ضرورة تعلم مسائل القدر والنهي عن الخوض فيه
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
ضرورة تعلم مسائل القدر والنهي عن الخوض فيه
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد:
فقد وردت نصوص شرعية تنهى عن الخوض في القدر، وتحذر من التنازع فيه، ومع وجود بحوث ليست قليلة تناولت مسائل القضاء والقدر بالعرض والدراسة إلا أني لم أجد من جمع تلك النصوص الشرعية وبيَّن ما يتضمنه ذلك النهي، وما يتناوله ذلك التحذير، وكيفية الجمع بين تلك النصوص والنصوص الكثيرة التي تدل على ضرورة تعلم مسائل القضاء والقدر، ودراستها وتعليمها؛ لكونه الركن السادس من أركان الإيمان.
لم أجد من تعرض لها إلا إشارات يسيرة متفرقة في بعض تلك المصادر التي تحدثت عن القضاء والقدر، وبخاصة أنه قد كثر التساؤل حول كيفية الجمع بين الأمرين: النهي عن الخوض في القدر، وضرورة تعلم مسائله؛ إذ هو من أصول الإيمان التي يجب تعلمها، مما يدل على وقوع اللبس في هذه المسائل عند كثير من الناس.
بل قد يحجم بعضهم عن دراسة هذا الركن العظيم وتعلمه بحجة الحذر من الوقوع في النهي.
ولذا عقدت العزم على تجلية هذا الموضوع، محاولا جمع تلك النصوص، واستقراء ما تتضمنه من نهي وتحذير، مستنيرا بأقوال أهل العلم، جامعا ما تفرق من كلامهم في بطون الكتب، مبينا أنه لا تعارض بين الأمرين بأي وجه من الوجوه.
وقد قسمت البحث إلى مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة.
ففي المقدمة: ذكرت أهمية الموضوع وسبب اختياره وخطة إعداده إجمالا.
وفي التمهيد: ذكرت تعريف القضاء والقدر في اللغة والشرع والفرق بينهما.
أما في المبحث الأول: فذكرت فيه منزلة الإيمان بالقضاء والقدر من الدين.
وفي المبحث الثاني: بينت أهمية تعلم مسائل القضاء والقدر وتعليمها، وأدلة ذلك.
وفي المبحث الثالث: ذكرت النصوص الدالة على النهي عن الخوض في القدر.
ثم ذكرت في المبحث الرابع: الأمور التي يتضمنها الخوض المنهي عنه في القدر.
وفي نهاية البحث كتبت خاتمة ذكرت فيها خلاصته وأهم الأمور التي جلاها.
اسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، موافقا لشرعه القويم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
التمهيد
تعريف القضاء والقدر والفرق بينهما
تعريف القضاء لغة:
هو بالمد ويقصر؛ معناه: الحكم والإتقان والإنفاذ، أصله: قضاي؛ لأنه من قضيت، إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف قلبت همزة، قال ابن فارس (ت 395هـ):
"القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه"([1]).
وقد يكون بمعنى الفراغ؛ يقال: قضيت حاجتي؛ أي فرغت منها، ويكون بمعنى الأداء والإنهاء؛ ومنه قوله تعالى: }وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ{ [الإسراء: 4]، ويأتي بمعنى التقدير؛ يقال: قضاه: أي قدره؛ ومنه قوله تعالى: }فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ{ [فصلت: 12]، ومنه القضاء والقدر([2]).
قال ابن الأثير (ت 606هـ): "وقد تكرر في الحديث ذكر القضاء، وأصله: القطع والفصل، يقال: قضى يقضي قضاء فهو قاض؛ إذا حكم وفصل. وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه"([3]).
تعريف القدر لغة:
القدر مصدر قَدَرَ يقدُرُ قَدَراً، وقد تسكن داله، وهو عبارة عما قضاه الله وحكم به من الأمور([4]).
قال ابن فارس: "قدر: القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته؛ فالقدر مبلغ كل شيء؛ يقال: قَدرُه كذا؛ أي مبلغه، وكذلك القَدَر، وقدرت الشيء أقدِرُه وأقدُرُه؛ من التقدير"([5]).
ويطلق القدر على الحكم والقضاء، ومنه قوله ﷺ في حديث الاستخارة: «فاقدره لي، ويسره لي»([6]).
ويأتي القدر بمعنى التضييق([7])؛ ومنه قوله تعالى: }وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ{ [الفجر: 16].
كما يأتي القدر بمعنى الطاقة([8])، ومنه قوله تعالى: }عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ{ [البقرة: 236].
ويقول الفيروزآبادي (ت 817هـ) في تعريف القدر: "القضاء، والحكم، ومبلغ الشيء، والتقدير: التروية والتفكر في تسوية الأمر"([9]).
تعريف القضاء والقدر شرعا:
سئل الإمام أحمد (ت 241هـ) عن القدر، فقال: "القدر قدرة الله على العباد"([10]).
وقال السفاريني (ت 1188هـ) في تعريف القضاء: "إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال"([11])، وفي موضع آخر عرَّفه بأنه: "ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عز وجل قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة؛ فهي تقع على حسب ما قدرها"([12]).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) أن: "الإيمان بالقدر على درجتين؛ كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق، وهم عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلا وأبدا، وعلم جميع أحوالهم في الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق...
وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه؛ لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، ولا خالق غيره ولا رب سواه"([13]).
وقال ابن القيم (ت 751هـ): "مراتب القضاء والقدر، التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر؛ وهي أربع مراتب: (المرتبة الأولى): علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها، (المرتبة الثانية): كتابه لها قبل كونها، (المرتبة الثالثة): مشيئته لها، (الرابعة): خلقه لها"([14]).
الفرق بين القضاء والقدر:
للناس في الفرق بين القضاء والقدر أقوال؛ أهمها ما يأتي:
الأول: أنه لا فرق بينهما؛ فإذا أطلق أحد اللفظين شمل معنى الآخر.
الثاني: أن القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق.
نقل ابن حجر (ت 852هـ) عن بعض أهل العلم قوله: "القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل"([15]).
وفي موضع آخر قال: "وقالوا ـ أي العلماء ـ: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله"([16]).
الثالث: أن القدر هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقضاء هو الخلق.
يقول الراغب الأصفهاني (ت 502هـ): "والقضاء من الله تعالى أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير، فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع"([17]).
ويقول الخطابي (388هـ): "القدر اسم لما صار مقدرا عن فعل القادر؛ كالهدم والنشر والقبض: أسماء لما صدر من فعل الهادم والناشر والقابض، والقضاء في هذا معناه الخلق؛ كقوله تعالى: }فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ{ [فصلت: 12] أي خلقهن"([18]).
ويذكر ابن الأثير وغيره أن القضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام الفصل بينهما فقد هدم البناء ونقضه([19]).
الرابع: أنهما إذا اجتمعا تفرقا، وإذا تفرقا اجتمعا؛ فإذا أطلق القضاء مفردا شمل القدر، والقدر إذا أطلق مفردا شمل القضاء، لكن إذا اجتمعا، فالقضاء ما يقضيه الله تعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، والقدر ما قدره الله تعالى في الأزل؛ فالقدر سابق، والقضاء لاحق([20]).
المبحث الأول منزلة الإيمان بالقضاء والقدر من الدين
الإيمان بالقضاء والقدر أصل عظيم من أصول الدين؛ فهو الركن السادس من أركان الإيمان الستة، التي لا يتم الإيمان إلا بها، وهي الواردة في حديث جبريل عليه السلام، الذي يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه قوله ﷺ عندما سأله جبريل عن الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»([21]).
والأدلة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ كثيرة جدا؛ منها قوله تعالى: }إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ{ [القمر: 49]، وقوله تعالى: }وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ{ [الرعد: 8]، وقوله: }وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا{ [الأحزاب: 38]، وقوله: }مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ{ [التغابن: 11].
ومن السنة ما رواه جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ﷺ : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه»([22]).
وما رواه علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث، ويؤمن بالقدر»([23]).
وما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ﷺ : «كل شيء بقدر؛ حتى العجز والكيس»([24])، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.
من النصوص السابقة يتبين لنا عظم منزلة الإيمان بالقضاء والقدر من الدين.
المبحث الثاني أهمية تعلم مسائل القدر وتعليمها
لدراسة مسائل القضاء والقدر، وتعلمها، وتعليمها أهمية عظيمة؛ ينبغي على كل مسلم العناية بها، وأخذها من مصادرها الأصلية: كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ؛ المصدرين المحفوظين بحفظ الله لهما، العاصمين لمن تمسك بهما من الزلل والانحراف إلى متاهات الفرق الضالة.
وتتضح أهمية تعلم مسائل القدر وتعليمها ودراستها والعناية بها من خلال ما يلي:
أولا: أن علم القضاء والقدر من علم أصول الدين الذي هو: "اشرف العلوم؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة ـ رحمة الله عليه ـ ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: (الفقه الأكبر)، وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه.
ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها"([25])، ولا شك أن القضاء والقدر من صفات الرب تعالى، وبمعرفتهما وما يتعلق بهما تزداد معرفة العبد بربه ومعبوده.
ولهذا يشير الطحاوي إلى مكانة الإيمان بالقدر بقوله: "وذلك من عقد الإيمان ، وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته"([26]).
ويقول ابن أبي العز الحنفي؛ شارحا قول الطحاوي: "قوله: وذلك من عقد الإيمان: الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها؛ قال ﷺ في جواب السائل عن الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، وقال ﷺ في آخر الحديث: «يا عمر، أتدري من السائل؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»رواه مسلم([27]).
وقوله: والاعتراف بتوحيد الله وربوبيته؛ أي: لا يتم التوحيد والاعتراف بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى؛ فإن من زعم خالقا غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله"([28])، ولهذا روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: "القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبُهُ توحيدَه"([29]).
