التشاؤمُ: تعريفه، أنواعه، حكمه، أسباب النجاة والتخلُّصِ منه
التصنيفات
الوصف المفصل
التشاؤمُ: تعريفه، أنواعه، حكمه، أسباب النجاة والتخلُّصِ منه 8-2-1442
الحمدُ للهِ الذي رَضِيَ الإسلامَ للمؤمنينَ ديناً، وأعانَهُم على طاعتهِ هدايةً منهُ وكَفَى بربِّكَ هادياً ومُعيناً، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له في رُبوييَّته وإلهيَّتهِ، تعالَى عن ذلكَ علوا كبيرًا، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، أرسلَهُ بالحقِّ ( شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آله وأصحابهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها الناسُ اتقوا اللهَ تعالى، وحَقِّقُوا التوكُّلَ على اللهِ والإيمانِ بالقضاءِ والقَدَر، واحذَرُوا مِن التَّطَيُّرِ، فإنَّ التطيُّرَ وهو التشاؤُمُ بالشُّهورِ كشهرِ صفر، والأيامِ كالسَّفَرِ يومَ الأربعاء، والنجومِ والآدميين كالتطيُّرِ بذميمِ الخِلْقةِ، والطُّيورِ كالغُرابِ والبُومةِ، والحيوانات كالقِطِّ الأسودِ، والأفعال كتقليم الأظفارِ ليلاً، والتطيُّر ببعضِ الأسماءِ كالسَّفَرْجل فيتشاءمُ ويقولُ: سَفَرٌ وجَلاءٌ، والتطيُّرُ بالمرئياتِ والمسموعاتِ، والتطيُّر بالعُطاسِ وأصلُه التطيُّر بدابةٍ يكرهونها يُقالُ لها العاطوس، كُلُّ ذلكَ نوعٌ مِن الشركِ الذي يَتَنافى معَ التوحيدِ أو يُنقصُ كَمَالَهُ، لكونهِ مُنافياً للتوكُّلِ على اللهِ، واعتقادِ نفعٍ أو ضُرٍّ بسببِ طائرٍ ونحوهِ، قال ابنُ رجبٍ: (الطِّيَرَةُ مِنْ أعمالِ أهلِ الشِّركِ والكُفْرِ، وقد حكاها اللهُ تعالى في كتابهِ عن قومِ فرعونَ، وقومِ صالِحٍ، وأصحابِ القريةِ التي جاءَهَا الْمُرْسَلُون) انتهى، قال ابنُ حجر: (وبَقِيَتْ مِن ذلكَ بَقَايا في كثيرٍ من المسلمين) انتهى.
ولذلكَ عَقَدَ الإمامُ الْمُجَدِّدُ محمدُ بن عبد الوهابِ رَحِمَهُ اللهُ في كتابهِ: كتاب التوحيدِ: (بابُ مَا جاءَ في التطيُّرِ، وقولِ اللهِ تعالى: ( أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ )، وقولهِ: ( قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ) انتهى.
فقومُ فرعونَ إذا أصابَهُم غَلاءٌ وقَحْطٌ قالوا: هذا بسببِ موسى وأصحابهِ وبشؤْمِهِم، فردَّ اللهُ تعالى عليهم بأنه بقضائهِ وقَدَرِهِ بسببِ كْفرِهم.
قال الإمامُ الْمُجدِّدُ رَحِمَهُ اللهُ: (وعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه أن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: «لا عَدْوَىَ ولا طِيَرَةَ ولا هَامَةَ ولا صَفَرَ» أخرجاه، وزادَ مُسْلِمٌ: «ولا نَوْءَ ولا غُولَ») انتهى.
فينفي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ما كانت تعتقدُهُ الجاهليةُ من اعتقاداتٍ باطلةٍ مِن التشاؤُمِ بالطيورِ وبعضِ الشهورِ والنجومِ وبعضِ الجنِّ والشياطينِ، فيتوقَّعُونَ الهلاكَ والضَّرَرَ منها، كما كان يعتقدونَ سَرَيانَ الأمراضِ مِن مَحَلِّ الإصابةِ إلى غيرِها بنفْسِهَا، فيَرُدُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كُلَّ هذهِ الخرافاتِ، ويَغْرِسُ مكانَهَا التوكُّلَ على اللهِ وعقيدةَ التوحيدِ الخالصِ.
