×
قصة يونس عليه السلام: قال المُصنِّف - حفظه الله -: «فهذه قصة نبي الله يونس - عليه السلام -، وما حدث له مع قومه نسوقها لما ذكره الله في كتابه ..، فنسوقُها لتثبيت الفؤاد، ولما ذكرَه الله في كتابه الكريم .. فنسوقُها للاتِّعاظ والاعتِبار ... ثم إن هذه القصة المباركة ضمن قصص الأنبياء التي نُخرِجها لإخواننا تِباعًا مُظهِرين ما فيها من عِبَر وعِظات وآداب وأحكام ومُعاملات ومُعتقَدات».

  قصة يونس عليه السلام

مصطفى العدوي

 المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

وبعد...

فهذه قصة نبي الله يونس عليه السلام، وما حدث له مع قومه نسوقها لما ذكره الله في كتابه ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ فنسوقها لتثبيت الفؤاد، ولما ذكره الله في كتابه الكريم حيث قال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ فنسوقها للاتعاظ والاعتبار، سائلين الله أن ينفعنا بها وبما فيها من فوائد وعبر، وإخواننا المسلمين.

ثم إنَّ هذه القصة المباركة ضمن قصص الأنبياء التي نخرجها لإخواننا تباعًا مُظهرين ما فيها من عبرٍ وعظات وآداب وأحكام ومعاملات ومعتقدات، فالله أسأل أن يحشرنا مع هذا الرهط الكريم من الأنبياء عليهم أفضل صلاة وأتم تسليم فهم أئمتنا، وهم قدوتنا وهم سادتنا، وهم هُداتنا بإذن الله، وفقنا الله والمسلمين لاتباعهم ويسر علينا اقتفاء آثارهم وجمعنا بهم في الفردوس.

فإلى هذه القصة وشيءٍ من فقهها وفوائدها، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وصلى الله على نبينا محمد وسلم

كتبه

أبو عبد الله مصطفى بن العدوي


 بعض الوارد من الآيات في ذكر نبي الله يونس عليه السلام

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [الصافات: 139 - 148].

وقال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87 - 88].

وقال سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القلم: 48 - 50].

وقال سبحانه: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾[النساء: 163].

وقال سبحانه: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98].

 بعض معاني مفردات الآيات السابقة

الكلمة

معناها

﴿الْمُرْسَلِينَ﴾

الرسل الذين أرسلهم الله لهداية الخلق.

﴿أَبَقَ﴾

فرَّ

﴿الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾

السفينة الكبيرة الممتلئة

﴿فَسَاهَمَ﴾

قارع (أجرى القرعة).

﴿الْمُدْحَضِينَ﴾

المغلوبين (الذين وقعت عليهم القرعة)

﴿فَالْتَقَمَهُ﴾

ابتلعه.

﴿مُلِيمٌ﴾

مكتسب اللوم - فعل ما يُلام عليه - مذنب

﴿الْمُسَبِّحِينَ﴾

المُصلين - المكثرين من التسبيح

﴿لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾

لكان بطن الحوت له قبرًا إلى يوم القيامة.

﴿فَنَبَذْنَاهُ﴾

ألقيناه - طرحناه.

﴿بِالْعَرَاءِ﴾

الساحل - اليبس من الشطّ - أرض ليس فيها نبات ولا شيء يستتر به.

﴿سَقِيمٌ﴾

مريض.

﴿يَقْطِينٍ﴾

اليقطين القرع عند جمهور المفسرين([1]).

﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾

بل يزيدون.

﴿إِلَى حِينٍ﴾

إلى بلوغ آجالهم بالموت.

﴿وَذَا النُّونِ﴾

صاحب النون، وهو يونس عليه السلام، أطلق عليه «ذا النون» لأن الحوت التقمه.

﴿مُغَاضِبًا﴾

مغاضبًا قومه - غاضب عليهم ومنهم

﴿لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾

لن نضيق عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾

﴿الظُّلُمَاتِ﴾

ظلمة قاع البحر، وظلمة الليل البهيم وظلمة بطن الحوت.

﴿لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾

لقضاء ربك.

﴿كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾

يونس عليه السلام.

﴿نَادَى﴾

دعا.

﴿مَكْظُومٌ﴾

ممتلئ همًّا وغمًّا.

﴿تَدَارَكَهُ﴾

أدركته.

﴿لَنُبِذَ﴾

لطُرح.

﴿مَذْمُومٌ﴾

عليه ذمٌّ من ربه - غير مرضي عليه -


وبعد:

* فهذا نبي الله الكريم يونس - صلى الله عليه وسلم -.

إنه ذو النون ([2]) !!

إنه صاحب الحوت !!

* إنه يونس بن مَتَّى عليه السلام.

كذا نسبه النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ففي الصحيحين ([3]) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ينبغي لعبدٍ أن يقولَ إني خيرٌ من يونس بن متَّى» ونسبه إلى أبيه.

* فعلى ذلك فمتَّى هو أبوه!!

* إن هذا النبي الكريم من الأنبياء الذين أمرنا الله بالتأسي بهم والاقتداء بهم.

قال الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾[الأنعام: 86 - 90].

* إنَّه نبيٌّ من المسبحين المنيبين إلى ربهم والله يقول ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾.

* إنه نبيٌّ أُوتي أيضًا الكتاب والحكم والنبوة.

إذ الله قال في شأن هؤلاء الأنبياء الذين قدمنا ذكرهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾.

* لقد سبَّح هذا النبي ونادى ودعا في مكان لم نعلم أن أحدًا من البشر سبَّح فيه ودعا ونادى! لقد سبح في بطن الحوت.

* إنَّه نبيٌّ مُجتبى مختار!!             * إنَّه من الصالحين !!

 قال تعالى في شأن هذا النبي الكريم: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

* لقد آمن من قوم هذا النبي الكريم مائةُ ألف أو يزيدون!

قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾.

لقد سُميت سورة من كتاب الله باسم هذا النبي الكريم، ألا وهي سورة يونس!!

* فإلى شيء من قصة هذا النبي الكريم وسيرته سائلين الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بها والمسلمين.

* لقد أرسل الله سبحانه وتعالى هذا النبيَّ الكريم إلى أهل بلدة يُقال لها «نينوى»([4]) من أرض «الموصل» بالعراق، فدعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وحذَّرهم من عاقبة كفرهم الذين هم عليه، وحذَّرهم من مغبة عصيانهم، فأبوا عليه، وتمردوا على أمره وخالفوه وعصوه، فغضب منهم وتعجل وخرج من بلادهم من غير إذن من الله له بالخروج ([5])، وترك لهم بلادهم واتجه إلى ساحل البحر، ظنًّا منه أن لن يُعاتب على هذا الضجر والغضب والعجلة في الخروج.