يتبين مما سبق أن الإيمان بالقضاء والقدر مرتبط مباشرة بالإيمان بالله تعالى، ومبني على المعرفة الصحيحة بذات الله تعالى، وأسمائه وصفاته، وقد جاء في صفاته تعالى: صفة العلم، والإرادة، والقدرة، والخلق، ومعلوم أن القدر إنما يقوم على هذه الأسس.
والمتأمل في الآيات التي تذكر أركان الإيمان لا يجد فيها التصريح بالقضاء والقدر، ولعل السبب في ذلك هو ارتباط هذا الركن العظيم بالركن الأول من أركان الإيمان - وهو الإيمان بالله تعالى - فإن الإيمان بالقدر هو إيمان بربوبية الله وأسمائه وصفاته، كما أن مراتب القدر الأربع هي صفات الله تعالى([30]).
ثانيا: أن في تعلم مسائل القضاء والقدر وتعليمها من مصادر الدين الأصلية - كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ - حفظا للأمة من الانحراف في عقيدتها؛ فإن أعظم أسباب الانحراف في العقيدة وفي غيرها هو التفريط في تلقي العلم من تلك المصادر المعصومة.
يقول ابن القيم (ت 751هـ): "أما بعد: فإن القدر بحر محيط لا ساحل له، ولا خروج عنه لأحد من العالمين، وقد سلك الناس في هذا الباب في كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا في كل مضيق، وركبوا كل صعب وذلول، وقصدوا الوصول إلى معرفته من كل سبيل، وتكلمت فيه الأئمة قديما وحديثا، وساروا فيه بطيئا وقاصدا وحثيثا، وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلافها، وصنفت فيه الطوائف على تنوع أصنافها، وكل قد اختار لنفسه مذهبا لا يعتقد الصواب في سواه، ولا يرتضي إلا إياه، وكلهم - إلا من اهتدى بالوحي - عن طريق الصواب مصدود، وباب الهدى في وجهه مسدود، قد قمّش([31]) علماً غير طائل، وارتوى من ماء آجن؛ قد طاف على أبواب المذاهب، ففاز بأخس الآراء والمطالب، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقدَّم آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزل والنص المرفوع؛ حيران يأتم بحيران، يحسب كل سراب شرابا، فهو طول عمره ظمآن، ينادى إلى الصواب من مكان بعيد، ويدعى إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الخيال، وتشبع بأنواع الباطل وأصناف المحال، منعه الكفر الذي في صدره، وليس هو ببالغه، عن الانقياد للهداة المهتدين"([32]).
ثم يقول: "ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله ﷺ ، التي تخالف قواعدهم الباطلة، وعقائدهم الفاسدة، كما ردوا أحاديث الرؤية، وأحاديث علو الله على خلقه، وكما ردت المعطلة أحاديث الصفات والأفعال الاختيارية، وكما ردت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق.
وكل من أصل أصلا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرا إلى رد السنة أو تحريفها عن مواضعها، فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول ﷺ ؛ فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وآخيتهم([33]) التي إليها يرجعون"([34]).
يقول ابن أبي العز الحنفي (ت 792هـ) في معرض حديثه عن أهمية علم أصول الدين: "وينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب، أو عجز فيه عن معرفة الحق؛ فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا؛ كما قال تعالى: }فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى{ [طه: 123 - 126].
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: تكفل الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية([35])...
ولا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا يدينونه إلا أن يكون موافقا لدينه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم السلام"([36]).
ولهذا فإنه ما ضل من ضل إلا بسبب استيلاء شياطين الجن والإنس عليهم بعد ما قدموا أهواءهم وعقولهم على نصوص الوحي، "وعزلوا لأجلها النصوص، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية، ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح، الموافق للفطرة السليمة.
بل طل فريق كل فريق كم أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولا، فما وافقه قال إنه محكم وقبله، واحتج به، وما خالفه قال إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تفويضا، أو حرفه، وسمى تحريفه تأويلا، فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم.
وطريق أهل السنة أن لا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان"([37]).
ولقد كثرت أقاويل أهل البدع حول القدر، واختلفوا، وتوسعوا في الجدل والمراء، والتأويل الفاسد لآيات القرآن الكريم الواردة بذكر القدر، "بل وأصبح أعداء الإسلام في كل زمن يثيرون البلبلة في عقدية المسلمين عن طريق الكلام في القدر، ودس الشبهات حوله، ومن ثم أصبح لا يثبت على الإيمان الصحيح، واليقين القاطع إلا من عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، مسلما الأمر لله، مطمئن النفس، واثقا بربه تعالى، فلا تجد الشكوك والشبهات إلى نفسه سبيلا، وهذا ولا شك أكبر دليل على أهمية الإيمان به بين بقية الأركان"([38])، ولا يتم ذلك إلا عن طريق العلم بهذا الركن، وتلقيه من مصدريه الأصليين: كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ .
ثالثا: ومما يدل على أهمية دراسة مسائل القضاء والقدر وتعلمها: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بتدبر القرآن الكريم وتعلمه؛ قال تعالى: }أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا{ [النساء: 82]، وقال تعالى: }كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ{ [ص: 29]، وقال سبحانه: }أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا{ [محمد: 24].
فالله جل وعلا أمرنا بتدبر القرآن الكريم، وتفهم معانيه، وما ورد فيه، ومما ورد فيه: ذكر القدر في مواضع كثيرة منه، فيشملها الأمر بالتدبر والتعلم.
يقول ابن كثير (ت 774هـ) في تفسير آية النساء: "يقول تعالى آمرا لهم بتدبر القرآن، وناهيا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد؛ فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى: }أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ{ ثم قال: }وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ{ أي لو كان مفتعلا مختلقا ـ كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ـ }لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا{: أي اضطرابا وتضادا كثيرا، أي وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله"([39]).
وقال سبحانه وتعالى: }أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ{ [المؤمنون: 68].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يقول تعالى منكرا على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له، وإعراضهم عنه مع أنهم قد حظوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف، لاسيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية؛ حيث لم يبلغهم كتاب، ولا أتاهم نذير، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها، والقيام بشكرها وتفهمها، والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار، كما فعله النجباء ممن أسلم اتبع الرسول ﷺ ورضي عنهم"([40])، ومن تدبر القرآن الكريم وتفهمه: تدبر آيات القضاء والقدر، وتعلمها والاجتهاد في فهمها.
رابعا: ورود القضاء والقدر بمسائله الكثيرة في كثير من أحاديث الرسول ﷺ ، التي يجب تعلمها وتفهمها، وبخاصة ذكر الإيمان بالقدر خيره وشره مع أصول الإيمان الأخرى في حديث جبريل، "وهو حديث عظيم جدا، يشتمل على شرح الدين كله، ولهذا قال النبي ﷺ في آخره: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»([41])، بعد أن شرح درجة الإسلام ودرجة الإيمان، ودرجة الإحسان، فجعل ذلك كله دينا"([42]).
يقول ابن دقيق العيد (ت 702هـ) في ذكر منزلة هذا الحديث: "هذا حديث عظيم اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه؛ لما تضمنه من جمعه علم السنة، فهو كالأم للسنة، كما سميت الفاتحة أم القرآن لما تضمنته من جمعها معاني القرآن"([43]).
ويقول النووي (ت 676هـ): "واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف والآداب واللطائف، بل هو أصل الإسلام"([44]).
ويقول القاضي عياض (ت 544هـ): "وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات، الظاهر والبطانة، من: عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه؛ إذ لا يشذ شيء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة"([45]).
فإذا كان هذا الحديث العظيم بهذه المنزلة، وهو متضمن للإيمان بالقدر: دل على أهمية دراسة هذا الأصل العظيم وما يتضمنه من مسائل عقدية جليلة.
بل لأجل الإيمان بالقدر خيره وشره روى ابن عمر هذا الحديث؛ محتجا به على من خاض في القدر بالإنكار، وزعم أن الأمر أنف؛ يعني أنه مستأنف لم يسبق به سابق قدر من الله عز وجل، وقد غلظ ابن عمر عليهم، وتبرأ منهم، وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر([46]).
فعن يحيى بن يعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي ـ أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله ـ فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم([47])، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني؛ والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"، ثم قال: "حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: ... (فذكر حديث جبريل وفيه:) «قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه رسله اليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت» إلى أن قال: ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال لي: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله رسوله أعلم. قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»"([48]).
خامسا: ومما يدل على أهمية دراسة مسائل القضاء والقدر وتعلمها: فعل السلف الصالح؛ فقد حرص الصحابة على ذلك، والتابعون، وتابعوهم، وكتب علماء المسلمين في هذا الباب كثيرا؛ سواء أكان في كتب مستقلة، أم ضمن كتب العقيدة ونحوها.
ومن ذلك أن سراقة بن مالك بن جعشم أتى النبي ﷺ فقال له: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل الآن؟ أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير؟ أم فيما نستقبل؟ قال: «لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر» وفي رواية: «كل عامل ميسر لعمله»([49]).
وعن عمران بن حصين قال: قيل: يا رسول الله، أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: فقال: «نعم»، قال: قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: «كل ميسر لما خلق له»([50]).
وروى أبو الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره"، فأتى رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا، فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه، فيقضي ربك ما يشاء، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص»([51]).
هذه نماذج، وإلا فالآثار على حرص الصحابة على معرفة مسائل القدر كثيرة جدا.
بل كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ حريصين على تعليم غيرهم ما تعلموه من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ من مسائل القدر؛ فعن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما آتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم، قال: فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت كل شيء خلق الله وملك يده، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك([52])؛ إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله ﷺ فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم، ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: «لا، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{ [الشمس: 7، 8]»([53]).
فتأمل حرص هذا الصحابي على تعليم غيره هذه المسألة العظيمة بأسلوب الحزر والامتحان، مما يمكن عقله من وعيها وفهمها بطريقة شائقة.
