×
تفسير القرآن العظيم [ جزء عم ]: قال المصنف - حفظه الله -: «فإن من أجلِّ العلوم قدرًا، وأرفعها ذكرًا، العلم المتعلق بأشرف الكلام وأجله وأسماه كلام الله جل في علاه، وهو علم التفسير، إذ أن المشتغل به آخذ بروح التلاوة ولبها، ومقصودها الأعظم ومطلوبها الأهم، الذي تشرح به الصدور، وتستنير بضيائه القلوب، وهو التدبر ... ورغبةً في تحصيل هذه الفضائل وغيرها مما يطول المقام عن استقصائها ورغبة في إهداء الناس عامة شيئًا من الكنوز العظيمة واللآلئ والدرر التي يحويها كتاب الله؛ كان هذا التفسير المختصر الميسر لآخر جزء في كتاب الله تعالى - وهو جزء عم -، وذلك لكثرة قراءته وترداده بين الناس في الصلاة وغيرها، وقد جعلته على نسق واحد، وجمعت فيه بين أقوال المفسرين».

 تفسير القرآن العظيم (جزء عم)

د. عبد الملك القاسم

 المقدمة

الحمد لله رب  العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد فإن من أجلِّ العلوم قدرًا، وأرفعها ذكرًا، العلم المتعلق بأشرف الكلام وأجله وأسماه كلام الله جل في علاه، وهو علم التفسير، إذ أن المشتغل به آخذ بروح التلاوة ولبها، ومقصودها الأعظم ومطلوبها الأهم، الذي تشرح به الصدور، وتستنير بضيائه القلوب، وهو التدبر، كما قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29].

كما أن في الاشتغال به تحصيلاً لمنافع الدنيا والآخرة؛ لأنه المصدر الأول لها ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون كل الحرص على الجمع بين حفظ القرآن وفهمه. روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يقترئون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل.

ومن خلال فهم معاني القرآن وتدبره يحصل التلذذ به، وتقوى الرغبة في المداومة مع التعبد لله تعالى بتلاوته، ولذا يقول الطبري في مقدمة تفسيره: «إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يتلذذ بقراءته» .

وأحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل كما أورد ذلك القرطبي عن مجاهد رحمه الله تعالى.

ورغبة في تحصيل هذه الفضائل وغيرها مما يطول المقام عن استقصائها ورغبة في إهداء الناس عامة شيئًا من الكنوز العظيمة واللآلئ والدرر التي يحويها كتاب الله؛ كان هذا التفسير المختصر الميسر لآخر جزء في كتاب الله تعالى وهو جزء عم، وذلك لكثرة قراءته وترداده بين الناس في الصلاة وغيرها، وقد جعلته على نسق واحد، وجمعت فيه بين أقوال المفسرين.

وإنا لنأمل أن نكون جميعًا من خلال هذا التفسير كصاحب المصباح الذي يقصي ظلمة الجهل عن قارئ كلام الله جل وعلا: نقل القرطبي في تفسيره عن إياس بن معاوية أنه قال: «مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلاً وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة، ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب».

اسأل الله جل في علاه، أن ينفعنا بما نقرأ، وأن يجعل أعمالنا صوابًا خالصة لوجهه الكريم إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

د. عبد الملك بن محمد عبد الرحمن القاسم


 تفسير سورة الفاتحة

﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.

سورة الفاتحة سميت بذلك لأنه افتتح بها القرآن الكريم؛ وهي سورة مكية، وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة.

تشتمل هذه السورة العظيمة على مجمل معاني القرآن في التوحيد والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك، ولذلك سميت: «آدم القرآن» وسميت «أم الكتاب» «والسبع المثاني» «وسورة الحمد» «وسورة الصلاة» «والواقية».

وهذه السورة لها مميزات تتميز بها عن غيرها؛ منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين: فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» رواه البخاري ومسلم.

ومنها أنها رقية: إذا قرئ بها على المريض شفي بإذن الله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال للذي قرأ على اللديغ، فبرئ: «وما يدريك أنها رقية..» رواه البخاري.

قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ليست البسملة آية في بداية جميع السور، بل هي آية فاصلة بين كل سورتين، يستحب قراءتها إلا في سورة التوبة فيكره ([1]).

﴿بِسْمِ﴾ ابدأ باسم الله، استعانة  على الأداء والتوفيق.

﴿اللهِ﴾: اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ والله: هو المألوه المعبود، وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له.

﴿الرَّحْمَنِ﴾ اسم دال على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء؛ ولهذا جاء على وزن «فعلان» الذي يدل على السعة.

﴿الرَّحِيمِ﴾ أي: الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن «فعيل» الدال على وقوع الفعل. فهنا رحمة هي صفته، دل عليها ﴿الرَّحْمَنِ﴾ ورحمة هي فعله، أي إيصال الرحمة إلى المرحوم دل عليها ﴿الرَّحِيمِ﴾.

و﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة.

والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقة دل عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات الرحمة لله و هو كثير جدًا، وأما العقل: فكل ما حصل من نعمة، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله.

والرحمن الرحيم: اسمان كل منهما دال على صفة حقيقة لله على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهكذا يقال في جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة، والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى، وهي اسم الله و الرب والرحمن.

وفي البسملة خلاف بين العلماء، فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة ويقرأ بها جهرًا في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة، لأنها من الفاتحة، ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله، وهذا القول هو الحق.

قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

﴿الْحَمْدُ﴾ هو الثناء على الله بصفات الكمال، وهو وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ ولا بد من قيد وهو "المحبة والتعظيم" قال أهل العلم: «لأن مجرد وصفه بالكمال بدون محبة ولا تعظيم، لا يسمى حمدًا، وإنما يسمى مدحًا»  والحمد: هو الثناء باللسان، أما الشكر فيكون باللسان والقلب والأعضاء، ولا يكون الشكر إلا مقابل نعمة، أما الحمد فيكون لكمال المحمود ولو في غير مقابلة نعمة، والله تعالى له الحمد والشكر.

﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الرب: اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا مضافاً، كقولك: هذا الرجل رب المنزل.

والعالمون : جمع العالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى.

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ المالك صفة لفعله جل جلاله، ويوم الدين يوم الجزاء والحساب، وهو سبحانه مالك يوم الدين والدنيا، لكن ظهور ملكوته وملكه وسلطانه إنما يكون في ذلك اليوم.

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي: نخصك وحدك بالعبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.

ونخصك أيضًا بالاستعانة، والاستعانة هي الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.

والمعنى: لا نعبد غيرك ولا نستعينه، وذكر سبحانه «الاستعانة» بعد «العبادة» مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي، لأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره فلا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول.

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي: دلنا وأرشدنا ووفقنا للصراط المستقيم وهو الإسلام، وثبتنا عليه حتى نلقاك.

والهداية على نوعين، هداية طريق وهداية توفيق، وهداية التوفيق خاصة بالله تعالى ومنها قوله عز وجل ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56] وهداية الطريق: هداية دلالة وإرشاد، وهي للأنبياء وأتباعهم من العلماء والدعاة ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52].

﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، الموصل إلى جنته ورضوانه وهو الإسلام، وسمي صراطًا مستقيمًا لأنه طريق واسع سهل يوصل إلى المقصود.

فنحن ندعو الله عز وجل أن يوفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الموصل إلى جنته، وندعوه أن يوفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته، فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله و رعايته ورحمته والتوجه إلى الله في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين.

﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهؤلاء هم القدوة لنا في حياتنا.

وفي الآية توسل إلى الله بنعمه، وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية؛ أي قد أنعمت بالهداية على من هديت، وكان ذلك نعمة منك. فاجعل لي نصيبًا من هذه النعمة، واجعلني واحدًا من هؤلاء المنعم عليهم، فهو توسل إلى الله بإحسانه.

﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.

﴿غَيْرِ﴾ أي: غير صراط.

﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ المغضوب عليهم هم اليهود، فهم علموا الحق فتركوه، وحادوا عنه على علم؛ فاستحقوا غضب الله.

﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ هم النصارى، وهم الذين حادوا عن الحق جهلاً فكانوا على ضلال مبين.

ومعنى آمين: اللهم استجب لنا، وليست آية من سورة الفاتحة، وفي الحديث عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال: «إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين فوافقت إحدهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري.

وهذه السورة العظيمة على إيجازها احتوت على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وتوحيد إلهية، وهو إفراد الله بالعبادة وحده، من قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ وتوحيد الأسماء والصفات، وقد دل عليه لفظ ﴿الْحَمْدُ﴾.

وتضمنت إثبات النبوة في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وإثبات الجزاء والبعث في قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وتضمنت إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.

وأول السورة رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة.

وقد ورد في فضل هذه السورة العظيمة حديث عظيم رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: «قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال الله: أثنى على عبدي، فإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال: مجدّني عبدي، وقال مرة: فوّض إلي عبدي فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل: فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».


 تفسير سورة عم

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا  سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا الليْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا * إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾.

سورة عم سورة مكية، وتسمى سورة النبأ يذكر الله عز وجل فيها البعث والجزاء والحساب، ويعدد فيها بعض نعمه وآلائه، وأنه الخالق المنعم المستحق للعبادة، الذي أوجد من العدم، وخلق الخلق لعبادته وطاعته، وفيها من البيان ما يقول للعباد: استعدوا استيقظوا تفكروا تدبروا... هناك بعث ونشور وحساب وأجور، وعقاب، وحسرات قال تعالى:

﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا الليْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾.

﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ استفهام إنكاري، عن أي شيء يتساءل كفار قريش من أمر القيامة أو البعث، فإنه لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبر بتوحيد الله والبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن، تساءل المشركون فأنزل الله، يعني عم يتساءل هؤلاء المكذبون بالقرآن، وغيره، ثم أجاب الله عز وجل عن هذا السؤال فقال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ .

﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ هذا النبأ هو ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من البينات والهدى، ولا سيما ما جاء به من الأخبار عن اليوم الآخر والبعث والجزاء.

﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ يعني الناس فيه على قولين: فمنهم مصدق، ومنهم مكذب، وطال نزاعهم فيه.

﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾.

﴿كَلَّا﴾ كلمة ردع وزجر، بمعنى ليس الأمر كما قالوا.

﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ بيَّن الله أن هؤلاء الذين كذبوا سيعلمون ما كذبوا به علم اليقين، وذلك إذا رأوا يوم القيامة ونزل بهم العذاب.

﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ للمبالغة في التأكيد والتشديد، وسوف يتأكد لهم صدق ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن والبعث، وهذا تهديد ووعيد لهم.

ثم بين – تعالى- قدرته العظيمة على خلقه، وذكر بعض نعمه على عباده ليقرر هذه النعم فيلزمهم شكرها، وهي أمور محسوسة ملموسة يتبين فيها قدرة الله عز وجل وعظيم صنعه التي لو فكر فيها الكفار، لما وقع منهم اختلاف في النبأ العظيم الذي جاءهم من عند الله فقال سبحانه:

﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ أي: جعل الله الأرض ممهدة للخلق معدة للحياة، ليست بالصلبة التي لا يستطيعون حرثها ولا المشي عليها إلا بصعوبة، وليست باللينة الرخوة التي لا ينتفعون بها، ولا يستقرون عليها ولكنها ممهدة لهم على حسب مصالحهم وعلى حسب ما ينتفعون به.

﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ أي: جعلها الله تعالى أوتادًا للأرض بمنزلة الوتد للخيمة حيث يثبتها فتثبت به ولا تضطرب.

﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أي: أصنافًا ما بين ذكر وأنثى، وصغير وكبير، وأسود وأحمر، وشقي وسعيد إلى غير ذلك مما يختلف الناس فيه، فهم أزواج مختلفون على حسب ما أراد الله عز وجل، واقتضته حكمته ليعتبر الناس بقدرة الله تعالى، وأنه قادر على أن يجعل هذا البشر الذين خلقوا من مادة واحدة ومن أب واحد على هذه الأصناف المتنوعة المتباينة.

﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ أي: جعل الله عز وجل، النوم راحة لأبدانكم قاطعًا للتعب والأشغال.

والسبت القطع، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، وهذا من النعمة وهو أيضًا من آيات الله، كما قال تعالى.

﴿وَجَعَلْنَا الليْلَ لِبَاسًا﴾ أي: جعل الله هذا الليل الذي يغشى ظلامه و سواده على الأرض، بمنزلة اللباس، كأن الأرض تلبسه ويكون جلبابًا لها.

﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ أي: جعلناه مشرقًا نيرًا مضيئًا ليتمكن الناس فيه من طلب الرزق وتحصيل الأقوات.

﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ وهي السماوات السبع، وصفها الله تعالى بالشداد لأنها محكمة البناء في غاية القوة والصلابة، متينة في إحكامها وإتقانها، لا تتأثر بمرور العصور والأزمان.

﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ يعني بذلك الشمس فهي سراج مضيء، وهي أيضًا ذات حرارة عظيمة.

﴿وَهَّاجًا﴾ أي: وقادة، والوهج يجمع النور والحرارة.

وتستمر الآيات في ذكر نعم الله عز وجل، وقدرته على الخلق يشاهدها الناس ويرونها؛ فقال تعالى:

﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾ يعني: من السحاب، ووصف الله السحاب بأنه معصرات كأنما تعصر هذا المطر عند نزوله عصرًا كما يعصر الثوب، فإن هذا الماء يتخلل هذا السحاب ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور.

وهو سبحانه الذي أنزل بقدرته من السحاب ماءً كثيرًا متتابعًا تنبت به الأرض وتحيا به، فإذا انضاف ماء السماء إلى حرارة الشمس حصل في هذا إنضاج للثمار ونمو لها على أكمل ما يكون.

﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾ أي: مطرًا منصبًا بكثرة؛ كثير الثجَّ: يعني الانهمار والتدفق بهذا الماء الذي أنزل من السماء إلى الأرض.

﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾ أي لنخرج، وننبت بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك الذي أنزل من السماء إلى الأرض.

﴿حَبًّا وَنَبَاتًا﴾ فتنبت الأرض، ويخرج الله به من الحب بجميع أصنافه وأنواعه وما أشبه ذلك.

والحب ما يدخر للناس والأنعام كالحنطة والشعير والذرة والأرز.

والنباتات ما تأكله الدواب، أي خضرًا يؤكل رطبًا كالحشيش وغيره.

﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ أي: حدائق وبساتين ملتفًا بعضها إلى بعض، من كثرتها وحسنها وبهائها حتى إنها لتستر من فيها لكثرتها.

وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة جملة من النعم العظيمة المشاهدة المحسوسة التي امتن بها على عباده ليشكروه ويعبدوه وحده، ويستعينوا بنعمه على طاعته ومرضاته، وليوقنوا أن من أنعم بهذه النعم وهيأ الأسباب بقوته وحوله وطوله، قادر على بعث الناس من قبورهم للحساب والجزاء على أعمالهم، فإنه عز وجل بحكمته وعدله لم يخلقهم عبثًا، ولا تركهم هملاً وجعل لهم أجلاً ومرجعًا.

ثم ذكر سبحانه ما يجري في يوم القيامة من الأهوال و الأمور العظام، والجزاء والحساب، ليكون الإنسان على بينة من أمره، وليعرف حاله ومصيره، وفي ذلك بيان وتوضيح لمن سأل عن النبأ العظيم، قال تعالى:

﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾.

﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ وهو يوم القيامة، وسمي يوم فصل لأن الله يفصل فيه بين العباد فيما شجر بينهم، وفيما كانوا يختلفون فيه.

﴿كَانَ مِيقَاتًا﴾ أي: ميقاتًا للخلق وموعدًا للجزاء، وموقوتًا لأجل معدود.

﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾.

﴿يَوْمَ يُنْفَخُ﴾ أي: يوم القيامة.

﴿فِي الصُّورِ﴾ وهو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، ينفخ فيها نفختين: الأولى: يفزع الناس ثم يصعقون فيموتون، والثانية: يبعثون من قبورهم، وتعود إليهم أرواحهم.

﴿فَتَأْتُونَ﴾ أي فتحيون، فتأتون إلى موضع العرض والحساب والجزاء.

﴿أَفْوَاجًا﴾ أي: أمما وجماعات متفرقة.

﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ فتحت: انفرجت، فتكون أبوابًا يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفًا محفوظًا.

﴿فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ تكون السماء في ذلك اليوم أبوابًا مفتوحة، وطرقًا ومسالك لنزول الملائكة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل أن هذا السبع الشداد يجعلها الله تعالى يوم القيامة كأن لم تكن، تكون أبوابًا.

﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ أي: أن الجبال العظيمة الصماء تدك فتكون كالرمل ثم تكون كالسراب تسير.

﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أي: مرصدة ومعدة للطاغين تنتظر وتترقب نزلاءها الكفار، وجهنم اسم من أسماء النار التي لها أسماء كثيرة، وسميت بهذا الاسم، لأنها ذات جهمة وظلمة بسوادها وقعرها.

﴿لِلطَّاغِينَ﴾ أي: للمردة والعصاة المخالفين للرسول.

﴿مَآبًا﴾ مرجعًا ومنقلبًا ومصيرًا.

﴿لَابِثِينَ فِيهَا﴾ أي: باقين في جهنم.

﴿أَحْقَابًا﴾ وهي جمع حقب، وهو المدة من الزمان؛ أي: مددًا طويلة.

ثم ذكر الله عز وجل بعضًا من أحوالهم وشقائهم في هذه النار، وما يجدونه من أنواع العذاب وأصنافه، فقال سبحانه:

﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا﴾ أي: لا يجدون في جهنم بردًا لقلوبهم ولا شرابًا طيبًا يتغذون به.

﴿إِلَّا حَمِيمًا﴾ ليس لهم إلا هذا الحميم، وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة الذي يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء.

﴿وَغَسَّاقًا﴾ الغساق هو شراب منتن الرائحة، شديد البرودة، فيُجمع لهم والعياذ بالله، بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد البرودة ليذوقوا العذاب من الناحيتين.

وقيل: إن المراد بالغساق صديد أهل النار، وما يخرج من أجوافهم من النتن والعرق وغير ذلك.

﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ أي: يجزون بذلك جزاء موافقًا لأعمالهم من غير أن يظلموا فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول.

﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ أي: لا يؤملون أن يحاسبوا، ولا يخافون يوم الحساب فلم يعملوا له، بل ينكرون البعث والحساب.

﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ كذبوا بما جاءت به الرسل من البينات والهدى والبعث والنشور.

﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾.

﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ يشمل ما يفعله الله عز وجل من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعلمه العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير.

﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾ أي: ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف.

﴿كِتَابًا﴾ يعني: كتبًا، وقيل: كتبناه في اللوح المحفوظ.

﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ أي: يقال لأهل النار للإهانة والتوبيخ: ذوقوا ما أنتم فيه، فلن نزيدكم إلا عذابًا من جنسه، وآخر من شكله أزواج، فهم في مزيد من العذاب أبدًا.

وفيما ذكر ه الله عز وجل عن حال أهل النار من التخويف والتحذير ما يكون رادعًا وحاجزًا عن المعاصي والآثام.

ثم لما ذكر سبحانه وتعالى، ما أعده لأهل النار من العذاب، انتقل من ذكر حال الطغاة إلى حال التقاة، فذكر حال المؤمنين وما هم فيه من النعيم فقال سبحانه:

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾.

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

﴿مَفَازًا﴾ المفاز هو مكان الفوز وزمان الفوز أيضًا، فهم فائزون في أمكنتهم وفائزون في أيامهم.

ثم بيَّن تعالى شيئًا من هذا الفوز وهذا النعيم، فقال:

﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا﴾.

﴿حَدَائِقَ﴾ جمع حديقة أي: بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة من النخيل وغيرها.

﴿وَأَعْنَابًا﴾ الأعناب جمع عنب، وهي من جملة الحدائق، لكنه خصها بالذكر لشرفها.

﴿وَكَوَاعِبَ﴾ الكواعب جمع كاعب وهي الفتاة التي تبين وبرز ثديها، ولم يتدل، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر.

﴿أَتْرَابًا﴾ أي: على سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبرًا كما في نساء الدنيا.

﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ أي: كأسًا ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر، وخمر الآخرة غير خمر الدنيا.

﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ لا يسمعون في الجنة لغوًا أي كلامًا باطلاً لا خير فيه، بل يقال لهم: سلامًا سلامًا.

﴿وَلَا كِذَّابًا﴾ أي: ولا كذبًا، فلا يكذبون، ولا يكذب بعضهم بعضًا، لأنهم على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من غل وجعلهم أخوانًا.

وكل ما نالهم من النعيم والخير المقيم إنما هو تفضل من ربهم، عز وجل وثوابًا على أعمالهم الصالحة فإن ما هم فيه إنما هو:

﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: أنهم يجزون بهذا جزاء من الله سبحانه و تعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله.

﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي: كافيًا وافيًا شاملاً كثيرًا بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلت ثمنًا لجنته ونعيمها.

﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾.

﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يخبر سبحانه عن عظمته وجلاله وأنه هو رب كل شيء، فهو رب السماوات السبع الطباق الذي خلقها ودبرها وأحكم صنعها، ورب الأرض، وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة، وهو الذي أنعم على عباده بالنعم العظيمة، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء.

﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي: ما بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة، كالغيوم و السحب والأفلاك وغيرها مما نعلمه، ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

﴿الرَّحْمَنِ﴾ عطف بيان، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة.

﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ يعني: أن الناس لا يملكون الخطاب من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك.

﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ﴾ وهو جبريل.

﴿وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ أي: صفوفًا، صفًا بعد صف.

﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ﴾ أي: لا يتكلمون ملائكة ولا غيرهم.

﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ بالكلام، فإنه يتكلم كما أذن له.

﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ أي: قال قولاً صوابًا، موافقًا لمرضاة الله سبحانه وتعالى وذلك بالشفاعة، إذا أذن الله لأحد أن يشفع، شفع فيما أذن له فيه على حسب ما أذن له، فلا يتكلم أحد في ذلك الموقف العظيم إلا بهذين الشرطين: أن يأذن الله له في الكلام، وأن يكون ما تكلم به صوابًا.

﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ أي: ذلك الذي أخبرناكم عنه، هو اليوم الحق الذي لا يروج فيه الباطل ولا ينفع فيه الكذب.

ثم لما رغب عز وجل ورهب وبشر وأنذر قال سبحانه:

﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ أي: من شاء عمل عملاً يؤوب به إلى الله، ويرجع به إليه.

﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ أي: خوفناكم وحذرناكم من عذاب قريب، وهو يوم القيامة.

﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أي: كل امرئ ينظر ما قدمت يداه، أي عمل في الدنيا.

﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي﴾ أي: ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث ، وذلك تحسرًا وندامة.

﴿كُنْتُ تُرَابًا﴾ أي: يود الكافر أنه كان في الدنيا ترابًا فلم يخلق ولم يبعث ويحاسب ويعاقب.

وفي تلك الآيات من ذكر العذاب للكفار والعصاة، ومن النعيم للمؤمنين ما يخوف ويحذر من عذاب الآخرة، وما يجعل المسلم يرجو رحمة ربه بالعمل الصالح الخالص لوجهه الموافق لسنة نبيه، فإن المرء ينظر يوم الجزاء والحساب ما قدمت يداه من أعمال عملها في حياته، ويفرح المؤمن بما وعده الله من النعيم، ويتمنى الكافر حين يرى العذاب وهوله وشدته أنه كان ترابًا.

