×
الحياة البيتية للنبي صلى الله عليه وسلم: هذه مقتطفاتٌ من بيت النبوة بما يُظهِر جوانب مُعيَّنة من سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم مما يتَّصِل ببيت النبوة الوارِف. وهي تتكون من أربع مجموعات من كتاب المؤلف «بيت النبوة»، وهي: 1- الطفولة في حياة المعصوم صلى الله عليه وسلم. 2- لمحات من حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع بناته. 3- لمحات من الحياة البيتية للنبي صلى الله عليه وسلم. 4- لمحات من زواج المصطفى صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين.

 الحياة البيتية للنبي صلى الله عليه وسلم

خالد بن عبد الرحمن الشايع

بسم الله الرحمن الرحيم

 مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلم تزل سيرة نبينا محمد ﷺ‬ محلاً لعناية أمة الإسلام جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد آخر، كما أنها لم تزل مورداً عذباً ومعيناً صافياً لاستلهام الدروس والعبر في مختلف المجالات: عقيدة وشريعة ومنهجاً وتربيةً وسلوكاً، وكان من عناية العلماء بها ما هو معلوم ومشهود بما لا يشابه هذه السيرة سيرة أحد من الخلق على الإطلاق.

وفي هذا السياق أُقدِّم هذه المقتطفات من بيت النبوة بما يظهر جوانب معينة من سيرة المعصوم ﷺ‬ مما يتصل ببيت النبوة الوارف.

وفي هذه المجموعة التي بين يديك اقتطفت أربع مجموعات من كتابي الكبير "بيت النبوة" ونظمتها في هذه المجموعات الأربع:

1-   الطفولة في حياة المعصوم ﷺ‬.

2-   لمحات من حياة النبي ﷺ‬ مع بناته.

3-   لمحات من الحياة البيتية للنبي ﷺ‬.

4-   لمحات من زواج المصطفى ﷺ‬ بأمهات المؤمنين.

وإني لأسأل الله تعالى أن ينفع بهذه المجموعة، وأن يجعلها في ميزان حسناتي وحسنات والديَّ، وأسأله سبحانه أن يجعلها مُدْنيَةً من مرضاته وسبباً لدخول جناته. آمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

خالد بن عبد الرحمن الشايع

k_shsys4@maktoob.com

تحريراً في 20/6/1422هـ

الرياض 11574

ص.ب/ 57242


 كيف كان عيش النبي ﷺ‬ وأهل بيته؟

نستهل هذا الموضوع بما رواه البخاري ومسلم ([1]) عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: "كان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، وكان قوتهم التمر والماء".

نعم هكذا عاش نبينا محمد ﷺ‬، وبرغم أنه ﷺ‬ كان عنده تسع نسوة لكن كل واحدة كان يمضي عليها الشهر والشهران لا يوقد في بيتها نار، وليس ذلك منه ﷺ‬ تقتيراً على نفسه وأهله، أو أن الإسلام يعاف الطيبات ويسن للناس تركها، كلا وحاشا، فإن الله تعالى يقول: }قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ{ ([2]). ولكنه الزهد الحقيقي والرغبة فيما عند الله تعالى: }وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{ ([3]).

والله تعالى قد آتى نبيه ﷺ‬ مفاتيح خزائن الأرض كلها، فأبى أن يأخذها، واختار الآخرة عليها.

وكان من دعائه ﷺ‬: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً» رواه البخاري ([4]) ومسلم([5]).

وهذا منه ﷺ‬ زهد في الدنيا وإعراض عنها ورغبة فيما عند الله تعالى، قال الله جل شأنه: }وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى{([6] وقال عليه الصلاة والسلام: «مالي وللدنيا، إنما أنا كرجل قال تحت ظل شجرة (يعني نام في ظلها وقت الظهر) ثم راح وتركها» رواه الترمذي([7]) وابن ماجه([8]) وغيرهما.

ويبلغ زهد نبينا ﷺ‬ في هذه الدنيا مبلغاً يبين حقارتها عنده وأنها في ذاتها ظل زائل. روى البخاري ([9]) ومسلم ([10]) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: "كنت أمشي مع النبي ﷺ‬ في حرة المدينة، فاستقبلنا أُحُد، فقال: يا أباذر، قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار ـ إلا شيئاً أرصده لديْن ـ إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه». ثم مشى فقال: «إن الأكثرين هم الأقلُّون يوم القيامة، إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم».

وقوله ﷺ‬: «إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة» أي أن أصحاب الأموال الكثيرة هم الأقل حسنات يوم القيامة ولا يستثنى من ذلك إلا من وصفهم النبي ﷺ‬ بقوله من قال بالمال هكذا وهكذا، وهو إشارة إلى إنفاق المال في وجوهه المشروعة وعدم كنزه أو البخل به، ومن قام بهذا الحق فالمال له مستحب وهو له خير.

وفي ظلال هذه المعيشة أظهر نساء النبي ﷺ‬ في بعض الأحيان رغبتهن في تغييرها والخروج عنها، خاصة وأنهن  في بيت أعظم رجل في العرب، وتتابع نساء النبي ﷺ‬ في تلك المطالبة، وأكثرن عليه، طالبات المزيد من النفقة ومتطلعات لمتاع الدنيا، فكره ذلك منهن النبي ﷺ‬، ولما زدن في تلك المطالبة وأَلحفنَ في مسألتهن وشَدَّدْتَ هجرهن ﷺ‬، ولم يدخل على واحدة منهن لمدة شهر من الزمان، حتى شاع بين الناس أن النبي ﷺ‬ طلق نساءه كلهن. ففزع أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ لهذه الإشاعة رعاية لخاطر رسول الله ﷺ‬، فابنة كل منهما عند رسول الله ﷺ‬، فذهبا يستأذنان ليدخلا عليه، وليتعرفا على حقيقة الأمر، فلما دخلا على النبي ﷺ‬ سأله عمر: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ قال: لا، فتنفس عمر الصعداء، لكنه رأى جَوَّ الحزن يخيم على المكان، فقال لأُكلِّمَنَّ رسول الله ﷺ‬ لعله يضحك، فقال: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد ـ يعني زوجته ـ سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها، فضحك النبي ﷺ‬ حتى بدا ناجذه، وقال: «هن حولي يسألنني النفقة». فقام أبو بكر إلى عائشة يؤدبها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقول: تسألنَّ النبي ﷺ‬ ما ليس عنده؟!