يقول ابن القيم: "ولما كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا مداره على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره، كان أسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين، ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهوكين، وتشكيكات المتكلمين، وتكلفات المتنطعين، واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين؛ فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب، وفي غيره كفت وشفت، وجمعت وفرَّقت، وأوضحت وبينت، وحلت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن.
ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم، وطريقه القويم، فجاءت كلماتهم كافية شافية، مختصرة نافعة، لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة، التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى، ثم سلك على آثارهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا طريقهم، وركبوا منهاجهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا على ما كانوا عليه"([54])، وبهذا يتبين لنا أهمية الاقتداء بهم بحسن الاتباع، والتمسك بما كانوا عليه من منهج قويم منطلق من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ علما وتفهما وعملا.
سادسا: ومما يؤكد أهمية تعلم مسائل القضاء والقدر: ارتباط هذا الركن العظيم بالكون كله؛ فحين ننظر إلى هذا الكون ونشأته وخلق الكائنات فيه نجد أن كل ذلك مرتبط بالإيمان بالقدر؛ قال ﷺ : «أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة»([55])، والإنسان مخلوق من المخلوقات في هذا الكون الفسيح؛ يوجد على هذه الأرض وينشأ تلك النشأة الخاصة بإرادة الله تعالى وقدرته، "ويعيش ما شاء الله في حياة متغيرة؛ فيها الصحة والسقم، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والنعم والمصائب، والفرح والحزن، وينظر الإنسان ما حوله فيرى تفرق هذه الصفات على الناس، وعلى الجماعات والدول؛ ينظر إلى كل ذلك فلا يجد المخرج إلا في العقيدة الصحيحة، وعلى رأسها الإيمان بالقدر"([56])، ومن جهل هذا الركن العظيم، وهو يرى اختلاف أحوال الناس والمخلوقات، عاش في تذبذب واضطراب، وتخبط في الأفكار والآراء، التي لا مخرج منها إلا بالإيمان بالقضاء والقدر، المبني على العلم والمعرفة والانقياد.
فالإيمان بالقدر هو المحك الحقيقي لتحقيق الإيمان بالله تعالى على الوجه الصحيح، وهو الاختبار القوي لمدى معرفة الإنسان بربه تعالى، وما يترتب على تلك المعرفة من يقين صادق بالله([57])، وإيمان بأن ما تعيشه المخلوقات في هذا الكون ـ ومنها الإنسان ـ من فوارق في الصفات والأحوال المتغيرة ما هو إلا لحكم عظيمة أرادها سبحانه وتعالى وقدرها وقضاها، وبذلك يزداد الإيمان، وتطمئن النفوس، وتنقاد لشرع ربها وخالقها عز وجل.
ولو غفل الناس عن تعلم مسائل القدر، مع الحاجة الشديدة إليه، لجهلوه، وتخبطوا في دياجير الظلام؛ إذ تعجز العقول عن معرفة ذلك إلا بالاهتداء بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ، وبتلك الغفلة عن تعلمه ينفتح الباب لأهل الأهواء والبدع لينصروا مذاهبهم ويشوشوا على المسلمين عقيدتهم.
سابعا: أن عدم تعلم القدر يؤدي إلى الجهل به، وبالتالي يؤدي إلى الجهل بثمرات الإيمان به، وبذلك يفوت على المسلم خير كثير؛ فإن الإيمان بالقضاء والقدر ثمرات عظيمة، لا تتحقق إلا لمن آمن به عن علم ومعرفة؛ ومن تلك الثمرات ـ على سبيل الإجمالي ـ ما يلي:
1- الاعتماد على الله تعالى، والتوكل عليه عند فعل الأسباب؛ فلا يعتمد المرء على السبب نفسه؛ لأن كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره.
2- ألا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده؛ لأن حصوله نعمة من الله تعالى بما قدره من أسباب الخير، وإعجاب المرء بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة، بل قد ينسبها إلى غير الله تعالى.
3- الطمأنينة والراحة النفسية بما يجري عليه من أقدار الله تعالى؛ فلا يقلق بفوات محبوب، أو حصول مكروه؛ لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السموات والأرض، وهو كائن لا محالة، وفي ذلك يقول الله تعالى: }مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ{ [الحديد: 22، 23]، ويقول النبي ﷺ : «عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له»([58]).
إلى غير ذلك من الثمرات الكثيرة التي لا تحصل إلا لمن تعلم وعرف وآمن بقضاء الله وقدره([59]).
المبحث الثالث أدلة النهي عن الخوض في القدر
استدل بعض أهل العلم بأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ على النهي عن الخوض في القدر. بعض هذه الأدلة جاء صريحا في النهي، وبعضها متضمنا له، ولهذا استدل به العلماء على هذه المسألة، ولكون منكرو القدر يعدون من الخائضين فيه ذكرت الأدلة على ذمهم ضمن هذه الأدلة: ومن تلك الأدلة ما يلي:
أولا: الأدلة من كتاب الله تعالى:
1- قوله تعالى: }وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{ [التوبة: 68، 69].
استدل بهذه الآية ابن أبي العز الحنفي على النهي عن الخوض في القدر، ثم قال: "أي: استمتعتم بنصيبكم في الدنيا، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم، وخضتم كالذي خاضوا؛ أي كالخوض الذي خاضوه، أو كالفوج، أو الصنف، أو الجيل الذي خاضوا.
وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض؛ لأن فساد الدين: إما في العمل، وإما في الاعتقاد؛ فالأول من جهة الشهوات، والثاني من جهة الشبهات... وأكثر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة مسألة القدر، وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع"([60]).
فالآيتان فيهما إنكار من الله تعالى على المنافقين، الذين هم على خلاف صفات المؤمنين، بل استمتعوا بدينهم وخاضوا بالكذب والباطل، كما استمتع وخاض الذين من قبلهم من بني إسرائيل ونحوهم([61])، والخوض في القدر هو خوض في الدين بالكذب والباطل، ومن فعل ذلك ففيه شبه بمن سبقه من المستمتعين والخائضين بدينهم.
وقد أخبر الرسول ﷺ أمته أنها ستتبع في آخر الزمان طرق الذين من قبلها من اليهود والنصارى ونحوهم، محذرا إياها من ذلك الصنيع، فقد قال ﷺ : «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع» فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: «ومن الناس إلا أولئك»([62]).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا، وذراعا ذراعا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن»([63]).
قال ابن حجر (ت 852هـ): "قوله: «قال: فمن» هو استفهام إنكار، والتقدير: فمن هم غير أولئك؟ قال ابن بطال: أعلم ﷺ أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به ﷺ ، وسيقع بقية ذلك"([64]).
2- قوله تعالى: }لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ{ [الأنبياء: 23].
فالله سبحانه وتعالى لا يسال عما يفعل فهو "الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد؛ لعظمته وجلاله وكبريائه وعلمه وحكمته وعدله ولطفه"([65]).
يقول الطبري (ت 310هـ) في تفسير هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: لا سائل يسأل رب العرش عن الذي يفعل بخلقه في تصريفهم فيما شاء من حياة وموت، وإعزاز وإذلال، وغير ذلك من حكمه فيهم؛ لأنهم خلقه وعبيده، وجميعهم في ملكه وسلطانه، والحكم حكمه والقضاء قضاؤه، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل، ويقول: لم فعلت؟ ولم لم تفعل؟ }وَهُمْ يُسْأَلُونَ{، يقول جل ثناؤه: وجميع من في السماوات والأرض من عباده مسئولون عن أفعالهم، ومحاسبون على أعمالهم، وهو الذي يسألهم عن ذلك وسحابهم عليه؛ لأنه فوقهم ومالكهم، وهم في سلطانه"([66]).
وقال الشوكاني (ت 1250هـ) في تفسيرها: "هذه الجملة مستأنفة، مبينة أنه سبحانه - لقوة سلطانه وعظيم جلاله - لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره، وقيل: إن المعنى أنه سبحانه لا يؤاخذ على أفعاله، وهم يؤاخذون، قيل: والمراد بذلك أنه سبحانه بين لعباده أن من يسأل عن أعماله؛ كالمسيح والملائكة، لا يصلح لأن يكون إلها"([67]).
فالمتأمل في هذه الآية يجدها تنهى عن الخوض في قدر الله تعالى وقضائه كما يفعله من يسأل عن المغيبات، أو يعترض على بعض أمور الشرع بقوله: لم أمر الله بكذا، ولم يأمر بكذا؟ ولماذا حكم بكذا ولم يحكم بكذا؟ ونحو ذلك، نسأل الله السلامة والاستقامة.
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ﷺ في القدر، فنزلت: }يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ{ [القمر: 48، 49]([68]).
ومخاصمة المشركين الرسول ﷺ ومنازعته هو نوع من الخوض في القدر، ولهذا نزل الدليل بإثباته بقوله سبحانه وتعالى: }إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ{ والمراد بالقدر هنا: "هو ما قدره الله قضاه، وسبق به علمه وإرادته، وفي هذه الآية الكريمة والحديث تصريح بإثبات القدر، وأنه عام في كل شيء؛ فكل مقدر في الأزل، معلوم لله، مراد له"([69]).
ثانيا: الأدلة من السنة:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان([70]) فقال: «أبهذا أمرتم؟! أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه»([71]).
2- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: «بهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم». قال: فقال عبد الله بن عمرو: "ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله ﷺ ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه"([72]).
فهذان الحديثان صريحان في النهي عن التنازع في القدر، والخوض فيه بالباطل.
3- عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ : «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا»([73]).
والمراد الخوض في القدر بالباطل، ومخالفة الحق فيه، وهو ما أمرنا بالإمساك عنه؛ لأنه قرن بالإمساك عن ذكر الصحابة بالباطل، والخوض فيما حصل بينهم رضي الله عنهم، وذكر فضائله؛ فهو أمر مطلوب لا ممنوع، وكذلك ذكر القدر بتعلم مسائله وتعليمها، والرضى بالمقضي أمر مطلوب لا ممنوع.