* * *


 تفسير سورة النازعات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ * هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى * أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ * فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.

سورة النازعات سورة  مكية، نزلت في مكة، تعني بأصول العقيدة من الوحدانية والرسالة، والبعث والجزاء، فإنه سبحانه خلق الخلق وبعث لهم الرسل، و أنزل عليهم الكتب ليبينوا لهم الطريق الحق والصراط المستقيم، وليحذروهم من الشرك والطغيان والعصيان، ومن تمام عدل الله عز وجل أن جعل بعد دار الدنيا موعدًا يلقى فيه كل إنسان جزاءه وفاقًا إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا، وفي الآيات التالية يبين سبحانه وتعالى حال الكفار  عند النفخ في الصور وبعث الناس من قبورهم في هذا اليوم العظيم قال تعالى:

﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾.

﴿وَالنَّازِعَاتِ﴾ أقسم سبحانه بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار تنزعها.

﴿غَرْقًا﴾ أي: نزعًا شديدًا.

﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ يعني: الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطًا: أي تسلها برفق وسهولة.

﴿وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا﴾ هي: الملائكة تسبح بأمر الله، أي تسرع فيه كما يسرع السابح في الماء.

﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا﴾ أيضًا هي: الملائكة تسبق غيرها إلى أمر الله عز وجل، أو الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.

﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ وصف للملائكة؛ تدبر الأمر من السماء إلى الأرض بأمر الله.

﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾ وهما النفختان في الصور، النفخة الأولى: الراجفة ترجف الناس ويفزعون ثم يموتون عن آخرهم إلا من شاء الله، والنفخة الثانية التي تعقب الأولى، هي: الرادفة يبعثون من قبورهم فيقوم الناس أحياء من قبورهم مرة واحدة، وهم في حالة شديدة من الاضطراب بادية الذل، يجتمع عليها الخوف والانكسار، والرجفة والانهيار، قال تعالى: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾.

﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ﴾ هذه حال القلوب في ذلك الموقف العظيم.

﴿وَاجِفَةٌ﴾ أي فزعة مضطربة خائفة خوفًا شديدًا، لما عاينت وأبصرت من أهوال يوم القيامة.

﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾ يعني: أبصار أصحابها ذليلة حقيرة، لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة من هول ما ترى، قد غضت أبصارهم لذلهم.

﴿يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾ هذا يقوله المنكرون للبعث إذا قيل لهم: إنكم تبعثون يقولون: أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء بعد موتنا وبعد كوننا في حفر القبور.

﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً﴾ أي: كيف نبعث بعد أن كنا عظامًا بالية فتاتًا.

﴿قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾ قالوا: أي: منكرو البعث، استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم؛ إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا من الجزاء، يصيبنا مما يقوله محمد.

﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ أي: إنما هي صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية، زجرة من الله عز وجل، يزجرون ويصاح بهم فيقومون من قبورهم قيام رجل واحد على ظهر الأرض بعد أن كانوا في بطنها.

﴿فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ أي: فإذا هم أحياء على وجه الأرض، والساهرة: أرض بيضاء يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق.

ثم لما ذكر الله عز وجل أحوال الكفار وما يصيبهم في ذلك اليوم ساق قصة موسى عليه السلام وما أمره الله عز وجل به من القيام بتبليغ الرسالة والدعوة إليه، وذكر جل وعلا ما وجد موسى من فرعون وتكذيبه، مع ما أظهر من الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات، إلا أنه طغى وتجبر فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، عبرة له، وموعظة لغيره، وفي ذكر مثل هذه الوقائع والأحداث تخويف لمن كفر برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتسلية لنبيه بأن طريق الدعوة  شاق يحتاج إلى صبر وتوكل على الله عز وجل قال تعالى:

﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾.

قال تعالى: مبينًا ما جرى للأمم قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -.

﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾.

﴿هَلْ أتَاكَ﴾ أسلوب  تشويق وترغيب لسماع القصة، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، أي: هل سمعت يا محمد بخبره وما جري له.

﴿حَدِيثُ مُوسَى﴾ وهو ابن عمران عليه الصلاة والسلام أفضل أنبياء بني إسرائيل وهو أحد أولي العزم الخمسة الذين هم محمد - صلى الله عليه وسلم - وإبراهيم وموسى، وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام.

﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾

﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ﴾ ناداه الله عز وجل نداء سمعه بصوت الله عز وجل.

﴿بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ الوادي هو مجرى الماء، وطوى هو الوادي المطهر عند جبل الطور في سيناء الذي كلم الله موسى عنده وامتن عليه بالرسالة واختصه بالوحي.

﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ ناداه وأمره الله عز وجل أن يذهب إلى فرعون ملك مصر، وكان يقول لقومه إنه ربهم الأعلى.

﴿إِنَّهُ طَغَى﴾ أي: زاد على حده، وتجبر، وتمرد، وعتا.

﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ الاستفهام هنا للتشويق وتشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة.

﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ﴾ أي: أدلك إلى عبادة ربك، وإلى دين الله عز وجل، وإلى توحيده، وعبادته، ومرضاته.

﴿فَتَخْشَى﴾ أي فتخاف الله عز وجل، على علم منك فيصير قلبك خاضعًا له، مطيعًا خاشعًا، لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة، ولكن فرعون امتنع مما دعاه إليه موسى، والفاء لترتيب الخشية على الهداية لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشد.

وفي الآيات السابقة من الفوائد: أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بمخاطبة فرعون بالخطاب اللين، فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعًا وعقلاًً وعرفًا، وموسى عليه السلام، امتثل لما أمر به فقال لفرعون ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾ فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مخرج الأمر، وقال: ﴿إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ ولم يقل: إلى أن أزكيك، فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكي دون غيره لما فيه من البركة والخير والنماء، ثم قال:

﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ﴾ أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك.

ثم ذكر الله عز وجل مع هذه الدعوة الرفيعة أنه أراه المعجزات الباهرات والآيات العظيمات فقال تعالى.

﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾ في الكلام محذوف ، أي: فذهب موسى إليه ودعاه وكلمه، فلما امتنع أرى موسى فرعون الآية الكبرى، أي العظمى، والآية أن معه عصًا من خشب من فروع الشجر، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى ثم يحملها فتعود عصا.

﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾ كذب الخبر، وعصى الأمر.

﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾ أي تولى مدبرًا يسعى حثيثًا في الكيد، والمحاولة ومبارزة الحق ومحاربته.

﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾ حشر الناس، أي: جمعهم ونادى فيهم بصوت مرتفع ليكون ذلك أبلغ في نهيهم عما يريد منهم موسى عليهم الصلاة  والسلام.

﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ يعني: لا أحد فوقي فأذعنوا له وأقروا بباطله حين استخفهم.

﴿فَأَخَذَهُ اللهُ﴾ أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر جزاء إعراضه عن ا لحق.

﴿نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾ أي: أخذه الله فنكل به نكال الآخرة وهو عذاب النار، و نكال الأولى وهو عذاب الدنيا بالغرق.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً﴾ أي: فيما جرى من إرسال موسى إلى فرعون ومحاورته إياه، واستهتار فرعون به، واستكباره عن الانقياد في ذلك كله عبرة.

﴿لِمَنْ يَخْشَى﴾ أي: أن هذه العبرة والموعظة ينتفع بها من يخشى الله عز وجل ويخافه.

ثم لما انتهى الحديث عن قصة الطاغية فرعون رجع إلى منكري البعث من كفار قريش، ومع علم المشركين بأن الله هو خالق السموات والأرض، الرزاق المحيي والمميت إلا أنهم ينكرون البعث بعد الموت بعد أن تحولت أجسادهم إلى عظام بالية؛ فرد سبحانه عليهم بأن الذي خلق السموات والأرض مع عظمتها لن يعجزه بعث الإنسان ذي الجرم الصغير، فإنه لا شيء في حجمه مقارنة بالسموات والأرض، وفي هذا تقرير لهم بوجوب الإيمان بالبعث بعد الموت، وبين كيفية خلقه للسماء بجمل متعاقبة فقال سبحانه: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾.

﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾ هذا الاستفهام لتقرير إمكان البعث؛ لأن المشركين كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبعث، أي: أأنتم أيها البشر؛ أخلقكم بعد الموت وبعثكم أشد في تقديركم، أم خلق السماء ذات الجرم العظيم والخلق القوي والارتفاع الباهر؟

﴿بَنَاهَا﴾ أي بناها الله عز وجل وشيدها عالية رفيعة.

﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ سمك كل شيء: قامته وارتفاعه، ورفعه يعني عن الأرض، ورفعه عز وجل بغير عمد، فجعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء.

﴿فَسَوَّاهَا﴾ أي: جعلها مستوية تامة كاملة محكمة.

﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾ أظلم ليلها فأصبح لا يرى إلا الظلام الأسود الحالك.

﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ أي: أبرز نهارها المضيء بإضاءة الشمس، فسار الناس في مصالح دينهم ودنياهم ومعاشهم وأرزاقهم.

﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي: بعد خلق السماوات والأرض.

﴿دَحَاهَا﴾ أي: بسط الأرض وأودع فيها منافعها.

﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ أي: فجر من الأرض الأنهار والعيون، وأخرج منها مرعاها، أي: النبات الذي يرعى.

﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ أي: جعلها راسية ثابتة في الأرض.

﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ أي: كل هذه النعم العظيمة جعلها لكم ولدوابكم وأنعامكم مسخرة مذللة، ينتفع الإنسان بليلها ونهارها وسهولها ومائها ونباتها؛ وكل تلك النعم إلى أجل، ثم تزول.

﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.

﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾ أي: إذا جاءت القيامة الكبرى، والشدة العظمة، وسماها طامة لأنها داهية عظيمة تطم كل شيء سبقها.

﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى﴾ أي: يوم القيامة يتذكر حينئذ الإنسان ما سعى، أي: ما عمله في الدنيا، يتذكره مكتوبًا بكتاب.

﴿وَبُرِّزَتِ﴾ أظهرت لأبصار الناظرين.

﴿الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾ أي النار لمن يبصر، تجيء تقاد بسبعين ألف زمام، كل زمام فيه سبعون ألف ملك يجرونها.

ثم ينقسم الناس بعد ذلك الهول العظيم والمشهد الفظيع إلى قسمين:

﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى﴾ أي: من تجاوز الحد، والطغيان هو مجاوزة الحد.

﴿وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أي: قدمها على طاعة الله عز وجل فصار سعيه لها، ووقته مستغرقًا في حظوظها وشهواتها، ونسي الآخرة وجزاءها وهذان الوصفان هما وصفا أهل النار: مجاوزة الحد، وإيثار الدنيا وتقديمها على الآخرة، وهما متلازمان، فكل من طغى فقد آثر الحياة الدنيا، وكذلك العكس.

﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ أي: هي مأواه ومصيره، ومقره ومسكنه.

ثم ذكر سبحانه من خاف ربه واتقاه، وماله من الكرامة والمنزلة فقال:

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ يعني: خاف القيام بين يديه ومجازاته بالعدل.

﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ أي: زجرها عن هواها المخالف لأمر الله ورسوله.

﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ﴾ الجنة هي دار النعيم المشتملة على كل خير وسرور.

﴿هِيَ الْمَأْوَى﴾ أي: مقره وسكنه أعدها الله عز وجل، لأوليائه ومن كان هذا وصفه منهم.

ثم لما ذكر حال الناس في يوم القيامة، ذكر تساؤل الناس عن هذا اليوم العظيم ومتى يكون؟

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.

﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ يعني يسألك الناس.

﴿عَنِ السَّاعَةِ﴾ أي: عن القيامة استخفافًا.

﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ أي: متى وقوعها ووصولها؟ كرسو السفينة.

﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ يعني: أنه لا يمكن أن تذكر لهم متى الساعة؛ لأن علمها عند الله.

﴿إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ منتهى علمها، فلا يعلمها غيره.

﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ﴾ يعني: ليس عندك  علم منها ولكنك منذر ومخوف.

﴿مَنْ يَخْشَاهَا﴾ أي: يخافها، وهم المؤمنون.

﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾ ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ أي: إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر.

﴿يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾ أي: يرون القيامة.

﴿لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾

﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾ يستقصرون مدة الحياة الدنيا حتى كأنها عندهم عشية.

﴿إِلَّا عَشِيَّةً﴾ العشية: من الزوال إلى غروب الشمس.

﴿أَوْ ضُحَاهَا﴾ الضحى من طلوع الشمس إلى زوالها يعني كأنهم لم يلبثوا إلا نصف يوم.

* * *


 تفسير سورة عبس

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ * فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾.

سورة عبس سورة مكية نزلت بمكة، فإن الله عز وجل لما بعث نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، وأمره بتبليغه ودعوة الناس إليه والقيام بأمره، صدع صلوات ربي وسلامه عليه بالدعوة ودعا الناس إلى الإسلام وتحمل في سبيل ذلك الأذى والمشقة فصبر عليها، وفي بداية دعوته، ورغبة في تبليغ هذا الدين، حرص على دعوة كبراء القوم ورؤسائهم، ومن له كلمة عندهم طمعًا في إسلامهم وتأثر الناس بهم، فأعرض عن رجل أعمى فقير جاء إليه ليعلمه الدين، وظهرت الكراهة في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سأله، ومع أن الأعمى لم يكن يرى عبوس النبي - صلى الله عليه وسلم - وإعراضه إلا أن الله عز وجل أنزل في ذلك آيات تتلى، حث ذكر الموقف وسطره في كتابه العظيم قال تعالى:

﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾.

﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ الضمير يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

﴿عَبَسَ﴾ أي: كلح في وجهه وقطب؛ يعني  استنكر الشيء بوجهه.

﴿وَتَوَلَّى﴾ أي: أعرض في بدنه.

﴿أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ الأعمى هو عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم رضي الله عنه وسبب نزولها أنه جاء إلى النبي  - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة وهو في مكة يسأل ويتعلم منه، وكان عنده قوم من عظماء قريش يطمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في إسلامهم ومن المعلوم أن العظماء والأشراف إذا أسلموا كان ذلك سببًا لإسلام من تحتهم، وكان طمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم شديدًا فجاء هذا الأعمى يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكروا أنه كان يقول: علمني مما علمك الله ويستقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم - ويلح عليه، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنه وعبس في وجهه، وأصغى إلى عظماء قريش رجاء وطمعا في إسلامهم، وود النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة كبراء القوم.

﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ أي: يا محمد أي شيء يريبك أن يتزكى هذا الرجل الأعمى ويقوى إيمانه.

﴿لَعَلَّهُ﴾ أي  لعل ابن أم مكتوم.

وقد جاءت الآية: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب، وفي هذه أسلوب رفيع في تعلم  الأدب وحسن المعاتبة، وهو تلطف في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلالاً له، وفي الآيات بيان حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها واستغنائها عن كل أحد وعن كل سند والعجب أن هذا في مكة، والدعوة مطاردة، والمسلمون قلة، ومع ذلك كانت المعاتبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -.

﴿يَزَّكَّى﴾ أي: يتطهر من الذنوب والأخلاق التي لا تليق بأمثاله، فإذا كان هذا هو المرجو منه فإنه أحق أن يلتفت إليه.

﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ يعني: وما يدريك لعله يذكر، أي: يتعظ فتنفعه الموعظة، فإنه رضي الله عنه أرجى من هؤلاء أن يتعظ ويتذكر.

﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ أي: استغنى بماله لكثرته، واستغنى بجاهه لقوته عن الإيمان بالله، وهم العظماء الذين عند النبي - صلى الله عليه وسلم -.

﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ أي: تتعرض وتطلب إقباله عليك وتقبل عليه.

﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ يعني: ليس عليك شيء إذا لم يتزكى هذا المستغني، لأنه ليس عليك إلا البلاغ.

﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى﴾ أي: وصل إليك مسرعًا في المجيء، طالبًا منك أن ترشده إلى الخير، وتعظه بمواعظ الله.

﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾ أي يخاف الله عز وجل بقلبه لعلمه بعظمته تعالى:

﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ أي: تلهى وتنشغل عنه برؤساء القوم لعلهم يهتدون.

﴿كَلَّا﴾ يعني لا تفعل مثل هذا، وهذه هي أول مرة يقال في القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم -  كلا.

﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ أي: الآيات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه.

﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ أي: فمن شاء ذكر ما نزل من الموعظة فاتعظ وعمل به ومن شاء لم يتعظ ولم يعمل

﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ أي: أن هذا الذكر الذي تضمنته هذه الآيات.

﴿فِي صُحُفٍ﴾ معظمة مكرمة عند الله، والصحف جمع صحائف، و الصحائف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيه القول.

﴿مَرْفُوعَةٍ﴾ رفيعة القدر والرتبة عند الله.

﴿مُطَهَّرَةٍ﴾ أي: منزهة لا يمسها إلا المطهرون، مصونة عن الشياطين والكفار.

﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ السفرة الكتبة، وهم الملائكة السفراء بين الله وبين عباده.

﴿كِرَامٍ﴾ أي: كرام على ربهم، كرام في أخلاقهم، كرام في خلقتهم لأنهم على أحسن خلقة وعلى أحسن خلق، كثيرو الخير و البركة.

﴿بَرَرَةٍ﴾ جمع بر، وهو كثير الفضل والإحسان.

ولما ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة أنه جعل هذا القرآن العظيم محفوظًا ومنزهًا عن التحريف و التبديل، وأن السفراء في إيصال هذا الكتاب هم الرسل الكرام الأقوياء الأتقياء، ولم يجعل للشياطين عليهم سبيلاً وهذا مما يوجب الإيمان به وتلقيه بالقبول.

ذكر سبحانه بعد هذا البيان قبح جريمة الكافر وإفراطه في الكفر والعصيان مع كثرة إحسان الله إليه، وبدأ بذكر ضعف الإنسان ومبدئه ومهانته، ليعرف قدره ويطيع ربه ويصرف العبادة لمستحقها، وأن لا يتكبر و يتجبر.

﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾.

﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ﴾.

﴿قُتِلَ﴾ أي: لعن، وأهلك.

﴿الْإِنْسَانُ﴾ المراد بالإنسان هنا الكافر خاصة.

﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ ﴿ما﴾ استفهامية أي: ما الذي أكفره وأهلكه، أو ما أ شد كفره ومعاندته للحق؟

﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ استفهام تقرير لما يأتي بعده.

﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ والنطفة هي في الأصل الماء القليل، والمراد به هنا ماء الرجل الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب يلقيه في رحم  المرأة، فحمل وهو ماء مهين فكيف يتكبر؟

﴿فَقَدَّرَهُ﴾ أي جعله مقدرًا أطوارًا: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة أو قدر أجله، ورزقه، وعمله وشقي أو سعيد.

﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ أي: سهل خروجه من بطن أمه أو يسر له الطريق إلى تحصيل الخير أو الشر.

﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ﴾ الموت مفارقة الروح للبدن.

﴿فَأَقْبَرَهُ﴾ أي: جعله في قبر، أي: مدفونًا سترًا عليه وإكرامًا واحترامًا.

﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ﴾ أي: إذا شاء الله عز وجل.

﴿أَنْشَرَهُ﴾ أي: بعثه وأحياه يوم النشور ليجازيه على عمله.

﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ ﴿كَلَّا﴾ كلمة ردع وزجر ﴿لَمَّا﴾ هنا بمعنى "لم" بل أخل به بعضهم بالكفر وبعضهم بالعصيان وما قضى ما أمره الله إلا القليل.

﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ أي فلينظر إلى طعامه من أين جاء؟ ومن جاء به؟ وهل أحد خلقه سوى الله عز وجل؟

وبعد أن ذكر سبحانه البعث والحساب والجزاء، أعاد الإنسان ليتذكر ويتأمل فضل الله عليه، وفي هذا إظهار العظمة لله عز وجل وبيان بعض نعمه على عباده، وأنه المنعم المتفضل نعمه لا تعد ولا تحصى ثم أرشد سبحانه الإنسان إلى النظر والتفكر في طعامه وكيف وصل إليه! وفي هذا استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعدما كانت عظامًا بالية وترابًا متمزقًا قال تعالى:

﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ يعني: من السحاب، أنزلناه من السماء على الأرض.

﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا﴾ بعد نزول المطر عليها تتشقق بالنبات.

﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا﴾ أي: في  الأرض.

﴿حَبًّا﴾ كالبر والأرز والذرة والشعير، وغير ذلك من الحبوب الكثيرة.

﴿وَعِنَبًا﴾ وهو معروف، وهو أدم وعصيره أدم.

﴿وَقَضْبًا﴾ قيل: إنه القت المعروف الذي تأكله الدواب.

﴿وَزَيْتُونًا﴾ الشجرة المعروفة.

﴿وَنَخْلًا﴾ النخل المعروف، يؤكل بلحًا وبسرًا ورطبًا وتمرًا ونيئًا ومطبوخًا ويعتصر منه زيت وخل، وخص هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها.

﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾ حدائق جمع حديقة، والغلب كثيرة الأشجار.

﴿وَفَاكِهَةً﴾ يعني: ما يتفكه به الإنسان من أنواع الفواكه، كالتين والعنب والخوخ والرمان وغير ذلك.

﴿وَأَبًّا﴾ الأب: الكلأ؛ نبات معروف عند العرب ترعاه الإبل.

﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ يعني: أننا فعلنا ذلك متعة لكم، يقوم بها أودكم، وتتمتعون أيضًا بالتفكه بهذه النعم، وذلك مدعاة إلى النظر في هذا النعيم، وأنه من الواجب شكر المنعم، وبذل الجهد في الإنابة إليه، والإقبال على طاعته، والتصديق بأخباره ثم ذكر الله خاتمة المتاع.

﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾.

﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾ يعني: صيحة يوم القيامة التي تصخ الآذان أي:  تصمها فلا تسمع، وهذا هو النفخ في الصور.

﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ في ذلك اليوم يفر من أعز الناس إليه، وأشفقهم لديه، وأحبهم إليه، لهول ذلك اليوم، يفر من أخيه شقيقه، أو أبيه أو أمه.

﴿وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ الأم والأب المباشر، والأجداد أيضًا والجدات، يفر من هؤلاء كلهم.

﴿وَصَاحِبَتِهِ﴾ زوجته.

﴿وَبَنِيهِ﴾ وهم أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه والفرار منهم لا يكون إلا لهول عظيم وخطب فظيع.

وقد بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، ثم بالصحابة و البنين لأنهم أحب.

﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ كل إنسان في ذلك اليوم مشتغل بنفسه لا ينظر إلى غيره، فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين: سعداء وأشقياء، فأما السعداء فهم كما ذكر سبحانه.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ يعني يوم القيامة.

﴿مُسْفِرَةٌ﴾ من الإسفار وهو الوضوح؛ لأن وجوه المؤمنين تسفر عما في قلوبهم من السرور والانشراح والبهجة مما عرفوا من نجاتهم وفوزهم بالنعيم.

﴿ضَاحِكَةٌ﴾ يعني متبسمة، وهذا من كمال سرورهم.

﴿مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ أي: قد بشرت بالخير.

﴿وَوُجُوهٌ﴾ أي: وجوه الأشقياء، وهذا هو حال الفريق الثاني.

﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يعني يوم القيامة.

﴿عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ أي: شيء كالغبار؛ لأنها ذميمة قبيحة.

﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ أي: يغشاها ظلمة وسواد.

﴿أُولَئِكَ﴾ الذين هذا وصفهم.

﴿هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ أي: الذين جمعوا بين الكفر والفجور، والفجرة هم الفاسقون الكاذبون.

