الأنوار الكاشفة لما في كتاب «أضواء على السنة» من الزلل والتضليل والمجازفة
التصنيفات
الوصف المفصل
- الأنوار
الكاشفة لما في كتاب «أضواء على السنة» من الزلل والتضليل والمجازفة
- مقدمة التحقيق
- التعريف بالكتاب
- * أهم الموضوعات التي ناقشها الكتاب:
- - مؤلفاته:
- * منهج التحقيق:
- هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث؟
- البحث الأول في البرهان العقلي الذي اعتمد عليه أبو ريَّة
- البحث الثاني: في حقيقة الكذب (2)
- حقيقة التدليس وانتفاؤها عن الصحابة
- ملحقان بكتاب "الأنوار الكاشفة"
الأنوار الكاشفة لما في كتاب «أضواء على السنة» من الزلل والتضليل والمجازفة
تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (1313 - 1386 هـ) رحمه الله تعالى تحقيق علي بن محمد العمران
(مقدمة 12/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا كتاب "الأنوار الكاشفة لما في كتاب "أضواء على السنة" من الزلل والتضليل والمجازفة" للشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله. وواضح من عنوانه أنه نقضٌ لكتاب "أضواء على السنة المحمّدية" لمحمود أبو رية. وخلاصة كتاب أبي رية: توجيه جملة من الطعون والشبهات إلى السنة النبوية والعمل بها، وإلى علم الحديث وعلمائه، وإلى رواة الحديث وحَمَلته، بل وإلى طائفة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين! وخصّ منهم بالطعن راويةَ الإسلام وحافظَ سنة النبي عليه السلام: أبا هريرة رضي الله عنه، ولم يكتفِ بالطعن بل زاد إليه السفاهةَ والتهكّمَ والتجنّي (1). _________ (1) قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في حاشية "المسند": (6/ 522): "وقد لهج أعداء الإسلام في عصرنا وشغفوا بالطعن في أبي هريرة، وتشكيك الناس في صدقه وفي روايته، وما إلى ذلك أرادوا، وإنما أرادوا أن يصلوا - زعموا - إلى تشكيك الناس في الإسلام تبعًا لسادتهم المبشرين، وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقرآن أو الأخذ بما صح من الحديث - في رأيهم - وما صح من الحديث في رأيهم إلا ما وافق أهواءهم، وما يتبعون من شعائر أوربا وشرائعها".
(مقدمة 12/5)
ولن أكشف سِرًّا إذا قلت: إن أبا رية لم يُضف جديدًا إلى البحث العلمي، ولا إلى أصل الشُّبَه والطعون التي يذكرها الطاعنون في السنة النبوية وحَمَلَتها، بل كان في حقيقة أمره مِن مستنقع المستشرقين وأضرابهم يمتح، وعن مائهم الآسن يصدر! ولولا ما مَهَدوه له لَما راح أبو ريّة ولا جاء! = مع ذلك فقد امتاز كتابه بأمور فاق بها مَن تقدّمه من الطاعنين، يجمعها: "ضعف الوازع الديني والأخلاقي والعلمي"! وتفصيلها: السفاهة والتجنّي، والتهوّر والمجازفة. مقدّمًا تلك النقائص في ثوب أدبيّ جميل! هذا هو جديد أبي رية في كتابه ــ وبئس ما جدّد ــ، فما كان غرضه منه وما هو الدافع لانتهاجه؟ أقول: أما السفاهة ... وأخواتها فلِغَرَضِ أنه قد انتهى من إضعاف السنة وضعضعتها ــ زعم ــ فما بقي إلا التهكّم بها وبحَمَلتها؛ فيجرؤ من يقف على كتابه على نقد السنة مهما كانت قوّةُ ثبوتها. وأما الأسلوب الأدبي فلتغرير القارئ وصرفه عن ملاحظة سوء كتابه، فهو كمن يسقيك سمًّا في زجاجة فاخرة! وقد عَلِم الناسُ ــ بحمد الله ــ منذ أن صدر كتاب أبي رية أن غرضه منه أمر واحد هو (الطعن في السنة النبوية وحَمَلتها)! وقد جهد في حجب هذه النتيجة المكشوفة تارة في المقدمة، وتارة في الخاتمة، وأخيرًا بأن كتب على غلاف كتابه: (دفاع عن الحديث) (1)! فما أغنته محاولاته تلك وما صدّقه أحد (2)؟ _________ (1) كتب ذلك في الطبعات اللاحقة، وكان قد كتب على لوح الطبعة الأولى: "دراسة"! فما صدّقه أحد في عبارته الأولى، فغيّرها، ولن يصدّقه أحد في الثانية. (2) إلا الرافضة فقد صدقوه وأثنوا عليه ثناءً بالغًا وعلى كتابه! فهنيئًا له تصديق الكذوب!
(مقدمة 12/6)
فَعلَ أبو رية تلك الشناعات إرضاء لرَغَبات مَن وَجَّه إليهم عملَه هذا؟ فقد قال في ختام مقدمته: "وإني لأتوجّه بعملي هذا ... إلى المثقفين من المسلمين خاصة، وإلى المهتمين بالدراسات الدينية عامة" (1). وانظر بمَ علل توجيهه إليهم قال: "ذلك بأن هؤلاء وهؤلاء الذين يعرفون قدرَه. واللهَ أدعو أن يجدوا فيه جميعًا ما يرضيهم ويرضي العلم والحق معهم". فالمستشرقون وأتباعهم هم فقط من سيَقْدُر كتاب أبي رية قدرَه ... وهم فقط من يحرص أبو ريّة أن ترضيهم نتائجُ كتابه ... ! ولن ترضى اليهودُ ولا النصارى عن أحدٍ حتى يتّبع مِلّتهم كما أخبر الله في كتابه (2). ولئن غابت عنّا أمور عن أبي رية ودوافعه ... فلن تغيب عنّا علاقاته الحميمة، وصِلاته المريبة بالرافضة، الذين وجدوا فيه مطيّة طيّعةً لخدمة مآربهم وأغراضهم؛ من الطعن في الصحابة نَقَلَة الشريعة؛ للتوصل إلى الطعن في الدين نفسه، كما سيأتي شرح ذلك في ترجمة أبي رية. وهو ما فَطَن له الشيخ المعلمي فأشار إليه بقوله: "وطائفة لا يرضاها ولكنه رأى أنّ في كلامه ما يعجبها فراح يتملّقها في مواضع؛ رجاء أن يروج لديها كتابه كما راج لديها كتاب فلان" (3). _________ (1) علق الشيخ المعلمي على هذا بقوله: "يعني المستشرقين من اليهود والنصارى والملحدين". ولأجل أن هذا كان قصده اضطرّ لتغييره في الطبعات اللاحقة إلى "بالدراسات الإسلامية". (2) سورة البقرة آية 120. (3) "الأنوار الكاشفة" (ص 18). أقول: لعل الشيخ يقصد بـ (فلان) طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" فقد أساء الأدب إلى بعض الصحابة، وأنكر وجود عبد الله بن سبأ اليهودي. وله آراء أخرى ذكرها بعض الرافضة عنه ــ إن صدقوا ــ. انظر "مع رجال الفكر في القاهرة": (1/ 276 - 278) للرضوي.
(مقدمة 12/7)
قلت: وقول المؤلف: "لا يرضاها" إحسان للظن بأبي رية، وقد ثبت أنه يرضاها وترضاه، وبينه وبين شيوخها صلات حميمة وعلائق وشيجة ــ كما سيأتي شرحه ــ. وليس وصف أبي ريّة بكونه تابعًا ذليلًا لهؤلاء وأولئك من الطاعنين في السنة= تجنّيًا عليه أو تقويلًا له ما لم يقله، بل هو الذي ألْمَحَ إلى ذلك في أول كتابه كما مرّ (1)، وصرّح به في أثنائه، فأحال لاستكمال مباحثه إلى كتب اليهوديّ جولد زيهر وأشباهه (2)! وقد حاول أن يغطّي تلك العلاقة، ويلبس ثوبَ النصيحة والغيرة على الحديث النبوي، لكن هيهات! فها هو قد أفصح عما كان يخفيه، وكل إناء ينضح بالذي فيه، وصَدَق المؤلف إذ ضرب لصنيعه مثلًا: "صَدَقني سِنَّ بَكْرِه" (3). كَتَب أبو رية كتابه هذا على حين فترةٍ من علماء الحديث ونُقّاده، وهجمة مَهُولة على علوم الدين وثوابت الشريعة (4)، وما علم أن في الزوايا _________ (1) (ص 7)، كما في مقدمة الطبعة الأولى، واضطر لتغيير العبارة في الطبعات اللاحقة، لتضليل الناس وتنفيق كتابه، لكن هيهات! (2) انظر ص 193 من كتابنا هذا. (3) الموضع السالف. (4) فكتَبَ مصطفى عبد الرّازق "الإسلام وأصول الحكم" في نفي وجوب التحاكم إلى الشريعة، وكتب قاسم أمين "المرأة الجديدة" و"تحرير المرأة" في تشريع التبرّج والسفور، وكتب طه حسين "في الشعر الجاهلي" وإنكار القصص القرآني ... وكتب أبو رية كتابه هذا وكتابه "شيخ المضيرة ... " في الطعن في السنة وأهلها.
(مقدمة 12/8)
خبايا، وأن الله تعالى قد أبقى للسنة والحديث خُدّامًا وحُرّاسًا، فقد نَهَض للردّ على أبي رية في كتابه هذا جمعٌ من أهل العلم بُعيد صدور كتابه بقليل، فكتب الشيخ محمد محمد أبو شهبة مقالات في "مجلة الأزهر"، ثم أصدر كتابًا سماه: "دفاع عن السنة والردّ على شبهات المستشرقين والكُتَّاب المعاصرين"، وكتب الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة كتابًا سماه: "ظلمات أبي رية أمام أضواء السنة المحمدية"، وكتب الدكتور مصطفى السباعي ردًّا ضمن كتابه "السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي". وكتب الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني "الأنوار الكاشفة ... " فكان ردّه واسطة العقد، ونهاية التحقيق. وقد طبع كتابنا هذا "الأنوار الكاشفة ... " في حياة مؤلِّفه سنة 1378 هـ في المطبعة السلفية ومكتبتها لمحبّ الدين الخطيب، وأعيد تصويره مرارًا. وها هو اليوم يظهر ضمن هذا المشروع المبارك في حلة قشيبة تليق به وبمكانة مؤلفه. وقد قدمت بين يدي الكتاب عدة مباحث تتعلق بالتعريف بالكتاب وهي: - اسم الكتاب. - تاريخ تأليفه. - سبب تأليفه. - أهم الموضوعات التي ناقشها الكتاب. - منهج المؤلّف وطريقته في المناقشة والتقرير.
(مقدمة 12/9)
- ترجمة محمود أبو رية (المردود عليه). - طبعات الكتاب. - مخطوطات الكتاب. - منهج التحقيق. ثم ختمناه بفهارس كاشفة متنوّعة، والحمد لله رب العالمين. وكتب [email protected] a-alemran تويتر
(مقدمة 12/10)
التعريف بالكتاب
* اسم الكتاب: سمى المؤلف كتابه: "الأنوار الكاشفة لما في كتاب (أضواء على السنة) من الزلل والتضليل والمجازفة". لم أقف على هذه التسمية بخط المؤلف في المسوّدة التي وقفت عليها، وغالب الظن أن يكون كتبه على ورقة العنوان في المبيّضة التي طبع الكتاب عنها، وقد طبع في حياته، فيبعد جدًّا أن يسمّى بغير ما سمّاه به مؤلفه. وللشيخ عادة في التسميات المسجوعة، مثل "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، و "إرشاد العامِه إلى الكذب وأحكامه" و"الاستبصار في نقد الأخبار" وغير ذلك. * تاريخ تأليفه نصّ المؤلّف على تاريخ تأليف كتابه في آخره قال: "انتهى ... جمع هذا الكتاب في أواخر شهر جمادى الآخرة سنة 1378". أما بداية جمعه له وكم استغرق من الوقت؛ فيمكن أن نستدل عليه بالآتي: انتهى أبو رية من تأليف كتابه في الخامس من جمادى الأولى سنة 1377 هـ، كما نص عليه في آخر مقدمته (ص 15 - ط الأولى، 10 - ط السادسة). فيكون بين انتهاء أبي رية من تأليف كتابه وانتهاء الشيخ من ردّه سنة وشهر. ولو حسبنا المدة التي استغرقتها طباعةُ كتاب أبي رية، ثم وصوله من مصر إلى مكة، ثم تأليف الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة لجملة من التعليقات والملاحظات على كتاب أبي رية واطلاع الشيخ عليها بغرض التقديم لها (انظر المبحث الآتي)، ومن ثَمّ وقوفه على كتاب أبي رية. بعد
(مقدمة 12/11)
ذلك شَرَع الشيخُ في تأليف كتابه. فلا أظنّ الشيخ قد شرع في كتابه إلا بعد مضيّ بضعة أشهر على طباعة كتاب أبي رية، فعليه يكون الشيخ قد مكث في تأليفه نحو ثمانية أشهر أو أقل. وهو وقت قياسيّ إذا ما اعتبرنا قيمة الكتاب العلمية وتحرير مسائله، وتتبّع أبي رية في جميع ما أورده من نقول وقضايا، والرجوع لجميع مصادره، مع عدم توفّر بعضها، وكتابة مسوّدته ثم تبييضها. مع اشتغال الشيخ بأعمال علميّة أخرى، وعمله الرسمي في مكتبة الحرم المكي الشريف. * سبب تأليفه: أبان المؤلف عن سبب تأليف كتابه في إحدى تعاليقه المخطوطة المدرجة تحت عنوان "الأنوار الكاشفة": (الدفتر الثالث ص 1) بقوله: " ... فإن فضيلة أخي العلامة محمد عبد الرزاق حمزة كتب ــ وهو على فراش المرض عافاه الله ــ "مطالعات وملاحظات على كتاب ألّفه الأستاذ محمود أبو ريّة وسماه "أضواء على السنة المحمدية". فأرسل إليّ حضرة المحسن الكريم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف تلك الملاحظات، وتقدَّم إليَّ بأن أكتب كلمة تكون بمثابة مقدّمة، فاحتجتُ مع الاطلاع على الملاحظات أن أطالع كتاب أبي رية، فتبيّن لي أنّ استيفاء الكلام له وعليه يستدعي تأليفًا مستقلًّا، عسى أن يتيسّر لي فيما بعد .. ". وذكر قريبًا منه في الدفتر الرابع من المسوّدة. ثم كتب المؤلف في تلك الورقات ملاحظات على كتاب أبي رية. ثم لمّا عَزَم على تأليف كتابه هذا كان الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله قد زاد في كتابه وتوسّع فيه، فلم يعُد مجرّد "مطالعات وملاحظات"
(مقدمة 12/12)
لكنه لم يكمُل. فذكر الشيخ المعلمي في صدر كتابه أنه استفاد منه، ووصفه في المقدّمة بكونه "ردًّا مبسوطًا لم يكمل حتى الآن". ومع ذلك فقد رأى المصنف أنه ينبغي له تأليف كتاب مفرد في الردّ، قال: "ورأيتُ من الحقّ عليَّ أن أضع رسالةً أسوقُ فيها القضايا التي ذكرها أبو رية، وأعقِّب كلّ قضية ببيان الحقّ فيها، متحرِّيًا إن شاء الله تعالى الحقّ، وأسأل الله التوفيق والتسديد ... " (1). * منهج المؤلّف وطريقته في المناقشة والتقرير: يمكن تلخيص معالم منهج المؤلف في هذا الكتاب في النقاط الآتية: 1 - التصدير والمقدمة: كتب المؤلف تصديرًا في صفحة واحدة؛ أبان فيه عن تواضعه المعهود، وأنه كتب كتابه على عَجَل، وذَكَر مَن سبقه إلى الردّ وأنه استفاد منه، ومَن استحَثّه لإكمال الكتاب، ومَن أمدَّه ببعض المراجع أو مراجعة بعض النقول. ثم مقدمة قصيرة بين فيها وقوع كتاب أبي رية إليه، وعَلِمْنا في مبحث "سبب التأليف" كيف وقع إليه، ثم ذكر خلاصة كتاب أبي رية وأنه "تكميل للمطاعن في السنة"، وذكر كتاب الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة بما سبق ذكره في سبب التأليف، وأنه من الحق عليه أن أن يفرد في الرد على أبي رية كتابًا يتعقّب قضاياه ببيان الحق فيها ... 2 - الترتيب: جرى المؤلف في نقده للكتاب على ترتيب الكتاب المنقود وفصلًا فصلًا وبحثًا بحثًا من أول الكتاب إلى آخره، اللهم إلا في موضوعات قليلة، مثل عدالة الصحابة، فقد أخّر الكلامَ عليه مستوفى إلى آخر الكتاب (ص 365) حيث ذكر أبو رية فصلًا خاصًّا بذلك، فأخّره الشيخ _________ (1) "الأنوار الكاشفة" (ص 5).
(مقدمة 12/13)
إلى مكانه ورجع ينقل وينقد ما ذكره في أول الكتاب، وكذلك فَعَل في مواضع أخرى. 3 - طريقته: ينقل كلام أبي رية بحروفه بذكر رقم الصفحة من الطبعة الأولى لكتاب أبي رية، ثم يسوق كلامه موضعَ النقد بين قوسين صغيرين "". فأحيانًا يسوق موضع النقد فلا يتعدى كلمات، وأحيانًا يسوقه بطوله فيبلغ عشرة أسطر، وذلك بحسب مقتضى الحال. ثم يتعقبه بقوله: "أقول". وجرى على هذا من أول الكتاب إلى آخره. 4 - منهجه: نحا الشيخ في رده منحى علميًّا منضبطًا، مبتعدًا عن أسلوب الإنشاء والخطابة، فتتبّع كتاب أبي رية في نقوله وقضاياه؛ فإن نقل أبو رية من كتابٍ راجعه وتثبّت من نقله، فإن وجد النقل كما هو بيّن ثبوتَ النقل مِن عدمه وصحّته من ضعفه، فإن كان ثابتًا نظَرَ فيه نَظَرَ العالم المنصف المريد للحق، فنظر في النصوص النبوية نظرَ أهل العلم؛ وذلك بالقبول والعمل عند سلامتها من المعارض، وبالجمع والتوجيه عند وجود التعارض أو الإشكال. وتعامَلَ مع آثار السلف ونصوص العلماء بفهمها وتوجيهها بالنظر إلى سياقاتها ومناسباتها ومراد قائلها منها بتجرّد ونصَفَة. أما إن تبيّن أنّ النصّ غير ثابت، فيبيّن موضع العلة فيه، وسبب التضعيف، ثم ردّه عليه، فإن كان له وجهٌ مِن الفهم يسوغ ذَكَرَه تنزّلًا منه على فرض الثبوت. فإن لم يجد النقل كما هو، بيّن تصرُّف أبي ريّة إما بالحذف أو التدليس أو التصرُّف، أو عدم نقل التضعيف للخبر من المصدر المنقول منه. انظر (215، 216، 254، 373، 411).
(مقدمة 12/14)
فإن لم يجد النقل أصلاً بيّن أنه لم يجده، فيبقى أمر الحكم عليه حتى الوجدان ــ وهذا نادر ــ. وقد يبحث عنه الشيخ في مظانه فيجده، فيصحّح الإحالة إلى مكانه. ثم ينظر فيه نظره السابق الذي شرحناه. أما إذا لم يذكر أبو رية مصدر النقل؛ فهذه ــ بتتبّع المؤلف ــ حيلته في تدليس بلاياه، وأنه إن ذكر مصدرَه سيُفضَح بذكره، كما بيّنه الشيخ في مواضع (ص 242، 246، 258). أما ما يذكره أبو رية من القضايا والمسائل والإشكالات، فينظر الشيخ في ذلك كلّه نظَرَ العالم المتبحِّر العارف، فيحلّلها ويدرسها دراسةً عميقة متأنّية، ثم يأتي بخلاصتها في أسطر معدودة، وقد يطيل النَّفَس بعض إطالةٍ إن اقتضى الأمر ذلك، وتلك مسائل معدودة، وأنا على يقين أن الشيخ مال إلى تلخيص القضايا حتى لا يطول الكتاب، وإلا فكثير من مباحثه وتحقيقاته التي ذكرها لم تتأتّ إلا بنَظَر طويل وتحقيق بالغ. فها هو الشيخ ص 190 يحيل إلى بحث له طويل في قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (1) ثم يذكر خلاصته. وقال في موضع آخر (ص 230): "وشرح ذلك يطول". وبعد، فإن للمؤلف في كتابه ــ كما عوّدنا ــ من التحقيقات والإشارات والفوائد ما لو وقعت لغيره لتبجّح بها في طول الكتاب وعرضه، وزَعَم وزَعَم، لكن الشيخ في تواضعه ورزانته نادر المثال. وتأمل قوله رحمه الله: "الباحث المتّزن الواثق بحجته هو الذي يترك الإعلان عن نفسه وعن كتابه _________ (1) وهذا البحث مضمّن في "رسائل التفسير" من هذه الموسوعة المباركة.
(مقدمة 12/15)
إلى الأدلة نفسها، ويَدَع للناس الحريّة التامة في موافقته أو مخالفته" (1).
* أهم الموضوعات التي ناقشها الكتاب:
- السنة ومكانتها من الدين. - كتابة الحديث في العهد النبوي. - هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث. - الرد على نظرية "دين عام ودين خاص". - الصحابة وروايتهم للحديث، وقضية تشديدهم في قبول الأخبار. - الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. - الرواية بالمعنى. - رواية الحديث ونقد الأئمة للرواة. - الوضع وأسبابه. - الإسرائيليات ووجودها في الحديث وردّ مزاعمَ لأبي رية فيها. - تفنيد مكيدة مَهُولة حاول تمريرها والتدليس بها. - ردّ مزاعم له بشأن المسيحيات في الحديث. - الدفاع عن أبي هريرة رضي الله عنه (ص 190 - 320) وهو أطول فصل في الكتاب. - أحاديث مشكلة والجواب عنها. _________ (1) "الأنوار الكاشفة": (الدفتر الرابع ص 3 - مخ).
(مقدمة 12/16)
- تدوين الحديث وأقسام الخبر. - الكلام على "الموطأ"، و"البخاري". - المحدثون وعنايتهم بنقد المتن. - الصحابة وعدالتهم. - درجات الصحابة. - القواعد النظرية القديمة والحديثة. - طلب الحديث بعد فقهه. - خاتمة أبي رية وفيها قضايا حديثية عدة. * ترجمة محمود أبو رية (1) (المردود عليه) (1889 - 1970): نستطيع القول إن أبا رية لم يترجمه أحد، فقد جهِدْتُ وجَهِد الباحثون قبلي للوقوف على ترجمة له أو تعريف به فلم نظفر بكبير شيء، عدا معلومات متناثرة هنا وهناك، فكأنما تواصى الناسُ على إخمال ذكره (2)! ولولا أنه يُعاد ذكرُه عند الطاعنين في السنة والحديث مستشهدين بكتابه، _________ (1) تنبيه: هناك شخصية أخرى بالاسم نفسه "محمود أبو رية" وهو داعية مصريّ من الإخوان المسلمين (ت 2004)، وقد وقع خلطٌ بين الاثنين من بعض الكتّاب، وعليه جرى التنبيه. (2) حتى أصدقاؤه ومعارفه ممن كتب في تراجم المعاصرين! وقد كنت كتبت رسالة إلى الأستاذ وديع فلسطين، أطلب منه أن يكتب لي ما يعرفه عن أبي ريّة، فلم يصلني منه شيء حتى اللحظة، وكان قد ذَكَره في مواضع من كتابه "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره" ووصفه بالصديق.
(مقدمة 12/17)
وعند المدافعين عنها نقضًا لكلامه= لكان نَسْيًا منسيًّا! وهذا من عجيب صنع الله به! غير أنه قد ذكره من لا يُفرَح بهم، من أعدء السنة وسُباب الصحابة، فذكروه وأشادوا به، وخلعوا عليه أفخم الألقاب، وسعوا في طباعة كتبه، وصارت بينه وبينهم صِلات حميمة ومودّة ورسائل خاصة. وأهمّ مَن ذَكَره منهم مرتضى الرضوي في كتابه "مع رجال الفكر في القاهرة": (1/ 130 - 158) (1). والكتاب عبارة عن ذكريات المؤلف بمن التقى بهم في القاهرة، وما دار بينهم من أحاديث وحوارات، وليست تراجم متكاملة. وسنذكر منه ومن غيره (2) ما يفيد في التعريف بأبي رية. اسمه: محمود أبو رية. ولده في كفر المندره (مركز أجا) محافظة الدقهلية في 15 ديسمبر عام 1889 م. وتوفي في 11 ديسمبر 1970 م بالجيزة. عاش في بلدته عيشة جيدة الحال، إلى أن حلّت به وبأسرته سنة 1916 م نكبةٌ مالية ذهبت بكل ما يملكون وساءت حاله جدًّا (3). وبقيت حاله في فاقة، وكان كثير الشكوى من حاله وتقلّب الدهر به (4). _________ (1) أرشد إلى هذه الترجمة أخي الشيخ عبد الرحمن قائد. (2) ما كان من غيره ذكرتُ مصدره. (3) "رسائل الرافعي" (ص 21). (4) المصدر نفسه (ص 23، 34 - 35).
(مقدمة 12/18)
انتسب إلى الأزهر في مقتبل عمره، لكنه لم يتجاوز المرحلة الثانوية الأزهرية مع محاولته أكثر من مرة، ثم عمل مصححًا للأخطاء المطبعية بجريدةٍ في بلده، ثم موظفًا في دائرة البلدية حتى أحيل إلى التقاعد (1). انتقل إلى المنصورة في سنة 1924 م أو قبلها، ولم يأنس بها وكان يشكو من الوحشة فيها (2). وفي المنصورة تولى تحرير جريدة التوفيق، وكان يشارك في تحرير جريدة المنصورة، ويراسل جريدتي المقطم والسياسة (3). ومع أنه قد تيسّرت أموره وحصّل وظيفة جديدة ... فلم يكن راضيًا بالحال التي هو عليها (4). قضى أكثر أيام عمره في مدينة المنصورة حتى وفد إلى الجيزة عام 1957 م، وبقي فيها إلى حين وفاته. بدأ محمود أبو رية حياته ملتمسًا التعرّف بأشهر أُدباء عصره وكُتّابهم، حتى اتصلت أسبابه بإمام الأدب مصطفى صادق الرافعي عن طريق المراسلة، وذلك من عام 1912 م إلى عام 1934 م قبل وفاة الرافعي بثلاث سنين (5). _________ (1) السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام ص 21. (2) "رسائل الرافعي" (ص 94). (3) المصدر نفسه (ص 93). (4) المصدر نفسه (ص 91، 107، 110، 113). (5) بلغ مجموع الرسائل التي وصلته من الرافعي حوالي 350 رسالة. نشر منها أبو رية 263 رسالة، ومن خلالها استفدنا هذه المعلومات المعزوّة إليها. وللرافعي اهتمام بالغ بما يَرِدُ إليه من الرسائل وبأصحابها، وله في ذلك طرائف. انظر "حياة الرافعي" (ص 250) للعريان.
(مقدمة 12/19)
وواضح من رسائله إلى الرافعي أنه كان يسعى لأن يكون كاتبًا يملك ناصية الأدب، ففي كثير منها يسأله عن كتب الأدب وكيف قراءتها، وكتب النحو والمنطق والتصحيح اللغوي ... (1). بدأ أبو رية بالكتابة في الصحف والمجلات المعروفة في عصره، وبتلخيص بعض الكتب الأدبية، ككتاب الحيوان للجاحظ وبعض الكتب الأدبية (2). وكان في أولى مقالاته مدافعًا عن الدين وعن البلدان الإسلامية، فمرَّة تراه يستنجد للحجاز ليهب المسلمون بتقديم يد المساعدة إليه، وإلى أهل الحرمين قبيل الحرب العالمية الثانية، في مقال بعنوان: ما يجب على المسلمين للحجاز (3). ومرةً يدعو إلى تطهير التوحيد مما لصق به، وإخلاصه لله عز وجل في مقال بعنوان: تطهير العقائد أساس الإصلاح في البراء (4). بل نجده أحد الذين تصدّوا للردّ على توفيق الحكيم في دعوته إلى توحيد الأديان. _________ (1) "رسائل الرافعي" (ص 13، 15، 40، 28، 122). (2) المصدر نفسه (ص 115). ولم يحمد الرافعي تلخيصه وقال: إنه لم يحسن الاختيار. (3) مجلة الفتح: العدد 524، 12 محرم 1356 هـ، جـ 11، ص 1034. (4) مجلة الفتح: العدد 543، 19 محرم 1356 هـ.
(مقدمة 12/20)
قد تعود بداية انحراف أبي رية عن السنة إلى عام 1363 هـ حيث نشاهده في "مجلة الفتح الإسلامية" وهو يدافع عن القرآن، لكنه في الوقت نفسه يغمز ويلمز السنة ضمنًا (1). وبدا أكثرَ صراحة في نقد السنة الصحيحة والقدح فيها بعد ذلك؛ فكتب مقالًا في "مجلة الرسالة" في إنكار حديث سِحْر النبي - صلى الله عليه وسلم - الوارد في الصحيح، وردّ عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. ثم وضَح انحرافه عن السنة بعد ذلك في مقال له في "مجلة الرسالة" عدد 633 رمضان 1364 هـ/1945 م بعنوان "الحديث المحمدي". ذَكَر فيه أن مقاله هذا خلاصة كتاب سيُنشر في هذا الخصوص. وقد رد على مقاله ذاك الدكتور محمد أبو شهبة في "مجلة الرسالة" نفسها بعد نحو شهرين عدد 642 سنة 1364 هـ. ثم ردّ على الردّ أبو رية في العدد 654 من المجلة نفسها (2). وبعد ذلك بنحو ثلاث عشرة سنة نَشَر أبو رية ما وَعَد به في كتاب بعنوان "أضواء على السنة المحمدية".
- مؤلفاته:
1 - عليٌّ وما لقيه من أصحاب الرسول. مخطوط (3). 2 - أضواء على السنة المحمدية. وهو الكتاب المردود عليه. _________ (1) مجلة الفتح: العدد 546، 10 صفر 1356 هـ، جـ 11، ص 1100. (2) انظر "دفاع عن السنة" (ص 34) لأبي شهبة. (3) ذكره مرتضى الرضوي ونقل منه في كتابه "مع رجال الفكر": (1/ 130 - 158).
(مقدمة 12/21)
3 - أبو هريرة شيخ المضيرة. طبع. 4 - السيد البدوي. طبع. 5 - كتاب حياة القرى. طبع. 6 - صيحة جمال الدين الأفغاني. طبع. 7 - رسائل الرافعي. طبع. 8 - جمال الدين الأفغاني. طبع. 9 - دين الله واحد. طبع. 10 - قصة الحديث المحمدي. طبع. * وهذا سياق ما ذكره مرتضى الرضوي (شيعي اثنا عشري) من ذكريات مهمة مع "أبو ريّة" (1) قال: "تعرفت إليه عام 1958 م .... وتعرفت على الشيخ سليمان الوكيل صاحب مطبعة "دار التأليف". وقد عمل لنا الأخ حسين محمد كاظم ــ صاحب المكتب أو النادي ــ دعوة في مكتبه فدعاني، والشيخ سليمان الوكيل، والأستاذ محمد برهومة على طعام في ظهر يوم جمعة وجلس معنا, وقد أحضر لنا الطعام من أحد المطاعم القريبة لمحله وبعد أن فرغنا من تناول الطعام أحضر لنا الشاي، والقهوة، والكازوز، والشيشة "النركيله". _________ (1) في كتاب "مع رجال الفكر في القاهرة": (1/ 130 - 158). وقد حذفت منه الاستطرادات التي لا تفيد شيئًا عن أبي رية. وحرصت على نقل كلامه بطوله؛ لأنه يكشف حقيقة كانت خفيّة في علاقته مع الرافضة وصلاته القوية بهم واحتفالهم به.
(مقدمة 12/22)
وبعده تكلم الشيخ سليمان الوكيل وقال: إن لي مطبعة وعندي كتب طبعتها ومستعد لطبع الكتب التي عندك. ثم قال: إن العلامة الشيخ محمد أبو رية له كتاب يطبعه الآن عندنا واسمه: "أضواء على السنة المحمدية"، وبلغه مجيئُك إلى القاهرة ويطلب فضيلته الاتصال بك (1)، فلو سمحت أن تزورنا في المطبعة، وفضيلته سوف يحضر في الصباح قبل الساعة العاشرة ... وعندما دخلت رأيت شيخًا وقورًا جالسًا عن يمينه فسلمت عليه فرد عليّ السلام, وأشار الشيخ سليمان صاحب المطبعة على الشيخ الوقور الجالس عن يمينه وقال: هذا هو الشيخ محمود أبو رية الذي حدّثتك عنه أمس. فجلست إلى جنب فضيلته وحييته, فرحّب بي كثيرًا، وفتحت الحديث معه وقلت: يا مولانا الشيخ: بأيّ مذهب من المذاهب الأربعة متمسّك. فأجاب: أنا مسلم أعمل بكتاب الله وسنة نبيه، وأنا غير ملتزم بمذهب من هذه المذاهب الأربعة. وقال: أنا أعلم من الشافعي، وأبي حنيفة! (2) فسألته عن رأيه في الصحاح؟ فقال: الصحاح صحاح عند أصحابها. فقلت: ما رأي سيادتكم في بعض الرواة المكثرين للحديث. فقال: تقصد زي من, مثل من؟ قلت: أبو هريرة. فقال: أبو هريرة رجل وضَّاع. _________ (1) أبو رية هو من سعى للتعرف بهذا الرافضي، وهو مِن قَبْله على علاقة حميمة بعبد الحسين شرف الدين كما سيقص خبرَه. (2) إن صدق هذا الرافضي في النقل، فإن الرافعي يقول لأبي رية في إحدى رسائله: "ليتك كنت مجذوبًا يا أبا رية ... ولكنك لا تصلح مجذوبًا ولا عاقلًا"! "رسائل الرافعي" (ص 77). أقول: وأين مثل الرافعي خبرةً بأبي رية! !
(مقدمة 12/23)
قلت: قد ألف الإمام شرف الدين العاملي كتابًا في حياة هذا الراوية المكثر وأسماه: (أبو هريرة) , فمد فضيلته يده إلى حقيبة كانت معه وأخرج منها كتاب: (أبو هريرة) الذي ألفه الإمام شرف الدين العاملي , وكانت الطبعة الأولى طبعة صيدا - لبنان, وقال: هذا ما أهداه لي الإمام شرف الدين. فناوَلَني النسخة فأخذتها بيدي، فرأيتُ الإهداء بخط الإمام شرف الدين على الكتاب وفيه ما يشعر بجهاده وعلمه وإكباره (1). ثم أخبرته بوفاة ... - شرف الدين - قبل أسبوع في يوم الاثنين الماضي الموافق 30/ 12/1957 م الموافق 8/ 6/1377 هـ ... فتأثر كثيرًا وقال: كان في نيتي إهداء كتاب "الأضواء" له عند إتمامه من الطبع. ثم طلب فضيلته الشيخ سليمان - صاحب المطبعة - وقال: هات الملازم المطبوعة من كتاب "الأضواء", فجاءني بها الشيخ سليمان وكانت آنذاك خمسة عشر ملزمة ولغاية (240) صفحة مطبوعة, فأخذتها بيدي وتصفحتها حتى وصلت إلى عنوان: (أحاديث المهدي) , فرأيت فضيلته ينقل عن ابن خَلْدون البربري ويقول: وقد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي وفندها كلها, فقلت: يا مولانا الشيخ, إن البربري هذا ابن خلدون من ألدّ أعداء الشيعة وخصومهم ولا يصح نقل شيء من الخصم وكلامه ليس بحجة. وإذا كنتم بحاجة إلى (أحاديث في المهدي) فإن معي كتاب (منتخب الأثر) في الإمام الثاني عشر لفضيلة العلامة الكبير الشيخ لطف الله الصافي وفيه ينقل عن أعلام السنة ومحدثيهم, وإني مستعدّ لتقديمه لفضيلتكم حيث أنه ملمّ بهذا الموضوع. وبعد أيام اتصلت به هاتفيًّا وحددت الموعد معه وقصدت منزله وصحبت معي كتاب: (منتخب الأثر) وأهديته له، وجُلْت معه ساعة وانصرفت. _________ (1) هذا يعطينا سببًا من أسباب انحرافات أبي رية عن السنة وطعنه في رواتها وأهلها!
(مقدمة 12/24)
وبعد مدة اتصلت به هاتفيًّا للاجتماع به في منزله ... وتذاكرنا حول (أحاديث المهدي) وكتاب (منتخب الأثر) وكان قد أُعجب به كثيرًا واستفاد منه. ثم طلبت من فضيلته أن يكتب للسيد العسكري حول هذا الموضوع ... ثم قلت لفضيلته: السيد العسكري من كبار المؤلفين في العراق، ومعروف لدى كبار علماء النجف الأشرف، ويمكنكم مراسلته وأخذ ما يخص هذا الموضوع منه, فراجعه فضيلته بعد ذلك وذكر هذا في كتابه "أضواء على السنة المحمدية" في الطبعة الثالثة التي طبعتها دار المعارف بمصر تحت إشرافه. ثم تحدثت عن المذاهب الأربعة وقلت: إن هذه المذاهب: هي التي احتضنتها السياسة، وروّجتها تجاه الإمام الصادق من أئمة أهل البيت (عليهم السلام). وقلت: إن المستشرقين الذين طعنوا في الإسلام استندوا إلى الخرافات والإسرائيليات التي وجدوها في كتب أهل السنة. فقال: أنا معك. وفي إحدى رحلاتي إلى القاهرة قصدت داره العامرة وقد حملت له مجموعة من الكتب كنت قد صحبتها وحملتها معي من العراق، ومن بينها: (أحاديث عائشة) لمؤلف كتاب (عبد الله بن سبأ) ــ السيد العسكري ــ وطلبت منه أن يكتب رأيه حول هذا الكتاب الخالد. وهذا نص ما كتبه: "أحاديث أم المؤمنين عائشة يحسب العامة وأشباه العامة من الذين يزعمون أنهم على شئ من العلم أن التاريخ الإسلامي وبخاصة في (دوره الأول) قد جاء صحيحًا لا ريب فيه، وأن رجاله جميعًا ثقات لا يكذبون - وهو من أجل ذلك يصدقون كل خبر جاء من هذه الفترة، ويشدون أيديهم على تلك
(مقدمة 12/25)
الأحاديث التي شحنت بها الكتب المشهورة في الحديث. تلك التي حملت الطِّمّ والرِّم، والغث والسمين، والصحيح القليل، والموضوع الكثير. وقد بلغ من ثقتهم بأحاديث هذه الكتب، أن من يشك في حديث منها يعد في رأيهم فاسقًا! ! وإذا كان الله قد آتاهم عقولا لا ليفهموا بها، وفهوما لا يَزِنون بها، فإنهم يعطلون هذه المواهب استمساكا بالتقليد الأعمى، والتعبد لمن سلف! وإذا أنت بصَّرتهم بالحق، وبينت لهم المحجة الواضحة، لووا رؤوسهم، وأصروا على معتقداتهم واستكبروا استكبارا. وليتك تسلم من ألسنتهم، بل يرمونك بشتائمهم، وسبابهم، ويسلقونك بألسنتهم، وقد بلوت ذلك منهم عندما أخرجت كتابي: (أضواء على السنة المحمدية) الذي أرَّخت فيه الحديث، وكشفت كيف روي وما شابه رواية من الموضوعات ومتى دُوّن وما إلى ذلك ما يجب بيانه - فإنهم ما كادوا يقرأونه حتى هبَّت عليَّ أعاصير الشتائم والسباب من كل ناحية، من مصر والحجاز والشام! فلم أبال كل ذلك بل استعذت به لأني على سبيل الحق أسير، فلا يهمني شيء يلاقيني في هذا السبيل مهما كان. ومن عجيب أمر هؤلاء الذين يقفون في سبيل الحق حتى لا يظهر. ويمنعون ضوء العلم الصحيح أن يبدو، لا يعلمون مقدار ما يجنون من وراء جمودهم، وأن ضرر هذا الجمود لا يقف عند الجناية على العلم والدين فحسب؟ بل يمتد إلى ما وراء ذلك. فإن الناشئين من المسلمين وغير المسلمين الذين بلغوا بدراستهم الجامعية العلمية إلى أنهم لا يفهمون إلا لقبولهم، وما وصلوا إليه بعلمهم، قد انصرفوا عن الإسلام لما بدى لهم على هذه الصورة المشوهة التي عارضها هؤلاء الشيوخ عليهم. من أجل ذلك كله كان من الواجب الحتم على العلماء المحققين الذين حرروا أعناقهم من أغلال التقليد، وعقولهم من رق التعبد للسلف، أن يشمروا عن سواعد الجد، ويتناولوا تاريخنا بالتمحيص، وأن يخلصوه من شوائب الباطل والعصبيات، ولا يخشون في ذلك لومة لائم.
(مقدمة 12/26)
وإني ليسرني كل السرور أن أشيد بفضل عالم محقق كبير من علماء العراق قد نهض ليؤدي ما عليه نحو الدين والعلم فأخرج للناس كتبا نفيسة كانت كالمرآة الصافية التي يرى فيها المسلمون وغير المسلمين تاريخ الإسلام على أجمل صوره في أول أدواره، ذلكم هو الأستاذ (مرتضى العسكري) فقد أخرج لنا من قبل: كتاب (عبد الله بن سبأ) أثبت فيه بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، أن هذا الاسم لم يكن له وجود وأن السياسة "لعنها الله" هي التي ابتدعت هذا الاسم لتجعله من أسباب تشويه وجه التاريخ، وبيَّن أن شيخ المؤرخين في نظر العلماء وهو الطبري قد جعل جل اعتماده في تاريخه ورواياته على رجل أجمع الناس على تكذيبه. ومن الغريب أن جميع المؤرخين الذين جاؤوا بعد الطبري قد نقلوا عن ابن جرير كل رواياته بغير تمحيص ولا نقد، وهذا الرجل الكذاب هو: سيف بن عمر التميمي. وأردف العلامة العسكري هذا الكتاب النفيس بكتاب آخر أكثر منه نفاسة هو كتاب: (أحاديث عائشة) وقد تناول في هذا الكتاب تاريخ هذه السيدة لا كما جاء من ناحية السياسة والهوى والعصبية، ولكن من أفق الحقيقة التي لا ريب فيها، وكتبه بقلم نزيه يرعى حرمة العلم وحق الدين لا يخشى في الله لومة لائم. أشار الأستاذ في تمهيده لكتابه إلى ما في الأحاديث التي نسبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اختلاف بين حديث وآخر، وبين بعض تلك الأحاديث، وآي القرآن فما كان مثار الطعن والنقد إلى النبي من أعداء الإسلام. ثم بيَّن أن هذه الأحاديث إن هي إلا مجموعات مختلفة رويت عن رواة مختلفين، وعلى الباحث العالم النزيه أن يقوم بتصنيفها نسبة إلى رواتها. ثم يدرس أحاديث كل منهم على حدة. وبخاصة أحاديث الرواة المكثرين أمثال: عائشة، وأبي هريرة، وأنس، وابن عمر، مع دراسة حياة راويها، وبيئته وظروفه، ثم مضى يقول: إن التاريخ الإسلامي منذ بعثة الرسول حتى بيعة يزيد بن معاوية لا يفهم صحيحا إلا بعد دراسة أحاديث أم المؤمنين (دراسة موضوعية) ولأن
(مقدمة 12/27)
الأستاذ المؤلف بصدد البحث عن التاريخ الإسلامي في دوره الأول فقد قدم هذه الدراسة على غيرها من الدراسات. وبعد أن بيَّن صعوبة هذه الدراسة لما يجد في سبيلها من عقبات متعددة أخذ في موضوع دراسة فبيَّن نسب عائشة، ومولدها، وتزويجها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وما صنعته معه (كامرأة) كما قال شوي: من مكر وكيد "كيدهن عظيم". وإنها قد أقامت مع النبي نيفًا وثمانية أعوام، ثم أخذ يذكر أنها كانت تؤيد خلفاء النبي (أبي بكر، وعمر، وعثمان) في أول خلافته ثم انحرافها عنه وترأسها للمعارضة له حتى بلغ من أمرها أنها كانت تحرّض على قتله، وما أن قتل هذا الخليفة بسبب خروجه عن نهج سابقيه، وتركه الأمر لقومه يتصرفون فيه بأهوائهم حتى "برزت" تعارض عليًّا معارضة شديدة لم يلق مثلها من غيرها، وكان في أول شئ بدا منها لهذا الإمام العظيم أنها ما كادت تعلم بنبأ بيعته حتى ثارت ثائرتها وصاحت: لا يمكن أن يتم ذلك! ولو انطبقت هذه - أي السماء على الأرض - ولما لبثت أن ألبت عليه طلحة والزبير وقادوا جميعًا الجيوش الجرارة لمحاربة علي (رضي الله عنه) في وقعة الجمل - وكانت تركب جملًا من المدينة إلى البصرة، وبعد أن انتهيت هذه المعركة بسفك الدماء المحترمة انتهت المعركة بقتل طلحة فأعادها " علي (رضي الله عنه) " إلى المدينة مكرمة لم ينلها سوء، ولكنها لم تحفظ له هذا الجميل، ولم ترجع عن غيها وظلت تعمل ضده بكل وسيلة وكان من ذلك أن كانت تؤيد معاوية في حروبه مع " علي (رضي الله عنه) " ولم تهدأ ثائرتها حتى قُتل علي فقرت عينها، وهدأت نفسها، وتمثلت عند قتله بقول الشاعر: فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قرَّ عينًا بالإياب المسافر وقد كان ذلك بسبب ضغنها لعلي (رضي الله عنه)، وما يكنه صدرها له لأنه
(مقدمة 12/28)
زوج فاطمة بنت خديجة. وما كان لموقفه من حديث الإفك ... وفي كتاب أرسله إليها وإلى طلحة والزبير أثناء وقعة الجمل، لو أنها عقلته وتدبرته لاشتد ندمها واستغفرت الله مما أجرمت وإن كان الظن أن الله لا يغفر لها. قال (رضي الله عنه): وأنت يا عائشة فإنك خرجت من بيتك عاصية لله ولرسوله تطلبين أمرًا كان عنك موضوعًا، ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين فخبريني ما للنساء وقود الجيوش؟ والبروز للرجال؟ والوقع بين أهل القبلة، وسفك الدماء المحترمة؟ ثم إنك على زعمك طلبت دم عثمان، وما أنت وذاك؟ وعثمان رجل من بني أمية وأنت من تيم؟ إنك بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول الله: اقتلوا نعثلًا فقد كفر! ثم تطلبين اليوم بدمه! فاتقي الله وارجعي إلى بيتك والبسي عليك سترك والسلام. هذه لمحة خاطفة مما حواه كتاب (أحاديث عائشة) ولو نحن ذهبنا نبين ما فصَّله هذا العالم المحقّق في كتابه هذا مما أوفى به على الغاية، ولم نر مثله من قبل لغيره لاحتجنا إلى كتاب برأسه. وإذا كان لا بد من كلمة نختم بها قولنا هذا الموجز فإنا نقول مخلصين: إنه يجب على كل من يريد أن يقف على حقيقة الإسلام في مستهل تاريخه إلى بيعة يزيد فليقرأ كتابي هذا العلامة (عبد الله بن سبأ - وأحاديث عائشة) وليتدبر ما جاء فيهما، فإن فيهما القول الفصل. أما ما نرجوه من العلامة مؤلفهما فهو أن يغذّ السير في هذا الطريق الذي اختطه حتى يتم ما أخذ نفسه به. والله ندعو أن يكتب له التوفيق، والسداد في عمله، إنه سميع الدعاء ... محمود أبو رية القاهرة: عن جيزة الفسطاط ليلة الجمعة 18 رمضان المبارك 1381 هـ. الموافق 23 فبراير 1962 م".
(مقدمة 12/29)
هذا وإني لما غادرت القاهرة وأتيت إلى سوريا ولبنان وقبل وصولي العراق عَرَّفت فضيلة الأستاذ الشيخ محمود أبو رية على جماعة من الأساتذة والعلماء والكتّاب في كل من سوريا ولبنان، والعراق: كالأستاذ صدر الدين شرف الدين, وفضيلة الشيخ محمد جواد مُغْنية, وآية الله الإمام الخوئي, والعلامة الأستاذ الشيخ أحمد الوائلي, والأستاذ رشيد الصفار. وقد تبودلت الرسائل بينه وبين السيد صدر الدين شرف الدين وطلب من الشيخ أن يراسله وأرسل له فصولًا من كتابه (شيخ المضيرة) فنشر منه في عدة أعداد من مجلته "مجلة النهج" وتوثقت بينه وبين الشيخ الاتصالات، وتبادلت بينهما الرسائل حتى استطاع الأستاذ صدر الدين أن يقوم بطبع كتابه (شيخ المضيرة) الطبعة الأولى في صور - لبنان. وكما تبادلت الرسائل بينه وبين الشيخ محمد جواد مُغْنية حول طبع (شيخ المضيرة أبو هريرة) وذلك قبل أن يتم الاتفاق مع السيد صدر الدين شرف الدين. كما تبادلت الرسائل بينه وبين آية الله الخوئي، والأستاذ رشيد الصفار. وفي 12/ 10/1963 م تسلمت طردًا من دائرة بريد النجف مُرسِلُه فضيلة الأستاذ "أبو رية" من القاهرة، وفي باطنه ثلاث نسخ من كتاب: (أبو هريرة راوية الإسلام) بقلم العجاج الخطيب الشامي، وقد صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة أعلام العرب إلى الأسواق بتاريخ 7/ 11/1963 وكانت النسخ مهداة لي وللسيد العسكري وللأستاذ رشيد الصفار، لأني كنت همزة وصل وتعريف بينهم. وفي إحدى رحلاتي إلى القاهرة التقيت بالأستاذ رشيد الصفار فكان يذهب معي إلى منزل الأستاذ الشيخ محمود أبو رية. وكان آية الله الخوئي عندما تصل إليه رسائل الشيخ محمود أبو رية كان يرسل إليّ ويطلعني عليها أو يرسلها لي لأطلع عليها. وفي أحد الأيام جاءني السيد عماد حفيد آية الله
(مقدمة 12/30)
الخوئي وقال: إن جدي يطلب حضورك، وكان عندي جماعة وعندما انصرفوا توجهت إلى دار سماحته، ولما دخلت سلّمت وجلست فتوجه نحوي سماحته وقال: لقد تأخرت علينا في المجيء وأرسلت الرسالة إليك مع فضيلة السيد مرتضى الحكمي. وعند ذلك جلست زمنًا يسيرًا وإذا بفضيلة السيد الحكمي قد دخل علينا، فتوجه إليه آية الله الخوئي وقال: لقد حضر السيد، فأعطه رسالة الشيخ ليطلع عليها فتسلمتها وقرأتها وهذا بعضها: "عزمتُ على وضع كتاب باسم: (أمير المؤمنين علي وما لقي هو وبنوه من أصحاب رسول الله). أولًا: من الثالوث الأول: أبو بكر وعمر وعثمان. ثانيًا: من الثالوث الثاني: عائشة وطلحة والزبير. وثالثة الأثافي: ما صنعه عثمان من تأسيس الدولة الأموية، ثم انتهاء أمر الخلافة إلى سكير خمر عربيد ملعون هو وأبوه وجده. وإني الآن أعكف على قراءة المصادر التي تعينني على ذلك، وكل ما أرجوه أن يوفقني الله إلى أداء هذا العمل على أكمل وجه. محمود أبو ريه القاهرة: 12/ 1/ 1388 هـ". وفي 5/ 11/69 وصلتني رسالة من الأستاذ "أبو رية" تاريخها 26/ 10/ 1969 من القاهرة يقول فيها: (كتاب قصة الحديث المحمدي) الذي كانت وزارة الثقافة قد طلبته مني منذ عشر سنين ووقف الأزهر في سبيله حتى لا يظهر قد أراد الله أن يظهر رغم أنف الأزهر بعد ما قرأه الدكتور طه حسين وشهد بقيمته شهادة فائقة، وسأرسل لك نسخةً منه هدية ومعها بعض نسخ لأصدقائنا الأعزاء، ومع كل نسخة بيان مطبوع منا ... وفي 20/ 11/ 1969 جاءني البريد ويحمل ملفًّا فيه ثلاث نسخ من الكتاب (قصة الحديث المحمدي) إحداها كانت باسمي، والثانية باسم السيد العسكري، والثالثة للأستاذ رشيد الصفار، وفي كل نسخة بيان مطبوع وإليك نصه: "للحقيقة والتاريخ كان من حق هذا الكتاب (قصة الحديث المحمدي) أن يخرج إلى الناس مطبوعًا منذ أكثر من عشر سنين، ذلك بأن وزارة الثقافة
(مقدمة 12/31)
المصرية كانت قد طلبت منا مختصرًا لكتابنا: (أضواء على السنة المحمدية) عندما ظهرت طبعته الأولى في سنة 1958 م لتجعله حلقة في سلسلة مكتبتها الثقافية، وقبل نشره عرَضَتْه على الأزهر ليبدي رأيه فيه، وما كاد يقف عليه حتى أرصد له من كيده، فرماه بأن فيه ما يخالف الدين، وطلب عدم نشره وتداوله بين المسلمين، ولم تستطع هذه الوزارة أن تخالف عن أمره لأنه ما يربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وظل هذا الكيد يلاحق الكتاب هذه السنين الطويلة لكي يحول دون نشره بين الناس، إلى أن عَلِم أخيرًا بالأمر نصير الدين والفكر الدكتور طه حسين طلب أصول الكتاب من وزارة الثقافة، ولما اطلع عليه أعاده علينا مع خطاب، دحض فيه ما رماه الأزهر به. وصرّح في جلاء أنه موافق للدين كل الموافقة لا يخالفه ولا ينبو عنه في شئ مطلقًا. وأنه مفيد فائدة كبيرة جدًّا في علم الحديث ... وأن في نشره الخير كلّ الخير، والنفع كل النفع. وبذلك انحسم الأمر، وحصحص الحق، واتخذ الكتاب سبيله إلى الناس مطبوعًا لينتفعوا به. ولأهمية خطاب الدكتور طه حسين نشرنا صورته على غلاف الكتاب، تبصرة لأولي الألباب. محمود أبو ريه 13/ 10/1969". انتهى كلام مرتضى الرضوي. ثم ساق نص خطاب طه حسين. قلت: ومع ثناء طه حسين عليه هنا وتقديمه لكتابه إلا أنه كان أكثر ورعًا من أبي رية وأكثر إنصافًا، فقد كتب مقالًا في جريدة الجمهورية (25 نوفمبر سنة 1958) ينتقد فيه أبا رية ويذكر ضعف إنصافه في البحث، واستخدامه لغة لا تليق بلغة العلم، واعتماده على روايات لا يُعرف ثبوتها ... وغير ذلك. ساق ملخّص المقال زكريا علي يوسف في كتابخ "دفاع عن الحديث النبوي" (ص 113 - 115).
(مقدمة 12/32)
* طبعات الكتاب: طبع الكتاب سنة 1378 هـ في حياة مؤلفه في المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة، لمحب الدين الخطيب في 320 صفحة. وهي طبعة جيدة قليلة الخطأ. ثم توالت الطبعات تصويرًا عن الطبعة السلفية؛ فطبع في حديث أكاديمي بباكستان سنة 1378 هـ. وطبع في عالم الكتب ببيروت سنة 1403 هـ، وطبع في المكتب الإسلامي ببيروت سنة 1405 هـ. * مخطوطات الكتاب: الكتاب له إخراجان: مسوَّدة ومبيّضة. 1 - المبيّضة: لم نقف عليها، وهي التي طبع عنها الكتاب أوّل مرّة، فالظاهر أن المؤلف أرسلها إلى المطبعة السلفية بمصر لصاحبها محبّ الدين الخطيب لإعداد الكتاب للطبع، وبقيت هناك ولم تُعَد إلى المؤلف ولا إلى الشيخ نصيف الذي سعى في طباعته، فالله أعلم أين استقرّ قرارُها، وهل بقيت محفوظة أو جارت عليها صروف الدهر؟ وعدد أوراق النسخة المبيّضة 224 صفحة. بحسب ما جاء في هوامش الطبعة الأولى؛ إذ حافظوا على وضع أرقام صفحاته على طُرَر المطبوعة، وكتبَ الناشرُ تنبيهًا بخصوص ذلك قال: "تنبيه: يوجد في أثناء هذا الكتاب إحالات على ما تقدّم منه أو تأخّر بقيد الصفحات، والمعتبر في ذلك صفحات الأصل الذي بخط المؤلف. وهي التي أشير إليها في هامش هذا المطبوع".
(مقدمة 12/33)
2 - المسوّدة: وُجِد منها أربعة دفاتر فقط في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم (4664)، وهي من الدفاتر المدرسية العادية المعروفة في ذلك الوقت وما بعده، الأول 60 ورقة، والثاني 40 ورقة، والثالث والرابع 20 ورقة. ووصفها كالتالي: الدفتر الأول: يقع في 78 صفحة بخط الشيخ المعلمي وترقيمه، سقط منها صفحتان: 2 - 3. وتبدأ بمقدمة الردّ، وهي متوافقة تمامًا مع المبيضة التي طبع عنها الكتاب، وهي كثيرة الضرب والتخريج واللحق على عادة الشيخ في مسوّداته. وما أبقى عليه من الكلام موافق لما في المبيضّة، فهذا يدلّ أن هذه المسوّدة هي التي انتسخ منها الشيخ مبيضته، وليس من مسوّدةٍ أخرى. أقول هذا لأن المصنِّف ربما كتب عدّة مسوّدات للكتاب الواحد. لكن تبقى مواضع مضروب عليها وليس تحتها عبارات أخرى، فلعل الشيخ كتب في المبيّضة كلامًا مستأنفًا لم يثبته في المسوّدة، أو كان في جُزازات مُلحقة بالمسوّدة ولم تصل إلينا. وعبارات أخرى غير مضروب عليها ولا وجود لها في المبيّضة ــ على أني لم أقابل جميع المسودة ــ. وينتهي هذا الدفتر عند الكلام على كلام الغزالي وفهم رشيد رضا له، وهو في (ص 17) من المبيّضة. الدفتر الثاني: 54 صفحة بترقيم المؤلف. ويبدأ بنقل كلام أبي رية عن الإسرائيليات في ص 124 من كتابه، وهو في المبيّضة في (ص 86) وينتهي في نقاش أبي رية في حديث خلق التربة يوم السبت وهو في (ص 139) من المبيّضة.
(مقدمة 12/34)
الدفتر الثالث: 10 صفحات الدفتر الرابع: 24 صفحة. وهذان الدفتران فيهما ثلاث قطع عبارة عن ملاحظات على كتاب أبي رية وتحليل لكتابه وغرضه منه، والأهم فيها أنها تبين كيف وقف الشيخ على كتاب أبي رية ورد الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة عليه، وأنه كان بصدد كتابة تقديم له، لكن تبين له أنه يحتاج إلى ردّ مستقل ... القطعة الأولى في الدفتر الأول غالبها في موضوع كتابة الحديث والكلام على حديث "من كذب علي متعمّدًا". والدفتر الثاني فيه قطعتان، الأولى في 20 ص، والثانية في 4 ص ومسائلها لا تتعدى مباحث الحديث النبوي وما يتعلّق بها. ثم وجدنا فيما عثرنا عليه أخيرًا من كتب الشيخ ثلاثة دفاتر من المسوّدة، وهي الكراسات ذوات الأرقام (1 و 4 و 9) ولا يختلف وصفها عن سابقتها. ومع ذلك لا تمثّل هذه المسوّدات كامل الكتاب بل مواضع متفرّقة منه.
* منهج التحقيق:
نذكر هنا ما يتعلق بهذا الكتاب بخصوصه؛ إذ الأطر العامة لتحقيق كتب العلامة عبد الرحمن المعلمي لا تختلف، وقد شَرَحْتُها في مقدمة هذا المشروع. اعتمدت في إثبات نص الكتاب على الطبعة الأولى التي نُشِرت عن المكتبة السلفية سنة 1378 هـ في حياة المؤلف رحمه الله، وهم اعتمدوا على النسخة المبيّضة بخط الشيخ كما بينوه في أول طبعتهم، وسبق عند
(مقدمة 12/35)
الكلام على مخطوطات الكتاب أننا لم نقف على هذه النسخة، ولم يقع لنا إلا دفاتر من مسوّدة الكتاب، لا تمثّل في مجموعها ثلث الكتاب. والحقّ أن تلك الطبعة جيّدة قليلة الخطأ، وقد أصلحتُ ما وقع فيها من أخطاء وتحريفات غالبًا في متن الكتاب مع التنبيه عليه في الحاشية، وأشرتُ إليها بـ (ط)، وقد أضع الإصلاح بين معكوفتين [] مكتفيًا بذلك. وأبقيتُ ما لم أهتد إلى صوابه كما هو مع بيان موضع الإشكال، وهذا نادر. وكذلك النقول التي نقلها الشيخ واستشكلها (1) أبقيتها مع تصويبها في الحاشية. وقد بحثت عن النسخة المطبوعة الخاصة بالمؤلف في مكتبة الحرم على أمل أن أقف على تصحيح أو إضافة، فلم أظفر بطائل! أما المصادر التي نقل الشيخ عنها أو أحال إليها فإني ألتزم بالرجوع إلى نصوصها، فإن كانت النسخة التي رجعتُ إليها هي نسخة الشيخ نفسها لم أعلق بشيء، وإن اختلفت ذكرتُ الجزء والصفحة منها في الهامش مع بيان الطبعة. والنصوص التي نقلها الشيخ من كتاب أبي رية قابلتها بالطبعة التي وقفتُ عليها وهي السادسة، فوجدت أبا ريّة قد غيّر فيها بالحذف والتهذيب وربما الإضافة، فأشرت إلى ذلك، أما ما كان في نصوصه بين معكوفين [] فهي من إصلاح الشيخ رحمه الله. وقد جعلت نصوص أبي رية بخط أصغر مسوّد بين هلالين () تمييزًا له عن كلام المؤلف، وجعلتُ بداية رد الشيخ "أقول" بخط أسود هكذا. _________ (1) إذا استشكل الشيخ نصًّا أو كلمة فغالبًا ما يشير إلى ذلك بوضع علامة استفهام بعدها بين هلالين هكذا (؟ ).
(مقدمة 12/36)
حافظتُ على إثبات أرقام صفحات نسخة الشيخ المبيّضة في هوامش النسخة رغم عدم وقوفي عليها؛ على أمل العثور عليها يومًا من الدهر، لأنّ المؤلف كان كثير الإحالة على نسخته لما تقدّم أو يأتي من المباحث، فما أحاله الشيخ عليها بيّنتُ في الهامش مكانه من طبعتنا. وأخيرًا أثبتّ في آخر الكتاب ملحقين الأول في 13 صفحة والثاني في 25 صفحة. فيهما بيان كيف وقف المؤلف على كتاب أبي رية، وما الدافع له على تأليف كتابه هذا، ونقاش جُمليّ لبعض قضاياه. وختمنا الكتاب بفهارس للآيات والأحاديث والآثار والأعلام والشعر والكتب، قام بصنعها الشيخ زاهر بالفقيه وفقه الله. والحمد لله حق حمده.
(مقدمة 12/37)
نماذج من النُّسخ الخطية
(مقدمة 12/39)
الصفحة الأولى من الطبعة الأولى
(مقدمة 12/41)
الصفحة الأخيرة من الطبعة الأولى
(مقدمة 12/42)
ورقة من مسودات "الأنوار الكاشفة"
(مقدمة 12/43)
ورقة أخرى من مسودات "الأنوار الكاشفة"
(مقدمة 12/44)
ورقة أخرى من مسودات "الأنوار الكاشفة"
(مقدمة 12/45)
ورقة أخرى من مسودات "الأنوار الكاشفة"
(مقدمة 12/46)
الأنوار الكاشفة لما في كتاب "أضواء على السنة" من الزلل والتضليل والمجازفة تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني 1312 - 1386 تحقيق علي بن محمد العمران
(12/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أقدِّم كتابي هذا إلى أهل العلم وطالبيه، الراغبين في الحق المُؤثِرين له على كل ما سواه، سائلًا الله تعالى أن ينفعني وإياهم بما فيه من الحق، ويقيني وإياهم شرَّ ما فيه من باطل حَكَيتُه عن غيري أو زللٍ منّي، فإن حظِّي من العلم زهيد. وكان جَمْعي للكتاب على استعجال مع اشتغالي بغيره، فلم أُكثر من مراجعة ما في متناولي من مؤلفات أهل العلم، ولا ظفرت ببعضها، ومنها ما هو من مصادر الكتاب المردود عليه "أضواء على السنة". وقد سبقني إلى الردِّ عليه فضيلة الأستاذ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، مدير دار الحديث بمكة المكرمة، والمدرِّس بالحرم الشريف، واستفدت من كتابه، جزاه الله خيرًا. ولفضيلة السلفي الجليل، المحسن الشهير، نصير السنة، الشيخ محمد نصيف اليد الطُّولى في استحثاثي لإكمال الكتاب، وإمدادي بالمراجع. وكذلك للأخ الفاضل البحَّاثة الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع، عضو مجلس الشورى، ومدير مكتبة الحرم المكِّي؛ فإنه أمدَّني ببعض المراجع من مكتبته الخاصة النفيسة، وبالمراجعة والبحث عن بعض النصوص. شكر الله سعيهم وأجزل أجرهم. ورجائي ممن يطالع كتابي هذا من أهل العلم أن يكتب إليَّ بما عنده من ملاحظات واستدراكات؛ لأراعيها أنا ــ أو من شاء الله تعالى ــ عند إعادة طبع
(12/3)
الكتاب إن شاء الله تعالى. وفقنا الله جميعًا لما يحبُّ ويرضى. المؤلف عبد الرحمن بن يحيى المعلمي غرة شهر رجب سنة 1378
(12/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فإنه وقع إليَّ كتابٌ جمعه الأستاذ محمود أبو ريَّة وسماه "أضواء على السنة المحمدية" فطالعته وتدبرته؛ فوجدته جمعًا وترتيبًا وتكميلًا للمطاعن في السنة النبوية، مع أشياء أخرى تتعلق بالمصطلح وغيره. وقد ألَّف أخي العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة ــ وهو على فراش المرض، عافاه الله (1) ــ ردًّا مبسوطًا على كتاب أبي ريَّة لم يكمل حتى الآن. ورأيتُ من الحقِّ عليَّ أن أضع رسالةً أسوقُ فيها القضايا التي ذكرها أبو ريَّة، وأعقِّب كل قضية ببيان الحق فيها، متحرِّيًا إن شاء الله تعالى الحق، وأسأل الله تعالى التوفيق والتسديد، إنه لا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبي ونعم الوكيل. عُني أبو ريَّة بإطراء كتابه، فأثبت على لوحه: "دراسة محررة تناولت حياة الحديث المحمدي وتاريخه، وكل ما يتعلَّق به من أمور الدين والدنيا. _________ (1) توفي الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة سنة (1392 هـ) رحمه الله تعالى. وقد أتم رده على أبي ريَّة وطبعه سنة 1378# وسمّاه "ظلمات أبي رية أمام أضواء السنة المحمديّة" بالمطبعة السلفية بمصر.
(12/5)
وهذه الدراسة الجامعة التي قامت على قواعد التحقيق العلمي (؟ ! ) هي الأولى في موضوعها، لم ينسج أحدٌ من قبل على منوالها". وكرر الإطراء في مقدمته وخاتمته. وكنتُ أحبّ له لو ترفَّع عن ذلك وترك الكتاب يُنْبِئ عن نفسه، فإنه ــ عند العقلاء ــ أرفع له ولكتابه إن حمدوا الكتاب، وأخفّ للذمِّ إذا لم يحمدوه. بل استجراه حرصُه على إطراء كتابه إلى أمور أكرهها له، تأتي الإشارة إلى بعضها قريبًا إن شاء الله. كان مقتضى ثقته بكتابه وقضاياه أن يدعو مخالفيه إلى الردِّ عليه إن استطاعوا، فما باله يَتَّقيهم بسلاح يرتدُّ عليه وعلى كتابه، إذ يقول ص 14: (وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفَّنت أفكارهم وتحجَّرت عقولهم) (1). ويقول في آخر كتابه: (وإن تضق به صدور الحشوية وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار، الذين يخشون على علمهم المزوَّر من سطوة الحق، ويخافون على كساد بضاعتهم العفنة التي يأكلون بها أموال الناس بالباطل، أن يكتنفهم ضوء العلم الصحيح، ويهتك سترهم ضوء الحجة البالغة (2)، فهذا لا يهمنا، وليس لمثل هؤلاء خَطَرٌ عندنا ولا وزنٌ في حسابنا). أما أنا فأرجو أن لا يكون لي ولا لأبي ريَّة ولا لمتبوعيه عند القرّاء خَطَرٌ ولا وزن، وأن يكون الخَطَر والوزن للحقّ وحده. _________ (1) هذه العبارة حذفها أبو ريَّة من الطبعات اللاحقة. والمؤلف ينقل من الطبعة الأولى. (2) من قوله: "الحشوية وشيوخ ... " إلى هنا حذفه من الطبعات اللاحقة واستبدله بقوله: "صدور بعض الناس ... ".
(12/6)
[ص 2] (1) قال أبو ريَّة ص 4: (تعريف بالكتاب). يعني: كتابه طبعًا. ثم ذكر علوَّ قدر الحديث النبوي، ثم قال: (وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة؛ فإنّ العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث، يتداولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم، وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل. فترى المتقدمين منهم ــ وهم الذين وضعوا هذه القواعد ــ قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث على قدر الوسع في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحًا في نفسه أو غير صحيح، معقولًا أو غير معقول؛ إذ (2) وقفوا بعلمهم عند ما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء ... ). أقول: مراده بقوله "العلماء": المشتغلون بعلم الكلام والفلسفة. ولم يكن منهم أحد في الصحابة والمهتدين بهديهم من علماء التابعين وأتباعهم والذين يلونهم، هؤلاء كلهم ممن سماهم "رجال الحديث"، ومنهم عامة المشهورين عند الأمة بالعلم والإمامة من السلف. أولئك كلهم ليسوا عند أبي ريَّة علماء؛ لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول، بل يفرُّون منها ويَنْهون عنها ويعدُّونها زيفًا وضلالًا وخروجًا عن الصراط المستقيم، وقنعوا بعقل العامة! وأقول: مهما تكن حالهم فقد كانوا عقلاء، العقل الذي ارتضاه الله عزَّ وجلَّ لأصحاب رسوله، ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه، ورضي ذلك منهم، وشهد لهم بأنهم: {الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 74]، {وَالرَّاسِخُونَ فِي _________ (1) هذه أرقام صفحات المخطوط كما أثبتت في الطبعة الأولى، وعليها إحالات المؤلف في ثنايا الكتاب. (2) حذف أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة من قوله: "يسمون رجال الحديث ... " إلى هنا.
(12/7)
الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال لهم في أواخر حياة رسوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]. فمَن زعم أنَّ عقولهم لم تكن ــ مع تسديد الشرع لها ــ كافيةً وافيةً بمعرفة الله تعالى وفهم كتابه، ومعرفة ما لا يتم الإيمان ولا يكمل الدين إلا بمعرفته؛ فإنما طعن في الدين نفسه. وكان التابعون المهتدون بهدي الصحابة أقرب الخلق إليهم عقلًا وعلمًا وهَدْيًا، وهكذا من اهتدى بهديهم من الطبقات التي بعدهم، وهؤلاء هم الذين سماهم أبو ريَّة: "رجال الحديث". قد يُقال: أما نفي العلم والعقل عنهم فلا التفات إليه، ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟ أقول: نعم، راعوا ذلك في أربعة مواطن: عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث. فالمتثبِّتون إذا سمعوا خبرًا تمتنع صحتُه أو تَبْعُد لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يُحدِّثوا به، فإن ظهرت مصلحةٌ لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تَبِعَته. قال الإمام الشافعي في "الرسالة" (ص 399): "وذلك أن يُستدلّ على الصدق والكذب فيه بأن يحدِّث المحدِّث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفُه ما هو أثبتُ وأكثرُ دلالاتٍ بالصدق منه". وقال الخطيب في "الكفاية في علم الرواية" (ص 429): "باب وجوب اطّراح (1) المنكر والمستحيل _________ (1) (ط): "إخراج"، والمثبت من "الكفاية".
(12/8)
من الأحاديث". وفي الرواة جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثًا بيِّن البطلان إلا وجدت في سنده واحدًا أو اثنين أوجماعة قد جرحهم الأئمة. والأئمةُ كثيرًا ما يجرحون الراوي بخبرٍ واحدٍ منكر جاء به، فضلًا عن [ص 3] خبرين أو أكثر. ويقولون للخبر الذي تمتنع صحتُه أو تبعُد: "منكر" أو "باطل". وتجد ذلك كثيرًا في تراجم الضعفاء، وكتب العلل والموضوعات، والمتثبِّتون لا يوثِّقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثًا حديثًا. فأما تصحيح الأحاديث فَهُم به أَعْنى وأشدّ احتياطًا، نعم ليس كل من حُكي عنه توثيق أو تصحيح متثبتًا، ولكنَّ العارف الممارس يميز هؤلاء من أولئك. هذا، وقد عرف الأئمة الذين صححوا الأحاديث، أن منها أحاديث تثقُل على بعض المتكلمين ونحوهم، ولكنهم وجدوها موافقةً للعقل المعتدِّ به في الدين، مستكملةً شرائط الصحة الأخرى. وفوق ذلك وجدوا في القرآن آيات كثيرة توافقها أو تُلاقيها، أو هي من قبيلها، قد ثَقُلت هي أيضًا على المتكلمين، وقد علموا أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يدين بالقرآن ويقتدي به، فمن المعقول جدًّا أن يجيء في كلامه نحو ما في القرآن من تلك الآيات. من الحقائق التي يجب أن لا يُغْفَل عنها: أن الفريق الأول، وهم الصحابة ومن اهتدى بهديهم من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم، عاشوا مع الله ورسوله. فالصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه ومع القرآن، والتابعون مع القرآن والصحابة والسُنَّة وهلمّ جرًّا.
(12/9)
وأن الفريق الثاني، وهم المتكلمون والمتفلسفون ونحوهم عاشوا مع النظريات والشبهات والأُغْلوطات والمخاصمات. والمؤمنُ يعلم أن الهدى بيد الله، وأنه سبحانه إذا شرع إلى الهدى سبيلًا فالعدول إلى غيره لن يكون إلا تباعدًا عنه وتعرُّضًا للحرمان منه، وبهذا جاء القرآن، وعليه تدلُّ أحوال السلف، واعتراف بعض أكابرهم في أواخر أعمارهم (1). والدقائق الطبيعية شيء والحقائق الدينية شيء آخر، فمن ظنَّ الطريق إلى تلك طريقًا إلى هذه فقد ضل ضلالًا بعيدًا. واعلم أن أكثر المتكلمين لا يردُّون الأحاديث التي صححها أئمة الحديث، ولكنهم يتأوَّلونها كما يتأولون الآيات التي يخالفون معانيها الظاهرة، لكن بعضهم رأى أن تأويل تلك الآيات والأحاديث تعسُّف ينكره العارف باللسان وبقانون الكلام وبطبيعة العصر النبوي، والذي يخشونه من تكذيب القرآن لا يخشونه من تكذيب الأحاديث؛ فأقدموا عليه وفي نفوسهم ما فيها. ولهم عدة مؤلفات في تأويل الأحاديث أو ردّها ــ قد طبع بعضها ــ فلم يهملوا الحديث كما زعم أبو رية. قول أبي رية: "والأدباء" يعني بهم: علماء البلاغة، يريد أنهم لم يتصدَّوا لنقد الأحاديث بمقتضى البلاغة. قال في ص 6: (ولما وصلتُ من دراستي إلى كتب الحديث، ألفيت فيها من الأحاديث ما يبعُد أن يكون في [ص 4] ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه من محكم قوله وبارع منطقه صلوات الله عليه ... ، ومما كان يثير عجبي: أني إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف _________ (1) تكلم المصنف في حال بعض هؤلاء في كتاب "القائد إلى تصحيح العقائد ــ التنكيل": (2/ 369 - 377)، و"يسر العقيدة الإسلامية" (ص 32 - 36).
(12/10)
العرب أهتزُّ لبلاغتها، وتعروني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت بعض ما يُنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قولٍ لا أجدُ له هذه الأريحية ولا ذاك الاهتزاز؛ وكنت أعجب كيف يصدر عنه صلوات الله عليه مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة، والعاري عن الفصاحة، وهو أبلغ من نطق بالضاد، أَوَ يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة، وهو أحكم من دعا إلى رشاد) (1). أقول: أما الأحاديث الصحيحة فليست هي بهذه المثابة، والاهتزاز والأريحية مما يختلف باختلاف الفهم والذوق والهوى، ولئن كان صادقًا في أن هذه حاله مع الأحاديث الصحيحة، فلن يكون حاله مع كثير من آيات القرآن وسُوَره إلا قريبًا من ذلك. هذا، والبلاغة: مطابقة الكلام لمقتضى الحال. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان همّه إفهام الناس وتعليمهم على اختلاف طبقاتهم، وقد أمره الله تعالى أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. والكلمات المنقولة عن العرب ليست بشيء يذكر بالنسبة إلى كلامهم كله، وإنما نُقِلت لطرافتها، ومقتضى ذلك أنه لم يستطرف من كلامهم غيرها. وكذلك المنقول من شعرهم قليل، وإنما نُقِل ما استجيد، والشعر مظنة التصنُّع البالغ، ومع ذلك قد تقرأ القصيدة فلا تهتزُّ إلا للبيت والبيتين. ثم إن كثيرًا مما نُقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُوي بالمعنى كما يأتي. فأما سقم المعنى فقد ذكر علماء الحديث أنه من علامات الموضوع، كما نقله أبو ريَّة نفسه ص 104. وذكر ابن أبي حاتم في "تقدمة الجرح والتعديل" (ص 351) في علامات الصحيح: "أن يكون كلامًا يصلح أن يكون من كلام النبوة". فإن _________ (1) هذه الفقرة بتمامها محذوفة من الطبعات اللاحقة.
(12/11)
كان أبو ريَّة يستسقم معاني الأحاديث الصحيحة فمن نفسه أُتي. ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يَجِدْ مرًّا به العذبَ الزُّلالا (1) قوله: (أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء). كذا قال! وقد أسلفتُ أن رعايتهم للمعنى سابقة، يراعونه عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الراوي، ثم يراعونه عند التصحيح، ومنهم من يتسامح في بعض ذلك، وهم معروفون كما تقدم. وقد قال أبو ريَّة ص 104: (ذكر المحققون أمورًا كلية يُعرف بها أن الحديث موضوع ... ) فذكر جميع ما يتعلق بالمعنى نقلًا عنهم. فإن قال: ولكنَّ مصححي الأحاديث لم يراعوا ذلك. قلت: أما المتثبّتون كالبخاري ومسلم فقد راعوا ذلك، بلى في كل منهما أحاديث يسيرة انتقدها بعض الحفاظ أو ينتقدها بعض الناس. ومرْجِع ذلك إما إلى اختلاف النظر، وإما إلى اصطلاحٍ لهما يغفل عنه المنتقد، وإما إلى الخطأ الذي لا ينجو منه بشر. وقد انتُقدت عليهما أحاديث من جهة السند، فهل يقال لأجل ذلك: إنهما لم يراعيا هذا أيضًا؟! [ص 5] قال ص 5: (وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث روايته (2) ... فإنهم قد أهملوا جميعًا أمرًا خطيرًا ... أما هذا كله .. فقد انصرف عنه العلماء والباحثون، وتركوه أخبارًا في بطون الكتب مبعثرة ... ). _________ (1) البيت للمتنبي "ديوانه" (ص 95 ــ دار صادر). والرواية: "الماء" بدل "العذب". (2) غيَّرها أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة: "من حيث العناية بسنده". وحذف أيضًا قوله: "أما هذا كله ... " إلى آخر الفقرة.
(12/12)
يعني: فجَمَعها هو في كتابه. وغالب ذلك قد تكفَّلَتْ به كتب المصطلح، وسائره في كتب أخرى من تأليف المُحدِّثين أنفسهم، ومنها ينقل أبو رية. وقال ص 6: (أسباب تصنيف هذا الكتاب ... إلخ)، إلى أن قال: (ومما راعني أني أجد في معاني كثير من الأحاديث ما لا يقبله عقل صريح) (1). أقول: لا ريب أنَّ في ما يُنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار ما يردُّه العقل الصريح، وقد جمع المحدِّثون ذلك وما يقرب منه في كتب الموضوعات، وما لم يُذكر فيها منه فلن تجد له إسنادًا متصلًا إلا وفي رجاله ممن جرحه أئمة الحديث رجلٌ أو أكثر. وزَعْم أن في "الصحيحين" شيئًا من ذلك سيأتي النظرُ فيه. وقد تقدمت قضية العقل. قال: (ولا يثبته علم صحيح، ولا يؤيده حسٌّ ظاهر أو كتاب متواتر) (2). أقول: لا أدري ما فائدة هذا! مع العلم بأنَّ ما يثبته العلم الصحيح، أو يؤيده الحس الظاهر لابد أن يقبله العقل الصريح، وإن القرآن لا يؤيِّد ما لا يقبله العقل الصريح. ثم قال: (كنتُ أسمع من شيوخ الدين ــ عفا الله عنهم ــ أن الأحاديث التي تحملها كتب السنة قد جاءت كلها على حقيقتها ... ). أقول: العامة في باديتنا باليمن، والعامة من مسلمي الهند، إذا ذكرتَ لأحدهم حديثًا قال: أصحيح هو؟ فإن قلت له: هو في "سنن الترمذي" _________ (1) حُذفت هذه الفقرة بتمامها من الطبعات اللاحقة. (2) هذه المقولة وما بعدها إلى قوله: "حرج أو جناح" حذفت من الطبعات اللاحقة.
(12/13)
ــ مثلًا ــ قال: هل جميع الأحاديث التي في الكتاب المذكور صحيحة؟ فهل هؤلاء أعلم من شيوخ الدين في مصر؟ ثم ذكر حديث: "مَنْ كَذَب عليّ ... " إلخ، وقضايا أخرى ذَكَر أنها انكشفت له، أجْمَلَ القولَ فيها هنا على أن يُفصِّلها بعد، فأخَّرتُ النظر فيها إلى موضع تفصيلها. ثم قال ص 13: (لما انكشف لي ذلك كله وغيره مما يحمله كتابنا، وبدت لي حياة الحديث المحمدي في صورة واضحة جليّة تتراءى في مرآة مصقولة، أصبحتُ على بيِّنة مِن أمر ما نُسب إلى الرسول من أحاديث، آخذُ ما آخذُ منه ونفسي راضية، وأدعُ ما أدعُ وقلبي مطمئن، ولا عليَّ في هذا أو ذلك حَرَج أو جُناح). أقول: أمَّا أنه بعد اطّلاعه على ما نقله في كتابه هذا صار عارفًا بتاريخ الحديث النبوي إجمالًا فهذا قريب؛ لولا أن هناك قضايا عظيمة يصوِّرها في كتابه هذا على نقيض حقيقتها، كما سنقيم عليه الحجة الواضحة إن شاء الله تعالى. وأمَّا أنه أصبح على بيِّنة ... إلى آخر ما قال، فهذه دعوى تحتمل تفسيرين: الأول: أنه أصبح يعرف بنظرة واحدة إلى الحديث من الأحاديث حقيقة حاله من الصحة قطعًا أو ظنًّا [ص 6] أو احتمالًا أو البطلان كذلك. الثاني: أنه ساء ظنُّه بالحديث النبوي ــ إن لم يكن بالدين كله ــ فصار لا يراه إلا أداةً يستغلّها الناس لأهوائهم، فأصبح يأخذ منه ما يوافق هواه، ويردُّ ما يخالف هواه، بدون اعتبار لما في نفس الأمر مِنْ صحَّة أو بُطلان.
(12/14)
مِن الجَور أن نزعم أن مراد أبي ريَّة هو ما تضمّنه التفسير الأول؛ لأن ذلك باطل مكشوف، وذلك أن للقضية شطرين: الأول: أن يدع الحديث، الثاني: أن (1) يأخذ به. فأما الشطر الأول، فالمسلم لا يدع الحديث وقلبه مطمئن إلّا إذا بان له أنه لا يصح، والذي في كتاب أبي ريَّة مما ذكر أنه يدلُّ على عدم الصحة، إما أن يقتضي امتناع الصحة قطعًا، كمناقضة الخبر للعقل الصريح أو للحس أو لنصِّ القرآن. وإما أن يقتضي استبعادها فقط، والأول لا يحتاج الناسُ فيه إلى كتاب أبي ريَّة هذا، والثاني لا يكفي؛ فإنه قد يثبتُ الخبر ثبوتًا يدفع الاستبعاد، إذن فثمرة مجهوده وكتابه بالنظر إلى هذا الشطر ضئيلة لا يليق التبجُّح بها. وأما الشطر الثاني، فمن الواضح أن انتفاء الموانع الظاهرة، كمناقضة العقل الصريح ونحوه إنما يفيد إمكان الصحة، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في السند (2)، فإن كان موثَّق الرجال ظاهر الاتصال قيل: "صحيح الإسناد"، ثم يبقى احتمال العلة القادحة، بما فيه من الشذوذ الضار، والتفرُّد الذي لا يُحْتَمل. والنظرُ في ذلك هو كما قال أبو ريَّة ص 302: (لا يقوم به إلا من كان له فهم ثاقب وحفظ واسع، ومعرفة تامّة بالأسانيد والمتون وأحوال الرواة). وهذه درجة لا تُنال بمجهود أبي ريَّة ولا بأضعاف أضعافه. فبان يقينًا أن أبا ريَّة لا يمكنه الاستقلال بتصحيح حديث، بل كتابه ينادي عليه أنه لا يمكنه أن يستقلَّ بتصحيح إسناد. إذن فلم يُفِدْه مجهوده شيئًا في هذا الشطر، وبقي فيه كما كان عالةً على تصحيح علماء الحديث. _________ (1) (ط): "أنه". (2) (ط): "السنة" تحريف.
(12/15)
هذا حال التفسير الأول. وأما التفسير الثاني فلا أدري، غير أنه يشهد له صنيع أبي ريَّة في ما يأتي مِن كتابه؛ مِنْ ردِّ الأحاديث والأخبار الثابتة، والاحتجاج كثيرًا بالضعيفة والواهية والمكذوبة، والله أعلم. قال ص 13: (ولا يتوهمنَّ أحد أني بدع في ذلك، فإنّ علماء الأمة لم يأخذوا بكل حديث نقلَتْه إليهم كتب السنة، فليسعني ما وسعهم بعد ما تبيَّن لي ما تبيَّن لهم، وهذا أمر معلوم لا يختلف فيه عالم، اللهم إلا الحشوية الذين يؤمنون بكل ما حمل سيل الرواية، سواء كان صحيحًا أم غير صحيح؛ ما دام قد ثبت سنده على طريقتهم) (1). أقول: لم يجهل أحدٌ من أهل العلم ما قدّمته قريبًا في شأن صحة الحديث، ولكنهم لا يجيزون مخالفةَ حديثٍ تبيّن إمكان [ص 7] صحته ثم ثبت صحة إسناده، ولم يُعْلَم ما يقدح فيه أو يعارضه. وأبو ريَّة يعيب عليهم هذا، ويبيح لنفسه أن يعارض نصوص القرآن وإجماع أهل الحق بأحاديث وأخبار وحكايات لا يُعْرَف حال أسانيدها، ومنها الضعيف والواهي والساقط والكذب، ويكثر من ذلك كما ستراه. قد يقال: ربما يدّعي أنه أصبحت له مَلَكَة وذوق يَعْرِف بهما الصحيح بدون معرفة سندٍ ولا غيره! أقول: هذه دعوى لا تقع من عاقل يحترم عقول الناس، وقد قال أبو ريَّة ص 21: (قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصدِّق بعض ما يفتريه المنافقون). ونقل ص 142 عن صاحب "المنار" (2) ــ محتجًّا به ــ قولَه: (والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعلم _________ (1) حُذفت الفقرة من الطبعات اللاحقة لكتاب أبي ريَّة. (2) صاحب "المنار" هو السيد محمد رشيد رضا (ت 1354)، و"المنار" هي مجلته المشهورة. وسيناقشه المؤلف كثيرًا في هذا الكتاب.
(12/16)
الغيب، فهو كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة، وكثيرًا ما صدَّق المنافقين والكفار في أحاديثهم). فهل يدّعي أبو ريَّة لنفسه درجةً لم يبلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره؟ إذن فلن نعدم ممن عرف ما في كتابه هذا وأضعاف أضعافه من يعارضه قائلًا: قد حصل لي مَلَكَة وذوق أعلى مما حصل لك، وأنا أعرف بطلان هذا الذي احتججتَ به، فتسقط الدَّعويان، ويقوم العقلُ والعدلُ. أما ما ذكره عن علماء الأمة فستأتي حكايته في ذلك، ونبيّن حالها إن شاء الله. والحقُّ أنه لم يكن في علماء الأمة المرضيين من يَرُدُّ حديثًا بلغه إلا لعذر يحتمله له أكثر أهل العلم على الأقل، ولو كان حال أبي ريَّة في الردّ والعذر كحال أحدهم لساغ أن يقال: يسعه ما يسعهم ــ وإن كان البون شاسعًا جدًّا ــ ولكن له شأن آخر كما يأتي. قال: (قال ابن أبي ليلى: "لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع"، وقال عبد الرحمن بن مهدي: "لا يكون إمامًا في الحديث من تتبع شواذ الحديث، أو حدَّث بكل ما يسمع، أو حدَّث عن كل أحد") (1). أقول: هذا موجّه إلى فريق من الرواة كانوا يكتبون ويروون كل ما يسمعون من الأخبار، يرون أنه ليس عليهم إلا الأمانة والصدق وبيان الأسانيد، تاركين النقد والفقه في الحديث والإمامة لغيرهم. فأمَّا الأخذ والرد للعمل والاحتجاج؛ فكل أحد يعلم أنه يؤخذ ما يصح ويُترك ما لا يصح. ومرَّ قريبًا حال أبي (2) ريَّة في هذا. _________ (1) هذه الفقرة والتي بعدها حُذفت من الطبعات اللاحقة. (2) (ط): "أبو".
(12/17)
قال أبو ريَّة: (ولمَّا كان هذا البحث لم يُعْنَ به أحد من قبل كما قلنا ... ). أقول: قد تقدَّم أن الذي يسوغ له ادعاؤه هو أنه جمع في كتابه هذا ما لم يُجمع في كتابٍ من قبل، والقناعة راحة. ثم قال: (وكان يجب أن يُفرَد بالتأليف منذ ألف سنة عندما ظهرت كتب الحديث المعروفة ... حتى توضع هذه الكتب في مكانها الصحيح من الدين، ويعرف الناس حقيقة ما رُوي فيها من أحاديث ... ). أقول: إنَّ ما جمعه في كتابه من كلام غيره مِنْه ما هو مقبول، ومنه ما يُعلَم حالُه من رسالتي هذه، فأمّا المقبول فمِنْ مؤلفات [ص 8] المحدِّثين نُقِل، وفيها أكثر منه وأنفع وأرفع، وأمّا المرذول فليس له حساب، وقد نَبَّهوا عليه في مؤلفاتهم، وكثرة الباطل نقصان؛ غير أن للباطل هُواة، منهم طائفة يُثني عليها أبو ريَّة مِنْ قلبه. وطائفة لا يرضاها ولكنه رأى أن في كلامه ما يعجبها، فراح يتملّقها في مواضع رجاء أن يروج لديها كتابه كما راج لديها كتاب فلان (1). ثم قال ص 14: (ولأن هذا البحث كما قلنا طريف أو غريب) (2). أقول: قد خجلتُ مِن كثرة مناقشة أبي ريَّة في إطرائه لكتابه، مع أنه عنده بمنزلة ولده، يتعزَّى به عن ولده العزيز مصطفى؛ ولذلك جعله باسمه كما ذكره أول الكتاب تحت عنوان: (الإهداء). وأحسبه يتصوَّر أن الردَّ على كتابه _________ (1) لعل المؤلف يقصد طه حسين، وذلك في كتابه "الفتنة الكبرى" فقد أساء فيه الأدب إلى بعض الصحابة، وأنكر وجود ابن سبأ اليهودي، وآراء أخرى على شاكلتها ذكرها بعض الرافضة ــ إن صدقوا ــ. انظر "مع رجال الفكر في القاهرة": (1/ 276 - 278) للرضوي. وأبو ريَّة كان على علاقة وطيدة بطه حسين إلى وفاته، كما كشفه الدسوقي في كتابه "أيام مع طه حسين". وأراد بالطائفة التي يتملّقها: الرافضة. (2) هذه العبارة والتي بعدها مما حذفه أبو ريَّة من الطبعات اللاحقة.
(12/18)
معناه أن يَلْحَق هذا الولد بمصطفى، ولذلك يقول هنا: (وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفَّنت أفكارهم وتحجَّرت عقولهم). ولو قال: قلوبهم لكان أنسب لحاله. قال: (فقد استكثرت فيه من الأدلة التي لا يرقى الشك إليها، وأتزيَّد من الشواهد التي لا ينال الضعفُ منها). أقول: سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أَفَرَسٌ تَحْتَكَ أم حمار! قال: (وبرغمي أن أنصرف في هذا الكتاب عن النقد والتحليل، وهي الأصول التي يقوم العلم الصحيح في هذا العصر عليها). أقول: قد ذكر هو ص 327: أن علماء فقه الحديث قد عرفوا تلك الأصول، ونقل عن صاحب "المنار" قوله: (إن لعلماء فقه الحديث مِن وراء نقد أسانيد الأخبار والآثار نقدًا آخر لمتونها ... ويشاركهم في هذا النوع من النقد رجال الفلسفة والأدب والتاريخ، ويسمونه في عصرنا النقد التحليلي). فإن كان أبو ريَّة يحسنه فإنما عَدَل عنه ليتسع له المجال فيما يكره أن يتضح للمثقفين. لكن قال بعد هذا: (وقد اضطررت إلى ذلك؛ لأن قومنا حديثو عهد بمثل هذا البحث، على أني أرجو أن يكون قد انقضى ذلك العهد الذي لا يشيع فيه إلا النفاق العلمي والرئاء الديني، ولا ينشر فيه إلا ما يروج بين الدهماء ويرضى عنه من يزعمون للناس ــ زورًا ــ أنهم من المحدِّثين أو العلماء) (1). وهذا يُشعر أو يُصرّح بأنه يريد بالنقد التحليلي أمرًا آخر، انصرف برغمه عنه اتقاءً لعلماء المسلمين وعامتهم، وأخذًا بنصيبٍ مما يسميه بالنفاق _________ (1) انظر الحاشية السابقة.
(12/19)
العلمي والرئاء الديني. وفي كتابه أشياء تدلّ على قُرب وأشياء تدلُ على بُعد، وعبارته هذه ونحوها قريب من الضرب الأول، وتلفت النظر إلى الثاني، فمنه ما مرّ في أول كتابه من الإشارة إلى أن جميع الذين اشتهروا في القرون الأولى بالعلم والإمامة ليسوا عنده علماء. ويأتي كلامه في الصحابة رضي الله عنهم، وهَجْوُه السُّوقيّ لأبي هريرة رضي الله عنه، ومحاولته قلب محاسنه عيوبًا، والاستدلال بالحكايات الكاذبة للغضِّ منه، واختلاق التهم [ص 9] الباطلة لتكذيبه؛ وذلك يُنبِئ عن فقرٍ مُدْقع من توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - واحترام جانبه، وجحودٍ شديد لبركة صُحبته وملازمته وخدمته. وأهمّ من ذلك أن أبا ريَّة يقسِّم الدين إلى عام وخاص، ويقول: إن العام هو الدلائل القطعية من القرآن، والسنن العملية المتواترة التي أجمع عليها مسلمو الصدر الأول، وكانت معلومةً عندهم بالضرورة. انظر ص 350 في كتابه. ثم يعود فيقرِّر أنّ الدلائل النقلية كلها ظنية. انظر 346 و 353 منه. وأنَّ الدين كله في القرآن لا يحتاج معه إلى غيره "حسبنا كتاب الله" انظر ص 349 منه. وأنه "لا يلزم من الإجماع على حُكْمٍ مطابقته لحكم الله في نفس الأمر". انظر ص 352 منه. ومجموع هذا يقتضي أن يكون الدين كلّه خاصًّا عنده. ومعنى الخاص ــ على ما يظهر من كلامه ــ أنَّ الدين فيما عدا الأمور القضائية "موكول إلى اجتهاد الأفراد" كأنه يريد أنه قضية فردية تخصُّ كلّ فرد فيما بينه وبين الله لا شأن له بغيره ولا لغيره به. وفي الأمور القضائية "موكول إلى أولي الأمر" كأنه يريد أن للمقنِّن أو القاضي أن يأخذ بالحكم الديني إذا وافق رأيه وله أن
(12/20)
يدعه. انظر ص 353 منه. ونجده يحتجُّ كثيرًا بأقوال لا يعتقد صحتها بل قد يعتقد بطلانها، ولكنه يراها موافقةً لغرضه. ويحاول إبطال أحاديث صحيحة بشبهات ينتقل الذهن فور إيرادها إلى ورودها على آيات من القرآن. فهذا وأشباهه يجعلنا نشفق على أبي ريَّة ومنه. قال: (وأرجو كذلك وقد حسرت النقاب عن وجه الحق في أمر الحديث المحمدي الذي جعلوه الأصل الثاني من الأدلة الشرعية بعد السنة العملية ... ) (1). أقول: نعم نحن المسلمين لا نفرِّق بين الله ورسله، بل نشهد أن لا إلـ? هـ إلا الله وأن محمدًا رسول الله المبلِّغ لدين الله والمبيِّن لكتاب الله بسنته، بقوله وفعله وغير ذلك مما بَيَّن به الدين، ونؤمن ونَدِين بما بلَّغنا إياه بالكتاب وبالسنة، والأحاديث أخبار عن السنة، إذا ثبتت ثبت ما دلت عليه السنة. ولسنا نحن بالجاعلي السنة بهذه المرتبة، بل الله عز وجل جعلها. وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، وقد تكفل الله تعالى بحفظ دينه، ووفق الأمة التي وصفها بأنها خير أمة أُخرجت للناس، فقام أئمتها وعلماؤها بما أُمِروا به من حفظ الدين وتبليغه على الوجه الذي اختاره الله ورسوله، فلم يزل محفوظًا إن خفيَ بعضُه على الجهال لم يَخْفَ على العلماء، وإن خفيَ على بعض العلماء لم يَخْفَ على بقيَّتهم، وما في كتابك هذا من حق فعنهم نَقَلْتَه، وباطلك مردود عليك. قال: (واتخذوا منه أسانيد لتأييد الفرق الإسلامية ودلائل على الخرافات والأوهام، وقالوا بزعمهم: إنها دينية) (2). _________ (1) قوله: "الذي جعلوه ... " محذوف من الطبعات اللاحقة. (2) هذه الفقرة والتي بعدها، وقوله في الفقرة الآتية: "وأن تنزّه ذاته ... " محذوف من الطبعات اللاحقة.
(12/21)
أقول: ما مِنْ فرقة من الفرق الإسلامية إلا ولديها شيء من الحق، وما تسميه أنتَ خرافات وأوهامًا منه ما هو حق وإن [ص 10] زعمت. والأحاديث التي يثبتها أهل العلم حق ولا يُسْتَنكر للحق أن يشهد للحق، وأما الأحاديث الباطلة فمنها ما نصوا على بطلانه وهو كثير، ومنها ما يُعرف بالنظر فيه على طريقتهم بطلانه أو وهنه، أو على الأقل الشك في صحته. قال: (وكشفت القناع عما خفي على الناس أمره). أقول: أمَّا أهل العلم فلم تزدهم علمًا، وأما غيرهم فالذي في كتابك مما يضللهم ويَلْبِس عليهم دينهم أكثر مما قد يفيدهم. ثم قال: (أرجو أن أكون قد وفقت إلى ... الدفاع عن السنة القولية وحياطتها عما يشوبها، وأن يصان كلام الرسول من أن يتدسس إليه شيء من افتراء الكاذبين، أو ينال منه كيد المنافقين وأعداء الدين، وأن تنزه ذاته الكريمة من أن يعزى إليها إلا ما يتفق وسموّ مكانها وجلال قدرها ... ). أقول: أما ما نقله من كتب علماء الحديث، مِن شرائط الصحيح، وبيان المعتل، وعلامات الموضوع، وبيان أن كثيرًا من الأحاديث الصحيحة رُويت بالمعنى، ونحو ذلك= فإنه يليق به هذا الوصف. وأما كثير مما نقله عن غيرهم أو جاء به من عنده، فوصفه بذلك بمنزلة أن يجمع رجل كتابًا يطعن في آيات كثيرةٍ من القرآن بزعم أنها ليست منه، وأن فيه كثيرًا من ذلك، ثم يزعم أن غرضه هو "الدفاع عن الكلام الرباني وحياطته عما يشوبه وأن يصان كلام ربِّ العِزَّة ... وأن تنزَّه ذاتُه المقدَّسة من أن يعزى إليها إلا ما يليق بجلالها ... " ونحو ذلك. قال ص 15: (وإذا كان هذا الكتاب سيغير ولا ريب من آراء كثير من المسلمين
(12/22)
فيما ورثوه من عقائد ... فإنه سيقفهم ــ إن شاء الله ــ على حقائق كثيرة تزيدهم تبصرة وعلمًا بدينهم، ويحل لهم مشاكل متعددة مما تضيق به صدورهم، ويدفع شبهات يتكئ عليها المخالفون ... ) (1). أقول: الكلام على هذا نحوٌ مما قبله. وبعد، فإنَّ أضرَّ الناسِ على الإسلام والمسلمين هم المحامون الاستسلاميون، يطعن الأعداء في عقيدة من عقائد الإسلام أو حُكْم من أحكامه ونحو ذلك، فلا يكون عند أولئك المحامين من الإيمان واليقين والعلم الراسخ بالدين، والاستحقاق لعون الله وتأييده ما يثبِّتهم على الحق، ويهديهم إلى دفع الشبهة، فيلجأون إلى الاستسلام بنظام، ونظام المتقدمين: التحريف، ونظام المتوسطين: زَعْمُ أن النصوص النقلية لا تفيد اليقين، والمطلوبُ في أصول الدين اليقين، فعزلوا كتابَ الله وسنةَ رسوله عن أصول الدين، ونظام بعض العصريين: التشذيب. وأبو ريَّة يحاول استعمال الأنظمة الثلاثة ويوغل في الثالث. على أن أولئك الذين سمَّيْتُهم محامين كثيرًا ما يكونون هم الخصوم، والباطل جشع، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]. [ص 11] وقال الله عزوجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ _________ (1) هذه الفقرة حذفها أبو رية من الطبعات اللاحقة.
(12/23)
وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 100 - 101] والرسول فينا بسنته. وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. قال أبو ريَّة ص 15: (وإني لأتوجه بعملي هذا ــ بعد الله سبحانه وله العِزة ــ إلى المثقفين من المسلمين خاصة، وإلى المهتمين بالدراسات الدينية (1) عامة) ــ يعني المستشرقين من اليهود والنصارى والملحدين ــ (ذلك بأن هؤلاء وهؤلاء الذين يعرفون قدره (2). واللهَ أدعو أن يجدوا فيه جميعًا ما يرضيهم ويرضي العلم والحق معهم). أقول: أما المستشرقون فالذي يرضيهم معروف. وأما المثقَّفون فيريد أبو ريَّة الثقافة الغربية، ويُطْمِع أبا ريَّة فيهم أن يرى أكثرهم عزلًا عن الواقيَيْنِ الإسلاميَّيْنِ: العلم الديني، والمناعة. وأما علماء المسلمين، وعامتهم ــ وهم مَظّنة الخير ــ فهم عند أبي ريَّة سفهاء، واقرأ عشرين آية من أول سورة البقرة. ثم ختم أبو ريَّة مقدمته بالدعاء لمجهوده وكتابه. وأنا أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني والمسلمين ومن شاء من عباده بما في كتابي من صواب، ويقيني وإياهم شرَّ ما فيه من خطأ، ويوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه. * * * * _________ (1) غيَّره في الطبعات اللاحقة إلى "الإسلامية". (2) غيَّره في الطبعات اللاحقة إلى: "يعرفون قيمته ويدركون قدْره".
(12/24)
السُّنَّة [ص 12] ثم شرع أبو ريَّة بعد الخطبة في الكتاب فقال في ص 16: (السنة ... )، ونقل عبارات منها عبارة عن "تعريفات الجرجاني" (1) زاد في آخرها زيادة في نحو ثلاثة أسطر لم أجدها في "التعريفات"، في آخرها: (ثم اصطلح المحدّثون على تسمية كلام الرسول حديثًا وسنة) (2). ثم قال أبو ريَّة: (وقالوا: السنة تطلق في الأكثر على ما أضيف إلى النبي من قول أو فعل أو تقرير). أقول: تُطلق السنة لغةً وشرعًا على وجهين: الأول: الأمر يبتدئه الرجل فيتبعه فيه غيره. ومنه ما في "صحيح مسلم" (3) في قصة الذي تصدَّق بصُرَّة فتبعه الناس فتصدقوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة فعُمِل بها بعده كُتِب له مثل أجر مَنْ عَمِل بها ... " الحديث. والوجه الثاني: السيرة العامة، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى هي التي تقابل الكتاب، وتسمى الهَدْي. وفي "صحيح مسلم" (4): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هدي محمد، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". _________ (1) (ص 122). (2) أقول: هذا الكلام نقله أبو ريَّة من مقال لرشيد رضا في "مجلة المنار": (10/ 846). (3) (1017). (4) (867).
(12/25)
هذا وكلّ شأن من شؤون النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزئية المتعلقة بالدين من قول أو فعل أو كفّ أو تقرير= سنةٌ بالمعنى الأول، ومجموعُ ذلك هو السنة بالمعنى الثاني. ومدلولات الأحاديث الثابتة هو السنة أو من السنة حقيقة، فإن أُطْلِقَت "السنة" على ألفاظها فمجاز أو اصطلاح. وإنما أوضحتُ هذا لأن أبا ريَّة يتوهَّم أو يوهم أنه لا علاقة للأحاديث بالسنة الحقيقية. ثم قال ص 17: (مكان السنة من الدين. جعلوا السنة القولية في الدرجة الثانية أو في الدرجة الثالثة من الدين ... وأما الذي هو في الدرجة الثانية من الدين فهو السنة العملية). أقول: المعروف بين أهل العلم قولهم: "الكتاب والسنة" ثم يقسِّمون دلالات الكتاب إلى قطعية وغيرها، والسنة إلى متواتر وآحاد، وإلى قول وفعل وتقرير، إلى غير ذلك من التقسيمات. وسيأتي ذكر "ثلاث مراتب" من صاحب "المنار"، وننظر فيه (1). فأما منزلة السنة جملةً من الدين فلا نزاع بين المسلمين أن ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أمر الدين فهو ثابت عن الله عز وجل، ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، منها: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وكل مسلم يعلم أن الإيمان لا يحصل إلا بتصديق الرسول فيما بلَّغه عن ربه، وقد بلَّغ الرسول بسنته كما بلَّغ كتاب الله عزوجل. ثم تكلَّم الناس في الترتيب بالنظر إلى التشريع، فمِنْ قائل: السنة قاضية على الكتاب [ص 13]. وقائل: السنة تبيّن الكتاب. وقائل: السنة في المرتبة _________ (1) انظر (ص 31).
(12/26)
الثانية بعد الكتاب. وانتصر الشاطبي في "الموافقات" (1) لهذا القول وأطال، ومما استدل به هو وغيره قول الله عزوجل: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 89 - 90]. قالوا: فقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} واضحٌ في أنَّ الشريعة كلها مبيَّنة في القرآن. ووجدنا الله تعالى قد قال في هذه السورة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. فعلمنا أنَّ البيان الذي في قوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} غير البيان الموكول إلى الرسول. ففي القرآن سوى البيان المفصَّل الوافي بيانٌ مجمل، وهو ضربان: الأول: الأمر بالصلاة والزكاة والحج والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وتحريم الخبائث، وأكل أموال الناس بالباطل، أو غير ذلك. الثاني: الأمر باتباع الرسول وطاعته وأخذ ما آتى والانتهاء عما نهى ونحو ذلك. وفي "الصحيحين" (2) وغيرهما عن علقمة بن قيس النخعي ــ وكان أعلمَ أصحاب عبد الله بن مسعود أو مِنْ أعلمهم ــ قال: "لعن عبد الله الواشمات والمتنمِّصات والمتفلِّجات للحُسْن المغيرات خلق الله. _________ (1) (4/ 294 فما بعدها). (2) البخاري (4886، 5939)، ومسلم (2125).
(12/27)
فقالت أم يعقوب: ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن مَنْ لَعَن سولُ الله وفي كتاب الله؟ قالت: والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته، قال: والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ظاهرُ صنيع ابن مسعود أن الاعتماد في كون القرآن مبيِّنًا لكلِّ ما بيَّنَتْه السنة على الضرب الثاني، وتعقيب آية التبيان بالتي تليها، كأنه يشير إلى أن الاعتماد على الضربين مجتمعين، ورجَّحه الشاطبي (1) وزعم أن الاستقراء يوافقه. فعلى هذا لا يكون للخلاف ثمرة. ثم قال قوم: جميع ما بيَّنه الرسول عَلِمَه بالوحي. وقال آخرون: منه ما كان باجتهاد أَذِنَ الله له فيه وأقرَّه عليه. ذكرهما الشافعي في "الرسالة" (2). ثم قال (ص 104) (3): "وأيّ هذا كان، فقد بيَّن الله أنه فرض فيه طاعة رسوله ... ". وبالغ بعضهم فقال: كلّ ما بلَّغه الرسول فَهِمَه من القرآن. ونسبه بعض المتأخرين إلى الشافعي، فعلى هذا كان القرآن في حق الرسول تبيانًا لكلِّ شيء وتفصيلًا، فأما في حقِّ غيره فعلى ما مرَّ. والله الموفق. ثم نقل أبو ريَّة كلامًا من "موافقات الشاطبي". وكلام "الموافقات" طويل جدًّا، وفي ما تركه أبو ريَّة منه ما قد يخالف ظاهر بعض ما نقله، وإنما الكلامُ العربيّ الناصع كلام الشافعي في "الرسالة". _________ (1) في "الموافقات" الموضع السالف. (2) (ص 91 ــ 103). (3) أي الشافعي في "الرسالة".