فنهى النبي ﷺ‬ الأبوين أن يصنعا ببنتيهما شيئاً، وكانت نساؤه نادمات يقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده".

وبعد مضي شهر من هجرة النبي ﷺ‬ لنسائه، نزلت آيات التخيير من عند الله تخاطبهن جميعاً أن يخترن التجرد للدار الآخرة مع رسول الله ﷺ‬ وأن يرضين بعيشه، وإما أن يلحقن بأهلهن حيث الملابس الحسنة والمآكل الدسمة وغير ذلك من متاع الدنيا وزينتها، وذلكم قول ربنا: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا{ ([11])، فأثرن الله ورسوله والدار الآخرة، وعشن مع النبي ﷺ‬ معينات على الحق راغبات في الثواب، عشن معه للجهاد والتهجد، والبذل والمواساة، والتواضع والخدمة، فأقر الله أعينهن بصحبة نبيه في الجنة كما صحبنه في الدنيا.

بوب الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب الرقاق من "صحيحه" فقال: باب كيف كان عيش النبي ﷺ‬ وأصحابه وتخليهم عن الدنيا؟ ثم ساق طائفة من الأحاديث المبينة لذلك ومنها:

ما روته أم المؤمنين عائشة قال: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض ([12]).

ومنها ما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان فراش رسول الله ﷺ‬ من أَدَمٍ وحشوه ليف" ([13]).

وفي ضوء ما تقدم نخلص إلى جملة من الفوائد منها:

بيان ما كان عليه النبي ﷺ‬ من الزهد في الدنيا والرغبة عنها، مع أنها كانت بين يديه، ولكنه رغب في الآخرة إيثاراً لها عن الدنيا، قال الله تعالى: }وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى{([14]).

ويشار ها هنا إلى أنه ﷺ‬ مع تلك الحال التي كان عليها من الزهد في الدنيا ما كان ليضيع حاجات أهله وما يلزمهم لمعاشهم، حاشا وكلا، ويوضح هذا أنه ﷺ‬ لما فتح الله عليه البلاد وكثرت الغنائم كان يرصد لأهله قوت سنة.

وفيه من الفوائد: بيان خطأ كثير من الناس في تطلبهم الاستكثار من الأطعمة واللباس والمراكب ونحوها، مما يفيض عن حاجتهم ويؤدي بهم إلى الإسراف؛ بل التبذير في كثير من الحالات.

والذي ينبغي على مثل هؤلاء أن يصرفوا مال الله الذي آتاهم تصريفاً وإنفاقاً سليماً راشداً، وأن يعلموا أن من إخوانهم المسلمين في كثير من بقاع الدنيا من لا يجد ما يقيم أَوَدَه ويدفع عنه شبح المجاعة، علاوة على ما بهم من نوازل مختلفة ومحزنة، ولو أن المسلمين اليوم وجد بينهم التكافل على النهج الإسلامي لما صار بينهم جائع يتضور ولا محتاجٌ يتكفَّف.

نسأل الله تعالى أن يسلك بنا سبيل رضاه، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 أم حبيبة تعرض على النبي ﷺ‬ الزواج بأختها

روى البخاري ومسلم ـ رحمهما الله ـ في "صحيحيهما" ([15]) من طريق زينب بنت أم سلمة وربيبة النبي ﷺ‬ عن أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ﷺ‬ ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخل علي رسول الله ﷺ‬، فقلت له: هل لك في أختي بنت أبي سفيان؟ فقال: «أفعل ماذا؟» قلت: تنكحها، قال: «أو تحبين ذلك؟» قلت: لست لك بِمُخْلِية، وأحب من شركني في الخير أختي، قال: «فإنها لا تحل لي» قلت: فإني أخبرت أنك تخطب درة بنت أبي سلمة. قال: «بنت أم سلمة؟» قلت: نعم، قال: «لو أنها لم تكن ربيبة في حِجْري، ما حلَّت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأباها ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن».

هذا لفظ مسلم ورواه أيضاً: أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد.

في هذا الموقف عدد من المسائل والفوائد، منها:

أولاً: بيان ما كان للنبي ﷺ‬ من المحبة والإجلال والتقدير في نفوس زوجاته، فقد ملك قلوبهن وتعلقن به كل التعلق وفوق كل أحد، ففضلاً عن كونه رسول رب العالمين، فهو عليه الصلاة والسلام الزوج الحبيب، وهذا ما حمل أم المؤمنين أم حبيبة إلى أن تفكر في أن تَبَرَّ أختها بزوج لا يكدر لها خاطراً، ولا ينغص ليها عيشاً، ويرفعها في الدنيا والآخرة.