كما قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

* أما قومه فماذا صنعوا بعد خروجه عليه السلام؟!!

إنهم فكروا فيما توعدهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إن لم يؤمنوا!!

إنهم يعرفون أن الأنبياء عليهم السلام لا يكذبون فمن ثمَّ أيقنوا بنزول العذاب عليهم إن استمروا على كفرهم وعنادهم!

إن الله سبحانه وتعالى قذف ذلك في قلوبهم فمن ثمَّ آمنوا فنفعهم هذا الإيمان، كما قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98].

 فالإيمان ينفع في دفع العذاب غاية النفع

قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾ [النساء: 147].

والمصائب والعقوبات قد تكون في طريقها إلى أقوام فيستغفروا ربهم فيَصرف عنهم السوء والمكروه، وتُدفع عنهم البلايا والنِقم والمصائب والعقوبات.

قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33].

* ولنرجع إلى نبي الله يونس عليه السلام، وما صنع!!

لقد اتجه عليه السلام إلى سفينة واستوقفها وركبها؛ كي يسافر بعيدًا عن قومه الذين عاندوه وخالفوه وكانت السفينة مليئة ومشحونة بالبضائع والركَّاب والأمتعة كما قال تعالى: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الصافات: 140] فلعبت الأمواج بالسفينة وخشي أهلها الغرق، فبدؤوا يتخففون من الأحمال التي معهم بإلقائها في اليمِّ متاعًا تلو متاع، وبضاعة تلو بضاعة.

ولكن كل هذا لم يُجدِ ولم ينفع، فبدؤوا في أمرٍ آخر، وهو التفكير في التخفف من الأشخاص حتى تسلم لهم سفينتهم ويسلم جلُّ الركاب وإن غرق بعضهم، فبدؤوا بالفعل في التفكير الجاد في إلقاء بعضهم في اليم لتخفيف الأحمال والأثقال، ولكن من يُلقى أولاً، فاتفقوا على أن يستهموا فيما بينهم لمعرفة من يُلقى، فوقع السهم على يونس - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾[الصافات: 141] فأُلقي يونس - صلى الله عليه وسلم - في اليم، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن الله سبحانه وتعالى - وهو على كل شيء قدير - سخَّر ليونس عليه السلام حوتًا عظيمًا جاء يشق البحر، فابتلع يونس - صلى الله عليه وسلم -، ولم تتناوله أسنانُه بأذى لأمرٍ يريده الله ولأمرٍ قد قدَّره الله.

اتجه الحوت ويونس - صلى الله عليه وسلم - في بطنه إلى قاع البحار، فهناك تراكمت على يونس ظلمات: ظلمة بطن الحوت، وظلمة قاع البحر، وظلمات الليل البهيم، فضلاً عما هو فيه من كرب وهمٍّ ونكدٍ وغمٍّ لكونه ذهب مغاضبًا وخرج بغير إذن من الله له بالخروج ولكنه حاول الحركة فبدأ يتحرك، فكان أول من كان من أمره أن قال مناديًا في الظلمات: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[الأنبياء: 87] تلك الدعوة التي ما دعى بها مكروب إلا وفرَّج الله همَّه، وكشف الله كربه، فأكثر عليه الصلاة والسلام من التسبيح، كما قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 143 - 144]، فسبَّح وسبح وتاب واستغفر، وكان أيضًا قبل هذا البلاء يسبح ويستغفر ويكثر من الصلاة.

وهكذا المؤمنون لا يقنطون من رحمة الله، ولا ييأسون من روحه فقد علموا عن الله عز وجل أنه غافر الذنب وقابل التوب، وعلموا عن رحمة الله عزَّ وجل أنَّها وسعت كل شيء، وعلموا أنه سبحانه كان للأوَّابين غفورًا، فاستغفر يونس واستغفر، وهلَّل ووحَّد وأخلص في الدعاء والله يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، سبح يونس واعترف بالذنب، ونادى ربَّه موحدًا: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87] فعل ذلك في مكان لم يصل إليه بَشَرٌ حيٌّ بحالٍ من الأحوال، فحينئذ تداركته نعمة من ربه ولاقته رحمة ربه، فلكثرة تسبيحه وتهليله واستغفاره أنجاه الله تبارك وتعالى، كما قال سبحانه: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 143 - 144].

أنجاه الله سبحانه بأن اتجه الحوت إلى جانب البر فقذف يونس عليه السلام ونبذه - أي طرحه - بالعراء ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ [الصافات: 145]، أي: وهو مريض، ومن فضل الله على هذا النبي الكريم أنه لم ينبذ بالعراء وهو مذموم، ولكنه نُبذ وهو سقيم، كما قال تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ [القلم:49]، والسقيم غير المذموم.

فالأمراض كفَّارات تذهب بالخطايا وتذهب بالأوزار فتداركت نعمة ربنا يونس عليه السلام.

أنه المراد بالنعمة:

فمن أهل العلم من قال: إن المراد بالنعمة هنا: النبوة، فالمعنى: لولا أن الله قد جعله نبيًّا.

ومنهم من قال: هو فضل الله عليه ونعمته عليه بعبادته السابقة، أي: فلولا عبادته السابقة التي تفضل الله بها عليه.

ومنهم من قال: هو نداؤه في بطن الحوت: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].

ووجه آخر: وهو أن المعنى: لولا أن رحمه ربه.

* ثم إنَّا نرجع فنقول: إن الله سبحانه وتعالى حفظ نبيه يونس عليه السلام وأنبت عليه شجرة من يقطين (شجرة من القرع) فأظلته وسترته واستدفأ بها، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ [الصافات: 146] ثم أنعم الله عليه بإرساله ثانيةً، ومنَّ عليه بالدعوة إلى الله عزَّ وجل، كما قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [الصافات: 147 - 148] فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم وعلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل صلاة وأزكى تسليم.

* وهذا سياق الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى للقصة: نورده مع التنبيه على أنه لم يصح في الباب خبرٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

إن ما ساقه الحافظ ابن كثير رحمه الله، كثير منه مأخوذ من سياق الآيات الكريمة وظواهرها، وبعضه مأثور عن بعض السلف الصالح، وثمَّ آثارٌ منها قد صحت أسانيدها، وثمَّ آثارٌلم نقف لها على إسناد صحيح، ولا يبعد أن يكون بعضها قد أُخذ من الإسرائيليات.

* قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:

﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ يعني: ذا النون، وهو يونس بن متَّى عليه السلام حين ذهب مغاضبًا على قومه، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له، وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعليِّ القدير، الذي لا يُرد ما أنفذه من التقدير، فحينئذٍ نادى في الظلمات: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، وقال ها هنا: ﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ قال ابن عباس، ومجاهد، والسدِّي: مغموم.

وقال عطاء الخراساني، وأبو مالك: مكروب. وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾: خرجت الكلمة تحف حول العرش، فقالت الملائكة: يا رب، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة! فقال الله تعالى: أما تعرفون هذا؟! قالوا: لا! قال: هذا يونس. قالوا: يا رب، عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح، ودعوة مجابة؟ قال: نعم. قالوا: أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء، ولهذا قال تعالى: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

وقال أيضًا ([6]):

قال أهل التفسير: بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى، من أرض الموصل فدعاهم إلى الله عز وجل، فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث.

قال ابن مسعود، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف: فلما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم فلبسوا المسوح، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فرغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم بسببه ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم، ولهذا قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ [يونس: 98] أي: هلَّا. وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكاملها، فدلَّ على أنَّه لم يقع ذلك، بل كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ: 34].

وقوله: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98] أي: آمنوا بكمالهم.

وقال أيضًا:

واختلفوا: هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده؟ أو هما أُمتان؟

على ثلاثة أقوال هي مبسوطة في «التفسير».

والمقصود: أنه عليه السلام لما ذهب مغاضبًا بسبب قومه ركب سفينة في البحر فلجَّت بهم، واضطربت وماجت بهم وثقلت بما فيها، وكادوا يغرقون، على ما ذكره المفسرون، قالوا: فاشتوروا فيما بينهم على أن يقترعوا، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتخففوا منه، فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس، فلم يسمحوا به، فأعادوها ثانية، فوقعت عليه أيضًا، فشمر ليخلع ثيابه، ويلقي بنفسه، فأبوا عليه ذلك، ثمَّ أعادوا القرعة ثالثة، فوقعت عليه أيضًا لما يريده الله به من الأمر العظيم.

قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ [الصافات: 139 - 142]. وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقي في البحر وبعث الله عز وجل حوتًا عظيمًا من البحر الأخضر، فالتقمه، وأمره الله تعالى أن لا يأكل له لحمًا ولا يهشم له عظمًا، فليس لك بزرق، فأخذه فطاف به البحار كلها، وقيل: إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه. قالوا: ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه، فتحركت فإذا هو حيٌّ فخرَّ لله ساجدًا، وقال: يا رب اتخذتُ لك مسجدًا في موضع لم يعبدك أحد في مثله.

وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه، فقال مجالد عن الشعبي: التقمه ضحًى ولفِظَهُ عشيةً، وقال قتادة: فمكث فيه ثلاثًا. وقال جعفر الصادق: سبعة أيام.

ويشهد له شعر أمية بن أبي الصلت:

وأنت بفضلٍ منك نجيت يونسًا

وقد بات في أضعاف حوتٍ لياليا

وقال سعيد بن أبي الحسن وأبو مالك: مكث في جوفه أربعين يومًا، والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه.

والمقصود: أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية ويقتحم به لجج الموج الأجاجي، فسمع تسبيح الحيتان للرحمن، وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنَّوى ورب السموات السبع والأرضين السبع وما بينها وما تحت الثرى. فعند ذلك وهنالك قال ما قال بلسان الحال والمقال كما أخبر عنه ذو العزة والجلال الذي يعلم السر والنَّجوى، ويكشف الضرَّ والبلوى سامع الأصوات وإن ضعفت، وعالم الخفيات وإن دقت، ومجيب الدعوات وإن عظمت، حيث قال في كتابه المبين المنزل على رسوله الأمين - وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله المرسلين: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ﴾أي: إلى أهله﴿مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنبياء: 87، 88] ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أن نضيق عليه. وقيل معناه: نقدر من التقدير، وهي لغة مشهورة، قدر وقدِر وقدَّر كما قال الشاعر:

فلا عائدٌ ذاكَ الزمانُ الذي مضى

تَبارَكتَ ما تَقْدِرْ يَكُنْ فَلَك الأمرُ

﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ قال ابن مسعود وابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والضحاك، ظلمة الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل.

* وقال سالم بن أبي الجعد: ابتلع الحوتَ حوتٌ آخر فصارت ظلمة الحوتين مع ظلمة البحر. وقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ قيل: معناه: فلولا أنَّه سبَّح الله هنالك وقال ما قال من التهليل والتسبيح، والاعتراف لله بالخضوع، والتوبة إليه والرجوع إليه، للبث هنالك إلى يوم القيامة، ولبعث من جوف ذلك الحوت. هذا معنى ما رُوي عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه: وقيل: معناه: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ﴾ من قبل أخذ الحوت له ﴿مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ أي: المطيعين المصلين الذاكرين لله كثيرًا.


 أمورٌ مستفادة من سيرة هذا النبي الكريم وقصته

نأخذ من سيرة هذا النبي الكريم: «أن أهل الفضل وأهل الصلاح، قد تصدر منهم زلات في بعض الأحيان»، ولكن من فضل الله عليهم أن الله يرزقهم توبةً وإنابةً هي أعظمُ بكثيرٍ مما صدر منهم من زلات، فتغفر لهم زلاتهم وترفع لهم الدرجات.

كما قال تعالى: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: 35].

وكإيضاح لذلك قد يَصدْرُ من شخصٍ يمينٌ منعقدة كفارتها إطعام عشرة مساكين فيُطعم - لشدة خوفه من الله ورغبة في ثوابه - عشرة مع العشرة، فيكفر عنه بالعشرة الأُول وترفع الدرجات بالعشرة الأُخر.

وهذا أحد الوجوه في تأويل قول الله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ فالشخصُ يُذنب ثم يُحدث توبةً عظيمةٌ من الذنب ويكثر من عمل الصالحات فتغفر السيئات ويثبت في صحائفه أعمال برٍّ وصلاح تورثه مزيدًا من الحسنات.

* ولنرجع فنقول: إنَّ أهل الفضل قد تصدر منهم زلات، فعلى هذا جُبل آدمُ عليه السلام، وجُبلت ذريته.

فقد خُلق الإنسان ضعيفًا كما قال الله سبحانه: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:28].

* وكذلك خُلق عجولاً كما قال سبحانه: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: 11].

