات ونظر فيما فرط فيه.

فالمفرط المهمل بالجملة يكون تمنيه الرجوع أكثر وحرصه على الإقالة أشد كل يتكلم عن حاله ويخبر عما هو فيه حتى قال الشهيد الذي قتل في سبيل الله لما قيل له ما تشتهي قال أن أرجع إلى الدنيا فأقاتل فأقتل مرة أخرى وذلك لما يرى من فضل الشهادة.

وقال غيره: رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ.

وقالوا: نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.

وقال : "ما من ميت يموت إلا ندم. قالوا وما ندامته يا رسول الله قال إن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون نزع" أخرجه الترمذي.

ويروى أن رجلاً جاء إلى القبور وصلى ركعتين ثم اضطجع على شقه فنام فرآى صاحب القبر في المنام فقال له يا هذا إنكم تعملون ولا تعلمون ونحن نعلم ولا نعمل ولئن تكون كعتاك في صحيفتي أحب إلي من الدنيا وما فيها.

وقال بعض الصالحين مات أخ لي في الله فرأيته في النوم فقلت له يا فلان ما فعل الله بك عشت الحمد لله رب العالمين قال لي لأن أقدر يعني على أن أقول الحمد لله رب العالمين أحب إلي من الدنيا وما فيها ثم قال: ألم تر حيث كانوا يدفنوني فإن فلانًا جاء فصلى ركعتين لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها.

ألا ترى رحمك الله إلى ندمهم على تفريطهم وتأسفهم على تضييعهم، ندموا والله حيث لا ينفع الندم وطلبوا ما لا يمكن، وسألوا فيما لا يجوز على حالهم، ولم يسعفوا في سؤآلهم وبقي كل واحد منهم بما هو فيه.

شعرًا مكتوب على قبر:

أَيُّها الماشِي بَيْن القُبور

أنا مَيِّتٌ كما تَرانِي طَرِيْح

أُدْنُ مِنّي أُنْبِيْكَ عَنِّي

أَنَا فِي بَيْتِ غُرْبةٍ وانِفراد

لَيْسَ فيه مُؤْنِسٌ غَيْرَ سَعْيٍ

وكذا أنْتَ فاتَّعِظْ بِي وإلا

          غافلاً عَنْ حَقِيْقَةِ المَقْبُور

بَيْنَ أَطْبَاقٍ رَضْمَةٍ وصُخُور

ولا يُنْبِيْكَ عَنِي مِثْلُ خَبِيْر

مَعَ قُرْبِ مِن جيْرةٍ وعَشِيْر

مِن صَلاحٍ سَعَيْتُهُ أوْ فُجُور

فَعَذِيْرِي منكَ الغَدَاةَ عَذِيْر

فمن رآى قبرًا فإنما رآى واعظًا صامتًا يعظه ومذكرًا يذكره فإن كان القبر ساكنًا فإنه ناطق وواعظ بلسان الحال ومنصح بما يكون منك في المآل فكأن الذي يخاطبك إنسان ويبين لك عاقبتك ويقول لك يا هذا كنت حيا مثلك وقد مت وكذلك أنت تموت فتأهب.

تضرع إلى رب العزة والجلال:

يَا رَبِّ يا مَنْ هُوَ الغَلامُ في الأَزَلِ

ثَبِّتْ بِفَضْلِكَ قَلْبِيْ يَا رَحِيْمُ وجُدْ

(جَرَائِمِي لَسْتُ أُحْصِيْهَا لِكَثْرَتِهَا

حَسْبِي رِضَاكَ ولا أَرْجُوْ سِوَاكَ وَلا

خَلَقْتَنَا مِن تُراب ثم مِن عَلقٍ

ذَنْبِيْ عَظِيْمٌ وقَلْبِيْ خَائِفٌ وَجِلٌ

رَبِّ اكْفِنِي شَرَّ نَفْسِي واللَّعِيْنَ وَهَبْ

زَادَتْ عُيُوبِيْ فآمِّنْ رَوْعَتِي وأقِلْ

سَهِّلْ بِفَضْلِكَ رِزْقِيْ واغْنِنِيْ أبَدَا

شُغِلْتُ باللَّهْوِ عن ذِكِر الإلهِ ولَـ

صَبَابَتِي عَظُمَتْ إذْ مُقْلِتَي حُرِمَتْ

ضَيَّعْتُ عُمْريَ في لَهْوِ وفي لَعِبٍ

أَرْجُوْكَ عَفْوَكَ يَا مَنْ قَدْ تَنَزَّه عن

ظَنِّي جَمِيْلٌ بِهِ أرْجُو النَّجَاةَ غَدًا

عَامَلْتَنِي مِنْكَ بالألْطَافِ والمِنَنِ

غَطَّى الصَّدَا قَلْبِي الصَّادِي فَعَنْهُ أزِلْ

فإنَّ لِيْ فِيْكَ ظَنًا لَمْ يَزَلْ حَسَنًا

          بالسِّرِ والجَهْرِ مِن قَوْلِي ومِن عَمَلي

لِيْ بالرِّضَا واعْفُ يَا رَحْمن عَن زلَلِي

أرْجُوْكَ يَا سَيِّدِيْ عَنْهَا تَجَاوَز لِي

أُحْصِي ثَنَاكَ وإني فِيْكَ ذُوْ أَمَلِ)

وسَوْفَ تَبْعَثُنَا لِلْمَوْقِفِ الجَلِلِ

ومِنْكَ يُرْجَى أمَانُ الخَائِفِ الوَجَلِ

لِيْ تَوْبَةً واهْدِنِي قَبْلَ انْقِضَى أجَلِيْ

يَا رَبَّنَا عَثْرَتي وانْظُر بِلُطْفِكَ لِيْ

عَنْ سَائِرِ الخَلْقِ يَا مَنْ لا يَزالُ عَلِيْ

كِنْ عَفوهُ يَرْتَجِيْهِ كُلُّ مُبْتَهِلِ

طِيْبَ الكَرى ونَمَا يَا سَيِّدِي زَلَلِي

وفي فُتُورٍ وفي عَجْز وفي كَسَلِ

ضِدٍ ونِدٍ وعَنْ كَيْفَ وعَنْ مَثلِ

والعَفْوَ عن مَا مَضَى يَا مُنْتَهَى أَمَلِيْ

مُذْ كُنْتُ طِفلاً ومِنْكَ اللَّطْفُ لَمْ يَزَلِ

حَتَّى لِغَيرِكَ يَا مَوْلايَ لَمْ أمِلِ

فَعَافِنِي مِنْ أَذَى الأسْقَامِ والعِلَلِ

اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال وأعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكي ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

فوائد ومواعظ وحكم وقصص

قال بعض العلماء رحمه الله من ملك من الدنيا شيئًا فتناوله وأمسكه ليقوم به في حقوق الله تعالى فهو مأجور.

وإنما هرب منها من هرب لضعف قلبه وقلة يقينه خاف من نفسه أن يفتتن بها وتصيبه حلاوتها وأفراحها حتى تلهيه عن ذكر الله تعالى وأمره.

فقد حذر الله جل وعلا المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ الآية.

والصديقون ألهاهم حب الله وجلاله وعظمته.

فلم يلههم المال لأن حلاوة حب الله غالبة على حب المال.

ومن غلب على قلبه عظمة الله وجلاله وقدرته لم يبق للمال على قلبه من السلطان ما يغلب على قلبه ما فيه من علمه بالله وعظمته.

وقال آخر: العجب أن تعرف الله ثم لا تحبه.

وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة.

وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره.

وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته.

وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه وفيما يبعدك عنه راغب.

شعرًا:

أَتَيْتُ إليْكَ يَا رَبَّ العِبَادِ

وَهَا أنَا وَاقِفٌ بالبَابِ أبْكِيْ

عَسَى عَفْوٌ يُبَلِّغُنِي الأمَانِي

فَأَنْتَ ذَخِيْرَتِيْ وبِكَ انْتِصَارِي

وما لِي حِيْلَةٌ إلا رَجَائِيْ

وَلَوْ اقصَيْتَنِيْ وَقَطَعْتَ حَبْلِيْ

فَجُدْ بالعَفْوِ يا مَوْلايَ وَارْحَمْ

وقَدْ وَافَى بِبَابِكَ مُسْتَجِيْرًا

وصَلٌ على النبي البَرِّ حَقًا

          بإفْلاسِيِ وَذُلِّي وانْفِرَادِ

زَمَانًا مَا بَلَغْتُ بِهِ مُرَادِ

فَقَدْ بَعُدَ الطَّرِيْقُ وَقلَّ زَادِ

وفِيْكَ تَألُّهِي وبِكَ اعْتِمَادِي

ومِنْكَ على المَدَى حُسْنُ اعْتِقَادِي

وحقِّكَ مَا أحُوْلُ عَنِ الوِدَاد

عُبَيْدًا ظَلَّ عَنْ طرْقِ الرَّشَادِ

يَخَافُ مِنَ القَطِيْعَةِ والبِعَادِ

شَفِيْعِ الخَلْقِ في يَوْمِ المَعَادِ

قال بعضهم إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن بالله وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله وبفضله ورحمته قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.

وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله وطاعته وإذا تعرفوا إلى ملوكهم ورؤسائهم وكبرائهم وتقربوا إليهم بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد وتضرع إليه تنل غاية العزة والرفعة.

من نتائج المعاصي قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وعمى البصيرة، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة مع الرب، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق بركة العمر، ولباس الذل، وضيق الصدر.

لا تحدث من تخاف تكذيبه ولا تسأل ما تخاف منعه ولا تعد ما لا تمكن من إنجازه ولا تضمن ما لا تثق بالقدرة عليه ولا تقدم على أمر تخاف العجز عنه.