وقد بلغ من حب أم حبيبة وإجلالها لرسول الله ﷺ‬ ما يبينه ما أورده أهل السير من خبر أبي سفيان لما قدم المدينة النبوية في مهمة رسمية قبل إسلامه وذلك في مدة الهدنة بين قريش والمسلمين، وفي غضون        ذلك، زار بنته أم حبيبة زوج النبي ﷺ‬، فلما جاءها، أراد الجلوس على فراش رسول الله ﷺ‬، فما كان منها إلا أن طوته عنه، فقال أبو سفيان: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟، قالت: بل رغبةً بالفراش عنك! فإنه فراش رسول الله ﷺ‬، وأنت رجل مشرك نجس، كذا أورد أهل السير ما هذا  معناه.

والمصطفى ﷺ‬ خير أسوة لكل زوج في التحبيب إلى الأهل والإحسان إليهم حتى يكون المرء أحب الناس إليهم، وقد بلغ التشدد والانفعال ببعض الناس إلى جعل بيوتهم كالثكنات العسكرية، فإذا دخل لا يود سماع همس، ولا رؤية عبث طفل، ولا بكاء رضيع، ولا نحو هذه الأحداث البيتية المعتادة، فإذا خرج تفتحت الأزهار وغردت العصافير وترقرق الندى.

قال القاضي عياض ـ رحمه الله ـ: وقد وردت الآثار الصحيحة بحسن عشرته ﷺ‬ لأهله ومباسطتهن، وكذلك عن السلف الصالح، وقد كان الإمام مالك يقول في ذلك ـ أي في حسن عشرة الرجل أهله ـ: فيه مرضاة لربك، ومحبة في أهلك، ومثراة في مالك، ومنسأة في أجلك، قال: وكان مالك يقول: يجب على الإنسان أن يتحبب إلى أهل داره حتى يكون أحب الناس إليهم. اهـ. ملخصاً.

وهذه المسألة جديرة بالعناية لما لها من الأهمية.

ثانياً: أخت أم المؤمنين أم حبيبة المذكورة في الحديث والتي أرادت خطبتها للنبي هي عزة بنت أبي سفيان ما نبه لهذا بعض أهل العلم، وكان لأم حبيبة من الأخوات غير عزة: هند زوج الحارث بن نوفل، وجويرية: زوج السائب بن أبي حبيش، وأميمة: زوج صفوان بن أمية، وأم الحكم: زوج عبيد الله بن عثمان، وصخرة: زوج سعيد بن الأخنس، وميمونة: زوج عروة بن مسعود. فعدتهن مع عزة سبع، ثامنهن أم حبيبة ([16]).

ثالثاً: في الموقف ما يدل على مشروعية عرض المرأة على الرجل الصالح من قبل وليها أو من ينصح لها، ومن تبويبات الإمام البخاري على هذا الحديث المذكور قوله: باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير ([17]).

وهذه السنة الحسنة لها ما يشهد لها من الكتاب العزيز وعمل سلف الأمة، قال الله تعالى مخبراً عن عرض العبد الصالح بأرض مدين على موسى ـ عليه السلام ـ الزواج بإحدى بنتيه: }قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ{([18]).

قال العلامة الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "في هذه الآية مشروعية عرض ولي المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإسلام" ([19]).

رابعاً: قول النبي ﷺ‬ لأم حبيبة: «أو تحبين ذلك» جواباً واستفهاماً لعرضها عليه الزواج بأختها، فيه التعجب من كونها تطلب أن يتزوج غيرها مع ما طُبع عليه النساء من الغيرة ([20]).

لكن هذه الغيرة انمحت، وتجاوزتها أم حبيبة بمقايستها المصالح، فإنها لما رأت أنها لن تسلم من ضَرَّة - بل ضَرَّات - ولن تنفرد بالنبي ﷺ‬، رأت أن من مصلحة أختها أن تظفر بزواج النبي ﷺ‬ بها. وهذا ما أعربت عنه بقولها: "لست لك بمخلية، وأحب من شركني في الخير أختي".

خامساً: قول أم حبيبة هذا: "أحب من شركني في الخير أختي" قيل: المراد بالخير هو صحبة رسول الله ﷺ‬ المتضمنة لسعادة الدارين، الساترة لما لعله يعرض من الغيرة التي جرت بها العادة بين الزوجات، لكن جاء في رواية البخاري الأخرى في باب }وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ..{ ([21]) من كتاب النكاح ([22]) قول أم حبيبة: وأحب من شركني فيك أختي، فعرف أن المراد بالخير ذاته.

وكما حرصت أم حبيبة على أن تبرَّ أختها بالنبي ﷺ‬، فقد حرص علي بن أبي طالب على برِّ الهاشميات بالنبي ﷺ‬. يبين هذا ما رواه مسلم في "صحيحه" أن علياً قال: يا رسول الله، مالك تنوق (أي تختار) في قريش وتدعنا، فقال: «وعندكم شيء؟» قلت: نعم، بنت حمزة، فقال رسول الله ﷺ‬: «إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة» ([23]).

سادساً: قول أم حبيبة: "فإني أخبرت أنك تخطب دُرَّة بنت أبي سلمة" وفي رواية قالت: "فإنا نُحَدَّثُ"، وفي رواية: "بلغني"، وفي رواية قالت: "فوالله إنا لنتحدث"، وفي رواية: "فو الله لقد أُخبرت".

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ولم أقف على اسم من أخبر بذلك، ولعله كان من المنافقين، فإنه قد ظهر أن الخبر لا أصل له، وهذا مما يستدل به على ضعف المراسيل.اهـ([24]).

قلت: ولا تزال مثل هذه الإشاعات تُشاع عن كثير من الأزواج، ولا يزال النساء أيضاً يتحرين عن أزواجهن، ما إذا كانوا سيقدمون على خطبة أو زواج، وقد يصير الخبر لبعض أولئك حقيقة،بل تجد بعض النساء أن زوجها قد خطب وتزوج ورزق بالذرية وهي لا تدري، ولعل سعي النساء في ذلك التحري لأجل أن يحبطن إجراءات الخطبة قبل إتمامها، وقد يعذرن بالنظر إلى ما جُبلن عليه من الغيرة واضطرامها. وكان الله في عون الجميع وتوفيقهم للخير.

