النصائح المفيدة في تحريم الغيبة والنميمة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
النصائح المفيدة في تحريم الغيبة والنميمة
الشيخ: محمد بن سليمان العليط
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن الله بعزته وقدرته سبحانه وتعالى جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وجعل نبينا أفضل الأنبياء والقرآن أفضل الكتب.
وهذه الخيريّة إنما حصولها متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وبعض العلماء عدّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سادس أركان الإسلام.
ولا يسع أحدا السكوت إذا رأى منكرا مع قدرته على أحد مراتب الإنكار الثلاثة:
ولا يشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون سالما من الذنوب، ولو كان هذا شرطا لما أمر ونهى بعض الأنبياء أحد كما ذكر السفاريني رحمه الله عن بعض العلماء أنه قال في هذا المعنى "ينبغي لمن يتعاطى الكأس أن ينكر على الجلاس" يعني: كأس الخمر.
وقد استخرت الله تعالى في جمع نبذة يسيرة في بيان تحريم الغيبة والنميمة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والقصد في هذه النصيحة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة» وسميتها: "النصائح المفيدة في تحريم الغيبة والنميمة".
والله أسأل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع بها من قرأها أو سمعها أو أعان على نشرها، إن الله حميد مجيد، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
فصل: في بيان تحريم الغيبة والنميمة من القرآن
قال تعالى: ﴿مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها الشارع، كما في الحديث الذي رواه أبو داود:
حدثنا القعنبـي، حدثنا عبد العزيز محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله ما الغيبة قال - صلى الله عليه وسلم -: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم - «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» ورواه ابن جرير والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وروى ابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الغيبة أشد من الزنى» قيل: وكيف؟: قال: «الرجل يزني ثم يتوب، فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه».
وروى ابن عيينة غير مرفوع: قال المنذري: وهو أشبه.
فصل: فيما جاء من تحريم الغيبة والنميمة من السنة
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه باب الغيبة وقول الله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ الآية.
حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن الأعمش، قال: سمعت مجاهدا يحدث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما هذا، فكان لا يستتر من بوله، وأما هذا، فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بعسيب رطب فشقَّه باثنين، فغرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا».
وقال الحافظ في الفتح: وأخرج أيضا أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن أبي بكرة، قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير وبكى» وفيه «وما يعذبان إلا في الغيبة والبول»..
وقال أبو داود حدثنا مسدد: وساق بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية كذا وكذا يعني قصيرة، قال: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته».
ولأحمد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على قبر يعذب صاحبه فقال: «إن هذا يأكل لحوم الناس» الحديث. ورواته موثقون. أ.هـ، من الفتح.
وقال: وأكل لحوم الناس يصدق على النميمة والغيبة.
وقال الكرماني: الغيبة نوع من النميمة؛ لأنه لو سمع المنقول عنه ما نقل عنه غمَّة ذلك.
ونقل القرطبي الإجماع على أن الغيبة من الكبائر.
وقال ابن الأثير: الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء، وإن كان فيه.
وقال الإمام النووي رحمه الله:
غيبة المرء بما يكرهه سواء كان في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجته أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسه أو غير ذلك.أ.هـ. من الفتح.
فصل: في تحريم النميمة من الكتاب والسنة
قال الله تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ قال الراغب: همز الإنسان اغتيابه: والنم إظهار الحديث. أ.هـ. من الفتح.
وقال ابن كثير في تفسيره: ﴿مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ يعني: الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم وهي الحالقة، نعوذ بالله من مكره وأسباب غضبه.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة».
وروى الترمذي عن عبد الله بن أسباط، وساق بسنده عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام، ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ في الشر أن يحقر أخاه المسلم» وقال: حسن غريب.
وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب النميمة من الكبائر، وساق حديث ابن عباس: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض حيطان المدينة فسمع إنسانين يعذَّبان في قبورهما فقال: «يعذَّبان في قبورهما فقال: يعذَّبان وما يعذَّبان في كبيرة، وإنه لكبير كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة» إلى آخر الحديث.
وقال أبو بكر الإسماعيلي حدثنا عبد الله بن ماجد، وساق بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه، ولو في جوف رحله» أ.هـ. من ابن كثير.
وروى أبو داود عن ابن المصفى، وساق بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم قلت: من هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم».
وأخرج الشيخان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة الوداع:
«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «وهل يكب الناس على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم».
فصل: فيما جاء عن السلف من الصحابة والتابعين في هذا الباب
عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه دخل على أبي بكر وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه، غفر الله لك، فقال: هذا أوردني الموارد. أ.هـ.
وقال عمر رضي الله عنه:
عليكم بذكر الله؛ فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء.
وقال قتادة رحمه الله:
ذُكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث: من الغيبة، وثلث: من البول، وثلث: من النميمة. اهـ. من الزاجر.
وقال ابن حجر لسانُك أسدُك إن أطلقته افترسك، وإن أمسكته حرسك.