* * *


 تفسير سورة التكوير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ * فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْش  مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.

سورة التكوير سورة مكية، نزلت في مكة، ذكر الله عز وجل فيها آيات وعظات وعبرًا، وجعل التفكير في عجائب صنعه وعظيم خلقه من العبادة العظيمة؛ فإنه سبحانه خلق هذا الكون العظيم بنظام دقيق متناسق لا خلل فيه ولا اضطراب، وذلك من أعظم آيات الله عز وجل وجعل لهذا النظام الدقيق والصنع البديع أجلاً ينتهي إليه حيث تتغير السموات والأرض وتفسد تلك الأجرام الهائلة، وتتغير بعض الكائنات وكل ذلك مؤذن ببدء حياة جديدة هي اليوم الآخر، ذكرها سبحانه في هذه الآيات مبينًا لأهوال القيامة، وما يكون فيها من الشدائد والكوارث، وما يعتري الكون والوجود من مظاهر التغيير والتخريب.

وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين، فليقرأ ﴿إذا الشمس كورت﴾ و﴿إذا السماء انفطرت﴾ و ﴿إذا السماء انشقت﴾ رواه الترمذي.

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾.

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ أي: جمعت ولفت، وجعلت مثل شكل الكرة، وهذا يكون يوم القيامة.

﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ يعني: تساقطت من أفلاكها، وتناثرت، وقيل: طمس نورها.

﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾ أي: أن هذه الجبال العظيمة الصلبة العالية الرفيعة تكون هباء يوم القيامة، تزول عن أماكنها وتسير.

﴿وَإِذَا الْعِشَارُ﴾ العشار جمع عشراء، وهي الناقة الحامل التي تم لحملها عشر أشهر وهي من أنفس الأموال عند العرب؛ لأنها مرجوة الولد واللبن قريبة النفع.

﴿عُطِّلَتْ﴾ أي: تركت هملاً بلا راع مع نفاستها وعظم قدرها، وذلك لما شاهدوا من الهول العظيم.

﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ الوحوش جمع وحش، والمراد بها جميع الدواب، بعثت وجمعت ليوم القيامة حتى يقتص لبعضها من بعض، وقيل: حشرها موتها.

﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ البحار جمع بحر، وجمعت لعظمتها وكثرتها، هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تسجر، أي توقد نارًا تشتعل نارًا عظيمة وحينئذ تيبس.

﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ النفوس جمع نفس، والمراد بها نفوس الناس كلها فتزوج النفوس يعني يُضم كل صنف إلى صنفه، وقال الحسن، ألحق كل امرئ بشيعته: اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، والمنافقون بالمنافقين، ويلحق المؤمنون بالمؤمنين.

﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ الموؤدة: هي الأنثى تدفن حية تُسأل يوم القيامة سؤال تطييب لها وتبكيت لوائدها، وكانت العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية مخافة العار أو الفقر.

﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ هل أذنبت؟ يوبخ قاتلها بسؤالها لأنها قتلت بغير ذنب فعلته.

﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ الصحف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيه الأعمال، تنشر وتفتح وتعرض للحساب.

﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ هذه السماء العظيمة تكشط، يعني تزال عن مكانها.

﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ﴾ الجحيم اسم من أسماء النار، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها.

﴿سُعِّرَتْ﴾ أي: أوقد عليها فاستعرت، والتهبت التهابًا لم يكن لها قبل ذلك.

﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ﴾ الجنة دار المتقين.

﴿أُزْلِفَتْ﴾ يعني: قربت وزينت للمؤمنين.

قيل هذه الأمور الاثنا عشر ست منها في الدنيا، وهي من أول السورة إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ وست في الآخرة وهي: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ إلى هنا.

﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ أي: كل نفس تعلم في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها، تعلم كل نفس ما قدمته من خير وشر.

ولما ذكر الله عز وجل هذه الأحوال العظيمة، والوقائع المتتالية الرهيبة أقسم عز وجل بمخلوقاته على صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن ما نزل عليه إنما هو من كلام الله سبحانه وتعالى وليس من كلام المخلوقين كما يدعي المشركون.

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْش مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾.

﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ أي: أقسم بالخنس.

﴿بِالْخُنَّسِ﴾ الخنس: جمع خانسة، وهي النجوم التي تخنس، أي رجع، فبينما تراها في أعلى الأفق، إذا بها راجعة إلى آخر الأفق فهي تختفي في أول الليل، فلا تظهر إلا بعد الظلمة.

﴿الْجَوَارِي﴾ النجوم التي تجري في أفلاكها.

﴿الْكُنَّسِ﴾ النجوم التي تدخل في النهار إذا طلع، كما يدخل الظبي في "كناسه" أي: بيته.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ أي: إذا أقبل بظلامه وقيل: أدبر.

﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ أي: طلع وأقبل بروح ونسيم، وعم بنوره الأرض، فيكون الله أقسم بالليل حال إقباله، وبالنهار حال إقباله.

﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾.

﴿إِنَّهُ﴾ أي: القرآن.

﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ هو جبريل عليه الصلاة والسلام أشرف الملائكة عند الله تعالى، نزل به من الله تعالى، ووصفه الله بالكريم لكرم أخلاقه وكثرة خصاله الحميدة، فإنه أفضل الملائكة وأعظمهم رتبة عند ربه.

﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْش مَكِينٍ﴾.

﴿ذِي قُوَّةٍ﴾ وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة والقدرة العالية.

﴿عِنْدَ ذِي الْعَرْش﴾ أي: عند صاحب العرش وهو الله جل وعلا والعرش فوق كل شيء، وفوق العرش رب العالمين عز وجل.

﴿مَكِينٍ﴾ أي ذي مكانة، أي أن جبريل عند الله ذو مكانة رفيعة وشرف عظيم.

﴿مُطَاعٍ﴾ أي: جبريل مطاع في الملأ الأعلى هناك بين الملائكة يرجعون إليه ويطيعونه.

﴿ثَمَّ أَمِينٍ﴾ وهو كذلك أمين على ما كلف به من الوحي, فلا يزيد ولما ذكر الله عز وجل فضل الرسول الملكي جبريل الذي جاء بالقرآن ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن ودعا إليه الناس.

﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ أي محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني ليس مجنونًا كما تزعمون يا أهل مكة، وذكر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره وبأنه أعقل الناس وأكملهم.

﴿وَلَقَدْ رَآهُ﴾ أي: رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام في صورته له ست مائة جناح.

﴿بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ الأفق جانب السماء العظيم.

﴿وَمَا هُوَ﴾ يعني: ما محمد - صلى الله عليه وسلم -.

﴿عَلَى الْغَيْبِ﴾ يعني: على القرآن والوحي الذي جاءه من عند الله.

﴿بِضَنِينٍ﴾ أي: ببخيل، لا يبخل بالوحي، ولا يقصر في التبليغ، بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه.

ولما ذكر سبحانه جلاله كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين اللذين وصل إلى الناس على أيديهما، وأثنى الله عليهما بما أثنى، دفع عن هذا الكتاب المنزل كل آفة, ونقص مما يقدح في صدقه، فقال سبحانه.

﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ أي: ليس القرآن بقول أحد من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب.

﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ أي: طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم ووضحت لكم.

﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ أي: القرآن، إلا موعظة وتذكير والمراد بالعالمين من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾.

﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ﴾ لمن أراد منكم.

﴿أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ الاستقامة هي الاعتدال لا يميل يمينًا ولا شمالا أن يستقيم على هدى الله في الطريق إليه، بعد هذا البيان، الذي يكشف كل شبهة وينفي كل ريبة، ويسقط كل عذر.

﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ يعني لا يمكن أن تشاؤا شيئًا, ومنه الاستقامة ولا تقدرون على ذلك، إلا وقد شاءه الله من قبل وقدره.

﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ إشارة إلى عموم ربوبية الله.


 تفسير سورة الانفطار

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ﴾.

سورة الانفطار سورة مكية، ذكر الله عز وجل فيها ما أكرم به الإنسان من النعم العظيمة والآلاء الجسيمة وعرفه نعمه عليه، ومع كثرة النعم وجزيل العطاء، ربما يحمل ذلك الإنسان على معصية الله عز وجل لما يراه من تتوالي النعم وتوافر الخيرات، ولا يردعه عن ذلك مثل التذكير والاتعاظ ومعرفته بأن الأحوال تتغير، وأن الله لا يرضى أن تكون نعمه وسيلة لمقارفة المعاصي والآثام، وفي سورة الانفطار تحذير الإنسان من الاغترار بالنعم والتمادي في المعصية, لأن أمامه يوم عظيم، وموقف عصيب, يجازي فيه الإنسان على ما قدم وأخر من الأعمال، وهو يوم القيامة الذي ذكر الله بعضًا من صفاته وأحواله في هذه السورة.

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾.

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ *﴾ يعني: تشققت لنزول الملائكة.

﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ يعني: النجوم صغيرها وكبيرها، تنتشر وتتفرق وتتساقط, لأن العالم انتهى.

﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾ أي: فُجر بعضها على بعض وملئت الأرض.

﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ أي: بعثرت وقلب ترابها، وأخرج ما فيها من الأموات أحياء يسيرون ليوم عظيم.

ومع التبدل والتحول في هذا العالم ينكشف الغطاء، ويزول ما كان خفيًا وتعلم كل نفس ما أحضرت قال تعالى:

﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ علمت كل نفس ما قدمت وأخرت، وذلك بما يعرض عليها من الكتاب، وعلمت ما قدمت من  عمل خير أو شر.

ثم تحدثت الآيات عن جحود الإنسان وكفرانه لنعم الله، وهو يتلقى فيوض النعمة منه، جل وعلا، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها، ولا يعرف لربه قدره، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة.

﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ المراد بالإنسان هنا الكافر، وقيل: الإنسان من حيث هو إنسان، وناداه سبحانه بصفة الإنسان لما أودع فيه من العقل وميزه به عن سائر المخلوقات.

﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ يعني: أي شيء خدعك وسول لك حيث تكذب بالبعث، وتعصي الله في الأمر والنهي، وقيل أنه سبحانه ذكر الكريم دون سائر أسمائه وصفاته, لأنه لا ينبغي مقابلة الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور.

﴿الَّذِي خَلَقَكَ﴾ خلقك من نطفة ولم تك شيئًا وأوجدك من العدم ولم تك شيئًا.

﴿فَسَوَّاكَ﴾ أي: جعلك مستوي الخلقة تسمع وتبصر وتعقل.

﴿فَعَدَلَكَ﴾ أي: جعلك معتدل القامة حسن الصورة، وجعل أعضاءك متعادلة متناسبة.

﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ أي: الله ركبك في أي صورة شاء، وهذا من نعم الله على الإنسان أنه سوى خلقه وحسن صورته.

ومع هذا العطاء الجزيل والنعم المتتالية إلا أن هناك من يجحد هذه النعمة ويصرف العبادة لغير الله.

﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾.

﴿كَلَّا﴾ للردع والزجر عن الاغترار بكرم الله وجعله ذريعة إلى الكفر به، يعني: مع هذا الخلق والإمداد والإعداد.

﴿تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾ أي: لا تصدقون بالجزاء والحساب.

﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ أي: من الملائكة يحفظون ويكتبون أعمالكم.

﴿كِرَامًا﴾ على ربهم.

﴿كَاتِبِينَ﴾ يكتبون ويدونون أعمالكم.

﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ إما بالمشاهدة إن كان فعلاً وإما بالسماع إن كان قولاً بل إن عمل القلب يطلعهم الله عليه فيكتبونه.

ثم لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة النعم العظيمة، ووجوب طاعة الله ومراقبته، وأن كل ما يعمله الإنسان محصى ومكتوب له أو عليه ذكر منازل المطيعين ومنازل العاصين، فقال سبحانه:

﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ﴾.

﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ هذا بيان للنهاية والجزاء، والأبرار جمع بر وهم كثيروا فعل الخير والطاعات، المتباعدون عن الشر، القائمون بحقوق الله وحقوق عباده.

﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾ أي: نعيم في القلب، ونعيم في البدن.

﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ﴾ الفجار: هم الكفار الذين كفروا بربهم وقصروا في حقوق الله وحقوق عباده.

﴿لَفِي جَحِيمٍ﴾ أي: في نار حامية.

﴿يَصْلَوْنَهَا﴾ يعني: يدخلونها ويحترقون بها.

﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾ أي: يوم الجزاء وذلك يوم القيامة.

﴿وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ﴾ أي: لن يغيبوا عنها فيخرجوا منها.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ هذا الاستفهام للتفخيم والتعظيم.

﴿ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ تأكيد: أي: ما أعلمك ما يوم الحساب والجزاء وما فيه من أهول وشدائد، ثم يأتي الجواب الواضح، يبين حال الإنسان وواقعه في ذلك اليوم.

﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ يوم القيامة لا أحد يملك لأحد شيئًا لا يجلب خير ولا بدفع ضرر إلا بإذن الله عز وجل.

﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ﴾ في الآخرة الأمر لله عز وجل, ولا تملك نفس لنفس شيئًا إلا بإذن الله والله عز وجل يتفرد به سبحانه، لا يملك أحدًا في ذلك اليوم شيئًا كما ملكهم في الدنيا ولا يقهره قاهر ولا ينازعه أحد.

 تفسير سورة المطففين

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

سورة المطففين سورة مكية، فيها إقامة العدل ونشره، والتحذير من الظلم ونبذه، فالله عز وجل حكم عدل لا يرضى بالظلم، ولا يرضاه لعباده حتى في أقل الأمور وأصغرها شأنًا، ولهذا ذكر التخويف والوعيد لمن فسدت أخلاقه ولم يراقب الله عز وجل وظلم الناس ولو بالقليل، ومن أولئك أصحاب الأموال, وأهل البيع والشراء، الذين يظلمون الناس بغشهم وخداعهم، فهم يأخذون المال من الناس كاملاً ويعطونهم أقل من حقهم من المباع، فحذرهم وذكرهم بيوم القيامة, حتى لا يتمادوا ويتوبوا من تطفيف الكيل والميزان، وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل الله سبحانه "ويل للمطففين" فأحسنوا الكيل بعد ذلك" رواه ابن ماجة.

﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

﴿وَيْلٌ﴾ الويل: الهلاك، وهي كلمة وعيد وعذاب، يتوعد الله سبحانه وتعالى بها من خالف أمره.

﴿لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ التطفيف: النقص من الكيل أو الوزن شيئًا طفيفًا والمطففين هم الذين يفعلون ذلك، وتفسر الآيتان التاليتان معنى المطففين فهم.

﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ أي: إذا اشترى الناس منهم ما يكال استوفوا منهم الحق كاملاً بدون نقص.

﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ﴾ يعني: إذا كالوا للناس، أي: هم الذين باعوا الطعام كيلاً, فإنهم إذا كالوا للناس أو باعوا عليهم شيئًا وزنًا إذا وزنوا انقصوا.

﴿يُخْسِرُونَ﴾ ينقصون؛ فهؤلاء يستوفون حقهم كاملاً وينقصون حق غيرهم فجمعوا بين الأمرين، بين الشح والبخل.

ثم توعد تعالى المطففين وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه فقال سبحانه:

﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ يقال لهم توبيخًا: ألا يتيقن هؤلاء ويعلمون علم اليقين، أنهم مبعوثون: أي مخرجون من قبورهم لله رب العالمين فمسئولون عما يفعلون ومجازون عليه.

﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ عظيم في قوله، في أهواله فيما يحدث فيه وهو يوم القيامة.

﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ في هذا اليوم العظيم يقوم الناس من قبورهم حفاة ليس عليهم نعال ولا خفاف؛ عراة ليس عليهم ثياب، ولا قمص ولا سراويل, ولا أزر ولا أردية، وفي هذا الوعيد دلالة على  عظم ذنب التطفيف, ومزيد إثمه وفظاعة, عقابه.

﴿لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وهو الله جل وعلا.

ولما ذكر الله عز وجل يوم القيامة وقيام الناس فيه لرب العالمين، وذكر مصير الناس فيه, وأنهم ينقسمون إلى قسمين: فجار، وأبرار ابتدأ بالفجار لدناءة أعمالهم وسوء مآلهم فقال سبحانه.

﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.

﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾

﴿كَلَّا﴾ كلمة ردع وزجر، أي: حقًا.

﴿إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ﴾ أي: أن الفجار ومنهم المطففون مكتوبون في.

﴿سِجِّينٍ﴾ أي: في سجل أهل النار، أو في حبس وضيق.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ الاستفهام هنا للتعظيم، أي: ما لذي أعلمك بسجين؟ وهل بحثت عنه؟ وهل سألت عنه حتى يبين لك؟

﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ مكتوب مفروغ منه، لا يزاد فيه ولا ينقص، ولا يبدل.

﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ ويل كلمة عذاب وعقاب، ثم بين المكذبين بأنهم.

﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ يكذبون بيوم الجزاء وهو يوم القيامة.

﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ﴾ أي: ما يكذب بيوم الدين وينكره.

﴿إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾.

﴿مُعْتَدٍ﴾ في أفعاله.

﴿أَثِيمٍ﴾ في أقواله، وقيل: ﴿مُعْتَدٍ﴾ في أفعاله ﴿أَثِيمٍ﴾ في كسبه، أي أن مآله إلى الإثم، والمعنيان متقاربان.

﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا﴾ يعني إذا تلاها عليه أحد، وهذا يدل على أن هذا الرجل لا يفكر أن يتلو آيات الله، ولكنها تتلى عليه، فإذا تليت عليه.

﴿قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي: هذا أساطير الأولين، وأحاديثهم وأباطيلهم.

﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾.

﴿كَلَّا﴾ للردع والزجر للمعتدي.

﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ أي: اجتمع عليها وحجبها عن الحق.

﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من الأعمال السيئات كثرت عليهم السيئات فأحاطت بقلوبهم.

﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ أي: حقًا إنهم عن رؤية ربهم وخالقهم لمحجوبون، وذلك في يوم القيامة، فإنهم يحجبون عن رؤية الله عز وجل كما حُجبوا عن رؤية شريعته وآياته فرأوا أنها أساطير الأولين.

﴿* ثُمَّ إِنَّهُمْ﴾ أي: أن هؤلاء الفجار مع هذه العقوبة البليغة.

﴿لَصَالُو الْجَحِيمِ﴾ يصلون حرارتها أو عذابها.

﴿ثُمَّ يُقَالُ﴾ أي: يقول لهم خزنة النار، يقال تقريعًا لهم وتوبيخًا.

﴿هَذَا﴾ العقاب.

﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أي: النار، فيجتمع عليهم العذاب البدني والألم البدني بصلي النار، وكذلك العذاب القلبي بالتوبيخ والتنديم حيث يقال: ﴿هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.

ولما ذكر الله عز وجل المآل الذي يؤول إليه الفجار، والعياذ بالله ذكر الأبرار ومنزلتهم وما أعده الله عز وجل لهم فقال:

﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾.

﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ الأبرار هم المؤمنون الصادقون العاملون بالبر والتقوى، وكتاب الأبرار في عليين في أعلى الجنة، يوحي بالعلو والارتفاع.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾ أي: ما الذي أعلمك يا محمد ما عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم.

﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ أي: أن كتاب الأبرار الذي فيه  أسماؤهم كتاب مرقوم مكتوب لا يتغير ولا يتبدل.

﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ يشهده أي: يحضره.

﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾ عند الله هم الذين تقربوا  إلى الله سبحانه وتعالى بطاعته من الملائكة الكرام وأرواح الأنبياء، والصديقين والشهداء.

ثم يذكر سبحانه وتعالى حال الأبرار أنفسهم، أصحاب هذا الكتاب الكريم، ويصف ما هو فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم.

﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ الأبرار: جمع بر، والبر كثير الخير، كثير الطاعة.

﴿لَفِي نَعِيمٍ﴾ النعيم هنا يشمل نعيم البدن ونعيم القلب.

﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ الأرائك جمع أريكة، وهي السرير المزخرف المزين الذي وضع عليه مثل الظل.

﴿يَنْظُرُونَ﴾ يعني ينظرون إلى ما أنعم الله به عليه من النعيم الذي لا تدركه الأنفس، وقيل: ينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامات وأعظمها النظر إلى وجهه الكريم.

﴿تَعْرِفُ﴾ أي: عرف أيها الناظر إليهم.

﴿فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ أي: إذا رأيهم عرفت أنهم من أهل النعمة، لما تراه في وجوههم من النور والحسن.

﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ﴾.

﴿يُسْقَوْنَ﴾ يعني : الأبرار يسقيهم الله عز وجل بأيدي الخدم.

﴿مِنْ رَحِيقٍ﴾ أي: من شراب خالص من الخمر لا شوب فيه ولا ضرر فيه على العقل.

﴿مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ أي: بقيه وآخره مسك، أي طيب الريح.

﴿وَفِي ذَلِكَ﴾ أي: وفي هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم.

﴿فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ *﴾ أي: وفي هذا الثواب والجزاء فليتسابق المتسابقون سباقًا يصل بهم إلى حد  النفس، والتنافس: التشاجر على الشيء والتنازع فيه، فيريده كل واحد لنفسه، ويضن به لعظم منزلتهم وما ينالهم من النعيم، عكس حال المطففين الذين يتنافسون على جمع حطام الدنيا من أوجه محرمة، ومن أكل أموال الناس بالباطل.

﴿وَمِزَاجُهُ﴾ أي: مزاج هذا الشرب الذي يسقاه هؤلاء الأبرار.

﴿مِنْ تَسْنِيمٍ﴾ أي: من عين رفيعة معنى وحسًا.

﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ أي: أن هذه العين والمياه النابعة والأنهار الجارية يشرب منها ويروى بها المقربون.

وبعد سياق هذا النعيم المقيم وما فيه من النعم والكرامة، يذكر الله عز وجل حال وموقف الفجار من المسلمين الذين يسخرون من الذين آمنوا في الدنيا، وختم بأن الجزاء من جنس العمل، حيث ذكر حال هؤلاء المجرمين المستهزئين في الدنيا بالمؤمنين، ثم ذكر حال المؤمنين يوم القيامة يتفرجون عليهم وهم يعذبون وفي تقديم النعيم والجزاء قبل ذكر الأذى والاستهزاء مدعاة إلى الصبر والتحمل، قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ وهم الكفرة، قاموا بالجرم وهو المعصية والمخالفة.

﴿كَانُوا﴾ أي: في الدنيا.

﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ استهزاء وسخرية واستصغارًا لهم.

﴿وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ﴾ إذا مر المجرمون بالمؤمنين.

﴿يَتَغَامَزُونَ﴾ يعني: يغمز بعضهم بعضًا، انظر إلى هؤلاء، سخرية واستهزاء واستصغارًا، وأنهم لضالون لإيمانهم بمحمد وتركهم شهوات الحياة.

﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ﴾ إذا رجع وانصرف المجرمون إلى أهلهم, وقد تهكموا واستهزؤوا بالمؤمنين.

﴿فَكِهِينَ﴾ متفكهين معجبين بما نالوه من السخرية بهؤلاء المؤمنين.

﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ﴾ أي: رأى المجرمون المؤمنين.

﴿قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ ضالون عن الصواب، متأخرون، متزمتون، متشددون إلى غير ذلك من الألقاب التي تتكرر في كل زمان ومكان.

﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ أي: أن هؤلاء المجرمين ما بعثوا حافظين لهؤلاء المؤمنين يرقبونهم ويحكمون عليهم، بل الحكم لله عز وجل.

﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ اليوم يعني: يوم القيامة أي في هذا اليوم الذين آمنوا يضحكون من الكفار؛ لما وجدوا من النعيم وحسن الثواب على صبرهم.

﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ أي: أن المؤمنين على الأرائك في الجنة والأرائك هي السرر الفخمة الحسنة، ينظرون ما أعد الله لهم من الثواب.

﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾

﴿ثُوِّبَ﴾ أي: جوزيَ و ﴿هَلْ﴾ هنا للتقرير أي: أن الله تعالى قد عاقب الكفار وجازاهم جزاء فعلهم في الدنيا، فكما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين ورموهم بالضلال، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة، ورأوهم في العذاب و النكال الذي هو عقوبة الغي والضلال.

* * *


 تفسير سورة الانشقاق

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا * فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾.

سورة الانشقاق سورة مكية، ذكر الله عز وجل فيها أهوال وأحوال القيامة وهي اليوم المهول الذي يجازي فيه العباد على أعمالهم، فإن الله عز وجل خلق الخلق لعبادته وطاعته وجعل لهم أمدًا وأجلاً يرجعون إليه فيه، فيحاسب المرء على ما قدم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا، وذلك يوم القيامة حيث تقع فيه الأهوال العظيمة، كما ذكر الله عز وجل في وصفها وهذه الآيات وأمثالها آيات دالة على ربوبية الله عز وجل مستلزمة للعلم بصفات كماله، وعظيم قدرته، قال تعالى:

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾.

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ انشقت: انفتحت وانفرجت وتصدعت وتقطعت وهذا من علامات القيامة.

﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾ أذنت: بمعنى استمعت، وأطاعت أمر ربها عز وجل.

﴿وَحُقَّتْ﴾ أي: حق لها أن تأذن، أي تسمع وتنقاد وتطيع.

﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ تأكيدًا لاستماعها لربها، واستسلامها وطاعتها له.

﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ﴾ أي: بسطت ودكت جبالها حتى صارت قاعًا صفصفًا.

﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ أي: جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة، وخلت الأرض غاية الخلو حتى لم يبق شيء في بطنها.

﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ أذنت: يعني استمعت وأطاعت لربها مثلما أطاعت السماء لربها وحقت.

ثم ذكر الله عز وجل حال الإنسان وأنه جاهد ومجد في أعماله التي عاقبتها ونهايتها الموت فقال تعالى.

﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ المراد: جنس الإنسان الذي خلقه ربه بإحسان، وميزه بالعقل والإدراك.

﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا﴾ الكادح: هو الساعي بجد ونوع مشقة.

﴿إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا﴾ يعني: أنك تكدح كدحًا يوصلك إلى ربك فإليه المرجع وإليه المآب.

﴿فَمُلَاقِيهِ﴾ أي: فما أسرع أن تلاقي الله عز وجل، ثم إنك ستلقى ما علمت من خير أو شر.

وقد ذكر الله عز وجل، بعد هذه الآيات العظيمة حال الناس بعد الحساب والجزاء، حيث ذكر أهل اليمين من يؤتى كتابه بيمينه، وأهل الشمال من يؤتى كتابه وراء ظهره، فقال تعالى.

﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ إي: من أعطي كتابه بيمينه وهو المؤمن.

﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ أي: يحاسبه الله تعالى بإحصاء عمله عليه، لكنه حساب سهل يسير.

﴿وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ ينقلب من الحساب إلى أهله من الزوجات والحور العين في الجنة، مسرورًا مبتهجًا من الخير والكرامة.

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾.

﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ هؤلاء هم الأشقياء والعياذ بالله يؤتى كتابه وراء ظهره وليس عن يمينه، لأن يمينه مغلولة إلى عنقه.

﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾ أي: إذا قرأ كتابه يدعو على نفسه بالثبور من كلمات الندم والحسرة والخزي.

﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾ أي: يصلى النار التي تسعر به، ويكون مخلدًا فيها أبدًا لأنه كافر.

﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ كان في الدنيا متبعًا لهواه وركوب شهوته غافلاً عما أمامه.

﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾ أي: كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله، ولا يعيده بعد الموت للجزاء والحساب.

﴿بَلَى﴾ أي: سيحور ويرجع.

﴿إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾ يعني: بلى سيعيده الله كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها وشرها، فإنه كان به بصيرًا أي: عليمًا خبيرًا.

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾.

بعد أن ذكر الله عز وجل أحوال أهل الجنة وأهل النار، أتبع ذلك بذكر ما يجري ويحصل للإنسان من تحول وتغير في حياته ثم مماته حتى يبلغ جنته أو ناره؛ وفي هذا عظة وعبرة قال تعالى:

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ يقسم الله تعالى بالشفق، وهو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة.

﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ أقسم سبحانه بالليل المعروف.

﴿وَمَا وَسَقَ﴾ أي: وما جمع، لأن الليل يجمع الوحوش والهوام وما أشبه ذلك تجتمع وتخرج وتبرز من جحورها وبيوتها.

﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ يعني: اجتمع نوره وتم وكمل في منتصف الشهر القمري وصار بدرًا ساطعًا مضيئًا.

﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ هذا جواب القسم.

﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾ أيها الناس.

﴿طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ حالاً بعد حال، من الغنى والفقر والموت والحياة وهي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض.

وبعد هذه الآيات الواضحات التي يعيها البشر ويرونها صباح ومساء يناديهم الله عز وجل بصيغة استفهام يقصد به التوبيخ.

﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾

 ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: أي شيء يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر.

﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ وما لهم إذا قرئت عليهم آيات الله وكلامه وهو هذا القرآن، لا يخضعون لله عز وجل فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله والانقياد لأوامره ونواهيه.

ثم ذكر سبحانه أن ديدن الكفار التكذيب فقال:

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾.

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ أي: أن تركهم السجود، كان بسبب تكذيبهم لما جاءت به الرسل في البعث والجزاء.

﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ أي: أنه سبحانه وتعالى أعلم بما يوعونه، أي: بما يجمعونه، ويكتمونه، ويضمرونه في أنفسهم من التكذيب في صدورهم.

﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أخبرهم بالعذاب الأليم الذي لا بد أن يكون وجعله بشارة تهكمًا بهم.

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾

﴿إِلَّا﴾ استثناء منقطع وتقدر "إلا" بـ "لكن".

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

﴿لَهُمْ أَجْرٌ﴾ أي: ثواب.

﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي: غير مقطوع ولا منقوص، ولا يمن عليهم به.

* * *


 تفسير سورة سورة البروج

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾.

سورة البروج سورة مكية، ذكر الله عز وجل فيها أن هذه الدنيا سجال بين أهل الحق وأهل الباطل، وذكر سبحانه أحوال بعض الأمم السابقة وما جرى بين الفريقين، حيث ذكر قصة أصحاب الأخدود وابتدأت السورة الكريمة بالقَسَم بالسماء ذات النجوم الهائلة، ومداراتها الضخمة التي تدور فيها الأفلاك، وباليوم العظيم المشهود وهو يوم القيامة، وبالرسل والخلائق على هلاك ودمار المجرمين قال تعالى:

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾.

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ الواو هذه حرف قَسَم، يعني يقسم تعالى بالسماء وبروجها، والله عز وجل يقسم بما شاء من مخلوقاته، أما المخلوق فلا يجوز له أن يقسم بغير الله، فإن القسم بغير الله شرك.

﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ أي: صاحبة البروج، والبروج جمع برج، وهو المجموعة العظيمة من النجوم، وسميت بروجًا لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها.

﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ اليوم الموعود: هو يوم القيامة الذي وعد الله الخلق أن يجمعهم فيه.

﴿وَشَاهِدٍ﴾ من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق.

﴿وَمَشْهُودٍ﴾ ما يشهد به الشاهدون على المجرمين من الجرائم  الفظيعة التي فعلوها بالشهود وأنفسهم، وهم كل من قتل في سبيل الله كما في قصة أصحاب الأخدود.

﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾.

﴿قُتِلَ﴾ يعني أهلك وعذب، وهو جواب القسم.

﴿أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ هم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار، حيث شقوا لهم شقًا في الأرض، وأضرموا فيه النار فألقوهم فيها وأحرقوهم.

﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ الوقود: الحطب الذي توقد به.

﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾ يعني: أن هؤلاء الذين حفروا الأخاديد وألقوا فيها المؤمنين كانوا، والعياذ بالله عندهم قوة وجبروت، يرون النار تلتهم هؤلاء البشر وهم قعود عليها على الأسرة، فيعرضون المؤمنين على الكفر، فمن أبى ألقوه فيها.

﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ يعني: هم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين، أي استحقوا هذه العقوبة أن الله أهلكهم ولعنهم، وهذا التعدي والظلم على عباد الله الصالحين كان سببه ما ذكره الله عز و جل والغرض تخويف كفار قريش، فقد كانوا يعذبون من أسلم من قومهم ليرجعوا عن الإسلام.

﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ أي: ما أنكر هؤلاء الذين سعروا النار بأجساد هؤلاء المؤمنين إلا هذا.

﴿إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ إلا أنهم آمنوا بالله؛ العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء.

﴿الْحَمِيدِ﴾ على وزن فعيل، فيكون بمعنى محمود، فالله سبحانه وتعالى محمود على كل حال.

﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: الذي اختص بملك السموات والأرض.

﴿وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي: مطلع عز وجل على كل شيء, وهذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود، ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين.

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ قال بعض السلف: انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة يقول:

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾.

﴿فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ بمعنى: عذبوا وأحرقوا المؤمنين والمؤمنات.

﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ أي: ثم لم يرجعوا إلى الله من معصيته إلى طاعته.

﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ لأنهم أحرقوا أولياء الله فكان جزاؤهم مثل عملهم جزاء وفاقًا.

﴿* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بقلوبهم، وهم الذين آمنوا بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فإن هذا هو الإيمان.

﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: عملوا الأعمال الصالحة بجوارحهم.

﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾.

﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ مَنْ جمع بين الإيمان وعمل الصالحات، لهم عند الله جنات متصفة بهذه الصفة.

﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ بعد البعث فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي: من تحت أشجارها وقصورها.

﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾.

﴿ذَلِكَ﴾ المشار  إليه الجنات وما فيها من النعيم.

والجنة ليست اسمًا لمجرد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور فحسب فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل، ومن أعظم نعيم الجنة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدًا فأيسر يسر من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك.

﴿الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ يعني: الذي به النجاة من كل مرهوب، وحصول كل مطلوب.

ثم ذكر الله عز وجل بعد الآيات السابقة قوته وعظمه وشدة بطشه بمن خالف أمره وذكر قصة فرعون وثمود وما جرى لهما، فقال تعالى:

﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾.

﴿إِنَّ بَطْشَ﴾ يعني: أخذه بالعقاب.

﴿رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ أي: عقابه شديد قوي.

﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾.

﴿إِنَّهُ﴾ أي: الله عز وجل.

﴿يُبْدِئُ﴾ كل شيء.

﴿وَيُعِيدُ﴾ يعني: أن الأمر إليه ابتداء وإعادة.

ولما ذكر قوته وانتقامه من المخالفين وشدة بطشه، ذكر رحمته وعفوه لمن أطاعه وتقرب إليه.

﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾.

﴿وَهُوَ الْغَفُورُ﴾ يعني: ذا المغفرة، الساتر لذنوب عباده, المتجاوز عنها، والمغفرة: ستر الذنب والعفو عنه، فليست المغفرة ستر الذنب فقط بل ستره وعدم المؤاخذة عليه.

﴿الْوَدُودُ﴾ مأخوذ من الود، والود هو خالص المحبة فهو جل وعلا، ودود، ومعنى ودود أنه محبوب وأنه حاب، كثير المحبة لمن أطاعه.

ثم بين عظمته وتمام سلطانه في قوله:

﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ أي: صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها وخلقه بهذا الوصف يدل على عظمة خالقه.

﴿الْمَجِيدُ﴾ المجد: هو النهاية في الكرم والفضل.

﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ هذا وصف الله تعالى بأنه الفعال لما يريد، إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون.

ثم لمَّا ذكر رحمته بعباده المؤمنين ورأفته بهم، ذكر أحداث بعض الأمم السابقة فقال تعالى:

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ والخطاب هنا موجه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصح أن يتوجه إليه بالخطاب، أي: هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟

﴿الْجُنُودِ﴾ جمع جند وهم الذين تجندوا على أولياء الله ثم بين من هم بقوله.

﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ يعني: هل أتاك خبرهم وقصتهم؟ والجواب: نعم أتانا خبرهم.

﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾ أي: أن الذين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في تكذيب، وكأنهم منغمسون في التكذيب.

﴿وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ يعني: أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب، لا يشذون عنه ولا عن علمه ولا عن سلطانه ولا عن عقابه، والإحاطة بالشيء، الحصر له من جميع جوانبه.

﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾.

﴿بَلْ هُوَ﴾ أي: ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.

﴿قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ أي: ذو عظمة ومجد متناه في الشرف والكرم والبركة، لأنه كلام الله عز وجل، وهو ليس كما يقولون: إنه شعر وكهانة وسحر.

﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ يعنيك بذلك اللوح المحفوظ عند الله عز وجل هو أم الكتاب.


 تفسير سورة الطارق

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ * وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾.

سورة الطارق سورة مكية، أقسم الله فيها ببعض مخلوقاته، فهو الذي خلق الخلق لعبادته، وطاعته، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وجعل عليهم ملائكة يحصون أعمالهم ويدونونها، وتنشر هذه الصحائف يوم الجزاء والحساب، وقد عظم الله، عز وجل، في هذه السورة قدر السماء في أعين الخلق لكونها معدن رزقهم ومسكن ملائكته وفيها خلق الجنة، وابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات الكواكب الساطعة قال تعالى:

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾.

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾ أقسم الله تعالى بالسماء والطارق، وكل منهما آية من آياته الدال على وحدانيته.

﴿وَالطَّارِقِ﴾ الكوكب، وسمي طارقًا؛ لأنه يأتي بالليل ويختفي بالنهار.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ استفهام للفت النظر إليه.

﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ هذا هو الطارق، والثاقب: المضيء الشديد الإضاءة.

﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ هذا جواب القسم: أي: ما كان نفس إلا عليها حافظ، عليها من أمر الله رقيب، وهم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون على كل نفس قولها وفعلها، ويحصون ما تكسب من خير وشر، وحتى يتيقن الإنسان من عظمة الله، عز وجل، وقدرته على ذلك، قال سبحانه.

﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ الفاء للدلالة على أنه يكون على كل نفس حافظ، يوجب على الإنسان أن يتفكر وليتدبر خلقته ومبدأه؛ فإنه مخلوق.

﴿مِمَّ خُلِقَ﴾ أي: من أي شيء خلقه الله.

﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ أي: مصبوب في الرحم، وهو ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماء واحدًا لامتزاجهما.

﴿يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ من بين صلب الرجل وترائب المرأة.

﴿وَالتَّرَائِبِ﴾ ترائب المرأة، وهو موضع القلادة من الصدر.

﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾.

﴿إِنَّهُ﴾ أي: الله عز وجل الذي أنشأه ورعاه.

﴿عَلَى رَجْعِهِ﴾ أي: على رجع الإنسان وإعادته بالبعث بعد الموت.

﴿لَقَادِرٌ﴾ لبين القدرة ، لا يعجز عنه، وذلك يوم القيامة.

﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ فالذي قدر على أن يخلق الإنسان من هذا الماء الدافق المهين، قادر على أن يعيده يوم القيامة يوم تختبر السرائر، والسرائر ما يسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها.

﴿فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾ أي: فما للإنسان من قوة في نفسه يمتنع بها عن عذاب الله، لا ناصر ولا معين ينقذه مما نزل به.

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾.

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ هذا هو القسم الثاني بالسماء.

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ الرجع هو المطر، يسمى رجعًا؛ لأنه يرجع ويتكرر، ومعلوم أن المطر به حياة الأرض.

﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ الصدع هو الانشقاق يعني التشقق بخروج النبات منه.

﴿إِنَّهُ﴾ أي القرآن.

﴿لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ وصفه الله تعالى بأنه قول فصل، يفصل بين الحق والباطل.

﴿وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ أي جد ليس بالهزل، وهو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالات، وتنفصل به الخصومات.

﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾.

﴿إِنَّهُمْ﴾ يعني الكفار المكذبين للرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن هؤلاء المكذبين الذين خلقوا من ماء دافق بلا حول ولا قوة.

﴿يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ أي: كيدًا عظيمًا، ويمكرون ويدبرون، في إبطال ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدين الحق.

﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ أي: استدرجهم من حيث لا يعلمون، وأجازيهم بمكرهم مكرًا أشد.

ثم قال عز وجل:

﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ مهل وأمهل معناهما واحد، يعني: انتظر بمهلة ولا تنتظر بمهلة طويلة، لا تعجل ولا تستبطئ الأمر، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال والهلاك.

﴿رُوَيْدًا﴾ أي: قليلا.


 تفسير سورة الأعلى

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾.

سورة الأعلى سورة مكية، كان - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها في صلاة العيد، وفي صلاة الشفع قبل الوتر، وفي صلاة الجمعة، فيها تنزيه الله عز وجل وذكر قدرته؛ فإنه جل جلاله مدبر الكون، عالم الخفيات، له الكمال المطلق في أسمائه وصفاته وأفعاله، شرع لعباده أن يسبحوه بكرة وأصيلاً, وقد سبح هو نفسه مفتتح عدد من السور، ومنها هذه السورة فقال تعالى:

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا﴾.

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ الخطاب هنا للرسول - صلى الله عليه وسلم -.

﴿سَبِّحِ﴾ يعني: نزِّهِ الله عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، والتسبيح والتمجيد: التنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله عز وجل.

﴿اسْمَ رَبِّكَ﴾ الرب معناه الخالق المالك المدبر لجميع الأمور.

﴿الْأَعْلَى﴾ من العلو.

﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾.

﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ صفة من صفات الله حيث أوجد من العدم جميع الكائنات.

﴿فَسَوَّى﴾ يعني: سوى ما خلقه على أحسن صورة.

﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ صفة أخرى من صفات الله حيث قدر كل شيء عز وجل.

﴿فَهَدَى﴾ يشمل الهداية الشرعية، والهداية الكونية.

﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ وهذه صفة ثالثة في هذه السورة من صفات الله عز وجل حيث أنبت العشب وما ترعاه الأنعام والنبات الأخضر.

﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ أي: فجعله، أي بعد أن كان أخضرَ.

﴿غُثَاءً﴾ أي هشيمًا جافًا.

﴿أَحْوَى﴾ أي: أسود بعد اخضراره، وذلك أن الكلأ إذا يبس أسود.

وقد ذكر سبحانه فيما سبق أربعة أمور عامة: الخلق والتسوية، والتقدير، والهداية وجعل التسوية من تمام الخلق، والهداية من تمام التقدير.

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ﴾.

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ هذا بشارة وعد من الله سبحانه وتعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقرئه القرآن ويجمعه في قلبه ولا ينساه الرسول.

﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ﴾ يعني: إلا ما شاء أن تنساه، فإن الأمر بيده، عز وجل.

﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾.

﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ﴾ أي: أن الله تعالى يعلم الجهر، ما يجهر به الإنسان ويتكلم به مسموعًا.

﴿وَمَا يَخْفَى﴾ أي: ما يكون خفيًا لا يظهر, فإن الله يعلمه.

﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ وهذا أيضًا وعد من الله عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام، أن ييسره لليسرى، واليسرى أن تكون أموره ميسرة، ولا سيما في طاعة الله عز وجل، فشريعته سمحة وجميع أحواله ميسرة.

﴿فَذَكِّرْ﴾ يعني ذكر الناس، ذكرهم بشرع الله وآيات الله، ذكرهم بأيام الله، عِظْهُمْ وأرشدهم إلى سبيل الخير.

﴿إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ يعني: في محلٍ تنفع فيه الذكرى والموعظة.

﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ سيتعظ بالقرآن من يخشى الله عز وجل أي: يخافه خوفًا عن علم بعظمة الخالق جل وعلا.

﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾ أي: يتجنب هذه الذكرى ولا ينتفع بها.

﴿الْأَشْقَى﴾ هنا اسم تفصيل من الشقاء وهو ضد السعادة.

﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا﴾ الذي يصلى النار الموصوفة بأنها.

﴿الْكُبْرَى﴾ وهي نار جهنم.

﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا﴾ أي: لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة ينتفع بها.

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾.

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾.

﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ مأخوذ من الفلاح، والفلاح كلمة جامعة، وهو: الفوز بالمطلوب.

﴿مَنْ تَزَكَّى﴾ مأخوذة من التزكية وهي التطهير.

﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ ذكر الله، واتصف بذكر الله وانصبغ به قلبه فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله خصوصًا الصلاة، فصلى خشوعًا وامتثالا لأمره.

﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.

﴿بَلْ﴾ أي: إنكم.

﴿تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أي: تفضلون وتقدمون حياة الدنيا على الآخرة.

﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ الآخرة خير من الدنيا وأبقى، خير بما فيها من النعيم والسرور الدائم الذي لا ينغص بكدر، كذلك أيضًا هي أبقى من الدنيا؛ لأن بقاء الدنيا قليل زائل مضمحل، بخلاف بقاء الآخرة فإنه أبد الآبدين.

وفي ختام الآيات تجيء الإشارة إلى قدم هذه الدعوة وعراقة منبتها، وامتداد جذورها في شعاب الزمن، وتوحد أصولها منذ القدم، حيث رسالات الأنبياء.

﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾

﴿إِنَّ هَذَا﴾ ما ذكر من كون الإنسان يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة وينسى الآخرة.

﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ أي: ثابت فيها؛ السابقة على هذه الأمة.

﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ وهي صحف جاء بها إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، تتابعت فيها أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا.

* * *


 تفسير سورة الغاشية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ * أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾.

سورة الغاشية سورة مكية، وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرؤها في صلاة العيد والجمعة، وقد ذكر الله عز وجل فيها مصير وحال أهل السعادة وأهل الشقاء، محذرًا ومبينًا رأفة وشفقة بالعباد حتى لا يضلوا ولا ينحرفوا، وفي هذه السورة ذكر لبيان شيء مما يجده أهل النار في النار، وما ينعم به أهل الجنة في الجنة قال تعالى:

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾.

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾

﴿هَلْ أَتَاكَ﴾ الاستفهام للتشويق إلى استماع الخبر، وللتنبيه والتفخيم لشأنها، أي: قد جاءك يا محمد.

﴿حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ أي: نبؤها وخبرها.

﴿الْغَاشِيَةِ﴾ هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس بأهوالها، والغاشية اسم من أسماء يوم القيامة.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ أي: إن الناس يكونون يوم القيامة فريقين:  الأول: وجوههم ذليلة خاضعة من الخزي والفضيحة.

﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ عاملة عملاً يكون به النصب، وهو التعب ولا أجر لهم عليه، لما هم عليه في الكفر والضلال.

﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ أي: تدخل في نار جهنم الشديدة الحرارة.

﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾.

﴿تُسْقَى﴾ أي: هذه الوجوه.

﴿مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ أي: حارة شديدة الحرارة.

﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ الضريع قالوا: إنه شجر ذو شوك عظيم إذا يبس لا يرعاه ولا البهائم.

﴿لَا يُسْمِنُ﴾ فلا ينفع الأبدان في ظاهره.

﴿وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ فلا ينفعها في باطنها، فهو لا خير فيه، ليس فيه إلا الشوك.