رابعاً: ولعل سائلاً يقول: كيف عرضت أم حبيبة أختها ليتزوجها رسول الله ﷺ‬ مع أن من المعلوم لدى كل مسلم ومسلمة تحريم الجمع بين الأختين، هل خفي عليها ذلك أم ماذا؟

فيقل: إن هذا العرض من أم حبيبة كان قبل نزول آية التحريم، وهو قوله تعالى في شأن من يحرم الزواج بهن من النساء }وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ{ ([25]).

وقيل: بل كان بعد نزول الآية، ولكن ظنت أم حبيبة أن من خصائص النبي ﷺ‬ أن له الجمع بين الأختين، بناءً على ما بلغها من عزم الرسول ﷺ‬ على الزواج ببنت زوجته دُرَّة بنت أم سلمة، وهي تعلم أن ذلك غير جائز، فكأنها قالت: إن كان للرسول أن يفعل ذلك، فهي خصوصية، لأن تحريم الزواج ببنت الزوجة على التأبيد، وأما تحريم الزواج بأُخت الزوجة فمحصورة في الجمع فقط، وهذا أخف وليكن من الخصائص بطريق الأولى.

فأجابها النبي ﷺ‬ بأن ذلك لا يحل، وأن الذي بلغها من ذلك ليس بحق، وأنها تحرم عليه من جهتين. هذا معنى ما ذكره الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ ([26]).

ثامناً: في قول المصطفى ﷺ‬: «لو أنها لم تكن ربيبة في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة» المعنى: لو افترض عدم كونها بنت زوجة أم سلمة، أو أن الرسول ﷺ‬ لم يتزوج أم سلمة، فإنها من جهة ثانية محرمة بالنظر لكون أبيها أخاً للرسول ﷺ‬ من الرضاعة، فكان عليه الصلاة والسلام عمها بالرضاعة فكيف يتزوجها؟!.

والربيبة: هي بنت امرأة الرجل من غيره، مشتقة من الرب، وهو الإصلاح، لأنه يقوم بأمرها ([27]).

والذي يظهر أن أولاد أبي سلمة كل منهم كان ربيباً في حجر المصطفى ﷺ‬ عمر، وزينب رواية هذا الخبر عن أم حبيبة، ودُرَّة التي قيل إنها مخطوبة.

وقد جاء النص على تحريم الزواج بالربيبة في قوله تعالى: }وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ{ ([28])، وجمهور الأئمة على أن الربيبة حرام، سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ([29]).

تاسعاً: قول النبي ﷺ‬: «إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأباها ثويبة».

نبه أهل العلم ونصوا على مراضع رسول الله ﷺ‬، فأول ما استرضع عليه الصلاة والسلام لدى ثويبة المذكورة هنا ، ثم أرضعته وحضنته حليمة السعدية نحواً من أربع سنين، ويالسعادتها.

أما ثويبة ([30]) فقد أرضعته أياماً.

وثويبة هذه مولاة أبي لهب، وقد أرضعت النبي ﷺ‬ بلبن ابن لها يقال له مسروح، وأرضعت أيضاً حمزة بن عبد المطلب عم النبي ﷺ‬، فحمزة عم رسول الله ﷺ‬ وأخوه من الرضاعة، ولأجل ذلك لما قال علي ـ رضي الله عنه ـ يا رسول الله مالك تنوق (يعني تتخير) في قريش ودعنا (يعني يدع الزواج من الهاشميات) فقال عليه الصلاة والسلام: «وعندكم شيء؟» قال علي: نعم، ابنة حمزة، قال رسول الله ﷺ‬: «إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة».

وقد جاءت بعض الآثار التي تبين إرسال النبي ﷺ‬ الصلات والكسوة من المدينة إلى ثويبة وهي بمكة، براً منه وإحساناً، حتى جاءه خبر وفاتها سنة سبع من الهجرة، ومات ابنها مسروح قبلها.

ولنختم هذه السطور بترجمة لأمنا الكريمة أم حبيبة التي روت لنا الحديث الذي كان موضوع بحثنا السابق.

فأم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ اسمها: رملة، وقيل: هند، لكن الصحيح المشهور ([31]) رملة، بنت أبي سفيان صخر بن حرب القرشية الأموية، أسلمت إبان مكث النبي ﷺ‬ بمكة بعد ابتعاث الله له، وقد هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، الذي كان مسلماً، ثم تَنَصَّر هناك ومات عنها.

ولما ضاق بها الأمر واشتدت عليها الحال جاءها البشير بخطبة النبي ﷺ‬ لها، موكلاً عمرو بن أمية الضمري، وقدم صداقها ودفعه لها النجاشي من عنده بِرًّاً ومحبة لرسول الله ﷺ‬، وكان قدره أربعمائة دينار، مع أشياء من الهدايا وطيب الحبشة وعودها ونحو ذلك([32]).

فكانت بذلك أكثر نساء النبي صداقاً.

وولي نكاحها عثمان بن عفان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص.

ولما بلغ الخبر أبا سفيان بمكة امتدح النبي ﷺ‬ بأنه كفء كريم لا يُرد، قال ذلك وهو على كفره، وأصدق الثناء ما قاله الأعداء.

وبقيت حبيبة بالحبشة هي وابنتها بنت عبيد الله بن جحش بضع سنين، وقدمت إلى المدينة النبوية المنورة سنة سبع من الهجرة مع من قدم من مهاجرة الحبشة، مع سفير النبي ﷺ‬ شرحبيل بن حسنة الذي توجه إلى هناك ليعود بمن بقي في الحبشة من المهاجرين الأولين، حيث حملهم في سفينتين([33]).