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «أخر الكلام في القدر لشرار أمتي»([74]).
5- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ﷺ : «إن أمر هذه الأمة لا يزال مقارباً أو مواماً حتى يتكلموا في الولدان وفي القدر»([75]).
و«مواماً» مأخوذ من الأمم وهو القرب، ومعناه التكلم فيما لا يعنيهم([76]).
والمراد بالكلام في القدر في هذين الحديثين: الكلام فيه بالباطل، والخوض في الجانب الخفي منه، والمنازعة فيه، ونحو ذلك؛ لأنه ما أخر لشرار الأمة.
6- عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «إن أخوف ما أتخوفه على أمتي آخر الزمان ثلاثا: إيمانا بالنجوم، وتكذيبا بالقدر، وحيف السلطان»([77]).
وفي رواية عن أبي محجن رضي الله عنه قال: قال ﷺ : «أخاف على أمتي من بعدي ثلاثا: حيف الأئمة، وإيمانا بالنجوم، وتكذيبا بالقدر»([78]).
وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «أخاف على أمتي من بعدي خصلتين: تكذيبا بالقدر، وتصديقا بالنجوم»([79]).
وفي رواية عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «أخاف على أمتي ثلاثا: زلة عالم، وجدال منافق، والتكذيب بالقدر»([80]).
7- عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال: إن فلانا يقرؤك السلام. قال: إنه بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث، فلا تقرئه السلام؛ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يكون في أمتي أو في هذه الأمة مسخ وخسف وقذف، وذلك في أهل القدر»([81]).
وفي رواية أخرى عن ابن عمر عن النبي ﷺ : «يكون في أمتي خسف ومسخ؛ وذلك في المكذبين بالقدر»([82]).
8- عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: «القدرية مجوس هذه الأمة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم»([83]).
9- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر؛ من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم»([84]).
10- عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «لا يدخل الجنة عاق، ولا مكذب بقدر، ولا مدمن خمر»([85]).
11- وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «ثلاثة لا يقبل الله لهم صرفا ولا عدلا: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر»([86]).
هذه الأحاديث فيها النهي عن التكذيب بالقدر، والوعيد الشديد على من خاض فيه بالتكذيب، وتكذيب القدر أو شيء منه نوع من الخوض فيه كما سيأتي.
المبحث الرابع ما يتضمنه الخوض في القدر
ذكرت فيما سبق من هذا البحث ضرورة تعلم مسائل القدر، ثم أعقبتها بذكر الأدلة التي تنهى وتحذر من الخوض في القدر، وفي هذا البحث أبين ما يتضمنه الخوض المنهي عنه في هذه المسألة العظيمة، ليتضح الجمع بين ضرورة تعلم مسائل القدر والنصوص التي تنهى عن الخوض فيه.
وذلك أنه عند التأمل ف النصوص التي تنهى عن الخوض في القدر يتضح أنها لت تدل بأي وجه من الوجوه على النهي عن تعلم مسائله، وإنما تتضمن النهي عن بدع ومخالفات قد يقع فيها بعض الناس:
ومن ذلك ما يلي:
1- نفي القدر؛ كمن ينفي علم الله السابق للأشياء قبل كونها، أو ينكر إرادة الله تعالى ومشيئته الشاملة، أو ينكر أن الله خالق أفعال العباد؛ كالقدرية ومن تأثر بهم.
وقد كان السلف يحذرون من الجدال في القدر والتكذيب به؛ فعن عبد الله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: "باب شرك فتح على أهل القبيلة: التكذيب بالقدر؛ فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم"([87]).
ومما يدل على أن نفي القدر يعد من الخوض والكلام فيه: إدخال بعض العلماء الرد على القدرية تحت الكلام في التحذير من الخوض في القدر، كما فعل الآجري([88]) (ت 360هـ) وغيره.
وعن ابن سيرين (ت 110هـ) أنه قال: "إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في آيات الله فلا أدري من هم"([89]).
ويدخل في الخوض في القدر من يغلو في إثباته، فيزعم أن الله يجبر العباد على أفعالهم، كما تقول الجبرية، ومن سار على نهجهم.
وقد أدخل بعض أهل العلم "القائلين بالجبر في مسمى القدرية، ومعلوم أنه يدخل في ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له؛ فإن ضلال هذا أعظم"([90]).
وهذا النوع من الخوض في القدر هو من أشدها خطرا، وأكثرها انحرافا؛ قال ابن القيم: "والمخاصمون في القدر نوعان: أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره؛ كالذين قالوا: }لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا{ [الأنعام: 148]، والثاني: من ينكر قضاءه وقدره السابق، والطائفتان خصماء الله"([91]).
وذكر ابن رجب (ت 795هـ) أن "النهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه؛ منها: ضرب كتاب الله بعضه ببعض، ومنها الخوض في القدر إثباتا ونفيا بالأقيسة العقلية؛ كقول القدرية: لو قدر وقضى ثم عذب كان ظالما، وقول من خالفهم: إن الله جبر العباد على أفعاله، ونحو ذلك، ومنها: الخوض في سر القدر"([92]).
2- الاعتماد في الإيمان بالقدر وفهمه وتعلمه على نظر العقل ومحض القياس، أو تقديمهما على مصدري التلقي: كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ؛ فإن هذا من أهم أسباب الانحراف في القدر، والوقوع فيما نهي عنه من الخوض فيه.
قال أبو مظفر السمعاني (ت 489هـ): "سبيل معرفة هذا الباب: التوقيف من الكتاب والسنة، دون محض القياس والعقل؛ فمن عدل عن التوقيف ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى، اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب"([93]).
قال البغوي (ت 516هـ): "والقدر سر من أسرار الله؛ لم يطلع عليه ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق العقل، بل يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلا"([94]).
ولهذا قال الزهري (ت 124هـ): "القدر رياض الزندقة؛ فمن دخل فيه هملج([95])"([96]).
فيجب تقديم كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ على ما سواهما، والحذر كل الحذر من معارضتهما، ولا يتم ذلك إلا بدفع المعارض من عقل أو قياس أو هوى؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): "ولما كان بيان مراد الرسول ﷺ في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي، وامتناع تقديم ذلك على نصوص الأنبياء، بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله، وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر؛ إذ كان أي دليل أقيم على بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي القاطع ناقضه، بل يصير ذلك قدحاً في الرسول وقدحاً فيمن استدل بكلامه، وصار هذا بمنزلة المريض الذي به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء، فإن الغذاء لا ينفعه مع وجود الأخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء، فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع على نفي الصفات أو بعضها، أو نفي عموم خلقه لكل شيء، أو نفي أمره ونهيه، أو امتناع المعاد، أو غير ذلك: لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض؛ فإن من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما، وعلم مراد الرسول قطعا: تيقن ثبوت ما أخبر به، وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية([97])؛ كما قال تعالى: }وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ{ [الشورى: 16]"([98]).
فالعقل المجرد لا يمكن أن يستقل بنفسه في وضع المعالم التي تنقذه في باب القضاء والقدر من الانحراف والضلال ([99])، "والذين خاضوا في هذه المسألة بعقولهم ضلوا وتاهوا؛ فمنهم من كذب بالقدر، ومنهم من ظن أن الإيمان بالقدر يلزم القول بالجبر، ومنهم من ناقض الشرع بالقدر، وكل انحراف من هذه الانحرافات سبب مشكلات في واقع البشر وحياتهم ومجتمعاتهم؛ فالانحراف العقدي يسبب انحرافا في السلوك وواقع الحياة"([100]).
3- الخوض في القدر بالباطل مما يؤدي إلى ضرب كتاب الله بعضه ببعض، فلو تأملنا قول الرسول ﷺ في الحديث السابق ذكره قبل قليل: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا»، علمنا أن المراد بالإمساك عن ذكر الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ لا يراد به الإمساك عن ذكر فضائلهم وجهادهم، وإنما يراد به الإمساك عن ذكرهم بالباطل، وعن الخوض فيما شجر بينهم؛ وكذلك الإمساك عن ذكر القدر يراد به عن ذكره بالباطل([101]).
والخوض في القدر بالباطل هو من الكلام في أصول الدين بغير علم ولا دليل، ولهذا حذرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ من ذلك بقوله جل وعلا: }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا{ [الإسراء: 36]، وقوله سبحانه: }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ{ [الأعراف: 33].
وهو كذلك من اتباع الهوى الذي يضل صاحبه عن الحق؛ قال تعالى: }وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{ [القصص: 50].
وقال سبحانه: }إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى{ [النجم: 23].
"فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، فيصدق بأنه حق وصدق ـ (ومن ذلك النهي عن الخوض في القدر) ـ وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل خالفه أو وافقه، لكون ذلك الكلام مجملا، لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو بتكذيبه: فإنه يمسك عنه، ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وقد يكون علم عن غير الرسول، لكن في الأمور الدنيوية؛ مثل الطب والحساب والفلاحة، وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول لا غير"([102])، ولهذا يقول طاوس اليماني (ت 106هـ): "اجتنبوا الكلام في القدر؛ فإن المتكلمين فيه يقولون بغير علم"([103]).
كما قال رحمه الله: "إن القدر سر الله عز وجل؛ فلا تدخلن فيه"([104]).
ولقد حذر السلف من الكلام في الدين بالباطل، أو بلا علم، كما كرهوا الجدل والمراء فيه؛ يقول الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ): "الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه؛ نحو الكلام في رأي جهم والقدر، وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله، وفي الله عز وجل، فالسكوت أحب إلي؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل"([105]).