(12/28)
[ص 14] ثم قال أبو ريَّة ص 19: (وكان الإمام مالك يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر، ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث). أقول: كان مالك رحمه الله يدين باتباع الأحاديث الصحيحة، إلا أنه ربما توقف عن الأخذ بحديث ويقول: ليس عليه العمل عندنا. يرى أن ذلك يدلُّ على أن الحديث منسوخ أو نحو ذلك. والإنصاف أنه لم يتحرَّر لمالكٍ قاعدة في ذلك، فوقعت له أشياء مختلفة. راجع "الأم" للشافعي (7: 177 - 249) (1). وقد اشتهر عن مالك قوله: "كلّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" (2) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله للمنصور ــ إذ عرض عليه أن يحمل الناس على "الموطأ" ــ: "إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار فعند أهل كلّ مِصْر علم" (3). قال أبو ريَّة ص 19: (وقال [مالك] أحبّ الأحاديث إليّ ما اجتمع الناس عليه). أقول: لا ريب أنَّ المُجْمَع عليه أعلى من غيره، مع قيام الحجة بغيره إذا ثبت عند مالك وغيره. ثم حكى عن صاحب "المنار" قوله: (والنبي مبيِّن للقرآن بقوله وفعله، ويدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد، لكن (4) لا يدخل فيه إبطال حُكْم من _________ (1) (8/ 524 فما بعدها ــ دار الوفاء). (2) ذكره أبو شامة في "خطبة الكتاب المؤمل" (ص 136) والذهبي في "السير": (8/ 93). وقد نُقِل نحوه عن عدد من السلف منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهم. انظر "جامع بيان العلم وفضله": (2/ 925 ــ 926). (3) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم": (1/ 532). وفي سنده الواقدي. (4) في كتاب أبي ريَّة: "ولكن".
(12/29)
أحكامه، أو نقض خبر من أخباره، ولذلك كان التحقيق أن السنة لا تنسخ القرآن). أقول: أما الإبطال ونقض الخبر بمعنى تكذيبه، فهذا لا يقع من السنة للقرآن، ولا من بعض القرآن لبعض، فالقرآن كله حق وصدق: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. وأما التخصيص والتقييد ونحوهما والنسخ، فليست بإبطال ولا تكذيب، وإنما هي بيان. فالتخصيص ــ مثلًا ــ إن اتصل بالخطاب بالعام، كأنْ نزلت آية فيها عموم ونزلت معها آية من سورة أخرى فيها تخصيص للآية الأولى، أو نزلت الآية فتلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيَّن ما يخصِّصها فالأمر واضح؛ إذ البيان متصل بالمبيَّن فكان معه كالكلام الواحد. وإن تأخر المخصّص عن وقت الخطاب بالعام ولكنه تبعه قبل وقت العمل بالعام أو عنده فهذا كالأول عند الجمهور، وهذا مرجعه إلى عُرْف العرب في لغتهم كما بينه الشافعي في "الرسالة" (1). أما إذا جاء بعد العمل بالعام ما صورته التخصيص، فإنما يكون نسخًا جزئيًا، لكن بعضهم يُسمِّي النسخ تخصيصًا جزئيًّا كان أو كليًّا، نظرًا إلى أن اقتضاء الخطاب بالحكم لشموله لما يستقبل من الأوقات عموم، والنسخُ إخراج لبعض تلك الأوقات وهو المستقبل بالنسبة إلى النص الناسخ، وهذا مما يحتج به مَنْ يجيز نسخ بعض أحكام الكتاب بالسنة. _________ (1) قد يكون كذلك في غير العربية، ولكن الشافعي رأى بعض المستعربين يستنكرونه، فجوّزمخالفة لغاتهم الأعجمية للعربية في ذلك. [المؤلف]. وانظر "الرسالة" (ص 52 وما بعدها).
(12/30)
[ص 15] قال صاحب "المنار": (والعمدة في الدين كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى، والسنة العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية، وما ثبت عن النبي وأحاديث الآحاد فيها رواية ودلالة في الدرجة الثالثة). أقول: قد سبق أن المعروف بين أهل العلم ذكر الكتاب والسنة ثم يقسمون السنة إلى متواتر وآحاد وغيرذلك. قال: (ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى. وقد قرر ذلك الغزالي). علق أبو ريَّة في الحاشية: (قرر الغزالي ذلك في كتاب القسطاس المستقيم). وعبارة صاحب "المنار" في مقدمته لـ"مغني ابن قدامة": "فمن مقتضى أصولهم كلهم وجوبُ ترك أسباب كل هذا التفرق والاختلاف (1)، حتى قال الغزالي في "القسطاس المستقيم" بالاكتفاء بالعمل بالمجمع عليه، وعدّ المسائل الظنية المختلف فيها كأنْ لم تكن". كذا قال. والذي في "القسطاس المستقيم" خلاف هذا، فإن فيه (ص 89) (2) فما بعدها: أنه يعظ العاميَّ الطالبَ الخلاصَ من الخلافِ في الفروع بأن يقول له: "لا تشغل نفسك بمواقع الخلاف مالم تفرغ من جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع، وأن الكسب الحرام والمال الحرام والغيبة والنميمة والسرقة والخيانة ... حرام، _________ (1) أسباب التفرق والاختلاف الواجبُ تركُها باتفاقهم هي: الجهل والهوى والتعصب، وكذلك الخطأ بقدر الوسع. فأما أن يترك أحدهم ما يراه حقًّا فلا قائل به، بل هو محظور باتفاقهم. [المؤلف]. (2) (ص 65 - 66 ــ ت محمود بيجو).
(12/31)
والفرائض كلها واجبة، فإنْ فرغت من جميعها علَّمْتُكَ طريقَ الخلاص من الخلاف". قال: "فإنْ هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جَدَليّ وليس بعامي ... نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها وقال: ها أنا تُشْكل عليّ مسائل ... فأقول له: إن كنتَ تطلبُ الأمان في طريق الآخرة فاسْلُكْ سبيلَ الاحتياط وخُذْ بما يتفق عليه الجميع، فتوضأ مِنْ كلِّ ما فيه خلاف، فإنَّ كل مَنْ لا يُوجبه يستحبه .. فإنْ قال: هو ذا يثقل عليَّ ... ، فأقول له: الآن اجتهد مع نفسك وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل .. فمن غلب على ظنك أنه الأفضل فاتبعه". حاصل هذا: أن الغزالي كان يعلم أن العامة في زمانه ينتسب كل منهم إلى مذهب ويتعصب له، فإنْ فُرِضَ أن أحدهم سأل عن الخلاف وكيف يتخلّص منه، فلن يكون إلا أحد رجلين: إما فارغًا متلهّيًا، وإما وَرِعًا تقيًّا، والتقيّ الورع لابدّ أن يكون قد شَغَلَ فِكْرَه المحافظةُ على الفرائض المتفق عليها، وتجنّب المحرمات المتفق عليها، وعمل بذلك على مذهبه قبل أن يشغله الخلاف. فإذا كان السائل مقصِّرًا مفرِّطًا وجاء يسأل عن الخلاف، فلن يكون إلا متلهّيًا، فيقال له: ابدأ بالعمل بما تعلمه يقينًا ثم سل، فإنْ أبى فهو جَدَليّ يتعنَّت في السؤال ولا يَهمُّه العمل، والإعراض عن مثله أَوْلى. فأما من أتى بما عليه بحسب مذهبه وسأل عن الخَلاص [ص 16] من الخلاف، فالظاهر أنه يسأل ليعلم ويعمل. قال الغزالي: "فأقول له: إنْ كُنْتَ تطلب الأمان في طريق الآخرة، فاسلُكْ سبيل الاحتياط وخذ بما يتفق عليه الجميع"، وفسَّرَ ذلك بما بعده. وذلك يوضِّح قطعًا أن مراده بما يتفق عليه الجميع أن يلتزم أن يكون وضوؤه
(12/32)
الذي يُصلِّي به وضوءًا يتفق العلماء على صحته، يتوضأ مِنْ كلّ ما قال عالم: إنه ينقض الوضوء. وهكذا في سائر عمله، يأخذ بالأشدّ الأشدّ من أقوال المختلفين. وفهم منها صاحب "المنار" أن لا يتوضأ من شيء قال عالم: إنه لا ينقض الوضوء. وهكذا في سائر عمله يأخذُ بالأخفّ الأخفّ من أقوال المختلفين. فلينظر العالم أين هذا من ذاك؟ على أنه إن لم يتوضأ إلا مِمَّا اتفقوا على أنه ينقض الوضوء قد يكون وضوؤه باطلًا باتفاقهم، وذلك أنّ بعض العلماء يوجب الوضوء بمسّ الذَّكَر ولا يوجبه من خروج الدم، وبعضهم يعكس، فإذا وقع لعاميّ هذا وهذا ولم يتوضأ، فوضوؤه الأول باطل باتفاق الفريقين. ومع أن مراد الغزالي الاحتياط الأكيد اقتصر على أن فيه "الأمان في طريق الآخرة" ومع أن صاحب "المنار" قَلَبه إلى التفريط الشديد لم يقتصر على أن صاحبه يكون ناجيًا في الآخرة بل زاد "مقربًا عند الله تعالى". وبعد، فلندع الغزالي وصاحب "المنار"، ولنرجع إلى الحجة. إننا نعلم أن لكثير من علماء الفرق زلّات وشواذّ مخالفة لدلالات واضحة مِن القرآن، ولأحاديث تبلغ درجة التواتر المعنوي أو درجة القطع عند من يعرف الرواية والرواة، ومثل هذا غير قليل، فالمقتصر على ما اتفق عليه على ما فهمه صاحب "المنار" لابدّ أن يخالف الكتاب والسنة حتمًا في كثير من القضايا، هذا في المخالفة القطعية، فأما الظنية فحدِّث عن كثرتها ولا حرج. ومن جهة آخرى، فمن المحال عادةً أن يكون الحقُّ دائمًا من المسائل الخلافية مع المرخِّصين، فالترخُّص فيها كلها تركٌ متيقّن لكثير من الحق. ولنفرض أن جماعة تَتَبَّعوا أقوال علماء المسلمين من جميع الفرق، ثم جمعوا
(12/33)
كتابًا ضمَّنوه ما اتفق المسلمون على أنه واجب أو حرام أو باطل (1) وأهملوا ما عدا ذلك، فهل يقال: إنَّ مَن حافظ على ما في ذاك الكتاب بدون نظر إلى غيره "كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مُقرَّبًا عند الله تعالى" ثم يستغني الناسُ بذاك الكتاب عن كتاب الله وتفسيراته، وعن كتب السنة وشروحها ومتعلقاتها، وعن كتب الفقه كلها، ثم لا يعدم المشذّبون مقالًا يشكك في ما ضمه ذاك الكتاب، كالشك في تحقق الإجماع وفي حجيته، ولتغير الأحكام بتغير الزمان. وحينئذ يستريح الذين يدعون أنفسهم بالمصلحين مِن كلِّ أثر للإسلام. وقال ابن حزم في "الأحكام" (3: 114) (2): "وبالجملة فهذا مذهب لم يُخلَق له معتَقِد قط، وهو أن لا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع، بل قد صحَّ الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدًا له كافر بلا خلاف، لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف في وجوب طاعتها". هذا وقد برئت ذمة الغزالي من ذاك القول كما علمت. وأنا أجلّ السيد محمد رشيد رضا عن أن يقول به [ص 17] متصوِّرًا حقيقته، وإنما هذا شأن الإنسان، كمن يكون على جسر غير محجّر فتستولي على ذهنه خشيةُ السقوطِ من جانب فيتأخر عنه ويتأخر حتى يسقط بغير اختياره من الجانب الآخر. بلى مَنْ عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى، وهذا المُتَّفق عليه هو العمل بالدلائل القطعية والظنية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله الثابتة قطعًا أو ظنًّا، فالعالم يتحرَّى ذلك بالنظر في _________ (1) انظر هل يسمحون بزيادة "أو مندوب" [المؤلف]. (2) طبعة أحمد شاكر وتقديم إحسان عباس.
(12/34)
الأدلة، فإن اشتبهت عليه أو تعارضت أخذ بأحسنها مع تَجُنِّب خَرْق الإجماع الصحيح. والعامي يسأل العلماء ويأخذ بفتواهم، فإن اختلفوا عليه احتاط أو طلب ترجيحًا ما، وإذا علم اللهُ حُسْنَ نِيَّتِهِ فلابد أن ييسر له ذلك. فأما تقليد الأئمة فمهما قيل فيه فلا ريب أنه خير بكثير من تتبُّع الرخص. وراجع "الموافقات" (4: 72 ــ 86) (1). ثم قال أبو ريَّة ص 20: (حكم كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الدنيوية ... ). إلى أن قال: (أما كلامه صلوات الله عليه في الأمور الدنيوية فإنه كما قالوا من الآراء المحضة، ويسمِّيه العلماء إرشادًا أي إنَّ أمره - صلى الله عليه وسلم - في أي شيء من أمور الدنيا يُسمَّى أمر إرشاد (2) ... لأنه لا يقصد به القربة ولا فيه معنى التعبّد. ومن المعلوم أنه لا دليل على وجوب أو ندب إلا بدليل خاص). أقول: ليس في هذا الكلام ما يصح أن يكون قاعدة ثابتة، فأمور الدنيا خاضعة لأحكام الشرع، وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله وحَذَّر من المخالفة عن أمره، فأَمْرُه - صلى الله عليه وسلم - بشيء دليلٌ قام على وجوبه، إلا أن يقوم دليل يصرف الأمرَ عن الوجوب إلى غيره. وتفصيل ذلك في كتب الفقه. ثم قال: (لأن الرسل غير معصومين في غير التبليغ. قال السفَّاريني ... قال ابن حمدان ... "وإنهم معصومون فيما يُؤدُّونه عن الله تعالى، وليسوا بمعصومين في غير ذلك"، وقال ابن عقيل ... لم يعتصموا في الأفعال، بل في نفس الأداء، ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدّونه عن الله تعالى ... وقال القاضي عياض: ... ). _________ (1) (5/ 97 ــ 103) دار ابن عفان. (2) كذا في (ط)، وفي كتاب أبي ريَّة: "ويسميه العلماء أمر إرشاد، أي ... يسمى إرشادًا .. ".
(12/35)
أقول: هذا الذي اقتصر عليه أبو ريَّة يوهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليسوا معصومين عن تعمُّد الكذب في غير التبليغ، ولا عن الكبائر ولا عن صغائر الخسَّة. وفي هذه الكتب التي نقل عنها وغيرها بيانُ عصمتهم عن ذلك وعن غيره مما ترى تفصيله فيها. احتاج أبو ريَّة إلى صنيعه ليردَّ كثيرًا من الأحاديث الصحيحة بزعم أنها لم تكن على وجه التبليغ، وأن الأنبياء إنما عُصِمُوا من الكذب في التبليغ. فليتدبر القارئ [ص 18] هذا مع قول أبي ريَّة نفسه في حاشية ص 39: (ولعنة الله على الكاذبين، متعمدين وغير متعمدين)! وذكر قصة التأبير، فدونك تحقيقَها: أخرج مسلم في "صحيحه" (1) من حديث طلحة قال: "مررتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رؤوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظنُّ يغني ذلك شيئًا". قال: فأُخْبِرُوا بذلك فتركوه، فأُخْبِرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدَّثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل". ثم أخرجه (2) عن رافع بن خَديج وفيه: "فقال: لعلكم لولم تفعلوا كان خيرًا". فتركوه فنقصت .. فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر". قال عكرمة: أو نحو هذا". _________ (1) (2361). (2) (2362). (ط): "فنقضت" خطأ، وفي مسلم: "فنفَضَت أو فنقصت".
(12/36)
ثم أخرجه (1) عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وعن ثابت، عن أنس ... " وفيه: فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، وقال في آخره: "أنتم أعلم بأمر دنياكم". عادة مسلم أن يرتّب روايات الحديث بحسب قُوَّتها، يقدِّم الأصح فالأصح (2). قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلحة: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، إخبار عن ظنه، وكذلك كان ظنه، فالخبر صِدْق قطعًا، وخطأ الظن ليس كذبًا، وفي معناه قوله في حديث رافع: "لعلكم ... " وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد، لأن حمادًا كان يخطئ. وقوله في حديث طلحة: "فإني لن أكذب على الله" فيه دليل على امتناع أن يكذب على الله خطأ؛ لأن السياق في احتمال الخطأ، وامتناعه عمدًا معلوم من باب أَوْلى، بل كان معلومًا عندهم قطعًا. ونقل عن "شفاء عياض" (3) قال: وفي حديث ابن عباس في الخَرْص: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، فما حدّثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب". أقول: ذكر شارح "الشفاء" (4) أن البزار أخرجه بسند حسن، وتحسين _________ (1) (2363). (2) وانظر ما سيأتي (ص 316 ــ 317). (3) (2/ 870 ــ 871 ــ ط البجاوي). (4) "شرح الملا علي قاري": (2/ 338). وهو عند البزار: (11/ 42، 250). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (1/ 182): "إسناده حسن إلا أن إسماعيل بن عبد الله الأصبهاني لم أر من ترجمه". وعلق الحافظ في "مختصر زوائد البزار": (1/ 138): "قلت: هو الحافظ الشهير سمويه، ترجمه أبو نعيم في تاريخه، ووثقه ابن منده وأبو الشيخ وأبو نعيم وغيرهم".
(12/37)
المتأخرين فيه نظر، فإنْ صحَّ فكأنهم مرّوا بشجر مثمر فخرصوه يجرِّبون حَدْسهم، وخَرَصها النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءت على خلاف خرصه. ومعلوم أن الخرص حَزْر وتخمين، فكأنَّ الخارص يقول: أظن كذا. وقد مَرّ حكمه. والله أعلم. وقال أبو رية قبل هذا: (وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصدّق بعض ما يفتريه المنافقون، كما وقع في غزوة تبوك وغيرها، وصدَّق بعض أزواجه، وتردد في حديث الإفك .. حتى نزل عليه آيات البراءة). وذكر ص 142 عن صاحب "المنار": ( ... والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعلم الغيب، فهو كسائر البشر [ص 19] يحمل كلام الناس على الصدق؛ إذ لم تحف به شبهة، وكثيرًا ما صدَّق المنافقين والكفار في أحاديثهم. وحديث العرنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على ذلك .. إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلُّف عن غزوة تبوك، وما علَّله به وهو قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43] وإذا جاز على الأنبياء والمرسلين أن يصدِّقوا الكاذب فيما لا يخلّ بأمر الدين ... ). وذكر ص 22 عن عياض حديث: ("فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له". وفي رواية: "ولعل بعضكم أن يكون أَلْحَن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ... "). أقول: لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يعلم من الغيب ما لم يُعْلِمْه الله تعالى به، ولم يكن ــ بأبي وأمي ــ مغفَّلًا، ولم يصدّق المنافقين أي يعتقد صدقهم، بل ولا ظنَّه،
(12/38)
وإنما كان الأمر عنده على الاحتمال. ولهذا عاتبه الله عزَّ وجلَّ على الإذن لهم. هذا واضح بحمد الله. والعُرَنيون لم يتحقَّق منهم كذب، فلعلهم كانوا صادقين في إسلامهم، وإنما بدا لهم أن يرتدُّوا لمَّا وجدوا أنفسهم منفردين بالإبل والراعي بعيدًا عن المدينة. وقصة بئر معونة اختلف فيها، فلم يتحقَّق فيها شاهد على ما نحن فيه. راجع "فتح الباري" (7: 296) (1). وقصته مع بعض أزواجه أراها في "الصحيحين" (2) عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلًا، فتواصيتُ أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلتقل: إني لأجد منكَ ريح مغافير، أكلتَ مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا، بل شربت عسلًا عند زينب بنت جحش ولن أعود له. فنزلت: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشة وحفصة ... ". وتمام الآية: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1]، ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صدَّق المرأة في أنّ لذاك العسل رائحة كريهة لكان امتناعه لكراهيتها، وكذلك كان خلقه الكريم المطلوب منه شرعًا، وسياق الآية يخالف ذلك كما هو واضح. _________ (1) (7/ 310 و 379 وما بعدها). (2) البخاري (4912)، ومسلم (1474).
(12/39)
فالذي يظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - فَطَنَ للحيلة، وعلم أن قائلة ذلك إنما غارت لطول مكثه عند ضرّتها، وانفرادها بسقيه العسل الذي يحبه، فحملتها شدة الغيرة، فتكرَّم فلم يكاشفها، وامتنع مِنْ شُرب العسل عند ضرّتها تطييبًا لنفسها. وأما تردّده في قصة الإفك، فليس فيه ما يوهم التصديق ولا ظن الصدق. وأما قوله: "فأحسب أنه صادق" فالحسبان هو الظن، ولينظر سند هذه الرواية (1). [ص 20] وذكر ص 22 عن "شفاء عياض" (2): (فأما ما تعلق منها ــ أي معارف الأنبياء ــ بأمر الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه). أقول: كلمة "اعتقادها" فيها نظر، فينبغي أن يقال بدلها: "ظنها". * * * * _________ (1) هذا اللفظ في البخاري (7181)، ومسلم (1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (2) (2/ 730 ــ البجاوي).
(12/40)
كتابة الحديث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعرَّض أبو ريَّة ص 7 ــ 8 لهذه القضية، ثم أفردها بفصل ص 23، فمما قاله: ( ... تضافرت الأدلة ... على أن أحاديث الرسول صلوات الله عليه لم تكتب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان يكتب القرآن، ولا كان لها كُتَّاب يُقيّدونها عند سماعها منه وتلفظه بها .. ). أقول: قد وقعت كتابةٌ في الجملة كما يأتي، لكن لم تشمل ولم يؤمر بها أمرًا. أما حكمة ذلك فمنها: أن الله تبارك وتعالى كما أراد لهذه الشريعة البقاء أراد سبحانه أن لا يكلِّف عباده من حفظها إلا بما لا يشقّ عليهم مشقة شديدة، ثم هو سبحانه يحوطها ويحفظها بقدرته، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يعجل بقراءة ما يوحى إليه قبل فراغه خشية أن ينسى شيئًا منه، فأنزل الله عليه: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 ــ 19]، وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 6 ــ 8]. وكانت العرب أمة أُميّة يندر وجود من يقرأ أو يكتب منهم، وأدوات الكتابة عزيزة، ولاسيما ما يكتب فيه. وكان الصحابة محتاجين إلى السعي في مصالحهم، فكانوا في المدينة منهم من يعمل في حائطه، ومنهم من يبايع في الأسواق، فكان التكليف بالكتابة شاقًّا، فاقتصر منه على كتابة ما ينزل من
(12/41)
القرآن شيئًا فشيئًا، ولو مرة واحدة في قطعة من جريد النخل أو نحوه تبقى عند الذي كتبها. وفي «صحيح البخاري» (1) وغيره من حديث زيد بن ثابت في قصة جمعه القرآن بأمر أبي بكر: «فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحدٍ غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة سورة براءة». وفي «فتح الباري» (2): أن العسُبَ جريدُ النخلِ، وأن اللخافَ الحجارةُ الرقاقُ، وأنه وقع في رواية: «القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل»، ووقع في روايات أُخَر ذكر الرقاع وقطع الأديم والصحف. [ص 21] وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُلقِّن بعضَ أصحابه ما شاء الله من القرآن ثم يُلقِّن بعضُهم بعضًا، فكان القرآن محفوظًا جملةً في صدورهم، ومحفوظًا بالكتابة في قِطَعٍ مُفرَّقةٍ عندهم. والمقصود أنه اقتصر من كتابة القرآن على ذاك القدر؛ إذ كان أكثر منه شاقًّا عليهم، وتكفَّل الله عز وجل بحفظه في صدورهم وفي تلك القطع، فلم يتلف منها شيء، حتى جُمِعت في عهد أبي بكر، ثم لم يتلف منها شيء حتى كتبت عنها المصاحف في عهد عثمان، وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وتكفُّله سبحانه بحفظه لا يعفي المسلمين أن يفعلوا ما يمكنهم كما فعلوا ــ بتوفيقه لهم ــ في _________ (1) (4986). (2) (9/ 14 ــ السلفية).
(12/42)
عهد أبي بكر، ثم في عهد عثمان. فأما السُّنَّة فقد تكفَّل الله بحفظها أيضًا، لأن تكفُّله بحفظ القرآن يستلزم تكفُّله بحفظ بيانه وهو السُّنة، وحفظ لسانه وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية بحيث ينالها من يطلبها؛ لأن محمدًا خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع. بل دلَّ على ذلك قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]، فحفظ الله السُّنة في صدور الصحابة والتابعين حتى كُتِبَت ودُوِّنَت كما يأتي، وكان التزام كتابتها في العهد النبوي شاقًّا جدًّا؛ لأنها تشمل جميعَ أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله وما يقوله غيره بحضرته أو يفعله وغير ذلك. والمقصود الشرعي منها معانيها، ليست كالقرآن المقصود لفظه ومعناه؛ لأنه كلام الله بلفظه ومعناه، ومعجز بلفظه ومعناه، ومُتَعبَّد بتلاوته بلفظه بدون أدنى تغيير= لاجَرَمَ خفَّف الله عنهم، واكتفى من تبليغ السنة غالبًا بأنْ يَطَّلِعَ عليها بعضُ الصحابة، ويكمل الله تعالى حفظها وتبليغها بقدرته التي لا يعجزها شيء. فالشأن في هذا الأمر: هو العلم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلّغ ما أُمِر به، التبليغ الذي رضيه الله منه، وأن ذلك مظنَّة بلوغه إلى من يحفظه من الأمة ويبلغه عند الحاجة ويبقى موجودًا بين الأمة. وتكفُّلُ اللهِ تعالى بحفظ دينه يجعل تلك المظنَّة مئِنَّة، فتمَّ الحفظُ كما أراد الله تعالى، وبهذا التكفُّل يُدْفَع ما يتطرق إلى تبليغ القرآن كاحتمال تلف بعض القطع التي كتبت فيها الآيات، واحتمال أن يغير فيها من كانت عنده، ونحو ذلك. ومن طالع تراجم أئمة الحديث من التابعين فمَنْ بَعْدَهم، وتدبر ما آتاهم الله تعالى من قوَّة الحفظ والفهم والرغبة الأكيدة في الجد والتشمير لحفظ
(12/43)
السُّنة وحياطتها= بان له ما يحيِّر عقلَه، وعَلِم أن ذلك ثمرة تكفُّلِ الله تعالى بحفظ دينه. وشأنهم في ذلك عظيم جدًّا، أو هو عبادة من أعظم العبادات وأشرفها، وبذلك يتبين أن ذلك من المصالح المترتبة على ترك كتابة الأحاديث كلها في العهد النبوي، إذ لو كتبت لانسدَّ باب تلك العبادة، [ص 22] وقد قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وثَمَّ مصالحُ أخرى منها: تنشئةُ علومٍ تحتاج إليها الأمة، فهذه الثروة العظيمة التي بيد المسلمين من تراجم قدمائهم، إنما جاءت من احتياج المحدِّثين إلى معرفة أحوال الرواة، فاضطروا إلى تتبُّع ذلك، وجمع التواريخ والمعاجم، ثم تَبِعهم غيرُهم. ومنها: الإسناد الذي يُعْرَف به حال الخبر، كان بدؤه في الحديث، ثم سرى إلى التفسير والتاريخ والأدب. هذا، والعالم الراسخ هو الذي إذا حصل له العلم الشافي بقضية لزمها ولم يبالِ بما قد يشكّك فيها، بل إما أن يُعْرِض عن تلك المشكّكات، وإما أن يتأمَّلَها في ضوء ما قد ثبت. فههنا مَنْ تدبَّر كتاب الله، وتتبَّع هدي رسوله، ونظر إلى ما جرى عليه العملُ العامّ في عهد أصحابه وعلماء أمته، بوجوب العمل بأخبار الثقات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها من صُلْب الدين، فمَنْ أعرض عن هذا وراح يقول: لماذا لم تُكْتَب الأحاديث؟ بماذا، لماذا؟ ويتَّبع قضايا جزئية ــ إمَّا أن لا تثبت، وإما أن تكون شاذة، وإما أن يكون لها مَحْملٌ لا يخالف المعلوم الواضح ــ مَنْ كان هذا شأنه فلا ريب في زيغه.
(12/44)
هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث؟
قال أبو ريَّة ص 23: (وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه - صلى الله عليه وسلم -). أقول: أما الأحاديث فإنما هي حديث مختلف في صحته، وآخر متفق على ضعفه. فالأول: حديث مسلم (1) وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غيرَ القرآن فليمحُه، وحدِّثوا عني ولا حرج، ومَن كَذَب علَيَّ ــ قال همام: أحسبه قال «متعمدًا» ــ فليتبوّأ مقعده من النار». هذا لفظ مسلم. وذكره أبو ريَّة مختصرًا، وذكر لفظين آخرين، وهو حديث واحد. والثاني: ذكره بقوله: «ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنسانًا أن يكتبه، فقال له زيد: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه. فمحاه» (2). وقد كان ينبغي لأبي ريَّة أن يجريَ على الطريقة التي يُطْريها وهي النقد التحليلي فيقول: معقول أن لا يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابة أحاديثه لقلَّة الكَتَبَة وقلَّة ما يُكْتَب فيه والمشقة، فأما أن ينهى عن كتابتها ويأمر بمحوها فغير معقول، كيف وقد أذن لهم في التحديث فقال: «وحدثوا عني ولا حرج»؟ أقول: أما حديث أبي سعيد ففي «فتح الباري» (1: 185) (3): «منهم _________ (1) (3004). (2) أخرجه أحمد (21579)، وأبو داود (3647) وسيتكلم المصنف عنه بعد قليل. (3) (1/ 208 ــ السلفية).
(12/45)
(يعني الأئمة) من أعلّ حديث أبي سعيد وقال: [ص 23] الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره». أي الصواب أنه من قول أبي سعيد نفسه، وغلط بعض الرواة فجعله عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أورد ابن عبد البر في كتاب «العلم» (1) (1: 64) قريبًا من معناه موقوفًا على أبي سعيد من طرقٍ لم يذكر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما حديث زيد بن ثابت فهو من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت الخ. وكثير غير قوي، والمطلب لم يدرك زيدًا. أما البخاري فقال في «صحيحه» (2): «باب كتابة العلم» ثم ذكر قصة الصحيفة التي كانت عند علي رضي الله عنه، ثم خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الفتح وسؤال رجل أن يكتب له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اكتبوا لأبي فلان» وفي غير هذه الرواية «لأبي شاه» (3)، ثم قول أبي هريرة: «ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عَمرو، فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب»، ثم حديث ابن عباس في قصة مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده». وفي بعض روايات حديث أبي هريرة في شأن عبد الله بن عَمرو: «استأذن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب بيده ما _________ (1) «جامع بيان العلم وفضله»: (1/ 272 ــ 273 ــ ابن الجوزي). وذكر الخطيب في «تقييد العلم» (ص 32) أن همام بن يحيى تفرد برواية الحديث عن زيد بن أسلم مرفوعًا. (2) كتاب العلم، باب رقم (40) الأحاديث (111 ــ 114). (3) عند البخاري (2434).
(12/46)
سمع منه فأذن له» رواه الإمام أحمد والبيهقي (1). قال في «فتح الباري» (1: 185) (2): «إسناده حسن، وله طريق أخرى ... ». وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو نفسه جاء من طرق، راجع «فتح الباري» و «المستدرك» (1: 104) و «مسند أحمد» بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله الحديث: (6510) وتعليقه. وقد اشتهرت صحيفة عبد الله بن عمرو التي كتبها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يغتبط بها ويسميها «الصادقة»، وبقيت عند ولده يروون منها، راجع ترجمة عَمرو بن شُعيب في «تهذيب التهذيب» (3). أما ما زَعَمه أبو ريَّة أن صحيفة عبد الله بن عَمْرو إنما كانت فيها أذكار وأدعية فباطل قطعًا. أما زيادة ما انتشر عن أبي هريرة من الحديث عما انتشر عن عبد الله بن عمرو؛ فلأنَّ عبد الله لم يتجرَّد للرواية تجرُّد أبي هريرة، وكان أبو هريرة بالمدينة وكانت دارَ الحديث لعناية أهلها بالرواية، ولرحلة الناس إليها لذلك، وكان عبد الله تارةً بمصر، وتارة بالشام، وتارة بالطائف، مع أنه كان يكثر من الإخبار عما وجده من كتب قديمة باليرموك، وكان الناس لذلك كأنهم قليلو الرغبة في السماع منه، ولذلك كان معاوية وابنه قد نهياه عن التحديث. فهذه الأحاديث ــ وغيرها مما يأتي ــ إن لم تدل على صحَّة قول البخاري وغيره: إن حديث أبي سعيد غير صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها تقضي _________ (1) «المسند» (9231)، و «المدخل إلى السنن» (751). (2) (1/ 208 ــ السلفية). (3) (8/ 48 ــ 55).
(12/47)
بتأويله، وقد ذَكرَ في «فتح الباري» (1) أوجهًا للجمع، والأقرب ما يأتي: قد ثبت في حديث [ص 24] زيد بن ثابت في جمعه القرآن: «فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف»، وفي بعض رواياته ذكر القصب وقطع الأديم. وقد مرَّ قريبًا (ص 20) (2)، وهذه كلها قطع صغيرة، وقد كانت تنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية والآيتان، فكان بعض الصحابة يكتبون في تلك القطع، فتتجمع عند الواحد منهم عدة قطع في كلٍّ منها آية أو آيتان أو نحوها، وكان هذا هو المتيسِّر لهم. فالغالب أنه لو كتب أحدُهم حديثًا لكتبه في قطعة من تلك القطع، فعسى أن يختلط عند بعضهم القطع المكتوب فيها الأحاديث بالقطع المكتوب فيها الآيات، فنُهوا عن كتابة الحديث سدًّا للذريعة. أما قول أبي ريَّة ص 27: (هذا سبب لا يقتنع به عاقل عالم ... اللهم [إلا] إذا جعلنا الأحاديث من جنس القرآن في البلاغة، وأن أسلوبها في الإعجاز من أسلوبه). فجوابه: أن القرآن إنما تحدَّى أن يُؤْتَى بسورة مِنْ مِثْله، والآية والآيتان دون ذلك. ولا يشكل على هذا الوجه صحيفة عليّ؛ لأنه جمع فيها عدة أحكام، وكان عليٌّ لا يُخْشَى عليه الالتباس. ولا قصة أبي شاه، لأن أبا شاه لم يكن ممن يكتب القرآن، وإنما سأل أن تُكْتب له تلك الخطبة. ولا قوله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: «ائتوني بكتاب الخ». لأنه لو كُتب لكان معروفًا عند الحاضرين وهم جمع كثير. ولا قضية عبد الله بن عمرو، فإنه فيما يظهر حصل على صحيفة فيها عدة أوراق، فاستأذن أن يكتب فيها الأحاديث فقط. وكذلك الكتب التي كتبها النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُمَّاله وفيها أحكام الصدقات وغيرها، _________ (1) (1/ 208 ــ السلفية). (2) من الخطية وهكذا في كل إحالات المؤلف. وهي في (ص 41) من هذه الطبعة.
(12/48)
وكان كلها أو أكثرها مصدَّرًا بقوله: «من محمد رسول الله الخ». هذا كلّه على فرض صحة حديث أبي سعيد. أما على ما قاله البخاري وغيره من عدم صحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالأمر أوضح، وسيأتي ما يشهد لذلك. قال أبو ريَّة ص 23: (وروى الحاكم بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب ... فلما أصبح قال: أي بُنيَّة هَلُمِّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك. زاد الأحوص بن المفضل في روايته: أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خفي على أبي بكر). أقول: لو صحَّ هذا لكان حجة على ما قلناه، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما كتب أبو بكر. فأما الإحراق فلسبب أو سببين آخرين كما رأيت. لكن الخبر ليس بصحيح، أحال به أبو ريَّة على «تذكرة الحُفّاظ» (1) للذهبي و «جمع الجوامع» للسيوطي، ولم يذكر طعنهما فيه، ففي «التذكرة» عقبه: «فهذا لا يصح». [ص 25] وفي «كنز العمال» (5: 237) (2) ــ وهو ترتيب جمع الجوامع ومنه أخذ أبو رية ــ: «قال ابن كثير: هذا غريب من هذا الوجه جدًّا. وعلي بن صالح (أحد رجال سنده) لا يعرف». أقول: وفي السند غيره ممن فيه نظر. ثم وجَّهه ابنُ كثير على فرض صِحَّته. _________ (1) (1/ 5). (2) (10/ 285 ــ ط الرسالة). وكلام ابن كثير في «مسند الصديق».
(12/49)
قال أبو ريَّة ص 24: (وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في «المدخل» عن عروة: أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك ــ ورواية البيهقي: فاستشار ــ فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبُّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا. ورواية البيهقي: لا ألبس كتابَ الله بشيء أبدًا). أقول: وهذا وإن صح حجة لما قلناه، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما هَمَّ بها عمر وأشار بها عليه الصحابة، فأما عُدُولُه عنها فلسبب آخر كما رأيت. لكن الخبر منقطع؛ لأن عروة لم يدرك عمر. فإن صحَّ فإنَّما كانت تلك الخشية في عهد عمر ثم زالت. وقد قال عروة نفسُه كما في ترجمته من «تهذيب التهذيب» (1): «وكنا نقول: لا نتخذ كتابًا مع كتاب الله، فمحوتُ كتبي. فوالله لودِدْتُ أن كتبي عندي، وإن كتاب الله قد استمرَّت مريرته». يعني قد استقرَّ أمره وعُلِمَتْ مزيته وتقرَّر في أذهان الناس أنه الأصل، والسنَّة بيان له. فزال ما كان يُخشى من أن يؤدّي وجود كتاب للحديث إلى أن يكبَّ الناس عليه، ويَدَعُوا القرآن. قال أبو ريَّة: (وعن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب إلى الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه). أقول: وهذا منقطع أيضًا، يحيى بن جعدة لم يدرك عمر، وعروة أقدم منه وأعلم جدًّا، وزيادة يحيى منكرة، لو كتب عمر إلى الأمصار لاشتهر _________ (1) (7/ 183).
(12/50)
ذلك، وعنده عليّ وصحيفته، وعند عبد الله بن عمرو صحيفة كبيرة مشهورة. قال أبو ريَّة: (وروى ابن سعد عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمد أن يملي عَلَيَّ أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها: مثناة كمثناة أهل الكتاب. قال: فمنعني القاسم بن محمد يومئذ أن أكتب حديثًا). أقول: وهذا منقطع أيضًا إنما ولد القاسم بعد وفاة عمر ببضع عشرة سنة. ثم ذكر خبر زيد بن ثابت ــ وقد مرَّ ــ ثم قال: (وعن جابر بن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليًّا يخطب يقول: أَعْزِمُ على كلّ مَنْ عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حين تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم). [ص 26] أقول: ذكره ابنُ عبد البر (1) من طريق شعبة عن جابر، ولم أجد لجابر بن عبد الله بن يسار ذكرًا، وقد استوعب صاحبُ «التهذيب» (2) مشايخَ شعبة في ترجمته، ولم يذكر فيهم من اسمه جابر إلا جابر بن يزيد الجُعْفي، فلعل الصواب «جابر عن عبد الله بن يسار» وجابر الجُعفي ممقوت كان يؤمن برجعة عليٍّ إلى الدنيا، وقد كذَّبه جماعة في الحديث منهم أبو حنيفة، وصدَّقه بعضهم في الحديث خاصة بشرط أن يُصرِّح بالسماع. ولم يُصرِّحْ هنا. وعبد الله بن يسار لا يُعْرَف (3). _________ (1) في «جامع بيان العلم»: (1/ 272). (2) (4/ 338). والأمر كما ذكر المصنف «جابر عن عبد الله بن يسار» كما في الطبعة المحققة المحال إليها من كتاب ابن عبد البر. (3) ذكره البخاري في «التاريخ»: (5/ 234)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل»: (5/ 202) ولم يذكراه بجرح أو تعديل.
(12/51)
وقد كان عند عليّ نفسه صحيفة فيها أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما مرَّ. فإنْ صحَّتْ هذه الحكاية فإنما قال: «أحاديث علمائهم» ولم يقل: «أحاديث أنبيائهم». وكلمة «حديث» بمعنى «كلام»، واشتهارها فيما كان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اصطلاح متأخر. وقد كان بعضُ الناس يثبتون كلام عليٍّ في حياته، وفي مقدمة «صحيح مسلم» (1) عن ابن عباس ما يُعلَم منه أنه كان عنده كتاب فيه قضايا عليّ، منها ما عرفه ابن عباس ومنها ما أنكره، ولفظه: «فدعا بقضاء عليّ فجعل يكتب منه أشياء، ويمرّ به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا عليّ إلا أن يكون ضلَّ. ثم ذَكَر عن طاووس قال: «أُتيَ ابنُ عباس بكتاب فيه قضاء عليّ ... ». فإن صحّت هذه الحكاية (2) فكأنّ بعض الناس كتب شيئًا من كلام عليّ أو غيره من العلماء، فتناقله الناس، فبلغ عليًّا ذلك فقال ما قال. قال أبو ريَّة: (وعن الأسود بن هلال قال: أُتِيَ عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت ثم قال: أُذَكِّر اللهَ رَجُلًا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بديرِ هِنْد لبلغتُها. بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون). أقول: روى الدارميّ (3) هذه القصة من وجه آخر «عن الأشعت [بن أبي الشعثاء سليم بن أسود] عن أبيه ــ وكان من أصحاب عبد الله ــ قال: رأيت مع رجل صحيفة فيها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فقلت _________ (1) (1/ 13 ــ 14). (2) أي التي ذكرها أبو ريَّة وأخرجها ابن عبد البر. (3) (496). وأخرجه ابن أبي شيبة (26977).
(12/52)
له: أنسخنيها. فكأنه بَخِل بها، ثم وعدني أن يعطينيها، فأتيت عبد الله فإذا هي بين يديه، فقال: إن ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة ... أَقْسَم لو أنها ذُكِرت له بدار الهند (كذا) (1) ــ أراه يعني مكانًا بالكوفة بعيدًا ــ إلا أتيته ولو مشيًا». لا ريب أنه لم يكن في الصحيفة تلك الكلمات فقط وإلا لَمَا طلب استنساخَها؛ لأنه قد حفظها فيمكنه أن يكتبها إن شاء من حفظه. وعند الدارميّ (2) قصة أخرى تُفَسِّر لنا هذه، ذكرها في باب كراهية أخذ الرأي، وفيها: إن قومًا تحلَّقوا في المسجد «في كلِّ حَلْقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كَبّروا مائة، فيكبرون. فيقول: هللوا مائة فيهللون ... » وذَكَر إنكار ابن مسعود عليهم. فكأنه [ص 27] كان في تلك الصحيفة وصف طريقة للذكر بتلك الكلمات ونحوها بعددٍ مخصوص وهيأةٍ مخصوصة، كما يبيّنه قول ابن مسعود: «إن ما في الكتاب بدعة وفتنة وضلالة». وقد ذكر الدارميّ (3) رواية أخرى في صحيفة جيء بها من الشام فمحاها ابن مسعود. وفيها: «فقال مُرّة [ابن شراحيل الهَمْداني أحد كبار أصحاب ابن مسعود]: أما إنه لوكان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب». ثم قال أبو ريَّة ص 25: (وهناك غير ذلك أخبار كثيرة ... ). _________ (1) كذا كَتب المؤلف استشكالًا للكلمة. والذي في طبعة دار المغني ــ تحقيق حسين أسد: «بدَيْرٍ لهندٍ» وهو الصواب، و «دير هند» يطلق على عدة أماكن. انظر «معجم البلدان»: (2/ 541). (2) (210). (3) (494).
(12/53)
أقول: ذكر ابن عبد البر (1) عن مالك: «أن عمر أراد أن يكتب الأحاديث أو كتبها ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله». وهذا معضل، وقد مرَّت رواية عروة عن عمر وبيان وجهها. وذكر عن أبي بُردة بن أبي موسى أنه كتب من حديث أبيه، فعَلِمَه أبوه فدعا بالكتاب فمحاه. وقد أخرج الدارميّ نحوه ثم أخرج عن أبي بُردة عن أبيه: «أن بني إسرائيل كتبوا كتابًا فتَبِعوه وتركوا التوراة» وهذا كما مرَّ عن عمر. وذَكَر عن أبي نضرة قال: «قيل لأبي سعيد [الخدري]: لو أَكْتَبتنا الحديثَ فقال: لا نُكْتِبكُم، خذوا عنّا كما أخذنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكره من وَجْهٍ آخر في سنده مَنْ لم أعرفه وفيه: «أتريدون أن تجعلوها مصاحف». ثم من وَجْهٍ ثالث بنحوه. وهذا من أبي سعيد بمعنى ما مرَّ عن عمر وأبي موسى. وذَكَر عن سعيد بن جبير قال: «كنا نختلف في أشياء، فكتبتها في كتاب، ثم أتيتُ بها ابن عمر أسأله عنها خفيًّا، فلو عَلِم بها كانت الفيصل بيني وبينه». وفي رواية: «كتب إليَّ أهل الكوفة مسائل ألقى بها ابن عمر، فلقيته فسألته عن الكتاب، ولو علم أن معي كتابًا لكانت الفيصل بيني وبينه». وهذا ليس مما نحن فيه إنما هو باب كراهية الصحابة أن تُكْتب فتاواهم وما يقولونه برأيهم. وذَكَر عن ابن عباس أنه قال: «إنا لا نَكْتُبُ العلم ولا نُكْتِبه». وقد ذَكَر (2) _________ (1) انظر هذه الآثار وغيرها في «جامع بيان العلم»: (1/ 272 ــ 283). (2) أي ابن عبد البر في «الجامع»: (1/ 316).
(12/54)
عن هارون بن عنترة عن أبيه: أن ابن عباس أرْخَصَ له أن يكتب. هذا وقد أخرج الدارميّ (1) بسند رجاله ثقات عن أنس أنه كان يقول لبنيه: «يا بَنِيَّ قيّدوا هذا العلم»، وذكره ابن عبد البر (2) ولفظه: «قيّدوا العلم بالكتاب» ورُوي هذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن قول عمر، ومن قول ابن عمر، وإنما يصح من قول أنس رضي الله عنه. وروى الدارميّ وابن عبد البر (3) وغيرهما بسند حسن: أن أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه سئل عن كتاب العلم فقال: لا بأس به. وأخرج الدارميّ (4) وغيره بسند رجاله ثقات عن بشير بن نَهِيك ــ وهو ثقة ــ قال: «كنت أكتب ما أسمع من [ص 28] أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه فقرأته عليه وقلت له: هذا ما سمعت منك؟ قال: نعم». فالحاصل أن ما رُوي عن عمر وأبي موسى من الكراهة إنما كان ــ كما صرَّحا به ــ خشية أن يكبَّ الناسُ على الكتب ويَدَعُوا القرآن، وأما من عاش بعدهما من الصحابة فمنهم أبو سعيد بقي على الامتناع، ومنهم ابن عباس امتنع ورخَّص. ومنهم من رأى أنه قد زال المانع كما قال عروة الراوي امتناع عمر: «إن كتاب الله قد استمرَّت مريرتُه» وقد مرَّ ذلك، ورأوا أن الحاجة إلى الكتابة قد قويت؛ لأن الصحابة قد قَلُّوا، وبقاءُ الأحاديث تتناقل بالسماع والحفظ فقط لا يُؤْمَنُ معه الخلل، فرأوا للناس الكتابة. كما مرَّ عن _________ (1) (508). (2) «الجامع»: (1/ 316). (3) «المسند» (510)، و «الجامع»: (1/ 317). (4) (511) وهو عند ابن عبد البر: (1/ 313) وغيره.
(12/55)
أبي هريرة وأبي أمامة وأنس رضي الله عنهم. وأما التابعون فغلبت فيهم الكتابة إلا أن مَنْ كان ذا حافظة نادرة كالشعبيّ والزهريّ وقَتادة كانوا لا يرون إبقاء الكتب، لكن يكتب ما يسمع ثم يتحفّظه، فإذا أتقنه محاه. وأكثرهم كانت كتبه باقية عنده كسعيد بن جُبير والحسن البصري وعَبيدة السلماني ومُرَّة الهَمْداني وأبي قِلابة الجرمي وأبي المليح وبشير بن نهيك وأيوب السختياني ومعاوية بن قُرّة ورجاء بن حَيْوَة وغيرهم (1). ثم قال أبو ريَّة ص 25: (ولئن كانت هناك بعض أحاديث رويت في الرخصة بكتابة الأحاديث فإن أحاديث النهي أصح، بَلْهَ ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين). أقول: قد علمتَ أنه ليس في النهي غير حديثين أحدهما متفق على ضعفه، وهو المروي عن زيد بن ثابت، والثاني مختَلَف في صحته وهو حديث أبي سعيد، فأما أحاديث الإذن فلو لم يكن منها إلا حديث أبي هريرة في الإذن لعبد الله بن عَمرو لكان أصحَّ مما جاء في النهي. أما الصحابة والتابعون فقد تقدم ويأتي ما فيه كفاية. ثم نقل أبو ريَّة ص 25 ــ 27 عن «مجلة المنار» كلامًا بدأ فيه بمحاولة الجمع بين حديث النهي وقصة «اكتبوا لأبي شاه» بأنّ ما أمر بكتابته لأبي شاه مِنَ الدِّين العام، وأنَّ النهيَ كان عن كتابة سائر الأحاديث التي هي من الدين الخاص. _________ (1) مقتبس من كتاب العلم لابن عبد البر، وسنن الدارمي، وغيرهما. [المؤلف].
(12/56)
أقول: نظرية «دين عام ودين خاص» مردودة عليه، وقد تقدمت الإشارة إليها (ص 15) (1). وحديث الإذن لعبد الله بن عَمرو قاطعٌ لشَغَبه البتة. قال صاحب «المنار»: «ولنا أن نستدلّ على كون النهي هو المتأخر بأمرين، أحدهما: استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها وذلك بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -». أقول: لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمرويّ عن زيد بن ثابت متفق على ضعفه، [ص 29] وعن أبي سعيد روايتان: إحداهما فيها الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر فيها امتناع أبي سعيد. ونحن لم نقل في هذا: إنه منسوخ، إنما قلنا: إنه إما خطأ والصواب عن أبي سعيد من قوله، كما قال البخاري وغيره، وإما محمول على أمر خاص تقدَّم بيانه. وثانيتهما: رواية أبي نضرة عن أبي سعيد امتناعه هو، وليس فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى. وقد بقيت صحيفةُ عليّ عندَه إلى زمن خلافته، وكذلك بقيت صحيفة عبد الله بن عَمرو عنده ثُمَّ عند أولاده كما مرَّ (2)، فلو كان هناك نَسْخ لكان بقاء الصحيفتين دليلًا واضحًا جدًّا على أنّ الإذن هو المتأخِّر، وتقدّم أن عمر عزم على الكتابة وأشار عليه الصحابة بها، ثم تركها لمعنى آخر، ولم يذكروا نهيًا كان من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك صريح فيما قلنا. وقد أجاز الكتابة من الصحابة: عبد الله بن عَمرو وأبو هريرة وأبو أمامة وأنس رضي الله عنهم، وروى هارون بن عنترة عن أبيه، أن ابن عباس رخَّص فيها (3)، ثم أجمعت عليها الأمة. _________ (1) (ص 31 ــ 33) من هذه الطبعة. (2) (ص 47). (3) سبق ذكر هذه الأخبار وتخريجها (ص 47 ــ فما بعدها).
(12/57)
قال ص 26: (وثانيهما عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره). أقول: أما النشر فقد نشروه بحمد الله تعالى، وبذلك بَلَغنا. وأما التدوين فيعني به الجمع في كتاب كما جمعوا القرآن، فاعلم أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ القرآن وبيانِه وهو السُّنة كما مرَّ (1)، وما تكفَّل الله بحفظه فلابدّ أن يُحفظ. وقد علمنا من دين الله أنّ على عباده مع إيمانهم بحفظ ما تكفَّل بحفظه أن يعملوا ما من شأنه في العادة حفظ ذاك الشيء، وأنه لا تنافي بين الأمرين. وفي «جامع الترمذي» و «المستدرك» (2) وغيرها عن أبي خُزامة عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أرأيت رقًى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتُقَاة نتَّقيها هل تَردُّ من قَدَر الله شيئًا؟ قال: «هو من قَدَر الله». فأما القرآن فأمروا بحفظه بطريقين: الأولى: حفظ الصدور، وعليها كان اعتمادهم في الغالب. الثانية: بالكتابة فكان يُكْتَب في العهد النبوي في قطع صغيرة من جريد النخل وغيرها، فلما غزا المسلمون اليمامة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل استحرَّ القتل بالقُرَّاء قبل أن يأخذ عنهم التابعون، فكان ذلك مظنَّة نقص في الطريق الأولى، فرأى عمر المبادرة إلى تعويض ذلك بتكميل الطريق الثانية، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن في صحف، فنفر منها أبو بكر وقال: «كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»؟ فقال عمر: «هو والله خير» (3). _________ (1) (ص 42 ــ 43). (2) الترمذي (2148)، والحاكم: (1/ 32). وأخرجه أحمد (15472)، وابن ماجه (3437). وفيه ضعف راجع حاشية المسند: (24/ 217). (3) أخرجه البخاري (7191).
(12/58)
يريد أنه عملٌ يتمّ به مقصود الشرع من حفظ القرآن، وعدمُ فعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - له إنما كان لعدم تحقق المقتضي وقد تحقق، ولا يترتب على الجمع محذور، فهو خيرٌ محض. فجُمِع القرآن في صحف بقيت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة [ص 30] أم المؤمنين، حتى طلبها عثمان في خلافته وكتب المصاحف. ومعنى هذا أنه طول تلك المدة التي (1) لم تَبْدُ حاجة إلى تلك الصحف بل بقي القُرَّاء يُبلِّغون القرآن من صدورهم، ومنهم مَن كتب مِن صدره مصحفًا لنفسه، فلما كان في زمن عثمان احتيج إلى تلك الصحف لاختيار الوجه الذي دعت الحاجة إلى قصر الناس على القراءة به دون غيره، وكتب عثمانُ بضعة مصاحف وبعث بها إلى الأمصار لا لتبليغ القرآن بل لمنع أن يقرأ أحد بخلاف ما فيها. هذا شأن القرآن. فأما السُّنة فمخالفةٌ لذلك في أمور: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُعْنَ بكتابتها بل اكتفى بحفظهم في صدورهم وتبليغهم منها، أي بنحو الطريق الأولى في القرآن. الثاني: أنها كانت منتشرة لا يمكن جمعها كلها بيقين. الثالث: أنه لم يتفق لها في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن؛ إذ استحرَّ القتل بحُفَّاظه من الصحابة قبل أن يتلقَّاه التابعون، فإن الصحابة كانوا كثيرًا ولم يتفق أن استحرَّ القتل بحُفَّاظ السُّنة منهم قبل تلقي التابعين. _________ (1) كذا في (ط)، فإن كانت هكذا عند المؤلف فلعل العبارة «التي لم تبدُ [فيها] حاجة .. ».
(12/59)
الرابع: أنهم كانوا إذا هموا بجمعها رأوا أنه لن يكون كما قال عمر في جمع القرآن: «هو والله خير» أي خير محض لا يترتَّب عليه محذور. كانوا يرون أنه يصعب جمعها كلها، وإذا جمعوا ما أمكنهم خشوا أن يكون ذلك سببًا لردِّ مَنْ بعدهم ما فاتهم منها وقد مرَّ (ص 24) (1) عن أبي بكر في سبب تحريقه ما كان جَمَعه منها «أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خفي على أبي بكر». وخشوا أيضًا مِنْ جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن أن يُقْبِلَ الناس على تلك الكتب ويَدَعوا القرآن لِمَا مرَّ (ص 25) (2) عن عُمَر و (ص 27) (3) عن أبي موسى، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها بطريق الرواية ويَكِلُوها إلى حفظ الله تعالى الذي يؤمنون به. ثم ذكر ص 26 أشياء قد تقدم الجواب عنها، ثم قال: (وكون التابعين لم يدوّنوا الحديث إلا بأمر الأمراء). أقول: وجمع القرآن إنما كان بأمر الأمراء: أبي بكر وعمر وعثمان. فإن قيل: هم أمراء المؤمنين وأئمة في العلم وأئمة في التقوى، قلنا: فعمر بن عبد العزيز كذلك في هذا كله، وهو الآمر بالتدوين، وتبعه الخلفاء بعده. قال: (يؤيد ما ورد مِنْ أنهم كانوا [قبل ذلك] يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه). أقول: هذه حال بعضهم، وقد تقدم (ص 27 ــ 28) (4) أن جماعةً كانوا _________ (1) (ص 48). (2) (ص 49 ــ 50). (3) (ص 52 ــ 53). (4) (ص 52 ــ 55).
(12/60)
يكتبون ويُبْقُون كتبهم. قال: (وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه). أقول: سيأتي رد هذا مفصّلًا. والتحقيق أنَّ بعض كبار الصحابة يرون أن تبليغ الأحاديث إنما يتعين [ص 31] عند وقت الحاجة، ويرون أنهم إذا بلَّغوا بدون حضور حاجة فقد يكون منهم خطأ ما قد يؤاخذون به، بخلاف ما إذا بلَّغوا عند حضور الحاجة فإنَّ ذلك متعيّن عليهم، فإما أن يحفظهم الله تعالى من الخطأ، وإما أن لا يؤاخذهم. ولهذا رُويت الأحايث عنهم كلهم، ولم يُنْقَل عن أحدٍ منهم أنه كان عنده حديث فتحققت الحاجة إلى العمل به فلم يحدّث به. وكان جماعة آخرون من الصحابة يُحدّثون وإن لم تتحقق حاجة، يرون أن التبليغ قبل وقت الحاجة مُرغَّب فيه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حدِّثوا عَنّي ولا حَرَج» (1) وغير ذلك من الأدلة الداعية إلى نشر العلم وتبليغ السُّنة. ولكلٍّ وجهة، وكلّهم على خير. على أنه لما قَلَّ الصحابة رجحت كِفّة الفريق الثاني. قال: (بل في نهيهم عنه). أقول: لم ينهوا، وكيف ينهون وما من أحد منهم إلا وقد حدَّث بعدد من الأحاديث، أو سأل عنها، وإنما جاء عن عمر أنه نهى عن الإكثار، ومرجع ذلك إلى أمرين: الأول: استحباب أن لا يكون التحديث إلا عند حضور _________ (1) أخرجه مسلم (3004) من حديث أبي سعيد الخدري.
(12/61)
الحاجة. الثاني: ما صرَّح به من إيثار أن لا يشغل الناس ــ يعني بسماع الأحاديث دون حضور حاجة ــ عن القرآن. وجاء عنه كما يأتي: «أقلُّوا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فيما يعمل به». و «العمل» في كلامه مطلق، يعمُّ العبادات والمعاملات والآداب، لا كما يهوى أبو رية. قال: (قويَ عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن). أقول: هذه نظريته القائلة: «دين عام ودين خاص» والذي يظهر من كلماته أن الدين العام الدائم هو الدين الحقيقي اللازم، وأنه كما عبَّر عنه فيما مضى (ص 15) (1) «المتفق عليه». وعلى هذا فمقصوده أن ما ذكر هنا يقوى عند مخاطبه أنَّ الصحابة كانوا لا يوجبون العمل بالأحاديث الثابتة عندهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قدرًا يسيرًا هو الذي اتفقوا ووافقهم بقية الأمة بعدهم على العمل به، وأن ما زاد على ذلك فالأمر فيه على الاختيار: مَنْ شاء أخذ، ومَنْ شاء تَرَك. بل إنهم كانوا يرون من الخير إماتة تلك الأحاديث! فإن كان هذا مراده فبطلانه معلوم من الدين قطعًا. وحسبك أنه لم يجد أحدًا من علماء الأمة يَنْسب إليه هذا القول بحق أو باطل سوى ما مرّ (ص 15) (2) مِنْ نِسْبته أو نحوه إلى الغزالي، وقدّمنا بيان بطلان تلك النسبة. هذا ونصوص الكتاب والسنة، والمتواتر عن الصحابة، وإجماع علماء الأمة، كلّ ذلك يُبْطل قولَه هذا قطعًا. _________ (1) (ص 31) من هذه الطبعة. (2) (ص 31).
(12/62)
على أن نظريته هذه لا تقتصر على إهمال الأحاديث الصحيحة، بل تتضمن كما تقدم (ص 15) إهمال دلالات القرآن [ص 32] التي نقل ما يخالفها عن بعض من نُسِب إلى العلم ولو واحدًا فقط. فعلى زعمه دلالاتُ القرآن الظاهرة والأحاديث الصحيحة، ولو رواها عدد من الصحابة، لا يلزم المسلم أن يعمل بشيء منها قد نُقِل عن منسوبٍ إلى العلم ما يخالفه، وإن كان الجمهور على وَفْق ذلك الدليل. كأنَّ عنده أن العالم إن خالف الدليل فهو معصوم من أن يغلط أو يغفل أو يزلّ أو يضلّ، وإن وافق الدليل فليس بمعصوم. هذا حكمهم غير متفقين، فأما إذا اتفقوا فهم معصومون إلا في مخالفتهم لنظريته (1) هذه. قال: (ولو كانوا فهموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لكتبوا أو لأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وَثِقُوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتَّبَعَة المعروفة للجمهور بجريان العلم بها). أقول: قد بيَّنّا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكتب مصحفًا، وأن أبا بكر وعمر وعثمان ــ مدة من ولايته ــ لم يكتبوا إلا مصحفًا واحدًا بقي عندهم لا يكاد يصل إليه أحد، فما بالك بالإرسال إلى العمّال، وإن عثمان إنما كتب وبعث بضعة مصاحف إلى بعض الأقطار لمنع الناس من القراءة بخلاف ما فيها، وقد علمنا أنه لم يحفظ القرآنَ كلَّه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نفر يسير، أربعة أو نحوهم، وذكر ابنُ سعد (2) وغيره أن أبا بكر وعمر ماتا قبل أن يحفظا القرآن كله. وقد بعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثم أبو بكر ثم عمر جماعةً من العمال لم يحفظ كلّ _________ (1) (ط): «لنظرية». (2) «الطبقات»: (3/ 193، 275) عن محمد بن سيرين. وفيه نظر. راجع «فتح الباري»: (9/ 51 ــ 52).
(12/63)
منهم القرآن كلَّه ولا كان عنده مصحف، فهل يقال لهذا: إن القرآن لم يكن حينئذ مِن الدِّين العام؟ نعم كان العامل يحفظ طائفةً من القرآن ويعلم جملةً من السُّنة، فكان يبلِّغ هذا وهذا. ومن عرف وضع الشريعة عرف الحقيقة: إن وضع الشريعة عدم الإعنات، وتوجيه معظم العناية إلى التقوى. كان كثير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجروا من مكة إلى الحبشة، ونزل بعدهم قرآن وأحكام، وجُعِلت كلّ من الظهر والعصر والعشاء أربعًا بعد أن كانت ركعتين، وحُوِّلت القبلة وغير ذلك، فلم يُنْقَل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عَقِب تجدُّد حكمٍ من هذه وغيرها يبعث رسلًا إلى مَنْ بالحبشة أو إلى غيرهم ممن بَعُدَ عنه يبلِّغهم ذلك، بل كان يَدَعهم على ما عرفوا حتى يبلغهم ما تجدّد اتفاقًا. وجاء أنه صلى الظهر إلى الكعبة أول ما صلى إليها، فخرج ممن كان معه لحاجته فمرَّ وقتَ العصر ببني حارثة ــ وهم في بعض أطراف المدينة ــ وهم يصلون العصر إلى بيت المقدس، فأخبرهم فاستداروا إلى الكعبة فأتموا صلاتهم. وهكذا تحريم الكلام في الصلاة وتحريم الخمر. ومن المتفق عليه ــ فيما أعلم ــ أنه ليس واجبًا على الأعيان [ص 33] حفظ القرآن سوى الفاتحة، ولا تعلُّمُ القراءة والكتابة واتِّخاذ مصحف، ولايجب على الرجل أن يتعلَّم الفريضة إلا قُرْب العمل بها. وإنما الواجب أن يكون في الأمة علماء، ثم على العامي أن يسأل عالمًا ويعمل بفتواه، وكان في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه يُكْتَفَى في العامل أن يكون ــ مع حفظه لما شاء الله من القرآن ــ عارفًا بطائفة حَسَنة من السُّنة، ثم يقال له: إذا لم تجد الحكم في الكتاب والسنة فاسأل مَنْ ترجو أن يكون عنده علم، فإن لم تجد فاجتهد
(12/64)
رأيك. وقد كان أبو بكر وعمر إذا لم يجدا الحكم في الكتاب ولا فيما يعلمانه من السنة سألا الصحابة، فإذا أُخْبِرا بحديث أخذا به، وربما أخبرهما مَنْ هو دونهما في العلم والفضل بكثير. وترى في «رسالة الشافعي» (1) عدة قضايا لعمر من هذا القبيل. وإذ كان الواجب على الأمة أن يكون فيها علماء كلّ منهم عارفٌ بالقرآن، عارفٌ بجملة حسنة من السُّنة، ليعمل ويُفْتي ويَقْضي بما علم، ويسأل من تيسَّر له من العلماء عما لم يعلم فإن لم يجد اجتهد، فقد كان الصحابة يعلمون أن منهم عددًا كثيرًا هكذا، وأن من تابعيهم عددًا كثيرًا كذلك لا يزالون في ازدياد، وأن حال مَنْ بعدهم سيكون كذلك، وأن القرآن والسنة موجودان بتمامهما عند أولئك العلماء، ما فات أحدهم منهما فموجود عند غيره= رأوا أن هذا كافٍ في أداء الواجب عليهم، مع الإيمان التام بأن الله تعالى حافظ لشريعته، نَعَمْ فكَّروا في الاحتياط لجمع السُّنة فعَرَض لهم خشيةُ أن يؤدي ذلك إلى محذور كما مرَّ فكفُّوا عنه، مكتفين بما ظهر لهم من حرص المسلمين، وما آمنوا به من حفظ رب العالمين. وغاية ما يُخْشى بعد هذا أن يجهلَ العالمُ شيئًا من السُّنة ولا يتيسر له مَنْ يُخْبِره بها فيجتهد فيخطئ. وهذا في نظر الشرع ليس بمحذور كما عُلِم مما مرَّ في حال مَن كان مِن المسلمين بعيدًا عن المدينة، إذ بقوا مدّة يصلُّون الرباعية ركعتين، ويتكلمون في الصلاة، ويصلون إلى بيت المقدس، ويستحلُّون الخمر بعد نزول الأحكام المخالفة لذلك حتى بَلَغَتْهُمْ. وكما أذن الله تعالى أن يبني المسلم _________ (1) (ص 425 ــ 431).
(12/65)
على ظنه، وإن اتفق له أن ينكح أخته وهو لا يدري، وأن يقتل مسلمًا يحسبه كافرًا، وأن يأكل لحمًا يظنه حلالًا فبان لحم خنزير ميت وغير ذلك. إنما المحذور أن تدع الدليلَ الشرعيَّ عمدًا اتباعًا منك لقول عالم قد يجهل ويذهل ويغفل ويغلط ويزل. وأشدُّ من ذلك وأضرّ وأدهى وأمرّ ما يقول صاحب تلك النظرية: إن الدليل الشرعي إذا وُجِد قولٌ لعالم يخالفه ينزل بذلك عن الدين العام اللازم إلى الدين الخاص الاختياري، من شاء أخذ ومن شاء ترك. [ص 34] ومن خالف كلَّ دليلٍ من هذا القبيل مع علمه بها وعَقْله لها، واقتصر على ما لم يخالفه أحد «كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقرّبًا عند الله تعالى» كما تقدم عنه (ص 16) (1)، فهذا هو المحذور عند من يعقل. قال: (وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية). أقول: قد عرفت الحقيقة ولله الحمد، وعرفت ما هو الساقط. قال: (وإذا أضفتَ إلى ذلك حكم عمر بن الخطاب على أعيان (2) الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث). أقول: كان عليه أن يبينها، فإن كان يريد مطاعن الرافضة في أمير المؤمنين عمر فجوابها في «منهاج السُنَّة» وغيره، ويكفينا هنا أن نسأله: هل عَلِمْتَ عُمَرَ ثبت عنده حديث فتركه لغير حُجَّة قائلًا: لا يلزمنا الأخذ بالأحاديث؟ _________ (1) (ص 33 ــ 34). (2) (ط) وكتاب أبي ريَّة: «أعين» والصواب ما أثبت.
(12/66)
قال: (ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قلَّ، وعدم تعنِّيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه). أقول: لزم أبو حنيفة حمّادَ بن أبي سليمان يأخذ عنه مدة، وكان حماد كثير الحديث، ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه، وقِلَّة الأحاديث المروية عنه لا تدلُّ على قلَّة ما عنده، ذلك أنه لم يتصدَّ للرواية. وقد قَدَّمْنا أن العالم لا يُكَلَّفُ جمع السُّنَّة كلها، بل إذا كان عارفًا بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب= كان له أن يُفْتِي، وإذا عَرَضَت قضية لم يجدها في الكتاب والسُّنَّة سأل مَنْ عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه. وكذلك كان أبو حنيفة يفعل، وكان عنده في حَلْقته جماعة من المكثرين في الحديث، كمِسْعَر وحبّان ومِنْدَل، والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه، وما من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يدَّع هو العصمةَ لنفسِه ولا ادَّعاها له أحد، وقد خالفه كبارُ أصحابه في كثير من أقواله، وكان جماعة من علماء عصره ومَنْ قَرُب منه يُنفِّرون عنه وعن بعض أقواله. فإنْ فُرِضَ أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجَّة بيِّنة فليس معنى ذلك أنه زَعَم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب إلى أنَّ القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعًا لحديث ضعيف (1)، ومن ثَمَّ ذَكَر أصحابه أنّ مِن أصله تقديم الحديث الضعيف ــ بَلْهَ الصحيح ــ على القياس. _________ (1) وذكر ابن القيم في «إعلام الموقعين» [2: 55 ــ 58] مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك لغيره. [المؤلف].
(12/67)
قال: (قوي عندك ذلك الترجيح). أقول: أما عند مَنْ يعرف دينه فهيهات. [ص 35] قال: (بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جَعْل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحُفَّاظ لها في الدواوين وبيان ما يُحْتَجُّ به وما لا يحتجّ به لم يتفقوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة ــ ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية ــ فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يُعَدُّ أحد منهم مخالفًا لأصول الدين). أقول: أما ما اعترفت به من اتفاقهم على أن الأحاديث الصحيحة أصل من أصول الأحكام الشرعية، فحُجَّة عليك وعليهم مضافةً إلى سائر الحجج. وأما عدم اتفاقهم على تحرير الصحيح، وعدم اتفاقهم على العمل به، فإنما حاصله أنهم يختلفون في صحة بعض الأحاديث، وذلك قليل بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه. ويتوقف بعضهم عن الأخذ ببعضها بدعوى أنه منسوخ أو مؤوَّل أو مرجوح. وليس في ذلك مخالفة للأصل الذي اتفقوا عليه. فإن قيل: منهم من يتعمَّد ردَّ الصحيح بدعوى ضعفه أو نسخه أو تأويله أو رُجحان غيره عليه، وهو يعلم أنه لا شيء من ذلك. قلنا: لنا الظاهر والله يتولى السرائر، على أنهم قد ترامَوا بهذا زمنًا طويلًا، وجَرَت فتنٌ وحروب، ثم ملُّوا فمالوا إلى التجامل وحسن الظن غالبًا. وعلى كل حال فلا متشَبَّث لك فيما ذكر، والفرق واضح بين من يستحلّ معلنًا قتل المؤمنين بغير حق، ومن يقول: قتل المؤمن حرام، ثم يتفق له أن يقتل مؤمنًا قائلًا: حَسِبْتُه كافرًا حربيًّا، وإن فرض دلالة القرائن على كذبه.
(12/68)
قال: (وقد أورد ابن القيم في «إعلام الموقعين» شواهد كثيرة جدًّا مِن ردّ الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملًا بالقياس ولغير ذلك). أقول: القياس في الجملة دليل شرعيّ. وعلى كلِّ حال فلا متنفَّس لك في ذلك كما مرَّ. قال: (ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا). أقول: نصفٌ عليك، ونصف ليس لك. ثم ذكر أبو ريَّة ص 27 ــ 28 كلامًا قد تقدّم جوابه مستوفى ولله الحمد. * * * *
(12/69)
الصحابة ورواية الحديث [ص 36] ذكر أبو ريَّة ص 29 تحت هذا العنوان أن الصحابة (كانوا يرغبون عن رواية الحديث، وينهون عنها، وأنهم كان يتشدَّدون في قبول الأخبار تشديدًا قويًّا). أقول: دعوى عريضة، فما دليلها؟ قال: (روى الحافظ الذهبي في «تذكرة الحفاظ» قال: ومِن مراسيل ابن أبي مُليكة: أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تُحدِّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشدّ اختلافًا، فلا تُحدِّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه). أقول: قدَّم الذهبي في «التذكرة» (1) قول أبي بكر للجدَّة: «ما أجِدُ لكِ في كتاب الله شيئًا، وما علمتُ أن رسو ل الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر لك شيئًا، ثم سأل الناس ... الخ». فقضى بما أخبره المغيرة ومحمد بن مَسْلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكر الذهبي هذا الخبر، ولا ندري ما سنده إلى ابن أبي مُليكة، وبيَّنَ الذهبي أنه مرسل، أي منقطع؛ لأن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر ولا كاد، ومثل ذلك ليس بحجة؛ إذ لا يُدْرَى ممن سمعه. ومع ذلك قال الذهبي: «مراد الصِّدِّيق التثبُّت في الأخبار والتحرِّي، لا سدُّ بابِ الرواية ... ولم يقل: «حسبنا كتاب الله» كما تقوله الخوارج». أقول: المتواتر عن أبي بكر رضي الله عنه: أنه كان يدين بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وأَخَذَ بحديث: «لا نورث» مع ما يتراءى من مخالفته لظاهر القرآن، وأحاديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موجودة في دواوين الإسلام، وقد استدل _________ (1) (1/ 2 ــ 3).
(12/70)
أبو ريَّة (كما مرَّ ص 24) (1) بما رُوي أن أبا بكر كتب خمسمائة حديث، ثم أَتْلَفَ الصحيفة، وذكر مِمَّا يخشاه إن بقيت قوله: «أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خفي على أبي بكر». وقد ذكر أهل العلم أن أصول أحاديث الأحكام نحو خمسمائة حديث. انظر «إعلام الموقعين» (2: 342) (2). وفيه (1: 61) (3) «عن ابن سيرين قال ... وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلًا ولا في السنة أثرًا، فاجتهدَ رأيه ثم قال: هذا رأيي فإن كان صوابًا فمن الله ... ». وفيه (1: 70) (4) «عن (5) ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى ... وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه ... ». [ص 37] وفيه (3: 379) (6) «لا يُحْفَظ للصديق خلاف نصّ واحدٍ أبدًا». وفي «تاريخ الإسلام» للذهبي (1: 381) (7) في قصة طويلة عن أبي بكر: «وددت أني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وأني سألته عن العَمَّة _________ (1) (ص 49). (2) (3/ 571). (3) (2/ 101). (4) (1/ 115). (5) (ط): «عين» خطأ. (6) (5/ 547). (7) (3/ 118 ــ ط تدمري).
(12/71)
وبنت الأخ فإن في نفسي منها حاجة». فإن كان لمرسل ابن أبي مليكة أصل فكونه عقب الوفاة النبوية يُشْعِر بأنه يتعلّق بأمر الخلافة، كأن الناس عقب البيعة بَقُوا يختلفون يقول أحدهم: أبو بكر أهلها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كَيت وكَيت. فيقول آخر: وفلان قد قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كيت وكيت، فأحبَّ أبو بكر صَرْفهم عن الخوض في ذلك وتوجيهم إلى القرآن وفيه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. قال أبو ريَّة: (وروى ابن عساكر عن [إبراهيم بن] عبد الرحمن بن عوف قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر قال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال: [لا]، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات). أقول: أخذ أبو ريَّة هذا من «كنز العمال» (1: 239) (1) وأسقط منه ما أضفته بين حاجزين. وفي خطبة «كنز العمال» (1: 3) (2): إن كل ما عُزي فيه إلى «تاريخ ابن عساكر» فهو ضعيف. وعبد الله بن حذيفة غير معروف، إنما في الصحابة عبد الله بن حُذافة، وهو مُقِلٌّ جدًّا لا يثبت عنه حديث واحد، فلا يصلح لهذه القصة. وفي سماع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من عمر خلاف، والظاهر أنه لا يثبت (3). ثم إن هؤلاء النَّفَر لم يكونوا جميع _________ (1) (10/ 292 ــ 293 ــ ط الرسالة). (2) (1/ 10). (3) انظر الخلاف فيه في كتاب: «التابعون الثقات المتكلّم في سماعهم من الصحابة»: (1/ 69 ــ 75) للهاجري.
(12/72)
الصحابة، بل كان كثير جدًّا من الصحابة في الأمصار والأقطار يُحدِّثون. قال أبو ريَّة: (وفي رواية ابن حزم في «الأحكام» أنه حبس ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث). أقول: هذا في «أحكام ابن حزم» (2: 39)، وتعقّبه بقوله: «مرسل ومشكوك فيه ... ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد .. » وسيأتي الكلام في الإكثار. قال ص 30: (وروى ابن عساكر عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركنَّ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لألحقنَّك بأرض دوس. وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث [عن الأُوَل] أو لألحقنَّك بأرض القردة). [ص 38] أقول: قد علمت حال «تاريخ ابن عساكر»، وقد أعاد أبو ريَّة هذا الخبر ص 163 ويأتي الكلام عليه هناك وبيان سقوطه. وأسقط أبو ريَّة هنا كلمة «عن الأُوَل» (1) لغرضٍ خبيث، وصنع مثل ذلك ص 115 وص 126، وفعل ص 163 فعلة أخرى، ويأتي شرح ذلك في الكلام عليها إن شاء الله. قال: (وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان). أقول: لم يعزه، ولم أجده. قال: (وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد (2) قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحلّ لأحد يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر، فإنه لم يمنعني أن أُحدِّث عن رسول الله أن لا أكون أوعى أصحابه، إلا أني سمعته يقول: من قال عليَّ مالم أقل فقد تبوأ مقعده من النار). _________ (1) أضافها أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة. (2) تحرف على أبي ريَّة بلفظ «محمود بن عبيد» ولم ينبه على تصحيحه. [المؤلف]. أقول: وقد صححه أبو ريَّة في الطبعات اللاحقة.
(12/73)
أقول: هو عند ابن سعد (1) عقب السيرة النبوية في باب «ذِكْر من كان يُفْتي بالمدينة» رواه ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي وهو الواقدي أحد المشهورين بالكذب، وكأَنَّ ابن عساكر رواه من طريقه (2)، وحال «تاريخ ابن عساكر» قد مرَّ، وأحاديث عثمان ثابتة في أمهات الحديث كلها، ولم يزل يُحدِّث حتى قُتِل. قال: (وفي «جامع بيان العلم» ... عن الشعبي عن قُرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى صرار ثم قال لنا: أتدرون لم مشيت معكم؟ قلنا: أردت أن تشيّعنا وتكرمنا، قال: إن مع ذلك لحاجة خرجتُ لها، إنكم لتأتون بلدة لأهلها دويّ كدويّ النحل، فلا تصدُّوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم. قال قرظة: فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله ... وفي رواية أخرى: إنكم تأتون أهل قرية لها دويّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدّوهم بالأحاديث لتشغلوهم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله. وفي «الأم» للشافعي ... فلما قدم قرظة قالوا: حدِّثنا. قال: نهانا عمر). أقول: اخْتُلِف في وفاة قرظة والأكثرون أنها كانت في خلافة عليّ، ووقع في «صحيح مسلم» (3) في رواية ما يدلّ أنه تأخر بعد ذلك ولعلها خطأ. وسماع الشعبي منه غير متحقق، وقد جزم ابن حزم في «الأحكام» (2: 138) بأنه لم يلقه، وردَّ هذا الخبر وبالغ كعادته، ومما قاله: إن عمر نفسه رويت عنه خمسمائة حديث ونيِّف، فهو مكثر بالقياس إلى المُتَوَفَّيْنَ قريبًا من _________ (1) «الطبقات»: (2/ 291). (2) وهو كذلك. «تاريخ ابن عساكر»: (39/ 180). (3) لعله قصد ما في مسلم (933) عن علي بن ربيعة: «أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب ... ».
(12/74)
وفاته. أقول: مع اشتغاله بالوزارة لأبي بكر ثم بالخلافة. وكذلك رده ابن عبد البر في كتاب «العلم» (2: 121 ــ 123) (1) وأطال، قال: «والآثار الصحاح عنه (أي عمر) من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا، وإنما يدور على بَيان عن الشعبي، وليس مثله حجة في هذا الباب؛ لأنه يعارض السنة والكتاب». وذَكَر آيات وأحاديث وآثارًا عن عمر في الحضِّ على تعلُّم السنن. والشعبي لم يُذْكَرْ في طبقات المدلسين، لكن ذكر أبو حاتم (2) في ترجمة سليمان بن قيس اليشكري أن أكثر ما يرويه الشعبي عن جابر إنما أخذه الشعبي من صحيفة سليمان بن قيس اليشكري عن جابر، وهذا تدليس. ثم أقول: كان قد تجمَّع في العراق كثير من العرب من أهل اليمن وغيرهم، وشرعوا في تعلّم القرآن، فكره عمر أن يُشْغَلوا عنه بذكر مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحوها من أخباره التي لا حكم فيها. ولا مانع أن يجب [ص 39] فيما فيه حكم أن تُتَوخّى به الحاجة، وإن كان الخبر الآتي يخالف هذا. قال: (وكان عمر يقول: أقلُّوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به). أقول: عزاه إلى «البداية والنهاية» (3)، وهو فيها عن الزهري، ولم يدرك _________ (1) (2/ 998 ــ 1000). (2) في «الجرح والتعديل»: (4/ 136). (3) (11/ 372). وهو في «تاريخ ابن عساكر»: (67/ 344) مسندًا، وهو مصدر ابن كثير في النقل.
(12/75)
عمر. وعلق عليه أبو ريَّة قوله: (أي السنة العملية) فإن أراد اصطلاح شيخه (1) «السنة العملية المتواترة» فلا يخفى بطلانه؛ لأن هذا اصطلاح مُحْدَث، وإنما المراد ما يترتَّب عليه عمل شرعي، فيدخل في ذلك جميع الأحكام والآداب وغيرها، ولا يخرج إلا القصص ونحوها، استحبّ الإقلال من القصص ونحوها، ولم يمنع من الإكثار فيما فيه عمل. ثم قال: (ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك لأنه كان لا يعتمد إلّا على القرآن والسنة العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه لما حُضِر النبي وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: هَلُمَّ أكتبْ لكم كتابًا لن تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله). أقول: تكلَّم بعضُ المتأخرين (2) في هذا الحديث، وذكر أنه لوكانت الواقعة بنحو هذه الصورة لما أغفلَ الصحابةُ ذكرَها والتنويه بشأنها، فما باله لم يذكرها إلا ابن عباس مع أنه كان صغيرًا يومئذ. ويميل هذا المتأخر إلى أنها كانت واقعة لا تستحق الذكر تجسَّمت في ذهن ابن عباس واتخذت ذاك الشكل. والذي يهمنا هنا أن نتبيَّن أنه من المعلوم يقينًا أن عمر لا يدَّعي كفاية كتاب الله عن كلِّ ما سواه بما فيه بيان الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذن فإنما ادَّعى كفاية القرآن عن أمر خاص، ودلالة الحال تبين أنه ذاك الكتاب الذي عَرَض عليهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يكتبه لهم. والظاهر أنه قد كان جرى ذكر قضية خاصة بَدَا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب لهم في شأنها، فرأى عمر أن حكمها في القرآن، وأن غاية ما سيكون في ذاك الكتاب تأكيد أو زيادة _________ (1) يعني رشيد رضا صاحب «المنار» وقد سبق كلامه. (2) لم أتبين مَن هو.
(12/76)
توضيح أو نحو ذلك، فرأى أنه لا ضرورة إلى ذلك مع ما فيه من المشقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شدة وجعه. هذا وفي «رسالة الشافعي» (ص 422 ــ 445)، و «إعلام الموقعين» (1: 61 ــ 74، 98) (1)، و «أحكام ابن حزم» (2: 137 ــ 141)، وكتاب «العلم» لابن عبد البر (2: 121 ــ 124) (2) وغيرها آثار كثيرة تبين تمسّك عمر بالأحاديث والسنن، ورجوعه إليها، وعنايته بها، وحضّه على تعلّمها وتعليمها، وأمره باتباعها، فمن أحبَّ فليراجعها. ومعنى ذلك في الجملة متواتر. [ص 40] قال أبو ريَّة ص 31: (وروى ابن سعد في «الطبقات» عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدثنا حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رجع). أقول: أحاديث سعد موجودة في كتب الإسلام، وقد قدَّمنا أن جماعة من الصحابة كانوا لا يحبُّون أن يحدِّثوا في غير وقت الحاجة. قال: (وسئل عن شيء فاستعجم وقال: إني أخاف أن أُحدِّثكم واحدًا فتزيدوا عليه المائة). أقول: هذا في «الطبقات» (3) من طريق سعد، وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن خالته (كذا، ولعل الصواب: عن خاليه) (4) أنهم _________ (1) (2/ 101 ــ 105، 158). (2) (2/ 998 ــ 1000). (3) (3/ 134). (4) في «نسخة إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ... » (9 ــ ت جرار): «عن خالته ابنة سعد بن مالك أنها قالت ... » وكذلك جاء في رواية أخرى عن ابن أبي خثيمة في «تاريخه» (3591).
(12/77)
دخلوا على سعد بن أبي وقاص فسئل الخ. وأحاديث أبناء سعد عنه كثيرة، والظاهر أنه كان معهم هذه المرة من لا يأتمنه سعد، ولعلهم سألوه عن شيء يتعلَّق بما جرى بين الصحابة. قال: (وعن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة فما سمعته فيها يُحدِّث عن رسول الله ولا يقول: قال رسول الله، إلا أنه حدَّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدَّر عن جبينه ثم قال: إن شاء الله، إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما دون ذاك. وفي روايةٍ عند ابن سعد عن علقمة بن قيس أنه كان يقوم قائمًا كل عشية خميس، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة فنظرت إليه وهو يعتمد على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع). أقول: رواية عَمرو بن ميمون انفرد بها ــ فيما أعلم ــ مُسلم البَطِين، واضطرب فيها على أوجه، راجع «مسند أحمد» الحديث (3670)، وفي بعض الطرق التقييد بيوم الخميس، وذلك أن ابن مسعود كان يقوم يوم الخميس يَعِظ الناس بكلمات. وأما رواية علقمة (1). هذا، ولهذين وغيرهما عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في دواوين الإسلام. وأما كرب ابن مسعود فالظاهر أنه عَرَض له تشككٌ في ضبطه لذاك الحديث، ولهذا قال: «إن شاء الله الخ» والأحاديث الصحيحة عنه بالجزم كثيرة، وراجع ما تقدم عنه (ص 13) (2). _________ (1) كذا في (ط)، فكأن المصنف لم يكمل الكلام على رواية علقمة. وقد أخرجها الطبراني في «الكبير» (8624) و «الأوسط» (2002)، وأبو الشيخ في «طبقات المحدثين» (720)، وسندها حسن على أقل أحواله. (2) (ص 27 ــ 28).
(12/78)
قال: (وسأل مالكُ بن دينار ميمونَ الكُرْدي أن يُحدِّث عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه، فقال: كان أبي لا يحدِّثنا عن النبي مخافة أن يزيد أو (1) ينقص). أقول: لم يَعْزُه ولم أعثر عليه (2)، ووالد ميمون الكردي لا يكاد يُعْرَف. وقد ذُكِر في «أُسْد الغابة» (3) و «الإصابة» (4) باسم «جابان» ولم يذكروا له شيئًا، إلا أنه وقع بسند ضعيف عن ميمون عن أبيه، فذكر حديثًا لا يصح وفيه اضطراب. قال: (وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن كعب قال: «قلت لأبي قتادة: حدِّثني بشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أخشى أن يزل لساني بشيء لم يقله رسول الله). أقول: قد قدمنا أنهم كانوا لا يحبُّون التحديث عند عدم الحاجة، وأحاديث أبي قتادة موجودة في دواوين الإسلام. قال: (وروى ابن الجوزي في كتاب «دفع شُبَه التشبيه» قال: سمع الزبير رجلًا يحدِّث، فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه، قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم. فقال: هذا وأشباهه مما يمنعني أن أتحدَّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قد لعمري سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذ حاضر، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ بهذا الحديث فحدَّثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ، فجئتَ أنت بعد انقضاء _________ (1) في (ط): «أم» والتصحيح من المصادر. (2) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6209)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة»: (5/ 62). قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن أبي خَلْدة إلا أبو سعيد مولى بني هاشم، ولا يُروى عن أبي ميمون الكردي إلا بهذا الإسناد». (3) (1/ 301). (4) (1/ 429).
(12/79)
صدر الحديث، وذكر الرجلَ الذي هو من أهل الكتاب فظننتَ أنه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). أقول: أسنده البيهقي في «الأسماء والصفات» (ص 258 ط الهند) (1): «أخبرنا أبو جعفر الغرابي (2)، أخبرنا أبو العباس الصبغي، حدثنا الحسن بن علي بن زياد، حدثنا ابن أبي أويس، حدثني ابن أبي الزناد عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن [عبد الله بن] (3) عروة بن الزبير أن الزبير بن العوَّام سمع رجلًا ... ». أبو جعفر لم أعرفه، والصبغي هو محمد بن إسحاق بن أيوب مجروح، وابن أبي الزناد فيه كلام، وعبد الله بن عروة ولد بعد الزبير بمدة، فالخبر منقطع. وكأنه مصنوع. قال ص 32: (وأخرج البخاري والدارقطني عن السائب بن يزيد قال: صحبت عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود فلم أسمع الواحد منهم يُحدِّث عن رسول الله). أقول: قد حدَّثوا، وسمع منهم غير السائب، وحدَّث من هو خير منهم: الخلفاء الأربعة، والكثير الطيِّب من الصحابة رضي الله عنهم. وانتظر. قال: (وأخرج أحمد وأبو يعلى عن دجين الخ). _________ (1) (764 ـ ت الحاشدي). والنص فيها صححه الشيخ رحمه الله. وأخرجه البيهقي أيضًا في «المدخل» ــ وليس في المطبوع ــ، ومسلم في «كتاب التفضيل» ــ كما في «فتح الباري»: (2/ 576 ــ 577) لابن رجب ــ. (2) في مخطوطة مكتبة الحرم المكي رقم 203 من كتب التوحيد القسم الأول «العزائمي». [المؤلف]. وهو الصواب كما في الطبعة المحققة: (1/ 133). (3) قوله «عبد الله بن» أثبته من المخطوطة، وسقط من المطبوعة. [المؤلف].
(12/80)
أقول: دُجَين أعرابيّ ليس بشيء في الرواية، وترجمته في «لسان الميزان» (1) وفيها نحو هذا مع اختلاف. قال: (وقال عمران بن حُصين: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدَّثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومين متتابعين، ولكن بطأني من ذلك أن رجالًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعوا كما سمعتُ، وشهدوا كما شهدتُ، ويحدِّثون أحاديث ما هي كما يقول (؟ ) وأخاف أن يشبّه لي كما شُبِّه لهم» فأعلمك أنهم كانوا يغلطون (وفي نسخة: يخطئون) لأنهم كانوا يتعمدون). أقول: هذا ذكره ابن قتيبة في «مختلف الحديث» (ص 49) (2) فقال: «روى مطرّف بن عبد الله أن عِمران بن حُصين قال ... » ولم يذكر سندَه. وقوله: «فأعلمك الخ» من (3) كلام ابن قتيبة. [ص 42] قال: (وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن أبي ليلى قال: قلت لزيد بن أرقم: حدِّثْنا عن رسول الله قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد). أقول: أحاديث زيد موجودة في الكتب، وقد قدَّمنا أنهم كانوا لا يحبُّون أن يحدِّثوا بدون حضور حاجة، ويتأكد ذلك عند خشية الخطأ ــ وانتظر. قال: (وقال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث»: وكان كثير من جلَّة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلّون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي عنه شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة). _________ (1) (3/ 415 ــ 416). (2) (ص 55 ــ المكتب الإسلامي). والحديث أخرجه أحمد في «المسند» (19893)، والطبراني في «الكبير»: (18/ 195). وإسناده ضعيف. انظر حاشية المسند: (33/ 123). (3) (ط): «عن».
(12/81)
قال أبو ريَّة: (ولو أنك تصفحت البخاري ومسلم لما وجدت فيهما حديثًا واحدًا لأمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن [عبد الله بن] الجراح. وليس فيهما كذلك حديث لعتبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم). ثم قال أبو ريَّة: (كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفُتْيَا منهم كما علمت يتَّقون كثرة الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانوا يُرَغّبون عن روايته؛ إذ كانوا يعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن كتابة حديثه، وأنهم إذا حدَّثوا عنه قد لا يستطيعون أن يؤدُّوا كل ما سمعوه ... على وجهه الصحيح؛ لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسمع، وماتحفظه مما تسمعه لا يمكن أن يبقى فيها على أصله ... ما كانوا ليرضوا بما رضي به بعضهم ومن جاء بعدهم من رواية الحديث بالمعنى؛ لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ قد يغيّر المعنى، وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس كغيره؛ إذ كل لفظة من كلامه - صلى الله عليه وسلم - يكمُن وراءها معنى يقصده). أقول: كان الصحابة يُفتون، وكلُّ من طالت صحبتُه فبلغت سَنَةً فأكثر فهو مِن العلماء، وإن كان بعضهم أعلم من بعض، وقد قال الشافعي في «الأم» (7: 244) (1): «أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كلّهم ممن له أن يقول في العلم». وتبليغ الأحاديث فرض كفاية كالفتوى. فأما الصِّدِّيق فقلَّ حديثه وفتواه؛ لأنه اشتغل بالخلافة حتى مات بعد سنتين وأَشْهُر، وكان يكفيه غيره الفتوى والتحديث. وأما أبو عبيدة فشُغِل بفتح الشام حتى مات سنة 18، وكان معه في الجيش كثير من الصحابة كمعاذ بن جبل وغيره يَكْفُونه الفُتيا والتحديث. وقد جاءت عنه عدة أحاديث لم يتّفق أن يكون منها ما هو على شرط الشيخين مما احتاجا إليه. وأما الزبير والعباس فكانا مشتغلَيْنِ بمزارعهما غير منبسطَيْن لعامة الناس، فاكتفى الناس _________ (1) (8/ 757 ــ دار الوفاء).
(12/82)
غالبًا ببقية الصحابة وهم كثير. وأما سعيد [ص 43] بن يزيد فكان منقبضًا مُقْبِلًا على العبادة. وأما عُتْبة بن غزوان فحاله كحال أبي عبيدة بقي في الجهاد والفتوح حتى مات سنة 17. وأما أبو كبشة فقديم الموت تُوُفي يوم مات أبو بكر أو بعده بيوم. وكما قلَّتْ أحاديث هؤلاء قَلَّتْ فتاواهم، مع العلم بأن الفتوى فرض كفاية، وأنه إذا لم يوجد إلا مُفْتٍ واحدٌ والقضية واقعة تعيَّنَتْ عليه. وكما كانوا يتقون الفتوى في القضايا التي ليست واقعة حينئذٍ، حتى رُوي عن عمر أنه لعن من يسأل عما لم يكن. وأنه قال وهو على المنبر: وأحرِّج بالله على مَنْ سأل عما لم يكن، فإن الله قد بَيَّن ما هو كائن. أخرجهما الدارميّ وغيره (1). ورُوي أنهم كانوا يتدافعون الفتوى، كل واحد يَوَدّ أن يكفيه غيره، فكذلك كان شأنهم في التحديث حين كان الصحابة متوافرين. وعامة مَنْ تقدم أنه قليل الحديث أو أنه سئل أن يُحدّث فامتنع، قد ثبتت عنهم أحاديث بين مُكْثِر ومُقِلّ، وذلك يُبيِّن قطعًا أن قلَّة حديثهم إنما كانت لما تقدم. ويوضِّح ذلك أنه لم يأت عن أحدٍ منهم ما يؤخذ منه أنه امتنع من التحديث بحديث عنده مع حضور الحاجة إليه وعدم كفاية غيره له. إنك لا تجد بهذا المعنى حرفًا واحدًا. فاختيارهم أن لا يحدّثوا إلا عند حضور الحاجة إلى تحديثهم خاصة هو السببُ الوحيد لاتقاء الإكثار ولِمَا يصح في _________ (1) «مسند الدارميّ» (123، 126) على التوالي. وأخرجهما ابن عبد البر في «جامع بيان العلم»: (2/ 1067، 1061) على التوالي.
(12/83)
الجملة من الرغبة عن الرواية. أما النهي عن الكتابة فقد فرغنا منه البتة فيما تقدم (ص 22) (1): وأما خشية الخطأ فهذا من البواعث على تحرِّي أن لا يُحدِّثوا إلا عند الحاجة. راجع (ص 31) (2). قوله: (إن ما وَعَتْه الذاكرة لا يمكن أن يبقى فيها على أصله) إنْ أراد بذلك ألفاظ الأحاديث القولية فليس كما قال، بل يمكن أن يبقى بعض ذلك، بل قوله: إنَّ (الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة وأهل الفتيا ... لم يكونوا ليَرْضَوْا بما رضي به بعضهم ... من رواية الحديث بالمعنى) اعتراف منه بأن ما ثبت عن هؤلاء روايته من الأحاديث القولية قد روَوْه بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه الصحيح. وإن أراد الأحاديث الفعلية ومعاني القولية فباطل، بل يبقى فيها الكثير من ذلك كما لا يخفى على أحد. قوله: (إن تغيير اللفظ قد يغير المعنى). قلنا: قد، ولكن الغالب فيمن ضبط المعنى ضبطًا يثق به أنه لا يغيِّر. قوله: (كل لفظة من كلامه - صلى الله عليه وسلم - يكمن وراءها معنى يقصده). أقول: نعوذ بالله من غلوّ يُتَذَرَّعُ به إلى جحود، كان - صلى الله عليه وسلم - يكلِّم الناس ليفهموا عنه، فكان يتحرى إفهامهم «إن كان ليحدِّث الحديثَ لو شاء العادُّ أن يحصيه أحصاه» كما في «سنن أبي داود» (3) عن عائشة، وأصله في _________ (1) (ص 45). (2) (ص 61). (3) (3654).
(12/84)
«الصحيحين» (1). وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفْهَم. كما في «صحيح البخاري» (2) عن أنس. ويقال لأبي رية: أمفهومةٌ كانت [ص 44] تلك المقاصد الكامنة وراء كلّ لفظة للصحابة، أم لا؟ إن كانت مفهومة لهم أمكنهم أن يؤدُّوها بغير تلك الألفاظ. وإلَّا فكيف يُخَاطَبون بما لا يفهمونه؟ فأما حديث «فُربَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع» (3) فإنما يتفق في قليل كما تفيد كلمة «ربَّ»، وذلك كأن يكون الصحابي ممن قَرُبَ عهده بالإسلام ولم يكن عنده علم فيؤدّيه إلى عالم يفهمه على وجهه، والغالب أن الصحابة أفهم لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ممَّن بَعْدَهم. * * * * تشديد الصحابة في قبول الأخبار قال أبو ريَّة ص 33: (كانوا يتشددون في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط، حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثًا إلا بشهادة غيره على أنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). أقول: هذه دعوى لا تُقبل إلا بدليل، كأن يكون أبو بكر صرَّح بذلك، أو تكرَّر منه ردّ خبر الآحاد الذين لم يكن مع كلٍّ منهم آخر، وليس بِيَد أبي ريَّة شيء من هذا، إنما ذكر الواقعة الآتية وسيأتي النظر فيها. قال: (روى ابن شهاب عن قَبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تُورَّث فقال: _________ (1) البخاري (3567)، ومسلم (2493). (2) (95). (3) أخرجه البخاري (67، 1741)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(12/85)
ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئًا ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيها السدس. فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مَسْلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر). أقول: هذه واقعة حال واحدة ليس فيها ما يدلُّ على أنه لو لم يكن مع المغيرة غيره لم يقبله أبو بكر. والعالِمُ يحبّ تَظَاهُر الحجج كما بيّنه الشافعي في «الرسالة» (ص 432). ومما حسَّن ذلك هنا أن قول المغيرة: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيها السدس» (1) يعطي أن ذلك تكرَّر من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد يستبعد أبو بكر تكرُّر ذلك ولم يعلمه هو، مع أنه كان ألزَمَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - من المغيرة. وأيضًا: الدعوى قائمة، وخبر المغيرة يشبه الشهادة للمدَّعِيَة. ومع ذلك فهذا خبر تفرَّد به الزهري، عن عثمان بن إسحاق بن خَرَشة، عن قَبيصة، واحد عن واحد عن واحد. فلو كان في القصّة ما يدلُ على أن الواحد لا يكفي لعاد ذلك بالنقض على الخبر نفسه، فكيف وهو منقطع، لأن قبيصة لم يدرك أبا بكر، وعثمان بن إسحاق وإن وُثِّق لا يُعْرَف في الرواية إلا برواية الزهري وحده عنه، هذا الخبر وحده! قال أبو ريَّة: (وقد وضع بعمله هذا أول شروط علم الرواية، وهو شرط الإسناد الصحيح). [ص 45] أقول: تلك أمانيّهم، وقد بيَّن الكتاب والسنة وجوب أن يقبل خبر العدل، وقَرَن الله تعالى تصديقه بالإيمان به سبحانه، قال تعالى في ذكر المنافقين: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] كلما _________ (1) كما نقله أبو رية. [المؤلف].
(12/86)
أخبره أحدٌ من أصحابه عنَّا بِشَرٍّ صدَّقه، قال تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]. أي يصدّقهم. وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فبيَّن سبحانه أن خبر الفاسق مناف لخبر العدل، فمِنْ حقّ خَبَر العَدْل أن يصدُق كما صرَّحت به الآية الأولى، ومن حقِّ خبر الفاسق أن يُبْحَث عنه حتى يتبيّن أمره. وأما السنة فبيانها لوجوب أن يُقْبَل خبر الواحد العدل أوضح، وقد أطال أهل العلم في ذلك وألَّفوا فيه، وانظر «رسالة الشافعي» (ص 401 ــ 458) و «أحكام ابن حزم»: (1: 108). ومن أَبْيَن ما احتجّوا به: ما تواتر من بَعْث النبي - صلى الله عليه وسلم - آحاد الناس إلى القبائل والأقطار يبلّغ كلُّ واحد منهم من أرسل إليه ويعلمهم ويقيم لهم دينهم. قال ابن حزم (1): «بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى الجَنَد وجهاتٍ من اليمن، وأبا موسى إلى جهة أخرى ... وأبا عبيدة إلى نجران، وعليًّا قاضيًا إلى اليمن، وكلّ من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلمًا لهم شرائع الإسلام. كذلك بعث أميرًا إلى كلِّ جهة أسلمت ... معلمًا لهم دينهم، ومعلمًا لهم القرآن، ومفتيًا لهم في أحكام دينهم، وقاضيًا فيما وقع بينهم، وناقلًا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله، وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. وبعثة هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشكُّ فيها أحد ... ولا في أن بعثتهم إنما كانت لما ذكرنا. [و] (2) من _________ (1) «الإحكام»: (1/ 109 ــ 110). (2) هذه الإضافة من المصنف تصحيحًا لنص ابن حزم.
(12/87)
المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من لا تقوم عليهم الحجَّةُ بتبليغه، ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين، وما أفتوهم به في الشريعة ... إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولًا، ولكان عليه السلام قائلًا للمسلمين: بعثتُ إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلَّغَكم عنّي، ومن حكمكم أن لا تلتفتوا إلى ما نُقِل إليكم عني ... ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام». والحجج في هذا الباب كثيرة، وإجماع السلف على ذلك محقق. قال أبو ريَّة ص 34: (أما عمر فقد كان أشدّ من ذلك احتياطًا وتثبتًا ... روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلسٍ من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنتُ على عمر ثلاثًا فلم يؤذَن لي، فرجعت، قال عمر: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذَن لي فرجعت، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ص 46]: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع». فقال: والله لتقيمنَّ عليه بينة. (زاد مسلم: وإلا أوجعتك. وفي رواية ثالثة: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا) أَمِنْكُم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أُبيُّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك). قال أبو ريَّة: (فانظر كيف تشدَّد عمر في أمرٍ ليس فيه حلال ولا حرام، وتدبَّر ماذا يكون الأمر لو كان الحديث في غير ذلك من أصول الدين أو فروعه. وقد استند إلى هذه القصة من يقولون: إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد. واستدل به من قال: إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضمَّ إليه غيره ... ). أقول: قد ثبت عن عمر الأخذ بخبر الواحد في أمور عديدة، من ذلك: أنه كان لايورّث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحَّاك بن سفيان الكلابي أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.
(12/88)
فرجع إليه عمر (1). وعمل بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده في النهي عن دخول بلد فيها الطاعون (2). وعمل بخبره وحده في أخذ الجزية من المجوس (3). وهذا كله ثابت. راجع «رسالة الشافعي» (426). وفي «صحيح البخاري» (4) وغيره عن عمر أنه قال لابنه عبد الله: «إذا حدَّثك سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء فلا تسأل عنه غيره. وكان سعد حدَّث عبد الله حديثًا في مسح الخفين. فأما قصّة أبي موسى فإنما شدّد عمر لأن الاستئذان مما يكثر وقوُعه، وعمر أطول صحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر ملازمة وأشدّ اختصاصًا، ولم يحفظ هو ذاك الحكم فاستغربه. ولهذا لما أخبره أبو سعيد عاد عمر باللائمة على نفسه فقال: «خَفِيَ عليَّ هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألهاني عنه الصفق بالأسواق». وهذا ثابت في «الصحيحين» (5). وأنكر أبيُّ بن كعب على عمر تشديده على أبي موسى وقال: «فلا تكن يا ابن الخطاب عذابًا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». فقال عمر: «إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبَّت» وهذا في «صحيح مسلم» (6). وقد كان عمر يُسمِّى أُبَيًّا: سيد المسلمين (7). _________ (1) أخرجه أبو داود (2927)، والترمذي (1415)، وابن ماجه (2642)، وأحمد (15746). قال الترمذي: حسن صحيح. (2) أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219). (3) أخرجه البخاري (3157). (4) (202). وأخرجه أحمد (88). (5) البخاري (2062)، ومسلم (2153). (6) (2154/ 37). (7) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (476).
(12/89)
وفي «الموطأ» (1): أن عمر قال لأبي موسى: «أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرَّأ الناسُ على الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». قال ابن عبد البر (2): «يحتمل أن يكون حضر عنده مَنْ قَرُبَ عهده بالإسلام فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرغبة والرهبة طلبًا للمخرج مما يدخل فيه. فأراد أن يعلّمهم أنَّ مَن فعل شيئًا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج». وقد نقل أبو ريَّة شيئًا من «فتح الباري» (3) وترك ما يتصل به من الجواب الواضح عنه، فإن شئتَ فراجعه. [ص 47] وقال أبو ريَّة ص 8: (وكان عليّ يستحلف الصحابي على ما يرويه له). أقول: هذا شيء تفرَّد به أسماء بن الحكم الفَزَاري؛ وهو رجل مجهول. وقد ردَّه البخاري وغيره كما في ترجمة أسماء من «تهذيب التهذيب» (4). وتوثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان أو أوسع (5)، فلا يقاوم إنكار البخاري وغيره على أسماء. على أنه لو فرض ثبوته فإنما هو مزيد احتياط، لا دليل على اشتراطه. هذا، ومن المتواتر عن الخلفاء الأربعة: أن كُلًّا منهم كان يَقضي ويُفتي بما عنده من السنَّة بدون حاجة إلى أن تكون عند غيره. وأنهم كانوا ينصبون _________ (1) (2768). (2) في «التمهيد»: (3/ 200) وهذا النص الذي نقله المؤلف بواسطة «فتح الباري» لابن حجر. وهو تلخيص لكلام ابن عبد البر. (3) (11/ 30). (4) (1/ 268). (5) انظر «التنكيل»: (1/ 724 - 725) للمؤلف.
(12/90)
العمال من الصحابة وغيرهم ويأمرونهم أن يَقضي ويُفتي كلُّ منهم بما عنده من السنَّة بدون حاجة إلى وجودها عند غيره. هذا مع أن المنقول عن أبي بكر وعمر وجمهور العلماء أن القاضي لا يقضي بعلمه. قال أبو بكر: «لو وجدت رجلًا على حدّ ما أقمتُه عليه حتى يكون معي غيري». وقال عكرمة: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: «لو رأيتُ رجلًا على حدّ زنا أو سرقة وأنا أمير؟» فقال: «شهادتك شهادة رجل من المسلمين»، قال: «صدقت». (راجع «فتح الباري» 13: 139 و 141) (1). ولوكان عندهم أن خبر الواحد العدل ليس بحجة تامة لما كان للقاضي أن يقضي بخبرٍ عنده حتى يكون معه غيره، ولا كان للمفتي أن يفتي بحسب خبر عنده، ويلزم المستفتي العمل به حتى يكون معه غيره. فتدبَّرْ هذا فإنه إجماع، وقد مضى به العمل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه الغِنى. وذكر شيئًا عن أبي هريرة، وسيأتي في ترجمته رضي الله عنه. * * * * الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو ريَّة ص 6: (لما قرأت حديث: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار» غمرني الدهش لهذا القَيْد الذي لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق وأمر به، ونهى عن الكذب وحذَّر منه، إذ ليس بخافٍ أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء أكان عمدًا أم غير عمد). ثم ذكر ص 9 أنَّ كلمة «متعمدًا» (لم تأت في روايات كبار الصحابة، قال: ويبدو أن هذه الكلمة قد تسللت إلى هذا الحديث على سبيل الإدراج لكي يتكئ عليها الرواة فيما _________ (1) (13/ 159 ــ 162 ــ ط السلفية).