* وكذلك فإنه خُلق خلقًا لا يتمالك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لَمَّا صَوَّرَ اللهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرَكَهُ فَجَعَلَ إبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ؟ فَلَمَّا رَأهُ أَجْوَفَ عَرف أنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمَالَكُ»([7]).

وجُبلَ الإنسان على الخطأ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، ولَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ»([8]).

وقدِّرت على ابن آدم الذنوب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كُتبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَة، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، والْيَدُ زِنَاها الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، والْقَلْبُ يَهْوَي ويَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ»([9]).

* وعصى آدم - صلى الله عليه وسلم - فعصت ذريته، وجحدت فجحدت ذريته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي «سنن الترمذي»([10]) بإسناد صحيح لشواهده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَي كُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤْلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ: أيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رجلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتكَ يُقَال لَهُ: داوُدُ. فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَا قُضِيَ عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَنسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ».

* فلم ينج من الذنوب أحدٌ، حتى أهل الصلاح.

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [النحل: 61].

وقال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: 33 - 35].

ففيه دليلٌ على: أنهم عملوا أعمالاً فيها سوءٌ لكن غفرها الله لهم.

فلا ينبغي أبدًا أن نيأس من روح الله ولا أن نقنط من رحمته، فهمها ارتكبنا من آثام ومهما اقترفنا من معاصٍ فباب التوبة مفتوح، ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة أن يذنب الشخص ذنبًا فيقول لن يُغفر لي فيترك الاستغفار.

ولكن أهل العلم والفضل يعرفون ويدركون أن باب التوبة لا يغلق ﴿إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

* فآدم عليه السلام أكل من الشجرة وكذا زوجته، ولكنهما أقرَّا بالذنب واعترفا به وأقلعا عنه، فقالا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

* وموسى عليه السلام قتل نفسًا – قبل أن يُبعث – فنجَّاه الله من الغم، وقال: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.

* وأصحاب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - صدر من بعضهم الذي صدر يوم أحد وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 155].

وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾.

يخبر الله عز وجل عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه ﴿عَبَسَ﴾ أي قبض وجهه وتضايق وظهر عليه أثر الضيق والكراهية، ﴿وَتَوَلَّى﴾ وأعرض بوجهه لما جاءه عبد الله ابن أم مكتوم، وهو رجل أعمى، كان قد أسلم وجاء يسأل عن دينه وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منشغلاً بدعوة رجل كافر من عظماء قريش إلى الإسلام، قيل: إن هذا الرجل الكافر هو أُبي بن خلف فأعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عبد الله ابن أم مكتوم وتضايق من أسئلته، وأقبل على هذا الرجل القرشي طمعًا في إسلامه فعاتب الله نبيه في ذلك وأنزل ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾.

قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أُنزل ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء قريش فجعل رسول الله يُعرض عنه ويُقبل على الآخر ويقول: أترى بما أقول بأسًا؟ فيقول: لا ففي هذا أُنزل([11]).

هذا وقد ذكر بعض أهل العلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكرم عبد الله ابن أم مكتوم ويرحب به بعد نزول هذه الآيات.

* والمتقون الذين أُعدت لهم جنَّات عرضها السموات والأرض يقول الله في شأنهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران:135].

* ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87 – 88].

فلا قنوط من رحمة الله!!!

ولا يأس من روح الله!!!

ولا اعتراض على قضاء الله!!!

* ولذا، لما كان أهل الفضل قد تصدر منهم أمورٌ فإنَّا، وإن أُمرنا بالاقتداء بهم في الجملة، إلاَّ أننا نهينا عن التأسي بهم في الأمور التي عوتبوا فيها أو التي تأولوا فيها تأولاً، والأولى خلافه.

ألم تر أن الله سبحانه وتعالى ذكر نبيه إبراهيم عليه السلام، ومن معه وأثنى عليهم غاية الثناء، بل وأمرنا بالتأسي بهم والاقتداء إلاَّ في أمرٍ نُهينا عن التأسي بإبراهيم عليه السلام فيه ألا وهو استغفاره لأبيه المشرك، قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 60].

* ولذا أيضًا فإنَّا نُهينا عن التشبه بنبي الله يونُس عليه السلام في خروجه مغاضبًا عن غير إذنٍ من الله له بذلك.

قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾.

أي: لا تكن كصاحب الحوت (وهو يونس - صلى الله عليه وسلم -) إذ آل به صنيعه إلى أن التقمه الحوت فنادى وهو في بطن الحوت ممتلئًا همًّا وغمًّا وحزنًا، فالنهي هنا نهيٌ عن مشابهته في الضجر والعجلة والغضب على قومه، ذلكم الأمر الذي آل به إلى ان تركهم وركب السفينة فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم، ذلكم الأمر الذي ملأه همًّا وغمًّا وكربًا وحزنًا.

وليس المراد ولا تكن كصاحب الحوت في دعائه وندائه.

وذلك لأن الدعاء والنداء فضل وبرٌّ وعملُ خير، وهما اللذان تسببا في نجاته، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

قال القرطبي رحمه الله:

أي: لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة. وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت.

وقال صديق حسن خان في «فتح البيان»:

﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ يعني: يونس عليه السلام، أي: لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة حتى تُبتلى ببلائه، ﴿إِذْ نَادَى﴾ أي: لا يكن حالك كحاله، أو قصتك كقصته في وقت ندائه.

وليس في هذا الذي قد ذُكر من النَّهي عن التشبه بنبي الله يونس عليه السلام في هذا الذي قد صدر منه انتقاصٌ لنبي الله يونس عليه السلام فالأنبياء عليهم السلام قد تصدر منهم أمورٌ لتتعلم منهم أممهم، وإنَّ كان الله قد قدَّر على الأنبياء عليهم السلام حدوث ذلك منهم.

فمن أجلِّ المقاصد من ذلك أن تتعلم الأمم مما حدث للأنبياء فيمتثلوا ما أُمر الأنبياء بامتثاله ويتقوا ما أُمر الأنبياء باتقائه.

هذا ومن العلماء من أشار هنا إلى معنىً طيب يتناسب مع مقامات الأنبياء عليهم السلام، فقال ما حاصله:

إن إباقه المذكور في قوله تعالى: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ لم يكن عن قصد مخالفته الله، بل كان لتأخر نزول العذاب الذي كان وعد قومه بنزوله عليهم، فلما تأخر نزول العذاب أداه اجتهاده أن يهجر قومه ويعيش بعيدا عنهم متيقنًا أن الله لا يضيق عليه في حياته.

قالوا: وهذا من اجتهادات الأنبياء، وحملوا ذلك أيضًا على ما صدر من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في أُسارى بدر، وعلى ما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - من صنيع يوم أن جاءه الأعمى فعبس وتولى.

