×
النجاة من الفتن: ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بالمسجد الحرام بتاريخ 4 - 10 - 1432 هـ، والتي تحدَّث فيها عن الفتن وأنها تنقسم إلى نوعين: فتن الشُّبُهات وفتنُ الشهوات، وذكر الأدلةَ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن أقوال أهل العلم على خطورتها ومدى تأثيرها على الفرد والمجتمع، وحثَّ على الأعمال الصالحة اتقاءً للوقوع في الفتن.

    النجاة من الفتن

    ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "النجاة من الفتن"، والتي تحدَّث فيها عن الفتن وأنها تنقسم إلى نوعين: فتن الشُّبُهات وفتنُ الشهوات، وذكر الأدلةَ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن أقوال أهل العلم على خطورتها ومدى تأثيرها على الفرد والمجتمع، وحثَّ على الأعمال الصالحة اتقاءً للوقوع في الفتن.

    الخطبة الأولى

    الحمد لله الملك القدوس السلام، أحمده - سبحانه - على آلائه العِظام ومِنَنه الجِسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُحيِي ويُميت، بيده الخيرُ، وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [الرحمن: 24]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله خيرُ البرية سيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.

    أما بعد:

    فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا وقوفكم بين يديه، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [النحل: 111].

    أيها المسلمون:

    إن للمتقين من كمال الحرص على اتقاء الفتنة والحَذر من سلوك سبيلها ما لا نظيرَ له ولا مزيدَ عليه، يحدُوهم على ذلك يقينٌ لا يتزعزَع بما جاء عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من غوائلها، والدلالة إلى سبيل السلامة من شُرورها، والإرشاد إلى الطريق الواجبِ انتهاجُه في زمنها؛ من مثل قوله - سبحانه -: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، ومن مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: «ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، ومن تشرَّف لها تستشرِفُه، ومن وجدَ ملجأً أو معاذًا فليعُذْ به»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".

    ومن قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «يُوشِك أن يكون خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يتَّبِعُ بهاش عثَ الجبال ومواقع القطر يفِرُّ بدينه من الفتن»؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".

    ومن مثل قوله في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بادِروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا».

    ولما كان للفتنة خطرُها العظيم وضررُها الشديد الذي تعمُّ به البلوى وتفدُحُ الخُطوب؛ فقد جاء الكلام عليها فيما بيَّنه أهلُ العلم؛ فقال ابن القيم - رحمه الله -: "الفتنةُ نوعان: فتنة الشبهات - وهي أعظم الفتنتين -، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.

    ففتنةُ الشبهات من ضعفِ البصيرة وقلَّة العلم، ولا سيَّما إذا اقترنَ بذلك فسادُ القصد وحصولُ الهوى، فهنالك الفتنةُ العُظمى والمصيبةُ الكبرى، فقل ما شئتَ في ضلالِ سيءِ القصد الحاكم عليه الهوى لا الهُدى، مع ضعف بصيرته وقلَّة علمه بما بعثَ اللهُ به رسولَه، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: 23]، وقد أخبر الله - سبحانه - أن اتباعَ الهوى يُضِلُّ عن سبيل الله؛ فقال: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26].

    وهذه الفتنة مآلُها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنةُ المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم ..

    ولا يُنجِّي من هذه الفتنة إلا تجريدُ اتباع الرسول وتحكيمُه في دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهرِه وباطنِه، عقائدهِ وأعمالهِ، حقائقهِ وشرائعهِ، فيُتلقَّى عنه حقائقُ الإيمان وشرائعُ الإسلام وما يُثبِتُه لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه، كما يُتلقَّى عنه وجوبُ الصلوات وأوقاتُها وأعدادُها، ومقاديرُ نُصُب الزكاة ومُستحقِّيها، ووجوبُ الوضوء والغُسلِ من الجنابة، وصومُ رمضان؛ فلا يجعلُه رسولاً في شيءٍ دون شيءٍ من أمور الدين؛ بل هو رسولٌ في كل شيءٍ تحتاجُ إليه الأمةُ في العلم والعمل، لا يُتلقَّى إلا عنه، ولا يُؤخَذ إلا منه ..

    وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنةُ الشهوات، وقد جمع - سبحانه - بين ذكر الفتنتَيْن في قوله: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ [التوبة: 69]؛ أي: تمتَّعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخَلاَق: هو النصيبُ المُقدَّر، ثم قال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا، فهذا الخوضُ بالباطل، وهو الشُّبُهات.

    فأشار - سبحانه - في هذه الآية إلى ما يحصُلُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستمتاعِ بالخَلاقِ والخوض بالباطل؛ لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلُّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح؛ فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسقُ الأعمال ..

    وأصلُ كل فتنةٍ إنما هو من تقديم الرأيِ على الشرع، والهوى على العقل؛ فالأولُ: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصلُ فتنة الشهوة.

    ففتنةُ الشُّبُهات تُدفَع باليقين، وفتنةُ الشهوات تُدفَعُ بالصبر، ولذلك جعل - سبحانه - إمامةَ الدين منوطةً بهذين الأمرين؛ فقال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]، فدلَّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين ..

    فبكمال العقل والصبر تُدفَعُ فتنةُ الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفَعُ فتنةُ الشُّبهة، والله المستعان". اهـ.

    فاتقوا الله - عباد الله -، واتخِذوا من كمال العقل والصبر، ومن كمال البصيرة واليقين خيرَ عُدَّةٍ تُنجِيكم من فتنِ الشُّبهات والشهوات، وتُرضون بها ربَّ الأرض والسماوات.

    نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

    الخطبة الثانية

    الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - خلق الأرض والسماوات العُلَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله المُصطفى وحبيبُه المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار عل نهجِه وبسُنَّته اهتدَى.

    أما بعد، فيا عباد الله:

    لقد حذَّر ربُّنا - عز وجل - عبادَه من سببٍ هو من أعظمِ أسباب الفتنةِ في الدين ومن أظهر بواعِث الفُرقة بين المسلمين، ألا وهو: مُخالفةُ هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجرُ سُنَّته وطريقته، ورفضُ شريعته، فقال - عزَّ من قائل -: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].

    وأمرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي توعَّد الله من خالفَه عنه بهذا الوعيد هو كما قال الإمام الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "هو سبيلُه ومنهاجُه وطريقتُه وسُنَّتُه وشريعتُه، فما وافقَ ذلك قُبِل، وما خالفَه فهو مردودٌ على قائله وفاعله كائنًا من كان، كما ثبتَ في "الصحيحين" - واللفظ لمسلم - عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ» أي: فليحذَر وليخشَ من خالفَ شريعةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا أن تُصيبَهم فتنةٌ - أي: في قلوبهم -؛ من كفرٍ أو نفاقٍ أو بدعة، أو يُصيبَهم عذابٌ أليم - أي: في الدنيا -؛ بقتلٍ أو حدٍّ أو حبسٍ أو نحو ذلك.

    كما روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثَلي ومثَلُكم كمثَلِ رجلٍ استوقدَ نارًا فلما أضاءَت ما حولها جعل الفراشُ وهذه الدوابُّ يقعْن في النار، وجعل يحجِزهُنَّ ويغلِبْنَه فيقتحِمنَ فيها»، قال: «فذلك مثَلِي ومثَلُكم، أنا آخِذٌ بحُجَزِكم: هلُمَّ عن النار، فتغلِبونني وتقتحِمون فيها»"؛ أخرجه الشيخان من حديث عبد الرزاق - رحمه الله -.

    فاتقوا الله - عباد الله -، وحذارِ من المُخالفة عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن عُقبى ذلك: الوقوعُ في الفتنة وحُلول عذاب الله.

    وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ خلق الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم بذلك الله - سبحانه -، فقال في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

    اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

    اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.

    اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.

    اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.

    اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم التناد.

    اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.

    اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.

    اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.

    اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.

    رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].

    وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.