(12/91)
يروونه عن غيرهم من جهة الخطأ أو الوهم أو الغلط ... ذلك بأن المخطئ غير مأثوم. أو أن هذه الكلمة وُضِعت ليسوِّغ الذين يضعون الأحاديث عن غير عمدٍ عملَهم). ثم أطال الكلام ص 36 فزعم أن (الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة، ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين [ص 48] تدل على أن هذا الحديث لم تكن فيه تلك الكلمة (متعمدًا)، قال: وكل ذي لبّ يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها، لمنافاة ذلك للعقل والخُلُق اللَّذَيْنِ كان الرسول متصفًا بالكمال فيهما). أقول: أما الرواية فقد جاءت عن كبار الصحابة وغيرهم بلفظ: «مَنْ كَذَب عليّ فليتبوّأ .. » الخ، وبما يؤدي معناه مثل: «مَنْ قال علَيَّ ما لم أقل .. » الخ، وجاءت بلفظ: «مَنْ كَذَب عليّ متعمدًا فليتبوّأ» الخ، وبما يؤدّي معناه مثل: «مَنْ تعمّد عليَّ كذبًا» الخ. راجع البخاري مع «فتح الباري» (1) و «صحيح مسلم» (2) و «مسند أحمد» (3) و «تاريخ بغداد» (4) و «كنز العمال» (5: 22) و «مشكل الآثار» للطحاوي (1: 164 ــ 176) (5). وقد يمكن الترجيح بالنظر إلى الرواية عن صحابي معين، فأما على الإطلاق فلا. وكما أن الله عز وجل كرَّر في القرآن بيان شدّة الإثم في افتراء الكذب عليه فمعقول أن يكرر رسوله. وها هنا بحثان: _________ (1) البخاري رقم (108)، و «الفتح»: (1/ 201 ــ السلفية) عن أنس. (2) رقم (2) عن أنس. (3) رقم (469، 507) عن عثمان، و (584، 789، 1075) عن علي، و (1413) عن الزبير، و (3815، 3847) عن ابن مسعود رضي الله عنهم. (4) (1/ 265، 3/ 50) عن ابن مسعود، و (2/ 84) عن أبي موسى، و (2/ 221) عن عثمان، و (3/ 25) عن طلحة، و (5/ 115) عن عليّ رضي الله عنهم. (5) (1/ 352 ــ 372 ــ ط الرسالة).
(12/92)
البحث الأول في البرهان العقلي الذي اعتمد عليه أبو ريَّة
إذ قال: (إنَّ هذا القيد (متعمدًا) «لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق الخ» وقال: «وكل ذي لبّ يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها لمنافاة ذلك للعقل الخ»). أقول: ما عسى أن يقول أبو ريَّة في قول الله عزوجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21]، واقرأ (6: 93 و 144) و (7: 37) و (10: 17) و (11: 18) و (18: 15) و (29: 68) و (61: 70) كل هذه الآيات تذكر افتراء الكذب على الله، وافتراء الكذب هو تعمُّده، والكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد على الكذب على الله، فلماذا لا يعقل أن يقيد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قيد القرآن؟ وقال الله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] (1) وقد اعترف أبو ريَّة ص 8 بأنه ليس في وسع من سمع الحديث أن لا يقع منه في تبليغه خطأ البتة، وعبارته: (وتركه يذهب بغير قيد إلى أذهان السامعين، تخضعه الذاكرة لحكمها القاهر، الذي لا يستطيع إنسان مهما كان أن ينكره أو ينازع فيه من سهو أو غلط أو نسيان). وإذا كان الله عزوجل لا يكلف نفسًا إلا وسعها فبماذا يستحق من وقع منه ما ليس في وسعه أن لا يقع أن يتبوأ منزلًا في جهنم؟ وقد علَّم الله عباده أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وما علَّمهم إلا ليستجيب لهم. وقد ثبت في «الصحيح» أنّ الصحابة لما قالوها _________ (1) واقرأ (2: 233) و (6: 152) و (7: 41) و (23: 62) و (65: 7) [المؤلف].
(12/93)
قال الله تعالى: «قد فعلتُ» (1). وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. والمخطئ أولى بالعذر من المُكْره. [ص 49] قد يقول أبو رية: كان للصحابة مندوحة عن الوقوع في الخطأ، وذلك بأن يَدَعوا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - البتة. قلت: أنى لهم ذلك وهم مأمورون أن يبلغ شاهدهم غائبهم! كان ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، وكان أصحابه يبلِّغ بعضُهم بعضًا، وكانوا يتناوبون كما في «الصحيح» عن عمر: «كنت أنا وجار لي من الأنصار ... وكنّا نتناوب النزولَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك ... » (2). وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يبعث الرسل والأمراء ويأمرهم أن يبلِّغوا مَن أُرسلوا إليهم، ويجيء أفراد من القبائل فيسلمون ويتعلمون ويسمعون ويرجعون إلى قبائلهم فيبلغونهم. وقد علموا أنّ محمدًا رسول الله _________ (1) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (125)، ومن حديث ابن عباس (126) رضي الله عنهما. (2) أخرجه البخاري (89).
(12/94)
إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، وأنّ شريعته للناس كافة إلى يوم القيامة، وأن الله تعالى أمر الناس كافة باتباعه وطاعته والتأسّي به، وأخذ ما آتى والانتهاء عما نهى، وجعله المبيِّن عنه لما أنزله بقوله وفعله، وأنهم مأمورون بتبليغ الكتاب وبيانه، إذ كلّ ذلك دينٌ للناس كافة إلى يوم القيامة. وأنهم مأمورون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والدلالة على الخير، والنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده. وعلموا الوعيد الشديد على كتمان الحق، وكتمان ما أنزل الله من البينات والهدى، مع علمهم بأنّ كتمان بيان الكتاب بمنزلة كتمان الكتاب. وحسبنا أنهم كانوا أعلم بالله ودينه وما لهم وعليهم، وأَتْبَع للحق وأحرص على النجاة من كلِّ من جاء بعدهم. وقد حدَّث أفاضلهم وخيارهم ما بين مُكثر ومُقلّ، ولم يكن المقلُّ يَعيب على المكثر إلا أن يرى بعضهم أن الإكثار جدًّا خلاف الأَوْلى، وهذا عُمر الذي نُسِب إليه كراهية الإكثار قد جاءت عنه ــ مع تقدّم وفاته ــ أكثر من خمسمائة حديث، وله في «صحيح البخاري» وحده ستون حديثًا، وقد نسب إليه الوهم كما نُسِب إلى غيره. فالحق الذي لا يرتاب فيه عاقل أنهم كانوا مأمورين بالتبليغ عند الحاجة، مأذونًا لهم أن يحدِّثوا مطلقًا، مع العلم بشدّة حُرْمة الكذب في جميع الأحوال. فمعنى ذلك أنّ عليهم ولهم أن يحدّثوا بما يعتقدون أنهم صادقون فيه، ومع العلم بأن أحدهم إذا حدَّث معتقدًا أنه صادق فقد يقع له خطأ، وإن من وقع له ذلك مع بذله وسعه في التحرّي والتحفُّظ فهو معذور، وهذا هو الذي تقتضيه القضايا العقلية والنصوص القرآنية، حتى لو فُرِض أنه لم يأت في الحديث [ص 50] لفظ «متعمِّدًا» ولا ما يؤدِّي معناه، فإن الأدلة القطعية
(12/95)
توجب أن يكون هذا مرادًا في المعنى. ولا يتوهمنَّ أحدٌ أن كلمة «متعمّدًا» تخرج من حدَّث جازمًا وهو شاكّ، كلا فإن هذا متعمِّد بالإجماع، ولا نعلم أحدًا من الناس حتى من أهل الجهل والضلالة زعم أن كلمة «متعمدًا» تخرج هذا، وإنما وُجِد من أهل الجهل والضلال من تشبَّث بكلمة «عَلَيَّ» فقال: نحن نكذب له لا عليه (1). فلو شكَّك أبو ريَّة في كلمة «عَلَيَّ» لكان أقرب. وذكر أبو ريَّة ص 38 حديث الزبير، ودونك تلخيص حاله: أشهر طرقه: رواية شعبة، عن جامع بن شدَّاد، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن الزبير، رواه عن شعبةَ جماعةٌ بدون كلمة «متعمدًا»، ورواه معاذ بن معاذ ــ وهو من جبال الحفظ ــ فذكرها. فنظرنا في رواية غُنْدَر عن شعبة ــ فإن غُندرًا ضبط كتابه عن شعبة وعرضه عليه وحققه، قال ابن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غُندر حَكَمٌ بينهم (2). فوجدنا الإمام أحمد رواه في «مسنده» (3) عن غُندر عن شعبة وفيه الكلمة «متعمدًا». وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشَّار بُنْدار عن غُنْدَر، رواه ابن ماجه عنهما (4). لكن في _________ (1) وهو قول بعض الكرّامية والمتزهّدة. انظر «فتح الباري»: (1/ 199 ــ 200، 6/ 499)، و «علوم الحديث» (ص 99 ــ 100) لابن الصلاح، و «تدريب الراوي»: (1/ 334). (2) انظر «تهذيب التهذيب»: (9/ 85). (3) رقم (1413). (4) رقم (36).
(12/96)
«الفتح» (1): أن الإسماعيلي أخرجه من طريق غُندر بدونها. وفي «الفتح» (2): أن الزبير بن بكَّار روى الخبر في «كتاب النسب» من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير بدونها، ولا أدري كيف سنده. وكذلك أخرجه الدارمي (3) بدونها من طريق أخرى عن ابن الزبير، في سندها عبد الله بن صالح كاتب الليث، وفيه كلام. وقد أخرجه أبو داود (4) بسند صحيح عن عامر بن عبد الله بن الزبير بسنده وفيه الكلمة. وقال المنذري في «اختصاره لسنن أبي داود» (5): «والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه (متعمدًا)» نظر فيه العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على «المسند» (6) فذكر أن ابن سعد روى الخبر في «طبقاته» (3/ 1/74) (7) عن عفّان ووَهْب بن جرير وأبي الوليد، ثلاثتهم عن شعبة. فذكر الحديث، وفي آخره: «قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير: والله ما قال «متعمدًا» وأنتم تقولون «متعمدًا» رأى أحمد شاكر أن هذا من قول وهب بن جرير لزملائه الذين رووا معه عن شعبة، يريد وهب: والله ما قال شعبة الخ. فنِسْبتها إلى الزبير وَهْمٌ. أقول: أما ظاهر قول ابن سعد: «قا ل وهب بن جرير في حديثه عن الزبير» فإنه يقتضي أن وهبًا ذكرها في الحديث نفسه. وفي «مشكل الآثار» _________ (1) (1/ 200). (2) نفسه. (3) رقم (239). (4) رقم (3651). (5) (5/ 248). (6) (3/ 8) رقم (1413). (7) (3/ 99 ــ ط الخانجي).
(12/97)
للطحاوي (1/ 166) (1): «حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا أبو داود ووهب بن جرير، حدثنا شعبة» فذكر الحديث وقال في آخره: «زاد وهب في حديثه: والله ما قال «متعمدًا» وأنتم تقولون: «متعمدًا»، لكن يعلو على ذلك أن الحديث رُوِيَ من عدة طرق عن شعبة وغيره، وليس فيه هذه الزيادة «والله ما قال الخ» ولا هي موجودة في رواية غُندر عن شعبة، فيشبه أن تكون من كلام وهب قالها متصلة فحسبها السامع منه فقال: «قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير الخ». فأما قول ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (ص 49) (2): «رُوي عن الزبير أنه [ص 51] رواه وقال: أراهم يزيدون فيه «متعمدًا»، والله ما سمعته قال «متعمدًا»، فأخشى أن يكون ابن قتيبة إنما أخذه من ابن سعد، وتغيير اللفظ من الرواية بالمعنى. وعلى فرض صحّة هذه الزيادة عن الزبير فإنما يفيد ذلك خطأ مَن ذَكَر الكلمة في حديث الزبير، ثم تكون هذه الزيادة نفسها حجة على صحة الكلمة في الجملة؛ لأنّ الزبير ذكر أنه سمع إخوانه من الصحابة يذكرونها في الحديث، والظاهر كما تقدَّم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كرر التشديد في عدة مواقع، والحَمْل على أنه ترك الكلمة في موقع فسمعه جماعة منهم الزبير، وذَكَرها في موقع آخر فسمعه آخرون، أوضحُ وأحقُّ مِن الحَمْل على الغلط. والغريب ما علقه أبو ريَّة في حاشية ص 39 من الهُجْر وفيه: (ولعنة الله على الكاذبين متعمّدين وغير متعمّدين، ومن يروّجه لهم من الشيوخ الحشويين) مع أنه _________ (1) رقم (387 ــ ط الرسالة). (2) (ص 91 ــ المكتب الإسلامي).
(12/98)
ذكر ص 49 وقوع الخطأ من عمر وابن عمر وعِتْبان بن مالك ــ أحد البدريين ــ وأبي الدرداء وأبي سعيد وأنس وغيرهم، والمخطئ عنده كاذب، بل مرَّ في كلامه ما يقتضي أنَّ كلَّ من حدَّث من الصحابة ــ ومنهم الخلفاء الأربعة وبقية العشرة وأمهات المؤمنين وغيرهم ــ لا بدَّ أن يكون وقع في الخطأ، فكلهم عنده كاذبون تنالهم لعنته. وأشدّ من هذا وأمَرّ ما مرَّت الإشارة إليه (ص 17 - 18) (1)، وهذه من فوائد عداوة السنة وأهلها.
البحث الثاني: في حقيقة الكذب (2)
بنى أبو ريَّة على أنه (ليس بخاف أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء أكان عن عمد أم غير عمد). وهو يعلم ــ فيما يظهر ــ أن هذا مخالف لقول شيخيه اللَّذَيْنِ يقدّسهما، وإيَّاهما ونحوهما عنى بقوله ص 4: (العلماء والأدباء)، وقوله ص 196: (أصحاب العقول الصريحة) وهما النظَّام والجاحظ، فالكذب عند النظَّام: مخالفة الخبر لاعتقاد المخبر، وهو عند الجاحظ: مخالفته لكلا الأمرين معًا: الواقع، واعتقاد المخبر، فعلى القولين ما طابق اعتقاد المخبر فليس بكذب وإن خالف الواقع. وقد ذكر أبو ريَّة ص 50 قولَ عائشة للذين حدَّثوها عن عمر وابنه بخبرٍ رأت أنهما وهِما فيه: «إنكم لتحدّثون عن غيرِ كاذِبَيْنِ، ولكن السمع يخطئ» (3)، وقولها في خبر رواه ابن عمر: «إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ» (4). _________ (1) (ص 34 ــ 37). (2) تقدم البحث الأول (ص 93). (3) أخرجه مسلم (929). (4) أخرجه مسلم (923).
(12/99)
والراجح ما عليه الجمهور أن الكذب مخالفة الخبر للواقع، لكن المتبادر من قولك: كذب فلان، أو: فلان كاذب ونحو ذلك أنه تعمَّد، فمن ثَمَّ لا يقال ذلك للمخطئ، إلا أنه ربما قيل له ذلك تنبيهًا على أنه قصَّر (راجع كتاب «الرد على الإخنائي» ص 21). ولما أرادت عائشة أن تنفي عن عمر وابنه التعمّد والتقصير نفت عنهما الكذب البتة. ثم رأيتُ الطحاويّ ذكر هذه القضية في «مشكل الآثار»، فذكر كثيرًا من الروايات ثم قال (1: 173) (1) ما ملخَّصه: من كذب فقد تعمّد، وذِكْر «متعمدًا» في بعض الروايات إنما هو توكيد كقولك: نظرت بعيني وسمعت بأذني، وفي القرآن {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] لم يذكر في شيء من ذلك التعمّد، كأنّ هذه الأشياء لا تكون إلا عن تعمّد، لأنه (2) لا يكون كاذبًا ولا يكون زانيًا ولا يكون سارقًا إلا بقصده إلى ذلك وتعمُّده». وقال أبو ريَّة ص 41: (حديث من كذب عليَّ ليس بمتواتر .. وقد قال الحافظ ابن حجر وهو سيد المحدّثين بالإجماع وأمير المؤمنين في الحديث ما يلي .. ) فذكر عن «فتح الباري» (1: 168) (3) اعتراض بعضهم على تواتره، وسكت، [ص 52] وفي «فتح الباري» بيان الجواب الواضح عن ذاك الاعتراض، فراجعه. وقال ص 42: (الكذب على النبي قبل وفاته). _________ (1) (1/ 369 ــ 370 ــ ط الرسالة). (2) في «المشكل»: «ولأنه». (3) (1/ 203 ــ ط السلفية).
(12/100)
أقول: سأنظر في هذا وما يليه إلى ص 53 بعد الكلام على عدالة الصحابة الذي ذكره ص 310، فانتظر.
(12/101)
الرواية بالمعنى قال أبو ريَّة ص 8: (ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي، ووجدوا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بالحديث عن أصل لفظه استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى). أقول: أنزل الله تبارك وتعالى هذه الشريعة في أمة أُمية، فاقتضت حكمتُه ورحمته أن يكلّفهم (1) الشريعة، ويُكلِّفهم حفظها وتبليغها في حدود ما يتيسّر لهم. وتكفَّل سبحانه أن يرعاها بقدرته ليتمّ ما أراده لها من الحفظ إلى قيام الساعة. وقد تقدم شيء من بيان التيسير (ص 20 و 21 و 22) (2). ومن تدبر الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف وما اتصل بذلك بانَ له أن الله تعالى أنزل القرآن على حرفٍ هو الأصل، ثم تكرّر تعليم جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - لتمام سبعة أحرف، وهذه الأحرف الستة الزائدة عبارة عن أنواعٍ من المخالفة في بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف في المعنى (3) فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقّن أصحابه فيكون بين ما يلقّنه ذا وما لقّنه ذاك شيء من ذاك الاختلاف في اللفظ، فحفظ أصحابه كلٌّ بما لُقِّن، وضبطوا ذلك في صدورهم ولقَّنوه الناس، ورُفِع الحرج مع ذلك عن المسلمين، _________ (1) (ط): «يكفّلهم» تحريف. (2) انظر (ص 41 ــ 45). (3) هنا تعليق يحتمل أن يكون للشيخ أو للناشر الأول، ونصه: «المراد بالاختلاف في المعنى هو الاختلاف المذكور في قول الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فأما أن يدلّ أحد الحرفين على معنى والآخر على معنى آخر وكلا المعنيين معًا حق، فليس باختلاف بهذا المعنى».
(12/102)
فكان بعضهم ربما تلتبس عليه كلمة مما يحفظه أو يشقّ عليه النطقُ بها فيكون له أن يقرأ بمرادفها. فمن ذلك ماكان يوافق حرفًا آخر ومنه ما لا يوافق، ولكنه لا يخرج عن ذاك القبيل. وفي «فتح الباري» (1): «ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعًا له». فهذا ضَرْبٌ محدود من القراءة بالمعنى رُخِّص فيه لأولئك. وكتب القرآن بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قطع من الجريد وغيره، تكون في القطعة الآية والآيتان وأكثر، وكان رسم الخط يومئذ يحتمل ــ والله أعلم ــ غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شَكْل ولا نَقْط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك كما تراه في رسم المصحف، وبذاك الرسم عينه نُقِل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال رسم المصاحف العثمانية. وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخَّص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم [ص 53] ولعله غالبها إن لم يكن جميعها، مع أنه وقع اختلاف يسير بين المصاحف العثمانية، وكأنه تبعًا للقِطَع التي كُتِب فيها القرآن بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كأن توجد الآية في قطعتين كُتِبت الكلمة في إحداهما بوجه وفي الأخرى بالآخر، فبقي هذا الاختلاف في القراءات الصحيحة. _________ (1) (9/ 27). والمثال الذي ذكره الحافظ هو قراءة ابن مسعود «عتى حين» وليست من المرادف بل لهجة في الكلمة.
(12/103)
ونخرج مما تقدم بنتيجتين: الأولى: أن حفظ الصدور لم يكن كما يصوِّره أبو ريَّة بل قد اعتمد عليه في القرآن، وبقي الاعتماد عليه وحده بعد حفظ الله عز وجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -[وأبي بكر] وعمر وسنين من عهد عثمان، لأن تلك القطع التي كُتِب فيها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت مفرَّقة عند بعض أصحابه لا يعرفها إلا من هي عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم. ثم لمّا جُمعت في عهد أبي بكر لم تُنشر هي ولا الصحف التي كُتبت عنها، بل بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين، حتى طلبها عثمان، ثم اعتمد عليه في عامة المواضع التي يحتمل فيها الرسم وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حين استقرَّ تدوينُ القراءات الصحيحة. النتيجة الثانية: أن حال الأميين قد اقتضت الترخيص لهم في الجملة في القراءة بالمعنى، وإذا كان ذلك في القرآن مع أن ألفاظه مقصودة لذاتها؛ لأنه كلام ربِّ العالمين بلفظه ومعناه، مُعْجِز بلفظه ومعناه، مُتعبَّد بتلاوته، فما بالك بالأحاديث التي مدار المقصود الديني فيها على معانيها فقط؟ وإذا علمنا ما تقدَّم أول هذا الفصل من التيسير مع ما تقدم (ص 20 , 21 و 32) (1) وعلمنا ما دلَّت عليه القواطع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيِّن لكتاب الله ودينه بقوله وفعله، وأن كلّ ما كان منه مما فيه بيان للدين فهو خالد بخلود الدين إلى يوم القيامة، وأن الصحابة مأمورون بتبليغ ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته (راجع ص 12 و 36 و 45 و 49) (2) وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم _________ (1) انظر (ص 41 ــ 43، 63). (2) انظر (ص 24، 70، 87، 94).
(12/104)
بكتابة الأحاديث، وأقرَّهم على عدم كتابتها، بل قيل إنه نهاهم عن كتابتها كما مرَّ بما فيه (1)، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لما علموه وفهموه، وعَلِمنا أنّ عادة الناس قاطبةً فيمن يُلْقى إليه كلام المقصود منه معناه، ويؤمر بتبليغه= أنه إذا لم يحفظ لفظَه على وجهه وقد ضبط معناه لزمه أن يبلِّغه بمعناه ولا يعدّ كاذبًا ولا شِبه كاذب، علمنا يقينًا أن الصحابة إنما أُمِرُوا بالتبليغ على ما جرت به العادة: مَنْ بقي منهم حافظًا لِلَّفظ على وجهه فليؤدِّه كذلك، ومن بقي ضابطًا للمعنى ولم يبق ضابطًا للفظ فليؤدِّه بالمعنى. هذا أمر يقينيّ لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته. فقول أبي ريَّة: (لما رأى بعض الصحابة .. استباحوا لأنفسهم) إن أراد أنهم لم يؤمروا بالتبليغ ولم يُبَحْ لهم أن يرووا بالمعنى إذا كانوا ضابطين له دون اللفظ، فهذا كذب عليهم وعلى الشرع [ص 54] والعقل كما يُعْلَم مما مر. وتشديده - صلى الله عليه وسلم - في الكذب عليه إنما المراد به الكذب في المعاني، فإن الناس يَبْعَثون رسلهم ونُوَّابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم، فإذا لم يشترط عليهم المحافظة على الألفاظ فبلَّغوا المعنى فقد صدقوا. ولو قلت لابنك: اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك. فذهب وقال له: والدي ــ أو الوالد ــ يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعًا صادقًا، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنَكْرَ العقلاء عليك ذلك. وقد قصَّ الله عز وجل في القرآن كثيرًا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم؛ لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحدَّ المعْجِز، ومنه ما يكون عن لسان _________ (1) انظر (ص 41 فما بعدها).
(12/105)
أعجمي، ومنه ما يأتي في موضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر. فبالنظر إلى أداء المعنى كرَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال: «نَضَّرَ الله امرءًا سمع مِنّا شيئًا فأدَّاه كما سمعه، فربّ مبلَّغٍ أوعى مِن سامع» (1)، جاء بهذا اللفظ أو معناه مطوّلًا ومختصرًا من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأنس، وجُبير بن مُطْعِم، وعائشة، وسعد، وابن عمر، وأبي هريرة، وعُمير بن قتادة، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وزيد بن خالد، وعُبادة بن الصامت، منها الصحيح وغيره. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرَّى معونتهم على الحفظ والفهم كما مرَّ (ص 43) (2). واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي كثيرة. ومنها ما أصله قوليّ، ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذِنَ في كذا .. وأشباه هذا. وهذا كثير أيضًا. وهذان الضربان ليسا محلّ نزاع، والكلام في ما يقول الصحابي فيه: _________ (1) هذا الحديث رُوي عن جماعة كثيرة من الصحابة نحو الثلاثين، من أقواها حديث زيد بن ثابت. أخرجه أحمد (21590)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230)، وابن حبان (67، 680) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان. وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد (4157)، والترمذي (2657)، وابن ماجه (232)، وابن حبان (66، 69). قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان. وانظر: «موافقة الخبر الخبر»: (1/ 363 ــ 393)، و «المعتبر» (ص 130 ــ 131). (2) (ص 83 ــ 84).
(12/106)
قال رسول الله كيت وكيت، أو نحو ذلك. ومَن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حَكَوا قولَه - صلى الله عليه وسلم - يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم مَن يحاول أن يؤدّيها، فيقع له تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك. ومع هذا فقد عُرِف جماعة من الصحابة كانوا يتحرّون ضبط الألفاظ، وتقدم (ص 42) (1) قول أبي رية: «إن الخلفاء الأربعة وكبار الصحابة وأهل الفتيا لم يكونوا ليرضوا أن يرووا بالمعنى». وكان ابن عمر ممن شدَّد في ذلك، وقد آتاهم الله مِنْ جودة الحفظ ما آتاهم. وقصة ابن عباس مع عمر بن أبي ربيعة مشهورة. ويأتي في ترجمة أبي هريرة ما ستراه. فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفُّظ فهو بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك، لأنهم كلهم كانوا يتحرّون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرُّف مَنْ بعدهم. _________ (1) (ص 84).
(12/107)
[ص 55] الحديث ورواته ونقد الأئمة للرواة قال أبو ريَّة: (ثم سار على سبيلهم كلُّ مَن جاء من الرواة بعدهم. فيتلقى المتأخر عن المتقدِّم ما يرويه عن الرسول بالمعنى، ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه منه). أقول: هذه حكاية من يأخذ الكلمات من هنا وهناك، ويقيس بذهنه بدون خبرة بالواقع. فإن كثيرًا من الأحاديث الصحيحة إن لم نقل غالبها يأتي الحديث منها عن صحابيين فأكثر، وكثيرًا ما يتعدد الرواة عن الصحابي، ثم عن التابعي، وهَلُمَّ جرًّا. فأما الصحابة فقد تقدم حالهم. وأما التابعون، فقد يتحفَّظون الحديث كما يتحفَّظون القرآن، كما جاء عن قتادة أنه «كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه» (1). هذا مع قوّة حفظه؛ ذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة ــ وكان أعمى ــ فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ حرفًا ثم قال: «لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة» (2). وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفَّظون ما كتبوه، ثم منهم من يُبقي كتبه ــ راجع (ص 28) (3) ــ ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظًا محا الكتاب. وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رُزِقُوا جَودة الحفظ _________ (1) أخرجه أبو نعيم في «الحلية»: (2/ 335)، والخطيب في «الجامع» (463). والعويل: رفع الصوت بالبكاء، والزويل: الحركة. (2) ذكره البخاري في «التاريخ الكبير»: (7/ 186)، وأخرجه أبو نعيم في «الحلية»: (2/ 334). (3) (ص 55 ــ 56).
(12/108)
وقوة الذاكرة، كالشعبي والزُّهري وقتادة. وقد عُرِف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه، كالقاسم بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حَيْوَة. أما أتباع التابعين فلم يكن فيهم راوٍ مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها ويتعاهدها ويتحفَّظ حديثَه منها. ثم منهم من لم يكن يحفظ، وإنما يحدِّث مِنْ كتابه. ومنهم من جرّب عليه الأئمةُ أنه يُحدِّث من حفظه فيخطئ، فاشترطوا لصحة روايته أن يكون السماع منه مِنْ كتابه. ومنهم مَن عَرَف الأئمةُ أنه حافظ، غير أنه قد يقدِّم كلمة أو يؤخِّرها، ونحو ذلك مما عرفوا أنه لا يغيِّر المعنى، فيُوثّقونه ويبيّنون أن السماع منه من كتابه أثبت. فأما مَنْ بعدهم، فكان المتثبِّتون لا يكادون يسمعون مِن الرجل إلا مِن أصل كتابه. كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظًا، ومع ذلك لم يسمع منه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين إلا مِن أصل كتابه. هذا، وكان الأئمة يعتبرون حديثَ كلِّ راو فينظرون كيف حدَّث به في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يحدِّث مرَّة كذا ومرَّة كذا بخلافٍ لا يُحْتَمل ضعَّفوه. وربما سمعوا الحديث مِن الرجل ثم يَدَعونه مدةً طويلة ثم يسألونه عنه. ثم [يعتبرون] (1) مرويّاته برواية مَن روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته ما يخالف رواية الثقات حكموا عليه بِحَسَبها. وليسوا يوثّقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل معظم اعتمادهم على حاله في حديثه كما مرّ، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطئ ويغلط، وباضطرابه في حديثه، [ص 56] وبمخالفته الثقات، وبتفرُّده، وهَلُمَّ جرًّا. _________ (1) (ط): «يعتبر حرف» ولا معنى لها، ولعلها محرفة عما أثبت.
(12/109)
ونظرهم عند تصحيح الحديث أدقّ مِن هذا. نعم، إن هناك مِن المحدِّثين من يسهِّل ويخفّف، لكن العارف لا يخفى عليه هؤلاء من هؤلاء. فإذا رأيت المحققين قد وثَّقوا رجلًا مطلقًا، فمعنى ذلك أنه يروي الحديث بلفظه الذي سمعه، أو على الأقل إذا روى بالمعنى لم يغيّر المعنى. وإذا رأيتهم قد صحَّحوا حديثًا، فمعنى ذلك أنه صحيح بلفظه أو على الأقل بنحو لفظه، مع تمام معناه. فإنْ بان لهم خلاف ذلك نبَّهوا عليه كما تقدم (ص 18) (1). وذكر أبو ريَّة ص 54 فما بعدها كلامًا طويلًا في هذه القضية. وذكر اعتقاد شيوخ الدين أن الأحاديث كآيات القرآن (من وجوب التسليم لها وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يأثم أو يرتدّ أو يفسق من خالفها ويستتاب من أنكرها أو شك فيها). أقول: أما ما لم يثبت منها ثبوتًا تقوم به الحجة فلا قائل بوجوب قبوله والعمل به. وأما الثابت فقد قامت الحُجَج القطعية على وجوب قبوله والعمل به، وأجمع علماء الأمة عليه كما تقدم مرارًا. فمُنْكِر وجوب العمل بالأحاديث مطلقًا تُقام عليه الحجة، فإن أصرَّ بانَ كفرُه. ومنكر وجوب العمل ببعض الأحاديث إن كان له عذر من الأعذار المعروفة بين أهل العلم وما في معناها فمعذور، وإلا فهو عاصٍ لله ورسوله، والعاصي آثم فاسق. وقد يتفق ما يجعله في معنى منكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقًا، وقد مرَّ. وذكر ص 55 فما بعدها الخلافَ في جواز الرواية بالمعنى. أقول: الذين قالوا: «لا تجوز» إنما غرضهم ما ينبغي أن يُعْمَل به في عهدهم وبعدهم، فأما ما قد مضى فلا كلام فيه، لا يطعن في متقدِّم بأنه كان _________ (1) (ص 36 - 37).
(12/110)
[يروي] [*] بالمعنى، ولا في روايته. لكنْ إن وقع تعارض بين مرويِّه ومرويِّ مَنْ كان يبالغ في تحرِّي الرواية باللفظ فذلك مما يرجّح الثاني. وهذا لا نزاع فيه. ومدار البحث هو أن الرواية بالمعنى قد تُوقِع في الخطأ، وهذا معقول، لكنْ لا وجه للتهويل، فقد ذكر أبو ريَّة ص 59: (قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة). وكان ابن سيرين مِن المتشدِّدين في أن لا يروي إلا باللفظ، ومع هذا شهد للذين سمع منهم أنهم مع كثرة اختلافهم في اللفظ لم يخطئ أحد منهم المعنى. ولهذا لما ذُكر له أن الحسن والشعبي والنَّخَعي يروون بالمعنى اقتصر على قوله: «إنهم لو حدَّثوا كما سَمِعُوا كان أفضل» انظر «الكفاية» للخطيب (ص 206). ومن تدبَّر ما تقدّم من حال الصحابة وأنهم كانوا كلهم يراعون الرواية باللفظ، ومنهم من كان يبالغ في تحرِّي [ص 57] ذلك. وكذا في التابعين وأتباعهم، وأنَّ الحديث الواحد قد يرويه صحابيان فأكثر، ويرويه عن الصحابي تابعيان فأكثر وهَلُمَّ جرًّا، وأن التابعين كتبوا، وأن أتباعهم كتبوا ودوَّنوا، وأن الأئمة اعتبروا حال كلِّ راوٍ في روايته لأحاديثه في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يروي الحديث مرَّة بما يحيل معناه في روايته له مرة أخرى جرحوه، ثم اعتبروا رواية كلِّ راوٍ برواية الثقات، فإذا وجدوه يخالفهم بما يحيل المعنى جرحوه، ثم بالغ محققوهم في العناية بالحديث عند التصحيح، فلا يصحِّحون ما عرفوا له علة. نعم قد يذكرون في المتابعات والشواهد ما وقعت فيه مخالفة ما وينبهون عليه. من تدبَّر هذا ولم يُعْمِه الهوى اطمأنّ قلبُه بوفاء الله تعالى بما تكفَّل به من حفظ دينه، وبتوفيقه علماء الأمة للقيام بذلك، ولله الحمد. ويؤكِّد ذلك أن أبا ريَّة حاول أن يقدِّم شواهد __________ [*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس بالمطبوع، وهو ثابت في الأصل الوارد من «عطاءات العلم» جزاهم الله خيرا.
(12/111)
على اختلاف ضارّ وقع بسبب الرواية، فكان أقصى جهده ما يأتي: قال ص 6: (صيغ التشهدات)، وذكر اختلافها. أقول: يتوهَّم أبو ريَّة ــ أو يوهم ــ أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنما علّمهم تشهّدًا واحدًا، ولكنهم أو بعضهم لم يحفظوه، فأتوا بألفاظ مِن عندهم مع نسبتها إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا باطل قطعًا؛ فإن التشهد يُكرَّر كلَّ يوم بضع عشرة مرّة على الأقل في الفريضة والنافلة، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُحفِّظ أحدهم حتى يحفظ. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقريء الرجلين السورة الواحدة هذا بحرف وهذا بآخر، فكذلك علّمهم مقدمة التشهُّد بألفاظ متعددة، هذا بلفظ وهذا بآخر. ولهذا أجمع أهل العلم على صحة التشهد بكلِّ ما صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما ذِكْر عمر التشهد على المنبر (1)، وسكوت الحاضرين، فإنما وجهه المعقول: تسليمهم أن التشهد الذي ذكره صحيح مجزئ. وقد كان عمر يقرأ في الصلاة وغيرها القرآن ولا يَردُّ عليه أحد، مع أن كثيرًا منهم تلقّوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرف غير الحرف الذي تلقّى به عمر، ومثل هذا كثير. ومن الجائز أن يكونوا ــ أو بعضهم ــ لم يعرفوا اللفظ الذي ذكره عمر، ولكنهم قد عرفوا أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - علَّم أصحابه بألفاظ مختلفة، وعمر عندهم ثقة. وأما قول بعضهم (2) بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: «السلام على النبي» بدل «السلام عليك أيها النبي» فقد يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خيَّره بين اللفظين، وقد يكون _________ (1) أخرجه مالك في «الموطأ» (240)، وابن أبي شيبة (3009)، والبيهقي: (2/ 144) وغيرهم. (2) هو ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه عنه أحمد (3935)، والبخاري (6265)، ومسلم (402) وغيرهم.
(12/112)
فَعَل ذلك باجتهاده خشية أن يتوهَّم جاهلٌ أنَّ الخطاب على حقيقته. أما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فالتحقيق أنها موجودة في التشهدات كلها بلفظ «ورحمة الله» والقائل بوجوبها عقب التشهد بلفظ الصلاة لم يجعلها من التشهد بل هي عنده أمر مستقل. والكلام في ذلك معروف، لا علاقة له بالرواية بالمعنى. [ص 58] قال أبو ريَّة ص 64: (وكلمة التوحيد)، وذَكَر ما لا علاقة له بالرواية بالمعنى. ثم قال ص 66: (حديث الإسلام والإيمان) فذكر عن «صحيح مسلم» (1) حديث طلحة: «جاء رجل من أهل نجد»، وحديث جبريل برواية أبي هريرة (2)، وحديث أبي أيوب: «جاء رجل إلى النبي فقال: دلَّني على عمل الخ» (3)، وحديث أبي هريرة: «أن أعرابيًّا جاء الخ» (4). ثم ذكر عن النووي: «اعلم أنه لم يأت في حديث طلحة ذكر الحج، ولاجاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غير [هذا من] هذه الأحاديث لم يُذكر في بعضها الصوم، ولم يُذكر في بعضها الزكاة، وذُكِر في بعضها صِلَة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس. ولم يقع في بعضها ذِكْر الإيمان ... وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخَّصه أبو عمرو ابن الصلاح وهذَّبه فقال: « ... هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصَّر _________ (1) رقم (11)، وهو في البخاري (46). (2) أخرجه مسلم (9، 10). (3) أخرجه مسلم (13). (4) أخرجه البخاري (1397)، ومسلم (14).
(12/113)
فاقتصر على ما حفظه ... » (1). أقول: أما هذه الأحاديث فلا يتعيَّن فيها ذاك الجواب بل لا يتَّجِه، فإن واقعة حديث جبريل لا علاقة لها ببقية الأحاديث، وذكر الإيمان فيه؛ لأن جبريل أراد بيان جمهرة الدين، وبقية الأحاديث ليس بواجب أن يُذْكَر فيها الإيمان اكتفاء بعلم السائل به، مع أن في (2) ما ذكر له ما يستلزمه. وحديث طلحة وحديث أبي هريرة في الأعرابي، يظهر أنها واقعة واحدة يحتمل أنها وقعت قبل أن ينزل فرض الحج، فلذلك لم يذكر، وحديث أبي أيوب يحتمل أن يكون واقعة أخرى وقعت قبل فرض الحج والصوم، فلذلك لم يُذكرا فيه. وأما صلة الرحم وأداء الخُمُس فليسا من الأركان العظمى فلا يجب ذكرهما في كلِّ حديث. هذا، وحديث جبريل قد ورد من رواية عمر بن الخطاب، وثبت في بعض طرقه ذكر الحج، وصحَّح ابنُ حَجَر ذلك في «الفتح» (3) بأنه قد جاء في رواية أنَّ الواقعة كانت في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعلى هذا فسقوطه في رواية أبي هريرة مِنْ عَمَل بعض الرواة، كأنه كان عنده أيضًا حديث أبي هريرة في الأعرابي وليس فيها ذكر الحج فحمل هذه عليها، والله أعلم. ومثل هذا ليس من الرواية بالمعنى، إنما هو من ترك الراوي لشيءٍ من الحديث نسيه أو شكَّ فيه، ولا يقتضي تركه إحالة لمعنى الحديث. وكثيرًا ما _________ (1) «شرح مسلم»: (1/ 167 ــ 168) وما بين المعكوفين منه. (2) كذا في (ط) والعبارة مستقيمة بدونها. (3) (1/ 119).
(12/114)
يقع في الكتاب والسنة ترك بيان بعض الأمور في موضع لائق به اعتمادًا على بيانه في موضع آخر، وليس هذا بأكثر من مجيء عموم أو إطلاق في القرآن، ومجيء تخصيصه أو تقييده في السنة. [ص 59] قال ص 68: (حديث زوجتكها بما معك) ذَكَر أنه رُوي على ثمانية أوجه: (1 - قد زوجتكها بما معك من القرآن، 2 - زوجتكها على ما معك الخ، 3 - أنكحتكها بما الخ، 4 - قد ملكتكها بما الخ، 5 - قد أملكتكها بما الخ، 6 - قد أمكناكها الخ، 7 - أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، 8 - خذها بما معك الخ). أقول: الثامنة لم تُذْكر في «فتح الباري»، والسابعة سندها واهٍ، والسادسة صوابها على ما استظهره في «الفتح» (1): أمْلَكْناكها، والست الأولى معناها واحد، وكذا حكمها عند جمهور أهل العلم. وقال قوم: لا يصح العقد إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح كما في الثلاث الأولى، فأما الثلاث التي تليها فلا يصح التزويج بها. وأجابوا عن هذه الروايات بأن أرجحها وأثبتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي بلفظ التزويج. فتحصَّل من هذا أن الرواية بالمعنى وقعت، ولكن لم يترتب عليها مفسدة، ولله الحمد. على أن المعنى الأهم في الحديث وهو التزويج بتعليم القرآن لم تختلف فيه الروايات. قال ص 68: (حديث الصلاة في بني قريظة) ذكر أنه وقع عند البخاري: «لا يصلينّ أحدُكم العصرَ إلا ... » (2) وعند غيره: «لا يصلينّ أحدُكم الظهرَ إلا ... » (3) مع اتحاد المخرج. _________ (1) (9/ 214). (2) البخاري (946، 4119). (3) أخرجه مسلم (1770)، وابن حبان (1462)، والبيهقي: (10/ 119).
(12/115)
أقول: في «الفتح» (1): إن الذي عند أهل المغازي «العصر» وكذلك جاء من حديث عائشة ومن حديث كعب بن مالك. ورواه جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر، فقال أبو حفص السلمي عن جويرية: «العصر»، وقال أبو غسان عن جويرية: «الظهر». ورواه عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية، فقال البخاري عنه: «العصر»، وقال مسلم وغيره عنه: «الظهر» فذكر ابن حجر احتمالين: حاصل الأول: بزيادة أن جويرية قال مرَّةً «العصر» كما رواه عنه أبو حفص السلمي، ومرَّةً «الظهر» كما رواه عنه أبو غسان، وكتبه عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية على الوجهين، فسمعه البخاريُّ مِن عبد الله على أحدهما، ومسلم وغيره على الآخر. وكأنَّ البخاريّ راجع عبدَ الله في ذلك ففتَّش عبدُ الله أصولَه فوجد الوجه الذي فيه «العصر» فأخذ به البخاري لعلمه أنه الصواب. الاحتمال الثاني: أن يكون البخاري إنما سمعه من عبد الله بلفظ «الظهر» ولم يكتبه البخاري إلا بعد مدَّة من حفظه فقال: «العصر» أخطأ لفظ شيخه وأصاب الواقع. أما ما ذكر أنّ البخاريّ كان يحفظ ثم يكتب مِن حفظه، فإن صحَّ ذلك فهذا صحيحه فيه آلاف الأحاديث، وقلَّ حديثٌ منها إلا وقد رواه جماعة غيره عن شيخه وعن شيخ شيخه، وقد تتبَّع ذلك المستخرجون عليه وشُرَّاحه، فإذا لم يقع له خطأ إلا هذا الموضع ــ على فَرْض أنه أخطأ ــ كان هذا من أدفع الحجج لتشكيك أبي ريَّة. _________ (1) (7/ 408 ــ 409).
(12/116)
قال أبو ريَّة ص 69: (وبلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم، ثم يعزونه إلى كتب السنة ... ). أقول: حاصله أن البيهقي يروي عن كتبه الأحاديث بأسانيده إلى شيخ البخاري أو شيخ شيخه ومَنْ فوقه، ويقع [ص 60] في لفظه مخالفة للفظ البخاري مع اتفاق المعنى، ومع ذلك يقول: «أخرجه البخاري عن فلان» ولا يبين اختلاف اللفظ، وكذا يصنع البغوي. وأقول: العذر في هذا واضح، وهو اتفاق المعنى مع جَرَيان العادة بوقوع الاختلاف في بعض الألفاظ، وكتاب البخاري متواتر فأقلّ طالب حديث يشعر بالمقصود. وذكر قول النووي (1) في حديث: «الأئمة من قريش»: «أخرجه الشيخان» مع أن لفظهما: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» (2). أقول: المعنى قريب، وقد يكون النووي رحمه الله وهِم، ومثل هذا لا يقدِّم ولا يؤخِّر، لأن «الصحيحين» متواتران. قال أبو ريَّة ص 70: (ضرر رواية الحديث بالمعنى) وساق عبارة طويلة لابن السِّيْد البَطَلْيَوْسِيّ في «أسباب الاختلاف». وفيها (ص 72 - 73) ما يخشى منها، وقد قدمنا (ص 21 - 22 - و 55) (3) ما فيه الكفاية. وذكر ص 74 حديث: «إن يكن الشؤم ففي ثلاث». وسيأتي النظر فيه بعد النظر _________ (1) في «المجموع شرح المهذّب»: (1/ 7). (2) البخاري (3501)، ومسلم (1820) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (3) (ص 42 ــ 44، 108).
(12/117)
في عدالة الصحابة الذي ذكره أبو ريَّة في كتابه ص 310 - 327. وقال ص 75: (ضرر الرواية بالمعنى من الناحية اللغوية والبلاغية ... ). أقول: قد قدمتُ ما يعلم منه أنّ مِن الأحاديث ما يمكن أن يَحْكم العارف بأنه بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه بلفظ الصحابي، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه على لفظ التابعي. فهذه يمكن الاستفادة منها في العربية، وما عدا ذلك ففي القرآن وغيره ما يكفي. وذكر ص 71 - 78 فصولًا مِن فروع الرواية بالمعنى يُعلم جوابها مما تقدّم. وقال ص 78: (تساهلهم فيما يُروى في الفضائل، وضرر ذلك). أقول: معنى التساهل في عبارات الأئمة هو التساهل بالرواية، كان مِنَ الأئمة مَنْ إذا سمع الحديث لم يروه حتى يتبين له أنه صحيح أو قريب من الصحيح أو يوشك أن يصح إذا وجد ما يعضده، فإذا كان دون ذلك لم يروه البتة. ومنهم مَن إذا وجد الحديث غير شديد الضعف وليس فيه حكم ولا سنَّة، إنما هو في فضيلةِ عَمَلٍ متفق عليه، كالمحافظة على الصلوات في جماعة ونحو ذلك، لم يمتنع من روايته. فهذا هوالمراد بالتساهل في عباراتهم. غير أنَّ بعضَ مَن جاء بعدهم فهِم منها التساهل فيما يرد في فضيلةٍ لأمر خاصّ قد ثبت شرعه في الجملة، كقيام ليلة معينة، فإنها داخلة في جملة ما ثبت مِنْ شَرْع قيام الليل. فبنى على هذا جواز أو استحباب العمل بالضعيف، وقد بَيَّن الشاطبيّ في «الاعتصام» (1) خطأ هذا الفهم. ولي في _________ (1) (2/ 17 - 22 ــ ط مشهور).
(12/118)
ذلك رسالة لا تزال مسوَّدة (1). [ص 61] على أنَّ جماعة من المحدّثين جاوزوا في مجاميعهم ذاك الحدّ، فأثبتوا فيها كلَّ حديث سمعوه ولم يتبين لهم عند كتابته أنه باطل. وأفرط آخرون فجمعوا كلَّ ما سمعوا، معتذرين بأنهم لم يلتزموا إلا أن يكتبوا ما سمعوه ويذكروا سنده، وعلى الناس أن لا يثقوا بشيء من ذلك حتى يعرضوه على أهل المعرفة بالحديث ورجاله. ثم جاء المتأخرون فزادوا الطين بلَّة بحذف الأسانيد. والخلاصُ مِن هذا أسهل، وهو أن تُبيَّن للناس الحقيقة، ويُرجَع إلى أهل العلم والتقوى والمعرفة. لكن المصيبة حقّ المصيبة إعراض الناس عن هذا العلم العظيم، ولم يبق إلا أفراد يُلمُّون بشيء من ظواهره، ومع ذلك فالناس لا يرجعون إليهم، بل في الناس مَنْ يمقتهم ويبغضهم ويعاديهم ويتفنَّن في سبّهم عند كلِّ مناسبة ويدَّعي لنفسه ما يدَّعي، ولا ميزان عنده إلا هواه لا غير، وما يخالف هواه لا يبالي به ولو كان في «الصحيحين» عن جماعة من الصحابة، ويحتج بما يحلو له من الروايات في أيِّ كتاب وُجد، وفيما يحتج به الواهي والساقط والموضوع، كما ترى التنبيه عليه في مواضع من كتابي هذا، والله المستعان. * * * * _________ (1) يعني رسالة حكم العمل بالحديث الضعيف، وهي منشورة ضمن هذا المشروع المبارك إن شاء الله.
(12/119)
الوضع وقال أبو ريَّة ص 80 ــ 89: (الوضع في الحديث وأسبابه ... ). أقول: نقل عبارات في هذا المعنى، وهو واقع في الجملة، ولكن المستشرقين والمنحرفين عن السنَّة يطوِّلون في هذا ويهوِّلون ويهملون ما يقابله. ومَثَلُهم مَثَلُ من يحاول مَنْع الناس من طلب الحقيقي الخالص من الأقوات والسمن والعسل والعقاقير، والحرير والصوف، والذهب والفضة، واللؤلؤ والياقوت، والمسك والعنبر، وغير ذلك= بذكر ما وقع من التزوير والتلبيس، والتدليس والغشّ في هذه الأشياء، ويُطيل في ذلك. والعاقل يعلم أنّ الحقيقي الخالص من هذه الأشياء لم يُرْفَع من الأرض، وأنّ في أصحابها وتجّارها أهل صِدْق وأمانة، وأنّ في الناس أهل خبرة ومهارة يميزون الحقيقيّ الخالص من غيره، فلا يكاد يدخل الضرر إلا على مَنْ لا يرجع إلى أهل الخبرة من جاهل ومقصّر، ومن لا يُبالي ما أخذ. والمؤمن يعلم أن هذه ثمرة عناية الله عز وجل بعباده في دنياهم، فما الظن بعنايته بدينهم؟ لابدّ أن تكون أتمَّ وأبلغ. ومن تتبَّع الواقع وتدبَّره وأنعم النظر تبين له ذلك غاية البيان. أما الصحابة، فقد زكَّاهم الله في كتابه وعلى لسان رسوله، والأحاديث إنما ثبتت مِن رواية مَنْ زكَّاه الله ورسوله عينًا، أو لا ريب في دخوله فيمن زكَّاه الله ورسوله جملة. نعم جاءت أحاديث قليلة عن بعض من قد يمكن الشكّ فيه، لكن أركان الدين من سلف هذه الأمة تدبَّروا أحاديث هذا الضرب واعتبروها، فوجدوها قد ثبتت هي أو معناها برواية غيرهم، وبعد طول البحث والتحقيق تبيَّن لأئمة السنَّة [ص 62] أن الصحابةَ كلَّهم عدول في
(12/120)
الرواية. وسيأتي مزيد لهذا في فصل «عدالة الصحابة» (1). وأما التابعون، فعامة من وثَّقه الأئمة منهم ممَن كثرت أحاديثه هم ممن زكَّاه الصحابة، ثم زكَّاه أقرانه من خيار التابعين، ثم اعتبر الأئمة أحاديثه وكيف حدَّث بها في الأوقات المتفاوتة، واعتبروا أحاديثه بأحاديث غيره من الثقات، فاتضح لهم بذلك كلِّه صدقه وأمانته وضبطه. وهكذا مَنْ بعدهم. وكان أهل العلم يشدّدون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم ــ أظنه الحسن بن صالح بن حَيّ ــ أنه قال: كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث مِن رجل سألنا عن حاله حتى يقال: أتريدون أن تزوِّجوه؟ (2). وجاء جماعة إلى شيخ ليسمعوا منه، فرأوه خارجًا وقد انفلتت بَغْلَتُه وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أنّ المخلاة فارغة، فرجعوا ولم يسمعوا منه. قالوا: هذا يكذب على البغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث. وذكروا أن شعبة كان يتمنّى لقاء رجل مشهور (3) ليسمع منه. فلما جاءه وجده يشتري شيئًا ويسترجح في الميزان، فامتنع شعبة من السماع منه. وتجد عدة نظائر لهذا ونحوه في «كفاية الخطيب» (ص 110 - 114). وكان عامة علماء القرون الأولى ــ وهي قرون الحديث ــ مقاطعين للخلفاء والأمراء، حتى كان أكثرهم لا يقبل عطاء الخلفاء والأمراء، ولا يرضى بتولِّي القضاء، ومنهم مَنْ كان الخلفاء يطلبونهم ليكونوا بحضرتهم _________ (1) (ص 365). (2) أخرجه الخطيب في «الكفاية» (ص 93) عن الحسن بن صالح كما ظنّه المؤلف. (3) هو أبو الزبير المكي.
(12/121)
ينشرون العلم، فلا يستجيبون، بل يفرُّون ويستترون. وكان أئمة النقد لا يكادون يوثِّقون محدِّثًا يداخل الأمراء أو يتولَّى لهم شيئًا. وقد جرحوا بذلك كثيرًا من الرواة، ولم يوثِّقوا ممن دَاخَلَ الأمراءَ إلا أفرادًا عَلِم الأئمةُ علمًا يقينًا سلامةَ دينهم وأنه لا مَغْمَز فيهم البتة. وكان محمد بن بشر الزَّنْبري محدِّثًا يسمع منه الناس، فاتفق أن خرج أمير البلد لسفر فخرج الزَّنْبري يُشيّعه، فنقم أهل الحديث عليه ذلك وأهانوه ومزَّقوا ما كانوا كتبوا عنه (1). وكثيرًا ما كانوا يُكذِّبون الرجل ويتركون حديثه لخبر واحد يتَّهمونه فيه. وتجد مِنْ هذا كثيرًا في «ميزان الذهبي» وغيره. وكذلك إذا سمعوه حدّث بحديث ثم حدّث به بعد مدة على وجه ينافي الوجه الأول. وفي «الكفاية» (ص 113) عن شعبة قال: «سمعت من طلحة بن مصرِّف حديثًا واحدًا وكنت كلما مررت به سألته عنه ... أردت أن أنظر إلى حفظه، فإنْ غيَّر فيه شيئًا تركته». وكان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البلدان يتتبع رواية حديث واحد، كما وقع لشعبة في حديث عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر (2)، وكما وقع لغيره في الحديث الطويل في فضائل السور (3). ومن تَتبَّع كتب التراجم [ص 63] وكتب العلل بَانَ له مِن جِدِّهم واجتهادهم ما يحيِّر العقول. _________ (1) انظر «لسان الميزان»: (7/ 13 ــ 14) لابن حجر. (2) ذكر القصة ابنُ حبان في «المجروحين»: (1/ 28). (3) ذكر القصة الخطيبُ في «الكفاية» (ص 401). والحديث أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (471).
(12/122)
وكان كثير من الناس يُحضِرون أولادَهم مجالسَ السماع في صغرهم ليتعوَّدوا ذلك, ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده، ثم يسافر إلى الأقطار ويتحمَّل السفر الطويل والمشاقَّ الشديدة، وقد لايكون معه إلا جراب من خبز يابس يحمله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلّها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع. ولهم في هذا قصص كثيرة، فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنُّه الثلاثين أو نحوها، فتكون أُمنيته من الحياة أن يقبله علماءُ الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عَرَف أنهم إن اتهموه في حديث واحد أسقطوا حديثَه وضاع مجهوده طول عمره، وربح سوء السمعة واحتقار الناس. وتجد جماعةً من ذرية أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة، وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسيين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئًا، مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث. ومن تتبع أخبارَهم وأحوالَهم لم يعجب مِنْ غَلَبة الصدق على الرواة في تلك القرون، بل يعجب من وجود كذَّابين منهم. ومن تتبَّع تشدُّد الأئمة في النقد لم يعجبْ مِن كثرة من جرَّحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدُّد. وبالجملة، فهذا الباب يحتمل كتابًا مستقلًّا. وأرجو أن يكون فيما ذكرتُه ما يدفع ما يرمي إليه المستشرقون وأتباعُهم ــ بإفاضتهم في ذكر الوضع ــ من تشكيك المسلمين في دينهم وإيهامهم أنّ الله تعالى أخلَّ بما تكفَّل به مِنْ حفظ دينه، وأنَّ سلف الأمة لم يقوموا بما عليهم أو عَجَزوا عنه فاختلط الحقُّ بالباطل، ولم يبق سبيل إلى تمييزه. كلَّا بل حجة الله تعالى لم تزل ولن
(12/123)
تزال قائمة، وسبيل الحق مفتوحًا لمن يريد أن يسلكه ولله الحمد. وفي «تهذيب التهذيب» (1: 152): «قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيدُ زنديقًا فأراد قتله، فقال: أينَ أنتَ مِن ألفِ حديثٍ وضعتُها؟ فقال له: أين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفَزَاري وابن المبارك ينخلانها حرفًا حرفًا» (1). وفي «فتح المغيث» (ص 109) (2): «قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]». وذكر ص 91 أحاديث قال: إنها موضوعة، ولم يذكر مَنْ حَكَمَ بوضعها من أهل العلم بالحديث. وذكر فيها حديث: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على [سائر] الطعام» وقد افترى مَنْ زَعَم هذا موضوعًا، بل هو في غاية الصحة، أخرجه الشيخان في «الصحيحين» من حديث أبي موسى الأشعري (3)، ومن حديث أنس (4) رضي الله عنهما. _________ (1) والخبر في «تاريخ دمشق»: (2/ 257) لابن عساكر. (2) (1/ 303 ــ الجامعة السلفية)، والخبر في «تقدمة الجرح والتعديل» (ص 3) بسندٍ صحيح. (3) البخاري (3411)، ومسلم (2431). (4) البخاري (3770)، ومسلم (2446).
(12/124)
[ص 64] معاوية والشام وقال ص 91: (معاوية والشام ... ). ذكر عن أئمة السنَّة: إسحاق بن راهوية وأحمد بن حنبل والبخاري والنسائي، ثم ابن حجر، ما حاصله: أنه لم يصح في فضل معاوية حديث. أقول: هذا لا ينفي الأحاديث الصحيحة التي تشمله وغيره، ولا يقتضي أن يكون كلّ ما رُوي في فضله خاصّة مجزومًا بوضعه. وبعد، ففي القضية برهانٌ دامغ لما يفتريه أعداء السنَّة على الصحابة وعلى معاوية وعلى الرواة الذين وثَّقهم أئمة الحديث، وعلى أئمة الحديث، وعلى قواعدهم في النقد. أما الصحابة رضي الله عنهم، ففي هذه القضية برهان على أنه لا مجال لاتهام أحد منهم بالكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنّ معاوية كان عشرين سنة أميرًا على الشام، وعشرين سنة خليفة، وكان في حزبه وفيمن يحتاج إليه جمعٌ كثير من الصحابة، منهم كثير ممن أسلم يوم فتح مكة أو بعده، وفيهم جماعةٌ من الأعراب، وكانت الدواعي إلى التعصّب له والتزلّف إليه متوفِّرة، فلو كان ثَمَّ مَساغ لأنْ يكذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ لقيه وسمع منه مسلمًا لأقدَمَ بعضُهم على الكذب في فضل معاوية، وجَهَر بذلك أمام أعيان التابعين، فينقل ذلك جماعةٌ ممن يوثّقهم أئمة السنَّة فيصحّ عندهم ضرورة. فإذا لم يصح خبر واحد= ثبتَ صحةُ القول بأن الصحابة كلّهم عدولٌ في الرواية، وأنه لم يكن منهم أحد مهما خَفَّت منزلته وقويَ الباعثُ له محتملًا منه أن يكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما معاوية فكذلك، فعلى فرض أنه كان يسمح بأن يقع كذب على
(12/125)
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما دام في فضيلة له، وأنه لم يطمع في أن يقع ذلك من أحد غيره ممن له صحبة، أو طمع ولكن لم يُجْدِهِ ترغيبٌ ولا ترهيبٌ في حَمْل أحد منهم على ذلك، فقد كان في وُسْعه أن يحدِّث هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد حدَّث عدد كثير من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضائل لأنفسهم وقَبِلَها منهم الناس ورووها وصحَّحها أئمة السنة. ففي تلك القضية برهان على أن معاوية كان من الدين والأمانة بدرجة تمنعه من أن يفكِّر في أن يكذب أو يحمل غيره على الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - مهما اشتدّت حاجتُه إلى ذلك. ومن تدبَّر هذا علم أن عدم صحة حديث عند أهل الحديث في فضل معاوية أدلّ على فضله من أن تصح عندهم عدة أحاديث. وأما الرواة الذين وثقهم أئمة الحديث، فقد كان من حزب معاوية والموالين له عدد منهم، كان في وُسْعهم أن يكذبوا على بعض الصحابة الذين لقوهم ورووا عنهم، فيرووا عنه حديثًا أو أكثر في فضل معاوية [ص 65] وينشروا ذلك فيمن يليهم من الثقات فيصححه أهل الحديث. فعدم وقوع شيء مِن ذلك يدلّ على أنّ الرواة الذين يوثّقهم أئمة الحديث ثقات في نفس الأمر. وأما أئمة الحديث، فهم معروفون بحُسْن القول في الصحابة عامة وخصومهم ينقمون عليهم ذلك، كما تراه في فصل عدالة الصحابة من كتاب أبي رية (1)، ويرمونهم بالنَّصْب ومحبة أعداء أهل البيت والتعصب لهم. وتلك القضية براءة لهم؛ فلو كانوا من أهل الهوى المُتَّبع لأمكنهم أن _________ (1) (ص 310 ــ ط الأولى، 312 ــ ط السادسة). وانظر (ص 365) من كتابنا هذا.
(12/126)
يصحِّحوا عدةَ أحاديث في فضل معاوية، أو يسكتوا على الأقل عن التصريح بأن كلّ ما روي في ذلك غير صحيح. وأما قواعدهم في النقد، فلا ريب أن نجاحها في هذا الأمر ــ وهو مِن أشدّ معتركات الأهواء ــ مِن أقوى الأدلة على وفائها بما وُضِعَت له. وأما الشام، فلا ريب أن الموضوعات في فضلها كثيرة، ولكن ليس من الحق في شيء أن تُعد دلالة الخبر على فضلها دليلًا على وضعه، فإن فضلها ثابت بالقرآن، وكذلك الحال في بيت المقدس قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. وأخبر الله عز وجل عن الشام بقوله: {الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 71] اقرأ (7: 136) و (21: 71 و 81) وبقوله: {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ: 18]. وكذلك من الباطل أن تُعدّ دلالة الخَبَر على أمر بأنه سيقع دليلًا على وضعه ما دمنا نؤمن بأن محمدًا رسول الله يُطْلِعه الله مِن غَيبه على ما يشاء. فأما أن يكون مثل هذا مما يسترعي النظر ليبحث عن الخبر من جهة إسناده وما يتصل به ليحكم عليه بحسب ذلك فلا بأس. وحديث: «الخلافة بالمدينة والملك بالشام» رواه هُشَيم (وهو ثقة يدلس) عن العوَّام بن حوشب (وهو ثقة) عن سليمان بن أبي سليمان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3: 72) وقال: «صحيح على شرط مسلم» تعقبه الذهبي فقال: «سليمان وأبوه مجهولان» وهو في «تاريخ البخاري» (2/ 2/17) ذكر الجملة الأولى
(12/127)
فقط (1). وقال ص 94: (أصل فِرْية الأبدال ... ). أقول: سترى الكلام على تلك الأخبار في «موضوعات الشوكاني» (2) وتعليقي عليه إن شاء الله. قال: (روى الواقدي: أن معاوية لما عاد من الشام ... ). [ص 66] أقول: كرهتُ إثبات الخبر لفَرْطِ سماجته، وأبو ريَّة يتظاهر بالشكوى من الموضوعات ثم يحتجّ بهذا الموضوع الذي إن لم يكن كذبًا فليس في الدنيا كذب. أما سنده فعزاه أبو ريَّة إلى «شرح النهج» (3) لابن أبي الحديد، وابنُ أبي الحديد حاله معروفة، ولا ندري ما سنده إلى الواقدي، بل أكاد أقطع أنّ الواقديّ لم يقل هذا ولا رواه، على أنَّ الواقديّ نفسه متروك ولا يُدْرَى ــ على فَرْض أنه رواه ــ ما سنده. وأما الخبر نفسُه فكذبٌ مكشوف لا يخفى على من يعرف معاويةَ، وعقلَ معاوية، ودهاءَ معاوية، وتحفّظَ معاوية ولو معرفة بسيطة، وقد تقدَّم ما علمتَ. وقال ص 101: (كيف استجازوا وضع الأحاديث ... ). ثم قال: (أخرج الطحاوي في «المشكل» عن أبي هريرة ... ). _________ (1) وأخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (248)، والبيهقي في «الدلائل»: (6/ 447)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية»: (1277) وقال: «وهذا لا يصح». (2) انظر «الفوائد المجموعة» للشوكاني (ص 245 ــ 247) بتعليق المؤلف رحمه الله تعالى. (3) (4/ 72).
(12/128)
أقول: لم أظفر به في «مشكل الآثار» للطحاوي المطبوع (1)، وإنما عُزِي في «كنز العمال» (5: 323) إلى الحكيم الترمذي، وقد ذكر أبو ريَّة هذا الخبر من مصدر آخر ص 164 كما ذكر الخبرين اللَّذَيْنِ عقبه، وسأنظر في ذلك هناك إن شاء الله تعالى (2)، ويتبيَّن براءة أبي هريرة منها كلها. وقال ص 102: (الوُضّاع الصالحون ... وقالوا: نحن نكذب له لا عليه. وإنما الكذب على من تعمَّدَه). أقول: قوله: (وإنما الكذب على من تعمّده). ليست من قولهم ولا تتعلق بهم. وقال ص 104: (الوضع بالإدراج ... ) إلى أن قال: ( ... في حديث الكسوف وهو في الصحيح: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة .. » قال العراقي (3): هذه الزيادة لم يصح نقلها فوجب تكذيب قائلها). أقول: تحصَّل من كلامه أن «فإذا رأيتم الخ» طَعَنَ فيها العراقي وقال ما قال. وهذا من تخليط أبي ريَّة، إنما الكلام في زيادة أخرى وقعت عند ابن ماجه لَفْظُها (4): «فإن الله إذا تجلَّى لشيء خشع له» والطاعن فيها هو الغزالي _________ (1) هو في الطبعة الجديدة رقم (6068)، وأعله البخاري في «تاريخه»: (3/ 434)، وأبو حاتم، قال في «العلل» (2445): «هذا حديث منكر، الثقات لا يرفعونه». أي: لا يذكرون فيه «أبو هريرة». وانظر التعليق على «العلل». (2) انظر (ص 217 ــ 218). (3) أصلحها أبو رية في الطبعات اللاحقة إلى «الغزالي». (4) رقم (1262). وأخرجه أحمد (18351)، والنسائي (1485)، وابن خزيمة (1403) وغيرهم.
(12/129)
لا العراقي. راجع «توجيه النظر» (ص 172) (1) و «فتح الباري» (2: 445) (2). وبهذا وغيره يتبين أن أبا ريَّة غير موثوق بنقله. ولم أتمكن من مراجعة جميع مصادره، مع أنه كثيرًا ما يهمل ذكر المصدر. وإنما ذكرت هذا لئلا يُغترّ بسكوتي عن بعض ما ينقله. ثم قال: (هل يمكن معرفة الموضوع؟ ذكر المحققون أمورًا كلية ... ). [ص 67] أقول: كان عليه أن ينصّ على مَن ذكر هذه الأمور ويبيّن مصدرها. ومن الأمور التي ذكرها ما يحتاج إلى بيان وإيضاح، ومخالفة ظاهر القرآن قد تقدّم ما يتعلق بها (ص 14) (3). والاشتمال على تواريخ الأيام المستقبلة علامة إجمالية تدعو إلى التثبّت لكثرة ما وُضِع في هذا الباب. وإلا فقد أَطْلَعَ اللهُ تعالى رسولَه على كثير من الغيب وأخبره به. وتجارب العلم الثابتة، إنما يعتدّ بها إذا كانت قطعية وناقضت الخبر مناقضةً محقَّقة، ولعله يأتي ما يتعلق بها. وقال ص 105: (وأخرج البيهقي بسنده ... ). أقول: لم يبيِّنْ أبو ريَّة من أيِّ كتاب أخذ هذا الأمر، وأحسب البيهقي نفسه قد بيَّن سقوطه من جهة السَّنَد (4)، أما المتن فسقوطه واضح، راجع _________ (1) الطبعة الأولى. (2) (2/ 537 ــ السلفية). (3) (ص 28 ــ 29). (4) هذا الأثر نقله أبو رية من كتاب السيوطي «مفتاح الجنة» (ص 26) وهو ينقل عن البيهقي، ونقول السيوطي في هذا الكتاب غالبها من «المدخل إلى السنن» وهذا النص ليس في المطبوع منه. فلم نعرف هل تكلم البيهقيُّ على سنده أم لا. والأثر أخرجه عبد الرزاق في «الأمالي» (193)، والهروي في «ذم الكلام» (245) من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس. وأخرجه من طريق الأرقم بن شرحبيل ابنُ أبي عمر ــ كما في «المطالب العالية» (3073) ــ وقال البوصيري في «إتحاف الخيرة» (333): «هذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن أبا إسحاق ــ واسمه عمرو بن عبد الله ــ لم يذكر سماعًا من أرقم بن شرحبيل» اهـ.
(12/130)
(ص 14) (1). وذكر ص 105: (هل يمكن معرفة الموضوع بضابط)، ثم ذكر ص 106: (للقلب السليم إشراف الخ). أقول: ينبغي مراجعة الأصول التي نَقَلَ عنها (2). * * * * _________ (1) (ص 28 ــ 29). (2) نقل أبو رية كلامَ ابن عروة الحنبلي «للقلب السليم ... » من كتاب «قواعد التحديث» (ص 165 ــ 172) للقاسمي مع تصرف واختصار يناسب غرضه!
(12/131)
الإسرائيليات ذكرها أبو ريَّة ص 108 وذكر فيها كعب الأحبار ووهب بن منّبه، وسيأتي ما يتعلق بهما (1). ثم ذكر ص 110 عن أحمد أمين: (اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبّه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام، واتصل التابعون بابن جريج، وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل الخ). ثم قال أبو ريَّة: ( .. أخذ أولئك الأحبار يبثّون في الدين الإسلامي أكاذيب وترّهات يزعمون مرَّة أنها في كتابهم ومن مكنون علمهم، ويدَّعون أخرى أنها مما سمعوه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهي في الحقيقة من مفترياتهم). أقول: أما عبد الله بن سلام فصحابيّ جليل أسلم مَقْدَمَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وشهد له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كما ثبت في «الصحيحين» (2) وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقّاص وغيره، وحدَّث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قليلًا جدًّا، وقلّما ذَكَر عن كتب أهل الكتاب، وما ثبت عنه من ذلك فهو مُصدَّق به حتمًا وإن لم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن، إذ قد ثبت أن كثيرًا مِن كتبهم انقرض. ولا يسيء الظنَّ بعبد الله بن سلام إلا جاهل أو مكذِّب لله ورسوله. وأما وهب بن مُنبِّه فولد في الإسلام سنة 34 هـ وأدرك بعض الصحابة، ولم يُعْرَفْ أن أحدًا منهم سمع منه أو حكى عنه وإنما يحكي عنه مَنْ بعدهم. وسيأتي بيان حاله (3). [ص 68] وأما كعب فأسلم في عهد عمر، وسمع منه ومن غيره من _________ (1) (ص 135 وما بعدها، 138 وما بعدها). (2) البخاري (3812)، ومسلم (2483). (3) (ص 138 وما بعدها).
(12/132)
الصحابة وحكى عنه بعضهم وبعض التابعين، ويأتي بيان حاله (1). وأما ابن جُريج فيأتي ص 148 أنه «الذي مات سنة 150» وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، وإنما هو من أتباع التابعين ولا شأن له بالإسرائيليات، وكأنَّ الدكتور (2) اغتر باسم «جريج» فحشره في زمرة هؤلاء، فجاء حاطب الليل فقال ص 148: (وممن كان يبثّ في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه ابن جريج الرومي الذي مات سنة 150 وكان البخاري لا يوثّقه، وهو على حقّ في ذلك). وهذا مخالف للواقع فلم يُعرف ابن جريج بالإسرائيليات إلا أن يروي شيئًا عمن تقدَّمه وهو إمام جليل يوثّقه ويحتجّ به البخاري وغيره. ولم يجد أبو ريَّة ما يحكيه عنه مما زعمه. ومن العجائب قوله في حاشية ص 216: (ابن جريج كان من النصارى) (3) هكذا يكون العلم! ثم قال ص 110: ( ... وتلقَّى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص معتبرين أنه صحيح لا ريب فيه). أقول: وهذا مخالف للواقع، فقد علم الصحابة وغيرهم من كتاب الله عز وجل أن أهل الكتاب قد حرَّفوا كتبهم وبدَّلوا. ورووا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قوله: «لا _________ (1) (ص 135 وما بعدها). (2) يعني أحمد أمين. فقد نقل عنه أبو ريَّة ولقّبه بذلك، وليس هو في حقيقة الحال من الحاصلين عليها! و «حاطب الليل» هو أبو ريَّة. (3) غيَّر أبو ريَّة هذا التعليق في الطبعات اللاحقة (ص 238 ــ ط 6) إلى: «هو عبد الملك ... بن جريج الرومي» وهذا التغيير له ما وراءه، فقد ذكر (ص 162 ــ ط 6) «أن أصل ابن جريج رومي فهو نصراني الأصل»! فانظر واعجب!
(12/133)
تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» كما في «صحيح البخاري» (1) عن أبي هريرة. وفيه (2) عن ابن عباس أنه قال: «كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحْدَث، تقرؤونه محضًا لم يُشَب، وقد حدَّثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتابَ الله وغيَّروه». وفيه (3): أن معاوية ذكر كعبَ الأحبار فقال: «إن كان من أصدق هؤلاء المحدِّثين عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب». وكان عند عبد الله بن عَمرو بن العاص صحيفة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يسمِّيها «الصادقة» (4) تمييزًا لها عن صحف كانت عنده من كتب أهل الكتاب. وزعم كعبٌ أن ساعة الإجابة إنما تكون في السنة مرّة أو في الشهر مرّة، فردَّ عليه أبو هريرة وعبدُ الله بن سلام بخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنها في كل يوم جمعة (5). وبلغ حذيفَة أنّ كعبًا يقول: إن السماء تدورعلى قطب كقطب الرحى، فقال حذيفة: «كذب كعب ... » (6). _________ (1) (4485). (2) (7363). (3) (7361). (4) أخرجه الدارمي (513)، والخطيب في «تقييد العلم» (152). (5) انظر سنن النسائي في أبواب الجمعة. [المؤلف]. والحديث أخرجه أبو داود (1046)، والنسائي (1430)، والترمذي (491)، وأحمد (10303) وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (2772). (6) ترجمة كعب من الإصابة [5/ 650]. [المؤلف]. وقال الحافظ: إن ابن أبي خيثمة أخرجه بسندٍ حسن، وأخرجه ابن منده في «التوحيد» (60) عن عبد الله بن مسعود بنحوه.
(12/134)
وبلغَ ابنَ عباس أنّ نوفًا البِكالي ــ وهو من أصحاب كعب ــ يزعم أن موسى صاحب الخضر غير موسى بن عمران، فقال ابن عباس: «كذب عدو الله ... » (1)، ولذلك نظائر. وأما ما رواه كعب ووهب عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقليل جدًّا، وهو مرسل؛ لأنهما لم يدركاه، والمرسل ليس بحجة، وقد كان الصحابة ربما توقف بعضهم عن قبول خبر بعض إخوانه من الصحابة حتى يستثبت، فما بالك بما يرسله كعب! فأما وهب فمتأخِّر. وأما ما روياه عن بعض الصحابة أو التابعين [ص 69] فإن أهل العلم نقدوه كما ينقدون رواية سائر التابعين، ويأتي لهذا مزيد. قال ص 111: (كعب الأحبار ... ). أقول: لكعب ترجمة في «تهذيب التهذيب» (2)، وليس فيها عن أحد من المتقدّمين توثيقه، إنما فيها ثناء بعض الصحابة عليه بالعلم، وكان المزّي عَلَّم عليه علامة الشيخين (3)، مع أنه إنما جرى ذكره في «الصحيحين» عَرَضًا لم يُسْنَد مِن طريقه شيء من الحديث فيهما. ولا أعرف له رواية يحتاج إليها _________ (1) صحيح البخاري [122] تفسير سورة الكهف. [المؤلف]. (2) (8/ 438). (3) الذي في «تهذيب الكمال»: (6/ 169) علامة (خ د ت س فق)، وليس فيه علامة مسلم، فتعقبه ابن حجر في «تهذيب التهذيب»: (8/ 438) بأنه قد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع في مسلم في أواخر كتاب الإيمان، وفي حديث: «إذا أدّى العبدُ حقَّ الله ... » ثم تعقبه بما ذكره المؤلف من أنه إنما جرى ذكره عرضًا في الكتب وليست له رواية.
(12/135)
أهل العلم. فأما ما كان يحكيه عن الكتب القديمة فليس بحجة عند أحد من المسلمين، وإن حكاه بعضُ السلف لمناسبته عنده لما ذُكِر في القرآن. وبعد، فليس كلّ ما نُسِب إلى كعب في الكتب بثابت عنه؛ فإن الكذابين مِنْ بعده قد نسبوا إليه أشياء كثيرة لم يقلها. وما صحَّ عنه من الأقوال ولم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ليس بحجة واضحة على كذبه؛ فإن كثيرًا من كتبهم انقرضت نُسَخُها، ثم لم يزالوا يحرّفون ويبدّلون، وممن ذَكَر ذلك السيد رشيد رضا في مواضع من «التفسير» (1) وغيره. واتهامه بالاشتراك في المؤامرة على قتل عمر لا يثبت، وكعب عربيُّ النسب، وإن كان قبل أن يسلم يهوديّ النحلة. وقول أبي ريَّة: (فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه) مِن عنديّاته، والذي عند ابن سعد (2) وغيره أنه سكن حمص حتى مات بها سنة 32. وذكر أبو ريَّة في الحاشية: (قال لقيس بن خرشة: ما من الأرض شبر (3) ... ). أقول: هذه الحكاية منقطعة، حاكيها عن كعب وُلِد بعده بنحو عشرين سنة (4)، وأول الحكاية: أنّ كعبًا مرَّ بصِفِّين فوقف ساعة ثم قال: «لا إله إلا _________ (1) «تفسير المنار»: (3/ 329 ــ 332، 1/ 174، 195). (2) في «الطبقات الكبرى»: (9/ 449)، وانظر «تهذيب الكمال»: (6/ 170). (3) في كتاب أبي رية: «ما مِن شبر في الأرض». (4) وهو يزيد بن أبي حبيب، فقد توفي سنة 128 هـ عن نحو ثمانين سنة، أي ولد نحو سنة 50 هـ بعد موت كعب بنحو عشرين سنة. لذلك قال الحافظ في «الإصابة»: (5/ 465): «رجاله ثقات، لكن في السند انقطاع ورجل لم يسمّ». وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: (7/ 268): «مرسل». والأثر أخرجه الطبراني في «الكبير»: (18/ 346)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة»: (5/ 116 ــ 117)، والبيهقي في «الدلائل»: (6/ 476).
(12/136)
الله، ليُهراقنّ بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يُهراق ببقعة في الأرض ... » وكان ذلك قبل وقعة صِفِّين بسنين، فهل يصدِّق أبو ريَّة هذا كما صدَّق بقية الحكاية؟ على أن فيها غريبة أخرى لا أراه يصدِّق بها (1). قال ص 112: (افتجَرَ هذا الكاهن لإسلامه سببًا عجيبًا ... قد أخرج ابن سعد بسند صحيح ... فقال: إن أُبيّ كتب لي كتابًا من التوراة ... وختم على سائر كتبه ... ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلمًا). أقول: أما السند فليس بصحيح، فيه علي بن زيد وهو كما قال ابن حجر في «التقريب»: «ضعيف» (2) ولم يُخرج له أحد من الشيخين، إلا أن مسلمًا أخرج حديثًا عن حماد بن سلمة عن ثابت البُناني وعلي بن زيد، والاعتماد على ثابت وحده، [ص 70] لكن لما وقع في سياق السند ذِكْر عليّ بن زيد لم ير مسلم أن يحذفه. ولمسلم من هذا نظائر. وأما القصة فلا أدري ما ينكر المسلم منها وهو يقرأ قول الله عزّ وجل في كتابه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الآية (3) [الأعراف: 157]، وقوله سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ _________ (1) وهي ــ فيما أحسب ــ طريقة موت قيس بن خَرَشة عندما أراد عبيد الله بن زياد أن يقتله، ففي الرواية: أنه لما نودي بصاحب العذاب مال قيس عند ذلك فمات. (2) وكذلك ضعفه في «فتح الباري»: (1/ 373، 395، 2/ 563، 3/ 22) وغيرها وإن كان قد حسَّن سنده هذا في «الإصابة»: (5/ 648) ولعله عمدة أبي رية في تصحيحه. (3) انظر تفسير المنار 9: 230 - 300. [المؤلف].
(12/137)
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} الآية [الفتح: 29]، وآيات أخرى معروفة، فلينظر المسلم مَن الأولى بأن يقال: فجر وافتجر؟ ثم ذكر حكاية عن «حياة الحيوان» (1)، وحَسْبها أنه لم يجد لها مصدرًا إلا «حياة الحيوان»، على أن الحكاية نفسها ليس فيها ما ينكره المؤمن بالقرآن. ثم قال ص 113: (ووهب بن منبه .. .. ). أقول: قد قدمت شيئًا من حال وهب، وقد وثَّقه بعض الحفاظ وضعَّفه عَمرو بن علي الفلَّاس، أخرج البخاري (2) حديثًا من طريقه ثم قال: «تابعه مَعْمر». وله في «صحيح مسلم» (3) شيء تابعه عليه مَعْمر أيضًا، ومعمر هو ابن راشد أحد الأئمة المجمع عليهم. وقال: (روى عنه كثير من الصحابة، منهم أبوهريرة، وعبد الله بن عمرو، وابن عباس وغيرهم). أقول: هذه من مجازفات أبي رية، وإنما ذكر أهلُ العلم أنَّ وهبًا روى عن هؤلاء، وإنما ولد سنة 34 كما مرَّ، وإنما اشتهر بعد وفاة هؤلاء. _________ (1) (1/ 707 ــ ت إبراهيم صالح). والقصة بنحوها في «تاريخ دمشق»: (50/ 165) وسبق كلام المصنف (ص 72) أن ما تفرّد ابن عساكر بإخراجه فهو ضعيف. (2) (113). (3) أخرج مسلم لوهب بن منبه حديثًا واحدًا رقم (1038) عن أخيه همام عن معاوية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تلحفوا في المسألة ... ». ولم أجد متابعة معمر له.
(12/138)
قال: «أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام ــ وهو أحد أحبار اليهود الذين أسلموا ــ إنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة. وأخرج كذلك: مكتوب في التوراة صفة النبي، وعيسى ابن مريم يدفن معه». أقول: لم أجد الخبر الأول في «جامع الترمذي» (1)، ولا ذكره صاحب «ذخائر المواريث»، وسيأتي ما يتعلق به. وأما الثاني؛ ففي سنده عثمان بن الضحَّاك مجهول، ومحمد بن يوسف بن عبد الله، ولم يوثَّقا توثيقًا يُعتدُّ به، وقد ذكر البخاري في ترجمة محمد من «التاريخ» (1/ 1/263) (2) طرفًا من هذا الخبر وقال: «هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه». قال أبوريَّة: (وهذا ... قد أحكمه الداهية كعب، فقد روى الدارمي عنه في صفة النبيّ في التوارة قال: في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام. [ص 71] وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة حتى وجدناه في «سنن الدارمي» كذلك عن الداهية الأكبر كعب، فقد روى ذكوان عنه قال: في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار ... ، وهذا الكلام قد أورده ابن سعد في «طبقاته» عن ابن عباس في جواب لكعب. وقد امتدت هذه الخرافة إلى أحد _________ (1) هو كما ذكر المصنف، والخبر عند الدارمي (7)، فالظاهر أنه تصحف على أبي رية «الدارمي» إلى «الترمذي» خاصة وأنه ينقل من «فتح الباري» وفيه «الدارمي». «الفتح»: (8/ 586 ــ السلفية). وسيعزوه أبو رية إلى الدارمي بعد أسطر، وهذا من تخبطاته! أقول: وفي سنده زيد بن عوف، متروك. انظر «التاريخ الكبير»: (3/ 404)، و «الجرح والتعديل»: (3/ 570). وأخرج الدارمي ما يشهد له برقم (5، 8). (2) في (ط): «1: 2631» خطأ.
(12/139)
تلاميذ كعب، عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد روى البخاري عن عبد الله (1) بن يسار ..... وزاد ابن كثير: قال ابن يسار: ثم لقيت كعبًا الحبر فسألته فما اختلفا في حرف». قال أبو ريَّة: (وكيف يختلفان وكعب هو الذي علَّمه). أقول: خبر عبد الله بن عمرو نَسَبه بعضُهم إلى عبد الله بن سلام كما ذكره البخاري (2)، وذكر ابن حجر (3) أنه لا مانع من صحته عنهما. وقد بحثتُ عن هذا الخبر بطرقه المذكورة هنا وغيره ونظرت في الأسانيد، فترجَّح عندي صحته عن عبد الله بن عَمرو، فأما نِسْبته إلى عبد الله بن سلام ففي صحتها نظر، وكذلك نِسبته إلى كعب، وبيان ذلك يطول، وهذا الذي ظهر لي هو الظاهر من صنيع البخاري (4). هذا وفي بعض روايات الخبر أنه من التوراة، فإن صحّ ذلك في الرواية فقد يراد به الكتب المنسوبة إلى موسى، وقد يُراد به ما يعمّ كتبه وكتب أنبياء بني إسرائيل، وهو ما يسمّى عند القوم «العهد القديم»، وذلك إطلاق شائع كما يؤخذ من «إظهار الحق» (1: 38) (5)، وفي «تفسير ابن كثير» (7: 567) (6): _________ (1) الصواب عن هلال [عن عطاء بن يسار]. [المؤلف]. (2) رقم (2125). (3) في «الفتح»: (4/ 343). (4) وفي خبر عبد الله بن عمرو: «أجل والله إنه لموصوف ... » علق عليه أبو ريَّة: «هكذا يورطه أستاذه حتى يقسم بالله»، وهذا من افتراء أبي ريَّة فإن عبد الله بن عمرو كان عنده جملة من صحف أهل الكتاب كما اعترف به أبو ريَّة، فإقسامه يدل على أنه شاهد تلك الصفة في تلك الصحف. [المؤلف]. (5) (1/ 99 ــ ط الإفتاء). (6) (3/ 1487 ــ دار ابن حزم).
(12/140)
«يقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوارة على كتب أهل الكتاب، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا». وعلى كلِّ حال فالروايات تعطي وجود معنى تلك العبارة في بعض كتب أهل الكتاب، وأبو ريَّة يزعم أن الخبر «أسطورة، خرافة»، فإنْ بَنَى ذلك على امتناع أن يكون في كتب الأنبياء السابقين أخبار بأمور مستقبَلَة كبعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفته= فهذا تكذيب صريح للقرآن وتكذيب بكتب الله ورُسُله، فإن كان أبو ريَّة ينطوي على هذا فليجهر به حتى يُخاطَب بحسبه. وإن بنى على استبعاد صحة الخبر؛ لأنه لا يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ما يؤدّي ذاك المعنى، ولم يكن موجودًا فيها منذ ألف سنة تقريبًا عندما شرع بعضُ علماء المسلمين يطّلعون عليها وينقلون عنها= فهذا يُنْبِئ عن جهل أو تجاهل بتاريخ كتب أهل الكتاب وأحوالهم فيها. وأقتصرُ هنا على عبارات عن كتاب «إظهار الحق» للشيخ رحمة الله الهندي ففيه (1: 220) (1) عن الدكتور كني كات ــ وهو مِن أعظم محققي كتب العهدين ــ قال: «إنّ نُسَخ العهد العتيق التي هي موجودة كُتبت ما بين ألف وألف وأربعمائة ... ». وقال: «إن جميع النسخ التي كانت كتبت في المائة السابعة (الميلادية) أو الثامنة أُعدمت بأمر محفل الشورى لليهود؛ لأنها كانت تخالف مخالفةً كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم». وحكى عن (والتن) ما يوافق ذلك. ويُعْلَم منه أن اليهود [ص 72] تتبعوا نسخ كتبهم التي كُتبت قبل الإسلام أو في صدر الإسلام إلى نحو مائتي سنة فأتلفوها لمخالفتها الكثيرة لما _________ (1) (2/ 568 ــ ط الإفتاء).
(12/141)
يهوونه. وانظر «إظهار الحق» (1: 242 - 245) وفيه (1: 227 - 229) (1): أن لأهل الكتاب نحو عشرين كتابًا مفقودة، وبعضها منسوب إلى موسى فيكون من التوارة الحقيقية عندهم. وقد تكون ثَمَّ كتب أخرى مفقودة لم يعثر المتأخرون على أسمائها. وذَكَر من شيوع التحريف القصدي في اليهود والنصارى قديمًا وحديثًا ما يجاوز الوصف. وحقّ على من يُبتلى بسماع شبهات دعاة النصرانية والإلحاد أن يقرأ ذاك الكتاب «إظهار الحق» ليتضح له غاية الوضوح أن الفساد لم يزل يَعْتري كتبَ أهل الكتاب جملةً وتفصيلًا، ومحقِّقوهم حيارى ليس بيدهم إلا التظنّي والتمنّي والتحسُّر والتأسُّف، ومن ثَمَّ يتبين السرّ الحقيقي لمحاولتهم الطعن في الأحايث النبوية؛ لأن دهاتهم حاولوا الطعن في القرآن، فتبين لهم أنه ما إلى ذلكم من سبيل، فأقبلوا على النظر في الأحاديث، فوجدوا أنه قد رُوي في جملة ما رُوي كثيرٌ من الموضوعات، وحيَّرهم المجهود العظيم الذي قام به علماء الأمة لاستخلاص الصحيح، ونفي الواهي والساقط والموضوع، حتى قال بعضهم: «ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم ما شاؤوا» (2). ولكنهم اغتنموا انصرافَ المسلمين عن علم الحديث، وجهلَ السواد الأعظم منهم بحقيقته فراحوا يشكّكون ويتهجّمون، ولا غرابة أن يوقعهم الحسدُ في هذا وأكثر منه، وإنما الغرابة في تقليد بعض المسلمين لهم. _________ (1) (2/ 582 ــ 587، ط الإفتاء). (2) عزا المؤلف هذا القول إلى المستشرق مرجيلوث وأحال على «المقالات العلمية» (ص 234، 253). انظر تقدمته لكتاب «الجرح والتعديل» (ص/ب).
(12/142)
نعم اتضح مِمَّا تقدم عن «إظهار الحق» أنه لا مانع من أنه كان في كتب أهل الكتاب عند ظهور الإسلام ما تواطؤوا بعد ذلك على تحريفه أو إسقاطه أو فَقْد ذاك الكتاب بإتلافهم عمدًا أو غيره. وقد كان اليهود في بلاد العرب منذ زمن طويل قبل الإسلام، فلا يستبعد أنه كان بقي عندهم مالم يكن عند النصارى (1)، وإذا لا مانع وقد صحَّت الرواية فالواجب تصديقها، ومن تدبَّر القرآن ومحاورات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لليهود، وما حُكي عنهم قبل البعثة وما حكاه مَنْ أسلم منهم= بان له صحة ما قلناه. وقد صحت الروايةُ عن عبد الله بن عَمرو وهو صحابي فاضل، وقد كان عارفًا بكتب أهل الكتاب، ووقعت له عدة منها، فالظاهر أنه أخذ العبارة منها. وإن صحّت عن عبد الله بن سلام فالأمر أوضح، فإنه كان من أحبار اليهود، وأسلم مَقْدَمَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان مِن خيار الصحابة، وشهد له النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، كما رواه كبار الصحابة (2). وإن صحت عن كعب فالظاهر صدقه؛ لأنه إذا كان صادق الإسلام [ص 73] نقيًّا كما هو الظاهر ولم يتبيَّنْ خلافه فالأمر واضح، وإن كان كما زعمه بعضهم منافقًا مُصِرًّا في الباطن على اليهودية متعصِّبًا لها فليس مِن المعقول أن يَكْذِب للمسلمين بما يزيدهم ثباتًا على الإسلام وحَنَقًا على اليهود. وما يقال إن كعبًا كان يستدرج _________ (1) ومن الهيّن جدًّا على اليهود حين قرَّروا إتلاف النسخ أن يتلفوا جميع ما كان تبقّى منها بأيدي المسلمين من أعقاب كعب ووهب وغيرهما لأنها تصير إلى مسلم لا يحسن قراءتها، وقد يكره بقاءها عنده فقد يتلفها وقد يعطيها يهوديًّا بغير ثمن أو بثمن بخس، ويتأكد ذلك عند سعي اليهود في جمعها، وحسبك برهانًا على ذلك وما في معناها: فَقْد النسخ من العالم سوى ما بأيدي اليهود من النسخ الحديثة. [المؤلف]. (2) انظر ما سلف (ص 132).
(12/143)
المسلمين ليثقوا به ليس بشيء؛ لأنه يعلم أن غاية ما يفيده وثوقهم هو تصديقهم له في أنّ ما يحكيه عن كتب أهل الكتاب موجود فيها، وماذا يفيده هذا إن كان منافقًا، وقد علم أنهم يعتقدون أن كتب أهل الكتاب محرَّفة مبدَّلة، وقد تقدم إيضاح ذلك (1). وما يزعمه أبو ريَّة من مكايد كعب لم يتحقق منها شيء. والله المستعان. ثم ذكر ص 115 حكايات مُعضِلة لا تُعرف أسانيدها، ومثل ذلك لا يصح أن يُبْنَى عليه شيء. * * * * _________ (1) (ص 141 ــ 143).
(12/144)
مَكيدة مَهُولة ثم قال: (لما قدم كعب إلى المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لِمَا أسلم من أجله من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (1) ... ). أقول: هذه مكيدة مَهُولة يُكَادُ بها الإسلام والسنّة، اخترعها بعض المستشرقين ــ فيما أرى ــ ومشت على بعض الأكابر وتبنَّاها أبو ريَّة وارتكب لترويجها ما ارتكب ــ كما ستعلمه ــ. وهذا الذي قاله هنا رَجْمٌ بالغيب، وتَظَنٍّ للباطل، وحَطٌّ لقوم فتحوا العالم ودبَّروا الدنيا أحكم تدبير إلى أسفل درجات التغفيل، كأنهم رضي الله عنهم لم يعرفوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودينه وسنته وهديه، فقبلوا ما يفتريه عليه وعلى دينه إنسان لم يعرفه. وقد ذكر أبورية في مواضع حالَ الصحابة في توقف بعضهم عما يخبره أخوه الذي يتيقّن صدقه وإيمانه وطول صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل تراهم مع هذا يتهالكون على رجل كان يهوديًّا فأسلم بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بسنين، فيقبلون منه ما يخبرهم عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مما يُفسد دينه؟ كان الصحابة رضي الله عنهم في غنى تامّ بالنسبة إلى سنة نبيهم، إن احتاج أحدٌ منهم إلى شيء رجع إلى إخوانه الذين صحبوا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وجالسوه، وكان كعب أعقل من أن يأتيهم فيحدّثهم عن نبيهم فيقولوا: مَنْ أخبرك؟ فإن ذَكَرَ صحابيًّا سألوه فيَبِين الواقع، وإن لم يذكر أحدًا كذَّبوه ورفضوه. إنما كان كعب يعرف الكتب القديمة، فكان يحدِّث عنها بآداب وأشياء في الزهد والورع أو بقصص وحكايات تناسب أشياء في القرآن أو السنة، فما وافق الحقَّ قبلوه، وما روأه باطلًا قالوا: مِنْ أكاذيب أهل الكتاب، _________ (1) قوله: «على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -» هذا أساس المكيدة المهولة الآتية. [المؤلف].
(12/145)
وما رأوه محتملًا أخذوه على الاحتمال كما أمرهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. ذلك كان فنُّ كعب وحديثُه. ولم يرو عنه أحد من الصحابة إلا ما كان من هذا القبيل. نعم ذكر أصحاب التراجم أنه أرسل عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن عمر وصُهيب وعائشة. وعادتهم أن يذكروا مثل ذلك وإن كان خبرًا واحدًا في صحته عن كعب نظر [ص 74] فهذه كتب الحديث والآثار موجودة لا تكاد تجد فيها خبرًا يُروى عن كعب عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنْ وُجِد فلن تجده إلا من رواية بعضِ صغار التابعين عن كعب، ولعله مع ذلك لا يصح عنه. وكذا روايته عن عمر. وكذا روايته عن صُهيب وعائشة مع أنه مات قبلهما بزمان. وعامة ما روي عنه حكايات عن أهل الكتاب ومِنْ قوله. قال: (ومما أغراه بالرواية أن عمر بن الخطاب كان في أول أمره يستمع إليه، فتوسّع في الرواية الكاذبة ما شاء أن يتوسّع، قال ابن كثير: لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه، فربما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده من غثٍّ وسمين) (1). أقول: الذي عنده هو الحكايات عن صحف أهل الكتاب وأشياء مِن _________ (1) عزاه أبو ريَّة إلى تفسير ابن كثير 4: 17. ولم أجده هناك فلينظر. [المؤلف]. أقول: نظرت فوجدته فيه (7/ 2987 ــ دار ابن حزم) في تفسير سورة الصافات. ووجدت أبا ريَّة قد أسقط ما يخدم غرضه وهو قوله: «فجعل يحدث عمر رضي الله عنه [عن كتبه]» فأسقط أبو ريَّة ما بين المعكوفين؛ ليوهم القرّاء أن كعبًا كان يحدّث عمر بأحاديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما سمّاه «الرواية الكاذبة» وتفطن له المؤلف. وانظر الصفحة الآتية في صنيعٍ له مثل هذا! ثم تصرف في آخر كلام ابن كثير فنصّه: «ونقلوا عنه غثها وسمينها» أي: غثّ تلك الكتب وسمينها. وليس كما يوهمه تصرف أبي ريَّة.
(12/146)
قوله في الحكمة والموعظة، وقوله: (الرواية الكاذبة) لا ريب أنّ في صحف أهل الكتاب التي كان كعب يحكي عنها ما هو كذب، فمن صحفهم ما أصله من كتب الأنبياء ولكن حُرِّف وزِيد فيه ونُقص، ومنها ما هو منسوب إلى بعض الأنبياء كذبًا، وعندهم عدة كتب كذلك، ومنها ما هو من كتب أحبارهم. فأما أن يكون كعب كذب فهذا لم يثبت، وسيأتي الكلام فيه. قال: (ثم لم يلبث عمر أن تفطَّن لكيده وتبيَّن له سوء دِخْلته، فنهاه عن الرواية عن النبي (1)، وتوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله أو ليلحقنَّه بأرض القِرَدة). أقول: هذا مِن دَجَل أبي رية، لم يتبين لعمر من كعبٍ كيد ولا سوء دِخْلة، ولا كان كعب يروي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؛ وإنما كان يحكي عن صحف أهل الكتاب، فإن كان عمر نهاه فعن ذلك. والحكاية التي تشبَّث بها أبو رية عزاها إلى «البداية والنهاية» (8: 106) (2) وهي هناك: «وقال لكعب الأحبار: لتتركنَّ الحديث عن الأُوَل أو لألحقنك بأرض القردة». قال: «عن الأُوَل» فأبدلها الشاطر أبو ريَّة بقوله: «عن النبيّ ــ عن رسول الله» (3). ومعها في «البداية والنهاية» كلمة تتعلق بأبي هريرة ذكرها أبو ريَّة ص 163، وسيأتي _________ (1) قوله: «عن النبيّ ــ عن رسول الله» هو أساس المكيدة كما مرت الإشارة إلى مثله ص 73 [145] يحاول أبو ريَّة أن يمكّنه. [المؤلف]. أقول: غيَّر أبو ريَّة العبارة في الطبعات اللاحقة إلى «فنهاه عن الحديث» بعدما كُشِفت حيلته. (2) (11/ 371 ــ دار هجر). (3) وهكذا يزوّر أبو ريَّة لتمكين أساس تلك المكيدة. [المؤلف]. أقول: أصلح أبو ريَّة النصَ في الطبعات اللاحقة بعدما تبين تغييره وتصرفه في النصوص لخدمة أهوائه.
(12/147)
هناك بيان سقوط هذه الرواية، مع الكشف عن بعض أفاعيل أبي ريَّة. على أن كلام أبي ريَّة متناقض، فسيحكي قريبًا أن عمر لم يزل إلى آخر حياته معتدًّا بكعب. والصحيح أن كعبًا كان رجلًا عربيًّا ذا رأي، قد قرأ الكتب واستفاد منها أشياء في الحكمة والزهد والورع، وهذه كانت وسيلته إلى عمر. ويحكي الناسُ عنه أشياء من الأخبار عن الأمور المستقبلة مسندًا له إلى صحف [ص 75] أهل الكتاب، ولا أدري ما يصح عنه من ذلك. قال: (على أن عمر ظلَّ يترقب هذا الداهية بحزمه وحكمته وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته كما نرى في قصة الصخرة). أقول: قد سرّح عمر من المدينة إلى العراق نَصْرَ بن حجَّاج لغير ذنب إلا أنه كان بارع الجمال، وكان بالمدينة كثير من النساء يغيب أزواجهن في الجهاد، وقد ذكرتْ إحداهنَّ نصرًا في شعرٍ لها (1). وجَلَدَ عمر صَبيغ بن عِسْل ونفاه إلى العراق، وكتب أَنْ لا يجالسه أحد لأمر واحد وهو أنه يُكثر من السؤال عن كلمات من القرآن لا تتعلق بالأحكام (2). ونَصْر سُلَميّ، وصَبيغ تميميّ لم يكن لهما عِرْق في يهودية ولا نصرانية. وكعب حميريّ حديث العهد باليهودية لا مَنَعة له ولاحاجة بالمسلمين إليه، فهل يُعقل أن يشعر الفاروق منه بأن إسلامه مدخول وأنه داهية ذو أغراض خبيثة ثم يدعه معه بالمدينة يدخل إليه مع أصحابه ويتكلم في مجلسه وربما يستشيره لا _________ (1) قصة نصر بن حجاج أخرجها ابن سعد في «الطبقات»: (3/ 285)، والخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 337 و 339). وصحح سنده الحافظ في «الإصابة»: (3/ 579). (2) أخرجه الدارمي (146، 150)، والبزار: (1/ 423)، واللالكائي: (4/ 635 ــ 636).
(12/148)
يَحْذَرُه ولا يحذِّر الناس منه؟ أما قصة الصخرة فرواها الإمام أحمد (1) من طريق حماد بن سلمة عن أبي سنان [عيسى بن سنان القَسْملي] عن عُبيد بن آدم قال: «سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أُصَلِّي؟ قال: إن أخذتَ عنّي صلَّيْتَ خلف الصخرة، وكانت القدس كلها بين يديك. فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أُصلِّي حيث صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». عُبيد (2) هذا لم يُذْكَر له راوٍ إلا أبو سنان، وأبو سنان (3) ضعَّفه الإمام أحمد نفسه وابن معين وغيرهما، وقال أبو زرعة: «مخلّط ضعيف الحديث»، ولا ينفعه ذكر ابن حبان في «الثقات» لما عُرِف من تساهل ابن حبان، ولا قول العجلي: «لا بأس به»؛ فإن العجلي قريب من ابن حبان أو أشد، عرفتُ ذلك بالاستقراء. ومع هذا فليس في القصة ما يُشعر بسوء دخيلة، عَرَف كعبٌ فضيلةَ بيت المقدس في الإسلام بنص القرآن، وعلم أنه كان قبلة المسلمين أَوّلًا فظنّ أنه الأفضل للمصلّي هناك أن يجعله كله بينه وبين الكعبة. ورأى عمر أن في هذا مضارعة أي مشابهة لليهودية، فيما عُلِم من الإسلام خلافه، وهو صلاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. هذا على فَرْضِ صحة الرواية. وذكر أبورية ص 126 - 127 روايةً أخرى عن «تاريخ الطبري» (4). وهي في التاريخ منقطعة الأول والآخر، إنما قال: «وعن رجاء بن حَيْوَة عمن _________ (1) (261). (2) ترجمته في «التاريخ الكبير»: (5/ 441)، و «الجرح والتعديل»: (5/ 401). (3) ترجمته في «تهذيب التهذيب»: (8/ 211 ــ 212). (4) (2/ 559 ــ دار الكتب).
(12/149)
شهد» والسند إلى «رجاء» مجهول، وشيخ «رجاء» مجهول، ومثل هذا لا يثبت به شيء. قال أبو ريَّة: (فإن شدة دهاء هذا اليهودي غلبت على فطنة عمر وسلامة نيته). كذا رجع أبورية فسلبَ عمرَ ما ذكره أَوّلًا بقوله: «بحزمه وحكمته وينفذ ... بنور بصيرته»، وهذا شأن من يتظنّى الباطل (1). [ص 76] قال: (فظل يعمل بكيده في السر والعلن). أقول: كلمة (العلن) هذه تأتي على بقية ما جعله لعمر سابقًا، وتبيَّن أن مقصوده بقوله: (سلامة نيته): الغفلة. قال: (حتى انتهى الأمر بقتل عمر بمؤامرة اشترك فيها هذا الدّهيّ). ذكر بعد هذا ما حكى عن المِسْوَر بن مَخْرمة، وعزاها إلى تاريخي ابن جرير وابن الأثير (2)، والثاني مستمدّ من الأول، وأرى أن أحكيها كما هي عند ابن جرير في أخبار سنة 23 قال: «حدثني سلمة (الصواب: سَلْم) بن جُنادة قال: حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت [عمران] ابن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا أبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن المِسْور بن مَخْرمة ... قال: خرج عمر بن الخطاب يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة ... قال [أبو لؤلؤة]: لئن سلمت لأعملنّ لك رحًى يتحدّث بها مَنْ بالمشرق والمغرب، ثم انصرف. فقال عمر: لقد توعَّدني العبدُ آنفًا. قال: ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان من _________ (1) والملجئ لأبي ريَّة إلى هذا هو محاولته التمكين لتلك المكيدة. [المؤلف]. (2) «تاريخ الطبري»: (2/ 559)، و «تاريخ ابن الأثير»: (3/ 49 ــ 50).
(12/150)
الغد جاء كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميّت في ثلاثة أيام. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة. قال عمر: آلله أنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك ... فلما كان من الغد جاء كعب فقال: ... بقي يومان. قال: ثم جاء مِن غَدِ الغد فقال: ... بقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها ... » وقال فيه: «فضُرِب عمر ستّ ضربات» وفي آخرها: «ثم توفي ليلة الأربعاء لثلاثٍ بقين من ذي الحجة». أقول: هل يسمع عمر هذا الوعيد الشديد مِن عبد كافر ثم لا يحترس منه، ولا يأمر بالقبض عليه وسجنه أو ترحيله من المدينة؟ أو على الأقل يضع عليه عيونًا تراقبه، فقد كان لعمر عيون على الناس ترقب أقلَّ من هذا، وكان له عيون على عُمّاله في البلدان البعيدة، أو ليس عمر هو الذي رجع عن بلد الطاعون فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قَدَرِ الله؟ فقال عمر: لو غيرك يا أبا عبيدة قالها. نعم نَفرُّ من قَدَر الله إلى قَدَر الله (1). هب أن عمر لم يبال بنفسه، أفلم يكن بقاء ذلك العبد الكافر بين ظهراني المسلمين خطرًا عليهم، وقد جاهر الخليفة بالتوعُّد، فما عسى أن يكون حاله مع غيره؟ قد يقال: يمكن أن تكون وُضعت عليه عيون راقبته مدّة فلم يُرَ منه ما يُنكر، فتُرِك. لكن [ص 77] هذه الحكاية تجعل التوعّد يوم الجمعة 22 ذي الحجة سنة 23 والقتل بعد ذلك بأربعة أيام. أضف إلى ذلك أنه قد ثبت أنّ عمر قال في خطبته في تلك الجمعة: _________ (1) أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219).
(12/151)
«رأيت ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلّا حضور أجلي» (1). وفي بعض الروايات أنه ذكر أن الرؤيا عبرت بأن رجلًا من الأعاجم يعتدي عليه. راجع «فتح الباري» (7: 50) (2). هل يخبر عمر بهذه الرؤيا في اليوم الذي توعَّده فيه الأعجمي ثم لا يحترس ولا يقبض على ذاك الأعجمي؟ وفوق هذا تزعم الحكاية أنّ كعبًا جاء إلى عمر بعد الإخبار بالرؤيا وإيعاد الأعجمي بيوم واحد فقال لعمر ما تقدم. أفلم يكن في اقتران هذه الثلاثة ما يدعو إلى الاحتراس؟ أمر آخر: تقدم (ص 46) (3) تشديد عمر على أبي موسى لما أخبر بخبرٍ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فهل يُعقل أنّ عمر هذا الذي شدَّد على أخيه المؤمن الصادق المهاجر القديم للإسلام، لا يشدِّد على كعبٍ حديثِ العهدِ باليهودية ولا صحبة له ولا هجرة، مع أن خبره أَوْلَى وأحقّ بأن يُستنكر؟ أمر ثالث: عَهْدُنا بهذا الحميريّ داهيًا، فهل يعقل أن يكون واقفًا على المؤامرة ثم يقع منه ما حكته الحكاية؟ المعقول أن يسكت إن كان له هوًى في قتل عمر، وأن يخبره بالمؤامرة على وجهها إن لم يكن له هوًى في قتله. أما السكوت فخشية أن يؤدّي كلامه إلى حبوط المؤامرة، بأن يحترس عمر ويقبض على أبي لؤلؤة، وقد يجر إلى اكتشاف المؤامرة ووقوع كعب نفسه. وأما الإخبار بالمؤامرة على وجهها فلأنه بذلك يكون له يدٌ عند عمر _________ (1) أخرجه مسلم (567). (2) (7/ 63). (3) (ص 89).