وهنا أمر ينبغي التنبيه عليه ويجدر بنا أن نشير إليه:

إنه ظنَّ قد يتسرب إلى المسلم وإلى المؤمن!!

قد يتسرب إليه أنه سيُعفى عنه على الدوام، وإن صنع ما صنع!!

إنه قد يظن أنه لن يُعاقب على الذنوب والمعاصي والآثام وسيغفرها له ربه – لإيمانه – دائمًا وأبدًا!!

إنه قد يظن أنه لن يضيق عليه في الدنيا لكونه قد أسلم !

فنقول وبالله التوفيق:

نعم قد يُعفى عن العبد ويتجاوز الله عنهّ!

فالله هو أهل المغفرة.

وهو سبحانه قد يغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء.

ولكنه سبحانه قد يُعاقب أيضا، وقد يؤاخذ بالذنوب كذلك.

قال تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ [غافر:3].

وقال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49 – 50].

فالمتأملُ في الأحوال، والمتدبر للكتاب والناظر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى أن المؤمن قد يُعاقب وقد يُعفى عنه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].

ونبي الله يونس: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: 87] أي: ظن أن الله لن يضيق عليه، فخرج فكان من أمره ما كان، كان أن التقمه الحوت وهو مليم.

وآدم - صلى الله عليه وسلم - وزوجه لما أكلا من الشجرة حل بهما ما حل، فبعد أن كانا في نعمة وعافية وستر، فكان في الجنة لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى! فماذا كان بعد أن أكل من الشجرة؟! كان أن نزع عنه وعن زوجه لباسهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، كان أن أُخرجا من الجنة وأهبطا إلى الأرض حيث التعب والمشقة والنكد والأحزان، لولا أن تداركتهما نعمة الله ورحمته.

وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خالفوا أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - يوم أحدٍ حلَّ بهم ما حلَّ ونزل بهم ما نزل.

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: 155].

أما قوله تعالى: ﴿اسْتَزَلَّهُمُ﴾ أي أوقعهم (أو طلب وقوعهم) في الزلة وهي الخطيئة، وقد ذكر بعض العلماء في ذلك أقوالاً، منها: أن القوم (الذين فروا) كانوا قد ارتكبوا أخطاء فيما سلف (إما قبل القتال، وإما في أثنائه بتركهم مواقعهم ومخالفتهم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فخشوا أن يواجهوا العدو وهم على هذه الحال من الذنوب فدفعهم ذلك إلى الفرار، والله تعالى أعلم.

وكذا لما قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفدية من أسارى بدر نزل في ذلك أيضًا ما نزل

ففي صحيح مسلم([12]) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أبو زُمَيْلٍ: قال ابنُ عَبَّاسٍ: فلما أَسَرُوا الأُسَارَى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار. فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنَّا فنضرب أعناقهم، فتمكَّن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكِّنِّي من فلانٍ (نسيبًا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها([13]).

فهوي([14]) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت([15])، فلما كان من الغد جئتُ، فإذا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعِدَيِن يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدتُ بكَاءً بكيتُ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبكي للذي عَرَضَ عليَّ أصحابُكَ من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» (شجرة قريبة من نَبِيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -) وأنزل الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾([16]) إلى قوله ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [الأنفال: 67 – 69] فأحل الله الغنيمة لهم.

ونرجع فنقول: إننا نأخذ من قصة هذا النبي الكريم أن الهادي هو الله فالذي هدى قوم يونس هو الله سبحانه وتعالى.

وهذا مما لا يُشك فيه بحال من الأحوال.

قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾.

وكذا الذي يجتبي ويختار هو الله، قال تعالى: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

* نأخذ أيضًا من سيرة هذا النبي الكريم وقصته:

أن الذي يُسيِّر الأمور ويدبرها هو الله سبحانه وتعالى، فمن الذي ساق الحوت في هذا التوقيت الذي أُلقي فيه يونس عليه السلام في اليم؟!

ومن الذَّي حفظ يونس عليه السلام من أسنان الحوت فلم تخدشه ولم يصب معها بمكروه وسوءٍ؟!

وكيف وأنَّ أمعاء الحوت وبطن الحوت لم تضر يونس عليه السلام بأدنى ضرر؟!!

ثم كيف غاص به الحوت إلى قاع البحار حيث الظلمات، فنادى هنالك نداءه المذكور؟!!

ثم من الذي دفع الحوت إلى جانب البر كي يقذف وينبذ يونس - صلى الله عليه وسلم -؟!

وتتعجب كيف ينبت الله عزَّ وجل عليه شجرة من يقطين في نفس الوقت والحين؟!

فليطمئن المؤمنون إلى تدبير ربهم عز وجل.

ليطمئن أولياء الله بوعد الله، وليثقوا بنصر الله فإن الله قال: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾ ثم قال: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنبياء: 88].

* يؤخذ من قصة هذا النبي الكريم أن المصائب والابتلاءات إذا صبر لها العبد واحتسب، وادَّكر بها واعتبر، ورجع إلى ربِّه وأناب فإنه يخرج منها وقد غُفرت ذنوبه ورُفعت درجته وأُقيلت عثرته.

ذلك أن نبي الله يونس عليه السلام قد التقمه الحوت وهو مُليم، فما أن استقر في بطن الحوت ونادى ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وكرر هذا النِّداء وواصل التسبيح، خرج من بطن الحوت وقد غفر ذنبه ورفعت درجته قال تعالى: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ فخرج وهو سقيم (أي: مريض) ولكنه لم يخرج مذمومًا وكان قد دخل مُليمًا.

قال تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

* في قصة يونس عليه السلام وعدٌ وبشارةٌ لكل مؤمن وقع في شدةٍ وغمٍّ أن الله تعالى سينجيه منها إذا هو صبر واحتسب ودعا وأناب، إذ الله قال: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

فقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ يخرج الأمر إلى العموم بعد أن كان السياق في شأن نبي كريم، فعليه كل من سلك مسلك هذا النبي الكريم سينجيه الله كما أنجاه.

* هذا المعنى كثيرًا ما يتكرر، فيذكر الله سبحانه ما منَّ به على نبيه يوسف عليه السلام، ويقول بعدها: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.

* وكذلك مع نبيه موسى عليه السلام.

* وكذا ذكر ربنا نبيه نوحًا، وما من عليه به من الإنجاء فقال: ﴿نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر:35].

* ونبيه أيوب كذلك قال الله في قصته: ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ أي: يتذكرها العبَّاد فيعملون كعمله ويصبرون كصبره.