فقرت عينها وابتهجت نفسها وسُرَّ خاطرها برؤية الرسول الأمين والزوج الكريم ﷺ‬.

وهكذا انضمت أم المؤمنين أم حبيبة لكنف البيت النبوي وهي تدنو من عامها الأربعين زوجة للنبي ﷺ‬ في الدنيا والآخرة، وأماً للمؤمنين، وكانت وفاتها في خلافة أخيها معاوية ـ رضي الله عنه.

كانت ـ رضي الله عنها ـ من سادات النساء حرمة وجلالاً ووقاراً وديناً.

روت عن النبي ﷺ‬ خمسة وستين حديثاً. وكانت معلمة للناس مبلغة لهم ما سمعت.

روى البخاري ومسلم([34]) عن زينب بنت أم سلمة أنها قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة - خلوق أو غيره - فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تَحُد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربع أشهر وعشراً».

وروى مسلم ([35]) عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بني له بيت في الجنة»، قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله ﷺ‬.

رضي الله عنها وأرضاها، ووفقنا جميعاً لما فيه رضاه.


 التعامل بين الزوجين

مع مقتطف بهيج من بيت النبوة، وذكر ما فيه من فوائد ودروس وعبر.

ونستهله بما رواه أبو داود([36]) وغيره بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخل علي رسول الله ﷺ‬ فرأى في يدي فتخات من وَرِق "وهي خواتم كبيرة من فضة يتختم بها النساء" فقال عليه الصلاة والسلام: «ما هذا يا عائشة؟» فقلت: صنعته أتزين لك يا رسول الله، قال: «أتؤدين زكاتهن؟» قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: «هو حسبك من النار».

هذا الحديث فيه بيان لجانب من الحياة البيتية للنبي ﷺ‬، وقد تضمن عدداً من المسائل والفوائد، ومن ذلك:

* فيه بيان ما كانت عليه أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ من الحرص على مراعاة جانب النبي ﷺ‬، وألا يجد منها إلا كل جميل وطيب، ولذا كانت تحرص على أن تتزين لرسول الله ﷺ‬ بما جرت عادة النساء أن يتزين به.

وفي هذا تنبيه للمتزوجات أن يحرصن على التَّزين لأزواجهن بما أباح الله، وكان من نصيحة أم المؤمنين لامرأة سألتها عن التزين للزوج أن قالت: أميطي عنك الأذى، وتصنعي لزوجك كما تصنعين للزيارة، وإذا أمرك فتطيعينه، وإذا اقسم عليك فأبري به، ولا تأذني في بيته لمن يكره". رواه عبد الرزاق في "المصنف".

وبالجملة، فالذي ينبغي على المسلم والمسلمة أن يراعيا ويعتنيا بالنظافة الشخصية والهيئة الحسنة والرائحة الطيبة.

وقد يغفل بعض الناس عن هدي النبي ﷺ‬ في محبته الرائحة الحسنة الطيبة في الجسد واللباس، فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره أن يجد منه أحد رائحة كريهة، ولذلك فإنه ﷺ‬ لما أكل عند زوجته حفصة ـ رضي الله عنها ـ عسلاً ذا رائحة، غار بعض أزواجه وكررن عليه أنهن وجدن منه رائحة متغيرة ـ وكن يعلمن كراهته لذلك ـ ولكن حملتهن الغيرة على هذا القول، فحرم النبي ﷺ‬ العسل على نفسه لأجل قول نسائه، فأنزل الله عليه قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ{([37]) الآية.

وهذا ثابت في "صحيح البخاري" ([38]) وغيره.

وفي "صحيح مسلم" ([39]) عن شريح بن هانئ قال: قلت لعائشة: بأي شيء كان النبي ﷺ‬ يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: "بالسواك".

والذي ينبغي على المسلم والمسلمة العناية بهذا الأمر، حتى لا يوجد منه ما يجعل جلساءه ينفرون منه ويستقذرونه، لأن بعض الناس يمكث أياماً والسواك وفرشاه الأسنان لا يعرفان لفمه طريقاً فيورثه ذلك رائحة كريهة وبخراً قبيحاً.

والأمر كذلك بالنسبة لنظافة الشخص وهيئته ينبغي ملاحظته واختيار الحسن الجميل بلا تكلف، ومن عناية الإسلام بذلك أمره بالوضوء للصلوات، والغسل كل جمعة، ولبس الجديد أو النظيف لها.

ومن أدلة العناية بذلك ما رواه الإمام أحمد في "المسند" ([40]) عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة».

وهكذا ما جاء بيانه في سنن الفطرة من الاستحداد ([41])، ونتف الإبط، وحف الشارب، والاستنجاء، وغسل البراجم ([42])، وقص الأظافر وتقليمها.

وفيما يتأكد على الزوجين في هذا الباب ما ذكره الحافظ ابن كثير عند تفسير قول الله تعالى: }وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ{([43]) إذ قال:

أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله" اهـ.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: إني لأحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي، لأن الله تعالى يقول: }وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ{.

ذكر بعض أصحاب كتب الأدب والسلوك أن امرأةً ذهبت إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تطلب طلاقها من زوجها، ولما استدعاه للوقوف على سبب طلب زوجته، ولعله أن يصلح بينهما، وجده أشعث أغبر غير مُعْتنٍ بهندامه ولا هيئته، فعرف عمر ما كرهت زوجته منه.