(12/152)
والمسلمين ينال بها جاهًا ومكانة. وكلا هذين الغرضين أهمّ وأعظم مِن حُبّه إيهام اطلاعه على بعض أمور المستقبل، على أنّ هذا قد كان حاصلًا في الجملة، فقد كانوا يعرفون معرفته بصحف أهل الكتاب ويعرفون أن فيها أشياء من ذلك. ومَنْ قَابَلَ هذه الحكاية بالروايات الصحيحة وَجَدَ مخالفة: منها عدد الطعنات، اتفقت الروايات الصحيحة على أنها ثلاث فقط، ووقع في هذه الحكاية أنها ست. فأنت ترى أن النظر في متن هذه الحكاية يبين أنها مدخولة لا يمكن الاعتماد عليها في شيء، ويؤكِّد ذلك سقوطُ سندها، فإن سليمان مجهول لم نجد له ترجمة، وأبوه ساقط الحديث كما بيَّنه جمعٌ من الأئمة، وعبد الله بن جعفر لا بأس به، فأما أبوه جعفر بن المسور فلا يعرف برواية أصلًا، ولا يُدْرى أدرك أباه أم لا. [ص 78] وقال ص 117: (ووقع في رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: وأتى كعب عمر فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدًا، وإنك تقول: من أين وإني في جزيرة العرب). أقول: هي عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون. وأبو إسحاق مشهور بالتدليس ولم يذكر سماعًا. وروى غيره القصة عن عمرو بن ميمون كما في «صحيح البخاري» (1) وغيره بدون هذه الزيادة. ومع هذا فأيّ شيء فيها؟ أما الشهادة فقد كان عمر مُبَشَّرًا بها يقينًا، ففي «الصحيحين» (2) وغيرهما من حديث أنس: «أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صعد أُحُدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم _________ (1) (3700). (2) البخاري (3675)، ولم أجده في مسلم.
(12/153)
فقال: اثبت أُحُد، فإنما عليك نبي وصدِّيق وشهيدان». وصحّ معناه من حديث عثمان وبريدة وأبي هريرة وسهل بن سعد. راجع «فتح الباري» (7: 32) (1). وفي «الصحيحين» (2) وغيرهما سؤال عمر لحذيفة عن الفتنة، وقول حذيفة: «لا بأس عليك منها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقًا» قال عمر: «يفتح الباب أو يكسر؟ » قال حذيفة: «لا بل يكسر». قيل لحذيفة: «علم عمر بالباب؟ » قال: «نعم، كما أنّ دون غدٍ الليلة، إني حدَّثته حديثًا ليس بالأغاليط» ثم بيَّن حذيفة أن الباب هو عمر نفسه. فالمراد بقوله: «يفتح أو يكسر»: يموت أو يقتل. وثَمَّ أخبار أخرى كرؤيا عوف بن مالك في عهد أبي بكر، وفيها في ذكر عمر «شهيد مستشهد» (3). وفي «صحيح البخاري» (4) أن عمر قال: «اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك وموتًا في بلد رسولك» وراجع «فتح الباري» (4: 86) (5) و (6: 446) (6). ولا ريب أنّ كعبًا كان عارفًا بصحف أهل الكتاب وأن فيها أخبارًا عن المستقبل، وأنه كان يوجد في صحفهم في صدر الإسلام ما لا يوجد عندهم الآن، راجع ما تقدم (ص 72) (7). وشأن عمر من _________ (1) (7/ 38). (2) البخاري (525)، ومسلم (144). (3) أخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (351)، وابن سعد في «الطبقات»: (3/ 307)، وصحح ابن حجر سنده في «الفتح»: (4/ 101). (4) (1890). (5) (4/ 101). (6) لم أجد الإحالة إلى الصفحة، وانظر (6/ 10 ــ 11). (7) (ص 142 ــ 143).
(12/154)
أعظم الشؤون في العالم وأحقّها أن يبشِّر به الأنبياء السابقون عند تبشيرهم بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا فليس في رواية أبي إسحاق ذكر التوراة، فقد يكون استند إلى تلك الأخبار الصحيحة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو ريَّة: (وإليك خبرًا عجيبًا من أخبار ذلك الكاهن لعله يمتلخ منك عرق الشك في اشتراكه في هذه المؤامرة، فقد أخرج الخطيب عن مالك أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي، وهي زوجته فوجدها تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي ــ أي كعب الأحبار ــ يقول: إنك على باب (1) من أبواب جهنم. فقال عمر: ما شاء الله. ثم خرج فأرسل إلى كعب، فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة، فقال عمر: ما هذا؟ مرة في الجنة ومرة في النار! قال كعب: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا متّ اقتحموا. وقد صدقت يمينه ... فقد قتل عمر في ذي الحجة سنة 23 هـ). [ص 79] أقول: ذكر ابن حجر في «فتح الباري» (2) هذه الحكاية في شرح حديث حذيفة الذي فيه وصفُ عمر بأنه باب مغلق دون الفتنة، وقد تقدم قريبًا. وفي «الفتح» أيضًا (2: 446) (3) حديثٌ فيه: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى عمر وقال: «هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغَلْق ما عاش»، وأن أبا ذرٍّ قال لعمر: «يا غلق الفتنة» (4). فغير منكر أن يكون في _________ (1) «على باب» سقطت من (ط)، واستدركتها من كتاب أبي ريَّة. (2) (13/ 50). (3) (6/ 606). والإحالة في (ط) على المجلد الثاني من «الفتح» خطأ. (4) الذي في «الفتح» أن أبا ذرّ قال لعمر: «يا قفل الفتنة». والذي قال له: «يا غلق الفتنة» هو عثمان بن مظعون.
(12/155)
صحف أهل الكتاب إشارة إلى هذا المعنى بنحو ما في الحكاية ــ إن صحت ــ وإنما الذي يُستنكر أن يكون فيها بيان وقت موت عمر على التحديد. وقد كان عمر في شهر ذي الحجة سنة 23 حاجًّا، واتفق هناك علامات تُؤذِن بقرب موته، منها أنّ رجلًا ناداه: يا خليفة. فقال آخر من حُزاة العرب: إنا لله، ناداه باسم ميت. ثم لما كان يرمي الجمرة أصابت حصاةٌ جبهةَ عمر فأَدْمته، فقال ذاك الحازي: إنا لله، أُشْعِرَ أمير المؤمنين. والإشعار: تدمية البعير الذي يُهدى ليُنْحَر. وجاء عن عائشة أنها سمعت عقب ذاك الحج منشدًا ينشد: أبعد قتيلٍ بالمدينة أظلمَتْ ... له الأرضُ تهتزّ العِضاهُ بأسْؤق عليك سلامٌ مِن إمام وباركت ... يدُ الله في ذاك الأديم الممزَّق الأبيات ... ولما انصرف عمر من الحج دعا الله تعالى فقال: «اللهم كبرت سِنّي وضعفت قوَّتي وانتشرت رعيَّتي، فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط» (1). فلما قدم المدينة خطبَ الناسَ وقال في خطبته: «رأيتُ ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي» (2). _________ (1) هذه الأخبار أخرجها ابن سعد في «الطبقات الكبرى»: (3/ 309 ــ 310، 347 ــ 348). (2) أخرجه مسلم (567) وقد تقدم.
(12/156)
فمن الجائز ــ إن صحت تلك الحكاية ــ أن يكون كعب استند إلى بعض هذه العلامات أو شبهها، وقد يكون مع ذلك وجد في صحفه إشارةً فَهِم منها بطريق الرمز مع النظر إلى القرائن والعلامات السابقة أن عمر لا يعيش بعد تلك السَّنَة. وبعد، فسند الحكاية غير صحيح، تفرَّد بها عن مالك رجلٌ يقال له: «عبد الوهاب بن موسى» لا يكاد يُعْرَف، وليس من رجال شيء من كتب الحديث المشهورة، ولا ذُكِر في «تاريخ البخاري» ولا كتاب ابن أبي حاتم، بل قال الذهبيّ في «الميزان» (1): «لا يُدْرَى مَن ذا الحيوان الكذَّاب». وفي مقدمة «صحيح مسلم» (2): «الذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرَّد به المحدِّث من الحديث: أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجِد كذلك، ثم زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند أصحابه قُبِل منه (3) ... ». وهذا الرجل لم يُمعن في المشاركة فضلًا عن أن يكون ذلك على [ص 80] الموافقة. لكن هذا الشرط لا يتقيَّد به بعضُ المتأخِّرين كابن حبان والدارقطني. ومن ثَمَّ ــ والله أعلم ــ وثَّق الدارقطنيُّ عبدَ الوهاب هذا، وزعم أن الخبر صحيح عن مالك. أما بقية سنده عن مالك فهو عن عبد الله بن دينار عن سعد الجاري، وسعد الجاري غير مشهور ولا موثَّق، ولا يُدرى أدركه عبد الله بن دينار أم لا. _________ (1) (3/ 398). وانظر تعقب الحافظ ابن حجر للذهبي في «لسان الميزان»: (5/ 308 ــ 310). (2) (1/ 7). (3) في «الصحيح»: «قُبِلت زيادته».
(12/157)
ومقطع الحق أن ليس بيد من يتَّهم كعبًا بالمؤامرة غير كلمات يُروى أن كعبًا قالها لعمر. وقد كان عمر والصحابة أعلم بالله ورسله وكتبه منَّا، وأعْلَم بعد أن طُعِن عمر بالمؤامرة وقد انكشفت وهو حيّ، وأعلم بحال كعب لأنه صَحِبَهم وجالسهم. والمعقول أنه لو كان في ما خطب به عمر ما يوجب اتهامه لاتهموه، وقد علمنا أنهم لم يتهموه لا قبل انكشاف المؤامرة ولا بعده، فوجب الجزم بأنه لم يقع منه ما يقتضي اتهامه. قال أبو ريَّة ص 118: (حديث الاستسقاء ... ). حكى أنّ كعبًا في عام الرمادة قال لعمر: «إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعَصَبة الأنبياء». أقول: لم يعزُ هذا إلى كتابٍ لينظر في سنده، ولا أراه إلا ساقطًا (1). قال: (ومما لا مراء فيه أن هذا اليهودي قد أراد بقوله هذا أن يخدع عمر عن أول أساس جاء (2) عليه الدين الإسلامي وهو التوحيد الخالص، ليزلقه إلى هوَّة التوسل الذي هو الشرك بعينه). أقول: أما المسلمون الذي يعرفون الإسلام، فالذي لا مراء فيه عندهم أن أبا ريَّة مجازف، وأنه على فرض صحّة هذه الحكاية ليس فيها ما يدلّ على سوء طوية كعب، وأن استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما لا علاقة له بالشرك البتة، بل هو أمر يقره الشرع إجماعًا، ويؤيده الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ _________ (1) ذكر الخبر ابنُ عبد البر في «الاستيعاب»: (2/ 814)، والعسكري في «الأوائل» (1/ 255 ــ 256) وأسنده إلى المدائني عن شيوخه، فالسند كما قال المؤلف. (2) كذا في (ط) والذي في كتاب أبي ريَّة: «قام».
(12/158)
لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]»، وقال: سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5] , وقال تعالى في يعقوب وبنيه: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 97 - 98]. وتواتر في السُّنة طلب الصحابة من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لهم بالسُّقيا وغيرها. وأمرنا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن نسلّم عليه في التشهد، وبالصلاة عليه والدعاء له عقب الأذان، وغير ذلك مما صورتُه طلب الدعاء. ثم ذكر خبر أنس الذي في «صحيح البخاري» (1) أن عمر قال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم -[ص 81] فتسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمّ نبينا فاسقنا» وزعم أنه لا يصح، وعارضه بروايات منها: عن خوَّات قال: «خرج عمر يستسقي بهم فصلّى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برح من مكانه حتى مُطِروا» (2). أقول: لا أدري ما سنده (3)، ولو صح فلا يعارض خبر أنس، فقد تكون واقعة أخرى، فإن عمر لبث خليفة عشر سنين، وقد تكون واقعة واحدة اختصر خوَّات في ذكرها. _________ (1) (1010). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في «مجابو الدعوة» (43)، ومن طريقه اللالكائي في «كرامات الأولياء» (69). (3) في سنده عطاء بن مسلم الخفّاف متكلّم فيه من جهة حفظه، قال في «التقريب»: «صدوق يخطئ كثيرًا». وفيه أيضًا شيخه عبد الله العمري، وهو ضعيف.
(12/159)
قال: (وعن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار ... ). أقول: الشعبي لم يدرك عمر، وعمر لبث خليفةً عشر سنين، فلم يكن استسقاؤه مرة واحدة (1). قال: (وقال الجاحظ: ولما صعد (عمر) على المنبر قابضًا على يد العباس ... ). فذكر نحو خبر الشعبيّ، وذكر أبو ريَّة أنّ الطبريّ أخرجه في «تفسيره» (2)، وأنّ ابنَ قتيبة ذكره في «الشعر والشعراء» (3). أقول: نعم، ولكن لم يقل أحد: «قابضًا على يد العباس» إلا الجاحظ، فأراه زادها توهّمًا. قال: (قال معاوية لكعب ... ) عزا هذا إلى «تفسير ابن كثير» (3: 101). وإنما هو فيه (5: 323) (4) قال في سنده: «ابن لهيعة حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال: أن معاوية الخ» وابن لهيعة ضعيف، وسعيد بن أبي هلال وُلد بعد موت كعب بنحو أربعين سنة. قال: (وذكر القرطبيُّ في تفسير سورة غافر عن خالد بن معدان عن كعب ... ). أقول: قال القرطبي (5): «قال ثور بن زيد عن خالد ... » ولا أدري كيف السند إلى ثور، وخالد لم يدرك كعبًا. _________ (1) خبر الشعبي أخرجه عبد الرزاق (4902)، وابن أبي الدنيا في «المطر» (84). (2) (23/ 294). (3) (2/ 702). (4) (5/ 2189 ــ ت البنا). (5) (15/ 192 ــ دار الكتب العلمية). ولم أجده مسندًا.
(12/160)
قال: (وفي التفسير أن عبد الله بن قلابة الخ). أقول: عبد الله بن قلابة مجهول لا ذِكْر له إلا في هذه الحكاية، وفي السند إليه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف كثير التخليط (1). قال ص 121: (وأخرج أبو الشيخ في «العظمة» عن كعب ... ). أقول: كتاب «العَظَمة» تكثر فيه الرواية عن الكذَّابين والساقطين والمجاهيل (2). قال: (وعن وهب بن منبه: أربعة أملاك يحملون العرش ... ). أقول: وهذا أيضًا من كتاب «العَظَمة» (3). [ص 82] قال: (وقرأ معاوية الخ). أقول: في سنده سعيد بن مَسْلَمة بن هشام، قال فيه البخاري: «منكر الحديث فيه نظر»، وهذا من أشدِّ الجرح في اصطلاح البخاري. وفي سياق القصة ما يشعر بانقطاع آخرها. قال ص 122: (وذكر الحافظ ابن حجر أنَّ كعب الأحبار روى أن باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج مستويًا ... ). قال أبو ريَّة: (وهكذا تنفذ الإسرائيليات إلى معتقداتنا). _________ (1) أخرج هذا الأثر في قصة إرم ذات العماد أبو الشيخ في «العظمة»: (4/ 1493 ــ 1502)، والثعلبي في «الكشف والبيان»: (10/ 197). وفي سندها أيضًا عبد الله بن صالح كاتب الليث وفيه ضعف. (2) والخبر في «العظمة»: (4/ 1384). وفي سنده عبد الله بن صالح أيضًا. (3) (2/ 600).
(12/161)
أقول: الحكاية عن كعب لا ندري ما سندها (1)، وذاك الأخْذُ إنما هو احتمال لا تثبت به عقيدة ولا تنتفي. قال: (وقال ابن حجر بعد أن أورد تلك الخرافة ... ). أقول: من أين لك أنها خرافة؟ قال: (وروى كعب: أن في الجنة مَلَكًا الخ). أقول: ذكره بنحو ما هنا ابنُ القيم في «حادي الأرواح» (2) المطبوع مع «إعلام الموقعين» (1: 314) وهو من رواية شِمْر بن عطية عن كعب، وشِمْر لم يدرك كعبًا، وليس في الحكاية ما يستنكره المسلم. قال: (ومما يدلُّك على أن الصحابة كانوا يرجعون إليه (3) حتى فيما هو من علمهم ــ وبخاصة عندما قال: ما من شيء إلا وهو مكتوب في التوراة ــ: أن أبا عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري ذكر أن عمر قال لكعب ــ وذكر الشعر ــ: يا كعب هل تجد للشعر ذكرًا في التوراة ... ). أقول: عزاه إلى كتاب «العمدة» (4) لابن رَشيق، وابن رَشيق لم يلق النيسابوري، والنيسابوري ضعيف جدًّا حتى اتُّهِم بالوضع، تجد ترجمته في _________ (1) ذكر الحافظ الخبرَ بمعناه في «فتح الباري»: (7/ 196)، وذكر نصه الآلوسي في «روح المعاني»: (8/ 14). (2) (1/ 424 ــ دار عالم الفوائد). والأثر أخرجه ابن أبي شيبة (35143)، وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» (223)، وأبو الشيخ في «العظمة» (2/ 751). (3) هذا من محاولات أبي ريَّة تمكين تلك المكيدة التي مرت ص 73 [143]. [المؤلف]. (4) (1/ 8 ــ دار الخانجي).
(12/162)
«لسان الميزان» (5: 140) (1). وبينه وبين عمر أكثر من ثلاثمائة سنة. وهب أنّ القصة صحّت فأيُّ شيء فيها يدلّ على تلك الدعوى الفاجرة؟ وما نسبه إلى كعب من قوله: «ما من شيء الخ» لم يعزه (2). قال: (وروى البيهقي في «الأسماء والصفات» بسند صحيح عن ابن عباس [قال] ... في كل أرض نبيّ كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى). أقول: أما هذا فليس سنده بصحيح؛ لأنه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضُّحى عن [ص 83] ابن عباس، وشريك يخطئ كثيرًا ويدلِّس، وعطاء بن السائب اختلط قبل موته بمدَّة، وسماعُ شريك منه بعد الاختلاط. لكن أخرج البيهقي (3) عقب هذا بسندٍ آخر من طريق «آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن عَمْرو بن مرّة عن أبي الضُّحى عن ابن عباس في قوله عز وجل: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] قال: في كلِّ أرض نحو إبراهيم». ثم قال البيهقي: «إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذٌّ بمَرَّة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا». وأخرجه ابن جرير (4) عن عَمْرو بن عليّ عن غُنْدَر عن شعبة فذكره بنحوه، وزاد «ونحو ما على الأرض _________ (1) (7/ 92 ــ 93 ــ ت أبو غدة). (2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (18/ 346)، ومن طريقه أبو نعيم في «معرفة الصحابة»: (4/ 116). قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: (7/ 267 ــ 268): «مرسل». وقد تقدم (ص 136 - 137). ولفظه في بعض المصادر: «ما من الأرض شيء إلا وهو مكتوب ... »، وفي بعضها: «ما من الأرض شبر ... ». (3) «الأسماء والصفات» (832). (4) (23/ 78).
(12/163)
من الخلق». وعلى هذا فالمعنى ــ والله أعلم ــ أنّ في كلِّ أرض خلقًا كنحو بني آدم، وفيهم مَن يَعْرف الله تعالى بالنظر في آياته كما عرف إبراهيم عليه السلام، وهذا القول قد يتوصَّل إليه بالنظر في الآية المذكورة وسياقها، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85]. وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وغيرها. على أن بعضهم قد فسر ما جاء في الرواية الأخرى التي قدَّمتُ أنها لا تصح، ففي «روح المعاني» (1): «لامانع عقلًا ولا شرعًا من صحته، والمراد أنّ في كلّ أرض خَلْقًا يرجعون إلى أصلٍ واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدم عليه السلام، وفيهم أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم فينا». أما ما في «البداية» (2): «محمول إن صحّ نقله عنه على أنه أخذه ابن عباس رضي الله عنه عن الإسرائيليات» فغير مرضيّ، فابن عباس ــ كما مرَّ ويأتي ــ كان ينهى عن سؤال أهل الكتاب، فإنْ كان مع ذلك قد يسمع مِن بعض مَن أسلم منهم أو يسأله فإنما ذلك شأن العالم يسمع ما ليس بحجّة، لعله يجد فيه ما ينبّهه ويَلْفِتُ نظرَه إلى حجة. وسيأتي تمام هذا إن شاء الله (3). وقال ص 123: (وفي «تفسير الطبري» (4) أن ابن عباس سأل كعبًا عن سدرة _________ (1) (28/ 143). (2) «البداية والنهاية»: (1/ 42 ــ 43 ــ دار هجر). (3) (ص 170، 183). (4) (22/ 33).
(12/164)
المنتهى. فقال: إنها على رؤوس حَمَلة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وليس لأحد وراءها علم، ولذلك سميت سدرة المنتهى لانتهاء العلم بها). أقول: هو من طريق الأعمش عن شِمْر بن عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابنُ عباس كعبًا وأنا حاضر» كذا قال، والأعمش مشهور بالتدليس، وهلال بن يساف لم يدرك كعبًا. قال أبو ريَّة: (هذا ما قاله لتلميذه الثاني، أما تلميذه الأول فهو أبو هريرة ... ). أقول: لم يتعلَّما من كعب شيئًا، وإنما سمعا منه شيئًا محتملًا فحكياه، أو سألاه سؤالَ خبيرٍ ناقد لينظرا ما يقول، ولا يضرهما تهكُّم أبي ريَّة، كما لم يضر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قول المشركين: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]. [ص 84] قال: (ففي حديث له: أنها شجرة تخرج من أصلها أنهار الخ). أقول: هذا رواه أبو جعفر الرازي (1)، وشكَّ فيه فقال: «عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره». وأبو جعفر والربيع فيهما كلام. وقال ابن حبان في الربيع: «الناس يتَّقون مِن حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه، لأن في أحاديثه عنه اضطرابًا كثيرًا» (2). قال: (وفي حديث المعراج: أنه لما فرض الله خمسين صلاة على العباد في النهار وفي الليل ولم يستطع أحد من الرسل جميعًا غير موسى أن يفقه استحالة أدائها على البشر، فهو وحده الذي فطن لذلك ... وكأن الله سبحانه ... كان لا يعلم مبلغ قوة احتمال عباده ... وكذلك لا يعلم محمد ... حتى بصَّره موسى. وهكذا ترى الإسرائيليات تنفذ إلى ديننا ... ولا تجد أحدًا إلا قليلًا يزيفها ... ). _________ (1) أخرجه من طريقه ابن جرير: (22/ 37). (2) «الثقات»: (4/ 228).
(12/165)
أقول: إن كانت الإسرائيليات تشمل عند أبي ريَّة كلَّ خبرٍ فيه فضيلة لموسى عليه السلام ففي القرآن كثير منها، بل في عدة آيات منه ذِكْر تفضيل بني إسرائيل على العالمين وغير ذلك. وإن كانت خاصة بما ألصق بالإسلام وليس منه من مقولات أهل الكتاب، فلم يزل أهل العلم يتتبعونها ويزيِّفونها. أما سكوتهم عن محاولة تزييف ما ثبت في أحاديث الإسراء فعذرهم واضح، وهو أنه لم يبلغ أحدٌ منهم في العلم والعقل والحياء مبلغ أبي رية. ودونك الجواب: كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين كما ثبت في «الصحيح» (1)، فخمسون صلاة مائة ركعة، وليس أداء مائة ركعة في اليوم والليلة بمستحيل، وفي الناس الآن من يصلي في اليوم والليلة نحو مائة ركعة، ومنهم من يزيد، وفي تراجم كثير من كبار المسلمين أنَّ منهم من كان يصلي أكثر من ذلك بكثير، بل إن أداء مائة ركعة في اليوم والليلة ليس بعظيم المشقَّة في جانب ما لله عز وجل من الحقّ وما عنده من عظيم الجزاء في الدنيا والآخرة، نعم قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46]. وما وقع في كلام موسى: «إن أمتك لا تطيق» وفي رواية: «لا تستطيع» ليس معناه أن ذلك مستحيل، وإنما معناه أن ذلك يشقُّ عليها، ولهذا أطلق هذه العبارة بعد بيان رجوع الصلاة إلى خمس، قال موسى: «إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم». وراجع «مفردات [ص 85] الراغب» (2) (طوع) و (طوف). فأما الله تعالى فالفرض في عِلْمِه خمس صلوات فقط. ولكنه سبحانه _________ (1) البخاري (350)، ومسلم (685) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) (ص 529 - 532 ــ دار القلم).
(12/166)
إذا أراد أن يرفع بعض عباده إلى مرتبةٍ هيّأ له ما يستحقّ به المرتبة، ومِن ذلك أن يهيئ ما يفهم منه العبد أنه مكلّف بعمل معيَّن شاقّ، فيقبل التكليف ويستعدّ لمحاولة الأداء، فحينئذ يعفيه الله تعالى من ذلك العمل، ويكتب له جزاءَ قبوله ومحاولةِ الوفاء به أو الاستعداد لذلك= ثوابَ مَنْ عَمِلَه. ومن هذا القبيل قصة إبراهيم في ذبح ابنه. وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان يعلم أن الأداء ممكن كما مرَّ، وكان في ذلك المقام الكريم مستغرقًا في الخضوع والتسليم، ووفّقه الله عز وجل لقبول ما فهمه في فرض خمسين والاستعداد لأدائها، ليكون هذا القبول والاستعداد مقتضيًا لاستحقاق ما أراد الله عز وجل أن يعطيه وأمته من ثواب خمسين صلاة. وقبوله واستعداده عنه وعن أمته في حكم قبول الأمة، فإنها تَبَع له وكان هو النائب عنها، على أنه ما من مؤمن من أمته يطَّلع على الحديث ويراجع نفسه إلا رأى أنه لو كان المفروض خمسين صلاة لبذَلَ وُسعه في أدائها والوفاء بها. فأما المراجعة للتخفيف بعد مشورة موسى فإنما كانت بعد أن استقرَّ القبول والعزم على الأداء، وعلى وجه الرجاء إن خفف فذاك وإلا فالقبول والاستعداد بحاله. ولم يذكر في الحديث أن أحدًا من الرسل اطلع على فرض الصلاة وإنما فيه أنه لما مرَّ محمد بموسى عليهما السلام سأله موسى فأخبره فقال موسى: «إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جرَّبتُ الناسَ قبلك وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك» (1). واختصَّ موسى بالعناية لأنه أقرب الرسل حالًا إلى محمد؛ لأن كلًّا منهما رسول منزل عليه كتاب تشريعي سائسٌ لأمة أُرِيدَ لها _________ (1) أخرجه البخاري (349)، ومسلم (162) في حديث الإسراء الطويل.
(12/167)
البقاء لا أن تصطلم بالعذاب، وقُضي لمحمد أن تطول معالجتُه لأمته كما طالت معالجة موسى لأمته، ووجوه الشبه كثيرة؛ ولهذا أتى القرآن بذكر موسى في مواضع كثيرة، منها عقب آية الإسراء، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء: 1 - 2]. هذا، وحديث الإسراء ثابت مستفيض من رواية جماعة من الصحابة، وعليه إجماع الأمة، ولايضرّه أن يجهل بعض الناس حِكْمة عالم الغيب والشهادة في بعض ما اشتمل عليه، ولا أن يكفر به من يكفر. والله الموفق. [ص 86] قال أبو ريَّة ص 124: (هل يجوز رواية الإسرائيليات؟) أقول: المعلوم دينًا وعقلًا أن الأخبار إنما تُحْظَر روايتها إذا ترتَّبت عليها مفسدة، وقد كثر في القرآن والسنة حكاية ما هو حق من الإسرائيليات وحكاية ما هو باطل مع بيان بطلانه، فدلّ ذلك على جواز ما كان من هذا القبيل، وبقي المحتمل، وما لا تظهر مفسدة في روايته على أنه محتمل. قال أبو ريَّة: (روى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فغضب وقال: أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتَّبعني. وفي رواية: فغضب وقال: جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذّبوا به أو بباطل فتصدّقوا به). أقول: هذا من رواية مُجالد عن الشعبي عن جابر (1)، ومجالد ليس _________ (1) أخرجه أحمد (14631)، وأبو يعلى (2135)، والبيهقي: (2/ 10 ــ 11).
(12/168)
بالقوي، وأحاديث الشعبي عن جابر أكثرها لم يسمعه الشعبي من جابر كما مرَّ (ص 38) (1). وعلى فرض صحته فالغضب من المجيء بذاك الكتاب كان لسبببين: الأول: إشعاره بظنِّ أن شريعتهم لم تُنسخ، ولهذا دفع ذلك بقوله: «لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني». والثاني: أنه قد سبق للمشركين قولهم في القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم -: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] وفي اعتياد الصحابة الإتيان بكتب أهل الكتاب وقراءتها على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ترويج لذاك التكذيب. والسببان منتفيان عمن اطلع على بعض كتبهم بعد وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن عَمرو. أما قوله: «لا تسألوا الخ» فقد بيَّن أن العلة هي خشية التكذيب بحق أو التصديق بباطل، والعالم المتمكِّن مِن معرفة الحق من الباطل ومن المحتمل بمأمَنٍ من هذه الخشية، يوضّح ذلك: أن عمر رضي الله عنه ــ وهو صاحب القصة ــ كان بعد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يسمع من مسلمي أهل الكتاب وربما سألهم، وشاركه جماعة من الصحابة ولم ينكر ذلك أحد. قال: (وروى البخاري عن أبي هريرة: لا تصدقوا الخ). أقول: الذي في «صحيح البخاري» (2): «عن أبي هريرة قال: كان أهلُ الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال _________ (1) (ص 75). (2) (4485).
(12/169)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم الخ» [ص 87] فلم يَنْهَ عن السماع والاستماع، وإنما نهى عن التصديق والتكذيب. ولا ريب أن المنهيّ عنه هو التصديق المبنيّ على حُسن الظنّ بصحفهم، والتكذيب المبنيّ على غير حجة، فلو قامت حجة صحيحة وجب العمل بها. قال: (وروى البخاري ... عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسول الله أحدث الكتب تقرؤونه محضًا لم يُشَبْ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتابَ الله وغيروه الخ). أقول: هذا مِن قول ابن عباس، وقد علمنا أنه كان يسمع ممن أسلم من أهل الكتاب، وقد رُوي أنه سأل بعضهم، وأبو ريَّة يُسْرِف في هذا حتى يرمي ابنَ عباس بأنه (تلميذ لكعب)، وبالتدبُّر يظهر مقصوده، ففي بقية عبارته: «لا والله ما رأينا رجلًا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم» فدلّ هذا أن كلامه في أهل الكتاب الذين لم يُسْلموا، فأما الذي أسلموا فعَمَل ابن عباس يقتضي أنه لا بأس للعالم المحقق ــ مثله ــ أن يسأل أحدهم. قال ص 125: (وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يَهدوكم وقد ضلوا. إما أن تكذِّبوا بحق أو تصدّقوا بباطل»). أقول: في سنده نظر (1)، فإن صحّ فقد تقدَّم معناه في حديث جابر وأثر ابن عباس (2). _________ (1) أخرجه عبد الرزاق (10162)، وابن جرير (18/ 423) من طريق الأعمش عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير به. وأخرجه ابن أبي شيبة (26952) من طريق الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد به. وسنده كما قال المؤلف، ففيه حريث بن ظهير قال الذهبي: لا يُعرف، وقال الحافظ: مجهول. (2) تقدّما قريبًا.
(12/170)
قال: (ولكن ما لبث الأمر أن انقلب بعد أن اغترَّ بعض المسلمين بمن أسلم من أحبار اليهود خدعة (؟) فظهرت أحاديثُ رفعوها إلى النبيّ تبيح الأخذ وتنسخ ما نهى عنه، فقد روى أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»). أقول: صحَّ هذا من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عَمرو وأبي سعيد الخدري، وليس بمخالف لما تقدم، كيف والحجة مما تقدم إنما هي في حديث أبي هريرة، فأما حديث جابر فلم يصح، وأثر ابن عباس مِنْ قوله، وقد بيَّنه سياقُه وفِعْلُه، وأثر ابن مسعود ــ إن صحّ ــ فقد تقدم حمله، ولو كان مخالفًا لكان رأي صحابيّ قد خالفه غيره، فالحجة في حديث أبي هريرة فقط، وهو بيِّن في الإذن بالسماع والاستماع، ولم ينه إلا عن التصديق أو التكذيب بلا حجة. والرواية إما في معنى السماع والاستماع، فيدلّ الحديث على الإذن فيها، وإما مسكوتٌ عنها، فتبيّن أن حديث: «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (1) غير مخالف لحجة، ولو كان مخالفًا فأيُّما أولى أن يؤخذ به؟ أدلةُ المنع قد عرفتَ حالها، أما أدلة الجواز فصنيع القرآن والسنن الثابتة، وحديثٌ صحيح صريح يرويه جماعة من الصحابة، وعَمَل عمر وعثمان وجماعة من الصحابة. قال: (وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو من تلاميذ كعب الأحبار). أقول: لم يتعلّما من كعب شيئًا وإنما سمعا منه شيئًا من الحكايات ظنَّا أو جوَّزا صحتها فنقلاها، والذي يصح عنهما من ذلك شيء يسير. وكأنَّ أبا ريَّة يريد أنهما لمّا سَمِعا من كعب أحبَّا أن يرويا عنه، فخافا أن ينكر الناسُ عليهما، فافتريا ــ والعياذ بالله ــ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذاك الحديث يدفعان به إنكار _________ (1) أخرجه البخاري (3461).
(12/171)
الناس، وساعدهما على ذلك غيرهما من الصحابة كأبي سعيد الخدري. كأنَّ أصحابَ محمد - صلى الله عليه وسلم - جماعة من اللصوص لا يَزَعهم دين ولا حياء، وكأنَّ صُحبتهم له ومجالستهم، وحفظهم للقرآن والسنن، ومحافظتهم على الطاعة طول عمرهم لم تُفِدْهم في دينهم وأخلاقهم شيئًا بل زادتهم وبالًا، فقد كانوا في جاهليتهم يتحاشَون من الكذب. ولا ريب أنَّ مِثْل هذا لا يقوله مسلم عاقل يعرف محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ويؤمن بالقرآن وما فيه من الثناء البالغ على الصحابة، ويعرفُ الصحابةَ أنفسَهم. ولو أريد من ثلاثة معروفين من أصحاب السيد رشيد رضا أن يتَّفقوا على الكذب عليه لغرضٍ من الأغراض لعزَّ ذلك، مع الفارق العظيم بين هذا وذاك من وجوه عديدة. هذا، وسبيل المؤمنين الذي جرى عليه العمل في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أصحابه: قبول خبر الصحابي الواحد، فإن عَرَض احتمال خطأ أو نحوه (1) فقام صحابيّ آخر فأخبر بمثل ذاك لم يبق إلا القبول، كما يروى في خبر محمد بن مَسْلمة بمثل ما أخبر به المغيرة في ميراث الجدّة فأمضاه أبو بكر، وكشهادة أبي هريرة لحسَّان بإنشاده الشعر في المسجد في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأقرَّه عمر، وكخبر أبي سعيد الخدري بمثل خبر أبي موسى في الاستئذان فاطمأنّ إليه عمر، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. قال أبو ريَّة: (وقد جاءت الأخبار بأن الثاني وهو عبد الله بن عمرو بن العاص أصاب يوم اليرموك زاملتين من علوم أهل الكتاب، فكان يحدّث منهما بأشياء كثيرة من _________ (1) (ط): «أو نحو».
(12/172)
الإسرائيليات، وقد قال فيهما الحافظ ابن كثير: إن منها المعروف والمشهور، والمنكور والمردود). أقول: هو نفسه رضي الله عنه لم يكن يثق بها، ولهذا كان يسمِّي صحيفته عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - «الصادقة» تمييزًا لها على تلك الصحف، وإنما كان يحكي من تلك الصحف ما قام دليلٌ على صِدقه، كصفة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أو كان محتملًا فيحكيه على الاحتمال. [ص 89] قال: (رواية بعض الصحابة عن أحبار اليهود. كان من أثر وثوق الصحابة بمسلمة أهل الكتاب واغترارهم بهم أن صدقوهم فيما يقولون، ويروون عنهم ما يفترون). أقول: إن أراد بالتصديق أن كعبًا ــ مثلًا ــ كان إذا قال: إني أجد في التوارة كيت وكيت، صدَّقوه في أنّ ذلك في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب حينئذ، وقد عرفوا أنّ فيها كثيرًا من التحريف والتبديل، فهذا محتمل؛ لأن كعبًا أسلم ثم تعلَّم الإسلام وبقي محافظًا على الإسلام مجتنبًا للكبائر متمسِّكًا بالعبادة والتقوى، فكان عدلًا عندهم فيما يظهر، فعاملوه بحسب ذلك، وهذا هو الحق عليهم. وإن أراد بالتصديق أن كعبًا ــ مثلًا ــ كان لو قال: إنّ مِن صفة الله تعالى كذا، لاعتقدوا ــ بناء على قوله أو صُحُفه ــ أن تلك صفة الله تعالى حقًّا، فهذا كذب عليهم (راجع ص 68) (1) أما أنّ مسلمي أهل الكتاب كانوا يفترون، فهذه دعوى يُعْرَف حالها مما مرَّ ويأتي. قال: (وقد نصَّ رجال الحديث في كتبهم أن العبادلة الثلاثة وأبا هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار وإخوانه). _________ (1) (ص 133 ــ 134).
(12/173)
أقول: أما الرواية عن كعب فقد ذُكِرَت لهؤلاء ولعمر ولعلي ولابن مسعود كما في «فتح المغيث» للسخاوي (ص 405) (1). وعادةُ أهل الحديث أن يقولوا: «روى عن فلان، روى عنه فلان» ولو لم يكن المروي إلا حكاية واحدة، وهذا هو الحال هنا تقريبًا، فإنك لا تجد لهؤلاء عن كعب إلا الحرف والحرفين ونحوها، وكثير من ذلك يأتي ذِكْر كعب فيه عَرَضًا، راجع (ص 69) (2). وأما روايتهم عن إخوانه، فمن هم؟ راجع (ص 70) (3). قال ص 126: (وكان أبو هريرة الخ). أقول: ستأتي ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه، وتُعْلَم براءته (4). قال: (وقد استطاع أن يدسّ من الخرافات والأوهام والأكاذيب في الدين ما امتلأت به كتبُ التفسير والحديث والتاريخ فشوَّهتْها وأدخلت الشك إليها). أقول: إنما كان كعب يخبر عن صحف أهل الكتاب، وقد عرف المسلمون قاطبةً أنها مغيَّرة مبدَّلة، فكلّ ما نُسِب إليه في الكتب فحكمه حكم تلك الصحف، فإن كان بعضُ الآخذين عنه ربما يحكي قوله ولا يسمِّيه، فغايته أن يُعَدَّ قولًا للحاكي نفسه وقوله غير حجة، وما جاوز هذا من شطحات أبي ريَّة زيَّفته في غير هذا الموضع. (راجع ص 73) (5). قال: (تكذيب الصحابة لكعب ... نهى عمر كعبًا عن التحديث ... وقال له: لتتركن الحديث [عن الأُوَل] أو لألحقنك بأرض القِرَدة). _________ (1) (4/ 166 ــ ط الدار السلفية). (2) (ص 135 ــ 136). (3) (ص 138 ــ 139). (4) (ص 194). (5) (ص 145).
(12/174)
أقول: مرَّ ما فيه (ص 74) (1) وقد أسقط أبو ريَّة هنا كلمة: «عن الأُوَل» لحاجة في نفس إبليس (2) سيأتي شرحها في الكلام على (ص 163) (3). قال: (وكان علي يقول: إنه لكذّاب». أقول: لم يَعْزُ أبو ريَّة هذا إلى كتاب، ولا عثرتُ عليه، ولو كان له أصل لذُكِر في ترجمة كعب من كتب الجرح والتعديل. [ص 90] وذَكَر عن معاوية أنه (ذكر كعبًا فقال: إنه من أصدق هؤلاء المحدِّثين عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب). وعلَّق على كلمة (أصدق) أن في رواية «أمثل» وإنما وقع بلفظ (أمثل) في عبارة نَقَلها ص 128 عن «اقتضاء الصراط المستقيم» (4)، وعلَّق هناك: أنها هي الرواية الصحيحة، أما رواية «أصدق» فيبدو أنها محرَّفة. كذا يجازف هذا المسكين! وصاحب «الاقتضاء» يورد في مؤلّفاته الأحايثَ من حفظه، وإنما الرواية «أصدق» كما في «صحيح البخاري» (5) وغيره. هذا وقد بيَّن أهل العلم أن مقصود معاوية بالكذب: الخطأ. راجع «فتح الباري» (13: 282) (6) و «تهذيب التهذيب» (7). والسياق يوضّح _________ (1) (ص 147). (2) هي المكيدة التي تقدمت الإشارة إليها ص 73 و 74 و 75 و 82 و 89. [المؤلف]. (3) (ص 214 ــ 216). (4) (2/ 349). (5) (7361). (6) (13/ 335). (7) (8/ 394) وليس فيه تفسير الكذب بالخطأ، وفي «الإصابة»: (5/ 650) فسَّر الحافظ الكذب هنا بعدم وقوع ما يخبر به أنه سيقع لا أنه هو يكذب.
(12/175)
ذلك، فالكلام إنما هو في التحديث عن أهل الكتاب، أي عن كتبهم، ولم يكن معاوية ينظر في كتبهم، وإنما كان كعب وغيره يحكون تنبؤات عما يُستقبل من الأمور فيعلم الصدق أو الكذب بوقوعها وعدمه. والظاهر أنه كان عند كعب صحف فيها تنبؤات مجملة، وكانت له مهارة خاصة في تفسيرها، وبذلك كان أكثر صوابًا من غيره. ومن أعجب ما جاء في ذلك ما جرى له مع ابن الزبير (1). والذي يصح عنه من ذلك قليل، غير أن الوضَّاعين بعده استغلّوا شهرته بذلك فكذبوا عليه كثيرًا لأغراضهم، وكان الكذب عليه أيسر عليهم من الكذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: (قصة الصخرة بين عمر وكعب الخ). أقول: قد تقدّم النظر فيها (ص 75) (2). قال ص 127: ( ... روى بعضهم عن كعب الأحبار أنه ذَكَر عند عبد الملك بن مروان وعروة بن الزبير حاضر: أن الله قال للصخرة: أنتِ عرشي الأدنى). أقول: واضع هذا جاهل، فإن قوله: «عند عبد الملك بن مروان» يعني في خلافته، وإنما ولي سنة 65 بعد وفاة كعب ببضع وثلاثين سنة. _________ (1) يعني ما أخرجه عبد الرزاق (20755) أن ابن الزبير قال: «ما شيءٌ كان يحدثناه كعب إلا قد أتى على ما قال إلا قوله: إن فتى ثقيف يقتلني، وهذا رأسه بين يدي ــ يعني المختار ــ. قال ابن سيرين: ولا يشعر أن أبا محمد قد خُبئ له ــ يعني الحجاج». وسندها صحيح. (2) (ص 149).
(12/176)
قال ص 128: (وفي «مرآة الزمان» لسِبْط ابن الجوزي: ... وكان ــ أي عمر ــ يضربه بالدِّرّة ويقول له: دعنا من يهوديتك). أقول: لم يسند السِّبْط هذه الحكاية، وهو معروف بالمجازفة (1). قال: (الإسرائيليات في فضل بيت المقدس). ذكر أخبارًا عن كعب منها: خبر «أنت عرشي الأدنى» المارّ قريبًا، ونسبها إلى بعض كتب الأدب، وقد قال هو نفسه ص 129: (بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث في فضلها وفضل المسجد الأقصى) وإنما [ص 91] بُنيت قُبَّة الصخرة بعد وفاة كعب ببضع وثلاثين سنة. وفي كتاب «فضائل الشام» للربعي سبع عشرة حكاية عن كعب قال فيها مُخرِّجه الشيخ ناصر الدين الأرناؤوط: «كل الأسانيد لا تصح» (2). وفي هذا تصديق لما قلته مرارًا: إنّ غالب ما يُروى عن كعب مكذوب عليه. وبعد، فلو صحّ شيء من ذلك فإنما كان كعب يخبر عن صحف اليهود، ومعقول أن يكون فيها أمثال ذلك. قال: (وعن أبي هريرة الخ). أقول: هذا كذب مفترى على أبي هريرة رضي الله عنه، وقد قال أبو ريَّة ص 129: (بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث الخ) وإنما بُنيت بعد وفاة أبي هريرة بعدَّة سنين. وقوله: (تلميذ كعب الأحبار) كلمة يطلقها ظالمًا على أبي هريرة وابن عباس وابن عمرو وغيرهم من الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. _________ (1) وصفه بذلك وبأشدّ منه الحافظ الذهبي وغيره. انظر «ميزان الاعتدال»: (6/ 145)، و «لسان الميزان»: (8/ 565). (2) (ص 8 ــ ط المعارف).
(12/177)
قال ص 129: (وفي حديث: أن الطائفة من أمته .... إنهم في بيت المقدس وأكنافه). أقول: روي هذا من حديث أبي أمامة بسند ضعيف (1). وعلى فرض صحته فليس المراد أنهم هناك دائمًا، كيف ولم يكن هناك في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ من المسلمين، وإنما المعنى أنهم يكونون هناك في آخر الزمان حين يأتي أمر الله. وقال: (ما قيل في المسجد الأقصى: كانت الأحاديث الصحيحة أول الأمر في فضل المسجد الحرام ومسجد رسول الله، ولكن بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث في فضلها وفضل المسجد الأقصى). أقول: أما الصخرة فنعم لا يثبت في فضلها نص، وأما المسجد ففضله ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. قال: (وقد روى أبو هريرة [مرفوعًا]: لا تشدّ الرحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد الخ). أقول: الحديث ثابت في «الصحيحين» وغيرهما من حديث أبي هريرة (2)، وأبي سعيد الخُدري (3)، و [أبي] (4) بَصْرة الغِفاري (5)، وجاء من حديث ابن عمر (6) رضي الله عنهم. _________ (1) أخرجه أحمد (22320)، والطبراني في «الكبير» (7643). وانظر حاشية المسند: (36/ 657). (2) أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397). (3) أخرجه البخاري (1197)، ومسلم (827). (4) سقطت من (ط). (5) أخرجه أحمد (23850، 27230)، والطيالسي (1445). (6) أخرجه الطبراني في «الكبير»: (12/ 338).
(12/178)
وذَكَر قولَ ميمونة لامرأة نذرت أن تصلي في بيت المقدس: اجلسي وصلي في مسجد رسول الله، فإني سمعت رسول الله يقول: «صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة» (1). قال أبو ريَّة: (ولو أن المسجد الأقصى كان قد ورد فيه تلك الأحاديث لما منعت ميمونة هذه المرأة من أن توفي نذرها). [ص 92] أقول: رأت ميمونةُ أنَّ الصلاة في مسجد المدينة أفضل، فلم تر فائدة لسفر وعناء لأجل صلاة يمكن أداء أفضل منها بدونهما. وهذا لا ينفي أن يكون للمسجد الأقصى فضل في الجملة كما هو ثابت، وأن يكون للصلاة فيه فضل دون فضل الصلاة في مسجد المدينة. وهذا واضح. قال ص 130: (اليد اليهودية في تفضيل الشام: ... إن الشام ما كان لينال من الإشادة بذكره والثناء عليه إلا لقيام دولة بني أمية فيه ... فكان جديرًا بكهنة اليهود أن ينتهزوا هذه الفرصة ... وكان من هذه الأكاذيب أن بالغوا في مدح الشام ... ). أقول: أما فضل الشام فقد ثبت بكتاب الله عز وجل كما مرَّ (ص 65) (2)، والعقل يتقبَّل ذلك لأنها كانت منشأ غالب الأنبياء والمرسلين، كما يتقبل أن ينوِّه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بفضلها تبيانًا للواقع وترغيبًا للمسلمين في فتحها والرباط فيها. أما الأخبار الكثيرة الواهية في فضل الشام وبيت المقدس والصخرة فالنّظَرُ في أسانيدها يبيّن أنها إنما اختُلِقت بعد كعب بزمان لأغراض أخرى غير اليهودية. _________ (1) أخرجه مسلم (1396). (2) (ص 127).
(12/179)
قال: (مرَّ بك ذَرْوٌ مما قال هؤلاء الكهنة في أن ملك النبيّ سيكون بالشام). أقول: جاء هذا عن كعب، فإن صحّ فالظاهر أنه كذلك كان في صحف أهل الكتاب، فقد أثبت القرآن ذِكْر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيها، ومن أبرز الأمور في شأنه ظهور مُلك أصحابه بالشام. وراجع (ص 71) (1). قال: (وأن معاوية قد زعم الخ). أقول: هذا باطل. راجع (ص 64) (2). قال ص 131: (في الصحيحين: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرّهم مَنْ خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». ثم قال: «روى البخاري: هم بالشام). أقول: الذي في «صحيح البخاري» (3) ذِكْر الحديث من طريق عُمير عن معاوية مرفوعًا ثم قال: «قال عمير: فقال مالك بن يخامر: قال معاذ: وهم بالشام». وليس لمالك بن يَخَامر في الصحيح سوى هذا، وجَعَله من قول معاذ فيما يظهر لا من الحديث، والواو فيه هي واو الحال، أي أنه يأتي أمر الله وهم بالشام، وإتيانُ أمر الله يكون آخر الزمان، وليس المراد أنهم يكونون دائمًا بالشام، كيف ولم يكن بها في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. والبخاري يحمل «الطائفة» على أهل العلم (4)، ومعلوم أنّ معظمهم لم يكونوا بالشام في _________ (1) (ص 139 ــ 141). (2) (ص 125 ــ 126). (3) (3641). (4) صرح به في كتاب الاعتصام، باب قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ... » قال: وهم أهل العلم.
(12/180)
عصره ولا قبله. [ص 93] قال: (وفي مسلم عن أبي هريرة أن النبيّ قال: لا يزال أهل الغرب ظاهرين [على الحق] حتى تقوم الساعة). أقول: إنما هو في «صحيح مسلم» (1) عن سعد بن أبي وقاص، وليس عن أبي هريرة. والظاهر أن أبا ريَّة تعمَّد خلاف الواقع. ولا أدري لماذا أسْقَط «على الحق»؟ ! قال: (قال أحمد وغيره: هم أهل الشام). أقول: قد قيل وقيل، وأقرب الأقوال أن المراد بالغرب الحِدَّة والشوكة في الجهاد، ففي حديث جابر بن سمرة: «لا يزال هذا الدين قائمًا تقاتل عليه عصابة الخ» (2). وفي حديث جابر بن عبد الله: « ... طائفة من أمتي يقاتلون» (3) ونحوه في حديث معاوية، وحديث عقبة بن عامر (4). أما ما يحكى أن بعضهم قال «المغرب» فخطأ محض (5). قال: (وفي «كشف الخفا» الخ). أقول: قد تقدَّم (6) أنّ كعبًا توفي وسط خلافة عثمان، وأنه لم يصح عنه ما نُسِب إليه في «فضائل الشام» شيء. _________ (1) (1925). (2) أخرجه مسلم (1922). (3) أخرجه مسلم (156). (4) حديث معاوية أخرجه مسلم (1037)، وحديث عقبة في مسلم أيضًا (1924). (5) وانظر «فتح الباري»: (13/ 295). (6) (ص 136، 177).
(12/181)
قال: (ومن أحاديث «الجامع الصغير» للسيوطي التي أشير عليها بالصحة). أقول: ليست تلك الإشارة معتمدة دائمًا. وذكر حديث: «الشام صفوة الله ... الخ» (1)، وهو في «المستدرك» (4: 509) قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، تعقَّبه الذهبيّ فقال: «كلّا وعُفير هالك» يعني أحد رجال سنده. وذكر حديث: «طوبى للشام ... الخ» وهذا جاء من حديث زيد بن ثابت (2)، وصحّحه الحاكم وغيره من المتأخرين، وفي صحته نظر. وذكر حديث: «ليبعثنَّ الله من مدينة الشام الخ» (3) وهذا رُوي من حديث عمر، وفي سنده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، ضعيف مختلط. وقال في حاشية ص 132: (هذا هو الحديث الصحيح الخ). _________ (1) وأخرجه الطبراني في «الكبير»: (8/ 171)، ومن طريقه ابن عساكر (1/ 119). (2) أخرجه أحمد (21606)، وابن أبي شيبة (19795)، والترمذي (3954)، وابن حبان (7304)، والحاكم: (2/ 229) وغيرهم من طرقٍ عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن زيد بن ثابت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «طوبى للشام» فقيل: ولِم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إن الملائكة باسطة أجنحتها عليه». قال الترمذي: «حسن غريب»، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وأخرجه الطبراني في «الكبير»: (5/ 158) بلفظ: «إن الرحمن لَباسطٌ رحمته عليه». وهو اللفظ الذي ذكره أبو ريَّة. وقد تفرَّد به أحمد بن رشدين المصري وهو ضعيف جدًّا. انظر «السلسلة الضعيفة» (6777). (3) أخرجه أحمد (120)، والبزار (317)، وأخرجه الحاكم من طريق آخر: «3/ 88 ــ 89) وصححه، وتعقبه الذهبي بأنه منكر. وقد ضعفه ابن كثير في «مسند الفاروق»: (2/ 702)، وانظر: «السلسلة الضعيفة» (4367).
(12/182)
أقول: راجع (ص 86) (1). وذكر ص 134 فصلًا لصاحب «المنار» في الحطِّ على كعب ووهب، وقد تقدم ما يكفي (2). وفيه ص 135: ( ... فمن المعتاد المعهود من طباع البشر أن يصدّقوا كل خبر لا يظهر لهم دليل على تهمة قائله فيه ولا بطلانه في نفسه، فإذا صدَّق بعض الصحابة كعب الأحبار في بعض مفترياته التي كان يوهمهم [ص 94] أنه أخذها من التوراة أو من غيرها من كتب أنبياء بني إسرائيل وهو من أحبارهم أو في غير ذلك، فلا يستلزم هذا إساءة الظن بهم (3)). أقول: أما من أسلم من أهل الكتاب وظهر حُسْنُ إسلامه وصلاحُه، فأخبر عن صحف أهل الكتاب بشيء، فلا إشكال في تصديق بعض الصحابة له في ذلك، بمعنى ظنّ أن معنى ذاك الخبر موجود في صحف أهل الكتاب، وإنما المدفوع تصديق الصحابة ما في صحف أهل الكتاب حينئذٍ، مع علمهم بأنها قد غُيّرت وبُدّلت، وقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصدِّقوا أهلَ الكتاب ولا تكذّبوهم» (4). وقد مرَّ كلام ابن عباس وغيره في ذلك (راجع ص 68 و 89) (5) فالحقّ أنهم لم يكونوا يصدّقونها إلا أن يوجد دليل على صدقها، وذلك كخبر عبد الله بن عمرو عن صفة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، ولذلك أقسم _________ (1) (ص 168 ــ 169). (2) (ص 135 ــ 138 وما بعدها). (3) عند أبي ريَّة: «فيهم». (4) تقدم تخريجه (ص 134). (5) (ص 133 ــ 134 و 173 ــ 174).
(12/183)
عليه (راجع ص 71) (1)، فأما ماعدا ذلك فغاية الأمر أنهم إذا وجدوا الخبر لا يدفعه العقلُ ولا الشرعُ ولا هو من مظِنّة اختلاق أهل الكتاب وتحريفهم أَنِسُوا به، فإن كان مع ذلك مناسبًا في الجملة لآيةٍ من القرآن أو حديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مالوا إلى تصديقه. وإخبار الإنسان عما يعلم السامعون أنه لم يدركه لا يعطي أنه جازم بتصديقه، لأنَّ مثل هذا الخبر كالمتضمّن لقوله: «بلغني ... ». قال أبو ريَّة ص 137: (الكيد السياسي الخ). ثم ذكر قصة عبد الله بن سبأ، وقد نقدها الدكتور طه حسين في «الفتنة الكبرى» (2) فأجاد. وقال ص 138: (وقد وضع كعب يده في يد ابن سبأ الخ). أقول: هذا تخيُّل صِرْف. قال: (فقد روى وكيع عن الأعمش عن أبي صالح الخ). أقول: يُنظر السند إلى وكيع (3)، والأعمشُ مدلّس، وأبو صالح لم يتبيّن إدراكه للقصة. ولو صحت لَمَا دلَّت إلا على أحد أمرين: إما أن كعبًا وجد ذلك في صُحُفِه، كما يشهد له ما أخبر به ابن الزبير (4)، وإما أنه كان عميق النظر وبعيده. _________ (1) (ص 139 ــ 141). (2) (ص 90 ــ 94). وانظر نقد الأستاذ محمود شاكر لطه حسين في «جمهرة المقالات»: (1/ 515 وما بعدها). (3) أخرجه وكيع في «نسخته عن الأعمش» (35)، وأخرجه ابن أبي شيبة (38248) عن وكيع به، وابن سعد في «الطبقات»: (6/ 19) عن وكيع وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش. فالسند صحيح إليه. (4) انظر ما سبق (ص 176).
(12/184)
قال ص 139: (وصفوة القول في هؤلاء اليهود الخ). أقول: الكيد اليهودي المحقَّق كيد جولدزيهر وإخوانه المستشرقين المحاولين تصوير الصحابة في صورة مغفَّلين خرافيين يتلاعب بهم (1) كعب، وأبو ريَّة ممن سقط فريسة لهذا الكيد، ثم عاد فارسًا من فرسانه! * * * * _________ (1) (ط): «لهم»، ولعلَّ الصواب ما أثبت.
(12/185)
المسيحيات [ص 95] وذكر ص 140: (المسيحيات في الحديث الخ). وذكر تميمًا الداريَّ رضي الله عنه فافترى عليه، وعلّق في الحاشية أن تحوّله إلى الشام بعد قتل عثمان كان لتمكين الفتنة، والناس يعرفون أنه إنما أتاها لأنها وطنه. وذكر ص 141 حديث الجسّاسة، وكلام صاحب «المنار» (1) فيه وقوله: (النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعلم الغيب ... وكثيرًا ما صَدَّق المنافقين والكفار الخ). أقول: قد مرّ (ص 19) (2) أنه لم يثبت أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صدَّق كاذبًا، وإنما كان إذا احتمل عنده خبر إنسان أن يكون صدقًا وأن يكون كذبًا يبني على احتمال صِدْقه ما لا يرى ببنائه عليه بأسًا. والفرق بين القضايا التي تقدمت هناك وبين خبر الجسَّاسة عظيم جدًّا. والأحاديث الثابتة في شأن الدجّال كثيرة، ويُعلم منها أن كثيرًا من شأنه خارج عن العادة. وكما أن الملائكة قد يأذن الله لهم فيتمثَّلون بشرًا يراهم من حَضَر، ثبت ذلك بالقرآن في قصة الملائكة مع إبراهيم ومع لوط، وفي تمثّل المَلَك لمريم وغير ذلك، وثبت في السنة في عدة أحاديث، فكذلك قد يأذن الله تعالى للشياطين ــ لحكمة خاصة ــ فيتمثلون في صور يراها مَنْ حَضَر. فأما الجسّاسة فشيطان، وأما الدجّال فقد قال بعضهم: إنه شيطان، وعلى هذا فلا إشكال. كشف الله تعالى لتميم وأصحابه فرأوا الدجال _________ (1) (19/ 99 ــ 100). (2) (ص 38 ــ 39).
(12/186)
وجساسته وخاطبوهما، ثم عاد حالهما إلى طبيعة الشياطين من الاستتار. وإن كان الدجال إنسانًا فلا أرى ذاك إلا شيطانًا مثل في صورة الدجال؛ لأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال في أواخر حياته: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» (1). انظر «فتح الباري» (2: 61) (2). والحكمة في كشف الله تعالى لتميم وأصحابه عما كشف لهم عنه أن يخبروا بذلك فيكون موافقًا لما كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخبر به، فيزداد المسلمون وثوقًا به. وهذا بيِّن في الحديث؛ إذ قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكره لتميم: «وحدثني حديثًا وافق الذي كنتُ أحدثكم عن مسيح الدجال» ثم قال: «ألا هل كنتُ حدَّثتكم ذلك؟» فقال الناس: نعم. فقال: «فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة». وقال ص 144: (ومن المسيحيات في الحديث: ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن [ص 96] في الحجاب. وفي رواية .... إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا، غير مريم وابنها ... ». ثم قال: «وفِقْهُ هذا الحديث الذي سمعه الصحابي الجليل ... حتى الرسل نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وعلى جميع النبيين. فانظر واعجب). أقول: أما المؤمن فيعجب من جرأة أبي ريَّة وتحكّمه بجهله على ربّ العالمين أحكم الحاكمين عالم الغيب والشهادة. إن هؤلاء الرسل نُبِّئوا بعد أن بَلَغَ كلٌّ منهم أربعين سنة، وقد آتى الله تعالى يحيى وعيسى النبوّة في _________ (1) أخرجه البخاري (116)، ومسلم (2537) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (2) لم أجد في الموضع المشار إليه شيئًا، فلعله وقع خطأ في الإحالة. وانظر (10/ 556).
(12/187)
صباهما، وقال الله تعالى في مريم وعيسى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 29 - 33] هل يجحد أبو ريَّة هذا؟ أم يجحد قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 75 - 76] الآيات؟ وقول الله تعالى لخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ونحوها من الآيات؟ أما المؤمنون فيؤمنون بهذا كله، ويؤمنون بأنبياء الله كلهم، لا يفرِّقون بين أحد منهم ولا يخوضون في المفاضلة بينهم اتباعًا للهوى. وأرجو أن لا يكون من ذلك ما يلجئ إليه مقتضى الحال هنا مما يأتي. إن الفضل الذي يعتدّ به كمالًا تامًّا للإنسان هو ما كان بسعيه واجتهاده، ومن هنا كان فضل الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام. أما طعن الشيطان بيده فليس مِن شأنه أن يُثاب العبد على سلامته منه ولا أن يعاقَب على وقوعه له، بل إن كان من شأنه أن يورث في نفس الإنسان استعدادًا ما لوسوسته، فالذي يناله ذلك ثم يجاهد بسعيه ويخالف الشيطان ويتغلَّب علىه أَوْلى بالفضل ممن لم يَنَلْه. ثم ذهب ــ قاتله الله ــ يسخر من حديث شقّ صدره - صلى الله عليه وسلم -، قال: (ولم يقفوا
(12/188)
عند ذلك [ص 97] بل كان من رواياتهم أن النبيّ لم ينج من نخسة الشيطان إلا بعد أن نفذت إلى قلبه، وكان ذلك بعملية جراحية ... وكأن العملية الأولى لم تنجح فأعيد شقّ صدره ... ). أقول: لم يكن شقّ الصدر لإزالة أثر النّخْسَة كما زعم، وإنما كان لتطهير القلب من شيء يخلق لكلّ إنسان بمقتضى أنه خُلِق ليبتلى. أما تكراره فقد أنكره بعضهم كما في «الفتح» (1) حملًا لما ورد من ذلك على خطأ بعض الرواة. وفي «صحيح مسلم» (2) ذِكْر وقوعه في الطفولة وعند الإسراء، وقال في الأول: «أتاه جبريل ... فاستخرج منه عَلَقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله ... ». وقال في حديث الإسراء: «فنزل جبريل ففتح صدري ثم غسله ... ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغها في صدري». فليس في الثاني ذِكْر إخراج القلب ولا إخراج عَلَقة منه، ولا ذكر حظ الشيطان، وإنما فيه ذكر الصدر وزيادة ذكر إفراغ الحكمة والإيمان فيه، فتبيَّن أن المقصود ثانيًا غير المقصود أولًا، وأن كلًّا من المقصودَيْنِ مناسب لوقت وقوعه. وفي «الفتح» (3): «قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شقّ قلبه مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيمانًا وحكمة بدون شق: الزيادة في قوَّة اليقين، لأنه أُعطي برؤية شقّ بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمِنَ معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس وأعلاهم حالًا ومقالًا، ولذلك وُصِف بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]». _________ (1) (7/ 204). (2) (163). (3) (7/ 206).
(12/189)
أقول: وحكمة عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى أدقُّ وأخفى من أن يحيط بها البشر. قال أبو ريَّة ص 146: (وإن هذه العملية الجراحية لتشبه من بعض الوجوه عملية صلب السيد المسيح عليه السلام، وهو لم يرتكب ذنبًا يستوجب هذا الصلب، وإنما ذكروا ذلك ليغفر الله خطيئة آدم ... ). أقول: شقُّ الصدر لم يؤلمه - صلى الله عليه وسلم - البتة، وليس هو لتكفير ذنبه ولا ذنب غيره، فأين هو ــ قاتلك الله ــ من خرافة الصَّلْب؟ قال: (ولئن قال المسلمون ... ولم لا يغفر الله لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية ... ، قيل لهم: ولِم لم يخلق الله قلب رسوله الذي اصطفاه كما خلق قلوب إخوانه المرسلين؟ ). أقول: أما المسلمون فلا يقولون ما زعمتَ، وإنما يقولون: كيف يذنب آدم وهو عبد من عبيد الله فيعاقب الله عيسى، وهو عند زاعمي ذلك «ابن الله الوحيد» بتلك العقوبة القاسية التي تألّم [ص 98] لها عيسى بزعمهم أبلغ الألم، وصرخ بأعلى صوته: «إيلي إيلي، لِمَ شبقتني» أي: إلهي إلهي لِمَ تركتني؟ ثم من أين علمتَ أن قلوب سائر المرسلين لم تُخلق كما خُلق قلب محمد؟ فقد تكون خُلِقت سواء وخُصَّ محمد بهذا التطهير أو طهرت أيضًا بهذه الوسيلة أو غيرها {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. وعلَّق ص 144 بحكاية شيء من هَذَر القسوس، وفيما تقدم كفاية. وقال ص 147: (ولا أدري والله أين ذهبوا مما جاء في سورة الحجر الخ).
(12/190)
أقول: فأين يذهب أبو ريَّة من تَدْلية الشيطان لآدم إلى أن كان ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] ومِن قول موسى بعد قتله القبطي: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 15 - 16]، ومن قول أيوب: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [? ص: 41]، وقول الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 199 - 201]. أما آية الحجر فعلى المشهور أن المراد بقوله: {إِنَّ عِبَادِي} [الحجر: 42] عباده المخلصون خاصة، فقوله: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] معناه والله أعلم: لن تُسَلَّط على إغوائهم الإغواء اللازم، لأن الكلام فيه لتقدم قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [? ص: 82] وهذا لا ينافي أن يُسلَّط على بعضهم لإغواء عارض، أو لإلحاق ضرر لا يضر الدين. ثم ذكر ص 147 ــ عن الرازي وغيره ــ: أن الخبر على خلاف الدليل لوجوه (أحدها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر، والصبي ليس كذلك). أقول: ومن قال: إنّ النخسة دعاء إلى الشر؟ بل إن كانت للإيلام فقط فذلك من خُبْث الشيطان، مُكِّنَ منها كما مُكِّن مما أصاب أيوب، وكما يمكَّن الكفار من قتل المسلمين ــ حتى الأنبياء ــ وذبح أطفالهم. وإن كانت لإحداث أمرٍ مِن شأنه أن يورث القلب قبولًا ما للوسوسة بعد الكِبَر، فهذا لا يستدعي معرفة الخير والشر في الحال، والتمكين من هذا كالتمكين من الوسوسة والتزيين، وذلك من تمام أصل الابتلاء.
(12/191)
[ص 99] قال: (الثاني: أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم). أقول: من أين يلزم من التمكّن مِن حَمْل رجل، التمكّن مِن حمل جبل؟ والشيطان لا يتمكَّن إلا إن مكَّنه الله تعالى، فإذا مكَّنه الله تعالى من أمر خاص فمن أين يلزم تمكّنه من غيره؟ قال: (والثالث: لِمَ خُصَّ بهذا الاستثناء مريم وعيسى ... )؟ أقول: قد تقدَّم الجواب عن هذا (1). قال: (الرابع: أن ذلك النخس لو وُجِد لبقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء). أقول: أرأيت إذا عركت أذن الطفل فأَلِمَ وبكى، أيستمر الألم والبكاء؟ ثم ذكر عن الشيخ محمد عبده كلامًا فيه: (فهو من الأخبار الظنية لأنها من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمانُ بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] كنا غير مكلفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا). أقول: لا نزاع أن الدليل الظنيّ لا يوجب الإيمان القاطع، لكنه يوجب التصديق الظنيّ، وكيف لا وظنّ ثبوت الدليل يوجب ضرورةً ظنّ ثبوت المدلول. أما قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] فلي فيه بحثٌ طويل حاصله (2): أن تدبُّر مواقع «يغني» في القرآن وغيره، وتدبّر _________ (1) (ص 187 ــ 188). (2) انظره في «رسائل التفسير» (ص 292 - 302)، وله أيضًا كلام طويل فيه في رسالة «فرضية اتباع السنة» ضمن رسائل الأصول. كلاهما ضمن هذه الموسوعة.
(12/192)
سياق الآية؛ يقضي بأن المعنى: إنّ الظن لا يدفع شيئًا من الحقّ، وبعبارة أهل الأصول: الظني لا يُعارِضُ القطعي (1). قال ص 148: (ابن جريج الخ). أقول: راجع (ص 68) (2). ثم قال: (ومن شاء أن يستزيد من معرفة الإسرائيليات والمسيحيات وغيرها في الدين الإسلامي فليرجع إلى التفسير والحديث والتاريخ، وإلى كتب المستشرقين أمثال جولد زيهر وفون كريمر وغيرهما). أقول: هذا موضع المثل: «صَدَقَني سِنَّ (3) بَكْرِه». وقوله: (في الدين الإسلامي) لها مغزاها، فأبو ريَّة ــ كما تعطيه هذه الكلمة والله أعلم ــ يرى في القرآن نحو ما جَهَر به في الحديث، وتقديمه لجولد زيهر اليهودي يؤيد ما قدمته (ص 94) (4)، وكُتُب جولد زيهر في الطعن في الإسلام والقرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - معروفة (5)، وقد أحالك أبو ريَّة عليها، والله المستعان. _________ (1) وانظر ما يأتي ص 176 [ص 335 ــ 337]. [المؤلف]. (2) (ص 133) والحاشية. (3) تحرف في (ط): «من». والمثل يُضرب لمن يخبرك بِسِرِّه. وفيه قصة. انظر «المستقصى»: (2/ 140)، و «فصل المقال» (ص 40 ــ 41). ويجوز في «سن» الرفع والنصب. (4) (ص 183 ــ 184). (5) انظر «السنة ومكانتها» (ص 189 ـ فما بعدها) للسباعي، في نقد جولد زيهر وطعونه في القرآن والسنة.
(12/193)
[ص 100] أبو هريرة وقال أبو ريَّة ص 151: (أبو هريرة: لو كانت أحاديث رسول الله كلها من الدين العام كالقرآن لا يقوم إلا عليها ولا يؤخذ إلا منها، وأنه يجب على كلّ مسلم أن يعرفها ويتبع ما فيها، وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه أن يحفظوا هذه الأحاديث لكي تؤثر بعده، لكان أكثر الصحابة رواية لها أعلاهم درجة في الدين ... ). أقول: قدمنا الكلام في نظرية: «دين عام ودين خاص» (ص 14 - 17)، و (ص 31 - 35) (1). ولم يوجب الله تعالى على كلّ مسلم معرفة القرآن نفسه سوى الفاتحة لوجوبها في الصلاة. وأمّا الاتباع: فطريقته أن العلماء يعرفون ويجتهدون، والعامة تسألهم عند الحاجة، فيفتونهم بما علموا من الكتاب والسنة. وكان الصحابة مأمورين بأن يبلِّغ كلٌّ منهم عند الحاجة ما حفظه، والذين حفظوا القرآن كلَّه في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليسوا مِنْ أكابر الصحابة، وقد مات أبو بكر وعمر قبل أن يستوفي كلٌّ منهما القرآنَ حفظًا (2). وكان هناك عملان: الأول: التلقي من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، الثاني: الأداء، فأما التلقّي فلم يكن في وُسع الصحابة أن يلازموا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ملازمةً مستمرَّة، وإذ كان أنس وأبو هريرة ملازمين للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لخدمته فلابدّ أن يتلقّيا مِن الأحاديث أكثر مما تلقاه المشتغلون بالتجارة والزراعة. على أن أبا هريرة لحرصه على العلم تلقَّى ممن سبقه إلى الصُّحبة ما عندهم من الأحاديث، فربما رواها عنهم وربما قال فيها: «قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ... » كما شاركه غيره منهم في مثل هذا الإرسال لكمال وثوق بعضهم ببعض، _________ (1) (ص 29 ــ 36، وص 61 ــ 69). (2) انظر ما سبق (ص 63).
(12/194)
وقد ثبت أنه سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة فقال: «لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولَ منك لما رأيت من حرصك على الحديث، ... » أخرجه البخاري في «صحيحه» (1)، وتأتي أخبار كثيرة لإثبات هذا المعنى. وأما الأداء فإنما عاش أبو بكر زمن الأداء نحو سنتين مشغولًا بتدبير أمور المسلمين، وعاش عمر مدَّة أبي بكر مشغولًا بالوزارة والتجارة، وبعده مشغولًا بتدبير أمور المسلمين. وفي «المستدرك» (98: 1) (2): أنَّ معاذ بن جبل أوصى أصحابه أن يطلبوا العلم وسمَّى لهم: أبا الدرداء وسلمان وابن مسعود وعبد الله بن سلام. فقال يزيد بن عَميرة: وعند عمر بن الخطاب؟ فقال معاذ: «لا تسأله عن شيء، فإنه عنك مشغول». وعاش عثمان وعليّ مشغولَيْنِ بالوزارة وغيرها ثم الخلافة [ص 101] ومصارعة الفتن. وكان الراغبون في طلب العلم يتهيَّبون هؤلاء ونظراءهم، ويرون أن جميع الصحابة ثقات أُمناء، فيكتفون بمن دون أولئك، وكان هؤلاء الأكابر يرون أنه لا يتحتَّم عليهم التبليغ إلا عندما تدعو الحاجة، ويرون أنه إذا (3) جرى العمل على ذلك فلن يضيع شيء من السنة؛ لأن الصحابة كثير، ومدة بقائهم ستطول، وعروض المناسبات التي تدعو الحاجة فيها إلى التبليغ كثير، وفوق ذلك فقد تكفَّل الله عزّ وجلّ بحفظ شريعته، وكانوا مع ذلك _________ (1) (99). (2) أصله عند الترمذي (3804)، والنسائي «الكبرى» (8196)، وأحمد (22104)، وابن حبان (7165) وغيرهم دون قوله: «فقال يزيد بن عَميرة: وعند عمر ... » قال الترمذي: حسن غريب، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. (3) (ط): «إذ».
(12/195)
يشدّدون على أنفسهم خشية الغلط، ويرون أنه إذا كان من أحدٍ منهم خطأ وقت وجوب التبليغ فهو معذور قطعًا، بخلاف من حدَّث قبل الحاجة فأخطأ، وكانوا مع ذلك يحبون أن يكفيهم غيرهم، ومع هذا فقد حدَّثوا بأحاديث عديدة، وبلغهم عن بعضهم أنه يكثر من التحديث فلم يزعموا أنه أتى منكرًا، وإنما حُكي عن بعضهم ما يدل أنه يرى الإكثار خلاف الأَوْلَى. فأما زعمُ أبي ريَّة أنهم كانوا (يرغبون عن رواية الحديث وينهون إخوانهم عنها .. ) فقد تقدم تفنيده (ص 30) (1). وذكر أبو ريَّة كثرةَ حديث أبي هريرة وقال ص 152: (على حين أنه كان من عامة الصحابة، وكان بينهم لا في العير ولا في النفير) وسَيَبْسط هذا ص 184 وننظر فيه (2). وقال ص 152: (الاختلاف في اسمه الخ). أقول: وماذا يضره ذلك؟ إنما المقصود من الاسم المعرفة وقد عُرِف بأبي هريرة، وأصحّ ما قيل في اسمه: عبد الله أو عبد الرحمن، وهو على ما نسبه ابنُ الكلبي وغيره (3): ابن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبّه بن سعد بن ثعلبة بن سُليم بن فَهْم بن غَنْم بن دوس بن عُدْثان بن عبد الله بن زَهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأَزْد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان الأزدي ثم الدوسي، وأمه: أُميمة بنت صفيح بن الحارث بن سابي بن أبي صعب الخ. _________ (1) (ص 59 ــ 60). (2) انظر (ص 282 فما بعدها). (3) انظر «نسب معد واليمن الكبير»: (2/ 492)، و «الجمهرة» (ص 381 ــ 382) لابن حزم.
(12/196)
قال ص 153: (نشأته وأصله ... لم يعرفوا شيئًا عن نشأته ولا عن تاريخه قبل إسلامه غير ما ذكر هو عن نفسه ... : نشأت يتيمًا وهاجرت مسكينًا وكنت أجيرًا لبُسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رِجْلي، فكنت أخدم إذا نزلوا وأحدوا إذا ركبوا، وكنيت بأبي هريرة بهرَّةٍ صغيرة كنتُ ألعب بها). [ص 102] أقول: أما أصله فقد تقدم، وهو من قبيلة شريفة كريمة عزيزة. وأما نشأته فما أكثر الصحابة الذين لا تُعرف نشأتهم، حتى من خيارهم وكبارهم. وأما قوله: «نشأتُ يتيمًا الخ» (1) فهذه القصة رُويت من أوجه في إسناد كلٍّ منها مقال، ومجموعها يُثْبت أصلَ القصة، فأما الألفاظ التي تنفرد بها بعض الروايات فلا، وفي «الإصابة» (2): أن بُسْرة هذه أخت عتبة بن غزوان السلمي. وبلاد دوس بعيدة جدًّا عن بلاد بني سُليم، فيظهر أن أبا هريرة في هجرته إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ ببلاد بني سُليم أو قريبًا منها، فوجد رفقة راحلين نحو المدينة وفيهم بُسْرة هذه، فصحبهم على أن يخدمهم في الطريق ويطعموه ويُعْقِبوه. ولا يدفع هذا ما ثبت عنه في «صحيح البخاري» (3) مِن قوله: «لما قدمتُ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قلت في الطريق: يا ليلةً من طولها وعنائها ... على أنها من دارة الكفر نَجَّت قال: وأَبَقَ لي غلام في الطريق، فلما قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعته، فبَيْنَا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال: «يا أبا هريرة هذا غلامك»، فقلتُ: هو حرٌّ _________ (1) أخرج القصة ابن ماجه (2445)، وابن حبان (7150)، والبيهقي: (6/ 120) وغيرهم. وفي سندها حيان بن بسطام بن مسلم لم يوثقه غير ابن حبان. (2) (7/ 537). (3) (2530، 2531).
(12/197)
لوجه الله. فأعتقته» انظر «فتح الباري» (8/ 79) (1) فقد يكون الغلامُ أبقَ منه قبل صحبته للرفقة. وبهذا تبَّين أن في القصة مَنْقَبتَيْنِ له: الأولى: أن إخدامه لنفسه إنما كان ليبلغ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودار الإسلام. والثانية: أنه مع قلة ذات يده أعتق غلامه، شكرًا لله تعالى على إبلاغه مقصده. وفي القصة عبرة بالغة، فإنه لما أذلَّ نفسَه بخدمة تلك المرأة استعانةً على الهجرة في سبيل الله عوَّضه الله تعالى بأن زوَّجه إياها تخدمه فوق ما خَدَمها. ثم كان على طريقته في التواضع والتحديث بالنعمة والاعتبار مع الميل إلى المزاح يذكر هذه القصة ويشير إلى تكليف امرأته بخدمته على نحو ما كانت تكلِّفه. وقد يكون وقع منه ذلك مرة أو مرتين على سبيل المزاح ومداعبة الأهل وتحقيق العبرة. وقد ثبت عن أبي المتوكل الناجي ــ وهو ثقة ــ: «أن أبا هريرة كانت له أَمَة زنجية قد غمَّتهم بعملها، فرفع عليها السوط يومًا ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوجَ ما أكونُ إليه (يعني الله عز وجل) اذهبي فأنت حرة لله عز وجل» انظر «البداية» (112: 8) (2). فمَنْ كانت هذه حاله مع أَمةٍ مهينة، فما عسى أن تكون حاله مع امرأته الحرَّة الشريفة؟ ولكن أبا ريَّة ذكر ص 187 بعض الألفاظ التي انفردت بها بعض الروايات (3)، ثم راح يسبّ أبا هريرة رضي الله عنه ويرميه بما هو من _________ (1) (8/ 102). (2) (11/ 385 ــ دار هجر). وأخرجه أحمد في «الزهد» (ص 177). (3) منها: «فكلفتها أن تركب قائمة وأن تورد حافية» وأصح من هذه الرواية ما في «كنز العمال» (82: 7) عن عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن ابن سيرين «فقلت: لتوردنه حافية ولتركبنه وهو قائم». وأصح من هذا: ما أسنده ابن سعد في «الطبقات» (532: 4) عن ابن سيرين « ... ولتركبنه قائمة» فلعل بعض الرواة لم يفهم النكتة فغيَّر اللفظ، وأي حرج عليها أن تركب البعير باركًا وهي قائمة عند الركوب وتكون حافية وهي راكبة؟ وفي رواية عبد الرزاق قول ابن سيرين: «وكانت في أبي هريرة مزاحة» وقد يكون مازَحَها بهذا القول، ثم لم يكن إيراد ولا ركوب. [المؤلف].
(12/198)
أبعد الناس عنه. [ص 103] وهذا مما يوضِّح أن أبا ريَّة ليس بصدد بحثٍ علمي، إنما صدره محشوٌّ براكين من الغيظ والغِلّ والحقد، يحاول أن يخلق المناسبات للترويح عن نفسه منها، كأنه لا يؤمن بقول الله عز وجل في أصحاب نبيه: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ولا يصدّق بدعاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة وأُمه: أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين كما في ترجمته في فضائل الصحابة من «صحيح مسلم» (1). وقال ص 153: (إسلامه. قَدِم أبو هريرة بعد أن تخطَّى الثلاثين من عمره). أقول: كذا زعم الواقدي عن كثير بن زيد عن الوليد بن أبي رياح عن أبي هريرة. والواقدي متروك، وكثير ضعيف، وقد قال الواقدي نفسه: إن أبا هريرة مات سنة 59 وعمره 78 (2)، ومقتضى هذا أن يكون عمره عند قدومه سنة سبع نحو ست وعشرين سنة، وهذا أشبه. والله أعلم. وفي الصحابة الطُّفيل بن عَمْرو الدوسي، وهو من رهط أبي هريرة بني ثعلبة بن سُليم بن فَهْم، أسلم قبل الهجرة وقصته مطولة في السيرة وغيرها، _________ (1) (2491). (2) انظر «الطبقات الكبرى»: (5/ 257) لابن سعد.
(12/199)
وفي ترجمته من «الإصابة» (1): أنه لما عاد بعد إسلامه إلى قومه ــ وذلك قبل الهجرة بمدة ــ دعا قومه إلى الإسلام فلم يجبه إلا أبوه وأبو هريرة. فعلى هذا يكون إسلام أبي هريرة قبل الهجرة، وإنما تأخرت هجرته إلى زمن خيبر. وذكر أبو ريَّة ص 153 مقاولةَ أبي هريرة وأبان بن سعيد بن العاص وقول أبان: «واعجبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى علينا من قدوم ضأن» وعلَّق في الحاشية (الوبر دابة ... والمعنى أن أبا هريرة ملتصق في قريش، وشبَّهه بما يعلق بوبر الشاة). وهذا من تحقيق أبي ريَّة! وليس أبو هريرة من قريش في شيء لا مُلْصق ولا غير مُلْصق. وقوله: (وشَبَّهه) يقتضي أن الرواية (وَبَر) بالتحريك، ولو كان كذلك لما بقي لقوله: (الوبر دابة .. ) معنى، وعلَّق أيضًا: (ومما يلفت النظر أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذ أبانًا بما أغلظ لأبي هريرة) وأقول: ليس ذاك بإغلاظ، مع أنه إنما كان جوابًا ومكافأة. وقال ص 154: (ولفقره اتخذ سبيله إلى الصُّفَّة، فكان أشهر مَنْ أَمَّها، ثم صار عريفًا لمن كانوا يسكنونها) وعلَّق عليها عن أبي الفداء تعريفًا لأهل الصّفُّة كما توهَّم، وقد عرَّفهم أبو هريرة رضي الله عنه التعريفَ الحقَّ فقال كما في «الصحيحين» وغيرهما (2): «وأهل الصفة أضياف الإسلام [ص 104] لا يأوون على أهل ولا مال الخ». وقد قال الله تبارك وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 273]. كان للأنصار _________ (1) (3/ 522). (2) البخاري (6452)، ولم أجده في مسلم، وأخرجه أحمد (10679)، والترمذي (2477).
(12/200)
حوائط يعملون فيها ويأكلون من غلَّتها، وكان كثير من المهاجرين يتاجرون. ومن الواضح أنَّ التجارة في المدينة ــ وهي مَحوطة بالمشركين من كلِّ جانب ــ لم تكن لتتسع للمهاجرين كلهم، فبقي بعضهم بالصُّفَّة، وكان أهل الصُّفة يقومون بفروض عظيمة، منها: تلقِّي القرآن والسنن، فكانت الصُّفة مدرسة الإسلام، ومنها حراسة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومنها الاستعداد لتنفيذ أوامره وحاجاته في طلب من يريد طلبه من المسلمين وغير ذلك. كانوا قائمين بهذه الفروض عن المسلمين، فكانت نفقتهم على سائر المسلمين وإن سُمِّيَت صدقة. وكانوا بجوار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤْثرهم على نفسه وأهل بيته، وقد حدَّث عليّ رضي الله عنه أنه قال لفاطمة عليها السلام يومًا: «والله لقد سنوتُ حتى لقد اشتكيتُ صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي ... » الحديث، وفيه أنهما أتيا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرا له ذلك فقال: «والله لا أعطيكما وأدعُ أهلَ الصُّفَّة تطوي بطونُهم لا أجد ما أنفق عليهم ... » الحديث، انظر «مسند أحمد» الحديث (838) (1). وكان أبو هريرة من بين أهل الصُّفَّة يخدم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويدور معه، فلم يكن ليجوع إلا والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته جياع، فهل في ذلك الجوع من عيب؟ وأمّا تعُّرضه لبعض الصحابة رجاء أن يطعمه، فإنما فعل ذلك مرة أو مرتين لشدَّة الضرورة، ولم يكن في تعرّضه سؤال ولا ذكر لجوعه. وقد نقل الله تعالى في كتابه أن موسى والخضر مرَّا بأهل قرية فاستطعماهم (2)، وانظر _________ (1) وأخرجه ابن أبي شيبة (29956)، وابن ماجه (4152) وغيرهم. وانظر حاشية المسند: (2/ 203). (2) الآية (77) من سورة الكهف.
(12/201)
تفسير سورة التكاثر من «تفسير ابن كثير» (1). هذا، وقد عدّ أهل العلم ــ كما في «الحلية» (2) ــ جماعةً من المشاهير في أهل الصُّفَّة، منهم: سعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وزيد بن الخطَّاب، وعبد الله بن مسعود، وصُهَيب، وسلمان، والمِقْداد وغيرهم. ثم قال أبو ريَّة ص 154: (سبب صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -. كان أبو هريرة صريحًا صادقًا في الإبانة عن سبب صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ... فلم يقل إنه صاحبه للمحبة والهداية كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين، وإنما قال: إنه قد صاحبه على ملء بطنه، ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول [ص 105]: «إني كنت امرءًا مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني». ورواية مسلم «أخدم رسول الله» وفي رواية: «لشبع بطني»). أقول: حاصل هذا أنّ الواقع في رواية الإمام أحمد والبخاري: «أصحب» وهذا خلاف الواقع، فرواية أحمد وهو الحديث (7273) (3): «حدثنا سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله الموعد، إني كنت امرءًا مسكينًا ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مِلءِ بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم ... ». _________ (1) (8/ 3847 ــ 3850). (2) (1/ 92، 100، 367، 124، 151، 185، 172) على التوالي. (3) (7275) ط. الرسالة.
(12/202)
ولفظ البخاري في «صحيحه» (1) في كتاب الاعتصام ــ باب الحجَّة على مَن قال: إن أحكام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كانت ظاهرة الخ. «حدثنا عليّ حدثنا سفيان عن الزهري أنه سمعه (2) مِن الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله الموعد، إني كنت امرءًا مسكينًا ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ». وأخرجه البخاري في مواضع أخرى من وجوه أخرى عن الزهري وفيه: «ألزم» (3)، وفي موضع: «أن أبا هريرة كان يلزم» (4). فأبو هريرة لم يتكلم عن إسلامه ولا هجرته ولا صحبته المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، وإنما تكلَّم عن مزيّته وهي لزومه للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - دونهم، ولم يعلِّل هذه المزيّة بزيادة محبته أو زيادة رغبته في الخير أو العلم أو نحو ذلك مما يجعل له فضيلة على إخوانه، وإنما علَّلها على أسلوبه في التواضع بقوله: «على ملء بطني» فإنه جعل المزية لهم عليه بأنهم أقوياء يسعون في معاشهم وهو مسكين. وهذا والله أدب بالغ تخضع له الأعناق، ولكنّ أبا ريَّة يهتبل تواضع أبي هريرة ويبدل الكلمة ويحرف المعنى، ويركّب العنوانَ على تحريفه، ويحاول صرف الناظر عن التحرِّي والتثبُّت بذكره رواية مسلم؛ ليوهم أنه قد تحرَّى الدقَّة البالغة، ويبني على صنيعه تلك الدعوى الفاجرة (5). _________ (1) (7354). (2) (ط): «سمع»، والمثبت من البخاري. (3) (2047). (4) (118). (5) وقد قال أبو ريَّة في حاشية ص 39: «لعنة الله على الكاذبين متعمدين وغير متعمدين». [المؤلف].
(12/203)
وقد تقدَّم (1) أن أبا هريرة أسلم في بلاده قبل الهجرة، لماذا؟ ثم ترك وطنه للهجرة مؤجِّرًا نفسه في طريقه على طُعْمته وعُقْبته، لماذا؟ ولمَّا شاهد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وجاء غلامُه الذي كان أبق منه أعتقه، لماذا؟ وتقدم (ص 100) (2) شهادة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه أحرص الصحابة على معرفة حديثه، لماذا؟ قال ابن كثير: «وقال سعيد بن أبي هند عن أبي هريرة: إن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: «ألا تسألني مِنْ هذه الغنائم التي سألني أصحابك؟» [ص 106] قال: فقلت: أسألك أن تعلّمني مما علّمك الله .. » «البداية» (111: 8) (3)، لماذا؟ وتقدم (ص 46) (4) قول عمر بن الخطاب: «خفي عليَّ هذا مِنْ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألهاني عنه الصفقُ بالأسواق». وقال طلحة بن عبيد الله لما سئل عن حديث أبي هريرة: «والله ما نشكُّ أنه قد سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع، وعَلِم ما لم نعلم، إنا كنا قومًا أغنياء لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طَرَفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينًا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يدور معه حيث ما دار، فما نشكّ أنه قد عَلِم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع» (5) «البداية» (8: 109) (6). وحدَّث أبو أيوب ــ وهو من كبار الصحابة ــ عن أبي _________ (1) (ص 199). (2) (ص 194). (3) (11/ 382 ــ دار هجر). وأخرجه أبو نعيم في «الحلية»: (1/ 381). (4) (ص 89). (5) و «المستدرك» 3: 512 وقال: صحيح على شرط الشيخين، واقتصر الذهبي على أنه على شرط مسلم. [المؤلف]. وأخرجه أيضًا البزار: (3/ 147)، وأبو يعلى في «مسنده» (636)، والضياء في «المختارة»: (1/ 418). (6) (11/ 376 ــ دار هجر).
(12/204)
هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقيل له في ذلك؟ فقال: «إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع» «البداية» (109: 8) (1). وحدَّث أبو هريرة بحديث، فاستثبته ابن عمر فاستشهد أبو هريرة عائشةَ فشهدت، فقال أبو هريرة: إنه لم يشغلني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرس الوَدِيّ ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمةً يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة كنت أَلْزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمنا بحديثه» «البداية» (8: 109) (2). وقالت عائشة لأبي هريرة: أكثرت الحديث. قال: إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكني أرى ذلك شَغَلكِ عما استكثرتُ من حديثي، قالت: لعله. «البداية» (109: 8) (3). فأنت ترى اعترافهم له، وترى أنّ أدبه البالغ المتقدِّم لم يكن تقية، فإنه لما اقتضى الحال صَدَعَ صَدْعَ الواثقِ المطمئنّ. ثم ذكر أبو ريَّة ص 155 قول أبي هريرة: (كنت أستقرئ الرجلَ الآيةَ وهي معي كي ينقلب فيطعمني، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا). ثم قال أبو رية: (ومن أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعًا .. أخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جعفر بن أبي طالب). _________ (1) (11/ 376). (2) و «المستدرك» 510: 3 وقال: «صحيح»، وأقره الذهبي. [المؤلف]. و «البداية»: (11/ 373). (3) وانظر «المستدرك» 509: 3 وقال: «صحيح»، وأقره الذهبي. [المؤلف]. و «البداية»: (11/ 374). والوَدِيّ: صغار النخل.
(12/205)
أقول: إسناده صحيح إلا أنه غريب، ومن تدبَّر ترجمة جعفر رضي الله عنه لم يستكثر عليه هذا، وفي [ص 107] «فتح الباري» (62: 7) (1) في شرح قوله: «وكان أَخْيَر الناس للمساكين»، ما لفظه: «وهذا التقييد يُحمَل عليه المطلق الذي جاء ... عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال .. ». ثم ذكر ص 156 - 157 حكايات عن الثعالبي والبديع الهَمَذاني وعبد الحسين بن شرف الدين الرافضي، وكلّها من خرافات الرافضة وأشباههم، لا تمتُّ إلى العلم بِصِلَة. ثم قال آخر ص 157: (وأخرج أبو نعيم في «الحلية» الخ). أقول: هو من طريق فَرْقَد السَّبَخي قال: وكان أبو هريرة الخ، وفَرْقد ليس بثقة، ولم يدرك أبا هريرة (2). وقال ص 158: (وفي «الحلية» كذلك: أن أبا هريرة كان في سفر فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه وهو يصلي فقال: إني صائم، فلما كادوا يفرغون، جاء فجعل يأكل الطعام، فنظر القوم إلى رسولهم ... فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: صوم رمضان، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر: صوم الدهر، وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر، فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله). أقول: هذه فضيلة له، وقد وقع مثلها لأبي ذر رضي الله عنه «مسند أحمد» (150: 5) (3) وغيره، وهو الذي قال فيه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما أظلَّت _________ (1) (7/ 76). (2) انظر «تهذيب التهذيب»: (8/ 262 ــ 264). (3) (21339). وأخرجه النسائي في «الكبرى» (9152).
(12/206)
الخضراء ولا أقلَّت الغبراء مِنْ ذي لهجةٍ أصدق مِنْ أبي ذر» (1). قال: (وفي «خاص الخاص» للثعالبي الخ). أقول: ومن هو الثعالبي حتى يقبل قوله بغير سند؟ قال: (وقد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة، فقد سئل: ما المروءة؟ قال: تقوى الله وإصلاح الصنيعة والغداء والعشاء بالأفنية). أقول: ليس في هذا جعل الأكل نفسه من المروءة، وإنما فيه أن من المروءة أن يكون الأكل بالأفنية، يريد بموضع بارز ليدعو صاحبُ الطعام مَن مرَّ ويشاركه من حضر، لا يغلق بابه ويأكل وحده. قال: (وقد أضربنا عن أخبار كثيرة لأن في بعضها ما يزيد في إيلام الحشوية الذين يعيشون بغير عقول) (2). أقول: أما عقول الملحدين الذي يعيشون بلا دين، ومقلِّديهم المغرورين، فنعوذ بالله منها. ثم قال: (حديث: زُر غِبًّا تزدد حبًّا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة الخ). [ص 108] أقول: هذا حديث مذكور في الموضوعات، رُوي عن عليّ وعائشة وابن عباس بطرق كلّها تالفة (3). _________ (1) بهذا اللفظ أخرجه الترمذي (3802)، وابن حبان (7132)، والحاكم: (3/ 342) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وله شاهد من حديث ابن عَمرو، أخرجه أحمد (6630)، والترمذي (3801)، والحاكم: (3/ 342) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن. (2) غيَّر أبو ريَّة هذه العبارة في الطبعات اللاحقة (ص 172 ــ ط السادسة) إلى: «في إيلام بعض الناس». (3) ذكره الشوكاني في «الفوائد المجموعة» (ص 260) ونقل قول الصغاني: إنه موضوع، وقال البزار بعد أن أخرجه (16/ 191): «ليس في «زُر غبًّا ... » حديث صحيح». وانظر «المقاصد الحسنة» (ص 232 ــ 233)، و «العلل المتناهية»: (2/ 739 ــ 743).
(12/207)
ثم قال ص 161: (مزاحه وهذره. أجمع مؤرخو أبي هريرة على أنه كان رجلًا مزّاحًا مهذارًا). أقول: أما المزاح فنعم، ولم يكن في مزاحه ما يُنكر. وأما الهَذَر فأسنده بقوله: «قالت عنه عائشة ... في حديث المِهْراس: إنه كان رجلًا مهذارًا» وهذا باطل، لم تتكلم عائشة في حديث المِهْراس بحرف. انظر «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (300: 2) (1). ثم رأيت الدكتور مصطفى السِّباعي قد بسطَ الكلامَ في هذا في الجزء 9 في المجلد 10 من مجلة المسلمون ص 20. قال أبو ريَّة: (عن أبي رافع قال: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب حمارًا قد شدَّ عليه برذعة وفي رأسه خلية من ليف، فيسير فيلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الأمير. وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الغراب (2) فلا يشعرون بشيء حتى يُلقي نفسَه بينهم ويضرب برجليه فينفر الصبيان فيفرون. وأخرج أبو نعيم في «الحلية» عن ثعلبة بن [أبي] مالك القرظي قال: أقبل أبوهريرة في السوق _________ (1) (2/ 400 ــ دار الفكر). ونقل عن شيخه الحافظ فيما رُوي عن عائشة وابن عباس أنه قال: «لا وجود له في شيء من كتب الحديث، وإنما الذي قال هذا لأبي هريرة رجل يقال له: قين الأشجعي ... ». وكذلك لم يقف عليه الزركشي في «المعتبر» (82)، ولا ابن كثير في «تحفة الطالب» (126، 127)، ولا ابن حجر في «موافقة الخُبر الخبر»: (1/ 461). وإنما جاء عن بعض أصحاب ابن مسعود كما ذكره ابن أبي شيبة (1058)، والبيهقي: (1/ 47 ــ 48). وانظر (ص 236). (2) في البداية [11/ 388]: «الأعراب وهو أمير». [المؤلف].
(12/208)
يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان على المدينة فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن [أبي] مالك. فقلت له: يكفي هذا. فقال: أوسع الطريق للأمير، والحزمة عليه). أقول: إنما كان يتعمّد هذا التبذّل والمزاح حين يكون أميرًا تهاونًا بالإمارة ومناقضةً لما كان يتَّسم به بعض الأمراء من الكِبْر والتعالي على الناس، وكانت إمارة أبي هريرة رحمةً بأهل المدينة، يستريحون إليها من عُبِّيّةِ أمراء بني أمية وعنجهيتهم، وكانت إحياء للسنة، فإن الأمير كان هو الذي يؤمُّ الناس، فكان الأمراء يُغفلون أشياء من السنة كالتبكير (1) في الصلاة وسجود التلاوة وقراءة السّوَر التي كان يقرؤها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك، فكان أبو هريرة إذا ولي كان هو الذي يؤمّ الناس، فيحيي ما أهمله الأمراء من السنن. قال: (ولقد كانوا يتهكّمون برواياته ويتندَّرون عليها لما تفنَّن فيها وأكثر منها، فعن أبي رافع: أن رجلًا من قريش أتى أبا هريرة في حُلة وهو يتبختر فيها فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل سمعته يقول في حُلتي هذه شيئًا؟ فقال: [والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ما حدَّثتُكم بشيء] (2) سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -[ص 109] يقول: «إنّ رجلًا ممن كان قبلكم بينما كان يتبختر في حُلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة»، فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك). أقول: متن الحديث ثابت في «الصحيحين» (3) وغيرهما من حديث _________ (1) (ط): «كالتكبير» تصحيف. (2) هذه الزيادة من مصدر أبي ريَّة نفسه البداية (8: 108) [11/ 374]. [المؤلف]. (3) البخاري (5789)، ومسلم (2088) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والبخاري (3485، 5790) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(12/209)
أبي هريرة ومن حديث ابن عمر، وهو عند أحمد وغيره من حديث ابن عَمرو (1)، ومن حديث أبي سعيد (2)، وجاء من حديث غيرهم (3). وقال الدارمي في «باب تعجيل عقوبة من بَلَغه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حديث فلم يعظِّمه ولم يوقّره ... : عن العجلان عن أبي هريرة» فذكر المتن وقال عَقِبِه: فقال له فتى ــ قد سماه ــ وهو في حُلة له: أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خُسِف به؟ ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسّر منها، فقال أبو هريرة: للمنخرَيْنِ ولِلْفَمِ {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]». أقول: فقد أخزى الله ذاك المستهزئ كما أخزى غيره من المستهزئين بدين الله ورسله وخيار عباده {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]. وقال ص 162: (كثرة أحاديثه) ثم قال ص 163: (وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدِّرة وقال له: «أكثرتَ يا أبا هريرة من الرواية وأحرى بك أن تكون كاذبًا). أقول: لم يَعْزُ هذه الحكاية هنا، وعزاها ص 171 إلى «شرح النهج» لابن أبي الحديد حكايةً عن أبي جعفر الإسكافي، وابن أبي الحديد من دُعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة. والإسكافي من دعاة المعتزلة والرفض أيضًا في القرن الثالث، ولا يعرف له سَنَد، ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة وغيرهم بما فيه انتقاص لأبي بكر وعمر وعليّ وعائشة وغيرهم، وإنما _________ (1) «مسند أحمد» (7074)، وأخرجه الترمذي (2491) وقال: حديث صحيح. (2) أخرجه أحمد (11356). (3) انظر حاشية المسند: (11/ 646).
(12/210)
يتشبَّت بها من لا يعقل. وقد ذكر ابن أبي الحديد (360: 1) (1) أشياء عن الإسكافي من الطعن في أبي هريرة وغيره من الصحابة، وذكر من ذلك شيئًا مِن مزاح أبي هريرة، فقال ابن أبي الحديد: «قلتُ قد ذكر ابن قتيبة هذا كلَّه في كتاب «المعارف» (2) في ترجمة أبي هريرة، وقوله فيه حجة لأنه غير متّهم عليه». وفي هذا إشارة إلى أن الإسكافي متهم. ونحن كما لا نتهم ابن قتيبة قد لا نتهم الإسكافي باختلاق الكذب، ولكن نتهمه بتلقّف الأكاذيب من أفَّاكي أصْحَابه الرافضة والمعتزلة، وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة ولو ذكرها كبار أئمة السنة. فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الإسكافي عمن تقدمه بزمان! قال: (وقد أخرج ابنُ عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس أو بأرض القردة). أقول: عزاه إلى «البداية» (106: 8) (3) ولكن لفظه هناك: « ... دوس، وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأُوَل أو لألحقنَّك بأرض القِرَدة». فأسقط أبو ريَّة هنا ذِكْر كعب، وجمع الكلمتين لأبي هريرة. وله في هذه الحكاية فِعْلة أشنع من هذه: قال ص 30: (وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث أو لألحقنك الخ). أسقط _________ (1) (4/ 69 ــ ت محمد أبو الفضل). (2) (ص 121). (3) (11/ 371 ــ دار هجر).
(12/211)
قوله: «عن الأُوَل» (1) لغرضين: الأول: تقوية [ص 110] دعواه أن عمر كان ينهى عن الحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: ترويج دعوى مَهُولة فاجرة خبيثة، وهي دعوى أنّ كعبًا مع أنه لم يلق النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يحدّث عنه بما يشاء، وكان الصحابة يسمعون منه تلك الأحاديث ويقبلونها بسذاجة مُخْجلة، ثم لا يكتفون بذلك حتى يذهبوا فيروونها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأسًا، فيوهموا الناسَ أنهم سمعوها من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو على الأقل من بعض إخوانهم من الصحابة. ولزيادة تفظيع هذا الزعم بالغَ في الحطِّ على كعب وزعم أنه كان منافقًا يسعى لهدم الإسلام ويفتري ما شاء من الأكاذيب؛ يرويها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيتقبَّلها الصحابةُ ويروونها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأسًا، فعلى هذا يزعم أنّ كل ما جاء من أحاديث الصحابة ولم يصرِّح الصحابيُّ بسماعه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يحتمل أن يكون مما افتراه كعب {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5] وراجع (ص 73) (2). وهذه الخطة الجهنمية من أخطر خِطط الكيد اليهوديّ الخاسر الذي مرت الإشارة إليه (ص 49 و 99) (3). _________ (1) وسبق التنبيه على صنيعه هذا (ص 147). على أن قوله: «عن الأُوَل» ليست في بعض نسخ «البداية» ولا في «تاريخ أبي زرعة». وإن كان ثابتًا في نسخة أبي ريَّة من «البداية» فإسقاطه لها ثابت. (2) و 74 و 75 و 82 و 89. [المؤلف]. (ص 145 ــ 146). (3) (ص 94 و 192).
(12/212)
وكذا قال ص 126: (قال له: لتتركن الحديث أو لألحقنك) أسقط قوله: «عن الأُوَل» أيضًا ليؤكِّد لك أنه عمدًا ارتكب ذلك، ثم لم يكفه حتى قال ص 115: (لما قدم كعب المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لِمَا أسلم من أجله من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبيّ (كذا؟ ) ولم يلبث عمر أن فطن لكيده وتبين له سوء دِخْلته فنهاه عن الرواية عن النبيّ (كذا؟ ) وتوعَّده إن لم يترك الحديث عن رسول الله (كذا؟ ) أو ليلحقنّه بأرض القردة)، كذا قال، وعزا ذلك إلى المصدر نفسه وهو «البداية والنهاية» ج 8 لكنه جعل الصفحة 206 والصواب 106، فهل تعمَّد هذا ليعمِّي عن فضيحته؟ فليتدبر القارئ، ولينظر مَن الذي يعمل في دهاء ومكر لإفساد الدين بكيدٍ وسوء دِخْلة؟ هذا، وسند الخبر غير صحيح، ولفظه في «البداية» (1): «قال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زُرْعة الرُّعيني حدثنا مروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله (2) عن السائب الخ». ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة (3)، والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله (بالتصغير) بن أبي المهاجر فثقة معروف لكن لا أدري أَسَمِعَ من السائب أم لا؟ وفي «البداية» عَقِبه: «قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوًا منه لم يسنده». _________ (1) (11/ 370 ــ 371). والخبر في «تاريخ دمشق»: (1/ 544) لأبي زرعة الدمشقي. (2) في الطبعة المحققة «عبيد الله» كما سيشير إليه المؤلف. (3) ترجمته في «تاريخ أبي زرعة» (1/ 286)، و «الثقات»: (9/ 79) لابن حبان، و «الثقات»: (2/ 237) للعجلي، و «تاريخ دمشق»: (53/ 41) لابن عساكر. (ت 216) وهو ثقة.
(12/213)
أقول: وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب. هذا ومخرج الخبر شامي، [ص 111] ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة، ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه، وهم كثير كما يأتي، منهم ابن عمر وغيره كما مرَّ (ص 106) (1)، هذا باطل قطعًا، على أن أبا ريَّة يعترف أنّ كعبًا لم يزل يحدِّث عن الأُوَل حياةَ عمر كلها، وكيف يُعقل أن يرخِّص له عمر ويمنع أبا هريرة؟ هذا باطل حتمًا، وأبو هريرة كان مهاجرًا من بلاد دوس، والمهاجر يحرُم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فكيف يهدّد عمر مهاجرًا أن يردّه إلى بلده التي هاجر منها؟ وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في «فتوح البلدان» للبلاذري (ص 92 - 93) (2). وبطبيعة الحال كان يعلّمهم ويفتيهم ويحدّثهم. قال أبو ريَّة ص 163: (ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدِّرة، إذ أصبح لا يخشى أحدًا بعده). أقول: لم يمت الحقُّ بموت عمر، وسيأتي تمام هذا. قال: (ومن قوله في ذلك: إني أحدثكم أحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة، وفي رواية: لشج رأسي). أقول: يُروى هذا عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة. فالخبر منقطع غير صحيح. _________ (1) (ص 204 ــ 205). (2) (ص 112 ــ مؤسسة المعارف).
(12/214)
قال: (وعن الزهري عن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قُبض عمر، ثم يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذا لأيقنت أن المِخْفَقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله). أقول: إنما رواه عن الزهري إنسان ضعيف يقال له: صالح بن أبي الأخضر، قال فيه الجوزجاني ــ وهو من أئمة الجرح والتعديل ــ: «اتهم في أحاديثه». وهناك أخبارٌ وآثارٌ تُعارض هذا وأشباهه، إلا أن في أسانيدها مقالًا فلم أنشط لذكرها وبيان عللها، تجد بعضها في ترجمة أبي هريرة من «الإصابة» (1). وبعد، فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار مع ثناء جماعة منهم عليه وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه كما يأتي= يدل على بطلان المحكيّ عن عمر من منعه، بل لو ثبت المنع ثبوتًا لا مدفع له لدلّ إجماعُهم على أن المنع كان على وجه مخصوص، أو لسبب عارض، أو استحسانًا محضًا لا يستند إلى حجة ملزمة. وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أَوْلَى بالحقِّ من رأي عمر. ثم حكى أبو ريَّة عن صاحب «المنار» (2) قال: (لو طال عُمْرُ عُمرَ حتى مات أبو هريرة، لما وصلت إلينا تلك الأحاديث [ص 112] الكثيرة). أقول: وما يدريك لعلّ عمر لو طال عمره حتى يستحرَّ الموتُ بحَمَلة _________ (1) (7/ 425 ــ 444). (2) (10/ 851).
