القول الفصل في حكم بناء القبب على القبر
التصنيفات
- العقيدة >> الشرك وخطره >> أقسام الشرك >> الشرك الأكبر
المصادر
الوصف المفصل
القول الفصل في حكم بناء القبب على القبر
سيف بن صالح الجربوع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبعد, فقد قرأت هذه النبذة التي هي بعنوان:
«القول الفصل في حكم البناء على القبر» من كتابة الشيخ: سليمان بن صالح بن عبد العزيز الجربوع وفقه الله فوجدتها مفيدة في موضعها يحتاج الناس إليها في مسألة تحريم البناء على القبور؛ لأنه من وسائل الشرك فجزاه الله خيرًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
كتبه
صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
21/5/1429هـ
* * * * بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول رب العالمين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، أما بعد,
فإن المتأمل في هذا الزمان والمطلع على واقع المسلمين يجد أمورًا يندى لها الجبين، وخاصة إن كانت من أعظم ذنب عصي الله به، أو سبيل موصل إليه، وهو الشرك بالله تعالى، وهل أرسل الرسل ونزلت الكتب إلا لتحقيق العبادة لله وحده لا شريك له، وإبطال ما سواه من الأنداد، }وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ{ [النحل: 36]، هذا وإن من الطرق الموصلة للشرك بناء القبب على القبور، وهو طريق وسبيل إلى عبادتها أو الاستشفاع بها عند الله، عياذًا بالله من ذلك.
ولهذه الأسباب وغيرها جاءت فكرة طرح هذا المختصر عن بناء القبب على القبر وحكمها في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف الصالح عنها والعمل تجاهها، عسى الله أن ينفع كاتبها وقارئها.
* * * *
مقدمــة
معنى القبة في اللغة: القُبَّةُ من البناء: قيل هي البناء من الأَدَم خاصًَّةً، مشتقٌّ من ذلك، والجمع قُبَبٌ وقِبابٌ. وقَبَّبها: عَمِلَها. وتَقبَّبها: دَخَلها، وبيتٌ مُقَبَّبٌ: جُعِلَ فوقه قُبَّةٌ؛ والهوادجُ تُقَبَّبُ. وقَبَبْتُ قُبَّة، وقَبَّبْتها تَقبيبًا إذا بَنَيْتَها. وقُبَّةُ الإِسلام: البَصْرة، وهي خِزانة العرب([1]).
والمقصود في بحثنا هذا هو ما بُنِيَ على قبل الميت من الأبنية.
وعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ؟ ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته»([2]).
قال الإمام الشوكاني في شرحه لهذا الحديث: «... ومن رفْعِ القبور الداخل تحت الحديث دخُولاً أوليًا القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وهو مِن اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن رسول الله ﷺ فاعله، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»([3]).
واستشار رجل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يبني فسطاطًا على ميت له، فقال له: «لا تفعل، إنما يظله عمله»([4]).
وعن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما ذكرتا للنبي ﷺ كنيسة رأينها بأرض الحبشة، وذكرتا حسنها، وتصاوير فيها، فقال النبي ﷺ: «إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»([5]).
وروى حرب الكرماني عن زيد بن ثابت أن ابنًا له مات, فاشترى غلام له جَصًا وآجُرًا ليبني على القبر، فقال له زيد: حفرتَ وكفرت، أتريد أن تبني على قبر ابني مسجدًا ؟ ونهاه عن ذلك ([6]).
وعن أنس t قال: «كنت أصلي وهناك قبر، فقال عمر بن الخطاب: القبر القبر! فظننته يقول: القمر، وإذا هو يقول: القبر، أو كما قال»([7]).
وقد قال ابن القيم رحمه الله: «وأبلغ من ذلك: أن رسول الله ﷺ أمر بهدم مسجد الضرار، ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادًا منه كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض، وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها؛ لأنها أسست على معصية الرسول؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور؛ فبناءٌ أُسِسَ على معصيته ومخالفته بناءٌ محرم وهو أولى بالهدم من بناء العاصب قطعًا»([8]).