قال ابن عبد البر (ت 463هـ): "قد بين مالك ـ رحمه الله ـ أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده؛ يعني العلماء منهم رضي الله عنهم، وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه، وضرب مثلا فقال نحو قول جهم والقدر، والذي قاله مالك ـ رحمه الله ـ عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا، من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع: المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة، فعلى ما قال مالك ـ رحمه الله ـ إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل، وصرف صاحبه عن مذهبه، أو خشي ضلال عامة، أو نحو هذا"([106]).
وقد ذكر ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ) أن النهي عن القدر يكون على وجوه، وذكر منها ما يؤدي إلى ضرب كتاب الله بعضه ببعض، فقال: "وقد ورد النهي عن الخوض في القدر، والنهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه: منها ضرب كتاب الله بعضه ببعض؛ فينزع المثبت لقدر بآية، والنافي له بأخرى، ويقع التجادل في ذلك، وهذا قد روي أنه وقع في عهد النبي ﷺ ، وأن النبي ﷺ غضب من ذلك ونهى عنه، وهذا من جملة الاختلاف في القرآن والمراء فيه، وقد نهي عن ذلك"([107]).
وقوله: "وهذا قد روي أنه وقع في عهد النبي ﷺ ، وأن النبي ﷺ غضب من ذلك"، لعله يشير إلى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله ﷺ على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: «بهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؛ بهذا هلكت الأمم قبلكم»([108]). وأما ما رواه عبد الله بن عمرو قال: هجرت([109]) إلى رسول الله ﷺ يوما، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله ﷺ يعرف في وجهه الغضب، فقال: «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب»([110])، ومن ذلك قوله ﷺ : «اقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا»([111]).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) عن حكم الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين وقد ورد النهي عن الكلام في بعض المسائل، وإن كان يجوز فما وجهه؟([112]).
فكان من جوابه ـ رحمه الله ـ أن قال: "قد تقدم الاستفسار والتفصيل في جواب السؤال([113])، وأن ما هو في الحقيقة أصول الدين الذي بعث الله به رسوله فلا يجوز أن ينهى عنه بحال، بخلاف ما سمي أصول الدين، وليس هو أصولا في الحقيقة؛ لا دلائل ولا مسائل، أو هو أصول لدين لم يشرعه الله، بل شرعه من شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
وأما ما ذكره السائل من نهيه، فالذي جاء به الكتاب والسنة النهي عن أمور:
منها: القول على الله بلا علم؛ كقوله: }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ{ [الأعراف: 33]، وقوله: }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ{ [الإسراء: 36].
ومنها: أن يقال على الله غير الحق؛ كقوله: }أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ{ [الأعراف: 169]، وقوله: }لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ{ [النساء: 171].
ومنها: الجدل بغير علم؛ كقوله تعالى: }هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ{ [آل عمران: 66].
ومنها: الجدل في الحق بعد ظهوره؛ كقوله تعالى: }يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ{ [الأنفال: 6].
ومنها: الجدل بالباطل؛ كقوله: }وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ{ [غافر: 5].
ومنها: الجدل في آياته؛ كقوله تعالى: }مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا{ [غافر: 4]، وقوله: }الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا{ [غافر: 35]، وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ{ [غافر: 56]، وقوله: }وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ{ [الشورى: 35]، ونحو ذلك قوله: }وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ{ [الشورى: 16]، وقوله: }وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ{ [الرعد: 13]، وقوله: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ{ [الحج: 8].
ومن الأمور التي نهى الله عنها في كتابه: التفرق والاختلاف"([114]).
4- التعمق والتنقير([115]) في القدر، وبخاصة في الجانب الخفي منه؛ قال الطحاوي (ت 321هـ): "وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة"([116])؛ وذلك لأن التعمق في دراسة الجانب الخفي من القدر والسؤال عنه قد يؤدي إلى تكذيبه، أو شيء منه؛ قال أبو بكر الآجري (ت 360هـ): "أما بعد، فإن سائلا سأل عن مذهبنا في القدر، فالجواب في ذلك قبل أن نخبره بمذهبنا أننا ننصح للسائل ونعلمه أن لا يحسن بالمسلمين التنقير البحث عن القدر؛ لأن القدر سر من أسرار الله عز وجلن بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمن العبد أن يبحث عن القدر فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد، فيضل عن طرق الحق"([117]).
وقال ابن أبي العز الحنفي شارحا قول الطحاوي: "أصل القدر سر الله في خلقه...: "وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى؛ قال علي رضي الله عنه: القدر سر الله فلا تكشفه... و(التعمق) هو المبالغة في طلب الشيء، والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر، والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان... هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس، التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أطنب الشيخ ـ رحمه الله ـ في ذلك الخوض في الكلام في القدر، والفحص عنه"([118]).
ولا شك أن من طلب العلم الخفي، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولم يسلم لرب العالمين فقد قدح في توحيده، ونقص من إيمانه بقدر ما طلب؛ قال الطحاوي: "فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه: حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان"([119]).
وروى أبو عمر يوسف بن عبد البر ( ت463هـ) عن جعفر بن محمد (ت 148هـ) أنه قال: "الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس؛ كلما ازداد نظرا ازداد حيرة"([120])، وبعد أن روى ابن عبد البر هذا القول عقب قائلا: "رواها السلف وسكتوا عنها، وهم كانوا أعمق الناس علما، وأوسعهم فهما، وأقلهم تكلفا، ولم يكن سكوتهم عن عي، فمن لم يسعه ما وسعهم فقد خاب وخسر"([121]).
ثم روى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد (ت 174هـ) عن أبيه (ت 131هـ) أنه قال: "وأيم الله، إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة، ونتعلمها شبيها بتعلمنا آي القرآن، وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي، وينهون عن لقائهم ومجالستهم، ويحذرون مقاربتهم أشد التحذير، ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسول الله ﷺ ، وما توفي رسول الله ﷺ حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث، وزجر عن ذلك، وحذره المسلمين في غير موطن، حتى كان من قوله كراهية لذلك: «ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم»([122])"([123]).
وفي هذا الحديث يأمر الرسول ﷺ أمته "بالإمساك عما لم يؤمروا به، معللا ذلك بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية، كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة، لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو ـ والله أعلم ـ مخالفة الأنبياء، كما يقول: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه"([124]).
ولهذا كان ابن عباس يقول: "ما غلا أحد في القدر إلا خرج من الإسلام"([125]).
وذكر ابن رجب أن ما يتضمنه الخوض في القدر: "الخوض في سر القدر، وقد ورد النهي عنه عن علي وغيره من السلف، فإن العباد لا يطلعون على حقيقة ذلك"([126]).
وروى الآجري أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ سئل عن القدر، فقال: شيء أراد الله عز وجل ألا يطلعكم عليه، فلا تريدوا من الله عز وجل ما أبى عليكم"([127]).
وروي أن رجلا سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: طريق مظلم فلا تسلكه. فقال: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: بحر عظيم فلا تلجه. فقال: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: سر الله فلا تكلفه، أو قال فلا تكشفه([128]).
وإخفاء الله سبحانه وتعالى لمسائل كثيرة في القدر إنما هو لحكم عظيمة، قد نعلم بعضها، وقد نجهله، ولا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها، ولا من جهلنا انتفاؤها([129]).
وقد أشار بعض العلماء إلى حكمة إخفاء القدر بقوله: "وجماع هذا الباب أن يعلم أن الله تعالى طوى عن العالم علم ما قضاه وقدره على عباده؛ فلم يطلع عليه نبيا مرسلا ولا ملكا مقربا؛ لأنه خلقهم ليتعبدهم ويمتحنهم؛ قال الله تعالى: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ [الذاريات: 56].
فلو كشف لهم عن سر ما قضى وقدَّر لهم وعليهم في عواقب أمورهم لافتتنوا وفتروا عن العمل، واتَّكلوا على مصير الأمر في العاقبة، فيكون قصاراهم عند ذلك أمن أو قنوط، وفي ذلك بطلان العبادة، وسقوط الخوف والرجاء، فلطف الله سبحانه بعباده وحجب عنهم علم القضاء والقدر، وعلقهم بالخوف والرجاء، والطمع والوجل، ليبلوا سعيهم واجتهادهم، وليميز الله الخبيث من الطيب، ولله الحجة البالغة"([130]).
فإن قيل: أليس في منع العقل من البحث في مسائل القدر الغيبية حجر على العقل الإنساني؟ فإنه يقال: ليس في هذا حجر على العقل ولا تضييق على الفكر، بل العكس هو الصحيح؛ فإن في منعه صيانة له، وحفظا لقواه من أن تتبدد في مجال لا يمكن أن تفيد منه أو تطلع عليه؛ لأنها لا تحسن التفكير فيه، وبالتالي لا يمكن أن تبدع فيه؛ لأن: "الإسلام وضع بين يدي الإنسان معالم الإيمان بالقدر؛ فالإيمان بالقدر يقوم على أن الله علم كل ما هو كائن وكتبه وشاءه وخلقه، واستيعاب العقل الإنساني لهذه الحقائق سهل ميسور، ليس فيه صعوبة ولا غموض ولا تعقيد، أما البحث في سر القدر، والغوص في أعماقه فإنه يبدد الطاقة العقلية ويهدرها"([131]).
إن البحث في كيفية العلم والكتابة والمشيئة والخلق كالبحث في كيفية صفات الله تعالى، وهذا أمر محجوب علمه عن العباد، وهو غيب يجب الإيمان به، ولا يجوز السؤال عن كنهه، "والباحث فيه كالباحث عن كيفية استواء الله على عرشه؛ يقال له: هذه الصفات التي يقوم عليها القدر معناها معلوم، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة"([132]).
5- السؤال عن القدر وحكمه تعنتا ومعاندة، لا تفقها وتعلما، ويدخل في ذلك الإلحاح في معرفة علل الغيب وحكمه، وكيفياته، ونحو ذلك من الأسئلة الاعتراضية، التي تناقض الإيمان والتسليم لرب العالمين، ولذا قال الإمام أحمد: "ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة ـ لم يقلها ويؤمن بها ـ لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لم؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها.