وتوكل على الله في كل أمورك.

لا تشاور مشغولاً وإن كان فطنًا حازمًا لاحتياجه إلى التفكير، ولا جائعًا وإن كان فهمًا لو ذعيًا، ولا محتبس البول أو الريح أو الغائط، ولا خائفًا وإن كان ناصحًا، ولا مهمومًا وإن كان فطنًا لأن هؤلاء أفكارهم عليها تشويش.

لا تجالس إلا العقلاء العلماء فإن العقول تلقح العقول وانظر إلى من نشؤا عند النساء والسفهاء والعوام، وقارن بينهم وبين من نشؤا عند العلماء وطلبة العلم، تجد بينهم بون كما بين الحركة والسكون.

قال بعض العلماء مجالسة العقلاء لا تخلو من أحد معنيين إما تذكر الحالة التي يحتاج العاقل إلى الانتباه لها، أو الإفادة بالشيء الخطير الذي يحتاج الإنسان إلى معرفته.

وسئل آخر: أي الرجال أفضل؟ فقال: من إذا حاورته وجدته حكيمًا، وإذا غضب كان حليمًا، وإذا ظفر كان كريمًا، وإذا استمنح منح جسيمًا، وإذا وعد وفى، وإن كان الوعد عظيمًا، وإذا شكي إليه وجد رحيمًا.

موعظة

إخواني إنكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر والطرق كثيرة المخافات، فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكروا فيما أراكم من الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات، قبل أن ينادي بكم مناد الشتات، قبل أن يفاجئكم هادم اللذات، قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزفرات قبل أن تنقطع قلوبكم عند فراقكم حسرات، قبل أن يغشاكم من غم الموت الغمرات، قبل أن تزعجوا من هذه الحياة قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا وهيهات.

شعرًا:

مَا دَارُ دُنْيًا لِلْمُقِيمِ بِدَارِ

مَا بَيْنَ لَيلٍ عاكفٍ ونَهارِهِ

طُولُ الحياة إذا مَضَى كَقَصِيْرهَا

والعَيشُ يَعْقِبُ بالمرارَةِ حُلْْوَهُ

وكأنما تَقْضِيْ بُنِيَّاتُ الرَّدَى

والمَرْءُ كَالطَّيْفِ المُطْيفِ وعُمْرُهُ

خَطْبٌ تَضَاءَلَتَ الخَطُوُبُ لِهَوْلِهِ

نُلْقِى الصَّوارِمَ والرمَاحَ لِهَوْلِهِ

إنَّ الذينَ بَنَوا مَشيْدًا وانْثنوا

سُلُبوا النَّضَارَةَ والنَّعِيْمَ فاصْبَحُوا

تَركُوا دِيارَهُمُ عَلَى أعْدَاهِم

خَلَطَ الحِمَامُ قَويَّهمُ بِضَعْيفِهم

والخَوْفُ يُعْجِلُنا عَلَى آثارِهِم

وتَعَاقُبُ المَلَوَيْن فِينَا ناثِرٌ

          وبِهَا النُفوسُ فَريْسَةُ الأقْدارِ

نَفَسَان مُرْتَشِفَانِ لِلأعْمَارِ

واليُسْرُ لِلإنْسَانِ كَالإِعْسَارِ

والصَّفْوُ فِيه مُخَلَّفُ الأَكْداَرِ

لِفَنَائِنَا وَطَرًا مِن الأوْطَارِ

كَالنَّوم بَيْنَ الفَجْرِ والأسْحَارِ

أَخْطَارُهُ تَعْلُو عَلَى الأخْطَارِ

ونَلَوْذُ مِن حَرْبٍ إلى اسْتِشْعَارِ

يَسْعَونَ سَعْيَ الفاتِك الجَبَّارِ

مُتَوَسِّدِيْنَ وَسَائِدَ الأحْجَارِ

وتوسَّدُوا مَدَرًا بِغَيرِ دِثَارِ

وغَنَّيهمُ سَاوَى بذي الأقْتَارِ

لابُدَّ مِن صُبْحٍ المُجِدِّ السَّارِي

بأكَرِّ مَا نَظَمَا مِن الأعْمارِ

ثم اعلم يا أخي أن الدنيا لا تذم لذاتها وكيف يذم ما من الله به على عباده وما هو ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب وملبس ومسجد يصلى فيه وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة ويصرف النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع فالعاقل يجعلها مطية للآخرة فينفقها في سبيل الله في المشارع الدينية من طباعة مصاحف وكتب دينية وعمارة مساجد وبذل للفقراء الذين لا موارد لهم ونفقات على طلبة العلم الشرعي.

وعن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلاً يسب الدنيا فقال له: إنها لدار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها.

مسجد أحباب الله، ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه.

اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذم الدنيا وقد آذنت بفراقها، ونادت بعيبها، ونعت نفسها وأهلها، فمثلت ببلائها، وشوقت بسرورها إلى أهل السرور.

فذمها قوم عند الندامة ومدحها آخرون، حدثتهم فصدقوا، وذكرتهم فذكروا.

فيا أيها المغتر بالدنيا المغتر بغرورها، متى استلأمت إليك الدنيا، بل متى غرتك بمضاجع آبائك تحت الثرى، أم بمصارع أمهاتك من البلى.

كم قلبت بكفيك ومرضت بيدك تطلب له الشفاء وتسأل له الأطباء فلم تظفر بحاجتك ولم تسعف بطلبتك قد مثلت لك الدنيا بمصرعه مصرعك غدًا ولا يغني عنك بكاءك ولا ينفعك أحبابك.

وقال ابن رجب رحمه الله على كلام علي بن أبي طالب .

فبين أمير المؤمنين أن الدنيا لا تذم مطلقًا وأنها تحمد بالنسبة إلى من تزود منها الأعمال الصالحة وأن فيها مساجد الأنبياء ومهبط الوحي.

وهي دار التجارة للمؤمنين اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا بها الجنة فهي نعم الدار لمن كانت هذه صفته.

وأما ما ذكر من أنها تغر وتخدع فإنها تنادي بمواعظها وتنصح بعبرها وتبدي عيوبها بما ترى من أهلها من مصارع الهلكى.

وتقلب الأحوال من الصحة إلى السقم ومن الشبيبة إلى الهرم ومن الغنى إلى الفقر ومن العز إلى الذل ولكن محبها قد أعماه وأصمه حبها. انتهى اهـ.

وقال بعض العلماء:

اعلم أن الدنيا عبارة عن كل ما يشغل عن الله قبل الموت، فكلما لك فيه حظ وغرض ونصيب وشهوة ولذة في عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا.

وليس كل ذلك مذموم بل المذموم المنهي عن محبته هو كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة.

وإذا سمعت بذم الدنيا فاعلم أنه ليس راجعًا إلى زمانها الذي هو الليل والنهار المتعاقبان إلى قيام الساعة.

فإن الله سبحانه وتعالى جعلهما خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا.

وليس الذم راجعا إلى مكان الدنيا وهو الأرض ولا إلى ما أنبته الله فيها من الشجر والزرع.

فإن ذلك كله من نعم الله على عباده لما لهم فيه من المنافع والمصالح والاعتبار والاستدلال بذلك على وحدانية الله وقدرته وعظمته وحكمته ورحمته بعباده.

قال جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وقال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ.

وإنما المذموم أفعال بني آدم من المعاصي الكبائر والصغار كالشرك وترك الصلاة وترك الزكاة أو الصوم أو الحج وكالكذب على الله أو على رسله أو كراهة ما أنزل الله أو قتل نفس بغير حق أو ظلم شهادة زور وكذا الكبر والحسد ونحو ذلك.

شعرًا:

مِنْ يَذُمُّ الدُنْيَا فإني

وعَظَتْنَا بكُلِ شَيءٍ لَوَانَّا

نَصَحَتْنَا فَلَمْ نَرَ النُّصْحَ نُصْحًا

أَعْلَمَتْنَا أنَّ المآلِ يَقِيْنَا

كَمْ رَأيْنَا مَصْرَعَ الأهْلِ والْـ

وَلَكَمْ مُهْجَةٍ بِزَهْرَتِها اغْـ

أتَرَاهَا أبْقَتْ عَلى سَبإ مِنْ

يَوْمُ بُؤْسٍ لَهَا ويَوْمُ رَخَاءٍ

وَتَيَقَنْ زَوَالَ ذَاكَ وَهَذا

دَارُ زَادٍ لِمَنْ تَزَوِّدَ مِنْهَا

مَهْبَُ الوَحْي والمصُلَى الَّتي كَمْ

مَتْجَرُ الأوْلِيَاءِ قَدْ رَبَحُوْا الْـ

رَغَّبَتْ ثُمَّ رَهَّبَتْ لِيَرَى كُـ

فإذَا أُنْصِفَتْ تَعَيَّنَ أنْ يُثْـ

          بِطَرِيْقِ الإنْصَافِ أثْنِي عَلَيْهَا

حِيْنَ جَادَتْ بالوَعْظِ مِنْ مُصْطَفِيْهَا

حِيْنَ أَبْدَتْ لأَهْلِهَا ما لَدَيْهَا

لِلْبِلَى حِيْنَ جَدَّدَتْ عَصْرَيْهَا

أَحْبَابِ لَوْ نَسْتَفِيْقُ بَيْنَ يَدَيْهَا

ـتَرَّتْ فأدْمَتْ نَدَامَةً كفَّيْهَا

قَبْلِنَا حِيْنَ بَدَّلَتْ جَنَّتَيْهَا

فَتَزَوَّدْ مَا شِئْتَ مِن يَوْمَيْهَا

تَسْلُ عَنْ مَا تَراهُ مِنْ حَادِثَيْهَا

وغُرُوْرٍ لِمَنْ يَميْل إليْهَا

عَفَّرَتْ صُوْرَةٌ بِهَا خَدَّيْهَا

ـجَنَّةَ فِيْهَا وأوْرِدُوا عَيْنَيْهَا

ـلُّ لَبِيْبٍ عُقْباهُ مِن حَالَتَيْهَا

ـنِيْ عَلَيْهَا البَارُّ مِن وَلَدَيْهَا

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا، وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

قال الله تبارك وتعالى: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ قيل إن هذه الآية أعظم آية في المؤاخذة.