وقد أفتى جماعة من الشافعي بعدم ما بالقرافة([9]) من الأبنية، منهم ابن الجُميزي (ت649هـ) والظهير التزمنتي (ت682هـ) وغيرهما، وقال القاضي ابن كج (ت405هـ): «ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة».
وقال الفقيه الشافعي الأذراعي (ت781هـ): «وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية، وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه».
وقال ابن رشد (ت520هـ): «كره مالك البناء على القبر، وجعْل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة»([10]).
وقد قال الإمام الشافعي: «رأيت الأئمة بمكة، يأمرون بهدم ما يبنى على القبور»([11])، ويؤيد الهدم: قوله ﷺ: «ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» وحديث جابر رضي الله عنهما الذي بمسلم «نهى ﷺ عن البناء على القبور». اهـ.
وقال شيخ الإسلام محمد التميمي رحمه الله مُعلِقًا على قول الشافعي السابق: «ولأنها أسست على معصية الرسول؛ لنهيه عن البناء عليها، وأمره بتسويتها؛ فبناء أسس على معصيته، ومخالفته ﷺ بناء غير محترم، وأولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا، وأولى من هدم مسجد الضرار، المأمور بهدمه شرعًا؛ إذ المفسدة أعزم حماية للتوحيد... اهـ»([12]).
وقد قال ابن حجر رحمه الله: «ﷺتجب المبادرة لهدم المساجد والقباب التي على القبور؛ إذ هي اضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسول الله ﷺ، وكانت هذه الفتوى في عهد الملك الظاهر, إذ عظم على هدم كل ما في القرافة من البناء كيف كان، فاتفق علماء عصره أنه يجب على ولي الأمر أن يهدم ذلك كله ويجب عليه أن يطلق أصحابها رمي ترابها في الكيمان» ([13])([14]).
قال الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني: «فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، غالبًا، بل كل من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه، من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات، من دون توسل به ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم، فيأتي من بعدهم فيجد قبرًا قد شيد عليه البناء، وسُرجت عليه الشموع، وفُرش بالفراش الفاخر، وأُرخيت عليه الستور، وأُلقيت عليه الورود والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضرر، وبفلان النفع، حتى يغرسوا في جِبلته كل باطل، فلذلك ثبت في الأحاديث النبوية المنع من ذلك. اهـ»([15]).
سائلاً المولى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * * *
بعض رسائل وفتاوى العلماء في بناء القبب على القبور، والواجب تجاهها
الرسالة الأولى: رسالة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، نصر الله بهم دين سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وتابعي الأئمة الأعلام.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد, جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم، وسببه هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين، ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة، مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور، كبر على العامة، وعاضدهم بعض من يدعي العلم لأسباب ما تخفى على مثلكم، أعظمها أتباع الهوى مع أسباب أخر... الخ الرسالة ([16]).
* * * *
الرسالة الثانية: رسالة للإمام البطل المجاهد سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود آل سعود رسالة إلى سليمان باشا، وجاء في : فشعائر الكفر بالله والشرك هي الظاهرة عندكم مثل: بناء القباب على القبور وإيقاد السرج عليها وتعليق الستور عليها... إلخ([17]).