ومن لم يعرف تفسير الحديث لم يبلغه عقله، فقد كفي ذلك، وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له؛ مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر"([133]).
يشير في قوله تعالى: "مثل حديث الصادق المصدوق" إلى الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله ﷺ - وهو الصادق المصدوق - قال: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه، وأجله، وشقي، أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله إن أحدكم ـ أو الرجل ـ يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»([134]).
وهذه الأمور الغيبية يجب الإيمان بها وعدم السؤال عما نهانا الله عن مرامه؛ قال الطحاوي: "فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: }لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ{، فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من المسافرين"([135]).
وهذا السؤال المنهي عنه فيما لو سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم، فلا يحل قليل سؤاله ولا كثير، أما من سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه فلا باس، كما يقرر ابن عبد البر رحمه الله تعالى([136]).
وقد يقول قائل من المخالفين: إذا كان الخوض في مسائل القدر والصفات يورث التقاطع والتدابر والاختلاف، فيجب طرح تلك المسائل وعدم نقلها وتعلمها.
والجواب عليه ما ذكره قوام السنة الأصبهاني (ت 535هـ) بأن قال: "إنما قلنا هذا في المسائل المحدثة، وأما القول في هذه المسائل من شرط أصل الدين، ولابد من قبوله على نحو ما ثبت فيه النقل عن رسول الله ﷺ وأصحابه، ولا يجوز لنا الإعراض عن نقلها وروايتها وبيانها لتفرق الناس في ذلك، كما في: أصل الإسلام، والدعاء إلى التوحيد، وإظهار الشهادتين.
وقد ظهر بما قدمنا وذكرنا ـ بحمد الله ومنه ـ أن الطريق المستقيم مع أهل الحديث، وأن الحق ما نقلوه ورووه، ومن تدبر ما كتبناه، وأعطى من قلبه النصفة، وأعرض عن هواه واستمع وأصغى بقلب حاضرن وكان مسترشدا مهتديا، ولم يكن متعنتا، وأمده الله بنور اليقين: عرف صحة جميع ما قلناه، ولم يخف عليه شيء من ذلك، والله الموفق"([137]).
6- أن يربط العمل والانقياد بمعرفة الحكمة في تقدير الله لهذا الأمر أو ذاك النهي، فلا يستجيب لأوامر الله تعالى ورسوله ﷺ ويجتنب النواهي حتى تظهر له حكم ذلك، فإن تبينت له حكمة التشريع وعلة النهي انقاد، وإن لم تتبين له أعرض أو عارض ولم يسلم، ويدخل في ذلك ـ وأشد منه ـ من يقول: إنه لا ينقاد للشرع في مسألة ما حتى يقتنع، وهذا كثير في سفهاء الأمة وجهلة الناس.
ولا شك أن هذا من الخوض في القدر المؤدي إلى عدم التسليم لرب العالمين؛ قال تعالى: }فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{ [النساء: 65].
ويقول تعالى: }وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا{ [الأحزاب: 36].
ويحذر الله سبحانه وتعالى هؤلاء المجادلين المخالفين لأمر الله تعالى، فيقول عز وجل: }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ [النور: 63].
يقول ابن كثير (ت 774هـ) في تفسير هذه الآية: "وقوله: }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ{: أي عن أمر رسول الله ﷺ ؛ وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته؛ فتوزن الأقوال الأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان... أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا وظاهرا }أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ{: أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس، أو نحو ذلك"([138]).
وقال ابن أبي العز الحنفي: "اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها ـ ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها ـ بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادا وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك؛ كما في الإنجيل: "يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا بم أمر ربنا؟"، ولهذا كان سلف هذه الأمة ـ التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما ـ لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلى على درجة التسليم"([139]).
وقال في موضع آخر: "ولا شك أن من لم يسلم للرسول نقص توحيده؛ فإنه يقول برأيه وهواه، أو يقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول؛ فإنه قد اتخذ في ذلك إلها غير الله، قال تعالى: }أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ{ [الجاثية: 23] أي عبد ما تهواه نفسه"([140]).
7- التنازع في القدر، والخصومة فيه؛ فإن هذا سبب الهلاك والافتراق، ولهذا لما خرج الرسول ﷺ على من يتنازع ف القدر غضب ﷺ غضبا شديدا حتى احمر وجهه فقال: «أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه»([141]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ساق هذا الحديث: "الغرض التنبيه على ما يخاف على الأمة من موافقة الأمم قبلها؛ إذ الأمر في هذا الحديث كما قال رسول الله ﷺ أصل هلاك بني آدم إنما كان التنازع في القدر... وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء القليل قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه... والغرض... التنبيه من الحديث على مثل ما في القرآن من قوله تعالى: }وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا{ [التوبة: 69]"([142]).
والجدل والمنازعة بغير علم ولا هدى أمر منهي عنه في نصوص كثيرة؛ منها قوله تعالى: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ{ [الحج: 3، 4]، قوله: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ{ [الحج: 8، 9].
قال ابن كثير في تفسيره: "يقول تعالى ذاما لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضا عما أنزل الله على أنبيائه، متبعا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن؛ وهذا حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل؛ يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة غلى البدع بالأهواء والآراء، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ{: أي علم صحيح، }وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ{"([143]).
قال الشنقيطي (ت 1393هـ): "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من الناس بعضا يجادل في الله بغير علم: أي يخاصم في الله بأن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله وكماله؛ كالذي يدعي له الأولاد والشركاء، ويقول: إن القرآن أساطير الأولين، ويقول: لا يمكن أن يحي الله العظام الرميم؛ كالنضر بن الحارث، والعاص بن وائل، وأبي جهل بن هشام وأمثالهم من كفار مكة الذين جادلوا في الله ذلك الجدال الباطل بغير مستند من علم عقلي ولا نقلي، ومع جدالهم في الله ذلك الجدال الباطل يتبعون كل شيطان مريد: أي عات طاغ من شياطين الإنس والجن.
وهذه الآية الكريمة ـ التي هي قوله: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ{ الآية ـ يدخل فيما تضمنته من الوعيد والذم: أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل؛ يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤساء الضلالة، الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء، بقدر ما فعلوا من ذلك؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب"([144]).
ولا شك أن التنازع والخصومة والمجادلة بالباطل نتيجة للضلال والبعد عن اتباع الهدى؛ فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»([145])، ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: }مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ{ [الزخرف: 58].
ولهذا فإن أبغض الرجال إلى الله هم كثيرو الخصومة وشديدو المجادلة بالباطل؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ﷺ : «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»([146])، والألد هو الشديد اللدد؛ أي الجدال؛ مشتق من اللديدَيْن، وهما صفحتا العنق([147])، وعنون البخاري (ت 256هـ) لهذا الحديث بقوله: "باب الألد الخصم، وهو الدائم الخصومة؛ لداً: عوجاً، ألد: أعوج"([148]).
قال النووي (ت 676هـ): "هو بفتح الخاء وكسر الصاد، والألد الشديد الخصومة؛ مأخوذ من لديدي الوادي، وهم جانباه؛ لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، وأما الخصم فهو الحاذق بالخصومة، والمذموم: هو الخصومة بالباطل في رفع حق، أو إثبات باطل"([149]).
ويقول الإمام أحمد: "أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ، والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدل والخصومات في الدين.
ولا يخاصم أحدا، ولا يناظره، ولا يتعلم الجدل؛ فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه منهي عنه، ولا يكون صاحبه إن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة حتى يدع الجدل، ويسلم ويؤمن بالآثار"([150]).
وقال علي بن المديني (ت 234هـ): "السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشرهن ثم تصديق بالأحاديث والإيمان بها؛ لا يقال: لم؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها.
ولا يخاصم أحدا، ولا يناظر، ولا يتعلم الجدل.
والكلام في القدر وغيره من السنة مكروه، ولا يكون صاحبه ـ وإن أصاب السنة بكلامه ـ من أهل السنة حتى يدع الجدل ويسلم، ويؤمن بالإيمان"([151]).
وهذا أبو محمد البربهاري (ت 329هـ) يبين كراهة السلف للخصومة والجدال في القدر، فيقول: "والكلام والجدل والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق؛ لأن القدر سر الله، ونهى الرب ـ جل اسمه ـ الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى النبي ﷺ عن الخصومة في القدر، وكرهه أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون، وكرهه العلماء وأهل الورع، ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك التسليم والإقرار والإيمان، واعتقاد ما قال رسول الله ﷺ في جملة الأشياء، واسكت عما سوى ذلك"([152]).
وعقد الآجري بابا ترجم له بعنوان: "ذم الجدال والخصومات في الدين"([153]) وذكر فيه بعض الأحاديث ثم قال: "لما سمع هذا - أي ذم الجدال والخصومات في الدين - أهل العلم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين لم يتماورا في الدين، ولم يجادلوا، وحذروا المسلمين المراء والجدال، وأمروهم بالأخذ بالسنن، وبما كان عليه الصحاب - رضوان الله عليهم أجمعين - وهذا طريق أهل الحق ممن وفقه الله عز وجل"([154]).
ثم نقل عن أبي قلابة (ت 104هـ) أنه كان يقول: "لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم"([155]).
وروى عن مسلم بن يسار (ت 108هـ) أنه قال: "إياكم والمراء؛ فإنها ساعة جهل العلام، وبها يبتغي الشيطان زلته"([156]).
كما روى عن عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) أنه قال: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل"([157]).
وقيل لنافع (ت 117هـ): "إن هذا الرجل يتكلم في القدر، قال: فأخذ كفا من حصى فضرب بها وجهه"([158]).