(12/215)
العلم من الصحابة، لأمر أبا هريرة وغيره بالإكثار وحثَّ عليه، وحِفْظُ الله تبارك وتعالى لشريعته، وتدبيره بمقتضى حكمته فوق عمر وفوق رأي عمر، في حياة عمر وبعد موت عمر. ثم قال أبو ريَّة ص 164: (كيف سوّغ كثرة الرواية؟ كان أبو هريرة يسوِّغ كثرة الرواية عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه ما دام لا يحلّ حرامًا ولا يحرِّم حلالًا فإنه لا بأس من أن يروي). أقول: هذه دعوى من أبي رية، فهل من دليل؟ قال: (وقد أيَّد صنيعه هذا بأحاديث رفعها إلى النبيّ، ومنها ما رواه الطبراني في «الكبير» عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إذا لم تحلّوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس). أقول: ههنا مآخذ: الأول: أن هذا لم يروه أبو هريرة ولا رواه الطبراني عنه، إنما رواه الطبراني من طريق يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال: «أتينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، إنا نسمع منك الحديثَ فلا نقدر أن نؤدّيه كما سمعنا. فقال: إذا لم الخ». وهو في «مجمع الزوائد» (154: 1) (1) وقال: «رواه الطبراني في الكبير، ولم أر من ذكر يعقوب ولا أباه». الثاني: أن هذا الخبر إنما يدلّ على إجازة الرواية بالمعنى لقوله فيه: «وأصبتم المعنى»، وقد تقدم الكلام في فصل الرواية بالمعنى (ص 52 فما _________ (1) (1/ 159 ــ مؤسسة المعارف).
(12/216)
بعدها) (1) ودعوى أبي ريَّة هنا شيء آخر كما يأتي. الثالث: أن الخبر لا يثبت عن صحابيِّه لجهالة يعقوب وأبيه، ولهذا أعرضتُ عنه فلم أستشهد به في فصل الرواية بالمعنى وإن كان موافقًا لقولي. قال: (وقال أيضًا: إنه سمع النبيّ يقول: من حدَّث حديثًا هو لله عز وجل رضًا فأنا قلته، وإن لم أكن قلته. روى ذلك ابن عساكر في «تاريخه»). أقول: أخذ أبو ريَّة هذا من «كنز العمال» (223: 5) (2)، وهناك أن ابن عساكر أخرجه (3) عن البُخْتري بن عُبيد عن أبيه عن أبي هريرة. أقول: البختري كذَّاب، وأبوه مجهول. قال أبو ريَّة: (وفي «الأحكام» ... لابن حزم (78: 2) أنه روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا [ص 113] حُدِّثتم عني بحديث يوافق الحقَّ فخذوا به، حَدَّثتُ به أو لم أحدِّث). أقول: إنما ذكره ابن حزم من طريق أشعث بن بَرَاز، ثم قال ابن حزم في ذلك الموضع نفسه: «وأشعث بن بَراز كذَّاب ساقط». قال: (وروي عن رسول الله: إذا بلغكم عني حديث يحسن بي أن أقوله فأنا قلته، وإذا بلغكم حديث لا يحسن بي أقوله فليس مني ولم أقله). أقول: عزاه إلى «توجيه النظر» (ص 278) (4)، وهناك عَقِبه قول _________ (1) (ص 102 فما بعدها). (2) (10/ 230، 294 ــ مؤسسة الرسالة). (3) (38/ 206). (4) الطبعة الأولى ــ الجمالية سنة 1328 هـ.
(12/217)
أبي حاتم: «حديث منكر، الثقات لا يرفعونه». يريد لا يَصِلونه، فإنه ذكره من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، وقد جاء من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، ذكره البخاري في «التاريخ» (2/ 1/434)، ثم ذكر أن بعضهم قال: «عن أبي هريرة»، قال البخاري: «وهو وهمٌ، ليس فيه أبو هريرة». ورواه بعضهم عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. ذكره ابن حزم في «الأحكام» (1) عقب الحديث السابق وقال: «عبد الله بن سعيد كذّاب مشهور» وفي ألفاظه في الروايات اختلاف، وسأشرح بقية حاله في التعليق على «موضوعات الشوكاني» (2) إن شاء الله تعالى. هذه أدلة أبي ريَّة على دعواه، وعلّق على خبر البُخْتري بقوله: (ارجع إلى ص 101)، وكان قد ذكر هناك بعض هذه الأخبار تحت عنوان (كيف استجازوا وضع الأحاديث) وبهذا يُعرف حاصل دعواه هنا ومناسبتها لأدلتها، فإن تكذيب الصدّيقين لا يتم إلا بتصديق الكذابين. قال: (روى ذلك وغيره). أقول: أما «ذلك» أي الأخبار المتقدّمة فقد تبيَّن أن أبا هريرة لم يرو شيئًا منها، وأما غيره فما هو؟ قال: (على حين أن الثابت عن النبيّ أنه قال: من نقل عني ما لم أقله فليتبوَّأ مقعده من النار). _________ (1) (2/ 78). (2) «الفوائد المجموعة» (ص 278 ــ 282).
(12/218)
أقول: كذا ذكر الحديث هنا وص 40، والثابت: «مَنْ يقل عليَّ ما لم أقل الخ» رواه أحمد (1) من حديث أبي هريرة، وكذا من حديث سلمة بن الأكوع (2)، وكذا جاء في أثناء حديث لأبي قتادة (3). وكما أن هذا هو الثابت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فكذلك هو الثابت عن أبي هريرة عنه كما ترى. وفي «صحيح البخاري» (4) وغيره من حديث مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة قال: «إن الناس يقولون: أَكْثَرَ أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله [ص 114] ما حدَّثت حديثًا، ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] إلى قوله: {الرَّحِيمُ} [البقرة: 160] الحديث. وذكر مسلم سنَدَه ولم يسق متنه (5). وفي «الإصابة» (6): «أخرج أحمد (7) من طريق عاصم بن كُلَيب عن أبيه: سمعت أبا هريرة يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: «مَن كذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعدَه مِن النار». وذكره ابنُ كثير في «البداية» (107: 8) (8) وقال: «ورُوي مثله من وجه آخر». _________ (1) (8776). (2) أخرجه البخاري (109). (3) أخرجه أحمد (22538)، وابن ماجه (35). (4) (118). (5) بعد رقم (2492). (6) (7/ 440). (7) (9350). (8) (11/ 372 ــ دار هجر).
(12/219)
قال أبو ريَّة: (وقد اضطر عمر أن يذكِّره بهذا الحديث لما أوغل في الرواية). أقول: يريد ما رُوي عن أبي هريرة قال: «بلغ عمرَ حديثي فأرسل إليَّ فقال: كُنْتَ معنا يوم كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت فلان؟ قال: قلت: نعم، وقد علمتُ لِمَ تسألني عن ذلك. قال: ولِمَ سألتُك؟ قلتُ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: «مَنْ كذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار». قال: أما إذًا (1) فاذهب فحدِّث» «البداية» (107: 8) (2). وهذا يدلُ على بطلان ما حُكي مِن مَنْعه له أو على أنه أذن له بعد منعٍ ما. وهذا الخبر مِن جملة الأخبار التي قدمتُ (ص 111) (3) أني أعرضت عنها لأن في أسانيدها مقالًا، وذكرته هنا لإشارة أبي ريَّة إليه ... وحديث: «مَنْ كَذَب عليَّ الخ» ثابت في «الصحيحين» (4) وغيرهما من حديث أبي هريرة. * * * * _________ (1) في بعض نسخ «البداية» و «تاريخ دمشق»: «إما لا»، وانظر «النهاية»: (1/ 72) لابن الأثير في إمالة الألف عند العوام لتصير ياءً «إمالي» قال: وهو خطأ. (2) (11/ 371) وأخرجه ابن عساكر: (67/ 345). (3) (ص 215). (4) البخاري (110)، ومسلم (3).
(12/220)
حقيقة التدليس وانتفاؤها عن الصحابة
قال أبو ريَّة آخر ص 164: (تدليسه). أقول: قال الخطيب في «الكفاية» (ص 357): «تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلّسه عنه بروايته إياه على وجهٍ يوهم أنه سمعه منه». ومثال هذا: أن قتادة كان قد سمع من أنس، ثم سمع من غيره عن أنس مالم يسمعه هو من أنس، فربما روى بعض ذلك بقوله: «قال أنس ... » ونحو ذلك، ثم ذكر الخطيب (ص 358) ما يؤخَذ على المدلِّس، وهاك تلخيصه بتصرف: أولًا: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه. ثانيًا: إنما لم يبيِّن لعلمه أن الواسطة غير مرضيّ. ثالثًا: الأنَفَة مِن الرواية عمن حدثه. رابعًا: إيهام علوِّ الإسناد. خامسًا: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال. أقول: هذه الأمور منتفية فيما كان يقع من الصحابة رضي الله عنهم مِن قول أحدهم فيما سمعه من [ص 115] صحابي آخر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -». أما الأول: فلأن الإيهام إنما نشأ منذ عُنِي الناس بالإسناد، وذلك عقب حدوث الفتنة، وفي مقدمة «صحيح مسلم» (1): «عن ابن سيرين قال: لم _________ (1) (1/ 15).
(12/221)
يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالَكم ... ». فمِنْ حينئذ التزم أهل العلم الإسناد، فأصبح هو الغالب، حتى استقرّ في النفوس، وصار المتبادر مِنْ قول مَنْ قد ثبت لقاؤه لحذيفة: «قال حذيفة: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول ... » أو نحو ذلك= أنه أسند، ومعنى الإسناد: أنه ذَكَر مَن سمع منه، فيفهم مِن ذاك القول أنه سمع من حذيفة، فلو قال قائل مثل ذلك، مع أنه لم يسمع ذاك الخبر من حذيفة وإنما سمعه ممن أخبر به عن حذيفة، كان موهمًا خلاف الواقع. وهذا العُرْفُ لم يكن مستقرًّا في حقِّ الصحابة لا قبل الفتنة ولا بعدها، بل عُرْفُهم المعروف عنهم أنهم كانوا يأخذون عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة، ويأخذ بعضهم بواسطة بعض، فإذا قال أحدهم: «قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ... » كان محتملًا أن يكون سمع ذلك من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون سمعه من صحابيٍّ آخر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فلم يكن في ذلك إيهام. وأما الثاني: فلم يكن ثَمَّ احتمال لأن يكون الواسطة غير مرضيّ؛ لأنهم لم يكن أحد منهم يرسل إلا ما سمعه من صحابيٍّ آخر ــ يثق به وثوقه بنفسه ــ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن أحد منهم يرسل ما سمعه من صبيّ أو من مغفَّل أو قريب العهد بالإسلام أو من مَغْمُوصٍ بالنفاق أو من تابعي. وأما الثالث: فلم يكن من شأنهم رضي الله عنهم. وأما الرابع: فتبع الأول. وأما الخامس: فلا ضرر في الاحتمال مع الوثوق بأنه إنْ كان هناك واسطة فهو صحابيّ آخر.
(12/222)
قال أبو ريَّة: (ذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس). أقول: إنما جاء في ذلك كلمة شاذَّة يغلب على ظنّي أنها مصحَّفة، سيأتي الكلام عليها (1). وذكر ص 165 ما حُكي عن شعبة في ذمِّ التدليس، وقال: (ومن الحفاظ من جرح مُن عُرِف بهذا التدليس من الرواة، فردّ روايته مطلقًا وإن أتى بلفظ الاتصال). أقول: بعد أن استحكم العرف الذي مرَّ بيانه نشأ أفراد لا يلتزمونه، وهم ضربان: [ص 116] الضرب الأول: مَنْ بَيَّن عدم التزامه فصار معروفًا عند الصحابة والآخذين عنه أنه إذا قال: «قال فلان» ونحو ذلك وسمَّى بعضَ شيوخه احتمل أن يكون سمع الخبر مِنْ ذاك الشيخ وأن يكون سمعه من غيره عنه. فهؤلاء هم المدلِّسون الثقات. وكان الغالب أنه إذا دلَّس أحدُهم خبرًا مرة أسنده على وجهه أخرى. وإذا دلَّس فسئل بيَّن الواقع. والضرب الثاني: مَنْ لم يُبَيِّنْ بل يتظاهر بالالتزام، ومع ذلك يدلس عمدًا. وتدليس هذا الضرب الثاني حاصله إفهام السامع خلاف الواقع، فإن كان المدلِّس مع ذلك متظاهرًا بالثقة كان ذلك حملًا للسامع ومن يأخذ عنه على التديُّن بذاك الخبر عملًا وإفتاء وقضاء. فأما تدليس الضرب الأول فغايته أن يكون الخبر عند السامع محتملًا للاتصال وعدمه، وما يقال إن فيه إيهام الاتصال إنما هو بالنظر إلى العُرْف الغالب بين المحدّثين، فأما بالنظر _________ (1) (ص 225 ــ 226).
(12/223)
إلى عُرْف المدلّس نفسه فما ثَمَّ إلا الاحتمال، فالضرب الثاني هو اللائق بكلمات شعبة ونحوها، وبالجرح وإن صرح بالسماع. فأما الضرب الأول فقد عُدَّ منهم إبراهيم النَّخَعي، وإسماعيل بن أبي خالد، وحبيب بن أبي ثابت، والحسن البصري، والحكم بن عُتيبة، وحُميد الطويل، وخالد بن مَعْدان، وسعيد بن أبي عَروبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عُيينة، وسليمان التيمي، والأعمش، وابن جُريج، وعبد الملك ابن عمير، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وابن شهاب، والمغيرة بن مَقسم، وهُشَيم بن بشير، ويحيى بن أبي كثير، ويونس بن عُبيد، وهؤلاء كلهم ثقات أثبات أمناء مأمونون عند شعبة وغيره، متفق على توثيقهم والاحتجاج بما صرَّحوا فيه بالسماع. قال ابن القطان (1): «إذا صرَّح المدلّس الثقة بالسماع قُبِل بلا خلاف، وإن عنعن ففيه الخلاف» (2). فأما الصحابة رضي الله عنهم فلا مَدْخَل لهم في التدليس كما تقدم. قال: (ولو لم يُعرف أنه دلّس إلا مرة واحدة، نص على ذلك الشافعي رحمه الله). أقول: عبارته تعطي أن الشافعي يرى جرح المدلّس مطلقًا ولو صرَّح بالسماع، وهذا كذب، وعبارة الشافعي في «الرسالة» (ص 379): «ومَن عرفناه دلَّس فقد أبان لنا عورته في روايته، وليست تلك العورة بالكذب فنردَّ بها حديثه، ولا النصيحة في الصِّدق فنقبلَ منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلّس حديثًا حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت». _________ (1) في «بيان الوهم والإيهام»: (5/ 66 ــ دار طيبة). (2) فتح المغيث للسخاوي ص 77 [1/ 217]. [المؤلف].
(12/224)
[ص 117] قال: (وروى مسلم بن الحجاج (1) عن بُسر بن سعيد قال: اتقوا الله وتحفَّظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحدّثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله، وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفَّظوا في الحديث). أقول: إنما يقع مثل هذا ممن يحضر المجلس من ضعفاء الضبط ومَن لا عناية له بالعلم، ومثل هؤلاء لا يوثِّقهم الأئمة ولا يحتجُّون بأخبارهم، ولابدّ أن يتنبَّهُوا لغلطهم. وعلى كلِّ حال فلا ذنب لأبي هريرة في هذا، ولم يزل أهلُ العلم يذكر أحدهم في مجلسه شيئًا من الحديث، ويذكر معه ــ مفصولًا عنه ــ ما هو من كلام بعض أهل العلم أو غيرهم وما هو من كلام نفسه، والحكاية نفسها تدلّ على أن أبا هريرة كان يبيّن، وإنما يقع الغلط لبعض الحاضرين. قال: (وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلّس. أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز هذا من (2) هذا. ذكره ابن عساكر). أقول: هذه عبارة ابن كثير في «البداية» (3)، ساق كلمة بُسْر المتقدّمة ووصلها بهذه الحكاية، وهي حكاية شاذة لا أدري كيف سندها إلى يزيد (4)، _________ (1) في كتاب «التمييز» (ص 175). (2) (ط): «عن»، والتصحيح من كتاب أبي ريَّة، ومما سيعيده المؤلف قريبًا. (3) (11/ 377)، ومصدره ابن عساكر: (67/ 359). (4) ساق سندها ابن عدي في «الكامل»: (1/ 151) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخه»: (67/ 359): أخبرنا الحسن بن عثمان التستري، نا سلمة بن حبيب، قال: سمعت يزيد بن هارون به. والحسن بن عثمان التستري من شيوخ ابن عدي قال فيه: «كان عندي يضع ويسرق حديث الناس». وقال عبدان الأهوازي: كذاب. انظر «الكامل»: (2/ 345). فالإسناد ساقط.
(12/225)
ويقع في ظني ــ إنْ كان السند صحيحًا ــ أنه وقع فيها تحريف، فقد يكون الأصل «أبو حرة» فتحرَّفت على بعضهم فقرأها «أبو هريرة» وأبو حرة معروف بالتدليس، كما تراه في «طبقات المدلسين» لابن حجر (ص 17) (1). وقوله: «أي يروي ... » أراه من قول ابن عساكر (2) بناه على قصة بُسْر السابقة. فقوله: «لا يميز هذا من هذا» يعني لا يفصل بين قوله: «قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ... »، وقوله: «زعم كعب ... » مثلًا بفصل طويل حتى يُؤمَن أو يقلّ الالتباس على ضعفاء الضبط. وتسمية هذا تدليسًا غريب؛ فلذلك قال ابن كثير ــ وحكاه أبو ريَّة ــ: «وكأنّ شعبة يشير بهذا إلى حديث: «مَن أصبح جُنُبًا فلا صيام له» (3). فإنه لما حُوقِقَ عليه قال: أخبرنيه مخبرٌ ولم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». _________ (1) (ص 161 ــ ت المباركي). (2) لم يعلّق ابن عساكر على الخبر في «تاريخه». وأراه من تعليق أبي ريَّة. وتعمّد أبو ريَّة أن يجعل قوله: «ذكره ابن عساكر» بعد قوله؛ ليوهم القارئ أن العبارة بتمامها لابن عساكر. بدليل أن الأصل الذي ينقل منه وهو «البداية» لابن كثير فيه العزو لابن عساكر عقب قوله: «كان يدلس». وتنبيه آخر: عبارة ابن كثير هي: «رواه ابن عساكر ... » وعبارة أبي ريَّة: «ذكره ابن عساكر»؛ ليوهم أيضًا أن الخبر والتعليق كلاهما من كلامه! (3) أخرجه أحمد (25673) وغيره.
(12/226)
أقول: يعني أنه قال أوّلًا: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... » مع أنه إنما سمعه مِن بعض الصحابة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو إرسال الصحابي الذي تقدم (1) أنه ليس بتدليس، ولكنه على صورته، والله أعلم. ثم قال أبو ريَّة ص 166: (قال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» ص 50: وكان أبو هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وإنما سمعه من الثقة عنه فحكاه). أقول: تتمة كلام ابن قتيبة: «وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة، وليس في [ص 118] هذا كذب بحمد الله، ولا على قائله ــ إن لم يفهمه السامع ــ جُنَاح إن شاء الله». والمراد بالثقة الثقة من الصحابة على ما قدمت، وقدّمت أنّ مثل ذلك من الصحابة كان عند السامعين محتملًا على السواء لأنْ يكون بلا واسطة، وأن يكون بواسطة صحابيّ آخر، والمخبر الذي أخبر أبو هريرة صحابي كما يأتي (2). ثم قال أبو ريَّة: (أول راوية اتهم في الإسلام. قال ابن قتيبة .... إنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عنه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يأت بمثله مَن صَحِبه مِن جلة أصحابه والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعتَ هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارًا عليه لتطاول الأيام بها وبه). أقول: تتمة كلام ابن قتيبة: «فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألْزَمهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخدمته وشبع بطنه ... فعرَف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا، أمسكوا عنه». وكلمة «اتهموه» كلمة نابية يتبرّأ منها الواقع، فإنه لم _________ (1) (ص 222). (2) (ص 232، 381).
(12/227)
يثبت عن أحدٍ من الصحابة أنه اعترض على شيء من حديث أبي هريرة إلا عائشة وابن عمر، فأما عائشة فيأتي قريبًا (1) قولها: «إنك لتحدّث حديثًا ما سمعته» فأجابها ذاك الجواب الصريح فأقرَّت. وقد تتبَّع أبو ريَّة الأحاديث التي انتقدَتْها عائشةُ على أبي هريرة، ويأتي الجوابُ الواضحُ عنها، وأنّ أكثرها قد ثبت مِن رواية غير أبي هريرة من الصحابة. على أن انتقاد عائشة لها ليس على وجه الاتهام بكذبٍ ونحوه ــ معاذ الله ــ وإنما فيه الاتهام بالخطأ، وقد اتهمت عائشة بالخطأ عُمرَ وابنَ عمر كما مرَّ (ص 51) (2) ويأتي. وقد عدَّ الحاكمُ في «المستدرك» (3) عائشةَ في الصحابة الذين رووا عن أبي هريرة كما يأتي. وأما ابن عمر فإنما استغربَ حديثًا واحدًا من حديث أبي هريرة، فاستشهدَ أبو هريرة عائشةَ فشهدت، فعاد ابن عمر بطيب الثناء على أبي هريرة وقال له: «يا أبا هريرة كنتَ ألْزَمَنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمنا بحديثه». وممَن روى هذا الحاكم في «المستدرك» (510: 3) وصححه وأقرَّه الذهبي (4). وفي «تهذيب التهذيب» (5) و «الإصابة» (6): «وقال ابن عمر: أبو هريرة _________ (1) (ص 231). (2) (ص 99). (3) (3/ 513). (4) وقد تقدم (ص 205). (5) (12/ 240). (6) (7/ 438).
(12/228)
خيرٌ منِّي وأعلم». زاد في «الإصابة»: «بما يحدِّث»، وفي «الإصابة» (1): «أخرج مسدَّد من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلّم قال: إنا نعرف ما يقول، لكنا نجبُن ويجترئ». وعاصم وأبوه ثقتان. وفي «المستدرك» (510: 3) من طريق [ص 119] « ... جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ابن عمر: أُعيذكَ بالله أن تكون في شكٍّ مما يجيء به، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا». وهكذا ذكره الذهبي في «تلخيص المستدرك»: «جرير عن الأعمش ... » وقد سمع أبو وائل من ابن عمر، فأخشى أن يكون ذِكْر حذيفة مزيدًا على سبيل الوهم. والله أعلم. وفي «الإصابة» (2): «رُوّينا في فوائد المزكّي تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رَفَعَه: «إذا صلى أحدُكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه». فقال له مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ قال: لا. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أَكْثَرَ أبو هريرة. فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: ما ذنبي إن كنتُ حفظتُ ونسوا. وقد روى ابن عمر عن أبي هريرة كما في «التهذيب» (3) وغيره. قال أبو ريَّة: (وممن اتَّهَمَ أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعلي). _________ (1) (7/ 440). ووقع في «الإصابة»: «بن يزيد» خطأ. (2) (7/ 440 ــ 441). (3) (12/ 237).
(12/229)
أقول: هذا أَخَذَه مِن كتاب ابن قُتيبة (1)، وإنما حكاه ابنُ قُتيبة عن النظَّام بعد أن قال ابن قتيبة: «وجَدْنَا النظَّام شاطرًا من الشطَّار، يغدو على سُكْر ويروح على سُكْر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات ... ثم ذكر أشياء من آراء النظَّام المخالفة للعقل وللإجماع، وطعْنَه على أبي بكر وعمر وعليّ وابن مسعود وحُذيفة. فمَنْ كان بهذه المثابة كيف يقبل نقله بلا سند؟ ومن الممتنع أن يكون وقع مِن عمر وعثمان وعليّ وعائشة أو واحد منهم رَمْيٌ لأبي هريرة بتعمّد الكذب أو اتهام به ثم لا يشتهر ذلك ولا يُنْقل إلا بدعاوى مَن ليس بثقة ممن يعادي السنَّةَ والصحابَة كالنظَّام وبعض الرافضة. وقد تقدم ويأتي (2) ثناءُ بعض أكابر الصحابة على أبي هريرة، وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه، وأطبق أئمة التابعين من أبناء أولئك الأربعة وأقاربهم وتلاميذهم على تعظيم أبي هريرة والرواية عنه والاحتجاج بأخباره. وعند أهل البدع من المعتزلة والجهمية والرافضة والناصبة حكايات معضلة مثل هذه الحكاية، تتضمّن الطعنَ القبيح في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعائشة وغيرهم، وفي كثير منها ما هو طعن في النبي - صلى الله عليه وسلم -. والحكم في ذلك واحد، وهو تكذيب تلك الحكايات البتة. [ص 120] قال أبو ريَّة: (ولما قالت له عائشة: إنك لتحدِّث حديثًا ما سمعتُه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار إذ قال لها ... شغلك عنه - صلى الله عليه وسلم - المرآة _________ (1) (ص 204 ــ 206). (2) (ص 312 ــ 315).
(12/230)
والمكحلة. وفي رواية: ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك). أقول: تتمة الرواية الأخيرة كما في «البداية» (1): «فقالت: لعله». والذي أنكره أبو ريَّة من جواب أبي هريرة عظيم الفائدة للباحث المحقق، وذلك أن أبا هريرة كان شديد التواضع، وقد تقدم أمثلة من ذلك (2)، وعائشةُ معروفة بالصرامة وقوة العارضة، فجوابه يدلّ على قوة إدلاله بصدقه ووثوقه بحفظه، ولو كان عنده أدنى تردّد في صدقه وحفظه لاجتهد في الملاطفة، فإن المريب جبان، وسكوت عائشة بل قولها: «لعله» أي: لعل الأمر كما ذكرتَ يا أبا هريرة. يدل دلالة واضحة أنه لم يكن عندها ما يقتضي اتهام أبي هريرة. هذا، وحجة أبي هريرة واضحة، فإن عائشة لم تكن ملازمةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل انفردت عن الرجال بصحبته - صلى الله عليه وسلم - في الخلوة، وقد انفردت بأحاديث كثيرة تتعلَّق بالخلوة وغيرها فلم ينكرها عليها أحد، ولم يقل أحدٌ ــ ولا ينبغي أن يقول ــ: إن سائر أمهات المؤمنين قد كان لهنّ من الخلوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما لها، فما بالُ الرواية عنهن قليلة جدًّا بالنسبة إلى رواية عائشة. قال: (على أنه لم يلبث أن عاد فشهد بأنها أعلم منه ... ذلك أنه لما روى حديث (مَنْ أصبح جنبًا فلا صوم عليه) ... أنكرت عليه عائشةُ هذا الحديث فقالت: إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جُنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، وبعثت إليه بأن لا يحدِّث بهذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يسعه إزاء ذلك إلا الإذعان والاستخذاء وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي، وإنما سمعته من الفضل بن العباس). _________ (1) (11/ 374). وقد سبق. (2) (ص 208 ــ 209).
(12/231)
أقول: لم أجد حديث أبي هريرة هذا بلفظ: «فلا صوم عليه» وإنما وجدته بلفظ «فلا يصم» ونحوه، ولا ريب أنه إذا كان في رمضان يلزمه قضاء ذاك اليوم. هذا، وقوله: «هي أعلم» لا يناقض جوابه المتقدم، وإنما المعنى: هي أعلم بذاك الشأن الذي تتعلّق به المسألة، ووجه ذلك واضح. وقد عرفتَ صرامةَ عائشة وشدّة إنكارها ما ترى أنه خطأ. وسيأتي طرفٌ من ذلك (1) ــ وشدّتها على أبي هريرة خاصة ــ فاقتصارها إذ بلغها حديثُه هذا على أن بعثت إليه أن لا يحدِّث بهذا الحديث [ص 121] وذِكْرها فِعْل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - = يدلّ دلالة قوية أنها عرفت الحديث ولكنها رأت أنه منسوخ بفعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ويؤيد هذا أنّ ابنَ اختها وأخصّ الناس بها وأعلمهم بحديثها: عُروة بن الزبير استمرّ قولُه على مقتضى الحديث الذي ذكره أبو هريرة، وهذا ثابت عن عروة، وانظر «فتح الباري» (124: 4) (2)، وذكر مثله أو نحوه عن طاووس وعطاء وسالم بن عبد الله بن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي، وهؤلاء من كبار فقهاء التابعين بمكة والمدينة والبصرة والكوفة. والنظر يقتضي هذا، وشرح ذلك يطول. وكأنَّ عُروة حَمَل فعلَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكرتْه عائشة على الخصوصية أو غيرها مما لا يقتضي النسخ. واستدلّ الجمهور على النَّسْخ بقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. قالوا: فهذه الآية نَسَخَتْ بالإجماع _________ (1) (ص 380 ــ 381). (2) (4/ 147 ــ السلفية).
(12/232)
ما كان قبل ذلك من تحريم الجماع في ليالي رمضان بعد النوم، وهي تتضمن إحلاله في آخر جزء من الليل بحيث ينتهي بانتهاء الليل، ومن ضرورة ذلك أن يصبح جُنُبًا. فهذان شاهدا عَدْلٍ بصحة حديث أبي هريرة وصدقه؛ الأول: اقتصار عائشة على ما اقتصرت عليه. الثاني: مذهب تلميذها وابن اختها عروة. وثَمَّ شاهد ثالث: وهو أن المتفق عليه بين أهل العلم وعليه دلَّ القرآن أنه كان الحكم أوَّلًا تحريم الجماع في ليالي رمضان بعد النوم، وأنَّ مَن فعل ذلك لم يصح صومه ذلك اليوم، والحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ أن يطول الفصل بين الجماع وبين طلوع الفجر، ولما كان من المحتمل أن يلجأ بعضُ الناس إلى السهر طول الليل ويجامع قبيل الفجر بحجّة أنه إنما جامع قبل النوم ناسب ذلك أن يحرّم كونه جُنبًا عند طلوع الفجر، ليضطرّ من يريد الجماع ممن يَسْهر إلى أن يقدّمه قبل الفجر بمدة تتسع له وللغسل بعده، فيحصل بذلك المقصود مِن طول الفصل. وهذا هو مقتضى حديث أبي هريرة. وشاهد رابع: وهو أَنَّا مع عِلْمنا بصدق أبي هريرة وأمانته، لو فرضنا جدلًا خلاف ذلك، فأيّ غرض شخصيّ لأبي هريرة في أن يرتكب الكذب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليحمل الناس على ما تضمّنه حديثه؟ لا غرض له البتة، وإذًا فلابد أن يكون كان عنده دليلٌ فَهِمَ منه ذلك، وقد عرفنا أنَّه قَلّما يلجأ إلى الاستنباط الدقيق، وإنما يتمسَّك بالنصوص، وقد نصَّ هو على أن دليله هو ذاك الحديث، فبان أن الحديث كان عنده. فهذه أربعة شهود على صِدْق أبي هريرة في هذا الحديث، وفوق ذلك ما ثبت من دينه وأمانته، ودلّ عليه الكتاب والسنة كما يأتي في فصل عدالة
(12/233)
الصحابة (1)، وشهد به جَمْعٌ من الصحابة، وأجمع عليه أهل العلم، فهذا هو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ قال أبو ريَّة: (فاستشهد ميتًا، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث»). أقول: قد تقدّم أنّ الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض، ويقول أحدُهم فيما سمعه من أخيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ». وكان ذلك يُفْهَم على الاحتمال بدون إيهام لاشتهار عُرْفِهم به قبل عُرْفِ المحدّثين. وقد أخذ أبو هريرة عن غيره من الصحابة في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعَقِبَ وفاته، ثم طال عمره حتى كانت قضية هذا الحديث في إمارة مروان على المدينة وذلك في خلافة معاوية، وكان معظم الصحابة قد ماتوا، فما الذي يستغرب من أن يكون مخبر أبي هريرة قد مات؟ وقد تقدَّم بيان الأدلة الواضحة على صدق أبي هريرة وصحَّة حديثه هذا. لكن انظر إلى عبارة أبي ريَّة في قوله (فاستشهد ... كما قال ابن قتيبة ... ) ألا ترى أن هذا الخبر يُعْطِي بأن ابن قتيبة قال ذلك من عنده وأنَّه رأيه، لكنّ الواقع أن ابن قتيبة إنما حكى ذلك عن النظَّام بعد أن وصفه بما تقدّم ثم ردَّ عليه، فماذا تقول في أبي رية؟ (2). ثم قال ص 168: (وكان عليّ رضي الله عنه سيِّئ الرأي فيه، وقال عنه: ألا إنه أكذب الناس، أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة). _________ (1) (ص 365). (2) وقد تقدم نحو صنيعه هذا مع ابن عساكر، ونبهتُ عليه فيما سبق، انظر (ص 226) حاشية (2).
(12/234)
أقول: لم يذكر أبو ريَّة مصدره فنفضحه، وكأنه أخذ هذا من كتاب عبد الحسين الرافضي (ظلمات بعضها فوق بعض) انظر (ص 119) (1). ثم رأيت مصدره وهو «شرح النهج» لابن أبي الحديد (360: 1) (2) حكاية عن الإسكافي، ومع تهوُّر ابن أبي الحديد والإسكافي فالعبارة هناك «وقد رُوي عن عليّ عليه السلام أنه قال ... » ولكن أبا ريَّة يجزم. راجع (ص 109) (3). قال: (ولما سمع أنه يقول: حدثني خليلي. قال له: متى كان النبي خليلك؟). أقول: هذا من دعاوى النظَّام على عليّ، وقد كان أبو ذر يقول هذه الكلمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - خليل كلّ مؤمن وإن لم يكن أحد من الخلق خليلًا له - صلى الله عليه وسلم - لقوله: «لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر» (4). والخليل كالحبيب، فكما أنه لا يلزم من كون إنسان حبيبك أن تكون حبيبه فكذلك الخليل، والخُلّة أعظم مِن المحبة، فلا يلزم من نفي الخلّة نفي المحبة. قال أبو ريَّة: (ولما روى حديث: متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء [ص 123] فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» لم تأخذ به عائشة _________ (1) (ص 230). (2) (4/ 68). قال العلامة ابن الوزير اليماني معلقًا على هذا الخبر: «هذا مما يقطع العارف ببطلانه عن عليّ عليه السلام، وأرجو ألا تصحّ حِكايته وتقريره عن ابن أبي الحديد»، وذكر قبل ذلك أن بعض أعداء ابن أبي الحديد زاد مثل هذه الأخبار في كتابه؛ لأنها لا تليق به. انظر «العواصم والقواصم»: (2/ 43 ــ 44). (3) (ص 210 ــ 211). (4) أخرجه البخاري (466)، ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(12/235)
وقالت: كيف نصنع بالمهراس» وعلّق عليه: «المهراس صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه يملؤونه ماء ويتطهَّرون). أقول: قد أسلفتُ (ص 108) (1) أن عائشة لم تتكلّم في هذا الحديث بحرف، وإنما يُرْوَى عن رجل يقال له قين الأشجعي (2) أنه قال لأبي هريرة لمَّا ذكر الحديث: «فكيف نصنع إذا جئنا مهراسكم هذا؟» فقال أبو هريرة: «أعوذ بالله من شرِّك». كره أبو هريرة أن يقول مثلًا: إن المهراس ليس بإناء، والعادة أن يكون ماء الإناء قليلًا، وماء المهراس كثيرًا. أو يقول: أرأيت لو كانت يدك ملطخة بالقذر؟ أو يقول: إن وجدت ماء غيره أو وجدت ما تغرف به فذاك وإلا رجوت أن تُعْذَر، أو نحو ذلك؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يتورَّع عن تشقيق المسائل، ويدع ذلك لمن هو أجْرَأُ وأشدُّ غوصًا على المعاني منه. وقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يلتزم في الوضوء أن يغسل يديه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء، ثبت ذلك من حديث عثمان وعبد الله بن زيد (3). ولا يخفى ما في ذلك مِنْ رعاية النظافة والصحة. قال أبو ريَّة: (ولما سمع الزبير أحاديثه قال: صدق، كذب). _________ (1) (ص 208). (2) مسند أحمد (382: 2) [8965]. [المؤلف]. أقول: سنده حسن من أجل محمد بن عَمرو بن علقمة. ووقع في «المسند»: «قيس الأشجعي» وصوابه: «قين» بالنون. انظر «مسند أبي يعلى» (5973)، و «معرفة الصحابة»: (4/ 2363)، و «الإصابة»: (5/ 567)، و «تكملة الإكمال»: (4/ 679). ووقع في (ط): «فكيف تصنع». (3) حديث عثمان أخرجه البخاري (159)، ومسلم (227). وحديث عبد الله بن زيد أخرجه البخاري (186)، ومسلم (235).
(12/236)
أقول: عزاه إلى «البداية» (8: 109) (1) وهو هناك عن ابن إسحاق عن عمر ــ أو عثمان ــ بن عروة بن الزبير عن عروة قال: «قال لي أبي ــ الزبيرـ: أَدْنِني من هذا اليماني ــ يعني أبا هريرة ــ فإنه يكثر الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدّث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب. صدق، كذب. قال: قلت: يا أبت ما قولك: صدق، كذب؟ قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا أشكّ فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه». أقول: في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمّهم بعقابه». انظر «تفسير ابن كثير» (3: 257) (2). فالوضع على غير الموضع ليس بتغيير اللفظ، فإن الناس لم يغيّروا مِن لفظ الآية شيئًا، وإنما هو الحَمْل على [غير] (3) المحمل الحقيقي. ومثال ذلك في الحديث: أن [ص 124] يذكر أبو هريرة حديث النهي عن الادّخار مِن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وحديث النهي عن الانتباذ في الدّبّاء والنقير والمزفَّت، فيرى الزبير أن النهي عن الادخار إنما كان لأجل الدافَّة، وأنّ النهي عن الانتباذ في تلك الآنية إنما كان إذ كانوا حديثي عهد بشرب الخمر؛ _________ (1) (11/ 375 ــ 376). وأخرجه ابن عساكر في «تاريخه»: (67/ 356). (2) (3/ 1260 ــ 1261). (3) سقطت من (ط).
(12/237)
لأن النبيذ في تلك الآنية يُسْرع إليه التخمّر، فقد يتخمّر فلا يصبر عنه حديث العهد بالشرب. ونحو ذلك. وأن أبا هريرة إذ أخبر بذلك على إطلاقه يفهمه الناس على إطلاقه، وذلك وَضْعٌ له على غير موضعه. ففي القصة شهادةُ الزبير لأبي هريرة بالصدق في النقل، فأما ما أخذه عليه فلا يضرُّه، فإن في الأحاديث الناسخَ والمنسوخ، والعامَّ والخاص، والمطلقَ والمقيّد، وقد يعلم الصحابي هذا دون ذاك، فعليه أن يبلّغ ما سمعه، والعلماء بعد ذلك يجمعون الأحاديث والأدلة، ويفهمون كلًّا منها بحسب ما يقتضيه مجموعها، وراجع (ص 32) (1). قال أبو رية ص 169: (وعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدّث عن رسول الله: «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» فطارت شققًا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدَّث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار». ثم قرأت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]). أقول: أخرج أحمد وأبو داود بسند جَيِّد عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: «لا عَدْوى ولا طِيَرة ولا هام، إن تكن الطِّيَرةُ في شيء ففي الفَرَس والمرأة والدار» انظر «مسند أحمد» الحديث (502 و 554) (2). وفي «فتح الباري» (6: 45) (3): «الطِّيَرة والشؤم بمعنى واحد». وفي «الصحيحين» (4) _________ (1) (ص 63 ــ 64). (2) (1554 و 1615). (3) (6/ 61). (4) البخاري (2858)، ومسلم (2225).
(12/238)
وغيرهما من حديث ابن عمر قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار» لفظ البخاري في كتاب الجهاد، باب ما يُذْكَر من شؤم الفرس، وفي «الصحيحين» (1) وغيرهما من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: «إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن». زاد مسلم: «يعني الشؤم». وجاء نحوه بسند جَيِّد عن أمِّ سلمة وزادت: «والسيف» راجع «فتح الباري» (6: 47) (2). وفي «صحيح مسلم» (3) من حديث جابر مرفوعًا: «إن كان في شيء ففي الرَّبع والخادم والفرس». أما روايته عن أبي هريرة فعزاه أبو ريَّة إلى «تأويل مختلف الحديث» (4) لابن قتيبة، وقد رواه الإمام أحمد [ص 125] في «المسند» (6: 150 و 240 و 246) (5) من طريق قتادة عن أبي حسَّان. وليس بالصحيح عن عائشة؛ لأن قتادة مدلِّس، ولو صحّ عن عائشة لما صح المنسوب إلى أبي هريرة لجهالة الرجلين، وليس في شيء من روايات أحمد لفظ «كذب» ولو صحّت لكانت بمعنى «أخطأ» كما يدلّ عليه آخر الحديث. وقد تبين أنه لا خطأ، فقد رواه جماعة من الصحابة كما علمت. فأما معناه والجمع بينه وبين الآية فيُطْلَب من مظانّه. قال أبو ريَّة: (وأنكر عليه ابن مسعود قوله: مَن غسَّل ميتًا ... وقال فيه قولًا شديدًا، ثم قال: يا أيها الناس لا تنجسوا موتاكم). _________ (1) البخاري (2859)، ومسلم (2226). (2) (6/ 63). (3) (2227). (4) (ص 172). (5) (25168 و 26034 و 26088).
(12/239)
أقول: عزاه إلى «جامع بيان العلم» لابن عبد البر (2: 85) (1) وهو هناك بغير إسناد، وفي «سنن البيهقي» (1: 307) عن ابن مسعود: «إنْ كان صاحبكم نجسًا فاغتسلوا وإن كان مؤمنًا فلم نغتسل (2)؟» وسنده واه. وقد جاء الغسل مِن غَسْل الميت من حديث عليّ وفِعْلِه، ومن حديث عائشة وحذيفة وأبي سعيد والمغيرة، راجع «سنن البيهقي» (1: 299 - 307)، و «تلخيص الحبير» (ص 50 و 157) (3). فمن أهل العلم مَن يستحب، ومنهم مَن يوجب، ومنهم من يقول: منسوخ، ومنهم من ينكر. ويظهر لي أن مَنْ جعله من باب التطهُّر لحَدَث أو نجس قد أبعد، ومن أنكره لأن الميت ليس بنجس قد أبعد، وإنما هو لمعنى آخر. والعارفون بعلم النفس والصحة يرون له تعلُّقًا بذلك، والله أعلم. قال: (ولمّا روى حديث: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه» فقال له مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة). أقول: تصرَّفَ أبو ريَّة في هذا، والحديث في «سنن أبي داود» (4) في آخره «قال: فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا، قال: فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنتُ حفظتُ ونسوا». _________ (1) (2/ 915 ــ ت الزهيري). (2) (ط): «تغتسل»، وفي هامش السنن نسخة كذلك. وقال البيهقي عقِب الحديث: إسناده ليس بالقوي. (3) (1/ 144 ــ 146 و 2/ 72). (4) (1263). وأخرجه ابن خزيمة (1120)، وابن حبان (2468).
(12/240)
وقد تقدم (ص 119) (1) مع بعض ما يناسبه. وفي «الصحيحين» (2) وغيرهما عن عائشة رضي الله عنه قالت: «كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شِقّه الأيمن». قال أبو ريَّة: (ولا نستوفي ذكر انتقاد الصحابة له والشك في روايته ... ). أقول: قد اتضح بحمد الله عزَّ وجلّ الجواب عمَّا ذَكر، ومنه يُعْلَم حال مالم يَذكر. قال: (وقد امتد الإنكار عليه واتهامه في رواياته إلى مَن بَعْد الصحابة). أقول: قد تبين أنه لم يتهمه أحدٌ من الصحابة، بل أثنوا عليه وسمعوا منه ورووا عنه، وسيأتي تمام ذلك [ص 126] وتبيّن قيام حجته الواضحة في أكثر ما انتُقِد عليه، وعذره الواضح في ما بقي، وبذلك سقط ما يخالفه من كلام مَنْ دونهم، وسنرى. قال: (روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أقلِّد مَن كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر ــ وفي رواية: أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر ــ: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب» فقيل له في ذلك، فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يُستفتى فيُفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله، وأما أبو هريرة فكان يروي كلَّ ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ). أقول: عزا أبو ريَّة هذه الحكاية إلى «مختصر كتاب المؤمل» (3) _________ (1) (ص 229 ــ 230). (2) البخاري (626)، ومسلم (736). (3) (ص 62 ــ 63 ــ ت مقبول)، وليس في النشرة الجديدة للكتاب المطبوع بعنوان «خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول» تحقيق د. جمال عزّون. انظر (ص 133 ــ 134) فهل سقط منها أو لا يوجد في النسخ الخطية التي اعتمدها؟
(12/241)
لأبي شامة، وأبو شامة من علماء الشافعية في القرن السابع (1) بينه وبين محمد بن الحسن عدة قرون، ولا ندري من أين أخذ هذا. وقد احتاج العلَّامة الكوثري في رسالته «الترحيب» (ص 24) (2) إلى هذه الحكاية. ومع سَعَة اطلاعه على كتب أصحابه الحنفية وغيرهم لم يجد لها مصدرًا إلا مصدر أبي ريَّة هذا. وحكايةٌ مثل هذه عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة لا توجد في كتب الحنفية أيّ قيمةٍ لها؟ (3). هذا، والحكاية لا تتعرَّض للأحاديث التي يرويها الصحابة، وإنما تتعلَّق بقول الصحابي الموقوف عليه هل يجوز لمن بعده مخالفته برأيه؟ فحاصلها أنَّ أبا حنيفة يقول: إنه لا يخالف قول أحدٍ من الصحابة برأيه سوى أولئك الثلاثة. فأقول: أما أنس فراجع «طليعة التنكيل» الطبعة الثانية (ص 101 - 108) (4). وأما أبو هريرة فقوله فيه: «يروي كلّ ما سمع». يعني بها: كلّ ما سمعه من الأحاديث، وليس هذا بطعن في روايته ولا هو المقصود، وإنما هو مرتبط بما بعده وهو قوله: «من غير ... » والمدار على هذا، يقول: إنه لأجل هذا لا يوثَق بما قاله برأيه؛ إذ قد يأخذه من حديث منسوخ ونحو ذلك، _________ (1) توفي سنة (665 هـ). (2) (ص 317 ــ بذيل تأنيب الخطيب). (3) ذكر هذا القول صاحب «المحيط البرهاني»: (8/ 408 ــ 410 ــ دار إحياء التراث). ووفاته سنة (571 هـ) ولم يُسند الخبر؛ فالقول فيه كالقول في أبي شامة. وانظر «التنكيل»: (1/ 21 - 22) للمؤلف. (4) (ص 78 - 85 ــ طبعتنا).
(12/242)
وسيأتي ما فيه (1). وفي الحاشية (2): (قال في «مرآة الوصول» وشرحها «مرقاة الأصول» من أصول الحنفية رحمهم الله في بحث الراوي: وهو إن عرف بالرواية فإن كان فقيهًا تقبل منه الرواية مطلقًا سواء وافق القياس أو خالفه. وإن لم يكن فقيهًا (كأبي هريرة وأنس) رضي الله عنهما فترد روايته). أقول: في هذا أمران، الأول: أن الصواب: «في «مرقاة الوصول» وشرحها «مرآة الأصول». الثاني: أن مؤدَّى العبارة ــ على ما نقله أبو ريَّة ــ ردُّ رواية أبي هريرة وأنس ونحوهما مطلقًا، لكن تمام العبارة في مصدره: «إن لم يوافق ــ الحديث الذي رواه ــ قياسًا أصلًا، حتى إن وافق قياسًا وخالف قياسًا تقبل». على أن [ص 127] هذا القول قد ردَّه محقّقو الحنفية، قال ابن الهمام في «التحرير»: «وأبو هريرة فقيه». قال شارحه ابن أمير الحاج (2: 251) (3): «لم يعدم شيئًا من أسباب الاجتهاد، وقد أفتى في زمن الصحابة، ولم يكن يفتي في زمنهم إلا مجتهد، وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من (4) بين صحابي وتابعي، منهم ابن عباس وجابر وأنس، وهذا هو الصحيح». ذكر أبو ريَّة في الحاشية (5): أن في قوله: «يروي كلَّ ما سمع» إشارة _________ (1) وقال أبو ريَّة في حاشية ص 334: «من أجل ذلك لم يأخذ أبو حنيفة بما جاء عن أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة ... » كذا يقول أبو رية، فانظر واعتبر! [المؤلف]. (2) هذه الحاشية حُذِفت من الطبعات اللاحقة. انظر (ص 178 ــ ط السادسة). (3) (4/ 134). (4) في أصله: «ما». (5) هذه الحاشية أيضًا لا وجود لها في الطبعات اللاحقة. انظر (ص 178 ــ 179).
(12/243)
إلى حديث: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما يسمع» (1). أقول: هذا الحديث عام يشمل ما يسمع مما يُعلم أو يُظن أنه كذب، وأبو هريرة إنما كان يحدّث بالعلم، بما يعلم أو يعتقد أنه صدق، فأين هذا من ذاك؟ وقال ص 170: (وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف قياسنا، ما نصنع به؟ فقال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي. فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال: ناهيك بهما. فقلت: وعلي وعثمان، قال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة قال: والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالًا - وعدَّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك). أقول: لم يذكر مصدره. وهذه عادته (الحميدة) في تدليس بلاياه. ثم وجدت مصدره وهو «شرح نهج البلاغه» لابن أبي الحديد (1: 360) (2) عن أبي جعفر الإسكافي فراجع ما تقدم (ص 109) (3). ولا ريب أنَّ هذا لا يصح عن أبي يوسف ولا أبي حنيفة، والمعروف عنهما وعن أصحابهما في كتب العقائد والأصول وغيرها ما عليه سائر أهل السنة: أن الصحابة كلّهم عدول، وإنما يقول بعضهم: إن فيهم من ليس بفقيه أو مجتهد، قال ابن الهمام في «التحرير» (4): « ... يقسم الراوي الصحابي إلى مجتهد كالأربعة والعبادلة، فيقدَّم على القياس مطلقًا، وعَدْل ضابط كأبي هريرة وأنس وسلمان وبلال فيقدَّم، إلا إن خالف كلَّ الأقيسة على قول عيسى والقاضي أبي زيد ... » ثم قال بعد ذلك: «أبو هريرة مجتهد» كما تقدّم. _________ (1) أخرجه مسلم في مقدمة «صحيحه» (5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) (4/ 68). (3) (ص 210 ــ 211). (4) (4/ 131 ــ 132 ــ مع شرحه التقرير).
(12/244)
وغير عيسى وأبي زيد ومَنْ تَبِعه يرون تقديم الخبر مطلقًا. راجع «فواتح الرحموت» (145: 2). ثم حكى أبو ريَّة ما رُوي عن إبراهيم: (كان أصحابنا يَدَعون من حديث أبي هريرة، ما كانوا يأخذون بكلِّ حديث أبي هريرة. كانوا يرون في حديث أبي هريرة (1) شيئًا، ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار أو حثّ على عمل صالح أو نهي عن شرّ جاء بالقرآن (2)، دعني من حديث أبي هريرة (3)، إنهم كانوا يتركون كثيرًا من حديثه). أقول: ذكر ابن كثير في «البداية» (109: 8) (4) بعضَ هذه الكلمات عن ابن عساكر، ولم يسق السند بتمامه. وباقيها أخذه أبو ريَّة من «شرح النهج» لابن أبي الحديد (360: 1) (5) حكاه ابن أبي الحديد عن الإسكافي، وراجع (ص 109) (6)، وقد تقدم (ص 121) (7) أخذ إبراهيم بحديث أبي هريرة الذي أخبرت عائشة بخلافه فترك أبو هريرة [ص 128] الإفتاء به وقال: «إنما حدثنيه الفضل بن عباس»، وأَخْذُهُ به يدلّ على ثقةٍ بالغةٍ بأبي هريرة وحديثه. _________ (1) في كتاب أبي ريَّة (ص 179 ــ ط: 6): «في أحاديث رسول الله». (2) عند أبي ريَّة: «جاء في القرآن». (3) عند أبي ريَّة: «دعني من أبي هريرة». (4) (11/ 377 ــ 378). وقال ابن كثير عقبه: «وقد انتصر ابنُ عساكر لأبي هريرة، وردّ هذا الذي قاله إبراهيم النخعي. وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين والجمهور على خلافهم» اهـ. وانظر «تاريخ دمشق»: (67/ 360 ــ 362). (5) (4/ 68). (6) (ص 210 ــ 211). (7) (ص 232 ــ 233).
(12/245)
ثم إن صحَّتْ تلك الكلمات أو بعضها فقوله: «كان أصحابنا» يريد بهم أشياخه من الكوفيين، وإليهم يرجع الضمير في قوله: «كانوا». وحقُّ هذه الكلمات ــ إن صحَّت عن إبراهيم ــ أن تُنتقد عليه لا على أبي هريرة. وقد تقدم بيان حال أبي هريرة عند الصحابة وثناؤهم عليه وسماعهم منه وروايتهم عنه، ويأتي لذلك مزيد، وبان سقوط كلّ ما خالف ذلك من مزاعم أهل البدع، وظهرت حجةُ أبي هريرة فيما انتقده بعضهم عليه. ثمَّ إن التابعين من أهل الحجاز وعلمائه وهم أبناء علماء الصحابة وتلاميذهم والذين حضروا مناظرتهم لأبي هريرة وعَرفوا حقيقة رأيهم فيه= أطبقوا هم وعلماء البصرة والشام وسائر الأقطارـ سوى ما حُكِي عن بعض الكوفيين ــ على الوثوق التامّ بأبي هريرة وحديثه. وقد كان بين الكوفيين والحجازيين تباعُد، والكوفيون نشأوا على الأحاديث التي عرفوها من رواية الصحابة الذين كانوا عندهم، ثم حاولوا تكميل فقههم بالرأي وجَرَوا على مقتضاه، ثم كانوا إذا جاءهم بعد ذلك حديث بخلاف ما قد جروا عليه وأَلِفُوه تلكَّأوا في قبوله وضربوا له الأمثال. وإذ كان أبو هريرة مكثرًا كانت الأحاديث التي جاءتهم عنه بخلاف رأيهم أكثر من غيره، فلهذا ثَقُل على بعضهم بعضُ حديثه، وساعد على ذلك ما بلغهم من أنَ بعضَ الصحابة قد انتقد بعض أحاديث أبي هريرة. وقد كان أهل الحجاز أيضًا ينفرون عن الأحاديث التي تأتيهم عن أهل العراق، حتى اشتهر قولهم: نزِّلوا أهلَ العراق منزلةَ أهلِ الكتاب، لا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم (1). وعلى كلّ حال فقد انحصر مذهبُ أهل العراق في أصحاب أبي حنيفة، _________ (1) قاله مالك. انظر «جامع بيان العلم وفضله»: (2/ 1108).
(12/246)
وقد علمتَ بأن أبا هريرة عندهم عدل ضابط، واعتراف محققيهم بأنه مع ذلك فقيه مجتهد، والأحاديث التي يخالفونها من مروياته سبيلها سبيل ما يخالفونه من مرويَّات غيره من الصحابة، والحقّ أحقُّ أن يُتّبع، والله الموفق. قال أبو ريَّة ص 171: (وقال أبو جعفر الإسكافي: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي بالرواية). أقول: وقد زادني حبًّا لنفسي أنني ... بغيضٌ إلى كلِّ امرئ غير طائل (1) قال: (ضربه عمر وقال: أكثرْتَ من الحديث، وأحْرِ بكَ أن تكون كاذبًا على رسول الله). أقول: عزاه أبو ريَّة إلى «شرح النهج» (2) لابن أبي الحديد، وقد مرَّ النظرُ فيه (ص 109) (3)، وراجع (ص 119) (4). قال: (وفي «الأحكام» للآمدي: أنكر الصحابةُ على أبي هريرة كثرة روايته .. ). أقول: قد فرغنا من هذا. [ص 129] قال: (وجرت مسألة المصرَّاة في مجلس الرشيد، فتنازع القومُ فيها وعلت أصواتُهم، فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة، فردَّ بعضهم الحديثَ وقال: أبو هريرة متهم، ونحا نحوه الرشيد). _________ (1) البيت للطِّرِمّاح بن حكيم ضمن قصيدة له. انظر «ديوان الحماسة»: (1/ 130) لأبي تمام، و «الحيوان»: (3/ 112) للجاحظ، و «الشعر والشعراء»: (2/ 589). (2) (4/ 68). (3) (ص 210 ــ 211). (4) (ص 229 ــ 230).
(12/247)
أقول: جوابُ الحكاية في تتمتها التي حذفها أبو ريَّة وأخفى المصدر، وقد كنتُ وقفتُ عليها بتمامها في «تاريخ بغداد» أحسب، ولم أهتد إليها الآن (1)، وقد كان يحضر مجلس الرشيد بعض رؤوس البدعة كبِشر _________ (1) هي فيه (11/ 196 ــ 197) في ترجمة عمر بن حبيب العدوي. أقول: وقد بتر القصة أبو رية كما هي عادته، وفي آخرها رجوع الرشيد إلى الحق واعترافه بخطئه. هذا لو كانت القصة ثابتة، فكيف وفي سندها محمد بن يونس الكُدَيمي وهو متهم بالوضع. انظر «الكامل»: (6/ 292)، و «الكشف الحثيث» (ص 254). والقصة كما رواها الخطيب في «تاريخه» قال: أخبرني الأزهري حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان العكبري، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم النحوي، حدثنا أبو العباس محمد بن يونس الكُديمي، حدثنا يزيد بن مرة الزارع، قال: حدثنا عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة، فتنازعها الحضور وعلت أصواتهم، فاحتجّ بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يحل هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن أبا هريرة متهم فيما يرويه وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن نبي الله وغيره، فنظر إليَّ الرشيد نظر مُغضب، فقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل عليّ فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنّط وتكفّن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك - صلى الله عليه وسلم - أن يُطْعَن على أصحابه، فسلّمْني منه، فأُدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي مِن ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقَّاني أحدٌ من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين! إن الذي قلتَه وجادلتَ عليه فيه إزراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذَّابين فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال لي: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله. وأمر لي بعشرة آلاف درهم. ا? .
(12/248)
المرّيسي. وذكر أبو ريَّة كلامًا لجولد زيهر اليهودي وغيره من المستشرقين لا شأن لنا به؛ لأننا نعرف هؤلاء وافتراءهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى القرآن، وراجع (ص 72 و 94 و 99) (1). وقال أبو ريَّة ص 172: (أَخْذه عن كعب الأحبار ... اليهودي الذي أظهر الإسلام خداعًا وطوى قلبه على يهوديته). أقول: قد تقدّم النظرُ في حال كعب بما فيه كفاية، وسيلقى المجازف عاقبةَ تهجُّمه {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. ثم ذكر رواية الصحابة عن كعب، وقد تقدم النظر في ذلك (ص 73 و 110 و 115) (2). قال: (ويبدو أن أبا هريرة كان أول الصحابة انخداعًا وثقة فيه). أقول: إنما الثابت أنه حكى عنه شيئًا مما نسبه كعب إلى صحف أهل الكتاب، وليس في هذا ما يدلّ على ثقة. قال: (وروايةً عنه وعن إخوانه). _________ (1) (ص 142 ــ 143 و 183 ــ 185 و 193). (2) (ص 143 ــ 145 و 212 ــ 214 و 222).
(12/249)
أقول: إننا نتحدَّى أبا ريَّة أن يجمع عشر حكايات مختلفة يثبت أن أبا هريرة رواها عن كعب، فأما إخوانه؛ فعبد الله بن سلام لا يطعن فيه مسلم، وتميم الدَّاري قريب منه، ولعله لا يثبت لأبي هريرة عن كلٍّ منهما إلا خبر واحد. وذكر كلامًا من تهويله تُعْرَف قيمتُه من النظر في شواهده. قال: (فقد روى الذهبي في «طبقات الحفاظ» في ترجمة أبي هريرة أن كعبًا قال فيه، أي في أبي هريرة: ما رأيت أحدًا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة. ورواية البيهقي في «المدخل» من (1) طريق بكر بن عبد الله عن (2) أبي رافع أن أبا هريرة لقي كعبًا فجعل يحدّثه ويسأله، فقال كعبٌ: ما رأيت رجلًا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة). أقول: هي حكاية واحدة. فالذي في كتاب الذهبي: «الطيالسي أخبرنا عِمْران القطّان عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع ... » فذكرها. وعمران القطان ضعيف ولا يتحقق سماعه من بكر، وفي القرآن والسنَّة قصص كثيرة مذكورة في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب الآن، فإذا تتبَّعها أبو هريرة وصار يذكرها لكعب كان ذلك كافيًا لأن يقول كعب تلك الكلمة، ففيم التهويل الفارغ؟ [ص 130] قال: (ومما يدلك على أن هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردّد كلامَ هذا الكاهن بالنص ويجعله حديثًا مرفوعًا ما نورد لك شيئًا منه، روى البزار [عن أبي سلمة] عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة. فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال [أبو سلمة]: أحدِّثك عن رسول الله _________ (1) في كتاب أبي ريَّة «في». [المؤلف]. (2) فيه «بن». [المؤلف].
(12/250)
وتقول: ما ذنبهما؟ . وهذا الكلام نفسه قد قاله كعب بنصه، فقد روى أبو يعلى الموصلي قال كعب: يُجَاء بالشمس والقمر كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم). أقول: عزاه أبو ريَّة إلى «حياة الحيوان» (1)، وسيأتي ما فيه. قال البخاري في باب صفة الشمس والقمر من بدء الخلق من «صحيحه» (2): حدثنا مسدَّد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الدَّانَاجُ قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشمس والقمر مكوَّران يوم القيامة». وفي «فتح الباري» (214: 6) (3): أنّ البزَّار والإسماعيلي والخطَّابي أخرجوه من طريق يونس بن محمد عن عبد العزيز بن المختار، وزادوا بعد كلمة (مكوَّران): «في النار». أما «حياة الحيوان» للدميري ــ مصدر أبي ريَّة ــ فإنه ذكر أولًا حديث البخاري، ثم حديث البزار وفيه: «ثوران» كما مرَّ، وظاهر ما في «فتح الباري» أو صريحه: أن الذي في رواية البزّار والإسماعيلي والخطَّابي «مكوّران» كرواية البخاري لا «ثوران» (4). _________ (1) (1/ 592 ــ دار البشائر). ولعلّ مصدره «البداية والنهاية»: (1/ 79 ــ 80). (2) (3200). (3) (6/ 299). (4) ثم وجدت بعضهم نقل رواية البزار بلفظ «ثوران مكوران» جمع بين الكلمتين. [المؤلف]. أقول: الذي في «مسند البزار» (8696): «ثوران» كما نقل الدميري وابن كثير. أما الرواية المجموعة فيها الكلمتان فأخرجها تمَّام في «فوائده» (1534)، والضياء المقدسي في «ذكر النار» (77).
(12/251)
ثم قال الدَّميري: وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي (1) من طريق دُرُست بن زياد عن يزيد الرَّقَاشي، وهما ضعيفان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشمس والقمر ثوران عقيران في النار». وقال كعب الأحبار: يُجَاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران، فيُقْذَفان في جهنم ليراهما مَنْ عَبَدهما، كما قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] الآية. دُرُست ويزيد تالفان، فالخبر عن أنس وكعب ساقط، مع أنه لم يتبيَّن مَنْ القائل: «قال كعب ... »؟ وبهذا يُعلم بعض أفاعيل أبي ريَّة. فأما المتن كما رواه البخاري فمعناه في كتاب الله عزَّ وجلّ، ففي سورة القيامة: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 8 - 9]، وفي سورة التكوير: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]. وزيادة غير البخاري: «في النار» يشهد لها قول الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] وفي «صحيح البخاري» (2) وغيره من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا في صفة الحشر: «ثم ينادي مناد: ليذهب كلُّ قوم إلى ما كانوا يعبدون. فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب [ص 131] الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم». والحديث في «صحيح مسلم» (3) وفيه: _________ (1) في «مسنده» (4116). (2) (7439). (3) (183).
(12/252)
«فلا يبقى أحدٌ كان يُعبَد ــ غير الله ــ من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار». وفي «الصحيحين» (1) حديثٌ حدَّث به أبو هريرة، وأبو سعيد حاضر يستمع له فلم يردّ عليه شيئًا، إلا كلمة في آخره وفيه: «يجمع الله الناس فيقول: مَنْ كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ومن كان يعبد القمرَ القمرَ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ... » ويوافق ذلك قوله تعالى في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]. وإن صحت كلمة «ثوران» أو «ثوران عقيران» كما في خبر أبي يعلى على سقوط سنده فذلك ــ والله أعلم ــ تمثيل، وقد ثبت أنَّ المعاني تُمثَّل يوم القيامة، كما يمثَّل الموت بصورة كبش وغير ذلك، فما بالك بالأجسام؟ ومِن الحكمة في تمثيل الشمس والقمر أن عُبَّادهما يعتقدون لهما الحياة، والمشهور بعبادة الناس له من الحيوان العِجْل فمُثِّلا مِن جنسه. وفي «الفتح» (2): «قال الإسماعيلي: لا يلزم مِن جَعْلهما في النار تعذيبهما، فإنَّ لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذابًا وآلة من آلات العذاب وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذَّبة». فأنت ترى شهادة القرآن والأحاديث الصحيحة لحديث أبي هريرة، ولم يثبت عن كعب شيء، ولو ثبت لكان المعقول أنه هو الآخذ لذلك عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة. _________ (1) البخاري (6573)، ومسلم (182). (2) (6/ 300).
(12/253)
وقول الحسن لأبي سلمة: «وما ذنبهما» قد عرفتَ جوابه، وهو يمثِّل حالَ أهلِ العراقِ في استعجال النظر فيما يشكل عليهم. وجواب أبي سلمة يمثِّل حال علماءِ الحجاز في التزام ما يقضي به كمال الإيمان مِن المسارعة إلى القبول والتسليم ثم يكون النظر بعدُ. وجوابُه وسكوتُ الحَسَن يبين مقدار كمال الوثوق من علماء التابعين بأبي هريرة وثقته وإتقانه، وأن ما يُحْكَى مما يخالف ذلك إنما هو مِن اختلاق أهل البدع. وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف مِن كبار أئمة التابعين بالمدينة، مكثر الرواية عن الصحابة كأبي قتادة وأبي الدرداء وعائشة وأم سلمة وابن عمر وأبي هريرة، فهو مِن أعلم الناس بحال أبي هريرة في نفسه وعند سائر الصحابة رضي الله عنهم. قال أبو ريَّة ص 174: (وروى الحاكم في «المستدرك» والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أنَّ النبي قال: إن الله أذن لي أن أحدِّث عن دِيْكٍ رجلاه في الأرض وعُنُقُه مَثنيَّة تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك، فيرد عليه: ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبًا. وهذا الحديث من قول كعب الأحبار ونصه: إن لله ديكًا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض، [ص 132] فإذا صاح صاحت الدِّيَكة فيقول: سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره). أقول: عزا هذا إلى «نهاية الأرب» (1) للنُّويري، والنويري أديب من أهل القرن السابع، ولا يُدْرَى من أين أخذ هذا، والحديث يُروى عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة، منهم جابر والعُرْس بن عميرة وعائشة وثوبان وابن عمر وابن عباس وصفوان بن عَسَّال وأبو هريرة. _________ (1) (10/ 133 ــ دار الكتب العلمية).
(12/254)
ذكر ابنُ الجوزي حديث جابر والعُرس في «الموضوعات» (1)، وتعقَّبه السيوطيّ وذكر رواية الآخرين. راجع «اللآلي المصنوعة» (32: 1) (2). أما عن أبي هريرة فهو من طريق إسرائيل عن معاوية بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، ومعاوية لم يخرج له مسلم وأخرج له البخاري حديثًا واحدًا متابعة، وقد قال فيه أبوزرعة: «شيخ واه» ووثَّقه بعضهم (3)، والمَقْبُريّ اختلط قبل موته بأربع سنين (4). ولفظ الخبر مع ذلك مخالف لما نسبه النويريُّ إلى كعب. قال أبو ريَّة: (وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة. وهذا القول نفسه رواه كعب إذ قال: أربعة أنهار وصفها الله عزَّ وجلّ في الدنيا، فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسَيحان نهر الماء في الجنة، وجَيحان نهر اللبن في الجنة). أقول: أما حديث: «سَيحان وجَيحان والفُرات والنيل كلٌّ من أنهار الجنة» ففي «صحيح مسلم» (5) عن أبي هريرة مرفوعًا، وذكر القاضي عياض فيه وجهين (6)؛ ثانيهما: أنه كناية أو بشارة عن أن الإيمان يعمّ بلادها. وتقريبه: أنه بحذف مضاف، أي أنهار أهل الجنة وهم المسلمون. فأما خبر كعب فيُروَى عن عبد الله بن صالح كاتب الليث ــ وهو مُتكلَّم _________ (1) حديث جابر رقم (1351، 1352)، وحديث العُرس رقم (1354). (2) (1/ 60 ــ 61). (3) انظر «تهذيب التهذيب»: (10/ 202). (4) كما قال ابن حبان، انظر «ملحق الكواكب النيّرات» (ص 466 ــ 467). (5) (2839). (6) في «إكمال المعلم»: (7/ 372).
(12/255)
فيه ــ عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب، وأبو الخير لم يدرك كعبًا ــ فإن صح فإنما أخذ كعبٌ حديث أبي هريرة وزاد فيه ما زاد أخذًا من قول الله عزَّ وجلّ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] وكأنه يرى أنَّ في الجنة حقيقة أنهارًا سُمِّيت بأسماء أنهار الدنيا، والله أعلم (1). ثم قال أبورية: (وقال ابن كثير في «تفسيره»: إن حديث أبي هريرة في يأجوج ومأجوج ... لعل أبا هريرة تلقاه من كعب، فإنه كان كثيرًا ما كان يجالسه ويحدّثه). أقول: تتمة عبارة ابن كثير (2): «فحدَّث به أبو هريرة [عن كعب] فتوهَّم بعضُ الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه» [ص 133] وفي كلام أبي ريَّة: «وقد روى أحمد هذا الحديث عن كعب»، وهذا كذب، إنما قال ابن كثير: «لكن هذا (يعني المعنى بل بعضه) قد رُوي عن كعب ... » وساق بعضه ولم يذكر سنده ولا مَنْ أخرجه. وصنيع ابن كثير هنا غير جيد مِنْ أوجه لا أطيل بذكرها. وهذا الحديث مداره على قَتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة، رواه عن قتادة فيما وقفت عليه ثلاثة: الأول: شيبان بن عبد الرحمن في «مسند أحمد» (533: 2) (3). الثاني: أبو عَوانة في «سنن الترمذي» (4) و «مستدرك الحاكم» (488: 4). الثالث: سعيد بن أبي عَروبة في «تفسير ابن جرير» _________ (1) ويأتي ص 170 [ص 323 ــ 324] من كتابي هذا زيادة. [المؤلف]. (2) «تفسيره»: (5/ 2195). (3) كذا في الأصل وصوابها (2/ 311)، وهو برقم (10633). (4) (3153).
(12/256)
(16: 16) (1) و «سنن ابن ماجه» (2) و «مسند أحمد» (532: 2) (3). فأما شيبان وأبو عَوانة ففي روايتهما: « ... قتادة عن أبي رافع». وأما سعيد فرواه عنه فيما وقفتُ عليه ثلاثة: الأول: يزيد بن زُريع عند ابن جرير، وفيه أيضًا: « ... قتادة عن أبي رافع». الثاني: عبد الأعلى بن عبد الأعلى عند ابن ماجه وفيه: « ... قتادة قال: «حدث أبو رافع» هكذا نقله ابن كثير في «تفسيره» طبعة بولاق (173: 6) وطبعة المنار (333: 5) (4) ومخطوط مكتبة الحرم المكي، وهكذا في «سنن ابن ماجه» نُسَخِ مكتبة الحرم المكي المخطوطة وهي أربع (5)، وطبعة عمدة المطابع بدهلي في الهند سنة 1273، ووقع في أربع نسخ مطبوعة هنديتين ومصريتين (6): « ... قتادة قال: حدثنا أبو رافع» مع أن سياق السند من أوله فيها هكذا: «حدثنا أزهر بن مروان ثنا عبد الأعلى ثنا سعيد عن قتادة ... » فلو كان في الأصل: «قال حدثنا» لاختُصر في الأصول المخطوطة لهذه النسخ الأربع إلى «ثنا» كسابقيه في أثناء السند، ولكنَّه جَهْلُ الطابعين، حَسِبوا أنه لا يقال: «حدَّث فلان» وإنما يقال: «حدثنا فلان» فأصلحوه بزعمهم، وتَبِع متأخّرُهم متقدّمَهم، والله المستعان. _________ (1) (15/ 398). (2) (4080). (3) كذا في الأصل وصوابها (2/ 311) وهو برقم (10632). (4) وكذلك في طبعة البنّا (5/ 2195)، وطبعة دار طيبة (5/ 197). (5) ومثلها النسخة الأزهرية (ق 166 ب)، ونسخة باريس. (6) ومثله في طبعة بشَّار عوَّاد (5/ 537).
(12/257)
الثالث: رَوح بن عُبادة عند أحمد وفيه: « ... قتادة ثنا أبو رافع» وأحسب هذا خطأ من ابن المُذْهِب راوي المسند عن القَطِيعي عن عبد الله بن أحمد. وفي ترجمته من «الميزان» (1) و «اللسان» (2) قول الذهبي: «الظاهر من ابن المُذهب أنه شيخ ليس بمتقن، وكذلك شيخه ابن مالك، ومن ثَمَّ وقع في «المسند» أشياء غير مُحْكَمة المتن ولا الإسناد». ومن المحتمل أن يكون الخطأ من رَوح، فإن كُلًّا من يزيد وعبد الأعلى أثبت منه، وقتادة مشهور بالتدليس؛ فلو كان الخبر عند سعيد عنه مصرَّحًا فيه بالسماع لحرص سعيد على أن يرويه كذلك دائمًا، [ص 134] بل أطلق أبو داود (3) أنّ قتادة لم يسمع من أبي رافع، وظاهره أنه لم يسمع منه شيئًا، ولكن نظر فيه ابن حجر (4). على كلِّ حال، فلم يثبت تصريح قتادة في هذا بالسماع، فلم يصح الخبر عن أبي رافع، وأبو رافع هو نُفَيع البصري، مخضرم ثقة لا يظن به أن يخطئ الخطأ الذي أشار إليه ابن كثير. فلو صحَّ الخبر عنه لزم تصحيحه عن أبي هريرة، ولو صح عن أبي هريرة لصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو صح مع ذلك أنَّ كعبًا أخبر بما يشبهه لكان محمله الطبيعي أنَّ كعبًا سمع الحديث من أبي هريرة أو غيره من الصحابة فاقتبس منه خبره، لكن الخبر لم يصح عن أبي رافع، فلم يصح عن أبي هريرة، فلم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ندري ممن سمعه قتادة. والله أعلم. _________ (1) (2/ 33 ــ 35). (2) (3/ 91 ــ 93). (3) في «السنن»: (5/ 367). (4) في «تهذيب التهذيب»: (8/ 354) قال معلقًا على كلام أبي داود: «كأنه يعني حديثًا مخصوصًا، وإلا ففي صحيح البخاري تصريح بالسماع منه».
(12/258)
قال أبو ريَّة: (وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: إن الله خلق آدم على صورته. وهذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأول من التوراة ونصه هناك: وخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه). أقول: قد علم الجن والإنس أنَّ في الكتاب الموجود بأيدي أهل الكتاب المسمّى (1) بالتوراة ما هو حق وما هو باطل، وأنَّ في القرآن كثيرًا من الحقّ الذي في التوراة وكذلك في السنة. فإذا كان هذا منه كان ماذا؟ والكلام في معناه معروف (2). وعلَّق أبو ريَّة في الحاشية بذكر ما ورد في سياق الحديث: أن طول آدم كان ستين ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقص، واستشكال ابن حجر له بما يوجد مِن مساكن الأمم السالفة. أقول: لم يتحقَّق بحجَّة قاطعة كم مضى للجنس البشري منذ خُلق آدم؟ وما في التوراة لا يعتمد عليه، وقد يكون خُلِق ستين ذراعًا فلما أُهْبِط إلى الأرض نقص من طوله دفعة واحدة ليناسب حال الأرض، إلا أنه بقي أطول مما عليه الناس الآن بقليل، ثم لم يزل ذاك القليل يتناقص في الجملة. والله أعلم. وفي «فتح الباري» (260: 6) (3): «روى ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن أبيّ بن كعب مرفوعًا: «إن الله خلق آدم رجلًا طوالًا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق». وقال في حاشية ص 175: (وأنكر مالك هذا الحديث، وحديث: إن الله يكشف _________ (1) (ط): «مسمى» ولعل الصواب ما أثبت. (2) وذكر رواية (على صورة الرحمن) وهذا جاء من حديث ابن عمر، قال ابن حجر في الفتح 123: 5: «ورجاله ثقات». [المؤلف]. (3) (6/ 367).
(12/259)
عن ساقه يوم القيامة، وأنه ... يدخل في النار يده حتى يدخل من أراد، إنكارًا شديدًا). أقول: لم يذكر أبو ريَّة مصدره إن كان له مصدر، والحديث الثالث أحسبه يريد به حديث «الصحيحين» (1) عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وفيه: «فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوامًا». ومالكٌ رحمه الله يؤمن بهذه الأحاديث ونظائرها الكثيرة في الكتاب والسنة. [ص 135] قال: (وحديث كشف الساق من رواية أبي هريرة في «الصحيحين» .. ). أقول: هذا كذب، وإنما هو في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري، وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود (2)، وآخر من حديث أبي موسى (3)، رضي الله عنهم. قال أبو ريَّة ص 175: (ولما ذكر كعب صفة النبي في التوراة قال أبو هريرة في صفته - صلى الله عليه وسلم -: لم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا سخَّابًا في الأسواق. وهذا نصّ كلام كعب كما أوردناه من قبل). أقول: ثبتت هذه الفقرة في خبر عبد الله بن عَمْرو بن العاص في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، وجاء نحوه عن عبد الله بن سلام وعن كعب كما [تقدم] (ص 71) (4). أما أبو هريرة ففي «المسند» (448: 2) (5) من طريق صالح مولى التوأمة ــ وهو ضعيف ــ: «سمعت أبا هريرة ينعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) البخاري (7439)، ومسلم (183). (2) أخرجه الحاكم في «المستدرك»: (2/ 376). (3) أخرجه أبو يعلى (7283) بسندٍ فيه ضعف كما قال الحافظ في «الفتح»: (8/ 664). (4) (ص 140 ــ 141). (5) (9787).
(12/260)
فقال: كان شَبْحَ الذِّراعين، أهْدب أشفار العينين، بعيد ما بين المَنْكِبين، يُقْبِل إذا أقبل جميعًا ويُدبر إذا أدبر جميعًا» زاد بعض الرواة: «بأبي وأمي، لم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا سخَّابًا بالأسواق». وقد علم أبو هريرة معنى هذه الفقرة يقينًا بالمشاهدة والصحبة، فأيّ شيء عليه في أخذ لفظها مما ذكره عبد الله بن عَمْرو أو غيره؟ قال: (وروى مسلم عن أبي هريرة: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة ... » وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما: إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام). أقول: هذا الخبر رواه جماعة عن ابن جريج قال: «أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ ... » (1). وفي «الأسماء والصفات» للبيهقي (ص 276) (2) عن ابن المديني: أن هشام بن يوسف رواه عن ابن جريج. وقد استنكر بعضُ أهل الحديث هذا الخبر، ويمكن تفصيل سببب الاستنكار بأوجه: الأول: أنه لم يذكر خَلْق السماء، وجعل خلق الأرض في ستة أيام. _________ (1) صحيح مسلم (2789). (2) (2/ 352 ــ ت الحاشدي). ووقع في (ط): (ص 176) وصوابه ما أثبت كما سيأتي على الصواب بعد صفحة.
(12/261)
الثاني: أنه جعل الخلق في سبعة أيام. [ص 136] والقرآنُ يبيِّن أن خلق السموات والأرض كان في ستة أيام، أربعة منها للأرض ويومان للسماء. الثالث: أنه مخالف للآثار القائلة: إن أول الستة يوم الأحد، وهو الذي تدل عليه أسماء الأيام: الأحد ــ الاثنان ــ الثلاثاء ــ الأربعاء ــ الخميس. فلهذا حاولوا إعلاله، فأعلَّه ابنُ المديني بأن إبراهيم بن أبي يحيى قد رواه عن أيوب، قال ابن المديني: «وما أرى إسماعيل بن أميّة أخذ هذا إلا عن إبراهيم بن أبي يحيى» انظر «الأسماء والصفات» (ص 276) (1)، يعني وإبراهيم مرميٌّ بالكذب فلا يثبت الخبر عن أيوب ولا مَنْ فوقه. ويَرِدُ على هذا أن إسماعيل بن أمية ثقة عندهم غير مدلس، فلهذا ــ والله أعلم ــ لم يرتض البخاريُّ قولَ شيخه ابن المديني، وأعلَّ الخبر بأمرٍ آخر، فإنه ذكر طرفه في ترجمة أيوب من «التاريخ» (1/ 1/413) ثم قال: «وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب. وهو أصح». ومُؤدَّى صنيعه أنه يحدس أن أيوب أخطأ، وهذا الحدس مبنيٌّ على ثلاثة أمور: الأول: استنكار الخبر لِمَا مرَّ. الثاني: أن أيوب ليس بالقوي، وهو مُقِلّ لم يخرج [له] مسلم إلا هذا الحديث؛ لِمَا يُعلم من «الجمع بين رجال الصحيحين» (2)، وتكلّم فيه الأزدي ولم يُنقَل توثيقه عن أحد من الأئمة إلا أن ابن حبان ذكره في «ثقاته» (3)، وشَرْطُ ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف. _________ (1) (2/ 352). (2) لابن طاهر (1/ 35). (3) (6/ 54).
(12/262)
الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله: «وقال بعضهم» وليته ذكر سندها ومتنها فقد تكون ضعيفة في نفسها وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين. ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب وعبد الله بن سلام ووهب بن منبِّه ومَن يأخذ عنهم: أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم وعليه بنوا قولهم في السبت، انظر «الأسماء والصفات» (ص 272 و 275) (1) وأوائل «تاريخ ابن جرير» (2). وفي «الدر المنثور» (91: 3) (3): «أخرج ابن أبي شيبة عن كعب قال: بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وجعل كلَّ يوم ألف سنة»، وأسنده ابنُ جرير في أوائل «التاريخ» (22: 1 ط ــ الحسينية) (4) واقتصر على أوله: «بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين» فهذا يدفع أن يكون ما في الحديث من قول كعب. وأيوب لا بأس به، وصنيع ابن المديني يدلّ على قوَّته عنده، وقد أخرج له مسلم في «صحيحه» كما علمت، وإن لم يكن حدّه أن يُحتج به في الصحيح. فمدار الشكِّ في هذا الحديث على الاستنكار، وقد يجاب عنه بما يأتي: أما الوجه الأول: فيجاب عنه بأنَّ الحديث وإن لم ينص على خلق _________ (1) (2/ 243، 250). (2) (1/ 21 ــ دار الكتب العلمية). (3) (6/ 420 ــ دار هجر). (4) (1/ 35 ــ دار الكتب العلمية).
(12/263)
السماء فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس: النور، وفي السادس: الدواب، وحياةُ الدوابّ محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما [ص 137] الأجرام السماوية. والذي فيه: أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذَكَر خلق الأرض في أربعة أيام، لم يذكر ما يدلّ على أن مِنْ جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذَكَرَ خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدلّ أنه في أثناء ذلك لم يُحْدِث في الأرض شيئًا، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في التطوّر بما أودعه الله تعالى فيها. والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن. ويجاب عن الوجه الثاني: بأنه ليس في هذا الحديث أنه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدلّ على أن خلق آدم كان في الأيام الستة، ولا في القرآن ولا السنة ولا المعقول أنَّ خالقية الله عزَّ وجلَّ وقفت بعد الأيام الستة. بل هذا معلوم البطلان. وفي آيات خلق آدم أوائل البقرة وبعض الآثار ما يُؤخذ منه أنه قد كان في الأرض عُمَّار قبل آدم عاشوا فيها دهرًا، فهذا يساعد القول بأن خلق آدم متأخر بمدَّة عن خلق السموات والأرض. فتدبر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان يتضحْ لك إن شاء الله أنَّ دعوى مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت ولله الحمد. وأما الوجه الثالث: فالآثار القائلة إنّ ابتداء الخلق يوم الأحد ما كان منها مرفوعًا فهو أضعف من هذا الحديث بكثير، وأما غير المرفوع فعامَّته من قول عبد الله بن سلام وكعب ووهب ومَنْ يأخذ عن الإسرائيليات. وتسمية الأيام كانت قبل الإسلام تقليدًا لأهل الكتاب، فجاء الإسلام وقد اشتهرت
(12/264)
وانتشرت فلم ير ضرورةً إلى تغييرها؛ لأن إقرار الأسماء التي قد عُرِفت واشتهرت وانتشرت لا يُعَدُّ اعترافًا بمناسبتها لما أُخِذَت منه أو بُنيت عليه، إذ قد أصحبت لا تدل على ذلك وإنما تدل على مسمياتها فحسب، ولأن القضية ليست مما يجب اعتقاده أو يتعلق به نفسه حكم شرعي، فلم تستحق أن يحتاط لها بتغيير ما اشتهر وانتشر من تسمية الأيام. وقد ذكر السُّهيلي في «الروض الأُنف» (271: 1) (1) هذه القضية وانتصر لقول ابن إسحاق وغيره الموافق لهذا الحديث حتى قال: «والعجب من الطبريّ على تبحُّرِه في العلم كيف خالف مقتضى هذا الحديث وأعْنَق (2) في الردِّ على ابن إسحاق وغيره، ومال إلى قول اليهود: إنَّ الأحد هو الأول ... ». وفي بقية كلامه لطائف: منها: أنَّ تلك التسمية خصّت خمسة أيام لم يأت في القرآن منها شيء، وجاء فيه اسما اليومين الباقيين ــ الجمعة والسبت ــ؛ لأنه لا تَعلُّقَ لهما بتلك التسمية المدخولة. ومنها: أنه على مقتضى الحديث يكون الجمعة سابعًا، وهو وتر مناسب لفضل الجمعة كما ورد: «إن الله وَتْر يحب الوَتْر» (3). ويضاف إلى هذا يوم الاثنين؛ فإنه على هذا الحديث يكون الثالث وهو المناسب لفضله، وفي «الصحيح» (4): «فيه وُلدتُ وفيه أنزل عَليَّ». فأما الخميس فإنما ورد فضل _________ (1) (2/ 198) و (4/ 106 ــ ت عبد الرحمن الوكيل). (2) يعني: أسرع وتعجّل. (3) أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) مسلم (1162).
(12/265)
صومه، وقد يوجَّه ذلك بأنه لما امتنع صوم اليوم الفاضل وهو الجمعة لأنه عيد الأسبوع عُوِّض عنه بصوم اليوم الذي قبله، وفي ذلك ما يقوِّي شَبَه الجمعة بالعيد. وفي «الصحيحين» (1) في حديث الجمعة: «نحن الآخرون السابقون ... ». والمناسب أن يكون اليوم الذي للآخرين هو آخر الآيام. هذا، وفي «البداية» لابن كثير (17: 1) (2): «وقد رواه النسائي في التفسير (3) عن إبراهيم بن يعقوب الجُوزجاني عن محمد بن الصبَّاح عن أبي عبيدة الحدّاد عن الأخضر بن عجلان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيدي فقال: «يا أبا هريرة إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التُّربة يومَ السبت» وذكر بتمامه بنحوه. فقد اختُلِفَ على ابن جريج». أقول: في صحة هذه الرواية عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح نَظَرٌ لا أطيل ببيانه، فمن أحبَّ التحقيق فليراجع «تهذيب التهذيب» (213: 7) و «فتح الباري» (511: 8) (4) ومقدمته (ص 373) (5) وترجمتَي أخضر وعثمان بن عطاء من «الميزان» (6) وغيره. والله الموفق. _________ (1) البخاري (238، 876 وغيرها)، ومسلم (855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) (1/ 32). (3) في «السنن الكبرى» (11392). (4) (8/ 667). (5) (ص 375 ــ 376). (6) (1/ 168) ترجمة أخضر، (3/ 445) ترجمة عثمان بن عطاء.
(12/266)
ثم قال أبو ريَّة: (ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرَّح في هذا الحديث بسماعه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنه قد أخذ بيده حين حدَّثه به. وإني لأتحدَّى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء من علم الحديث وجميع من هم على شاكلتهم في غير بلادنا أن يحلُّوا لنا هذا المشكل، وأن يخرجوا بعلمهم الواسع شيخهم من الهوَّة التي سقط فيها ... ). أقول: لم يقع شيخنا رضي الله عنه في هُوَّة، ولا قال أحدٌ من أهل العلم إنه وقع فيها، أما إذا بنينا على صحة الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الحق إن شاء الله فواضح، وأما على ما زعمه ابنُ المديني فلم يصح عن أبي هريرة، ولا عمن روى عنه، ولا عن الثالث شيء مِن [ص 139] هذا، لا قوله: «أخذ رسول الله بيدي فقال» ولا قوله: «خلق الله التربة ... ». وأما على حَدْس البخاري فحاصله أن أيوب غلط، وقع له عن أبي هريرة خبران، أحدهما: «أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال» فذكر حديثًا صحيحًا غير هذا. والثاني: «قال كعب: خلق الله التربة يوم السبت ... » فالتبس المقولان على أيوب فجعل مقول كعب موضع مقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم (ص 117) (1) قول بُسْر بن سعيد: أنه سمع بعض مَن كان معهم في مجلس أبي هريرة: «يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب». أما البيهقي فلم يقل شيئًا من عنده إنما قال: «وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى ... » فذكر قول ابن المديني. _________ (1) (ص 225).
(12/267)
وأما ابن كثير فإنما قال: «فكأنَّ هذا الحديث مما تلقَّاه أبو هريرة عن كعب عن صُحُفه فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعًا إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأكَّد رفعه بقوله: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي». فابن كثير جعل هذه الجملة من زيادة الراوي الواهم، وهو «أيوب» في حَدْس البخاري. وهذا أيضًا لا يمسّ أبا هريرة، ولكن الصواب ما تقدم. ثم قال أبورية ص 176: (وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحببته، فكنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورِجْلَه التي يمشي بها ... وما تردَّدْت عن شيء أنا فاعله تردُّدِي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته (1)). أقول: هذا الخبر نَظَر فيه الذهبيّ في ترجمة خالد بن مخلد من «الميزان» (2) وابن حجر في «الفتح» (292: 11) (3)؛ لأنه لم يُرْوَ عن أبي هريرة إلا بهذا السند الواحد: «محمد بن عثمان بن كَرَامة (4)، حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شَريك بن عبد الله بن أبي نَمِر عن عطاء عن أبي هريرة». ومثل هذا التفرُّد يريب في صحَّة الحديث، مع أنّ خالدًا له مناكير وشَرَيكًا فيه مقال. وقد جاء الحديث بأسانيد فيها ضعف من حديث عليّ ومعاذ وحذيفة وعائشة وابن عباس وأنس. فقد يكون وقع _________ (1) في كتاب أبي ريَّة: «إساءته». [المؤلف]. (2) (1/ 163 ــ 165). (3) (11/ 341). (4) رواه عن محمد بن عثمان جماعةٌ منهم البخاري. [المؤلف].
(12/268)
خطأ لخالد أو شَريك، سمع المتن من بعض تلك الأوجه الأخرى المرويَّة عن عليّ أو غيره ممن سَلَفَ ذِكْرُه، وسمع حديثًا آخر بهذا السند ثم التبسا عليه فغلط، روى هذا المتن بسند الحديث الآخر. فإنْ كان الواقع هكذا فلم يحدِّثْ أبو هريرة بهذا، [ص 140] وإلا فهو مِنْ جملة الأحاديث التي تحتاج ككثير من آيات القرآن إلى تفسير، وقد فسَّره أهلُ العلم بما تجده في «الفتح» (1) وفي «الأسماء والصفات» (ص 345 - 348) (2). وقد أومأ البخاريُّ إلى حاله فلم يخرجه إلا في باب التواضع من كتاب الرِّقاق (3). قال أبو ريَّة: (ومن له حاسة شمَّ الحديث يجدْ في هذا الحديث رائحة إسرائيلية). أقول: قد عَلِمنا أن كلامَ الأنبياء كلَّه حقٌّ من مشكاة واحدة، وأن الربّ الذي أوحى إلى أنبياء بني إسرائيل هو الذي أوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولو جاز الحكم بالرائحة لما ساغ أدنى تشكّك في حكم البخاري؛ لأنه أعرف الناس برائحة الحديث النبوي، وبالنسبة إليه يكون أبو ريَّة أخْشَم فاقد الشمّ أو فاسده. وعلَّق في الحاشية أيضًا: (يبدو أن أستاذ أبي هريرة في هذا الحديث هو وهب بن منبه، فقد وقع في «الحلية» في ترجمة هذا ... إني لأجد في كتب الأنبياء أن الله تعالى يقول: ما تردَّدتُ عن شيء قطّ تردُّدِي عن قبض روح المؤمن). أقول: في سنده من لم أعرفه، وقد ذكروا أنَّ وهبًا روى عن أبي هريرة، ولم يذكروا أن أبا هريرة حكى شيئًا عن وهب، ووهبٌ صغير إنما ولد في _________ (1) (11/ 342 ــ 347). (2) (2/ 384 ــ 385). (3) (6502).
(12/269)
أواخر خلافة عثمان، وإذا صحَّ حديثُ البخاريّ عن أبي هريرة فالمعقول ــ إن كان أحدهما أخذ عن الآخر ــ أن يكون وهب أَخَذَهُ عن أبي هريرة أو بلَغه عنه. ووهب مع صغره مولود في الإسلام من أبوين مسلمَيْنِ، فتوسُّعُه في قراءة كتب الأوائل إنما يكون في كبره بعد وفاة أبي هريرة بمدّة. وهذا تنازل منِّي إلى عقل أبي ريَّة وأشباهه، فأما الحقيقة فمكانة أبي هريرة رضي الله عنه أعلى وأشمخ وأثبت وأرسخ من أن يحتاج المدافع عنه إلى مثل ما ذكرت. ثم قال أبورية ص 177: (وقد بلغ من دهاء كعب الأحبار واستغلاله لسذاجة أبي هريرة وغفلته أن كان يلقنه ما يريد بثَّه في الدين الإسلامي من خرافات وتُرَّهات، حتى إذا رواها أبو هريرة عاد فصدَّق أبا هريرة ... وإليك مثلاً من ذلك ... روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرأوا إنْ شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30]. ولم يكد أبو هريرة يروي هذا الحديث حتى أسرع كعب فقال: صدق، والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد ... ومن العجيب أن يروي هذا الخبر الغريب وهب بن منبه .. ). أقول: عزا أبو ريَّة هذا إلى «تفسير ابن كثير» (513: 4 - 514) كذبًا، وأبدله في التصويبات (289: 4)، وهو كذب أيضًا، وإنما ذكر ابن كثير الحديث وما يتعلق به (187: 8 - 189) (1)، ذكره من حديث أربعة [ص 141] من الصحابة، ثلاثة في «الصحيحين» (2) أبو هريرة وأبو سعيد الخدري _________ (1) (7/ 3395 ــ 3396). وموجود أيضًا في الموضع الذي أشار إليه أبو ريَّة (4/ 1895 ــ 1898). (2) حديث أبي هريرة في البخاري (3252)، ومسلم (2826). وحديث أبي سعيد عند البخاري (6553)، ومسلم (2828). وحديث سهل عند البخاري (6552)، ومسلم (2827).
(12/270)
وسهل بن سعد، وواحد في «صحيح البخاري» (1) فقط وهو أنس، قال ابن كثير: «فهذا حديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث». ولم أجد هناك ذِكْرًا لوهب (2)، إنما ذكر ابن كثير أثرًا عن ابن عباس بمعنى الحديث وفيه زيادة، وقال: «هذا أثر غريب إسناده جيد قوي حسن». وأين ابن عباس من وهب بن منبه؟ (فاعتبروا يا أولي الأبصار). ثم قال أبو ريَّة: (ضعف ذاكرته: كان أبو هريرة يذكر عن نفسه أنه كان كثير النسيان لا تكاد ذاكرته تُمْسِكُ شيئًا مما يسمعه، ثم زعم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - دعا له فأصبح لا ينسى شيئًا يصل إلى أذنه، وقد ذكر ذلك كي يُسوِّغ كثرة أحاديثه ويُثْبت في أذهان السامعين صحَّة ما يرويه). أقول: في باب ما جاء في الغرس من «صحيح البخاري» (3) من طريق الزُّهري عن الأعرج عن أبي هريرة: « ... وقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لن يبسط أحدٌ منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئًا أبدًا». فبسطت نمرة ... ثم جمعتُها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحقِّ ما نسيتُ من مقالته تلك إلى يومي هذا». هذه الرواية صريحة في اختصاص عدم النسيان بما حدَّث به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذاك المجلس. وفي باب الحجَّة على من قال ... الخ من كتاب الاعتصام من «صحيح _________ (1) (3251). (2) نعم لم يذكر أثر وهب في تفسير سورة الواقعة، وذَكَره في تفسير سورة الرعد (4/ 1896 ــ 1898). ذكره من رواية ابن جرير مطولًا وقال فيه: «أثر غريب عجيب». ثم ذكره من رواية ابن أبي حاتم وقال: «هذا سياق غريب، وأثر عجيب ولبعضه شواهد». (3) (2350).
(12/271)
البخاري» (1) أيضًا من طريق الزهري عن الأعرج أيضًا عن أبي هريرة: « ... وقال: «مَنْ يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه فإنه لن ينسى شيئًا سمعه مني». فبسطت بُرْدة كانت عَليَّ، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئًا سمعته منه». في هذه الرواية إطلاق، ولكنّ السياق ونصَّ الرواية الأولى يقضي بالتقييد. وفي أوائل البيوع من «صحيح البخاري» (2) أيضًا من طريق الزهري عن ابن المسيّب وأبي سلمة عن أبي هريرة « .. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يُحدِّثه: «إنه لن يبسط أحدٌ ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع ثوبه إلا وعى ما أقول». فبسطتُ نَمِرة عَلَيَّ حتى إذا قضى رسول الله مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله تلك من شيء». وهذه الرواية صريحة في الاختصاص أيضًا. وفي باب حفظ العلم من «صحيح البخاري» (3) أيضًا من طريق ابن أبي ذئب عن المَقْبري عن أبي هريرة، قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه. قال: «ابسط رداءك»، قال: فبسطته، قال: فغرف بيديه [ص 142] ثم قال: «ضُمّ». فضممت، فما نسيت شيئًا بعد». هذه الرواية تَصِف ــ فيما يظهر ــ واقعةً أخرى، فكأنَّ أبا هريرة لما _________ (1) (7354). (2) (2047). (3) (119)، وفي كتاب المناقب (3648).
(12/272)
استفاد من الواقعة الأولى حِفْظ المقالة التي حدَّث بها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في ذاك المجلس على وجهها رغب في المزيد، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه»، وهذا القول لا يقتضي ــ كما لا يخفى ــ نسيان كل ما يسمع ولا نسيان المقالة التي تقدم خبرها، على أن المنهوم قد يحمله حرصه على المبالغة في الشكوى. وتقدم (ص 100) (1) ذكر شهادة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة بأنه أحرص الصحابة على العلم، وقد تقدم (ص 105) (2) ما يتعلّق بذلك. وليس في هذه الرواية ذكر نص من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعدم النسيان لشيء بعد ذلك، وإنما فيها قول أبي هريرة: «فما نسيتُ شيئًا بعد» يعني شيئًا من الحديث؛ لأن الشكوى إنما كانت من نسيانه، وهذه الكلمة بناها على اعتقاده حين قالها فلا يمتنع أن ينسى بعد ذلك شيئًا من الحديث أو أن يتبين أنه قد كان نسي ولم يستحضر ذلك. ثم قال أبو ريَّة ص 178: (روى مسلم عن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، والله الموعد، كنت رجلاً مسكينًا أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فقال رسول الله: من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني. فبسطت ثوبي حتى قضى حديثه ثم ضممته إليَّ فما نسيت شيئًا سمعته منه. قال مسلم: إن مالكًا انتهى حديثه عند انقضاء قول أبي هريرة، ولم يذكر في حديثه الرواية عن النبي: من يبسط ثوبه الخ. ولا ريب في أن رواية مالك هي الصحيحة، لأن الكلام بعد ذلك مفكّك الأوصال، ولا صلة بينه وبين الذي قبله). _________ (1) (ص 194 ــ 195). (2) (ص 202 ــ 204).
(12/273)
أقول: كلمة أبي ريَّة الأخيرة: (ولا ريب أن رواية مالك هي الصحيحة ... ) تعطي أنّ الصحيح عن أبي هريرة هو ما اقتصر عليه مالك فقط، ولا يخفى أن هذا يناقض قول أبي ريَّة سابقًا: (ثم زعم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - دعا له)، ويناقض كلامه الآتي: (على أن هذه الذاكرة ... ) فكلام أبي ريَّة متناقض حتمًا، لا مفكَّك الأوصال فحسب. أما زعمه أن الخبر بتلك الزيادة (مفكك الأوصال ولا صلة بينه وبين الذي قبله) فإنما جاء ذلك مِن اختيار أبي ريَّة للفظ مسلم، والخبر في مواضع من «صحيح البخاري» مرَّت الإشارة إليها، وسياقه هناك سليم. [ص 143] ثم قال أبو ريَّة: (على أن هذه الذاكرة ... قد خانته في مواضع كثيرة، وإن ثوبه الذي بسطه قد تمزَّق فتناثر ما كان بين أطرافه، وإليك أمثلة من ذلك: روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبيّ قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة». وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، ولكن الصحابة عملوا بما يخالفه، فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد أن رسول الله قال: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها». وقد جاء الحديث كذلك عن عبد الرحمن بن عوف. ولما سمع عمر هذين الحديثين وحديث: «لا يوردن ممرض على مصح» ــ وهو مما رواه أبو هريرة ــ وكان قد خرج إلى الشام ووجد الوباء عاد بمن معه. وقد اضطر أبو هريرة إزاء هذه الأخبار القوية إلى أن يعترف بنسيانه، ثم أنكر روايته الأولى. وفي رواية يونس: قال الحارث بن [أبي] ذباب ابن عم أبي هريرة: قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع حديث: «لا يوردن ممرض على مصح» الخ حديث: «لا عدوى»، فأنكر معرفته لذلك. ووقع عند الإسماعيلي من رواية شعيب: فقال الحارث ابن عم أبي هريرة: إنك حدثتنا، فأنكر أبو هريرة وغضب، وقال: لم أحدثك ما تقول). أقول: ها هنا أمور تبيّن لنا تهوّر أبي ريَّة ومجازفته: الأول: حديث: «لا عدوى» لم ينفرد به أبو هريرة، بل هو في
(12/274)
«الصحيحين» (1) وغيرهما من حديث ابن عمر وأنس، وفي «صحيح مسلم» (2) وغيره من حديث جابر. الثاني: أن عمل الصحابة ليس مخالفًا له، وقد جمع بينهما أهلُ العلم بما هو معروف، ولبعض العصريين قولٌ سأحكيه ليُنظر فيه. زعم أن العرب كانوا يعتقدون أنّ العدوى تحصل بالمجاورة وحدها بدون سبب آخر، حتى لو كان في شَعْر امرأة وثيابها قَمْلٌ كثير فقامت إلى جانبها امرأة أخرى ثم بعد أيام قَمِلَ شعرُ الأخرى وثيابها لما سمّوا هذا عدوى، لأنهم يعرفون أنه لم يكن للمجاورة نفسها وإنما دبّ القملُ من تلك إلى هذه ثم تكاثر، قال: وحديثا: «لا يُورِدُ مُمْرِض على مُصِحّ» (3) و «فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد» (4) يفيدان انتقال الجَرَب والجُذَام، وقد ثبت أنه لا يكون بالمجاورة نفسها وإنما يكون بانتقال ديدان صغيرة جدًّا من هذا إلى ذاك، فهو من قبيل انتقال القمل وليس من العدوى بالمعنى الذي كانوا يعتقدون. الثالث: أن المنقول أن عمر رجع لِخَبَر عبد الرحمن بن عوف وحده، ولم يُنقل أنّ عمر علم بخبر أسامة، ولا خبر [ص 144]: «لا يُورِدُ مُمْرِض على مُصِحّ» كما زعم أبو ريَّة. _________ (1) من حديث ابن عمر أخرجه البخاري (2099)، ومسلم (2225). ومن حديث أنس في البخاري (5756)، ومسلم (2224). (2) (2222). (3) أخرجه البخاري (5771)، ومسلم (2221). (4) أخرجه البخاري (5707) وأصله في مسلم (2220) دون قوله: «وفر من المجذوم كما تفر من الأسد».
(12/275)
الرابع: أن الخبر في الطاعون استفاض في عهد عمر، وبقي أبو هريرة يحدّث بحديث: «لا عدوى» زمانًا بعد ذلك، حتى سمعه منه أبو سلمة وغيره ممن لم يدرك عمر. الخامس: قول أبي ريَّة (وقد اضطر ... ) يعطي أن أبا هريرة لم ينس الحديث، فما معنى قوله بعد ذلك: (وأن يعترف بنسيانه) مع إيراده القصة شاهدًا على النسيان كما زعم؟ السادس: لم يأت أبو ريَّة بدليل ولا شِبْه دليل على دعواه أن أبا هريرة اعترف بأنه نسي. السابع: اختلف الرواة عن الزهري في حكاية القصة، وأحسنهم سياقًا يونس بن يزيد الأيلي، وقد شهد له ابنُ المبارك بأن كتابه صحيح، وأنه كتب حديثَ الزهريّ على الوَجْه، أي كما تلفَّظ به الزهريُّ (1). وفي روايته في «صحيح مسلم» (2) بعد كلام الحارث: «فأبَى أبو هريرة أن يعرف ذلك وقال: لا يورِدُ مُمْرِض على مُصِحّ. فماراه الحارثُ في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطَنَ بالحبشية، فقال للحارث: أتدري ماذا قلتُ؟ قال: لا، قال أبو هريرة: قلتُ: أبيتُ. قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدّثنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى». فلا أدري أنسي أبو هريرة أم نَسخَ أحدُ القولين الآخر»؟ ولو صرَّح أبو هريرة بنفي أن يكون حدَّثهم من قبل لجزم أبو سلمة _________ (1) انظر «تهذيب الكمال»: (8/ 221). (2) (2221/ 104).
(12/276)
بالنسيان (1)، لكن لمّا سكت أبو هريرة عن الحديث وامتنع أن يجيبهم سألوه وغضب وقال: أبيت، فَهِمَ بعض الرواة من ذلك إنكاره، فعبَّر بعضُهم عن قول أبي سلمة: «فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك» بقوله: «أنكر أبو هريرة الحديث الأول» ولا يخفى الفرق، فقوله: «أبى أن يعرف» إنما معناه: امتنع أن يقول: نعم قد عرفت. وهذا الامتناع لا يُفْهَم منه الإخبار بنفي المعرفة. ثم جاء بعضُ مَنْ بعدهم فعبَّر عن الإنكار بنسبته إلى أبي هريرة أنه قال: «لم أحدّثْك» كما وقع عند الإسماعيلي (2) من طريق شعيب، ولا أدري ما سنده؟ وأصل حديث شعيب عند مسلم (3) لكن لم يسق لفظَه، وعند الطحاوي في «مشكل الآثار» (262: 2) (4) وليس فيه هذه الكلمة. وكأنَّ أبا هريرة حدَّث بالحديثين مرة، فتشكَّك بعض الناس في الجمع بينهما، فرأى أبو هريرة أنّ التحديث بهما مظنَّة أن يقع لبعض الناس ارتياب أو تكذيب، فاختار الاقتصار على أحدهما وهو الذي يتعلَّقُ به حكمٌ عمليّ: «لا يُورِدُ ممرضٌ على مُصِح» وسكت عن الآخر، وودَّ أن لا يكون حدَّث به قبل ذلك، فلما [ص 145] سُئل عنه أبى أن يعترف به، راجيًا أن يكون في ذلك الإباء ما يمنع الذين كانوا سمعوه منه أن يحدّثوا به عنه. _________ (1) فأما ما في صحيح البخاري [5771] عن أبي سلمة: «فما رأيته نسي حديثًا غيره» فليس هذا جزمًا بالنسيان لهذا الحديث، وإنما استثناه لأجل احتماله النسيان كما بيّنَتْه الروايةُ الأخرى. وهذه شهادة عظيمة لأبي هريرة؛ لجلالة أبي سلمة وطول ملازمته لأبي هريرة. [المؤلف]. (2) ذكره الحافظ في «الفتح»: (10/ 242). (3) «الصحيح»: (4/ 1744). (4) (2891 ــ ط الرسالة).