الرسالة الثالثة: جواب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على السؤال التالي:
السؤال: لاحظت عندنا على بعض القبور عمل صبة بالأسمنت بقدر متر طولا في نصف متر عرضا مع كتابة اسم الميت عليها وتاريخ وفاته وبعض الجمل؛ اللهم ارحم فلان بن فلان... وهكذا، فما حكم مثل هذا العمل؟
الجواب: لا يجوز البناء على القبور لا بصبة ولا بغيرها ولا تجوز الكتابة عليها؛ لما ثبت عن النبي ﷺ من النهي عن البناء عليها والكتابة عليها؛ فقد روى مسلم رحمه الله من حديث جابر t قال: «نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه» وخرجه الترمذي وغيره بإسناد صحيح وزاد «وأن يكتب عليه» ولأن ذلك نوع من أنواع الغلو, فوجب منعه، ولأن الكتابة ربما أفضت إلى عواقب وخيمة من الغلو وغيره من المحظورات الشرعية، وإنما يعاد تراب القبر عليه ويرفع قدر شبر تقريبا حتى يعرف أنه قبر، هذه هي السنة في القبور التي درج عليها رسول الله ﷺ وأصحابه y، ولا يجوز اتخاذ المساجد عليها ولا كسوتها ولا وضع القباب عليها لقول النبي ﷺ: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» متفق على صحته، ولما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله ﷺ قبل أن يموت بخمس يقول: «إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ونسأل الله أن يوفق المسلمين للتمسك بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام والثبات عليها والحذر مما يخالفها إنه سميع قريب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته([18]).
الرسالة الرابعة: وجه أيضًا لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله هذا السؤال: عندنا من المشايخ الصوفية من يهتمون بعمل القباب على الأضرحة والناس يعتقدون فيهم الصلاح والبركة، فإن كان هذا الأمر غير مشروع فما هي نصيحتكم لهم وهم قدوة في نظر السواد الأعظم من الناس؟ أفيدونا بارك الله فيكم. اهـ.
الجواب: النصيحة لعلماء الصوفية ولغيرهم من أهل العلم أن يأخذوا بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يعلموا الناس ذلك، وأن يحذروا اتباع من قبلهم فيما يخالف ذلك؛ فليس الدين بتقليد المشايخ ولا غيرهم، وإنما الدين ما يؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وما أجمع عليه أهل العلم وعن الصحابة y، هكذا يؤخذ الدين لا عن تقليد زيد أو عمرو، ولا عن مشايخ الصوفية ولا غيرهم، وقد دلت السنة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام على أنه لا يجوز البناء على القبور ولا اتخاذ المساجد عليها، ولا اتخاذ القباب ولا أي بناء، كل ذلك محمر بنص الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك ما ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قال رسول الله ﷺ: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا»، وفي الصحيحين عن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله تعالى عنهما أنهما ذكرتا للنبي ﷺ كنيسة رأتاها في أرض الحبشة وما فيها من الصور فقال ﷺ: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوره فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» فأخبر عليه الصلاة والسلام أن الذين يتخذون المساجد على القبور هم شرار الخلق، وهكذا من يتخذ عليها الصور؛ لأنها دعاية إلى الشرك ووسيلة له؛ لأن العامة إذ رأوا هذا عظموا المدفونين واستغاثوا بهم ودعوهم من دون الله وطلبوهم المدد والعون، وهذا هو الشرك الأكبر وفي حديث جندب بن عبد الله البجلي t المخرج في صحيح مسلم رحمه الله عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» هكذا رواه مسلم في الصحيح، فدل ذلك على فضل الصديق t وأنه أفضل الصحابة وخيرهم، وأنه لو اتخذ النبي خليلاً لاتخذه خليلا t، ولكن الله جل وعلا منعه من ذلك حتى تتمحض محبته لربه سبحانه وتعالى، وفي الحديث دلالة على تحريم البناء على القبور, واتخاذ مساجد عليها وعلى ذم من فعل ذلك من ثلاث جهات: إحداها: ذمه من فعل ذلك، والثانية: قوله: «فلا تتخذوا القبور مساجد»، والثالثة: قوله: «فإني أنهاكم عن ذلك».