ولما نزلت بكى عبد الله بن عمر  ـ رضي الله عنهما ـ فقال ابن عباس يرحم الله أبا عبد الرحمن إن الله تبارك وتعالى يقول: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.

قال بعض الزهاد لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل.

وقال الحسن المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله تعالى وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. وفي حديث طلحة أنه لما شغله الطين في صلاته فتدبر شغله.

فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندمًا ورجاءً للعوض مما فاته وتأديبًا لنفسه.

المهم أن يعلم العبد أن أعدى عدو له نفسه التي بين جنبيه وقد خلقت أمارة بالسوء أمارة بالشر فرارة من الخير.

والإنسان مأمور بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل العبر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن لذاتها وشهواتها المهلكة.

فإن أهملها شردت وجمحت ولم يظفر بها بعد ذلك وإن لازمها بالتوبيخ والتقريع والمعاتبة والعذل والملامة ولم يغفل عن تذكيرها وعتابها اعتدلت بإذن الله تعالى.

والنفسُ كالِطفْلِ إنْ تُمْهِلْهُ شَبَّ على

          حُبِّ الرَّضَاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

ثم يقول لنفسه فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم، وبين يديك إحدى منزلتين الجنة أو النار فكيف يهنؤك نوم أو يلذ لك مأكول أو مشروب وأنت لا تدرين في أي الفريقين تكونين فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.

وكَيْفَ تَنَامُ العَينُ وهي قَرِيْرَةٌ

          ولَمْ تَدْرِ في أيّ المكَانِيْنِ تَنْزِلُ

وقل لها أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ما ليس آت.

أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة وأنه لا يأتي في شتاء دون صيف ولا في صيف دون شتاء ولا في نهار دون ليل ولا في ليل دون نهار ولا يأتي في الصبا دون الكبر ولا في الكبر دون الصبا.

بل كل نفس يمكن أن يأتيها الموت بغتة فإن لم يأت الموت بغتة جاء المرض لا محالة ثم المرض يفضي إلى الموت فمالك يا نفس لا تستعدين والموت أقرب إليك من حبل الوريد.

فهكذا معاملة الزهاد والعباد في توبيخ أنفسهم وعتابها فإن مطلبهم من المناجاة الاسترضاء ومقصودهم من المعاتبة التنبية والاستراعاء.

فمن أهمل معاتبة نفسه وتوبيخها وأهمل مناجاتها لم يكن لنفسه مراعيًا فنسأل الله العظيم الحي القيوم معرفة حقيقة بأحوال أنفسنا وغرورها.

شعرًا تضرع إلى الله جل جلاله:

أتَْتُكَ رَاجيًا يَا ذَا الجَلالِ

عَصَيْتُكَ سَيِّدِي وَيْلِي بِجَهْلي

إلَى مَنْ يَشْتَكِيْ المَمْلُوْكُ إلا

لَعَمْرِي لَيْتَ أُمِّيْ لَمْ تَلُدْنِي

فَهَا أنا عَبْدُكَ العَاصِي فَقِيْرٌ

فإنْ عَاقَبْتَ يَا رَبِي تُعَاقِبْ

          فَفَرِّجْ ما تَرى مِن سُوءِ حَالِيْ

وعَيْبُ الذَّنْبِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِيْ

إلَى مَوْلاهُ يَا مَوْلَى المَوَالِيْ

ولَمْ أُغْضِبْكَ فِي ظُلَم اللَّيَالِيْ

إلى رَحْمَاكَ فاقَبْلَ لِيْ سُؤالِيْ

مُحِقًا بالعَذَابِ وَبِالنّكَالِ

قال بعضهم كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد يعقه ولا يعذره، وجار سوء لا يأمنه، وصاحب متملق لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو حسود لا يهدؤ عن عداوته وأذيته.

ونفس أمارة بالسوء وتنهى عن الخير، ودنيا متزينة، وهوى مهلك، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مغوي مزين له المعاصي وضعف مستول عليه.

فإن تولاه الله ولطف به وأنقذه انقهرت له هذه كلها وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه وأهلكته.

ينبغي للإنسان أن يحاسب نفسه كل ليلة إذا أوى إلى فراشه وينظر ما كسب في يومه من حسنة فيحمد الله ويشكره عليها.

وما اكتسب من سيئة فيتوب إلى الله ويستغفره منها ويهيء نفسه ويرتب أعماله المستقبلة ويجتهد في أن تكون أوقاته كلها مستغرقة في طاعة الله عز وجل ويكثر سؤال الله الإعانة والتوفيق والتسديد إنه القادر على ذلك.

شعرًا:

لِيَبْكِ على الشَّبِيْبَةِ مَن بَكَاها

ومَن يَكُ باتَ ذَا حُزْنٍ عَلَيْها

ومَنْ يَكُ سَاليًا يَوْمًا فإنِّيْ

عَجِبْتُ لِبَاكِي رَسْمًا لِدَارٍ

ويَتْرُكُ نَفْسَهُ يَبْكِي عَلَيْهَا

وقَْ صَاحَ الحِمَامُ بِهَا أجِيْبِيْ

ومِنْ بَعْدِ الحِمَامِ لَهُ حَدِيْثٌ

حَدِيْثٌ مَا حَدِيْثٌ مَا حَدِيْثٌ

وعُمْرٌ يَنْقَضِي فِي غَيْرِ شَيءٍ

ويَعْذُلُنِي إذَا أرْسَلْتُ دَمْعًا

الا يَا صَاحِ والبَلْوَى ضُرُوْبٌ

إذَا أنَا لَمْ أبْكِ ذَهَابَ عُمْرِي

          كَمَا أبْكِي عَلَيْهَا مِلءَ جَفْنِي

فَمِثْلِي فليَبِتْ فِي فَرْطِ حُزْنِ

قَطَعْتُ عَلائِقَ السُلْوَانِ عَني

عَفَتْ آثَارُهَا أو سَيْرَ ظَعْنِ

وقَدْ جُبِلَتْ عَلَى ضَعْفٍ وَوَهْنِ

إلامَ وفِيْمَ وَيْلَكِ ذَا التَّأنِّي

يُريْهِ مِن العَجَائِب كُلَّ فَنِّ

يُبِيْنُ لَهُ اليَقِيْن مِنَ التَّظَنِيْ

ولَكِنْ فِي المُحَالِ مِن التَّمَنِي

على وَجَنَاتِ ذِيْ حُسْرٍ وغَبْنِ

ودَعْتُكَ لِلَّذِيْ تَهْوَى فدعْنِيْ

فَمَنْ هَذَا الذِي يَبْكِيْهِ عَنِّي

اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

 (فصل) ومن عيوب النفس حرصها على عمارة الدنيا والتكثر منها.

ومداواتها أن يعلم أن الدنيا ليست بدار قرار، وأن الآخرة هي دار القرار والعاقل من يعمل لدار قراره ولا لمراحل سفره إلا بقدر ما يتزود به للدار الآخرة.

قال الله جل وعلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ ولأن الله تعالى يقول: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ وقال: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.

ومن عيوب النفس كثرة الذنوب والمعاصي إلى أن يقسى القلب، وعلاجها كثرة ذكر الله والاستغفار، والتوبة في كل وقت، ومداومة التهجد، والصيام ومجالسة الصالحين، وحضور مجالس الذكر.

ومن عيوبها سرورها بمدحها وطلبها الراحة، وهي من نتائج الغفلة.

وعلاجها التيقظ لما بين يديها وعلمها بتقصيرها فيما أمرت به وارتكابها ما نهي عنه وتوطينها بأن الدنيا لا سرور فيها ولا راحة.

وأنها سبحن قال : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" فينبغي أن يكون عيشة فيها عيش المسجونين.

ومن عيوبها الإعجاب بطاعاتها والمنة بها ونسيان المنقصات للأعمال ومداواتها أن تعلم أن أفعالها وإن أخلصتها فهي معلولة بأن أفعالها لا تخلو من العلل، وعليه أن يعمل في إسقاط رؤية استحسانة ومن أفعالها.

ومن عيوبها قلة الاعتبار بما يراه من إمهال الله إياه في ذنوبه، ومداواتها دوام الخشية وأن يعلم أن ذلك الإمهال ليس بإهمال فإن الله تعالى مسائله.

شعرًا:

فيا رَِّ إنَّ العَبْدَ يُخْفِي عُيُوْبَهُ

وَلَقَدْ أتَاكَ وَمَا لَهُ مِن شافِعٍ

          فاسْتُرْ بِحِلْمِكَ مَا بَدَا مِن عَيْبِهِ

لِذُنُوبِهِ فاقْبَلْ شَفَاعَةَ شَيْبِهِ

ومن عيوب النفس الغفلة والتسويف والتواني والإصرار، وتقريب الأمل، وتبعيد الأجل، ومداواتها بتوبة تحل الإصرار وخوف يزيل التسويف ورجاء يبعث عن قصد مسالك العمل وذكر الله جل جلاله على اختلاف الأوقات وإهانة النفس بتقريبها من الأجل وبعدها عن الأمل.