(12/277)
وذكر أبو ريَّة ص 179 قصة ذي اليدين وقال: (في رواية البخاري أنها صلاة العصر، وفي رواية النسائي ما يشهد أن الشك كان من أبي هريرة وهذا لفظه: صلى النبيّ إحدى صلاتَي العشيّ ولكني نسيت). أقول: الحديث عند النسائي (1) من طريق «ابن عَون عن محمد بن سيرين قال: قال أبو هريرة: صلى بنا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتَي العشيّ. قال: قال أبو هريرة: ولكني نسيت ... ». وهو في «صحيح البخاري» (2) في كتاب المساجد، باب تشبيك الأصابع الخ من طريق «ابن عَون عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتَي العشيّ. قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة ولكني نسيت أنا ... ». وكلتا الروايتين من طريق ابن عَون عن ابن سيرين. فإن رجَّحْنا رواية الصحيح فذاك وإلا فلا يتمّ الاستشهاد مع التعارض. على أنَّ النسيان هنا لا أثر له، فإن ذاك الحكم إذا (3) ثبت لإحدى الصلاتين ثبت للأخرى إجماعًا. قال أبو ريَّة: (ولما روى أن رسول الله قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ودمًا خير من أن يمتلئ شعرًا، قالت عائشة: لم يحفظ، إنما قال ... من أن يمتلئ شعرًا هُجِيتُ به). أقول: قال الله تبارك وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} الآية [الشعراء: 224 - 227]. _________ (1) (1224). (2) (482). (3) (ط): «إذ».
(12/278)
وقال البخاري في «صحيحه» (1): «باب ما يجوز من الشعر والرَّجَز والحُداء الخ». وذَكَر أحاديث، ثم قال: «باب هجاء المشركين» وذكر أحاديث، ثم قال: «باب ما يُكره أن يكون الغالب على الإنسان الشِّعْر حتى يصدَّه عن ذكر الله والعلم والقرآن» وأخرج فيه حديثَ ابن عمر (2) عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا»، ومن حديث أبي هريرة (3): «لأن يمتلئ جوف رجلٍ قيحًا يَرِيَه خير من أن يمتلئ شعرًا». وأخرج مسلم في «صحيحه» (4) حديثَ أبي هريرة، ثم أخرج مثله من حديث سعد بن أبي وقاص (5)، ثم من حديث أبي سعيد الخدري (6) مثله بدون كلمة «يريه». وقد جاء الحديث في غير «الصحيحين» عن غير هؤلاء من الصحابة (7). وأما ما ذكره أبو ريَّة عن عائشة فهو من رواية الكلبي وهو كذَّاب، عن أبي صالح مولى أم هانئ وهو واه. والإناء إذا امتلأ بشيء لم يبق فيه متَّسَع لغيره، فمن امتلأ جوفه شعرًا امتنع أن يكون ممن استثنى في الآية ووصف بقوله: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227] وهذا بحمد الله واضح. وقد علّق أبو ريَّة في الحاشية ما لاحاجة بنا بعد ما مرَّ إلى النظر فيه. _________ (1) (8/ 34 - 37 ــ السلطانية). (2) (6154). (3) (6155). (4) (2257). (5) (2258). (6) (2259). (7) انظر «مجمع الزوائد»: (8/ 36 ــ 37).
(12/279)
[ص 146] ثم قال أبو ريَّة ص 180: (ومن عجيب أمر الذين يثقون بأبي هريرة ثقة عمياء أنهم يمنعون السهو والنسيان عنه، ولا يتحرَّجون من أن ينسبوهما إلى النبيّ صلوات الله عليه ... ). أقول: لم يمنع أحدٌ أن يسهو أبو هريرة أو ينسى، ولكننا تصديقًا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - وإيمانًا به وببركة دعائه نقول: إن أبا هريرة لم ينس شيئًا من المقالة التي أخبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه لن ينسى منها شيئًا، وأنه فيما عداها من الحديث كان من أحفظ الناس له. ومن الناس من فهم أن خبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعدم النسيان يعمّ ما سمعه أبو هريرة منه في مجلسه ذلك وبعده، وقد مرَّ النظر في ذلك. والخير والفضل والكمال في ذلك كله عائد إلى الله ورسوله، فأما ما عدا الحديث فلم يقل أحدٌ إن أبا هريرة لا يسهو ولا ينسى. ثم قال ص 181: ( ... فلِمَ لم يحفظ القرآن؟). أقول: ومن أين لك أنه لم يحفظه؟ غاية الأمر أنه لم يُذْكَر فيمن جمعَ القرآنَ في العهد النبويّ، والذين ذُكِرُوا أفرادٌ قليلون ليسوا من كبار الصحابة. وأبو هريرة من أئمة القراءات، وهو فيها أشهر شيخ للأعرج ولأبي جعفر القارئ، وهما أشهر شيوخ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أشهر القرَّاء السبعة، وبهذا عُلِم حفظه للقرآن وإتقانه. انظر ترجمته في «طبقات القراء» رقم (1574) (1). قال: (وكذلك لو كان أبو هريرة قد بلغ هذه الدرجة ... وهي عدم السهو والنسيان لاشتهر ... ). أقول: قد علمتَ أنّ المتحقِّق هو أنه لم ينس ما حدَّث به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في _________ (1) لابن الجزري. وانظر «معرفة القراء الكبار»: (1/ 21 ــ 22) للذهبي.
(12/280)
مجلس خاصٍّ قد مرَّ بيانه (1)، وكان فيما عدا ذلك مِنْ أحفظهم، وهذا لا يَرِدُ عليه شيء مما ذكر أبو ريَّة. قال ص 182: (ولكن الأمر قد جرى على غير ذلك ... ). أقول: أعاد أشياء قد تقدم النظر فيها، ويأتي باقيها. ثم قال: (حفظ الوعاءين. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقُطِع هذا البلعوم. وهذا الحديث معارض بحديث ... عن علي رضي الله عنه فقد سئل: هل عندكم كتاب؟ فقال: لا إلا كتاب الله ... أو ما في هذه الصحيفة. وكذلك يعارضه ما رواه البخاري عن عبد العزيز بن رُفَيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس، فقال له شداد: أَتَرَكَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من شيء؟ فقال: ما ترك إلا ما بين الدفّتين، ولوكان هناك شيء يؤثر به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحد خواصه ... ). [ص 147] أقول: المنفيّ في خَبَرَي عليّ وابن عباس هو كتاب مكتوب غير القرآن، ولهذا استثنى عليٌّ صحيفتَه. ولم يقصد أبو هريرة ولا فهم أحدٌ من كلامه أن عنده كتابين أو كتابًا واحدًا، وإنما قصد وفهم الناسُ عنه أنه حفظ ضَرْبين من الأحاديث: ضرب يتعلّق بالأحكام ونحوها مما لا يخاف هو ولا مثله من روايته. وضرب يتعلّق بالفتن وذمِّ بعض الناس، وكلُّ أحدٍ من الصحابة كان عنده من هذا وهذا، وكانوا يرغبون عن إظهار ما هو من الضرب الثاني، وقد ذكر أبو ريَّة حذيفةَ وعلمَه بالفتن، وكان ربما حدّث منه بالحرف بعد الحرف، فينكره عليه إخوانه كسلمان وغيره (2). _________ (1) (ص 274 ــ 278). (2) كما في «سنن أبي داود» (4659) وغيره.
(12/281)
وقال ص 184: (ومَنْ هو أبو هريرة؟ فلا هو من السابقين الأوّلين، ولا المهاجرين). أقول: قدمت (ص 103) (1) القولَ بأنه أسلم في بَلدِه قبل الهجرة، وبهذا يكون من السابقين إلى الإسلام، ولم يثبت ما يخالف ذلك. فأما من قال: أسلم عام خيبر، فإنما أراد هجرته، وقد ثبت في خبر هجرته أنه قَدِم مسلمًا. فأما الهجرة فهو مهاجر حتمًا وإن لم يكن من قريش ولا من أهل مكة، وإنما أسلمت قبيلتُه بعد أن هاجر بمدة، فقد ثبت أنه وجد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بخيبر عقب الوقعة، وثبت من شعر كعب بن مالك قوله قبيل غزوة الطائف، وذلك بعد خيبر بمدة (2): قضينا مِن تهامةَ كلّ ريبٍ ... وخيبرَ ثمّ أجْمَمْنا السيوفا نخيِّرها ولو نطقَتْ لقالت ... قواطعُهنَّ دوسًا أو ثقيفًا قال: (ولا من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم). أقول: بل هو منهم، فقد غزا مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غزواته بعد خيبر. وعلق أبو ريَّة في الحاشية: (أثبت التاريخ أنه فرَّ يوم مؤتة، ولما عيَّروه بذلك لم يُحِرْ جوابًا). أقول: لقي المسلمون عدوَّهم بمؤتة وكان عددهم أكثر من نيّف وثلاثين ضعفًا، فكان القتال، ثم انحاز خالد بن الوليد بالمسلمين ورجع بهم، فكان بعض الناس يصيح فيهم: يا فُرَّار، فيقول النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بل هم الكُرَّار إن شاء الله _________ (1) (ص 197 ــ 198). (2) أخرجه عبد الرزاق (11/ 263)، والبيهقي في «الدلائل»: (5/ 151)، وهو في «السيرة»: (ق 2/ 4/479) لابن هشام.
(12/282)
تعالى» (1). قال: (ولا ... ولا من المفتين). أقول: بل هو من المفتين بلا نزاع، غير أنه لم يكن من المكثرين (2)؛ لأنه كان يتوقَّى ويحبُّ أن يكفيه الفتوى غيره كما تقدم (ص 123) (3). وفي «فتوح البلدان» (ص 92 - 93) (4): أن عمر لما ولَّى قُدامة بن مظعون إمارة البحرين بعث معه أبا هريرة على القضاء والصلاة، ثم ولَّاه الإمارة أيضًا. فتَرْكُ عمر تولَية قدامة القضاء والصلاة مع أنه من السابقين وأهل بدر، وتوليته ذلك أبا هريرة= شهادةٌ قاطعة بأن أبا هريرة من علماء الصحابة (5)، وأنه أعلم من بعض السابقين البدريين. قال ص 185: (ولا من القُرَّاء الذين حفظوا القرآن). [ص 148] أقول: قد تقدم رد هذا آنفًا (ص 146) (6). قال: (ولا جاء في فضله حديث عن الرسول) وعلَّق عليه: (روى البخاري _________ (1) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة»: (4/ 374) من مرسل عروة بن الزبير. (2) انظر «الإحكام»: (5/ 92) لابن حزم. (3) (ص 236 ــ 237). (4) [ص 112]. ذكره عن أبي مخنف والهيثم، وليس ذلك بحجة، ولكنه يستأنس به حيث لا مخالف له. [المؤلف]. (5) أقول: روى الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن زياد بن ميناء قال: كان ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وجابر مع غيرهم من الصحابة، يفتون في المدينة ويحدّثون، من لدن توفي عثمان رضي الله عنه وعنهم إلى أن توفوا، وإلى هؤلاء الخمسة صارت الفتوى. انظر «سير النبلاء»: (2/ 607). (6) (ص 280).
(12/283)
وغيره ... في فضل طائفة كبيرة من أجلاء الصحابة لم نر فيهم أبا هريرة). أقول: نعم، لم يعقد البخاريُّ لذكر أبي هريرة بابًا في فضل الصحابة، لكن عنده في «كتاب العلم» أبواب تخصّ أبا هريرة، كـ «باب حفظ العلم» و «باب الحرص على العلم» (1)، وغير ذلك، وله باب في «صحيح مسلم» (2) في كتاب فضائل الصحابة، وكذا في السنن و «المستدرك» (3) وغيرها. وقد مضى أثناء الترجمة أشياء من فضائله ويأتي غيرها. وقال ص 185: (تشيُّع أبي هريرة لبني أمية). أقول: أسرف أبو ريَّة في هذا الفصل سبًّا وتحقيرًا وتُهَمًا فارغة، وبِحَسْبي أن أقول: قد ورد أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين أَصْحَبَه أبا هريرة وأوصاه به خيرًا (4). ومن ثَمَّ أخذت حال أبي هريرة المالية تتحسَّن، ولم يتحقق لي متى رجع، وبعد وفاة العلاء بن الحضرمي استعمل عمرُ مكانه أبا هريرة (5). وقَدِمَ أبو هريرة مرَّة على عمر بخمسمائة ألف لبيت المال، فأخبره فاستكثر ذلك ولم يكد يصدِّق. وقدم مرَّة ــ لا أدري هذه أم بعدها ــ بمال كثير لبيت المال، وقَدِمَ لنفسه بعشرة آلاف (6). وثبت عن ابن سيرين أنّ عمر سأل أبا هريرة فأخبره، فأغلظ له عمر وقال: فمن أين لك؟ _________ (1) «صحيح البخاري»: (1/ 35، 31 ــ السلطانية). ولفظ الصحيح: « ... الحرص على الحديث». (2) رقم (2491 ــ 2493). (3) انظر «جامع الترمذي» (3834 ــ 3841)، و «المستدرك»: (3/ 506 ــ 514). (4) يأتي تحقيقه فيما بعد. [المؤلف]. (5) يأتي تحقيقه فيما بعد. [المؤلف]. (6) أو عشرين ألفًا كما يأتي بعد. [المؤلف].
(12/284)
فقال: خيل نَتَجَت، وغلَّةُ رقيقٍ لي، وأعطية تتابعت عليَّ (1). قال ابن سيرين: «فنظروا فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه مَنْ كان خيرًا منك؟ طلبه يوسف عليه السلام. فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة ... » انظر «البداية» (113: 8) (2). وابنُ سيرين من خيار أئمة التابعين، والسند إليه بغاية الصحة. قال ابن كثير: «وذكر غيره أنّ عمر غرَّمه» وسيأتي ذلك. فمَنْ كان له في عهد عمر خيلٌ تَناتج ورقيق يغلّ، مع عطائه في بيت المال كغيره من الصحابة، ومع ما كان الأئمة يتعهّدون به الصحابة من الأموال زيادةً على المقرَّر كل سنة بحسب توفّر المال في بيت المال، أقول: من كانت هذه حاله كيف يسوغ أن يقال: إنه إنما تموَّل في عهد بني أمية؟ ويزعم أبو رية ــ من وحي شيطانه ــ أن بني أمية أقطعوا أبا هريرة وبنوا مسكنه بالعقيق وبذي الحُلَيفة، ويجعلها أبو ريَّة قصورًا وأراضي! وأعجب من ذلك: زعمه أنهم زوَّجوه ابنة غزوان. وينعى على أبي هريرة أنه [ص 149] كان ممن نصر عثمان (وتلك شَكاةٌ ظاهر عنك عارُها) (3). ويزعم أنه مال _________ (1) وفي رواية في طبقات ابن سعد 4/ 2/59 وفتوح البلدان ص 93: «ولكن خيلاً تناتجت وسهامًا اجتمعت» يريد سهامه من المغانم؛ لأنه كان مع العلاء بن الحضرمي في فتوحه. [المؤلف]. (2) (11/ 386 ــ 387). (3) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: *وعيّرها الواشون أني أُحبّها* انظر «ديوان الهذليين»: (1/ 21)، و «مقاييس اللغة»: (3/ 472). ونسبه في «الصحاح»: (2/ 731) إلى كثيّر.
(12/285)
إلى معاوية، وهذه من وحي الشياطين، وتقوُّلات الرافضة والقصَّاصين، ولا نثبت لأبي هريرة صلة بمعاوية إلا أنه وفد إليه بعد استقرار الأمر له كما كان يَفِدُ إليه بنو هاشم وغيرهم. وينعى علىه استخلاف مروان له على إمرة المدينة، وتقدَّم (ص 108) (1) أن ذاك الاستخلاف لم يزد أبا هريرة إلا تواضعًا وانكسارًا وتهاونًا بالإمارة، فإن كان لذلك أثر فهو إحياؤه كثيرًا من السنة، كما تقدم. وأحاديث أبي هريرة في فضائل أهل البيت معروفة، وكذلك محبَّته لهم وتوقيره، وشدّة إنكاره على بني أمية لما منعوا أن يُدفَن الحسن بن عليّ مع جَدّه - صلى الله عليه وسلم -، وقوله لمروان في ذلك: «والله ما أنت بوالٍ، وإن الوالي لغيرُك، فدعه، ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، وإنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك» يعني معاوية. راجع «البداية» (108: 8) (2). ومن المتواتر عنه: تعوُّذه بالله من عام الستين وإمارة الصبيان (3)، كان يعلن هذا ومعاوية حيّ، وذلك يعني موت معاوية وتأمّر ابنه يزيد، وقد كان ذلك عام الستين بعد موت أبي هريرة بمدَّة. قال أبورية ص 188: (روى البيهقي عنه: أنه لما دخل دار عثمان وهو محصور استأذن في الكلام، ولما أُذن له قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافًا، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله ... أو ما تأمرنا؟ فقال: _________ (1) (ص 209). (2) (11/ 374). (3) أخرجه أحمد (8319، 8320)، والبزار: (16/ 249) وغيرهم بلفظ «رأس السبعين». وانظر حاشية المسند. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (400)، و «الأوسط» (1397) من طريق آخر بلفظ: «رأس الستين».
(12/286)
عليكم بالأمين وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان. وقد أورده أحمد بسند جيد). أقول: الحديث في «المستدرك» (99: 3) وفيه: «عليكم بالأمير» وهو الظاهر، وفي سنده مقال لكنه ليس بمنكر. وقول أبي هريرة: «وهو يشير إلى عثمان» يريد أنه يفهم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أشار بقوله: «الأمير» إلى عثمان. ولو أراد أبو هريرة ــ وقد أعاذه الله ــ أن يكذب لجاء بلفظ صريح مؤكّد مشدّد. قال: (ولما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووُفّقت، أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... ، قال فأعجب ذلك عثمان وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف. وهذا الحديث من غرائبه وهو ينطق ولا ريب بأنه ابن ساعته). أقول: عزاه أبو ريَّة إلى «البداية» (216: 7) (1) وهو هناك من رواية الواقدي، وهو متروك مرميّ بالكذب، عن [أبي بكر بن عبد الله بن محمد] بن أبي سبرة، وهو كذَّاب يضع الحديث. [ص 150] قال: «ومن غرائبه كذلك ما رواه البيهقي قال: أُصبت بثلاث مصيبات ... » ذكر قصة المِزْوَد مطوَّلة، وأسرف أبو ريَّة في التندُّر والاستهزاء، وعزا الخبر إلى «البداية» (117: 6) (2) وهو مرويّ من طرق في أسانيدها ضعف، واللفظ الذي ساقه أبو ريَّة من رواية يزيد بن أبي منصور الأزدي عن أبيه عن أبي هريرة. وأبو منصور الأزدي مجهول ولا يُدْرَى أدرك أبا هريرة أم لا؟ وفيه: أن المِزْود ذهب حين قُتل عثمان. قال أبو ريَّة: (وهذا الحديث رواه عنه أحمد ولكن قال فيه ... وعلقه في سقف البيت ... ). _________ (1) (10/ 394 ــ 395). وهو في «تاريخ ابن عساكر»: (39/ 244). (2) (8/ 661 ــ 662).
(12/287)
أقول: أما هذه الرواية فرجالها ثقات (1)، ولفظه: «أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من تمر فجعلته في مِكْتَل، فعلَّقناه في سقف البيت، فلم نَزَلْ نأكل منه حتى كان آخره أصابه أهلُ الشام حيث أغاروا على المدينة» يعني مع بُسْر بن أرطاة، وذلك بعد قتل عثمان بمدة (2)، وهذه الرواية الأخيرة ليس فيها ما يُنكَر، والظاهر أن الإعطاء كان في أواخر حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاءت أحاديثُ كثيرة بمثل هذا مِنْ بركة ما يدعو فيه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا المعنى متواتر قطعًا، حتى كان عند الصحابة كأنه من قبيل الأمور المعتادة من كثرة ما شاهدوه. ومَن يؤمن بقُدرة الله عزوجل وإجابته دعاءَ نبيِّه وخَرْق العادة له لا يستنكر ذلك. نعم يَتوقَّف عما يرويه الضعفاء والمجهولون؛ لأنّ من شأن القُصَّاص وأضرابهم أن يطوِّلوا القضايا التي من هذا القبيل، ويزيدوا فيها، ويغيروا في أسانيدها، والله المستعان. قال أبو ريَّة ص 189: (ومما [زعم المفتري أن أبا هريرة] وضعه في معاوية: ما أخرجه الخطيب عنه: ناول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - معاوية سهمًا فقال: خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة). أقول: في سنده وضَّاح بن حسّان عن وزير بن عبد الله ــ ويقال ابن عبد الرحمن ــ الجزري عن غالب بن عبيد الله العقيلي. وهؤلاء الثلاثة كلهم هَلْكَى مُتَّهمون بالكذب، ورابعهم أبو ريَّة القائل: إن أبا هريرة كيتَ وكيتَ. والخبر أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3)، وقد تفنَّن فيه الكذابون فرووه من حديث جابر، ومن حديث أنس، ومن حديث ابن عمر، وغير _________ (1) «مسند أحمد» (8299). (2) انظر «البداية والنهاية»: (10/ 682). وكان ذلك في سنة أربعين من الهجرة. (3) (814).
(12/288)
ذلك. راجع «اللآلي المصنوعة» (219: 1) (1). قال: (وأخرج ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية .. ). [ص 151] أقول: وهذا أيضًا من أحاديث «الموضوعات» (2)، راجع «اللآلي المصنوعة» (216: 1 - 218) (3)، وقد تلاعب به الكذابون فرووه تارة عن واثلة، وتارة عن أنس، وتارة عن أبي هريرة، ورووا نحوه في أمانة معاوية من حديث عليّ، وابن عباس، وعُبادة بن الصامت، وجابر، وابن عمر، وعبد الله بن بُسر. فإن لزم مِن نِسْبة الخبرَين إلى أبي هريرة ثبوتهما عنه لزم ثبوتهما عمن ذُكِرَ معه من الصحابة، بل يلزم في جميع الأحاديث الضعيفة والموضوعة ثبوتها عمن نُسِبت إليهم من الصحابة. ومعنى هذا أنَّ كلّ فرد من أفراد الرواة معصوم عن الكذب والغلط إلا الصحابة، ولا ريب أنَّ في الرواة المغفَّل والكذَّاب والزنديق، ولعل أبا ريَّة أن يكون خيرًا من بعضهم فيكون معصومًا، فلماذا لا يستغني بهذه العصمة ويطلق أحكامه كيف يشاء، ويريح نفسه وغيره من طول البحث والتفتيش في الكتب؟ قال: (ونظر أبو هريرة إلى عائشة بنت طلحة ... ، فقال: ... والله ما رأيت وجهًا أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله). أقول: عزاه إلى «العقد الفريد» (4)، والحكاية فيه بلا سند، وحاول _________ (1) (1/ 419). (2) (807). (3) (1/ 418 ــ 419). (4) (6/ 109 ــ لجنة التأليف).
(12/289)
صاحب «الأغاني» (1) إسنادَها على عادته فلم يجاوز بها المدائني، وبَيْن المدائني وأبي هريرة نحو قرن ونصف، وهؤلاء سَمَريُّون إذا ظفروا بالنكتة لم يهمّهم أَصِدْقًا كانت أم كَذِبًا، والعلمُ وراء ذلك. قال: (ولقد بلغ من مناصرته لبني أمية أنه كان يحث الناس على ما يطالب به عمالهم من صدقات، ويحذرهم أن يَسُبُّوهم. قال العجاج: قال لي أبو هريرة: ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: يوشك أن يأتيك بقعان الشام فيأخذوا صدقتك، فإذا أتوك فتلقّهم بها، فإذا دخلوها فكن في أقاصيها وخلِّ عنهم وعنها، وإياك إن تَسُبَّهم فإنك إن سَبَبْتَهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك، وإن صبرت جاءت في ميزانك يوم القيامة). أقول: عزاه إلى «الشعر والشعراء» (2) لابن قتيبة، والحكاية فيه بلا سند، فإنْ صحَّت فإنما هي نصيحة لا تدلّ إلا على النُّصْح لكلّ مسلم، والإسلام يقضي بوجوب أداء الصدقة إلى عُمّال السلطان إذا طلبها وبحُرْمة سبِّهم إذا أخذوها. ولو منع العَجاجُ الصدقةَ لأُهين وأُخِذت منه قهرًا، ولو سبّ قابضيها لأثم وضرَّ نفسه ولم يضرَّهم شيئًا. ويكاد أبو ريَّة ينقم على أبي هريرة قوله: لا إله إلا الله، ويبني على [ص 152] ذلك تهمة. قاتل الله اللَّجاج! وقال ص 190: (وَضْعُه [بزعم المفتري] أحاديث على عليّ. قال أبو جعفر الإسكافي: إن معاوية حمل قومًا من الصحابة والتابعين على رواية أخبار قبيحة على _________ (1) (11/ 197). (2) (2/ 591). وساق ابن قتيبة سنده في «عيون الأخبار»: (1/ 7) قال: «حدثنا الرياشي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم بن الفضل، قال: حدثنا ابن أخت العجاج، عن العجاج ... به. قلت: الإسناد صحيح إلى ابن أخت العجاج، ولم أجد ترجمته.
(12/290)
عليّ تقتضي الطعنَ فيه والبراءةَ منه، وجعل لهم في ذلك جُعْلًا، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عُروة بن الزبير). أقول: قد تقدم النظر في ابن أبي (1) الحديد والإسكافي (ص 109) (2)، وهذه التهمة باطلة قطعًا، فأبو هريرة والمغيرة وعمرو ومعاوية صحابيون، وكلُّهم عند أهل السنة عدول، ثم كانت الدولة لبني أمية، فلو كان هؤلاء يستحلّون الكذبَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عَيب عليٍّ لامتلأ «الصحيحان» فضلاً عن غيرهما بِعَيبه وذمِّه وشَتْمه، فما بالنا لا نجد عن هؤلاء حديثًا صحيحًا ظاهرًا في عيب عليٍّ ولا في فضل معاوية؟ راجع (ص 64) (3). وعروةُ من كبار التابعين الثقات عند أهل السنة، لا نجد عنه خبرًا صحيحًا في عيب عليّ. فأما الأكاذيب الموضوعات فلا دخل لها في الحساب، على أنك تجدها تُنْسَب إلى هؤلاء وغيرهم في إطراء عليّ أكثر جدًّا منها في الغضّ منه. قال: (وروى الأعمش قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارًا وقال: يا أهل العراق! أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن لكل نبي حَرَمًا، وإن حرمي المدينة ما بين عَيْر إلى ثَوْر، فمن أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأشهد بالله أن عليًّا أحدث فيها» فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة). _________ (1) «أبي» سقطت من (ط). (2) (ص 210 ــ 211). (3) (ص 125 ــ 126).
(12/291)
أقول: هذا من حكاية ابن أبي الحديد (1/ 359) (1) عن الإسكافي، وراجع (ص 109) (2) ولا ندري سنده إلى الأعمش، وقد تواتر عن الأعمش رواية الحديث بنحو ما هنا: «عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خَطَبَنَا عليّ ... » فذكر ما في صحيفته وذكر الحديث (3)، فهو ثابت من رواية عليّ نفسِه. ولا نعرف أنَّ أبا هريرة قَدِم مع معاوية، ولا أنَّ معاوية ولَّاه المدينة لا في ذلك الوقت ولا بعده، إنما استخلفه مروانُ على إمرتها بعد ذلك بزمان. قال ص 191: (وعلى أن الحقّ لا يعدم أنصارًا ... فقد روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار: أن أبا هريرة لمَّا قدم الكوفة مع معاوية ... فجاء شابّ من أهل الكوفة [ص 153] ... فقال: يا أبا هريرة أنشدك الله أَسَمِعْتَ رسول الله يقول لعلي بن أبي طالب: «اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه؟ » فقال: اللهم نعم. فقال: أشهد بالله لقد واليتَ عدوَّه وعاديتَ وليَّه. ثم قام عنه). أقول: وهذا أيضًا عن ابن أبي الحديد عن الإسكافي (4)، ولا ندري ما سنده إلى الثوري؟ وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر من شيوخ الثوري (5)، فمَنْ عمر بن عبد الغفار؟ إنما المعروف عَمْرو بن عبد الغفار الفُقَيمي، صغير لم يدرك عبد الرحمن فكيف يروي عنه عبد الرحمن؟ مع أن عَمْرًا هالك مُتَّهَم بالوضع في فضائل لأهل البيت ومثالب لغيرهم (6)، وبينه _________ (1) (4/ 67). (2) (ص 210 ــ 211). (3) أخرجه البخاري (3172)، ومسلم (1370). (4) «شرح النهج»: (4/ 68). (5) ترجمته في «تهذيب الكمال»: (4/ 457). (6) ترجمته في «الكامل»: (5/ 146 ــ 148)، و «لسان الميزان»: (6/ 215 ــ 217).
(12/292)
وبين الواقعة رجلان أو ثلاثة فمَنْ هم؟ يظهر أن هذا تركيب من بعض الجَهَلة بالرواة وتاريخهم، ولهذا ترى الإسكافي وأضرابه يُغَطُّون على جَهَلة مَن يأخذون عنه مفترياتهم بترك الإسناد، ويكتفون بالتناوش مِن مكان بعيد. ثم لو صحّ الخبر لكان فيه براءة لأبي هريرة (وهو بريء على كلِّ حال) فإنه لم يستجز كتمان الحديث في فضل عليّ رضي الله عنه فكيف يتوهّم عليه ما هو أشدّ؟ أما الموالاة فأيُّ موالاة كانت منه؟ سلَّم الحسنُ بن عليّ الأمرَ لمعاوية، وبايعه هو وإخوته وبنو عمه وسائر بني هاشم والمسلمون كلّهم وأبو هريرة. ثم ذكر أبورية شيئًا من فضائل عليِّ رضي الله عنه، ولا نزاع في ذلك، وقد جاء عن أبي هريرة أحاديثُ كثيرة في فضائل أهل البيت تراها في «خصائص عليّ» (1) و «المستدرك» (2) وغيرهما، ولو لم يكن له إلا قصَّته عند وفاة الحسن بن علي؛ كان الحسن قد استأذن عائشة أن يُدْفَن مع جدِّه النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأذنت، فلما مات قام مروان ومن معه من بني أمية في منع ذلك، فثار أبو هريرة وجعل يقول: أتنفسون على ابن نبيّكم بتربة تدفنونه فيها، وقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أحبَّهما فقد أحبَّني ومن أبغضهما فقد أبغضني» (انظر «المستدرك» 171: 3) (3). وجرى له يومئذ مع مروان ما جرى مما تقدم بعضه (ص 149) (4) وباقيه في «البداية» (108: 8) (5). _________ (1) ضمن «السنن الكبرى»: (7/ 407 ــ 483) للنسائي. (2) (3/ 107 ــ 146). (3) وقع في (ط): (71) خطأ. (4) (ص 286). (5) (11/ 374).
(12/293)
ثم قال أبورية ص 192: (سيرته وولايته: استعمل عمر أبا هريرة على البحرين سنة 21 ثم بلغه عنه أشياء تخلّ بأمانة الوالي العادل فعزله ... واستدعاه وقال له: ... ). أقول: قول أبي ريَّة (بلغه عنه الخ) من تظنِّي أبي ريَّة، وستعلم بطلانه. وأما ما ذكره بعد ذلك فلم يعزه إلى كتاب، وسأذكر ما أثبته المتحرُّون من أهل العلم، وأقدّم قبل ذلك مقدمة: [ص 154] كان عمر رضي الله عنه يحبّ للصحابة ما يحبّ لنفسه، فكان يكره لأحدهم أن يدخل عليه مالٌ فيه رائحة شبهة، وله في ذلك أخبار معروفة في سيرته؛ كان معاذ بن جبل من خيار أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، جاء عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء بِرَتْوة» (1). وقال أيضًا: «وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» (2). وكان معاذ سَمْحًا كريمًا، _________ (1) أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1833)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة»: (4/ 187) من حديث عمر رضي الله عنه، وأخرجه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير»: (1/ 335) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال الهيثمي: «وفيه مندل بن علي وهو ضعيف وقد وُثق» «مجمع الزوائد»: (9/ 243). وجاء من مرسل محمد بن كعب القرظي أخرجه الطبراني في «الكبير»: (20/ 30)، قال الهيثمي: «مرسل، وفيه محمد بن عبد الله بن أزهر الأنصاري، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح». «مجمع الزوائد»: (9/ 314). (2) أخرجه أحمد (13990)، والترمذي (3790)، وابن ماجه (154)، والنسائي في «الكبرى» (8242)، وابن حبان (7131) وغيرهم من طريق الحذاء عن أبي قلابة عن أنسٍ بن مالك رضي الله عنه. قال الترمذي: «حسن صحيح». وصححه ابن حبان والحاكم والضياء. وأُعلّ بالإرسال، وأنه لا يصح موصولاً إلا ذكر أبي عبيدة. رجحه الدارقطني في «العلل» (12/ 248) والبيهقي والخطيب وغيرهم. انظر «المقاصد الحسنة» (ص 47 ــ 48).
(12/294)
فرَكِبَتْه ديون، فقسم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مالَه بين غرمائه، ثم بعثه على اليمن ليجبُرَه، فعاد بعد وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه مال لنفسه، فلقيه عمر فأشار عليه أن يدفع المال إلى أبي بكر ليجعله في بيت المال، فأبى وقال: إنما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجبرني. ثم رأى رؤيا فسمحت نفسُه، فذهب إلى أبي بكر وبذل له المال، فقال أبو بكر: قد وهبته لك. فقال عمر: الآن حلَّ وطاب. يعني أنَّ الشبهة التي كانت فيه هي احتمال أن يكون فيه حق لبيت المال، فلما طيَّبه له أبو بكر ــ وهو الإمام ــ صار كأنه أعطاه من بيت المال، لاعتقاده أنه مستحق، فبذلك حلَّ وطاب. (انظر ترجمة معاذ من «الاستيعاب» (1) و «المستدرك» 272: 3). فلما اسْتُخْلِف عمر جرى على احتياطه، فكان يُقاسم عمالَه أموالَهم، فيجعل ما يأخذه منهم في بيت المال، قال ابن سيرين: «فكان يأخذ منهم ثم يعطيهم أفضل من ذلك» كما سيأتي، وكان عمر يتخوَّف عليهم أن يكون الناس راعوهم في تجارتهم ومكاسبهم لأجل الإمارة، فكان يأخذ منهم ما يأخذ ويضعه في بيت المال لتبرأ ذممُهم، ثم يعطيهم بعد ذلك من بيت المال بحسب ما يرى من استحقاقهم، فيكون حِلًّا لهم بلا شبهة. وقد قاسَم مِن خيارهم سعد بن أبي وقاص وغيره، كما ذكره ابن سعد (2) وغيره. وكان عمر رضي الله عنه للصحابة بمنزلة الوالد، يعطف ويشفق ويؤدِّب ويشدّد، وكان الصحابة رضي الله عنهم قد عرفوا له ذلك، وقد تناول بدِرَّته بعضَ أكابرهم كسعد بن أبي وقاص، وأُبيِّ بن كعب، ولم يزده ذلك عندهم _________ (1) (3/ 1404 ــ 1405). (2) «الطبقات الكبرى»: (3/ 138).
(12/295)
إلا حُبًّا (انظر «سنن الدارمي» (1): باب مَن كَرِه الشهرة والمعرفة. و «طبقات ابن سعد» (2): ترجمة عمر). فأهلُ العلم والإيمان ينظرون إلى ما جرى من ذلك نظرةَ غبطةٍ وإكبارٍ لعمر ولمن أدَّبه عمر. وأهل الأهواء ينظرون نظرةَ طَعْنٍ على أحد الفريقين كما صنعه أبو ريَّة هنا، وكما يصنعه الرافضة في الطعن على عمر، أو على الفريقين معًا كما ذكره أبو ريَّة ص 52 في ذكر عمر: (قلَّ أن يكون في الصحابة من سلم مِن لسانه أو يده). أما أبو هريرة فقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه مع العلاء بن الحضرميّ إلى البحرين وأوصاه به خيرًا [ص 155] فاختار أن يكون مؤذِّنًا، كما في «الإصابة» (3) و «البداية» (4) وغيرهما. ثم رجع العلاء في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما في «فتوح البلدان» (ص 92) ورجع معه أبو هريرة (5)، ثم بعث عمر سنة 20 أو نحوها قُدامةَ بن مظعون على إمارة البحرين وبعث معه أبا هريرة على الصلاة والقضاء، ثم جرت لقُدامة قضية معروفة (6)، فعَزَله عمر وولَّى أبا هريرة الإمارة أيضًا، ثم قَدِم أبو هريرة بمالٍ لبيتِ المال ومالٍ له، قال ابن كثير في «البداية» (8: 113) (7): «قال عبد الرزّاق: حدثنا مَعْمر عن أيوب _________ (1) (1/ 446 وما بعدها) وقصته مع أبيّ رقم (540). (2) (3/ 245 وما بعدها). (3) (7/ 439). (4) (11/ 386). والخبر عند ابن سعد في «الطبقات»: (5/ 241). (5) يأتي تحقيقه فيما بعد. [المؤلف]. وسبقت الإحالة «فتوح البلدان» (ص 112). (6) وهي قضية شربه الخمر متأوّلًا. (7) (11/ 386 ــ 387) وهي في «تاريخ دمشق»: (67/ 370).
(12/296)
عن ابن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقَدِم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرتَ بهذه الأموال (1) أيْ عدوَّ الله وعدوَّ كتابه؟ فقال أبو هريرة: لستُ بعدوِّ الله ولا عدوّ كتابه، ولكن عدوّ مَن عاداهما. فقال: فمِنْ أين هي لك؟ قال: خَيْلٌ نتجَتْ، وغلَّة رقيقٍ لي، وأعْطِيَة تتابعت عَلَيَّ، فنظروا، فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه ليستعمله، فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرًا منك، طلبه يوسف عليه السلام؟ فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أميمة، وأخشى ثلاثًا واثنتين. قال عمر: فهلّا قلت: خمسة (؟ ) قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، أو يُضرب ظهري، ويُنتزع مالي، ويُشتم عرضي». والسند بغاية الصحة. وفي «فتوح البلدان» (ص 93) (2) من طريق يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن سيرين عن أبي هريرة: أنه لما قَدِم من البحرين ... فذكر أول القصة نحوه، وفيه: «فقبضها منه». والسند صحيح أيضًا. وأخرجه أيضًا من طريق أبي هلال الراسبي عن ابن سيرين عن أبي هريرة، فذكر نحوه إلا أنه وقع فيه: «اثنا عشر ألفًا» والصواب الأول؛ لأن أبا هلال في حفظه شيء. وفيه: «فلما صليت الغداة قلت: اللهم اغفر لعمر. قال: فكان يأخذ منهم ويعطيهم أفضلَ من ذلك». وفي «تاريخ الإسلام» للذهبي (338: 2) (3): «همام بن يحيى حدثنا _________ (1) في رواية في طبقات ابن سعد 4/ 2/60: «أَسَرَقْتَ مال الله» وذكرها أبو ريَّة بلفظ: «سرقت مال الله». [المؤلف]. (2) (ص 113). (3) (2/ 566 ــ ط بشار). والخبر في «الطبقات»: (5/ 252 ــ 253) لابن سعد. وفيه زيادة: «قال: أخذتَ شيئًا بغير حقه؟ قال: لا».
(12/297)
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: أن عمر قال لأبي هريرة: كيف وجدت الإمارة؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها. وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين، فقال: أظلمْتَ أحدًا؟ قال: لا. قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفًا. قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أَتَّجِر. قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه واجعل الآخر في بيت المال». فكأنه قَدِم لنفسه بعشرين ألفًا، فقاسمه عمر كما كان يقاسم سائر عُمَّاله، فذكر ابن سيرين عشرة الآلاف المأخوذة لبيت المال. [ص 156] فقد تحقق بما قدمنا من الروايات الصحيحة أن المال الذي جاء به أبو هريرة لنفسه من البحرين كان من خيله ورقيقه وأعطيته، وأَخْذُ عمر له أو لبعضه لا يدلّ إلّا على ما قدَّمْنَا من الاحتياط، ثم يعطيهم خيرًا منه. ومما يوضِّح براءة أبي هريرة في الواقع وعند عمر: إظهاره المال، وعزم عمر على توليته فيما بعد، وامتناع أبي هريرة من ذلك. ثم قال أبو ريَّة ص 193: (وفاته. مات أبو هريرة سنة 57 أو سنة 58). أقول: أو سنة 59 كما في «التهذيب» (1) وغيره، وهو قول الواقدي وابن سعد (2). قال: (عن ثمانين سنة). أقول: المعروف «عن ثمانٍ وسبعين سنة». _________ (1) (12/ 266). (2) انظر «الطبقات»: (5/ 257).
(12/298)
قال: (وصلَّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميرًا على المدينة تكريمًا له). أقول: هذا رواه الواقدي (1) بسند فيه نظر، ولكنها السنة التي كانوا يعملون بها: أن يكون الأمير هو الذي يصلِّي على الموتى بدون تفريق. قال: (ولما كتب الوليد إلى عمه ... أرسل ... ادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم ... وهكذا يترادف رفدهم له حتى بعد وفاته). أقول: هذا رواه الواقدي (2) بسندٍ فيه نظر، وفيه: «فإنه كان ممن نصر عثمان وكان معه في الدار». وإنما حذف أبو ريَّة هذا ليوهم غيره. ثم ذكر أبو ريَّة كلمات لصاحب «المنار» قال في أبي هريرة: ( ... فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وإنما سمعها من الصحابة والتابعين). أقول: فيه مجازفتان: الأولى: زَعَم أنّ أكثر أحاديثه لم يسمعها من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ونحن إذا (3) نظرنا إلى أحاديثه التي رواها عن غيره من الصحابة وجدناها يسيرة، ثم إذا نظرنا في أحاديثه التي يرويها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رأسًا ولا يصرِّح بالسماع منه، قلّما نجد فيها ما يُعْلَم مِن مَتْنه أنه كان في المُدَّة التي لم يدركها أبو هريرة، مع أننا نجد عن غيره أحاديث كثيرة تتعلق بتلك المدة، فهذا مع ما تقدم (ص 106 و 118 - 119) (4) وغيرها، وما يأتي بعدُ من شهادة الصحابة له _________ (1) انظر «الطبقات»: (5/ 257) لابن سعد. (2) انظر المصدر السابق. (3) (ط): «إذ». (4) (ص 204 ــ 205 و 227 ــ 230).
(12/299)
يقضي بعكس الدعوى المذكورة. [ص 157] المجازفة الثانية: زَعَم أنّ بعض أحاديثه سمعها من التابعين، إن أريد أحاديثه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإننا لا نعرف له حديثًا كذلك، ورواية الصحابي الذي سمع من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كأبي هريرة عن تابعيّ عن صحابيّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بغاية القِلّة، وإنما ذكروا من هذا الضرب حديثًا لسهل بن سعد وآخر للسائب بن يزيد، وقد تُوُفِّي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسهل ابن خمس عشرة سنة، والسائب ابن سبع سنين، وذكروا أن الحافظ العراقي تَتَبَّع ما يدخل في هذا الضرب فجمع عشرين حديثًا (1)، لعل منها ما لا يصح، وباقيها من أحاديث أصاغر الصحابة كالسائب. قال: (وقد ثبت أنه كان يسمع من كعب الأحبار). أقول: أيَّ شيء سمع منه؟ إنما سمع منه أشياء يحكيها عن صحف أهل الكتاب، وذلك فنّ كعب. قال: (وأكثر أحاديثه عنعنة). أقول: أما عنعنته فقد قدمنا (ص 114 - 117) (2) أنها تكون على احتمالين: إمّا أن يكون سمع من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإما عن صحابي آخر عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فأما الاحتمال الثالث: أن يكون إنما سمع من تابعي ــ كعب أو غيره ــ ومع ذلك رواه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - = فهذا من أَبْطَل الباطل قطعًا، وراجع ما تقدم _________ (1) ذكرها العراقي في «التقييد والإيضاح»: (1/ 392 ــ 406 ــ البشائر). وجمع فيها الخطيب البغدادي رسالة، ولخصها مع ترتيبها الحافظ ابن حجر في جزء سماه «نزهة السامعين في رواية الصحابة عن التابعين» مطبوع. (2) (ص 219 ــ 227).
(12/300)
(ص 73 - 75 و 82 و 89 و 94 و 99 و 109 - 110) (1). ولا أدري أين كان أهل العلم من الصحابة والتابعين وأتباعهم وهَلُمَّ جرًّا عن هذا الاحتمال حتى يُثَار في القرن الرابع عشر؟ بل أين كان وعد الله تبارك وتعالى بحفظ دينه وشريعته، فلم ينبّههم لهذا الاحتمال طوال تلك القرون؟ بل أين كان الشيطان عن هذا الاحتمال، فلم يوسْوِس به لأحد منهم؟ كلَّا، كانوا أعلمَ وأتقى من أن يطمع الشيطانُ أن ينصاعوا لوسوسةٍ مثل هذه. ومن تدبَّر ما تقدَّم (ص 114 - 117) (2) عَلِم أن هذا الاحتمال الثالث معناه اتهام الصحابيّ بالكذب، فإذا كانت الأدلة تبرِّئ أبا هريرة ونظراءه من الكذب فإنها تبرئهم من هذا. قال: (على أنه صرح بالسماع في حديث: خلق الله التربة يوم السبت، وقد جزموا بأن هذا الحديث أخذه عن كعب الأحبار). أقول: قد تقدّم النظرُ في هذا الحديث (ص 135 ــ 139) (3) بما يقتلع الشبهةَ من أصلها، ولله الحمد. [ص 158] قال ص 194: (وقال: إنه يكثر في أحاديثه الرواية بالمعنى). أقول: هذه مجازفة، وأبو هريرة موصوف بالحفظ كما مرَّ ويأتي. قال: (وقال: إنه انفرد بأحاديث كثيرة ... ). أقول: قد تتبَّع أبو ريَّة عامّة ذلك، وتقدم النظر في بعضها ويأتي الباقي. _________ (1) (ص 143 ــ 150 و 161 ــ 163 و 173 ــ 175 و 183 ــ 185 و 192 ــ 193 و 209 ــ 213). (2) (ص 119 ــ 127). (3) (ص 260 ــ 269).
(12/301)
قال ص 95: (وقال وهو يبين أن بَطَلَي الإسرائيليات ... هما كعب الأحبار ووهب بن منبه: وما يدرينا أن كل [تلك] الروايات ــ أو الموقوفة منها ــ ترجع إليهما ... ). أقول: كلمة (تلك) ثابتة في مصدر أبي رية، والكلام هناك في رواياتٍ جاءت في قضية خاصة، فأهمل أبو ريَّة بيان ذلك وأسقط كلمة «تلك»؛ ليُفْهِمك أنّ صاحب «المنار» يجيز أن تكون المرويّات الإسلامية كلها راجعة إلى كعب ووهب. وأعاد ص 196 - 197 بعضَ دعاويه ومزاعمه، وقد تقدَّم ويأتي ما فيه كفاية. ثم قال ص 198: (أمثلة مما رواه أبو هريرة: أخرج البخاري ومسلم عنه قال: أُرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكّه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. فردّ الله عليه عينه (1)، وقال: «ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكلّ ما غطَّتْ يدُه بكل شعرة سنة. قال: أي ربّ ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل (2) الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الكثيب الأحمر. وفي رواية لمسلم. قال: فلطم موسى عين مَلَك الموت ففقأها). أقول: القصة على ما ذكر هنا من كلام أبي هريرة. وإنما الذي من كلام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قوله: «فلو كنت ثَمَّ ... الخ» وليس فيه ما يُستشكل. فأما القصة فقد أجاب عنها أهل العلم، وسألخص ذلك. _________ (1) في كتاب أبي ريَّة «عينيه». [المؤلف]. (2) فيه «فاسال». [المؤلف].
(12/302)
ثبتَ بالكتاب والسنَّة أنّ الملائكة قد يتمثَّلون في صُوَر الرجال، وقد يراهم كذلك بعضُ الأنبياء فيظنهم من بني آدم، كما في قِصّتهم مع إبراهيم ومع لوط عليهما السلام ــ اقرأ من سورة هود الآيات 69 - 80، وقال الله تعالى في مريم عليها السلام: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 17 - 18]. وفي السُّنة أشياء من ذلك، وأشهرها ما في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان. [ص 159] فمن كان جاحدًا لهذا كله أو مرتابًا فيه فليس كلامنا معه، ومن كان مصدِّقًا علم أنه لا مانع أن يتمثّل مَلَك الموت رجلًا ويأتي إلى موسى فلا يعرفه موسى. الجسد المادي الذي يتمثّل به الملك ليس جسده الحقيقي، وليس مِن لازم تمثُّله فيه أن يخرج الملك عن مَلَكيته، ولا أن يخرج ذاك الجسم المادي عن مادِّيته، ولا أن تكون حقيقة الملك إلى ذاك الجسم كنسبة أرواح الناس إلى أجسامهم، فعلى هذا لو عرض ضربٌ أو طعن أو قطع لذاك الجسم، لم يلزم أن يتألم بها المَلَك، ولا أن تؤثِّر في جسمه الحقيقي. ما المانع أن تقتضي حكمة الله عزّ وجلّ أن يتمثَّل ملك الموت بصورة رجل ويأمره الله أن يدخل على موسى بغتةً ويقول له مثلًا: سأقبض روحك. وينظر ماذا يصنع؟ لتظهر رغبة موسى في الحياة وكراهيته للموت، فيكون في قَصِّ ذلك عبرة لمن بعده. فعلى هذا فإن موسى لما رأى رجلًا لا يعرفه دخل بغتةً وقال ما قال، حمله حبُّ الحياة على الاستعجال بدفعه، ولولا شدّة حبِّ الحياة لتأنَّى وقال: مَن أنت وما شأنك؟ ونحو ذلك. ووقوع الصّكَّة وتأثيرها كان على ذاك الجسد العارض، ولم ينل الملك بأس. فأما قوله في القصة: «فردّ الله عليه عينه» فحاصله أن الله تعالى أعاد
(12/303)
تمثيل الملك في ذاك الجسد المادي سليمًا، حتى إذا رآه موسى قد عاد سليمًا مع قُرب الوقت عرفَ لأوّل وهلة خطأه أول مرة. قال أبو ريَّة: (وفي تاريخ الطبري عن أبي هريرة أن ملك الموت ... ). أقول: رجاله كلّهم موصوفون بأنهم ممن يخطئ، فلا يصح عن أبي هريرة (1). قال: (وأخرجا كذلك عنه قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: تحاجَّت الجنة والنار ... ). أقول: قد وافق أبا هريرة على هذا الحديث أنس بن مالك وحديثه في «الصحيحين» (2) وغيرهما، وأبو سعيد وحديثه في «صحيح مسلم» (3) و «مسند أحمد» (4) وغيرهما، وأُبيّ بن كعب وحديثه في «مسند أبي يعلى» (5). وتفسير الحديث معروف. قال: (وروى البخاري عنه: ما بين مَنْكِبَي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع. وخرج أوله مسلم عنه مرفوعًا وزاد: غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام). أقول: هذا من فهم أبي ريَّة وتحرِّيه. راجع «فتح الباري» (365: 11) (6) تعرف ما في صنيع أبي ريَّة وتعرف الجواب. _________ (1) «تاريخ الطبري»: (1/ 256). والسند فيه: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة. (2) البخاري (4848)، ومسلم (2848). (3) (2847). (4) (11099). (5) «المطالب العالية» (4557). (6) (11/ 423). وحديث «ما بين منكبي ... » في البخاري (6551) عن أبي هريرة مرفوعًا. لا كما أوهمه أبو ريَّة. أما ما أخرجه مسلم (2851) فحديث آخر وهو «ضرس الكافر مثل أحد، وغلظ جلده ... » فجعلهما أبو ريَّة حديثًا واحدًا.
(12/304)
[ص 160] وقال ص 199: (وروى البخاري وابن ماجه عنه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إذا وقع الذُّباب في إناء أحدكم فليغمسه كلّه ثم يطرحه، فإن في أحد جناحية داء والآخر شفاء). أقول: هذا الحديث قد وافق أبا هريرة على روايته أبو سعيد الخدري وأنس. راجع «مسند أحمد» (1) بتحقيق وتعليق الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله (124: 12). وعلماء الطبيعة يعترفون بأنهم لم يحيطوا بكلّ شيء علمًا، ولا يزالون يكتشفون الشيء بعد الشيء، فبأيّ إيمانٍ ينفي أبو ريَّة وأضرابُه أن يكون الله تعالى أَطْلَعَ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - على أمر لم يصل إليه علمُ الطبيعة بعد (2)؟ هذا، وخالق الطبيعة ومدبّرها هو واضع الشريعة، وقد علم سبحانه أنّ كثيرًا من عباده يكونون في ضيق من العيش، وقد يكون قُوتُهم اللبن وحده، فلو أُرْشِدوا إلى أن يريقوا كل ما وقعت فيه ذبابة لأجحف بهم ذلك، فأُغيثوا بما في الحديث. فمَن خالف هواه وطبعه في استقذار الذّباب فغمسه تصديقًا لله ورسوله دفع الله عنه الضرر، فكان في غَمْس ما لم يكن انغمس ما يدفع ضرر ما كان انغمس، وعلماء الطبيعة يثبتون لقوة الاعتقاد تأثيرًا بالغًا، فما بالك باعتقادٍ منشؤه الإيمان بالله ورسوله؟ قال ص 200: (وروى الطبراني في «الأوسط» عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أتاني ملك برسالة _________ (1) (11189، 11643) من حديث أبي سعيد، أما حديث أنس فهو عند البزار (7323) قال الهيثمي في «المجمع»: (5/ 38): «رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح». ولم أجده في «مسند أحمد». (2) كلام المؤلف هذا قبل أكثر من خمسين سنة، وقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن الذباب يحمل على سطح جسمه الخارجي ــ إضافة إلى البكتريا ــ مضادات حيوية تعالج العديد من الأمراض. ووجدوا أن أفضل طريقة لتحرير هذه المواد الحيوية أن تُغمس الذبابة في سائل. انظر موقع www.kaheel 7.com
(12/305)
من الله عز وجل، ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها). أقول: تفرَّد بروايته صَدَقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف، والحديث معدود في منكراته، فلم يثبت عن أبي هريرة (1). قال: (وروى الترمذي عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العجوة من الجنة وفيها شفاء من السُّم). أقول: سنده إلى أبي هريرة غريب كما قال الترمذي (2)، لكنه معروف من رواية غيره من الصحابة، فقد ورد من حديث أبي سعيد وجابر (3)، وجاء من حديث بُريدة مرفوعًا: «العجوة من فاكهة الجنة» (4). وفي «الصحيحين» (5) من حديث سعد بن أبي وقَّاص مرفوعًا: «من اصطبح كلَّ يوم تمرات عجوة لم يضره سُمّ ولا سِحْر ذلك اليوم إلى الليل». وله شاهد من حديث عائشة في «صحيح مسلم» (6). وراجع ما مرّ قريبًا. قال: (وروى الحاكم وابن ماجه من حديثه بسند صحيح: خَمِّروا الآنية، وأوكئوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، واكفتوا صبيانكم عند المساء، فإن للجن انتشارًا وخَطْفَة، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما اجترَّت الفتيلة فأحرقت أهل البيت). _________ (1) أخرجه أبو الشيخ في «العظمة»: (2/ 729 ــ 730)، وابن عدي في «الكامل»: (4/ 75) وعدّ الحديث من منكراته. (2) (2066). (3) أخرجه عنهما ابن ماجه (3453)، وأحمد (11453). (4) أخرجه أحمد (22938)، وابن عدي في «الكامل»: (4/ 53) وعدّه من منكرات صالح بن حيان القرشي، ومثله الذهبي في «الميزان»: (3/ 6). (5) البخاري (5768)، ومسلم (2047). (6) (2048).
(12/306)
[ص 161] أقول: هذا حديث جابر بن عبد الله عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو عن جابر بهذا اللفظ حرفًا حرفًا في «صحيح البخاري» (1) كتاب بدء الخلق. انظر «فتح الباري» (253: 6) (2)، وهو بألفاظ أُخَر في مواضع أُخَر من «صحيح البخاري» وفي «صحيح مسلم» (3). قال ص 201: (وروى مسلم عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة). أقول: قد تقدم هذا (ص 140) (4) فراجعه وتأمل صنيع أبي ريَّة هناك. قال: (وروايات أبي هريرة من هذا القبيل وأوهى منه تفهق الكتب بها ... ). أقول: انتقد أبو ريَّة في ترجمة أبي هريرة نيفًا وثلاثين حديثًا، وهي على خمسة أضرب: ضَرْبٌ نسبه إلى أبي هريرة اعتباطًا وإنما رُوي عن غيره. وضَرْبٌ نحو عشرة أحاديث في سند كلٍّ منها كذَّاب أو مُتَّهَم أو ضَعْفٌ أو انقطاع، فهذا لا شأن لأبي هريرة به لأنه لم يثبت عنه، وراجع (ص 151) (5). وضَرْبٌ اخْتُلِفَ فيه أَيَصِحُّ عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ فهذا قريب من سابقه، فإنه على فَرْض تبيُّن بطلان متنه يترجَّح عدم صحته عن أبي هريرة؛ لأن تَبِعة الحديث إنما تتجه إلى الأدنى. وضَرْبٌ صحيح عن أبي هريرة وقد _________ (1) (3316) وفيه: «عند العشاء» بدل «عند المساء». (2) (6/ 356). ووقع رقم الصفحة في (ط): (253) ولعله (353). (3) انظر «صحيح البخاري» (3280، 3304، 5624 وغيرها»، و «صحيح مسلم» (2012، 2013). (4) (ص 270 ــ 271). (5) (ص 289 ــ 290).
(12/307)
وافقه عليه غيره من الصحابة؛ اثنان أو ثلاثة أو أكثر. ويبقى بعد الأَضْرُب السابقة ثلاثة أو أربعة أحاديث قد مرّ الجواب الواضح عنها بحمد الله تعالى. واعلم أن الناس تختلف مداركُهم وأفهامُهم وآراؤهم ولا سيّما في ما يتعلق بالأمور الدينية والغيبية؛ لقصور علم الناس في جانب علم الله تعالى وحكمته، ولهذا كان في القرآن آيات كثيرة يستشكلها كثير من الناس، وقد أُلِّفَتْ في ذلك كتب (1). وكذلك استشكل كثيرٌ من الناس كثيرًا من الأحاديث الثابتة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، منها ما هو من رواية كبار الصحابة أو عدد منهم كما مرَّ، وبهذا يتبيَّن أن استشكال النصّ لا يعني بطلانه. ووجود النصوص التي يُستشكل ظاهرُها لم يقع في الكتاب والسنة عَفْوًا وإنما هو أمر مقصود شرعًا؛ ليبلو الله تعالى ما في النفوس ويمتحن ما في الصدور، وييسر للعلماء أبوابًا من الجهاد العلمي يرفعهم الله به درجات. هذا، وأنت تعلم أنَّ أبا هريرة رجل أُمّيّ لا يكتب ولا يقرأ الكتب، وعاش حتى ناهز الثمانين، منها نحو أربعين سنة يحدِّث، وكثر حديثه، ولم يكن معصومًا عن الخطأ، وكذلك الموثَّقون من الرواة عنه ومَنْ بعدهم. أما غير الموثَّقين فلا اعتداد بهم. وقد عاداه المبتدعةُ من الجهمية والمعتزلة والرافضة وغُلاة أصحاب الرأي كما مرَّتْ شواهده في الترجمة، وحَرَصوا كلَّ الحرص على أن يجدوا في أحاديثه [ص 162] ما يطعنون به عليه، وتتابعت جهودُهم، ثم جاء أبو ريَّة فأطال التفتيش والتنبيش، وقضى في ذلك سنين من عمره، ومع ذلك كلّه كانت النتيجة ما تقدّم، فعلى ماذا يدل هذا؟ _________ (1) منها كتاب «تأويل مشكل القرآن» لابن قتيبة، و «تفسير آيات أشكلت» لابن تيمية.
(12/308)
أبو هريرة والبحرين ذكر جماعة: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا هريرة مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وفي «طبقات ابن سعد» (4/ 2/76) (1) عن الواقدي بسنده إلى العلاء بن الحضرمي: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه منصرَفَه من الجعرانة إلى المنذر بن ساوى العبدي بالبحرين ... وبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - معه نفرًا فيهم أبو هريرة وقال له: استوص به خيرًا». ثم قال الواقدي: «حدثني عبد الله بن يزيد عن سالم مولى بني نصر قال: سمعت أبا هريرة يقول: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع العلاء بن الحضرمي وأوصاه بي خيرًا، فلما فصلنا قال لي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوصاني بك خيرًا فانظر ماذا تحبّ؟ قال: قلت: تجعلني أُؤذِّن لك ولا تسبقني بآمين، فأعطاه ذلك». والواقديّ ليس بحُجَّة لكن للقصة شواهد، ففي «فتح الباري» (217: 2) (2): «فروى سعيد بن منصور من طريق محمد بن سيرين: أن أبا هريرة كان مؤذّنًا بالبحرين، وأنه اشترط على الإمام أن لا يسبقه بآمين. والإمام بالبحرين كان العلاء بن الحضرمي، بيَّنَه عبد الرزاق من طريق أبي سلمة عنه». وعند ابن سعد (4/ 2/54) (3) بسندٍ صحيح عن أبي هريرة قال: «صَحِبت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين، ما كنتُ سنوات قطّ أعقل مني ولا أحبّ إليَّ أن أَعِيَ ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنِّي فيهن» هذا مع أن قدومه على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان في صفر سنة 7، فمنه إلى وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين وشيء، فاقتصاره _________ (1) (5/ 241، 277). (2) (2/ 263). (3) (5/ 232).
(12/309)
على «ثلاث سنين» يدلّ أنه غاب في أثناء تلك المدة سنة أو نحوها، وقد كان البعث بعد الانصراف من الجعرانة كما مرَّ، وكان الانصراف منها في أواخر ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 8، وفي «الطبقات» (4/ 2/77) (1): أن العلاء قدم على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فولَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكانه أبان بن سعيد بن العاص، فعلى هذا لما رجع العلاء رجع معه أبو هريرة، وقد ثبت في «الصحيح» عن أبي هريرة أنه ممن حجّ مع أبي بكر سنة 9، وكان ينادي مع عَلِيّ: أن لا يحجّ بعد العام مشرك. انظر «صحيح البخاري» (2) ــ تفسر سورة براءة ــ فصحَّ أن غيبته كانت سنةً أو دونها. وثَمَّ ما يدلّ أن أبا هريرة عاد إلى البحرين في خلافة أبي بكر، ففي «الطبقات» (4/ 2/77) (3) عن الواقدي بسنده: أن أبا بكر أعاد في خلافته العلاءَ بن الحضرميّ على البحرين، وذكر القصة وفيها فَتَحَ العلاء [ص 163] دارِين سنة أربع عشرة، ثم ذكر ابنُ سعدٍ بسند آخر: أنّ عمر كتب إلى العلاء أن يذهب ليخلُف عُتْبة بن غزوان على عمله، فخرج العلاء ومعه أبو هريرة، فمات العلاء في الطريق ورجع أبو هريرة إلى البحرين، وذكر عن أبي هريرة قوله: «رأيتُ من العلاء بن الحضرميّ ثلاثة أشياء ولا أزال أحبّه أبدًا، رأيته قَطَع البحر على فرسه يوم دَارِيْن .... وخرجْتُ معه من البحرين إلى صفّ البصرة فلما كنّا بلياس (4) (؟ ) مات ... ». ومن أهل الأخبار من يزعم أن وفاة _________ (1) (5/ 277). (2) (4655). (3) (5/ 278). (4) كذا في (ط) وكتب المؤلف عقبها علامة الاستفهام إشارة إلى شكّه في هذه الكلمة. أقول: وهو كذلك، وصوابها «تِياس». انظر «معجم البلدان»: (2/ 64)، و «معجم ما استعجم»: (1/ 296) للبكري. ونص الأخير أن العلاء بن الحضرمي توفي بها. وتصحّفت في «السير»: (1/ 265) إلى «بنياس».
(12/310)
العلاء تأخّرت إلى سنة 21. فالله أعلم. أما ما تقدّم فإنه يدل أنّ أبا هريرة رجع إلى البحرين مع العلاء حين ولَّاه أبو بكر، وكان بها سنةَ أربع عشرة. ثم كان أبو هريرة بالبحرين أيضًا في إمارة قدامة بن مظعون عليها، كما يُعْلَم من ترجمة قدامة في «الإصابة» (1) وغيرها، وفي «فتوح البلدان» (ص 92) عن أبي مخنف في ذكر العلاء بن الحضرمي « ... حتى مات وذلك في سنة أربع عشرة أو في أول سنة خمس عشرة، ثم إن عمر وَلَّى قدامة بن مظعون الجُمَحي جباية البحرين، وولَّى أبا هريرة الأحداث والصلاة ... » وفيه (ص 93) عن الهيثم: «كان قدامة بن مظعون على الجباية والأحداث، وأبو هريرة على الصلاة والقضاء ... ثم ولَّاه عمر البحرين بعد قدامة، ثم عزله وقاسمه، وأمره بالرجوع فأبى، فولّاها عثمان ابن أبي العاصي ... ». والقضية تحتاج إلى مزيد تتبّع وتأمّل، غير أنّ في ما تقدم ما يكفي للدلالة على أنّ إقامة أبي هريرة بالبحرين كانت كافيةً لأن يتموَّل، وبذلك يتأكد صِدْقُه في قوله: «خيل نَتَجت ... » كما مرَّ (ص 148) (2). * * * * _________ (1) (5/ 423 ــ 425). (2) (ص 283 ــ 285).
(12/311)
من فضل أبي هريرة (1) أمّا ما يَعُمُّه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم فيأتي في موضعه، وأما ما يَخُصُّه فمنه في «الصحيحين» (2) عنه: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لقيه في طريقٍ من طرق المدينة وهو جُنب فانسلَّ فذهب فاغتسل، فتفقَّده النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء قال: «أين كنت يا أبا هريرة؟» قال: يا رسول الله لَقيتني وأنا جُنُب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس» لفظ مسلم. ومَرَّ (ص 100) (3) ما في «صحيح البخاري» (4) من قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني أحدٌ عن هذا الحديث أوَّلَ منك، لما رأيتُ من حرصك على الحديث ... ». [ص 164] وفي «صحيح مسلم» (5) وغيره في قصة إسلام أمه قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم حَبِّب عُبيدك هذا ــ يعني أبا هريرة ــ وأُمَّه إلى عبادك المؤمنين ... ». قال ابن كثير في «البداية» (105: 8) (6): «وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإنَّ أبا هريرة محبّب إلى جميع الناس ... ». _________ (1) هذا المبحث لا وجود له في كتاب أبي ريَّة، وقد ختم به المؤلف كلامه على أبي هريرة رضي الله عنه. (2) البخاري (285)، ومسلم (371). (3) (ص 194 ــ 195). (4) (99). (5) (2491). (6) (11/ 366).
(12/312)
وفي «الإصابة» (1): «وأخرج النسائيُّ بسند جيِّد في (العلم) من كتاب «السنن» (2): أن رجلًا جاء إلى زيد بن ثابت فسأله، فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ندعو الله ونذكره، إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس إلينا فقال: «عودوا لِلَّذي كنتم فيه»، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤمِّن على دعائنا، ودعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سأل صاحبايَ، وأسألك عِلْمًا لا يُنْسى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «آمين». فقلنا: يا رسول الله ونحن نسأل الله علمًا لا يُنسى، فقال: «سبقكم بها الغلام الدوسي» ونحوه في «تهذيب التهذيب» (3) وفيهما بعض ألفاظ محرَّفة. وفي «مسند أحمد» (541: 2) و «سنن أبي داود» (4) وغيرهما عنه قال: «بينما أنا أُوْعَكُ في مسجد المدينة إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد فقال: «من أحسّ الفتى الدوسي؟ من أحسّ الفتى الدوسي؟ » فقال له قائل: هو ذاك يوعك في جانب المسجد حيث ترى يا رسول الله. فجاء فوضع يده عليَّ وقال لي معروفًا، فقمت فانطلق حتى قام في مقامه الذي يصلي فيه ... ». ومرّ (5) ما رُوي من تولية عمر لقدامة بن مظعون وأبي هريرة البحرين، قدامة على الجباية، وأبا هريرة على الصلاة والقضاء، ثم جمعَ الكلَّ _________ (1) (7/ 438). (2) الكبرى (5839). (3) (12/ 266). (4) «المسند» (10977)، وأبو داود (2174). (5) (ص 310 ــ 311 وغيرها).
(12/313)
لأبي هريرة. هذا مع أنَّ قُدامة من السابقين البدريين، ثم قَاسَمَ عمرُ أبا هريرة كما كان يُقَاسِمُ عُمَّالَه، وأراد أن يعيده على الإمارة فأبى أبو هريرة. وتقدم صفحة (106 و 120 و 123) (1): شهادة طلحة والزبير وأبي أيوب وعائشة له، وتقدم (ص 106 و 118 - 119) (2) ثناءُ ابنِ عمر عليه. وذكر الحاكم في «المستدرك» (3) أنه روى عنه بضعةٌ وعشرون من الصحابة، عدَّ منهم: أُبيَّ بن كعب، وأبا موسى الأشعري، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبا أيوب، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، وجماعة. وفي «الإصابة» (4): «قال البخاري روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم. وكان أحفظ مَنْ روى الحديث [ص 165] في عصره. قال وكيع في «نسخته» (5): حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال: كان أبو هريرة أحفظ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه البغوي من رواية أبي بكر بن عيَّاش عن الأعمش بلفظ: ما كان أفضلهم، ولكنه كان أحفظ .. (6). _________ (1) (ص 204 ــ 205 و 231 ــ 232 و 236 ــ 237). (2) (ص 204 ــ 205 و 227 ــ 230). (3) (3/ 513). (4) (7/ 432). (5) رواه عن وكيع أحمدُ كما في «العلل»: (3/ 43) ولم أجده في نسخة وكيع المطبوعة. وأخرجه البخاري في «التاريخ»: (6/ 133). (6) أخرجه عبد الله بن أحمد في «العلل»: (3/ 232)، وابن أبي خيثمة في «تاريخه»: (1/ 438 ــ دار الفاروق».
(12/314)
وقال الربيع: قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ مَنْ روى الحديث في دهره (1). وقال أبو الزُّعَيزِعة كاتب مروان: أرسل مروانُ إلى أبي هريرة فجعل يحدّثه، وكان أجلسني خلف السرير أكتبُ ما يحدِّث به، حتى إذا كان في رأس الحول أرسل إليه فسأله، وأمرني أن أنظر، فما غيَّر حرفًا عن حرف». وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (510: 3) (2) وفيه: «فما زاد ولا نقص، ولا قدَّم ولا أخَّر». قال الحاكم: «صحيح الإسناد» وأقرَّه الذهبي. وقال ابن كثير في «البداية» (110: 8) (3): «وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والزهادة والعمل الصالح على جانبٍ عظيم ... ». وفي «طبقات ابن سعد» (4/ 2/62) (4): «أخبرنا مَعْنُ بن عيسى قال: حدثنا مالك بن أنس عن المقبري عن أبي هريرة: أن مروان دخل عليه في شكواه الذي مات فيه، فقال: شفاك الله يا أبا هريرة. فقال أبو هريرة: اللهم إني أحبّ لقاءك، فأَحِبَّ لقائي. قال فما بلغ مروانُ أصحابَ القطا حتى مات أبو هريرة». _________ (1) ذكره عنه البيهقي في «معرفة السنن والآثار»: (1/ 310). (2) وذكره البخاري في «الكنى ــ من التاريخ»: (8/ 33). (3) (11/ 378). (4) (5/ 255 ــ 256).
(12/315)
[أحاديث مشكلة والجواب عنها] ثم ذكر أبو ريَّة ص 202 - 206 جماعةً من الصحابة قلَّتْ أحاديثهم، وقد نظرت في ذلك (ص 42) (1). ثم قال ص 207: (أحاديث مشكلة ... عن ابن عباس، إن الله خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء ... ). أقول: هذا من قول ابن عباس، أخرجه الحاكم في «المستدرك» (474: 2) من طريق أبي حمزة الثمالي وقال الحاكم: «صحيح الإسناد»، تعقَّبه الذهبي فقال: «اسم أبي حمزة ثابت، وهو واهٍ بمرَّة» ويُنظر وجه الاستشكال؟ قال: (وروى الشيخان .. عن أبي ذر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ ... ). أقول: النظر في هذا الحديث يتوقَّف على بيان معنى قول الله عزوجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] ثم جَمْع طرقه وتدبُّر ألفاظه، ولم يتسير لي ذاك الآن والله المستعان. (ثم نظرتُ فيه فيما يأتي ص 213) (2). [ص 166] قال: (وروى مسلم عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص صاحب الزاملتين قال: إن في البحر شياطين ... ). أقول: هذا ذَكَرَه مسلم في مقدمة «صحيحه» (3)، وهو من قول عبد الله بن عَمرو، ليس بحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) (ص 81 ــ 82). (2) (ص 401 فما بعدها). وانظر «مشكلات الأحاديث النبوية» (ص 171 ــ 176) للقصيمي. (3) (1/ 12).
(12/316)
قال: (وروى البخاري ... عن عامر بن سعد [بن أبي وقاص] عن أبيه قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «من اصطبح كلّ يوم تمرات عجوة لم يضره سُمّ ولا سِحْر» ... وفي رواية: «سبع تمرات عجوة». وكذا لمسلم عن سعيد بن أبي العاص. وعند النسائي من حديث جابر: «العجوة من الجنة وهي شفاء من السم»). أقول: الحديث في «الصحيحين» (1) من رواية عامر بن سعد بن أبي وقَّاص عن أبيه. ولم أجد ذِكْر سعيد بن أبي العاص، وراجع ما مرَّ (ص 160) (2). قال: (وأخرج الشيخان عن أبي هريرة: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضُراط حتى لا يسمع التأذين ... ، وقال العلماء المحققون في شرح هذا الحديث: لئلا يسمع فيضطر أن يشهد بذلك يوم القيامة). أقول: أما الحديث فلا إشكال فيه عند من يؤمن بالقرآن، وفي بعض رواياته: «وله حصاص»، وفي «صحيح مسلم» (3) عن جابر: «سمعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الشيطان إذا سمع النداء ذهب حتى يكون مكان الروحاء». وأما التفسير الذي نسبه إلى المحققين فهو قول لبعضهم، فإن كان حقًّا فلماذا السخرية منه؟ وإن كان باطلًا فتَبِعته على قائله، فلماذا يذكر هنا؟ قال ص 208: (وروى مسلم عن أبي سفيان أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله أعطني ثلاثًا. تزوج ابنتي أم حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتبًا، وامرني أن أقاتل الكفار كما قاتلتُ المسلمين ... » وأم حبيبة تزوجها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهي (4) بالحبشة ... ). _________ (1) تقدم تخريجه (ص 162). (2) (ص 305 ــ 306). (3) (388). (4) في كتاب أبي ريَّة «وهو».
(12/317)
أقول: لفظ مسلم قال: «عندي أحسن العرب وأجمله: أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها» وفي سنده عكرمة بن عمَّار موصوف بأنه يغلط ويَهِم، فمِن أهل العلم من تكلَّم في هذا الحديث وقال: إنه من أوهام عكرمة، ومنهم من تأوَّله، وأقرب تأويل له: أن زواج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما كان قبل إسلام أبي سفيان كان بدون رضاه فأراد بقوله: «أزوجكها» أَرْضَى بالزواج، فاقبْل مني هذا الرِّضا. قال: (وفي مسند أحمد عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صدّق أمية ابن أبي الصلت ... في قوله: والشمس تطلع ... ) البيتين. [ص 167] أقول: مداره على محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عُتبة عن عكرمة عن ابن عباس، وفي «مجمع الزوائد» (127: 8): «رجاله ثقات، إلا أن ابن إسحاق مدلس». والمدلِّس لا يحتج بخبره وحده ما لم يتبيَّن سماعه (1). قال: (وروى مسلم عن أنس بن مالك أن رجلًا سأل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: متى تقوم الساعة؟ قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هُنَيهة، ثم نظر إلى غلام بَيْنَ يديه مِن أزد شنوءة فقال: إنْ عَمَّرَ هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، قال أنس: ذاك الغلام من أترابي يومئذ ... ). أقول: من عادة مسلم في «صحيحه» أنه عند سياق الروايات المتفقة في الجملة يقدِّم الأصح فالأصح (2)، فقد يقع في الرواية المؤخَّرة إجمال أو _________ (1) الحديث في «المسند» (2314) وانظر الكلام عليه في حاشيته. (2) قد مرَّ مثال لهذا ص 18 [ص 35 ــ 36]. [المؤلف]. وانظر «عبقرية الإمام مسلم» (ص 16 فما بعدها) لحمزة المليباري.
(12/318)
خطأ تبينه الرواية المقَدَّمة، ففي ذاك الموضع قدَّم حديثَ عائشة: «كان الأعراب إذا قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن الساعة متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: «إنْ يَعِشْ هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم». وهذا في «صحيح البخاري» (1): بلفظ «كان رجال من الأعراب جُفاة يأتون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيسألونه: متى الساعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: «إن يعش هذا لا يدركه الهرمُ حتى تقوم عليكم ساعتكم». قال هشام: يعني موتهم». ثم ذكر مسلم (2) حديث أنس بلفظ: «إن يعش هذا الغلامُ فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» ثم ذكره باللفظ الذي حكاه أبو رية، وراجع «فتح الباري» (313: 11) (3). ثم قال (4) ص 209: (أحاديث المهدي ... ). وقال ص 210: (المهدي العباسي) ثم قال: (المهدي السفياني ... ) ولم يسق الأخبار. والكلام فيها معروف. ثم قال ص 210: (الخلفاء الاثنا عشر ــ جاءت أحاديث كثيرة تنبئ أن الخلفاء سيكونون اثني عشر خليفة ... للبخاري عن جابر بن سمرة: يكون اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش. ورواية مسلم: لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وليهم اثنا عشر رجلًا. وفي رواية أخرى: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي له فيهم اثنا عشر خليفة، فقد رووا حديثًا يعارض هذه الأحاديث جميعًا، وهو حديث سَفينة ... الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون مُلكًا). _________ (1) (6511). (2) (2953). (3) (11/ 363). (4) في الطبعة السادسة التي بين يدي (ص 201 ــ 205) ذكر أبو ريَّة عدة أحاديث مما يستشكل عنده، لم يوردها المؤلف هنا، فلعلها مما زاده في الطبعات اللاحقة. وهي مما لا إشكال فيها، بل الإشكال في رأس أبي ريَّة وأمثاله.
(12/319)
أقول: إن كان أصل اللفظ النبويّ «أميرًا» كما في رواية البخاري (1) وبعض روايات مسلم (2) فواضح أنه لا يعارضه، وإن كان بلفظ «خليفة» فالمراد به من يتسمَّى بهذا الاسم أو يخلف غيره في الإمارة. [ص 168] والخلافةُ في حديث سفينة خلافة النبوة. نُقِل معنى هذا عن القاضي (3)، عياض وهو ظاهر. قال: (وكذلك أخرج أبو داود في حديث ابن مسعود رفعه: تدور رحى الإسلام ... ). أقول: قد بسط الكلام في هذا في «فتح الباري» (181: 13 - 186) (4) فراجعه، وحكى أبو ريَّة ص 212 بعضَ ما قيل في ذلك مما يزيد في تصوير التعارض. وهذا دأبه، كلما وجد إشكالًا قد حُلَّ، أو اعتراضًا قد أُجيبَ عنه، ذكر الإشكال أو الاعتراض وهوَّل، ولم يعرض للجواب. ثم قال ص 213: (الدجال. جاء في الدجال ... أحاديث كثيرة بعضها يُصرِّح بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يرى أن من المحتمل ظهور الدجال في زمنه ... وبعضها يصرِّح بأنه يخرج بعد فتح المسلمين لبلاد الروم). أقول: لم يكن - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلًا يعلم ثُمَّ أعلمه الله. قال: (وبعض الأحاديث تقول بأنه سيكون معه جبال من خبز وأنهار من ماء وعسل). _________ (1) (7222، 7223). (2) لم أجدها. (3) انظر «إكمال المعلم»: (6/ 216) للقاضي عياض. (4) (13/ 211 ــ 215).
(12/320)
أقول: لم أر في الأخبار ذِكْر العسل، ويظهر أن أبا ريَّة اختطف كلماته من «فتح الباري» (181: 13) (1) وليس هناك ذكر العسل. فأما ذكر جبل ــ أو جبال ــ خبز فقد رُوي، مع أن في «الصحيحين» (2) عن المغيرة بن شعبة أنه قال للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء» فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «بل هو أهون على الله من ذلك» لفظ البخاري. وقد يُحْمَل ما ورد في أنَّ معه «جبال خبز» على المجاز، أي أنَّ معه مقادير عظيمة من الخبز، مع أن مخالفيه محتاجون. قال: (وزاد مسلم: جبال من لحم). أقول: إنما في «صحيح مسلم» في كلام المغيرة أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم يقولون معه جبال من خبز ولحم»؟ فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «هو أهون على الله من ذلك» فانظر، واعتبر! قال: (وأخرج نُعيم بن حماد من طريق كعب ... ). أقول: هو كلام منسوب إلى كعب من قوله، والسند إليه مع ذلك واهٍ. قال: (ومن أخباره أنه ينزل ... ). أقول: هذا كسابقه. وذَكَر اختلاف الروايات في مخرجه. أقول: في حديث أبي بكر الصديق عند أحمد وغيره (3) أنه يخرج من _________ (1) (13/ 211). ووقع في (ط): (13: 81) خطأ. (2) البخاري (7122)، ومسلم (2152). (3) «المسند» (12، 33)، وأخرجه الترمذي (2237)، وابن ماجه (4072) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(12/321)
خراسان [ص 169]، ولا ينافيه ما في (1) «صحيح مسلم» (2) أنه يتبعه يهود أصبهان؛ إذ لا يلزم من اتباعهم له أن يكون أول خروجه من عندهم. وكذا ما جاء في رواية: «أنه خارج بين الشام والعراق» (3)؛ إذ لا يلزم أن يكون ذلك أوّل خروجه. فأما ما في حديث الجسّاسة أنه محبوس في جزيرة (4)، فإن حُمِلَ على ظاهره، فلا مانع من أن يذهب بعد إطلاقه إلى خراسان ثم يظهر أمره منها، وإن حُمِلَ على التمثيل كما مرَّت الإشارة إليه (ص 95) (5) فالأمر واضح. قال: (وهناك أحاديث ... كلها مرفوعة إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -). أقول: ليس كلُّ ما ورد في الدجال بمرفوع، على أن أبا ريَّة ترك المرفوعات الثابتة في «صحيح البخاري» وغيره، وسقط على ما نُسِب إلى كعب، مع أنه لا يصح عنه. قال: (ولكي يمكّنوا لهذه الخرافة أو الأسطورة في عقول المسلمين أَوْرَدُوا حديثًا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأن مَن كذَّب بالمهدي فقد كفر، ومن كذّب بالدجَّال فقد كفر). أقول: لا أعرف حديثًا هكذا، ولا أرى ذِكْر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للمهدي متواترًا ولا قريبًا منه، فأما ذكره الدجال فمتواتر قطعًا، ومن اطلع على ما في «صحيح البخاري» (6) وحده علم ذلك، ومع هذا فإنما أقول: من كذَّبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) «في» سقطت من (ط). (2) (2944) من حديث أنس رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه. (4) أخرجه مسلم (2942) عن تميم الداريّ رضي الله عنه. (5) (ص 186). (6) الأحاديث (7122 ــ 7134) كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، وباب الدجال لا يدخل المدينة.
(12/322)
في خبر من أخباره عن الغيب فقد كفر. قال ص 214: (عمر الدنيا). فأشار إلى صنيع السيوطي ولم يذكر الأحاديث حتى ننظر فيها، والذي أعرفه أنه ليس في ذلك حديث صحيح صريح. قال: (وقد أعرضنا كذلك عن إيراد أخبار الفتن، وأشراط الساعة، ونزول عيسى التي زخرت بها كتب السنة المعتمدة بين المسلمين والمقدَّسة من الشيوخ الحشويين) (1). أقول: صدق الله تبارك وتعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39]. قال: (وكذلك أهملنا ذكر الأحاديث الواردة في خروج النيل والفرات وسيحون وجيحون من أصل سدرة المنتهى فوق السماء السابعة، وهي في البخاري وغيره). أقول: الذي في «صحيح البخاري» (2) في حديث الإسراء عند ذِكْر سِدْرة المنتهى: «وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران [ص 170] فالنيل والفرات». وقد فسَّره أهلُ العلم بما فسروا، ورأيتُ بعضَ العصريين (3) يذكر وجهًا سأحكيه ليُنظر فيه، قال: لا ريب أنّ كلَّ ما رآه النبيُّ _________ (1) غيَّر أبو رية العبارة في الطبعة اللاحقة إلى «شيوخ الدين». (2) (3207). (3) قارن بكتاب «مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها» (ص 111) لعبد الله القصيمي. وانظر ما سبق (ص 255 ــ 256).
(12/323)
- صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء حق، لكن منه ما كان بضَرْبٍ من التمثيل يحتاج إلى تأويل، وقد ذُكِر في بعض الروايات أشياء من هذا القبيل، انظر «فتح الباري» (153: 7) (1)، فقد يقال: إنّ سدرة المنتهى مع أنها حقيقة ضُرِبت مثلًا لكلمة الإسلام، على نحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] الآيات، وجعل مغرسها مثلًا للأرض التي ستثبت فيها كلمة الإسلام في الدنيا، والأرض التي يرثها أهله في الجنة، فرمز إلى الأولى بما فيه مثال النيل والفرات، وإلى الثانية بما فيه مثال النهرين اللَّذَيْنِ في الجنة، وكأنه قيل للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: هذه كرامتك، كما يدفع المَلِكُ إلى من يكرمه وثيقةً فيها رسم أرض معروفة فيها قصر وحديقة، فيكون معنى ذلك: أنه أنعم بها عليه. أما سيحون وجيحون فلا ذِكْر لهما، نعم في حديث لمسلم (2) تقدم (ص 132) ذِكْر سيحان وجيحان، وهما غير سيحون وجيحون. ثم قال أبو ريَّة ص 215: (كلمة جامعة ... انتهى العلامة السيد رشيد رضا في تفسيره ... إلى هذه النتائج القيمة: 1 - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم الغيب ... وإنما أعلمه الله ببعض الغيوب بما أنزل عليه في كتابه، وهو قسمان: صريح ومستنبط). أقول: اقتصر أبو ريَّة على هذا، مع أن في ذاك الموضع من «تفسير المنار» (504: 9) زيادة فيها: «2 - إن الله تعالى أعلمه ببعض ما يقع في المستقبل بغير القرآن من الوحي ... 3 - إنه كان يتمثل له - صلى الله عليه وسلم - بعض أمور المستقبل كأنه يراه، كما تمثَّلت له الجنة والنار عُرْض الحائط، وكما تمثّل له _________ (1) (7/ 214 ــ 216). (2) (2839). وانظر (ص 255).
(12/324)
في أثناء حفر الخندق ما يفتح الله لأصحابه من الممالك ... وكشفه هذا حق، وهو ما يسمّيه أهلُ الكتاب نبوءات، وقد ظهر منه شيء كثير كالشمس ... ». قال: (لا شك أن أكثر الأحاديث قد رُوي بالمعنى ... فعلى هذا كان يروي كلُّ أحدٍ ما فهمه، وربما يقع في فهمه الخطأ لأن هذه أمور غيبية، وربما فسَّر بعضَ ما فهمه بألفاظٍ يزيدها ... ). أقول: ليس من الحق إنكار هذا الاحتمال، لكن ليس من الحقِّ أن يجاوز به حدّه، فهو احتمال نادر، يزيدُه نُدْرةً أو يدفعه البتَّة: أن تتفق روايتان صحيحتان فأكثر، والظاهر الغالب من رواية الثقة هو الصواب، وبه يجب الحكم مالم تقم حجّة صحيحة على الخطأ. [ص 171] ثم قال: (إن العابثين بالإسلام ... قد وضعوا أحاديث كثيرة ... وراج كثير منها بإظهار رواتها للصلاح والتقوى). أقول: راجع ما تقدم (ص 61 - 65) (1). قال: (ولم يُعرَف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله مِن واضعيها). أقول: من تدبر ما تقدم (ص 61 - 65) وغيرها تبين له أنَّ مَنْ كان حدّه أن يكذب لا يخفى حالُه على الأئمة، غايةُ الأمر أنهم قد يقتصرون على قولهم: «متهم بالكذب» ونحو ذلك. وبهذا تعلم أنه لو فُرِض عدم اعتراف من اعترف لم يلزم من ذلك أن يحكموا لخبره بالصحة. قال ص 216: (إن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم ... وقد ثبت أن الصحابة كان يروي بعضُهم عن بعض، وعن التابعين، حتى عن كعب الأحبار وأمثاله). _________ (1) (ص 119 ــ 127).
(12/325)
أقول: راجع ما تقدم (73 - 75، و 82 و 89 و 94 - 99 و 109 - 110 و 157) (1). قال: (والقاعدة عند أهل السنة: أنّ جميع الصحابة عدول ... وهي قاعدة أغلبية لا مطردة). أقول: سيأتي النظر في هذا في فصل عدالة الصحابة (2). قال: (فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مَظِنّة لما ذكرنا. فمن صدَّق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالًا فالأصل فيها الصدق، ومَن ارتاب في شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالًا في متونها، فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية ... ). أقول: لا أدري ما عَنى بالمشكل؟ فإنْ كان راجعًا إلى ما يأتي فذاك، فأما المضطرب فحكمه معروف عند أهل العلم، وأما المخالف لسنن الله، فمِنْ سُنن الله تعالى أن يخرق العادة إذا اقتضت حكمته، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة لا تحصى. وراجع «الوحي المحمدي» (ص 63) (3). وأما المخالف لأصول الدين فراجع (ص 2) (4)، وأما المخالف لنصوصه القطعية فراجع (ص 14) (5). _________ (1) (ص 143 ــ 150 و 161 ــ 163 و 173 ــ 175 و 183 ــ 185 و 192 ــ 193 و 209 ــ 213). (2) (ص 365). (3) للسيد رشيد رضا. (4) (ص 7 ــ 8). (5) (ص 29 ــ 30).
(12/326)
وبالجملة لا نزاع أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يخبر عن ربه وغيبه بباطل، فإن رُوِيَ عنه خبر تقوم الحجةُ على بطلانه فالخلل من الرواية، لكن الشأن كلّ الشأن في الحكم بالبطلان، فقد كَثُر اختلاف الآراء والأهواء والنظريات وكثر غلطها، ومن تدبَّرها [ص 172] وتدبر الرواية وأمعن فيها، وهو ممن رزقه الله تعالى الإخلاص للحق والتثبت= عَلِم أن احتمال خطأ الرواية التي يثبتها المحققون من أئمة الحديث أقلّ جدًّا من احتمال خطأ الرأي والنظر. فعلى المؤمن إذا أشكل عليه حديثٌ قد صحَّحه الأئمة، ولم تطاوعه نفسُه على حمل الخطأ على رأيه ونظره= أن يعلم أنه إن لم يكن الخلل في رأيه ونظره وفهمه فهو في الرواية، وليفزع إلى من يَثِقْ بدينه وعلمه وتقواه مع الابتهال إلى الله عز وجل، فإنه وليّ التوفيق. ثم قال أبو ريَّة ص 217: (تدوين القرآن ... ولو أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وصحابته كانوا قد عُنُوا بتدوين الحديث ... ). ثم قال ص 218: (كيف كان الصحابة ... ) ثم قال: (كُتَّاب الوحي ... ). أقول: راجع (ص 20 - 47) (1). ثم قال ص 218 - 219: (وكان أول من كتب للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح). أقول: أَنَّى لأبي ريَّة هذا؟ إنما قال صاحب «الاستيعاب» (2) وغيرُه في عبد الله: إنه أسلم قبل الفتح. وقال ص 219: (جمع القرآن وسببه: روى البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: _________ (1) (ص 41 ــ 91). (2) (3/ 918).
(12/327)
قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن القرآن جُمِع في شيء ... ولما تولى أبو بكر ونشبت حرب الردَّة وقتل فيها كثير من الصحابة خشي عمر من ضياع القرآن بموت الصحابة، فدخل على أبي بكر وقال له: إن أصحاب رسول الله باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا، وهم حَمَلة القرآن .. ). أقول: حديث زيد في مواضع من «صحيح البخاري» (1)، راجع «الفتح» (8/ 259 و 9/ 9 و 19 و 13/ 159 و 350) (2)، ولم أجده في «صحيح البخاري» باللفظ الذي ساقه أبو رية. وراجعت «فهارس البخاري» (3) للأستاذ رضوان محمد رضوان فذكر الحديث في المواضع الأربعة الأولى فحسب (4). والذي في «صحيح البخاري» في الموضع الأول: «إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرَّ القتلُ بالقُرَّاء في المواطن». وفي الثاني: «إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن، وإني أخشى إن يستحرَّ (5) القتلُ بالقُرَّاء بالمواطِن»، وتُرِكت هذه الجملة في الثالث والخامس. وفي الرابع: «إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرَّ القتلُ بقُرَّاء القرآن في المواطن». وليحذر القارئ من إساءة الظنِّ بأبي ريَّة، بل ينبغي أن يَحْمِل صنيعَه هنا _________ (1) (4679، 4986، 4989، 7191، 7425). (2) (8/ 344، 9/ 10، 22، 13/ 183، 404). (3) (ص 290). (4) وراجعت ذخائر المواريث فوجدته ذكر هذه المواضع ومواضع أخرى جاء فيها الحديث من وجه آخر، وليس فيه هذه الجملة. [المؤلف]. (5) (ط): «استحرّ». والمثبت من الصحيح.
(12/328)
على أنه رجع عن الميل إلى منع رواية الحديث بالمعنى، أو رأى جوازها في [ص 173] غير الحديث النبوي ــ ولو مع التمكُّن من الإتيان باللفظ الأصلي ــ إذا كان ذلك لمصلحته، ومصلحتُه هنا: أنه كره أن يصرِّح بأن الخشية كانت من استحرار القتل بقراء القرآن خاصة، وأحبَّ أن يجعلها من استحرار القتل بالصحابة على الإطلاق ليبني عليها ما علّقه في الحاشية إذ قال: (مما يلفت النظر البعيد ويسترعي العقل الرشيد: أن عمر لما راعه تهافت الصحابة في حرب اليمامة .. لم يقل عنهم إنهم حَمَلة الحديث، بل قال: إنهم حملة القرآن، ولم يطلب جمع الحديث وكتابته ... وفي ذلك أقوى الأدلة وأصدق البراهين على أنهم لم يكونوا يعنون بأمر الحديث، ولا أن يكون لهم فيه كتاب محفوظ ويبقى على وجه الدهر كالقرآن الكريم). أقول: الذي في الخبر ــ كما رأيتَ ــ خشية استحرار القتل بقُرَّاء القرآن، وبين القرآن والسنة فَرْق من وجوه، وبيانُ ذلك: أن الله تبارك وتعالى تكفَّل بحفظ الشريعة مما فيه (1) الكتاب والسنة كما مرَّ (ص 20 - 21) (2)، ومع ذلك كلَّفَ الأمةَ القيامَ بما يتيسّر لها من الحفظ، ولمَّا كان القرآن مقصودًا حفظ لفظه ومعناه، وفي ضياع لفظةٍ واحدة منه فوات مقصودٍ دينيّ، وهو مقدارٌ محصور يسهُل على الصحابة حفظه في الصدور وكتابته في الجملة= كُلِّفوا بحفظه بالطريقتين، وبذلك جرى العمل في حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فتوفّاه الله تبارك وتعالى والقرآنُ كلُّه محفوظ في الصدور مفرَّقًا، إلا أنّ معظمه عند جماعة معروفين، وإنما حَفِظَه جميعَه بضعةُ أشخاص، ومحفوظ كلّه _________ (1) كذا في (ط). (2) (ص 41 ــ 44).
(12/329)
بالكتابة مفرَّقًا في القِطَع التي بأيدي الناس كما مرّ (ص 20) (1). فلما استحرَّ القتلُ بالقُرَّاء في اليمامة، وخشي أن يستحرَّ بهم في كلِّ موطن، ومِنْ شأن ذلك ــ مع صَرْف النظر عن حِفْظ الله تعالى ــ أن يؤدّي إلى نقصٍ في الطريقة الأولى؛ رأى الصحابةُ أنهم إذا تركوا تلك القطع كما هي مُفرَّقة بأيدي الناس، كان مِنْ شأن ذلك احتمال أن يتلف بعضُها، فيقع النقص في الطريقة الثانية أيضًا، ورأوا أنه يمكنهم الاحتياط للطريقة الثانية بجمع تلك القطع وكتابة القرآن كلّه في صُحُف تُحْفَظ عند الخليفة، وإذا (2) كان ذلك ممكنًا بدون مشقة شديدة، وهو من قبيل الكتابة التي ثبت الأمر بها ولا مفسدة فيه البتّة= علموا أنه من جُملة ما كُلّفوا به، فوفَّقهم الله تعالى للقيام به. أما السنة: فالمقصود منها معانيها، وفواتُ جملةٍ من الأحاديث لا يتحقّق به فواتُ مقصودٍ ديني، إذ قد يكون في القرآن وفيما بقي من الأحاديث ما يفيد معاني الجملة التي فاتت. وهي مع ذلك [ص 174] منتشرة لا تتيسر كتابتها كما تقدم (ص 21) (3) فاكتفى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة بحفظها في الصدور كما تيسر، بأن يحفظ كلُّ واحد ما وقف عليه، ثم يبلِّغه عند الحاجة، ولم يأمرهم بكتابتها، ولم يكن حفظ معظمها مقصورًا على القُرَّاء، بل كان جماعة ليسوا من القُرَّاء عندهم من السنة أكثر مما عند بعض القُرَّاء. فالدلائل والقرائن التي فهم منها الصحابة أنّ عليهم أن يصنعوا ما صنعوا مِنْ جَمْع القرآن، لم يتوفَّر لهم مثلُها ولا ما يقاربها، لكي يفهموا منه _________ (1) (ص 41 ــ 42). (2) (ط): «وإذ». (3) (ص 43 ــ 44).
(12/330)
أنَّ عليهم أن يجمعوا السنة. على أنهم كانوا إذا فكّروا في جمعها بدا لهم احتمال اشتماله على مفسدة كما مرَّ (ص 30) (1)، وكذلك كان فيه تفويت حِكَم ومصالح عظيمة (راجع ص 21 - 22) (2). وتوقّفهم عن الجمع لِما تقدّم لا يعني عدم العناية بالأحاديث، فقد ثبت بالتواتر تديُّنهم بها، وانقيادهم لها، وبحثهم عنها كما تقدم في مواضعه، ولكنهم كانوا يؤمنون بتكفّل الله تعالى بحفظها، ويكرهون أن يعملوا مِن قِبَلِهم غير ما وَضَح لهم أنه مصلحة محضة، (راجع ص 30) (3)، ويعلمون أنه سيأتي زمان تتوفّر فيه دواعي الجمع وتزول الموانع عنه، وقد رأوا بشائر ذلك من انتشار الإسلام، وشدّة إقبال الناس على تلقِّي العلم وحفظه والعمل به، وقد أتمَّ اللهُ ذلك كما اقتضته حكمته. ثم ذكر ص 220 - 222 فصولًا في جمع القرآن، ثم قال ص 223 - 232: (تدوين الحديث). أقول: راجع لكتابة التابعين الحديث (ص 28 و 55) (4)، فأما أتباع التابعين فكانوا يكتبون ويحتفظون بكتبهم ولاسيما بعد أن أمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بالكتابة (راجع ص 30) (5). وفي «جامع بيان العلم» (6) _________ (1) (ص 59 ــ 60). (2) (ص 43 ــ 46). (3) (ص 59 ــ 60). (4) (ص 55 ــ 56 و 108 ــ 109). (5) (ص 59 ــ 60). (6) (438).
(12/331)
لابن عبد البر بسنده إلى ابن شهاب الزهري قال: «أمَرَنا عمرُ بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كلِّ أرض له عليها سلطان دفترًا». ثم أكثر ابنُ شهاب من الكتابة بعد وفاة عمر لما أمر هشام بن عبد الملك. على أنّ ما كُتِب لعمر ولهشام لم يلق قبولًا عند أهل العلم؛ لأنهم كانوا يحرصون على تلقّي الحديث مِن المحدّث به مشافهةً. لكن الرواة عن ابن شهاب وغيره انهمكوا في الكتابة. ثم شرع بعضهم في التصنيف. وقد ذكر أبو ريَّة ص 229 عِدَّة من المصنِّفين، وأحب أن أشير إلى من مات منهم قبل سنة 160: فمنهم: ابن جُرَيج المتوفى سنة 150 له مصنفات تلقَّاها عنه جماعة، منهم حجّاج بن محمد الأعور، وعبد الرزاق الصنعاني، وعنهما الإمام أحمد وغيره. ولعبد الرزاق مصنفات موجودة. ومنهم: ابن إسحاق صاحب المغازي توفي سنة 151، صنف السيرة وغيرها. [ص 175] ومنهم: مَعْمَر بن راشد توفي سنة 153، وله مصنّفات بعضها موجود، وأخذها عنه عبدُ الرزاق وغيره. ومنهم: الأوزاعي، وسعيد بن أبي عَرُوبة تُوُفيا سنة 156، وكانت مصنفاتهما عند جماعةٍ من أصحابهما، تلقاها عنهم الإمام أحمد وغيره. ثم قال أبو ريَّة ص 233: (أثر تأخير التدوين ... ). ذكر أنه لو دُوّن الحديث كما دُوّن القرآن لانسدَّ بابُ الكذب على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وانسدّ بابُ التفرُّق في الدين.
(12/332)
أقول: أأنتم أعلم أم الله؟ أرأيتَ لو قال قائل: لو خلق الله عباده على هيأة كذا لانسدَّ باب الظلم والعدوان والفجور، ولو أُنزل القرآن وكلّ دلالاته يقينية، لا يمكن أحدًا أن يشك أو يتشكك فيها لانسدَّ باب التفرق، ولو، ولو ... إنما شأنُ المؤمن أن ينظر ما قضاه الله واختاره، فيعلم أنه هو الحقّ المطابق للحكمة البالغة، ثم يتلمَّس ما عسى أن يفتح الله عليه به مِنْ فهم الحكمة، وراجع (ص 55 و 60 - 62) (1). وذكر أمورًا قد تقدم النظر فيها، فراجع الفهرس. ثم قال ص 237: (نشأة علم الحديث ... ) إلى أن قال ص 240: (الخبر وأقسامه) وذكر المتواتر ثم علّق عليه في الحاشية: ( ... أنكر المسلمون أعظم الأمور المتواترة، فالنصارى واليهود هما أمتان عظيمتان يخبرون بصلب المسيح، والإنجيل يصرِّح بذلك، فإذا أنكروا هذا الخبر وقد وصل إلى أعلى درجات المتواتر فأيّ خبرٍ بعده يمكن الاعتماد عليه والركون إليه؟) (2). أقول: هذا إما جنون، وإما كفر، «فاختر وما فيهما حظٌّ لمختار» (3). وقد بيَّن علماء المسلمين سقوط دعوى تواتر الصّلْب بما لا مزيد عليه. وكلُّ _________ (1) (ص 108 ــ 109 و 117 ــ 122). (2) أقول: حذف أبو ريَّة هذه الحاشية من الطبعات اللاحقة، فإما أن يكون عاد إلى رشده، أو تاب من كفره! وإن كان كتابه «دين الله واحد» يشي بسوء دِخْلَته وفساد طويّته! (3) عجز بيت من قصيدة للأعشى «ديوانه» (ص 229 - نشرة محمد محمد حسين)، صدره: فقال: ثُكْلٌ وغدرٌ أنت بينهما ... فاخْترْ ....................... وانظر «الشعر والشعراء»: (1/ 262)، و «الأغاني»: (6/ 314).
(12/333)
عاقل يعرفُ التواترَ الحقيقيَّ ثم يتدبر الواقعةَ يعلم أنها ليست منه. ومقتضى سياق أبي ريَّة أنه يحاول التشكيك في المتواتر، وزَعْم أن دلالته ظنية فقط. (ألف). ونقل ص 241 - 242 (1) عبارةً عن «المستصفى»، ينبغي مقابلتها بـ «المستصفى» (142: 1) (2) مع قول «المستصفى» (3) في الصفحة التي قبلها: «(الخامس) كلّ خبر ... » ومراجعة المسألة في «أحكام ابن حزم» (4) وغيره. وقال ص 242: (ومن قواعدهم المشهورة ... ولا يلزم من الإجماع على حكم مطابقته لحكم الله في نفس الأمر). أقول: يراجع البحث في كتب الأصول، والمقصود هنا أن أبا ريَّة يرى دلالة الإجماع ظنية فقط. (ب). وذكر آخر ص 343 عن الرازي: ( ... وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل النقلية ظنية، وأن العقلية قطعية، والظن لا يعارض القطع). أقول: للرازي تفصيل معروف (5)، وقد تعقَّبه شيخ الإسلام ابن تيمية (6) وغيره، والحق أنّ في القرآن [ص 176] دلالات قطعية، وأن دلالته المقطوع _________ (1) انتهت في السطر الثالث. [المؤلف]. (2) (1/ 257 ــ ط الرسالة) وقد قابلت النص فوجدته قد تصرّف في كلمتين منه وهي قوله: «فيتصور إجماعهم [اجتماعهم] تحت ضغط [ضبط] الإيالة ... ». (3) (1/ 265). (4) (1/ 104 وما بعدها). (5) ذكره في «المحصل» (ص 142)، وفي «أساس التقديس». (6) في كتابه العظيم «درء تعارض العقل والنقل»، وفي «بيان تلبيس الجهمية» وغيرهما.
(12/334)
فيها بالظهور تكون قطعية إذا علم أنه لم يكن وقت حاجة المخاطبين إلى الأخذ بها قرينة صارفة عن ذاك الظاهر؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. وينبغي أن يتنبه لأن القرينة إنما يعتدّ بها إذا كانت بيِّنة يدركها المخاطَب إذا تدبَّر، ولتقرير هذا موضع آخر. ومقتضى صنيع أبي ريَّة أن دلائل القرآن ــ بَلْه الأحاديث ــ كلها ظنية. (ج). وقال قبل ذلك: (قال الجمهور: إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم قطعًا ولو كانت مخرَّجة في البخاري ومسلم، وأنّ تلقي الأمة لهما بالقبول إنما يفيد العمل بما فيهما؛ بناء على أن الأمة مأمورة بالأخذ بكل خبر يغلب على الظن صدقه). أقول: مسألة أخبار «الصحيحين» تأتي (1)، وإنما المهمّ هنا أنه علَّق على آخر هذه العبارة قوله: (ترى هل هذه القاعدة التي قرروها قد أمر الله بها ورسوله؟ وترى هل هي تخرجنا من حكم اتباع الظن الذي جاء في آيات كثيرة من القرآن مثل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] ومثل قوله تعالى في قول النصارى بصلب المسيح: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]). (د). تأمَّل هذه القضايا المرموز على أواخرها بهذه الأحرف (ألف ــ ب ــ ج ــ د) وانظر ماذا بقي لأبي ريَّة من الدين؟ أما الآيات، فقد قيل وقيل. ومن تدبّر السياقَ وتتبّع مواقعَ كلمة {يُغْنِي} ومشتقاتها في القرآن وغيره تبيَّن له ما يأتي: كلمة {الْحَقِّ} في الآيتين مراد _________ (1) (ص 355 ــ 358).
(12/335)
بها الأمر الثابت قطعًا، وكلمة {يُغْنِي} معناها «يدفع» كما حكاه البغويّ في «تفسيره» (1)، وقد يعبر عنها بقولهم: «يصرف» ونحوه. راجع «لسان العرب» (376: 19) (2). ومنها في القرآن قوله تعالى: {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31] وقوله سبحانه: {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21]. وفي آية أخرى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 47] وهذا سياق الآية الأولى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32] [ص 177] فالكلام في محاجَّة المتخذين مع الله إلهًا آخر، وكلمة «الحق» في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ} مراد بها الأمر الثابت قطعًا، ومنه: أنَّه لا إله إلا الله. ثم ساق الكلام في تقريرهم إلى أن قال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} فالحقُّ هنا هو الأمر الثابت قطعًا كما مرَّ، والمعنى: إن الظن لا يدفع شيئًا من الحق الثابت قطعًا، وعلى تعبير أهل الأصول: الظنُّ لا يعارض القطع. والآية الثانية في سياق محاجَّة المشركين القائلين: الملائكة بنات الله، ويسمونهم بأسماء الإناث ويعبدونها، قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا _________ (1) (2/ 362 ــ 363). (2) (15/ 139 ــ دار صادر).
(12/336)
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] والهدى هنا بيان الحق الثابت قطعًا، فالمعنى: أنهم يتبعون الظنَّ والهوى مُعْرِضين عما يخالفه من الحقِّ الثابت قطعًا. ثم قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] أي: ليس عندهم علم فيعارض الحقَّ الثابت قطعًا، إنما عندهم ظنّ، والظنّ لا يدفع شيئًا من الحق الثابت قطعًا. أو: الظن لا يعارض القطع. وأما الآية الثالثة فهي: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] المراد: أنّ الله يخبر بأنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، وخبره سبحانه يفيد العلم القطعيّ، وليس عند أهل الكتاب علم قطعيّ فيعارض خبرَ الله، وإنما عندهم ظنّ، والظنّ لا يعارض القطع (1). وقال أبو ريَّة ص 244: (ابن الصلاح ومخالفوه ... ) وساق الكلام إلى أن قال 246: (أما المتكلمون فقد عُرِف من حالهم أنهم يردُّون كل حديث يخالف ما ذهبوا إليه ولو كان من الأمور الظنية). أقول: أما في الأمور الظنية فالمعروف عنهم قبوله، غير أنهم لا يجزمون بمدلوله إذا كان في العقليات. ثم قال: (فمن ذلك حديث: تحاجَّت الجنة والنار ... ، أخرجه البخاري ومسلم _________ (1) وانظر ما سبق (ص 192 ــ 193).