فحذر من البناء على القبور بهذه الجهات الثلاث، فوجب على أمته أن يحذروا ما حذرهم منه، وأن يبتعدوا عما ذم الله به من قبلهم من اليهود والنصارى ومن تشبه بهم من اتخاذ المساجد على القبور والبناء عليها، وهذه الأحاديث التي ذكرنا صريحة في ذلك، والحكمة في ذلك كما قال أهل العلم: الذريعة الموصلة إلى الشرك الأكبر، فعبادة أهل القبور بدعائهم والاستغاثة والنذور والذبائح لهم وطلب المدد والعون منهم كما هن واقع الآن في بلدان كثيرة في السوادن ومصر وفي الشام وفي العراق وفي بلدان أخرى, كل ذلك من الشرك الأكبر، يأتي الرجل العامي الجاهل, فيقف على صاحب القبر المعروف عندهم فيطلبه المدد والعون كما يقع عند قبر البدوي والحسين وزينب والسيدة نفيسة، وكما يقع في السودان عند قبور كثيرة، وكما يقع في بلدان أخرى، وكما يقع من بعض الحجاج الجهال عند قبر النبي ﷺ في المدينة وعند قبور أهل البقيع وقبور أخرى, يقع هذا من الجهال، فهم يحتاجون إلى التعليم والبيان والعناية من أهل العلم حتى يعرفوا دينهم على بصيرة، فالواجب على أهل العلم جميعا الذين من الله عليهم بمعرفة دينهم على بصيرة سواء كانوا من الصوفية أو غيرهم أن يتقوا الله وأن ينصحوا عباد الله، وأن يعلموهم دينهم، وأن يحذروهم من البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها والقباب أو غير ذلك من أنواع البناء، وأن يحذروهم من الاستغاثة بالموتى ودعائهم.
فالدعاء عبادة يحب صرفها لله وحده، كما قال الله سبحانه: }فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{ [الجن: 18]، وقال سبحانه: }وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ{ [يونس: 16]، يعني: من المشركين، وقال عليه الصلاة والسلام: «الدعاء هو العبادة»، وقال ﷺ: «إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» فالميت قد انقطع عمله وعلمه بالناس، وهو في حاجة أن يُدعى له ويستغفر له ويُتَرحم عليه لا أن يدعى من دون الله، يقول النبي u: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
فكيف يُدعى من دون الله؟ وهكذا الأصنام وهكذا وهكذا الأشجار والأحجار والقمر والشمس والكواكب, كلها لا تدعى من دون الله، ولا يستغاث بها، وهكذا أصحاب القبور وإن كانوا أنبياء أو صالحين، وهكذا الملائكة والجن لا يدعون مع الله، فالله سبحانه يقول: }وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ{ [آل عمران: 80]، فالله لا يأمر باتخاذ الملائكة والبنيين أربابًا من دونه؛ لأن ذلك كفر بنص الآية، وفي حديث جابر عند مسلم في صحيح يقول t: «نهى رسول الله عن تجصيص القبور وعن القعود عليها وعن البناء عليها» وما ذاك إلا لأن تجصيصها والبناء عليها وسيلة إلى الشرك بأهلها والغلو فيهم أما القعود عليها فهو امتهان لها، فلا يجوز ذلك، كما لا يجوز البول عليها والتغوط عليها، ونحو ذلك من أنواع الإهانة؛ لأن المسلم محترم حيًا وميتًا لا يجوز أن يُداس قبره ولا أن تكسر عظامه، ولا أن يقعد على قبره، ولا أن يبال عليه، ولا أن توضع عليه القمائم، كل هذا ممنوع، فالميت لا يمتهن ولا يعظم بالغلو فيه ودعائه مع الله والطواف بقبره ونحو ذلك من أنواع الغلو، وبذلك يعلم أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالأمر الوسط بشأن الأموات فلا يُغلى فيهم ويعبدون مع الله، ولا يمتهنون بالقعود على قبورهم ونحو ذلك، وهي وسط في كل الأمور والحمد لله؛ لأنها تشريع من حكيم عليم يضع الأمور في مواضعها كما قال عز وجل: }إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ{ [الأنعام: 83].