ولما سئل شيخ الإسلام بن تيمية عن الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين، وقد فهمنا منه عليه الصلاة والسلام النهي عن الكلام في بعض المسائل أجاب رحمه الله بجواب سق نقل بعضه([159]) ثم قال:
"ومن الأمور التي نهى الله عنها في كتاب: التفرق والاختلاف؛ كقوله تعالى: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا{ إلى قوله تعالى: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ{ [آل عمران: 103 - 106]؛ قال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه البدعة والفرقة([160])، وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ{ [الأنعام: 159]، وقال تعالى: }فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ{ إلى قوله: }وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا{ [الروم: 30 - 32].
وقد ذم أهل التفرق والاختلاف في مثل قوله تعالى: }وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ{ [آل عمران: 19]، وفي مثل قوله تعالى: }وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ{ [هود: 118 - 119]، وفي مثل قوله: }إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ{ [البقرة: 176].
وكذلك سنة رسول الله ﷺ توافق كتاب الله؛ كالحديث المشهور عنه، الذي روى مسلم بعضه عن عبد الله بن عمرو، وسائره معروف في مسند أحمد وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ خرج على أصحابه وهم يتناظرون في القدر، ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: «أبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، لا ليكذب بعضه بعضا، انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه»([161])، هذا الحديث أو نحوه، وكذلك قوله: «المراء في القرآن كفر»([162])،وكذلك ما أخرجه الإمامان في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أن النبي ﷺ قرأ قوله: }هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ{ [آل عمران: 7]، فقال النبي ﷺ: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم»([163])"([164]).
8- ويرى بعض الباحثين أن النهي عن الخوض في القدر شبيه بالنهي عن كتابة "أقواله ﷺ ؛ حيث كان ضروريا في مرحلة من المراحل حتى لا يختلط تدوين القرآن الكريم بتدوين الحديث النبوي، ثم رأى العلماء عبر العصور المختلفة بعد انقطاع الوحي أن كتابته ضروري للحفاظ على الدين، ومما يؤكد هذه الحقيقة أن فحول العلماء في العصور المختلفة قد كتبوا في القضاء والقدر، لما رأوه من الضرورة الملحة؛ وذلك تعزيزا لإيمان المؤمنين، ودفعا لخطر جهود المشككين في الإسلام"([165])، وردا على الفرق المخالفة التي خاضت في القضاء والقدر بالباطل؛ كالقدرية والجبرية، وغيرهما من الفرق التي أثارت كثيرا من الشبه حول هذا الأصل العظيم من أصول الإيمان مما دفع العلماء إلى الرد عليها وإبطال شبهها، ودحض حججها.
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين؛ أحمده ـ سبحانه وتعالى ـ الذي أعان على تتمة هذا البحث، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم، أما بعد:
فقد جلي هذا البحث أمورا، ومن أهمها ما يلي:
1- تعريف القضاء والقدر في اللغة والاصطلاح، وذكر الفرق بينهما.
2- منزلة القضاء والقدر من الدين، وأنه الركن السادس من أركان الإيمان.
3- أهمية تعلم مسائل القضاء والقدر، وتعليمها، وتبينت الأهمية من خلال ذكر سبعة أمور دلت عليها.
4- الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ التي تنهى عن الخوض في القدر، وتحذر من الوقوع فيه.
5- الأمور التي يتضمنها النهي عن الخوض في القدر، وتبينت خطورة الخوض في القدر من خلال ذكر ثمانية أمور يتضمنها النهي.
6- أنه لا تعارض بين النهي عن الخوض في القدر، وأهمية تعلمه وتعليمه ودراسة مسائله.
وذلك أن النهي يتناول التحذير من الوقوع في مخالفات شرعية، بخلاف تعلم مسائل القدر، الذي هو أصل من أصول الإيمان التي لابد من تعلمها وتعليمها، وتربية الأمة عليها؛ لما في ذلك من الثمرات العظيمة، والفوائد الجليلة.
هذا وأسأل الله إخلاص النية وصلاح العمل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
([1]) معجم مقاييس اللغة 5/99، وانظر تاج العروس 10/296.
([2]) انظر: الصحاح 6/2463، 2464، ولسان العرب 3/111 – 113.
([3]) النهاية في غريب الحديث والأثر ص759، وانظر مفردات ألفاظ القرآن ص422.
([4]) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر ص735.
([5]) معجم مقاييس اللغة 5/62، وانظر: مفردات ألفاظ القرآن ص396.
([6]) الحديث رواه البخاري، كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى ح1162.
([7]) انظر: تاج العروس 3/482، ولسان العرب 3/31.
([8]) انظر: تاج العروس 3/281، ولسان العرب 3/31.
([9]) القاموس المحيط ص591.
([10]) مسائل الإمام أحمد 2/155.
([11]) لوامع الأنوار البهية 1/345.
([12]) المصدر السابق ص349.
([13]) شرح العقيدة الواسطية ص151 – 156.
([14]) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل 1/133.
([15]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/149.
([16]) المصدر السابق 11/477.
([17]) مفردات ألفاظ القرآن ص407.
([18]) معالم السنن 7/70.
([19]) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر ص759، وجامع الأصول 10/104، ولسان العرب 3/112.
([20]) انظر: الدرر السنية 1/512، 513، وفتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين 1/52، 62.
([21]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ح1.
([22]) رواه الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره، ح2144، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/446، ح2144.
([23]) رواه الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره، ح2145، ورواه ابن ماجة، المقدمة، باب في القدر، ح81، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/21.
([24]) رواه مسلم، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر، ح2655.
([25]) شرح العقيدة الطحاوية ص5، 6.
([26]) المصدر السابق ص355.
([27]) سبق تخريجه ص17.
([28]) شرح العقيدة الطحاوية ص355، 356.
([29]) رواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/689 رقم 1112، و1224، وعبد الله ابن أحمد في كتاب السنة 2/422 رقم 925، 928، والآجري في الشريعة ص215.
([30]) انظر: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه، ص83، 84.
([31]) القمش جمع القماش، وهو ما كان على وجه الأرض من فتات الأشياء، حتى يقال لرذالة الناس قماش، انظر: لسان العرب 3/162.
([32]) شفا العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل 1/44، 45.
([33]) الآخية واحدة الأواخي: عود يعرض في الحائط ويدفن طرفاه فيه ويصير وسطه كالعروة تشد إليه الدابة، انظر: لسان العرب 1/32 وتاج العروس 10/10.
([34]) شفاء العليل 1/82، 83.
([35]) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/381، وصححه ووافقه الذهبي.
([36]) شرح العقيدة الطحاوية ص8 – 11.
([37]) شرح العقيدة الطحاوية، ص499، 500.
([38]) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه، ص85.
([39]) تفسير القرآن العظيم 1/501، 502.
([40]) تفسير القرآن العظيم 3/242.
([41]) طرف من حديث جبريل، وقد سبق تخريجه ص17.
([42]) جامع العلوم والحكم 1/97.
([43]) شرح الأربعين حديثا النووية ص14.
([44]) شرح النووي على صحيح مسلم 1/160.
([45]) كتاب الإيمان من إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم 1/101، 102.
([46]) انظر: جامع العلوم والحكم ص103.
([47]) أي يتتبعونه ويطلبونه ويجمعونه، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر ص764، وشرح النووي على صحيح مسلم 1/155، ولسان العرب 3/135، وفي رواية (يتفقرون): أي يبحثون عن غامضه ويستخرجون خفيه، انظر شرح النووي على صحيح مسلم 1/155، والنهاية في غريب الحديث والأثر ص714.
([48]) أجزاء من حديث جبريل الذي رواه مسلم، وسبق تخريجه.
([49]) رواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، ح2648.
([50]) رواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، ح2649.
([51]) رواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، ح2645.
([52]) الحرز: التقدير والخرص؛ انظر: لسان العرب 1/622، وقوله: "لأحرز عقلك" أي: لأمتحن عقلك وفهمك ومعرفتك، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/199.
([53]) رواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، ح2650.
([54]) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل 1/45، 46.
([55]) رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، ح4700، وصححه الألباني، انظر: شرح العقيدة الطحاوية بتحقيق الألباني ص294.
([56]) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه ص85.
([57]) انظر: المصدر السابق ص85.
([58]) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقاق، باب المؤمن أمره كله خير، ح2999.
([59]) انظر تلك الثمرات وغيرها في شرح أصول الإيمان ص58، 59، والجامع الصحيح في القدر ص11، 12 والقضاء والقدر ص109 – 112.
([60]) شرح العقيدة الطحاوية ص341، 342.
([61]) انظر: تفسير القرآن العظيم 2/352، واقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/142 – 144.
([62]) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، ح7319.
([63]) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، ح7320.
([64]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/301.
([65]) تفسير القرآن العظيم 3/171.
([66]) جامع البيان في تفسير البيان 17/11.
([67]) فتح القدير 3/402.
([68]) الحديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر، ح2655.
([69]) شرح النووي على مسلم، 16/205.
([70]) أي غضب ﷺ ، فاحمر وجهه احمرارا فقء أي شق حب الرمان في وجهه، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر ص712.
([71]) رواه الترمذي في سننه، كتاب القدر، باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر، ح2133، وقال: وفي الباب عن عمر، وعائشة، وأنس، وهذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث صالح المري، وصالح المري له غرائب ينفرد بها، لا يتابع عليها. وقال الألباني في مشكاة المصابيح 1/36: "قلت: لكن يشهد له الذي بعده ـ يعني حديث عمرو بن شعيب ـ ولهذا قال عنه: إنه (حسن)؛ انظر صحيح سنن الترمذي 2/439. وهذا الذي بعده حديث واحد في روايتين مختلفتين، وإنما فصلتهما لما رأيت في الرواية الثانية من زيادة مفيدة.
([72]) رواه ابن ماجة في سننه، المقدمة، باب في القدر، ح85. وقال الألباني: "حسن صحيح" انظر: صحيح سنن ابن ماجة 1/21، ومشكاة المصابيح 1/36.