(12/337)
عن أبي هريرة ... ). أقول: قد تقدم (ص 159) (1) وبيَّنتُ هناك أنه رواه مع أبي هريرة أنسٌ وأبو سعيد وأُبيُّ بن كعب. ثم قال ص 247: (فهذا الحديث ونظائره وهي كثيرة يبعد على المتكلم أن يقول بصحتها فضلًا عن أن يجزم بذلك، وإذا أُلجِئَ إلى القول بصحتها لم يَألُ جهدًا في تأويلها ولو على وجه لا يساعد اللفظ عليه، بحيث يعلم السامع أن المتكلم لا يقول بجوازه في الباطن). [ص 178] أقول: هذا يتضمّن الاعتراف بأنّ النصوصَ اللفظية تكون قطعية الدّلالة. هذا ومسلكهم في التأويل هو عينه مسلكهم في دفاع الآيات الكثيرة المخالفة لهم من القرآن، فإذا كان لا ينفي ثبوت الآيات القرآنية عن الله ورسوله قطعًا، فكذلك لا ينفي صحة الأحاديث الصحيحة ظنًّا أو قطعًا. وراجع (ص 2) (2). وقال ص 249: (من المعروف ... أنك تجد الحديث يعمل به الحنفي لشهرته، ثم يأتي الشافعي فيرفضه لضعفٍ في سنده، وتجد المالكي يرفض الحديث لأن العمل جرى على خلافه، ويعمل به الشافعي لقوةٍ في سنده على ما رأى هو). أقول: ما دمنا نعرف أنَّ العلماء غير معصومين، فاختلافهم في بعض الأحاديث أيؤخذ بها أم لا؟ ليس فيه ما يوهم ذا عقل أن الأحاديث كلّها لا تصلح للحجة، ولا ما يقضي أن تلك الأحاديث المختلَف فيها تصلح أو لا تصلح، بل المدار على الحجة. فقد يرى العالم اشتهار حديث بين الناس _________ (1) (ص 304). (2) (ص 7 ــ 8).
(12/338)
فيغلب على ظنه أنه لم يشتهر إلا وأصله صحيح فيأخذ به، فيأتي غيره فيبحث فيجد مرجع تلك الشهرة إلى مصدر واحد غير صحيح، كما في مسألة القهقهة في الصلاة. وقد يبلغ العالمَ حديثٌ من طريق واحد ويرى أن أهل العلم خالفوه فيمسك عنه، فيجيء غيره فيبحث فيجد الحديث ثابتًا، ويجد بعضَ أهل العلم قد أخذوا به، وأنَّ الذين لم يأخذوا به لم يقفوا عليه، أو نحو ذلك مما يبيِّن أن عدم أخذهم به لا يخدش في كونه حجة. وقد ينعكس الحال. وعلى مَنْ بَعْد المختلفين اتباع الحجة، فإن بقي بين مُتَّبعي الحجة خلاف فلا حرج، وإذا اتضح وبان أنَّ الحقَّ مع أحد المختلفين ولكن أَتْباعُ الآخر أَصَرُّوا على اتِّباعه، فليس في هذا ما يقدح في الحجة، سواء أعذَرْنا أولئك الأتباع أم لم نعذرهم. وهكذا الاختلاف عند معارضة الحديث لبعض القواعد الشرعية أو لجميع الأقيسة. وقال: (في مرآة الوصول وشرحها ... ). أقول: راجع (ص 126) (1). وذكر ص 250 عبارة لأبي يوسف نقلها من «الأم» للشافعي (307: 7 - 308) (2) وتَرَكَ قِطَعًا منها. وقد تعقَّب الشافعيُّ كلامَ أبي يوسف بما تراه هناك. وفي كلام أبي يوسف مما أرى التنبيه عليه أخبار: الأول: قال: «حدثنا ابن أبي كريمة عن جعفر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ». _________ (1) (ص 243). (2) (9/ 182 فما بعدها ــ ط دار الوفاء).
(12/339)
أشار الشافعي إلى هذا الخبر في «الرسالة» (ص 224 - 225) وقال: «رواية منقطعة عن رجل مجهول». وفي التعليق (1) هناك عن ابن معين والخطابي وغيرهم أنه موضوع. [ص 179] الثاني: «وكان عمر فيما بلغنا لا يقبل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بشاهِدَيْنِ». أقول: وهذا باطل قطعًا، تقدم رده (ص 46) (2). الثالث: «وكان عليُّ بن أبي طالب لا يقبل الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». أقول: كذا وقع، وهو باطل قطعًا، ولعله أراد أن عليًّا كان يُحلِّف مَنْ حدَّثه كما تقدم مع ردّه (ص 47) (3). الرابع: «وحدثنا الثقةُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرضه الذي مات فيه: إني لأحرِّم ما حرَّم القرآنُ، والله لا تمسكون عليّ بشيء». أقول: كذا وقع ولعله: «لا أحرِّم إلا ما حرَّم القرآن» (4) فقد رُوي بلفظ: «لا أحرِّم إلا ما حرَّم الله في كتابه» راجع «أحكام ابن حزم» (77: 2)، _________ (1) يعني للشيخ أحمد شاكر رحمه الله. (2) (ص 88 ــ 90). (3) (ص 90 ــ 91). (4) نقله البيهقي في «معرفة السنن والآثار»: (6/ 524) كما صححه المؤلف. والحديث أخرجه الشافعي في «الأم ــ جماع العلم»: (9/ 46 ــ 47)، وعبد الرزاق (4/ 534) من مرسل طاوس بلفظ: «فإني لا أحل لهم إلا ما أحلّ الله لهم، ولا أحرِّم عليهم إلا ما حرَّم الله». وقال الشافعي عَقِبه: «هذا منقطع».
(12/340)
و «مجمع الزوائد» (171: 1) (1) وهو على كلّ حال غير ثابت. ومع ذلك قد فسَّره الشافعي ثم ابن حزم بما يصحِّح معناه. ومن تتبَّع أقوال أبي يوسف في الفقه واستدلالاته عَلِم أنه نفسه لا يرى صحة هذه الأخبار ولا يبني عليها، وإنما كَثَّر بها السواد في بيان أن الأحكام لا تُبنى إلا على رواية الثقات كما أشار إليه الشافعي، إذ قال في تعقُّبه: وقد كان عليه أن يبدأ بنفسه فيما أَمَر به أن لا يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من الثقات (2). وقال ص 251: (رأي مالك وأصحابه أنهم يقولون: تثبت السنة من وجهين: أحدهما: أن نجد الأئمة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا بما يوافقها. الثاني: أن لا نجد الناس اختلفوا فيها). أقول: لم يذكر مصدره، وهذه كتب المالكية أصولًا وفروعًا لا تعطي هذا. نعم قد يقف المجتهد عن حديث ولا يبيّن عذرَه، أو يروي عنه بعضُ أصحابه كلمة لا يريد بها أن تكون قاعدة، فيذهب بعض أصحابه يحاول أن يضع قواعد يعتذر بها. وفي «الأم» (177: 7 ــ) (3) من قول الربيع: «قلت [للشافعي]: فاذكر ما ذهب إليه صاحبنا [مالك] من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يرو عن الأئمة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي شيئًا يوافقه. فقال: نعم سأذكر من ذلك إن شاء الله ما يدلُّ على ما وصفت، وأذكر أيضًا ما ذهب إليه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه عن بعض الأئمة ما يخالفه ... _________ (1) (1/ 176 ــ 177). (2) «الأم»: (9/ 192). (3) (8/ 514).
(12/341)
قال أبو ريَّة: (وقد روى الدارقطني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها تكون بعدي رواة [ص 180] يروون عني الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن فحدّثوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تحدّثوا به). أقول: لم يذكر مصدرَه، وهذا هو الخبر الأول في عبارة أبي يوسف المتقدمة (ص 178) (1) وقد حكم الأئمة بأنه موضوع كما مرَّ. قال: (وقد طعن رجال الأثر في هذا الحديث، ورووا حديثًا هذا نصه: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه». وهذا من أعجب العجب، لأنه إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوتي مثل الكتاب ــ أي مثل القرآن ليكون تمامًا على القرآن لبيان دينه وشريعته ــ فلم لم يُعْنَ صلوات الله عليه بتدوينه وكتابته قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى كما عُنِيَ بتدوين القرآن). أقول: قد تقدَّم البيان المنير في مواضع، منها (ص 20 - 21) (2). قال: (ولم ينه عن كتابته بقوله: لا تكتبوا عني غير القرآن). أقول: تقدّم البيان الواضح (ص 22 - 24) (3). قال: (وهل يصح أن يدع الرسول نصف ما أوحاه الله إليه يعدو بين الأذهان بغير قيد، يمسكه هذا وينساه ذاك؟ وهل يكون الرسول ــ بعمله هذا ــ قد بلّغ الرسالة على وجهها وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها؟ ). أقول: قد تقدم دفع هذا الريب (ص 20 - 21) (4)، والقَدْر الذي يحصل _________ (1) (ص 339 ــ 340). (2) (ص 41 ــ 44). (3) (ص 44 ــ 49). (4) (ص 41 ــ 44).
(12/342)
به تبليغ الرسالة وأداء الأمانة إنما تحديده إلى الله عز وجل لا إلى المرتابين في حِكْمته سبحانه وتعالى وقدرته، وراجع (ص 32 - 33 و 52) (1). قال ص 252: (وأين كان هذا الحديث عندما قال أبو بكر للناس .. ؟ وعند ما قال عمر ... ؟ ولم يشفق ... عندما فزع إلى أبي بكر). أقول: راجع (ص 36 و 39 و 173 - 174) (2). وذكر توقُّف مالك وأبي حنيفة عن بعض الأحاديث لمعارضتها ما هو أقوى منها عندهما، وقد مرَّ جوابه (ص 178) (3). وذكر ص 253 قصةَ مناظرةٍ جرت بين الأوزاعي وأبي حنيفة، وهي قصة مكذوبة عارضَ بها بعضُ من لايخاف الله من الحنفية قصةَ مناظرة رواها الشافعية بسند واهٍ، راجع «سنن البيهقي» (82: 2) و «فضائل أبي حنيفة» للموفق (131: 1)، وكلتا القصتين مروية عن «الشاذكوني قال: سمعت سفيان بن عيينة ... ». ثم ذكر ص 254 كلامَ النُّحاة في الاستدلال بالأحاديث، وهذا لا يهمنا، مع أنَّ الحق أن ابن مالك توسَّع، وأنه كما مرَّ (ص 60) (4) يمكن بالنظر في روايات الأحاديث وأحوال رواتها أن يُعْرَف في طائفة منها أنها بلفظ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو بلفظ الصحابي أو بلفظ التابعي، وهو ممن يحتجّ به في العربية، لكن _________ (1) (ص 63 ــ 66 و 102 ــ 103). (2) (ص 70 ــ 71 و 76 ــ 77 و 329 ــ 332). (3) (ص 339 ــ 340). (4) (ص 117 ــ 118).
(12/343)
تحقيق ذلك يصعب على غير أهله، فلذلك أعرض قدماءُ النحاة عن الاحتجاج بالحديث، ووجدوا في المتيسّر لهم من القرآن وكلام العرب ما يكفي. وذكر ص 259 كلامًا للشيخ محمد عبده في حديث: أن يهوديًّا سَحَر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. أقول: النظر في هذا في مقامات: المقام الأول: مُلخَّص الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - في فترة من عمره ناله مرض خفيف، ذكرت عائشةُ أشدَّ أعراضه بقولها: «حتى كان يرى أنه يأتي أهله ولا يأتيهم»، وفي رواية: «حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» وفي أخرى: «يُخيَّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله»، والرواية الأولى فيما يظهر أصح الروايات، فالأخريان محمولتان عليها ... وفي «فتح الباري» (193: 10) (1): «قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فَعَل الشيء ولم يكن فَعَله، أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت». أقول: وفي سياق الحديث ما يشهد لهذا، فإن فيه شعوره - صلى الله عليه وسلم - بذاك المرض ودعاءه ربه أن يشفيه. فالذي يتحقَّق دلالةُ الخبر عليه: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في تلك الفترة يعرض له خاطر أنه قد جاء إلى عائشة، وهو - صلى الله عليه وسلم - عالم أنه لم يجئها ولكنه كان يعاوده ذاك الخاطر على خلاف عادته، فتأذَّى - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. وليس في حمل الحديث على هذا تعسُّف ولا تكلُّف. _________ (1) (10/ 227).
(12/344)
المقام الثاني: في الحديث عن عائشة: «حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة أشعرتِ أنّ الله أفتاني فيما استفتيتُه فيه؟ أتاني رجلان (أي ملكان ــ كما في رواية أخرى ــ في صورة رجلين) ... فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب. قال: مَنْ طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيِّ شيء؟ قال: في مُشْط ومُشاطة وجُفّ طَلْع نخلة ذَكَر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان. فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه فجاء ... قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: «قد عافاني الله، فكرهتُ أن أثير على الناس شرًّا، فأمرت بها فدُفِنَتْ». ومحصّل هذا: أن لبيدًا أراد إلحاق ضرر بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فعمل عملًا في مُشط ومشاطة الخ، فهل من شأن ذلك أن يؤثر؟ [ص 182] قد يقال: لا، ولكن إذا شاء الله تعالى خَلَق الأثرَ عَقِبه. والأقرب أن يقال: نعم بإذن الله، والإذن هنا خاص، وبيانُه: أن الأفعال التي من شأنها أن تؤثِّر ضربان: الأول: ما أذن الله تعالى بتأثيره إذنًا مطلقًا ثم إذا شاء مَنَعَه، وذلك كالاتصال بالنار مأذون فيه بالإحراق إذنًا مطلقًا، فلما أراد الله تعالى منعه قال: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. الضرب الثاني: ما هو ممنوع من التأثير منعًا مطلقًا، فإذا اقتضت الحكمة أن يمكَّن من التأثير رُفِع المنع فيؤثر. وقوله تعالى في السحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] يدلُّ أنه من الضرب الثاني، وأنّ المراد بالإذن الإذن الخاص، والحكمةُ في مصلحة الناس تقتضي هذا، والواقع في شؤونهم يشهد له، وإذ كان هذا حاله فلا غرابة في خفاء وجه التأثير علينا.
(12/345)
المقام الثالث: النظر في كلام الشيخ محمد عبده. وفيه ثلاث قضايا: القضية الأولى: قال: (فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد). أقول: أما صحته فثابتة بإثبات أئمة الحديث لها، فإنْ أراد الصحة في نفس الأمر فهب أنَّا لا نقطع بها ولكنَّا نظنها ظنًّا غالبًا، وعلى كلا الحالين فواضعو تلك القاعدة لا ينكرون أنه يفيد الظن، ومَن أنكر ذلك فهو مكابر، وإذا أفاد الظنَّ فلا مفرَّ من الظنّ وما يترتَّب على الظن، فلم يبق إلا أنه لا يفيد القطع، وهذا حقٌّ في كلّ دليل لا يفيد إلا الظن. القضية الثانية: أنه مناف للعصمة في التبليغ قال: (فإنه قد خالط عقلَه وإدراكَه في زعمهم ... فإنه إذا خولط ... في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئًا وهو لم يبلغه، أو أن شيئًا ينزل عليه وهو لم ينزل عليه). أقول: أما المتحقِّق من معنى الحديث كما قدَّمنا في المقام الأول فليس فيه ما يصحّ أن يُعَبَّر عنه بقولك: «خُولط في عقله» وإنما ذاك خاطر عابر، ولو فُرِض أنه بلغ الظن فهو في أمر خاص من أمور الدنيا لم يتَعَدَّه إلى سائر أمور الدنيا فضلًا عن أمور الدين، ولا يلزم من حدوثه في ذاك الأمر جوازه في ما يتعلق بالتبليغ، بل سبيلُه سبيل ظنه أن النخل لا يحتاج إلى التأبير، وظنه بعد أن صلى ركعتين أنه صلى أربعًا، وغير ذلك من قضايا السهو في الصلاة، وراجع (ص 18 - 19) (1). وفي القرآن ذكر غضب موسى على أخيه هارون، وأَخْذه برأسه لظنه أنه قصَّر مع أنه لم يقصِّر، وفيه قول يعقوب لبنيه لمَّا ذكروا له ما جرى لابنه الثاني: {بَلْ سَوَّلَتْ [ص 183] لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18] _________ (1) (ص 36 ــ 40).
(12/346)
يتَّهمهم بتدبير مكيدة مع أنهم كانوا حينئذ أبرياء صادقين. وقد يكون من هذا بعض كلمات موسى للخضر. وانظر قوله تعالى عن يونس: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]. القضية الثالثة: الحديث مخالف للقرآن (في نفيه السحر عنه - صلى الله عليه وسلم - وعدّه من افتراء المشركين عليه ... مع أن الذي قصَدَه المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إنّ الشيطان يُلابسه عليه السلام، ومُلابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضَرْب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي يُنسب إلى لبيد ... وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نَسَب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبَّخهم على زعمهم هذا، فإذًا هو ليس بمسحور قطعًا). أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه - صلى الله عليه وسلم - يفتري ــ أي يتعمَّد ــ الكذب على الله عز وجل فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد، فلجأوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني بزعم أنَّ له اتصالًا بالجنّ، وأنَّ الجِنّ يُلْقون إليه ما يلقون، فيصدّقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه. هذا مدار شبهتهم، وهو مرادهم بقولهم: به جِنَّة. مجنون. كاهن. ساحر. مسحور. شاعر. كانوا يزعمون أنَّ للشعراء قُرَناء من الجن تُلقي إليهم الشعرَ؛ فزعموا أنه شاعر أي: أن الجن تُلقي إليه كما تُلقي إلى الشعراء، ولم يقصدوا أنه يقول الشعر. أو أن القرآن شعر. إذا عُرِف هذا، فالمشركون أرادوا بقولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] أنَّ أمْرَ النبوّةِ كلّه سحر، وأن ذلك ناشئٌ عن الشياطين استولوا عليه ــ بزعمهم ــ يُلقون إليه القرآن، ويأمرونه وينهونه فيصدقهم في ذلك كلّه ظانًّا أنه إنما يتلقّى من الله وملائكته. ولا ريب أن الحال التي ذكر
(12/347)
في الحديث عروضها له - صلى الله عليه وسلم - لفترة خاصة ليست هي هذه التي زعمها المشركون، ولا هي من قبيلها في شيء من الأوصاف المذكورة. إذن تكذيب القرآن وما زعمه المشركون لا يصح أن يؤخذ منه نفيه لما في الحديث. فإن قيل: قد أطلق على تلك الحالة أنها سحر، ففي الحديث عن عائشة: «سَحَر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ ... » والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. قلت: أما الذي أخبر به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن المَلَك فإنّما سمّاها (طبًّا) كما مرَّ في الحديث، وقد أنشد ابن فارس في «مقاييس اللغة» (408: 3): فإن كنتُ مطبوبًا فلا زِلْتُ هكذا ... وإن كنتُ مسحورًا فلا برأ السحرُ (1) وأقلّ ما يدل عليه هذا: أنّ الطّبَّ أخصّ من السِّحْر، وأن من الأنواع التي يُصاب بها الإنسان ويطلق [ص 184] عليها «سحر» ما يقال له: «طبّ» وما لا يقال: «طب». وعلى كلِّ حال فالذي ذُكِر في الحديث ليس من نوع ما زعمه المشركون، ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر نفس الساحر وفعله. وقد قدَّمْتُ أنَّ وقوع أثر ذلك نادر، فلا غرابة في خفاء تفسيره. وهذا يغني عما تقدم (ص 98) (2). ثم نقل أبو ريَّة ص 261 ــ فصلًا عن صاحب «المنار» فيه: (إن بعض أحاديث _________ (1) البيت من ثلاثة أبيات اختلف في نسبتها، فقيل: لمجنون ليلى «ديوانه المجموع» (ص 100)، وقيل: للنهدي «الحماسة»: (2/ 29)، وقيل: لرجل من بني ربيعة «سمط اللآلي»: (1/ 403). (2) (ص 190 ــ 191).
(12/348)
الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يَلْزم العملُ بها). أقول: عدم الثبوت والطمأنية قد يكون لسبب بيِّن، وقد يكون لسبب محتمل يقوَى عند بعض أهل العلم ويضعف عند بعضهم، وقد يكون لما دون ذلك من هوى وزيغ وارتياب وتكذيب. وعلى الأمة أن تُنْزِل كلّ واحد من هؤلاء منزلته بحسب ما يتبيَّن من حاله. وكما أننا إذا رأينا مَنْ يتعبَّد عبادة غير ثابتة شرعًا، فسألناه، فذكر حديثًا باطلًا، فبيَّنَّا له فقال: هو ثابت عندي مطمئنٌّ به قلبي= كان علينا أن ننكر عليه، وكان على وليِّ الأمر ومن في معناه منعه ومعاقبته. فكذلك إذا رأينا رجلًا ينفي حديثًا ثابتًا وبيَّنَّا له ثبوته، فقال: لم يثبت عندي ولم يطمئنَّ به قلبي، ولم يذكر سببًا، أو ذكر سببًا لا يُعتَدُّ به شرعًا. قال: (ولذلك لم يكن الصحابة يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها ... ). أقول: قد تقدم الكشف عن هذا (ص 20 - 50) (1). قال: (ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحمل الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ). أقول: إنما أنكر الإلزام بـ «الموطأ»، لأنه يعلم أنَّ فيه أحاديث أخذ بها هو وقد يكون عند غيره ما يخصِّصها، أو يقيّدها أو يعارضها، وفيه توقّف عن أحاديث قد يكون عند غيره ما يقوِّيها ويؤيِّدها، وقد يكون عند غيره أحاديث لم يقف عليها هو، وفيه كثير مما قاله باجتهاده، وفي الأمة علماء لهم أن _________ (1) (ص 41 ــ 99).
(12/349)
يجتهدوا ويعملوا بما رَجَح عندهم وإن خالفوا مالكًا، وفوق هذا كلِّه فهو يعلم أنه بنى على ما فهمه من القرآن ومن الأحاديث التي ذكرها، وأنَّ في علماء الأمة من يخالفه في بعض ذلك الفهم. وعلى كلِّ حال فليس في امتناع مالك من إلزام الأمة كلها علمائها وعامّتها بقوله ما يقتضي أن لا يُلْزَم بالعمل بالحديث مَنْ يعلم أنه ليس عنده ما يخالفه إلا الهوى والزيغ والارتياب والتكذيب والعناد. ثم قال ص 262: (وإنما يجب العمل ... ). كرر معنى ما تقدم. [ص 185] قال: (أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد ... ). أقول: راجع (ص 182) (1). قال: (وكل من ظهر له علة في رواية حديث فلم يصدق رفعه لأجلها فهو معذور كذلك). أقول: الصواب في هذا أن يُنظر في تلك العِلّة ويُعامل صاحبها بما يستحق، كما مرَّ. قال: (ولا يصح أن يقال: إنه مكذب لحديث كذا). أقول: أمّا إن زعم أنه كذب فهو مكذِّب له، ولا يَضُرُّه ذلك مالم يلزمه أحد أمرين: إما تكذيب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وإما تكذيبُ صادقٍ بغير حجة. قال: (وهي تفيد الظن). أقول: في هذا كلام معروف. _________ (1) (ص 345 ــ 346).
(12/350)
قال: (ومن القواعد الجليلة ... أن طروء الاحتمال في المرفوع من وقائع الأحوال يكسوها ثوبَ الإجمال فيسقط به الاستدلال). أقول: موضع هذا أن يحتمل الخبرُ وجهين ولا دليل فيه على أحدهما، فأما إذا كان أحدهما راجحًا فالحكم له. ثم قال أبو ريَّة ص 263: (ليس في الحديث متواتر ... ). أقول: مَن نفى هذا إنما نفى التواتر اللفظيّ، فأما المعنويّ فكثير، فلتراجع الكتب التي نقل عنها. وذكر في الحاشية: حديثَ الحوض، وكأنه استهزأ به، ومن استهزأ به فليس من أهله. ثم ذكر شيئًا من تقسيم العلماء للحديث، إلى أن قال ص 267: (تعدد طرق الحديث لا يقويها. قال العلامة السيد رشيد رضا: يقول المحدثون في بعض الأحاديث حتى التي لم يصح لها سند: إن تعدد طرقها يقويها. وهي قاعدة للمحدّثين لم يشر إليها الله في كتابه، ولا ثبتت في سنته عن رسوله، وإنما هي مسألة نظرية غير مطَّردة). أقول: أما إطلاق أبي ريَّة في العنوان فباطل قطعًا كما سترى. وأما إشارة القرآن فيمكن إثباتها باشتراط القرآن العدد في الشهود، وقوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]. ومن السنة: حديث ذي اليدين، والمعقول واضح. نعم قوله: (غير مطردة) حق لا ريب فيه، بل أزيد على ذلك أن بعض الأخبار يزيده تعدد الطرق وهنًا، كأن يكون الخبر في فضل رجل، وفي كلِّ طريقٍ من طرقه كذَّاب أو مُتَّهَم ممن يتعصَّب له أو مغفَّل أو مجهول. [ص 186] قال: (فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعًا كمسألة الغرانيق،
(12/351)
أو عقلًا لا قيمة له، لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل). أقول: أما الباطل يقينًا فلا يفيده التعددُّ شيئًا، بل يبعد جدًّا أن تتعدد طرقه تعددًا يفيده قوة قوية، نعم قد يختلف المتن في الجملة ويكون الحكم بالبطلان إنما هو بالنظر إلى ما وقع في بعض الطرق، وقد يكون ذلك الخطأ وقع فيه، وقد يفهم الناظر معنى يحكم ببطلانه، وللخبر معنى آخر مستقيم، وكثيرًا ما يقع الخلل في الحكم بالبطلان. وقال أبو ريَّة ص 269: (كتب الحديث المشهورة) ثم ذكر «الموطأ» وذكر أشياء ينبغي مراجعةُ مصادرها، إلى أن قال ص 273: (قال ابن معين: إن مالكًا لم يكن صاحب حديث، بل كان صاحب رأي). أقول: لم يذكر مصدره إن كان له مصدر، ومن المتواتر ثناء ابن معين البالغ على مالك بمعرفة الحديث ورواته والإتقان والتثبُّت (1)، وليس من شأن ابن معين النظر في الفقه. قال: (وقال الليث بن سعد: أحصيتُ على مالك سبعين مسألة وكلُّها مخالفة لسنة الرسول). أقول: قد عرفنا أنَّ مالكًا ربما توقف عن الأخذ بالحديث لاعتقاده أنه منسوخ أو نحو ذلك، وقد تُبنى على الحديث الواحد مئات من المسائل، وقد قال مالك: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فما وافق السنة فخذوا به» (2). _________ (1) انظر «تهذيب التهذيب»: (10/ 5 ــ 9). (2) من ترجمة مالك في تهذيب التهذيب [10/ 9]. [المؤلف].
(12/352)
قال: (وقد اعترف مالك بذلك). أقول: لم يذكر مأخذه حتى نبيِّن له غلطه أو مغالطته. قال: (وألَّف الدارقطني جزءًا فيما خولف فيه مالك من الأحاديث في الموطأ وغيره، وفيه أكثر من عشرين حديثًا) (1). أقول: منها ما الصواب فيه مع مالك، ومنها ما كلا الوجهين صحيح، ومنها ما الاختلاف فيه في أمر لا يضر. ثم قال: (البخاري وكتابه ... ) إلى أن قال ص 274: (كان البخاري يروي بالمعنى ... ). أقول: تقدم النظر في ذلك (ص 95) (2). قال: (قال ابن حجر: من نوادر ما وقع في البخاري أنه يخرج الحديث تامًّا بإسناد واحد بلفظين ... ). أقول: عزاه إلى «فتح الباري» (186: 10) وإنما هو في (193: 10) (3) من الطبعة الأولى الميرية، وبيَّن ابن حجر هناك أن اختلاف اللفظ وقع ممن فوق البخاري لا من البخاري، فراجعه، وتعجَّب من أمانة أبي ريَّة! [ص 187] ثم قال: (موت البخاري قبل أن يبيّض كتابه. يظهر أن البخاري مات قبل أن يتم تبييض كتابه، فقد ذكر ابن حجر في «مقدمة فتح الباري» أن أبا إسحق _________ (1) طبع الكتاب وفيه (83) حديثًا. والأمر كما ذكر الشيخ، وانظر مقدمة تحقيقه (ص 21) ط الرشد، تحقيق رضا بوشامة الجزائري. (2) (ص 186 ــ 187). (3) (10/ 227 ــ السلفية).
(12/353)
إبراهيم بن أحمد المستملي قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفِرَبْري، فرأيت فيه أشياء لم تتم، وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها. فأضفنا بعض ذلك إلى بعض. قال أبو الوليد الباجي: ومما يدل على صحة هذا القول: أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية ... مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدَّر كلُّ واحد منهم فيما كان في طُرَّة (1) أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه (2) إليه. ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث). أقول: قول أبي ريَّة (قبل أن يبيض) يوهم احتمال أن يكون في النسخة مالم يكن البخاريُّ مطمئنًّا إليه على عادة المصنِّفين، يستعجلُ أحدُهم في التسويد على أن يعود فينقِّح. وهذا باطل هنا، فإنَّ البخاريَّ حدَّث بتلك النسخة، وسمع الناسُ منه منها، وأخذوا لأنفسهم نُسَخًا في حياته، فثبت بذلك أنه مطمئنّ إلى جميع ما أثبته فيها، لكن ترك مواضع بياضًا رجاء أن يُضيفها فيما بعد فلم يتفق ذلك. وهي ثلاثة أنواع: الأول: أن يثبت الترجمة وحديثًا أو أكثر، ثم يترك بياضًا لحديث كان يفكِّر في زيادته، وأَخَّر ذلك لسببٍ ما، ككونه كان يحبّ إثباته كما هو في أصله ولم يتيسر له الظَّفَر به حينئذ. الثاني: أن يكون في ذهنه حديث يرى إفراده بترجمة، فيثبت الترجمةَ ويؤخر إثبات الحديث لنحو ما مرَّ. _________ (1) (ط): «طرق» خطأ. (2) (ط): «أضافه» والمثبت من «هُدَى الساري» وكتاب أبي ريَّة.
(12/354)
الثالث: أن يثبت الحديث ويترك قبله بياضًا للترجمة؛ لأنه يُعنى جدًّا بالتراجم ويضمِّنها اختياره، وينبِّه فيها على معنى خفيّ في الحديث أو حَمْله على معنى خاص أو نحو ذلك. فإذا كان متردِّدًا تَرَك بياضًا ليتمَّه حين يستقرَّ رأيه. وليس في شيء من ذلك ما يوهم احتمال خلل في ما أثبته. فأما التقديم والتأخير فالاستقراء يبيّن أنه لم يقع إلا في الأبواب والتراجم، يتقدّم أحدُ البابين في نسخة ويتأخّر في أخرى، وتقع الترجمة قبل هذا الحديث في نسخة وتتأخر عنه في أخرى، فيلتحق بالترجمة السابقة. ولم يقع من ذلك ما يمسّ سياق الأحاديث بضرر. وفي «مقدمة الفتح» (1) بعد العبارة السابقة: «قلت: وهذه قاعدة حسنة يُفْزَعُ إليها حيث يتعسَّر وجه الجمع بين الترجمة والحديث، وهي مواضع قليلة جدًّا». ثم قال أبو ر ية ص 275: (وقد انتقده الحفّاظ في عشرة ومائة حديث، منها 32 حديثًا وافقه مسلم على إخراجها). أقول: قد ساقها الحافظ ابن حجر في «مقدمة الفتح» (2) وبيَّن حالها، ومن تدبَّر ذلك علم أن الأمر فيها هيِّن [ص 188] ليس فيه ما يحطّ مِن قَدْر البخاريِّ وصحيحه. قال: (وكذلك ضعَّف الحفَّاظُ من رجال البخاري نحو ثمانين رجلًا ... ). أقول: سيأتي النظر في هذا قريبًا (3). قال: (وقال السيد محمد رشيد رضا بعد أن عرض للأحاديث المنتقدة على _________ (1) (ص 8). (2) (ص 346 ــ 383). (3) (ص 356 ــ 358).
(12/355)
البخاري ما يلي: وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها رأيتها كلها في صناعة الفن ... ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه (فتح الباري) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل للمشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض). أقول: السيد رشيد رضا وغيره يعلمون أنَّ في القرآن آيات يُشكل بعضُها على كثير من الناس، وآيات يتراءى فيها التعارض. والذين فسَّروا القرآن ــ ومنهم السيد رشيد ــ يحاولون حلّ ما يتراءى إشكاله والجمع بين ما يتراءى تعارضه (بما يرضيك بعضُه دون بعض). والقرآن كلُّه حقّ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. فثبت بهذا أن ما ذكره السيد رشيد رضا في تلك الأحاديث لا تصلح دليلًا على البطلان. هذا، وللاستشكال أسباب، أشدّها استعصاء: أن يدلّ النص على معنى هو حقّ في نفس الأمر لكن سبق لك أن اعتقدت اعتقادًا جازمًا أنه باطل. وقال ص 276: (وقال الدكتور أحمد أمين ... إن بعض الرجال الذين روى لهم [البخاري] غير ثقات، وقد ضعَّف الحافظ من رجال البخاري فوق الثمانين). أقول: هذا الأمر يتراءى مَهُولًا، فإذا تدبَّرنا حالَ أولئك الثمانين واستقرأنا ما أخرجه البخاري لهم= اتضح أنّ الأمر هيِّن، وقد ساق الحافظ ابن حجر في «مقدّمة فتح الباري» (1) تراجم هؤلاء وما قيل فيهم من مدح وقدح، وما أخرجه لهم البخاري، فذكر في أولهم ممن اسمه أحمد تسعةَ نفرٍ اختلف فيهم، وغالبهم من شيوخ البخاري الذين لقيهم واختبرهم، فثلاثة منهم اتضح أنهم ثقات وأنَّ قَدْح مَن قَدَح فيهم ساقطٌ، كما تراه جليًّا في _________ (1) (ص 384 ــ 465).
(12/356)
«مقدمة الفتح». وثلاثة فيهم كلام، وإنما أخرج لكل واحد منهم حديثًا واحدًا متابعة، يروي البخاريُّ الحديث عن ثقة أو أكثر، ويرويه مع ذلك عن ذاك المتكلَّم فيه، واثنان روى عن كلٍّ منهما أحاديث [ص 189] يسيرة متابعة أيضًا. التاسع: أحمد بن عاصم البلخي ليس له في الصحيح نفسه شيء، ولكن المتسملي ــ أحد رواة الصحيح عن الفِرَبْرِي عن البخاري ــ أدرج في باب رفع الأمانة من الرقاق قوله: «قال الفربري: قال أبو جعفر: حدثت أبا عبد الله [البخاري] فقال: سمعت أبا [جعفر] أحمد بن عاصم يقول: سمعت أبا عبيد يقول: قال الأصمعي وأبو عَمْرو وغيرهما: جذر قلوب الرجال ــ الجذر الأصل من كل شيء، والوَكْت أثر الشيء ــ». هذا هو التحقيق، وإن وقع في «التهذيب» و «مقدمة الفتح» (1) ما يوهم خلافه، وراجع «الفتح» (386: 11) (2). وإذ قد عرفتَ حالَ التسعة الأوَّلين فَقِسْ عليهم الباقي، وإن شئت فراجع وابحث يتضِحْ لك أنَّ البخاريَّ عن اللوم بمنجاة. ثم قال أحمد أمين: (وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل، فالوقوف على أسرار الرجال محال، نعم إنّ مَن زلّ زلة واضحة سهل الحكم عليه، ولكن ماذا يصنع بمستور الحال؟ ). أقول: الخبير الممارس لأحوال الناس وطباعهم، وللرواية وأحوال الرواة، وما جرى عليه أئمة النقد يتبين له أن الله تعالى قد هيَّأ الأسباب لبيان _________ (1) «التهذيب»: (1/ 46)، و «هُدَى الساري» (ص 386). (2) (11/ 334). ووقع في (ط): (11/ 286) خطأ.
(12/357)
الحق من الباطل، وراجع (ص 55 و 62) (1). قال: (ثم إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف، فبعضٌ يوثق رجلًا وآخر يكذبه، والبواعث النفسية على ذلك لا حدَّ لها ... ). أقول: إذا نظرنا إلى الواقع فعلًا انقشع هذا الضباب، حسبك أن رجال البخاري يناهزون ألفي رجل، وإنما وقع الاختلاف في ثمانين منهم، وقد عرضتُ سابقًا حالَ الثمانين. قال: (ولعل من أوضح ذلك عكرمة مولى ابن عباس ... ). أقول: ترجمة عكرمة في «مقدمة فتح الباري» (2) فليراجعها من أحبّ، أما البخاريُّ فكان الميزان بيده، لأنه كان يعرف عامة ما صحَّ عن عكرمة أنه حدَّث به، فاعْتَبَر حديثَه بعضه ببعض من رواية أصحابه كلهم، فلم يجد تناقضًا ولا تعارضًا ولا اختلافًا لا يقع مثله في أحاديث الثقات، ثم اعْتَبَر أحاديثَ عكرمة عن ابن عباس وغيره بأحاديث الثقات عنهم فوجدها يصدِّق بعضُها بعضًا، إلا أن ينفرد بعضهم بشيء له شاهد من القرآن أو من حديث صحابيّ آخر. فتبيَّن للبخاري أنه ثقة. ثم تأمَّلَ ما يصح مِن كلام مَن تكلَّم فيه فلم يجد حجةً تُنافي ما تبيَّن له. قال: (فابن جرير الطبري يثق به كل الثقة، ويملأ تفسيره وتاريخه بأقواله والرواية عنه). [ص 190] أقول: نعم يثق به ابن جرير، لكن ليس روايته عنه في «تفسيره» و «تاريخه» بدليل على ذلك، فإنه كثيرًا ما يروي فيهما عمن ليس بثقة عنده؛ _________ (1) (ص 108 ــ 107 و 121 ــ 122). (2) (ص 425 ــ 430).
(12/358)
ولا عند غيره؛ لأنه لم يلتزم بالصحة. قال: (ومسلم ترجَّح عنده كذبه فلم يرو له إلا حديثًا واحدًا في الحج، ولم يعتمد فيه عليه وحده وإنما ذكره تقوية لحديث سعيد بن جبير). أقول: كلمة (كذبه) لا وجه لها، ويَرُدُّها ما بعدها، فإن من استقرَّ الحكم عليه بأنه متّهم بالكذب لا يُتقوّى بروايته أصلًا ولا سيما في الصحيح، لكن لعل مسلمًا لم يتجشَّم ما تجشَّم البخاريُّ من تتبُّع حديث عكرمة واعتباره، فلم يتبيَّنْ له ما تبيَّنَ للبخاري، فوَقَف عن الاحتجاج بعكرمة. ثم ساق أبو ريَّة فصولًا لم أُنْعِم النظرَ فيها (1)، وفيها مواضع قد تقدَّم الكلام فيها، إلى أن قال ص 300: (المحدِّثون لا يُعْنَون بغلط المتون، والمحدّثون قلَّما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه واقعًا في نفس المتن، لأن ذلك ليس من شأنهم من جهة كونهم محدِّثين، وإنما هو من شأن المجتهدين، وإنما يحكمون على الحديث بالاضطراب إذا كان الاختلاف فيه في نفس الإسناد لأنه من شأنهم). أقول: الاختلاف في المتن على أضرب: الأول: ما لا يختلف به المعنى، وهذا ليس باضطراب. الثاني: ما يختلف به معنى غير المعنى المقصود، وهذا قريب من سابقه، ومنه القضية التي استدلَّ بها أبو ريَّة في عدة مواضع، يحسب أنه قد ظَفِر بقاصمة الظهر للحديث النبوي! وهي الاختلاف والشكّ في الصلاة الرباعية التي سها فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّم من ركعتين، فنبَّهه ذو اليدين، فوقع _________ (1) هي مباحث تتعلق بالكلام على الكتب الستة والمسند وغيرها.
(12/359)
في رواية: «إحدى صلاتي العشيّ»، وفي رواية: «الظهر»، وفي أخرى: «العصر». فالأخريان مختلفتان لكن ذلك لا يوجب اختلافًا في المعنى المقصود، فإنّ حكم الصلوات في السهو الواحد. الثالث: ما يختلف به معنى مقصود لكن في الحديث معنى آخر مقصود لا يختلف، كقصة المرأة التي زوَّجها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلًا بأن يعلِّمها ما معه من القرآن وقد تقدَّمت (ص 59) (1). الرابع: ما يختلف به المعنى المقصود كلُّه، فهذا إن صح السند بالوجهين وأمكن الترجيح فالراجح هو الصحيح، وإلا فالوَقْف، والغالب أنَّ البخاريَّ ومسلمًا ينبِّهان على الترجيح بطرق يعرفها من مارس «الصحيحين»، وكذلك كتب السنن يكثر فيها بيان الراجح، لكن قد لا يتبين لأحدهم الرجحان فيرى أنّ عليه إثبات الوجهين يحفظهما لمن بعده، فربّ مبلَّغ أوعى من سامع. [ص 191] وذكر ص 301 عن السيد رشيد رضا: (أن علماء الحديث قلَّما يُعْنَون بغلط المتون في ما يخص معانيها وأحكامها .. وإنما يظهر معاني غلط المتون للعلماء والباحثين في شروحها من أصول الدين وفروعه وغير ذلك). أقول: أما الكتب التي لم تلتزم الصحة ولا الاحتجاج فنعم، وقد يقع يسير من ذلك في «صحيح مسلم»، فأما «صحيح البخاري» وما يصحِّحه الإمامُ أحمد ونظراؤه فإنهم يُعْنَون بذلك. وراجع لأصول الدين ما تقدم (ص 2) (2). _________ (1) (ص 115). (2) (ص 7 ــ 8).
(12/360)
وأشار إلى حديث: «خَلَق الله التربةَ الخ» وقد تقدم (ص 135 - 138) (1)، وإلى حديث أبي ذر في شأن الشمس وقد مرَّ (ص 165) (2) ويأتي (ص 213) (3). وقال: (لو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تُنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض). أقول: هذه دعوى إجمالية، والعبرة بالنظر في الجزئيات، فقد عرفنا من محاولي النقد أنهم كثيرًا ما يدَّعون القطع حيث لا قطع، ويدَّعون قطعًا يُكذِّبه القرآن، ويقيمون الاستبعاد مقام القطع مع أن الاستبعاد كثيرًا ما ينشأ عن جهل بالدين، وجهل بطبيعته، وجهل بما كان عليه الحال في العهد النبوي. وكثيرًا ما يسيئون فهم النصوص. وقال ص 303: (وقد تعرَّض كثير من أئمة الحديث للنقد من جهة المتن إلا أن ذلك قليل جدًّا بالنسبة لما تعرَّضوا له من النقد من جهة الإسناد). أقول: مَنْ تتبَّع كتبَ تواريخ رجال الحديث وتراجمهم وكتب العلل وجد كثيرًا من الأحاديث يطلق الأئمة عليها: «حديث منكر. باطل. شِبْه الموضوع. موضوع». وكثيرًا ما يقولون في الراوي: «يُحدِّث بالمناكير. صاحب مناكير. عنده مناكير. منكر الحديث». ومن أَنعمَ النظر وجد أكثر ذلك من جهة المعنى. ولما كان الأئمة قد راعوا في توثيق الرواة النظرَ في أحاديثهم والطعن فيمن جاء بمنكر= صار الغالب أن لا يوجد حديث منكر _________ (1) (ص 260 ــ 267). (2) (ص 316). (3) (ص 402 ــ 405).
(12/361)
إلا وفي سنده مجروح، أو خلل، فلذلك صاروا إذا استنكروا الحديثَ نظروا في سنده فوجدوا ما يبيّن وهنه فيذكرونه، وكثيرًا ما يستغنون بذلك عن التصريح بحال المتن، انظر «موضوعات ابن الجوزي» وتدبّرْ تجده إنما يعمد إلى المتون التي يرى فيها ما ينكره، ولكنه قلَّما يُصرِّح بذلك بل يكتفي غالبًا بالطعن في السند. وكذلك كتب العلل وما يُعَلُّ من الأحاديث في التراجم تجد غالب ذلك مما يُنكر متنُه، ولكن الأئمة يستغنون عن بيان ذلك بقولهم: «منكر» أو نحوه، أو الكلام في الراوي، أو التنبيه على خللٍ في السند كقولهم: فلان [ص 192] لم يلق فلانًا. لم يسمع منه. لم يذكر سماعًا. اضطرب فيه. لم يُتابَع عليه. خالفه غيره. يُروى هذا موقوفًا وهو أصح، ونحو ذلك. وذَكَر حديث: «يَلْقى إبراهيمُ أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرة وغَبَرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيُّ خِزْي أخزى من أبي الأبعد. فيقول الله تعالى: إني حرَّمتُ الجنة على الكافرين ... » (1). وذَكَر قول الإسماعيلي: «هذا حديث في صحته نظر، من جهة أن إبراهيم عالم بأن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما بأبيه خزيًا له مع إخباره أن الله قد وعده أن لا يخزيه يوم يبعثون، وأعْلَمه أنه لا خُلْفَ لوعده». أقول: عن هذا جوابان: الأول: أن إبراهيم لم يجعل ما بأبيه حينئذٍ من القَتَرة والغَبَرة خزيًا، إنما جعل الخزي ما كان منتَظرًا من دخول النار كما يدل عليه إجابة الله تعالى له بقوله: إني حرَّمت الجنةَ على الكافرين، وكما يشهد له ما ذكره الله من قول _________ (1) أخرجه البخاري (3350) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(12/362)
عباده: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] فدعاؤه إنما هو استنجاز للوعد كما في: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]. وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو في عريش بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» (1). ومن هذا أو مما يأتي ما قَصَّه الله تعالى عن نوح من قوله: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]. الثاني: أن المخلوق قد يتملَّكُه النظر من جهةٍ، فيناله ذهولٌ ما عن الجهة الأخرى، كما قَصَّهُ الله تعالى عن الملائكة من قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، ومِن قول زكريا بعد أن سأل الله تعالى أن يهب له وليًّا يرثه، فبشَّره الله بغلام: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8]. وقد بيّن الله تعالى لخليله أنّ الجنة محرَّمة على الكافرين، وبذلك لا يكون أبوه داخلًا في الوعد، بل ليس في دخول آزَرَ بكفره النارَ خزيٌ لإبراهيم، لكن هذه الحقيقة إنما تنكشف حقَّ الانكشاف لأهل الجنة بعد دخولها، وقد يكون في بقية الحديث ما يستفاد منه أن الله تعالى كشف لإبراهيم تلك الحقيقة حينئذ، فراجعه وتدبَّر ما مرَّ واعتبر به. ثم ذكر أبو ريَّة فصولًا، إلى أن قال ص 307: (اختلافهم في الجرح والتعديل) وسمَّى جماعةً ينبغي مراجعة تراجمهم في كتب الرجال، وراجع (ص 189) (2). _________ (1) أخرجه البخاري (2915) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (2) (ص 357 ــ 358).
(12/363)
وقال ص 309: (وقال صاحب «العَلَم الشامخ»: قد اختلفت آراء الناس واجتهاداتهم في التعديل والتجريح، فترى الرجل الواحد تختلف فيه الأقوال حتى يوصف بأنه أمير المؤمنين وبأنه أكذب الناس، أو قريب من هاتين العبارتين). [ص 193] أقول: قد تقدم (ص 189) (1) أن المختلَف فيهم قليل، ولا تبلغ كلمتان في رجل واحد هذا التفاوت الذي ذكره ولا ما يقاربه إلا قليلًا حيث يكون في إحداهما خلل، وللخلل أسباب وعلامات بسطتُ القولَ فيها بعضَ البَسْط في «التنكيل» (2). والناظرون في العلم ثلاثة: مخلص مستعجل يجأر بالشكوى، ومُتَّبع لهواه فأنَّى يهديه الله، ومخلص دائب فهذا ممن قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وسُنَّة الله عز وجل في المطالب العالية والدرجات الرفيعة: أن يكون في نيلها مشقَّة؛ ليتمّ الابتلاء ويستحقّ البالغ إلى تلك الدرجة شَرَفَها وثوابَها، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. وذَكَر عن السيد رشيد رضا: «إن توثيقَ كلّ من وثَّقه المتقدمون وإن ظهر خلاف ذلك بالدليل يفتحُ بابَ الطعن في أنفسنا بنَبْذ الدليل ... ». أقول: هذا حق، ولكن الشأن في الدليل الصحيح الذي [لا] (3) يعارضه ما هو أقوى منه. _________ (1) (ص 357 ــ 358). (2) (1/ 104 - 124). (3) سقطت من (ط).
(12/364)
الصحابة رضي الله عنهم ثم قال أبو ريَّة ص 310: (عدالة الصحابة ... ). أقول: الآيات القرآنية في الثناء على الصحابة والشهادة لهم بالإيمان والتقوى وكلِّ خير معروفة، ومن آخرها نزولًا قول الله عزوجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 117 - 118]. ساعةُ العُسْرة: غزوة تبوك. وكلمة «المهاجرين» هنا تشمل السابقين واللاحقين ومَن كان معهم من غير الأنصار، ولا نعلمه تخلَّف ممن كان بالمدينة من هؤلاء أحدٌ إلا عاجزٌ أو مأمور بالتخلُّف مع شِدَّة حرصه على الخروج، وفي «الصحيح» (1) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من تبوك: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم ... حبسهم العذر». وفي «الفتح» (2): أن المهلَّب استشهد لهذا الحديث بقول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] وهو استشهاد متين، والمأمور بالتخلُّف أولى بالفضل. وفي هذا وآيات أخرى ثناء يعمّ المهاجرين ومَن لحق بهم لا نعلم ثَمَّ ما يخصِّصه. فأما الأنصار فقد عمَّت الآيةُ مَنْ خرج معهم إلى تبوك والثلاثة الذين _________ (1) البخاري (4423)، ومسلم (1911) من حديث أنس رضي الله عنه. (2) (6/ 47). قال: فإنه فاضَلَ بين المجاهدين والقاعدين، ثم استثنى أولي الضرر من القاعدين، فكأنه ألحقهم بالفاضلين.
(12/365)
خُلِّفوا والعاجزين، ولم يبق إلا نفرٌ كانوا منافقين. وفي «الصحيح» (1) في حديث كعب بن مالك ــ وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا ــ: «فكنت إذا خرجتُ في الناس بعدَ خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفتُ فيهم أحزنني أني لا أرى [ص 194] إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلًا ممن عَذَر اللهُ من الضعفاء». وفي هذا بيان أن المنافقين قد كانوا معروفين في الجملة قبل تبوك، ثم تأكَّد ذلك بتخلُّفهم لغير عذر وعدم توبتهم، ثم نزلت سورة براءة فقَشْقَشَتْهم، وبهذا يتضح أنهم قد كانوا مشارًا إليهم بأعيانهم قبل وفاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأما قول الله عزوجل: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] فالمراد ــ والله أعلم ــ بالعلم ظاهره أي اليقين، وذلك لا ينفي كونهم مغموصين أي مُتَّهمين، غاية الأمر أنه يحتمل أن يكون في المتَّهمين مَنْ لم يكن منافقًا في نفس الأمر، وقد قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] ونصَّ في سورة براءة وغيرها على جماعةٍ منهم بأوصافهم، وعيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً منهم، فمن المحتمل أن الله عز وجل بعد أن قال: {لَا تَعْلَمُهُمْ} أعْلَمَه بهم (2) كلّهم. وعلى كلِّ حال فلم يمت النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد عرفَ أصحابُه المنافقين يقينًا أو ظنًّا أو تهمة، ولم يبق أحد من المنافقين غير متهم بالنفاق. ومما يدل على ذلك، وعلى قِلَّتهم وذلّتهم وانقماعهم ونُفْرة الناس عنهم: أنه لم يحس لهم عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حراك. ولما كانوا بهذه المثابة لم يكن لأحد منهم مجال في أن يحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يعلم أن ذلك يُعرِّضه لزيادة التهمة ويَجُرُّ _________ (1) البخاري (4418). (2) في (ط): «به»، ولعلَّ الصواب ما أثبت.
(12/366)
إليه ما يكره. وقد سمَّى أهلُ السير والتاريخ جماعةً من المنافقين لا يُعْرَف عن أحدٍ منهم أنه حدَّث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وجميع الذين حدَّثوا كانوا معروفين بين الصحابة أنهم من خيارهم. وأما الأعراب، فإن الله تبارك وتعالى كشف أمرهم بموت رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فارتدَّ المنافقون منهم، فيتبيَّن أنه لم يحصل لهم بالاجتماع بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما يستقرُّ لهم به اسم الصحبة الشرعية، فمن أسلم بعد ذلك منهم فحكمه حكم التابعين. وأما مُسْلِمة الفتح، فإن الناس يغلطون فيهم يقولون: كيف يعقل أن ينقلبوا كلهم مؤمنين بين عشيَّة وضحاها، مع أنهم إنَّما أسلموا حين قُهروا وغُلبوا، ورأوا أنَّ بقاءهم على الشرك يضرّ بدنياهم، والصواب أن الإسلام لم يزل يعمل في النفوس منذ نشأته. ويَدُلُّك على قوة تأثيره أمور: الأول: ما قَصَّه الله تبارك وتعالى من قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وقولهم: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42]. الثاني: ما ورد من صدِّهم للناس أن يسمعوا القرآن حتى كان لا يَرِدُ مكةَ واردٌ إلا حذّروه أن يستمع إلى [ص 195] النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن اشتراطهم على الذي أجار أبا بكر أن يمنعه من قراءة القرآن بحيث يسمعه الناس (1). الثالث ــ وهو أوضحها ــ: إسلام جماعة من أبناء كبار رؤسائهم ومفارقتهم آباءهم قديمًا، فمنهم عَمرو وخالد ابنا أبي أُحَيحة سعيد بن _________ (1) أخرجه البخاري (2297).
(12/367)
العاص، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وعبد الله وأبو جندل ابنا سُهَيل بن عَمرو وغيرهم. وآباء هؤلاء هم أكابر رؤساء قريش وأعزّهم وأغناهم، فارقهم أبناؤهم وأسلموا. فتدبَّر هذا، فقد جرت عادةُ الكُتَّاب إذا ذكروا السابقين إلى الإسلام ذكروا الضعفاء، فيتوهَّم القارئ أنهم أسلموا لضعفهم وسخطهم على الأقوياء وحبهم للانتقام منهم على الأقل؛ لأنه لم يكن لهم من الرياسة والعزِّ والغنى ما يصدّهم عن قبول الحق وتحمُّل المشاق في سبيله. والحقيقةُ أعظم من ذلك كما رأيت، إلا أن الرؤساء عاندوا واستكبروا، وتابعهم أكثر قومهم مع شدَّة تأثرهم بالإسلام، فكان في الشُبَّان مَنْ كان قَوِيَّ العزيمة، فأسلموا وضَحَّوا برياستهم وعِزِّهم وغناهم، متقبِّلين ما يستقبلهم من مصاعب ومتاعب، وبقي الإسلام يعمل عمله في نفوس الباقين، فلم يزل الإسلام يفشو فيهم حتى بعد هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. ثم لما كان صُلح الحديبية وتمكَّنَ المسلمون بعده من الاختلاط بالمشركين، ودعوة كلِّ واحد قريبه وصديقه= فشا الإسلام بسرعة، وأسلم في هذه المُدَّة من الرؤساء: خالد بن الوليد، وعَمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة وغيرهم، والإسلام يعمل عملَه في نفوس الباقين. ونستطيع أن نجزم أن الإسلام كان قد طرد الشرك وخرافاته من نفوس عقلاء قريش كلهم قبل فتح مكة، ولم يبق إلا العناد المحض يَلْفِظُ آخر أنفاسه، فلما فُتِحَت مكة مات العناد ودخلوا في الإسلام الذي قد كان تربَّع في نفوسهم من قبل. نعم بقي أثر في صدور بعض الرؤساء، فبسط لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - التأليف يوم فتح مكة وبعده، وآثرهم بغنائم حُنين، ولم يزل يتحرَّاهم
(12/368)
بحسن المعاملة حتى اقتلع البقيَّة الباقيةَ من أثر العناد. ثم كان من معارضة الأنصار بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لقريش في الخلافة واستقرار الخلافة لقريش غير خاصةٍ ببيتٍ من بيوتها، وخضوع العرب لها ثم العجم= ما أكّد حبَّ الإسلام في صَدْر كلّ قرشي. وكيف لا وقد جَمَع لهم إلى كلِّ شبرٍ كانوا يعتزّون به من بطحاء مكة آلاف الأميال، وجعلهم ملوك الدنيا والآخرة. ومما يوضِّح لك ذلك: أن الذين عاندوا إلى يوم الفتح كانوا بعد ذلك من أجدِّ الناس في الجهاد، [ص 196] كسُهَيل بن عَمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وعمه الحارث، ويزيد بن أبي سفيان. فأما ما يذكره كثير من الكُتَّاب من العصبية بين بني هاشم وبني أمية فدونك الحقيقة: شَمِل الإسلام الفريقين ظاهرًا وباطنًا، وكما أسلم قديمًا جماعةٌ من بني هاشم فكذلك من بني أمية، كابني سعيد بن العاص، وعثمان بن عفّان، وأبي حذيفة بن عُتبة، وكما تأخَّر إسلام جماعة من بني أمية فكذلك من بني هاشم، وكما عاداه بعضُ بني أمية فكذلك بعضُ بني هاشم، كأبي لهب بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث بن المطلب. ونزل القرآن بذمِّ أبي لهب، ولا نعلمه نزل في ذمِّ أمويٍّ معيَّن. وتزوَّج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بنت أبي سفيان بن حرب الأموي ولم يتزوَّج هاشمية، وزوَّج إحدى بناته في بني هاشم، وزوَّج ثلاثًا في بني أمية. فلم يبق الإسلام في أحد الجانبين حتى يحتمل أن يستمرَّ هدفًا لكراهية الجانب الآخر. بل ألّف الله بَيْنَ قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا، وأصبح الإسلام يلُفُّهم جميعًا: يحبونه جميعًا، ويعظِّمونه جميعًا، ويعتزُّون به جميعًا، ويحاول كلٌّ منهم أن يكون حظّه منه أوفر.
(12/369)
ولم تكن بين فتح مكة وبين ولاية عثمان الخلافة نُفْرة ما بين العشيرتين، فلما كانت الشورى وانحصر الأمرُ في عليٍّ وعثمان، فاختير عثمان، وجدت الأوهامُ مَنْفذًا إلى الخواطر، ثم لما صار في أواخر خلافة عثمان جماعةٌ من عشيرته ــ بني أمية ــ أمراء وعمّالًا، وصار بعضُ الناس يشكوهم؛ أُشيعت عن عَليٍّ كلمات يُندِّد بهم ويتوعَّدهم بإنه إذا ولي الخلافة عَزَلهم وأخذَ أموالَهم وفَعَل وفَعَل، ثم كانت الفتنة، وكان لبعض من يُعدُّ من أصحاب عليٍّ إصبع فيها، حتى قُتِل عثمان وقام قَتَلتُه بالسعي لمبايعة عَليّ، فبويع له وبقي جماعةٌ منهم في عسكره. فمن تدبَّر هذا وجد هذه الأسباب العارضة كافية لتعليل ما حدث بعد ذلك، إذن فلا وجه لإقحام ثارات بدر وأُحُد التي أماتها الإسلام، وما حُكي مما يُشعر بذلك لا صحةَ له البتة، إلا نزغة شاعر فاجر في زمن بني العباس، يصح أن تُعدّ من آثار الإسراف في النزاع لا من مؤثراته. وجرى من طلحة والزبير ما جرى، فأيُّ ثأر لهما كان عند بني هاشم؟ وبهذا يتضح جليًّا أن لا مساغ البتة لأن يُعلَّل خلاف معاوية بطلبه بثأر مَنْ قُتِل من آله ببدر، ثم يتذرَّعُ بذلك إلى الطعن في إسلامه، ثم في إسلام نُظَرائه! فإن قيل: مهما يكن من حال الصحابة فإنهم لم يكونوا معصومين، فغاية الأمر أن يُحمَلوا على العدالة ما لم يتبين [ص 197] خلافها، فلماذا يُعدِّل المحدِّثون مَنْ تبيَّن ما يوجب جرحه منهم؟ فالجواب من أوجه: الأول: أنهم تدبَّروا ما نُقِل من ذلك فوجدوه ما بين غير ثابت نقلًا أو
(12/370)
حكمًا أو زلَّة تِيبَ منها أو كان لصاحبها تأويل. الوجه الثاني: أن القرآن جعل الكذب على الله كفرًا، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] والكذب على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أمر الدين والغيب كذب على الله، ولهذا صرَّح بعضُ أهل العلم بأنه كفر، واقتصر بعضُهم على أنه من أكبر الكبائر (1)، وفرَّق شيخُ الإسلام ابن تيمية بين من يُخْبِر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا وساطة، كالصحابي إذا قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، وبين غيره، فمال إلى أن تعمُّد الأول للكذب كفر وتردَّد في الثاني (2). ووقوع الزلة أو الهفوة من الصحابي لا يسوِّغ احتمال وقوع الكفر منه. هب أن بعضهم لم يكن يرى الكذب على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كفرًا، فإنه ــ على كل حال ــ يراه أغلظ جدًّا من الزلات والهفوات المنقولة. الوجه الثالث: أن أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكّك في عدالته من الصحابة اعتبار ما ثبت أنهم حدَّثوا به عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابيّ آخر عنه، وعرضوها على الكتاب والسنة وعلى رواية غيرهم، مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التهمة، بل وجدوا عامة ما رووه قد رواه غيرهم من الصحابة ممن لا تتجه إليه تهمة، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له، وراجع (ص 64) (3). _________ (1) انظر «الصارم المسلول»: (2/ 328 فما بعدها)، و «فتح الباري»: (1/ 202)، و «شرح النووي» (1/ 69). (2) انظر «الصارم المسلول»: (2/ 333). (3) (ص 125 ــ 126).
(12/371)
وهذا الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط يقول المشنِّعون: ليس من المهاجرين ولا الأنصار، إنما هو من الطُّلَقاء. ويقولون: إنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بقتل أبيه عقب بدر قال: يا محمد فمَن للصِبْيَة؟ يعني بنيه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لهم النار» (1). ويقولون: إنه هو الذي أنزل الله تعالى فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (2) [الحجرات: 6] فنصّ القرآنُ أنه فاسق يجب التبيُّن في خبره. ويقولون: إنه في زمن عثمان كان أميرًا على الكوفة فشهدوا عليه أنه شرب الخمر، وكلَّم عليٌّ عثمانَ في ذلك، فأمره أن يجلده فأمر عليٌّ عبد الله بن جعفر فجلده. ومنهم مَنْ يزيد: أنه صلى بهم الصبح سكران فصلى أربعًا ثم التفت فقال: أزيدكم؟ (3) وكان الوليد أخا عثمان لأمه، فلما قُتِل عثمان صار الوليد ينشئ الأشعار يتّهم عليًّا بالممالأة على قتل عثمان ويحرِّض معاويةَ على قتال عليّ. [ص 198] هذا الرجل أشدّ ما يشنِّع به المعترضون على إطلاق القول بعدالة الصحابة، فإذا نظرنا إلى روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لنرى كم حديثًا روى في فضل أخيه، ووليِّ نعمته عثمان؟ وكم حديثًا روى في ذمِّ الساعي في جلده _________ (1) أخرجه البزار: (5/ 319) عن ابن مسعود، وعبد الرزاق: (5/ 205) من مرسل إبراهيم التيمي. (2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (3/ 442)، عن دينار المؤمن عن الحارث الخزاعي في قصة إسلامه. وأخرجه البيهقي في «الكبرى»: (9/ 54 ــ 55) عن ابن عباس، وأخرجه أيضًا من مرسل مجاهد. (3) خبر شربه الخمر وجلده، وصلاته الصبح أربعًا أخرجه مسلم (1707) من حديث حُضين بن المنذر قال: شهدت عثمان ... الحديث.
(12/372)
الممالئ على قتل أخيه في ظنه عليٍّ؟ وكم حديثًا روى في فضل نفسه ليدافع ما لحقه من الشهرة بشرب الخمر؟ هالنا أننا لا نجد له روايةً البتة، اللهم إلا أنه رُوِيَ عنه حديث في غير ذلك لا يصح عنه، وهو ما رواه أحمد وأبو داود من طريق رجل يقال له: أبو موسى عبد الله الهَمْداني عن الوليد بن عقبة قال: «لما فتح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم، فجيء بي إليه وأنا مطيَّب بالخَلُوق فلم يمسح رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلَّقتني بالخَلُوق، فلم يمسني من أجل الخَلُوق» (1). هذا جميع ما وجدناه عن الوليد عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنت إذا تفقَّدْتَ السند وجدتَه غير صحيح لجهالة الهَمْداني، وإذا تأملت المتن لم تجده منكرًا ولا فيه ما يمكن أن يُتّهم فيه الوليد، بل الأمر بالعكس فإنه لم يذكر أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا له، وذكر أنه لم يمسح رأسه، ولذلك قال بعضهم: قد علم الله تعالى حاله فحَرَمَه بركة يَدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ودعائه (2). أفلا ترى معي في هذا دلالة واضحة على أنه كان بين القوم وبين الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - حِجْرٌ محجور؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «رده على الإخنائي» (ص 163) (3): _________ (1) أخرجه أحمد (16379)، وأبو داود (4181)، والحاكم: (3/ 100) وغيرهم. (2) نقل الحاكم في «المستدرك»: (3/ 100) عن الإمام أحمد قوله: «وقد روي أنه أسلم يومئذ. فتقذَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يمسّه، ولم يدعُ له، والخَلوق لا يمنع من الدعاء، لا جُرم أيضًا لطفل في فعل غيره، لكنه مُنع بركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسابق علم الله تعالى فيه والله أعلم» اهـ. فلعلّ المصنف أراد هذا. (3) (ص 287 ــ دار الخرّاز).
(12/373)
«فلا يعرف مِن (1) الصحابة مَنْ كان يتعمَّد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه». قد ينفر بعض الناس من لفظ «العصمة» وإنما المقصود أن الله عز وجل وفاءً بما تكفَّل به مِنْ حِفْظ دينه وشريعته هيَّأ من الأسباب ما حفظهم به وبتوفيقه سبحانه من أن يتعمَّد أحدٌ منهم الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: فلماذا لم يحفظهم الله تعالى من الخطأ؟ قلت: الخطأ إذا وقع من أحدٍ منهم فإن الله تعالى يُهيّئ ما يوقَفُ به عليه، وتبقى الثقة به قائمة في سائر الأحاديث التي حدَّث بها مما لم يظهر فيه خطأ، فأما تعمُّد الكذب فإنه إن وقع في حديث واحد لزم إهدار الأحاديث التي عند ذاك الرجل كلها، وقد تكون عنده أحاديث ليست عند غيره. راجع (ص 20 - 21) (2). هذا، وفي كتاب أبي ريَّة ص 42 - 53: كلامٌ أَخَّرْتُ النظر فيه إلى هنا كما أشرت إليه (ص 52) (3) مِن كتابي هذا. قال ص 42: (الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته ... ). [ص 199] ثم ذكر ما رُوي عن ابن بُريدة عن أبيه بُرَيدة بن الحصيب قال: «كان حيٌّ من بني ليث على ميلين من المدينة، فجاءهم رجل وعليه حُلَّة، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كساني هذه الحُلَّة وأمرني أن أحكم في دمائكم _________ (1) (ط): «من من» والتصويب من «الرد على الإخنائي». (2) (ص 41 ــ 44). (3) (ص 101).
(12/374)
وأموالكم بما أرى ــ وكان قد خطب منهم امرأةً [في الجاهلية] فلم يزوّجوه، فانطلق [حتى نزل] على تلك المرأة، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: «كذب عدو الله»، ثم أرسل رجلًا فقال: «إن وجدته حيًّا [ولا أراك تجده] فاضرب عنقَه، وإن وجدته ميتًا فحرِّقه بالنار». أقول: عزاه إلى «أحكام ابن حزم» (1)، ومنه أضفتُ الكلمات المحجوزة، وانظر لماذا أسقطها أبو ريَّة؟ ! وراويه عن ابن بريدة: صالحُ بن حيّان وهو ضعيف له أحاديث منكرة، وفي السند غيره. وقد رُويت القصة من وجهين آخرين بقريب من هذا المعنى وفي كلٍّ منهما ضعف (2). راجع «مجمع الزوائد» (145: 1) (3). وعلى فرض صحته فهذا الرجل كان خطب تلك المرأة في الشرك فردّوه، فلما أسلم أهلُها سوَّلَتْ له نفسه أن يُظهر الإسلام ويأتيهم بتلك الكذبة لعله يتمكَّن من الخلوة بها ثم يفر، إذ لا يعقل أن يريد البقاء وهو يعلم أنه ليس بينه وبين النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سوى ميلين، فأنكر أهلها أن يقع مثل ذلك عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فرأوا أن يُنْزِلوا الرجلَ محترسين منه، ويرسلوا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يخبرونه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا أراك تجده» ظنٌّ منه أن عقوبة الله عز وجل ستعاجل الرجل. وكذلك كان، كما في الطُرُق الأخرى، وجَدَه الرسولُ قد مات، وفي رواية «خرج ليبول فلدغته حية فهلك». _________ (1) (2/ 211). وأخرجه أيضًا الطحاوي في «بيان مشكل الآثار» (378)، وابن عدي في «الكامل»: (4/ 53 ــ 54) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (42). (2) وانظر «الموضوعات»: (1/ 50 ــ 53) لابن الجوزي. (3) (1/ 150).
(12/375)
وحدوث مثل هذا لا يصلح للتشكيك في صدق بعض من صحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غير متهم بالنفاق، ثمّ استمرَّ على الإسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. يراجع (ص 193) (1) فما بعدها، وتعجيل العقوبة القدرية لذلك الرجل يمنع غيره من أن تحدِّثه نفسه بكذبٍ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وكذا من باب أَوْلى بعد وفاته، فإن العقوبة القدرية لم تمهل ذاك مع أنه كان بصدد أن تناله العقوبة الشرعية، ولا يترتَّب على كذبه مفسدة، فكيف بمن يكذب حيث يخفى على الناس أمره ويترتب على كذبه المفاسد؟ ولهذا جاء في رواية: أن الصحابي بعده (2) - صلى الله عليه وسلم - ذكر حديثًا فاستثبته بعضُ الناس فحدَّث بالقصة ثم قال: «أتراني كذبت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا؟». وذكر أبو ريَّة خبر المقنَّع التميمي، ويقال: المنقع، وسنده واهٍ جدًّا يشتمل على مجاهيل وضعفاء فلا أطيل به. هذا ومن الحكمة في اختصاص الله تعالى أصحاب رسوله بالحفظ من الكذب عليه: أنه سبحانه كره أن يكونوا هدفًا لطعن من بعدهم؛ لأنه ذريعة إلى الطعن في الإسلام جملةً، وليس هناك سبب مقبول للطعن إلا أن يقال: نحن مضطرون إلى بيان أحوالهم ليُعرَف من لا يحتج بروايته منهم، فاقتضت الحكمة حسم هذا لقطع العذر عمن يحاول الطعن في أحدٍ منهم. وقال ص 43: (الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ... فإن الكذب قد كثر عليه بعد وفاته ... ). أقول: قد كان كذبٌ، لكن متى؟ وممن؟ لا شأن لنا بدعاوى أبي رية، _________ (1) (ص 365 ــ 366). (2) (ط): «بعد» ولعل الصواب ما أثبت.
(12/376)
وإنما ننظر في شواهده: [ص 200] ذكر قصة بُشَير (بالتصغير) بن كعب العدوي مع ابن عباس في مقدمة «صحيح مسلم» (1) وجعلها قصّتين وإنما هما روايتان. وبُشَير هذا غير بَشِير (بفتح فكسر) بن كعب بن أبي الحميري العامري الذي شهد اليرموك، بل هذا أصغر منه بكثير، وأخطأ من عدَّهما واحدًا، راجع «الإصابة» (2). وهذا عراقيّ بصريّ له قصة مع عِمْران بن حُصَين في الحياء تدلّ أنه كان يقرأ صحف أهل الكتاب (3)، وقصته مع ابن عباس يظهر أنها كانت حوالي سنة ستين، فإن ابن عباس توفي سنة 68 أو بعدها وعاش بُشير بعد ابن عباس زمانًا. روى مسلمٌ القصةَ من طريق طاووس ومجاهد، وحاصلها: أن بُشَيرًا جاء إلى ابن عباس فجعل يحدّث (زاد مجاهد: ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال طاووس: فقال له ابنُ عباس: عُدْ لحديث كذا وكذا، فعاد له. ثم حدَّثه فقال له: عُد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له: ما أدري أعرفتَ حديثي كلّه وأنكرتَ هذا، أم أنكرتَ حديثي كلَّه وعرفتَ هذا؟ فقال ابن عباس: إنَّا كُنَّا نُحدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يُكذَب عليه، فلمَّا رَكِبَ الناسُ الصعبَ والذّلول تركنا الحديث عنه. (وفي رواية عن طاووس هي أثبت من الأولى، قال: إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يُحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأما إذ ركبتم كلَّ صعبٍ وذلول فهيهات). ولفظ مجاهد: فجعل ابن عباس لا يأذَنُ لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس مالي لا _________ (1) (1/ 12 ــ 13). (2) (1/ 345). (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» (88)، والبيهقي في «الآداب» (146).
(12/377)
أراك تسمع لحديثي ... فقال ابن عباس: إنا كنا مرَّة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتَدَرَتْه أبصارُنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناسُ الصعبَ والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف». عَرَف ابنُ عباس أن بُشيرًا ليس بصحابي، ومع ذلك لم يدرك كبار الصحابة، ولعله مع ذلك لم يكن يُعرف بالثقة، وفوق ذلك كان يرسل. لا جَرَم لم يصغ إلى أحاديثه. فأما استعادته بعضها فكأنَّ المستعاد كان أحاديث يعرفها ابن عباس، فأراد أن يصحِّحها لبُشَير إن كان عنده فيها خطأ. كانت القصة حوالي سنة ستين كما مرَّ، وقد ظهر الكذب بالعراق قبل ذلك كما يُؤخَذ مما يأتي، وبُشير عراقيّ، فليس في القصة ما يخدش في صدق الصحابة رضي الله عنهم، ولا ما يدلّ على ظهور الكذب بعد وفاة النبيِّ بمدّة يسيرة، وقوله في إحدى روايتي طاووس: «تركنا الحديث عنه» يريد تركنا أخذ الحديث عنه إلا من حيث نعرف. وذكر ص 44 ما في مقدمة «صحيح مسلم» (1) أيضًا عن ابن أبي مُلَيكة: «كتبتُ إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابًا ويُخْفي عنّي، فقال: ولدٌ ناصح، وأنا أختار له الأمور اختيارًا وأُخْفي عنه، قال: فدعا بقضاء عليّ رضي الله عنه [ص 201] فجعل يكتب منه أشياء ويمرُّ به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا عليّ، إلا أن يكون ضلّ». أقول: أورد مسلم بعد هذا: «عن طاووس قال: أُتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء عليّ ... »، ثم أورد: «عن أبي إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد عليّ رضي الله عنه قال رجل من أصحاب عليّ: قاتلهم الله أيَّ علمٍ أفسدوا». _________ (1) (1/ 13).
(12/378)
التفّ حَوْلَ عليّ رضي الله عنه بالكوفة نفرٌ ليس لهم علم ولا كبير دين، وذاك الكتاب جمع من حكاياتهم وحكايات غيرهم عن قضاء علي، وجيء إلى ابن عباس بنسخة منه. وذكر مسلم (1) أيضًا ونقله أبو ريَّة عن المغيرة بن مِقْسم قال: «لم يكن يَصْدُق على عليٍّ رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود». وذلك أن ابن مسعود كان بالكوفة في عهد عمر وبعده، فكان له أصحاب طالت صحبتهم له وفقهوا، فلما جاء عليّ إلى الكوفة أخذوا عنه أيضًا وكانوا أوثق أصحابه. وهذه الآثار إنما تدل على فشوِّ الكذب بالكوفة بعد عليّ رضي الله عنه. * * * * _________ (1) (1/ 14).
(12/379)
درجات الصحابة وقال أبو ريَّة ص 45: (درجات الصحابة ... ). ثم قال ص 47: (رواية الصحابة بعضهم عن بعض، وروايتهم عن التابعين ... ). وعاد يبدئ ويعيد لتأكيد تلك المكيدة الجهنَّمية التي سبق الكشف عنها (ص 72 - 75 و 82 و 89 - 90 و 109 - 110 و 157 و 171) (1). ثم قال ص 49: (نقد الصحابة بعضهم لبعض ... ). أقول: ذكر أشياء معروفة مع أجوبتها في كتب الحديث، وحاصلها: أنَّ أحدهم كان إذا سمع من أخيه حديثًا يراه معارضًا لبعض ما عنده توقّف فيه، وظنَّ أو جوّز أن أخاه أخطأ، مع تبرئة بعضهم لبعض عن تعمّد الكذب. وذكر فيها ص 52: (ولما بلغها ــ يعني عائشة ــ قول أبي الدرداء: من أدرك الصبح فلا وتر عليه. قالت: لا، كذب أبو الدرداء، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح فيوتر). أقول: الخبر في «سنن البيهقي» (479: 2) ولفظه: «فلا وتر له» وراويه عن أبي الدرداء وعائشة أبو نَهيك الأزدي الفراهيدي، قال ابن القطان: «لا يُعرف» يعني أنه مجهول الحال (2)، ولا يُخْرجه عن ذلك ذِكْر ابن حِبّان له في «الثقات» (3)، وفوق ذلك لا يُعلَم له إدراك لأبي الدرداء وعائشة، بل الظاهر عدمه، فالخبر منقطع، ويعارضه ما في «الصحيحين» (4) وغيرهما _________ (1) (ص 142 ــ 150 و 161 ــ 177 و 209 ــ 214 و 300 و 325 ــ 327). (2) انظر «تهذيب»: (7/ 142 و 12/ 234). (3) (5/ 582). (4) البخاري (996)، ومسلم (745).
(12/380)
عن عائشة: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - «انتهى وتره إلى السَّحَر». وعلى فرض صحة الحكاية فإنما قال أبو الدرداء من قِبَلِ نفسه لم يذكر رواية، فكلمة [ص 202] «كذَب» بمعنى «أخطأ» كما هو معروف عنهم راجع (ص 51) (1). قال: (وقالت عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري: ما عِلْمُ أنس بن مالك وأبي سعيد بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإنما كانا غلامين صغيرين). أقول: يُنظر في صحة هذا عنها، فقد كانا في مثل سنها أو أكبر منها، وكانا ممن يلزم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما أنس (2). قال: (وكانت عائشة تردُّ ما رُوي مخالفًا للقرآن). أقول: راجع (ص 14) (3)؛ لتعرف ما هو الخلاف الذي يقتضي الردّ. قال: (وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع وسوء الفهم). أقول: كلُّهم ــ بحمد الله ــ كان صادقًا عندها. ثم حكى عن أحمد أمين عن بعض الزيدية كلمةً فيها: أن الصحابة تكلَّم بعضهم في بعض وقاتل بعضُهم بعضًا، ونحو هذا. والجواب عن ذلك مبسوط في كتب أهل العلم، وموضوعنا هنا بيان صدقهم في الحديث _________ (1) (ص 101 ــ 102). (2) قول عائشة أخرجه الطبراني في «الكبير» (711) من طريق هشام بن عروة قال: قالت عائشة ... قال الهيثمي في «المجمع»: (9/ 163): «هشام لم يدرك عائشة، ورجاله رجال الصحيح». وذكره ابن عبد البر في «جامع بيان العلم»: (2/ 1100) معلقًا عن علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة. يبقى النظر في إسناد ابن عبد البر إلى علي بن مسهر. وأخشى أن يكون قوله: «عن أبيه» مقحمًا في إسناد ابن عبد البر. (3) (ص 29).
(12/381)
النبوي، وقد أثبتناه ولله الحمد. قال: (وإنما اتخذهم العامة أربابًا بعد ذلك). أقول: أما أهل السنة فلم يتخذوا أحدًا من الصحابة ربًّا، وإنما أولئك غُلاة أصحابك الشيعة (1)! قال: (من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه). أقول: أنت وهواك، أما نحن فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. وذكر أبو ريَّة ص 311 كلامًا للذهبي ذكر فيه ما حكى ابن وضّاح قال: «سألت يحيى بن معين عن الشافعي، فقال: ليس بثقة»، ثم قال الذهبي: «وكلام ابن معين في الشافعي إنما كان من فَلَتات اللسان بالهوى والعصبية، فإن ابنَ معين كان من الحنفية وإن كان محدّثًا». أقول: هذه من فَلَتات القلم، وقد برَّأ الله ابنَ معين من اتباع الهوى والعصبية، وإنما كان يأخذ بقول أبي حنيفة فيما لم يتضح له الدليل بخلافه، _________ (1) في هامش (ط) تعليق نصه: «كان الشيعة الإمامية قبل الدولة الصفوية ينقسمون إلى غلاة ومعتدلين، وكانوا في كتبهم المؤلفة في الجرح والتعديل لا يقبلون رواية الموصوفين منهم بالغلو، ثم أعلن المتأخرون من علمائهم في الجرح والتعديل ــ ومنهم العلامة الثاني الشيخ المامقاني عند ترجمته لكلّ من كان منهم يُنبز بالغلو (ومنهم المفضَّل بن عمر الجعفي، في 240: 3 من تنقيح المقال في أحوال الرجال) ــ أن ما كان يعد غلوًّا عند قدماء الشيعة تعده الشيعة الآن من ضروريات مذهب التشيّع، أي أنهم كلهم صاروا غلاةً بلا استثناء». [محب الدين الخطيب].
(12/382)
وعدم ميله إلى الشافعي كان لسبب آخر، وثَمَّ عللٌ تقدح في صحة هذه الكلمة: «ليس بثقة» عنه، وقد أوضحتُ ذلك في «التنكيل» (1). [ص 203] ثم ذكر أبو ريَّة ص 312 - 322 كلامًا للمقبليّ (2)، والمقبليّ نشأ في بيئة اعتزالية المعتقد، هادوية الفقه، شيعية تشيعًا مختلفًا، يَغْلُظ في أناس ويخفّ في آخرين، فحاولَ التحرُّر فنجح تقريبًا في الفقة، وقارب التوسُّط في التشيُّع، أما الاعتزال فلم يكد يتخلّص إلا من تكفير أهل السنة مطلقًا. وكلامه هنا (3) يدور حول قضايا الاعتزال، كالقَدَر، ونفي رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة، والقول بخلق القرآن، والدفاع عن عَمرو بن عُبيد أحد قدماء المعتزلة، وهذه المسائل معروفة مدروسة، والمقبليُّ لم يسبر غورَها، ولا حقَّق ما كان عليه الأمر في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بإحسان، فلذلك أخذ يلوم أحمد وينسبه إلى الإفراط في التشدّد، ولعلّه لو عَلِم ما عَلِم أحمد لنَسَبه إلى التسامح. _________ (1) (1/ 413 ــ 415). وقد طعنوا في رواية ابن وضّاح بأنه يخطئ كثيرًا، وأنهم رأوا في أصله الذي كتبه بالشرق: سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال: ثقة. وأن أصحاب ابن معين كثيرون وهم أَعْرف به وألزم له، وأثبت في النقل وأحرص= ولم ينقلوا ما نقله هذا المغربي. أقول: وكلام الذهبي في كتابه «معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد» (ص 47). (2) هو: صالح بن مهدي بن علي المقبلي اليماني (1038 ــ 1108)، من العلماء المجتهدين. ترجمته في «البدر الطالع»: (1/ 273)، و «الأعلام»: (3/ 197). (3) في كتابه «العَلَم الشامخ».
(12/383)
وذكر ص 315 ما رُوي عن أحمد في شأن ابن عُلَيّة ومحمد بن هارون. والإمام أحمد وإن رجا المغفرةَ للأمين فلم يزد في ابن عُلية على إنكار قوله تنفيرًا للناس عن الباطل، واستمرَّ أحمد على الرواية عن ابن عُلية، والاحتجاج به، والثناء عليه بالثبت. وذكر ص 316 مسألة الرؤية، فخَلَط بين رؤية النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلة الإسراء، وهي التي أنكرَتْها عائشةُ ومَن معها، وبين الرؤية في الآخرة. وقال أيضًا: (لكن المحدثون لم يعرفوا مقدار الخطأ في الكلام لأنه غير صنعتهم). أقول: بل أنت لم تعرف مقدار الخطأ في العقيدة الإسلامية الحقَّة، ولا عرفتَ غَور القضايا المخالفة لها. وقال ص 317: (وقال يحيى بن معين في عتبة بن سعيد بن العاص بن أمية: ثقة، وهوجليس الحجاج ... بل روى له البخاري ومسلم). أقول: إنما هو عَنْبسة بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، له عند البخاريِّ خبر واحد ذكَرَه في الجهاد والمغازي (1) مع روايته من طريق غيره، راجع «فتح الباري» (30: 6) و (376: 7) (2). وعند مسلم خبر واحد جاء ذِكْرُه فيه عَرَضًا، والاعتمادُ هناك على رواية أبي قِلابة الجَرْمي الثقة المأمون، وذلك في قصة العُرَنيين (3)، وقد أخرجها أيضًا من رواية _________ (1) رقم (2827، 4237)، وجاء ذكره عرضًا في الحديث رقم (4193، 6899). (2) (6/ 41 و 7/ 491). وانظر أيضًا (12/ 241). (3) (1671).
(12/384)
غيرهما. هذا جميع ما لعنبسة في «الصحيحين» كما يُعْلَم من ترجمته في كتاب «الجمع بين رجال الصحيحين» (1)، ومعنى هذا أنهما لم يحتجَّا به ولا أحدهما. فأما الذين وثَّقوه فإنهم تتبَّعوا أحاديثه فوجدوها معروفة من رواية غيره من الثقات، ولم يثبت عليه جرح بَيِّن. أما مجالسته للحجَّاج [ص 204] فليست بجرح بَيِّن؛ إذ قد يجالسه ولا يَشْرَكه في ظلمه بل يحرص على ردّ ظلمه ما استطاع، ويرى أن استمراره على ذلك أنفع للدين وللمسلمين من مباينته له، وقد كان نبيّ الله يوسف عاملًا للمشركين بمصر والملك فيهم، ولم يكن يستطيع أن يحكم بخلاف دينهم بدليل قول الله عزوجل: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]، وإنما كان ــ عليه السلام ــ يُعينهم على ما ليس بكفر ولا محرَّم عليه، فإذا جاء ما هو كفر أو محرَّم ولم يمكنه أن يصرفه تركه لهم، وقد أنذرهم بلُطْف وأَذِنَ الله تعالى أن يبقى معهم لِمَا عَلِم في ذلك من المصلحة. قال: (وروى البخاري لمروان بن الحكم). أقول: اعتبر البخاريُّ أحاديثَ مروان فوجدها مستقيمة معروفة، لها متابعات وشواهد، ووجد أنَّ أهل عصر مروان كانوا يثقون بصدقه في الحديث، حتى روى عنه سهل بن سعد الساعدي وهو صحابي، وروى عنه زينُ العابدين عليُّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب. بقي عدالته في سيرته، فلعلّ البخاريَّ لم يثبت عنده ما يقطع بأن مروان ارتكب ما يخلّ بها غير متأوِّل. _________ (1) (1/ 401) لابن طاهر.
(12/385)
وعلى كلِّ حال، فلا وجه للتشنيع؛ إذ ليست المفسدة في الرواية عمن تُذّم حاله في الصحيح ما دام المرويّ ثابتًا من طريق غيره، ألا ترى أنه لو وقع في سند إلى بعض ثقات التابعين أنه سمع يهوديًّا يقول لعلي بن أبي طالب: سمعتُ نبيّكم يقول: كيت وكيت. فقال عليّ: وأنا سمعته يقول ذلك، لصحّ إثبات هذا الخبر في الصحيح وإن كان فيه صورة الرواية عن يهودي؟ فما بالك بمروان، مع أن روايته لا تخلو من تقوية لرواية غيره؛ لأنه على كلّ حال مسلم قد عُرِف تحرِّيه الصدق في الحديث. وذكر ص 318: بعضَ ما نُسِب إلى بعض الصحابة ثم قال: (وما لا يحصى مما سكتّ عنه رعايةً لحقّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يلجئ إليه ملجئ ديني فيجب ذكره، ومن الملجئات ترتّب شيء من الدين على مروان والوليد [بن عقبة] وغيرهما فإنهما أعظم خيانة لدين الله ... ). أقول: أما الوليد فقد تقدم (ص 198) (1) أنه لم يرو شيئًا، وإنما روى عنه مجهول خبرًا لو صحَّ لما دلَّ إلا على صدقه. وأما مروان فمن تتبَّع أحاديثه الثابتة عنه علم أن البخاري لم يَبْنِ شيئًا من الدين على رواية تفرَّد بها لفظًا ومعنى. وأما غيرهما فراجع (ص 197) (2). وقال ص 320: (وأعجب من هذا أن في رجالهما من لم يثبت تعديله .. ) وذكر حفص بن بُغيل (3)، ومالك بن الخير الزبادي (4)، وكلامًا للذهبي في _________ (1) (ص 372 ــ 373). (2) (ص 371 ــ 372). (3) في كتاب أبي ريَّة: «نفيل»! [المؤلف]. (4) في كتاب أبي ريَّة: «بجير الرمادي»! [المؤلف].
(12/386)
ترجمتيهما (1) قد ردَّه الحافظ ابن حجر في ترجمة مالك بن الخير من «لسان الميزان» (2)، [ص 205] وفي مواضع أُخَر. وحفصٌ ومالك ليسا ولا أحدُهما في «الصحيحين» ولا أحدِهما، ولا فيهما ولا في أحدهما مَنْ هو مثل حفص ومالك، فإن وُجد مَنْ هو قريب من ذلك فنادرًا في المتابعات ونحوها كما بيَّنه ابنُ حجر، على أنه لو فرض أنّ البخاريَّ احتجّ في الصحيح بمن لم يوثّقه غيرُه فاحتجاجه به في «الصحيح» توثيقٌ وزيادة. وذكر بعد ذلك في المتن والحاشية كلامًا قد تقدّم بيانُ الحقِّ فيه ولله الحمد. ثم ذكر ص 324 - 327 كلامًا للدكتور طه حسين (3) ذكره في معرض الردّ على الذين يكذّبون غالب ما رُوي من الأحداث في زمن عثمان ويقولون: إنه «على كلّ حال لم يُرِد إلا الخير، ولم يكن يريد ولا يمكن أن يريد إلا الخير»، ويرون في سائر الصحابة أنهم «يخطئون ويصيبون، ولكنهم يجتهدون دائمًا ويسرعون إلى الخير دائمًا فلا يمكن أن يتورَّطوا في الكبائر، ولا أن يُحْدِثوا إلا هذه الصغائر التي يغفرها الله للمحسنين من عباده». أقول: أما أهل العلم من أهل السنة فلا يقولون في عثمان ولا في غيره من آحاد الصحابة: إنه معصوم مطلقًا أو من الكبائر، وإنما يقولون في المبشَّرين بالجنة: إنه لا يمكن أن يقع منهم ما يحول بينهم وبين ما بُشِّروا به، وإن الصحابيّ الذي سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يُعْرَف بنفاق في عهده ولا ارتدَّ _________ (1) في «الميزان»: (2/ 79 و 4/ 346). (2) (6/ 439 ــ ت أبو غدة). (3) في «الفتنة الكبرى ــ عثمان» (ص 170 ــ 173).
(12/387)
بعد موته= لا يكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - متعمّدًا، وقد تقدّم بيانُ ذلك (1)، ولا يُظنُّ به أن يرتكب كبيرةً غير متأوِّل ويصرّ عليها. والعارف المنصف لا يستطيع أن يجحد أنّ هذه الحال كانت هي الغالبة فيهم، فالواجب الحملُ عليها ما دام ذلك محتملًا. وعلماءُ السنة يجدون الاحتمال قائمًا في كلِّ ما نقل نقلًا ثابتًا، نعم قد يبعد في بعض القضايا ولكنهم يرونه مع بُعده أقربَ من ضدِّه، وذلك مبسوط في كتبهم. قال ص 325: (ونحن لا نغلو في تقديس الناس إلى هذا الحد البعيد). أقول: وعلماء السنة كما رأيتَ لا يبلغون ذلك الحدّ، وإن كانوا يعلمون أنَّ حال الصحابة لا تُقاس بحال غيرهم. قال: (ولا نرى في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكونوا يرون في أنفسهم). أقول: المدار على الحجة، فإذا ثبت عندنا أن أحدهم كان يرى في صاحبه أمرًا فليس لنا أن نوافقه إذا لم نعلم له حجة، فكيف إذا ما قامت الحجةُ على خلافه؟ وأوضح من ذلك: أنه ليس لنا أن نتَّهم غير صاحبه بمثل تلك التهمة ما دام لا حجة لنا على ذلك. فأما الاستدلال على الإمكان فعلماء السنة لم ينفوا الإمكان إلا فيما قام عليه دليلٌ شرعيّ كالتبشير بالجنة. والدليل الشرعي لا يعارضه ما دونه. [ص 206] قال: (وهم تقاذفوا التُّهَم الخطيرة، وكان منهم فريق تراموا بالكفر والفسوق، فقد رُوِي أن عمار بن ياسر ... ). أقول: أما الترامي بالفسوق بمعنى ارتكاب بعض الكبائر فقد كان بعض _________ (1) (ص 373 ــ 376).
(12/388)
ذلك وعُلِم حُكمه مِمَّا مرَّ، وأما الترامي بالكفر فلم يثبت، بل الثابت خلافه. وما ذَكَر أنه رُوي عن عمَّار وابن مسعود لم يثبت، وعلى فرض أنه ثبت عن بعضهم كلمة يظهر منها ذاك المعنى، فهي فلتة لسان عند ثورة غضب، لا يجوز أخذها على ظاهرها لشذوذها ونفي جمهور الصحابة لما يوهمه (1) ظاهرها، فكيف وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبشير عثمان بالشهادة والجنة؟ ثم قال ص 326: (الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء، فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما يروقنا، وأن نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا ... وما ينبغي كذلك أن نصدق كل ما يُرْوَى أو نكذب كل ما يُرْوَى، وإنما الرواة أنفسهم ناس من الناس يجوز عليهم الخطأ والصواب، ويجوز عليهم الصدق والكذب، والقدماء أنفسهم قد عرفوا ذلك وتهيئوا له ووضعوا قواعد ... فليس علينا بأس من أن نسلك الطريق التي سلكوها، وأن نضيفَ إلى القواعد التي عرفوها ما عرف المحدّثون من القواعد الجديدة ... ). أقول: الرواة كما وصف، ولكن لا يجهل عاقل أن أحوالهم مختلفة: فمنهم المغفَّل المتساهل الذي يبني على التوهُّم فيكثر غلطُه، ومنهم الضابط المتقن المتثبِّت الذي يندر جدًّا أن يخطئ، وليس كلّ ما يصلح مستندًا للتوقف عن خبر الأول أو ردّه يصلح لمثل ذلك في خبر الثاني. فأما الصدق وتعمّد الكذب ولا سيما في الحديث النبوي فالأمر فيهما أعظم، وللكذب دواعٍ وموانع، والناس متفاوتون جدًّا في الانقياد للدواعي أو الموانع، فإني أعرف من الأغنياء الوجهاء من يساوم بالسلعة الخفيفة، فيقول له الدكَّاني: ثمنها ثلاثة قروش، فيقول كاذبًا: إن صاحب ذاك الدكَّان يبيعها بقرشين؛ يكذب هذه الكذبة طمعًا في أن يغرّ الدكَّانيَّ فيعطيه إياها بقرشين، مع علمه _________ (1) (ط): «يزعمه» والظاهر أنه تحريف عما أثبتّ.
(12/389)
أن كذبه قد ينكشف عن قُرب، بل إذا نجح فأخذها بقرشين، قد يذهب فيخبر بالقصة متمدِّحًا بكذبه. وأعْرِفُ من المُقلّين من لا تسمح له نفسه بمثل هذا الكذب ولو ظنَّ أنه يتحصَّل به على مقدار كبير. فأما الحديث النبوي فالأمر فيه أشدّ، والمتديّنون من الكذب فيه أبعد وأبعد. فإن قيل: قد ذكر أهلُ الحديث أنّ جماعةً صالحين كانوا يكذبون في الحديث عمدًا في المواعظ ونحوها [ص 207] وذكروا في الهيثم بن عدي ــ وهو ممن يكذبون ــ أنه كان يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب. قلت: أما صالحٌ يتعمَّد الكذب فلا يكون إلا شديد الجهل بالدين، ومثل هذا نادر لا يسوغ أن يُقاس به من عُرِف بالدين والعلم والصدق، ولو ساغ هذا لساغ أن يتَّهم كلُّ إنسان بكلِّ نقيصةٍ عُرفت لغيره، ولو عُرف بأنه من أبعد الناس عنها. فأما الهيثم بن عدي؛ فتلك الحكاية إنما حكاها عباس الدّوري قال: «حدثنا بعضُ أصحابنا قال: قالت جاريةُ الهيثم بن عدي: كان مولاي ... » (1). والجارية لا يُعرَف حالها، والمُخْبِرُ عنها لا يُدرى مَن هو وما حاله، وإنما ذكروا هذه الحكاية على أنها نادرة مستطرفة؛ لأن مثل هذا نادر كما مرَّ، وإنما استندوا في تكذيب الهيثم إلى دلائل ثابتة. هذا وعلماء السنة لا يستندون في التصديق والتكذيب إلى أنَّ ذاك يروقهم وهذا لا يعجبهم، ولكنهم ينظرون إلى الرواة؛ فمَن كان من أهل الصدق والأمانة والثقة لا يكذِّبونه، غير أنهم إذا قام الدليل على خطئه _________ (1) انظر «تاريخ بغداد»: (14/ 53)، و «السير»: (10/ 104).
(12/390)
خطَّأوه، سواء كان ذلك فيما يسوؤهم أم فيما يعجبهم. وأما مَن كان كذَّابًا أو متَّهمًا أو مغفَّلًا أو مجهولًا أو نحو ذلك فإنهم لا يحتجّون بروايته. ومن هؤلاء جماعة كثيرة (1) قد رووا عنهم في كتب التفسير، وكثير من كتب الحديث والسِّيَر والمناقب والفضائل والتاريخ والأدب، وليست روايتهم عنهم تصديقًا لهم وإنما هي على سبيل التقييد والاعتبار، فإذا جاء دور النقد جَرَوا على ما عرفوه، فما ثبت مما (2) رواه هؤلاء برواية غيرهم من أهل الصدق قبلوه، وما لم يثبت فإنْ كان مما يقرُبُ وقوعه لم يروا بذكره بأسًا وإن لم يكن حجة، وإن كان مما يُسْتَبعْد أنكروه، فإن اشتدَّ البُعْد كذَّبوه. وهذا التفصيل هو الحقّ المعقول، ومعلوم أنّ الكذوب قد يصدُق، فإذا صدَّقناه حيث عرفنا صدقه واستأنسنا بخبره حيث يقرُب صدقُه لم يكن علينا ــ بل لم يكن لنا ــ أن نصدّقه حيث لم يتبيَّنْ لنا صدقه، فكيف إذا تبيَّنَ لنا كذبه؟ أما القواعد النظرية قديمها وحديثها فحقُّها أن تضاف ــ كما أشار إليه الدكتور ــ إلى القواعد السَّنَدية بعد دراسة الناقد لهذه دراسة وافية وإيفائها حقَّها. فأما الاقتصار على القواعد النظرية أو ترجيح غير القطعي الحقيقي منها على رواية الثقات الأثبات، أو الاستدلال به على صدق الحكايات الواهية فضرره أكثر من نفعه. كثيرًا ما يبلغنا حدوثُ حادثةٍ في عصرنا هذا فنرى صحتها؛ لأننا نرى أن الأسباب تستدعيها وتكاد توجب وقوعَها، ثم يتبيّن أنها لم تقع. وتبلغنا واقعة فنرتاب فيها ونكاد نجزم بتكذيبها، ثم يتبيَّن أنها وقعت. _________ (1) (ط): «كثير». (2) (ط): «عما».
(12/391)
[ص 208] فإن قيل: إنما ذلك لخطئنا في اعتقاد أن هذا سبب أو مانع، أو في تقدير قوَّته، أو لجهلنا بأسباب وموانع أخرى أقوى مما عرفناه؟ قلت: فإذا كان هذا جهلنا بزماننا ومكاننا وبيئتنا، فكيف بما مضى عليه بضعة عشر قرنًا؟ ومما يجب التنبّه له أنه قد يثبت من جهة السَّنَد نصٌّ يستنكره بعضُ النقَّاد، وحقّ مثل هذا أن لا يبادَرَ إلى ردِّه، بل يُمعنَ النظرُ في أمرين: الأول: معنى النص، فقد يكون المراد منه معنًى غير الذي استُنْكِرَ. الثاني: سبب الاستنكار، فكثيرًا ما يجيء الخلل من قِبَله. وقد تقتضي (1) القرائنُ وقوعَ أمر سكتتْ عنه الروايات الصحيحة، وتَرِدُ رواية واهية السند فيها ما يؤدِّي ذاك الأمر في الجملة، فيبادر الناقد إلى تثبيتها، وفي هذا ما فيه. ألا ترى أنه قد يجيئك شخص ضَرَبَه آخر فتسأله: لِمَ ضَرَبك؟ فيقول: بلا سبب، فترتاب في صدقه، فإذا جاء خصمه فقال: إنما ضربته لأنه سبَّني سبًّا شنيعًا، قال: كيت وكيت، ظننتَ أنه صادق في الجملة، أي أنه قد كان سبٌّ، ولكنه قد يكون دون ما ذكره الضاربُ بكثير. فالصواب أن تذكر الرواية وأنها واهية السند، ثم يقال: ولكن القرائن تقتضي أنه قد كان شيء من ذاك القبيل. هذا هو مقتضى التحقيق والأمانة. ثم قال أبو ريَّة ص 328: (طالب الحديث بغير فقه ... ). أقول: قال أبو ريَّة ص 46: وروى البخاري ومسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مَثَل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكان منها أجادب _________ (1) (ط): «تقضي»، وستأتي على الصواب في آخر الفقرة.
(12/392)
أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسكُ ماءً ولا تُنبت كلأً» (1). إذا طُبّق هذا الحديث على أهل الحديث فثقاتهم كلّهم داخلون في الفرقتين الأوليين المحمودَتَين، راجع «فتح الباري» (161: 1) (2). وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الترمذي وغيره: «نضَّر الله امرءًا سمع منَّا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه» (3). فشمل الدعاء كما ترى من حَفِظ وبَلَّغ وإن لم يكن فقيهًا. وذَكَر عن الثوري: «لو كان الحديث خيرًا لذهب كما ذهب الخير». أقول: لم يقصد نفيَ الخير عن الحديث نفسه، كيف والقرآن خير كلُّه ولم يذهب، ولا عن طلب الحديث جملة [ص 209]، فإن المتواتر المعلوم قطعًا عن الثوري خلاف ذلك، وإنما قَصَد أنّ كثيرًا من الناس يطلبون الحديث لغير وجه الله، وذلك أنه رأى أن الرغبة في الخير المحض لم تزل تَقِلّ؛ كانت في الصحابة أكثر منها في التابعين، وفي كبار التابعين أكثر منها في صغارهم، وهلُمَّ جرًّا، وفي جانب ذلك رأى رغبةَ الناس في طلب الحديث لم تنقص، فرأى أنها ليست خيرًا على الإطلاق، يعني أن كثيرًا ممن _________ (1) أخرجه البخاري (79) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (2) (1/ 198). (3) أخرجه أحمد (21590)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230) وغيرهم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان (680)، وله شواهد من حديث جماعة كثيرة من الصحابة. انظر «موافقة الخُبر الخَبر»: (1/ 363 ــ 393).
(12/393)
يطلب الحديث يطلبه ليُذْكَر ويَشْتَهِر ويقصده الناس ويجتمعوا حوله ويعظِّموه. وأقول: إنّ العليم الخبير أحكم الحاكمين كما شرع الجهاد في سبيله لإظهار دينه، ومع ذلك يسّر ما يُرَغِّب فيه من جهة الدنيا، فكذلك شَرَع حفظَ السنّة وتبليغها، ومع ذلك يسَّر ما يرغِّب في ذلك من جهة الدنيا؛ لأنه كما يحصل بالجهاد عن الإسلام وإن قلَّ ثواب بعض المجاهدين، فكذلك يحصل بطلب الحديث وحفظه حفظ الدين ونشره وإن قَلَّ أجر بعض الطالبين. وذكر أبو ريَّة ص 330 كلمات لبعض المحدِّثين في ذمِّ أهل الحديث يَعْنُون طلابه، التقطها من كتاب «العلم» لابن عبد البر، وقد قال ابن عبد البر هناك (125: 2) (1): «وهذا كلامٌ خرج على ضَجَر، وفيه لأهل العلم نظر». وإيضاحُ ذلك: أنَّ الرغبةَ في طلب الحديث كانت في القرون الأولى شديدة، وكان إذا اشتهر شيخٌ ثقة معمّر مكثر من الحديث قَصَده الطلابُ من آفاق الدنيا، منهم من يسافر الشهر والشهرين وأكثر ليدرك ذاك الشيخ، وأكثر هؤلاء الطلاب شُبَّان، ومنهم مَنْ لا سَعَة له من المال، إنما يستطيع أن يكون معه من النَّفَقة قدرٌ محدود يتقوّت منه حتى يرجع، أو يلقى تاجرًا من أهل بلده يأخذ منه الشيء، وكان منهم مَنْ كُلُّ نفقته جِراب يحمله، فيه خبزٌ جافّ يتقوَّت كلَّ يومٍ منه كسرة يبلّها بالماء ويجتزئ بها، ولهم في ذلك قَصَص عجيبة (2). _________ (1) (2/ 1016). (2) انظر طائفة منها في «تقدمة الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم، وفي كتاب «الرحلة في طلب الحديث» للخطيب.
(12/394)
فكان يجتمع لدى الشيخ جماعةٌ من هؤلاء، كلّهم حريص على السماع منه، وعلى الاستكثار ما أمكنه في أقلِّ وقت، إذ لا يمكنه إطالة البقاء هناك لقلَّة ما بيده من النفقة، ولأنه يخاف أن يموت الشيخُ قبل أن يستكثر من السماع منه، ولأنه قد يكون شيوخ آخرون في بلدان أخرى يريد أن يدركهم ويأخذ عنهم. فكان هؤلاء الشباب يتكاثرون على الشيخ ويُلحُّون عليه ويُبْرِمونه، فيتعب ويضيق بهم ذرعًا، وهو إنسان له حاجات، وأوقات يجب أن يستريح فيها، وهم لا يَدَعُونه، ومع ذلك فكثير منهم لا يرضون أن يأخذوا من الشيخ سلامًا بسلام، بل يريدون اختباره ليتبيَّن لهم أضابط هو أم لا؟ فيورِدون عليه بعض الأسئلة التي هي مظنَّة الغلط ويناقشونه في [ص 210] بعض الأحاديث، ويطالبونه بأن يُبرز أصلَ سماعه. وإذا عثروا للشيخ على خطأ أو سقط أو استنكروا شيئًا من حاله، خرجوا يتناقلون ذلك بقصد النصيحة، فكان بعض أولئك الشيوخ إذا ألحَّ عليه الطلبة وضاق بهم ذرعًا أطلق تلك الكلمات: «أنتم سخنة عين. لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربًا. ما رأيت علمًا أشرف ولا أهلًا أسخف من أهل الحديث. صرت اليوم ليس شيء أبغض إليّ من أن أرى واحدًا منهم. إن هذا الحديث يصدّكم عن ذِكْر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون. لأنا أشدُّ خوفًا منهم من الفساق»؛ لأنهم يبحثون عن خطئه وزلله ويشيعون ذلك. والغريب أنَّ أولئك الطلاب لم يكونوا يَدَعون هذه الكلمات تذهب، بل يكتبونها ويروونها فيما يروون، فيذكرها من يريد عتاب الطلاب وتأديبهم كابن عبد البر، ويهتبلها أبو ريَّة ليعيب بها الحديثَ وأهلَه جملةً.
(12/395)
فأما قول الثوري: «أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة، وَدِدْتُ أني خرجتُ منه كفافًا لا عليَّ ولا لي» (1). فهذا كلام المؤمن الشديد الخشية، تتضاءل عنده حسناتُه الكثيرة العظيمة، ويتعاظم في نظره ما يخشى أن يكون عَرَضَ له من تقصير أو خالطه من عُجْب، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو هذا فيما كان له بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمل (2)، وإنما كان عمله ذلك جهادًا في سبيل الله، وإعلاء دينه، وتمكين قواعده، وإقامة العدل التام، وغير ذلك من الأعمال الفاضلة. وقد كان فيها كلها أبعد الناس عن حظِّ النفس، بل كان يبالغ في هضم نفسه وأهل بيته. وكلُّ عارفٍ بالإيمان وشأنه يعرف لكلمة عمر حقَّها، ولكن الرافضة عكسوا الوضع، وقفاهم أبو ريَّة في كلمة الثوري وما يشبهها! وعلَّق أبو ريَّة على كلمة: «لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب الخ» ما تقدَّم تفنيده في مواضع. _________ (1) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم»: (2/ 1025). (2) أخرجه أحمد في «الزهد» (ص 124)، وبنحوه في «الرقة والبكاء» (145) لابن أبي الدنيا.