فأشار إلى رجل أن اذهب به وقُصَّ شعره وقلم أظافره وألبسه حسناً وائتني به، فذهب وفعل ذلك، ثم أتاه، فأومأ إليه أن خذ بيدها، فأخذ بيدها ولم تعرفه، فقالت: يا عبد الله، سبحان الله، أبين يدي أمير المؤمنين تفعل هذا؟!

فما عرفته ذهبت معه، فقال عمر: هكذا فاصنعوا معهن، فو الله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن، كما تحبون أن يتزين لكم.

وقال أبو الفرج ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ منبهاً النساء إلى ما ينبغي عليهن في هذا الباب:

"إن المرأة تحظى عند الرجل بعد تمام خُلُقها وكمال حُسنها بأن تكن مواظبة على النظافة والزينة، عالمة بما يزيد في حسنها من أنواع الحلي واختلاف الملابس ووجوه التزين، وما يوافق الزوج ويستحسنه في ذلك كله، ولتحذر كل الحذر من أن يقع بصره على شيء يكرهه من وسخ أو رائحة مستكرهة، أو تغير من شعث وغيره.

وقال بعض أصحاب كتب الأدب والسلوك:

ينبغي على المرأة أن تتجمل لبعلها، وتزيد في تحسين نفسها ما أمكن ذلك، بتنظيف البشرة وتنقية المنافذ، وتزيين الألوان في البدن وما أحاط به.

أما في البدن: فبتبييض البشرة وتوريدها، وبتسويك الأسنان وتخليلها، وتنقية العين وتكحيلها، وتقليم الأظافر وتسويتها.

وأما الثياب: فبدوام نظافتها بحسب الوقت وعادة الزمان "مما جرت به عادة النساء المسلمات".

فالمرأة الفطنة الحسنة التَّبعُّل تراعي جميع ذلك وما سواه مما تتم به سعادة الزوج ومتعته، وتحرص على ألا يسبق طرف بعلها أو أنفه لحالة يذمها أو يكرهها من أجلها. وخاصة في الأوقات التي يعتاد قربه منها.

والناظر في أحوال كثير من النساء اليوم يجد غالب تزينهن إنما هو عندما يردن الخروج لمناسبة أو زيارة ونحو ذلك.

حتى إن زوجاً خاطب زوجته أن تتجمل له وتهتم به مثلما تفعل إذا أرادت الخروج، فردت عليه مندهشة: أأنت غريب عني أيها الرجل؟.

وفي هذا الباب يقع من كثير من المسلمات مخالفات شرعية متنوعة، وأنبه لبعض منها هنا باختصار، فمن ذلك:

أن بعضهن يلبسن الثياب الضيقة أو غير الساترة، ويخرجن بها إلى الأسواق، وربما زدن على ذلك كشف وجوههن أو بعض الوجه مع ظهور زينتها من كحل وغيره من طيب وعطر ونحو ذلك، وهذا نوع من التبرج المحرم.

والعجب من بعض الأزواج وأولياء الأمور أنهم لا ينكرون ذلك، مع مخالفته للستر والحشمة.

وهكذا لبس بعض النساء ملابس غير ساترة عند النساء بحيث تكشف ما جرت عادة النساء المسلمات بستره، متحججات بأنهن عند نساء مثلهن، والذي دلت عليه النصوص الشرعية أن الضيق والعاري لا يجوز لبسه حتى عند النساء، لما فيه من الفتنة، ولكونه مخالفاً لما جاءت به الشريعة من الحشمة والعفاف والحياء.

وهكذا تشبه بعض المسلمات في لبسهن بالكافرات، مما ينبغي على المسلمة أن تحذره، فقد جاء فيه الوعيد الشديد، ومن ذلك قوله ﷺ‬: «من تشبه بقوم فهو منهم»([44]).

وهذا التشبه يورث الميل إلى الكافرات ويفضي إلى محبتهن، وهذا يعرضها لأن تحشر معهن يوم القيامة، لما صح عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «المرء مع من أحب»([45]).

وهذا عام في الرجال والنساء، وعام في محبة أهل الإيمان والصلاح وأهل الكفر والفسوق.

ومما يحزن أن تلك المظاهر تقع من بعض أخواتنا المسلمات العفيفات، اللاتي يؤمل منهن الصلاح والإصلاح، ونأمل لنا ولهن السعادة في الدنيا والآخرة.

ولو أن الواحدة منهن قارنت بين تلك المظاهر المحرمة وبين لحظات تشييعها إلى قبرها حين تلبس تلك الثياب المتواضعة وتلف فيها، والقلوب من حولها خاشعة والعيون دامعة، ولا تدري على أي حال تكون في ذلك المثوى العظيم.

روى البخاري ([46]) وغيره عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا وليها، أين يذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق».

وعوداً على الزينة والتزين فإنهما محبوبان للنفس إذا كانا بما أحل الله، وعند من أحل الله له الاطلاع عليها، قال الله تعالى: }قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ{([47] ثم قال سبحانه: }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ{([48]) إلخ الآية.

وقال رسول الله ﷺ‬: «إن الله جميل يحب الجمال»([49]).

وخير ما يتجمل به الشخص تقوى الله وعبادته، والأخلاق الكريمة، والمعاملة الحسنة.

وفقنا الله جميعاً لما فيه الخير.

* * *


 نساء النبي ﷺ‬ وأثرهن في نقل كثير من الأحكام الشرعية للأمة

كنا قد ذكرنا غير مرة أن لتعدد زوجات النبي ﷺ‬ حكماً عديدةً وعظيمة، فقط كن أمهات المؤمنين معلمات ومفتيات لنساء الأمة ورجالها في القضايا النسائية والأحكام الشرعية والآداب الزوجية والحكم النبوية.