وبعد أن ذكر الله عز وجل حال أهل النار وما يلاقونه من عذاب وشقاء، بدأ في ذكر أصحاب الفريق الثاني، وهم أصحاب الجنة، ووصف حالهم وما هم فيه من النعيم والسعادة، فقال تعالى:

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ *﴾

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ أي: في نعمة وكرامة؛ ناعمة بما أعطاها الله عز وجل من السرور والثواب الجزيل، وهي وجوه أصحاب الفريق الثاني.

﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ أي: لعملها الذي عملته في الدنيا راضية, لأنها وصلت به إلى هذا النعيم وهذا السرور وهذا الفرح.

﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل، لأوليائه يوم القيامة. والعلو ضد السفول فهي فوق السماوات السبع.

﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾ أي: لا تسمع في هذه الجنة قولة لاغية، أو نفسًا لاغية.

﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾.

﴿فِيهَا عَيْنٌ﴾ أي: في الجنة عين ماء وهي ينبوع متدفق، وهو يجمع إلى الري الجمال.

﴿جَارِيَةٌ﴾ أي: تجري حيث أراد أهلها لا تحتاج إلى حفر ساقية ولا  إقامة أخدود.

﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ أي: في الجنة سرر عالية يجلسون عليها يتفكهون والارتفاع يوحي بالنظافة كما يوحي بالطهارة.

﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ الأكواب جمع كوب، وهو الكأس ونحوه.

﴿مَوْضُوعَةٌ﴾ يعنيك ليست مرفوعة عنهم، بل هي موضوعة لهم متى شاؤوا شربوا فيها من هذه الأنهار الأربعة.

﴿وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾ النمارق: جمع نمرقة، وهي الوسادة من الحرير والإستبرق.

﴿مَصْفُوفَةٌ﴾ مصفوفة مرتبة بعضها إلى بعض على أحسن وجه، تلتذ العين بها قبل أن يلتذ البدن بالاتكاء إليها.

﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ الزرابي: أعلى أنواع الفرش.

﴿مَبْثُوثَةٌ﴾ منشورة في كل مكان، ومفرقة في المجالس.

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه يعيدنا دائمًا إلى التفكر في المخلوقات، ومن خلقها، ومن المستحق العبادة، فهو سبحانه يذكر في الآيات القادمة مخلوقات قريبة يراها العرب صباحًا ومساء، وفي التفكر في عظم خلقها، وحسن صورتها وقوة تحملها؛ دعوة إلى عبادة من خلقها وأبدع خلقها قال سبحانه وتعالى.

﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾.

تجمع هذه الآيات الأربعة التالية مشاهد عظيمة، يصبح الإنسان ويمسي وهو يراها خاصة في بيئة مكة والعرب من حولها، فهي تبدأ النظر من الإبل، ثم ترتفع لتصل إلى الأعلى إلى السماء الأكثر ارتفاعًا والأكبر حجمًا ثم تنزل من علو إلى الجبال التي تجاهه وعلوها الأدنى من السماء، ثم تصل في النهاية إلى الأرض التي تحته وانبساطها وسهولتها! وكل ذلك تفكر في مخلوقات الله.

﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ وهذا الاستفهام، وبدأ بالإبل؛ لأن أكثر ما يلابس الناس في ذلك الوقت الإبل، فهم يركبونها ويحلبونها، ويأكلون لحمها، وينتفعون من أوبارها، وعلى ما هي عليه من الخلق البديع، من عظم جثتها ، وفريد قوتها، وبديع أوصافها.

﴿كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ يعني: كيف خلقها الله عز وجل، هذا الجسم الكبير المتحمل، تجد الإبل تمشي مسافات طويلة لا يبلغها الإنسان إلا بشق الأنفس وهي متحملة.

﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ يعني: وينظرون إلى السماء كيف رفعت هذا الارتفاع العظيم بلا عمد وبما فيها من النجوم، والشمس، والقمر.

﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ هذه الجبال العظيمة التي تحمل الصخور رفعت على الأرض، مرساة راسخة لا تميد ولا تميل ولا تزول.

﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ أي: مدت مدًا واسعًا وسهلت غاية التسهيل؛ ليستقر الخلائق على ظهرها، ويتمكنوا من حرثها وغرسها والبنيان فيها، وغير ذلك من الفوائد العظيمة.

بعد هذه الآيات وذكر المعجزات والمخلوقات يعيد سبحانه الكرة مرة أخرى للأصل الذي خلق من أجله الإنسان، ألا وهو عبادته سبحانه وما كلف به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الدعوة والقيام بأمرها، وأمره بالوعظ والتذكير فقال تعالى.

﴿فَذَكِّرْ﴾ أمر الله سبحانه وتعالى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر ويعظ ويخوف.

﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ أي: لست إلا مذكرًا مبلغًا؛ فإن مهمة الأنبياء البلاغ.

﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ يعني: ليس لك سلطة عليهم حتى تكرههم على الإيمان، فإن الهداية بيد الله عز وجل يهدي من يشاء.

﴿إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾.

﴿إِلَّا﴾ هنا بمعنى لكن.

﴿تَوَلَّى﴾ أعرض وتولى عن الوعظ.

﴿وَكَفَرَ﴾ أي: استكبر ولم يقبل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.

﴿فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾ والعذاب الأكبر عذاب جهنم الدائم يوم القيامة.

﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾ أي: مرجع الخلائق إلينا بعد الموت.

﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ محاسبهم، ومجازاتهم بأعمالهم بعد رجوعهم إلى الله بالبعث.


 تفسير سورة الفجر

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ * فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي * كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.

سورة الفجر سورة مكية ذكر الله عز وجل فيها حال بعض الأمم السابقة وقصص الأقوام الفانية، خاصة من كذبوا وتكبروا وطغوا، ثم ما جرى لهم من العذاب والنكال، وبيان سنة الله تعالى في ابتلاء العباد في هذه الحياة بالخير والشر، ثم ذكر سبحانه الآخرة وأهوالها وشدائدها وانقسام الناس يوم القيامة إلى سعداء وأشقياء ومنازل هؤلاء أولئك، وكل ذلك لأخذ العبرة من مآلهم والحذر من مخالفة أمر الله عز وجل قال سبحانه:

﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.

﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي﴾ كل هذه أقسامٌ أقسم الله عز وجل بها.

﴿وَالْفَجْرِ﴾ هو الصبح والنور الساطع الذي يكون في الأفق الشرقي قرب طلوع الشمس.

﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ أي: الليالي العشر الأولى من ذي الحجة.

﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ قيل: إن المراد به كل الخلق، فالخلق إما شفع وإما وتر، وقيل المراد بالشفع: يوما التشريق الأول والثاني اللذان يجوز التعجل فيهما والوتر اليوم الثالث.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي﴾ أي إذا جاء وأقبل واستمر ثم أدبر، والتقييد بسريانه لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة ونور النعمة.

﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ لذي عقل، أي: فمن كان ذا عقل ولب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به والاستفهام تقريري لفخامة شأن الأمور المقسم بها.

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾.

﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بقلبك وبصيرتك يا محمد.

﴿كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ أي: كيف فعل بهذه الأمة الطاغية وهي ﴿إِرَمَ﴾ وهذا هو جواب القسم.

ما الذي فعل بهم؟ وعاد قبيلة معروفة في جنوب الجزيرة العربية كانوا يسكنون بالأحقاف بين عمان وحضرموت، وقيل: اسم للقرية، أرسل الله تعالى إليهم هودًا، عليه الصلاة والسلام، فبلَّغهم الرسالة ولكنهم عتوًا وبغوا وقالوا: من أشد منا قوة.

﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ يعني: أصحاب الأبنية القوية.

﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ أي: لم يصنع مثلها في البلاد، لأنها قوية ومحكمة، وهذا هو الذي غرهم وقالوا: من أشد منا قوة؟

﴿وَثَمُودَ﴾ أي: وكذلك ثمود، وهم قوم صالح، ومساكنهم معروفة الآن.

﴿الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي﴾ أي: قطعوا الصخر ونحتوه، وذلك في وادي القرى الذي كانت تسكنه ثمود، وكانوا ينحتون الجبال وينقبونها بيوتًا يسكنون فيها.

﴿وَفِرْعَوْنَ﴾ فرعون هو الذي أرسل الله إليه موسى عليه الصلاة والسلام فكذب وطغى.

﴿ذِي الْأَوْتَادِ﴾ أي: ذي القوة التي يعذب الناس بها ويشدهم إليها.

﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ﴾ صفة لعاد وثمود وفرعون، والطغيان مجاوزة الحد.

﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ أي: بالكفر ومعاصي الله، والجور على عباد الله.

﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ﴾ الصب يكون من فوق، والعذاب الذي أتى هؤلاء من فوق من عند الله عز وجل، واستعمل لفظ الصب لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب.

﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾ السوط: هو العصا الذي يضرب به.

ثم لما ذكر الله، عز وجل، ما أرسل على كل طائفة من العذاب، فأهلكت عاد بالريح، وثمود بالصيحة، وفرعون وجنوده بالغرق، ذكر أنه سبحانه يرقب عمل الناس ويحصيه عليهم، ويجازيهم به، قال تعالى:

﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ الخطاب هنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يتوجه إليه الخطاب يبين الله عز وجل أنه بالمرصاد لكل من طغى واعتدى وتكبر، فإنه له بالمرصاد سوف يعاقبه ويؤاخذه ويأخذه أخذ عزيز مقتدر.

وبعد أن ذكر الله حال بعض الأمم السابقة من الطغيان والعصيان وأنه لهم بالمرصاد، ذكر ما يدل على اختلاف أحوال العباد، فذكر أنه سبحانه يبتلي بعض عباده بالغنى والبعض بالفقر لينظر كيف يفعلون؟ فإن قيمة العبد عند الله ومكانته لا تتعلق بما وهب له من الدنيا، وما ناله من الأموال والأولاد وعرض الدنيا الفانية: فهو سبحانه يعطي الصالح والطالح، والبر والفاجر، والمؤمن والكافر، ابتلاء لهم بالسراء للغني، وبالضراء للفقير، قال سبحانه:

﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي * كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾.

﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ الابتلاء من الله عز وجل يكون بالخير وبالشر، والابتلاء: الاختبار والامتحان.

﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ أي: أكرمه بالمال ووسع عليه رزقه، وجاد عليه بالجاه والصحة.

﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي﴾ يعني إنني أهل للإكرام، ولا يعترف بفضل الله عز وجل.

﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ﴾ اختبره  الله عز وجل وامتحنه.

﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ يعني: ضيق عليه الرزق ولم يوسعه له، ولا بسط له فيه.

﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِِ﴾ يقول إن الله تعالى ظلمني فأهانني ولم يرزقني كما رزق فلانًا، ولم يكرمني كما أكرم فلانًا فصار عند الرخاء لا يشكر، يعجب بنفسه ويقول: هذا حق لي، وعند الشدة لا يصبر بل يعترض على ربه ويقول:

﴿رَبِّي أَهَانَنِِ﴾ أنكر سبحانه على الإنسان قوله: "أكرمن وأهانن" لأنه قال ذلك على وجه الفخر والكبر لا على وجه الشكر. وهذا حال الإنسان باعتباره إنسانًا، أما المؤمن فليس كذلك, لأنه يعلم أن الكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره.

﴿كَلَّا﴾ يعني: لم يعطك ما أعطاك إكرامًا لك, لأنك مستحق، وليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم علي، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لدي، إنما الغنى والسعة ابتلاء من الله وامتحان؛ ليرى من يشكر ومن يكفر.

﴿بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ يعني: أنتم إذا أكرمكم الله عز وجل بالنعم لا تعطفون على المستحقين للإكرام وهم اليتامى، بما آتاكم الله من الغنى، ولو أكرمتموه لكان ذلك لكم كرامة عند الله.

﴿الْيَتِيمَ﴾ الفقير من اليتامى، والغني من اليتامى.

﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ يعني: لا يحض بعضكم بعضًا على أن يطعم المسكين، وإذا كان لا يحض غيره فهو أيضًا لا يفعله، فهو لا يطعم المسكين، ولا يحض على طعام المسكين.

﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾

﴿التُّرَاثَ﴾ ما يورثه الله العبد من المال، سواء ورثه عن ميت، أو باع واشترى وكسب، أو خرج إلى البر وأتى بما يأتي به من عشب وحطب وغير ذلك.

﴿أَكْلًا لَمًّا﴾ ذا لم، وهو الجمع بين الحلال والحرام، وكانوا يأكلون المال أكلاً شديدًا بنهم وطمع، حيث كانوا يأكلون ميراث الصغير والمرأة.

﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ أي: عظيمًا مع حرص وشَرَه، وهذا هو طبيعة الإنسان.

وكل هذه الأعمال السابقة من كفر النعمة وعدم شكرها والقيام بحقها تقع في الدنيا، ولهذا ذكر الله عز وجل، بعدها أحوال الآخرة وما يجري فيها حتى يتعظ الإنسان ويرجع عن غية فقال تعالى:

﴿كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.

يذكر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامة.

﴿كَلَّا﴾ للردع، أي: ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم ثم استأنف سبحانه فقال:

﴿إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ زلزلت وحركت تحريكًا بعد تحريم حتى لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا تدك الجبال، وتمد الأرض، وفيه وعيد لهم بعد الردع والزجر.

﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾.

﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ هذا المجيء هو مجيئه عز وجل لفصل القضاء بين عباده، ونؤمن بأن الله يجيء لكن مجيئًا يليق بجلاله.

﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ أي: الملائكة صفًا بعد صف.

﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ مزمومة والملائكة يجرونها، وعند هذا الموقف المهول.

﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ﴾ يعني: إذا جاء ا لله في يوم القيامة، وجاء الملك الملائكة صفوفًا صفوفًا وأحاطوا بالخلق، وحصلت الأهوال والأفزاع يتذكر الإنسان يتذكر أنه وعد بهذا اليوم، وأنه أعلم به من قبل الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنذروا وخوفوا.

﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ أين يكون له الذكرى في هذا اليوم الذي رأى فيه ما أخبر عنه يقينًا؟ فقد فات أوان الذكرى وذهب زمانها يقول متحسرًا على ما فرط في جنب الله يتمنى لكن لا يحصل.

﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ يتمنى أنه قدم لحياته هنا شيئًا، و"يا ليتني" أمنية فيها الحسرة الظاهرة.

﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ أي: لا يعذب عذاب الله أحد بل عذاب الله أشد.

﴿وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ ولا يوثق وثاق الله أحد، بل هو أشد ويوثق أي: يقيد ويؤمر.

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾.

﴿النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ يعني: المؤمنة الآمنة الموقنة الموحدة.

﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ﴾ يقال هذا القول للمؤمن عند النزع في آخر لحظة من الدنيا أي: ارجعي إلى الله.

﴿رَاضِيَةً﴾ بما أعطاك الله من النعيم.

﴿مَرْضِيَّةً﴾ عند الله عز وجل.

﴿* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ أي: في زمرة عبادي الصالحين وكوني في جملتهم.

﴿* وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ أي: جنته التي أعدها الله، عز وجل، لأوليائه، وأضافها إلى نفسه تشريفًا لها وتعظيمًا وإعلامًا للخلق بعنايته بها جل وعلا.


 تفسير سورة البلد

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾.

سورة البلد سورة مكية ذكر الله عز وجل في أولها ما قدر على الإنسان في هذه الدنيا، من المشقة والتعب والأكدار والأحزان والمكابدة ولهذا حث على الصبر والتحمل وعدم التضجر مما يبتلي به في هذه الدنيا ولينظر أيضًا لدار ليس فيها نكد ولا حزن وهي الجنة فتكون هدفه ومستقرة برحمة الله.:

﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾

﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾.

﴿لَا أُقْسِمُ﴾ لا. لاستفتاح الكلام وتوكيده، والقسم تأكيد الشيء بذكر معظم على وجه مخصوص.

﴿بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ البلد هنا مكة، وأقسم الله بها لشرفها وعظمها، فهي أعظم بقاع الأرض حرمة، وأحب بقاع الأرض إلى الله عز وجل.

﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ وأقسم الله بهذا البلد وهو مكة، الذي أنت مقيم به يا محمد تشريفًا لك وتعظيمًا لقدرك.

﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ يقسم سبحانه بالوالد وأولاده وما تناسل منهما تنبيهًا على عظم آية التناسل والتوالد ودلالتها على قدرة الله وحكمته وهو سبحانه أقسم على حال الإنسان، وأقسم بالبلد الأمين وهو مكة ثم أقسم بالوالد وما ولد، وهو آدم وذريته، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة، ومرجع العباد إلى آدم.

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ جواب القسم، مؤكد بثلاثة مؤكدات، وهي: القسم واللام وقد.

﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ الإنسان اسم جنس يشمل كل واحد من بني آدم.

﴿فِي كَبَدٍ﴾ مكابدة الأشياء ومعاناتها وشدتها، والآية تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما كان يكابده من كفار مكة.

ثم ذكر سبحانه في الآية التالية طبيعة الإنسان الجاحد بقدرة الله، والمكذب للبعث والنشور فقال تعالى:

﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ أي: أن الإنسان في نفسه وقوته يظن أن لن يبعث، ولا يقدر عليه أحد، ولا ينتقم منه أحد، وأتى ههنا بـ"لن"، الدالة على الاستقبال في مقابلة قوله تعالى: ﴿أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا﴾ فإن ذلك في الماضي.

﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا﴾ أي: أنفق مالاً كثيرًا في شهواته وفي ملذاته، وسمى الله عز وجل، الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا؛ لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسار والتعب والقلة.

﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ أيظن هذا أنه لا يراه أحد في تبذيره المال وصرفه فيما لا ينفع، وينسى أن عين الله عليه، وأن علمه محيط به.

فإن الإنسان قد يغتر بقوته ولا فضل له فيها، بل الله هو المنعم عليه بهذا القدر من القوة، وكل هذا تهديد للإنسان أن يتغطرس قال تعالى:

﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ ذكر الله عز وجل هنا ثلاث نعم من أكبر النعم على الإنسان.

﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ يعني: يبصر بهما ويرى، ومن هنا بدأ تعداد النعم العظيمة على الإنسان.

قرأ الفضيل بن عياض ليلة هذه الآية، فبكى فسئل عن بكائه، فقال: هل بت ليلة شاكرًا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما؟ هل بت ليلة شاكرًا لله أن جعل لك لسانًا تنطق به؟ وجعل يعدد من هذا الضرب.

﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ لسانًا: ينطق به، وشفتين: يضبط بهما النطق ويستعين بهما على الأكل والشرب.

﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ أي: بَيَّنَا له طريق الخير، وطريق الشر.

وقيل: دللناه على ما به غذاؤه وهو الثديان؛ فإنهما نجدان لارتفاعهما فوق الصدر.

وبعد أن ذكر عز وجل هذه النعم على عباده، ذكر عز وجل عقبة كؤودًا هي التي تقف بينه وبين الجنة لو تخطاها لوصل، وهو مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس، والهوى والشيطان، حتى ينال رضا الرحمن.

﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾.

﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ أي: الإنسان الذي كان يقول: ﴿أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا﴾.

﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ أي: وما أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفيه تعظيم لشأنها وتهويل.

﴿الْعَقَبَةَ﴾ هي الطريق في الجبل الوعر، واقتحام هذه العقبة شاق على النفوس، أي: أفلا نشط واخترق الموانع التي تحول بينه وبين طاعة الله.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ هذا الاستفهام للتشويق والتفخيم أيضًا.

وقد بينها الله في قوله: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ أي: هي عتق رقبة مملوك من الرق والعبودية.

﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾.

﴿أَوْ﴾ هذه للتنويع.

﴿إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ أي: ذي مجاعة شديدة، ويوم المجاعة الذي يعز فيه الطعام هو محك لحقيقة الإيمان وحب البذل في أوجه الخير.

﴿يَتِيمًا﴾ اليتيم هو من مات أبوه قبل أن يبلغ، سواء كان ذكرًا أم أنثى.

﴿ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ ذا قرابة من الإنسان، لأنه إذا كان يتيمًا كان له حظ من الإكرام والصدقات، وإذا كان قريبًا ازداد حظه من ذلك.

﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ المسكين: هو الذي لا يجد قوته ولا قوت عياله، والمتربة: مكان التراب، والمعنى: أنه مسكين ليس بيديه شيء إلا التراب.

﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.

﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني: ثم هو بعد ذلك ليس محسنًا إلى اليتامى والمساكين فقط، بل هو ذو إيمان, لأن هذه القرب والطاعات إنما تنفع مع الإيمان إذا أتى بها لوجه الله.

﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ أي: أوصى بعضهم بعضًا بالصبر على طاعة الله والصبر عن معاصيه، والصبر على ما أصابهم من البلايا والمصائب.

﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ أي: أوصى بعضهم بعضًا أن يرحم الآخرين من إعطاء محتاجهم، وتعليم جاهلهم، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية.

﴿أُولَئِكَ﴾ أي: هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات.

﴿أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ أي: أصحاب اليمين.

وقرن سبحانه بين الأبرار والفجار على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، لبيان المفارقة الهائلة بين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشرار.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: جحدوا بالقرآن.

﴿هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾.

﴿هُمْ﴾ الضمير هنا جاء للتوكيد.

﴿الْمَشْأَمَةِ﴾ يعني: الشمال أو الشؤم.

﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾ أي: عليهم نار مطبقة مغلقة أبوابها، لا يخرجون منها ولا يستطيعون سبيلاً.


 تفسير سورة الشمس

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾.

سورة الشمس سورة مكية، ذكر الله عز وجل فيها أن من أسباب الفوز والفلاح محاسبة النفس ومراجعتها وتعاهدها وبذلك تستقيم النفوس وتتزكى القلوب، والمسلم مأمور بذلك في كل حين ووقت، فإن ذلك أقرب للتوبة والعودة إلى الله عز وجل، ومحاسبة النفس قبل أن تحاسب.

وفي مطلق السورة يقسم الله عز وجل، بسبعة أشياء من مخلوقاته العظيمة، فأقسم تعالى بالشمس وضوئها الساطع، وبالقمر إذا أعقبها وهو طالع، ثم بالنهار إذا جلا ظلمة الليل بضيائه، وبالليل إذا غطى الكائنات بظلامه، ثم بالقادر الذي أحكم بناء السماء بلا عمد، وبالأرض التي بسطها على ماء جمد، وبالنفس البشرية التي كملها الله وزينها بالفضائل والكمالات، أقسم بهذه الأمور على فلاح الإنسان ونجاحه إذا اتقى الله، وعلى شقاوته وخسرانه إذا طغى وتمرد، قال سبحانه:

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *﴾ أقسم الله تعالى بالشمس وضحاها، وهو ضوؤها لما في ذلك من الآيات العظيمة الدالة على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى, وكمال علمه ورحمته، والضحى: وقت ارتفاع الشمس بعد طلوعها إذا تم ضياؤها.

﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ قيل: إذا تلاها في  السير بعد غروب الشمس، وحكمة القسم بالشمس أن العالم في وقت غيبة الشمس عنهم كالأموات، فإذا ظهر الصبح وبزغت الشمس دبت فيهم الحياة، وصار الأموات أحياء فانتشروا لأعمالهم وقت الصحوة، وهذه الحال تشبه أحوال القيامة، ووقت الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها، والشمس والقمر مخلوقات لمصالح البشر، والقسم بها للتنبيه على ما فيهما من المنافع العظيمة وقيل: إذا تلاها في الإضاءة.

﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾ إذا جلى الأرض وبينها ووضحها؛ لأنه نهار تتبين به الأشياء وتتضح.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ إذ يغطي الأرض حتى يكون كالعباءة المفروشة على شيء من الأشياء.

﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ أي: والسماء وبنائها.