(12/396)
خاتمة أبي رية قال ص 331: (خاتمة ... ). ذكر عبارات لابن خَلْدون تتلخص في أمور: الأول: ذَكَر من الدواعي إلى الكذب: التشيُّع للمذاهب، والتزلّف إلى ذوي المراتب. فأقول: قد عرف المحدّثون هذا وعدّةَ أسباب أخرى أشاروا إليها في البواعث على الوضع، وإنما الفرق بينهم وبين بعض مَنْ يتعاطى النقدَ في عصرنا أنَّ المحدّثين علموا أنّ هذين الداعيين مثلًا لا يدعوان إلى الكذب لأنه كذب، وإنما يدعو الأول إلى ذِكْر ما يؤيّد المذهب، والثاني إلى ذكر ما يرضي ذا المرتبة، [ص 211] وإنَّ كُلًّا من التأييد والإرضاء ليس وقفًا على الكذب، بل يمكن أن يقع بما هو صدق. إذن فالمخبر بما يؤيّد مذهبه أو يرضي رئيسه يجوز ــ مع صرف النظر عن الأمور الأخرى ــ أن يكون صادقًا وأن يكون كاذبًا، فالحكم بأحدهما لوجود الداعي غير سائغ، بل يجب النظر في الأمور الأخرى ومنها الموانع، فإذا وُجِد داعٍ ومانع وانحصر النظرُ فيهما تعيَّن الأخذُ بالأقوى، وكلّ من الدواعي والموانع تتفاوت قُوَّتُه في الأفراد تفاوتًا عظيمًا، فلابد من مراعاة ذلك. ومن تدبَّر هذا علم أنّ الحقَّ لا ريب فيه، وأنه يرى شواهده في نفسه وفي مَنْ حواليه، وعلم أن ما يسلكه بعضُ متعاطي النقد من أهل العصر في اتهام بعض أفاضل المتقدِّمين بالكذب لوجود بعض الدواعي عندهم في الجملة تهوُّرٌ مؤسف. أمّا أئمة الحديث فقد عرفوا الرواةَ وخَبَروهم، وعرفوا
(12/397)
أحوالهم وأخبارهم، واعتبروا مروياتهم كما تقدم في مواضع منها (ص 55 و 62) (1). فمن وثّقه المتثبِّتون منهم فمحاولة بعضِ العصريين اتهامه لأنه كان ــ مثلًا ــ يتشيّع أو يخالط بني أمية أو نحو ذلك لغوٌ لا يرتضيه العارف البتة. هذا حُكم يقبله علماء السنة لهم وعليهم، ألا ترى أن مسلمًا صحَّح حديث أبي معاوية عن الأعمش عن عديّ بن ثابت عن زِرٍّ قال: «قال عَلِيّ: والذي فَلَق الحَبّة وبرأ النَّسَمة إنه لَعَهد النبيّ الأميّ - صلى الله عليه وسلم - إليّ: أن لا يُحبَّني إلا مؤمن ولا يبغضَني إلامنافق» (2). ولا أعلم أحدًا طعن فيه، مع أن عديَّ بن ثابت معروف بالتشيُّع بل وصفه بعضُهم بالغلوِّ فيه، وكان إمامَ مسجد الشيعة وقاصَّهم، والبخاريّ وإن لم يخرج هذا الحديث فقد احتجَّ بعدي بن ثابت في عدة أحاديث، ولو كان يتَّهمه بكذبٍ ما في الرواية لما احتجَّ به البتة (3). الأمر الثاني: ذَكَر من أسباب الكذب خطأً: أن يخطئ المخبر في معرفة حقيقة ما عاين أو سمع، وينقل الخبر بحسب ما اعتقد. أقول: قد عرف المحدّثون هذا، ولذلك شرطوا في الراوي أن يكون ضابطًا متثبتًا عارفًا بمعاني الكلام إذا روى بالمعنى، ويختبرون حاله في ذلك باعتبار حديثه كما تقدم (ص 55 و 62) (4) وغيرهما. الأمر الثالث: ذَكَر من أسباب تلقّي الراوي الصدوق خبر الكاذب ونقله له: حُسْن الظن بالمخبر، وموافقة الخَبَر لرغبة الراوي وضعف تمحيصه. _________ (1) (ص 108 ــ 109 و 121 ــ 122). (2) أخرجه مسلم (78). (3) ترجمته في «تهذيب التهذيب»: (7/ 165 ــ 166). (4) (ص 108 ــ 109 و 121 ــ 122).
(12/398)
أقول: وهذا قد عرفه أئمة الحديث، ولذلك لم يَعُدُّوا رواية الثقة لخبر عن رجل تصحيحًا ولا توثيقًا. [ص 212] الأمر الرابع: ذَكَر أن الحكم بصحة الخبر لا ينبغي أن يُكتفى فيه بثقة الراوي، بل ينبغي أن يتقدم ذلك النظر في طبيعة الخبر وعَرْضه على أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ويقاس الغائب على الشاهد، فإذا عرف أنه ممكن نظر في حال الرواة، قال: «أما إذا كان مستحيلًا فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح». أقول: وهذا قد عرفه الأئمة، وقدَّروا كلَّ شيء من هذا قَدْرَه. راجع (ص 191) (1). وقال ص 334 عن ابن خلدون: (فأبو حنيفة رضي الله عنه يقال: بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثًا). أقول: هذه مجازفة قبيحة وتفريط شائن، أفما كان ابن خلدون يجد عالمًا يسأله؟ الأحاديث المروية عن أبي حنيفة تُعدّ بالمئات، ومع ذلك لم يُرْو عنه إلا بعض ما عنده، لأنه لم يتصدَّ لإسماع الحديث. راجع (ص 34) (2). قال: (ومالك رحمه الله إنما صحَّ عنده ما في كتاب الموطأ). أقول: وهذه مجازفة أخرى، لم يقصد مالك أن يجمع حديثَه كلَّه ولا الصحيح منه في «الموطأ»، إنما ذكر في «الموطأ» ما رأى حاجةَ جمهورِ _________ (1) (ص 360 ــ 362). (2) (ص 67 ــ 68).
(12/399)
الناس داعيةً إليه. قال: (وغايتها ثلاث مائة حديث أو نحوها). أقول: هذه مجازفة ثالثة، انظر كتاب أبي ريَّة ص 271 حيث ذكر عن الأبهري: أنها ستمائة، فأما ما ذكره هناك أن «الموطأ» كان عشرة آلاف حديث فلم يزل مالك ينقص منه، فقد فنَّده ابن حزم في «أحكامه» (137: 2) (1). وقال أيضًا: (إن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا، ولا كان الدين يُؤخذ عن جميعهم) (2). أقول: قال الإمام الشافعي: «أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كلّهم ممن له أن يقول في العلم». راجع ما تقدم (ص 42) (3). ثم قال أبو ريَّة ص 334 - 338: (أعظم ما رزئ به الإسلام. قال الأستاذ الإمام محمد عبده ... ) فذكر أمورًا قد تقدَّم النظر فيها. وذَكَر ص 336 قول يحيى القطان: «ما رأيتُ الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث». ففسَّر الصالحين بالمرائين، والمعروف عند أهل الحديث أنهم أُناس استغرقوا في العبادة والتقشُّف وغَفَلوا عن ضبط _________ (1) (2/ 136 ــ 137). وانظر مقدمة د. محمد مصطفى الأعظمي لطبعته من «الموطأ»: (1/ 96 ــ 118) فقد فنّد هذا القول وبسط الردّ عليه، وفاته كلام ابن حزم على أهميته. (2) علّق أبو ريَّة على هذا قوله: «من أجل ذلك لم يأخذ أبو حنيفة بما جاء عن أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة ... » وقد تقدم إبطال هذا ص 126 [242]. [المؤلف]. (3) (ص 81) وسبق عزو النص إلى «الأم».
(12/400)
الحديث، فصاروا يُحدِّثون على التوهُّم، كأبان بن أبي عياش، ويزيد بن أبان الرَّقاشي، وصالح المرّي وغيرهم. وفي آخر ص 337: (أما أخبار الآحاد فإنما يجب الإيمان بما ورد فيها على من بلغته وصدّق بصحة روايتها). أقول: ومَنْ لم يصدّق فمدار الحكم فيه على المانع له من التصديق، فمن الموانع ما لا يمنع إلا الزائغ، وراجع (ص 56) (1). [ص 213] وقال ص 338: (هل كل من وثَّقه جمهور المتقدمين يكون ثقة؟ ) وذكر في هذه الصفحة إلى ص 344: كلمات لصاحب «المنار»، منها كلام في كعب الأحبار ووهب بن منبه، وقد تقدّم النظر في ذلك (ص 67 - 70) (2) وغيرها. ومنها في نقد المتون (ومن تعرض له منهم كالإمام أحمد والبخاري لم يُوَفِّه حقه كما تراه فيما يورده الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة له ولغيره). أقول: من أنعم النظر في الرواة والمرويات ومساعي أئمة الحديث في الجمع والتنقيب والبحث والتخليص والتمحيص عَرَف كيف يثني عليهم، وأبقى الله لمن بعدهم ما يتمّ به الابتلاء وتُنال به الدرجات العُلَى، ويمتاز هؤلاء عن هؤلاء. وقد أسلفتُ (ص 161 و 188) (3): أن الاستشكال لا يستلزم البطلان، بدليل استشكال كثيرٍ مِن الناس كثيرًا من آيات القرآن، وذكرتُ في (ص 172) (4): أن الخلل في ظن البطلان أكثر جدًّا من الخلل _________ (1) (ص 109 ــ 110). (2) (ص 132 ــ 139). (3) (ص 307 و 356). (4) (ص 327).
(12/401)
في الأحاديث التي يصححها الأئمة المتثبِّتون. قال: (ومنه ما كان يتعذّر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع؛ لظاهر حديث أبي ذر عند الشيخين وغيرهما: «أين تكون الشمسُ بعد غروبها»، فقد كان المتبادر منه للمتقدّمين أن الشمس تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها مدة الليل، إذ تكون تحت العرش تنتظر الإذن لها بالطلوع ثانية). أقول: للحديث روايات: إحداها: رواية وكيع عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] قال: «مستقرّها تحت العرش» أخرجاه في «الصحيحين» (1). الثانية: في «الصحيحين» (2) أيضًا من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: «دخلتُ المسجدَ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فلما غابت الشمس قال: «يا أبا ذرّ هل تدري أين تذهب هذه؟ » قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذَن لها. وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلُع من مغربها»، قال: ثم قرأ في قراءة عبد الله: (وذلك مستقرّ لها) لا أدري من القارئ؟ ولعله إبراهيم التيمي. وظاهر اختلاف سياق الروايتين أنهما حديثان كلٌّ منهما مستقلّ عن الآخر، وليس في المرفوع من هاتين الروايتين ذِكْر أنها حين تغرب تكون تحت العرش أو في مستقرّها. _________ (1) البخاري (4802)، ومسلم (159). (2) البخاري (4803)، ومسلم (159).
(12/402)
وهناك رواية ثالثة للبخاري (1) عن الفريابي عن الثوري عن الأعمش بنحو رواية أبي معاوية إلا أنه قال: «تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن ... ». ونحوه بزيادة في روايةٍ لمسلم (2) من وجهٍ آخر عن إبراهيم التيمي وقال: «حتى تنتهي إلى مستقرِّها تحت العرش فتخرّ ساجدة ... ». فقد يقال: لعلّ أصل الثابت [ص 214] عن أبي ذر الحديثان الأولان، ولكن إبراهيم التيميّ ظنَّ اتفاق معناهما فجمع بينهما في الرواية الثالثة. وقد يقال: بل هو حديث واحد اختصره وكيع على وجه وأبو معاوية على آخر. فالله أعلم. هذا، وجَرْي الشمس هو ــ والله أعلم ــ هذا الذي يحسّه الناس، فإنه على كلِّ حال هو الذي تُطْلِق عليه العرب: (جري الشمس) تدبر (3)، وبحسب ذلك يُفهم الحديث. وقال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]. ومهما يكن هذا السجود فإنه يدل على الانقياد التام، والشمس منقادة لأمر ربها أبدًا، وانحطاطها في رأي العين إلى أسفل أجدر بأن يسمَّى سجودًا، والمأمور يعمل إذا انقاد، وشأنه الانقياد دائمًا، فشأنه عند توقّع أن يُؤمر بتركه أن يستأذن. فأما طلوعها آخر الزمان من مغربها، فرأيت لبعض العصريين (4) كلامًا _________ (1) (3199). (2) (159). (3) كذا في (ط). (4) لم أتبيَّن مَن هو.
(12/403)
سأذكره ليُنْظَر فيه: ذكر أنه يحتمل أن يُحْدِث الله عز وجل ما يعوق هذه الحركة المحسوسة الدائرة بين الشمس والأرض، فتبطئ تدريجًا كما يُشْعِر به ما جاء في بعض الأخبار: أن الأيام تطول آخر الزمان، حتى تصل إلى درجة استقرار، ويكون عروض هذا الاستقرار بعد غروبها عن هذا الوجه من الأرض الذي كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تنعكس الحركة فتطلع على أهل هذا الوجه من مغربهم. قال: وذاك الموضع (1) الذي سوف تستقر فيه مُعيَّن بالنسبة إلى موضعها من الأرض، فيصح أن يكون هو المستقر. قال: وكان الظاهر ــ والله أعلم ــ أن يقال: «تحت الأرض» أي بالنظر إلى أهل الوجه، لكنه عَدَل إلى «تحت العرش» لأوجه: منها: كراهية إثارة ما يستغربه العرب حينئذ من هيأة الخلق مما يؤدي إلى شكِّ وتساؤل واشتغال الأفكار بما ليس من مهمَّات الدين التي بُعِث لها الرسل، وقد ذكر بعضُهم نحو هذا في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. ومنها: أنه وإن كان تحت الأرض عند أهل هذا الوجه فهو فوقها عند غيرهم، أما العرش فذاك الموضع والعالم كله تحته، راجع «الرسالة العرشية» (2) لشيخ الإسلام ابن تيمية. ومنها: أنه لما ذكر أنه موضع سجودها كانت نسبة السجود إلى كونه تحت العرش أَوْلَى. _________ (1) (ط): «الموضوع» خطأ. (2) (ص 33 وما بعدها).
(12/404)
أقول: فلم يلزم مما في الرواية الثالثة من الزيادة غيبوبة الشمس عن الأرض كلها، ولا استقرارها عن الحركة [ص 215] كل يوم بذاك الموضع الذي كُتِب عليها أن تستقر فيه متى شاء ربُّها سبحانه. * * * *
(12/405)
بحث مع صاحب «المنار» قال ص 339: ( ... بعد العلم القطعي لا مندوحة لنا عن أحد أمرين: إمّا الطعن في سند الحديث وإن صححوه؛ لأن رواية ما يخالف القطعي من علامات الوضع عند المحدّثين أنفسهم. وأقرب تصوير للطعن فيما اشتهر رواته بالصدق والضبط: أن يكون الصحابي أو التابعي منهم سمعه مِنْ مِثل كعب الأحبار. ونحن نعلم أنّ أبا هريرة روى عن كعب الأحبار، وكان يصدِّقه، ونرى الكثير من أحاديثه عَنْعنة (1) لم يصرح بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن القطعيِّ أنه لم يسمع الكثير منها من لسانه - صلى الله عليه وسلم - لتأخُّر إسلامه، فمن القريب أن يكون سمع بعضها من كعب الأحبار، ومرسل الصحابيّ إنما يكون حجة إذا سمعه من صحابيٍّ مثله، ومثل هذا يقال في ابن عباس وغيره ممن روى عن كعب الأحبار وكان يصدِّقه. وإما تأويل الحديث بأنه مرويّ بالمعنى، وأن بعض رواته لم يفهم المراد منه فعبَّر بما فهمه ... ). أقول: عليه في هذا مؤاخذات: الأولى: أن الأمرين اللذين ذكر أنه لا مندوحة عنهما، وهما الطعن والتأويل لا يتعيّنان، بل بقي ثالث وهو التوقّف، ويتعيَّن حيث لا يتهيَّأ للنّاقد تأويل مقبول ولا طعن معقول. الثانية: أنه قدَّم الطعنَ على التأويل، والواجب ما دام النظر في حديثٍ ثابت في «الصحيحين» تقديم التأويل. الثالثة: قوله: «إن مخالفة القطعيَّ من علامات الوضع»، محلُّه إذا تحققت المخالفة، ولم يكن هناك احتمال للتأويل البتة. _________ (1) كذا ولعلها: «معنعنة».
(12/406)
الرابعة: الطعن المعقول هو الذي يتحرَّى أضعف نقطة في السند، فما باله عَمَد إلى أقوى مَنْ فيه وهو الصحابي؟ وهو أبو ذرّ الغفاري، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أظلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء مِنْ ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر» (1). ثبتَ مِن حديث أمير المؤمنين عليّ وعدد من الصحابة. الخامسة: أن أبا ذر لم يُنقل عنه إصغاء إلى كعب، ولا إلى مَن هو مثل كعب، بل جاء أنَّ كعبًا قال في مجلس عثمان: ما أُدِّيَتْ زكاتُه فليس بكنز. فضربه أبو ذرّ بعصاه، وقال: ما أنت وهذا يا ابن اليهودية؟ أو كما قال. وفي «المسند» (162: 5) (2) عنه: «لقد تركنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما يتقلَّب في السماء طائر إلا ذكرنا منه علمًا». وفي البخاري (3) عنه أنه قال في زمان عثمان: «لا والله لا أسألهم دُنْيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عزَّ وجل». أفتراه يستغني عن إخوانه مِنْ جِلَّة الصحابة هذا الاستغناء ثم يأخذ عن كعب أو نحوه؟ [ص 216] السادسة: أن مَنْ سمع مِنْ الصحابة من كعب لم يسمعوا منه إلا بعض ما يخبر به عن صحف أهل الكتاب، ورواية أبي هريرة عن كعب قليلة وكلها من هذا القبيل، وراجع (ص 68 و 73) (4). السابعة: لم يذكر دليلًا على دعواه أنَّ أبا هريرة وابن عباس كانا يُصدِّقان كعبًا، ولا أعلم أنا دليلًا على ذلك، أما إخبارهما عنه ببعض ما يُخْبِر به عن _________ (1) تقدم تخريجه (ص 206 ــ 207). (2) (21439). (3) (1408)، وهو في مسلم أيضًا (992). (4) (ص 132 و 139).
(12/407)
صُحُف أهل الكتاب فغايته أنهما كانا يميلان إلى عدم كذبه. الثامنة: أن الذي عُرِف للصحابة في قول أحدهم: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... » أنه إن لم يكن سماعًا له من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سماعٌ له من صحابي آخر ثابت الصحبة كما تقدم (ص 115) (1). وجميع ما ثبت عنهم جملةً وتفصيلًا مما فيه ذِكْر إرسالهم إنما هو هذا، و (2) الدليل الصريح الذي استدلوا به على أنَّ أبا هريرة قد يرسل: إنما هو حديثه في مَنْ أصبح جُنبًا فلا يصبح ... (3)، وقد بيّن أنه سمعه من صحابيين فاضِلَين وهما أسامة بن زيد والفضل بن عباس، مع أنه قلّما كان يذكر الحديثَ بل كان الغالب من حاله أن يفتي بذلك فتوى ولا يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يُعْلَم أحدٌ من الصحابة قال في حديث: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... » ثم بيّن أو ذَكَر مرةً أخرى أو تبيَّن بوجه من الوجوه أنه عنده عن تابعيّ عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. بل يعزّ جدًّا أَخْذ الصحابي عن تابعي عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما توجد أمثلة يسيرة جدًّا لصغار الصحابة يُسْنِدونها على وجهها، راجع (ص 156 - 157) (4). وكان الصحابي إذا قال: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... » كان محتملًا عند السامعين للوجهين كما مرَّ، فأما أن يكون إنما سمعه مِن تابعيّ عن صحابيّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن عندهم محتملًا، وإذ لم يكن محتملًا فارتكاب الصحابي إياه _________ (1) (ص 222 ــ 223). (2) (ط): «أو». (3) تقدم (ص 226). (4) (ص 298 ــ 301).
(12/408)
كذب، وقد برَّأهم الله تعالى عن الكذب. وأبعد من ذلك أن يكون إنما سمعه من تابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبعد وأبعد أن يكون التابعي مثل كعب. التاسعة: زعم ــ مع الأسف ــ أن هذا أقرب تصوير للطعن، وهو كما ترى أبعد تصوير، بل هو محض الباطل، ولو احتجتُ إلى الطعن في سند الخبر لأريتُك كيف يكون الطعن المعقول بشواهده من كلام الأئمة كابن المديني والبخاري وأبي حاتم وغيرهم، فإنَّ لهم عللًا ليست كلٌّ منها قادحة حيث وقعت، ولكنها تقدح إذا وقعت في خبر تحقَّق أنه منكر. وهذا من أسرار الفن (1). العاشرة: أن هذا الطعن يترتّب عليه من المفاسد مالا يعلمه إلا الله تعالى، وهي المَكِيدة التي مرَّت الإشارة إليها (ص 201) (2)، وإيضاحها قبل ذلك، وكلّ من التأويل ولو مستكرهًا والوقف أسلم من هذا الطعن [ص 217]. ولو غير السيد رشيد رضا قاله لذكرت قصة المرأة التي اشتكى طفلُها ولم تعلم ما شكواه، غير أنها نظرت إلى يافوخه يضطرب ــ كما هو شأن الأطفال ــ فأخذت سكينًا وبطَّت يافوخَه كما يُصنع بالدّمل ... إلى آخر ما جرى. الحادية عشرة: قوله في أبي هريرة: «من القطعي ... لتأخر إسلامه». قد تقدم رده (ص 156) (3). _________ (1) انظر مقدمة تحقيق «الفوائد المجموعة» (ص 8 ــ 9) للمؤلف. (2) (ص 380). وانظر ما سبق (142 ــ 150 و 161 ــ 177 و 209 ــ 214 و 300 و 325 ــ 327). (3) (ص 298 ــ 299).
(12/409)
الثانية عشرة: لا يخفى حال ما ذكره أخيرًا وسمَّاه تأويلًا. وذكر ص 340 الحكايات عن كعب ووهب وقال: (لم يكن يحيى بن معين وأبو حاتم وابنه وأمثالهم يعرفون ما يصح من ذلك وما لا يصح، لعدم اطلاعهم على تلك الكتب). أقول: في هذا أمور: الأول: أن الأئمة كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، فبذلك كانوا يعرفون حال كعب ووهب فيما نسباه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا وثّقوهما فمعنى ذلك أنهم عرفوا صِدْقهما في هذا الباب، وهذا هو الذي يهمُّ المسلمين. فأما ما حكياه عن صُحُف أهل الكتاب فليس بحجة سواء أصَدَقا فيها أم كَذَبا. الثاني: تقدم في فصل الإسرائيليات (ص 67 - 95) (1) ما يُعلم منه: أن غالب ما يُنسب إلى كعب لا يثبت عنه، ومرَّ (ص 91) (2): أن في كتاب «فضائل الشام» سبع عشرة حكاية عن كعب لا تثبت عنه ولا واحدة منها. وعسى أن يكون حال وهب كذلك. فمَنْ أراد التحقيق فليتتبع ما يثبت عنهما صريحًا بالأسانيد الصحيحة، ثم ليعرضه على كتب أهل الكتاب الموجودة كلها، ويتدبَّر الأمر الثالث وهو ما تقدم (ص 69 - 72) (3): مِن تتبُّع اليهود ما كان موجودًا في العالم ــ عند ظهور الإسلام وبعده إلى مدّة ــ مِن نُسَخ كتبهم في العالم كلّه وإتلافها لمخالفتها ما يرضونه من نُسَخ حديثة أبقوها، مع ما عُرف عنهم من استمرار التحريف عمدًا، وانقراض كثير من كتبهم البتة، ثم _________ (1) (ص 130 ــ 184). (2) (ص 171). (3) (ص 134 ــ 140).
(12/410)
ليحكم. قال: (وإننا نرى بعض الأئمة المجتهدين قد تركوا الأخذ بكثير من الأحاديث الصحيحة ... ). أقول: قد تقدم النظر في هذا (ص 35 و 178) (1). وقال ص 341 في حكايات كعب ووهب: (وما كان منها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر، كالذي ذكره كعبٌ مِن صفة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التوراة). أقول: قد مرَّ الخبر (ص 70 - 71) (2) وأنه ثابت عن عبد الله بن عَمرو بن العاص عن التوراة، ويُروى عن عبد الله بن سلام وعن كعب. [ص 218] فأما الشبهة التي أشار إليها فلا يكاد يوجد حقٌّ لا يمكن أن يحاول مُبْطِل بناء شبهة عليه، فمَنْ التزم أن يتخلَّى عن كلِّ ما يمكن بناء شبهة عليه أوْشَك أن يتخلى عن الحقِّ كلِّه. وقال: (وإني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن، وإن وثَّقوا رجاله، فربَّ راوٍ يوثَّق للاغترار بظاهر حاله وهو سيء الباطن). أقول: قد تقدم (ص 14) (3) ما نقله أبو ريَّة عن صاحب «المنار» قال: «النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيِّن للقرآن بقوله وفعله، ويدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد، لكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه أو نقض خبر من أخباره». وأوضحتُ ذلك هناك، فإن أراد هنا بقوله: «يخالف ظاهر القرآن» ما لو صح لكان إبطالًا أو نقضًا فذاك، فأما البيان بالتفصيل والتخصيص _________ (1) (ص 71 و 338 ــ 339). (2) (ص 137 ــ 140). (3) (ص 29).
(12/411)
والتقييد ونحوها فإنه يثبت بخبر الواحد بشرطه، وأدلةُ خبرِ الواحد ــ ومنها جَرَيان العمل به في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وعمل أهل العلم ــ تشمل هذا، ومنها ما هو نصٌّ فيه. راجع (ص 22 و 45 و 49) (1). ومما يزيده وضوحًا: أن دلالة العموم ونحوه كثيرًا ما تتخلَّف، وقد قيل: ما مِن عامّ إلا وقد خُصّ. وذهب بعضهم إلى أنه إذا خُصّ شيءٌ من العام سقطت دلالته على الباقي. وتخصيص العمومات ثابتٌ في قضايا لا تُحْصَى، فاحتمال القضية له أَبْيَنُ وأَوْضَح وأَوْلَى مِن احتمالٍ لا يمكنك أن تثبته في واقعة واحدة، وهو كَذِب راوٍ وثَّقه الأئمة المتثبِّتون وصحَّحوا حديثه محتجّين به، ولم يطعن فيه أحد منهم طعنًا بيِّنًا. أما كعب ووهب فليسا من هذا لوجهين: الأول: أنهما ليسا بهذه الدرجة، راجع (ص 69 - 70) (2). الثاني: أنه لم يثبت ما نسبه إليهما من سوء الظن. ثم قال أبو ريَّة ص 342: (جل أحاديث الآحاد لم تكن مستفيضة في القرن الأول). ونقل عبارةً للسيد رشيد رضا في مقدمته لـ «مغني ابن قدامة». وقد تقدَّم النظر فيها (ص 15) (3)، وعبارة السيد رشيد: «جلّ الأحاديث التي يحتجّ بها أهل الحديث على أهل الرأي والقياسيين من علماء الرواية»، ثم قال صاحب «المنار»: «فعلم بذلك أنها ليست من التشريع العام الذي جرى عليه عمل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وليست مما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ الشاهد فيه الغائب ... ». _________ (1) (ص 45 و 89 و 99). (2) (ص 135 ــ 138). (3) (ص 31).
(12/412)
أقول: قد تقدَّم دفع هذا (ص 28 - 35) (1)، وراجع (ص 20 - 21) (2) و (ص 52) (3). [ص 219] ثم حكى كلمات عمن ليس قوله حجة، ولا ذَكَر حُجة، فأعرضتُ عنها، ومنها ما عزاه إلى كتاب ليس عندي (4)، فليراجع. ثم ذكر ص 347 - 348: آيات من القرآن، وقد تقدّم ما يتعلق بذلك (ص 13) (5). ثم ذكر ص 348: قول ابن حجر في «الفتح» (6) في الكلام على حديث إيصاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن: «اقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم، ولأن فيه تِبيان كلِّ شيء إما بطريق النصّ أو بطريق الاستنباط، فإذا تَبِعَ الناسُ ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به». كذا صنع أبو رية! وآخر عبارة ابن حجر في «الفتح» (5: 268) هكذا: « ... عملوا بكلِّ ما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - به؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] الآية ... ». وقال ص 349: (وعن أبي الدرداء مرفوعًا: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وماحرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية ... ). أقول: هذا يرويه إسماعيل بن عَيّاش، وهو صدوق، عن عاصم بن _________ (1) (ص 56 ــ 69). (2) (ص 41 ــ 44). (3) (ص 102). (4) (ط): «عنده» والصواب ما أثبت. (5) (ص 27). (6) (5/ 361).
(12/413)
رجاء بن حَيْوَة، وهو صدوق يهم، عن أبيه رجاء، عن أبي الدرداء. ورجاء لم يدرك أبا الدرداء، فالخبر منقطع مع ما في سنده (1)، ولو صحَّ لما كان فيه ما يخالف الحجج القطعية، فقد حرَّم الله في كتابه معصية رسول الله والمخالفة عن أمره، وأمر بأخذ ما آتى، والانتهاء عما نهى. وراجع (ص 13) (2). ثم ذكر مرسل ابن أبي مُلَيكة، وقول عمر: «وعندنا كتاب الله حسبنا». وقد تقدّم النظر فيهما (ص 36 و 39) (3). قال: (ولما سُئلت عائشةُ عن خُلق النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قالت: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان خلقه القرآن). أقول: خلقه - صلى الله عليه وسلم - يشمل جميع أحواله وأفعاله وأقواله، فرأتُ عائشةُ أنه لا يمكنها تفصيل ما تعلم مِن ذلك كله لذلك السائل، وعلمَتْ أنه يقرأ القرآن وفيه تفصيل كثير من الأخلاق التي كانت من خُلُق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وإجمال الباقي فأحالته عليه، وقد عاد السائل فسألها عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعماله، فأخبرته. وفي ذلك وسائر أحاديث عائشة نفسها ذِكْر أشياء كثيرة جدًّا لا يفهمها الناس مِن نصِّ القرآن وإنما هي من بيانه (4) له بما فيه التفصيل والتخصيص والتقييد ونحو ذلك. ثم قال أبو ريَّة: (وقال الأستاذ الإمام محمد عبده رضي الله عنه: إن المسلمين ليس _________ (1) أخرجه البزار (4087)، والدارقطني: (3/ 59)، والحاكم: (2/ 375)، والبيهقي: (10/ 12) وغيرهم. وصحح إسناده الحاكم. وفيه النظر الذي ذكره المؤلف. (2) (ص 27). (3) (ص 72 و 78). (4) (ط): «بيان».
(12/414)
لهم إمام في هذا العصر غير القرآن). [ص 220] أقول: ها أنتم تلقِّبون الشيخ محمد عبده نفسه بهذا اللقب نفسه (الإمام) وتقتدون به، وتترضَّون عنه كما يُترَضَّى عن الصحابة، مع أنكم كثيرًا ما تذكرون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلا تصلّون عليه، وتسيئون القولَ في الصحابة رضي الله عنهم، وفي كتاب أبي ريَّة كثيرٌ من ذلك، فكأنكم أردتم له أن تسلبوا أئمة الحقِّ هذا اللقب وتخصّوه به. أما القرآن فهو الإمام حقًّا، وهو نفسه يثبت الإمامةَ للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم كلّ راسخ في العلم والدين مُبلِّغ لأحكام الشرع فإنه إمام، إلا أنه كالمبلِّغ لتكبيرات إمام الصلاة، وإن بان وقوعُه في مخالفةٍ للإمام اتبعنا الإمامَ دونَه. وقال: (لا يمكن لهذه الأمة أن تقوم ما دام هذه الكتب فيها). أقول: إن أراد جميع الكتب غير القرآن فالواقع أنَّ فيها الحق والباطل، وكثير من الحق الذي فيها إذا فات لا يُعَوَّض، فأما الباطل فكما قيل: إن ذهب عَير، فعَير في الرباط، ومَن عَرف الحقَّ واتبعه فقد استقام، ولا يضره بعد ذلك أن يعرف أضعافَ أضعافِه من الباطل. وذكر ص 350 أمورًا قد تقدَّم النظر فيها (ص 175 - 177) (1) وغيرها. ثم قال: ( ... ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا). أقول: تقدم تفنيد هذا، وبيان ما وقع فيه من الغلط (ص 15) (2). قال ص 351: (هذه هي سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما إطلاقها على ما يشمل الأحاديث فاصطلاح حادث). _________ (1) (ص 332 ــ 334). (2) (ص 31).
(12/415)
أقول: تقدم تفنيده (ص 12) (1). ثم قال: (أحاديث الآحاد التي لم يعمل بها جمهور السلف هي محل اجتهاد في أسانيدها ومتونها؛ لأن ما صح منها يكون خاصًّا بصاحبه). أقول: إن أراد بقوله: (صاحبه) من عَرف صحّته، بمعنى أنه ليس له إلزام غيره فسيأتي قريبًا، وإن أراد به الصحابي الذي ورد فيه، فإنما يصح هذا حيث يثبت دليل على الخصوصية. وراجع (ص 28 - 35) (2). قال: (ومن صح عنده شيء منها روايةً ودلالةً عمل به، ولا تُجْعَل تشريعًا عامًّا تُلزمه الأمة إلزامًا تقليدًا لمن أخذ به). أقول: على مَنْ صحّ عنده أن يُبيِّن ذلك لغيره ويعذره إن خالفه ولم يتبيَّن له عناده أو زيغه، وإلا لزمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الإمام أن يمنع من يتبيَّن له خطؤه من الإفتاء بذلك الخطأ، ويمنع الناس من الأخذ بفتواه، وفي سيرة عمر رضي الله عنه ما يبيّن هذا. [ص 221] ثم ذكر أشياء قد تقدَّم النظر فيها، إلى أن قال: (وما كل مالم يصح سنده يكون متنه غير صحيح). أقول: وجه ذلك أنه قد يثبت بسند آخر صحيح، لكن لا يخفى أن هذا الاحتمال لا يفيد المتنَ شيئًا من القوَّة، غايته أن يقتضي التريُّث في الجزم بضعفه مطلقًا حتى يبحث فلا يوجد له سند صحيح. وذكر أشياء تقدَّم النظر فيها، إلى أن قال ص 352: (ولم يَظْهر البخاريُّ ولا غيره من كتب الحديث إلا بعد انقضاء خير القرون). _________ (1) (ص 25). (2) (ص 56 ــ 69).
(12/416)
أقول: هذا مأخوذ من قدح بعض الملحدين في القرآن؛ بأن المصاحف لم تكن في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكما يقال لهذا: ليس المدار على المصاحف إنما المدار على ما فيها، وقد ثبت أنه القرآن الذي أنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فكذلك نقول هنا: الأحاديث التي في «صحيح البخاري» ثبت أنها كانت معروفة عند خير القرون، وإنما رواها الثقات منهم وعنهم، بل ثبتت بالحجة الشرعية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال: (لم يقل أحدٌ من سلف الأمة وأئمة الفقه: إن معرفة الدين تتوقَّف على الإحاطة بجميع ما رواه المحدِّثون ولا بأكثرها). أقول: لا ريب أن الأحاديث الضعيفة والواهية والمكذوبة لا تتوقّف معرفةُ الدين على الوقوف عليها، ومِن الصحيحة ما يُرْوَى من عِدّة طرق قد تبلغ المِئين، ويكفي لمعرفة الدين معرفة المتن من طريق صحيحة منها. ومنها أحاديث يتفق العددُ منها في المعنى أو فيما هو المقصود، كأحاديث تحريم الربا وأحاديث التشهُّد، ويكفي لمعرفة الدين معرفة واحدٍ منها. ومنها أحاديث يوجد في كتاب الله عز وجل ما يفيد معناها، ويكفي لمعرفة الدين معرفة تلك الدلالة من القرآن. وبعد هذا كله، فمعرفة الدين ليست أمرًا لا يزيد ولا ينقص، وقد عَلِمْنا أنّ الشريعةَ لم توجب أن يكون كلّ مسلم عالمًا، وإنما أوجبت على الأمة أن يكون فيها علماء بقدر الكفاية يرجع إليهم العامّة في كلِّ ما يعرض لهم، ولم توجب على العالم أن يكون محيطًا بالدين، بل كما أن العامِّي يستكمل ما يحتاج إليه بسؤال العلماء، فكذلك العالم يستكمل ما يخفى عنه أو يُشْكِلُ
(12/417)
عليه بمراجعة غيره من العلماء. وراجع (ص 32 - 33) (1). قال: (قال البيضاوي في حديث: «لا وصية لوارث»: والحديث من الآحاد، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر). [ص 222] أقول: هذا رأي البيضاويّ، فإذا خالفه غيره فالمدار على الحجة. وهكذا كلّ ما يحكيه أبو ريَّة عن فلان وفلان. ومن تدبَّر آيات المواريث علم أنها تفيد معنى هذا الحديث. ثم ذكر قضايا قد تقدَّم النظر فيها، إلى أن قال ص 353: (ربَّ راوٍ هو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي ومجروح عند يحيى بن سعيد القطان، وبالعكس، وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل، ومِنْ عِندهما يُتلقَّى معظم شأن الحديث). أقول: الغالب اتفاقهما، والغالب فيما اختلفا فيه أن يستضعفَ يحيى رجلًا فيتركَ الحديثَ عنه، ويرى عبد الرحمن أنَّ الرجلَ وإن كان فيه ضعف فليس بالشديد، فيحدّث عنه، ويثني عليه بما وافق حاله عنده، وقد قال تلميذُهما ابنُ المَديني: «إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على تَرْك رجل لم أُحدِّثْ عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن لأنه أقْصَدُها وكان في يحيى تشدّد» (2). والأئمة الذين جاؤوا بعدهما لا يجمدون على قولهما بل يبحثون وينظرون ويجتهدون ويحكمون بما بان لهم. والعارفُ الخبيرُ الممارس لا يتعذَّر عليه معرفة الراجح فيما اختلف فيه مَن قبله، وعلى فَرْض أننا لم نعرف _________ (1) (ص 64 ــ 67). (2) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد»: (10/ 243)، وانظر «تهذيب التهذيب»: (6/ 252).
(12/418)
مِنْ حال راوٍ إلا أن يحيى تركه وأن عبد الرحمن كان يُحدِّث عنه، فمقتضى ذلك أنه صدوق يهم ويخطئ، فلا يسقط ولا يحتجّ بما ينفرد به. قال: (إن ما كان قطعيّ الدلالة في النصوص فهو الشرع العام الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه عملًا وقضاء، وإن ما كان ظنّي الدلالة موكول إلى اجتهاد الأفراد في التعبّدات والمحرمات، وإلى أُولي الأمر في الأحكام القضائية. إن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا يُجْعَل تشريعًا عامًّا تُطالب به كلّ الأمة، وإنما يعمل فيه كلّ أحد باجتهاده، فمن فهم منه الدلالة على تحريم شيء امتنع منه، ومن لم يفهم منه ذلك جرى فيه على أصل الإباحة). أقول: قد تقدم النظر في نظرية «دين عام ودين خاص» (ص 9 و 14 - 15 و 28 - 34 و 100) (1) وقريبًا (ص 220 - 221) (2)، وكذلك حال الاجتهاد والمجتهد. هذا، والأدلة القطعية تبيِّن أن الواجب على كلِّ مسلم طاعة الله ورسوله ما استطاع، فيما ثبت بدليل قطعيّ المتن والدلالة أو ظَنِّيِّهما، أو قطعيّ أحدهما ظنّي الآخر، وأنّ على [ص 223] العاميّ العملَ بما يعلمه من الشريعة قطعًا أو ظنًّا، والرجوعَ فيما يجهله إلى العلماء الموثوق بعلمهم ودينهم، فإذا أفتاه أحدُهم بأمر لزمه العمل به سواء أكان قطعيًّا أو ظنيًّا، فإن اختلف عالمان فقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فعلى العامّي أن يتحرَّى أقرب الأمرين إلى طاعة الله وطاعة رسوله، وإذا علم الله تعالى حرصه على طاعته سبحانه فلا بد أن يُهيّئ له مِنْ أمره رَشَدًا. _________ (1) (ص 20 و 29 ــ 32 و 55 ــ 67 و 194). (2) (ص 415 ــ 418).
(12/419)
وعلى كلِّ مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتأكَّد ذلك على الرّجل في أهله، وعلى كلِّ راعٍ في رعيته، وعلى كلِّ مَن عرف حكمًا بدليل قطعيّ أو ظنيّ أن يرشد من يراه من المسلمين يخالفه جهلًا به، وينكر على من يراه يعرض عنه على وجهٍ مُنكر. وليس له الإنكار على مَنْ يُعرض عنه على وجهٍ معروف. والوجه المعروف هو ما يسمى «اختلاف الاجتهاد» أو «اختلاف وجهة النظر» مع اتحاد القصد في طاعة الله ورسوله. أما القضاء، فالفرض فيه أن يكون بما أنزل الله يقينًا أو ظنًّا، وذلك يشمل الأدلة الشرعية كلَّها، فإذا كان القاضي مجتهدًا فذاك، وإلَّا أخذ بما يتبيّن له رُجحانُه مِنْ أقوال أهل العلم. ثم ذكر قضايا تقدم النظر فيها (ص 175 و 202 و 218) (1). ثم ذكر عن السيد رشيد رضا: « ... ونحن نجزم بأنَّا نسينا وضيَّعنا من حديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - حظًّا عظيمًا لعدم كتابة علماء الصحابة كلّ ما سمعوه، ولكن ليس منه ما هو بيان للقرآن أو من أمور الدين، فإنّ أمور الدين معروفة في القرآن ومُبيَّنة بالسنة العملية، وما دُوِّن من الأحاديث فهو مزيد هداية وبيان». أقول: قد تكفَّلَ الله عزَّ وجلَّ بحفظ دينه، فمحالٌ أن يذهب منه ما يقتضي نَقْصَه، والمؤسف حقًّا أن يجمع بعضُنا بين التحسُّر على ما لم يُحْفَظ، والتجنِّي على ما حُفظ، ومحاولة حطِّه عن درجته. راجع (ص 14 - 50) (2). ثم قال أبو ريَّة: (قال الإمام أبو حنيفة: ردّي على كلِّ رجل يحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) (ص 332 و 381 و 411). (2) (ص 29 ــ 100).
(12/420)
بخلاف القرآن ليس ردًّا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تكذيبًا له، ولكنه ردّ على من يحدِّث عنه بالباطل، والتهمة دخلت عليه، ليس على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل شيء تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، قد آمنا به وشهدنا أنه كما قال، ونشهد أنه لم يأمر بشيء يخالف أمر الله، ولم [ص 224] يبتدعْ ولم يتقوَّلْ غير ما قاله الله ولا (1) كان من المتكلّفين). أقول: هذه العبارة من كتاب «العالم والمتعلم»، وفي نِسْبته إلى أبي حنيفة ما فيها (2)، والكلامُ هناك في مسائل اعتقادية ومخالفة يراها مناقضة. فأما تبيين السنة للقرآن بما فيه التفصيل والتخصيص والتقييد ونحوها كما مرَّ (ص 14 و 218) (3) فثابت عند الحنفية وغيرهم، سوى خلاف يسير يتضمّنه تفصيلٌ مذكور في أصولهم، يتوقّف فهمه على تدبّر عباراتهم ومعرفة اصطلاحاتهم، وبعض مخالفيهم يقول: إنهم أنفسهم قد خالفوا ما انفردوا به هناك في كثير من فروعهم ووافقوا الجمهور. بل زاد الحنفية على الشافعية فقالوا: إن السنة المتواترة تنسخ القرآن، وإن الحديث المشهور أيضًا ينسخ القرآن، وكثير من الأحاديث التي يطعن فيها أبو ريَّة هي على اصطلاح الحنفية مشهورة. ثم ختم أبو ريَّة كتابه بنحو ما ابتدأه من إطرائه وتقديمه إلى المثقفين (4)، والبذاءة على علماء الدين، ثم الدعاء والثناء، وأنا لا أثني على كتابي، ولا أُبرِّئ نفسي، بل أَكِلُ الأمرَ إلى الله تبارك وتعالى، فهو حسبي ونعم الوكيل، _________ (1) (ط): «ولو» والتصحيح من كتاب أبي رية. (2) تكلم المؤلف عليه بالتفصيل في «التنكيل»: (1/ 663 - 665). (3) (ص 29 و 411). (4) انظر تعليق المؤلف على هذا الثناء (ص 7 ــ 8). وأما البذاءة فقد حذفها أبو ريَّة من الطبعات اللاحقة ترويجًا لكتابه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
(12/421)
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه. انتهى بعون الله تعالى جَمْع هذا الكتاب في أواخر شهر جمادى الآخرة سنة 1378. والحمد لله ربّ العالمين.
(12/422)
ملحقان بكتاب "الأنوار الكاشفة"
(12/423)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فهذان تعليقان كتبهما المصنّف رحمه الله قبل تأليفه "الأنوار الكاشفة" بغرض أن يكون أحدهما تقديمًا لكتاب الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة "ظلمات أبي رية ... "، وذلك بطلبٍ من الشيخ الوجيه محمد نصيف؛ فكتب أولًا تسع ورقات، ثم كتب ثانيًا تسع عشرة ورقة، تكلم فيهما عن كتاب أبي ريَّة وغرضه منه، ثم ناقشه في عدة قضايا رئيسة في الكتاب، قال: إنها ملاحظات يسيرة، وعَزَم وهو يكتب هذه الورقات على تأليف كتاب مستوفًى في الردّ عليه، بل كان يحيل إليه لاستكمال مبحث أو قضية، فأثبتنا هذين التعليقين ملحقين بكتاب "الأنوار الكاشفة"، وقد وقع فيهما من الفوائد ما ليس في "الأنوار ... "، وتبين منهما سبب تأليفه للكتاب. والملفت للانتباه أنّ المصنّف لم يكتب شيئًا بخصوص كتاب الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، مع أنه هو باعثه الأول لكتابة هذه الأوراق، بل أخذ في الردّ على أبي ريَّة ومناقشته. ويلاحظ أيضًا أن هذا التقديم المفترض لكتاب "ظلمات أبي ريَّة ... " لم يُنشر معه، فالله أعلم. المحقق
(12/425)
الملحق الأول
(12/427)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد، فإن فضيلة أخي العلَّامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة كَتَب وهو على فراش المرض ــ عافاه الله ــ مطالعات وملاحظات على كتاب ألَّفه الأستاذ محمود أبو رَيَّة وسمَّاه: "أضواء على السُّنَّة المحمدية". فأرسل إليَّ حضرة المُحسن الكريم صاحب الفضيلة الشيخ محمد نصيف تلك الملاحظات، وتقدَّم إليَّ بأن أكتبَ كلمة تكون بمثابة مقدمة، فاحتجت مع الاطلاع على الملاحظات أن أطالعَ كتاب أبي رَيَّة؛ فَتَبيَّن لي أن استيفاء الكلام له وعليه يستدعي تأليفًا مستقلًّا، عسى أن يتيسّر لي فيما بعد. وأكتفي الآن بملاحظات يسيرة. ساءني من أبي ريَّة أنه بينا هو يطعن في بعض الصحابة والأئمة، ويرى أنه لا ينبغي أن يَثْقُل ذلك على أهل العلم؛ إذا به يثقل عليه غاية الثقل أن يخالفه مخالفٌ أو يتعقّبه متعقِّب، فيحاول كَفَّهم عن ذلك بكلام .... كقوله ص 14: (وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته ممن تعفَّنت أفكارهم وتحجّرت عقولهم). وقال ص 354: (وإن تَضِق به صدورُ الحشويّة وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار الذين يخشون على علمهم المزوّر من سطوة الحق، ويخافون على كساد بضاعتهم العفنة التي يستأكلون بها أموال الناس بالباطل أن يكشفهم نورُ العلم الصحيح ويهتك سترهم ضوءُ الحجّة البالغة= فهذا لا يهمّنا؛ إذ ليس لمثل هؤلاء خَطَر عندنا ولا وزن في حسابنا).
(12/429)
أما الذي يدُلُّ عليه صنيعك يا أبا ريَّة، فهو أنه لولا شدَّة خوفك من نقضهم كلامَك ما حاولت أن تتّقيهم بهذا السلاح. [ص 1] وبينا هو يطعن على الصحابة والأئمة، ويخالف علماء المسلمين كلهم؛ إذا به ينكر على بعض كبار العلماء مخالفته لعالمٍ أو عالمين من المتأخرين. انظر تعليقه على ص 38 ــ 39، وراجع مصادره التي أحال عليها ليتبيَّن لك صنيعه. وبينا هو يذكر كثرة الأحاديث الموضوعة والواهية في الكتب العلمية؛ إذا به يحتجّ بكلّ ما يوافق هواه في أيِّ كتاب كان، بدون نظر إلى سندٍ ولا مستندٍ، كما فعل في ترجمة أبي هريرة. وبينا هو يقلّل من شأن أئمة الأُمَّة بما يعلم منه أنه لو احتجَّ عليه بكلامهم لم يقبله، بل قد رأى كثيرًا من كلامهم فأعرض عنه وخالفهم فيه؛ إذا به يحتجّ بكلام أبي حيّان التوحيدي، وابن أبي الحديد، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وطه حسين، ولهذا نظائر كثيرة في كتابه. لماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة الحديث؟ للعلماء قولان في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث، منهم مَن يقول: إنه لم يَنْه، ومنهم مَن يقول: إنه نهى ثم رخَّص. فذكر أبو ريَّة هذه المسألة وجَمَد على النهي وساق ما ورد فيه، وزعم أنه أصح مما ورد في الترخيص، فذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين: أحدهما: حديث أبي سعيد، نَسَبه أبو ريَّة إلى "صحيح مسلم" (1) وغيره _________ (1) (3004).
(12/430)
وساقه بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكتبوا عنّي شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه". ولفظ مسلم مخالف لهذا وفيه زيادة. [ص 2] الثاني: ما رواه كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، وأمر إنسانًا أن يكتبه، فقال زيد: "إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه" (1). فأما حديث مسلم عن أبي سعيد، فقد أعلَّه البخاريُّ وغيرُه كما في "فتح الباري" (2)، وقالوا: الصواب مِن قول أبي سعيد، وفي "كتاب العلم" (3) لابن عبد البرّ من طرق عن أبي نضرة قال: قيل لأبي سعيد: لو أكْتَبْتَنا الحديث؟ فقال: لا نُكْتِبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -. زاد في رواية: "أردتم أن تجعلوه قرآنًا"! ، وفي رواية: "مصاحف". وهذا يشهد لقول البخاري؛ إذ الظاهر أنه لو كان عند أبي سعيد نصّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لذَكَرَه ولم يكتفِ بما قال هنا. وأما الحديث الثاني، فكثيرٌ ضعيف، والمطَّلب لم يُدرك زيد بن ثابت. وأما أحاديث الجواز: فمنها: حديث الصحيفة التي كانت عند علي، وهو في "الصحيحين" (4)، وهو ثابت من عِدة طُرق. _________ (1) تقدم (ص 45). (2) (1/ 208). (3) (1/ 272 ــ 273). (4) البخاري (111)، ومسلم (1370).
(12/431)
ومنها حديث: "اكتبوا لأبي شاه" وهو في "الصحيحين" (1) وغيرهما. ومنها حديث أبي هريرة: أن عبد الله بن عمرو [بن] العاص كان يكتب. أخرجه البخاري (2) وغيره، ورواه الإمام أحمد وغيره، وفيه: أن عبد الله بن عمرو "استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب عنه فأذن". وقد ورد ذلك من حديث عبد الله بن عمرو. راجع: المستدرك 1/ 104 فما بعدها، ومسند أحمد بتحقيق العلَّامة أحمد محمد شاكر ج 10 الحديث (6510) (3). وهناك أحاديث أخرى. وقد قال أبو ريَّة نفسه في حاشية ص 23: (أملى النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبًا في الشرائع والأحكام جهر بها رُسله وعماله في الأمصار المفتوحة؛ بعضها في الصدقات والفرائض، ولا يتعدى ما كُتب عن الرسول في عصره عشر صفحات ... ). أقول: أما صحيفة عبد الله بن عمرو فالظاهر أنها كبيرة، وكان يسمّيها "الصادقة". [ص 3] زعم أبو رية أن أحاديث النهي أصح، وقد علمتَ سقوطَ هذا. وحكى عن رشيد رضا أن حديث أبي شاه غير معارض لأحاديث النهي. قال: "على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة حديثه مراد به أن لا تُتَّخذ دينًا عامًّا كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة خطبها - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، موضوعها تحريم مكة ولُقَطة الحرم. وهذا من بيانه - صلى الله عليه وسلم - للقرآن ... ". _________ (1) البخاري (2434)، ومسلم (1355). (2) (113). (3) انظر ما تقدم (ص 46 ــ 47).
(12/432)
أقول: الذي يتحصّل من هذا أنه يرى أن القرآن وما يبيِّنه من السُّنَّة هو من الدين العام فهو مأمور بكتابته، وأما ما عداه فليس من الدين العام، فلذلك نهى عن كتابته، وتلك الخطبة من البيان فهي من الدين العام، فلذلك أمر بكتابتها. وأقول: لا ريب أن أفعاله وأقواله وتقريراته - صلى الله عليه وسلم - التي تبيّن القرآن كانت كثيرة جدًّا، وليست قاصرة على تلك الخطبة. ثم المفهوم من كلام أبي ريَّة وما ينقله عن رشيد رضا هو أن الدين العام محصور في السُّنَّة العملية المتواترة؛ ككون الصلوات خمسًا ونحو ذلك. وأن أحكام القرآن ليست من الدين العام إلا ما تكون دلالته قطعية على فرض تسليمه بقوله. وقد نقل أبو ريَّة في أواخر الكتاب وقرّر: أن النصوص اللفظية من القرآن وغيره دلالتها كلها لفظية. فنقول: لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنن العملية المتواترة، وهي من الدين العام عندك، وأمر بكتابة القرآن كله، وكثيرٌ منه أو كله ليس دلالته من الدين العام عندك. فثبت بهذا سقوط العلة التي زعمت. [ص 4] إذن فالعلة الصحيحة للأمر بكتابة القرآن هي ما فهمه أهل العلم هنا، وهو أن ألفاظه مع كونها مقصودة لمعانيها مقصودة لذاتها؛ لأنها كلام الله تبارك وتعالى، تعبد عباده بتلاوتها، ولها النصيب الوافر من الإعجاز، وأما غير القرآن فليس مثله في ذلك. فأما النهي عن كتابة الحديث فقد علمت أنه لم يتحقق صحته وعلمتَ ما يعارضه. وذكر أبو ريَّة أثرًا عن عائشة: أن أبا بكر كتب خمسمائة حديث ثم أتلفها
(12/433)
خشية أن يكون منها ما أخطأ فيه الذي حدَّثه به، وخشية أن يردَّ الناسُ غيرها من الحديث بحجة أنه لو كان صحيحًا لكتبه أبو بكر. وذكر أثرًا عن عمر أنه جمع الصحابة واستشارهم في كتابة السنن، فأشاروا بذلك، ففكَّر عمر مدَّة ثم عزم أن لا يكتبها قائلًا: إني ذكرتُ قومًا كانوا قبلكم كتبوا كُتُبًا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله .... وهذان الأثران ــ إنْ صحَّا ــ فدلالتهما واضحة على أن أبا بكر وعمر وسائر الصحابة كانوا يرون أن كتابة الحديث لم ينه عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كانوا يجتهدون برأيهم. ودين الإسلام دين واحد إنما تختلف الأحكام باختلاف أحوال الناس، فكلّ من سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرًا فهو قطعي في حقّه يحكم عليه بحسب ذلك، ومَن لم يكن حاضرًا وأخبره الذي كان حاضرًا فحكمه بحسبه، وهلم جرًّا. وبعض الأحكام التي هي بين المسلمين معلومة بالضرورة قد يجهلها بعض مَن يُسلم، ثم يبقى بعيدًا عن المسلمين أو يتصل به معرفتها بما لا يفيده إلا الظن، فيكون حكمه بحسب حاله، [ص 5] وبعض الأخبار التي هي عند الجاهل بالحديث ظنيَّة لأنه إنما أخذ بقول أهل الحديث أنها ثابتة كما يأخذ أحدنا بقول الطبيب، هي عند بعض أهل الحديث العارفين له يقينية، والحكم على كلٍّ بحسبه. فأما المنكِرُ والمرتاب فإن حكمه يختلف لأمرين؛ الأول: بذل الوسع وعدمه، الثاني: منشأ الإنكار والارتياب، فإنه قد يكون أمرًا لا تَبِعةَ فيه، وقد يكون بخلاف ذلك؛ كأن يكون منشؤه عدم الإيمان بالدين أو بأمر يقوم عليه
(12/434)
الدين؛ مثل أن محمدًا رسول الله يُطلعه الله على ما شاء من غيبه، ويخرق له ما شاء من عادته، ويحفظه من الخطأ في تبليغ دينه. وقد يكون منشؤه الخروج عن السراط المستقيم سراط محمد وأصحابه، واتّباع غير سبيل المؤمنين، وأخذ الدين من غير الشرع، وأخذ العقائد من غير المأخَذَين السلفيين. أحدهما: العقل الصحيح الذي كان حاصلاً للصحابة وغيرهم من العرب حين بُعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان قرينةً صحيحة تكون ركنًا من أركان الكلام، فإذا كان بدونها مُفهمًا لخلاف الواقع، كانت مانعة من فهم ذلك، مخرجةً للكلام عن أن يكون كذبًا. وثانيهما: الشرع، إلى غير ذلك مما ليس هذا موضع تفصيله. وكذلك ما للإمام إلزام الناس به، وما عليه من حياطة المسلمين، والضرب على يد من يُحاول تشكيكهم والعبث بدينهم، وما على المسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما هو حدُّ ذلك، كل هذا ليس هذا موضع الكلام فيه (1). [ص 6] حديث "من كذَبَ علَيَّ" صح من طريق جماعة من الصحابة تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكذب عليه بألفاظ مختلفة، اشتهر منها على ألسن الناس: "مَنْ كذب عليَّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار" (2)، وجاء في عدد من الروايات (3) هكذا أو بهذا المعنى، _________ (1) بعده في الأصل في منتصف السطر "أصل" وترك بعده بياضًا بمقدار ستة أسطر. (2) أخرجه البخاري (108)، ومسلم (2) من حديث أنسٍ رضي الله عنه. (3) الأصل: "الرواية" سهو.
(12/435)
وفي عدد منها بدون كلمة "متعمدًا" أو بما يؤدِّي معناه. والعارف إذا تدبَّر هذه القضية علم أن هناك عدة احتمالات: الأول: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كرَّر النهي في مناسبات متعددة؛ لأن شأن هذا الأمر عظيم. الثاني: أن يكون لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدًا، ولكنّ الرواة تصرَّفوا فيه بحسب الرواية بالمعنى. الثالث: أن يكون بعض الرواة زاد أو نقص خطأ. الرابع: أن يكون بعضهم زاد أو نقص عمدًا. فأما العارف بالسُّنَّة ورواتها، فإنه إذا أخرج من حسابه الروايات التي يكون في سندها كذَّاب أو متهم أو مغفَّل أو مجهول= سقط الاحتمال الرابع. ثم أخرج من حسابه الروايات التي يكون في سندها من يُخطئ، وقد جاء بلفظ ليس له متابعة صحيحة ولا شاهد صحيح= سقط الاحتمال الثالث. ثم إذا وجد أن الروايات الصحيحة التي فيها ذكر "متعمدًا" أو ما في معناه متعددة، والروايات الصحيحة التي ليس فيها هذه الكلمة أو ما في معناها متعددة= لم يسعه إلا أن يقول: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر كلمة "متعمدًا" أو ما في معناها تارةً، ويسكت عنها أخرى. ولهذا نظائر في كتاب الله عزَّ وجلَّ، [ص 7] فقد وعد الله عزَّ وجلَّ الجنة جزاءً لبعض الأمور ولم يقيّدها كلها بالموت على الإيمان، وقَيَّد بذلك في بعضها، وأوعد الله عزَّ وجلَّ بالنار على الكفر وغيره ولم يقيّد بعدم التوبة، وقَيَّد بذلك في بعض المواضع.
(12/436)
ولنفرض أن كلمة "متعمدًا" لم تصح ولا ما في معناها، فقد دل عليها الأصول القطعية؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]، وعلَّم اللهُ عبادَه أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وما علّمهم ذلك إلا ليستجيب لهم. وقد ثبت مقتضى ذلك في الصحيح، وهو أن الصحابة لمَّا قالوا ذلك، قال الله تعالى: "قد فعلتُ". والإنسان معرَّض لأن يقع منه الخطأ مع أنه لم يقصِّر، وقد ذكر أبو ريَّة ص 20 حكم كلام الرسول في الأمور الدنيوية بما تحسن مراجعته. نعم، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم في تبليغ الدين، لكن أصحابه غير معصومين، فهُم معرَّضون لأن يقع منهم الخطأ ولو نادرًا. قال أبو رية ص 41: (إن العقل السليم والخلق الكريم ينفران من قبول رواية "متعمدًا"؛ لأن الكذب هو أبو الرذائل كلها، سواء كان عن عمدٍ أو غير عمد). كذا يقول! علمتَ أنه إما أن يكون يفهم من كلمة "متعمدًا" خلاف ما نفهمه نحن، وإما أن يكون مُكابرًا يكلِّف الناس أن يكونوا معصومين! مع أنه قد اعترف (1) بأنهم ليسوا ــ ولا في إمكانهم أن يكونوا ــ معصومين، وأن المعصوم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً في التبليغ عن ربِّه، فإن كان مكابرًا فلا معنى للكلام معه. _________ (1) ضرب المؤلف عليها سهوًا.
(12/437)
وإن كان يفهم منها معنًى غير الذي نفهمه فنحن نبيّن له المعنى الذي نفهمه: أن التعمّد يشمل من يعلم أن خبره مخالف للواقع أو يظن ذلك أو يجوِّزه تجويزًا لا يبلغ من الضعف أن لا يحضر في نفس المخبر، وعلى هذا فلا يخرج إلا من يعتقد أن خبره مطابق للواقع اعتقادًا لا تخالطه أدنى ريبة. [ص 8] وأنا نفسي جَرَت لي قضية علمت بها يقينًا أن الإنسان الضابط قد يشاهد واقعةً مشاهدةً لا لبس فيها، ثم يعرض له ما يجعله بعد يومين أو أكثر يقطع قطعًا باتًّا بخلاف الواقع فيها، ثم يعرض ما ينبهه على خطائه فيزول القطع السابق. وقد أخبر عمر بن الخطاب وابنه عبد الله خبرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر الناسُ عائشةَ بذلك فأنكرته، وقالت: "إنكم لتحدثونني عن غير كاذبين ولا مكذَّبِين، ولكن السمع يخطئ ... " إلخ. وقد ذكره بنحوه أبو ريَّة ص 50. وبهذه المناسبة ننظر في حقيقة الكذب: ذهب الجمهور ــ كما يقولون ــ إلى أنه الخبر المخالف للواقع. وذهب جماعة من أشهرهم الجاحظ إلى أنه لابدّ مع المخالفة للواقع أن يكون مخالفًا لِما في نفس المخبر, ومعنى هذا أن قيد التعمّد [ص 9] في مفهوم الكذب، فما لم يكن متعمَّدًا فليس بكذب. وأبو ريَّة يقدِّس الجاحظ، ولكنه هنا لم يعرِّج على قوله لمخالفته هواه. والحكاية التي ذكرها عن عائشة قد تشهد لقول الجاحظ. والتحقيق عندي أنه إذا [قيل: ] (1) "هذا القول كذب" ونحو ذلك، كما _________ (1) زيادة يستقيم بها السياق، وبقي مما لم يضرب عليه المؤلف قوله: "من حيث" ولا مكان لها.
(12/438)
يقال بصرف النظر عن المُخبِر فهو بمعنى "مخالف للواقع" فأما "كذب" بلفظ الماضي أو "يكذب" أو "كاذب" ونحو ذلك من الكلمات التي يلاحَظ معها المخبِر، فالعُرف العامّ يخصّها بالعمد، ألا ترى أن في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الدنيوية ما قيل فيه: إنه خطأ، وكلّ عاقل ينفر عن أن يقال: "كَذَب ... " أو "هو كاذب". والسرّ في هذا ــ والله أعلم ــ أن الغالب في أفعال الإنسان العمدُ، فإذا قيل: "كذب فلان" كان الظاهر بمقتضى الغلبة أنه تعمَّد. كما أنك إذا قلتَ: "رأيت فلانًا يشرب الخمر" كان هذا ذمًّا بيِّنًا لأن المفهوم من ذلك أنه عامد عالم. فعلى هذا إذا كنت تعلم أنه إنما شربها وهو يجهل أنها خمر لم يكن لك إطلاق الكلمة المذكورة، بل يلزمك بيان الحقيقة كما هي. فكذلك قولك: "كذب فلان" الظاهر أنه تعمد، فمن ثَمَّ جرى العرفُ بأن لا يقال ذلك إلا عند التعمُّد. وعلى هذا عمل الناس قديمًا وحديثًا، إلا أنه إن ظهر أن المُخبِر اعتمد على ظنٍّ لم يكن له أن يعتمد عليه، وبعبارة أخرى: أنه مقصِّر، فإنه يقال: "كذب" كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كذب أبو السنابل" (1) وغيرها من الأمثلة. وقد نبَّه على معنى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على الأخنائي" ص 12 فما بعدها. _________ (1) أخرجه أحمد (4273) وغيره، وأصله في الصحيحين.
(12/439)
وقول أبي ريَّة في حاشية ص 39: (فلعنة الله على الكاذبين متعمّدين وغير متعمّدين، ومن يروّج لهم من الشيوخ الحشويين) كلمة لها خَطَرها إذا كان مستحضرًا لِمَا ذكرَه في غير هذا الموضع، وأراد بقوله "الكاذبين" مَن يقع منه خبرٌ مخالف للواقع ولو كان مخطئًا غير مقصِّر.
(12/440)
الملحق الثاني
(12/441)
[ص 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. كتب فضيلة الأخ العلَّامة محمد عبد الرزاق حمزة ــ وهو على فراش المرض عافاه الله ــ "مطالعات وملاحظات على كتاب (أضواء على السنة المحمدية) " الذي ألَّفه الأستاذ محمود أبو ريَّة. وتقدم إليَّ حضرة المحسن الكبير نصير السُّنَّة فضيلة الشيخ محمد نصيف أن أكتب كلمة، فدعت الحاجة إلى مطالعة كتاب أبي ريَّة فوجدته (مع ما يليق به من الاحترام) تهويشًا، غرضه الوحيد ــ فيما يبدو ــ الدعوة إلى إخضاع الأحاديث المرويَّة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها للنقد على الطريقة التي يتبعها المعاصرون في نقد التاريخ. ولكنه رأى أن هذه الدعوة لا يُرجى لها استجابة ما لم يستقرَّ الشكُّ في الأحاديث جملة، ولا يتم ذلك إلا بزعم أن المجهود الذي قام به علماء الأمة لحفظ الحديث وتمييز الصحيح من السقيم= كان مجهودًا فاشلًا البتة، رغمًا عن اعتراف بعض أساتذة أبي ريَّة بعظمته: "ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم ما شاؤوا" (1). فأخذ يفتّش ويهوّش ويلفِّق ويحطب من هنا وهناك كلَّ ما من شأنه أن يوحي إلى قارئه بذلك الغرض، ولو كان من أقوال الكذَّابين والمتهمين والجاهلين بالدين وطبيعته! ويضحّي في سبيل ذلك بأصول النقد التاريخي _________ (1) قاله المستشرق مرجليوث. وعزاه المصنف إلى "المقالات العلمية" ص 234 و 253 في "تقدمة الجرح والتعديل" (ص/ب). وكان المؤلف قد كتب قبل هذه الجملة: "حتى قال" ثم ضرب عليها وترك فراغًا بمقدار كلمتين.
(12/443)
الذي يدعو له .... (1)؛ ولهذا يعتذر إلى شركائه في ص 14 بقوله: "وبرغمي أن أنصرف في هذا الكتاب عن النقد والتحليل، وهي الأصول التي يقوم العلم الصحيح في هذا العصر عليها". إننا لا ننكر أصول النقد والتحليل، بل نعرف أن سلف العلماء قد عملوا بها في حدودها، وأنها قد بقيت جملة كبيرة بحاجة إلى النقد، وأن الأمة قصَّرت منذ قرون في إنجاب النقَّاد؛ لكننا نريد نُقَّادًا متبحِّرين في السُّنَّة وفي طرق النقد العلمي الذي انتهجه الأئمة، وهو يشتمل على ما يلائم هذا الموضوع مما يسميه العصريون: "أصول النقد التحليلي" فيربطون جهودهم بجهود أسلافهم. نريد نُقَّادًا يؤمنون بأن القرآن كلام الله لا يأتيه الباطل [ص 2] من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. حتى إذا جاءهم من السُّنَّة ما يعرفون نظيره في القرآن لم يستنكروه. وأبو ريَّة وأصحابه يأبون هذا، وقد تضمَّن كتابه هذا تشكيكًا في أحاديث من جهاتٍ في القرآن ما هو مثلها أو أبعد عن عقل أبي ريَّة منها. فلا أدري أيجري على أصله فينتقد القرآن أيضًا فيأخذ منه ويرُدّ؟ إذا ردّ شيئًا منه فقد ردَّه كلَّه، وإن اضطرّ في كتابه هذا إلى ترك التصريح بذلك. أم يكتفي بما مَهَده له أسلافه من أهل البدع، كما صرّح به في أواخر كتابه: (أن النصوص اللفظية لا تفيد اليقين)، ثم يسلك مسلك التأويل، وإن كان كما قال ص 247: (بحيث يعلم السامع أن المتكلم لا يقول بجوازه في الباطن). أم ينحو منحى شيخه ابن سينا الذي صرَّح به في "الرسالة الأضحوية". _________ (1) كلمة غير محررة لم أتبينها.
(12/444)
نريد نُقَّادًا يؤمنون بأن من الحكمة في إنشاء الله الخلق هذه النشأة أن يبلوهم أيهم أحسن عملًا، ويبلو ما في نفوسهم ويمحّص ما في قلوبهم؛ فاقتضى ذلك أن يكون في كتاب الله مع الآيات المحكمات آيات متشابهات، ونحو ذلك مما يُبرِز مرض المريض؛ كإخباره بما يستبعده عُبَّاد العادة، وبما تنكره العقول المصطنعة، وكضَرْبه المثل ببعوضة فما فوقها، وإقسامه بما أقسم به، وإخباره عن النار بأن عليها تسعة عشر، وغير ذلك مما المقصود منه أن تُبرَز خفايا النفوس؛ فمَن كان من أهل العلم والإيمان لم يزحزحه ذلك، بل إن فَهِم وإلا قال: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. وإن كان مِن مرضى القلوب وجد متنفّسًا ينفث عنده مقتضى مرضه؛ ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. فإذا وجدوا في السنة من هذا القبيل لم يستنكروه. نريد نُقَّادًا مؤمنين حقًّا يعرفون أثر الدين والإيمان والهدى والعلم على النفوس، فيَعلم أحدُهم أنه لو بُذِل له ملك الدنيا على أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كذب [ص 3]، فإذا عرفوا رجلًا بأنه مثلهم في ذلك أو خير منهم لم يردّوا خبرَه لمجرّد احتمال أنه يوافق غرضًا له. هذه أمثلة من الفوارق يريد أصحاب النقد التاريخي إهمالها؛ فيتطرّقوا في نقد الحديث إلى أن يشكّوا في كلّ خبر فيه ثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فضيلة له أو تبرئة من تهمة أو تأييد للإسلام، بعِلّة أن رواته مسلمون يُتَّهمون في تأييد دينهم ومدح نبيّهم. ثم يأخذوا في نقد القرآن فلا يُبقوا ولا يذروا. هذا هو الهدف الذي يدعو إليه كتاب أبي ريَّة، شَعَر بذلك أم لم يشعر.
(12/445)
إن الذي يتأهل لنقد الحديث لابدّ أن يكون عارفًا بطبيعة الدين، عارفًا بالقرآن، عارفًا بحال الذين خُوطبوا به أولًا وبطريق فهمهم، عارفًا بأحوال الرواة معرفةً صحيحة، عارفًا بعاداتهم في الرواية وما يَعْرِض لهم فيها، محيطًا بأكثر ما رُوي من الحديث مرفوعًا وموقوفًا ومقطوعًا ومتصلًا وغير ذلك، جيّد الفهم بريئًا من الهوى. فإن لم يكن كذلك فلا مناص له من الاعتماد على أئمة الحديث، وعليه مع ذلك أن يعرف حالهم وعادةَ كلٍّ منهم في الجرح والتعديل، واصطلاحهم الخاص في ألفاظهم. ودعوى أن أصول النقد لا تتطلَّب هذا كله مقبولة إذا كان المقصود من النقد هو التهويش وتشكيك الجهال، وترويج الأهواء! فأما إذا كان المقصود منه تحرّي الحقيقة فلا. فأما أبو ريَّة فنصيحتي له أن يتدبّر القرآن متخلّيًا عن كلام المفسرين متقدّمين أو متأخرين، مع استحضار حال الذين خُوطبوا أوّلًا وطريق فهمهم، فإذا وجد كثيرًا من القرآن تنفر عنه نفسه ويضيق به تسليمه فليكن شجاعًا ....... (1) للوقت ليجرّد قلمه في نقد القرآن. وإن وجد نفسه مؤمنًا مطمئنًّا بكل ما في القرآن بغير تحريف ولا تأويل مستَكْرَه، فحينئذٍ يلتفت إلى الحديث. أمّا أن يدَّعي الآن أنه قد تدبّر القرآن وآمن به كل الإيمان؛ فهذه دعوى يعلم هو نفسه أنها كاذبة، وكتابه هذا أصدق شاهدٍ عليه. _________ (1) كلمة غير واضحة تحتمل "مستفيدًا" أو "متصيدًا".
(12/446)
الباحث المتّزن الواثق بحجته هو الذي يترك الإعلان عن نفسه وعن كتابه إلى الأدلة نفسها، ويدع للناس الحريّة التامة في موافقته أو مخالفته، أما أبو ريَّة فهو يحاول أن يفرض رأيه على الناس فرضًا، ويبالغ في مدح من يأمُل موافقته، وسبِّ من يخشى مخالفته، فتراه يقول في لوح كتابه: "دراسة محررة ... قامت على قواعد التحقيق العلمي ... ". ويقول ص 14: "وقد ينبعث له من يتطاول إلى معارضته مِمَّن تعفّنت أفكارهم وتحجّرت عقولهم". ويقول ص 354: "فإن يقع عملنا هذا لدى المستنيرين ورجال الفكر المثقفين في مكان الرضا والقبول فهذا ما نرجوه وهو حسبنا، وإن تضق به صدور الحشوية وشيوخ الجهل من زوامل الأسفار الذين يخشون على علمهم المزوّر من سقوط الحق، ويخافون على كساد بضاعتهم العفنة التي يستأكلون بها أموال الناس بالباطل أن يكشفهم نور العلم الصحيح، ويهتك سترهم نور الحجة البالغة؛ فهذا لا يهمنّا؛ إذ ليس لمثل هؤلاء خَطَرٌ عندنا ولا وزن في حسابنا". كذا يقول! ولو لم يكن لهم خَطَر عنده لما حاول أن يتّقيهم بهذا السلاح. [ص 4] وماذا عليهم إذا لم يكن لهم خَطَر عند أبي ريَّة؟ ! * * * * هل نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة حديثه جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - حديثان: أحدهما: ما رواه مسلم (1) وغيرُه من طريق همّام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكتبوا عنّي، _________ (1) (3004).
(12/447)
ومَن كتب عنّي غيرَ القرآن فليَمْحُه ... " الحديث. والثاني: ما رواه ابن عبد البر في "كتاب العلم" (1) من طريق كثير بن زيد بن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: "دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنسانًا أن يكتبه. فقال له زيد: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه". فأما الحديث الأول، فقال ابن حجر في "فتح الباري" (2): "ومنهم مَن أعلَّ حديث أبي سعيد وقال: الصواب وقْفُه على أبي سعيد؛ قاله البخاري وغيرُه". يعنون أن أصل الخبر بقريب من هذا اللفظ من قول أبي سعيد، فوهِم بعضُ الرواة فَرَفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والبخاريُّ وغيره إنما يقولون مثل هذا حيث يكون عندهم دلائل على ذلك؛ كأنْ يُروى من وجه آخر أثبت من هذا موقوفًا على أبي سعيد. وكثير من كتب الأثر لاسيَّما التي تُعنى بالموقوفات ليست عندي. نعم، في "كتاب العلم" (3) لابن عبد البر عن أبي نضرة: "قيل لأبي سعيد: لو أكْتَبْتَنا الحديث؟ فقال: لا نُكْتِبُكم، خذوا عنَّا كما أخذنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - "، وفي رواية: "قلتُ لأبي سعيد الخدري: ألا نكتب ما نسمع منك؟ قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟ ! إن نبيَّكم - صلى الله عليه وسلم - كان يُحدِّثنا فنحفظ، فاحفظوا كما كنّا نحفظ". وفي رواية: " ... أردتم أن تجعلوه قرآنًا! لا، لا، ولكن خذوا عنَّا كما أخذنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". _________ (1) (1/ 271) وتقدم (ص 45). (2) (1/ 208). (3) (1/ 272 ــ 273).
(12/448)
والظاهر أنه لو كان عند أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى لَذَكَرَ ذلك لهؤلاء. وذكر أبو ريَّة عن عائشة أن أبا بكر كتب في صحيفة خمسمائة حديث، ثم أحرقها معتذرًا بأن فيها ما سمعه من رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخشى أن يكون [ص 5] ذاك الرجل وهِم، وأنه يخشى أن يردّ مَن بعده ما وجدوه من الحديث زائدًا على تلك الصحيفة، بعلّة أنه لو كان صحيحًا لعَلِمَه أبو بكر؛ هذا معنى القصة. وهي ــ لو صحّت ــ واضحة الدلالة على أن أبا بكر لم يكن عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكتابة. وذَكَر عن عمر أنه استشار الصحابة في كتابة الحديث، فأشاروا (1) بذلك، فمكث مدّة يتردّد في ذلك، ثمّ عزم أن لا يكتب، وقال: "إني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله". وهذا ــ إن صحَّ ــ يدل أن عمر والصحابة حالهم كحال أبي بكر، أي لم يكن عندهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكتابة. فمَن تدبَّر هذا عَلِم أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهيٌ عن كتابة حديثه. وإنما عَدَل عنها أبو بكر لِما تقدّم، وعَدَل عنها عمر خشية أن يدع الناسُ القرآنَ، ويستغنوا بما كتب من الحديث. وفوق هذا: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإذنُ بالكتابة، وقد أورد البخاريُّ في ذلك ثلاثة أحاديث (2): حديث صحيفة علي، وحديث "اكتبوا لأبي شاه"، وحديث أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب. _________ (1) الأصل: "فأشارا" سهو. (2) أرقامها (111، 112، 113) وحديثًا رابعًا ذكره المؤلف (ص 46).
(12/449)
وقد روى الحديثَ غير البخاري وصرّح فيه بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو، وجاء في ذلك حديث عن عبد الله بن عمرو. راجع "فتح الباري" (1) كتاب العلم، باب كتابة الحديث، و"المستدرك" (1/ 104) فما بعدها، ومسند أحمد بتحقيق العلَّامة أحمد محمد شاكر، تعليقه على الحديث (6510). وقد قال أبو ريّة نفسه في حاشيته ص 23: (أملى النبي - صلى الله عليه وسلم - كُتبًا في الشرائع والأحكام ... ولا يتعدّى ما كُتب عن الرسول في عصره عشر صفحات ... ). كذا قال! والمشهور في صحيفة عبد الله بن عمرو أنها كبيرة، وكان يعتزّ بها، ويسمّيها "الصادقة" تمييزًا لها عن أخرى كانت عنده عن أهل الكتاب. * * * * [ص 6] لماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة الحديث نقل أبو ريَّة عن بعضهم أن ذلك تنبيه على أنها ليست من الدين العام، وفي كلامه ما يدلُّ أن الدين العام عنده هو السنن العَمَلية المتواترة؛ ككون الصلوات خمسًا، والصبحِ ركعتين، والمغربِ ثلاثًا، وغير ذلك. ويضيف إليها ما كانت دلالته قطعيةً من القرآن، على فرض وجوده؛ لأنه عاد فنقل عن بعضهم أن النصوص اللفظية مطلقًا لا تفيد إلا الظن. فيقال له: لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنن المتواترة مع أنها من الدين العام عندك، وأمر بكتابة القرآن كله مع أن بعضه أو كلَّه ليس بحسب دلالته _________ (1) (1/ 204 وما بعدها).
(12/450)
من الدين العام. فتبيَّن سقوط علّتك، وإنما العلّة الصحيحة: أن ألفاظ القرآن مقصودة لذاتها قصدًا مؤكدًا؛ لأنه كلام الله عزَّ وجلَّ، متعبد بتلاوته كما أُنزل، ولألفاظه السهم الأوفر من إعجازه، وهو من العظمة بأعلى الدرجات. والأحاديث ليست مثله فيما ذُكِر، بل هناك ما يقتضي أن لا يؤمر بكتابتها، وذلك أمران: الأول: المشقّة لقلّة الكُتَّاب وقلة ما يُكْتَب فيه. الثاني ــ وهو الأعظم ــ: ما يقتضيه أصل الابتلاء الذي مرّت الإشارة إليه، وهو الأصل الذي بُنيت عليه هذه النشأة الدنيا. ومن أحبّ التبصّر فيه فليراجع الآيات القرآنية التي فيها ذكر البلاء أو الابتلاء، وهي كثيرة. ولأجل هذا الأصل جعل الله عزَّ وجلَّ أكثر حُجج الحقّ بيِّنةً واضحةً لمن يحبّ الحقَّ ويحرص عليه ويؤثره على الهوى بجميع أنواعه؛ غيرَ ظاهرةٍ لمن يحبّ الباطل ويحرص عليه ويؤثره. وبيانُ ذلك: أنه معروف مشاهَد أن من يحبّ شيئًا ويحرص عليه ويؤثره على كلِّ ما سواه يكفيه في اختياره لأمر من الأمور أن يغلب على ظنّه أنه محصِّل لمحبوبه. [ص 7] هذا أمر معلوم يقينًا، حتى لو أن إنسانًا ادَّعى أنه يحبّ أمرًا حبًّا شديدًا يؤثره على كل شيء ثم عُرض عليه عملٌ يغلب على ظنّه أنه محصِّل لذلك الأمر الذي ادّعى حبَّه فلم يلتفت إليه= عَلِمْنا كذب دعواه. وقد نصّ القرآن على هلاك أقوام مع وصفه لهم بأنهم مرتابون. أمَّا لو كانت حُجج الحقّ قاهرة لا يمكن أحدًا أن يرتاب فيها= لكان إيمانه بها إيمان مُلْجَأٍ. فلو حصل لأكفر الناس علمٌ قاهر كعلمه بأن الأربعة
(12/451)
ضعف الاثنين، لو حصل له علمٌ كهذا بأنه إن لم يُسلم خُلِّد في نار جهنَّم لأسلم رغمًا عن هواه. وليس المقصود من الدين إرغام الناس على الحق، إنما مقصوده ابتلاء ما في نفوسهم من الحبّ للحق أو الحبّ للباطل. وأنت ترى دلالات القرآن كثير منها ليست بقاهرة، ومِنَ الحكمة في ذلك: الابتلاء، فالمحبّ للحق تكفيه الدلالة الظاهرة، والمحبّ للباطل يتأوَّل ويتعلّل. وحكمة أخرى، وهي: أن يجاهد المسلم في سبيل فَهْم المعنى الصحيح، ويجاهد نفسَه في حملها على الدلالة الظاهرة. وكلّما كان الجهاد أشقّ كان الفوز في الامتحان أبْيَن وكانت العبادة وثوابها أعظم. وليس المقصود هنا أنه لا يُشْتَرط في الإيمان الإيقان، وإنما المقصود أنه يكفي في قيام الحجّة الظهور البيِّن، فمَن قَبِل فقد فاز في الابتلاء، ثم إن حافظ على ذلك فهو في طريقه إلى الإيمان؛ قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، ومَن أبَى فقد سقط في الامتحان، ثم إن استمرَّ على عناده استحقّ الوبال؛ قال الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ (1) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. فهكذا عدم الأمر بكتابة الحديث قُصِد منه ابتلاءُ الناس بحفظه، وابتلاؤهم في أدائه على وجهه، وابتلاؤهم في تمييز صحيحه من سقيمه، وابتلاؤهم في اتباعه عند ظهور دلالته وإن لم تكن قاهرة، إلى غير ذلك. _________ (1) في الأصل: "كذلك نقلب أفئدتهم وأهوائهم". سبق قلم.
(12/452)
على أن [الله] تبارك وتعالى قال لرسوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (1) [القيامة: 16 ــ 19]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9]. والذِكر إن لم يشمل السُّنَّة بلفظه شملها بمعناه، بل يشمل اللغة التي يفهم بها؛ لأن مقصود الحفظ هو بقاءُ الحجّة قائمة والتمكّن من الوصول إلى الحقّ دائمًا إلى قيام الساعة؛ لأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، فتكفَّل الله تعالى بحفظ شريعته، بحيث مَن طلب الحقَّ فيها بإخلاصٍ وصدق وجَدَه. [ص 8] فلا يخفى قبل أجل فناء الدنيا، وإلا اقتضت الحكمة إرسال غيره. وهذا التكفُّل بالحفظ لا يعني إعفاء الأمة من وجوب عمل كلِّ ما مِن شأنه الحفظ، ألا ترى أن الكفالة الصريحة بحفظ القرآن لم تمنع الصحابة لمَّا استحرّ القتل في اليمامة بالقرَّاء، لم يمنع الصحابة علمهم بالكفالة عن أن يُبادروا بجمع القرآن. _________ (1) كتب المؤلف إلى {لِتَعْجَلَ بِهِ} وترك بعده بياضًا بمقدار سطر لبقية الآيات.
(12/453)
الرواية بالمعنى قد اتضح مما تقدَّم أن الفرق بين القرآن إذا أُمِر بكتابته وبين غيره هو أن ألفاظ القرآن مقصودة لذاتها دون الأحاديث، فهي مقصودة القصد الأعظم لمعانيها. ودلائل ذلك أكثر من هذا؛ فإن الإسلام دين الفطرة، والفطرة تقضي على مَن سمع كلامًا مرّة واحدَة أن لا يُكلَّف عند تبليغه بالمحافظة على لفظه. ألا ترى أن أكثر ما يرسل الإنسان رسولًا أو مندوبًا، ويقول له: قل كيتَ وكيتَ، ويذكر له كلامًا، فالغالب أنه إنما يريد منه أداء معناه. وإذا أدَّى معناه فهو صادق حتمًا. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في كتابه كثيرًا من الكلام ينسبه إلى الناس، ومنه ما يطول فيبلغ ثلاث آيات أو أكثر. ولا ريب أن تلك الألفاظ وتلك العبارات من القرآن لها فخامته وإعجازه، فثبتَ بذلك أنها كلام الله تعالى، وأن نسبتها إلى مَن نُسِبَت إليه مِن المخلوقين إنما حاصله أنهم قالوا ما يؤدِّي ذاك المعنى. فأما ما في القرآن مما هو في معنى الترجمة عن غير العربية إليها فكثير جدًّا. نعم، إن الرواية بالمعنى مظنّة الخطأ في الجملة، ولكن هذا أيضًا من مقتضى أصل الابتلاء؛ ليتبين مَن يبالغ في الحرص على الوفاء بالمعنى مِمَّن يقصّر، ويكون للعلماء مجال للبحث والنظر واستخراج الخطأ، وبقَدْرِ ما يجِدّون في ذلك مخلصين واقفين على السراط المستقيم يكون فوزهم وثوابهم. أما تمنِّي بعض الناس أن تكون الأحاديث كُتِبَت أو أنَّها رُويت بألفاظها،
(12/454)
فهذا [ص 9] من جنس تمنِّي أن يكون الله تعالى جعل القرآن مشتملًا على جميع مقاصد الدين بالدلالات القاطعة، وتمنِّي أن لا يكون في القرآن متشابه، وأن لا يكون فيه الآيات التي يتشبّث بها الزائغون، إلى غير ذلك. وهذه غفلة عن حِكْمة أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى. إن حكمته سبحانه وتعالى شاملة لكلِّ شيء، حتّى وَضْع الوضَّاعين وكذِب الكاذبين، لله عزَّ وجلَّ حكمة بالغة في تمكينهم منه، ففي ذلك بروز ما في نفوسهم من حبّ الباطل، وبذلك تتم عليهم الحجّة، وفي ذلك ابتلاء للناس وفتح مجال لاجتهاد أهل العلم وجهادهم، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في بيان مصداقه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} إلى قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} إلى أن قال: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} [آل عمران: 139 ــ 154]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]. وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
(12/455)
فليعلم أبو ريَّة أن مِن شيوخ الحشويَّة ــ كما يسمّيهم ــ مَن إن ثَقُل عليهم كتابه هذا لحُبهم للإسلام، فإنهم لا يرونه أكثر من دعوة يدعوهم الله عزَّ وجلَّ [ص 10] بها إلى الجهاد في سبيل إعلاء كلمته، ويعلمون أنهم إن شمَّروا عن سواعد الجدّ وبذلوا ما يسعهم مِن الجهد، فقد فازوا في هذا الابتلاء برضوان الله تبارك وتعالى، سواءٌ أحصل ما يرغبون فيه من استجابة كثير من الناس للحقّ أم لم يحصل. إن المعلوم بالتجربة أن العارف باللغة إذا سمع وفَهِم المعنى وضبط، ثم روى بالمعنى لا يخطئ إلا نادرًا، بحيث إذا لم يتبيَّن في شيءٍ أنه أخطأ فيه= يحصل الوثوق بخبره. وهذا الوثوق هو مدار التكليف، كما أنه مدار أعمال العقلاء، ألا ترى ركوب السيارة والباخرة والطائرة موثوق بالسلامة فيه الثقة التي يطمئنّ إليها العقلاء ويعملون بها، وإن كان قد يتفق الاصطدام والغرق والسقوط، على أن الاصطدام والغرق والسقوط مُهلك ولا بُدّ، فأما الغلط في الرواية فلابدّ أن يُهيّئ الله تعالى ما يبيّنه فلا يستمر ضرره، ومَن كان له معرفة راسخة بالحديث يعرف هذا ويتحققه. وأئمة الحديث لا يوثّقون الراوي حتى يعتبروا رواياته بروايات الثقات المعروفين، فإذا وجدوه يُغيِّر المعنى جرحوه، وإن وجدوه قد يقع له التغيير ولا يَكثُر غمزوه وقالوا: لا يُحتج به، يعنون: أن حديثه يحتاج إلى متابعات وشواهد، وهكذا. وقد حكى أبو ريَّة أن البخاريَّ يروي بالمعنى، وهذا صحيحه موجود، وقلَّ حديث فيه إلا وهو يوجد من رواية غيره عن شيخه أو شيخ شيخه، فهل وجد أهلُ العلم تفاوتًا مُخلًّا بالمعنى يؤدي إلى فساده؟ كلَّا ولله الحمد.
(12/456)
حديث "مَن كذب علَيَّ" الكذب ممقوت عقلًا وفطرة، والقرآن يعتبر الكذب على الله عزَّ وجلَّ ظلمًا لا يفوقه ظلمٌ آخر، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (1) [الأنعام: 144]، وكرَّر هذا المعنى في آيات عديدة (2)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبلِّغ عن الله تعالى، صادق في كلّ ما بلَّغه، فالكذب عليه كذب على الله عزَّ وجلَّ. وطبيعي أن يُحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمينَ من الكذب عليه، وطبيعيّ أن يكرّر ذلك في عدّة مناسبات كما كرَّر الله عزَّ وجلَّ بيان غلظ الكذب عليه في عدّة آيات. وحديث: "مَن كَذَب عليَّ" (3) إلخ، إن لم يكن متواترًا لفظه فهو بلا ريب مقطوع بصحة معناه عند مَن يعرف الحديث ويعرف رواة الحديث. الحديث رُوي من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بألفاظ متقاربة إلا أنه يمكن جعلها ضربين: الضرب الأول: "مَن كَذَب عليَّ فليتبوّأ مقعدَه مِن النار"، وما يؤدِّي هذا المعنى بدون نصٍّ على التقييد بالتعمّد. الثاني: "مَن كَذَب عليَّ متعمِّدًا فليتبوّأ مقعدَه مِن النار" وما يؤدي هذا _________ (1) كتب المؤلف إلى {افْتَرَى} وترك مقدار أربع كلمات. (2) بلغت عشر آيات. (3) وهو متفق عليه وقد مضى تخريجه.
(12/457)
المعنى بالنصّ على التقييد بالتعمّد. وأبو ريَّة ينكر هذا القيد ويبالغ، ويتلمَّس التُّهَم لمن هم ــ عند من يعرفهم حقّ المعرفة ــ أبعد الناس من أن يتعمَّدوا. [ص 11] اختلف الناسُ في تحرير معنى الكذب، والذي صار إليه الأكثر: أنه الإخبار بما يخالف الواقع. وذهب جماعة منهم الجاحظ إلى أنه لا يكون كذبًا حتى يخالف الواقع ويخالف ما في نفس المُخْبِر. وأبو ريَّة يقدِّس الجاحظ ولكنه رأى أنّ قوله هنا لا يتمشّى مع هواه! هذا مع أنه ذكر ص 50 أنها (1) خطَّأت عمرَ وابنَه في حديث، وقالت للذين أخبروها عنهما: "إنكم لتحدّثون عن غير كاذبين ولكن السمع يخطئ". وأنها خطّأت ابنَ عمر في حديث، وقالت: "إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ". وذكر خطأ جماعة من الصحابة. عَقَد ص 20 فما بعدها بابًا لبيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان معصومًا في أمور الدين، فأما أمور الدنيا (2) فقد يخطئ كما يخطئ غيرُه، ويريد أبو ريَّة وبعضُ شيوخه أن يجعل هذا أصلًا يُسقط به كلَّ ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمور الكونية والطبيعية، كما صرَّح بذلك في قضية الذباب بحاشية ص 201، ولازم هذا حتمًا أنه يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكذب، وأن عمر وابن عمر وغيرهما من الصحابة كانوا يكذبون، وكانوا يرمي بعضهم بعضًا بالكذب. وأدهى من هذا وأمرّ قوله بحاشية ص 39: (ولعنة الله على الكاذبين متعمدين وغير متعمدين، ومن يروّج لهم من الشيوخ الحشويين). _________ (1) أي عائشة رضي الله عنها. (2) الأصل: "الدين" سبق قلم.
(12/458)
ويقول ص 27 في ردّ كلمة "متعمدًا": (وكل ذي لبّ يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها، لمنافاة ذلك للعقل والخُلُق اللذَينِ كان الرسول متصفًا بالكمال منهما، ذلك بأن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواءٌ أكان عمدًا أم خطأ). أقول: أما إذا بنينا على أن المخطئ ليس بكاذب كما تقدم، فلم تَزِدْ كلمة "متعمدًا" عن أن تكون حالًا كاشفة، فإن كان العقل يأباها [ص 12] فقد كان العقل يُوجب أن يُقال: "من كَذَب عليّ أو أخطأ". ولا أدري لماذا يأباها العقل مع جزمه بأنَّ الإنسان معرَّض للخطأ شاء أم أبى، ومع اعترافه بأن الأنبياء قد يخطئون فيما يتعلق بأمور الدنيا، وإنما عُصموا في أمور الدين بإعجاز خارق ليس لغيرهم، ومع جزمه بصحّة ما نصّ عليه القرآن: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وعلَّم الله تعالى عبادَه أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وما علَّمهم إلَّا ليستجيب لهم. وفي "الصحيح" (1) أن الصحابة لمَّا قالوها قال الله تعالى: "قد فعلتُ". وقال الله تعالى في كتابه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]. فلو قطعنا بأنَّ مَن أخطأ فأخبر بخلاف الواقع غيرَ مقصِّر قد كذب، وبأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل "متعمدًا" ولا ما في معناها= لأوجبت الأدلة العقلية والنقلية أن قوله: "مَن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار" وإن تناول بلفظه المخطئ غير المقصّر فليس متناولًا له بحكمه. هذا من جهة العقل. فأما من _________ (1) "صحيح مسلم" (126).
(12/459)
جهة الخُلق الكريم فقد قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فهل يليق بصاحب الخُلُق أن يكلِّف أصحابه ما يعلم أنهم لا يستطيعونه، مع أن ربَّه عزَّ وجلَّ لم يكلِّف به عباده؟ وليقف العاقل هنا وقفةً يتدبّر فيها حال أبي ريَّة، وهل يرضى أن يضيع العاقل وقته بمطالعة كتابه إلا أن يتصدَّى عارفٌ لكشف حاله لئلّا يغترَّ به الجَهَلة؟ وهل ينبغي له إن كان عاقلًا أن يتعاطى الكلام في مثل هذا الأمر؟ إن أئمة السُّنَّة يفرّقون بين الرواة ويُنْزِلون كلَّا منزلته. فالثقة الثبت عندهم هو الذي يُعرف من اعتبار روايته برواية غيره، أنه لا يحدّث إلا بما يسمعه حقًّا. فأما الذي يحدّث بما لم يتحقَّق أنه سمعه؛ فهذا كذّاب أو متّهم. وكذا من يكون مغفَّلًا يتوهَّم أنه سمع وضبط، ويرى أنه جازم بذلك وهو مخطئ؛ فهذا عندهم هو المغفَّل المتروك الذي يحدّث على التوهُّم، ومِن ثَمَّ يعاملون مَن يُخطئ على حسب مقدار خطائه كميَّة وكيفيةً. فَهُم وإن أثنوا على بعض مَن يكثر خطاؤه وغلطه بأنه كان صالحًا عابدًا فإنهم يجرحونه في الحديث جرحًا صارمًا كقولهم: "منكر الحديث، متروك، ليس بشيء"، حتى قال شعبة: لأن أزني أحبّ إليَّ مِن [أن] أروي عن أبان بن أبي عيَّاش، وقال نحو ذلك في يزيد الرقاشي. فليطمئنّ المسلمون على الحديث النبويّ، فإن الله تبارك وتعالى لم يهمله (1) إلى أن يُبْعَث لتنقيحه أبو ريَّة وأضرابه بعد قرابة أربعة عشر قرنًا، _________ (1) يحتمل: "يَكِلْه".
(12/460)
وأن أئمة المسلمين المؤمنين بالله ورسوله حقًّا لم يكن جهادهم طول أعمارهم سُدًى. * * * * [ص 13] حديث الزُّبير ممن روى هذا الحديث الزبير بن العوَّام. روى حديثَه شعبة بن الحجّاج، عن جامع بن شدّاد، عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عبد الله عن الزبير. فذكر ابن حجر في "الفتح" (1) أن أصحاب شعبة اختلفوا؛ منهم من ذكر "متعمّدًا" ومنهم مَن لم يذكرها. ومالَ إلى ترجيح عدمها مستدلًّا بأمرين: الأول: أخرجه الزبير بن بكار في "كتاب النسب" من وجه آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير وليس فيه: "متعمدًا". وقد أخرجه الدارميّ من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: "من حدّث عني كذبًا" ولم يذكر العمد. وقال المنذري في "مختصره لسنن أبي داود" (2) المطبوع مع "معالم السنن للخطابي" و"تهذيب السنن" لابن القيم (5/ 248): "والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه (متعمدًا)، وقد رُوي عن الزبير أنه قال: والله ما قال: (متعمدًا) وأنتم تقولون (متعمدًا) ". _________ (1) (1/ 200). (2) (5/ 248).
(12/461)
وذكر محقِّق العصر العلَّامة أحمد محمد شاكر هذا البحث في تعليقه على الحديث (1413) من "مسند أحمد" (1) واعترض ــ بأدبٍ ــ كلامَ المنذريّ، فاعترضه أبو ريَّة ص 39 وحاشيتها بأسلوبه الخاصّ، وختمه باللغة السابقة التي لزمه فيها ما لزمه. وتلخيص ما في النسخ وتعليق شاكر في رواية شعبة: أن بعض أصحابه ــ وهم الأكثرون ــ لم يذكروا فيه تلك الكلمة، وأن معاذ بن معاذ ذكرها، وكذا محمد بن جعفر غندر في أثبت الروايات عنه، وهي رواية أحمد في "مسنده" (2)، وأبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشّار عند ابن ماجه (3). وفي "الفتح" (4) أن الإسماعيليّ أخرجه من طريق غُندر بدونها. [ص 14] وقد قال ابن المبارك: "إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غُندر حَكَمٌ بينهم". وقد كان شعبة يسمع الحديث من الشيخ مرارًا، فيظهر أنه سمعه من جامع مرّة بإثبات الكلمة، ومرَّة بدونها، فكان شعبة يرويه مرة كذا ومرة كذا. أما مِن غير طريق شعبة، فذكر شاكر رواية أبي داود من طريق وبرة بن عبد الرحمن عن عامر بن عبد الله بن الزبير مسندةً وفيه الكلمة، وسنده صحيح. _________ (1) (3/ 8). (2) (1413). (3) (36). (4) (1/ 200).
(12/462)
وتقدم عن "الفتح" رواية "كتاب النسب" والدارمي بدون الكلمة، فرواية "كتاب النسب" لا أدري ما سندها، ورواية الدارمي فيها شيخه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وفيه كلام لكن الدارمي من المتثبّتين، وإذا كان الراوي عن كاتب الليث من المتثبّتين كالبخاريّ وأبي حاتم فهو قوي. والترجيح مشكل، فقد يقال: إن سياق القصة يؤيد الحذف كما فسَّره في "الفتح" ونقله أبو ريَّة، لكن قد أخرج البخاريّ عن أنسٍ بنحو القصة، مع أن المتن: "من تعمّد علَيَّ كذبًا فليتبوّأ مقعده من النار". وفسَّره في "الفتح" بما يناسبه. فأنا واقف. بقي قول المنذري: "وقد رُوي عن الزُّبير أنه قال: ... " إلخ، فذكر شاكر أن ابن سعد روى الخبر في طبقاته (3/ 1/74) عن عفّان ووهب بن جرير وأبي الوليد، ثلاثتهم عن شعبة ... فذكره بدون الكلمة. ثم قال: "قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير: والله ما قال: متعمّدًا، وأنتم تقولون: متعمّدًا". قال شاكر ما حاصله: إن هذا من قول وهب بن جرير ينكر على الذين رووه عن شعبة وفيه الكلمة، فمعناه: "والله ما قال شعبة: متعمدًا" إلخ. أقول: أما ظاهر قوله: "في حديثه عن الزبير" فإنه يعطي أنّ وهبًا ذكر هذه الزيادة في كلام الزبير، لكن يُعكِّر على ذلك أنها ليست في رواية من الروايات المختلفة عن شعبة، منها رواية غندر الذي كَتَب سماعًا عن شعبة، ثم عَرَض كتابه على شعبة وصحَّحه، ولا في الروايات الأخرى التي من غير طريق شعبة. وهذا دافعٌ قويّ يدفع أن يكون من أصل كلام الزبير. فالأشبه ــ والله أعلم ــ أنّ وهبًا قالها [ص 15] من عنده كما قال شاكر، لكنه وصلها بالحديث فتوهَّهم السامع أنها منه، فهي إذًا من المُدرَج، على أنها لو فُرض
(12/463)
أنها من كلام الزبير، فهو صادق بحسب ما سمع كما نقله أبو ريَّة عن ابن قتيبة بلفظ: "ووالله ما سمعته قال: متعمدًا". ولا يلزم من ذلك أن لا يكون غيره سمع الخبر وفيه هذه الكلمة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كرَّر التحذير مرارًا كما تقدَّم. فأيُّ مانعٍ من أن يذكره تارةً بدون الكلمة وتارةً بها. وقد تقدم إيضاح أن المعنى لا يختلف. * * * * عدالة الصحابة هذا بحث لا يحسُن إثارته في هذه العُجالة؛ لأنه يفتقر إلى بسط يبين الحجج ويوضِّح الأسباب والموانع والقرائن والدلائل، فانتظره في النقد الكامل (1) إن شاء الله تعالى. _________ (1) يعني "الأنوار الكاشفة" فانظر منه (ص 365 وما بعدها).
(12/464)
أبو هريرة أجلب أبو ريَّة بخيله ورَجْلِه محاولًا الإطاحة بأبي هريرة، وأسرف في جلب الأقوال والروايات الموضوعة والمكذوبة والساقطة والمَرميّ بها عن بُعد، والتي تكذيبها معها ولكنه لم ينقله، ولم يستحي من الأخذ بأباطيل عبد الحسين الرافضي وزاد فخصَّه بقوله: "العالِم" كما في آخر ص 361. وسأفصل ذلك في النقد إن شاء الله تعالى. وأقتصر على حديث: "خلق الله التُّربةَ ... " إلخ. فقد أوهم أو توهَّم أبو ريَّة أنه ظفر فيه بالبرهان القاطع حتى تحدَّى المسلمين في ص 175 قال: (وإني لأتحدّى الذين يزعمون في بلادنا أنهم على شيء [ص 16] من علم الحديث، وجميع مَن هُم على شاكلتهم في غير بلادنا أن يحلّوا لنا هذا المشكل، وأن يُخرجوا بعلمهم الواسع شيخَهم من الهُوّة التي سقط فيها). افرض أن جماعةً شهدوا أن زيدًا أخبرهم عن بكر عن سعد عن خالد عن جميل أن محمودًا أبا ريَّة قال: أخذ السيد محمد رشيد رضا بيدي فقال: "أُشهدك أني كافر بالقرآن وبِمَن جاء به". فقال بعضُ العارفين: "إنما هو: أبو ريَّة أنَّ سلامة موسى قال: أشهدك ... ". والسيد رشيد رضا بريء كلَّ البراءة مِن هذا القول ومما هو دونه بكثير. وقال قائل: "أنا أتحدّى المثقَّفين جميعًا أن يُخلِّصوا صاحبهم أبا ريَّة من هذه الهُوَّة". أليس من حقِّ أجهلهم أن ينبري له فيقول: أثبِتْ أوَّلًا أن أبا رية قال حقًّا: "أخذ السيد محمد رشيد رضا ... " إلخ، فإنّ بينك وبينه خمسة، قد يكون
(12/465)
أحدهم افترى أو أخطأ، أَوَليس هذا سؤالًا مُلزمًا؟ فخبر التربة رواه مسلم والنسائي (1) من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن أبيه عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة. وإذا نظرنا في حال هؤلاء وجدنا فيهم ابن جريج، وقد أفهم أبو ريَّة بأنه كان وكان. وقال ص 148: (ومِمَّن كان يَبُثُّ في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه ابنُ جريج الرومي الذي مات سنة 150، وكان البخاري لا يوثِّقه، وهو على حقّ في ذلك). إذا كان هذه حال ابن جُريج عند أبي ريَّة فكيف يحتجّ بخبر انفرد به، وهو عنده مما يتّهم فيه ثم يتحدَّى؟ ! ابن جُريج ثقة مأمون عند البخاري وغيره، إنما يُخشى تدليسه، وقد صرَّح هنا بالسماع. بقي النظر في غيره؛ نجد أنّ أيوب بن خالد وعبيد الله بن [ص 17] رافع لم يخرّج البخاري لواحد منهما شيئًا، وأن أيوب لم يوثِّقه أحد، وليس له في "صحيح مسلم" إلا هذا الخبر، وذِكْرُ ابنِ حبان له في "الثقات" (2) ليس بتوثيق معتبر عند أهل العلم؛ لأن ابن حبان يذكر فيها المجاهيل، ويذكر مَن وقف له على رواية غير منكرة عنده، وإن لم يَخبُر سائر مروياته. وقال الأزدي: "ليس حديثه بذاك؛ تكلم فيه أهل العلم بالحديث، وكان يحيى بن سعيد ونظراؤه لا يكتبون حديثه". والبخاريّ ذَكَر الخبر في ترجمة أيوب هذا من "تاريخه" (1/ 1/ 413)؛ قال: "وروى إسماعيل بن أميَّة عن أيوب بن خالد الأنصاري _________ (1) مسلم (2789)، النسائي في "الكبرى" (10943). (2) (6/ 54).
(12/466)
عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خلق الله التربةَ يوم السبت". وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح". وعادةُ مؤرِّخي الرجال أن يذكروا في ترجمة الرجل ما يُنتقد عليه من الأحاديث. فثبت أن البخاريَّ يحمل الخطأ في هذا الحديث على أيوب بن خالد. وكأنه وقع له عن أبي هريرة خبران؛ في أحدهما: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، وقال: (فذكر حديثًا غير هذا). والآخر: عن أبي هريرة عن كعب: خلق الله التربة ... إلخ، فاشتبه الأمر على أيوب، فركَّب الثاني على صَدر الأول، ومع ذلك خلط فيه فيما يظهر، فإن كعبًا يقول غير هذا. ويوشك أن يكون الأول هو حديث: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُهْبِط، وفيه تيب عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة" إلخ. وهو في "صحيح مسلم" (1) مختصرًا، وفي "سنن النسائي" (2) مطوّلًا، وفيه قصة جرت لأبي هريرة مع كعب، وذلك مما يوقع في الاشتباه، وفيه أيضًا ذِكْر الساعة التي في الجمعة ومن قال: إنها بعد العصر، وفي خبر التربة: "خُلق آدم بعد العصر يوم الجمعة". وهذا أيضًا مما يوقع في الاشتباه. وعلى كل حال فالتخليط من أيوب. قد يقول أبو ريَّة: ولكن مُسلمًا قد صحَّح الحديث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [ص 18] فيقال له: فقد صححه مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قال: لكن قام الدليل على امتناع صحّته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) (854). (2) (1766).
(12/467)
قيل له: فقد ذكرنا الدليل على عدم صحته عن أبي هريرة، وإنما خلط فيه أيوب. وكم من أحاديث رُويت عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي بأسانيد متصلة وحَكَم أهلُ العلم ببطلانها، وحملوا بحقّ تبعتها بعضَ رواتها، فلذلك هنا إن كان الخبر باطلًا فتَبِعته على أيوب لِمَا عرفتَ من حاله. وستعرف إن شاء الله في النقض المستوفى (1) مكانة أبي هريرة الحقيقية في الإسلام، وتدمغُ حُججُ الحقِّ ما حيكَ حولَه من الشبهات، والله المستعان. [ص 19] ومن تلك الدلالات القطعية ما هو مناقض للعقل عند المتكلّمين أنفسهم، وأنه لا مفرَّ لهم من الاعتراف بأن في نصوص القرآن وفيما تكلّم به النبي - صلى الله عليه وسلم - يقينًا ما هو قطعي الدلالة يُعلم منه قطعًا أن المتكلم أراد به المعنى الظاهر منه، ومع ذلك يكون المعنى في نفسه باطلًا. ثم حاول تلطيف ذلك بأنّ مِثْل ذلك إنما وقع لضرورة إصلاح العوام الذي هو المقصود من الشرائع. والعوام لا يُمكن إصلاحهم إلا بإخبار مثل تلك الأخبار التي تُناسب عقولهم وتبعث في نفوسهم الرهبة الشديدة والرغبة الأكيدة له فينقادوا. وحاصل هذا أن في القرآن وما تكلّم به النبي - صلى الله عليه وسلم - يقينًا ما هو كذب، إلا أنه كذب للمصلحة. نعم، إن ابن سينا ومَن وافقه لم يصرحوا بكلمة "كذب"، ولا غروَ أن يكون أبو ريَّة مع ابن سينا أو أن يزيد عليه. _________ (1) "الأنوار الكاشفة" (ص 194 ــ 315).
(12/468)