وكن قدوة صالحة في الخير والبر والإحسان، كما كان الرسول ﷺ‬ أسوة حسنةً لهن في حسن الخلق والطيب العشرة.

وفيما يلي سوف نستعرض ـ بعون الله ـ بعضاً من اللمحات والدلائل التي تبين عظيم أثر أمهات المؤمنين في نقل جوانب عديدة من سنة المصطفى ﷺ‬ وتشريع الأحكام الشرعية وتبليغها للأمة، وخاصة مما لا يطلع عليه من قبل كل أحد.

كان نساء النبي ﷺ‬ ـ أمهات المؤمنين ـ موئلاً ومرجعاً لكثير من القضايا التي يهتم لها المسلمون وخاصة ما له صلة بأهليهم وما يتعلق بالحياة البيتية.

ومن تلك القضايا: ما رواه البخاري في "صحيحه" ([50]) أن رفاعة طلق امرأته، فتزوجها بعد الرحمن بن الزبير القرظي، فجاءت تشكو إلى عائشة حالها مع زوجها الآخر، قالت عائشة: وعليها ـ أي تلك المرأة ـ خمار أخضر، فشكت إليها، وأرتها خضرة بجلدها ـ تعني بسبب ضرب زوجها، فلما جاء رسول الله ﷺ‬ ـ والنساء ينصر بعضهن بعضاً ـ قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات، لجلدها أشد خضرة من ثوبها. إلخ الحديث.

فتبين من خلال هذا الموقف أن أمهات المؤمنين كن يستمعن إلى ما يردهن من استفتاءات وشكاوى يعرضنها على النبي ﷺ‬، وأن لهن أثراً عظيماً في نشر العلم والاهتمام بما ينفع المسلمين والمسلمات، وهكذا ينبغي أن تكون كل مسلمة متطلعة إلى معالي الأمور وبما يعود عليها وعلى أسرتها ومجتمعها بالنفع الديني والدنيوي.

وروى أبو داود ([51]) وابن ماجه ([52]) وغيرهما عن إياس بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ﷺ‬: «لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر إلى رسول الله ﷺ‬ فقال: ذَئِرْنَ النساء على أزواجهن "أي اجترأن ونشزن"، فرخص في ضربهن "يعني إذا دعت الضرورة ولكن ضرباً غير مبرح" فأطاف بآل رسول الله ﷺ‬، "يعني أحاط النساء بيوت رسول الله ﷺ‬ يشكون أزواجهن عند أمهات المؤمنين" فقال رسول الله ﷺ‬: «لقد أطاف بآل بيت محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم».

وهذا يدل أيضاً على أثر أمهات المؤمنين في رفع المعاناة عن غيرهن.

وفيه دلالة على النهي عن الجور والتعدي على الزوجة، وأن من استقصى في التغليظ على أهله فقد جانب وصف الخيرية.

ومما عني أمهات المؤمنين به وبتبليغه للأمة: كثير من مسائل الطهارة عموماً، والمسائل النسائية خصوصاً.

ومن ذلك: ما رواه مسلم في "صحيحه" ([53]) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ كان يأمر النساء "أي يفتيهن" إذا اغتسلن "يعني من الجنابة" أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا؟! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن! أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ‬ من إناء واحد، ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.

وأكدت هذا الحكم وزيادة أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ إذ قالت: قلت يا رسول الله، إني امرأة أشد ضَفْرَ رأسي. أفأنقضه للحيضة والجنابة "يعني عند الاغتسال منهما"، فقال: «لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين»([54]).

ومما نقله أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن ـ من العلم: ما رواه البخاري([55]) ومسلم([56]) عن معاذة بنت عبد الله أن امرأة قالت لعائشة: أتجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ فقالت: أحرورية أنت؟ كنا نحيض مع النبي ﷺ‬ فلا يأمرنا به، أو قالت: قلا نفعله.

وفي رواية قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة".

وإنما نسبتها إلى حروراء لأنها مكان تجمع الخوارج ولهم آراء مبتدعة ضالة، ومنها أنهم يرون أن على الحائض قضاء الصلاة وذلك على أصلهم في رد السنة.

وكان نساء الصحابة يكثرن من استفتاء أمهات المؤمنين وخاصة في مسائل الطهارة, وكن يرسلن إلى عائشة ليتبين الطهر، كما نقل ذلك البخاري في "صحيحه"([57]) عن عائشة.

وبين أمهات المؤمنين جوانب من هديه ﷺ‬ في بيته وتعامله مع أهله، ومن ذلك ما رواه مسلم ([58]) عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي ﷺ‬ فيضع فاه على موضع في فيشرب، وأتعرق العرق وأنا حائض "أي تأكل اللحم من العظم بأسنانها" ثم أناوله النبي ﷺ‬ فيضع فاه على موضع في.

وهذا يوضح مدى تلطفه ﷺ‬ بأهله، خاصة وأن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجالسوها في البيوت.

ولما بلغ اليهود هذا الهدي قالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه.

وأوضحت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما يكون من رسول الله ﷺ‬ حينما يكون في بيته، وبينت قيامه الليل وصلاته وتهجده، وبينت جوانب عظيمة من تعامله ﷺ‬.

ومن ذلك ما رواه البخاري([59]) عنها أنها سئلت: ما كان رسول الله ﷺ‬ يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـ تعني خدمة أهله ـ فإذا حضرت الصلاة خرج إل الصلاة".

قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في شرحه([60]):

وفيه الترغيب في التواضع وترك التكبر، وخدمة الرجل أهله.

وترجم عليه المؤلف الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الأدب من "صحيحه" فقال: كيف يكون الرجل في أهله.