* يستفاد من قصة هذا النبي الكريم أن الدعاة إلى الله عليهم أن يصبروا على أعباء الدعوة إلى الله ولا يَمَلُوا ولا يسأموا فما هم فيه خيرٌ لهم مما قد يختاروه لأنفسهم، فقد يسأم أحدهم من كثرة مشاكل النَّاس ومن طول الجلوس لهم، والنوم والاستيقاظ على حلول مشاكلهم، فقد يملُّ هذا الطريق ويسأمه ويتركه، ولكن سرعان ما يُبتلى بمرضٍ شديد، أو بسجنٍ مُوحشٍ مُظلمٍ، أو بعقوق ولد من أولاده وانحرافه، أو بنشوز زوجة أو فقرٍ شديد أو غير ذلك من صنوف الابتلاءات التي تهون أمامها كل خطوب الدعوة إلى الله ومشاكلها.

فنبي الله يونس عليه السلام ذهب مغاضبًا ظنًّا منه أن الله لن يضيق عليه، ذهب مغاضبا لقومه لمَّا كذبوه وعاندوه، ولكن ابتلي بابتلاء هو أشد من تكذيب قومه له، ألا وهو الإلقاء في اليم والتقام الحوت له، وبقاؤه في ظلمات، وهذا بلا شك ابتلاء يهون أمامه تكذيب المكذبين وعناد المعاندين، وتخلفهم عن إجابته فالصبر الصبر، والرضا بقضاء الله بعد الرضا.

* فنأخذ إذن من سيرة هذا النبي الكريم وما حدث له الصبر في الدعوة إلى الله والتأني وعدم العجلة.

فالذي آل بنبي الله يونس عليه السلام إلى أن التقمه الحوت هو ما صدر منه من تعجُّلٍ وخروج عن غير إذن من الله له بذلك.

أما نبي الله نوح عليه السلام فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو صابرٌ محتسبٌ عليه الصلاة والسلام، فلذا فهو من أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام.

أما نبي الله موسى عليه السلام فكثيرًا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر صبره ويتمثل به، فكان يقول: «رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

فالصبر الصبر معشر الدعاة إلى الله.

* يؤخذ أيضا من قصة هذا النبي الكريم أن أعمال البر السابقة التي عملها المرء في حياته تنفعه وقت المُلِمَّات والشدائد والمصائب، أُخذ هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ قال فريق من المفسرين – وهم الأكثر -: كان من المسبحين في سابق وقته قبل أن يلتقمه الحوت، فنفعه سابق عمله في نجاته من بطن الحوت.

ولا يمنع أيضًا أن يكون قد أكثر من التسبيح ببطن الحوت، وكان هذا أيضًا من أسباب نجاته.

وإن كان أكثر العلماء – كما أشرنا – على أن قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ أي: من المكثرين من الصلاة والتسبيح قبل ابتلائه.

ولهذا المعنى شواهد، أعني أن أعمال البر في وقت العافية والصحة والرخاء تنفع أصحابها أوقات الشدائد، فمن الشواهد لهذا المعنى صنيع الثلاثة أصحاب الغار، الذين انطبقت على فم غارهم صخرةٌ فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، فكشف الله ما بهم من همٍّ ورفع الله ما بهم من كرب.

أما المسرفون على أنفسهم وقت العافية، فلا يكاد أحدهم يلتمس ما يتوسل به إلى ربه إذا حلَّ به البلاء.

فها هو فرعون لما ﴿أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فأجيب عليه بقول: ﴿آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 90 – 91].

* وقال تعالى في شأن آخرين: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾.

* فعليه فجديرٌ بالأصحاء والذين هم في عافية وغنى وسلامةٍ وسترٍ أن يُكثروا من أعمال البر، فإذا زلَّت منهم الأقدام، وتعثرت بهم الخطا وجدوا ما يتوسلون به إلى ربهم وخالقهم لعلَّ الله أن يكشف ما بهم من غمِّ وكرب وضرِّ.

* ومن المستفاد فقهيًّا من هذه القصة جوازُ الاستهام والاقتراع في المشكلات وغيرها، وذلك مأخوذ من قوله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾.

وها هي بعض الأدلة التي تعزز هذا الحكم وتقويه:

* قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾

* كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ([17]).

* قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ القائِم عَلَى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها...» الحديث ([18]).

قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا»([19]).

* ولما هاجر المسلمون إلى المدينة اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين فطار سهم عثمان بن مظعون لأم العلاء ([20]).

* وفي «صحيح البخاري» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف ([21]).

* أمَّا متى تكون؟ فهي كما قال القرطبي رحمه الله: سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعًا للكتاب والسنَّة.

وقال القرطبي أيضًا: قال ابن العربي: القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح، فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر، ولا يصح لأحد أن يقول: إن القرعة تجري مع موضع التراضي، فإنها لا تكون أبدًا مع التراضي، وغنما تكون فيما يتشاح النَّاس فيه ويُضَنُّ به.

قال القرطبي رحمه الله: وصفة القرعة عند الشافعي ومن قال بها: أن تُقطع رقاع صغار مستوية، فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم، ثم تُجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها، ثم تجفف قليلا، ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك ويغطي عليها ثوبه، ثم يدخل ويخرج، فإذا أخرج اسم الرجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه.

قلت (القائل مصطفى): وهذه صورة لا دليل عليها، وغاية ما فيها أنَّها جائزة، وغيرها – أيضًا – جائز، والله تعالى أعلم.

وهذا مزيد بيانٍ لأمرٍ قد تقدم فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر نبيه بالصبر ونهاه عن التشبه بصاحب الحوت فقال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾.

فظاهر الآيات الكريمة يفيد النهي عن التشبه بصاحب الحوت عند ندائه وهو مكظوم.

ومعلوم أن هذا الظاهر على هذا المفهوم لا يصح.

وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على يونس عليه السلام لهذا النداء الذي نادى به فقال: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

فنقول، وبالله التوفيق: إنَّما نُهي نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بيونس عليه السلام في الحالة التي آلت به إلى أن نادى وهو مكظوم، وهذه الحالة هي ذهابه مغاضبا مع ظنه أن لن نقدر عليه، أي فلا تكن مثل يونس في ذلك، بل اصبر لحكم ربك وارض بقضاء ربك.