ومن هذا ما جاء في الحديث الصحيح يقول ﷺ: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها»، فجمعت الشريعة الكاملة العظيمة بين الأمرين؛ بين تحريم الغلو بدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم والصلاة إلى قبورهم، وبين النهي عن إيذائهم وامتهانهم والجلوس على قبورهم أو الوطء عليها والاتكاء عليها، كل هذا ممنوع فلا هذا ولا هذه، وبهذا يعلم المؤمن ويعلم طالب الحق أن الشريعة جاءت بالوسط لا بالشرك ولا بالإيذاء، فالميت المسلم يدعى له ويستغفر له ويسلم عليه عند زياراته, أما أن يدعى من دون الله أو يطاف بقبره أو يصلى إليه, فلا، أما الحي الحاضر فلا بأس بالتعاون معه فيما أباح الله؛ لأن له قدرة على ذلك، فيجوز شرعا التعاون معه بالأسباب الحسية، وهكذا الإنسان مع أخوانه ومع أقاربه يتعاونون في مزارعهم وفي إصلاح بيوتهم وفي إصلاح سيارتهم ونحو ذلك، يتعاونون بالأسباب الحسية المباحة المقدور عليها, فلا بأس بذلك، وهكذا مع الغائب الحي عن طريق الهاتف أو عن طريق المكاتبة ونحو ذلك، كل هذا تعاون حسي لا بأس به في الأمور المقدورة المباحة، كما أن الإنسان القادر الحي يتصرف بالأسباب الحسية, فيعينك بيده ويبني معك أو يعطيك مالا، هدية أو قرضًا، فالتعاون مع الأحياء شيء جائز بشروطه المعروفة، أما الاستغاثة بالأموات أو بالغائبين بغير الأسباب الحسية, فشرك أكبر بإجماع أهل العلم ليس فيه نزاع بين الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان وأهل البصيرة، والبناء على القبور واتخاذ المساجد عليها والقباب كذلك منكر معلوم عند أهل العلم، جاءت الشريعة بالنهي عنه؛ لكونه وسيلة إلى الشرك، فالواجب على أهل العلم أن يتقوا الله أينما كانوا، وأن ينصحوا عباد الله، وأن يعلموهم شريعة الله، وأن لا يجاملوا زيدًا ولا عمرًا، فالحق أحق أن يتبع بل عليهم أن يعلموا الأمير والصغير والكبير، ويحذروا الجميع مما حرم الله عليهم، ويرشدوهم إلى ما شرح الله لهم، وهذا هو الواجب على أهل العلم أينما كانوا من طريق الكلام الشفهي ومن طريق الكتاب ومن طريق التأليف أو من طريق الخطابة في الجمعة وغيرها، أو من طريق الهاتف أو من أي الطرق التي وجدت الآن والتي تمكن على تبليغ دعوة الله ونصح عباده، والله ولي التوفيق([19]).
* * * *
الرسالة الخامسة: وقد سئل الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله السؤال: هذه الرسالة وردتنا من الأردن, يقول فيها الأخ خليل يزد محمد النعامي: هل يجوَّز بناء القبر، وإذا لم يجوَّز أفيدوني ماذا أفعل؟
الجواب: لا أدري هل يريد ببناء القبر اتخاذ مكان للإنسان بدفن فيه مبنيًا، أو أنه يريد ببناء القبر البناء عليه، فإن كان الأول وهو أن يتخذ مكانًا يدفن فيه, فإن السنة هو أن يكون القبر مُلحدًا، أي: أن تحفر حفرة ويجعل في مقدمة القبر من ما يلي القبلة حفرة أخرى بمقدار جسم الميت يدفن فيها هذا هو السنة التي ثبتت عن النبي ﷺ وعلى هذا فمن اتخذ قبرًا مبنيًا ببناء, فإنه يكون مخالفًا للسنة، وأما إذا كان يريد البناء على القبور, فإن هذا محرم وقد نهى عنه ﷺ؛ لما فيه من تعظيم أهل القبور وكونه وسيلة وذريعة إلى أن تعبد هذه القبور وتتخذ آلهة مع الله, كما هو الشأن في كثير من الأبنية التي بنيت على القبور فأصبح الناس يشركون بأصحاب هذه القبور مع الله سبحانه وتعالى ([20]).