ومن عيوب النفس رؤيتها الشفقة عليها ومداواتها رؤية فضل الله عليه في جميع الأحوال.

ومن عيوب النفس تألف الخواطر الرديئة فتستحكم عليها المخالفات.

ومداواتها رد تلك الخواطر في الابتداء لئلا تستحكم وذلك بالذكر الدائم وملازمة الخوف بالعلم أن الله جل وعلا يعلم ما في سرك قال الله جل وعلا: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وقال تبارك وتعالى: وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى.

وقال عز من قائل: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.

ومن عيوب النفس اشتغالها بإصلاح الظاهر لزينة وغفلة عن إصلاح الباطن موضع نظرالله عز وجل.

وعلاجها أن يتيقن أن الخلق لا يكرمونه إلا بمقدار ما جعل الله له في قلوبهم.

ويعلم أن باطنه موضع نظر الله فهو أولى بالإصلاح من الظاهر الذي هو موضع نظر الخلق.

قال الله جل وعلا: إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا وقال : "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم" أخرجه مسلم.

ثناء على الله وتضرع إليه جل جلاله

لَكَ الحَمْدُ يَا ذَا الجُوْدِ والمجدِ والعلا

إلهي وخَلاقِي وحِرْزِيْ ومَوْئِلِيْ

إلهي لَئِنْ أبْعَدْتَنِي أوْ طَرَدْتَنِيْ

إلهي لَئِنْ جَلَّتْ وَجمَّتْ خَطِيْئَتِي

إلهي لَئِنْ أعْطَيِتُ نَفْسَي سُؤْلها

إلهي فلا تقطَعْ رَجَائِي ولا تُزِغْ

إلهي فآنِسْنِي بِتَلْقِيْنِ حُجَّتِيْ

إلهي أذِقْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ يَوْمَ لا

ولا تَحْرِمَنِّيْ مِن شَفَاعَةِ أحْمَدٍ

وصَلِّ عَليْهِ مَا دَعَاكَ مُوَحِّدٌ

          تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ

إليْكَ لَدَى الإعْسَارِ واليُسْرِ أفْزَعُ

فَمَنْ ذَا الذِي أرْجُوْ ومَنْ أتَشَفَّعُ

فَعَفْوُك عن ذَنْبِيْ أجَلُّ وَأوْسَعُ

فَهَا أنَا في رَوْضِ النَّدامَةِ أرْتَعُ

فُؤآدِيْ فإنِّيْ خائفٌ مُتَضَرِّعُ

إذَا كانَ لِيْ فِي القَبْرِ مَثْوىً وَمَضْجَع

بَنُونَ ولا مَالٌ هُنَالِكَ يَشْفَعُ

وصُحْبَةِ أخْيَار هُنَالِكَ خُضَّعُ

وناجَاكَ أقْوَامٌ بِبَاكَ خُشَّعُ

اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين، وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.

(فصل)

ومن عيوب النفس محبتها الخوض في أمور الدنيا وحديثها، ومداواتها الاشتغال بالفكر الدائم في كل أوقاته فيما أمامه من الأمور الشدائد، والكروب، والأهوال، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة، والنار، والتفكر في خلق السموات والأرض.

ففي التفكر في هذه الأشياء ما يشغله عن الدنيا وأهلها، والخوض فيما هم ضائعون فيه، ويعلم أن ذلك مما لا يعنيه فيتركه لأن النبي يقول: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" أخرجه الترمذي.

 ومن عيوبها إظهار الطاعات ومحبة أن يعلم الناس منه ذلك أو يروه.

وعلاجها أن يعلم أنه ليس إلى الخلق نفعه ولا ضره، قال الله جل وعلا: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

وقال تبارك وتعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ.

ويجتهد في مطالبة نفسه بالإخلاص في جميع أعماله ليزيل عنه هذا العيب فإن الله يقول: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وقال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.

وقال تبارك وتعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

وقال تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا وعن أبي هريرة مرفوعا قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم.

وعن الضحاك بن قيس قال رسول الله : "إن الله تبارك وتعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي.

يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له" أخرجه البزار بإسناد لا بأس به.

وورد عنه أنه قال: "إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه" رواه أبو داود والنسائي.

وعن أبي الدرداء عن النبي قال: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجهه" أخرجه الطبراني بإسناد لا بأس به.

سئل الفضيل بن عياض ما أخلص العمل وما أصوبه قال إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة.

إذا رُمْتَ أن تَنْجُو مَن النارِ سَالِمًا

وتُحْظَى بِجَنَّاتٍ وحُوْرٍ خَرَائِدٍ

وفي هَذِهِ الدنيا تَعِيْشُ مُنَعَّمًا

فَمِلَّةَ إبْرَاهِيْمَ فاسْلُكْ سَبِيْلَهَا

فَعادِ الذي عَادَى وَوَال الذي لَهُ

فَمَنْ لَمْ يُعَادِي المُشْرِكِيْنَ ومَنْ لَهُمْ

فَلَيْسَ عَلَى مِنْهَاجِ سُنَّةِ أحْمَدٍ

وأخْلِصْ لِمَوْلاكَ العِبَادَةَ رَاغِبًا

مُحَبًا لأهْلِ الخَيْرِ لا مُتَكَرِّهًا

وكُنْ سَلِسًا سَهْلاً لَبِيْبًا مُهَذَّبًا

إلى كُلِّ مَن يَدْنُو إلى مَنَهجِ التُّقَى

ومَنْهَجُهُمْ خَيْرُ المَنَاهِجِ كُلّهَا

فَهَذا الذي يُرْضَى لِكلِ مُوحِدِ

وذلِكَ يَومٌ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ

وَلَمْ تَتَلَذَّذْ بالحَيَاةِ وَطِيْبِهَا

          وتَنْجُوَ مِن يَوْمٍ مَهُوْلٍ عَصَبْصَبِ

وتَرْفُل في ثَوبٍ مَن المَجْدِ مُعْجِبِ

عَزْيزًا حَمِيْدًا نَائِلاً كُلَّ مَطْلَبِ

هِي العُرْوَةُ الوُثْقَى لأهْلِ التَّقَرُّبِ

يُوَالِيْ وأبْغِضْ في الإِلهِ وأحْبِبِ

يُوَالِيْ ولَمْ يُبْغِضْ ولَمْ يتَجَنَّبِ

ولَيْسَ عَلَى نَهْج قَويْمٍ مُقَرِّب

إليه مُنِيبًا في العِبَادَةِ مُدْئِبِ

ولا مُبْغِضًا أوْ سَالِكًا مَنْهَجًا وَبِ

كَرَيْمًا طَلِيْقَ الوَجْهِ سَامِي التَّطَلُبِ

فَخَيِر الوَرَى أهْلُ التُّقَى والتَّقَرُّبِ

ومَوْكَبُهُمْ يَوْمَ اللِّقَا خَيْرُ مَوْكَبِ

وهذا الذي يُنْجِي بِيَوْمٍ عَصَبْصَبِ

لَبِتَّ لَعَمْرِي سَاهدًا ذَا تَقَلُّبِ

وَأصْبَحْتَ فيها خَائِفًا ذَا تَرَقُبِ

اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال رحمه الله:

فمن عيوب النفس فقدان لذة الطاعة، وذلك من سقم القلب، ومداواتها أكل الحلال ومداومة ذكر الله.

ومن عيوب النفس طلب الرئاسة بالعلم والتكبر والافتخار به والمباهات به، ومداواتها رؤية منة الله عليه في أن جعله وعاء لأحكامه.

ورؤية تقصير شكره من نعمة الله عليه بالعلم والحكمة، والتزام التواضع والانكسار والشفقة على المؤمنين والنصيحة لعباد الله.

فإنه روي عن النبي أنه قال: "من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فلتبوا مقعده من النار".

ولذلك قال بعض العلماء من ازداد علما فليزدد خشية فإن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء.

وقال رجل للشعبي أيها العالم فقال إنما العالم من يخشى الله.

شعرًا:

يَا رَبِّ حَقِّقْ تَوْبَتِي بِقَبُولِهَا

وامْحُ الشَّقَاوَةَ بالسَّعَادَةِ واكْفِني

أرْجُوْكَ في الدَّارَيْنِ قَطْعَ عَلائِقي

عَوَّدْتَنِي اللُّطْفَ الجَمِيْلَّ تَكَرُّمًا

ثُمَّ اكْسِنِيْ سِتْر الحَيَاةِ وفي المما

وبِكِلْمَةِ التَّوحِيْدِ يَا مَوْلى الوَرَى

ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى النبي وصَحْبِهِ

          واشْفِ القُلُوبَ بأمْرِكَ الفَعَّالِ

بِكِفايَةٍ بَرْتَاحُ مِنْهَا بالِيْ

عَمَّنْ سِوَاكَ فأنْتَ أوْلَى وَالِيْ

فاجْعَلْهُ دَوْمًا يَا عَظيْمُ نَوَالِي

تِ وبَعْدَهُ واشْمِلْ بِذَاكَ عِيَالِي

اجْعَلْ خِتَامَ القَوْل والأعْمَالِ

أهلِ الوَفَا والصِّدقِ في الأقْوالِ

ومما يعالج به العجب والكبر والافتخار ما يلي:

أولا: أن يعتقد ويجزم بأن التوفيق الذي حصل له من الله فإنه إذا رآى التوفيق من الله جل وعلا اشتغل بشكر الله.

الثاني: أن ينظر إلى النعماء التي تفضل الله بها عليه فإنه إذا نظر فيها اشتغل بشكر المنعم وهو الله جل جلاله.