ولترجع إلى بعض المستفاد من قصة هذا النبي الكريم فنقول: وبالله التوفيق:

إن من أعظم أسباب نجاة هذا النبي الكريم كثرة تسبيحه وندائه بقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ([22]) * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

وقال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

* فلنقف مع هذا النداء وقفة، ذلكم النداء الذي تضمن إقرارًا بوحدانية الله عزَّ وجل في قوله ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ﴾.

* وحمل تنزيهًا للرب سبحانه وتعالى عن كل نقص وعيب وعن كل ما لا يليق به سبحانه وتعالى في قول ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي تنزيهًا لك.

ثمن إنه قد تضمَّن أيضًا اعترافًا وإقرارًا بالذنب في قوله: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

* فحقًّا إنه دعاء بليغ مُوجزٌ ومُعجزٌ، لقد تضمن خير الكلام وأحبه وهو ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾.

قد تضمن مفارقة أهل الشرك ومخالفتهم وإبطال ما ذكروه من باطل في شأن الرب سبحانه وتعالى.

وكذا تضمَّن تنزيهًا لله عمَّا يصفه به الواصفون الجاهلون، وذلك في قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾.

* لقد تضمن هذا النداء استغفارًا وإقرارًا بالذنب واعترافًا به في قول ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

فالاستغفار بدايةٌ لكل خيرٍ ومخرجٌ من كل ضيق ومخرجٌ من كل كرب.

والتسبيح تنزيه لله وتبرؤ من مقولات أهل الشرك والجهل والزيغ والضلال.

ومن ثمَّ ففي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كنت من الظالمين، إنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له بها»([23]).

وبعدُ: فالذي صدر من نبي الله يونس عليه السلام، منه نستفيد، وبه نعتبر ونتعظ.

هذا، وقد أدبنا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك خير أدب فقال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري ومسلم([24])، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى» ونسبه إلى أبيه.

* وفيما أخرجه البخاري([25]) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى».

وفي رواية لمسلم ([26]) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال – يعني: الله تبارك وتعالى: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى عليه السلام».

وفي رواية عند البخاري ([27]«ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى».

وعند البخاري ([28]) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس بن متى».

وعند البخاري ([29]) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب».

وثم ألفاظ أخر لهذا الحديث.

أما معنى الحديث – والله تعالى أعلم – فإن حملنا قوله «أنا» على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون المعنى: لا ينبغي لعبد أن يفاضل بين النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين نبي الله يونس عليه السلام وينتقص نبي الله يونس عليه السلام لكونه خرج مغاضبًا، ولكونه ساهم فكان من المدحضين.

ويحتمل أيضًا: أن هذا قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - تواضعًا ومن باب: «لا تخيروني من بين الأنبياء» وفي لفظ «لا تفضلوا بين أولياء الله»([30])، وذلك محمول على التفضيل المفضي إلى الشقاق، وإلى انتقاص بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

أو يكون النبي قال ذلك قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -.

فهذه بعض الوجوه، أما إذا حملنا قوله: «أنا» على العبد نفسه.

فالمعنى: لا ينبغي لعبد أن يقول عن نفسه: أنا خير من يونس بن متى؛ لكون يونس عليه السلام ضجر وخرج من قومه مغاضبا، وذلك لأن يونس عليه السلام نبي كريم، وقد اجتباه ربه فجعله من الصالحين، ومن عليه بإرساله إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا، فله أجر هؤلاء - صلى الله عليه وسلم -.

وها هي بعض أقوال أهل العلم في ذلك – وبالله التوفيق.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى([31]): قال العلماء إنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك تواضعًا، إن كان قاله بعد أن أعلم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال. وقيل: خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيصٌ له، فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى» وفي رواية: «إن الله تعالى قال: لا ينبغي لعبد لي يقول: أنا خير من يونس بن متى»، وفي رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ينبغي لعبد يقول: أنا خير من يونس بن متى».


قال العلماء؛ هذه الأحاديث تحتمل وجهين:

أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال: «أنا سيد ولد آدم» ولم يقل هنا: إن يونس أفضل منه أو من غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

والثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا زجرًا عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئًا من حط مرتبة يونس - صلى الله عليه وسلم -، من أجل ما في القرآن العزيز من قصته، قال العلماء: وما جرى ليونس - صلى الله عليه وسلم -، لم يحطه من النبوة مثقال ذرة، وخص يونس بالذكر لما ذكرنا من ذكره في القرآن بما ذكر.

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس» فالضمير في «أنا» قيل: يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: يعود إلى القائل، أي: لا يقول ذلك بعض الجاهلين من المجتهدين في عبادة أو علم أو غير ذلك من الفضائل فإنه لو بلغ من الفضل ما بلغ لم يبلغ درجة النبوة، ويؤيد هذا التأويل الرواية التي قبله وهي قوله تعالى: «ولا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى» والله أعلم.

* ومن هذا الذي علمناه من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في شأن نبي الله يونس عليه السلام إذ قال لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى» نستفيد أدبًا ونتخلق بخلق حسن جميل ألا وهو التواضع، وحسن الثناء على الآخرين من إخواننا المؤمنين.

ومما يتأيد به هذا المعنى ما يلي:

* قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي»([32]).

* وأيضا فقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يذكر نبي الله موسى عليه السلام مثنيًا عليه بقوله: «يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»([33]).

* وكذلك ما ورد في قصة تشاجر المسلم مع اليهودي:

فعند البخاري ومسلم([34]) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على العالمين – في قسم يقسم به – فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال: «لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله؟».

فصلوات ربي على هذا النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى سائر المرسلين.

وقد سلك هذا المسلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان بعضهم يثني على البعض ويشكر بعضهم لبعض بعد شكره لله تبارك وتعالى.

وهذه طائفة من ذلك:

* فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه في الثناء على أبي بكر وبلال رضي الله عنهما: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا – يعني بلالاً([35]).

* وقول عليٍّ، وقد سئل أي الناس خيرٌ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أبو بكر، قيل له: ثم من؟ قال: ثم عمر ([36]).

* وهذا أيضًا ثناء من عليٍّ على عمر رضي الله عنهما:

أخرج البخاري ومسلم ([37]) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب – وقد وضع على سريره – إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله، إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كنت كثيرًا ما كنت أسمع رسول الله يقول: كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب.

* وهذا ثناء من عمر على علي وأُبيٍّ رضي الله عنهما:

أخرج البخاري([38]) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: أقرؤنا أُبيُّ([39]) وأقضانا عليٌّ ([40]).

* وهذا ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سلَّّم على ابن جعفر قال: «السلام عليك يا ابن ذي الجناحين» ([41]).

* وهذا أيضا من تذكير بعضهم بفضل بعض.