وقد سئل رحمه الله في فتاوى نور على الدرب السؤال الآتي: جزاكم الله خيرًا السائل أحمد من اليمن من محافظة إب يقول في هذا السؤال: نرجو منكم أن تفتوننا في هذا السؤال يوجد لدينا قبر رجل ويقولون بأنه ولي وقد بني عليه قبة وبجانبه ما يقارب من ثلاثة قبور أخرى والقبة المذكورة قد جعلوا فيها مقدمة ومكاناً يصلى فيه والقبور المذكورة تقع خلف المصلين, ونحن نصلي في هذه القبة والقبور من خلفنا, فنرجو من فضيلة الشيخ النصح والتوضيح هل صلاتنا صحيحة أو لا, جزاكم الله خيرًا.
الجواب: البناء على القبور محرم، وكل بناء بني على قبر فإنه يجب هدمه، ولا يجوز إقراره والصلاة فيه لا تصح بل هي باطلة؛ فلا يحل لكم أن تصلوا في هذه الساحة، وإن صليتم فأنتم آثمون وصلاتكم باطلة مردودة عليكم ثم إني أقول: من قال إن هذا قبر ولي قد يكون دجلاً وكذبا ثم أقول: ما هو الولي قد يكون دجالا دجل على الناس, وقال إنه من أولياء الله وهو من أعداء الله وأولياء الله تعالى هم المؤمنون المتقون لقوله تعالى: } أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ { [يونس: 62، 63] فلابد من هذه المقدمات أن يعلم أن هذا من أولياء الله لكونه مؤمنا تقيا، وأن يعلم أنه دفن في هذا، وبعد هذا يجب أن تهدم القبة التي عليه ولا تصح الصلاة فيها.
* * * *
وختامًا: نسأل المولى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يرزقنا وإياهم اتباع سنة إمام المرسلين، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه على يوم الدين.
([1]) انظر لسان العرب.
([2]) رواه مسلم (3/61) وأبو نعيم في (المستخرج) (15/33/2) وأبو داود (3218) والنسائي (1/285) والترمذي (1/195) والبيهقي (4/3) والطيالسي (155) وأحمد (1/124، 96) من طريق حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: «قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ؟ أن لا تدع» الحديث، وصححه الألباني في الإرواء (3/209).
([3]) أخرجه البخاري (3/156، 198، 8/114) وأبو عوانة (2/399) وأحمد (6/80، 121، 255).
([4]) رواه ابن أبي شيبة وابن عساكر (7/96/2) عن أبي سعيد الخدري (103).
([5]) أخرجه البخاري (1/422، 416) ومسلم (2/66-76) والنسائي (1/115) وكذا أبو عوانة (2/400-401) والبيهقي (4/80) والسياق لهما، وأحمد (6/51) وابن أبي شيبة (4/140)،وصححه الألباني في الصحيحة (2/555).
([6]) لم أجده.
([7]) رواه أبو الحسن الدينوري في جزء فيه مجالس من أمالي أبي الحسن القزويني (ق3/1) بإسناد صحيح وعلقه البخاري (1/437 فتح) ووصله عبد الرزاق أيضًا في «مصنفه» (1/404/1581) وزاد: «إنما أقول القبر: لا تصل إليه».
([8]) إغاثة اللهفان (1/210).
([9]) القرافة مقبرة «بمصر» ينظر تاج العروس (1/667)، وهو اسم قبيلة يمنية جاورت المقابر, فغلب اسمها على كل مقبرة، انظر المعجم الوسيط (3/374).
([10]) انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية (6/91).
([11]) انظر الأم للشافعي (1/316).
([12]) الدرر السنية (2/202).
([13]) انظر كتاب الزواجر لابن حجر.
([14]) مكان لقضاء الحاجة.
([15]) انظر كتاب «تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد» للإمام الصنعاني.
([16]) انظر الدرر السنية (1/56).
([17]) انظر الدرر السنية (1/293).
([18]) نشر بمجلة الدعوة العدد 939 في 22/7/1404هـ - انظر مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الجزء الرابع.
([19]) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الجزء الخامس.
([20]) في أجوبته رحمه الله ببرنامج نور على الدرب.