﴿وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾ أي: بسطها من كل جانب.

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ أنشأها وسوى أعضاءها وركب فيها الروح وجعلها مستقيمة على الفطرة.

﴿فَأَلْهَمَهَا﴾ أي: الله عز وجل ألهم هذه النفوس وعرفها وأفهمها.

﴿فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ أي: عرفها، وأفهمهما طريق الخير وطريق الشر، وعلمها الطاعة والمعصية، وما فيهما من الحسن والقبح، والفجور هو ما يقابل التقوى.

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ جواب القسم والتقدير: لقد أفلح أي: فاز بالمطلوب ونجا من المرهوب، من زكى نفسه وأعلاها بالتقوى.

﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ أي: خسر من أرداها في المهالك والمعاصي والكفر والفسوق.

والمعنى: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وخاب من دساها بالمعاصي، فالطاعة تزكي النفس وتطهرها، فترتفع والمعاصي تدسي النفس، وتقمعها فتنخفض وتصير كالذي يدس في التراب.

وبعد هذه الآيات الكريمة ساق الله عز وجل قصة ثمود الذين بعث إليهم نبيه صالحًا عليه السلام فكذبوه وعصوا أمره وخالفوه وما جرى من وقوع العذاب عليهم فقال تعالى.

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾.

﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ ثمود اسم قبيلة، ونبيهم صالح عليه الصلاة والسلام وديارهم في الحجر معروفة في طريق الناس، هؤلاء كذبوا نبيهم صالحًا بسبب الطغيان، حملهم على التكذيب، والطغيان مجاوزة الحد في المعاصي.

﴿بِطَغْوَاهَا﴾ أي: بأجمعها.

﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ هذا بيان للطغيان الذي ذكره الله عز وجل وذلك حين.

﴿انْبَعَثَ﴾ يعني: انطلق بسرعة لعقر الناقة.

﴿أَشْقَاهَا﴾ أي: أشقى ثمود.

﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ﴾ صالح عليه السلام محذرًا وفي هذا إيضاح لمهمة الرسل وأنهم يجاهدون أقوامهم ويدلونهم على الخير.

﴿نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا﴾ أي: ذروا ناقة الله، وحذرهم أن يعقروها.

﴿وَسُقْيَاهَا﴾ شربها من الماء، فلا تتعرضوا له يوم شربها.

﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ أي: كذبوا صالحًا فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا.

﴿فَعَقَرُوهَا﴾ أي: فذبحوا الناقة، عقرًا حصل به الهلاك.

﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ﴾ أطبق عليهم فأهلكهم بسبب ذنوبهم، دمر عليهم وعمهم بعقابه، وأرسل عليهم الصيحة من فوقهم والرجفة من تحتهم فأصبحوا جاثمين على ركبهم، لا تجد منهم داعيًا ولا مجيبًا والدمدمة: هلاك باستئصال.

﴿فَسَوَّاهَا﴾ أي: فسوى الأرض عليهم, فجعلت تحت التراب.

﴿وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ يعني: أن الله لا يخاف من عاقبة هؤلاء الذين عذبهم وكيف يخاف وهو القادر القاهر الجبار الحكيم في كل ما قضاه وشرعه سبحانه وتعالى.


 تفسير سورة الليل

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى *﴾.

سورة الليل سورة مكية، جلى فيها سبحانه وتعالى حكمته وعدله وسبق ذلك بذكر بديع صنعه في الأكوان، وذكر أن من تمام عدله وحكمته أنه لا يضيع عمل المحسن ولا يغفل عمل المسيء، ومن ذلك أن يوفق المحسن للاستزادة من عمل الخير، ويحرم المسيء من الهداية لأفعال الخير فيستمر في أعمال الشر، وابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالليل إذا غشي الخليقة بظلامه وبالنهار إذا أنار الوجود بإشراقه وضيائه، وبالخلق العظيم الذي أوجد النوعين الذكر والأنثى، أقسم على أن عمل الخلائق مختلف وطريقهم متباين قال تعالى:

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ الواو للقسم، أقسم الله سبحانه وتعالى بالليل إذا يغشى يعني حين يغشى الأرض ويغطيها بظلامه.

﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ أي: إذا ظهر وبان وانكشف، فاستضاء الخلق بنوره.

﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ ما هنا هي الموصولة، أي: والذي خلق الذكر والأنثى، وهذا منه تعالى إقسام بخلقه لجنسي الذكر والأنثى بني آدم وغيرهم.

﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ هذا جواب القسم، يعني: إن عملكم.

﴿لَشَتَّى﴾ أي: لمتفرق تفرقًا عظيمًا، فمنه عمل للجنة، ومنه عمل للنار فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها.

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ أي: أعطى ما أمر بإعطائه من مال، أو جاه، أو علم في وجوه الخير.

﴿وَاتَّقَى﴾ اتقى ما أمر باتقائه من المحرمات.

﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ صدق بالقولة الحسنى، وهي قول الله عز وجل وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالخلف والعاقبة الحسنة من الله.

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ السين: هنا للتحقيق, أي: أن من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسيسره الله عز وجل لليسرى في أموره كلها، في أمور دينه ودنياه، نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصديق: اشترى ستة عبيد من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة، يعذبونهم في الله فأعتقهم.

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾ بماله، فلم يعط ما أمر بإعطائه فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما أوجب الله.

﴿وَاسْتَغْنَى﴾ استغنى عن الله، عز وجل، ولم يتق ربه، بل رأى أنه في غني عن رحمة الله، وزهد في الأجر والثواب.

﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾ أي: بالقولة الحسنى، وهي قول الله تعالى وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ ييسر للعسرى في أموره كلها فتتعسر عليه أسباب الخير والصلاح، ويضعف عن فعلها، فيؤديه ذلك إلى النار.

﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ﴾ يعني: أي شيء يغني عنه ماله إذا بخل به.

﴿إِذَا تَرَدَّى﴾ أي: هلك فأي شيء يغني المال؟ لا يغني شيئًا.

ثم ذكر جل وعلا، ما كتبه على نفسه، فضلاً منه بعباده ورحمة أن يبين الهدى لفطرة الناس ووعيهم، فلا تكون هناك حجة لأحد ولا يكون هناك ظلم لأحد قال تعالى:

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾.

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ فيه التزام من الله عز وجل، أن يبين للخلق ما يهتدون به إليه، وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب.

﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى﴾ يعني: لنا الآخرة والأولى وكل ما في الدنيا نتصرف به كيف نشاء، الأولى متقدمة على الآخرة في الزمن، ولكنه في هذه الآية أخرها.

ولما ذكر الله عز وجل في الآيات السابقة انقسام الناس إلى مصدق ومكذب، وباذل وممسك، ذكر جزاءهما في الآخرة فقال تعالى:

﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾.

﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا﴾ أي فحذرتكم يا أهل مكة نار الآخرة.

﴿تَلَظَّى﴾ تشعل وتتوقد وتتوهج.

﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾.

﴿لَا يَصْلَاهَا﴾ يعني: لا يحترق بها ولا يجد صلاها وهو حرها.

﴿إِلَّا الْأَشْقَى﴾ يعني: الذي قدرت له الشقاوة، والشقاوة ضد السعادة وهو المكذب بالدين والمعرض عنه.

﴿الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ أي: كذب بالحق الذي جاءت به الرسل.

﴿وَتَوَلَّى﴾ يعني: أعرض عن طاعة الله، وأعرض عما جاءت به رسله فهذا هو الشقي.

﴿وَسَيُجَنَّبُهَا﴾ أي: يجنب هذه النار التي تلظى ويبعد عنها.

﴿الْأَتْقَى﴾ والأتقى اسم تفضيل من التقوى يعني الذي اتقى الله تعالى حق تقاته.

﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾ يعني: يعطي ماله من يسحقه على وجه يتزكى به، أي: يطلب بذلك أن يكون عند الله زكيًا.

﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ أي: إنه لا يتصدق بماله ليجازي بصدقته نعمةً لأحد من الناس عنده ويكافئه عليها.

﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ فهو لا ينفق إلا طلب وجه الله، ولهذا كان من كمال الإخلاص أن لا يجعل العبد عليه منه لأحد من الناس، لتكون معاملته كلها لله ابتغاء وجهه، وطلب مرضاته، فكما أن هذه الغاية أعلى الغايات وهذا المطلوب أشرف المطالب، فهذا الطريق أقصر الطرق إليه وأقربها وأقومها.

﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ يعني سوف يرضيه الله عز وجل بما يعطيه من الثواب الكثير والجزاء العظيم.


 تفسير سورة الضحى

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.

سورة الضحى سورة مكية، تتناول شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وما حباه الله من الفضل والإنعام في الدنيا والآخرة، ليشكر الله على تلك النعم الجليلة.

وسبب نزولها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل يصلي لله عز وجل ويناجيه وفي ليلة مرض - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم لصلاة الليل ليلتين أو ثلاثًا واحتبس عنه الوحي، فأتته امرأة مشركة من قومه هي أم جميل امرأة أبي لهب، فقالت: يا محمد: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم يقربك ليلتين أو ثلاثًا فأنزل الله هذه السورة، وكلها نجاء له من ربه، وتسرية وتسلية وتطمئن، وقد أقسم عز وجل في هذه السورة بالضحى، والليل إذا سجى، على إنعامه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإكرامه له وإعطائه ما يرضيه وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد، وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته دالة على ربوبيته، وحكمته ورحمته، وهما الليل والنهار، وتأمل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي يوافي بعد الظلام للمقسم عليه، وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، وكذلك فإن فالق ظلمة الليل عن ضوء النهار، هو الذي فلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوة، وكذلك فإنه سبحانه اقتضت رحمته أن لا يترك عباده في ظلمة الليل سرمدًا، بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم لا يليق به أن يتركهم في ظلمة الجهل والغي، بل يهديهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم قال تعالى:

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.

﴿وَالضُّحَى﴾ أقسم الله عز وجل بالضحى هو أول النهار، وهو اسم لوقت ارتفاع الشمس.

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ وأقسم كذلك بالليل إذا سجى، أي: الليل إذا  غطى الأرض وسدل عليها ظلامه.

﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾ جواب القسم، أي: ما تركك وأهملك وما قطعت قطع المودع، ولم يقطع عنك الوحي، بل أنت في عنايته ورعايته سبحانه.

﴿وَمَا قَلَى﴾ أي: وما أبغضك.

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ هذه الجملة مؤكدة باللام، لام الابتداء وما زال - صلى الله عليه وسلم - يصعد في درج المعالي في الدنيا، ويمكن له الله دينه وينصره على أعدائه، ويسدد له أحواله ثم في الآخرة الجنة خير لك من الدنيا، هذا مع ما قد أوتي في الدنيا من شرف النبوة، والآخرة باقية والدنيا فانية.

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾.

﴿وَلَسَوْفَ﴾ اللام هذه أيضًا للتوكيد، وهي موطئة للقسم.

﴿يُعْطِيكَ رَبُّكَ﴾ أي: يعطيك ما يرضيك فترضى، الفتح في الدين، والثواب والحوض والشفاعة لأمته في الآخرة فترضى، ثم امتن عليه بما يعلمه من أحواله الخاصة، وشرع في تعداد ما أفاضه الله عليه من النعم فقال سبحانه.

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ الاستفهام هنا للتقرير، يعني قد وجدك الله تعالى يتيمًا فآواك يتيمًا من الأب، ويتيمًا من الأم فإن أباه - صلى الله عليه وسلم - توفي قبل أن يولد فضمك إلى من يكفلك ويرعاك.

﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾.

﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ أي: غير عالم، لم تكن تدري القرآن ولا الشرائع، فهداك لذلك.

﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا﴾ أي: وجدك فقيرًا ذا عيال لا تملك شيئًا.

﴿فَأَغْنَى﴾ أي: أغناك وأغنى بك بما أعطاك من الرزق، وفي مقابل هذه النعم، عليك بشكرها وأداء حقها، فهو سبحانه قرر بنعم ثلاث وأتبعهن بوصايا ثلاث، كل واحدة من الوصايا شكر النعمة التي قوبلت بها فإحداهن ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ هذا في مقابلة: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا﴾ فلا تتسلط على اليتيم بالظلم لضعفه بل ادفع إليه حقه واذكر يتمك.

﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ هذا في مقابل ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ لا تنهر السائل إذا سألك فقد كنت فقيرًا, فإما أن تطعمه وإما أن ترده ردًا لينًا ويدخل في هذا السائل للعلم والسائل للمال.

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ فقابلها بقوله: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾.

﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ نعمة الله تعالى على الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي ذكرت في هذه الآيات ثلاث نعم: وأمره الله سبحانه بالتحدث بنعم الله عليه وإظهارها بينهم، والتحدث بنعمة الله شكر.

والفرق بين التحدث بنعم الله والفخر بها: أن المتحدث بالنعمة مخبر عن صفات وليها ومحض جوده، وإحسانه فهو مثن عليه بإظهارها والتحدث بها شاكر له، ناشر لجميع ما أولاه، مقصوده بذلك إظهار صفات الله ومدحه والثناء عليه، وبعث النفس على الطلب منه دون غيره، وعلى محبته ورجائه فيكون راغبًا إلى الله بإظهار نعمه ونشرها والتحدث بها وأما الفخر بالنعم فهو أن يستطيل بها على الناس، ويريهم أنه أعز منهم وأكبر فيركب أعناقهم ويستعبد قلوبهم ويستميلها إليه بالتعظيم والخدمة، وكذلك كسر قلوبهم والتفاخر بأنه هو المستحق لها دونهم.


 تفسير سورة الشرح

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾.

سورة الشرح سورة مكية، تتحدث عن مكانة الرسول الجليلة، ومقامه الرفيع عند الله تعالى، وقد ذكر الله عز وجل فيها ما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - من أحداث، فبينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير يلعب مع الصبيان، إذ جاءه جبريل عليه السلام، فألقاه على ظهره ثم شرح (شق) صدره واستخرج قلبه وشقه، وأخرج منه قطعة سوداء وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل قلبه بماء زمزم في طست من ذهب، ثم أعاده إلى مكانه يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: بقي أثر المخيط في صدره - صلى الله عليه وسلم - فحصل بذلك شرح صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حسيًا بشقه وإخراج القطعة السوداء من قلبه، كما شرح صدره معنويًا بنور الإيمان والنبوة، وقد امتن الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال سبحانه وتعالى:

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾.

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ هذا الاستفهام استفهام تقرير، ذكر سبحانه وتعالى موضحًا ومبينًا نعمته على نبينه محمد، يا محمد، قد شرحنا لك صدرك لقبول النبوة، ومن هنا قام بما قام به من الدعوة، وقدر على حمل أعباء النبوة وتكاليفها.

﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ وضعناه أي: طرحناه، وعفونا، وسامحنا، وتجاوزنا عنك، وقد غفر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

﴿وِزْرَكَ﴾ أي: إثمك.

﴿الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ يعني: أقضه وآلمه وأثقله.

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ في الدنيا والآخرة.

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ هذا بشارة من الله عز وجل للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولسائر الأمة، فإن مع الضيق سعة، ومع الشدة رخاء ومع الكرب فرج.

﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ أي: إن مع ذلك العسر المذكور سابقًا يسرًا آخر وهذا من نعم الله عز وجل.

﴿* فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ أي: إذا فرغت من أعمالك وصلاتك، أو من التبليغ، فاجتهد في الدعاء، واطلب من الله حاجتك، أو فانصب في العبادة.

﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ أي: اضرع إليه وحده سبحانه رهبًا من النار راغبًا في الجنة.

﴿فَارْغَبْ﴾ أي: فانصب لعمل آخر، يعني اتعب لعمل آخر، واجعل رغبتك إليه خصوصًا، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه، مفوضًا أمرك له.


 تفسير سورة التين

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾

سورة التين سورة مكية، امتن الله فيها على عباده أن خلقهم في أحسن صورة وأفضلها، مؤكدًا بهذا نعم الله عليهم، ومؤكدًا ومدللاً أن من خلق هذه الخلق وسواها قادر على بعث الإنسان بعد موته، كما أنه بحكمته وعدله خلق هذا الكمال في الإنسان, ولم يتركه هملاً فلا يكلفه ولا يجازيه على عمله، فاقتضت حكمته سبحانه أن يبعثهم ويجازيهم على أعمالهم وابتدأت السورة بالقسم بالبقاع المقدسة والأماكن المشرفة، التي خصها الله تعالى بإنزال الوحي فيها على أنبيائه ورسله على أنه تعالى كرم الإنسان فخلقه في أجمل صورة وأبدع شكل قال تعالى:

﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾.

﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ أقسم الله تعالى بهذه الأشياء الأربعة: التين، والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين يعني: مكة.

﴿وَالتِّينِ﴾ هو الثمر المعروف الذي يأكله الناس.

﴿وَالزَّيْتُونِ﴾ الذي يعصرون منه الزيت، وأقسم الله بهما لبركتهما وعظيم منفعتهما, ولأنهما يكثران في فلسطين.

﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ أقسم الله به لأنه الجبل الذي كلم الله عنده موسى - صلى الله عليه وسلم - وهو طور سيناء ذو الشجر الكثير، الحسن المبارك، سمي "سينين" و"سيناء" الحسنة ولكونه مباركًا.

﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ أقسم الله بالبلد الأمين وهو مكة، لأنها أحب البقاع إلى الله، وأشرف البقاع  عند الله عز وجل وهي البلد التي يأمن فيها من دخلها على نفسه وماله كأنما يقسم الله تعالى بهذه المواضع الثلاثة, لأنها مهابط وحي الله تعالى على موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وفيها أنزلت الكتب السماوية الثلاثة.

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ هذا هو المقسم عليه، أقسم الله تعالى أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، خلقه مديد القامة يتناول مأكولة بيده، وخلقه عالمًا متعلمًا مدبرًا حكيمًا.

﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ هذه الردة التي ذكرها الله عز وجل تعني أن الله تعالى يرد الإنسان أسفل سافلين خلقة، يرد إلى أرذل العمر، وهو الهرم والضعف بعد الشباب والفتوة.

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ هذا استثناء من قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ يعني: إلا المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات, فإنهم لا يردون إلى أسفل السافلين، لأنهم متمسكون بإيمانهم وأعمالهم، فيبقون عليها إلى أن يموتوا.

﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ﴾ أي ثواب وجزاء.

﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ غير مقطوع، ولا ممنون به أيضًا، بل لذات متوافرة وأفراح متواترة، ونعم متكاثرة.

﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ أي: أي شيء يكذبك أيها الإنسان بيوم الجزاء بعد هذا البيان وهذا الإيضاح، والاستفهام للتقريع والتوبيخ وإلزام الحجة.

﴿بِالدِّينِ﴾ أي: بما أمر الله به من الدين.

﴿أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ هذا الاستفهام للتقرير، يقرر الله عز وجل أنه أحكم الحاكمين قضاء وعدلاً لا يجور ولا يظلم أحدًا وفيه وعيد شديد للكفار.

وفي هذا تقرير لمضمون السورة، من إثبات النبوة، والتوحيد والمعاد وحكمه بتضمن نصره لرسوله على من كذبه، وجحد ما جاء به، بالحجة والقدرة والظهور عليه، وحكمه بين عباده في الدنيا بشرعه، وأمره، وحكمه بينهم في الآخرة بثوابه وعقابه، وإن أحكم الحاكمين لا يليق به تعطيل هذه الأحكام بعدما ظهرت حكمته في خلق الإنسان في أحسن تقويم، ونقله في أطوار التخليق حالاً بعد حال، إلى أكمل الأحوال، فكيف يليق بأحكم الحاكمين، أن لا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟ وهل ذلك إلا قدح في حكمه وحكمته، فسبحانه وتعالى من حكيم.


 تفسير سورة العلق

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾.

سورة اقرأ سورة مكية، وهذه الآيات أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام، من القرآن الكريم، نزلت عليه وهو يتعبد في غار حراء حيث كان يقضي الأيام والليالي متعبدًا لله عز وجل منعزلاً عن الناس فجاءه جبريل فقال له: اقرأ فقال: ما أنا بقارئ فعل ذلك ثلاث مرات ثم قال له:

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ أي: اقرأ يا محمد.

﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ قيل معناه مبتدئًا باسم ربك، وقيل: مستعينًا باسم ربك.

﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ أي: خلق كل شيء، وفي هذا تذكير بالنعمة.

﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ خص الله تعالى خلق الإنسان تكريمًا للإنسان وتشريفًا له لما أودعه من عجائبه وآياته الدالة على ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وكمال رحمته، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه.

﴿مِنْ عَلَقٍ﴾ اسم جمع علقة، كشجر اسم جمع شجرة، والعلق: عبارة عن دم جامد معلق في رحم المرأة، وهذا هو المنشأ الذي به الحياة يبدأ نطفة ثم يحول بقدرة الله إلى علقة.

﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ أي: من كرمه وجوده وإحسانه أن يمكنك من القراءة وأنت أمي، وقد دل على كمال كرمه أنه علم العباد ما لم يعلموا.

﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ لأن التعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع، وهو الأكثر نفعًا والأطول بقاء، فما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة.

﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ أي: علمه بالقلم من الأمور ما لم يعلم منها، فدل  على كمال كرمه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم.

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾.

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾.

﴿كَلَّا﴾ بمعنى حقًا.

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ كل إنسان من بني آدم إذا رأى نفسه استغنى، فإنه يطغى ويتكبر ويتمرد، من الطغيان وهو مجاوزة الحد.

﴿أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ أي: من أجل أن رأى نفسه غنيًا، وأصبح ذا ثروة ومال أشر وبطر، ثم توعده وتهدده بقوله:

﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ أي: المرجع، أي: مهما طغيت أيها الإنسان وعلوت واستكبرت واستغنيت فإن مرجعك إلى الله عز وجل بعد الموت.

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾ تعجب من حال هذه الرجل الذي ينهى عبدًا إذا صلى، أي: أخبرني عن حال هذا الرجل.

﴿عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾ الذي ينهى، هو أبو جهل، قيل له: إن محمدًا يصلي عند الكعبة أمام الناس، يفتن الناس ويصدهم عن أصنامهم وآلهتهم، فمر به ذات يوم وهو ساجد فنهى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: لقد نهيتك فلماذا تفعل؟ فانتهره النبي عليه الصلاة والسلام فرجع ثم قيل لأبي جهل: إنه- أي: محمدًا - صلى الله عليه وسلم -- ما زال يصلي فقال: والله لئن رأيته لأطأن عنقه بقدمي، ولأعفرن وجهه بالتراب، فلما رآه ذات يوم ساجدًا تحت الكعبة وأقبل عليه يريد أن يبر بيمينه وقسمه، لما أقبل عليه وجد بينه وبينه خندقًا من النار وأهوال عظيمة، فنكص على عقبيه وعجز أن يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾.

﴿أَرَأَيْتَ﴾ يعني: أخبرني أيها المخاطب إن كان هذا الساجد محمد - صلى الله عليه وسلم - على الهدى فكيف تنهاه عنه.

﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ أي: أو أمر غيره بالإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تتقي به النار.

﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ﴾ أي: الناهي بالحق.

﴿وَتَوَلَّى﴾ عن الأمر، أما يخاف الله ويخشى عقابه.

﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾ يعني يرى المنهي وهو الساجد محمد - صلى الله عليه وسلم - الآمر بالتقوى، ويرى هذا العبد الطاغية الذي ينهى عبدًا إذا صلى.

﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾.

﴿كَلَّا﴾ هذه بمعنى حقًا، ويحتمل أن تكون للردع والزجر، والله لئن لم ينه لنسفعًا بالناصية.

﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ عما هو فيه من الضلال.

﴿لَنَسْفَعًا﴾ أي: لنأخذن بشدة.

﴿بِالنَّاصِيَةِ﴾ الناصية: شعر مقدم الرأس، نأخذها بشدة ويجر بها إلى النار.

﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ أي: صاحبها.

﴿كَاذِبَةٍ﴾ أي: أنها موصوفة بالكذب في قولها.

﴿خَاطِئَةٍ﴾ أي: مرتكبة للخطأ عمدًا في فعلها.

﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ يعني: إن كان صادقًا وعنده قوة، وعنده قدرة فليدعُ ناديه، والنادي هو مجتمع القوم ومجلسهم، قيل: إن أبا جهل قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتهددني وأنا  أكثر أهل الوادي ناديا وقومًا وعشيرة! فنزلت.

﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ الزبانية ملائكة النار الغلاظ الشداد.

﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾.

﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ﴾ أي: لا تطع هذا الذي ينهاك عن الصلاة.

﴿وَاسْجُدْ﴾ أي: صلِّ لله واسجد ولا تبالِ به غير مكترث به.

﴿وَاقْتَرِبْ﴾ أي: اقترب من الله عز وجل بالطاعة والعبادة.


 تفسير سورة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.

سورة القدر سورة مكية، تحدثت عن بدء نزول القرآن العظيم، وذكر الله عز وجل فيها من كرمه وجوده بعض ما خص به هذه الأمة من فضائل عظيمة، ولعلمه، سبحانه بقصر أعمارهم، عوضهم من الأيام ما يوافي أجورًا عظيمة، ومن ذلك ليلة القدر التي العمل فيها خير من ألف شهر فقال تعالى:

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله.

﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ يعود إلى القرآن، الذي عظمه سبحانه حيث أسند إنزاله إليه دون غيره.

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ تبين أن ليلة القدر في رمضان، والقدر هو الشرف والفضل، ثم فخم شأنها وعظم قدرها فقال:

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *﴾ تعظيم وتفخيم لأمرها، أي: ما أعلمك ليلة القدر وشأنها وشرفها وعظمها، وسميت ليلة القدر لأن الله سبحانه يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة.

﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ *﴾ أي: العمل فيها، وهي ليلة واحدة، خير من العمل في ألف شهر.

﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ أي: تنزل شيئًا فشيئًا؛ لأن الملائكة سكان السموات، والسموات سبع، فتتنزل الملائكة إلى الأرض شيئًا فشيئًا حتى تملأ الأرض.

﴿وَالرُّوحُ﴾ هو جبريل عليه السلام خصه الله بالذكر لشرفه وفضله.

﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ أي: بأمره سبحانه وتعالى.

﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ أي: بكل أمر، مما يأمرهم الله به.

﴿* سَلَامٌ هِيَ﴾ أي: هذه الليلة سلام، ووصفها الله تعالى بالسلام لكثرة من يسلم فيها من الآثام وعقوباتها.

﴿حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ تتنزل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر، أي: إلى مطلع الفجر وانبثاقه، وإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر.


 تفسير سورة البينة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾.

سورة البينة سورة مدنية ذكر الله فيها أحوال الأمم السابقة، فإنه قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الناس يعيشون في ظلمات الكفر والشرك من عبادة الأصنام والنجوم والكواكب، والأشجار والأحجار فبعث الله محمدًا هاديًا ومبشرًا بهذا الدين العظيم، دين الفطرة الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده، وابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن اليهود والنصارى، وموقفهم من دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بان لهم الحق وسطعت أواره وبعد أن عرفوا أوصاف النبي المبعوث آخر الزمان، وكانوا ينتظرون بعثته ومجيئه فلما بعث خاتم الرسل كذبوا برسالته وكفروا وعاندوا قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ *﴾

﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ﴾.

﴿لَمْ يَكُنِ﴾ يعني: ما كان الكفار.

﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.

﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اليهود وكتابهم التوراة، والنصارى وكتابهم الإنجيل.

﴿وَالْمُشْرِكِينَ﴾ المشركون هم عبدة الأوثان من كل جنس من بني إسرائيل ومن العرب ومن غيرهم.

﴿مُنْفَكِّينَ﴾ أي: تاركين لما هم عليه من الشرك والكفر ولا منتهين عنه.

﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ أي: إلى أن تأتي البينة؛ والبينة: ما بين به الحق في كل شيء، وهو القرآن ومحمد - صلى الله عليه وسلم -.

﴿رَسُولٌ﴾ هو النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكره باسم الرسول تعظيمًا له.

﴿مِنَ اللهِ﴾ يعني: أن الله أرسله إلى العالمين بشيرًا ونذيرًا.

﴿يَتْلُو﴾ يقرأ لنفسه وللناس.

﴿صُحُفًا﴾ جمع صحيفة، وهي الورقة أو اللوح أو ما أشبه ذلك مما يكتب به.

﴿مُطَهَّرَةً *﴾ أي: منقاة من الشرك والباطل،  ومن رذائل الأخلاق مصونة عن التحريف واللبس.

﴿فِيهَا﴾ أي: في هذه الصحف.

﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ كتب: أي مكتوبات قيمة من الآيات والأحكام، والقيمة: المستقيمة المستوية المحكمة.

﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ أي: أن تفرقهم واختلافهم لم يكن لاشتباه الأمر، بل كان بعد وضوح الحق، وظهور الصواب، ثم بعث الله محمدًا فآمن به بعضهم وكفر آخرون.

﴿وَمَا أُمِرُوا﴾ في الكتب المنزلة، وفي القرآن أيضًا، وهذا يبين أن الأدباء السماوية أصلها واحد.

﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ليلتزموا بعبادة الله، وتكون عبادتهم له خالصة لا يشركون به شيئًا.

﴿حُنَفَاءَ﴾ مائلون من الشرك إلى التوحيد، مستقيمون على ملة إبراهيم عليه السلام ودين محمد - صلى الله عليه وسلم -.

﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ أي: يفعلوا الصلوات في أوقاتها ويعطوا الزكاة عند محلها، وخص الصلاة والزكاة، لأنهما من أعظم أركان الدين.

﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ أي: إن ذلك الدين هو دين الملة المستقيمة من الإخلاص والصلاة والزكاة، فلا ينبغي التفرق عنه.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾.

بين الله تعالى في أول السورة كفر اليهود والنصارى والمشركين، وأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى, كانوا ينتظرون بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بعث تفرقوا فيه فمنهم من آمن به، وكفر به أكثرهم، وكذلك الناس منهم المؤمن والكافر به، عليه الصلاة والسلام وهذه الآيات تبين مآل الفريقين وجزاءهم كما قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ بين الله تعالى في هذه الآية بيانًا مؤكدًا بـ (إن) إن الذين كفروا من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، والمشركين وهم عباد الأوثان والأصنام وغيرها.

﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ أي: في النار التي تسمى جهنم، وسميت جهنم، لبعد قعرها وسوادها.

﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ لا يفتر عنهم العذاب، ولا يخرجون منها ولا يموتون.

﴿أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ أي: شر الخليقة حالا, لأنهم عرفوا الحق وتركوه وخسروا الدنيا والآخرة.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ خير خلق الله عز وجل هم الذين آمنوا به وبرسله وعملوا الصالحات التي أمروا بها.

﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ قدم الله الثناء على المؤمنين الذين عملوا الصالحات على ذكر جزائهم ثم ذكر جزاءهم.

﴿جَنَّاتُ﴾ جمعها لاختلاف أنواعها.

﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ العدن بمعنى الإقامة والاستقرار في المكان وعدم النزوح عنه.

﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ من تحت قصورها وأشجارها، وإلا فهو على سطحها وليس أسفل.

﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: ماكثين فيها أبدًا، لا يموتون ولا يمرضون، ولا يبأسون، ولا يألمون،  ولا يحزنون ولا يمسهم فيها نصب، وهم في نعيم دائم لا ينقطع.

﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ وهذا أكمل نعيم، أن الله تعالى يرضى عنهم، فيحل عليهم رضوانه, فلا يسخط بعده أبدًا، ورضوا عنه بما أكرمهم به من النعيم.

﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ أي: ذلك الجزاء والإحسان والرضا، حاصل لمن خشي الله عز وجل، والخشية هي خوف الله عز وجل المقرون بالهيبة والتعظيم.


 تفسير سورة الزلزلة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

سورة الزلزلة سورة مكية، ذكر الله فيها من عظيم صنعه في الكون، أن الأرض مستقرة لا تتحرك ولا تضطرب حتى يعيش عليها الإنسان عيشة طيبة هنية وفي يوم القيامة تتبدل الأحوال وتتغير الأوضاع, فتضطرب الأرض وتهتز ويندك كل صرح شامخ, وينهار كل جبل راسخ، وتخرج الأرض ما في جوفها من الأجساد والكنوز كما قال تعالى.

﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ﴾ أي: اضطربت اضطرابًا شديدًا وحُركت حركة عنيفة.

﴿زِلْزَالَهَا﴾ يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قط.

﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ ما في جوفها من الأموات وأصحاب القبور والكنوز وغيرها.

﴿وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾ يعني: أن الإنسان البشر إذا رأى ما جرى لها من الأمر العظيم مستعظمًا لذلك متعجبًا، يقول: ما لها؟ ولأي شيء زلزلت وأخرجت أثقالها؟

﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي: في ذلك اليوم إذا زلزلت.

﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ أي: تخبر الأرض عما فعل الناس عليها من خير أو شر، ينطقها الله سبحانه؛ لتشهد على العباد.

﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ أي: تحدث أخبارها بوحي الله وأمره لها بأن تتحدث وتشهد.

﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يعني: يومئذ تزلزل الأرض زلزالها.

﴿يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا﴾ أي: يرجع الخلائق من موقف الحساب، وينصرفون متفرقين فرقًا فرقًا وجماعات جماعات، متفرقين يصدرون من قبورهم كل يتجه إلى مأواه.

﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ يصدرون أشتاتًا فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ﴾ في الدنيا.

﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يعني: وزن ذرة، والمراد بالذرة: صغار النمل كما هو معروف.

﴿خَيْرًا يَرَهُ﴾ يوم القيامة.

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ﴾ في الدنيا.

﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ يوم القيامة فيسوؤه.

وفي الآيات غاية الترغيب في فعل الخير ولو كان قليلاً والترهيب من فعل الشر ولو كان حقيرًا.


 تفسير سورة العاديات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾.

سورة العاديات سورة مكية يذكر الله عز وجل عباده فيها بيوم القيامة، وموقف الجزاء والحساب، ليكون الناس على أهبة الاستعداد، ولا تشغلهم الدنيا عن الآخرة، و الفانية عن الباقية وفي هذه السورة يقسم الله سبحانه بخيل المعركة، ويصف حركتها واحدة واحدة، منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرة للنقع والغبار، وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب قال تعالى:

﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾.

﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾ هذا قسم من الله عز وجل.

﴿وَالْعَادِيَاتِ﴾ المراد بها الخيل التي تعدو بفرسانها المجاهدين في سبيل الله

﴿ضَبْحًا﴾ الضبح: ما يسمع من أجواف الخيل حين تعدو بسرعة.

﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾ الموريات: من أورى أو ورى بمعنى قدح، هي الخيل حين توري النار فيخرج الشرر بحوافرها إذا ضربت بها الأرض الشديدة كالقدح بالزناد.

﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ أي: التي تغير على عدوها في الصباح.

﴿فَأَثَرْنَ بِهِ﴾ أي: أثرن بعدوهن وغارتهن.

﴿نَقْعًا﴾ وهو الغبار الذي يثور من شدة السعي.

﴿فَوَسَطْنَ بِهِ﴾ أي: براكبهن.

﴿جَمْعًا﴾ أي: توسطن به جموعًا من الأعداء الذين أغار عليهم.

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ هذا جواب القسم.

﴿لَكَنُودٌ﴾ أي: كفور لنعمة الله عز وجل الكثير الجحد لها.

﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ أي الإنسان، يشهد على نفسه بالجحد والكفران لظهور أثره عليه.

﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ أي الإنسان لحب المال قوي مجد في طلبه و تحصيله، وحبه لذلك هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة، قدم شهوة نفسه على حق ربه.

﴿أَفَلَا يَعْلَمُ﴾ الإنسان ويتيقن فيعمل لذلك ولا يكن همه المال، والاستفهام للإنكار.

﴿إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾ نشر وأظهر فإن الناس يخرجون من قبورهم لرب العالمين لحشرهم ونشورهم.

﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ أي: ما في القلوب في النيات وما استتر في الصدور من كمائن الخير والشر، فصار الشر علانية والباطن ظاهرًا.

﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾ أي: إن الله عز وجل.

﴿بِهِمْ﴾ أي: بالعباد.

﴿لَخَبِيرٌ﴾ أي: يوم الجزاء والحساب، خبير بهم لا تخفى عليه منهم خافية في ذلك اليوم وفي غيره.


 تفسير سورة القارعة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.

سورة القارعة سورة مكية، ذكر الله فيها يوم القيامة يوم الجزاء والحساب ويوم الفصل بين العباد، يوم توزن فيه أعمال الخلائق؛ فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته أدخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته أدخل النار، وسورة القارعة تقرر هذه الأمور للاستعداد والتأهب، ومن قبل التوبة والامتثال والطاعة لرب الأرباب، وسورة القارعة كلها عن يوم القيامة حقيقتها وما يقع فيها، وما تنتهي إليه، فهي تعرض مشهدًا من مشاهد القيامة كخروج الناس من قبورهم وانتشارهم في ذلك اليوم الرهيب كالفراش المتطاير، المنتشر هنا وهناك يجيئون ويذهبون على غير نظام من شدة حيرتهم وفزعهم وذكر الله عز وجل فيها نسف الجبال وتطايرها قال تعالى:

﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.

﴿الْقَارِعَةُ﴾ اسم فاعل من قرع، والمراد: التي تقرع القلوب وتفزعها وذلك عند النفخ في الصور، والقارعة من أسماء القيامة.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ هذا زيادة في التفخيم والتعظيم والتهويل للالتفات والتنبيه لهذا اليوم العظيم، أي: القيامة وأي شيء القيامة؟

﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ أي يكون الناس من شدة الفزع والهول كالفراش: وهو الحشرة الطائرة المعروفة التي تتساقط على الضوء ليلاً.

﴿الْمَبْثُوثِ﴾ يعني المتفرق المنتشر، و المعنى: أن الناس في يوم القيامة يسيرون على غير هدى في كل  اتجاه لشدة الهول حتى يحشروا إلى الموقف.

﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ هذا هو الوصف ا لثاني من صفات ذلك اليوم المهول، أي: تصير وتتحول الجبال العظيمة الراسية إلى عهن منقوش، أي: تكون كالصوف الذي نفش بالندف، والمنقوش: المبعثر الذي تفرقت أجزاؤه.

ثم ذكر سبحانه أحوال الناس عند المحاسبة في الموقف، وتفرقهم فريقين على جهة الإجمال.

﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.

﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ فإن من ثقلت موازينه وهي أعماله الصالحة، رجحت حسناته على سيئاته.

﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ في الجنة، إنها عيشة طيبة ليس فيها نكد، وليس فيها صخب، وليس فيها نصب، كاملة من كل وجه في جنات الخلد والنعيم.

﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ إما أنه الكافر الذي ليس له أي حسنة، لأن حسنات الكافر يجازى بها في الدنيا ولا تنفعه في الآخرة، أو أنه مسلم ولكنه مسرف على نفسه وسيئاته أكثر.

﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ يعني: أن مسكنه ومآله إلى نار جهنم، والهاوية من أسماء النار حيث يهوي فيها الكافر.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾ هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهاوية.

﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ أي: قد انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية.


 تفسير سورة التكاثر

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾.

سورة التكاثر سورة مكية، ذكر الله، عز وجل، فيها ما يلهي العباد  عن طاعته وعبادته، وحذرهم من هذا الطريق، وبين لهم، وقد تكرر في هذه السورة الزجر والإنذار تخويفًا للناس، وتنبيهًا لهم على خطئهم باشتغالهم بالفانية عن الباقية، قال تعالى لمن أعرض عن طاعته وألهته الدنيا.

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾.

﴿أَلْهَاكُمُ﴾ أي: شغلكم أيها الناس على وجه لا تعذرون فيه عن طاعة الله وأنساكم عبادته.

﴿التَّكَاثُرُ﴾ يشمل التكاثر بالمال، والتكاثر بالقبيلة، والتكاثر بالجاه، والتكاثر بالعلم، والتكاثر بالأولاد، وبكل ما يمكن أن يقع فيه التفاخر واستمرت هذه الغفلة وهذا الانشغال.

﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ يعني: إلى أن زرتم المقابر، يعني: حتى أدرككم الموت ودفنتم في المقابر وأنتم على تلك الحال.

﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.

﴿كَلَّا﴾ بمعنى الردع يعني: ارتدعوا عن هذا التكاثر، وقيل: إنها بمعنى حقًا.

﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي: سوف تعلمون عاقبة أمركم إذا رجعتم إلى الآخرة وأن هذا التكاثر لا ينفعكم.

﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ تأكيدًا لهذا الأمر.

﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ يعني: حقًا لو تعلمون علم الحق لعرفتم أنكم في ضلال، ولو تعلمون ما أمامكم علمًا يصل إلى القلوب، لما ألهاكم التكاثر، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة، ولكن عدم العلم الحقيقي صيركم إلى ما ترون.

﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾.

﴿لَتَرَوُنَّ﴾ أي: أُقسم وأوكد بأنكم ستشاهدون وتبصرون بالعين.

﴿الْجَحِيمَ﴾ في الآخرة، والجحيم اسم من أسماء النار.

﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ تأكيدًا لرؤيتها ومشاهدتها.

﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ أي: عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة، فيسأل عن الأمن، والصحة، والفراغ، وعن شرب الماء البارد على الظمأ، وظلال المساكن، وغير ذلك من النعم.


 تفسير سورة العصر

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.

سورة العصر سورة مكية، ذكر الله عز وجل، فيها أنه خلق الخلق لعبادته وإقامة شرعه، والإنسان في هذه الدنيا بين أمرين؛ إما بالقيام بما أمر الله عز وجل به فقد أفلح ونجا، وإما التمرد والعصيان ومخالفة أمره، سبحانه فقد خاب وخسر قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ أقسم الله تعالى بالعصر والعصر قيل: إن المراد به آخر النهار؛ لأن آخر النهار أفضله، وقيل: إن العصر هو الدهر لما فيه من الصبر من جهة مرور الليل و النهار على التقدير وتعاقب الظلام والضياء، وما في ذلك من استقامة الحياة ومصالح الأحياء فإن ذلك دلالة بينة على الصانع، عز وجل وعلى توحيده؛ على أن جنس الإنسان في خسارة ونقصان إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة وهي الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والاعتصام بالصبر، وهي أسس الفضيلة، وأساس الدين، ولهذا قال الإمام الشافعي: لو لم ينزل الله سوى هذه السورة لكفت الناس، قال تعالى:

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾ أي: كل إنسان.

﴿لَفِي خُسْرٍ﴾ لفي هلاك؛ فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب.

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.

استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع وهم:

﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أهل الإيمان والتصديق الذي لا يخالجه شك ولا تردد.

﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: أنهم قاموا بالأعمال الصالحة: من صلاة، وزكاة وصيام وحج، وبر للوالدين، وصلة الأرحام وغير ذلك.

﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ أي: صار بعضهم يوصي بعضًا بالحق، والحق: هو التوحيد والإيمان وأداء الطاعات, وكل ما أمر به الشرع، والتواصي بالحق أمر مطلوب، فالنهوض بالحق عسير، والمعوقات عن الحق كثيرة تحتاج إلى تواصٍ وتعاضد.

﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ أي: يوصي بعضهم بعضًا بالصبر، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله.

فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح العظيم.


 تفسير سورة الهمزة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾.

سورة الهمزة سورة مكية، ذكر الله فيها أحوال بعض العباد؛ فإن من تأمل في حال الناس وأخلاقهم يجد التفاوت العجيب، وأنزل الله عز وجل هذا القرآن مقررًا للشريعة رافعًا راية التوحيد، مهذبًا للأخلاق وحسن التعامل وطيب الفعال بين المسلمين، وفي هذه السورة ذم الله عز وجل الطعن في أعراض الناس وأنسابهم ودناءة من فعل ذلك، وأن له الوعيد الشديد والعقوبة العظيمة إن احتقر أو استهزأ وطعن في أنساب المسلمين وأعراضهم على وجه التنقص والازدراء، وذم الله عز وجل في السورة الذين يشتغلون بجمع الأموال وتكديس الثروات كأنهم مخلدون في هذه الحياة، وختمت بذكر عاقبة هؤلاء التعساء الأشقياء، قال تعالى:

﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾:

﴿وَيْلٌ﴾ كلمة خزي وعذاب ووعيد، وقيل: واد في جهنم أي: خزي أو عذاب أو هلكه للهمزة، وهو الذي يغتاب الناس، ويطعن في أعراضهم ويظهر عيوبهم ويحقر أعمالهم.

﴿لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ فالهمز: بالفعل، واللمز: باللسان. ثم ذكر الله صفة هذه الهماز اللماز أنه لا هم له إلا جمع المال، والهمزة واللمزة من الفخر، والكبر، وجمع المال وتعديده من البخل.

﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ﴾ هذه أيضًا من أوصافه القبيحة جماع مناع، يجمع المال، ويمنع العطاء، فهو بخيل لا يعطي، يجمع المال ويعدده ويرى أنه له به الفضل فلأجل ذلك يستقصر غيره.

﴿وَعَدَّدَهُ﴾ يعني أكثر تعداد لشدة شغفه ومحبته له، يخشى أن يكون نقص، أو يريد أن يطمئن زيادة على ما سبق فهو دائمًا يعد المال.

﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ يعني: يظن هذا الرجل أن ماله سيخلده ويبقيه, أخلد ذكره أو أطال عمره، فلا يفكر في ما بعد الموت من الحساب والجزاء أو أنه مانع له من الموت.

﴿كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾.

﴿كَلَّا﴾ أي: ليرتدع عن هذا الظن، ليس الأمر على ما يحسبه ويظنه، لا يخلد ماله ولا يبقى له بل.

﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾ ليطرحن طرحًا هو وماله في النار التي تهشم كل ما يلقى فيها وتحطمه، والحطمة من أسماء النار.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾ أي: وما أعلمك ما النار والحطمة.

﴿نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ﴾ المسجرة المسعرة.

﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ أي: يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها.

﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: الحطمة، وهي نار الله المؤقدة، أي على الهماز واللماز الجماع للمال المناع للخير.

﴿مُؤْصَدَةٌ﴾ مطبقة مغلقة الأبواب لا يرجى لهم فرج.

﴿فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ أي: أن هذه النار مؤصدة، عليها أعمدة ممدة، أي: ممدودة على جميع النواحي والزوايا حتى لا يتمكن أحد من فتحها أو الخروج منها.


 تفسير سورة الفيل

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾.