الثالث: أن يخاف أن لا يتقبل منه، فإذا اشتغل بخوف عدم القبول ذهب عنه العجب بنفسه.

الرابع: أن ينظر في ذنوبه القديمة والحديثة الكبائر والصغائر وربما أن يكون صدر منه قول أو فعل يحبط العمل، فإذا استحضر هذا خاف وذهب عنه عجبه.

ومن عيوب النفس استكشاف الضر ممن لا يملكه، ورجاؤه النفع ممن لا يقدر عليه، واهتمامه بالرزق وقد تكفل الله له به.

ومداواته الرجوع إلى صحة الإيمان بما أخبر الله به في كتابه قال الله جل وعلا: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الآية وقال عز من قائل: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا.

ومن عيوب النفس كثرة الكلام بغير ذكر الله وما والاه.

ومداواتها تحقيقه بأنه مأخوذ بما يتكلم به وأنه مكتوب عليه ومسؤل عنه قال الله جل وعلا: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ وقال جل وعلا: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.

وقال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وقال تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ الآية. وقال : "وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".

ومن عيوب النفس كثرة التمني، ومداواتها أن يعلم أنه لا يدري ما يعقب التمني أيجره إلى خير وهو ما يرضيه أو يجره إلى ما يسخطه.

فإذا أيقن إتهام عاقبة تمنيه أسقط عن نفسه ذلك ورجع إلى الرضا والتسليم.

قيستريح، قال الله تبارك وتعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ.

فائدة نفسية: ينبغي لطالب العلم أن يتأملها ويأخذ لمستقبله فكرة قال بعض العلماء لم أزل برهة من عمري أنظر اختلاف الأمة والتمس المنهاج الواضح والسبيل القاصد واطلب من العلم والعمل واستدل على طريق الآخرة بإرشاد العلماء.

وعقلت كثيرًا من كلام الله عز وجل بتأويل الفقهاء وتدبرت أحوال الأمة ونظرت في مذاهبها وأقاويلها فعقلت من ذلك ما قدر لي.

ورأيت اختلافهم بحرًا عميقًا غرق فيه ناس كثير وسلم منه عصابة قليلة.

ورأيت كل صنف منهم يزعم أن النجاة لمن تبعهم وأن المهالك لمن خالفهم.

ثم رأيت الناس أصنافًا فمنهم العالم بأمر الآخرة لقاؤه عسير ووجوده عزيز.

وهو من يعد نفسه في الدنيا لثواب الآخرة والقرب من العزيز الحكيم.

ومنهم الجاهل فالعبد منه غنيمة.

ومنهم المتشبه بالعلماء مشغوف بدنياه مؤثر لها.

ومنهم حامل علم منسوب إلى الدنيا ملتمس بعلمه التعظيم والعلو.

ينال بالدين من عرض الدنيا.

ومنهم حامل علم لا يعلم تأويل ما حمل.

ومنهم المتشبه بالنساك متحر للخير لا غناء عنده ولا نفاذ لعلمه ولا معتمد على رأيه.

ومنهم المنسوب إلى العقل والدهاء مفقود الورع والتقى.

ومنهم متوادون على الهوى واقفون وللدنيا يذلون ورياستها يطلبون.

ومنهم شياطين الإنس عن الآخرة يصدون وعلى الدنيا يتكالبون وإلى جمعها يهرعون وفي الاستكثار منها يرغبون.

فهم في الدنيا أحياء وفي العرف موتى.

فتفقدت في الأصناف نفسي وضقت بذلك ذرعًا فقصدت إلى هدى المهتدين بطلب السداد والهدى واسترشدت العلم وأعملت الفكر وأطلت النظر.

فتبين لي من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله وإجماع الأمة أن اتباع الهوى يعمي عن الرشد ويضل عن الحق ويطيل المكث في العمى.

فبدأت أولاً بإسقاط الهوى عن قلبي ووقفت عند اختلاف الأمة مرتادا لطلب الفرقة الناجية.

حذرًا من الأهواء المردية والفرقة الهالكة متحرزًا من الاقتحام قبل البيان والتمس سبيل النجاة لنفسي.

ثم وجدت باجتماع الأمة في كتاب الله المنزل أن سبيل النجاة في التمسك بتقوى الله وأداء فرائضه.

والورع في حلاله وحرامه وجميع حدوده.

والإخلاص لله تعالى بطاعته.

والتأسي برسوله فطلبت معرفة الفرائض والسنن عند العلماء في الآثار فرأيت اجتماعًا واختلافًا ووجدت جميعهم مجتمعين على أن علم الفرائض والسنن عند العلماء بالله وأمره الفقهاء عند الله العاملين برضوانه.

الورعين عن محارمه المتأسين برسوله والمؤثرين الآخرة على الدنيا أولئك المتمسكون بأمر الله وسنن المرسلين.

فالتمست من بين الأمة هذا الصنف المجتمع عليهم والموصوفين بآثارهم واقتبست من علمهم فرأيتهم أقل من القليل.

ورأيت علمهم مندرسًا كما قال رسول الله "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء" وهم المتفردون بدينهم.

فعظمت مصيبتي لفقد الأولياء الأتقياء والأبرار وخشيت بغتة الموت أن يفجأني على اضطراب من عمري لاختلاف الأمة.

فانكمشت في طالب علم لم أجد لي من معرفته بدًا ولم أقصر في الاحتياط.

فقيض لي الرءوف بعباده قوما وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإيثار الآخرة على الدنيا.

ووجدت إرشادهم ووصاياهم موافقة لأفاعيل أئمة الهدى.

ووجدتهم مجتمعين على نصح الأمة لا يرجون أبدًا في معصيته ولا يقنطون أبدًا من رحمته.

يرضون أبدًا بالصبر على البأساء والضراء والرضا بالقضاء والشكر على النعماء يحببون الله إلى العبد بذكرهم أياديه وإحسانه ويحثون العباد على الإنابة إلى الله تعالى علماء بعظمته تعالى علماء بعظيم قدرته وعلماء بكتابه وسنته فقهاء في دينه علماء بما يحب ويكره ورعين عن البدع والأهواء تاركين للتعمق والإغلاء مبغضين للجدال والمراء متورعين عن الاغتباب والظلم مخالفين لأهوائهم محاسبين لأنفسهم مالكين لجوارحهم ورعين في مطاعمهم وملابسهم وجميع أحوالهم مجانبين للشبهات تاركين للشهوات مجتزئن بالبلغة من الأقوات متقللين من المباح مشفقين من الحساب وجلين من المعاد علماء بأمر الآخرة وأقاويل القيامة راجين من الكريم المنان جزيل الثواب وخائفين من أليم العقاب وذلك أورثهم الخوف الدائم والهم المقيم فشغلوا عن سرور الدنيا ونعيمها فتبين لي فضلهم واتضح لي نصحهم وأيقنت أنهم العاملون بطريق الآخرة والمتأسون بالمرسلين والمصابيح لمن استضاء بهم والهادون لمن استرشد اهـ. قلت فبمثل هؤلاء إن وجدوا فليقتد المقتدون.

ما هَذِهِ الدَّارُ إلا لِلْفَنَا خُلِقَتْ

يا رَبَّ نَوِّرْ قُلُوبًا طَالَمَا غَفَلَتْ

ونَحْنُ في غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِنَا

نَلْهُوْ وَنَلْعَبُ في دَارِ الغُرورِ وَمَا

فَخُذْ لِنَفْسِكَ زَادًا لِلرَّحْيِل إلَى

أيْنَ المُلوكُ وأبْنَاءُ الملوك وَمَنْ

أتَى على الكُلِ أوْدَاهُم وَسَطَا

          ما هَذِهِ الدَّارُ إلا دَارُ مِضْمَارِ

ما هَذِهِ الدَّارُ إلا عَبْرُ أَسْفَارِ

كأنَّنَا غَنَمٌ في بَيْتِ جَزَّارِ

في القَلْبِ مِن وَاعِظٍ نَاهٍ بإنْذارِ

دَارِ البَقَاءِ ولا تَرْحَلْ بأوْزَارِ

شَادُوْا المَصَانِعَ مِن بَرٍّ وجبَّارِ

رَيْبُ المَنُونِ بِهَا امْضَاءُ نَهَّارِ

اللهم اجعل الإيمان هادما للسيئات، كما جعلت الكفر عادما للحسنات، ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته، ودعاك فأجبته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ وقال جل وعلا: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى.

فعلى الإنسان العاقل أن يحاسب نفسه ويتفقدها ولا يغفل عنها وينظر في عيوبها بدقة ويصلحها ويعالجها بالأدوية النافعة لها مما سيأتي ذكره.

وقال بعض العلماء أصل كل معصية وشهوة الرضا عن النفس لأنه أصل جميع الصفات المذمومة وعدم الرضا عن النفس أصل الصفات المحمودة، وذلك لأن الرضا عن النفس يوجب تغطية عيوبها ومساويها وقبائحها فيصير قبيحها حسنا عنده كما قيل:

وعَيْنُ الرضا عن كُل عَيْبٍ كَلِيْلةٍ

          كَما أنَّ عَيْنَ السُخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا

وعدم الرضا عن النفس على العكس من هذا لأن العبد إذ ذاك يتهم نفسه ويتطلب عيوبها ولا يغتر بما يظهر من الطاعة والانقياد كما في الشطر الأخير من بيت الشعر:

كَمَا أنَّ عَيْنَ السُخْطِ تُبْدِي المساويا

آخر:

ولَسْتُ بَراءِ عَيْبَ ذالودِ كُلِهِ

          ولا بعضَ ما فيه إذا كنتُ راضيَا

واعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من رضي عن نفس استحسن حالها وسكن إليها ومن استحسن حال نفسه وسكن إليها استولت عليه الغفلة.