قال الإمامُ الْمُجدِّدُ رَحِمَهُ اللهُ: (ولَهُما عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «لا عَدْوَىَ ولا طِيَرَةَ، ويُعْجِبُني الْفَأْلُ»، قالوا: وما الفَأْلُ؟ قالَ: «الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ») انتهى.
ففي هذا الحديثِ بيانُ أنَّ الفَأْلَ كأنْ يكونَ الرَّجُلُ مريضاً فيسمَعُ مَن يقولُ: يا سالِمُ، فيُؤَمِّلُ الشفاءَ مِن مَرَضهِ، فليسَ مِن الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عنها، فالفَأْلُ فيهِ حُسْنُ ظنٍّ باللهِ، قال ابنُ العربيِّ المالكيُّ رحمه الله: (وهيَ كلمةٌ طيِّبةٌ يَسمَعُها الرَّجُلُ، وكأنها من اللهِ) انتهى.
قال الإمامُ الْمُجدِّد رَحِمَهُ اللهُ: (ولأبي داودَ بسَنَدٍ صحيحٍ عن عُرْوَةَ بنِ عامرٍ قالَ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: «أحْسَنُهَا الْفَأْلُ، ولا تَرُدُّ مُسْلِماً، فإذا رَأَى أحَدُكُمْ ما يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لا يَأْتي بالحَسَنَاتِ إلاَّ أنْتَ، ولا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إلاَّ أنْتَ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بكَ») انتهى.
ففي هذا الحديثِ أبطلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الطِّيَرَةَ، وأخبرَ أنَّ الفأْلَ منها، ولكنهُ خيرٌ منها، وأخبرَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أن الطِّيَرَةَ لا تَرُدُّ مُسلِمَاً عن قَصْدِهِ، لإيمانهِ أنه لا ضارَّ ولا نافعَ إلاَّ اللهُ، وإنما تَرُدُّ الْمُشركَ الذي يَعتقِدُها، ثم أرشَدَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى العلاجِ الذي تُدفَعُ به الطِّيَرَةُ وهو هذا الدُّعاءُ الْمُتضَمِّنُ تعلُّقَ القلبِ باللهِ وَحْدَهُ في جَلْبِ النفعِ ودَفْعِ الضُّرِّ، والتبرِّي من الحولِ والقوَّةِ إلاَّ باللهِ.
وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (الطَّيْرُ تَجْرِي بقَدَرٍ) رواه الإمامُ أحمدُ وحسَّنهُ الألبانيُّ، قال الْمُناوِيُّ: أي: (بأمرِ الله وقَضَائهِ) انتهى.
وروى أبو نُعَيْمٍ في الحِليةِ: (أنَّ رَجُلاً كانَ يَسيرُ مَعَ طَاوُسٍ فَسَمِعَ غُرَاباً نَعَبَ، فقالَ: خَيْرٌ، فقالَ طَاوُسٌ: «أيُّ خَيْرٍ عندَ هذا أوْ شَرٍّ؟ لا تَصْحَبْني أوْ تَمْشي مَعِي) انتهى.
قال الإمام المجدِّد رحمه الله: (وعنِ ابنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعاً: «الطِّيَرَة شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وما مِنَّا إلاَّ، ولَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بالتَّوَكُّلِ» رواه أبو داودَ والترمذيُّ وصحَّحَهُ وجَعَلَ آخرَهُ من قولِ ابنِ مسعودٍ) انتهى.
فرسُولُنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُخبرُ ويُكَرِّرُ الإخبارَ ليتَقَرَّرَ مَضْمُونُهُ في القُلُوبِ أنَّ الطِّيَرَةَ شركٌ، (قالَ القاضي: إنما سَمَّاهَا شِرْكاً لأنهُمْ كانُوا يَرَوْنَ ما يَتَشَاءَمُونَ بهِ سَبَباً مُؤَثِّراً في حُصُولِ المكرُوهِ، ومُلاحَظَةُ الأسبابِ في الْجُملَةِ شِرْكٌ خَفِيٌّ، فكيفَ إذا انْضَمَّ إليها جَهَالَةٌ وسُوءُ اعْتِقَادٍ) انتهى.
قال الإمامُ الْمُجدِّدُ رحمه الله: (ولأحْمَدَ مِن حديثِ ابنِ عمروٍ: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَن حاجَتهِ فقَدْ أشرَكَ»، قالوا: فمَا كَفَّارَةُ ذلكَ؟ قال: «أنْ تقُولَ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ، ولا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، ولا إلَهَ غيرُكَ»، وله مِن حديثِ الفَضْلِ بنِ عبَّاسٍ: «إنِمَّا الطِّيَرَةُ مَا أمْضَاكَ أوْ رَدَّكَ») انتهى.
يُخبرُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرةُ عن حاجتهِ التي عَزَمَ عليها كإرادةِ السَّفَرِ ونحوهِ فقد وَلَجَ بابَ الشركِ، وبَرِئَ مِنَ التوكُّلِ على اللهِ، وفتَحَ على نفسهِ بابَ الخوفِ، ثمَّ أرشَدَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى ما تُدْفَعُ به الطِّيَرةُ مِن الأدعيةِ فيما فيهِ الاعتمادُ على اللهِ والإخلاصُ له في العبادةِ.
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عبدُهُ ورسولُهُ.
أمَّا بعدُ: (فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و (لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).
أيها المسلمون: إن الأحاديثَ النبويةِ في النهيِ عن التطيُّرِ بصَفَرٍ وغيرهِ هي وِقايةٌ لأنفُسِكُم مِن الوُقوع في الأفكارِ السلبيَّةِ، ولكي تنجو أخي مِن التَّطَيُّرِ والتشاؤم، أو تتخلَّصَ منه لو وَقَعْتَ فيهِ:
أولاً: عليكَ بالتوكُّلِ على الله تعالى، كما في الحديث المتقدِّم: (ولكنَّ الله يُذهِبُهُ بالتوكُّلِ).
ثانياً: أن تَمْضيَ لقَضَاءِ قَصْدِكَ ولا تَرْجِع مِن أجلها، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ فقدْ قَارَفَ الشِّرْكَ) رواه ابنُ وهبٍ وحسَّنه ابنُ حجر، فالإنسانُ قد يَجدُ في قلبهِ تَطَيُّراً، وقد قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (ذاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ في صُدُورِهِمْ فَلا يَصُدَّنَّهُمْ) رواه مسلم.
ثالثاً: الدُّعاء: سُئلَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كما تقدَّم عن كفَّارةِ مَن رَدَّتْهُ الطِّيَرَة، فقال: (أنْ تقُولَ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ، ولا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، ولا إلَهَ غيرُكَ).
رابعاً: عدمُ الالتفاتِ للوَسَاوِسِ، وتتذكَّرَ دائماً: الإيمان بالقضاءِ والقدر، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لا يَبْلُغُ عبدٌ حَقِيقَةَ الإيمانِ حتَّى يَعْلَمَ أنَّ ما أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وما أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ ليُصيبَهُ) رواه البزَّارُ وحسَّنهُ.
خامساً: إحسانُ الظنِّ باللهِ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (إنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأَنا مَعَهُ إذا دَعَانِي) رواه مسلم.
سادساً: تذكُّرِ الأحداثِ العظيمةِ التي وَقَعَتْ في شهْرِ صَفَر، فقد قيلَ بأنَّ خُرُوجَ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مُهاجِرَاً مِن مكةَ إلى المدينةِ في صَفَرَ، وقدمَ المدينةَ في ربيعٍ الأولِ، وكانت أولُ غَزْوةٍ في الإسلامِ في شهرِ صَفَر، وهي غزوةُ الأبواءِ في السنةِ الثانيةِ مِن الهجرةِ، وكان فتحُ خيبرَ سنةَ سبعٍ في شهرِ صَفَر، وأرسلَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم جيشاً بقيادةِ أُسامةَ بنِ زيدٍ لِحَرْبِ الرُّومِ سنةَ إحدى عَشْرةَ في أواخرِ شهرِ صَفَر، وكانَ فتحُ المدائنِ وهيَ عاصمةُ الفُرْسِ سنةَ سِتَّ عَشْرَةَ في شهرِ صَفَر... الخ.
سابعاً: لو تَتَبَّعْتَ الدراساتِ حولَ التفاؤُلِ وفوائده الطبيَّة، ستجدُ العديدَ مِن الفوائدِ، فهو يَرفَعُ نظامَ مناعةِ الجَسَد، وسببٌ لمواجهةِ المواقفِ الصعبةِ واتخاذِ القرارِ الْمُناسبِ، ويُحبِّب الناسَ إليكَ، لِمحبَّتهم للمُتفائلِ، وهو مُريحٌ لعَمَل الدِّماغ، رزقنا اللهُ صِدْقَ التوكُّلِ عليهِ وحُسنَ الظنِّ به.