وقيل مرّ قومٌ على راهبٍ في صومعته، وقالوا: ما اسمك؟ قال: السجّان. قالوا: وما السجّان؟! قال: لساني لا يعقر الناس.
وقال الحسن البصري رحمه الله:
والله، للغيبة أسرع فسادا في دين العبد من الأكلة في الجسد.
وقال له رجل: بلغني أنك تغتابني، فقال له: ما بلغ قدرك عندي أني أحكمك في حسناتي.
وفي الحديث أن أربى الربى عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ الآية. أ.هـ. من الزواجر.
وقال ابن حجر: فظهر أن الغيبة هي الداء العضال والسم الذي في الألسن أحلى من الزلال، وقد جعلها من أوتي جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - عديلة غصب المال وقتل النفس بقوله «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه».
فائدة:
وأما قول بعض العوام إذا اغتبت المسلم، ولم تذكر اسمه فلا بأس، فهذا قول بلا علم لأنه لم يأت في كتاب الله ولا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام» فبمجرد كونه مسلم يحترم عرضه سواء سمي أولم يسم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرَّم غيبة المسلم.
فصل
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، ومن كان ذا لسانين في الدنيا، فإن الله يجعل له لسانين من نار يوم القيامة».
قال الإمام أبو حامد: إنما تطلق في الغالب على من ينم قول الغير إلى المقول فيه بقوله فلان يقول فيك كذا.
وليست مخصوصة بذلك فقط بل حدها كشف ما يكره كشفه وسواء كان الكشف بقول أو بكتابة أو رمز أو إيماء أو نحوها. اهـ. من الكبائر.
فصل
وقيل في قوله تعالى: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ يعني: امرأة أبي لهب أنها كانت تنقل الحديث بالنميمة سمّى النميمة حطباً؛ لأنهما سبب لإشعال النار:
ويقال عمل النمام أضر من عمل الشيطان؛ لأن عمل الشيطان بالوسوسة وعمل النمام بالمواجهة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من نقل إليك نقل عنك فاحذره، وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله ولد الزنى لا يكتم الحديث استنباطا من قوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾. أ.هـ. من الكبائر.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» رواه الترمذي وأبو داود.
فصل
وقال العلماء إن الغيبة لا تباح بحال أبداً إلا في ستة أشياء إذا كانت لغرض صحيح.
الأول: أن يتظلّم عند الأمير أو ممن له ولاية وقدرة ويقول ظلمني فلان.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب.
الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي ظلمني أخي فهل له ذلك.
الرابع: تحذير المسلمين ونصيحتهم مثل جرح الرَّواة والشهود المتهمين ونحوهم.
الخامس: المجاهر بفسق ونحوه فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب.
السادس: تعريف الإنسان ووصفه بما يتميز به مثل الأعمش والأعرج ونحوه ويحرم على وجه التنقص له.
فهذه ستة أسباب ذكرها أهل العلم ودلائلها من الأحاديث الصحيحة. أ.هـ. من كلام الإمام النووي مختصر، والله الموفق لصواب.
حكاية
يروى أن معروفا الكرخي رحمه الله إذا اغتاب أحد عنده إنسانا صاح، وقال: اذكر القطن القطن واذكر الحنوط واذكر الكفن إذا مت ووضعن عليك.
فانظر إلى هذا العارف، حيث إنه خاف على أعماله الصالحة أن تذهب للناس؛ لأنه مؤمن بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الحسن رحمه الله: إذا رأيت الرجل يشتغل بعيوب غيره، ويترك عيوب نفسه فاعلم أنه قد مكر به. أ.هـ. تاريخ ابن كثير.
فائدة
يروى أن الآجري رحمه الله مر عليه رجل عليه أثر الصلاح، وهو فقير، فأومأ بيد يسأله شيئا، فقال في قلبه: لو أن هذا الشيخ عمل بيده وتعيش فلما ذهب وجاء الليل ونام أوتي به مطبوخا، وقيل له: كل لحمه، فصاح وقال: لم أقل شيئا فيه، فقيل له: أنت يكفي منك قول القلب. أ.هـ. من تاريخ بغداد.
فلننظر يا أخي هذا الأمر العظيم الفظيع، واحذر غيبة الخلق، ولا تغتر فيمن يغتاب؛ لأن القدوة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واحذر أن تقسم أعمالك الصالحة على من اغتبته من المسلمين والمسلمات، وتبقى فقيرا يوم القيامة، نعوذ بالله مقته وانتقامه.
وأعظم ما يكون خطراً غيبة أهل العلم والصلاح ولو جرى منهم خطأ، فإن الكمال لله العظيم.
ومن ابتلاه الله بغيبة العلماء ابتلاه بموت القلب كما ذكره ابن عساكر وغيره: نعوذ بالله من الخذلان.
هذا آخر ما تيسر جمعه والحمد لله رب العالمين نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويوفقنا لاتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويوفقنا لاجتنابه، ويهدينا صراطه المستقيم، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين. آمين