وبالغفلة ينصرف قلبه عن التفقد والمراعاة لخواطره فتثور حينئذ دواعي الشهوة على العبد.

وليس عنده من المراقبة والملاحظة والتذكير ما يدفعها به ويقهرها.

فتصير الشهوة غالبة له بسبب ذلك ومن غلبته شهوته وقع في المعاصي.

وأصل ذلك كله رضاه عن نفسه ومن لم يرض عن نفسه لم يستحس حالها ولم يسكن إليها.

ومن كان بهذا الوصف كان متيقظا منتبها للطوارق وبالتيقظ والتنبه يتمكن من تفقد خواطره ومراعاتها.

وعند ذلك تخمد نيران الشهوة فلا يكون لها عليه غلبة ولا قوة فيضعف العبد حينئذ بصفة العفة.

فإذا صار عفيفًا كان مجتنبًا لكل ما نهاه الله عنه محافظًا على جميع ما أمره به وهذا هو معنى الطاعة لله عز وجل وأصل هذا عدم الرضا عن نفسه.

فإذا يجب على الإنسان أن يعرف نفسه ويلزم من ذلك عدم الرضا وبقدر تحقق العبد في معرفة نفسه يصلح له حاله ويعلو مقامه.

وكان العلماء المخلصون يذمون نفوسهم ويتهمونها ولا يرضون عنها.

قال بعضهم من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها ولم يجرها إلى مكروهها فهو مغرور، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.

وكيف يرضى عنها عاقل وهي الأمارة بالسوء. وقال بعض العلماء لا تسكن إلى نفسك وإن دامت في طاعة الله.

وقال آخر: ما رضيت عن نفسي طرفة عين.

وقال بعضهم أيها العبد حاسب نفسك في خلواتك وتفكر في انقضاء مدتك، وذهاب أوقاتك، واعمل في زمان فراغك، لوقت شدتك.

قال : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".

وتدبر، واحرص على ما تملأ به صحيفتك من الحسنات، وانظر هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك لقد سعد من حاسبها، وفاز والله من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها، وطالبها، وكلما ونت وتكاسلت عاتبها ووبخها وكلما توقفت جذبها وكلما مالت إلى آمال هواها ردها وغلبها.

قال عليه الصلاة والسلام: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".

وقال عمر بن الخطاب حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وطالبوها بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدا وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".

شعرًا:

تَجَهَّزِي بِجَهازٍ تَبِلُغينَ بِهِ

وسَابِقِي بَغْتَةَ الآجَالِ وانْكَمِشِي

ولا تَكُدِّي لِمَنْ يَبْقَى وتَفتَقِرِي

واخْشَيْ حَوادِثَ صَرْفِ الدَّهْر في مَهَلٍ

عَنْ مُدْيَةٍ كَانَ فِيْهَا قَطْعُ مُدَّتِهِ

مَنْ كَانَ حِيْنَ تُصِيْبُ الشَمسُ جَبْهتهُ

ويَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَىَ بَشَاشَتُهْ

في قَعْرِ مُوْحِشَةٍ غَبْرَاءَ مُقْفِرَةٍ

          يَا نَفْسُ قَبْلَ الرّدَى لَمْ تُخْلقَي عَبثَا

قَبْلَ الِلّزِامِ فَلا مَلْجَا ولا غَوثَا

إنّ الرّدَى وارِثًُ البَاقِي ومَا وَرَثَا

واسْتَيَقِظِي لا تَكُونِي كَالّذِي بَحَثَا

فَوافَتْ الحَرْثَ مَحْرُوثًا كَمَا حُرِثَا

أوْ الغُبارُ يَخَافُ الشَّيْنَ والشَّعَثَا

فَسَوفَ يَسكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا

يُطِيلُ تَحْتَ الثَرَا في جَوْفِهَا اللَّبَثَا

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

 (فصل) مواعظ وفوائد ونصائح

في وصية الإمام علي بن أبي طالب لابنه الحسن أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة وقوه باليقين ونوره بالحكمة وذلـله بذكر الموت وقرره بالفناء وبصره بفجاع الدنيا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام واعرض عليه أخبار الماضيين وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين وسر في ديارهم وآثارهم وانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة وحلوا في دار غربة وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك إلى أن قال – يا بني، أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه حتى يأتيك وقد أخذت حذرك وشددت له إزرك ولا يأتيك بغتة فيبهرك وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها وتكالبهم عليها فقد نبأك الله عنها ونعتت لك نفسها وتكشفت لك عن مساويها فإن أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية يهر بعضها بعضًا أي ينبح بعضها على بعض ويأكل عزيزها ذليلها ويقهر كبيرها صغيرها نعم معقلة وأخرى مهملة قد أضلت عقولها وركبت مجهولها سروح عاهة ليس لها راع يقيمها ولا مقيم يسيسها سلكت بهم الدنيا طريق العمى وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى فتاهوا في خيراتها وغرقوا في نعمتها واتخذوها ربًا فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ما وراءها، واعلم أن من كان مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفًا ويقطع المسافة وإن كان مقيمًا.

وقال بعض السلف لولا أني أكره أن يعصى الله، تمنيت أن لا يبقى في هذا المصر أحد إلا وقع في واغتابني.

فأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها.

وقال يحي بن معاذ لست آمركم بترك الدنيا آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات.

وقال لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه، ويوم حشره ميزانه.

وقال إبراهيم الخواص دواء القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.

وقال على قدر إعزاز المرء لأمر الله يلبسه الله من عزه، ويقيم له العز في قلوب المؤمنين.

وقال يوسف بن الحسين على قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر حبك الله يحبك الخلق، وعلى قدر شغلك بأمر الله يشغل الخلق بأمرك.

وقال آخر وقد سئل عن الصحبة فقال مع الله عز وجل بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة.

والصحبة مع الرسول بإتباع سنته ولزوم ظاهر الحكم.

والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة.

والصحبة مع الأهل والولد بحسن الخلق.

والصحبة مع الإخوان بدوام البشر لهم والانبساط معهم ما لم يكن إثمًا.

والصحبة مع الجهال بالدعاء لهم والرحمة عليهم ورؤية نعمة الله عليك إذ عافاك مما ابتلاهم به.

وقال بعض السلف لقيت رجلاً في برية فقلت من أين، فقال من قوم لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ قلت وإلى أين قال إلى قوم تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ.

يا هذا مثل لنفسك صرعة الموت وما قد عزمت أن تفعل حينئذ وقت الأسر فافعله وقت الإطلاق.

ومثل نفسك في زاوية من زوايا جهنم وأنت تبكي أبدًا وأبوابها مغلقة وسقوفها مطبقة وهي سوداء مظلمة.

لا رفيق تأنس به ولا صديق تشكو إليه ولا نوم يريح ولا نفس ولا طعام إلا الزقوم ولا شراب إلا الحميم.

قال كعب إن أهل النار ليأكلون أيديهم إلى المناكب من الندامة على تفريطهم وما يشعرون بذالك.

فانتبه يا غافل لاغتنام عمرك وازرع في ربيع حياتك قبل جدوبة أرض شخصك.

وادخر من وقت قدرتك لزمن عجزك واعتبر رحلك قبل رحيلك.

فكأنك بحرب التلف قد قامت على ساق وانهزمت جيوش الأمل.

وإذا بملك الموت قد بارز الروح يجتذبها بخطاطيف الشدائد من تيار العروق.

وقد أوثق كتاف الذبيح وحار البصر لشدة الهول.

ولا تسأل عن حال المحتضر وما نزل به من الكروب والسكرات.

فتيقظ يا مسكين وتهيأ لتلك الساعة وحصل زادا قبل العوز.

سَتَنْدمُ إنْ رَحَلْتَ بِغَيْرِ زَادٍ

فَمَا لَكَ لَيْسَ يَعْمَلُ فيكَ وَعْظٌ

فلا تَأمَنْ لِذِي الدُنْيَا صَلاحًا

ولا تَفْرَحْ بِمَالٍ تَقْتَنِيْهِ

وَتُبْ عَمَّا جَنَيْتَ وأنْتَ حَيٌ

أتَرْضَى أنْ تَكُونَ رَفيْقَ قَوم

          وتَشْقَى إذْ يُنَادِيْكَ المُنَادِيْ

ولا زَجْرٌ كأنَّكَ مِن جَمَادِ

فإنَّ صَلاحَهَا عَيْنُ الفَسَادِ

فإنَّكَ فِيْهِ مَعْكُوْس المُرَادِ

وكُنْ مُتَيَقِضًا قَبْلَ الرُقَادِ

لَهُمْ زَادٌ وأنْتَ بِغَيْرِ زَادِ

وقال أحد العلماء أن من الناس ناس لو مات نصف أحدهم ما انزجر النصف الآخر ولا أحسبني إلا منهم.

وقال آخر: فائدة الصحبة إنما هي للزيادة في الحال وعدم النقصان فيها فإياك وصحبة من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله.

فصحبة من يرضى عن نفسه وإن كان عالمًا شر محض ولا فائدة فيها لأن علمه في الغالب غير نافع له.

وجهله الذي أوجب رضاءه عن نفسه صار غاية الضرر لأنه فاته العلم الذي يريه عيبه حتى لا يرضى عن نفسه الأمارة بالسوء.

فعلى العاقل اللبيب محاسبة نفسه دائما والمحاسبة هي مطالعة القلب وإعمال اللسان وإعمال الجوارح.

فاجعل ذنوبك نصب عينيك فإن غفلن عنها اجتمعت بسرعة وكثرت.