([73]) رواه الطبراني في الكبير 2/78/2، وأبو نعيم في الحلية 4/108، وقال: "غريب من حديث الأعمش، تفرد به عن مسهر". لكن للحديث شواهد أخرى تقويه، قال الألباني: "روي من حديث ابن مسعود، وثوبان، وابن عمر، وطاوس مرسلا، وكلها ضعيفة الأسانيد، ولكن بعضها يشد بعضا" سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/75، ولهذا ذكره ضمن الأحاديث الصحيحة، ح34.
([74]) رواه البزار في مسنده ص230، والحاكم في مستدركه 2/473، وابن أبي عاصم في السنة 1/155، رقم 350، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/702 وقال: "رواه البزار والطبراني، ورجال البزار في أحد الإسنادين رجال الصحيح غير عمر بن أبي خليفة وهو ثقة" وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/116 ح1124، وصحيح الجامع الصغير 1/105 ح226.
([75]) أخرجه الحاكم في مستدركه 1/33، والطبراني في المعجم الكبير رقم 12764، والبزار في مسنده ص130، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/202: "رواه البزار والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح"، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/241، ح1675، وصحيح الجامع الصغير 1/402، ح2003.
([76]) قاله الألباني ونسبه لأبي موسى المديني؛ انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/242.
([77]) رواه أبو عمر الداني في السنن الواردة في الفتن 23/1 – 2، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/203، وقال: وفيه ليث بن أبي سليم، وهو لين، وبقية رجاله وثقوا"، وقال الألباني: "لكن الحديث له شواهد كثيرة يرتقى بها إلى درجة الصحة"؛ يعني رواية أبي محجن، وأنس، وأبي الدرداء، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/118 – 120.
([78]) رواه ابن عبد البر في جامع البيان العلم 2/39، وابن عساكر في تاريخ دمشق 16/308/1 وهذه الرواية سندها ضعيف كما ذكر الألباني في السلسلة الصحيحة 3/119، وللحديث شواهد يرتقى بها إلى درجة الصحة، انظر المصدر السابق 3/118 – 120.
([79]) رواه أبو يعلى في مسنده 1023، وقال محققه حسين أسد: إسناده ضعيف، لضعف يزيد الرقاشي، وابن عدي في المطالب العالية 1/196، وانظر الحاشية رقم 1، 2 السابقتين.
([80]) رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي 7/203: "وفيه معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف"، وهذه الروايات الثلاث شواهد لحديث أبي أمامة يتقوى بها، كما أشار الألباني، ولهذا ذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح1127.
([81]) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الخسوف، ح4061، ورواه الترمذي كتاب القدر، باب 16، ح2152 وقال: "حديث حسن صحيح غريب"، وقال عنه الألباني: "حديث حسن"؛ انظر صحيح سنن الترمذي 2/449.
([82]) رواه الترمذي في كتاب القدر باب 16، وقال عنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/349: "إسناده حسن".
([83]) رواه أبو داود في كتاب السنة، باب القدر، ح4691، والحاكم في المستدرك 1/85، وقال عنه: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر، ولم يخرجاه"، واللالكائي في شرح السنة، ح1150، والآجري في الشريعة ص190، وقال عنه الألباني بعد أن ساق طرقه: "فالحديث بهذه الطرق حسن"، انظر مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني 1/38.
([84]) رواه أبو داود في كتب السنة، باب القدر، ح4692، وأحمد في سنده 5/407، واللالكائي في شرح السنة، ح1155، وقال عنه الألباني: "حديث حسن"؛ انظر: صحيح الجامع الصغير 2/917، ح5163، وهذا الحديث والذي قبله روايتان، وإنما فصلتهما للزيادة في الثانية.
([85]) رواه أحمد في مسنده 6/441، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد 7/203: "فيه سليمان بن عتبة الدمشقي؛ وثقه أبو حاتم وغيره، وضعفه ابن معين وغيره"، ورواه ابن أبي عاصم في السنة، ح321، وقال عنه الألباني: "حديث حسن"؛ انظر كتاب السنة لابن أبي عاصم 1/141.
([86]) رواه ابن أبي عاصم في السنة، ح323، والطبراني، ح7547، وقال عنه الألباني: "إسناده حسن"؛ انظر: كتاب السنة لابن أبي عاصم 1/142، وذكره أيضا في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/390، ح1785.
([87]) رواه الآجري في الشريعة ص215، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/697، الأثر رقم 1126.
([88]) انظر: الشريعة ص235 – 250، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 8/461.
([89]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/696، رقم 1125، وكتاب السنة لعبد الله ابن أحمد 2/432، رقم 956.
([90]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 8/105، وانظر السنة للخلال 1/549.
([91]) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل 1/130.
([92]) فضل علم السلف على علم الخلف ص136، 137.
([93]) نقلا عن فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/477، وانظر الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة 2/229، 230.
([94]) شرح السنة 1/144.
([95]) الهملجة: السير في سرعة وبخترة، ويقال: شاة هملاج: لا مخ فيها، انظر: لسان العرب 3/831.
([96]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/784.
([97]) السوفسطائية: قوم ينكرون المحسوسات، والسفسطة هي نفي الحقائق الثابتة مع العلم بها تمويها ومغالطة، أو هي: قياس مركب من الوهميات، والغرض منه: تغليط الخصم وإسكاته، انظر: التعريفات ص131، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص42.
([98]) درء تعارض العقل والنقل 1/20، 21.
([99]) انظر: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة 1/421، 422.
([100]) القضاء والقدر ص48.
([101]) انظر: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاب الناس فيه ص26.
([102]) شرح العقيدة الطحاوية ص230.
([103]) شرح السنة 1/145.
([104]) الشريعة ص236.
([105]) جامع بيان العلم وفضله 2/95.
([106]) المصدر السابق، الصفحة نفسها.
([107]) انظر: فضل علم السلف على علم الخلف ص136، 137.
([108]) سبق تخريجه ص43.
([109]) هجرت: أي بكرت، والتهجير التبكير والمبادرة، انظر: لسان العرب 3/773، والنهاية في غريب الحديث والأثر ص1000، وشرح النووي على صحيح مسلم 16/218.
([110]) رواه مسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، ح2666.
([111]) رواه مسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن...، ح2667.
([112]) انظر إلى السؤال كاملا في: درء تعارض العقل والنقل 1/25، 26، 46.
([113]) المصدر السابق 1/26 – 46.
([114]) درء تعارض العقل والنقل 1/46 – 48.
([115]) التنقير هو البحث التقصي والتفتيش مما يؤدي إلى المنازعة والاختلاف، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر ص936، ولسان العرب 3/702.
([116]) الطحاوية بشرح ابن أبي العز الحنفي ص320.
([117]) الشعرية ص149.
([118]) شرح العقيدة الطحاوية، ص320، 321، 336، 338.
([119]) المصدر السابق، ص233.
([120]) جامع بيان العلم وفضله 2/97.
([121]) المصدر السابق، الصفحة نفسها.
([122]) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ ، ح7288، ورواه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، ح1337.
([123]) جامع بيان العلم وفضله 2/98.
([124]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/136.
([125]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/699، الأثر رقم 1131.
([126]) فضل علم السف على علم الخلف ص137.
([127]) الشريعة ص235.
([128]) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/695، 696، والشريعة ص202، والإبانة 2/207، وشرح العقيدة الطحاوية ص320، 321، وتيسير العزيز الحميد ص620.
([129]) شرح العقيدة الطحاوية ص343.
([130]) الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة 2/30، 31.
([131]) القضاء والقدر ص49.
([132]) المصدر السابق، الصفحة نفسها.
([133]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/176.
([134]) رواه البخاري، كتاب القدر، ح6594.
([135]) شرح العقيدة الطحاوية، ص320.
([136]) انظر: المصدر السابق، ص341، 342.
([137]) الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة 2/229، 230.
([138]) تفسير القرآن العظيم 3/296، 297.
([139]) شرح العقيدة الطحاوية، ص314.
([140]) شرح العقيدة الطحاوية، ص334، 335.
([141]) سبق تخريجه ص43.
([142]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/142 – 144.
([143]) تفسير القرآن العظيم 3/200.
([144]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 5/15، 16.
([145]) الحديث رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن تفسير سورة الزخرف، ح3253، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن ماجة، المقدمة، باب اجتناب البدع والجدل، ح48، ورواه الإمام أحمد في مسند 5/252، 256، وقال عنه الألباني: "حديث حسن"؛ انظر صحيح سنن الترمذي 3/326.
([146]) رواه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب قول الله تعالى: }وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ{، ح2457، ورواه مسلم، كتاب العلم، باب في الألد الخصم، ح2668.
([147]) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر ص833، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 5/106.
([148]) في صحيحه، كتاب الأحكام، عند الحديث رقم 7188.
([149]) شرح النووي على صحيح مسلم 16/219.
([150]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/176، 177.
([151]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/185، 186.
([152]) شرح السنة ص36.
([153]) في كتابه الشريعة ص54.
([154]) المصدر السابق ص55، 56.
([155]) الشريعة ص56.
([156]) المصدر نفسه الصفحة نفسها.
([157]) المصدر نفسه الصفحة نفسها.
([158]) المصدر نفسه ص224.
([159]) انظر ص59 – 60 من هذا البحث.
([160]) انظر: الدر المنثور 2/3، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/79 بلفظ فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولو العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدعة والضلالة.
([161]) سبق تخريجه بنحوه ص43.
([162]) أخرجه أحمد في المسند 2/475، 503، 424، وأبو داود، كتاب السنة، باب النهي عن الجدال في القرآن، ح4603، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي؛ انظر المستدرك 2/223، وقال الألباني: "وهو صحيح باعتبار أن له شواهد صحيحة"؛ مشكاة المصابيح 1/79، وانظر صحيح الجامع الصغير 2/1134، ح6687.
([163]) رواه البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة آل عمران، ح4547، ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، ح2665.
([164]) درء تعارض العقل والنقل 1/46، 48 – 50.
([165]) كشف الغيوم عن القضاء والقدر ص2.