وروي عن عائشة أنها وصفت النبي ﷺ‬ فقالت: "كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم، إلا أنه كان بسَّاماً".

إن هذه اللمحات من هديه ﷺ‬ في معاملة أهله وعيشه معهم لتبين بجلاء الأخلاق الإسلامية التي ينبغي أن يكون عليها كل مسلم.

لقد عاش رسول الله ﷺ‬ مع أهله عيش المحب لهم الحريص على إدخال السرور على أنفسهم، وإيصال كل نفع وخير إليهم، فوجدوا من غبطة العيش وسروره وأنسه وفرحه ما لا يمكن وصفه على الكمال ولا الإحاطة به على التمام.

وهذه دعوة لكل زوج وكل أسرة أن تتبصر في هذا الهدي الكريم، وأن تجعله نبراساً لها تسير من خلاله في دروب الحياة المتنوعة، وسيجد الناس من آثار الخير والبركة ما لا يخطر على البال ولا يحده الخيال.

وصدق الله رب العالمين إذ قال: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا{([61]).

صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. وعلى آله وأزواجه، ورزقنا حسن الاقتداء به. آمين.



([1]) "صحيح البخاري" (6458). "صحيح مسلم" (2972).

([2]) سورة الأعراف، الآية: 32.

([3]) سورة الضحى، الآية: 5.

([4]) في "صحيحه" (رقم 6460).

([5]) في "صحيحه" (رقم 1055).

([6]) سورة الضحى، الآية: 4.

([7]) في "جامعه" (رقم 2377) وقال: حسن صحيح.

([8]) في "سننه" (رقم 4109) وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 5668).

([9]) في "صحيحه" (رقم 6444).

([10]) في "صحيحه" (رقم 94) بلفظ آخر.

([11]) سورة الأحزاب، الآيتان: 28، 29.

([12]) أخرجه البخاري (رقم 6687)، ومسلم (رقم 2970).

([13]) أخرجه البخاري (رقم 6456)، ومسلم (رقم 2082).

([14]) سورة الضحى، الآية: 4.

([15]) "صحيح البخاري" (5106)، "صحيح مسلم" (1449)، وأبو داود في "السنن" (2056)، والنسائي في "المجتبى" (6/94، 95)، "سنن ابن ماجه" (1939)، "المسند" (6/291).

([16]) ينظر: "فتح الباري" (9/142، 144).

([17]) ينظر "صحيح البخاري ـ مع الفتح" (9/175).

([18]) سورة القصص، الآية: 27.

([19]) "فتح القدير" (4/169).

([20]) ينظر: "فتح الباري" (9/143).

([21]) سورة النساء، الآية: 23.

([22]) رقم (5106) (9/158).

([23]) رقم (1446) وذلك أن حمزة بن عبد المطلب عم النبي ﷺ‬ ورضي الله عنه، هو أخ له عليه الصلاة والسلام في الرضاع.

([24]) ينظر: "فتح الباري" 9/143).

([25]) سورة النساء، الآية: 23.

([26]) ينظر: "فتح الباري" (9/143).

([27]) ينظر: "مختار الصحاح" (ربب)، و"الفتح" (9/144).

([28]) سورة النساء، الآية: 23.

([29]) ينظر: "تفسير ابن كثير" (2/251) ط السلامة.

([30]) "الإصابة" (7/548) رقم (10964).

([31]) "تهذيب الأسماء واللغات" (2/359).

([32]) انظر: "سير أعلام النبلاء" (2/219).

([33]) "تراجم سيدات بيت النبوة" (ص319)، و"سيرة ابن هشام" (4/3)، و"تاريخ الطبري" (3/89).

([34]) "صحيح البخاري" (1280)، "صحيح مسلم" (1486).

([35]) "صحيح مسلم" (728).

([36]) في "سننه" (رقم 1565).

([37]) سورة التحريم، الآية: 1.

([38]) (رقم 5268)، ورواه مسلم في "صحيحه" (رقم 1474).

([39]) (رقم 253).

([40]) (3/128)، والحاكم (2/160) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 3124).

([41]) وهو استعمال ما يزيل الشعر النابت حول القبل، وذلك بالنسبة لكل من الرجل والمرأة، لأن ترك الشعر يسبب تجمع الأوساخ والرائحة الكريهة.

([42]) البراجم هي العقد الكائنة حول مفاصل الأصابع، ويدخل في حكمها عموم المغابن، ومسافط الأعضاء مما قد لا ينتبه لغسله فتجتمع حوله الأوساخ.

([43]) سورة البقرة، الآية: 228.

([44]) أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود (رقم 4031)، وجود إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله، وصححه الألباني في "صحيح الجامع (رقم 6149).

([45]) أخرجه البخاري (رقم 3688)، ومسلم (رقم 2639).

([46]) في "صحيحه" (رقم 1314، 1316، 1380).

([47])سورة الأعراف، الآية: 32.

([48])سورة الأعراف، الآية: 33.

([49])أخرجه مسلم (رقم 91)، والترمذي (رقم 1999)، والحاكم (1/26)، وأبو يعلى في مسنده (رقم 1055).

([50]) (5825) كتاب اللباس: باب الثياب الخضر. وأخرجه مسلم بنحوه (رقم 1433).

([51]) (رقم 2146).

([52]) (رقم 1985).

([53]) (رقم 331).

([54]) (رقم 330).

([55]) (رقم 321).

([56]) (رقم 335).

([57]) في كتاب "الحيض"، باب إقبال المحيض وإدباره: وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة. فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. تريد بذلك الطهر من الحيضة.

([58]) (رقم 300).

([59]) في "صحيحه" (رقم 676، 5363، 6039).

([60]) "فتح الباري" (2/163).

([61]) سورة الأحزاب، الآية: 21.