وتأمل وفكر فلو أنك وضعت في كل معصية تحدثها حجرا في دارك لامتلأ بيتك في مدة يسيرة.

فمثلاً عندك غيبة أو عندك كذب أو عندك رياء أو عندك عقوق أو قطيعة رحم.

أو ظلم لمسلم أو لنفسك أو لأهلك أو لأولادك أو لجيرانك أو تعامل معاملة لا تجوز.

أو عندك كفار خدام أو سواقين أو عندك ملاهي كالتلفاز والفيدو أو عندك صور أو تشرب الدخان أو حلق لحية إو إسبال أو تشبه بكفار أو سفر لبلادهم.

أو لك أولاد يدرسون عند الكفار برضا منك أو أكلك وشربك ولبسك من شركات تتعامل بالربا أو أن عملك لا تؤديه كاملاً مكملاً وتأخذ ما عليه كاملاً.

وأنت تقرأ: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ الآية.

أو لا تتنسخ من الزكاة أو نحو ذلك مما لا يحصره العد.

فتيقظ وحاسب نفسك وفتش عليها بدقة واسأل الله الحي القيوم أن يتجاوز عنك.

فَيَا وَيْحَ أهْلِ الظُلْم واللَّهْوِ وَالغِنَا

ورَاعَهُمُ مِنْهَا تَغَيُّظُ مُحْنَقٍ

إذَا مَا رَآهَا المُجْرُمْوْنَ وأيْقَنُوا

ضَريْعٌ وزَقُّومٌ وَيَتْلُوه مَشْرَبٌ

ومَنْ قَطِرَانٍ كَسْوَة قد تَسَرْ بَلُوْا

          إذَا أقْبلَتْ يَومَ الحِسَابِ جَهَنّمُ

لِخَوفِ عَذَابٍ في لَظَاهَا يُحَطِّمُ

بأنَّ لَهُم فيها شَرابٌ ومَطْعَمُ

حَمِيْمٌ لأمْعَاءِ الشَّقِيّيْنَ يَهْذِمُ

وسِيْقُوْا لِمَا فيه العَذابُ المخْيِّمُ

اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين.

اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين والله أعلم وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم.

(فصل)

أخرج البخاري عن سمرة قال كان رسول الله مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رآى أحد منكم رؤيا.

وإنه قال لنا ذات غداة إنه أتاني آتيان فقالا لي انطلق فانطلقت معهما فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فأتينا على رجلٍ مضطجع.

وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر ههنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى.

قلت لهما سبحان الله ما هذا قالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشر شر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه.

ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى.

قلت سبحان الله ما هذا قالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور فإذا فيه لغظ وأصوات فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا.

قلت ما هؤلاء قالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر أحمق مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السباح يسبح ما سبح ثم يأتي الذي جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق فيسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجرًا.

فلت لهما ما هذان قالا انطلق فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء وإذا هو عنده نار يحشها ويسعى حولها فقلت لهما ما هذا قالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل نور الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء وإذا حول الرجل من أكثر الولدان رأيتهم قط.

قالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن قالا لي ارق فيها فارتقينا فانتهينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة.

فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خلقهم من أحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء.

قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة.

قالا لي هذه جنة عدن، وهذاك منزلك فسما بصري صعدًا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء فالا لي هذا منزلك قلت لهما بارك الله فيكما ذراني فأدخله قالا لي أما الآن فلا وأنت داخله.

قلت لهما فإني رأيت منذ الليلة عجبًا فما هذا الذي رأيت.

قالا أما الرجل الذي أتيت عليه يلثغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة يفعل به إلى يوم القيامة.

وأما الرجل الذي أتيتا عليه يشر شر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغد من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة.

وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل التنور فإنهم الزناة والزواني.

وأما الرجل أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا.

وأما الرجل الكريه المرآة الذي عنده النار يحشها فإنه مالك خازن جهنم.

وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم .

وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين قال "وأولاد المشركين".

وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، تجاوز الله عنهم وأنا جبريل وهذا ميكائيل.

وأخرج بن عساكر عن علي نحوه: فمضيت وإذا بتل أسود عليه قوم مخبلون تنفخ النار في أدبارهم فتخرج من أفواههم ومناخرهم وآذانهم وأعينهم.

إلى أن قال: وأما صاحب الكوب الذي رأيت فأولئك الذين كانوا يمشون بين المؤمنين بالنميمة فيفسدون فهم يعذبون بها حتى يصيروا إلى النار.

اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وللخطيب عن أبي موسى مرفوعا رأيت رجالا تقرض جلودهم بمقارض من نار قلت ما شأن هؤلاء الذين يتزينون إلى ما لا يحل لهم ورأيت خباء خبيث الريح فيه صياح قلت ما هذا قال هن نساء يتزين إلى ما لا يحل لهن.

وللبيهقي عن أبي سعيد في حديث الإسراء قال: "ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأخونة عليها مشرح ليس يقربه أحد وإذا أنا بأخونة عليها لحم قد أروح ونتن، عندها أناس يأكلون منها قلت يا جبريل ما هؤلاء قال قوم من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام.

ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول اللهم لا تقم الساعة وهم على سابلة آل فرعون فتجيء السابلة فتطأهم فسمعتهم يضجون إلى الله.

قلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء من أمتك الذين يأكلوا الرباء ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل فتفتح أفواههم ويلقمون من ذلك الجمر ثم يخرج من أسافلهم.

قلت من هؤلاء قال هؤلاء من أمتك يأكلون أموال اليتامى ظلمًا، ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمون فيقال كل كما كنت تأكل من لحم أخيك.

قلت من هؤلاء قال هؤلاء اللمازون.

وله عن عدي عن أبي هريرة في حديث الإسراء ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها.

قلت من هؤلاء قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم ينضج في قدر ولحم آخر خبيث فجعلوا يأكلون من النيء ويدعون النضيج الطيب.

قلت من هؤلاء قال الرجل يقوم من عند امرأته حلالاً فيأتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيبًا فتأتي الرجل الخبيث فتبيت عنده حتى تصبح.

ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال ما هذا قال هذا الرجل يكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يحمل عليها.

ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء قال ما هؤلاء قال خطباء الفتنة.

ولأبي داوود عن أنس قال قال رسول الله : "لما عرج بي مررت بأقوام لهم أطفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدروهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.

وأخرج ابن خزيمة وابن حبان عن أبي أمامة وسنده جيد قال خرج علينا رسول الله بعد صلاة الصبح فقال: "إني رأيت رؤيا وهي حق فاعقلوها أتاني رجل فأخذ بيدي فاستتبعني حتى أتى جبلاً وعرًا فقال لي إرقه فقلت لا أستطيع فقال إني سأسهله لك فجعلت كلما رفعت قدمي وضعتها على درجة حتى استويت إلى سواء الجبل.

فانطلقنا فإذا نحن برجال ونساء مشققة أشداقهم قلت من هؤلاء قال هؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون.

ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء مسمرة أعينهم وآذانهم قلت ما هؤلاء قال هؤلاء الذين يرون أعينهم ويسمعون آذانهم ما لا يسمعون.

ثم انطلقنا فإذا نحن بنساء معلقات بعراقيبهن مصبوبة رؤوسهن تنهش أقدامهن الحيات قلت ما هؤلاء قال هؤلاء الآتي يمنعن أولادهن ألبانهن.

فانطلقنا فإذا نحن برجال ونساء معلقين بعراقبهم مصبوبة رؤوسهم يلحسون من ماء قليل وحمًا قلت ما هؤلاء قال هؤلاء الذين يصومون ثم يفطرون قبل تحلة صومهم.

ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء أقبح شيء منظرًا وأقبحه لبوسًا وأنتنه ريحًا كان ريحهم المراحيض قلت من هؤلاء قال هؤلاء الزانون والزناة.

ثم انطلقنا فإذا نحن بموتي أشد شيء انتفاخًا وأقبحه ريحًا قلت من هؤلاء قال هؤلاء موتى الكفار.

ثم انطلقنا فإذا نحن برجال تحت الشجر قلت من هؤلاء قال هؤلاء موتى المسلمين.

ثم انطلقنا فإذا نحن بغلمان وجوار يلعبون بين نهرين قلت من هؤلاء قال هؤلاء ذرية المؤمنين.

ثم انطلقنا فإذا نحن برجال أحسن شيء وجوهًا حسنة وأحسنه لبوسًا وأطيبه ريحًا كأن وجوههم القراطيس قلت ما هؤلاء قال هؤلاء الصديقون والشهداء والصالحون.

ثم انطلقنا فإذا نحن بثلاثة يشربون خمرًا لهم ويتعنون قلت من هؤلاء قال زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة".

وللترمذي وصححه عن عمارة بن عمير قال لما قتل عبيد الله بن زياد أتى برأسه ورؤس أصحابه فألقيت في الرحبة فجاءت حية عظيمة فتفرق الناس من فزعها فتخللت الرؤوس حتى دخلت في منخر عبيد الله بن زياد.

ثم خرجت من فيه ثم دخلت من فيه وخرجت من أنفه ففعلت به مرارًا ثم ذهبت ثم عادت ففعلت به مثل ذلك مرارًا من بين الرؤوس ولا يدرون من أين جاءت ولا أين ذهبت.

وقال ابن القيم رحمه الله وحدثنا أبو عبد الله محمد بن الحراني أنه خرج من داره بآمد بعد العصر إلى بستان فلما كان قبل غروب الشمس توسط القبور وإذا قبر منها وهو جمرة نار مثل كور الزجاج والميت في وسطه قال وسألت عن صاحب القبر فإذا هو مكاس قد توفي في ذلك اليوم.