سورة الفيل سورة مكية، ذكر فيها سبحانه، فضله العظيم وآلائه الكثيرة، ويذكر هنا عز وجل لكفار قريش فضله ومنته عليهم عندما أراد أبرهة الحبشي أن يبني باليمن كنيسة؛ ليصرف الناس إلى حجها دون البيت الحرام، فقام أحد العرب فلطخها بالقذر ليلاً فعزم أبرهة على هدم الكعبة، وسار بجيش عظيم إلى مكة ومعه الفيل إلى أن دنا من المسجد الحرام، فلما انتهوا إلى قرب مكة، ولم يكن بالعرب مدافعة، وخرج أهل مكة من مكة خوفًا على أنفسهم منهم، أرسل الله تعالى عليهم وعلى جيشهم ما منعهم من هدمها أو التعرض لها، وأبقاها على حالها نعمة منه على أهل مكة، ونكالاً منه لرد من يعتدي على بيته فقال تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ أي: ألم تعلم؛ يخاطب الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يخاطب كل من يصح توجيه الخطاب إليه، يقرر ما فعل سبحانه وتعالى بأصحاب الفيل، وأصحاب الفيل هم قوم من أهل اليمن من النصارى من الأحباش جاؤوا لهدم الكعبة بفيل عظيم أرسله إليهم ملك الحبشة.

﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾ أي: ألم يجعل الله تعالى مكرهم وحيلتهم وسعيهم في تخريب الكعبة، وضلالاً منهم أدى بهم إلى الهلاك فلم يصلوا إلى مرادهم وهدفهم وغايتهم.

﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ جماعات متفرقة يتبع بعضها بعضًا، وهي طير سود جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا، مع كل طائرة ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يصيب شيئًا إلا هشمه.

﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ﴾ قالوا: هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة.

﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ أي: جعلهم كزرع أكلته الدواب ووطئته بأقدامها حتى تفتت، والعصف: هو ورق الزرع اليابس الذي يبقى بعد الحصاد.

وهذا القصة تدل على كرامة الله للكعبة، وفيها عجائب وغرائب من قدرة الله على الانتقام من أعدائه بأضعف جنوده وهي الطير التي ليست من عاداتها أن تقتل.


 تفسير سورة قريش

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.

سورة قريش سورة مكية، وفي كثير من السور والآيات يعدد الله عز وجل نعمه على عباده ليوحدوه ويعبدوه ويعرفوا قدر نعمه عليهم، وفي هذه السورة يمتن الله عز وجل أن جعل بيته الحرام آمنًا وأهله كذلك آمنين، فكان الأمن والاستقرار لهم راحة وطمأنينة وسعة رزق وغنى ويسرًا، ومن ذلك رحلتهم التجارية التي تكون في الصيف إلى الشام، وفي الشتاء إلى اليمن، وما يحصل لهم من منافع تجارية وعائدات عظيمة؛ فكان من الواجب شكر المنعم على نعمه بطاعته وعبادته قال تعالى:

﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾.

﴿لِإِيلَافِ﴾ الإيلاف الألفة والتعود؛ يراد به التجارة التي كانت تقوم بها قريش أهل مكة مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن للمحصولات الزراعية فيه، ولأن الجو مناسب، وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام، لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد، وامتن الله عز وجل عليهم بهاتين الرحلتين وتيسيرها لهم.

﴿* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾ شكرًا له على هذه النعمة ليعبدوه سبحانه وهو رب هذا البيت الكعبة، وهم بهذا البيت تشرفوا على سائر العرب؛ وليجعلوا عبادتهم شكرًا لهذه النعمة الجليلة التي خصهم بها.

﴿الَّذِي﴾ هذه صفة للرب.

﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ الذي أطعمهم بسبب هاتين الرحلتين خلصهم من جوع شديد وخوف كانوا فيهما قبلهما، وأوسع لهم في أرزاقهم.

وبين الله نعمته عليهم، النعمة الظاهرة والباطنة، فإطعامهم من الجوع وقاية من الهلاك في أمر باطن، وهو الطعام الذي يأكلونه.

﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ نجاهم وسلمهم؛ وقاهم وأمنهم من الخوف إذ كانت البلاد محوطة بالعدو.

وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضًا، فأمنت قريش من ذلك لمكان البيت العتيق.


 تفسير سورة الماعون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ *﴾.

سورة الماعون سورة مكية؛ وقد تميز الإسلام بأنه الدين الخالص لله، وأنه أيضًا دين التواصل والتعاطف والرحمة, وقد جمع الله عز وجل بين عبادته وبين الرحمة والعطف على الأيتام والفقراء والتذكير بحق المسكين والفقير في هذه السورة فقال سبحانه:

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾.

﴿أَرَأَيْتَ﴾ استفهام للتعجب والتشويق أي: هل علمت؛ الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه الذي أنزل عليه القرآن؟ وعام لكل من يتوجه إليه الخطاب.

﴿الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ أي: أأبصرت المكذب بالحساب والجزاء والبعث والنشور فإن من أفعاله وأعماله، ما يلي.

﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.

﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ أي: يدفعه ويزجره بعنف.

﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ المسكين: الفقير المحتاج إلى الطعام، فهو لا يحض ولا يحث نفسه ولا أهله ولا غيرهم على طعام المسكين بخلاً بالمال وشحًا به.

﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ ويل: هذه كلمة وعيد، وهي تتكرر في القرآن كثيرًا، أي: فويل للملتزمين لإقامة الصلاة ولكنهم.

﴿الَّذِينَ هُمْ﴾ مصلون، يصلون مع الناس، أو أفرادًا لكنهم.

﴿عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ غافلون عنها، لا يقيمونها على ما ينبغي يؤخرونها عن الوقت الفاضل، لا يقيمون ركوعها، ولا سجودها، ولا قيامها ولا قعودها، لا يقرؤون ما يجب فيها من قراءة سورة كانت قرآنًا أو ذكرًا إذا دخل في صلاته فهو غافل، قلبه يتجول يمينًا وشمالاً فهو ساهٍ عن صلاته.

﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾ هم المنافقون، يراؤون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراؤون الناس بكل ما عملوا من أعمال البر ليثنوا عليهم، وهم بهذا لا يريدون وجه الله والدار الآخرة، إنما يريدون المدح والثناء من الناس.

﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ أي: يمنعون ما يجب بذله من المواعين وهي الأواني، وما يحتاجه الناس من الدلو والفأس والقدر، وهذا من الشح والبخل وعدم النفع للآخرين، يعني يأتي الإنسان إليهم يستعير آنية فيمنعونها عنه، وقيل: يمنعون الزكاة المفروضة.

فلا هم أحسنوا في عبادة ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه، فاستحقوا الوعيد الشديد.


 تفسير سورة الكوثر

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾.

سورة الكوثر سورة مكية؛ ذكر الله عز وجل فيها أن اختار محمدًا نبيًا ورسولاً واصطفاه على جميع خلقه، وجعل له المكانة العالية الرفيعة ولما قدم كعب بن الأشرف اليهودي إلى مكة، قالت قريش له: أنحن خير أم محمد؟ فقال: أنتم خير منه فأنزل الله في شأنه:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا *﴾ [النساء: 51] ولما وصف العاص بن وائل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أبتر أنزل الله في شأنه: ﴿* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ ليعظم منزلة النبي، وأنه صاحب الرسالة والمكانة الرفيعة، وختمت السورة ببشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخزي أعدائه ووصفت مبغضيه بالذلة والحقارة والانقطاع من كل خير في الدنيا والآخرة، بينما ذكر الرسول مرفوع على المنائر والمنابر، واسمه الشريف على كل لسان، خالد إلى آخر الدهر والزمان قال تعالى:

﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - تكريمًا لمقامه الرفيع وتشريفًا أي: الله عز وجل تفضل عليك وأعطاك الخير الكثير الدائم في الدنيا والآخرة، ومن هذا الخير نهر الكوثر.

﴿الْكَوْثَرَ﴾ هو الخير الكثير، ومنه نهر الكوثر في الجنة، جعله الله كرامة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمته.

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ شكرًا لله على هذه النعمة العظيمة، وهذا العطاء الجزيل أن تصلي وتنحر لله، لا تصرف شيئًا منها لغيره سبحانه وتعالى.

﴿وَانْحَرْ﴾ تقرب إليه بالنحر للإبل وغيرها، وخص هاتين العبادتين بالذكر, لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات.

﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ مبغضك، والشنآن هو البغض.

﴿هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ الأبتر: اسم تفضيل من بتر بمعنى قطع، يعني هو الأقطع، المنقطع من كل خير، والأبتر من الرجال الذي لا ولد له.

قال المفسرون: لما مات "القاسم" ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال العاصي بن وائل: دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له، أي لا نسل له، فإذا هلك انقطع ذكره فأنزل الله تعالى هذه السورة، وأخبر تعالى أن هذا الكافر هو الأبتر وإن كان له الأولاد، لأنه مبتور من رحمة الله، أي مقطوع عنها، ولأنه لا يذكر إلا ذكر باللعنة، بخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذكره خالد إلى آخر الدهر، مرفوع على المآذن والمنابر، مقرون بذكر الله تعالى، والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعه فهو كالوالد لهم، صلوات الله وسلامه عليه.


 تفسير سورة الكافرون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.

سورة الكافرون سورة مكية؛ هي سورة التوحيد والبراءة من الشرك والضلال، ذكر الله عز وجل، فيها أنه لا يجوز صرف العبادة لغيره عز وجل، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلن دعوته على الملأ أن لا معبود بحق إلا الله، وقيل: إن قريشًا من جهلها وطغيانها دعت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عبادة أوثانها سنة، ويعبدون الله سنة، فأنزل الله هذه السورة ولم تكن العرب تجحد وجود الله عز وجل، وأنه الخالق الرازق المدبر، لذا فهم يحجون ويتصدقون وينفقون، لكنهم جعلوا مع الله إلهًا آخر شريكًا له في العبادة, فأنزل الله هذه السورة؛ لتعلن الدين كله لله لا شريك له، قال تعالى:

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ أي: قل يا محمد وأعلن لهم بالنداء، وهذا يشمل كل كافر سواء كان من المشركين أو من اليهود، أو من النصارى.

﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ أي: لا أعبد الذين تعبدونهم، وهم الأصنام وأتبرأ منهم ظاهرًا وباطنًا.

﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ أنا لا أعبد أصنامكم، وأنتم لا تعبدون الله، ولستم أنتم ما دمتم على شرككم وكفركم عابدين لله الواحد الأحد الذي أعبده.

﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ﴾ أي: ولا أعبد في مستقبل أيامي، وما يأتي من عمري لن أعبد شيئًا من آلهتكم الباطلة التي تعبدونها.

﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ قد يظن الظان أن هذه مكررة للتوكيد، وليس كذلك, لأن الصيغة مختلفة أي: لن تعبدوا الله في مستقبل أيامكم ما دمتم على كفركم وعبادتكم للأصنام، فعبادتي ليست كعبادتكم، وعبادتكم ليست كعبادتي.

﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.

﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ الذي أنتم عليه وتدينون به.

﴿وَلِيَ دِينِ﴾ أي: ولي ديني الذي لا أبغي غيره، فأنا بريء من دينكم وأنتم بريئون من ديني، وهذا غاية في التبرؤ من عبادة الكفار، والتأكيد على عبادة الواحد القهار.


 تفسير سورة النصر

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾.

سورة النصر سورة مدنية؛ فيها البشارة أن دين الله عزيز منصور على مر الأزمان والعصور، وأمتن الله عز وجل فيها على نبينا محمد ومن معه من الصحابة بنصر عظيم، ألا وهو فتح مكة وإزالة الأصنام والأوثان، ودخول القبائل بعد ذلك في دين الله أفواجًا وبهذا الفتح المبين ارتفعت راية الإسلام، واضمحلت ملة الأصنام، وكان الإخبار بفتح مكة قبل وقوعه، من أظهر الدلائل على صدق نبوته، عليه أفضل الصلاة والسلام قال سبحانه:

﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾ الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -.

﴿نَصْرُ اللهِ﴾ النصر هو العون والتأييد، وهو نصر الله يجيء به الله، وهو تسليط الله الإنسان على عدوه بحيث يتمكن منه ويخذله ويكبته.

﴿وَالْفَتْحُ﴾ معطوف على النصر، وعطفه على النصر مع أن الفتح من النصر تنويه بشأنه، والمراد بالفتح: فتح مكة.

﴿يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا﴾ أي: جماعات جماعات، بعد أن كانوا يدخلون فيه أفرادًا, فإنه لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا وجماعات حتى كانت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام، والمعنى: إذا نصرك الله يا محمد على أعدائك، وفتح عليك مكة.

﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ أي: سبحه تسبيحًا ونزه تنزيهًا عما لا يليق به مقرونًا بالحمد والاستغفار، وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس، وبين الحمد له على جميل صنعه له وعظيم منته عليه بالنصر والفتح لمكة ودخول الناس أفواجًا.

﴿وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ يعني: اسأله المغفرة تواضعًا لله واستقصارًا لعملك، والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره، فجهد الإنسان مهما كان ضعيف محدود، وآلاء الله دائمة العطاء والخير, وفي هذا إشارة إلى شكر الله على نصره وتأييده، وإظهار نعمة المنعم على عباده بالنصر والتأييد.

﴿إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ من شأنه التوبة على المستغفرين له، يتوب عليهم ويرحمهم بقبول توبتهم.

فإن الاستغفار يتضمن وقاية شر الذنوب، وفي هذا ترغيب في الاستغفار، وحث على التوبة والأوبة، فهو سبحانه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وهذه السورة الكريمة فيها نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا تسمى سورة "التوديع" وحين نزلت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: «ما أراد إلا حضور أجلي» وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزلت: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3] الآية، فعاش بعدهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانين يومًا.


 تفسير سورة المسد

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾.

سورة المسد سورة مكية، فيها صور مما لاقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قام بأمر الدعوة من الأذى والمشقة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قام بالدعوة إلى الله خير قيام، وبذل في سبيلها الغالي والنفيس، ولما أنزل الله تعالى، ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفا فنادى: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني» قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل هذه السورة التي تحدث فيها عن هلاك "أبي لهب" عدو الله ورسوله قال تعالى:

﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ وهذا رد على أبي لهب حين جمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدعوهم إلى الله فبشر وأنذر، والمعنى: هلكت يداه وخسرت وخابت، والتباب الخسار.

﴿وَتَبَّ﴾ أي: وهلك هو.

﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ﴾.

﴿مَا﴾ للنفي أي: لم يدفع عنه.

﴿مَالُهُ﴾ أي: ما جمع من مال ولا ما كسب من ربح وجاه ما حل به من التباب والخسران.

﴿وَمَا كَسَبَ﴾ قيل المعنى: وما كسب من الولد أو من مال.

﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ أي: سوف يعذب في النار الملتهبة ويجد حرها ويذوقه، تحرق جلده، وهي ذات اشتعال وتوقد، وهي نار جهنم تحيط به من كل جانب.

﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ يعني: كذلك امرأته معه، وهي امرأة من أشراف قريش، لكن لم يغنِ عنها شرفها شيئًا؛ لكونها شاركت زوجها في العداء والإثم، والبقاء على الكفر، وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان.

﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾.

﴿حَمَّالَةَ﴾ صيغة مبالغة أي: تحمله بكثرة.

﴿الْحَطَبِ﴾ وذكروا أنها كانت تحمل الحطب الذي فيه الشوك وتضعه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل أذى الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ المسد: الليف الذي تفتل منه الجبال؛ كانت لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللات والعزى لأنفقنها في عداوة محمد، فيكون جزاؤها أن يجعل في عنقها ذلك الحبل يوم القيامة مكان قلادتها جزاء وفاقًا.


 تفسير سورة الإخلاص

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾.

سورة الإخلاص سورة مكية، تعدل ثلث القرآن، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ قل هو الله أحد، فكأنما قرأ بثلث القرآن» رواه أحمد والنسائي.

وفي السورة ذكر بعض صفات الله عز وجل، الواحد الأحد، الجامع لصفات الكمال، المقصود على الدوام، الغني عن كل ما سواه، المتنزه عن صفات النقص، وعن المجانسة والمماثلة، وردت على النصارى القائلين بالتثليث وعلى المشركين الذي جعلوا لله الذرية والبنين.

وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربك: أي: اذكر لنا نسبه، فنزلت هذه السورة.

﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ أي: قل يا محمد قولاً جازمًا، إن الله أحد، أي: واحد لا شريك له المنفرد بالكمال، الذي له الأسماء الحسنى و الصفات الكاملة العليا.

﴿اللهُ أَحَدٌ﴾ أي: هو الله الذي تتحدثون عنه وتسألون عنه.

﴿أَحَدٌ﴾ أي: متوحد بجلاله وعظمته ليس له مثيل، وليس له شريك في ذاته وصفاته وأفعاله، بل هو متفرد بالجلال والعظمة عز وجل.

﴿اللهُ الصَّمَدُ﴾ أي: الكامل في صفاته، الذي افتقرت إليه جمع مخلوقاته، السيد الذي كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والغني الذي قد كمل في غناه، المقصود في قضاء الحوائج.

﴿لَمْ يَلِدْ﴾ لم يتخذ ولدًا، وليس له أبناء وبنات؛ لأنه- جل وعلا- لا مثيل له ولكمال غناه.

﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ لأنه- عز وجل- هو الأول الذي ليس قبله شيء فكيف يكون مولودًا؟

﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ أي: لم يكن له أحد مساويًا في جميع صفاته، فهو سبحانه لا يساويه أحد ولا يماثله، ولا يكافئه ولا يشاركه أحد في شيء من صفات كماله.

وهذه السورة الكريمة مؤلفة من أربع آيات، وقد جاءت في غاية الإيجاز والإعجاز، وأوضحت صفات الجلال والكمال، ونزهت الله جل وعلا عن صفات العجز والنقص، فقد أثبتت الآية الأولى الوحدانية ونفت التعدد ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ وأثبت الثانية كماله تعالى ونفت النقص والعجز ﴿اللهُ الصَّمَدُ﴾ وأثبتت الثالثة أزليته وبقاءه ونفت الذرية والتناسل ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ وأثبتت الرابعة عظمته وجلاله ونفت الأنداد والأضداد ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾.

فالسورة شاملة جامعة لإثبات صفات الجلال والكمال، وتنزيه الرب بأسمى صور التنزيه عن النقائص.


 تفسير سورة الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾.

سورة الفلق سورة مدنية؛ ذكر الله عز وجل فيها أن الإنسان في هذه الدنيا معرض للابتلاء والمصائب، وقد مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - الشدائد والمخاطر في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وهذه السورة والتي بعدها توجيه من الله سبحانه وتعالى للعياذ بكنفه واللياذ بحماه، وأن يستعيذوا بجلاله وسلطانه من كل مخوف، خافٍ وظاهر، مجهول ومعلوم، ومن ذلك أن اليهود سحروه - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله المعوذتين فقرأهما عليه الصلاة والسلام، حتى انحل عنه السحر، فكأنما نشط من عقال ليس به بأس قال تعالى:

﴿قُلْ أَعُوذُ﴾ أي يا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته معنية بهذا الخطاب، ألتَجِئُ وأعتصم وألوذ.

﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ رب الفلق هو الله، والفلق الصبح، لأن الليل ينفق عنه.

﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ أي: أعوذ بالله من شر جميع المخلوقات: يشمل شياطين الإنس والجن والهوام غير ذلك.

﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ وأعوذ به سبحانه من شر الليل إذا أقبل ودخل في كل شيء وأظلم، لأن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تنتشر الشياطين, وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار، وقيل: أن الغاسق هو القمر.

﴿إِذَا وَقَبَ﴾ أي: أقبل.

﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ أي: وأعوذ به من شر النساء الساحرات، يعقدن الحبال وغيرها، وتنفث بقراءة مطلسمة فيها أسماء الشياطين على كل عقدة تعقد بقصد السحر.

﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ﴾ الحاسد هو الذي يكره نعمة الله على غيره، مبغض للناس على ما وهبهم الله من نعم، يريد زوالها عنهم، ولا يرضى بما قسمه الله تعالى له.

﴿إِذَا حَسَدَ﴾ ومن حسد الحاسد العين التي تصيب المُعان يكون هذا، وقد قيدها سبحانه بقوله: ﴿إِذَا حَسَدَ﴾ لأن الرجل قد يكون عنده حسد ولكن يخفيه، ولا يترتب عليه أذى بوجه ما، بل لا يجد في قلبه شيئًا من ذلك.

وجاء في الآية ذكر الحاسد دون العائن, لأنه أعم، فكل عائن حاسد ولا بد، وليس كل حاسد عائن، فإذا استعاذ من شر الحاسد دخل فيه العائن وهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته.

وهذا السور تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة:

أحدهما: شر المخلوقات التي لها شر عمومًا.

الثاني: شر الغاسق إذا وقب.

الثالث: شر النفاثات في العقد.

الرابع: شر الحاسد إذا حسد.

فتضمنت الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدله على المراد، وأعمه استعاذة، بحيث لم يبق شر من الشرور، إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما.


 تفسير سورة الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾.

سورة الناس سورة مدنية، فيها الاستجارة والاحتماء برب الأرباب من شر أعدى الأعداء إبليس وأعوانه من شياطين الإنس والجن، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين من الجن يزين له الكفر والفسوق والعصيان، فعلى المسلم أن يدافع تلك الشياطين، وذلك بالالتجاء والاعتصام بالله سبحانه ليحفظه ويقيه شرهم، ومن ذلك قراءة هذه السورة العظيمة وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذتين...» وقد ذكر الله في هذه السورة ربوبيته للناس، وملكه لهم، وإلهيته لهم، فإضافة الربوبية المتضمنة لخلقهم وتدبيرهم وتربيتهم وإصلاحهم، وجلب مصالحهم، وما يحتاجون إليه، ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم، وأما إضافة الملك فهو ملكهم المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكه وهو المتصرف لهم، المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، والإضافة الثالثة فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله سواه، ولا معبود لهم غيره قال تعالى :

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾

﴿قُلْ﴾ أي يا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته معنية بهذا الخطاب .

﴿أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ أي: التجئ واعتصم، وأعوذ برب الناس وهو الذي رباهم بنعمه و هو الله عز وجل.

﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ أي: الملك الذي له السلطة العليا في الناس، والتصرف الكامل وهو الله عز وجل.

﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ أي: مألوههم ومعبودهم الحق الذي يتوجهون إليه بأنواع العبادة، فالمعبود حقًا الذي تألهه القلوب وتحبه وتعظمه.

وهذه ثلاث صفات من صفات الرب عز وجل: الربوبية، والملك والإلهية فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه، وجميع الأشياء مخلوقة ومملوكة له، فأمر سبحانه المتعوذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات.

﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾.

﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾ هو الشيطان.

﴿الْخَنَّاسِ﴾ الذي يخنس وينهزم ويولي ويدبر عند ذكر الله عز وجل، وخنس: أي كف وأقصر.

﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ وسوسته هي الدعاء إلى طاعته بإيحاء خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت ويلقي أحاديث السوء في النفوس ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان: جني أو إنسي.

﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾.

﴿الْجِنَّةِ﴾ أي: الجن.

والوساوس تكون من الجن، وتكون من بني آدم، أما وسوسة الجني فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأما وسوسة بني آدم فما يوحي بعضهم إلى بعض من الشر ويزينونه في قلوبهم.

والمعنى: من شر الوسواس، ومن شر الناس، كأنه أمر أن يستعيذ من الجن والإنس، والسورة تتضمن الاستعاذة من العيوب التي أصلها كلها الوسوسة.

وقد جاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب والملك والإله، وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الخلق وإلى الناس، ولا بد من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة، ويقتضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها.

وقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ "قل هو الله أحد" و"المعوذتين" ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاثًا" رواه أهل السنن.

* * *



([1])  جعلت الفاتحة في أول هذا التفسير لمكانتها وعظمها، وحاجة الأمة إلى معرفة معانيها وتدبرها.