أخرج البخاري ([42]) من طريق علقمة قال: دخلت الشام فصليت ركعتين فقلت: اللهم يسر لي جليسًا فرأيت شيخًا مُقبلاً، فلما دنا قلت: أرجو أن يكون استجاب الله. قال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: أفلم يكن فيكم صاحب النعلين ([43]) والوِساد والمطهرة؟ قال: أو لم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان؟ أو لم يكن فيكم صاحب السرِّ الذي لا يعلمه غيره؟ كيف قرأ ابن أم عبد ﴿وَاللَّيْلِ﴾ فقرأت ﴿والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * والذكر والأنثى﴾ قال: أقرأنيها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فاهُ إلى فيَّ، فما زال هؤلاء حتى كادوا يَرُدُّونني.


 فوائد ولفتات

اليقطين هو القرع، قال ذلك ابن مسعود رضي الله عنه وقال أيضا جمهور المفسرين([44]).

قد ذكر بعض العلماء في تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ أنها (أي شجرة اليقطين) تظله بظلها الظليل لأنها باردة الظلال ولا يسقط عليها ذباب ولا يجتمع عندها ولأنها من أسرع الأشجار نباتًا وامتدادًا.

ومن المناسبات هنا أن النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الدباء، الذي هو القرع ([45]).

متى أرسل نبي الله يونس عليه السلام إلى المائة ألف؟

ذهب جمهور المفسرين (وهم الأكثرون) إلى أن الإرسال كان قبل التقام الحوت له.

وذهب فريق قليل من المفسرين إلى أن ذلك كان بعد أن نُبذ بالعراء.

كيف قيل ﴿مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ أليس الله بعالم لعددهم؟

بل فالله أعلم بعدتهم بلا شك ولا ريب.

لكن من أهل العلم من قال: إن ﴿أَوْ﴾ هنا بمعنى بل فالمعنى وأرسلناه إلى مائة ألف بل يزيدون عن المائة ألف. ومن أهل العلم من أشار إلى معنى آخر، ألا وهو أن العدد ﴿مِئَةِ أَلْفٍ﴾ في عين بعض الناظرين ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ في عين ناظرين آخرين، والله أعلم.



([1]) وقد صح أيضًا عن ابن مسعود أنه قال: اليقطين القرع، وقال بعض العلماء: كل نبات ليس له ساق فهو يقطين، وقال آخرون: إنها شجرة سماها الله بهذا الاسم.

([2]) وأطلق عليه (ذو النون)، لالتقام الحوت له، والنون هو الحوت.

([3]) البخاري (حديث 3413).

([4]) وقد صح السند بذلك إلى قتادة، وهذا قول جمهور المفسرين.

([5]) وكان هذا عن اجتهاد منه ﷺ‬، لصنيع قومه الذي صنعوه من التكذيب، وليس فيه تعمد مخالفة أمر الله، وليس فيه تعمد العصيان أبدًا، فالأنبياء صفوة وخيرة خلق الله.

([6]) «قصص الأنبياء» (ص265).

([7]) أخرجه مسلم (3611) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا.

([8]) أخرجه مسلم (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

([9]) البخاري (6212)، ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، واللفظ لمسلم.

([10]) الترمذي حديث (3076) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وشاهده عند ابن حبان (2082)، والحاكم (1/64).

([11]) أخرجه الترمذي (حديث 3331) والطبري عند تفسير الآية الكريمة }عَبَسَ وَتَوَلَّى {.

([12]) مسلم (ص 1358) عقب حديث (1763).

([13]) وصناديدها: يعني أشرافها.

الواحد صنديد، والضمير في صناديدها يعود على أئمة الكفر أو مكة.

([14]) فهوي: أي أحب ذلك واستحسنه.

يقال: هوي الشيء يهوى هوى، والهوى المحبة.

([15]) ولم يهو ما قلت: هكذا هو في بعض النسخ، ولم يهو. وفي كثير منها: ولم يهوي، بالياء، وهي لغة قليلة بإثبات الياء مع الجازم، ومنه قراءة من قرأ: «إنه من يتقي ويصبر» بالباء.

ومنه قول الشاعر:  *ألم يأتيك والأنباء تنمي*

([16]) }حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ { أي: يكثر القتل والقهر في العدو.

([17]) وهذا ثابت وصحيح في حديث الإفك المطول، وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

([18]) أخرجه البخاري (2686) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما مرفوعًا.

([19]) أخرجه البخاري (مع الفتح 2/ 96)، ومسلم (مع النووي 4/157) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

([20]) أخرجه البخاري (2687) من حديث أم العلاء رضي الله عنها.

([21]) أخرجه البخاري (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا به.

([22]) قد تقدم أنَّ أكثر أقوال أهل العلم في تأويل }فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ{ أي من المُصلين الذاكرين قبل ابتلائه، وقد صح عن قتادة قال: كان كثير الصلاة في الرخاء فنجَّاه الله بذلك. قال: وقد كان يُقال في الحكمة: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عثر، فإذا صُرع وجد متكئا.

([23]) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/505) من حديث سعد بن أبي قاص رضي الله عنه مرفوعا، وهو صحيح لشواهده، وقد سقت شواهده في كتابي: «الصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة».

([24]) البخاري (حديث 3413)، ومسلم (حديث 2377).

([25]) البخاري (حديث 3416).

([26]) مسلم (حديث 2376).

([27]) البخاري (حديث 3415).

([28]) البخاري (حديث 3412).

([29]) البخاري (حديث 4805).

([30]) أخرجه البخاري (حديث 3414).

([31]) «فتح الباري»(6/521).

([32]) البخاري (3372)، ومسلم (حديث151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

([33]) البخاري (حديث 2405).

([34]) البخاري (3408)، ومسلم (حديث 2373).

([35]) ابن أبي شيبة (المصنف 12014).

([36]) أخرجه البخاري (حديث 3671).

([37]) البخاري (3677)، ومسلم (2389).

([38]) البخاري (حديث 4481).

([39]) أي أعلمنا بالقراءات.

([40]) أي أعلمنا بالقضاء.

([41]) البخاري (رقم 3709).

([42]) البخاري (3761).

([43]) يعني الذي كان يحمل لرسول الله ﷺ‬ نعليه، وهو ابن مسعود.

([44]) وقد ذكر البعض أن اليقطين كل نبات لا ساق له، وقال آخرون: إنها شجرة ذكرها الله في كتابه وهو أعلم بها، ولكن أكثر العلماء على ما قدمناه.

([45]) انظر صحيح البخاري (5433) ومسلم (حديث 2041).