وللبيهقي في الشعب عن عبد الحميد بن محمود المعولي قال كنت جالسًا عند ابن عباس فأتاه قوم فقالوا إنا خرجنا ومعنا صاحب لنا حتى أتينا ذا الصفاح فمات فهيئناه ثم انطلقنا فحفرنا له قبرًا ولحدنا له فلما فرغنا من لحده فإذا نحن بأسود قد ملأ اللحد وحفرنا له مكانًا آخر فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسود قد ملأ اللحد فقال ابن عباس ذلك عمله الذي كان يعمل انطلقوا فادفنوه في بعضها فوالذي نفسي لو حفرتم الأرض كلها لوجدتموه فيها فانطلقنا فدفناه في بعضها" نسأل الله أن يوفقنا للأعمال الصالحة وحسن الخاتمة إنه جواد كريم.

قصيدة فيها تضرع إلى رب العزة والجلال والكبرياء والعظمة:

يا ذَا الجَلالِ ويا ذا الجُوَدِ والكَرمِ

ذَنْبِي عَظِيمٌ وَأرْجُوْ مِنْكَ مَغْفِرةً

دَعَوْتُ نَفْسِي إلَى الخَيْرَاتِ فامْتَنَعَتْ

خَسِرْتُ عُمْرِي وَقَدْ فَرَّطْتُ في زَمَنِي

حَمَلْتُ ثِقْلاً مِنَ الأوْزَارِ فِي صِغَرِيْ

رَاحَ الشَّبَابُ وَوَلَّى العُمْر فِي لَعِبٍ

زَمَانَ عَزْميَ قَدْ ضَيَّعْتُهُ كَسَلاً

قَدْ انْقَضَتْ عِيْشَتِيْ بالذُلِ وَاأسَفِي

ذِيْ حَالتَي وانْكِسَارِي لا تُخَيِّبُنِي

أتَيْتُ بالذُّلِ والتَّقْصِيْر والنَّدمِ

سَارَ المجدُّوْنَ فِي الخَيْراتِ واجْتَهَدُوْا

شِفَاءُ قَلْبِيَ ذِكْرُ اللهِ خَالِقِنَا

صَفَتْ لأهْلِ التُّقَى أوْقَاتُهُم سَعِدُوْا

ضَيَّعْتُ عُمْرِي ولا قَدَّمْتُ لِيْ عَمَلاً

طُوْبَى لِعَبْدٍ أطَاعَ الله خَالِقَهُ

ظَهْرِيْ ثَقِيْلٌ بِذَنبي آهِ واأسَفِيْ

أرْجُوكَ يا ذَالعُلا كَرْبي تُفَرِّجُهُ

غَفَلْتُ عَن ذِكْرِ مَعْبُوْدِي وَطَاعَتِهِ

فاغْفِرْ ذُنُوبِي وكُنْ يَا رَبِّ مُنْقِذَنَا

قد أثْقَلَتْنِي ذُنُوبٌ مَا لَهَا أحَدٌ

كُنْ مُنْجِدِيْ يَا إلهي واعْفُ عن زَلَلِيْ

لاحَ المَشِيْبُ وَوَلَّى العُمْرُ في لَعِبٍ

مَضَى زَمَاني ومَا قَدَّمْتُ مِن عَمَلٍ

نَامَتْ عُيُوني وأهْلُ الخَيرِ قَدْ سَهِرُوْا

قامُوا إلى ذكْرِ مَوْلاهُم فَقَرَّبَهُمْ

ولَيْسَ لِي غَيْرَ رَبِّ الخَلْقِ مِنْ سَنَدٍ

لا أرْتَجي أحًدًا يَومَ الزِحَامِ سِوَى

ثم الصلاةُ على المختارِ مِنْ مُضَرٍ

          قًدْ جِئْتُكَ خَائِفًا مِن زَلَّةِ القََمِ

يَا وَاسِعَ العَفْوِ والغُفْرانِ والكَرَمِ

وأعْرَضَتْ عن طَرِيْقِ الخَيْر والنِّعَمِ

في غَيْرِ طَاعَةِ مَوْلايَ فَيَا نَدَمِي

يَا خَجْلَي فِي غَدٍ مِن زَلَّةِ القَدَمِ

وما تَحَصَّلْتُ مِن خَيْرِ ولَمْ أقُمِ

والعُمْرُ مِنِّيْ انْقَضَى فِي غَفْلَةِ الحُلُمِ

إنْ لَمْ تَجدْ خَالِقيْ بالعَفْوِ والكَرَمِ

إذَا وَقَعْتُ ذَلِيْلاً حَافِي القَدَمِ

أرْجُو الرِّضا مِنْكَ بالغُفْرانِ والْكرمِ

يا فَوْزَهُم غَنِمُوْا الجَنَاتِ والنِّعَمِ

يا فَوْزَ عَبْدٍ إلى الخَيْرَاتِ يَسْتَقِمِ

نَالُوا الهَنَا والمُنَى بالخَيْرِ والكَرَمِ

أنْجُو بِهِ يَوْمَ هَوْلِ الخَوْفِ والزَّحَمِ

وقَامَ جَنْحَ الدُّجَى بالدَّمْعِ مُنْسَجِمِ

يَومَ اللِّقَاءِ إذَ الأقْدَامُ فِي زِحَمِ

واشْفِ بِفَضْلِكَ لِي بَلْوَايَ مَعْ سَقَمِيْ

وقَدْ مَشَيْت إلَى العَصْيَانِ في هَمِمِ

مِن الشَّدَائِد والأهْوَالِ والتُّهَمِ

سِوَاكَ يَا غَافِرَ الزَّلاتِ واللِّمَمِ

وَتُبْ عَليَّ مِن الآثامِ واللِّمَمِ

وصِرْتُ مِن كَثْرةِ الأوْزَارِ في نَدَمِ

يا خَجْلَتِي مِن إلهي بارِيَ النَّسَمِ

أجْفَانُهُمْ في ظَلامِ اللَّيلِ لَمْ تَنَمِ

وخَصَّهُم بالرِّضَا والفَضْلِ والكَرَمِ

أرْجُوْهُ يُوْلِيُني بالغُفْرانَ والكَرَمِ

رَبِّ البَرِّيةِ مُوْلى الفَضْل والكَرِمِ

مُحَمَّدٍ المُصْطَفى المخَصْوصِ بالكَرَمِ

اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين، وخصنا منك بالتوفيق المبين، ووفقنا لقول الحق واتباعه وخلصنا من الباطل وابتدعه، وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدًا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا صفيًا وشفًا من كل داء، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

عن بريدة قال: سمع النبي رجلا يقول: اللهم أني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

فقال رسول الله : والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى أخرجه أبو داود والترمذي.

وعن أنس قال: دعا رجل فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.

فقال النبي : أتدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، أخرجه أصحاب السنن.

عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله : "دعوة ذي النون إذ دعى وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له" رواه الترمذي والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد.

وعن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله يقول: "من دعا بهؤلاء الكلمات الخمس لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه (لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله" رواه الطبراني بإسناد حسن.

وعن معاذ بن جبل قال: سمع رسول الله رجلاً وهو يقول (يا ذا الجلال والإكرام) فقال "قد استجيب لك فسل" رواه الترمذي.

اللهم اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأمرك راجين لوعدك راضين في جميع حالاتنا عنك.

راغبين في كل أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك.

يا من يحب العفو والإحسان، ويامر بهما أعف عنا، وأحسن إلينا.

فإنك بالذي أنت له أهل من عفوك أحق منا بالذي نحن له أهل من عقوبتك.

اللهم ثبت رجاءك في قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حتى لا نرجوا غيرك ولا نستعين إلا إياك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.

اللهم هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عليك، والاستغناء عن خلقك.

واجعل خير أعمالنا ما قارب آجالنا.

اللهم أغننا بما وفقتنا له من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية.

اللهم افتح مسامع قلوبنا لذكرك وارزقنا طاعتك وطاعة رسولك ووفقنا للعمل بكتابك وسنة رسولك.

اللهم إنا نسألك الهدى، والتقى والعافية والغنى، ونعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البلاء ومن سوء القضاء ومن شماتة الأعداء.

اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، أهل الحمد والثناء أنت، لا إله إلا أنت سبحانك إنك على كل شيء قدير.

اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقى من أعمارنا، ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا.

اللهم يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.

اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.

اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.

اللهم اجعل رزقنا رغدًا، ولا تشمت بنا أحدًا.

اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذين لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه.

اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا  شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز ياذ المن والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.

وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.

اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.

اللهم ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.

اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.

اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.

نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.

اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.

اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

اللهم يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد بعد البلى يا مؤي المنقطعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رؤوف غفور رحيم.

اللهم إنا نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.

اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الأغر الأجل الأكرم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت.

ونسألك بوجهك الكريم أكرم الوجوه، يا من عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وخشعت له الأصوات، ياذ الجلال والإكرام.

يا حي يا قيوم، يا مالك الملك، يا من هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير.

اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك، واسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك.

اللهم إنك تسمع كلامنا، وترى مكاننا، وتعلم سرنا، وعلانيتنا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك، المستغيثون المستجيرون الوجلون المشفقون المعترفون بذنوبنا.

نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير.

اللهم يا من خضعت له رقابنا، وفاضت له عباراتنا، وذلت له أجسامنا، ورغمت له أنوفنا لا تجعلنا بدعائك أشقاء، وكن بنا رؤفًا يا خير المسؤلين.

اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين.

اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين.

اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح.

اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.

"اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".

يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رؤوف رحيم.

اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،

عبد العزيز المحمد السلمان